شيء وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحكامه وملاك الأمر خواتمه وكل الصحابة مجمعون على تحريمها كالزنا سوى ما نسب عن ابن عباس للمضطر وقد تحامل عليه الإمام رضي الله عنه باللوم والتعنيف وقال لهم إنك امرؤ تائه فرجع ابن عباس عن فتواه والصحابة كغيرهم يخطئ أحدهم في فتواه ويصيب.
ثم رأينا صاحب المقالة يحتج بصحة ما قاله بأنه قول العلامة ابن القيم في زاد المعاد وهو كذب منه فإن العلامة يجزم بتحريمها.
لكنه في بحثه في فتح مكة طرق موضوع تحريم متعة النساء فقال من العلماء من قال إنها حرمت يوم خيبر وعليه يدل أحاديث علي في البخاري.
ومنهم من قال إنها حرمت عام فتح مكة ورجع هذا القول لما روى مسلم عن سلمة بن الأكوع «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء عام أوطاس (1) » أي يوم حنين وهو عام فتح مكة.
ثم طرق موضوع الخلاف وهل تحريمها كتحريم الميتة ولحم الخنزير أو هو تحريم مؤبد في الحضر والسفر وهذا هو الصحيح لحديث ربيع بن سبرة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة (2) » ، ثم قال العلامة ابن القيم: إن رسول الله رخص فيها أي في ذلك الزمان للضرورة والحاجة في الغزو فمن رخص فيها في الحضر مع كثرة النساء وإمكان النكاح الشرعي المعتاد فقد اعتدى والله لا يحب المعتدين.
وبه يعلم أن النصوص الصريحة ترد على من ادعى أن بدء تحريم متعة النساء وقع من عمر اجتهادا منه واستجاب الصحابة له من أجل هيبته وهذا كله من الكذب على الله ورسوله وعلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ولم نر لهذا القول سندا صحيحا ولا حسنا بل هو نوع من الكذب المفترى على عمر لكون الشيعة يبغضون عمر أشد البغض ولهذا شددوا في الإنكار على من يقول بتحريم المتعة مع ظواهر النصوص الصريحة المؤيدة للتحريم ومع الإجماع العام ولا عبرة بشذوذ المخالفين أما نهي عمر عن متعة الحج فإن له أصلا من الصحة في الصحاح وهو رأي رآه. والرأي يخطئ ويصيب وليس الصحابي بمعصوم فقد رأى أن يفرد الحج بسفرة وتفرد العمرة بسفرة فخالفه الصحابة على ذلك «وأن رسول الله تمتع بالعمرة إلى الحج في حجة الوداع ولم ينسخها شيء وبقي العمل بها إلى الآن (3) » وصفة التمتع أن يحرم بالعمرة متمتعا بها إلى الحج. فإذا طاف طواف العمرة وسعى سعي العمرة قصر من شعره ثم يلبس ثيابه ويتمتع بما هو مباح له من الطيب والنساء وغير ذلك من المحظورات كحالته قبل الإحرام وإذا كان يوم الثامن يحرم بالحج فهذه هي التي قال فيها ابن عباس حين نهى عمر عن التمتع فقال يوشك أن تنزل
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/55) .
(2) صحيح مسلم النكاح (1406) ، سنن النسائي النكاح (3368) ، سنن ابن ماجه النكاح (1962) ، سنن الدارمي النكاح (2195) .
(3) صحيح البخاري الحج (1692) ، صحيح مسلم الحج (1227) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2732) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1805) .(6/196)
عليكم حجارة من السماء. أقول- قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وعمر - أما القول بالنهي عن متعة النساء فإنما ذكره على فرض صحته إبلاغا للسنة واشتهارا لها ليبلغ الشاهد الغائب.
ومن الكذب أيضا ما نسبوه عن علي من قوله: لولا نهي عمر عن المتعة ما زنى إلا شقي (1) . فهذا مما لا صحة له وينزه الإمام علي عنه فقد ثبت عنه في الصحيحين من طريقين أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن متعة النساء عام خيبر (2) » وعن سلمة بن الأكوع قال «رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثة أيام ثم نهى عنه (3) » . رواه مسلم - وعن علي رضي الله عنه قال «نهى رسول الله عن المتعة عام خيبر (4) » . متفق عليه - وعنه رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء وعن الحمر الأهلية يوم خيبر (5) » . رواه البخاري ومسلم - والنسائي والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وابن حبان - وعن ربيع بن سبرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا (6) » - رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وابن حبان في صحيحه - قال أبو محمد بن حزم في المحلى- الجزء الحادي عشر ولا يجوز نكاح المتعة وهو النكاح إلى أجل وكان حلالا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نسخها الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم نسخا باتا إلى يوم القيامة.
ثم قال بعد ذكره للخلاف بين الصحابة في بداية تحريمها فقال ونقتصر من الحجة في تحريمها على خبر ثابت وهو ما رويناه عن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبره الجهني عن أبيه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب ويقول: من كان تزوج امرأة إلى أجل فليعطها ما سمى لها ولا يسترجع مما أعطاها شيئا ويفارقها فإن الله قد حرمها عليكم إلى يوم القيامة (7) » . قال أبو محمد: ما حرم إلى يوم القيامة فقد أمنا نسخه.
فهذه النصوص الصحيحة الصريحة تكذب ما نسبوه عن علي من قوله لولا نهي عمر عن المتعة ما زنى إلا شقي.
وإن من حكمة الله في شرعه وخلقه أنه لا يسد عن النفوس باب ممنوعها إلا ويفتح لها باب مشروعها لأن من ترك شيئا لله عوضه الله ما هو خير منه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (8) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (9) . {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (10) . .
__________
(1) كتاب جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام للشيخ محمد حسن بن محمد باقر النجفي
(2) صحيح البخاري المغازي (4216) ، صحيح مسلم النكاح (1407) ، سنن الترمذي النكاح (1121) ، سنن النسائي النكاح (3366) ، سنن ابن ماجه النكاح (1961) ، مسند أحمد بن حنبل (1/142) ، سنن الدارمي النكاح (2197) .
(3) صحيح مسلم النكاح (1405) .
(4) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5523) ، صحيح مسلم النكاح (1407) ، سنن الترمذي النكاح (1121) ، سنن النسائي النكاح (3365) ، سنن ابن ماجه النكاح (1961) ، مسند أحمد بن حنبل (1/142) ، سنن الدارمي النكاح (2197) .
(5) صحيح البخاري المغازي (4216) ، صحيح مسلم النكاح (1407) ، سنن الترمذي النكاح (1121) ، سنن النسائي النكاح (3366) ، سنن ابن ماجه النكاح (1961) ، مسند أحمد بن حنبل (1/142) ، سنن الدارمي النكاح (2197) .
(6) صحيح مسلم النكاح (1406) ، سنن النسائي النكاح (3368) ، سنن ابن ماجه النكاح (1962) ، سنن الدارمي النكاح (2195) .
(7) سنن النسائي النكاح (3368) ، سنن ابن ماجه النكاح (1962) ، مسند أحمد بن حنبل (3/405) ، سنن الدارمي النكاح (2195) .
(8) سورة الطلاق الآية 2
(9) سورة الطلاق الآية 3
(10) سورة الطلاق الآية 4(6/197)
لهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على النكاح الشرعي وكونه من أسباب الغنى لقوله سبحانه:. {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (1) فكم من فقير عاد بعد الزواج غنيا.
ولهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على فتح أبوابه وتسهيل طرقه وأسبابه، فقال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحسن للفرج (2) » ولم يقل ومن لم يستطع فعليه بنكاح المتعة.
وقال: «خير النكاح أيسره وخير النكاح أقله كلفة (3) » وقد أجاز نكاح امرأة بنعلين وبوزن نواة من ذهب وبتعليم سورة أو سورتين من القرآن وكذلك تخفيف مؤنة من وليمة العرس وغيرها فقال: «أولم ولو بشاة (4) » وقد أولم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير ولم يتزوج أحدا من نسائه ولا زوج أحدا من بناته بأكثر من خمسمائة درهم وهو قدر يقل عن مائة ريال فلا يزني مع هذه التسهيلات إلا شقي ولا يكلف الخاطب الزيادة في الصداق إلا بخيل (5) . .
ثم إن الشيعة يستدلون عن رأيهم بما هو معلوم البطلان ليضللوا العوام وضعفة العقول والأفهام فهم يوردون لتأييد رأيهم ما دب ودرج من الأحاديث الموضوعة والأخبار المنكرة المكذوبة ومن ذلك قولهم: قلت لأبي جعفر رضي الله عنه للتمتع ثواب؟ قال إن كان يريد بذلك وجه الله تعالى وخلافا على من أنكرها لم يكلمها كلمة إلا كتب الله بها حسنة، ولم يمد يده إليها إلا كتب الله له حسنة فإذا دنا منه غفر الله له بذلك ذنبا- فإذا اغتسل غفر الله له بقدر ما مر من الماء على شعره قلت بعدد الشعر؟ قال بعدد الشعر.
وقولهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إني لما أسري بي إلى السماء لحقني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن الله تبارك وتعالى يقول: إني قد غفرت للمتمتعين من أمتك من النساء» .
لكن يوجد في أعقاب هذه الأقوال من ينكر متعة النساء من علماء الشيعة وينهون عنها أشد النهي من ذلك أن تحريم المتعة نقل نقلا صحيحا عن الإمامين أبي جعفر محمد الباقر وأبي عبد الله جعفر الصادق وهما إمامان من أئمة الإمامية: فقد رووا أن بساما الصيرفي سأل أبا عبد الله جعفرا الصادق عن المتعة ووصفها له فقال رضي الله عنه: ذلك هو الزنا وإنها من المخادنة التي نهى الله تعالى عنها في كثير من آيات القرآن مثل قوله {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (6) وقوله تعالى
__________
(1) سورة النور الآية 32
(2) صحيح البخاري النكاح (5065) ، صحيح مسلم النكاح (1400) ، سنن الترمذي النكاح (1081) ، سنن النسائي النكاح (3211) ، سنن أبو داود النكاح (2046) ، سنن ابن ماجه النكاح (1845) ، مسند أحمد بن حنبل (1/378) ، سنن الدارمي النكاح (2165) .
(3) سنن أبو داود النكاح (2117) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2048) .
(5) ولنا رسالة في استحباب تخفيف الصداق وجواز تحديده فلتراجع
(6) سورة المائدة الآية 5(6/198)
{مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} (1) . ولقد جاء في الكافي عن الحسن بن يحيى بن زيد فقيه العراق أنه قال: أجمع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم على كراهية المتعة والنهي عنها.
والكراهية مع النهي يقتضي التحريم.
ورأس الأئمة بالإجماع عندهم هو علي كرم الله وجهه قد نهى عن المتعة نهيا مؤكدا فقال رضي الله عنه لا أوتى بمستمتعين إلا رجمتهما.
وقد نقل الكافي وهو أحد المصادر الأربعة لفقههم إجماعهم على النهي عنها وقد وجدنا في كتب الزيدية عن أئمة آل البيت عامة وعن الإمام جعفر الصادق خاصة ما يثبت أنه يرى المتعة من الزنا- كما نسب هذا لقائل القول بإباحة المتعة عن البخاري ومسلم وعن ابن القيم في زاد المعاد وعن ابن كثير في النهاية وغيرها من الكتب فيوهم الناس أن هؤلاء يقولون بإباحتها إلى يوم القيامة وهو كذب صريح عليهم فإنهم مجمعون كغيرهم على تحريمها إلى يوم القيامة.
والحاصل: أن المتعة ليست إلا من قبيل اتخاذ الأخدان الذي هو معروف من عادات الجاهلية وسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام عفوا حتى يجيء الوقت المعين لإعلان التحريم - وقد حان وقت تحريمه زمن خيبر أي عام ست من الهجرة - وقيل عام الفتح وأنه بلا ريب لا تتفق المتعة مع مقاصد الإسلام من العلاقة بين الرجل والمرأة التي أحلها الله سبحانه وتعالى بكلمته ولا يمكن أن يحل الله تعالى بكلمته اتخاذ الأخدان.
ثم إن هذا القرآن الكريم النازل على محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما يحتاج إليه الناس إلا جاء بما يقطع النزاع ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع في شأن هذه القضية وغيرها.
فقد حكى القرآن الكريم عن الرجل المعدم الفقير الذي يشتهي النساء بشدة ولا يستطيع صداق المحصنات الحرائر فماذا يصنع أيحل له أن يستأجر امرأة بأجرة زهيدة إلى أجل مسمى ليتمتع بها أم لا وهي عين القضية التي نحن بصددها قال سبحانه: ومن {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} (2) . .
__________
(1) سورة النساء الآية 25
(2) سورة النساء الآية 25(6/199)
ولم يقل ومن لم يستطع منكم طولا أي صداقا والطول هو الغنى بالصداق فليتمتع بامرأة بأجر معلوم إلى أجل مسمى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (1) فلو كان حلالا لما سكت عنه القرآن ولو كانت المتعة تباح بحال لأبيحت لهذا المضطر الذي لم يجد صداقا للمحصنات ولكون المقام مقام ضرورة والمقال جرى على حالة المخرج من هذه الضرورة فأباح الله له أن ينكح الجارية المملوكة مع علمه باسترقاق أولاده فيها تبعا لأمهم أما إذا كان غنيا يجد صداق الحرة المحصنة فإنه لا يجوز له أن ينكح أمة مملوكة لكونه يذل نفسه باسترقاق أولاده، إلا إذا كانت ملكا له وقد نزلت هذه الآية في زمان كان الأرقاء فيه كثيرين فنكاح الأمة في مثل حالة هذا المقل هو نكاح شرعي يترتب عليه لوازم النكاح الشرعي فحصرت هذه الآية النكاح في أربعة أمور اثنان حلالان واثنان حرامان فإن الحلال هو نكاح الرغبة الشرعي الدائم ومنه زواج الفقير بالمرأة المملوكة.
والثاني النكاح بملك اليمين.
وأما النكاح الحرام فمنه نكاح المسافحات اللاتي يزني بهن كل أحد.
والثاني المتخذات أخدان أي التي تزني مع خليل واحد لا يشاركه فيها أحد وقد جعل العلماء نكاح المتعة من قبيل المتخذات أخدان- وهذه الآية تشبه قوله سبحانه {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (2) {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (3) . والمستأجرة يوما أو أسبوعا في سبيل نكاح المتعة لا تسمى زوجة لا لغة ولا عرفا ولا ينطبق عليها أحكام الزوجة الشرعية من الولي والإشهاد والنفقة والطلاق والميراث.
ويدل لهذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (4) » أي يكسر من حدة شهوتهم، ولم يقل: ومن لم يستطع فليتمتع بامرأة بأجر معلوم إلى أجل مسمى، فلو كان جائزا لوجب بيانه، ولما ساغ كتمانه لكونه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه؛ إذ الأمر بنكاح المتعة أيسر من الصوم الذي لا يطيقه أكثر الناس، وخاصة الشباب مما يدل على عدم إباحة المتعة.
ومثله إباحة نكاح الفقير للأمة المملوكة فإن هذه الأمة لا توجد في كل زمان ومكان وخاصة في هذا الزمان الذي تم فيه إبطال الرق العام وصار الناس كلهم أحرارا.
ومما ينبغي أن يعلم أن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيه لا يحرم شيئا من المحرمات كالربا والزنا وشرب الخمر ونكاح المتعة إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة.
__________
(1) سورة مريم الآية 64
(2) سورة المؤمنون الآية 5
(3) سورة المؤمنون الآية 6
(4) صحيح البخاري النكاح (5065) ، صحيح مسلم النكاح (1400) ، سنن الترمذي النكاح (1081) ، سنن النسائي النكاح (3211) ، سنن أبو داود النكاح (2046) ، سنن ابن ماجه النكاح (1845) ، مسند أحمد بن حنبل (1/378) ، سنن الدارمي النكاح (2165) .(6/200)
وأنه لو انفتح للشباب والشابات إباحة نكاح المتعة الذي هو سهل وميسر لكل أحد بحيث يستأجر المرأة بنقد يسير في زمن قصير كيوم أو أسبوع يتمتع بها زمنه ويقضي بها حاجاته فإنه يفضل هذا على الزواج وتحمل تبعته وتكاليفه.
فلو فتح لهم إباحة هذا لانصرفوا برغبتهم عن النكاح الشرعي وتؤثر المرأة أن تبقى خالية من الأزواج وبريئة من الحمل وأعباء مشقته وتكاليفه لكون المسافحة لا ترغب أن تحمل ولا رغبة لها في الزواج الشرعي الدائم لكونها مسحورة بالتنقل في اللذات وكذا الرجل يفضل التنقل من واحدة إلى أخرى وبذلك يقل النسل أو ينقطع وقد لعن رسول الله الذواقين من الرجال والذواقات من النساء ويوجد في هذا من المضار ما يوجد في السفاح من قلة النسل واختلاط الأنساب والعداوة بين الأغيار.
ولهذا رأينا من عرفنا من الشيعة أنهم أبعد الناس عن هذا العمل وأشدهم بغضا له فلا نسمع بغني ولا فقير ولا شريف ولا حقير أنه أجر ابنته أو موليته رجلا يتمتع بنكاحها أسبوعا أو شهرا بأجرة معلومة فهم يترفعون بشرفهم واحترام محارمهم عن السقوط في هذه المهانة حتى كانت جريمة الزنا نادرة الوجود فيما بينهم ولهذا ختم الله هذه الآية بقوله {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} (2) والله أعلم.
__________
(1) سورة النساء الآية 26
(2) سورة النساء الآية 27(6/201)
عن منذر الثوري عن الحسن بن محمد قال: «حدثتني امرأة من الأنصار هي حية اليوم إن شئت أدخلتك عليها.
قلت: لا حدثني.
قال: قالت: دخلت على أم سلمة فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه غضبان فاستترت منه بكم درعي فتكلم بكلام لم أفهمه.
فقلت: يا أم المؤمنين كأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل وهو غضبان.
فقالت: نعم أوما سمعت ما قال؟ قالت: قال: إن الشر إذا فشا في الأرض فلم يتناه عنه أرسل الله عز وجل بأسه على أهل الأرض.
قالت: قلت: يا رسول الله وفيهم الصالحون.
قال: نعم وفيهم الصالحون يصيبهم ما أصاب الناس ثم يقبضهم الله عز وجل إلى مغفرته ورضوانه أو إلى رضوانه ومغفرته (1) » .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (6/295) .(6/202)
بين فقيهين \ محمد رواس قلعجي (1) .
ميزة العصر الحاضرة:
امتاز التفكير الديني عموما والفقهي خصوصا في عصرنا الحاضر بميزتين لم تكونا موجودتين في العصور السابقة.
الأولى: العودة بالتفكير الديني إلى الفجر الأول للإسلام، إلى عصر السلف عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والتابعين.
وهذه العودة تعني: العودة بالدين عموما، وبالمفاهيم الفقهية خصوصا إلى المعين الأول الذي نبعت منه، والعودة بترجمتها وشرحها إلى الذين نهلوا من هذا المعين، وشاهدوا أنوار النبوة، فإنهم أقدر على فهم هذا الدين والسير به نحو أهدافه ممن يأتي بعدهم.
وقد كان كبار الصحابة حريصين على ألا يفارق من بعدهم محجتهم ولا ينحرف عن طريقهم فهذا عمر بن الخطاب - يكتب لشريح: إذا أتاك أمر في كتاب الله فاقض به ولا يفتنك الرجال عنه،
__________
(1) دكتور محمد رواس قلعجي: خبير بالموسوعة الفقهية بالكويت.(6/203)
فإن لم يكن في كتاب الله وكان في سنة رسول الله فاقض به فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله فاقض بما قضى به أئمة الهدى (1) .
ويقول عبد الله بن مسعود: إذا حضرك أمر لا تجد منه بدا فاقض بما في كتاب الله فإن عييت فاقض بما قضى به الصالحون (2) .
الثانية: المحاولة الجادة للاستفادة من الفقه الإسلامي ككل، بكافة اجتهاداته ومذاهبه، ولتيسير تلك الاستفادة على غير أبناء هذا الفقه كان لا بد من إصدار كل هذه الآراء والاجتهادات في موسوعة شاملة وبترتيب جديد ولا يجوز إغفال فقه السلف فقه الصحابة والتابعين في هذه الموسوعة الشاملة، أو لنقل: في هذه الحركة للاستفادة من الفقه الإسلامي بكافة اجتهاداته ومذاهبه لأن فقه هؤلاء يعتبر الركيزة الأولى للاجتهاد.
ولذلك أخذت على عاتقي ووقفت حياتي على إبراز فقه السلف بشكل موسوعات فردية لكل فقيه من هؤلاء الأجلاء وإني أقدم إليكم في هذا المقال المسائل التي اختلف فيها جيلان من أجيال العلم ثم اتفقا فيما عداها، هما " عمر بن الخطاب " و" عبد الله بن مسعود " من خلال ما صنفته من فقههما " موسوعة فقه عمر بن الخطاب " و" موسوعة فقه عبد الله بن مسعود " أما عمر بن الخطاب فهو أجل أن يعرف بكلمات، وأما ابن مسعود فإنه على جلالة قدره وعلو كعبه نعرفه بما يلي
__________
(1) سنن البيهقي 10 \ 110.
(2) مصنف عبد الرزاق 8 \ 301 وكنز العمال برقم 14460.(6/204)
من هو عبد الله بن مسعود ? وعبد الله بن مسعود هو الرجل الذكي الحصيف الرأي، الذي تعرف رسول الله صلوات الله وسلامه عليه على مخايل الذكاء فيه عندما مر ومعه أبو بكر الصديق في مشارف مكة وهو يرعى غنما لعقبة بن أبي معيط - «وكان ابن مسعود غلاما يافعا- فقالا له: يا غلام هل عندك من لبن تسقينا؟ فقال لهما: إني مؤتمن، ولست ساقيكما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل عندك من جذعة لم ينز عليها فحل؟ فقال ابن مسعود: نعم فأتاهما بها، فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها، ودعا الله تعالى، فحفل الضرع، ثم أتاه أبو بكر بصخرة منقعرة، فاحتلب فيها فشربا، ثم قال رسول الله للضرع: اقلص،(6/204)
فقلص فتقدم ابن مسعود من رسول الله وقال له: علمني من هذا القول- يعني الدعاء الذي دعا به الرسول- فقال له رسول الله: إنك غلام معلم (1) » ولفتت هذه المعجزة نظر ابن مسعود فلم يلبث أن انضم إلى قافلة المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان سادس ستة فيه (2) وتمكنت الصلة بين ابن مسعود ورسول الله. حتى اصطفاه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لنفسه واختص به دون غيره، فكان ابن مسعود صاحب سر رسول الله ووساده وسواكه ونعله وطهوره (3) لا يفارقه في سفر ولا حضر، ولا سلم ولا حرب، حتى إن من رأى ملازمته لرسول الله ظنه واحدا من أهله، قال أبو موسى الأشعري: لقد رأيت رسول الله وما أرى إلا ابن مسعود إلا من أهله (4) . لقد كان يشهد إذا غبنا ويؤذن له إذا احتجبنا (5) فأورثته هذه الملازمة علما فاق به أقرانه من الصحابة، كما سنرى.
وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي ابن مسعود عضدا للدول الإسلامية، يقدم للخلفاء الرأي السديد والمشورة المخلصة، وبقي كذلك إلى أن فتحت العراق، والعراق ذات حضارة عريقة وثقافة، تعانقت فيها حضارة البابليين والآشوريين والكلدانيين والفرس واليونان، وأصبح عمر بن الخطاب بحاجة إلى شخص جمع الذكاء إلى العلم، يلقي به في خضم هذا المد الحضاري في العراق ليمكن للحضارة الإسلامية في تلك الأرض، ولتجد مكانها بين الحضارات الأخرى فيها، فلم يجد لهذه المهمة أكفأ من عبد الله بن مسعود فبعثه إلى العراق معلما وقاضيا وخازنا لبيت مال المسلمين (6) فيها وكتب لأهل العراق أما بعد: فإني بعثت إليكم عمارا أميرا وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاسمعوا لهما واقتدوا بهما، وإني آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي (7) .
وبقي ابن مسعود في عمله هذا مدة خلافة عمر بن الخطاب وصدرا من خلافة عثمان ثم تركه ورحل إلى المدينة المنورة، توفي ابن مسعود في المدينة المنورة سنة 32هـ ودفن في البقيع وهو ابن بضع وستين سنة، ولم يخلف من الأولاد إلا أبا عبيدة وهو أكبرهم، وعبد الرحمن وقد تركه وهو ابن ست سنين وعتبة وهو أصغرهم (8) .
__________
(1) دلائل النبوة لأبي نعيم ص424 بتحقيقي، وصفة الصفوة 1 \ 395 بتحقيقي ومسند الإمام أحمد 1 \ 462.
(2) صفة الصفوة 1 \ 395.
(3) صفة الصفوة 3 \ 395 وآثار أبي يوسف الأثر رقم 937.
(4) صفة الصفوة 1 \ 397.
(5) صحيح مسلم في فضائل ابن مسعود وإعلام الموقعين 2 \ 219.
(6) صفة الصفوة 3 \ 395.
(7) صفة الصفوة 1 \ 395 وطبقات ابن سعد 2 \ 177.
(8) المحلى 8 \ 369.(6/205)
ابن مسعود العالم:
لقد أفاد عبد الله بن مسعود من ملازمته رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانب ما كان يتمتع به من ذكاء وقاد، وفكر حصيف، علما كثيرا شهد له به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته حين قال صلوات الله وسلامه عليه: «من أحب أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد (1) » - يعني: عبد الله بن مسعود - وقد عرف ابن مسعود هذا من نفسه فقال مرة على المنبر: " لقد علم أصحاب رسول الله أني أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم، ولو أعلم أن أحدا أعلم به مني لرحلت إليه" (2) .
وكان يقول رضي الله عنه: " سلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلا أنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار في سهل نزلت أم في جبل" (3) .
وما كان علم ابن مسعود بمعاني القرآن وأحكامه بأقل من حفظه لألفاظه، فقد كان رضي الله عنه يقرأ الآية من كتاب الله في مسجد الكوفة، ثم يحدث الناس منها ويفسرها عامة نهاره (4) .
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة 2 \ 163 ب ومسند الإمام أحمد وصفة الصفوة 1 \ 399.
(2) أخرجه البخاري في فضائل القرآن ومسلم في فضائل ابن مسعود.
(3) تفسير القرطبي 1 \ 35.
(4) تفسير الطبري 1 \ 81 طبع دار المعارف.(6/206)
ابن مسعود السياسي
ولم يكن رأي ابن مسعود وحنكته السياسية بأقل من علمه، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينوه بحصافة فكره وسديد رأيه، وحسن تصريفه للأمور، فقد قال عليه الصلاة والسلام مرة: «لو كنت مؤمرا أحدا منهم من غير مشورة لأمرت عليهم ابن أم عبد (1) » ولذلك لم يكن الخلفاء بعد رسول الله يستغنون عن رأيه وخاصة عمر بن الخطاب، وقد رأيناه كيف وقع اختياره عليه يعالج المشكلات الناشئة في العراق.
__________
(1) أخرجه الترمذي في مناقب ابن مسعود.(6/206)
رأي العلماء في ابن مسعود
وعرف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في ابن مسعود فأقروا له بالإمامة والتقدم.
فقد جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني جئتك من عند رجل يملي الصحف عن ظهر قلب، ففزع عمر وغضب وقال: ويحك انظر ما تقول؟ قال: ما جئتك إلا بالحق، قال عمر: من هو؟ قال: عبد الله بن مسعود، فقال عمر: ما أعلم أحدا أحق بذلك منه (1) . وأقبل ابن مسعود يوما وعمر جالس فقال عمر: كنيف مليء علما (2) .
وسئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن أصحاب رسول الله فقال: عن أيهم تسألون؟ قالوا: أخبرنا عن ابن مسعود، فقال: علم القرآن وعلم السنة ثم انتهى، وكفى به علما (3) .
وقال أبو مسعود البدري الأنصاري: ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بعده أعلم بما أنزل الله من ابن مسعود (4) .
وقال أبو موسى الأشعري: لا تسألوني ما دام هذا الحبر - يعني ابن مسعود- فيكم (5) . وعرف ذلك التابعون أيضا.
فهذا مسروق يعتبره أحد اثنين انتهى إليهما علم الصحابة فيقول: شاممت أصحاب محمد فوجدت علمهم انتهى إلى ستة نفر منهم عمر، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، ثم شاممت هؤلاء الستة فوجدت علمهم انتهى إلى رجلين، علي وعبد الله بن مسعود (6) . ولعل مسروقا كان يرى أن مدرسة الرأي التي كان عمر بن الخطاب على رأسها هي التي تحمل العلم والفهم الحقيقي لدين الله تعالى وأهدافه ومراميه، وإلا ففي الصحابة فقهاء عظماء أيضا كعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعائشة، وغيرهم.
وهذا إبراهيم النخعي يقول: قرأ عبد الله القرآن على ظهر لسانه (7) وكان إبراهيم النخعي يفضل قول عبد الله بن مسعود على قول عمر بن الخطاب إذا اختلف في الاجتهاد في مسالة معينة، قال الأعمش: كان النخعي لا يعدل بقول عمر وعبد الله إذا اجتمعا، فإذ اختلفا كان قول عبد الله أعجب إليه لأنه كان ألطف (8) .
__________
(1) حلية الأولياء 1 \ 124.
(2) حلية الأولياء 1 \ 129 ومسند الإمام أحمد 1 \ 421 وصفة الصفوة 1 \ 401.
(3) حلية الأولياء 1 \ 129 وصفة الصفوة 1 \ 401.
(4) أخرجه مسلم في فضائل ابن مسعود، وانظر: إعلام الموقعين 2 \ 219. .
(5) حلية الأولياء 1 \ 129 وصفة الصفوة 1 \ 403.
(6) إعلام الموقعين 1 \ 16 وصفة الصفوة 1 \ 403 وطبقات ابن سعد 2 \ 110
(7) ابن أبي شيبة 2 \ 163 ب.
(8) إعلام الموقعين 1 \ 17.(6/207)
وإنما كان قول عبد الله ألطف لأن عبد الله بن مسعود تقلب في البلاد واطلع على أحوال وأوضاع لم يطلع عليها عمر، ولذلك كان اجتهاد عبد الله أكثر واقعية من اجتهاد عمر رضي الله عنهما.(6/208)
إيثاره الحق:
وكان ابن مسعود إلى جانب ذلك وقافا عند حدود الله، يترك قوله عندما يلوح له الحق في غيره، ونحن نسجل له هنا هذه الحادثة التي رواها ابن أبي شيبة في مصنفه عن الحارث بن عمير الزبيدي قال: وقع الطاعون بالشام، فقام معاذ بحمص فخطب فقال: إن هذا الطاعون رحمة بكم، ودعوة نبيكم محمد، وموت الصالحين قبلكم، اللهم اقسم لآل معاذ نصيبهم الأوفى منه، فلما نزل عن المنبر أتاه آت فقال: إن عبد الرحمن بن معاذ قد أصيب، فقال معاذ: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم انطلق نحوه، فلما رآه عبد الرحمن مقبلا قال:
{لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (1) فقال معاذ: يا بني، ستجدني إن شاء الله من الصابرين؛ فمات آل معاذ إنسانا إنسانا حتى كان معاذ آخرهم، فأصيب فأتاه الحارث بن عمير الزبيدي قال: فأغشي على معاذ غشية، قال: فأفاق معاذ والحارث يبكي، فقال معاذ: ما يبكيك؟ قال: أبكي على العلم الذي يدفن معك، قال: فإن كنت طالبا للعلم لا محالة فاطلبه من عبد الله بن مسعود، ومن عويمر أبي الدرداء، ومن سلمان الفارسي، وإياك وزلة العلم، قال: قلت: وكيف لي - أصلحك الله- أن أعرفها؟ قال: إن للحق نورا يعرف به، قال: فمات معاذ، وخرج الحإرث يريد عبد الله بن مسعود بالكوفة، فانتهى إلى بابه فإذا على الباب نفر من أصحاب عبد الله يتحدثون، فجرى بينهم الحديث، فقالوا: يا شامي أمؤمن أنت؟ قال: نعم، قالوا: من أهل الجنة؟ فقال: إن لي ذنوبا لا أدري ما يصنع الله بها، فلو أعلم أنها غفرت لي أنبأتكم أني من أهل الجنة، قال: فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم ابن مسعود فقالوا له: ألا تعجب من أخينا الشامي يزعم أنه مؤمن ولا يزعم أنه من أهل الجنة، فقال عبد الله: لو قلت إحداهما لأتبعتها الأخرى، فقال الحإرث: إنا لله وإنا إليه راجعون، صلى الله على معاذ، قال: ويحك، ومن معاذ؟ قال: معاذ بن جبل، قال: وما قال؟ قال: قال إياك وزلة العالم، فأحلف بالله إنها منك لزلة يا ابن مسعود، وما الإيمان إلا أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والميزان، وإن لنا ذنوبا لا ندري ما يصنع الله بها، فلو نعلم أنها غفرت لنا
__________
(1) سورة يونس الآية 94(6/208)
لكنا من أهل الجنة، فقال عبد الله: صدقت، إن كانت مني لزلة (1) فنحن نرى كيف أن ابن مسعود سرعان ما رجع إلى الحق عندما لاح له نوره.
__________
(1) ابن أبي شيبة 2 \ 165ب.(6/209)
بين عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود
كان عبد الله بن مسعود شديد الإعجاب بمنحى عمر بن الخطاب في التفكير، كثير الثناء عليه، فقد قال مرة: " إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم" (1) . . . وقال في مرة ثانية: " لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان ووضع علم الأرض في كفة لرجح علم عمر (2) ، وقال مرة ثالثة: " لو أن الناس سلكوا واديا وشعبا، وسلك عمر واديا وشعبا، لسلكت وادي عمر وشعبة (3) .
وإنما كانت هذه الثقة وهذا الإعجاب لأمرين اثنين فيما أعتقد:
أولهما: شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب برجاحة العقل، وسداد الفكر، وصدق العزيمة على اتباع الحق حين قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه (4) » .
ثانيهما: اتفاق ابن مسعود وعمر بن الخطاب في طريقة التفكير، حتى عد وإياه من مدرسة فكرية واحدة، فقال الشعبي: ثلاثة يستفتي بعضهم من بعض عمر وعبد الله وزيد بن ثابت (5) .
وقد اغتر البعض بما سمعوه من ثناء عبد الله بن مسعود على عمر بن الخطاب وعلمه وسعة تفكيره، وبما رأوه من اتفاق ابن مسعود مع عمر بن الخطاب في كثير من المسائل، فظنوا أن ابن مسعود لا يعدو أن يكون ظلا لعمر، يقول بقولهن ويقلده فيما يذهب إليه من اجتهاد حتى قال الإمام الشعبي: " كان عبد الله بن مسعود لا يقنت، ولو قنط عمر لقنط عبد الله بن مسعود" (6) كما اغتر بعضهم بقول الإمام محمد بن جرير الطبري " كان ابن مسعود يترك مذهبه وقوله لقول عمر، وكان لا
__________
(1) إعلام الموقعين 1 \ 22.
(2) إعلام الموقعين 1 \ 20.
(3) ابن أبي شيبة 1 \ 100 وإعلام الموقعين 1 \ 20. .
(4) أخرجه الترمذي في مناقب عمر بن الخطاب وأبو داود في الخراج والإمارة باب تدوين العطاء.
(5) إعلام الموقعين 1 \ 15 وانظر فجر الإسلام 3 \ 295.
(6) إعلام الموقعين 1 \ 20.(6/209)
يكاد يخالفه في شيء من مذهبه، ويرجع من قوله إلى قوله (1) .
ونحن تجاه ذلك لا بد لنا من أن نقف وقفة نبين فيها موقع ابن مسعود من عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وموقع فقهه من فقهه من خلال استقرائنا لفقه كل من عمر بن الخطاب الذي بسطناه في كتابنا " موسوعة فقه عمر بن الخطاب " وفقه عبد الله بن مسعود الذي بسطناه في كتابنا هذا " موسوعة فقه عبد الله بن مسعود " نجد كثرة التوافق بين عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، ونحن لسنا مع الذين يردون هذا التوافق إلى تقليد ابن مسعود لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، بل إن هذا التوافق - في رأينا- يعود إلى أسباب عديدة.
أ - فهناك كثير من المسائل اتفق اجتهاد عبد الله بن مسعود مع اجتهاد عمر بن الخطاب فيها، وهذه المسائل هي أغلب ما اتفقا عليه.
ومن الطبيعي أن يتفقا طالما أن كلا منهما يعتمد على نفس المصادر التشريعية التي يعتمد عليها الآخر: ويتبع نفس منهج البحث الذي يتبعه الآخر، ويسلك نفس المدرسة الاجتهادية التي يتبعها الآخر، وهي فهم نصوص الشريعة من خلال مقاصدها دون الجمود على ألفاظها.
ونذكر من ذلك على سبيل المثال لا الحصر: ما رواه القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه قال: أتى ابن مسعود برجل من قريش وجد مع امرأة في ملحفتها ولم تقم البينة على غير ذلك، فضربه عبد الله بن مسعود أربعين سوطا وأقامه الناس، فانطلق قومه إلى عمر بن الخطاب فقالوا له: فضح ابن مسعود رجلا منا؟ فقال عمر لعبد الله: بلغني أنك ضربت رجلا من قريش، قال: أجل، أتيت به وقد وجد مع امرأة في ملحفتها ولم تقم البينة على غير ذلك، فضربته أربعين وعرفته للناس. فقال عمر: أرأيت ذلك؟ قال ابن مسعود: نعم. قال عمر: نعم ما رأيت.
وما رواه ابن حزم وغيره أنه رفع إلى عمر رجل قتل رجلا متعمدا فجاء أولياء المقتول وقد عفا أحدهم، فقال عمر لابن مسعود. ما تقول؟ قال: كانت النفس لهم جميعا، فلما عفا هذا أحيا النفس. فلا يستطيع أحد أن يأخذ حقه حتى يأخذ غيره، قال عمر: فما ترى؟ قال: تجعل الدية في ماله، وترفع حصة الذي عفا، فقال عمر: وأنا أرى ذلك (2) .
ومثل هذا كثير.
وهناك مسائل قصر عنها علم ابن مسعود، أو اجتهد فيها فلم يترجح لديه مذهب: فهو
__________
(1) إعلام الموقعين 1 \ 20.
(2) المحلى 10 \ 478 وكشف الغمة عن الأئمة 2 \ 123.(6/210)
يتابع فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه دون غيره من الصحابة، لما ثبت عنده من علم عمر، وسداد فكره، وفي هذا النوع من المسائل يقول عبد الله بن مسعود: " لو أن الناس سلكوا واديا وشعبا وسلك عمر واديا وشعبا لسلكت وادي عمر وشعبة (1) .
وهذه مسائل قليلة لا تعدو أربع مسائل كما ذكر ابن القيم (2) .
ج- وهناك مسائل كان على ابن مسعود أن يتبع فيها ما يرسمه عمر بن الخطاب باعتبار عمر أميرا للمؤمنين، وعبد الله بن مسعود لا يعدو أن يكون واليا من ولاته، وما كان لوال أن يخالف ما يرسمه أمير المؤمنين من أنظمة وأحكام طالما هي نابعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أفصح عن هذا ابن مسعود تمام الإفصاح عندما قال " إنما نقضي بقضاء أئمتنا " (3) وفي هذه المسائل قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى " كان ابن مسعود يترك مذهبه وقوله لقول عمر، وكان لا يكاد يخالفه في شيء من مذهبه ويرجع من قوله إلى قوله " (4) .
وهذه المسائل هي جميع الأحكام المتعلقة بالنظام العام في الدولة.
ومن ذلك- قضاؤه في مقاسمة الجد مع الإخوة في الميراث، فقد كان ابن مسعود يقضي في الجد مع الإخوة أن الجد يقاسم الإخوة إلى السدس، ثم قضى بمقاسمته إياهم إلى الثلث اتباعا لما رسمه عمر بن الخطاب فعن إبراهيم النخعي عن علقمة بن قيس قال: كان ابن مسعود يشرك الجد مع الإخوة، فإذا كثروا وفاه السدس، فرجعت من عنده وأنا حائر، فمررت بعبيدة بن نضلة فقال: ما لي أراك حائرا؟ قلت: كيف لا أكون حائرا، فحدثته بما سمعت، فقال: صدقاك كلاهما، قلت: لله أبوك، وكيف صدقاني كلاهما؟ قال: كان رأي عبد الله وقسمته أن يشركه مع الإخوة، فإذا كثروا وفاه السدس، ثم وفد على عمر فوجده يشركه مع الإخوة، فإن كثروا وفاه الثلث، فترك رأيه وتابع عمر (5) .
وفي رواية: أن عمر بن الخطاب هو الذي كتب إلى ابن مسعود يأمره بالعدول عن السدس إلى الثلث وقال في كتابه " ما أرى إلا أنا أجحفنا الجد، فإذا أتاك كتابي هذا فقاسم به مع الإخوة ما بينه وبين أن يكون الثلث خيرا له من مقاسمتهم (6)
__________
(1) ابن أبي شيبة 1 \ 100 وإعلام الموقعين 1 \ 20. .
(2) إعلام الموقعين 2 \ 218.
(3) المحلى 9 \ 283و286. .
(4) إعلام الموقعين 1 \ 20.
(5) مصنف ابن أبي شيبة 2 \ 183 والمحلى 9 \ 285.
(6) ابن أبي شيبة 2 \ 183 وسنن البيهقي 6 \ 249 وكنز العمال 30637. .(6/211)
- ومن ذلك أيضا: أن عمر بن الخطاب، كان لا يبيح بيع الأراضي الزراعية، ولا بيع حق الانتفاع بها، وكان يتشدد بذلك، وهذا يعني أن وجوب الخراج يبقى مستمرا على الأرض، فإذا انتقل حق استثمارها سرا إلى مسلم كان عليه أن يدفع الخراج وكان ابن مسعود ينفذ تعليمات عمر بذلك ويقول: " من أقر بالطسق -أي بالخراج- فقد أقر بالذل والصغار"، ولكن لما آلت الخلافة إلى عثمان بن عفان، أباح عثمان لمن في يده أرض خراج أن يبيع حق الانتفاع بها، وما كان لابن مسعود أن يخالف ما ترسمه الدولة من أنظمة، ولذلك تحول ابن مسعود عن متابعة عمر إلى متابعة عثمان (1) بل وقد اشترى هو نفسه من دهقان أرضا على أن يكفيه ابن مسعود جزيتها (2) - أي: خراجها- ومثل هذا كثير.
د- وهناك مسائل خالف فيها عبد الله بن مسعود عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، لأنه اعتقد أن ما أداه إليه اجتهاده هو الحق. فلا تحل له متابعة عمر فيما يقول، وهذه المسائل هي ما عدا ما ذكرناه في الحالات الثلاث الأولى.
وقد ذكر ابن القيم أن هذه المسائل التي خالف فيها ابن مسعود عمر بن الخطاب تبلغ نحو مائة مسألة، ولكنه لم يذكر منها إلا أربع مسائل، وقد استقرأت فقه ابن مسعود وفقه عمر بن الخطاب فأحصيت من المسائل التي خالف فيها ابن مسعود عمر بن الخطاب ثلاثا وأربعين: فأنا أذكرها هنا مبينا مكانها في موسوعة فقه عبد الله بن مسعود (3) .
1 - إباحة الانتباذ في الجرة الخضراء (ر: آنية) .
2 - إرث المكاتب (ر: ار ث \ 4 ب3) .
3 - ولابن مسعود في ميراث الجد تفصيلات لم تنقل عن عمر بن الخطاب (ر: إرث \ 5ب) .
4 - حرمان الإخوة لأم من الميراث بالجد (ر: إرث \ 5 ج3) .
5 - ميراث بنات الابن مع البنات الصلبيات إن كن أكثر من واحدة وإن كان مع بنات الابن أخ ذكر (ر: إرث \ 5 ز5) .
6 - ميراث الأخوات لأب إذا كن مع الأختين الشقيقتين وكان مع الأخوات لأب أخ لهن (ر: إرث \ 5 ط4) .
7 - ميراث الأخوات لأم إذا كن مع الأخت الشقيقة الواحدة، وكان مع الأخوات لأب أخ لهن (ر: إرث \ 5 ط3) .
__________
(1) الأموال ص78 وسنن البيهقي 9 \ 140.
(2) الأموال ص78 والمغني 2 \ 720.
(3) إعلام الموقعين 2 \ 218.(6/212)
8 - ترتيب استحقاق بيت مال المسلمين مال من توفي ولا وإرث له (ر: إرث \ 10) .
9 - بيع حق الانتفاع بالأرض الخراجية حيث قال ابن مسعود آخرا بما قال به عثمان (ر: أرض \ 1ج1) .
10 - وقوع الطلاق في الإيلاء بمضي المدة (ر: إيلاء \ 3) .
11 - لزوم التبرعات بالعقد دون قبض (ر: تبرع \ 4) و (هبة \ 2) .
12 - رفع الجنابة بالتيمم لمن لم يجد الماء أو عجز عن استعماله (ر: تيمم \ 4) .
13 - كيفية التيمم (ر: تيمم \ 6) .
14 - قتل السيد بعبده إذا قتله عمدا (ر: جناية \ 4آ) .
15 - حد الضمان الذي تتساوى فيه المرأة مع الرجل في الجراح والجناية على الأطراف (ر: جناية \ 4ح) .
16 - ضمان سريان القصاص (ر: جناية \ 361) .
17 - حل عقد النكاح للمحرم دون الدخول (ر: حج \ 6د3) .
18 - هل توجب الخلوة المهر كاملا (ر: خلوة \ 2) .
19 - حل أكل الذبيحة إذا ذبحت بالحجر والقصب (ر: ذبح \ 4) .
20 - أقل الرضاع الذي يثبت به التحريم (ر: رضاع \ 2ب) .
21 - النسبة التي إذا أداها المكاتب أصبح حرا، هل هي نسبة إلى بدل الكتابة، أم هي نسبة إلى قيمة المكاتب (ر: رق \ 5 ح4) .
22 - جواز نكاح الزاني المرأة التي زنى بها- على ما فسره ابن القيم من رأي ابن مسعود (ر: زنا \ 3ب1) .
23 - طلاق الأمة المتزوجة ببيعها (ر: رق \ 8ب (و (طلاق: \ 312) .
24 - عتق أم الولد من حصة ابنها من الإرث (ر: رق \ 6ب) .
25 - عدم اشتراط الحول للمال المستفاد (ر: زكاة \ 4ج) .
26 - وجوب حد الزنا على من وطئ جارية امرأته (ر: زنا \ 2) .
27 - إفطار المسافر في رمضان (ر: سفر \ 4د) .
28 - صلاة النوافل وسنن الرواتب في السفر (ر: سفر \ 4و) .
29 - وقت صلاة الجمعة (ر: صلاة \ 5د) و (صلاة: \ 15ج) .
30 - وقت صلاة الوتر (ر: صلاة \ 5ح) .(6/213)
31 - وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة (ر: صلاة \ 9و2) .
32 - تطبيق اليدين في ركوع الصلاة (ر: صلاة \ 9ح4) .
33 - مكان وقوف المأمومين إن كانا اثنين (ر: صلاة \ 14د3) .
34 - الأحق بالإمامة في الصلاة على الميت أهو الأمير أم الولي (ر: صلاة \ 16ب) .
35 - عدد تكبيرات الزوائد في العيدين (ر: صلاة \ 17 آ1) .
36 - لفظ "الحرام" الموجه للمرأة هل يكون طلاقا أما يمينا موجبا للكفارة (ر: صلاة \ 4ب1) .
37 - عدد الطلقات التي يملكها الزوج على زوجته هل يكون بحسب حال الرجل حرية ورقا أم بحسب حال المرأة (ر: طلاق \ 6) .
38 - عدة الحائض إذا ارتفعت حيضتها (ر: عدة \ 3ب2) .
39 - العزل عن الحرة (ر: عزل \ 2) .
40 - حد القاذف إن كان رقيقا (ر: قذف \ 3) .
41 - السجود في سورة (ص) (ر: قرآن \ 10) .
42 - جواز رد المستقرض أفضل مما استقرض (ر: قرض \ 2ب) .
43 - اشتراط كفاءة الزوج في النكاح (ر: نكاح \ 4ب) .
هذا ما أحصيته مما اختلف فيه عبد الله بن مسعود مع عمر بن الخطاب، وما أدري إن كان قد فاتني شيء في هذا الإحصاء، فالكمال لله تعالى.(6/214)
مصير فقه ابن مسعود مما لا شك فيه أن عبد الله بن مسعود كان فقيها من الطراز الأول، شهد له بذلك كبار الصحابة وعلماؤهم، ورغم أن نجم ابن مسعود لم يبزغ في المدينة المنورة، ولأن المجتمع المدني لم ينله كثير من التغيير عما تركه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فإن ابن مسعود كان في المدينة العالم الذي يشار إليه بالبنان.(6/214)
ولما انتقل ابن مسعود إلى العراق بأمر من عمر بن الخطاب لمواجهة المد الحضاري فيها، ولحل المشكلات الجديدة الناشئة في تلك البلاد، كان ابن مسعود العالم المتقدم، فالتف حوله الناس ينهلون من معينه. واصطفاه لأنفسهم جلة أهل العراق ومفكريهم ومقدميهم. وألفهم ابن مسعود كما ألفوه، ورأى فيهم نفسه وامتداد شخصيته، فوجد بينهم سعادته، ومنحهم حبه، فكان يقول لهم: " أنتم أخلاء قلبي" (1) ، ولم يكن يبخل عليهم بعلم ولا بتوجيه ففقه على يديه جماعة كان من أبرزهم أصحابه الستة المشهورون " علقمة بن قيس النخعي، والأسود بن يزيد النخعي، وعبيدة السلماني، ومسروق بن الأجدع، وعمرو بن شرحبيل الهمداني، والحارث بن قيس الجعفي (2) .
وفاق تلاميذ ابن مسعود غيرهم ممن تتلمذوا على أيدي غيره من الصحابة حتى قال الشعبي: " لم يكن أحد من أصحاب رسول الله أفقه أصحابا من عبد الله بن مسعود (3) .
وحفظ هؤلاء الأصحاب فتاوى ابن مسعود وعلمه، وفهموا مراميها وأهدافها، وحرروها، حتى قال الإمام محمد بن جرير الطبري: " لم يكن أحد له أصحاب معروفون حرروا فتياه ومذهبه في الفقه غير ابن مسعود (4) وكان أحفظ هؤلاء الأصحاب لفقه ابن مسعود وأكثرهم تأسيا به هو علقمة بن قيس النخعي، لأنه كان أكثرهم ملازمة له، حتى إنه كان يبيت في بيت ابن مسعود فيسمع منه ويخدمه، والذي أعانه على ذلك خفة حمله، فقد كان لا عقب له.
وكان أشهر من حمل علم ابن مسعود عن هؤلاء الأصحاب إبراهيم النخعي، وعامرا الشعبي، والحكم بن عتيبة، وكان المبرز من هؤلاء إبراهيم النخعي، وكان إبراهيم أكثر الناس ملازمة لعلقمة وأكثرهم تأسيا به وأحفظهم لفقهه، نظرا لقرابة إبراهيم من علقمة، ولاحتضان علقمة إبراهيم منذ نعومة أظفاره واعتباره ولدا من أولاده، لأن علقمة لا ولد له، حتى إنهم كانوا يقولون: " إذا رأيت علقمة فلا يضرك ألا ترى ابن مسعود، أشبه الناس به سمتا وهديا، وإذا رأيت إبراهيم فلا يضرك ألا ترى علقمة " (5) حتى كان البيهقي يرجح رواية النخعي والشعبي المنقطعة عن ابن مسعود على رواية أبي قيس الأودي الموصولة، وقال مبررا هذا الترجيح: والشعبي والنخعي أعلم بمذهب عبد الله وإن لم يرياه (6) .
ثم حمل الفقه عن هؤلاء حماد بن أبي سليمان، وسليمان بن مهران الأعمش، وسليمان بن
__________
(1) صفة الصفوة 1 \ 413.
(2) ابن أبي شيبة 2 \ 165.
(3) مصنف عبد الرزاق 10 \ 269.
(4) إعلام الموقعين 1 \ 20.
(5) تهذيب التهذيب 7 \ 177.
(6) سنن البيهقي 6 \ 255. .(6/215)
المعتمر، ومسعر بن كدام وكان أوعى هؤلاء حماد بن أبي سليمان.
ثم حمل الفقه عن هؤلاء، أبو حنيفة وسفيان الثوري ومحمد بن أبي ليلى، وعبد الله بن شبرمة والحسن بن صالح بن حي وغيرهم وبذلك نرى أن فقه أبي حنيفة -بل فقه العراق جملة- يعود في أصوله إلى فقه عبد الله بن مسعود، فهو العميد الأول للمدرسة، وغارس البذور الأولى فيها، وحتى إذا ما فارق أبو حنيفة عبد الله بن مسعود في الاجتهاد فما هي بالمفارقة البعيدة، المبعدة لأبي حنيفة عن الخط الذي رسمه عبد الله بن مسعود.
وأرجو الله تعالى أن يمد في أجلي حتى أحقق الصلة بين فقه أبي حنيفة وفقه عبد الله بن مسعود، بعد أن بقي علي من سلسلتهما حلقتان هما: فقه علقمة بن قيس، وفقه حماد بن أبي سليمان بعد أن جمعت فقههما عندي.
رحم الله عبد الله بن مسعود، لقد أنشأ جيلا من الفقهاء تمتلئ بهم العين، وتقر بهم النفس.(6/216)
علامة الكيمياء
الجلدكي
علي عبد الله الدفاع
عز الدين أيدمر علي الجلدكي من علماء القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) ، ولم نتمكن من العثور على تاريخ ولادته أو تاريخ وفاته بالضبط على الرغم من التحريات الكثيرة.
وقد تعرضت بعض المراجع لإسهام الجلدكي وذكرت أنه توفي عام 743 هجرية (1343-ميلادية) . كان الجلدكي كثير التنقل بين القاهرة ودمشق حتى قبيل وفاته إذ كان في دمشق سنة 739 هجرية (1339 ميلادية) ، وفي القاهرة سنة 741 هجرية (1341 ميلادية) . وهناك إجماع بين علماء التاريخ أن الجلدكي ينتمي إلى القطر المصري. يقول خير الدين الزركلي في كتابه (الأعلام) : " إنه علي بن محمد بن أيدمر الجلدكي، عز الدين، كيميائي حكيم. اختلفت المصادر في اسمه واسم أبيه. نسبته إلى جلدك من قرى خراسان على فرسخين من مشهد الرضا (بإيران اليوم) . صنف أحد كتبه في دمشق عام 740 هجرية، وآخر في القاهرة في أواخر شوال 742 هـ " أما دائرة المعارف الإسلامية فتنص على أن الجلدكي ألف كتابه " نتائج الفكر في أحوال الحجر" في القاهرة، وكتاب " البدر المنير في معرفة أسرار الإكسير " في دمشق.(6/217)
امتدح الجلدكي كثير من علماء الكيمياء الحديثة ومنهم م. المان جينما قال في مقالة نشرت له في مجلة الأورينستك: " الجلدكي يعتبر من عباقرة علماء الإسلام في حقل الكيمياء، وحقيقة الأمر أنه من هؤلاء العلماء الذين وضعوا أسس الكيمياء لمن أتوا بعده ". أما أ. ج هولميارد فيقول في كتابه (صانعو الكيمياء) : " إن الجلدكي الذي قضى جزءا من حياته في القاهرة يعتبر بحق من العلماء الذين لهم دور عظيم في علم الكيمياء. اهتم الجلدكي اهتماما بالغا بقراءة ما كتب عن علم الكيمياء، فاتخذ من قراءاته وتحليله طريقة لبناء مسلك علمي في علم الكيمياء وهذا ما يسمى بآداب علم الكيمياء العربية والإسلامية. قام الجلدكي بتجارب علمية في حقل الكيمياء، وإن كان معظم عمله تحليليا، فهو من علماء العالم الذين يدين لهم علماء العصر الحديث بالكثير ". ويذكر سامي حمارنه في كتابه (فهرست مخطوطات دار الكتب الظاهرية في الطب والصيدلة) : " إن الجلدكي يعتبر آخر كيمياوي مسلم واسع الشهرة إذ ليس بين من جاء بعده من أحرز شهرته ".(6/218)
اهتم الجلدكي بدراسة تاريخ علم الكيمياء فتابع تطوراته بكل تمعن عبر الحضارات السابقة للحضارة الإسلامية. وقضى جل وقته في دراسة إسهام جابر بن حيان والرازي في علم الكيمياء وغيرهما من علماء الإسلام واشتهر الجلدكي بتعليقاته وتفسيراته لبعض النظريات والأفكار الكيميائية الغامضة لذا فإنه قد قدم خدمة عظيمة لطلاب هذا الحقل. يقول عمر رضا كحالة في كتابه (العلوم البحتة في العصور الإسلامية) : " إن الجلدكي المتوفى سنة 743هجرية (1342 ميلادية) يعد من أعظم العلماء معرفة بتاريخ الكيمياء وما كتب فيها من قبله كان مغرما بجمع المؤلفات الكيميائية وتفسيرها وكانت عاداته أن ينقل عن من تقدموا من المشاهير كجابر بن حيان وأبي بكر محمد بن زكريا الرازي فقرات كاملة. وبذلك يكون قد أدى لتاريخ الكيمياء في الإسلام خدمة جليلة، إذ دون في كتبه الحديثة نسبيا ما يكون قد اندثر وضاع من كتب سابقيه ".
من دراسة الجلدكي المكثفة لإنتاج علماء العرب والمسلمين في حقل الكيمياء وتجاربه الكيمياوية الدقيقة التي أجراها بنفسه استنتج أن المواد الكيماوية لا تتفاعل مع بعضها إلا بأوزان معينة. ومما لا يقبل الجدل أن هذه الفكرة بحد ذاتها اللبنة الأساسية لابتكار قانون النسب الثابتة في الاتحاد(6/218)
الكيمياوي، الذي ادعى ابتكاره لنفسه كذبا وبهتانا جوزيف برواست الذي أتى بعد الجلدكي بخمسة قرون. كما أن الجلدكي طور طريقة كيميائية لفصل الذهب من الفضة بواسطة حامض النتريك التي استمرت تستعمل حتى يومنا هذا. وصدق جابر الشكري في كتابه (كيمياء عند العرب) : " الجلدكي هو آخر الحكماء الذين تكلموا في الكيمياء، جمع أقوال العلماء والفلاسفة العرب والمسلمين، وصنفها تصنيفا جيدا مما يسر للباحثين المؤرخين مراجعة ما بحث وكتب في علم الكيمياء في أوج عصر النهضة العربية والإسلامية. وله آراء مهمة في الكيمياء، فهو القائل: إن المواد الكيميائية لا تتفاعل مع بعضها إلا بأوزان معينة، وهذا المفتاح الرئيسي في قانون النسب الثابتة في الاتحاد الكيمياوي وتوصل أيضا إلى فصل الذهب عن الفضة بواسطة حامض النتريك الذي يذيب الفضة تاركا الذهب الخالص ". أما عبد الرزاق نوفل فيقول في كتابه (المسلمون والعلم الحديث) : " إن فضل الجلدكي على علم الكيمياء يظهر واضحا جليا من قوانينه التي وضعها في هذا العلم، ومنها قانونه الذي قرر فيه أن المواد لا تتفاعل إلا بأوزان معينة، وبعد خمسة قرون من وفاة الجلدكي أعلن العالم برواست قانون النسب الثابتة في الاتحاد الكيميائي ومنطوقه هو نفس نظرية الجلدكي ".(6/219)
لقد أعطى الجلدكي وصفا مفصلا لطريقة الوقاية والاحتياطات اللازمة من خطر استنشاق الغازات الناتجة عن التفاعلات الكيمياوية. فهو بذلك أول من فكر في ابتكار واستخدام الكمامات في معامل الكيمياء. كما درس دراسة وافية القلويات والحمضيات، وتمكن بكل جدارة من تقديم بعض التحسينات على طريقة صناعة الصابون المعروفة آنذاك وذلك بإضافة بعض المواد الكيمياوية التي تقلل من مفعول المواد الكاوية التي تحرق الغسيل. كما طور طريقة التقطير، وهو أول من قال إن المادة تعطي لونا خاصا بها عند إحراقها. فهو العالم المسلم العظيم المتقصي للحقائق العلمية. ويقول عبد الرزاق نوفل في كتابه (المسلمون والعلم الحديث) : " إن الجلدكي أول عالم نبه الأذهان إلى خطر استنشاق الإنسان للغازات والأبخرة الناتجة من التفاعلات الكيميائية، وضرورة اتخاذ الاحتياطات الكافية، وهو إن كان أوصى بوضع قطعة من القطن والقماش في أنفه فلعل ذلك هو ما أوحى بالعلماء حاليا أن يستعملوا الكمامات في معامل الكيمياء. . وقد درس القلويات والحمضيات وتمكن من أن يضيف مواد كيمياوية إلى الصودا الكاوية المستعملة في صناعة(6/219)
الصابون للمحافظة على الثياب من تأثير الصودا الكاوية إذ إنها تحرق الثياب، وأوضح في مؤلفاته تفصيلا للأنواع المختلفة للتقطير، وشرح طريقة التقطير التي تستعمل حاليا مثل أوراق الترشيح والتقطير تحت الحمام المائي والتقطير المزدوج. وفي وصفه للمواد الكيميائية لا يترك خاصية للمادة إلا ذكرها، وأوضحها، بل أنه يعتبر أول عالم تمكن من معرفة أن كل مادة يتولد منها بالاحتراق ألوان خاصة، فهو مثلا عندما يصف الرصاص يذكر كل ما يمكن أن يأتي به العلم الحديث من خواص فيقول عنه: (الرصاص جسم ثقيل بطباعه يذوب بالنار ذوبا سريعا، ويحترق فيها ويتولد منه بالاحتراق المرتك والإسرنج، أصفر وأسرنجه أحمر، وإذا طرق يتحمل التطريق حتى يسرع إليه التفتت والتقصب، ويسرع إليه التصديد بالحموضات وبخل العنب إلى أن يصير اسفيدجا) .(6/220)
والعجيب أن هذه كانت حال العالم الإسلامي في القرن الثامن الهجري، على حين كانت أوربا تحارب هذه العلوم، وحسبنا من جهل بابا روما أنه أمر بإتلاف جميع المؤلفات التي تبحث في الكيمياء، واعتبر علم الكيمياء نوعا من السحر. ويذكر جلال مظهر في كتابه (أثر العرب في الحضارة الأوربية - نهاية الظلام وتأسيس الحضارة الحديثة) : " إن العلماء الذين يشتغلون في تحويل المعادن الرخيصة كالرصاص والقصدير إلى ذهب وفضة كانوا معرضين لحسد العامة من ناحية وغضب السلطان من ناحية أخرى.
فقد أمر بابا روما بإفناء البحوث العلمية المتعلقة بعلم الكيمياء، وقد ذكر ذلك الجلدكي في مؤلفاته ".
ولم يقتصر الجلدكي على علم الكيمياء بل كانت ثقافته واسعة جدا، إذ بحث في مجالات مختلفة مثل الميكانيكا وعلم الصوت والتموج الهوائي والمائي. وأعطى شروحا وتعليقات علمية دقيقة لبعض النظريات الميكانيكية وذلك في كتابة (أسرار الميزان) كما اشتغل بعلمي الطب والصيدلة وله في ذلك إنتاج مرموق واعتمد الجلدكي بدراسته بالظواهر الطبيعية على أساتذته ابن الهيثم والطوسي والشيرازي وغيرهم. يقول عمر رضا كحالة في كتابه (العلوم البحتة في العصور الإسلامية) : قال عز الدين أيدمر بن علي بن أيدمر الجلدكي عن التموج الذي يحدث بأن ليس المراد منه حركة انتقال من ماء أو هواء واحد بعينه، بل هو أمر يحدث بصدم وسكون بعد سكون ".(6/220)
بقيت مصنفات الجلدكي مصدرا هاما لرواد علم الكيمياء في النظريات والبحوث الكيميائية. ويذكر مصطفى عبد الغني في كتابه (الكيمياء عند العرب) : أن الجلدكي من خيرة علماء العرب والمسلمين بوجه عام، وكتبه تشبه الموسوعة لأنها شاملة على كثير من البحوث والأفكار الكيميائية والتجارب التي قام بها هو وزملاؤه وأساتذته علماء العرب والمسلمين. وخير مثال كتابه (التقريب في أسرار التركيب) . أما جورج سارتون فيقول في كتابه (المدخل إلى تاريخ العلوم) : " إن كتاب الجلدكي " نهاية الطلب " يعد من أهم الكتب التي أنتجها العقل العربي لما فيه من معلومات دقيقة مستندا بذلك على إنتاج عمالقة علماء الإسلام مثل جابر بن حيان والرازي ". ويذكر سامي حمارنه في كتابه (فهرست مخطوطات دار الكتاب الظاهرية في الطب والصيدلة) عن كتاب (نهاية الطلب) أن هذا الكتاب يحتوي على مقالتين الأولى في كيفية وضع الإكسير، والثانية تتعلق بماهية الرموز وأقوال الحكماء في فك الرموز ومفاتيح الكنوز. ويتضح جليا أن كيميائي القرن الرابع عشر الميلادي كانوا مهتمين باستعمال رموز للمصطلحات الكيمياوية، التي استكملت في شكلها الحالي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين.
وقد صنف الجلدكي كتاب البرهان في أسرار علم الميزان، فكان هذا الكتاب مفصلا ومبوبا تبويبا حديثا يدل على تعمقه في طريقة البحث العلمي التي تستعمل في أيامنا هذه. ويذكر سامي حمارنه في كتابه (فهرست مخطوطات دار الكتب الظاهرية في الطب والصيدلية) عن كتاب البرهان في أسرار علم الميزان للجلدكي أن هذا الكتاب يحتوي على ثماني مقالات في الحكم الإلهية والأسرار الخفية. فالمقالة الأولى تشتمل على المقدمة والثانية في أصول العناصر الأربعة وما يتعلق بموازين كل واحد منها. والثالثة في الإنسان والحيوان والنبات والمعدن وميزتها. والرابعة تبحث الأجساد السبعة: زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر وميزتها. والخامسة في الأملاح. والسادسة في الزينة والسابعة في اليقين المتعلق بموازين الأجسام الذاتية المعدنية وحكمة صنعها وفي بيان الفلزات. والثامنة، وهي المقالة الأخيرة، تحتوي على لواحق علم الميزان والعمل للوصول لتحضير الإكسير ومنافعه مع خاتمة.
بدا الجلدكي يفكر في كتابه بضم معظم ما توصل إليه من معلومات علمية بطريقة مختصرة، فألف (كتاب المصباح في علم المفتاح) يذكر عمر رضا كحالة في(6/221)
كتاب (العلوم البحتة في العصور الإسلامية) هذا الكتاب فيقول: إنه عبارة عن خلاصة خمسة كتب، وهي البرهان في أسرار علم الميزان، وغاية السرور ونهاية الطلب في شرح المكتسب، وزراعة الذهب، والتقريب في أسرار التركيب في الكيمياء، وكنز الاختصاص في معرفة الخواص لذا بقي هذا الكتاب مرجعا لا يستغني عنه طالب علم فصار متداولا بين طلاب العلوم بوجه عام فترجم هذا الكتاب إلى عدد كبير من اللغات العالمية.
عكف الجلدكي على التأليف فأنتج كثيرا من الكتب العلمية التي صارت متداولة في جميع مكتبات العالم، والجدير بالذكر أن معظمها لا يزال على شكل مخطوط في تلك المكتبات.
ذكر جورج سارتون في كتابه (المدخل إلى تاريخ العلوم) المؤلفات الخاصة في حقل الكيمياء وهي: 1 - البدر المنير في معرفة الإكسير.
2 - بغية الخبير في قانون طلب الإكسير.
3 - البرهان في أسرار علم الميزان.
4 - الدر المنثور.
5 - الدر المكنون في شارح قصيدة الظنون.
6 - غاية السرور.
7 - درة الغواص وكنز الاختصاص في معرفة الخواص.
8 - كشف الستور.
9 - المصباح في علم المفتاح.
10 - مخمس الماء الورقي.
11 - نتائج الفكر في أحوال الحجر.
12 - نهاية الطلب في شرح المكتسب وزراعة الذهب.
13 - شرح قصيدة أبي الأصباع.
14 - شارح الشمس الكبرى لأبولونيوس.
15 - التقريب في أسرار تركيب الكيمياء.
16 - أنوار الدر في إيضاح الحجر.
17 - كنز الاختصاص في معرفة الخواص.(6/222)
لقد أدى الجلدكي خدمة جليلة لعلم الكيمياء، حيث قدم شروحا مفصلة للتجارب العلمية التي قام بها، إضافة إلى التي قام بها غيره من علماء العرب والمسلمين.
ويدعى علماء العرب أنهم يجهلون إسهام الجلدكي في الكيمياء لأن كتبه بقيت مهجورة في المكتبات العالمية باللغة العربية على شكل مخطوطات. ولهذا أعلن جوزيف براوست عام 1214 هجرية (1799 ميلادية) - بكل تبجح ابتكاره لقانون النسب الثابتة في الاتحاد الكيمياوي، ومن ثم بدأ علماء الغرب يبلورون هذا الادعاء، حتى أصبح طلاب العلم في جميع أنحاء العالم يعتقدون ذلك. وعندما بدا المخلصون للعلوم ينكرون هذه الادعاءات محاولين نسبة الابتكار إلى صاحبه الجلدكي، كان الرد من علماء الغرب أن إنتاج الجلدكي في الكيمياء مغمور في مخطوطاته في المكتبات العامة. هذا طبعا لا يعني أن جوزيف براوست لم يطلع على فحوى إسهام الجلدكي في الكيمياء، أما كتاب المصباح في علم المفتاح كان في متناول علماء الشرق والغرب بلغات مختلفة، ومن ذلك يتضح أن براوست أخذ فكرته عن هذا العالم الجليل.
لم ينكر علماء الغرب أن الجلدكي هو أول عالم كيميائي فصل الذهب عن الفضة، بواسطة استخدام حامض النتريك الذي يذيب الفضة ويترك الذهب. وهذه الطريقة لا تزال تستعمل إلى يومنا هذا. أيضا اعترف علماء الشرق والغرب على السواء أن أول من فكر في قوانين السلامة في المعامل الكيميائية، وأول من استخدم الأكمام التي ترتدي عند القيام بتجربة كيميائية هو الجلدكي. وهناك نوع من الإجماع أن كتب الجلدكي هي عبارة عن موسوعات علمية تحتوي على معلومات نابغة وثمينة في علم الكيمياء لعلماء العرب والمسلمين ولغيرهم من علماء الحضارات الأخرى. فهو العالم العادل الذي يعطي كل ذي حق حقه بدون تحيز.
لقد امتازت مؤلفات الجلدكي بالتفصيل وتقصي الحقائق والإيضاحات الضرورية لفهم المسألة، حتى لغير المتخصص في مادة الكيمياء. كان يسهب في الشرح، فيعطي كثيرا من الأمثلة الكثيرة لبعض التفاعلات الكيميائية. كما أنه اهتم بالنواحي التاريخية، لأن الحضارة العربية والإسلامية تأثرت كثيرا بثقافات الأمم القديمة، ذلك أن علماء العرب والمسلمين ترجموا الكتب التي ألفها علماء تلك الأمم، وتفننوا فيها فلخصوها وعلقوا عليها بشتى التعليقات.(6/223)
إن مما يؤلم جدا رؤية إهمال هذا العالم الجليل، لأن المستشرقين لم يهتموا بشأنه ولا اهتم به قومه. لو كان الجلدكي من علماء العرب لرأيت التقدير الفائق النظير، ولرأيت اسمه منتشرا بين الناس، كي تأخذ منه الأجيال حافزا لطلب العلم، ويقتدوا بسيرته وطريقته في البحث. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: أليس عيبا فاضحا أن يعرف شباب أمتنا العربية والإسلامية عن بطليموس وكبلر ونيوتن وانشتاين، ويجهلوا تماما كل شيء عن عز الدين أيدمر الجلدكي؟
لا مانع بالطبع أن نعرف عن علماء الغرب الكثير، ولكن أليس من الطبيعي أن يحفظ لكل عالم قدره، دون أن يكون ذلك على حساب علماء أمة الإسلام؟ إن الوقت قد حان لنبدأ بدراسة تاريخ العلوم، ونضع علماء العرب والمسلمين في الموضع اللائق بهم بين علماء العالم. .(6/224)
المصادر والمراجع:
1 - م. المان: الأورنيستك (مجلة) .
2 - سامي حمارنه: فهرست مخطوطات دار الكتب الظاهرية في الطب والصيدلة.
3 - خير الدين الزركلي: الأعلام.
4 - جورج سارتون: المدخل إلى تاريخ العلوم.
5 - جابر الشكري: الكيمياء عند العرب.
6 - مصطفى عبد الغني: الكيمياء عند العرب.
7 - عمر رضا كحاله: العلوم البحتة في العصور الإسلامية.
8 - جلال مظهر: أثر العرب في الحضارة الأوربية (نهاية الظلام وتأسيس الحضارة الحديثة) .
9 - عبد الرزاق نوفل: المسلمون والعلم الحديث.
10 - أ. ج. هولميارد: صانعو الكيمياء.(6/224)
الإسقاط المكي للعالم
حسين كمال الدين أحمد (1) .
مقدمة هذا النوع من إسقاط الخرائط، هو نوع جديد من جميع الوجوه، ولا يرتبط بنوع ما من أنواع الإسقاطات الأخرى للخرائط المعروفة بين علماء المساحة أو الجغرافية. والغرض من كتابة هذا البحث هو شرح هذا الإسقاط الجديد بطريقة سهلة ومبسطة، لعامة الناس، حتى يستأنسوا بمعرفة موقع مكة المكرمة من القارات المستقرة على سطح الكرة الأرضية، دون الدخول في التفاصيل العلمية.
والمقصود عموما من إسقاط الخرائط هو كيفية تمثيل السطح الكروي للأرض على الخرائط المستوية للسطح، ولقد أصبح من البديهي الآن أن الأرض جسم كروي، وعلى ذلك فإننا إذا أخذنا في الاعتبار مساحة كبيرة جدا على هذا السطح، فإن تأثير كروية سطح الأرض يظهر فيه تماما، بينما كان هذا التأثير يختفي عنا في المساحات المحددة منه. ومن هنا نشأ التفكير في دراسة علم إسقاط الخرائط حتى نستطيع أن نربط بين السطح الكروي للكرة الأرضية، وبين السطح المستوى للخرائط المساحية والجغرافية.
__________
(1) د. حسين كمال الدين أحمد - أستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.(6/225)
ولما كان من الواجب على الخريطة أن تمثل سطح الأرض كأنها صورة منها، إذا أصبح من الضروري أن يكون بين الأصل والصورة تشابه تام في كل شيء. بمعنى أن الشكل المسقط يكون مشابها للأصل، وأن مساحته تكون متكافئة بنسبة مقياس الرسم، وأن الاتجاهات بين أجزائه تكون صحيحة مثلما كانت على سطح الأرض. وهذا يعبر عنه في علم إسقاط الخرائط بالمحافظة على التشابه والتكافؤ والانحرافات.
ولقد وجد أن المحافظة على هذه الواجبات الثلاثة مجتمعة، من المحال ما دامت الخريطة مستوية، ولذلك روعيت الأغراض المطلوب صنع الخريطة من أجلها عند اختيار عملية الإسقاط المناسبة. فمثلا الخرائط المستعملة في البحرية والطيران، أهم أغراضها المحافظة على الاتجاهات بين الأماكن، والخرائط التعليمية مثل الخرائط الجغرافية يفضل فيها وجود التشابه، والخرائط الزراعية يراعي فيها التكافؤ، وهكذا. . . ولقد وجد أنه من الممكن الاحتفاظ بواحدة من هذه الخواص الثلاثة المذكورة سابقا، أو باثنين منها فقط، أما الثلاثة معا فلا.
وفي الحالات العامة يمكننا دون حدوث أي خطأ محسوس اعتبار أن الأرض كروية السطح تماما وإذا أردنا الدقة أكثر من ذلك فهي شبه كروية مفرطحة القطبين، والفرق بين طول القطر الاستوائي والقطر القطبي حوالي (42) كيلو مترا، وهذا الفرق صغير جدا إذا قورن بقطر الكرة الأرضية المتوسطة وقدره (12700) كيلو متر.
ونظرا لكروية سطح الأرض، فإن أية نقطة من سطحها لا تتميز عن غيرها من النقط السطحية بدليل ما. ولذلك لجأنا إلى تصور وجود خطوط وهمية مرسومة على سطح الكرة الأرضية بنظام متعامد خاص، يرتبط بنقطتين ثابتتين هما القطب الأرضي الشمالي والقطب الأرضي الجنوبي.
وإذا تصورنا أن الكرة الأرضية تدور حول نفسها دورة منتظمة فإن ذلك يستوجب فرض محور ثابت داخل هذه الكرة ينسب إليه هذا الدوران تقابل طرفي هذا المحور مع سطح الكرة الأرضية يحدد هاتين النقطتين القطب الشمالي والقطب الجنوبي.
وإذا فرضنا أن كلا من هذين القطبين هو نقطة أساس، فإن الكرة الأرضية تنقسم إلى نصفين متكافئين، وأن الخط الدائري المشترك بين هذين النصفين يسمى خط الاستواء، وهو دائرة عظمى من الدوائر الأرضية (1) . ثم تقسم هذه الدائرة إلى (360) درجة، وكل درجة تقسم إلى (60)
__________
(1) الدائرة العظمى هي التي يمر مستواها بمركز الكرة الأرضية، أي أنها تقسم الكرة إلى نصفين متساويين.(6/226)
دقيقة وكل دقيقة تقسم إلى (60) ثانية. وإذا وصلنا بين نقطة تقسيم دائرة الاستواء وبين القطبين الأرضيين فإننا نحصل على أنصاف دوائر عظمى متعامدة على دائرة الاستواء، وتسمى هذه الدوائر بخطوط الزوال (1) ومن الممكن ترقيم هذه الدوائر حتى نميزها بترقيمها عن بعضها البعض، ولقد اعتبر خط الصفر، هو خط الزوال المار بمرصد جرينتش في إنجلترا، ثم استمر الترقيم شرقا وغربا بالنسبة إلى هذا الخط من صفر إلى 180 درجة.
وإذا أخذنا أية دائرة من دوائر خطوط الطول، نجد أنها أنصاف دوائر عظمي، وأن خط الاستواء يقسمها إلى نصفين متساويين، كل قسم منها يحصر زاوية قدرها (90) درجة عند مركز الكرة الأرضية. وتسمى بأرباع الدوائر العظمى، ويبدأ تقسيم هذه الأرباع من عند دائرة الاستواء بالمقدار (صفر) درجة ثم ينتهي عند القطب الأرضي بالمقدار (90) درجة شمالا وجنوبا.
وإذا رسمنا من عند نقط تقسيم هذه الأرباع مستويات عمودية على محور دوران الأرض- أي أنها تكون موازية لمستوى دائرة الاستواء- فان هذه المستويات تقابل سطح الكرة الأرضية في دوائر متوازية مع بعضها ومع دائرة الاستواء ولكنها ليست دوائر عظمى. وتسمى هذه الدوائر بالمتوازيات أو دوائر خطوط العرض الأرضية - ويكون خط الاستواء هو خط العرض صفر، والقطب هو خط العرض (90) درجة شمالا أو جنوبا. كما يسمى خط الطول المار بجرينتش بخط الأساس لخطوط الطول.
ويلاحظ أن أقطار دوائر خطوط العرض تقل كلما ابتعدنا عن دائرة الاستواء الأرضي حتى تصل إلى الصفر عند القطبين.
لو تصورنا وجود خطوط الطول وخطوط العرض السابقة ذكرها على سطح الكرة الأرضية فإننا عند ذلك نستطيع أن نرسم حدود القارات والبحار والأنهار والدول عليها، وأن نعين كل بلد من البلاد أو مكان من الأمكنة بخطي الطول والعرض المارين بها. ولو أن هذه الخطوط وهمية إلا أننا نستطيع بطريق الرصد الفلكي أن نعين مقدارها في أي موضع من سطح الكرة الأرضية بالدقائق أو الثواني أو حتى بأجزاء الثواني حسب المطلوب. ومن ذلك نجد أنه يمكننا الربط الكامل بين الحدود بأي شكل منها وبين خطوط الطول والعرض الأرضية.
ولقد سبق أن ذكرنا أن سطح الأرض كروي وبذلك تكون هذه الخطوط أيضا أقواسا من دوائر وليست خطوط مستقيمة، بينما الخرائط المطلوب الرسم عليها هي أوراق متساوية وهنا يتدخل علم إسقاط الخرائط.
__________
(1) خطوط الزوال هي خطوط الطول في الاصطلاح الجغرافي.(6/227)
ومن هذا نعلم أن علم إسقاط الخرائط هو الواسطة في عملية النقل من السطح الكروي إلى الأرض إلى السطح المستوي للخريطة.(6/228)
الباب الأول
ذكرنا في المقدمة أنه من الواجب عند رسم الخريطة المساحية، أن نراعي ثلاثة أساسيات وهي:
1 - التشابه التام بين الشكل في الطبيعة والشكل الذي نمثله به على الخريطة.
2 - المكافأة في المساحة السطحية بين كل موجود في الطبيعة، وبين كل مرسوم يناظره على الخريطة مع اعتبار مقياس الرسم المذكور على الخريطة.
3 - المحافظة على الاتجاهات بين جميع الأماكن على سطح الأرض، وبين نظائرها المرسومة على الخريطة. وهذه الأساسيات الثلاثة تجعلنا نستطيع دراسة سطح الأرض دراسة تفصيلية صحيحة من الخريطة، فنستطيع تقدير المسافات طولا وعرضا، ومعرفة الارتفاعات، وحساب المسطحات وقياس الاتجاهات، وتصور الأشكال للأنهار والبحيرات والمحيطات والقارات تماما كما نراها وهي في الطبيعة.
ولكن من سوء الحظ وجدنا أن هذه الأساسيات الثلاثة لا نستطيع أن نجمع بينها على خريطة متساوية واحدة لمساحة كبيرة من سطح الكرة الأرضية. ولذلك أصبح من اللازم أن نختار واحدة من هذه الأساسيات الثلاثة.
ونلتزم بها عند رسم الخريطة، ونتهاون بعض الشيء في الأساسيتين الأخريين. وأصبح هذا التمييز يرتبط بالغرض المقصود من أجله عمل هذه الخرائط، كما سبق ذكره مختصرا في المقدمة.
ولذلك تعددت أيضا الطرق المستعملة في إسقاط الخرائط ورسمها على الورق لكي تتماشى مع الأهداف المرغوب فيها.(6/228)
والخطوة التالية بعد ذلك هي أن نفرد السطح الكروي ونحوله على سطح مستو. ولا يتم ذلك إلا بإحدى الطريقتين. كلاهما أسوأ من الأخرى، وهي إما أن ندع الأحرف الخارجية تتمزق لكي تتسع فيما بينها، وإما أن نجعل الجزء الداخلي من هذا السطح ينبعج بمقادير مختلفة حتى يضيق ويسمح بتحويل السطح الكروي إلى سطح مستوي، ولما كان كل من هذين الحلين غير مقبول، ولذلك كان من الواجب البحث عن حل ثالث.
والحل الجديد هو اختيار جسم آخر يكون واسطة انتقال بين سطح الكرة الأرضية وبين الخريطة المساحية. بحيث ننقل أولا التفاصيل من السطح الكروي إلى سطح هذا الجسم الجديد، ثم بعد ذلك نفرد سطح هذا الجسم ونحوله إلى مستوى الخريطة.
ومن هذا نلاحظ أن الأجسام التي تقوم بعمل الوسيطة، يجب أن تكون الأسطح الخاصة بها قابلة للفرد أو النشر، وأن تصلح كذلك لاستيفاء بعض الشروط الأساسية الثلاثة السابق بيانها.
ولقد وجد أن أصلح الأجسام الهندسية التي تؤدي هذا العمل هي الأسطوانة أو المخروط ولذلك نجد أن معظم الإسقاطات المشهورة للخرائط الجغرافية مشتقة من هذين الجسمين. وسوف نوضح بعض هذه الطرق المشهورة بضرب بعض الأمثلة عليها.(6/229)
أولا فيما يتعلق بالأسطوانة:
لقد استعملت طريقتان مشهورتان في هذه الحالة وهما طريقة الإسقاط الإشعاعي وطريقة الإسقاط المتساوي.
وفي هاتين الطريقتين تظهر خطوط الطول متوازية مع بعضها، وكذلك تظهر خطوط العرض متوازية مع بعضها، بينما يتعامد كلا منهما مع الآخر تماما. لذلك نتصور وضع الكرة الأرضية بداخل أسطوانة عظيمة كما هو مبين في الشكل رقم (1) ، وبحيث يكون محور الكرة منطبقا مع محور الأسطوانة، وأن تمس الكرة الأرضية هذه الأسطوانة على طول دائرة الاستواء.
بعد ذلك نفصل بين الطريقتين بعض الشيء وفي حالة الإسقاط الإشعاعي نتصور امتداد خطوط مستقيمة تشع من مركز الكرة الأرضية وتصل إلى سطحها عند تقابل خطوط الطول والعرض مع بعضها، ثم تستمر في السير على استقامتها حتى تصل إلى سطح الأسطوانة المذكورة. ومعنى ذلك أننا نقلنا فقط تقاطع خطوط الطول والعرض الأرضية من سطح الكرة إلى سطح الأسطوانة. وإذا فردنا بعد ذلك سطح الأسطوانة نجد أن خط الاستواء يحتفظ بطوله الحقيقي، أي أن القياسات التي تؤخذ(6/229)
عليها من الخريطة تكون أطوالها صحيحة.
أما باقي خطوط العرض الشمالية والجنوبية فإن أطوالها تزداد عن حقيقتها، وكلما ابتعدنا عن خط الاستواء كلما كبرت هذه الزيادة، ولكنها تظل محتفظة بخاصية الموازاة بينها وبين بعضها البعض. وأما خطوط الطول فإنها تكون متعامدة مع خط الاستواء وتحتفظ بالمسافات المتساوية بينها كما هي عند هذا الخط، بينما تفقد خاصية تقابلها عند القطبين الأرضيين، وتصبح متوازية تماما. ونلاحظ في هذا الإسقاط أن المسافات بين خطوط العرض وبعضها لا تكون متساوية بل تزداد كلما اتجهنا شمالا أو جنوبا بالنسبة إلى خط الاستواء. كما إنه يتيسر إسقاط المناطق القريبة من القطب لأنها تحتاج إلى أبعاد كبيرة جدا وأن نقطة القطب نفسها يكون مسقطها في ما لا نهاية. ونلاحظ من ذلك كله أن منطقة الإسقاط الحقيقي هي المنطقة القريبة من خط الاستواء، بينما سائر الأجزاء الأخرى يحدث بها تضخم يزداد أثره كلما بعدنا عن خط الاستواء. ويستعمل هذا النوع في رسم الخرائط والمصورات الإيضاحية للعالم لأغراض الدراسات الجغرافية والتعليم.
أما في الحالة الثانية، وهي حالة الإسقاط المتساوي، فهناك بعض الشبه مع الطريقة الأولى وهي أننا نتصور وضع الكرة الأرضية بداخل أسطوانة عظيمة تمس سطحها عند دائرة خط الاستواء كما سبق تماما، وكذلك نرسم الخطوط المشعة من مركز الكرة إلى سطحها عند تقابل خطوط الطول والعرض مع بعضها. وبعد ذلك يقف امتداد خطوط الإشعاع على استقامتها، ولكنها تسير في شكل أقواس حتى تصل إلى سطح الأسطوانة كما في الشكل (2) . وتكون المسافات بين هذه الأقواس وبعضها متساوية تمام للمسافات بين خطوط العرض المقاسة على سطح الكرة الأرضية. وفي هذه الحالة نجد أن خطوط الطول تظل كما هي في الحالة السابقة متوازية مع بعضها وعمودية على خط الاستواء الأرضي وتفصل بينها نفس المسافات السابقة كذلك.
ولكن بالنسبة إلى خطوط العرض فإن المسافات التي تفصل بينها تكون هي نفس المسافات التي كانت تفصل بينها على سطح الكرة الأرضية، ومعنى ذلك أن يكون ارتفاع الأسطوانة مساويا في الطول لنصف محيط الكرة الأرضية تماما، وأن جميع سطح الكرة الأرضية يمكن تصويره على سطح هذه الأسطوانة حتى نقطتي القطبي. وعلى ذلك فإنه من الممكن بيان سطح الكرة الأرضية جميعه على خريطة واحدة، أو عدة خرائط منفصلة. أما في حالة الإسقاط الإشعاعي فإنه يتعذر ذلك، حيث إن المناطق القطبية لا يسهل بيان بعضها على أسطوانة الإسقاط، كما يستحيل بيان بعضها الآخر.
والإسقاط الأسطواني عموما يصلح للأعمال الدراسية حيث إنه يحافظ على الاتجاهات بقدر الإمكان، وبذلك يكون التشابه فيه قريبا من الحقيقة، ولو أن الخريطة الواحدة تحتفظ بمقاييس رسم(6/231)
متعددة تزداد مقاديرها كلما ازدادت مقادير خطوط العرض.(6/233)
ثانيا: الإسقاط المخروطي:
هو النوع الثاني من الإسقاطات المختارة لتمثيل سطح الكرة الأرض على الخرائط المساحية وفي هذه الحالة يستعمل المخروط بدلا من الأسطوانة، وله عدة طرق تناسب كل واحدة منها غرضا من الأغراض التي تهمنا أكثر من غيرها عند رسم هذه الخرائط.
والإسقاط المخروطي من أشهر الإسقاطات وأكثرها استعمالا، والسبب في ذلك يرجع إلى أن خطوط الطول على سطح الكرة الأرضية تتجه جميعها نحو القطب حيث تتجمع في نقطة واحدة. وذلك هو الحال في الشكل المخروطي، حيث تتجه الرسوم جميعها نحو قمة المخروط.
وفي هذه الحالة نتصور وضع مخروط كبير فوق الكرة الأرضية، بحيث ينطبق محور المخروط مع محور الأرض وعندئذ تكون قمة المخروط في وضع رأسي فوق القطب الأرضي تماما انظر الشكل (3) . ويمكن أن يمس هذا المخروط سطح الكرة الأرضية على امتداد أية دائرة من دوائر خطوط العرض الأرضية، حسب الغرض المطلوب وهي في الشكل السابق تمس الكرة عند خط عرض 30 درجة، وتكون زاوية رأس المخروط في هذه الحالة 60 درجة، وتمثل النقطة "م" رأس المخروط، كما تمثل النقطة "ق" "القطب الأرضي".
وفي هذه الحالة نستعمل طريقة الإسقاط الإشعاعي من مركز الكرة إلى نقط تقاطع خطوط الطول والعرض مع بضعها على سطح الأرض، ثم نمدها على استقامتها حتى تقابل سطح المخروط. وفي هذا الإسقاط نجد أن خطوط الطول تتجه جميعها نحو النقطة "م" بينما خطوط العرض تتخذ هذه النقطة مركزا لها، انظر الشكل رقم (4) .
كما نلاحظ أيضا أن المنطقة التي يكون عندها التماس بين الكرة الأرضية والمخروط هي أكثر المناطق احتفاظا بصحة التمثيل، أي أن الإسقاط عندها يكون متكافئا ومتشابها مع حقيقته على سطح الأرض. بينما في سائر الأجزاء الأخرى يحدث تشويها، يزداد مقداره كلما بعدنا شمالا أو جنوبا عن منطقة التماس المذكورة. وخطوط الطول بعد الإسقاط ونشر المخروط، تكون خطوطا مستقيمة تشع(6/233)
جميعها من قمة المخروط "م" بينما تكون خطوط العرض أقواسا متحدة في المركز، والفترات بينها غير متساوية. راجع الشكل رقم (4) .(6/235)
الإسقاط المخروطي المطابق:
هذا النوع من الإسقاطات المخروطية، التي تعتمد على المخروط كواسطة للنقل من الكرة الأرضية إلى الخريطة المساحية، وفي هذه الحالة نجد أن المخروط يقطع جزءا من سطح الكرة الأرضية، أي أنه توجد دائرتان للتماس بين كل من المخروط والكرة، وفي هذه الحالة نجد أن منطقة التطابق بين سطح الكرة الأرضية وبين سطح المخروط تكون أكبر اتساعا من الحالة السابقة، انظر الشكل رقم (5) .(6/235)
الإسقاط المتعدد المخروطات:
وفي هذه الحالة من الإسقاط، نتصور عددا كثيرا من المخروطات تغلف الكرة الأرضية وكل مخروط منها يمس هذه الكرة على دائرة من دوائر خطوط العرض، وتكون الإسقاطات على كل مخروط من هذه المخروطات في منطقة التماس الخاصة به.(6/235)
ثالثا: الإسقاط القطبي:
في هذه الحالة يكون الإسقاط من سطح الكرة الأرضية إلى خريطة الإسقاط مباشرة، كما أنه من الممكن اعتبار هذا النوع حالة خاصة من حالات الإسقاط المخروطي السابق بيانه، عندما يمس سطح المخروط نقطة القطب، وتكون زاوية رأس المخروط في هذه الحالة (180) درجة أي أن سطح المخروط يصبح مستويا.(6/235)
وعند استعمال الإسقاط القطبي، لا تتسع الخريطة المساحية لأكثر من نصف الكرة الأرضية إما نصفها الشمالي أو نصفها الجنوبي. وعند الإسقاط القطبي لنصف الكرة الشمالي تكون نقطة الإسقاط هي نقطة القطب الجنوبي، ويكون مستوى الإسقاط عند القطب الشمالي عموديا على محور الأرض، انظر الشكل رقم (6) .
وفي هذا الإسقاط تظهر خطوط الطول خطوطا مستقيمة تشع جميعها من نقطة القطب، بينما تكون خطوط العرض دوائر كاملة متوازية متحدة المركز، ومركزها عند القطب الأرضي.
ذكرنا فيما سبق نماذج من الإسقاطات المشهورة على سبيل التمثيل والبيان للشرح العام، حتى نستطيع أن نكون فكرة عن موضوع الإسقاطات ونقل الحدود من سطح الكرة الأرضية إلى الخرائط الجغرافية والمساحية. وفي الباب القادم نتحدث عن النوع الجديد من الإسقاط المقصود في هذا البحث، ألا وهو الإسقاط المكي للعالم.(6/237)
الباب الثاني
الإسقاط المكي للعالم
علمنا من المقدمة ما هو المقصود بلفظ الإسقاط في الخرائط المساحية، كما علمنا كذلك من الباب الأول كيفية تطبيق بعض الإسقاطات المستعملة حاليا في أغراض تمثيل سطح الكرة الأرضية، على خرائط مستوية. وفي هذا الباب الثاني سوف نتحدث ببعض التفصيل عن الإسقاط المكي شرحا عاما نتجنب فيه المعادلات الرياضية، ونكتفي بالبيان الكلامي.
لقد ذكرنا في مقدمة هذا البحث أن الإسقاط المكي للعالم هو نوع جديد من جميع الوجوه، والذي دفعنا إلى ذلك العمل، هو البحث عن خرائط مرسومة بطريقة خاصة تساعد على معرفة اتجاه القبلة للصلاة من أي مكان على سطح الكرة الأرضية. ومن هذه الخرائط يتبين مقدار الانحراف الدائري، بين أي مكان وبين مدينة مكة المكرمة. ثم بعد ذلك بالاستعانة بالإبرة المغناطيسية، ومقدار زاوية الانحراف المعلومة، نعرف في أي اتجاه نصلي. وعلى ذلك كان الهدف المقصود من رسم هذه الخرائط الجديدة، للممالك والدول والقارات، هو المحافظة على الاتجاه الصحيح بين أي بلد على سطح الأرض وبين مكة المكرمة. ومعنى ذلك أن إسقاط هذه الخرائط من سطح الكرة الأرضية إلى مستوى الخريطة، يجب أن يحافظ أولا قبل كل شيء على الاتجاهات الصحيحة التي تربط بين مكة المكرمة وبين أي محل على سطح الأرض. ولقد جعلنا هذه الخرائط تحافظ كذلك على المسافات الصحيحة بين مكة المكرمة وبين جميع البلدان.(6/240)
n = القطب الأرضي الشمالي
s = القطب الأرضي الجنوبي
m = مدينة مكة المكرمة(6/241)
بما أن الأرض كرة منتظمة، إذا من الممكن الربط بين أي مكانين على سطحها بعدد كثير من الأقواس. ولكن الاتجاه الصحيح الوحيد بين هذين المكانين هو أقصر هذه الأقواس طولا. أي أن الاتجاه الصحيح للصلاة في أي مدينة على سطح الأرض هو أقصر قوس يربط بينها وبين مكة المكرمة وهذا القوس يكون عادة جزءا من الدائرة العظمى التي تمر بكل من هذه المدينة ومدينة مكة المكرمة، والدائرة العظمى هي الدائرة التي يمر مستواها بمركز الكرة الأرضية.
ولعمل هذا الإسقاط المكي، تصورنا وجود سطح مستو يمس الكرة الأرضية عند مدينة مكة المكرمة، وحددنا على هذا المستوى موقع مكة المكرمة واعتبرناه نقطة الأصل كما حددنا كذلك اتجاه الشمال- أي خط الزوال المار بمكة المكرمة - ثم حسبنا الانحرافات الدائرية بين مكة المكرمة من جهة وبين جميع تقاطعات خطوط الطول والعرض الأرضية من جهة أخرى. وكذلك حسبنا المسافات بين مكة المكرمة وبين جميع هذه الأماكن السابقة.
ومن هذه المعلومات المحسوبة أمكن رسم تقاطعات خطوط الطول والعرض الأرضية على خريطة الإسقاط، محتفظين بالاتجاهات الصحيحة لجميع النقط، وملتزمين بمقياس رسم واحد لجميع المسافات. ومن توصيل نقط التقاطع المذكورة أمكن الحصول على خطوط الطول والعرض الأرضية في إسقاط خاص جديد منسوب إلى مدينة مكة المكرمة، انظر الشكل رقم (7) .
ومن الواضح أنه يمكن بيان حدود القارات الأرضية والممالك والدول، بعد رسم خطوط الطول والعرض، حيث إنها ترتبط بها ارتباطا ثابتا على سطح الكرة الأرضية. وعندما تم توقيع حدود القارات الأرضية السبعة على خريطة الإسقاط، وجدنا أن الحدود الخارجية لهذه القارات يجمعها محيط دائرة واحدة مركزها عند مدينة مكة المكرمة. أي مكة المكرمة تعتبر مركزا وسطا للأرض اليابسة على سطح الكرة الأرضية، انظر الشكل رقم (8) . وكذلك إذا أخذنا في الاعتبار القارات الثلاث أوربا وآسيا وإفريقيا، التي تمثل العالم القديم عند ظهور الرسالة الإسلامية، نجدها كذلك تكاد تحيط بمدينة مكة المكرمة، انظر الدائرة الصغيرة في الشكل السابق.
وهذه الخريطة للعالم تحتفظ بخاصتين من خصائص الإسقاط هما المسافات والاتجاهات الصحيحة بالنسبة إلى مكة المكرمة. كما يظهر على الدائرة الخارجية للرسم الانحرافات الدائرية لجميع الأماكن الأرضية منسوبة إلى مكة المكرمة، أما المسافات فيمكن قياسها مباشرة على هذه الخريطة.(6/242)
ومما يجدر ذكره هنا أن هذا الإسقاط الذي يعطي مكة المكرمة مركزا خاصا بين جميع أماكن العالم، من الواجب أن يخلد ذكره بعمل أطلس جديد مفصلا لجميع الممالك والدول والقارات على سطح الأرض، منسوبة إلى مدينة مكة المكرمة. وهذا العمل الجليل نرجو أن يظهر قريبا إلى عالم الوجود، وأن تعاون المملكة العربية السعودية على عمله وإنتاجه، حيث إنها أولى الدول الإسلامية بنسبة هذا الأطلس الجديد إليها، وأقترح أن يسمى " بالأطلس المكي للعالم ".
وسوف يحتوي هذا الأطلس على نظام جديد عند رسم خرائطه، نعلم منه اتجاهات القبلة للصلاة في جميع بقاع الأرض، بسهولة تامة، ومن غير أي مشقة. ونسأل الله تعالى دوام التوفيق، وإعلاء شأن الإسلام والمسلمين في كل زمان ومكان، والتوجيه الدائم إلى عمل الخير، والحمد لله رب العالمين.(6/244)
من ملفات الإفتاء(6/245)
حكم الاستعانة بغير الله
فتوى رقم 2787 وتاريخ 26 \ 1 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي: س: " رجل يعيش في جماعة تستغيث بغير الله هل يجوز له الصلاة خلفهم؟ وهل يجب الهجرة عنهم؟ وهل شركهم شرك غليظ؟ وهل موالاتهم كموالاة الكفار الحقيقيين؟
وأجابت بما يلي:
إذا كانت حال من تعيش بينهم كما ذكرت من استغاثتهم بغير الله كالاستغاثة بالأموات والغائبين عنهم من الأحياء أو بالأشجار أو الأحجار أو الكواكب ونحو ذلك فهم مشركون شركا أكبر يخرج(6/246)
من ملة الإسلام لا تجوز موالاتهم كما لا تجوز موالاة الكفار ولا تصح الصلاة خلفهم ولا تجوز عشرتهم ولا الإقامة بين أظهرهم إلا لمن يدعوهم إلى الحق على بينة ويرجو أن يستجيبوا له وأن تصلح حالهم دينيا على يديه وإلا وجب عليه هجرهم والانضمام إلى جماعة أخرى يتعاون معها على القيام بأصول الإسلام وفروعه وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجد اعتزل الفرق كلها ولو أصابته شدة لما ثبت عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال.
«كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أساله عن الشر خشية أن أقع فيه
فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير؛ فهل بعد هذا الخير من شر؟
قال: نعم.
فقلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟
قال: نعم وفيه دخن.
قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر.
قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.
فقلت: يا رسول الله صفهم لنا.
قال: نعم، هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.
قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.
فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟
قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (1) » ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3606) ، صحيح مسلم الإمارة (1847) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4244) ، سنن ابن ماجه الفتن (3979) ، مسند أحمد بن حنبل (5/387) .(6/247)
في العبادات
فتوى رقم 2797 وتاريخ 26 \ 1 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
" لي عم شقيق والدي وقد بلغ من الكبر عتيا وأصبح لا يعرف الناس ولا الجهات الأربع الأصلية، ولا يعرف من أموره شيئا وكأنه طفل مولود في حركاته وتصرفاته، وحيث إنه لا يقدر على الصيام ولا الصلاة فأرجو الإفادة؛ هل يلزم دفع شيء مقابل صيامه الذي لا يستطيعه مثل إطعام مسكين أو صدقة. . . إلخ؟ لأنني حريص جدا على براءة ذمتي وعمل الخير له ".
وأجابت بما يلي:
إذا كان الواقع كما ذكرت من أن عمك أصبح لا يعرف الناس، وأنه لا يعرف الجهات الأربع الأصلية. . . إلخ، وأنك حريص على القيام بما يجب عليه فليس عليه صلاة ولا صيام ولا إطعام. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم".
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(6/248)
في الصلاة
فتوى رقم 2801 وتاريخ 28 \ 1 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
والسؤال: الإمام بعد صلاة الجمعة أفادنا وقال: إذا أتم المؤذن الإقامة فلا أحد منكم(6/248)
يدعو بأي شيء من الدعاء لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد في الكتاب ولا في السنة. إذا ذكر المؤذن الله في الإقامة فاذكروا الله واسكتوا حتى يكبر الإمام- واليوم الجماعة مشغولون من كلام الإمام. نرجو منكم الإفادة سريعا حتى نطمئن.
والجواب: السنة أن المستمع للإقامة يقول كما يقول المقيم؛ لأنها أذان ثان فتجاب كما يجاب الأذان، ويقول المستمع عند قول المقيم حي على الصلاة حي على الفلاح: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول عند قوله: قد قامت الصلاة مثل قوله، ولا يقول: أقامها الله وأدامها؛ لأن الحديث في ذلك ضعيف، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول (1) » وهذا نحو الأذان والإقامة؛ لأن كلا منهما يسمى أذانا، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد قول المقيم: لا إله إلا الله، ويقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة. . . إلخ كما يقول بعد الأذان، ولا نعلم دليلا يصح يدل على ذكر شيء من الأدعية بين انتهاء الإقامة وقبل تكبيرة الإحرام سوى ما ذكر. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (384) ، سنن الترمذي المناقب (3614) ، سنن النسائي الأذان (678) ، سنن أبو داود الصلاة (523) ، مسند أحمد بن حنبل (2/168) .(6/249)
في الصيام
فتوى رقم 2827 وتاريخ 18 \ 2 \ 1400 هـ
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
(لقد شاهدت بعضا من شباب المسلمين يصومون ولكن لا يصلون هنا، هل يقبل صيام من صام ولم يصل؟ ولقد سمعت بعض الواعظين بالدين يقول لهؤلاء الشباب: أفطروا ولا تصوموا فمن لم يصل لا صوم له. أفتوني هل هؤلاء يصومون أو يفطرون سواء؟ وهل لنا الحق أن نقول لهم: (أفطروا إذا لم تصلوا) ؟(6/249)
والجواب: من وجبت عليه الصلاة فتركها عمدا جاحدا لوجوبها كفر بإجماع العلماء، ومن تركها تهاونا وكسلا كفر على القول الصحيح من أقوال أهل العلم. (ومتى حكم بكفره حبط صومه وغيره من العبادات لقول الله سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) ولكن لا يؤمر بترك الصيام لأن صيامه لا يزيده إلا خيرا وقربا من الدين ولخوف قلبه يرجى من ورائه أن يعود إلى فعل الصلاة والتوبة من تركها. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) سورة الأنعام الآية 88(6/250)
النذر
فتوى رقم 2829 وتاريخ 18 \ 2 \ 1400 هـ
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
السؤال الأول: إذا نذر الرجل وأوفى نذره هل يأكل منه أو لا. . .؟
الجواب: الأصل أن المنذور به إذا كان من الأمور المشروعة فإنه يصرف في الجهة التي عينها الناذر، وإذا لم يعين جهة فهو صدقة من الصدقات يصرف في الجهات التي تصرف فيها الصدقات؛ كالفقراء والمساكين، وأما أكله منه فإذا كانت العادة جارية في بلد الناذر أن الشخص إذا نذر شيئا مما يؤكل أكل منه جاز له أن يأكل منه بناء على العرف والعادة في ذلك، وهكذا إذا نوى الأكل منه، ويكون العرف مخصصا للجزء الذي يأكله، فلا يكون داخلا في المنذر به، وقد صدر من اللجنة فتوى في ذلك هذا نصها: " مصرف نذر الطاعة على ما نواه به صاحبه في حدود الشريعة المطهرة، فإن نوى باللحم الذي نذره الفقراء فلا يجوز له أن يأكل منه، وإن نوى بنذره أهل بيته أو الرفقة التي هو أحدهم جاز له أن يأكل كواحد منهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى وهكذا لو شرط ذلك في نذره أو كان ذلك هو عرف بلاده ".(6/250)
السؤال الثاني: هل يحق لشارب الدخان أن يؤم المصلين في الصلاة وهو أحسن منهم في القراءة؟
الجواب: نعم يجوز إذا لم يوجد من يحسن القراءة وأحكام الصلاة من غير الفساق. لكن إذا كان الإمام الذي في السؤال إماما راتبا بمسجد من المساجد فينبغي السعي في تعيين بدله إذا أصر على شرب الدخان، وقد صدر من اللجنة فتوى في ذلك هذا نصها: (من كان إماما للجمعة والجماعة وهو يشرب الدخان ويحلق لحيته، أو متلبس بشيء من المعاصي فيجب نصحه والإنكار عليه، فإذا لم ينتصح وجب عزله إن تيسر ذلك ولم تحدث فتنة، وإلا وجب الصلاة خلف غيره من أهل الصلاح على من تيسر له ذلك؛ زجرا له وإنكارا عليه إن لم يترتب على ذلك فتنة، وإن لم تتيسر الصلاة خلف غيره شرعت الصلاة خلفه تحقيقا لمصلحة الجماعة وإن خيف من الصلاة وراء غيره حدوث فتنة صلى وراءه لدرء الفتنة وارتكابا لأخف الضررين، كما صلى ابن عمر وغيره من السلف الصالح خلف الحجاج بن يوسف وهو من أظلم الناس حرصا على جمع الكلمة، واحذروا الفتنة والاختلاف. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.(6/251)
المذاهب
المهدي المنتظر
فتوى رقم 2815 وتاريخ 10 \ 2 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
السؤال الأول: أن بعض الناس يرى أنه يجب على المسلم لكي تقع عباداته ومعاملاته في وجه صحيح أن يقلد أحد المذاهب الأربعة المعروفة، وليس من بينها مذهب الشيعة الإمامية ولا الشيعة الزيدية؛ فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه، فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية.
مثلا:(6/251)
والجواب: على المسلم أن يتبع ما جاء عن الله ورسوله إذا كان يستطيع أخذ الأحكام بنفسه، وإذا كان لا يستطيع ذلك سأل أهل العلم فيما أشكل عليه من أمر دينه، ويتحرى أعلم من يتحصل عليه من أهل العلم ليسأله مشافهة أو كتابة.
ولا يجوز للمسلم أن يقلد مذهب الشيعة الإمامية، ولا الشيعة الزيدية ولا أشباههم من أهل البدع، كالخوارج والمعتزلة والجهمية وغيرهم، وأما انتسابه إلى بعض المذاهب الأربعة المشهورة فلا حرج فيه إذا لم يتعصب للمذهب الذي انتسب إليه ولم يخالف الدليل من أجله.
السؤال الثاني: ما رأي سماحتكم في الشخص الموعود بظهوره وهو المهدي - هل هناك أحاديث تثبت ذلك أرجو التوضيح حول ذلك.
الجواب: الأحاديث التي دلت على خروج المهدي كثيرة وردت من طرق متعددة، ورواها عدد من أئمة الحديث، وذكر جماعة من أهل العلم أنها متواترة تواترا معنويا منهم أبو الحسن الآبري من علماء المائة الرابعة والعلامة السفاريني في كتابه لوامع الأنوار البهية والعلامة الشوكاني في رسالة سماها التوضيح في تواتر حديث المهدي والدجال والمسيح، وله علامات مشهورة مذكورة في الأحاديث، وأهمها أنه «يملأ الأرض عدلا وقسطا بعد ما ملئت جورا وظلما (1) » ولا يجوز لأحد أن يجزم بأن فلان بن فلان هو المهدي حتى تتوافر العلامات التي بينها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث الصحيحة وأهمها ما ذكرنا وهو كونه يملأ الأرض عدلا وقسطا الحديث وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) سنن أبو داود المهدي (4285) .(6/252)
في الحج
فتوى رقم 2814 وتاريخ 10 \ 2 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
ذهبت هذا العام لقضاء فريضة الحج بنية قارن حج وعمرة، وبعد قضاء جميع المناسك الحج والعمرة حتى جاء يوم الهدي فوجئت بضياع المبلغ هناك، ولم أعرف هل هو طاح أم حد سرقه، والمبلغ هو 450 ريال سعوديا؛ فلذلك لم أتمكن من الذبح ورجعت إلى نية الصوم، وبينما نويت(6/252)
الصوم اعتراني مرض الأنفلونزا فذهبت إلى المستشفى بمكة، ثم صرفت العلاج اللازم ولن أستطيع الصوم، ورجعت إلى مدينة الرياض مستقلا سيارة جمس المدفوع أجرها مقدما قبل الذهاب حسب الاتفاق والشروط، وعند وصولي زاد مرضي وإعيائي فذهبت إلى مستوصف الشرق وتم الكشف علي وتم صرف العلاج اللازم، ولم أستطع الصوم فهل بعد إتمام شفائي من المرض ينفع الصوم وماذا أفعل علما بأنني كانت نيتي الهدي ولكن هذا قضاء الله وقدره وأرجو من سيادتكم أن تفتوني في أمري جعلكم الله نصرا لدين الإسلام.
وأجابت بما يلي:
إذا كان الواقع كما ذكرت من أنك أحرمت بحج وعمرة قارنا وأديتهما، وأن نقودك ضاعت ولم تجد ما تشتري به الهدي فعليك صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت إلى بلدك أو محل إقامتك، وحيث ذكرت أنك استمر بك المرض حتى رجعت إلى الرياض ولم تسطع الصوم فعليك صيام عشرة أيام في محل إقامتك بالرياض أو غيره عند قدرتك على ذلك ولا شيء عليك سوى هذا، وصلى الله علي نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(6/253)
ومنع الحيض وقت الحج
فتوى رقم 2830 وتاريخ 18 \ 2 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الأسئلة التالية: السؤال الأول: حج جندي من الجنود الذين في منى وأحرم يوم ثمانية وطاف وسعى ذلك اليوم، ويوم تسعة صعد الساعة الثانية عشرة إلى عرفات ونزل منها قبل الساعة الرابعة من ذلك اليوم إلى خيام أخوياه في وادي محسر وجلس معهم حتى اليوم العاشر ورمى وحلق، هل حجه صحيح أم ناقص، أفيدونا جزاكم الله خيرا.(6/253)
والجواب: إحرامه يوم ثمانية صحيح، والطواف والسعي اللذان حصلا منه ليسا مشروعين في حقه ولا يجزئان عن طواف الحج وسعيه؛ لأنه أحرم من داخل الحرم وصعوده إلى عرفة يوم تسعة الساعة الثانية عشرة ليس عليه فيه شيء ونزوله من عرفة قبل الساعة الرابعة من ذلك اليوم غير جائز، فالواجب عليه البقاء في عرفة إلى غروب الشمس وبنزوله قبل الغروب ترك واجبا يجب عليه فيه دم وهو ما يجزئ أضحية من الضأن أو المعز أو سبع بدنة أو سبع بقرة يذبح في الحرم ويوزع اللحم على فقراء الحرم، وبما أنه نزل من عرفة قبل الساعة الرابعة من يوم عرفة إلى خيام أخوياه في وادي محسر وجلس معهم فهذا يدل على أنه ترك المبيت بمزدلفة وإذا كان الأمر كذلك فقد ترك واجبا من واجبات الحج وعليه ذبح ما يجزئ أضحية من الضأن أو المعز أو سبع بدنة أو سبع بقرة يذبح في الحرم ويوزع على فقراء الحرم، ورميه يوم العيد صحيح وكذلك حلقه، ولم يتعرض في الجواب إلى ما بقي من أعمال الحج لأن السائل لم يتعرض للسؤال عنها.
السؤال الثاني: فيه حبوب تمنع العادة عن النساء أو تأخرها عن وقتها هل يجوز استعمالها وقت الحج فقط خوفا من العادة.
والجواب: يجوز للمرأة أن تستعمل حبوب منع الحيض وقت الحج خوفا من العادة، ويكون ذلك بعد استشارة طبيب مختص محافظ على سلامة المرأة، وهكذا في رمضان إذا أحبت الصوم مع الناس.
السؤال الثالث: هل الحائض والنفساء يلزمهم طواف الوداع والعاجز والمريض، مع العلم أنني سألت عندما حدث هذا في منى، ولكن العلماء ما تطابقوا منهم من قال ما يلزمهن طواف الوداع، ومنهم من قال لازم يأتين بطواف الوداع.
والجواب: ليس على الحائض ولا على النفساء طواف وداع، وأما العاجز فيطاف به محمولا، وهكذا المريض لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- «لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » ولما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف، عن المرأة الحائض وجاء في حديث آخر ما يدل على أن النفساء مثل الحائض ليس عليها واجب (2) » .
السؤال الرابع: هل المر الذي يوجد في دكاكين بعض العطارين يؤخذ لعلاج بعض الأمراض حلال أم
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .
(2) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .(6/254)
حرام مع العلم أن بعض الناس يقول البيت الذي يوجد فيه المر لا تدخله الملائكة.
والجواب: المر الذي في دكاكين بعض العطارين حلال، لأن الأصل حله ولا نعلم دليلا يحرمه، وهذا القول الذي حكيته عن بعض الناس أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه لا نعلم له أصلا بل هو باطل.
السؤال الخامس: عندنا عادات أن المرأة تسلم على رأس الرجل وهي كالآتي:
إذا جاء الرجل يسلم على النساء يبدأن السلام على رأس الرجل على شرط أن يكون فوق رأسه غترة أو طاقية بدون تقبيل أو خضوع منهن، أخبرني يا فضيلة الشيخ ما حكم هذا النوع من السلام مع العلم أن السلام خالي من التقبيل أي القبلة على الخد.
والجواب: يجوز ذلك من المرأة لمحرمها من أب وأخ ونحو ذلك كما تجوز مصافحته. أما الأجنبي فلا يجوز للمرأة أن تصافحه ولا أن تقبل رأسه سواء كان عليه غترة أو لا حذرا من الفتنة.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(6/255)
في الدعاء
فتوى رقم 2819 وتاريخ 10 \ 2 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤالان التاليان:
ونصه: أن خطيب الجامع عندنا دائما يختتم الخطبة الأخيرة بقوله أستغفر الله لي ولكم وكافة المسلمين، وأحيانا يقول أسأل الله لي ولكم الفردوس الأعلى وهذا نعم الدعاء لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «وحولها ندندن (1) » ولكن بعض المأمومين يقولون هذا يوم عظيم ونحن في موطن إجابة ونريد دعاء طويلا يناسب الحال، كدعاء الاستسقاء في وقته، والدعاء للمسلمين بالنصر، ولولاة الأمور باتباع الحق، والدعاء على الأعداء بتشتيت شملهم وتمزيق صفوفهم، إلى آخر ما يناسب من الأدعية، ولكن الخطيب يقول إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يلتزم الدعاء في هذا أيا كان وكذلك الخلفاء والصحابة
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (792) ، مسند أحمد بن حنبل (3/474) .(6/255)
ومن بعدهم وأنا أسير على نهجهم، مما جعل بعض المأمومين يهجرون هذا الجامع ويذهبون إلى جامع بعيد عن مساكنهم بحجة أن إمامه يختتم خطبته بأدعية كثيرة وهم يؤمنون عليها وليس لهم حجة في ترك الجامع القريب من بيوتهم إلا أن الإمام لا يلتزم الدعاء، فما هو حكم الدين وما الذي تنصحون به، وأيهما الذي على حق) .
والجواب: دعاء الإمام في الخطبة للمسلمين مشروع وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك، ولكن ينبغي للإمام أن لا يلزم دعاء معينا بل ينوع الدعاء بحسب الأحوال، أما كثرته وقلته فعلى حسب دعاء الحاجة إلى ذلك، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكرر الدعاء ثلاثا في بعض الأحيان وربما كرره مرتين، فالسنة في الخطيب أن يتحرى ما كان يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبته ودعواته، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.(6/256)
حقوق الجوار للكفار
فتوى رقم 2821 وتاريخ 10 \ 2 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العملية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
ونصه (هل للجار الكافر نصيب من الأضحية أو لا. .؟)
وأجابت بما يلي:
يجوز للمسلم أن يواسي جاره الكافر من لحم الأضحية ويوسع عليه تأليفا لقلبه، وأداء لحق الجوار، ولعدم وجود ما يمنع من ذلك من الأدلة، ولعموم قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) ، وقد صدر في ذلك فتوى من اللجنة الدائمة هذا نصها: (نعم يجوز لنا أن نطعم الكافر
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 8(6/256)
المعاهد والأسير من لحم الأضحية، ويجوز إعطاؤه منها لفقره أو قرابته أو جواره أو تأليف قلبه؛ لأن النسك إنما هو في ذبحها أو نحرها قربانا لله وعبادة له، وأما لحمها فالأفضل أن يأكل ثلثه، ويهدي إلى أقاربه وجيرانه وأصدقائه ثلثه، ويتصدق بثلثه على الفقراء، وإن زاد أو نقص في هذه الأقسام أو اكتفى ببعضها فلا حرج والأمر في ذلك واسع، ولا يعطى من لحم الأضحية حربيا؛ لأن الواجب كبته وإضعافه لا مواساته وتقويته بالصدقة، وكذلك الحكم في صدقات التطوع لعموم قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) ، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- أن تصل أمها بالمال وهي مشركة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 8(6/257)
حقيقة التوكل
فتوى رقم 2798 وتاريخ 26 \ 1 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
ونصه هل من التوكل على الله أن تقذف بنفسك في حوض السباحة وأنت لا تعرف العوم، أو تخاطر بنفسك في حركة رياضية لم تدرب عليها، أو تدع كلتك في زمن البعوض وترقد خارج الغرفة، أو تترك استعمال قاتل الحشرات وأنت داخل الحجرة تعرض نفسك للحمى أو تترك قمطرك (درجك) مفتوحا دون إغلاق فتضيع محتوياته - ما حقيقة التوكل على الله نرجو الإفادة عنها مع جزيل الشكر.
وأجابت بما يلي:
التوكل على الله تفويض الأمر إليه تعالى وحده، وهو واجب بل أصل من أصول الإيمان لقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) وهو من الأسباب المعنوية القوية لتحقيق المطلوب وقضاء المصالح، لكن على المؤمن أن يضم إليه ما تيسر له من الأسباب الأخرى سواء كانت من العبادات كالدعاء
__________
(1) سورة المائدة الآية 23(6/257)
والصلاة والصدقة وصلة الأرحام، أم كانت من الماديات التي جرت سنة الله بترتيب مسبباتها عليها، كالأمثلة التي ذكر السائل في استفتائه ونحوها، اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه خير المتوكلين وكان يأخذ بالأسباب الأخرى المناسبة مع كمال توكله على الله تعالى، فمن ترك الأسباب الأخرى مع تيسرها واكتفى بالتوكل فهو مخالف لهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويسمى توكله عجزا لا توكلا شرعيا، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم،،(6/258)
في التصوير
فتوى رقم 2809 وتاريخ 10 \ 2 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
ونصه (إني أعمل في إحدى الدوائر الحكومية في وظيفة مصور، وأقوم بالتصوير في المناسبات وذلك عن طريق آلة الكمرة، وعلمت أن التصوير حرام وهو تصوير الإنسان، أرجو إفتائي في هذا لأبتعد عما يغضب الله تعالى، حفظكم الله ووفقكم لما فيه الخير) .
وأجابت بما يلي:
تصوير كل ما فيه روح من إنسان أو حيوان حرام، سواء كان التصوير بالرسم أو النسيج أو الصبغ أو الكمرة أم غير ذلك، وسواء كان مجسما أم غير مجسم؛ لعموم الأحاديث الثابتة الدالة على تحريمه. وقد صدر في ذلك فتوى من اللجنة الدائمة مفصلة بالأدلة فنرسل لك صورتها زيادة في الفائدة، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. .،
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(6/258)
التصوير الفوتغرافي
فتوى رقم 2799 وتاريخ 26 \ 1 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
هل التصوير الفوتوغرافي يدخل في حكم التصوير باليد والتصوير المحسوس أم لا. . .؟ .
وأجابت بما يلي:
القول الصحيح الذي دلت عليه الأدلة الشرعية وعليه جماهير العلماء أن أدلة تحريم تصوير ذوات الأرواح تضم التصوير الفوتوغرافي واليدوي مجسما أو غير مجسم، لعموم الأدلة وسبق أن أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في هذه الرئاسة فتوى في الموضوع نرسل لك صورتها لمزيد الفائدة، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(6/259)
في بناء المساجد
فتوى رقم 2789 وتاريخ 26 \ 1 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
ونصه (نعرض لسماحتكم أننا نقوم حاليا ببناء مسجد على طريق خريص بالنسيم بموجب الفسح المرفق، وأقمنا الدور الأرضي وفوقه الدور الأول، إلا أنه تبين لنا ضرورة زيادته بدور آخر ليكون دورا أرضيا وأولا وثانيا؛ وذلك لازدحام المنطقة بالسكان وقلة المساجد فيها فتقدمنا لأمانة مدينة الرياض(6/259)
بطلب فسح الدور الثاني فلم يوافقوا بحجة أنه لا يجوز شرعا فنأمل، إفادتنا هل يصح شرعا إقامة المسجد من أكثر من دورين) .
وأجابت بما يلي:
يجوز أن يقام المسجد من دورين أو أكثر إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ويلاحظ أثناء الصلاة فيه تأخر المأمومين عن الإمام مع القرب منه حسب الإمكان للأدلة الدالة على أفضلية الصف الأول فالأول والدنو من الإمام. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(6/260)
الذبائح
فتوى رقم 2807 وتاريخ 5 \ 2 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
نصه (ما حكم أكل الثور إذا قتل بقطع النخاع وانتشار المخ قبل قتله بسكين، هل يحل أو هو في حكم الميتة.؟ .
وأجابت بما يلي:
هذا السؤال فيه إجمال، فإن كان الثور ونحوه قد دق عنقه ورأسه حتى انقطع نخاعه وانتشر المخ ومات قبل أن يذكى فإنه والحال ما ذكر في حكم الميتة لكونه لم يذبح الذبح الشرعي، أما إن ذكى التذكية الشرعية بعد أن عمل به ما ذكر قبل أن يموت فإنه بذلك يكون حلالا لقول الله -عز وجل- بعد ذكر المنخنقة والموقوذة وما بعدهما. . . {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} (1) مع العلم بأنه لا يجوز للمسلم أن
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(6/260)
يضرب الحيوان قبل الذبح بضرب الرأس أو العنق أو غيرهما بقصد سقوط الحيوان والقدرة على ذبحه ويمكن أن يستعان على ذبحه بغير هذا العمل المنكر بتقييده بالحبال ونحوها حتى يتمكن الذابح من ذبحه، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.(6/261)
في الزواج
فتوى رقم 2791 وتاريخ 26 \ 1 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
أنا الموقع أدناه منصور شمروخ كان تحتي بنت عمي ثم ذهبت وراحت إلى أهلها وزعلت وقلت لواحد من جماعتها تصرف ولم يتصرف وأنا نيتي إذهابها وطلبت منها أن ترجع فطلب والدها ورقة مني على أنها زوجتي فجئت لأتحصل على ورقة من فضيلتكم.
وأجابت بما يلي:
إذا كان الواقع كما ذكرت فلا يقع عليها بما ذكرته طلاق وتعتبر في عصمتك، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.(6/261)
في الزواج
فتوى رقم 2796 وتاريخ 26 \ 1 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:(6/261)
شخص لديه زوجة وتزوج زوجة أخرى، وطلبت الأولى أن يعطيها من الحلي مثلما يعطي الثانية فهل يلزمه أن يعطيها أم لا. . .؟ .
وأجابت بما يلي:
لا يلزم من تزوج بامرأة أن يعطي زوجته الأولى مثلما يعطي الثانية من مهر أو حلي تابع للمهر عرفا، وإن أعطاها ذلك تطييبا وجبرا لخاطرها فحسن، ولا سيما إذا كانت مصلحته في إرضائها ومعاشرتها له مستقبلا بالحسنى. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(6/262)
في الزواج
فتوى رقم 2800 وتاريخ 28 \ 1 \ 1400 هـ
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
يوجد شخص سبق وأن تزوج امرأة وعندها ولد من رجل قبل الذي تزوجها أخيرا، وولد المرأة عنده زوجته توفي الولد وله بنت وعند الشخص الأول ولد وبنتان والشخص الأول الذي هو زوج أم الولد طلق أم الولد ويريد أن يتزوج زوجة الولد فهل ذلك يحل شرعا.
وأجابت بما يلي: إذا كان الواقع كما ذكر فإنه يجوز أن يتزوج الرجل زوجة ابن امرأته من غيره بعد موته عنها أو طلاقه إياها ولو كانت أم ذلك الابن لا تزال في عصمته. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه. . . .،،
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(6/262)
الرضاعة
فتوى رقم 2820 وتاريخ 10 \ 2 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
(امرأة لها بنات مزوجات أنجبت إحداهن ولدا ورضع من جدته لأمه وللولد الرضيع من جدته أخوان فما تأثير الرضاع على إخوانه وهل من الجائز أن يتزوج أحد إخوان الرضيع بإحدى بنات خالاته اللاتي لم يرضعن ولم يسترضعن، رجائي إفتائي في ذلك، وأسأل الله جلت قدرته أن يعز الإسلام والله يحفظكم) .
إذا كان الواقع كما ذكرت في السؤال من أن أحد الأولاد رضع من جدته لأمه وإخوانه لم يرضعوا منها جاز لإخوانه أن يتزوجوا بنات خالاتهم ولا تأثير لرضاعه من جدته على تزوج أي واحد من إخوانه أي بنت من بنات خالاته. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(6/263)
الرضاع
فتوى رقم 2823 وتاريخ 10 \ 2 \ 1400
وردت إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الأسئلة التالية:
س1 إنني رضعت من جدتي أم والدتي فهل يجوز لي الزواج من ابنة خالي أخي والدتي من الأم والأب.
ج: الرضاع الذي يحصل به التحريم هو ما كان خمس رضعات فأكثر في الحولين والرضعة الواحدة هي أن يمسك الطفل الثدي ويمص منه لبنا ثم يتركه فإن عاد إليه ومص منه لبنا(6/263)
اعتبرت رضعة ثانية وهكذا. . فإذا كان رضاعك من جدتك خمس رضعات أو أكثر على النحو المذكور أصبحت أخا لخالك من الرضاع لقوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (1) إلى قوله: {وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} (2) وقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (3) ولما ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «ترحم الرضاعة ما تحرم الولادة (4) » ولما ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخت بخمس معلومات فتوفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأمر على ذلك (5) » . وإن كان رضاعك من جدتك أقل من خمس رضعات على ما ذكر أو في غير الحولين جاز لك أن تتزوج ابنة خالك.
س2 هل يجوز لي أن أسلم على زوجة خالي أخي والدتي مع العلم أنني رضعت مع خالي من جدتي أم يحرم لكونها غير محرم لي.
ج: لا يجوز لك أن تمس يدك يد زوجة خالك سواء ثبت رضاعك من جدتك أو لم يثبت. لأنك أجنبي، أي لست محرما لها، أما سلام السنة الذي باللسان فيجوز قالت عائشة -رضي الله عنها- في تفسير آية مبايعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للنساء «ولا والله مست يده يد امرأة في المبايعة قط، ما يبايعهن إلا بقوله قد بايعتك على ذلك (6) » رواه البخاري، وعن أميمة بنت رقيقة -رضي الله عنها- قالت: «أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نساء لنبايعه، قلنا: يا رسول الله ألا تصافحنا؟ ، قال: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة (7) » رواه أحمد بسند صحيح.
س3 إنني أخذت عمرة في أول شهر رمضان هذا العام ومكثت مدة 15 يوما، ورجعت آخذ عمرة بثوبي فأول ما وصلت الحرم صليت ركعتين ونويتها تحية المسجد وطفت سبعة أشواط على البيت وتحولت بعدها فصليت ركعتين عند مقام أبينا إبراهيم -عليه السلام- وتحولت إلى المسعى فسعيت سبعة أشواط، وبعد ذلك قصرت من شعري.
ج: ما ذكرت في سؤالك إنك فعلت في عمرتك هو ما يجب لها ولا شيء عليك غيره إذا كنت أحرمت بها من الميقات اللازم لك، إلا أن فعلك لصلاة ركعتين عند دخولك المسجد قبل
__________
(1) سورة النساء الآية 23
(2) سورة النساء الآية 23
(3) سورة البقرة الآية 233
(4) صحيح البخاري فرض الخمس (3105) ، صحيح مسلم الرضاع (1444) ، سنن الترمذي الرضاع (1147) ، سنن النسائي النكاح (3302) ، سنن أبو داود النكاح (2055) ، سنن ابن ماجه النكاح (1937) ، مسند أحمد بن حنبل (6/178) ، موطأ مالك الرضاع (1277) ، سنن الدارمي النكاح (2248) .
(5) صحيح مسلم الرضاع (1452) ، سنن النسائي النكاح (3307) ، سنن أبو داود النكاح (2062) ، موطأ مالك الرضاع (1293) ، سنن الدارمي النكاح (2253) .
(6) صحيح البخاري تفسير القرآن (4891) ، صحيح مسلم الإمارة (1866) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2875) ، مسند أحمد بن حنبل (6/270) .
(7) سنن الترمذي السير (1597) ، سنن النسائي البيعة (4181) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2874) ، مسند أحمد بن حنبل (6/357) ، موطأ مالك الجامع (1842) .(6/264)
الطواف تحية للمسجد خلاف السنة، فالسنة لداخل الحرم ولا سيما المحرم البدء بالطواف إن تيسر ذلك. وما ذكرته من أنك أحرمت في ثوبك إن كان مرادك ثوبي الإحرام الذين هما الإزار والرداء اللذين سبق استعمالك لهما في عمرة قبل عمرتك هذه فلا شيء في ذلك، ولك استعمالهما مرارا في حجة أو عمرة، وإعطاؤهما من يستعملهما في ذلك، وإن كان مرادك أنك أحرمت بالعمرة في ملابسك العادية التي تلبسها في غير الإحرام فقد أخطأت في ذلك وارتكبت في عمرتك محظورين من محظورات الإحرام وهما لبس المخيط وتغطية الرأس وعليك إن كنت عالما بأن ذلك لا يجوز فديتان إحداهما عن اللبس والأخرى عن تغطية الرأس، وكل واحدة منهما ذبح شاة تجزئ في الأضحية، أو إطعام ستة مساكين كل مسكين نصف صاع من تمر أو غيره من قوت البلد، أو صيام ثلاثة أيام وتوزع الشاتان أو الإطعام على مساكين مكة ولا تأكل منهما ولا تهدي، وتقضي الصيام في أي مكان وزمان، وإن كنت جاهلا بذلك أو ناسيا للحكم الشرعي فلا فدية عليك، وعليك في كلا الحالتين التوبة والاستغفار وعدم العودة لمثل هذا العمل المنافي لما يتطلبه الإحرام، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(6/265)
فتوى رقم 2806 وتاريخ 5 \ 2 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
(يوجد أبي وعمي إخوان - أبي انجب أولادا وعمي أنجب بنات، وبعد مدة توفيت أمهم أم عمي وأبي، وتزوج جدي امرأة أجنبية وأنجبت مولودا على سبعة أشهر وتوفي المولود، وبعد أربعين يوما أنجبت والدتي بطفل وقامت امرأة جدي بنقلي عن والدتي، وقالت إنني أرضعتك من ثديي ثماني مرات ويطلع من الثدي، لبن وهو ليس يروي بقولها وأنا وقت رضاعها أبلغ من العمر سنة وثمانية شهور، نرجو من سماحتكم الإفادة هل يجوز لي الزواج من بنات عمي أم لا. . .؟ .
وأجابت بما يلي:
الرضاع الذي يحصل به التحريم هو ما كان خمس رضعات فأكثر في الحولين والرضعة(6/265)
الواحدة هي أن يمسك الطفل الثدي ويمتص لبنا ثم يتركه فإن عاد ومص منه لبنا اعتبرت ثانية وهكذا، وبناء على ذلك فإنه يحرم عليك أن تتزوج بأحد من بنات عمك لأنك برضاعك من زوجة جدك أصبحت عما لهن من الرضاع لقول الله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (1) إلى قوله: {وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} (2) الآية، وقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (3) وقوله عليه الصلاة والسلام: «تحرم الرضاعة ما تحرم الولادة (4) » ولما ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان فيما أنزل به القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأمر على ذلك (5) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) سورة النساء الآية 23
(2) سورة النساء الآية 23
(3) سورة البقرة الآية 233
(4) صحيح البخاري فرض الخمس (3105) ، صحيح مسلم الرضاع (1444) ، سنن الترمذي الرضاع (1147) ، سنن النسائي النكاح (3302) ، سنن أبو داود النكاح (2055) ، سنن ابن ماجه النكاح (1937) ، مسند أحمد بن حنبل (6/178) ، موطأ مالك الرضاع (1277) ، سنن الدارمي النكاح (2248) .
(5) صحيح مسلم الرضاع (1452) ، سنن النسائي النكاح (3307) ، سنن أبو داود النكاح (2062) ، موطأ مالك الرضاع (1293) ، سنن الدارمي النكاح (2253) .(6/266)
في الرضاع
فتوى رقم 2812 وتاريخ 10 \ 2 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
(أن الحاجة مسعودة بعد ما أنجبت ولدها عبد الرحمن انقطعت عن الإنجاب إذ بلغت سن اليأس ولما بلغ عبد الرحمن أربع سنوات من عمره ولد لابنها الأكبر محمد ولد سماه المسعود، ولما بلغ المسعود سنة وتسعة أشهر من عمره أعطته جدته الحاجة مسعودة ثديها وكان ابنها عبد الرحمن قد فطم ولا نعلم أكان فيها حليب أو لا. . فهل يحق للمسعود أن يتزوج ابنة عمه المختار أم لا، وما حكم الدين في ذلك؟) .
وأجابت بما يلي:
الرضاع الذي يحصل به التحريم ما كان خمس رضعات معلومات فأكثر في الحولين لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (1) ولما ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأمر على ذلك.
__________
(1) سورة البقرة الآية 233(6/266)
فإذا كان رضاع المسعود بن محمد من جدته مسعودة على الصفة المذكورة في الآية والحديث وكان معلوما بسؤال جدته مسعودة نزول لبن منها لم يجز لمسعود أن يتزوج زاهية ابنة عمه المختار لأنه والحال ما ذكر عمها وإن شك في نزول لبن منها له أو كان الرضاع أقل من خمس رضعات جاز له أن يتزوجها، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(6/267)
الرضاع
فتوى رقم 2810 وتاريخ 10 \ 2 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
(لي عمة أخت أبي أرضعت أخي الأكبر مني سنا مع ابنها رضعة واحدة، وقد تزوجت زوجا آخر ولها عليه بنت ونرغب الزواج من بعضنا على كتاب الله وسنة رسوله، فهل يجوز زواج بعضنا من بعض أو لا) .
وأجابت بما يلي:
إذا كان الواقع كما ذكرت من أن عمتك أرضعت أخاك الأكبر مع بنتها رضعة واحدة فقط جاز لأي واحد منكما أن يتزوج هذه البنت أو غيرها من بنات عمتك من زوجها الأول أو غيره لما ثبت من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان (1) » . .، ولما ثبت من قول عائشة -رضي الله عنها-: «كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأمر على ذلك (2) » .
علما بأن الطفل إذا امتص لبنا من الثدي ولو قليلا ثم تركه اعتبر هذا رضعة، فإذا عاد إليه فامتص منه لبنا ولو قليلا اعتبر هذا رضعة ثانية وهكذا.
وعلى تقدير أن أخاك رضع من عمتك خمس رضعات أو أكثر حرمت عليه فقط ابنة عمتك ولم تحرم عليك أنت.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم،،
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) صحيح مسلم الرضاع (1451) ، سنن النسائي النكاح (3308) ، سنن ابن ماجه النكاح (1940) ، مسند أحمد بن حنبل (6/339) ، سنن الدارمي النكاح (2252) .
(2) صحيح مسلم الرضاع (1452) ، سنن النسائي النكاح (3307) ، سنن أبو داود النكاح (2062) ، موطأ مالك الرضاع (1293) ، سنن الدارمي النكاح (2253) .(6/267)
في الطلاق
فتوى رقم (2794) وتاريخ 26 \ 1 \ 1400 هـ
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
(نعم أنا يا مسفر بن عبد الله أبو معيشة إنني في 12 \ 9 \ 1399 هـ رمضان سألوني هل طلقت زوجتك فقلت نعم من زعل في شدة الغيظ وفي نفس وقت الغيظ 13 \ 9 \ 1399 هـ وقد أحضرت الرجلين المذكور أسماؤهما سعد بن علي بن شاهر، وسعد بن محمد شاهر، وقد أحضرتهما في ذلك الوقت بأني مسترجع زوجتي ظافرة بنت سعد لابن مبارك القحطاني.
يعتبر قولك نعم لمن سألك عن طلاق زوجتك طلقة، فإن لم تكن آخر ثلاث طلقات فرجعتك إياها صحيحة، وإن كانت آخر ثلاث طلقات لم تحل لك إلا بعد زوج يتزوجها زواجا شرعيا لا يقصد منه تحليلها لك، ويكون زواجك إياها بعد ذلك بعقد ومهر جديدين برضاها. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم،،
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(6/268)
الطلاق
فتوى رقم 2804 وتاريخ 4 \ 2 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
أنه طلق زوجته طرفة بنت حمد بن مبارك بن عويس طلقة واحدة أمام القاضي بالمحكمة الكبرى بالرياض الشيخ سليمان بن عبد الله بن مهنا بتاريخ 14 \ 10 \ 99 وبموجب الصك رقم 512 \ 10 وراجعها بشهادة ناصر بن نشير الدوسري وعبد الله راشد المفرح بتاريخ 26 \ 11 \ 99 فهل رجعته صحيحة، واطلعت على الصك المشار إليه فوجد ما به كما ذكر المستفتي.
وأجابت بما يلي:(6/268)
إذا كانت رجعتك المذكورة وقعت وهي لا تزال في العدة ولم يسبق طلاقك هذا أو يلحقه طلقتان منك عليها فهي في عصمتك وإن كانت قد خرجت من العدة قبل تاريخ رجعتك التي حصلت في 26 \ 11 \ 99 أو سبق طلاقك هذا أو لحقه طلقتان فقد خرجت بذلك من عصمتك، ولا تحل لك إلا بعد زوج آخر، وبالله التوفيق. وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(6/269)
الطلاق
فتوى رقم 2802 وتاريخ 3 \ 2 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
(قد حصل مني على زوجتي المدعوة - عيدة بنت سعيد الشهراني - في عام 1395 هـ طلاق، قلت لها أنت طالق وراجعتها حتى يوم 4 \ 12 \ 1399 فلفظت عليها بالطلاق لأسباب عائلية قلت لها أنت طالق طالق ولم أقصد العدد ولم أقنع منها وإنما أردت إسكاتها وراجعتها في 24 \ 12 \ 99 بشهادة أربعة وهي حامل ولم تلد بعد، فأرجو من سماحتكم إفتائي في ذلك، أثابكم الله وجزاكم الله عنا خيرا) .
وأجابت عنه بما يلي:
إذا كان الواقع كما ذكرت من الطلاق والرجعة قبل وضع الحمل بشهادة العدول صحت رجعتك زوجتك واعتبر ما حصل منك هذه المرة طلقة، اللفظ الثاني في طلاقك الأخير مؤكد للأول لم ترد العدد، وقد ذكرت أنه سبق أن طلقتها مرة وراجعتها، وعلى هذا لم يبق لك مع هذه الزوجة إلا طلقة واحدة، فاضبط لسانك واحذر أن تطلق مرة أخرى فتندم حيث لا ينفع الندم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم،،
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(6/269)
في الربا
فتوى رقم 2805 وتاريخ 5 \ 2 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
أن لدى السائل بالولايات المتحدة من يبيع السيارات بأقساط وعلى المبلغ المؤجل فوائد محددة لكنها تزيد بتأخر دفع القسط عن موعد تسديده، فهل هذا التعامل جائز أم لا. .
وأجابت بما يلي:
إذا كان من يبيع السيارة ونحوها إلى أجل يبيعها بثمن معلوم إلى أجل أو آجال معلومة زمنا وقسطا لا يزيد المؤجل من ثمنها يتجاوزه فلا شيء في ذلك بل هو مشروع لقوله سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) الآية، ولما ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اشترى إلى أجل، وإن كان المؤجل كما هو المفهوم من السؤال - يزيد بتأخر دفع القسط عن موعده المحدد بنسبة معينة فذلك لا يجوز بإجماع المسلمين؛ لأنه ينطبق عليه ربا الجاهلية الذي نزل فيه القرآن، وهو قول أحدهم لمن عنده له دين عند حلول ذلك الدين إما أن تقضي وإما أن تربي - أي - تزيد.
وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) سورة البقرة الآية 282(6/270)
عدم جواز العمل في بنوك تتعامل بالربا أو حراستها
فتوى رقم 2828 وتاريخ 18 \ 2 \ 1400 هـ
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
(إنه يعمل في أحد البنوك من مدة عشر سنوات ولقد علم أن العمل في البنوك غير جائز وهو يعمل حارسا ليليا وليس له علاقة في المعاملات هل يستمر في العمل أو يتركه) .(6/270)
والجواب: البنوك التي تتعامل بالربا لا يجوز للمسلم أن يكون حارسا لها لأن هذا من التعاون على الإثم والعدوان، وقد نهى الله عنه بقوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) .
وأغلب أحوال البنوك التعامل بالربا وينبغي لك أن تبحث عن طريق حلال من طرق طلب الرزق غير هذا الطريق، وبالله التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(6/271)
الأوراق النقدية
فتوى رقم 2793 وتاريخ 26 \ 1 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
(أعرض لفضيلتكم بأن الناس قد اختلفوا في نصاب الأوراق النقدية المتداولة منهم من يقول مائتا ريال قياسا على مائتي درهم ومنهم من يقول ستة وخمسون ريالا ومنهم من يقول قيمة مائتي درهم من الفضة بالريالات وإذا حسبنا قيمة مائتي درهم من الفضة بسعر اليوم فيكون قيمتها (800) ريال ثمانمائة ريال سعودي تقريبا وإني محتار في هذا الأمر. أفتوني أثابكم الله) .
نصاب الفضة الذي تجب فيه الزكاة مائتا درهم ويساوي مائة وأربعين مثقالا ومقدراها بالريالات السعودية الفضية ستة وخمسون ريالا أو ما يعادلها من العملة الورقية، وبالله التوفيق. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(6/271)
الهبة
فتوى رقم 2816 وتاريخ 10 \ 2 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
(لي أخ وأتى بقصد الزيارة وأنا كنت أشتغل في مدينة غير البلدة التي نحن وعائلتنا نعيش فيها وأعطيته مبلغا من المال على سبيل الإحسان ولم أكن أقصد أنها سلف ولن أطالبه بها في يوم من الأيام وهو كان يعرف ذلك وأخذ المال وعاد إلى بلدتنا حيث يقيم هو وأهلنا واستعان بهذا المبلغ على زواجه وعاشت زوجته معه مدة من الزمن وفيما بعد صار بينه وبينها زعل ونشزت الزوجة وبعد ذلك أوصى لي أخي بالمبلغ كدين عليه وأشهد على ذلك. وعاش بعد ذلك مدة من الزمن وتوفاه الله ولما عدت إلى بلدتي بعد وفاة أخي أبلغت الوصية وطالبتني زوجة أخي بإبراز حصتها من تركة زوجها، وطالبتها أنا بالوصية التي أوصى بها أخي وهو المبلغ الذي سبق وأن أعطيته على سبيل الإحسان وفعلا قامت بتسليم نصيبها من الوصية وهو الدين الذي أوصى به أخي لي واستوفيته منها واقتسمت هي حصتها من التركة بعد ذلك.
أفيدونا جزاكم الله خيرا عن الوصية التي أوصى بها أخي فإني أخشى أنه كان يريد بها إضرارا لزوجته.
والجواب: إذا كنت دفعتها له صدقة منك وقبلها وهو يعلم أنها صدقة فلا ينبغي أن تعود فيها لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه (1) » متفق عليه، وبناء على ذلك فحكم هذا المبلغ حكم ما له وعليك رده إلى ورثته، وإن كنت وارثا فلك نصيبك منه بالإرث. وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3003) ، صحيح مسلم الهبات (1620) ، سنن النسائي الزكاة (2615) ، مسند أحمد بن حنبل (1/40) ، موطأ مالك الزكاة (624) .(6/272)
الزكاة
فتوى رقم (2782) وتاريخ 22 \ 1 \ 1400 هـ
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
(الزكاة على الأراضي المعدة للبيع والشراء - كان الشيخ أحمد محمد جمال قد كتب بجريدة البلاد 12 رمضان سنة 1399 ردا على ملاحظة منا بخصوص زكاة الأراضي المعدة للبيع والشراء وأوجب ذلك إلا أن شخصا من تجار الأراضي اتصل بي بالتلفون معاتبا علي في إثارة الموضوع وقال إن الأراضي ما عليها زكاة وإنما الزكاة على الأشياء المنقولة فقلت له يا أخي هذه عروض تجارية، فلم يقتنع وقطع المكالمة فأرجو من سماحتكم توضيح الأمر، جزاكم الله خيرا عنا وعن الإسلام والمسلمين.
والجواب: تجب الزكاة في الأراضي المعدة للبيع والشراء لأنها من عروض التجارة فهي داخلة في عموم أدلة وجوب الزكاة من الكتاب والسنة ومن ذلك قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (1) ، وما رواه أبو داود بإسناد حسن عن سمرة بن جندب -رضي الله عنهما- قال: «أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع (2) » .
بذلك قال جمهور أهل العلم وهو الحق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) سورة التوبة الآية 103
(2) سنن أبو داود الزكاة (1562) .(6/273)
في الدين
فتوى رقم (2790) وتاريخ 26 \ 1 \ 1400 هـ
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
عندي رجل يمني دهان في منزلي وقدر الله عليه وتوفى بحادث سيارة وعندي له مبلغ ثلاثة آلاف ريال(6/273)
3000 ولم يحضر له، من أدفع له المبلغ وقد طلبت من قاضي بلدنا استلام المبلغ ورفض بحجة إبقائه عندي حتى حضور وارثه، وقد مضى على وفاته أكثر من عام، وسألت عنه بعض اليمنيين الذين كان يسكن معهم وقالوا إن له أخا سوف يحضر لاستلام ماله من حقوق، ومضى مدة ولم يأت من يستلم ماله من حقوق، أرجو توجيهي أثابكم الله بالطريقة التي تبرئ ذمتي بها، وأتخلص من هذا المبلغ الذي أثقل عاتقي حفظكم الله.
وأجابت بما يلي:
عليك أن تحفظ حق هذا العامل عندك حتى يحضر وارثه وتتأكد منه وتسلمه إياه ما دمت قد عرفت أن له أخا سيحضر لأخذ حق أخيه عندك ولو طالت المدة، وأن تنميه له في تجارة ونحوها فذلك خير وإن أمكن تسليم ما لديك من حق لرئيس المحكمة التي بمنطقتكم كفاك ذلك، وتأخذ منه سندا بتسلمه ذلك منك فهو أحوط وأيسر لك. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(6/274)
ترجمة القرآن
فتوى رقم 2792 وتاريخ 16 \ 1 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
(قرأت في مجلة العربي العدد 237 شهر شعبان لعام 1398 مقالا حول موضوع دراسات قرآنية طرح جديد لمواقف المعارضة للدكتور محمد أحمد خلف الله.
الرجاء الاطلاع على المقال المذكور وخاصة ترجمة القرآن والتي يريد منها حسب ظاهر كلامه الترجمة الحرفية وما رأيكم في الأسباب التي أوردها ضمن مقاله في تبريره لترجمة القرآن، أفيدونا جزاكم الله خيراو وجعلكم من الذائدين عن شرعة وسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم -) .
وأجابت بما يلي:
يتضح من مقال الدكتور المذكور أنه يريد ترجمة معاني القرآن والتعبير عنها باللغات الأخرى غير العربية وترجمة معاني القرآن جائزة إذا فهم المعنى فهما صحيحا وعبر عنه من عالم بما يحيل المعاني(6/274)
باللغات الأخرى تعبيرا دقيقا يفيد المعنى المقصود من نصوص القرآن، وذلك أداء لواجب البلاغ لمن لا يعرف اللغة العربية، قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية -رحمه الله-: وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم، فإن هذا جائز حسن للحاجة، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه، ولهذا «قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص وكانت صغيرة فولدت بأرض الحبشة لأن أباها كان من المهاجرين إليها قال لها: (يا أم خالد) هذا سنا (1) » ، والسنا بلسان الحبشة الحسن، لأنها كانت من أهل هذه اللغة، ولذلك يترجم القرآن والحديث لمن يحتاج إلى تفهمه إياه بالترجمة، وكذلك يقرأ المعلم ما يحتاج إليه من كتب الأمم وكلامهم بلغتهم ويترجم بالعربية كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- زيد بن ثابت «أن يتعلم كتاب اليهود ليقرأ له ويكتب له ذلك حيث لم يأتمن اليهود عليه» .
أما الترجمة الصوتية فهي غير جائزة، وسبق أن أصدر مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية قرارا في ذلك نرفق لك صورته لمزيد من الفائدة، وبالله التوفيق. وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5845) ، سنن أبو داود اللباس (4024) ، مسند أحمد بن حنبل (6/365) .(6/275)
أحاديث موضوعة
فتوى رقم 2808 وتاريخ 10 \ 2 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
(سمعت من بعض الناس يقول حديثا قدسيا عبارته «عبدي أطعني تكن عبدا ربانيا يقول للشيء كن فيكون» . هل هذا حديث قدسي صحيح أم غير صحيح) .
وأجابت بما يلي:
هذا الحديث لم نعثر عليه في شيء من كتب السنة ومعناه يدل على أنه موضوع إذ أنه ينزل العبد المخلوق الضعيف منزلة الخالق سبحانه، أو يجعله شريكا له تعالى أن يكون له شريك في(6/275)
ملكه واعتقاد الشريك كفر لأن الله سبحانه هو الذي يقول للشيء كن فيكون كما في قوله -عز وجل-: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) سورة يس الآية 82(6/276)
الزنا والهجرة للبلاد الأجنبية
فتوى رقم 2788 وتاريخ 26 \ 1 \ 1400 هـ
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
(أنا متزوج وزوجتي في لبنان، وأنا أعمل في البرازيل من أجل المعيشة وتعليم أولادي، ولكني اقترفت هنا جريمة الزنا وقد ندمت وتبت إلى الله، فهل يكفي ذلك أو لا بد معه من إقامة الحد أفتوني رحكمكم الله) .
وأجابت بما يلي:
لا شك أن الزنا من كبائر الذنوب وأن من وسائله عري النساء واختلاط الرجال بالنساء الأجنبيات وانحلال الأخلاق وفساد البيئة على العموم، فإذا كنت قد زنيت لبعدك عن زوجتك واختلاطك بأهل الشر والفساد ثم ندمت على جريمتك وتبت على جريمتك وتبت إلى الله توبة صادقة فنرجو أن يتقبل الله توبتك ويغفر ذنبك لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (1) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (2) {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) وقد ثبت عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنهما- في حديث بيعة النساء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «فمن وفى منكن فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو كفارة له، ومن أصاب منها شيئا من ذلك فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له (4) » .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 68
(2) سورة الفرقان الآية 69
(3) سورة الفرقان الآية 70
(4) صحيح البخاري الإيمان (18) ، صحيح مسلم الحدود (1709) ، سنن الترمذي الحدود (1439) ، سنن النسائي البيعة (4161) ، سنن الدارمي السير (2453) .(6/276)
لكن يجب عليك أن تهاجر عن البيئة الفاسدة التي تغريك بالمعاصي وتطلب المعيشة في غيرها من البلاد فيها ما كتب الله له من الأرزاق {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (2) . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3(6/277)
في الرشوة
فتوى رقم 2811 وتاريخ 10 \ 2 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
(لي أخ يرغب في العمل في المملكة، وهو والحمد لله ولا نزكي على الله أحدا يسير على هدى المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ووجد من الفتن والخروج عن حدود الله كثيرا، وذلك في عمله في الشركة التي يعمل بها وقد أرسل لي بشهادة تخرجه وهي من كلية التجارة جامعة الإسكندرية عام 1974م قسم الاقتصاد ووجدت عرضا من أحد السعوديين معنا أن أعطيه مبلغ 5000 ريال مقابل عقد عمل في الخطوط السعودية وأسأل هل ذلك يوافق الشرع أفتونا في ذلك.
إذا كان الواقع كما ذكرت من دفع مبلغ مقابل عقد عمل في الخطوط السعودية أو نحوها فذلك من كبائر الذنوب كما أن قبول ذلك المبلغ محرم أيضا لأنه رشوة وقد ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعن الله الراشي والمرتشي. . .) الحديث.
فعليك اجتناب ذلك وطلب الرزق عن طريق حلال، فأبواب الكسب الحلال كثيرة، واتق الله وتوكل عليه، فإنه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (2) وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3(6/277)
في القتل الخطأ
فتوى رقم 2822 وتاريخ 10 \ 2 \ 1400
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
(حدث لي حادث قضاءا وقدرا وكان كما يلي:
عندما كنت عائدا من عملي ذهبت لأدوس زرعا لي وعندما تحركت سيارتي إذا ببنتي الصغيرة البالغة من العمر 3 سنوات دهست وماتت وذلك دون أن أرى أنها كانت وراء السيارة.
أرجو من فضيلتكم التكرم بإفتائي عما يجب علي شرعا من فدية علما بأني مزارع أعمل طيلة النهار والصيام صعب علي) .
وأجابت بما يلي:
إذا كان الواقع كما ذكرت فقتلك إياها خطأ لتفريطك في تفقد ما حول سيارتك. وعليك ديتها لورثتها إلا أن يتنازلوا عنها. ولا ترث أنت منها وعليك أيضا كفارة القتل الخطأ وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم تجد فصم شهرين متتابعين، ولا يكفي عن ذلك أن تطعم مساكين أو تدفع نقودا لأن الله لم يذكر غير العتق والصيام في كفارة القتل الخطأ وما كان ربك نسيا، قال الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (1) إلى أن قال {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (2) . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم) .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) سورة النساء الآية 92(6/278)
فتوى رقم 1670 وتاريخ 7 \ 10 \ 1397 هـ
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد: -
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة الرئيس العام من المستفتي الحاج عثمان الصديق والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء وقد سأل عن ثلاثة أسئلة فنذكرها ونذكر جواب السؤال بعده وبعد: -
الأول: هل يحل للمسلم أن يتعامل مع البنوك الحالية التي تعطي زيادة على رأس المال أو تزود المقترض.
جواب: لا يجوز للشخص أن يودع نقوده عند البنك والبنك يعطيه زيادة مضمونة سنويا - مثلا - ولا يجوز أيضا أن يقترض من البنك بشرط أن يدفع له زيادة في الوقت الذي يتفقان عليه لدفع المال المقترض، كأن يدفع له عند الوفاء زيادة خمسة في المائة، وهاتان الصورتان داخلتان في عموم أدلة تحريم الربا من الكتاب والسنة والإجماع، وهذا واضح بحمد الله.
وأما التعامل مع البنوك بتأمين النقود بدون ربح وبالتحويلات. فأما بالنسبة لتأمين النقود بدون ربح فإن لم يضطر إلى وضعها في البنك فلا يجوز أن يضعها فيه لما في ذلك من إعانة أصحاب البنوك على استعمالها في الربا وقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وإن دعت إلى ذلك ضرورة فلا نعلم في ذلك بأسا إن شاء الله. وأما بالنسبة لتحويل النقود من بنك لآخر ولو بمقابل زائد يأخذه البنك المحول فجائز لأن الزيادة التي يأخذها البنك أجرة له مقابل عملية التحويل.
الثاني: كيف تخرج زكاة سيارات الناقلات والأجرة أفتكون بقيمتها أو من كسبها؟ .
جواب: ما دامت هذه السيارات معدة للأجرة فالزكاة تجب في أجرتها إذا حال عليها الحول لا في قيمتها.
الثالث: ما حكم تحديد النسل من حيث الإباحة والمنع؟ .
جواب: لقد صدر في ذلك فتوى من هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية وإليكم برفقه صورة ما صدر في ذلك، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للفقه في دينه والثبات عليه إنه خير مسئول والله الموفق. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(6/279)
من عبد العزيز بن باز إلى الإخوان منسوبي رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
وفقهم الله لما فيه رضاه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . وبعد:
لا يخفى على الجميع وجوب تخلق المسلم بالأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة والبعد عن الصفات الذميمة كشرب الدخان وحلق اللحى والخنفسة وتشبه الرجال بالنساء والتكاسل عن الصلاة جماعة وغير ذلك، ولا شك أن وجوب ذلك على المنتسبين إلى هذه الرئاسة أشد وآكد.
وقد نمى إلى علمي أن من بين العاملين في هذه الرئاسة من يتصف بتلك الصفات أو بعضها مع أنها منبع العلم وحاملة لواء الدعوة إلى الله، فالواجب على كل منتسب إليها أن يكون قدوة للآخرين في جميع أقواله وأفعاله وتصرفاته بعيدا كل البعد عن الصفات الذميمة والأخلاق المحرفة، ولا يخفى أن جميع من يعمل في هذه الرئاسة منسوب إلى الدعاة إلى الله لأنه إن لم يكن يباشر عمل الدعوة الفعلي فهو يخدم العاملين في الدعوة، ومن هذا الجانب فإن تحلى المنتسب إليها بالصفات الحميدة، وبعده عن الصفات الذميمة يكون متأكدا في حقه أكثر من غيره فهو القدوة لغيره وهو المثل الذي يحتذى.
فاعتمدوا بارك الله فيكم العناية بهذا الجانب والتعاون بينكم في ذلك عملا بقول الله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وقوله سبحانه {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) والله المسئول أن يوفقنا جميعا لما يرضيه ويعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وأن يجعلنا قدوة صالحة لغيرنا إنه سميع قريب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(6/280)
إيضاحات وتنبيهات
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(6/281)
إيضاحات وتنبيهات
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
(بيان خطأ من جعل جدة ميقاتا لحجاج الجو والبحر)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أما بعد:
فقد اطلعت على ما كتب في التقويم القطري بإملاء فضيلة الأخ الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري صفحة 95 - 96 حول المواقيت للوافدين إلى مكة بنية الحج أو العمرة، فألفيته قد أصاب في مواضع وأخطأ في مواضع خطأ كبيرا، فرأيت أن من النصح لله ولعباده التنبيه على المواضع التي أخطأ فيها، راجيا بعد اطلاعه على ذلك توبته عما أخطأ فيه ورجوعه إلى الحق، لأن الرجوع إلى الحق شرف وفضيلة وهو خير من التمادي في الباطل، بل هو واجب لا يجوز تركه لأن الحق واجب الاتباع فأقول:
أولا: ذكر وفقه الله في الفقرة الثالثة من كلمته ما نصه (القاصدون عن طريق الجو لأداء الحج(6/282)
والعمرة إذا كانت النية منهم الإقامة بجدة ولو يوما واحدا ينطبق عليهم حكم المقيمين بجدة والنازلين بها فلهم أن يحرموا من جدة) انتهى. وهذا كلام باطل وخطأ ظاهر مخالف للأحاديث الصحيحة الواردة في المواقيت ومخالف لكلام أهل العلم في هذا الباب، ومخالف لما ذكره هو نفسه في الفقرة الأولى من كلمته المشار إليها آنفا لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقت المواقيت لمريدي الحج والعمرة من سائر الأمصار، ولم يجعل جدة ميقاتا لمن توجه إلى مكة من سائر الأمصار والأقاليم، وهذا يعم الوافدين إليها من طريق البر أو البحر أو الجو، والقول بأن الوافد من طريق الجو لم يمر عليها قول باطل لا أساس له من الصحة، لأن الوافد من طريق الجو لا بد أن يمر قطعا بالمواقيت التي وقتها النبي -صلى الله عليه وسلم- أو على ما يسامتها، فيلزمه الإحرام منها، وإذا اشتبه عليه ذلك لزمه أن يحرم في المواضع الذي يتيقن أنه محاذيها، أو قبلها حتى لا يتجاوزها بغير إحرام، ومن المعلوم أن الإحرام قبل المواقيت صحيح وإنما الخلاف في كراهته وعدمها، ومن أحرم قبلها احتياطيا خوفا من مجاوزتها بغير إحرام فلا كراهة في حقه، أما تجاوزها بغير إحرام فهو محرم بالإجماع في حق كل مكلف أراد حجا أو عمرة لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عباس المتفق عليه لما وقت المواقيت: «هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة (1) » ولقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عمر المتفق عليه: «يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن (2) » وهذا اللفظ عند أهل العلم خبر بمعنى الأمر فلا تجوز مخالفته، وقد ورد في بعض الروايات بلفظ الأمر وذلك بلفظ ليهل والقول بأن من أراد الإقامة بجدة يوما أو ساعات من الوافدين إلى مكة من طريق جدة له حكم سكان جدة في جواز الإحرام منها قول لا أصل له، ولا أعلم به قائلا من أهل العلم، فالواجب على من يوقع عن الله ويفتي عباده في الأحكام الشرعية أن يتثبت فيما يقول، وأن يتقي الله في ذلك؛ لأن القول على الله بغير علم خطره عظيم وعواقبه وخيمة، وقد جعل الله سبحانه القول عليه بلا علم في أعلى مراتب التحريم لقوله -عز وجل-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (3) ، وأخبر سبحانه في آية أخرى أن ذلك مما يأمر به الشيطان فقال سبحانه في سورة البقرة {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (4) {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (5) وعلى مقتضى
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الحج (1526) ، صحيح مسلم الحج (1181) ، سنن النسائي مناسك الحج (2654) ، مسند أحمد بن حنبل (1/332) ، سنن الدارمي المناسك (1792) .
(2) صحيح البخاري العلم (133) ، سنن الترمذي الحج (831) ، سنن النسائي مناسك الحج (2652) ، سنن أبو داود المناسك (1737) ، سنن ابن ماجه المناسك (2914) ، مسند أحمد بن حنبل (2/47) ، موطأ مالك الحج (732) ، سنن الدارمي المناسك (1790) .
(3) سورة الأعراف الآية 33
(4) سورة البقرة الآية 168
(5) سورة البقرة الآية 169(6/283)
هذا القول الباطل لو أراد من توجه من المدينة إلى مكة بنية الحج والعمرة أن يقيم بجدة ساعات جاز له أن يؤخر إحرامه إليها، وهكذا من توجه من نجد أو الطائف إلى مكة بنية الحج أو العمرة وأراد الإقامة في الزيمة أو الشرائع، وهذا قول لا يخفى بطلانه على من تأمل النصوص وكلام أهل العلم والله المستعان.
ثانيا: ذكر الشيخ عبد الله الأنصاري في الفقرة الخامسة ما نصه (يجوز لم يقصد أداء العمرة أن يتجه إلى التنعيم فيحرم منها حيث إنها الميقات الشرعي) انتهى. وهذه العبارة فيها إجمال وإطلاق، فإن كان أراد بها سكان مكة والمقيمين بها فصحيح، ولكن يؤخذ عليه قوله إن التنعيم هو الميقات الشرعي فليس الأمر كذلك بل الحل كله ميقات لأهل مكة والمقيمين بها فلو أحرموا من الجعرانة أو غيرها من الحل فلا حرج، وكانوا بذلك محرمين من ميقات شرعي، وقد «أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة إلى الحل لما أرادت العمرة (1) » ، وكونها أحرمت من التنعيم لا يوجب ذلك أن يكون هو الميقات الشرعي وإنما قصاراه أن يدل على الاستحباب كما قاله بعض أهل العلم لأن في بعض الروايات من حديثها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم، وذلك والله أعلم لكونه أقرب الحل إلى مكة جمعا بين الروايات، أما إن أراد بهذه العبارة أن كل من أراد العمرة له أن يحرم من التنعيم ولو كان في جهة أخرى من الحل فليس بصحيح لأن كل من كان في جهة من الجهات خارج الحرم ودون المواقيت فإن ميقاته من أهله للحج والعمرة جميعا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عباس المتفق عليه: (ومن كان دون ذلك) يعني دون المواقيت (فمهله من أهله) وفي لفظ (فمهله من حيث أنشأ) وقد أحرم النبي -صلى الله عليه وسلم- من الجعرانة عام الفتح لما فرغ من تقسيم غنائم حنين فلم يذهب إلى التنعيم والله ولي التوفيق.
ثالثا: ذكر الشيخ عبد الله في الفقرة السادسة والسابعة ما نصه (لا حجة لمن يقول بأن القاصد إلى جدة بالطائرة يمر بالميقات لأنه لا يمر بأي ميقات من المواقيت بل هو هائم أو طائر في الجو ولم ينزل إلا بجدة) ونص الحديث ولمن مر بهن ولا يعتبر من كان طائرا بالهواء بأنه مار بأي ميقات، انتهى كلامه. وهذا القول غير صحيح وقد مضى الرد عليه آنفا وقد سبق الشيخ عبد الله الأنصاري إلى هذا الخطأ الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود في مقال وزعه زعم فيه أن الوافد من طريق الجو أو البحر إلى مكة لا يمر على المواقيت وزعم أن ميقاته جدة وقد أخطأ في ذلك
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1560) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (934) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1778) ، سنن ابن ماجه المناسك (3000) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) ، موطأ مالك الحج (940) ، سنن الدارمي المناسك (1904) .(6/284)
كما أخطأ الشيخ عبد الله الأنصاري، فالله يغفر لهما جميعا، وقد كتب مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ردا على الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود في زعمه أن جدة ميقات للوافدين إلى مكة من الحجاج، والعمار من طريق الجو أو البحر ونشر الرد في وقته وقد أصاب المجلس في ذلك وأدى واجب النصح لله ولعباده، ولا يزال الناس بخير ما بقى فيهم من ينكر الخطأ والمنكر ويبين الصواب والحق، وما أحسن ما قال الإمام مالك -رحمه الله-: ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر، يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأسأل الله أن يغفر لنا جميعا، وأن يمنحنا وسائر إخواننا إصابة الحق في القول والعمل والرجوع إلى الصواب إذا وضح دليله إنه خير مسئول.
رابعا: ذكر الشيخ عبد الله الأنصاري -هداه الله- في الفقرة الثامنة والتاسعة ما نصه (على من يريد مواصلة سيره إلى مكة لأداء نسكه أن يجهز إحرامه من آخر مطار يقوم منه وينوي قبل جدة بمقدار عشرين دقيقة إذا كان قصده مواصلة السير بدون توقف أو إقامة في جدة أما الذي يقيم بجدة ولو لساعات يجوز له أن يحرم من جدة إن شاء الله وينطبق عليه حكم ساكن جدة) انتهى كلامه.
وقد سبق أن هذا التفصيل والتحديد لا أساس له من الصحة وأن الواجب على من أراد الحج أو العمرة من الوافدين إلى مكة من طريق الجو أو البحر الإحرام بالنسك الذي أرادوا من حج أو عمرة إذا حاذوا الميقات الذي في طريقهم أو سامتوه، ولا يجوز لهم تأخير الإحرام ولو نووا الإقامة بها يوما أو ساعات فإن شكوا في المحاذاة لزمهم الإحرام من المكان الذي يتيقنون فيه أنه محاذ للميقات أو متقدم عليه لأن الإحرام قبل الميقات عند اشتباه الميقات لا كراهة فيه احتياطا للواجب وإنما الكراهة عند بعض أهل العلم في حق من أحرم قبل الميقات بدون عذر شرعي، وأسأل الله أن يهدينا جميعا صراطه المستقيم وأن يوفقنا وجميع المسلمين لإصابة الحق في القول والعمل، وأن يعيذنا جميعا من القول عليه بلا علم إنه سميع قريب. ولواجب النصح للمسلمين جرى تحريره، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(6/285)
التعلق بالنجوم والأبراج والطالع
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فقد اطلعت على مقال نشر في بعض الصحف يتضمن تمجيد بعض أعمال الجاهلية والفخر بها والدعوة إليها مثل التعلق بالنجوم والأبراج والحظ والطالع، فرأيت أن من الواجب التنبيه على ما تضمنه المقال من الباطل، فأقول إن ما يسمى بعلم النجوم والحظ والطالع من أعمال الجاهلية التي جاء الإسلام بإبطالها وبيان أنها من الشرك؛ لما فيها من التعلق على غير الله تعالى، واعتقاد الضر والنفع في غيره، وتصديق العرافين والكهنة الذين يدعون علم الغيب زورا وبهتانا ويعبثون بعقول السذج والأغرار من الناس ليبتزوا أموالهم ويحرفوا عقائدهم، قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه عنه(6/286)
عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد (1) » رواه أبو داود وإسناده صحيح، وللنسائي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه (2) » وهذا يدل على أن السحر شرك بالله تعالى وأن من تعلق بشيء من أقوال الكهان أو العرافين وكل إليهم، وحرم من عون الله ومدده.
وروى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما (3) » ، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- (4) » ، وعن عمران بن حصين مرفوعا «ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقة بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- (5) » . رواه البزار بإسناد جيد، قال ابن القيم -رحمه الله-: من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه عائفا وعرافا. والمقصود من هذا معرفة أن من يدعي معرفة علم شيء من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن وأما مشارك له في المعنى فيلحق به، وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف، ومنه ما هو من الشياطين. ويكون بالفال والزجر والطيرة والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة والسحر ونحو هذا من علوم الجاهلية. ونعني بالجاهلية كل ما ليس من أتباع الرسل عليهم السلام كالفلاسفة والكهان والمنجمين ودهرية العرب الذين كانوا قبل مبعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإن هذه علوم لقوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل صلى الله عليهم وسلم وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهنا وعرافا وما في معناهما فمن أتاهم وصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد. . .
وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وادعوا أنهم أولياء لله وأن ذلك كرامة) انتهى المقصود نقله من كلام ابن القيم -رحمه الله-.
وقد ظهر من أقواله -صلى الله عليه وسلم- ومن تقريرات الأئمة من العلماء وفقهاء هذه الأمة أن علم النجوم وما يسمى بالطالع وقراءة الكف وقراءة الفنجان ومعرفة الحظ كلها من علوم الجاهلية ومن الشرك الذي حرمه الله ورسوله وأنها من أعمال الجاهلية وعلومهم الباطلة التي جاء الإسلام بإبطالها والتحذير من فعلها أو إتيان من يتعاطاها وسؤاله عن شيء منها أو تصديقه فيما يخبر به من ذلك لأنه من علم
__________
(1) سنن أبو داود الطب (3905) ، سنن ابن ماجه الأدب (3726) ، مسند أحمد بن حنبل (1/311) .
(2) سنن النسائي تحريم الدم (4079) .
(3) صحيح مسلم السلام (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (4/68) .
(4) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/429) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .
(5) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/429) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .(6/287)
الغيب الذي استأثر الله به قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} (1) ، ونصيحتي لكل من يتعلق بهذه الأمور أن يتوب إلى الله ويستغفره، وأن يعتمد على الله وحده، ويتوكل عليه في كل الأمور مع أخذه بالأسباب الشرعية والحسية المباحة، وأن يدع هذه الأمور الجاهلية ويبتعد عنها ويحذر سؤال أهلها أو تصديقهم طاعة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- وحفاظا على دينه وعقيدته والله المسئول أن يرزق الجميع الفقه في دينه والعمل بشريعته وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وخاتم رسله محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النمل الآية 65(6/288)
حرمة القرآن الكريم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإن القرآن الكريم كلام الله تعالى أنزله على عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكون هدى ونورا للعالمين إلى يوم القيامة، وقد أكرم الله صدر هذه الأمة بحفظه في الصدور والعمل به في جميع شئون الحياة والتحاكم إليه في القليل والكثير ولا يزال فضل الله سبحانه ينزل على بعض عباده فيعطون القرآن حقه من التعظيم والتكريم حسا ومعنى ولكن هناك طوائف كبيرة وأعدادا عظيمة ممن ينتسب إلى الإسلام حرمت من القيام بحق القرآن العظيم، وما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأخشى أن ينطبق بحق على كثير منهم قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (1) إذ أصبح القرآن لدى كثير منهم مهجورا هجروا تلاوته وهجروا تدبره والعمل به فلا حول ولا قوة إلا بالله. ولقد غفل كثير منهم عما يجب عليهم من تكريم كتاب الله وحفظه، إذ قصروا في مجال الحفظ والتدبر والعمل، كما لم يقوموا بما يجب من التعظيم والتكريم لكلام رب العالمين، ولقد عمت بلاد المسلمين المنشورات
__________
(1) سورة الفرقان الآية 30(6/289)
والصحف والمجلات وكثيرا ما تشتمل على آيات من القرآن الكريم في غلافها أو داخلها لكن قسما كبيرا من المسلمين حينما يقرءون تلك الصحف يلقونها فتجمع مع القمائم، وتوطأ بالأقدام، بل قد يستعملها بعضهم لأغراض أخرى حتى تصيبها النجاسات والقاذورات والله -سبحانه وتعالى- يقول في كتابه الكريم: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (1) {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (2) {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} (3) {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) والآية دليل على أنه لا يجوز مس القرآن إلا إذا كان المسلم على طهارة كما هو رأي الجمهور من أهل العلم، وفي حديث عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «أن لا يمس القرآن إلا طاهر (5) » . ويروى عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» وروي عن سلمان -رضي الله عنه- أنه قال: لا يمس القرآن إلا المطهرون، فقرأ القرآن ولم يمس المصحف حين لم يكن على وضوء. وعن سعد أنه أمر ابنه بالوضوء لمس المصحف. فإذا كان هذا في مس القرآن العزيز فكيف بمن يضع الصحف التي تشتمل على آيات من القرآن سفرة لطعامه ثم يرمي بها في النفايات مع النجاسات والقاذورات لا شك أن هذا امتهان لكتاب الله العزيز وكلامه المبين.
فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يحافظوا على الصحف والكتب وغيرها مما فيه آيات قرآنية أو أحاديث نبوية أو كلام فيه ذكر الله أو بعض أسمائه سبحانه، فيحفظها في مكان طاهر وإذا استغنى عنها دفنها في أرض طاهرة أو أحرقها ولا يجوز التساهل في ذلك، وحيث إن الكثير من الناس في غفلة عن هذا الأمر وقد يقع في المحذور جهلا منه بالحكم رأيت كتابة هذه الكلمات تذكيرا وبيانا لما يجب على المسلمين العمل به تجاه كتاب الله وأسمائه وصفاته وأحاديث رسوله -صلى الله عليه وسلم- وتحذيرا من الوقوع فيما يغضب الله ويتنافى مع مقام كلام رب العالمين والله سبحانه المسئول أن يوفقنا والمسلمين جميعا لما يحبه ويرضاه، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يمنحنا جميعا تعظيم كتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- والعمل بهما وصيانتهما عن كل ما يسيء إليهما من قول أو فعل إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الواقعة الآية 77
(2) سورة الواقعة الآية 78
(3) سورة الواقعة الآية 79
(4) سورة الواقعة الآية 80
(5) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .(6/290)
التحذير من مكائد الأعداء
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد اطلعت على الخطاب المفتوح الموجه من بعض المسلمات في سويسرا إلى شيخ الأزهر ووزير الإعلام في مصر المنشور في مجلة الدعوة الإسلامية المصرية في عددها السابع والأربعين الصادر في شهر جمادى الأولى عام 1400 هـ. . وقد جاء في هذا الخطاب أن العالم الغربي قد بدأ يتحدث عن الإسلام ويهتم به، وأن بعض جهات الإعلام هناك استغلت هذا الموضوع وأخذت تشوه الإسلام وتعرف به على غير حقيقته، يضربن مثلا على ذلك بما قام به التلفزيون السويسري حينما عرض فيلما عن الإسلام والمسلمين في مصر يشتمل على مشاهد ليست من الإسلام إذ عرض ما يجري عند(6/291)
الأضرحة وفي حفلات المزار ومولد البدوي، وغيرها من الأمور المبتدعة، وقد ذكرت الأخوات في خطابهن ما نصه: (وأكثر ما آلم المسلمين من كل الجنسيات هو عرض لفتاة تدعى نهال رزق، قيل إنها مسلمة وكانت هي محور الحلقة على أساس أنها مثال للمرأة المتحضرة لأنه لا يمكن تطبيق قوانين جاءت منذ أربعة عشر قرنا كما قال مقدم البرنامج، ونذكر لكم لقطتين من جملة الفيلم عنها والحديث معها. فكانت اللقطة لهذه الفتاة في حمام سباحة نادي الجزيرة - وطبعا كانت بالمايوه أمام الرجال وبعدها لقاء معها في منزلها، ولقطة لها وهي تصلي وتلبس الطرحة، وقالت إنها تصلي وتصوم وسيأتي اليوم الذي تحج فيه للبيت الحرام. وكانت آخر لقطاتهم معها في كازينو وهي تراقص صديقها، وقالت إنه مسموح لها بالرقص مع صديقها والسهر معه حتى الساعة الواحدة صباحا إهـ.
كما ذكرت الأخوات أن التلفزيون السويسري أعد هذا الفيلم عندما قام فريق من المشرفين عليه بزيارة معلنة للقاهرة، وسجل خلالها تلك المشاهد، وأجرى أثناءها لقاءات مع شيخ الأزهر ومفتي الجمهورية والشيخ السطوحي ليوهم أن هؤلاء موافقون على ما يعرض في الفيلم. وتساءلن بقولهن من المسئول عن هذه المهزلة ومن الذي قدم هذه الفتاة لتكون مثالا للفتاة المسلمة في مصر أولم يجد المسئولون في مصر مثالا يليق بعرض الإسلام والمرأة المسلمة للأوربيين سوى هذه الفتاة وهذه الصور.
وإنني أشكر للأخوات المسلمات في سويسرا غيرتهن ونصحهن، وأسأل الله أن يثبتهن على ذلك وأحب أن يعلمن هن وغيرهن أن ما فعله التلفزيون السويسري وغيره إنما هو جزء من الحرب الدائرة (المستمرة) بين المسلمين والكافرين وقد أخبر الله عن ذلك في كتابه الكريم حيث قال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (1) وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (2) وعندما يعمل التلفزيون السويسري النصراني هذا العمل إنما يريد به الصد عن دين الله ومنع الناس من الدخول فيه أو الاستماع إلى من يدعوهم إليه، ولكنهم بإذن الله خائبون خاسرون قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (3) . وليس العجب من جرأة أعداء الإسلام على النيل منه وتزوير الحقائق وتضليل الناس فتلك طبيعة الأعداء في حربهم للمسلمين ومحاولتهم لمنع دخول الناس في الإسلام، ولكن العجب من المسلمين وولاتهم الذين يستقبلونهم في بلدانهم ويهيئون لهم من الوسائل ما يعينهم على تحقيق مآربهم وتنفيذ مخططاتهم ولعل ما
__________
(1) سورة البقرة الآية 217
(2) سورة البقرة الآية 120
(3) سورة الصف الآية 8(6/292)
حصل من بعض المسئولين في القاهرة كشيخ الأزهر والمفتي، وغيرهما إنما كان ظنا منهم أن أولئك سيعرفون بالإسلام حقيقة، وسيقتصرون على نشر اللقاءات التي تمت معهم دون غيرها. . ومع ذلك فإنني أنصح ولاة أمور المسلمين عامة وأهل الحل والعقد فيهم خاصة من الرؤساء والأمراء والعلماء وغيرهم بأن يكونوا على حذر في معاملتهم مع أعداء الإسلام الذين يتسللون إلى صفوف المسلمين باسم الصحافة أو الاستشراق أو غيرهما وأن يكونوا متيقظين لكل مؤامراتهم ومكائدهم وأن لا يسهلوا لهم القيام بمهماتهم في بلاد المسلمين أو يتعاونوا معهم لإنجاحها، فكثيرا ما يرى النصارى وغيرهم يحملون آلات التصوير ويقصدون المناظر القديمة والمشوهة في بلاد المسلمين فيصورونها ويعلقون عليها ما يشاءون، وينشرونها في بلدانهم زاعمين أن هذه حال المسلمين وأن الإسلام يجعل أهله على تلك الصورة.
ولهذا ينبغي أن لا تستجاب طلبات أولئك إلا بعد دراستها دراسة وافية ومعرفة أبعادها ونتائجها والتأكد من خلوها مما يلحق الضرر بالإسلام والمسلمين. . وأسأل الله سبحانه أن يوفق المسلمين ورؤساءهم وأهل الحل والعقد فيهم ليكونوا دعاة إلى الله وحماة لدينه وأن يعلي كلمته وأن يخذل أعداءه ويبطل كيدهم إنه سميع مجيب. . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(6/293)
النهي عن سب القدر
الحمد لله والصلاة والسلام على من نبي بعده وبعد:
فقد اطلعت على ما نشر في جريدة الرياض العدد 4887 الصادر في 17 \ 9 \ 1401 هـ تحت زاوية (قصة اجتماعية) (بعنوان) (قسوة القدر) بقلم قماشة الإبراهيم، وقد ورد في القصة المذكورة قول الكاتبة: (إننا في هذه الحياة ليس لنا حقوق إننا أعمار يلهو بها القدر حتى يلمها فيلقي بها إلى العالم الآخر، والقدر يلهو أحيانا بدموعنا وضحكاتنا) .
وهذا الكلام مناف لكمال التوحيد وكمال الإيمان فإن القدر لا يلهو والزمن لا يعبث وأن كل ما يجري في هذه الحياة هو بتقدير الله وعلمه سبحانه هو الذي يصرف الليل والنهار وهو الذي يقدر السعادة والشقاء حسب ما تقتضيه حكمته وقد تخفى تلك الحكمة على الناس لأن علمهم(6/294)
محدود وعقولهم قاصرة عن إدراك تلك الحكمة الإلهية، وكل ما في الوجود مخلوق لله خلقه بمشيئته وقدرته، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، هو الذي يعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويعز ويذل ويغني ويفقر ويضل ويهدي ويسعد ويشقى ويؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، وقد أحسن كل شيء خلقه، وكل أفعال الخالق وأوامره ونواهيه لها حكمة بالغة وغايات محمودة يشكر عليها سبحانه وإن لم يعرفها البشر لقصور إدراكهم.
وقد ورد في الصحيحين وغيرهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار (1) » (وفي رواية) «لا تسبوا الدهر فإني أنا الدهر (2) » (وفي رواية) «لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أرسل الليل والنهار فإذا شئت قبضتهما (3) » وقد كان العرب في الجاهلية ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره فيقولون أصابتهم قوارع الدهر الدهر، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها فكان مرجع سبها إلى الله -عز وجل- إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يصفونها فنهوا عن سب الدهر وقد نقل هذا التفسير للحديث بهذا المعنى عن الشافعي وأبي عبيد وابن جرير والبغوي وغيرهم.
وأما معنى قوله (أقلب الليل والنهار) يعني أن ما يجري فيهما من خير وشر بإرادة الله وتدبيره وبعلم منه تعالى وحكمة، لا يشاركه في ذلك غيره، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالواجب عند ذلك حمده في الحالتين وحسن الظن به سبحانه وبحمده والرجوع إليه بالتوبة والإنابة قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (4) .
وقد أورد الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- بابا في كتاب التوحيد سماه (باب من سب الدهر فقد آذى الله) أورد فيه هذا الحديث وبين أنه يشتمل على عدة مسائل:
1 - النهي عن سب الدهر.
2 - تسميته أذى لله.
3 - التأمل في قوله (فإن الله هو الدهر) .
4 - أنه قد يكون سابا ولو لم يقصده بقلبه.
وعلى هذا فإن الكاتبة - سامحها الله - أخطأت عندما نسبت القسوة إلى الدهر في عنوان قصتها لأن القدر - كما سبق - لا يتصرف وإنما الله سبحانه هو المقدر للأشياء عن حكمة بالغة، والله جل وعلا لا يوصف بالقسوة بل هو جل وعلا رحيم بعباده، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها كما ورد في الحديث الصحيح «الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها (5) » فيجب أن ننزه أقلامنا عن الوقوع في
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4826) ، صحيح مسلم الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) ، سنن أبو داود الأدب (5274) ، مسند أحمد بن حنبل (2/238) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4826) ، صحيح مسلم الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) ، سنن أبو داود الأدب (5274) ، مسند أحمد بن حنبل (2/496) ، موطأ مالك الجامع (1846) .
(3) صحيح البخاري تفسير القرآن (4826) ، صحيح مسلم الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) ، سنن أبو داود الأدب (5274) ، مسند أحمد بن حنبل (2/275) ، موطأ مالك الجامع (1846) .
(4) سورة الأنبياء الآية 35
(5) صحيح البخاري الأدب (5999) ، صحيح مسلم التوبة (2754) .(6/295)
مثل هذه المزالق امتثالا لأمر الله وأمر رسوله وإكمالا للتوحيد وابتعادا عما ينافيه أو ينافي كماله، ووسائل الإعلام كما هو معروف - واسعة الانتشار وعظيمة التأثير على الناس وكثرة ترديدها لمثل هذه الكلمات ينشرها بين الناس يجعلهم يتساهلون في استعماله وخاصة النشء مع ما في استعمالها من المحذور.
نسأل الله أن يهدينا إلى الصراط المستقيم ويجنبنا زلات القلم واللسان إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(6/296)
خطر مشاركة
المرأة للرجل في ميدان عمله
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الدعوة إلى نزول المرأة للعمل في ميدان الرجال المؤدي إلى الاختلاط سواء كان ذلك على جهة التصريح أو التلويح بحجة أن ذلك من مقتضيات العصر ومتطلبات الحضارة أمر خطير جدا له تبعاته الخطيرة وثمراته المرة وعواقبه الوخيمة. رغم مصادمته للنصوص الشرعية التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها والقيام بالأعمال التي تخصها في بيتها ونحوه.
ومن أراد أن يعرف عن كثب ما جناه الاختلاط من المفاسد التي لا تحصى فلينظر إلى تلك المجتمعات التي وقعت في هذا البلاء العظيم اختيارا أو اضطرارا بإنصاف من نفسه وتجرد للحق عما عداه، يجد التذمر - على المستوى الفردي والجماعي والتحسر على انفلات المرأة من بيتها وتفكك الأسر، ويجد ذلك واضحا على لسان الكثير من الكتاب بل في جميع وسائل الإعلام وما ذلك إلا لأن هذا هدم للمجتمع ونقض لبنائه.(6/297)
والأدلة الصحيحة الصريحة الدالة على تحريم الخلوة بالأجنبية وتحريم النظر إليها وتحريم الوسائل الموصلة إلى الوقوع فيما حرم الله أدلة كثيرة قاضية بتحريم الاختلاط لأنه يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه.
وإخراج المرأة من بيتها الذي هو مملكتها ومنطلقها الحيوي في هذه الحياة إخراج لها عما تقتضيه فطرتها وطبيعتها التي جبلها الله عليها.
فالدعوة إلى نزول المرأة في الميادين التي تخص الرجال أمر خطير على المجتمع الإسلامي ومن أعظم آثاره الاختلاط الذي يعتبر من أعظم وسائل الزنا الذي يفتك بالمجتمع ويهدم قيمه وأخلاقه.
ومعلوم أن الله تبارك وتعالى جعل للمرأة تركيبا خاصا يختلف تماما عن تركيب الرجل هيأها به للقيام بالأعمال التي في داخل بيتها والأعمال التي بين بنات جنسها.
ومعنى هذا: أن اقتحام المرأة لميدان الرجال الخاص بهم يعتبر إخراجا لها عن تركيبها وطبيعتها. وفي هذا جناية كبيرة على المرأة وقضاء على معنويتها وتحطيم لشخصيتها، ويتعدى ذلك إلى أولاد الجيل من ذكور وإناث لأنهم يفقدون التربية والحنان والعطف. فالذي يقوم بهذا الدور هو الأم قد فصلت عنه وعزلت تماما عن مملكتها التي لا يمكن أن تجد الراحة والاستقرار والطمأنينة إلا فيها، وواقع المجتمعات التي تورطت في هذا أصدق شاهد على ما نقول.
والإسلام جعل لكل من الزوجين واجبات خاصة على كل منهما أن يقوم بدوره ليكتمل بذلك بناء المجتمع في داخل البيت وفي خارجه.
فالرجل يقوم بالنفقة والاكتساب، والمرأة تقوم بتربية الأولاد والعطف والحنان والرضاعة والحضانة والأعمال التي تناسبها كتعليم الصغار وإدارة مدارسهن والتطيب والتمريض لهن ونحو ذلك من الأعمال المختصة بالنساء. فترك واجبات البيت من قبل المرأة يعتبر ضياعا للبيت بمن فيه. ويترتب عليه تفكك الأسرة حسيا ومعنويا وعند ذلك يصبح المجتمع شكلا وصورة لا حقيقة ومعنى.
قال الله -جل وعلا-: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (1) فسنة الله في خلقه أن القوامة للرجل على المرأة وللرجل فضل عليها كما دلت الآية الكريمة على ذلك. وأمر الله سبحانه للمرأة بقرارها في بيتها ونهيها عن
__________
(1) سورة النساء الآية 34(6/298)
التبرج معناه النهي عن الاختلاط وهو اجتماع الرجال بالنساء الأجنبيات في مكان واحد بحكم العمل أو البيع أو الشراء أو النزهة أو السفر أو نحو ذلك، لأن اقتحام المرأة في هذا الميدان يؤدي بها إلى الوقوع في المنهي عنه وفي ذلك مخالفة لأمر الله وتضييع لحقوق الله المطلوب شرعا من المسلمة أن تقوم بها.
والكتاب والسنة دلا على تحريم الاختلاط وتحريم جميع الوسائل المؤدية إليه قال الله -جل وعلا-: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (1) {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (2) فأمر الله أمهات المؤمنين - وجميع المسلمات والمؤمنات داخلات في ذلك - بالقرار في البيوت لما في ذلك من صيانتهن وإبعادهن عن وسائل الفساد لأن الخروج لغير الحاجة قد يفضي إلى التبرج كما قد يفضي إلى شرور أخرى ثم أمرهن بالأعمال الصالحة التي تنهاهن عن الفحشاء والمنكر وذلك بإقامتهن الصلاة وإيتائهن الزكاة وطاعتهن لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-. ثم وجههن إلى ما يعود عليهن بالنفع في الدنيا والآخرة وذلك بأن يكن على اتصال دائم بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية المطهرة اللذين فيهما ما يجلو صدأ القلوب ويطهرها من الأرجاس والأنجاس ويرشد إلى الحق والصواب. وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) فأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام وهو المبلغ عن ربه - أن يقول لأزواجه وبناته وعامة نساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، وذلك يتضمن ستر باقي أجسامهم بالجلابيب وذلك إذا أردن الخروج لحاجة لئلا تحصل لهن الأذية من مرضى القلوب. فإذا كان الأمر بهذه المثابة فما بالك بنزولها إلى ميدان الرجال واختلاطها معهم وإبداء حاجتها إليهم بحكم الوظيفة والتنازل عن كثير من أنوثتها لتنزل في مستواهم وذهاب كثير من حيائها ليحصل بذلك الانسجام بين الجنسين المختلفين معنى وصورة.
قال الله -جل وعلا-: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (4) {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (5) ، إلخ الآية.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 34
(3) سورة الأحزاب الآية 59
(4) سورة النور الآية 30
(5) سورة النور الآية 31(6/299)
يأمر الله نبيه -عليه الصلاة والسلام- أن يبلغ المؤمنين والمؤمنات أن يلتزموا بغض البصر وحفظ الفرج عن الزنا ثم أوضح سبحانه أن هذا الأمر أزكى لهم. ومعلوم أن حفظ الفرج من الفاحشة إنما يكون باجتناب وسائلها ولا شك أن إطلاق البصر واختلاط النساء بالرجال والرجال بالنساء في ميادين العمل وغيرها من أعظم وسائل وقوع الفاحشة. وهذان الأمران المطلوبان من المؤمن يستحيل تحققهما منه وهو يعمل مع المرأة الأجنبية كزميلة أو مشاركة في العمل له. فاقتحامها هذا الميدان معه أو اقتحامه الميدان معها لا شك أنه من الأمور التي يستحيل معها غض البصر وإحصان الفرج والحصول على زكاة النفس وطهارتها.
وهكذا أمر الله المؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج وعدم إبداء الزينة إلا ما ظهر منها، وأمرهن الله بإسدال الخمار على الجيوب المتضمن ستر رأسها ووجهها لأن الجيب محل الرأس والوجه، فكيف يحصل غض البصر وحفظ الفرج وعدم إبداء الزينة عند نزول المرأة ميدان الرجال واختلاطها معهم في الأعمال. والاختلاط كفيل بالوقوع في هذه المحاذير. وكيف يحصل للمرأة المسلمة أن تغض بصرها وهي تسير مع الرجل الأجنبي جنبا إلى جنب بحجة أنها تشاركه في الأعمال أو تساويه في جميع ما يقوم به.
والإسلام حرم جميع الوسائل والذرائع الموصلة إلى الأمور المحرمة. وكذلك حرم الإسلام على النساء خضوعهن بالقول للرجال لكونه يفضي إلى الطمع فيهن كما في قوله -عز وجل-: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (1) يعني مرض الشهوة. فكيف يمكن التحفظ من ذلك مع الاختلاط.
ومن البديهي أنها إذا نزلت إلى ميدان الرجال لا بد أن تكلمهم وأن يكلموها، ولا بد أن ترقق لهم الكلام وأن يرققوا لها الكلام، والشيطان من وراء ذلك يزين ويحسن ويدعو إلى الفاحشة حتى يقعوا فريسة له. والله حكيم عليم حيث أمر المرأة بالحجاب وما ذاك إلا لأن الناس فيهم البر والفاجر والطاهر والعاهر، فالحجاب يمنع - بإذن الله - من الفتنة ويحجز دواعيها وتحصل به طهارة قلوب الرجال والنساء والبعد عن مظان التهمة قال الله -عز وجل-: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (2) الآية. وخير حجاب المرأة بعد حجاب وجهها وجسمها باللباس هو بيتها. وحرم عليها الإسلام مخالطة الرجال الأجانب لئلا تعرض نفسها للفتنة بطريق مباشر أو غير مباشر. وأمرها بالقرار في البيت وعدم الخروج منه إلا لحاجة مباحة
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 32
(2) سورة الأحزاب الآية 53(6/300)
مع لزوم الأدب الشرعي، وقد سمى الله مكث المرأة في بيتها قرارا وهذا المعنى من أسمى المعاني الرفيعة ففيه استقرار لنفسها وراحة لقلبها وانشراح لصدرها. فخروجها عن هذا القرار يفضي إلى اضطراب نفسها وقلق قلبها وضيق صدرها وتعريضها لما لا تحمد عقباه. ونهى الإسلام عن الخلوة بالمرأة الأجنبية على الإطلاق إلا مع ذي محرم، وعن السفر إلا مع ذي محرم؛ سدا لذريعة الفساد وإغلاقا لباب الإثم وحسما لأسباب الشر وحماية للنوعين من مكايد الشيطان، ولهذا صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (1) » وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء (2) » . وقد يتعلق بعض دعاة الاختلاط ببعض ظواهر النصوص الشرعية التي لا يدرك مغزاها ومرماها إلا من نور الله قلبه وتفقه في دين الله وضم الأدلة الشرعية بعضها إلى بعض وكانت في تصوره وحدة لا يتجزأ بعضها عن بعض. ومن ذلك خروج بعض النساء مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بعض الغزوات، والجواب عن ذلك أن خروجهن كان مع محارمهن كثيرة لا يترتب عليه ما يخشى عليهن منه من الفساد لإيمانهن وتقواهن وإشراف محارمهن عليهن وعنايتهن بالحجاب بعد نزول آيته، بخلاف حال الكثير من نساء العصر، ومعلوم أن خروج المرأة من بيتها إلى العمل يختلف تماما عن الحالة التي خرجن بها مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الغزو فقياس هذه على تلك يعتبر قياسا مع الفارق. وأيضا فما الذي فهمه السلف الصالح حول هذا، وهم لا شك أدرى بمعاني النصوص من غيرهم وأقرب إلى التطبيق العملي بكتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما هو الذي نقل عنهم على مدار الزمن، وهل وسعوا الدائرة كما ينادي دعاة الاختلاط فنقلوا ما ورد في ذلك إلى أن تعمل المرأة في كل ميدان من ميادين الحياة مع الرجال تزاحمهم ويزاحمونها وتختلط معهم ويختلطون معها، أم أنهم فهموا أن تلك قضايا معينة لا تتعداها إلى غيرها.
وإذا استعرضنا الفتوحات الإسلامية والغزوات على مدار التاريخ لم نجد هذه الظاهرة أما ما يدعى في هذا العصر من إدخالها كجندي يحمل السلاح ويقاتل كالرجال فهو لا يتعدى أن يكون وسيلة لإفساد وتذويب أخلاق الجيوش باسم الترفيه عن الجنود لأن طبيعة الرجل إذا التقت مع طبيعة المرأة كان منهما عند الخلوة ما يكون بين كل رجل وامرأة من الميل والأنس والاستراحة إلى الحديث والكلام، وبعض الشيء يجر إلى بعض، وإغلاق باب الفتنة أحكم وأحزم وأبعد من الندامة في المستقبل.
فالإسلام حريص جدا على جلب المصالح ودرء المفاسد وغلق الأبواب المؤدية إليها، ولاختلاط المرأة مع الرجل في ميدان العمل تأثير كبير في انحطاط الأمة وفساد مجتمعها كما سبق لأن المعروف تاريخيا عن الحضارات القديمة الرومانية واليونانية ونحوهما أن من أعظم أسباب الانحطاط والانهيار الواقع بها هو خروج المرأة من ميدانها الخاص إلى ميدان الرجال ومزاحمتهم مما أدى إلى فساد أخلاق الرجال وتركهم لما يدفع
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5096) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2741) ، سنن الترمذي الأدب (2780) ، سنن ابن ماجه الفتن (3998) ، مسند أحمد بن حنبل (5/210) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) ، سنن ابن ماجه الفتن (4000) ، مسند أحمد بن حنبل (3/22) .(6/301)
بأمتهم إلى الرقي المادي والمعنوي. . وانشغال المرأة خارج البيت يؤدي إلى بطالة الرجل وخسران الأمة انسجام الأسرة وانهيار صرحها وفساد أخلاق الأولاد، ويؤدي إلى الوقوع في مخالفة ما أخبر الله به في كتابه من قوامة الرجل على المرأة. وقد حرص الإسلام أن يبعد المرأة عن جميع ما يخالف طبيعتها، فمنعها من تولي الولاية العامة كرئاسة الدولة والقضاء وجميع ما فيه مسئوليات عامة لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة (1) » رواه البخاري في صحيحه. ففتح الباب لها بأن تنزل إلى ميدان الرجال يعتبر مخالفا لما يريده الإسلام من سعادتها واستقرارها. فالإسلام يمنع تجنيد المرأة في غير ميدانها الأصيل. وقد ثبت من التجارب المختلفة وخاصة في المجتمع المختلط أن الرجل والمرأة لا يتساويان فطريا ولا طبيعيا فضلا عما ورد في الكتاب والسنة واضحا جليا في اختلاف الطبيعتين والواجبين. والذين ينادون بمساواة الجنس اللطيف المنشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين بالرجل يجهلون أو يتجاهلون الفوارق الأساسية بينهما.
لقد ذكرنا من الأدلة الشرعية والواقع الملموس ما يدل على تحريم الاختلاط واشتراك المرأة في أعمال الرجال مما فيه كفاية ومقنع لطالب الحق، ولكن نظرا إلى أن بعض الناس قد يستفيدون من كلمات رجال الغرب والشرق أكثر مما يستفيدون من كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- وكلام علماء المسلمين رأينا أن ننقل لهم ما يتضمن اعتراف رجال الغرب والشرق بمضار الاختلاط ومفاسده لعلهم يقتنعون بذلك. ويعلمون أن ما جاء به دينهم العظيم من منع الاختلاط هو عين الكرامة والصيانة للنساء وحمايتهن من وسائل الإضرار بهن والانتهاك لأعراضهن.
قالت الكاتبة الإنجليزية اللادي كوك: إن الاختلاط يألفه الرجال ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها وعلى كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا وهاهنا البلاء العظيم على المرأة. إلى أن قالت علموهن الابتعاد عن الرجال، أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد.
وقال شوبنهور الألماني: قل هو الخلل العظيم في ترتيب أحوالنا الذي دعى المرأة لمشاركة الرجل في علو مجده وباذخ رفعته وسهل عليها التعالي في مطامعها الدنيئة حتى أفسدت المدنية الحديثة بقوى سلطانها ودنيء آرائها.
وقال اللورد بيرون: لو تفكرت أيها المطالع فيما كانت عليه المرأة في عهد قدماء اليونان لوجدتها في حالة مصطنعة مخالفة للطبيعة، ولرأيت معي وجوب إشغال المرأة بالأعمال المنزلية مع تحسن غذائها وملبسها فيه وضرورة حجبها عن الاختلاط بالغير. أهـ.
وقال سامويل سمايلس الإنجليزي: إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما نشأ عنه من الثروة للبلاد فإن نتيجته كانت هادمة لبناء الحياة المنزلية؛ لأنه هاجم هيكل المنزل وقوض أركان
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4425) ، سنن الترمذي الفتن (2262) ، سنن النسائي آداب القضاة (5388) ، مسند أحمد بن حنبل (5/45) .(6/302)
الأسرة ومزق الروابط الاجتماعية، فإنه يسلبه الزوجة من زوجها، والأولاد من أقاربهم، صار بنوع خاص لا نتيجة له إلا تسفيل أخلاق المرأة، إذ وظيفة المرأة الحقيقية هي القيام بالاحتياجات البيتية، ولكن المعامل تسلخها من كل هذه الواجبات بحيث أصبحت المنازل غير منازل وأضحت الأولاد تشب على عدم التربية وتلقى في زوايا الإهمال وطفئت المحبة الزوجية، وخرجت المرأة عن كونها الزوجة الظريفة والقرينة المحبة للرجل، وصارت زميلته في العمل والمشاق، وباتت معرضة للتأثيرات التي تمحو غالبا التواضع الفكري والأخلاقي الذي عليه مدار حفظ الفضيلة.
وقالت الدكتورة ايد ايلين: إن سبب الأزمات العائلية في أمريكا وسر كثرة الجرائم في المجتمع هو أن الزوجة تركت بيتها لتضاعف دخل الأسرة، فزاد الدخل وانخفض مستوى الأخلاق ثم قالت: إن التجارب أثبتت أن عودة المرأة إلى الحريم هو الطريقة الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الذي يسير فيه.
وقال أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي: إن المرأة تستطيع أن تخدم الدولة حقا إذا بقيت في البيت الذي هو كيان الأسرة.
وقال عضو آخر: إن الله عندما منح المرأة ميزة إنجاب الأولاد لم يطلب منها أن تتركهم لتعمل في الخارج بل جعل مهمتها البقاء في المنزل لرعاية هؤلاء الأطفال.
وقال شوبنهور الألماني أيضا: اتركوا للمرأة حريتها المطلقة كاملة بدون رقيب ثم قابلوني بعد عام لتروا النتيجة ولا تنسوا أنكم سترثون معي الفضيلة والعفة والأدب، وإذا مت فقولوا: أخطأ أو أصاب كبد الحقيقة. ذكر هذه النقول كلها الدكتور مصطفى حسني السباعي -رحمه الله- في كتابه المرأة بين الفقه والقانون.
ولو أردنا أن نستقصي ما قاله منصفو الغرب في مضمار الاختلاط الذي هو نتيجة نزول المرأة إلى ميدان أعمال الرجال لطال بنا المقال ولكن الإشارة المفيدة تكفي عن طول العبارة.
والخلاصة أن استقرار المرأة في بيتها والقيام بما يجب عليها من تدبيره بعد القيام بأمور دينها هو الأمر الذي يناسب طبيعتها وفطرتها وكيانها وفيه صلاحها وصلاح المجتمع وصلاح الناشئة فإن، كان عندها فضل ففي الإمكان تشغيلها في الميادين النسائية كالتعليم للنساء والتطبيب والتمريض لهن ونحو ذلك مما يكون من الأعمال النسائية في ميادين النساء كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وفيها شغل لهن شاغل وتعاون مع الرجال في أعمال المجتمع وأسباب رقيه كل في جهة اختصاصه ولا ننسى هنا دور(6/303)
أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- ومن سار في سبيلهن وما قمن به من تعليم للأمة وتوجيه وإرشاد وتبليغ عن الله سبحانه وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- فجزاهن الله عن ذلك خيرا وأكثر في المسلمين اليوم أمثالهن مع الحجاب والصيانة والبعد عن مخالطة الرجال في ميدان أعمالهم.
والله المسئول أن يبصر الجميع بواجبهم وأن يعينهم على أدائه على الوجه الذي يرضيه، وأن يقي الجميع وسائل الفتنة وعوامل الفساد ومكايد الشيطان إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(6/304)
إطلاق حرية العقار
موافق للشرع والمصلحة العامة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد اطلعت على الكلمة المنشورة في الصفحة السادسة من جريدة الندوة الصادرة بتاريخ 7 \ 11 \ 1401 هـ بعنوان (حرية العقار) فوجدتها تتضمن تحبيذ الكاتب تأجيل إطلاق حرية العقار عدة سنوات. . إلخ.
وأقول وبالله التوفيق لا شك أن هذه المسألة من المسائل الشرعية العامة التي قضى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحكم الله القاطع الذي ليس لأحد معه رأي ولا اجتهاد ولا استحسان، فالواجب على صاحب المقال وغيره تقوى الله والتعلم والامتثال لحكم الله ورسوله قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1)
__________
(1) سورة النساء الآية 65(6/305)
وقال -عز وجل-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (1) وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبته في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا (2) » فلا يحل أخذ مال امرئ مسلم بأي وجه من الوجوه إلا بحق شرعي، ومعلوم من قواعد الشرع المطهر لكل ذي علم وبصيرة أن تقييد حرية العقار بأجرة معينة أو نسبة معينة يعتبر ظلما لمالكه وأخذا لماله بغير حق ومصادمة للنصوص الشرعية ومخالفة لأمر الله ورسوله وحكما بغير ما أنزل الله واجتهادا في غير محله.
فالله -سبحانه وتعالى- هو العليم بمصالح عباده وبعواقب الأمور كلها وهو أحكم الحاكمين وأرحم بالخلق من أنفسهم، لذلك شرع لهم من الأحكام ما يصلحهم في كل زمان ومكان، أما ما ذكره صاحب المقال من المشاكل التي يتوقع حصولها بعد إطلاق حرية العقار فهذا استعجال للأمور قبل أوانها بل إن ذلك من إيحاء الشيطان وتوهيمه كما قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (3) وقال تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (4) {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (5) .
فالواجب على المسلم أن يكون قوي الثقة بربه سبحانه في جميع أحواله وأموره، حسن الظن به بعيدا عن التوهمات والتوقعات التي تثبطه عن تنفيذ أمر الله والرضى بحكمه، وأن يعتقد اعتقادا جازما أن تطبيق أحكام الشرع المطهر لا ينتج عنه إلا كل خير في العاجل والآجل بل إن الشر والضرر في عدم تطبيقها أو الإخلال بذلك.
ولقد أحسن صاحب المقال المنشور في الصفحة السادسة من جريدة عكاظ الصادرة في 11 \ 11 \ 1401 هـ بعنوان ما هي أبعاد إطلاق حرية العقار مع بداية عام 1403 هـ فجزاه الله خيرا وأكثر من أمثاله فإن الدولة وفقها الله ساهمت في حل أزمة العقار مساهمة إيجابية ظهرت آثارها لكل منصف وذلك بالعطاءات السخية من القروض ومنح الأراضي وشجعت على توفير
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(2) سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(3) سورة البقرة الآية 268
(4) سورة البقرة الآية 168
(5) سورة البقرة الآية 169(6/306)
المباني السكنية وقد استفاد الكثير من المواطنين من صندوق التنمية العقارية وبنك التسليف كما استفاد أيضا الكثير من التجار والشركات والمؤسسات في بناء الفنادق والأسواق التجارية والمشاريع السكنية وبذلك انحلت الأزمة وتوفرت المساكن والمحلات التجارية وانخفضت الأجور بشكل ظاهر، بل إن كثيرا من المساكن والمحلات مقفل بسبب نزول أسعار البيع والإيجار ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو مكابر. أما ما قد يقع من المشاكل بين المؤجر والمستأجر فالمحاكم الشرعية كفيلة بحلها والحمد لله.
وبذلك يعلم أن إطلاق حرية العقار هو الأمر المتعين شرعا وهو الموافق للمصلحة العامة والسياسة الحكيمة.
فنسأل الله أن يوفق ولاة الأمور لكل ما فيه رضاه وصلاح عباده، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا ويرزقهم التمسك بشريعته والثبات عليها إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(6/307)
التحذير من المعاملات الربوية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن سار على نهجهم واهتدى بهداهم إلى يوم الدين وبعد: -
فقد كثرت الدعايات للمساهمة في البنوك الربوية في الصحف والمجلات المحلية والأجنبية وإغراء الناس بإيداع أموالهم فيها مقابل فوائد ربوية صريحة معلنة كل بحسب الفترة الزمنية التي يبقى فيها ماله مودعا في البنك، ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن الفوائد التي يأخذها أرباب الأموال مقابل مساهمتهم أو إيداعهم في تلك البنوك حرام سحت وهي عين الربا الذي حرمه الله ورسوله، ومن كبائر الذنوب، ومما يمحق البركة ويفسد المال على صاحبه إذا خالطه، ويسبب عدم قبول عمله، وقد صح عن رسول الله أنه قال: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى:(6/308)
، وقال تعالى:، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنى يستجاب له (3) » رواه مسلم.
وليعلم كل مسلم أنه مسئول أمام ربه عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه. ففي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين جمعه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به (4) » واعلم أيها المسلم وفقك الله أن الربا كبيرة وعظيمة من كبائر الذنوب التي جاء تحريمها في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بجميع أشكاله وأنواعه ومسمياته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (5) ، وقال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} (6) ، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (7) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (8) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (9) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} (10) ، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا يا رسول الله وما هن؟ ، قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (11) » ومعنى الموبقات المهلكات، وقد عد الربا منهن. وقال -صلى الله عليه وسلم-: «الربا ثلاثة وسبعون حوبا أيسرها مثل أن يأتي الرجل أمه (12) » ، وصح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء (13) » . وقال -صلى الله عليه وسلم-: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والتمر بالتمر والشعير بالشعير والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء (14) » رواه مسلم. فهذه بعض الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- تبين تحريم الربا وخطره على الفرد
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1015) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (2/328) ، سنن الدارمي الرقاق (2717) .
(2) سورة المؤمنون الآية 51 (1) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}
(3) سورة البقرة الآية 172 (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}
(4) سنن الدارمي كتاب المقدمة (539) .
(5) سورة آل عمران الآية 130
(6) سورة الروم الآية 39
(7) سورة البقرة الآية 275
(8) سورة البقرة الآية 276
(9) سورة البقرة الآية 278
(10) سورة البقرة الآية 279
(11) صحيح البخاري الوصايا (2767) ، صحيح مسلم الإيمان (89) ، سنن النسائي الوصايا (3671) ، سنن أبو داود الوصايا (2874) .
(12) سنن ابن ماجه التجارات (2274) .
(13) صحيح مسلم المساقاة (1598) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) .
(14) صحيح البخاري البيوع (2176، 2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584، 1584، 1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240، 1241) ، سنن النسائي البيوع (4561، 4565) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4، 3/47، 3/51، 3/53) ، كتاب باقي مسند المكثرين (3/61) ، باقي مسند المكثرين (3/73، 3/81، 3/9) ، باقي مسند الأنصار (5/314) ، موطأ مالك البيوع (1324) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(6/309)
والأمة وأن من تعامل به وتعاطاه فقد أصبح محاربا لله ورسوله. فنصيحتي لكل مسلم أن يكتفي بما أباح الله ورسوله وأن يكف عما حرمه الله ورسوله. ففيما أباح الله كفاية وغنى عما حرم، وألا يغتر بكثرة بنوك الربا وانتشار معاملاتها في كل مكان، فإن كثيرا من الناس أصبح لا يهتم بأحكام الإسلام وإنما يهتم بما يدر عليه المال من أي طريق كان، وما ذلك إلا لضعف الإيمان وقلة الخوف من الله -عز وجل- وغلبة حب الدنيا على القلوب نسأل الله السلامة. وهذا الواقع المؤلم من الكثير من المسلمين يوجب على المؤسسات الخاصة والجهات الرسمية وخواص التجار بأن يتعاونوا جميعا على تعزيز المصارف الإسلامية التي بدأت تظهر في بلاد المسلمين وثبت نجاحها ولله الحمد، وأن يعمل الجميع على تحويل البنوك القائمة اليوم إلى بنوك إسلامية تكون معاملاتها متمشية مع الشريعة الإسلامية، وخالية من الربا بجميع أشكاله وصوره كما أني أوجه نصيحتي إلى المسئولين في الصحف المحلية خاصة وفي صحف البلاد الإسلامية عامة أن يطهروا صحافتهم من نشر كل ما يخالف شرع الله في أي مجال من مجالات الحياة، كما آمل من الجهات المسئولة التأكيد على رءوساء الصحف بأن لا ينشروا شيئا فيه مخالفة لدين الله وشرعه.
والله المسئول أن يوفق المسلمين عامة وولاة أمورهم خاصة للتمسك بشرعه وتحكيم شريعته وأن يأخذ بنواصيهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم وأن يجنبنا جميعا طريق المغضوب عليهم والضالين إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(6/310)
الرد على مزاعم هيئة الإذاعة البريطانية
تكذيب خبر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أما بعد.
فقد كتبت منذ أيام مقالا يتضمن جواب سؤال عن حكم الاحتفال بالموالد، وأوضحت فيه أن الاحتفال بها من البدع المحدثة في الدين، وقد نشر المقال في الصحف المحلية السعودية، وأذيع من الإذاعة، ثم علمت بعد ذلك أن إذاعة لندن نقلت عني في إذاعتها الصباحية أني أقول بأن الاحتفال بالموالد كفر فتعين علي إيضاح الحقيقة للقراء، فأقول إن ما ذكرته هيئة الإذاعة البريطانية في إذاعتها الصباحية في لندن منذ أيام عني أني أقول بأن الاحتفال بالموالد كفر كذب لا أساس له من الصحة، وكل من يطلع على مقالي يعرف ذلك وإني لآسف لإذاعة عالمية يحترمها الكثير من الناس ثم تقدم هي أو مراسلوها على الكذب الصريح، وهذا بلا شك يوجب على القراء التثبت في كل ما تنقله هذه الإذاعة خشية أن يكون كذبا كما جرى في هذا الموضوع، وأسأل الله أن يحفظنا وجميع المسلمين من الكذب ومن كل ما يغضبه سبحانه إنه جواد كريم وللحقيقة جرى نشره وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(6/311)
بسم الله الرحمن الرحيم
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (1)
الآية 257 سورة البقرة
__________
(1) سورة البقرة الآية 257(7/1)
لجنة الإشراف
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء
والدعوة والإرشاد
الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله الفالح
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن حبرين
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(7/2)
مجلة البحوث الإسلامية
رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية اسلامية تعنى بالبحوث الإسلامية
العدد السابع
1403 هـ رجب وشعبان ورمضان وشوال(7/3)
المحتويات
الافتتاحية:
1 الحركات الإسلامية ودور الشباب فيها سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
2 نواقض الإسلام سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 15
3 بحث في البيوع هيئة كبار العلماء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 19
4 الفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 107
5 الزاني المحصن - قرار رقم 84 وتاريخ 11 / 11 / 1403هـ - 136
هيئة كبار العلماء 136
6 العقيدة الصحيحة وما يضادها سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 139
7 أسئلة وأجوبة مع سماحة الرئيس العام التحرير 153(7/4)
الموضوعات
8 تبيين العجب بما ورد في فضل رجب د. عبد العزيز بن عبد الرحمن بن علي الربيعة 163
9 الحاجة إلى الرسل الشيخ مناع خليل القطان 172
10 التفسير بالأثر والرأي وأشهر الكتب فيهما د. عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله الوهيبي 200
11 الذكاة الشرعية وأحكامها د. صالح بن فوزان 238
12 حكم الشهادة تحملا وأداء د. عبد الله بن محمد الزينت 249
13 مشروعية استملاك العقار للمنفعة العامة د. عبد العزيز بن محمد العبد المنعم 259
14 رسالة الفاروق لأبي موسى الأشعري
والمبادئ العامة في أصول القضاء د. سعود بن سعد بن دريب 268
15 نظرية براءة المتهم حتى تثبت إدانته
وحظها من الاعتبار في الشريعة الإسلامية الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع 290(7/5)
صفحة فارغة(7/6)
الافتتاحية
الحركات الإسلامية ودور الشباب فيها
لسماحة
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام الأولين والآخرين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الله سبحانه وتعالى، قد جعل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم هي خاتمة الشرائع الإسلامية، ورضي الإسلام دينا لخير أمة للناس، كما بعث الرسل جميعا بدين الإسلام وجعله الدين المرضي له، دون غيره من الأديان قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) وقال سبحانه وبحمده: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) وقال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) .
فالكمال الذي هيأه الله في الشريعة الإسلامية التي بعث الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم مبعثه في هذه الشريعة، وأوامرها وتعليماتها، من تحقيق لكل ما تحتاجه النفوس وتتطلبه المجتمعات مهما جد في حياتها من مؤثرات أو ظهر من اختراعات.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سورة آل عمران الآية 85(7/7)
ذلك أن بعض ديانات الأرض اليوم المخالفة للإسلام لا يجد المتمعن في معتقداتها ما يتلاءم فكرا وعملا مع متطلبات ومظاهر حياة هذا العصر، ولا ما يريح النفوس من المؤثرات المحيطة، فنشأ لديهم رغبة بفصل الدين عن الدولة في مثل قولهم: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
لكن الموضوع في الإسلام يختلف، لأن النفوس عندما تشعر بالأزمات تنتابها وبالمشكلات تحل قريبا منها، تجد في دين الإسلام وتشريعاته الراحة والمخرج وكلما بعدت عن دين الإسلام وضعف وازع الإيمان فيها كلما كثرت الهموم في النفوس وتعددت المشكلات في المجتمع وهذا ما يسمونه في العصر الحاضر: القلق النفسي.
ولا شيء يطمئن القلوب، ويريح النفوس إلا الرجوع إلى الله وامتثال شرعه والتحلي بالصفات والأعمال التي دعا إليها دين الإسلام.
فالقرآن الكريم وهو كتاب الله المبين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا يتطرق إليه الشك لأنه منزل من حكيم حميد لا تخفى عليه خافية وهو العالم بمصالح العباد في العاجل والآجل، وكتابه الكريم هو المصدر الأول لعقيدة الإسلام وأحكامه، وهو الذي يعطي المؤمنين علاجا لقلوبهم، وإراحة لضمائرهم، بذكر الله، وتعويد اللسان على هذا العمل، {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (1) .
وفي عصرنا الحاضر، مع تداخل الشعوب، واحتكاك الأمم، وكثرة المؤثرات والمخترعات وتباين الثقافات واختلاطها بتطور وسائل الإعلام، وسرعة توصيلها للمعلومات من مكان لآخر، وتقارب البلاد من أطراف الأرض بعضها من بعض، بحيث أصبحت هموم بعضهم تؤرق البعض الآخر، نراهم يجربون حلولا مختلفة، من شعارات ومبادئ لتريح نفوسهم، وتخفف من آلام مجتمعاتهم وتحل بعضا من مشكلاتهم.
لكنها لم تجد شيئا، ولم تخفف عما داخل نفوسهم، وخلخل مجتمعاتهم، لأنها لم تكن من عند الله، ولا صادرة عن شرعه الذي شرع لعباده، وصدق الله إذ يقول موضحا مكانة القرآن الذي حفظه الله عن العبث والتغيير، ونزهه عن الخلافات
__________
(1) سورة الرعد الآية 28(7/8)
والمتناقضات: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (1) وقال سبحانه: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (2) وقال عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (3) .
نتيجة لتلك القلاقل التي نشأت في المجتمعات في كل مكان، ونشأ عنها تصرفات عجيبة من الشباب في الغرب والشرق، بعضها يضحك الثكلى، وشر البلية ما يضحك، اهتم الباحثون من رجال تلك الديار، لمعرفة الأسباب والمؤثرات، ومحاولة فرض الحلول المعينة على تلك الهواجس، فتهاووا في طرق متشعبة، وظلوا في حيرتهم يعمهون، وارتدت دراساتهم وحلولهم عليهم، خاوية الوفاض، مزجاة البضاعة، ووجدوا أن الصادمين براحة نفس، وهدوء بال، أمام هذه العواصف هم المسلمون الملتزمون بدينهم، المحافظون على شعائر ربهم، لكنهم يريدون طمس هذه الحقيقة التي لا تتفق مع منهجهم ونظرتهم نحو عقيدة الإسلام، منذ أزمان بعيدة.
ولذا نراهم يوهمون أبناء المسلمين، بأن في دينهم عيوبا، وعجزا عن مواكبة الحياة الحاضرة، وفي الحقيقة ما هذا الذي يتحدثون عنه إلا عيوب في معتقداتهم، ألصقوها بالإسلام، بعد أن عجزوا عن إيجاد حلول لها.
أما أبناء المسلمين ممن أنار الله بصائرهم، فإنهم قد ارتاحت نفوسهم بالعودة لتعاليم الإسلام، وأخذ أوامره علاجا لكل جديد وفد على مجتمعاتهم، آخذين من رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة في المنهج، ومعلما يسترشد بقوله وفعله في كل موقف، فهو يفزع إلى الصلاة كلما حزبه أمر، ويقول لبلال رضي الله عنه: «أرحنا يا بلال بالصلاة (4) » ويقول: «جعلت قرة عيني في الصلاة (5) » وهذا تحقيق لقول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (6) الآية.
وما هذه الحركات الإسلامية التي تنبع من الشباب في كل بلد إسلامي إلا
__________
(1) سورة النساء الآية 82
(2) سورة الفرقان الآية 33
(3) سورة النحل الآية 89
(4) سنن أبو داود الأدب (4985) ، مسند أحمد بن حنبل (5/371) .
(5) سنن النسائي عشرة النساء (3939) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .
(6) سورة البقرة الآية 45(7/9)
عودة جديدة لدين الإسلام الذي تريح أوامره وشرائعه النفوس، وتتجاوب مع متطلبات المجتمعات في كل عصر ومكان.
والشباب في أي أمة من الأمم، هم العمود الفقري الذي يشكل عنصر الحركة، والحيوية إذ لديهم الطاقة المنتجة، والعطاء المتجدد، ولم تنهض أمة من الأمم غالبا إلا على أكتاف شبابها، الواعي، وحماسته المتجددة.
إلا أن اندفاع الشباب لا بد أن تسايره حكمة من الشيوخ، ونظرة من تجاربهم وأفكارهم ولا يستغنى أحد الطرفين عن الآخر.
وإن أمة الإسلام، وهي أمة الرسالة الباقية، وذات الصدارة بين الأمم، عندما أكرمها الله بهذا الدين، وببعثة سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، كان للشباب مكان بارز في ركب الدعوة المباركة، كما كان للشيوخ مكان الصدارة في التوجيه والمؤازرة.
وانطلق الجميع بقيادة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، يؤسسون دولة الإسلام الأولى والتي امتدت إلى آفاق بعيدة، ورفرفت راية الإسلام عالية فوق غالب المعمورة، في عصور الإسلام المختلفة التي كان الشباب في الطليعة يذودون عن حياض الإسلام، ويدافعون عن ديار المسلمين، باليد واللسان، علما وعملا.
ففي الوقت الذي كانوا يتقدمون فيه صفوف الجهاد لإعلاء كلمة الله كانوا أيضا يتزاحمون بالمناكب في حلقات العلماء وجلسات الشيوخ، يلتقطون الحكمة من أفواههم، ويستنيرون بما عندهم من علوم، ويتلقون منهم النصح والإرشاد، ويستفيدون من ثمرة جهودهم وتجربتهم لمناهج الحياة المقرونة بالتطبيق العملي للإسلام وشرائعه.
وكان من الشباب القادة لألوية الجهاد، والمندفعون لتبليغ دين الله، والذين سارت الجيوش الإسلامية تحت ألويتهم، وحقق الله النصر المؤزر على أيديهم، وتاريخنا الإسلامي حافل بالشباب المجاهد العامل والشيوخ المجربين المجاهدين، -رحمهم الله-.
ولقد استمر الشباب المسلم في عطاء الخير المتجدد في الحروب الصليبية في الشام والأندلس وغيرها من المواقف التي يتصادم فيها الحق بالباطل حتى اليوم، فغاظت(7/10)
تلك الحماسة أعداء الإسلام، حيث سعوا إلى وضع العراقيل في طريقهم، أو تشريع اتجاههم، إما بفصلهم عن دينهم أو إيجاد هوة سحيقة بينهم وبين أولي العلم، والرأي الصائب في أمتهم، أو بإلصاق الألقاب المنفرة منهم، أو وصفهم بصفات ونعوت غير صحيحة، وتشويه سمعة من أنار الله بصائرهم في مجتمعاتهم، أو بتأليب بعض الحكومات عليهم.
كل هذا قد يؤدي بالتالي إلى ظهور حركات تتسم بطابع الوقوف من المجتمع والقيادات، موقفا قاسيا ومضادا، قد يصل إلى نوع من المواجهة، في بعض الأحيان، أو العمل السري الذي قد يخالطه ما يشينه، أو يغير مجراه الطبيعي. وإلى جانب هذا يرى في العالم بأسره حركات إسلامية، قد ظهرت على السطح، وبعضها في أمريكا وأوروبا، تتفهم الإسلام، وتدعو إليه، وترى فيه العلاج لما في العالم من قلق ومشكلات أهمها جنوح الشباب، والمؤثرات فيهم.
هذه الحركات كان للشباب فيها دور كبير، وأفعال مؤثرة، تدعو للتبصير والمؤازرة، إلا أن بعضها وخاصة في بعض الدول الإسلامية قد تعرض للكبت والمضايقة والاضطهاد والملاحقة. وبعضها استمر في أداء الدور الذي تنادي به تعاليم الإسلام في سبيل الدعوة والاهتمام بتبصير المسلمين عما جد في حياتهم، ولا يسير وفق منهج الإسلام.
وقد كان لهذا النوع، وما زال أثر طيب بحمد الله في إصلاح أوساط الشباب، وإقامة كثير من المجتمعات على جادة الحق والهدى، في داخل العالم الإسلامي وخارجه عن طريق الكتاب الإسلامي، والمنبر والمحاضرات، والمخيمات والمعسكرات الإسلامية التي يلتقي المسلمون فيها من عدة أقطار، فيتذكرون علوم دينهم، ومشكلات مجتمعهم، ويتفهمون الواقع من حولهم ويعملون بقول الله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (1) .
ثم يحرصون على تنظيم أوقات الفراغ في العمل المثمر وبعد أن استغل الغربيون
__________
(1) سورة التوبة الآية 122(7/11)
والشرقيون هذا الفراغ في أعمال مختلفة، لم تحقق النتيجة المرغوبة لامتصاص طاقة الشباب، وتوجيههم.
إن دور الشباب المسلم الذي يسير وفق تعاليم دين الإسلام، دور عظيم في إصلاح النفوس وتوجيه المجتمع والمحافظة على سلامته وأمنه، لا ينكره إلا أعداء الإسلام، الذين يدركون مكانة الإسلام، وسموه في استجلاب من يرغب منصفا في طريق العدالة، والأخلاق الكريمة والاستقامة والتوازن، في البيئة، والأمن والاستقرار في المجتمع.
وإن من أهم ما يجب ملاحظته، ونحن نتحدث عن دور الشباب في الحركات الإسلامية قديما وحديثا ما يلي:
1 - العناية بالشباب منذ نعومة أظفارهم، وذلك بتوجيههم الوجهة الإسلامية، والاهتمام بمناهجهم التعليمية، وإبعاد المؤثرات الضارة على أخلاقهم، والعمل على ربطهم بدينهم وبكتاب ربهم، وسنة نبيهم، وأن يعنى العلماء ورجال الفكر الإسلامي باحتضانهم وتقبل آرائهم واستفساراتهم، وإرشادهم إلى طريق الحق والصواب، بالحكمة والموعظة الحسنة لاستعدادهم لتقبل التوجيه، من منطلق الرأي الصائب، الذي يحدده الإسلام، ويحث عليه.
2 - الحرص على إيجاد القدوة الحسنة من المدرس، وفي المدرسة والبيت، والنادي والشارع وفي أسلوب التعامل. وعدم وجود المظاهر المنافية للإسلام، والتي قد تحدث لديهم شيئا من الشك والريبة أو التردد في القبول، أو اعتزال المجتمع، والشكوك فيه، بدعوى أنه مجتمع غير مطبق للإسلام يقول أبناؤه بخلاف ما يعملون.
وبهذا كله يحصل الانفصال، وتحدث التصرفات المتسرعة غير المنضبطة، والتي تكون نتائجها غير سليمة على الفرد والمجتمع، وعلى العمل الإسلامي ولا تعود بالفائدة المرجوة على الشباب أنفسهم.
3 - عقد لقاءات مستمرة مع الشباب، يلتقي فيها ولاة الأمر والعلماء والمسئولون في البلاد الإسلامية بالشباب تطرح فيها الآراء والأفكار وتدرس المشكلات دراسة(7/12)
متأنية وتعالج فيها القضايا والمسائل التي تحتاج إلى جواب فاصل، فيما عرض حتى لا تتسرب الظنون الخاطئة وتتباعد الأفكار، وينحرف العمل الإسلامي الذي يتحمس له هؤلاء الشباب، لغير الدرب الحقيقي، والمنطلق الذي رسمته تعاليمه.
وتتم هذه اللقاءات في جو من الانفتاح لإبداء الرأي المتسم بالأخوة والمحبة والثقة المتبادلة بعيدا عن التعصب للرأي، أو التسفيه للآراء، أو تجهيل الآخرين.
إن الشباب بتوجيههم ورعايتهم، مثل النبتة إذا أحسن الزارع رعايتها نمت وأثمرت، وإذا أهملت تعثر نموها وفقد الثمر منها مستقبلا.
والشباب فيه طاقة حيوية، يحسن الاستفادة منها وتنميتها، وأسلم منهج في الحياة يربط الشباب بدينه وعلمائه وأمته وبلاده، هو منهج الإسلام: فكلما ابتعد الشباب عن منهج دينهم الواضح، وسلكوا طريق الغلو أو الجفاء، أو التشدد والانعزال فإن النتائج ستكون وخيمة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإن مسئولية ولاة الأمور: من قادة وعلماء ومفكرين، مسئولية عظيمة، في الأخذ بأيديهم ورعايتهم وتوجيههم نحو منهج الإسلام، وتوضيحه لهم، ليأخذوه، منهجا وسلوكا، وليسيروا وفق تعاليم شريعته، قدوة وتطبيقا.
وهذا من أوجب الأمور، وألزم الواجبات وهو من باب النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم الذي به يكتمل الإيمان، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
كما أن ترك الشباب عرضة للأفكار الهدامة، والتصورات الخاطئة وعدم الأخذ بيده، وتفهم آرائه وأفكاره، والإجابة عن كل تساؤلاته، وإيضاح الرأي الصحيح أمامه، ليتجنب كل ما يضر ويسلك ما ينفع، كما فعل سلفنا الصالح رضوان الله عليهم وفي عصور التاريخ المختلفة حيث لم يحدث ردود فعل ذات خطر على الفرد والجماعة.
فليتعاون ولاة الأمور كبارا وصغارا، علماء ومتعلمين، مفكرين ومسئولين، مع الشباب في البيوت والمدارس، في المجتمعات والجامعات، كل هؤلاء يتعاونون على إرشاد الشباب وتوجيهه، وتهيئة الأجواء السليمة التي يبدع فيها، في ظل العقيدة(7/13)
الإسلامية السمحة وتفكير الإسلام الصائب.
والله نسأل أن يوفق أمة الإسلام شيبا وشبابا، قادة وشعوبا، إلى العمل بما يرضي الله توجيها وتبصيرا وعملا واقتداءا، وأن يصلح القلوب والأعمال، وأن يهدي الجميع صراطه المستقيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(7/14)
نواقض الإسلام
لسماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فاعلم أيها الأخ المسلم أن الله سبحانه أوجب على جميع العباد الدخول في الإسلام والتمسك به والحذر مما يخالفه وبعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم للدعوة إلى ذلك، وأخبر عز وجل أن من اتبعه فقد اهتدى ومن أعرض عنه فقد ضل، وحذر في آيات كثيرات من أسباب الردة وسائر أنواع الشرك والكفر، وذكر العلماء -رحمهم الله- في باب حكم المرتد أن المسلم قد يرتد عن دينه بأنواع كثيرة من النواقض التي تحل دمه وماله ويكون بها خارجا من الإسلام ومن أخطرها وأكثرها وقوعا عشرة نواقض (1) نذكرها لك فيما يلي على سبيل الإيجاز لتحذرها وتحذر منها غيرك رجاء السلامة والعافية منها مع توضيحات قليلة نذكرها بعدها.
__________
(1) ذكرها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب وغيره من أهل العلم رحمهم الله جميعا.(7/15)
الأول من النواقض العشرة: الشرك في عبادة الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (2) ومن ذلك دعاء الأموات والاستغاثة بهم والنذر والذبح لهم.
الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم فقد كفر إجماعا.
الثالث: من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر.
الرابع: من اعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر.
الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به فقد كفر لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (3) .
السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو ثوابه أو عقابه كفر والدليل قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (4) {لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (5) .
السابع: السحر ومنه الصرف والعطف فمن فعله أو رضي به كفر والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} (6) .
__________
(1) سورة النساء الآية 116
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) سورة محمد الآية 9
(4) سورة التوبة الآية 65
(5) سورة التوبة الآية 66
(6) سورة البقرة الآية 102(7/16)
الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1) .
التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) .
العاشر: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به والدليل قول تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (3) .
ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره وبما أنها من أعظم ما يكون خطرا وأكثر ما يكون وقوعا فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه، وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ويدخل في القسم الرابع من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين أو أنه كان سببا في تخلف المسلمين أو أنه يحصر في علاقة المرء بربه دون أن يتدخل في شئون الحياة الأخرى، ويدخل في الرابع أيضا من يرى أن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق أو رجم الزاني المحصن لا يناسب العصر الحديث، ويدخل في ذلك أيضا كل من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات أو الحدود أو غيرهما وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة لأنه بذلك يكون قد استباح ما حرم الله
__________
(1) سورة المائدة الآية 51
(2) سورة آل عمران الآية 85
(3) سورة السجدة الآية 22(7/17)
إجماعا وكل من استباح ما حرم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة كالزنا والخمر والربا والحكم بغير شريعة الله فهو كافر بإجماع المسلمين.
ونسأل الله أن يوفقنا جميعا لما يرضيه وأن يهدينا وجميع المسلمين صراطه المستقيم إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن باز(7/18)
موضوع العدد
بحث في البيوع
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
هيئة كبار العلماء(7/19)
البيوع
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه وبعد.
فبناء على ما جاء في الأمر السامي رقم 30891 في 20 \ 12 \ 1396هـ. من الرغبة في دراسة مجلس هيئة كبار العلماء للمعاملات التي يستغلها بعض التجار في المداينات لحصولهم على مكاسب مالية بطرق ملتوية لا تتفق ومبدأ المعاملات الشرعية في البيع والاقتراض والنظر فيما إذا كان بالإمكان إيجاد بديل للحد من جشع أمثال هؤلاء واستغلالهم للمحتاجين من الناس وبناء على ما قرره المجلس في دورته العاشرة من إعداد بحث في هذا الموضوع فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في أنواع من البيوع التي يستعملها كثير من(7/20)
الناس وهي قد تؤدي إلى الوقوع في الربا المحرم وهي:
* بيع العينة والتورق.
* بيع دين السلم.
* بيع بيعتين في بيعة.
* بيع المضطر.
* بيع الإنسان ما ليس عنده وبيعه ما اشتراه قبل قبضه.
بيان ما يمكن القضاء به على جشع التجار الذين يحتالون بأنواع من البيوع المحرمة على استغلال حاجة المضطرين.
وفيما يلي الكلام على كل منها: والله الموفق. . .
أولا:
الأصل في المعاملات الإباحة حتى يثبت من أدلة الشرع ما يخرجها عن هذا الأصل.
ثانيا:
من القواعد الفقهية العامة المتفق عليها أن الأمور تعتبر بمقاصدها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات (1) » . . . " الحديث، وعلى هذا يجب سد ذرائع الشر والفساد، وإبطال الحيل التي يتوسل بها إلى تحليل المحرمات، وإباحة المنكرات.
ثالثا: الأصل في المعاوضات المالية التقابض ويجب ذلك فيما إذا كان العوضان ربويين ولو اختلفا صنفا لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(7/21)
والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (1) » رواه أحمد ومسلم، غير أن الدليل من القرآن والسنة القولية والعملية قد دل على جواز تأجيل أحد العوضين في الجملة إذا كان الثمن ذهبا أو فضة وكان الآخر طعاما أو عقارا أو عروضا أخرى أو كان كل من العوضين أو أحدهما غير ربوي، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) } الآيتين، وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (3) » رواه الجماعة. وعن أنس رضي الله عنه قال: «رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعا عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا لأهله (4) » ، رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه. وعن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاما من يهودي إلى أجل ورهنه درعا من حديد، (5) » وفي لفظ: «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير، (6) » رواهما البخاري ومسلم.
لكن من ضعف في نفسه الوازع الديني، وأصيب بداء الجشع من التجار ومن في حكمهم قد يتبايعون بيوعا صورية يحاولون بها إحلال ما حرم الله من الربا، وقد ينتهزون فرص الحاجة أو الضرورة فيبيعون بأسعار باهظة إلى أجل أو يشترون بضاعة مؤجلة بثمن بخس منقود إلى غير ذلك مما فيه تحكم الموسر بالمعسر، واستغلال ظروف حاجة الضعفاء والمضطرين فاقتضى ذلك بحث أنواع من عقود البيع لبيان ما يجوز منها وما يمتنع أو تحوم حوله الريبة وتبصير الناس بذلك وبعث الوعي فيهم والنصح لهم ثم إيجاد الحلول الناجحة لكف عبث العابثين والقضاء على حيل المحتالين للتلاعب بالشريعة والإضرار بالناس وأكل أموالهم بالباطل.
ومن البيوع التي قد يدخلها انتهاز الفرص والاستغلال ويتأتى فيها التمويه والاحتيال بيوع الآجال والعينة والتورق وبيع المسلم فيه وبيع المضطر وبيع بيعتين
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) صحيح البخاري السلم (2239) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن الترمذي البيوع (1311) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/217) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2069) ، سنن الترمذي البيوع (1215) ، سنن النسائي البيوع (4610) ، مسند أحمد بن حنبل (3/238) .
(5) صحيح البخاري البيوع (2068) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .
(6) صحيح البخاري الجهاد والسير (2916) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .(7/22)
في بيعة وبيع الإنسان ما ليس عنده بيع ما اشتراه قبل قبضه وفيما يلي تحديد معنى كل منها وذكر آراء الفقهاء في حكمه مع التوجيه والمناقشة وبيان ما قد يدخله من احتيال يغير حكمه.(7/23)
العينة والتورق:
تعريف العينة والتورق لغة وشرعا:
* العينة: بكسر العين المهملة ثم ياء تحتية ساكنة ثم نون قال الجوهري العينة بالكسر السلف، وقال في القاموس وعين أخذ بالعينة بالكسر أي السلف أو أعطى بها، قال: والتاجر باع سلعته بثمن إلى أجل ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن اهـ.
* قال الرافعي: وبيع العينة هو أن يبيع شيئا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر اهـ.
* قال ابن رسلان: في شرح السنن وسميت هذه المبايعة عينة لحصول النقد لصاحب العينة لأن العين هو المال الحاضر والمشتري إنما يشتري بها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره ليصل بها إلى مقصوده اهـ. من نيل الأوطار.
* وأما التورق فقال صاحب القاموس:
وتورقت الناقة أكلت الورق وما زلت منك موارقا مدانيا والتجارة مورقة للمال كمجلبة مكثرة.(7/23)
ويأتي زيادة بيان لذلك فيما نقل من آراء الفقهاء في الفقرة الثانية إن شاء الله.(7/24)
آراء الفقهاء في حكم العينة والتورق مع التوجيه والمناقشة:
أقال صاحب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع في الكلام على ما حرم احتياطا لما فيه من شبهة الربا، لحديث «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات (1) » . . . " وحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2) » .
قال وعلى هذا يخرج ما إذا باع رجل شيئا نقدا أو نسيئة وقبضه المشتري ولم ينقد ثمنه أنه لا يجوز لبائعه أن يشتريه من مشتريه بأقل من ثمنه الذي باعه منه عندنا، وعند الشافعي رحمه الله يجوز.
وجه قوله أن هذا بيع استجمع شرائط جوازه وخلا عن الشروط المفسدة إياه فلا معنى للحكم بفساده كما إذا اشتراه بعد نقد الثمن.
ولنا: ما روي أن امرأة جاءت إلى سيدتنا عائشة رضي الله عنها وقالت: إني ابتعت خادما من زيد بن أرقم بثمانمائة ثم بعتها منه بستمائة، فقالت سيدتنا عائشة رضي الله عنها: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت أبلغي زيدا أن الله تعالى قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب.
* ووجه الاستدلال به من وجهين:
أحدهما: أنها ألحقت بزيد وعيدا لا يوقف عليه بالرأي وهو بطلان الطاعة بما سوى الردة فالظاهر أنها قالته سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يلتحق الوعيد إلا بمباشرة المعصية فدل على فساد البيع لأن البيع الفاسد معصية.
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .(7/24)
والثاني: أنها رضي الله عنها سمت ذلك بيع سوء وشراء سوء والفاسد هو الذي يوصف بذلك لا الصحيح، ولأن في هذا البيع شبهة الربا، لأن الثمن الثاني يصير قصاصا بالثمن الأول فبقي من الثمن الأول زيادة لا يقابلها عوض في عقد المعاوضة. وهو تفسير الربا إلا أن الزيادة ثبتت بمجموع العقدين فكان الثابت بأحدهما شبهة الربا والشبهة في هذا الباب ملحقة بالحقيقية، بخلاف ما إذا نقد الثمن لأن المقاصة لا تتحقق بعد الثمن فلا تتمكن الشبهة بالعقد. ولو نقد الثمن كله إلا شيئا قليلا فهو على الخلاف.
ولو اشترى ما باع بمثل ما باع قبل نقد الثمن جاز بالإجماع لانعدام الشبهة وكذا لو اشتراه بأكثر مما باع قبل نقد الثمن، ولأن فساد العقد معدول به عن القياس وإنما عرفناه بالأثر، والأثر جاء في الشراء بأقل من الثمن الأول فبقي ما وراءه على أصل القياس.
هذا إذا اشتراه بجنس الثمن الأول فإن اشتراه بخلاف الجنس جاز؛ لأن الربا لا يتحقق عند اختلاف الجنس إلا في الدراهم والدنانير خاصة استحسانا، والقياس أن لا يجوز (1) لأنهما جنسان مختلفان حقيقة فالتحقا بسائر الأجناس المختلفة.
وجه الاستحسان أنهما في الثمنية كجنس واحد فيتحقق الربا بمجموع العقدين فكان في العقد الثاني شبهة الربا وهي الربا من وجه. ولو تعيب المبيع في يد المشتري فباعه من بائعه بأقل مما باعه جاز، لأن نقصان الثمن يكون بمقابلة نقصان العيب فيلتحق النقصان بالعدم كأنه باعه بمثل ما اشتراه فلا تتحقق شبهة الربا.
* قال صاحب بداية المبتدى علي بن أبي بكر:
ومن اشترى جارية بألف درهم حالة أو نسيئة فقبضها ثم باعها من البائع بخمسمائة قبل أن ينقد الثمن الأول لا يجوز البيع الثاني.
وقال الشافعي رحمه الله: يجوز لأن الملك قد تم فيها القبض فصار البيع من
__________
(1) هكذا بالأصل، والصواب: والقياس أن يجوز.(7/25)
البائع ومن غيره سواء وصار كما لو باعه بمثل الثمن الأول أو بالزيادة أو بالعرض.
ولنا قول عائشة رضي الله عنها: لتلك المرأة وقد باعت بستمائة بعد ما اشترت بثمانمائة بئسما شريت واشتريت، أبلغي زيدا بن أرقم أن الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب، ولأن الثمن لم يدخل في ضمانه فإذا وصل إليه المبيع ووقعت المقاصة بقي له فضل خمسمائة ذلك بلا عوض، بخلاف ما إذا باع بالعرض لأن الفضل إنما يظهر عند المجانسة.
* وقال ابن الهمام في شرح فتح القدير:
قوله: ومن باع جارية بألف درهم حالة أو نسيئة فقبضها ثم باعها من البائع قبل نقد الثمن بمثل الثمن أو أكثر جاز، وإن باعها من البائع بأقل لا يجوز عندنا، وكذا لو اشترى عبده أو مكاتبه ولو اشترى ولده أو والده أو زوجته فكذلك عنده، وعندهما يجوز لتباين الأملاك وكان كما لو اشتراه آخر وهو يقول كل منهم بمنزلة الآخر ولذا لا تقبل شهادة أحدهما للآخر ولو اشترى وكيل البائع بأقل من الثمن الأول جاز عنده خلافا لهما. لأن تصرف الوكيل عنده يقع لنفسه فلذا يجوز للمسلم أن يوكل ذميا بشراء خمر وبيعها عنده ولكن ينتقل الملك إلى الموكل حكما فكان كما لو اشترى لنفسه فمات فورثه البائع، وعندهما عقد الوكيل كعقده.
ولو اشتراه وارثه يجوز في ظاهر الرواية عنهم. وعن أبي يوسف لا يجوز. ولو باعه المشتري من رجل أو وهبه ثم اشتراه البائع من ذلك الرجل يجوز لاختلاف الأسباب بلا شبهة، وبه تختلف المسببات وبقولنا قال مالك وأحمد: وقيد بقوله قبل نقد الثمن لأن ما بعده يجوز بالإجماع بأقل من الثمن وكذا لو باعه بعرض قيمته أقل من الثمن (وقال الشافعي رحمه الله: يجوز) كيفما كان كما لو باعه من غير البائع بأقل من الثمن أو منه بمثل الثمن الأول أو أكثر وبعرض قيمته أقل من الثمن بجامع قيام الملك فيه لأنه هو المطلق في الأصول التي عينها وتقييده بالعرض دون أن يقول كما لو باعه بخلاف جنسه وقيمته أقل. لأنه لو باعه بذهب قيمته أقل من الدراهم، فالثمن لا يجوز عندنا استحسانا(7/26)
خلافا لزفر. وقياسه على العرض بجامع أنه خلاف جنسه فإن الذهب جنس آخر بالنسبة إلى الدراهم، وجه الاستحسان أنهما جنس واحد من حيث كونهما ثمنا ومن حيث وجب ضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة فبطل البيع احتياطا وألزم أن اعتبارهما جنسا واحدا يوجب التفاضل بينهما احتياطا، والجواب أنه مقتضى الوجه ذلك ولكن في التفاضل عند بيع أحدهما بعين الآخر إجماع (ولنا قول عائشة) إلى آخر ما نقله المصنف عن عائشة يفيد أن المرأة هي التي باعت زيدا بعد أن اشترت منه وحصل له الربح لأن شريت معناه بعت قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} (1) أي باعوه وهو رواية أبي حنيفة فإنه روى في مسنده عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأة أبي السفر "أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها: إن زيد بن أرقم باعني جارية بثمانمائة درهم ثم اشتراها مني بستمائة، فقالت أبلغيه عني أن الله أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب" ففي هذا أن الذي باع زيد ثم استرد وحصل الربح له. ولكن رواية غير أبي حنيفة من أئمة الحديث عكسه.
روى الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم. فقالت أم ولد زيد لعائشة: إني بعت من زيد غلاما بثمانمائة درهم نسيئة واشتريته بستمائة نقدا، فقالت أبلغي زيدا أن قد أبطلت جهادك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن تتوب بئس ما اشتريت وبئس ما شريت، وهذا فيه أن الذي حصل له الربح هي المرأة قال ابن عبد الهادي في التنقيح: هذا إسناد جيد وإن كان الشافعي قال: لا يثبت مثله عن عائشة. وقول الدارقطني في العالية: هي مجهولة لا يحتج بها، فيه نظر فقد خالفه غير واحد ولولا أن عند أم المؤمنين علما من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا الكلام بالاجتهاد. وقال غيره: هذا مما لا يدرك بالرأي. والمراد بالعالية امرأة أبي إسحاق السبيعي التي ذكر أنها دخلت مع أم الولد على عائشة.
قال ابن الجوزي: قالوا: إن العالية امرأة مجهولة لا يحتج بنقل خبرها. قلنا
__________
(1) سورة يوسف الآية 20(7/27)
هي امرأة جليلة القدر ذكرها ابن سعد في الطبقات فقال: العالية بنت أنفع بن شرحبيل امرأة أبي إسحاق السبيعي سمعت عن عائشة. وقولها بئس ما شريت: أي بعت، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} (1) أي باعوه. وإنما ذمت العقد الأول لأنه وسيلة وذمت الثاني لأن مقصوده الفساد. وروى هذا الحديث على هذا النحو عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر والثوري عن أبي إسحاق عن امرأته أنها دخلت على عائشة في نسوة فسألتها امرأة فقالت: كانت لي جارية فبعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة إلى العطاء ثم ابتعتها منه بستمائة فنقدته الستمائة وكتب لي عليه ثمانمائة، فقالت عائشة: إلى قولها إلا أن تتوب، وزاد: فقالت المرأة لعائشة: أرأيت إن أخذت رأس مالي ورددت عليه الفضل؟ فقال: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (2) لا يقال إن قول عائشة وردها لجهالة الأجل وهو البيع إلى العطاء. فإن عائشة كانت ترى جواز الأجل إلى العطاء ذكره في الأسرار وغيره.
والذي عقل من معنى النهي أنه استربح ما ليس في ضمانه. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن. وهذا لأن الثمن لا يدخل في ضمانه قبل القبض. فإذا عاد إليه الملك الذي زال عنه بعينه وبقي له بعض الثمن فهو ربح حصل لا على ضمانه من جهة من باعه وهذا لا يوجد فيما إذا اشتراه بمثل الثمن أو أكثر فبطل إلحاق الشافعي بذلك. بخلاف ما لو باعه المشتري من غير البائع فاشتراه البائع منه لأن اختلاف الأسباب يوجب اختلاف الأعيان حكما، وكذا لو دخل في البيع عيب فاشتراه البائع بأقل لأن الملك لم يعد إليه بالصفة التي خرج بها فلا يتحقق ربح ما لم يضمن. بل يجعل النقصان بمقابلة الجزء الذي احتبس عند المشتري سواء كان ذلك النقصان بقدر ذلك العيب أو دونه. حتى لو كان النقصان نقصان سعر فهو غير معتبر في العقود؛ لأنه فتور في رغبات الناس فيه ليس من فوات جزء من العين ولذلك إذا اشتراه بجنس آخر غير الثمن جاز لأن الربح لا يتحقق عينه مع اختلاف الجنس لأن الفضل إنما يظهر بالتقويم والبيع لا يعقب ذلك بخلافه بجنس الثمن الأول لظهوره بلا تقويم وقد أورد عليه تجويز كون إنكار عائشة لوقوع البيع الثاني قبل قبض المبيع إذ القبض لم يذكر في الحديث. قلنا: لا يصح هذا لأنها ذمته
__________
(1) سورة يوسف الآية 20
(2) سورة البقرة الآية 275(7/28)
لأجل الربا بقرينة تلاوة آية الربا وليس في البيع قبل القبض ربا. ولا يخفى ضعف هذا الجواب لأن تلاوة الآية ظاهرة في كونها لاشتمالها على قبول التوبة جوابا لقول المرأة: أرأيت إن أخذت رأس مالي ورددت عليه الفضل. كان هذا مع التوبة فتلت آية ظاهرة في قبول التوبة وإن كان سوقها في القرآن في الربا.
وأورد عليه طلب الفرق بين النهي أجيب بأن النهي إذا كان لأمر يرجع إلى نفس البيع أوجبه وإن كان لأمر خارج لا. والنهي فيما ذكر للتفريق لا لنفس البيع حتى لو فرق بينهما بغير البيع أثم، فيكره البيع في نفسه كالبيع وقت النداء وهنا هو لشبهة الربا وهو مخصوص بالبيع ولشبهة الربا حكم حقيقة.
ب قال صاحب مواهب الجليل لشرح مختصر خليل الحطاب:(7/29)
(فصل)
(جاز لمطلوب منه سلعة أن يشتريها ليبيعها بمال) لما فرغ رحمه الله من الكلام على بيوع الآجال التي لا تخص أحدا عقبها ببيع أهل العينة لاتهام بعض الناس فيها وهذا الفصل يعرف عند أصحابنا ببيع أهل العينة، والعينة بكسر العين وهو فعلة من العون؛ لأن البائع يستعين بالمشتري على تحصيل مقاصده، وقيل من العناء وهو تجشم المشقة، وقال عياض في كتاب الصرف: سميت بذلك لحصول العين وهو النقد لبائعها وقد باعها لتأخير، وقال قبله: هو أن يبيع الرجل الرجل السلعة بثمن معلوم إلى أجل ثم يشتريها منه بأقل من ذلك الثمن أو يشتريها بحضرته من أجنبي ليبيعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراها به إلى أجل ثم يبيعها هذا المشتري الأخير من البائع الأول نقدا بأقل مما اشتراها به. وخفف هذا الوجه بعضهم ورآه أخف من الأول، وقال ابن عرفة: بيع أهل العينة هو البيع المتحيل به على دفع عين في أكثر منها اهـ. وقسم ابن رشد (في رسم حلف أن لا يبيع من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال أو في سماع سحنون من كتاب البضائع والوكالات وفي كتاب بيوع الآجال من المقدمات) العينة إلى ثلاثة أقسام جائز ومكروه وممنوع وجعلها صاحب التنبيهات في كتاب(7/29)
الصرف أربعة أقسام وزاد وجها رابعا مختلفا فيه. وتبعهم المصنف فأشار إلى الجائز بقوله جاز لمطلوب منه سلعة أن يشتريها ليبيعها بمال وفي النسخ بنماء أي بزيادة وهو أحسن فإن هذا هو المقصود من العينة.
قال في المقدمات: الجائز أن يمر الرجل إلى رجل منهم يعني من أهل العينة فيقول: هل عندك سلعة كذا وكذا وكذا أبتاعها منك وفي البيان تبيعها مني بدين فيقول: لا، فينقلب عنه على غير مراوضة ولا مواعدة فيشتري المسئول تلك السلعة التي سأله عنها ثم يلقاه فيخبره أنه اشترى السلعة التي سأله عنها فيبيعها منه، قال في المقدمات: بما شاء من نقد أو نسيئة، وقال في كتاب البضائع والوكالات: فيبيع ذلك منه بدين وقال في التنبيهات: الجائز لمن لم يتواعدا على شيء ولا يتراوض مع المشتري كالرجل يقول للرجل أعندك سلعة كذا؟ فيقول: لا، فينقلب على غير مواعدة ويشتريها ثم يلقاه صاحبه فيقول: تلك السلعة عندي فهذا جائز أن يبيعها منه بما شاء من نقد وكالئ ونحوه لمطرف.
قال ابن حبيب: ما لم يكن تعريض أو مواعدة أو عادة قال وكذلك ما اشتراه الرجل لنفسه يعده لمن يشتريه منه بنقد أو كالئ ولا يواعد في ذلك أحدا يشتريه منه ولا يبيعه له وكذلك الرجل يشتري السلعة لحاجة ثم يبدو له فيبيعها أو يبيع دار سكناه ثم تشق عليه النقلة منها فيشتريها أو الجارية ثم تتبعها نفسه فهؤلاء أما استقالوا أو زادوا في الثمن فلا بأس به، وذكر ابن مزين: لو كان مشتري السلعة يريد بيعها ساعتئذ فلا خير فيه، ولا ينظر إلى البائع كان من أهل العينة أم لا. قال: فيلحق هذا الوجه بهذه الصورة على قوله بالمكروه اهـ، فيكون على ما ذكره عياض هذا الوجه مختلفا فيه والمشهور أنه جائز. وقول ابن مزين: أنه مكروه، ولم يحك ابن رشد في جوازه خلافا.
وأشار المصنف إلى الوجه الرابع المختلف فيه الذي زاده عياض بقوله ولو بمؤجل بعضه، قال في التنبيهات: والرابع المختلف فيه ما اشترى ليباع بثمن بعضه مؤجل وبعضه معجل فظاهر مسائل الكتاب والأمهات جوازه، وفي العتبية كراهته لأهل العينة لكن قال ابن غازي: ظاهر كلام المصنف أن هذا مفرع على مسألة المطلوب منه سلعة كما يوهمه لفظ عياض ثم ذكره، ثم قال: فقد يسبق للوهم أن قوله بثمن يتعلق بقوله(7/30)
ليباع وليس ذلك بمراد بل هو متعلق باشتر، وفي الكلام تقديم وتأخير وتقديره: ما اشترى بثمن مؤجل وبعضه معجل ليباع فهي إذا مسألة أخرى غير مفرعة على مسألة المطلوب منه سلعة وذكر من كلام صاحب التنبيهات ما يدل على ذلك ثم ذكر عن البيان نحو ذلك ثم قال فإن قلت لعل المصنف إنما فرعها على مسألة المطلوب منه سلعة تنبيها على أن المختار عنده من الخلاف الجواز، وإن تركبت المسألة من الوصفين فتكون غير المركبة أحرى بالجواز قلت: هذا أبعد ما يكون من التأويل ولكن يقر به الظن الجميل ويتقي العهدة في التزام جواز المركبة اهـ، (قلت) وقد يتلمح الجواز من قول ابن رشد فيبيعها بما شاء من نقد أو نسيئة ونحوه لعياض كما تقدم.
ج قال النووي في روضة الطالبين:
ليس من المناهي بيع العينة بكسر العين المهملة وبعد الياء نون وهو أن يبيع غيره شيئا بثمن مؤجل، ويسلمه إليه، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بأقل من ذلك الثمن نقدا، وكذا يجوز أن يبيع بثمن نقدا ويشتري بأكثر منه إلى أجل، سواء قبض الثمن الأول، أم لا، وسواء صارت العينة عادة له غالبة في البلد، أم لا، هذا هو الصحيح المعروف في كتب الأصحاب، وأفتى الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، والشيخ أبو محمد: بأنه إذا صار عادة له، صار البيع الثاني كالمشروط في الأول، فيبطلان جميعا. اهـ.
قال إسماعيل بن يحيى المزني الشافعي في المختصر المطبوع مع الأم:
(باب الرجل يبيع الشيء إلى أجل ثم يشتريه بأقل من الثمن) قال الشافعي ولا بأس بأن يبيع الرجل السلعة إلى أجل ويشتريها من المشتري بأقل بنقد وعرض وإلى أجل، قال بعض الناس إن امرأة أتت عائشة فسألتها عن بيع باعته من زيد بن أرقم بكذا وكذا إلى العطاء ثم اشترته منه بأقل فقالت عائشة: بئسما اشتريت وبئسما ابتعت، أخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. (قال الشافعي) : وهو مجمل ولو كان هذا ثابتا فقد تكون(7/31)
عائشة عابت البيع إلى العطاء لأنه أجل غير معلوم ونحن لا نثبت مثل هذا على عائشة وإذا كانت هذه السلعة كسائر مالي لم لا أبيع ملكي بما شئت وشاء المشتري؟
د قال ابن قدامة في المغني (1) :
مسألة: قال: (ومن باع سلعة بنسيئة لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها به) وجملة ذلك: أن من باع سلعة بثمن مؤجل ثم اشتراها بأقل منه نقدا لم يجز في قول أكثر أهل العلم. روي ذلك عن ابن عباس وعائشة والحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي، وبه قال أبو الزناد وربيعة وعبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والأوزاعي ومالك وإسحاق وأصحاب الرأي وأجازه الشافعي لأنه ثمن يجوز بيعها به من غير بائعها فجاز من بائعها. كما لو باعها بمثل ثمنها.
ولنا: ما روى غندر عن شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية بنت أنفع بن شرحبيل أنها قالت: دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم امرأته على عائشة رضي الله عنها، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء. ثم اشتريته منه بستمائة درهم فقالت لها: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت. أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب، رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور.
والظاهر أنها لا تقول مثل هذا التغليظ وتقدم عليه إلا بتوقيف سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجرى مجرى روايتها ذلك عنه، ولأن ذلك ذريعة إلى الربا فإنه يدخل السلعة ليستبيح بيع ألف بخمسمائة إلى أجل معلوم وكذلك روي عن ابن عباس في مثل هذه المسألة أنه قال: أرى مائة بخمسين بينهما حريرة، يعني خرقة حرير جعلاها في بيعهما. والذرائع معتبرة لما قدمناه. فأما بيعها بمثل الثمن أو أكثر فيجوز. لأنه لا يكون ذريعة، وهذا إذا كانت السلعة لم تنقص عن حالة البيع. فإن نقصت مثل إن هزل العبد أو نسي صناعة أو تخرق الثوب أو بلي
__________
(1) ص: 174 - 178 \ جزء: 4(7/32)
جاز له شراؤها بما شاء. لأن نقص الثمن لنقص المبيع لا للتوسل إلى الربا وإن نقص سعرها أو زاد لذلك أو لمعنى حدث فيها لم يجز بيعها بأقل من ثمنها كما لو كانت بحالها نص أحمد على هذا كله.(7/33)
(فصل)
وإن اشتراها بعرض أو كان بيعها الأول بعرض فاشتراها بنقد جاز. وبه قال أبو حنيفة ولا نعلم فيه خلافا. لأن التحريم إنما كان لشبهة الربا. ولا ربا بين الأثمان والعروض، فأما إن باعها بنقد ثم اشتراها بنقد آخر مثل أن يبيعها بمائتي درهم ثم اشتراها بعشرة دنانير، فقال أصحابنا: يجوز لأنهما جنسان لا يحرم التفاضل بينهما. فجاز كما لو اشتراها بعرض أو بمثل الثمن. وقال أبو حنيفة لا يجوز استحسانا، لأنهما كالشيء الواحد في معنى الثمنية. ولأن ذلك يتخذ وسيلة إلى الربا. فأشبه ما لو باعها بجنس الثمن الأول وهذا أصح إن شاء الله تعالى.(7/33)
(فصل)
وهذه المسألة تسمى مسألة العينة. قال الشاعر:
أندان أم نعتان أم ينبري لنا ... فتى مثل نصل السيف ميزت مضاربه؟
فقوله: نعتان، أي نشتري عينة مثل ما وصفنا. وقد روى أبو داود بإسناده عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم (1) » وهذا وعيد يدل على التحريم، وقد روي عن أحمد أنه قال: العينة أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة، فإن باعه بنقد ونسيئة فلا بأس. وقال: أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة لا يبيع بنقد. وقال ابن عقيل: إنما كره النسيئة لمضارعتها الربا، فإن الغالب أن البائع بنسيئة يقصد الزيادة بالأجل ويجوز أن تكون العينة اسما لهذه المسألة وللبيع بنسيئة جميعا. لكن البيع بنسيئة ليس بمحرم اتفاقا، ولا يكره إلا أن لا يكون له تجارة غيره.
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/84) .(7/33)
(فصل)
وإن باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة. فقال أحمد في رواية حرب: لا يجوز ذلك إلا أن يغير السلعة. لأن ذلك يتخذه وسيلة إلى الربا.(7/33)
فأشبه مسألة العينة. فإن اشتراها بنقد آخر أو بسلعة أخرى أو بأقل من ثمنها نسيئة جاز. لما ذكرناه في مسألة العينة. ويحتمل أن يجوز له شراؤها بجنس الثمن أو بأكثر منه. إلا أن يكون ذلك عن مواطأة أو حيلة فلا يجوز. وإن وقع ذلك اتفاقا من غير قصد جاز. لأن الأصل حل البيع. وإنما حرم في مسألة العينة بالأثر الوارد فيه وليس هذا في معناه ولأن التوسل بذلك أكثر. فلا يلتحق به ما دونه. والله أعلم.(7/34)
(فصل)
وفي كل موضع قلنا: لا يجوز له أن يشتري لا يجوز ذلك لوكيله لأنه قائم مقامه ويجوز لغيره من الناس. سواء كان أباه أو ابنه أو غيرهما. لأنه غير البائع ويشتري لنفسه فأشبه الأجنبي.
* قال محمد بن مفلح في الفروع (1) :
ولو باع شيئا نسيئة أو بثمن لم يقبضه في ظاهر كلامه وذكره القاضي وأصحابه والأكثر ثم اشتراه بأقل مما باعه قال أبو الخطاب والشيخ: نقدا ولم يقله أحمد والأكثر، ولو بعد حل أجله. نقله ابن القاسم وسندي بطل الثاني (نص عليه وذكره الأكثر، لم يجز استحسانا، وكذا في كلام القاضي وأصحابه القياس صحة البيع ومرادهم أن القياس خولف لدليل) إلا أن يتغير في نفسه أو يقبض ثمنه أو بغير جنس ثمنه، وفي الانتصار وجه بعرض اختاره الشيخ أو يشتريه بمثل ثمنه أو من غير مشتريه لا من وكيله.
وسأله المروذي إن وجده مع آخر يبيعه بالسوق أيشتريه بأقل؟
قال: لا، لعله دفعه ذلك إليه يبيعه وتوقف في رواية مهنى فيما إذا نقص في نفسه وحمله في الخلاف على أن نقصه أقل من النقص الذي اشتراه به فتكون علة المنع باقية، وهذه مسألة العينة وعند أبي الخطاب يجوز قياسا، وكذا في الترغيب لم يجز استحسانا، وكذا في كلام القاضي وأصحابه: القياس صحة البيع، ومرادهم أن
__________
(1) ص: 169 - 171 \ جزء:4(7/34)
القياس خولف لدليل راجح فلا خلاف إذا في المسألة وذكر شيخنا أنه يصح الأول إذا كان بتاتا ولا مواطأة وإلا بطلا وأنه قول أحمد (و. م.) ، ويتوجه أن مراد من أطلق هذا إلا أنه قال (في الانتصار) : إذا قصد بالأول الثاني يحرم. وربما قلنا ببطلانه وقال أيضا يحرم. إذا قصدا أن لا يصحا. وإن سلم فالبيع الأول خلا عن ذريعة الربا. وأجاب عن قول عائشة رضي الله عنها: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت. أنه للتأكيد، قال أحمد رضي الله عنه فيمن فعلها: لا يعجبني أن يكتب عنه الحديث، وحمله القاضي وغيره على الورع؛ لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد مع أنه ذكر عن قول عائشة رضي الله عنها أن زيدا بن أرقم أبطل جهاده أنها أوعدت عليه. ومسائل الخلاف لا يلحق فيها الوعيد وعكس العينة مثلها نقله حرب ونقل أبو داود: يجوز بلا حيلة ونقل المروذي فيمن يبيع الشيء بم يجده يباع أيشتريه بأقل مما باعه بالنقد؟ قال: لا، ولكن بأكثر لا بأس ولو احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بمائتين فلا بأس. نص عليه. وهي التورق. وعنه: يكره وحرمه شيخنا. نقل أبو داود: إن كان لا يريد بيع المتاع الذي يشتريه منك هو فإن كان يريد بيعه فهو العينة وإن باعه منه لم يجز وهي العينة نص عليه.
* قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (1) :
وسئل: عن الرجل يبيع سلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها من ذلك الرجل بأقل من ذلك الثمن حالا. هل يجوز أم لا؟
فأجاب: أما إذا باع السلعة إلى أجل واشتراها من المشتري بأقل من ذلك حالا فهذه تسمى "مسألة العينة" وهي غير جائزة عند أكثر العلماء: كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم، وهو المأثور عن الصحابة كعائشة وابن عباس وأنس بن
__________
(1) ص: 446 - 448 \ جزء:29(7/35)
مالك. فإن ابن عباس سئل عن حريرة بيعت إلى أجل ثم اشتريت بأقل قال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة.
وأبلغ من ذلك أن ابن عباس قال: إذا استقمت بنقد ثم بعت بنسيئة فتلك دراهم بدراهم. فبين أنه إذا قوم السلعة بدراهم ثم باعها إلى أجل فيكون مقصوده دراهم بدراهم والأعمال بالنيات وهذه تسمى "التورق".
فإن المشتري تارة يشتري السلعة لينتفع بها، وتارة يشتريها ليتجر بها، فهذان جائزان باتفاق المسلمين. وتارة لا يكون مقصوده إلا أخذ دراهم. فينظر كم تساوي نقدا، فيشتريها إلى أجل ثم يبيعها في السوق بنقد. فمقصوده الورق فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء. كما نقل ذلك عن عمر بن عبد العزيز وهو إحدى الروايتين عن أحمد.
وأما عائشة فإنها قالت لأم ولد زيد بن أرقم لما قالت لها: إني ابتعت من زيد بن أرقم غلاما إلى العطاء بثمانمائة وبعته منه بستمائة. فقالت عائشة: بئس ما بعت، وبئس ما اشتريت. أخبري زيدا أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بطل. إلا أن يتوب. قالت: أيا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي، فقالت لها عائشة: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) (2) .
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (3) » وهذا إن تواطآ على أن يبيع ثم يبتاع. فماله إلا الأوكس. وهو الثمن الأقل أو الربا.
وأصل هذا الباب: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (4) » فإن كان قد نوى ما أحله الله فلا بأس وإن نوى ما حرم الله وتوصل إليه بحيلة فإن له ما نوى والشرط بين الناس ما عدوه شرطا كما أن البيع ما عدوه بيعا. والإجارة بينهم ما عدوه إجارة. وكذلك النكاح بينهم ما عدوه نكاحا فإن الله ذكر البيع والنكاح وغيرهما في كتابه ولم يرد لذلك حد في الشرع ولا له حد في الفقه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) هكذا في الأصل المطبوع
(3) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .
(4) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(7/36)
والأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع كالصلاة والزكاة والصيام والحج وتارة باللغة كالشمس والقمر والبر والبحر وتارة بالعرف كالقبض والتفريق، وكذلك العقود كالبيع والإجارة والنكاح والهبة وغير ذلك فما تواطأ الناس على شرطه وتعاقدوا فهذا شرط عند أهل العرف.
وقال رحمه الله في الاختيارات وتحرم مسألة التورق.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (1) :
(فصل)
ومن الحيل المحرمة الباطلة التحيل على جواز مسألة العينة مع أنها حيلة في إبطال حيل لتجويز العينة نفسها على الربا وجمهور الأئمة على تحريمها.
وقد ذكر أرباب الحيل لاستباحتها عدة حيل منها: أن يحدث المشتري في السلعة حدثا ما تنقص به أو تتعيب فحينئذ يجوز لبائعها أن يشتريها بأقل مما باعها ومنها: أن تكون السلعة قابلة للتجزئة فيمسك منها جزءا ما ويبيعه بقيتها ومنها: أن يضم البائع إلى السلعة سكينا بما يتفقان عليه من الثمن ومنها: أن يهبها المشتري لولده أو زوجته أو من يثق به فيبيعها الموهوب له من بائعها فإذا قبض الثمن أعطاه للواهب ومنها: أن يبيعه إياها نفسه من غير إحداث شيء ولا هبة لغيره لكن يضم إلى ثمنها خاتما من حديد أو منديلا أو سكينا ونحو ذلك.
ولا ريب أن العينة على وجهها أسهل من هذا التكلف وأقل مفسدة وإن كان الشارع قد حرم مسألة العينة لمفسدة فيها فإن المفسدة لا تزول بهذه الحيلة، بل هي بحالها وانضم إليها مفسدة أخرى أعظم منها وهي: مفسدة المكر والخداع واتخاذ أحكام الله هزوا، وهي أعظم المفسدتين، وكذلك سائر الحيل لا تزيل المفسدة التي حرم لأجلها، وإنما يضم إليها مفسدة الخداع والمكر وإن كانت العينة لا مفسدة فيها فلا حاجة إلى الاحتيال عليها، ثم إن العينة في نفسها من أدنى الحيل إلى الربا فإذا تحيل عليها المحتال صارت حيلا متضاعفة ومفاسد متنوعة والحقيقة والقصد معلومان لله وللملائكة وللمتعاقدين ولمن حضرهما من
__________
(1) ص: 335 - 336 \ جزء:3(7/37)
الناس فليصنع أرباب الحيل ما شاءوا وليسلكوا أية طريق سلكوا فإنهم لا يخرجون بذلك عن بيع مائة بمائة وخمسين إلى سنة فيلدخلوا محلل الربا أو يخرجوه فليس هو المقصود. والمقصود معلوم. والله لا يخادع ولا تروج عليه الحيل ولا تلتبس عليه الأمور.
قال ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن على حديث إذا تبايعتم بالعينة. . .
وفي الباب حديث أبي إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة رضي الله عنها فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم. فقالت: ياأم المؤمنين، إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة. وإني ابتعته منه بستمائة نقدا، فقالت لها عائشة: بئسما اشتريت، أخبري زيدا أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل إلا أن يتوب.
هذا الحديث رواه البيهقي والدارقطني، وذكره الشافعي، وأعله بالجهالة بحال امرأة أبي إسحاق، وقال: لو ثبت فإنما عابت عليها بيعا إلى العطاء. لأنه أجل غير معلوم.
ثم قال: ولا يثبت مثل هذا عن عائشة، وزيد بن أرقم لا يبيع إلا ما يراه حلالا.
قال البيهقي: ورواه يونس بن أبي إسحاق عن أمه العالية بنت أنفع "أنها دخلت على عائشة مع أم أحمد ".
وقال غيره: هذا الحديث حسن، ويحتج بمثله، لأنه قد رواه عن العالية ثقتان ثبتان: أبو إسحاق زوجها ويونس ابنها، ولم يعلم فيها جرح. والجهالة ترتفع عن الراوي بمثل ذلك.
ثم إن هذا مما ضبطت فيه القصة، ومن دخل معها على عائشة، وقد صدقها زوجها وابنها وهما من هما، فالحديث محفوظ.
وقوله في الحديث المتقدم «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (1) » هو منزل على العينة بعينها. قاله شيخنا، لأنه بيعان في بيع واحد فأوكسهما: الثمن الحال. وإن أخذ بالأكثر وهو المؤجل أخذ بالربا. فالمعينان لا
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .(7/38)
ينفكان من أحد الأمرين: أما الأخذ بأوكس الثمنين أو الربا وهذا لا يتنزل إلا على العينة.(7/39)
(فصل)
قال المحرمون للعينة: الدليل على تحريمها من وجوه:
أحدهما: أن الله تعالى حرم الربا، والعينة وسيلة إلى الربا. بل هي من أقرب وسائله، والوسيلة إلى الحرام حرام. فهنا مقامان.
أحدهما: بيان كونها وسيلة.
والثاني: بيان أن الوسيلة إلى الحرام حرام.
* فأما الأول: فيشهد له به النقل والعرف والنية والقصد، وحال المتعاقدين.
فأما النقل: فبما ثبت عن ابن عباس أنه سئل عن رجل باع من رجل حريرة بمائة ثم اشتراها بخمسين فقال: دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة.
وفي كتاب محمد بن عبد الله الحافظ المعروف بمطين عن ابن عباس: أنه قال "اتقوا هذه العينة لا تبيعوا دراهم بدراهم بينهما حريرة".
وفي كتاب أبي محمد النجشي الحافظ عن ابن عباس "أنه سئل عن العينة، يعني بيع الحريرة فقال: إن الله لا يخدع. هذا مما حرم الله ورسوله".
وفي كتاب الحافظ مطين عن أنس "أنه سئل عن العينة - يعني بيع الحريرة - فقال: إن الله لا يخدع. هذا مما حرم الله ورسوله".
* وقول الصحابي "حرم رسول الله كذا أو أمر بكذا وقضى بكذا وأوجب كذا" في حكم المرفوع اتفاقا عند أهل العلم إلا خلافا شاذا لا يعتد به ولا يؤبه له.
* وشبهة المخالف: أنه لعله رواه بالمعنى فظن ما ليس بأمر، ولا تحريم كذلك، وهذا فاسد جدا. فإن الصحابة أعلم بمعاني النصوص وقد تلقوها من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يظن بأحد منهم أن يقدم على قوله "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو حرم أو فرض" إلا بعد سماع ذلك ودلالة اللفظ عليه، واحتمال خلاف هذا(7/39)
كاحتمال الغلط والسهو في الرواية. بل دونه فإن رد قوله "أمر" ونحوه بهذا الاحتمال، وجب رد روايته لاحتمال السهو والغلط وإن قبلت روايته: وجب قبول الآخر.
* وأما شهادة العرف بذلك: فأظهر من أن تحتاج إلى تقرير، بل قد علم الله وعباده من المتبايعين ذلك: قصدهما أنهما لم يعقدا على السلعة عقدا يقصدان به تملكها ولا غرض لهما فيها بحال. وإنما الغرض والمقصود بالقصد الأول: مائة بمائة وعشرين. وإدخال تلك السلعة في الوسط تلبيس وعبث وهي بمنزلة الحرف الذي لا معنى له في نفسه، بل جيء به لمعنى في غيره. حتى لو كانت تلك السلعة تساوي أضعاف ذلك الثمن. أو تساوي أقل جزء من أجزائه لم يبالوا بجعلها موردا للعقد لأنهم لا غرض لهم فيها. وأهل العرف لا يكابرون أنفسهم في هذا.
* وأما النية والقصد: فالأجنبي المشاهد لهما يقطع بأنه لا غرض لهما في السلعة وإنما القصد الأول مائة بمائة وعشرين فضلا عن علم المتعاقدين ونيتهما ولهذا يتواطأ كثير منهم على ذلك قبل العقد ثم يحضران تلك السلعة محللا لما حرم الله ورسوله.
* وأما المقام الثاني: - وهو أن الوسيلة إلى الحرام حرام- فبانت بالكتاب والسنة والفطرة والمعقول فإن الله سبحانه مسخ اليهود قردة وخنازير لما توسلوا إلى الصيد الحرام بالوسيلة التي ظنوها مباحة، وسمى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون مثل ذلك مخادعة، كما تقدم.
وقال أيوب السختياني: "يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل والرجوع إلى الصحابة في معاني الألفاظ متعين، سواء كانت لغوية أو شرعية، والخداع حرام".(7/40)
وأيضا فإن هذا العقد يتضمن إظهار صورة مباحة وإضمار ما هو من أكبر الكبائر، فلا تنقلب الكبيرة مباحة بإخراجها في صورة البيع الذي لم يقصد نقل الملك فيه أصلا وإنما قصده حقيقة الربا. وأيضا: فإن الطريق متى أفضت إلى الحرام فإن الشريعة لا تأتي بإباحتها أصلا لأن إباحتها وتحريم الغاية جمع بين النقيضين فلا يتصور أن يباح شيء ويحرم ما يفضي إليه، بل لا بد من تحريمهما أو إباحتهما، والثاني باطل قطعا فيتعين الأول.
وأيضا: فإن الشارع إنما حرم الربا، وجعله من الكبائر، وتوعد آكله بمحاربة الله ورسوله لما فيه من أعظم الفساد والضرر فكيف يتصور -مع هذا- أن يبيح هذا الفساد العظيم بأيسر شيء يكون من الحيل.
فيا لله العجب، أترى هذه الحيلة أزالت تلك المفسدة العظيمة وقلبتها مصلحة بعد أن كانت مفسدة؟
وأيضا: فإن الله سبحانه عاقب أهل الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين وكان مقصودهم منع حق الفقراء من الثمر المتساقط وقت الحصاد فلما قصدوا منع حقهم منعهم الله الثمرة جملة.
ولا يقال: فالعقوبة إنما كانت على رد (1) الاستثناء وحده لوجهين:
* أحدهما: أن العقوبة من جنس العمل، وترك الاستثناء عقوبته: أن يعوق وينسى لا إهلاك ماله، بخلاف عقوبة ذنب الحرمان فإنها حرمان كالذنب.
* الثاني: أن الله تعالى أخبر عنهم أنهم قالوا {أَنْ لاَ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} (2) ورتب العقوبة على ذلك، فلو لم يكن لهذا الوصف مدخل في العقوبة لم يكن لذكره فائدة فإن لم يكن هو العلة التامة كان جزءا من العلة.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعله ترك.
(2) سورة القلم الآية 24(7/41)
وعلى التقديرين: يحصل المقصود.
وأيضا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأعمال بالنيات (1) » والمتوسل بالوسيلة التي صورتها مباحة إلى المحرم إنما نيته المحرم ونيته أولى به من ظاهر عمله.
وأيضا: فقد روى ابن بطة وغيره بإسناد حسن عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» وإسناده مما يصححه الترمذي.
وأيضا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها (2) » و"جملوها" يعني أذابوها وخلطوها. وإنما فعلوا ذلك ليزول عنها اسم الشحم ويحدث لها اسم آخر، وهو الودك وذلك لا يفيد الحل فإن التحريم تابع للحقيقة وهي لم تتبدل بتبدل الاسم.
وهذا الربا تحريمه تابع لمعناه وحقيقته فلا يزول بتبدل الاسم بصورة البيع كما لم يزل تحريم الشحم بتبديل الاسم بصورة الجمل والإذابة، وهذا واضح بحمد الله.
وأيضا: فإن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم وإنما انتفعوا بثمنه فيلزم من وقف مع تنظر العقود والألفاظ. دون مقاصدها وحقائقها: أن لا يحرم ذلك. لأن الله تعالى لم ينص على تحريم الثمن وإنما حرم عليهم نفس الشحم ولما لعنهم على استحلالهم الثمن. وإن لم ينص على تحريمه. دل على أن الواجب النظر إلى المقصود، وإن اختلفت الوسائل إليه وأن ذلك يوجب أن لا يقصد الانتفاع بالعين ولا ببدلها.
ونظير هذا: أن يقال: لا تقرب مال اليتيم فتبيعه وتأكل عوضه وأن يقال: لا تشرب الخمر فتغير اسمه وتشربه وأن يقال: لا تزن بهذه المرأة فتعقد عليها عقد إجارة وتقول إنما أستوفي منافعها وأمثال ذلك.
قالوا: ولهذا الأصل - وهو تحريم الحيل المتضمنة إباحة ما حرم الله أو إسقاط ما أوجبه الله عليه -أكثر من مائة دليل وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم «لعن المحلل والمحلل له (3) » مع أنه أتى بصورة عقد النكاح الصحيح لما كان مقصوده التحليل لا حقيقة النكاح.
وقد ثبت عن الصحابة أنهم سموه زانيا ولم ينظروا إلى صورة العقد.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3460) ، صحيح مسلم المساقاة (1582) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4257) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3383) ، مسند أحمد بن حنبل (1/25) ، سنن الدارمي الأشربة (2104) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/448) .(7/42)
* الدليل الثاني: على تحريم العينة: ما رواه أحمد في مسنده: حدثنا أسود بن عامر حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم (1) » رواه أبو داود بإسناد صحيح إلى حيوة بن شريح المصري عن إسحاق أبي عبد الرحمن الخراساني أن عطاء الخراساني حدثه: أن نافعا حدثه عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره وهذان إسنادان حسنان يشد أحدهما الآخر.
فأما رجال الأول فأئمة مشاهير وإنما يخاف أن لا يكون الأعمش سمعه من عطاء أو أن عطاء لم يسمعه من ابن عمر.
والإسناد الثاني: يبين أن للحديث أصلا محفوظا عن ابن عمر فإن عطاء الخراساني ثقة مشهور وحيوة كذلك. وأما إسحاق أبو عبد الرحمن فشيخ روى عنه أئمة المصريين مثل حيوة والليث ويحيى بن أيوب وغيرهم.
وله طريق ثالث: رواه السري بن سهل حدثنا عبد الله بن رشيد حدثنا عبد الرحمن بن محمد عن ليث عن عطاء عن ابن عمر قال: "لقد أتى علينا زمان وما منا رجل يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة وتركوا الجهاد واتبعوا أذناب البقر أدخل الله عليهم ذلا لا ينزعه حتى يتوبوا ويرجعوا إلى دينهم (2) » وهذا يبين أن للحديث أصلا وأنه محفوظ.
* الدليل الثالث: ما تقدم من حديث أنس "أنه سئل عن العينة؟ فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله" وتقدم أن هذا اللفظ في حكم المرفوع.
* الدليل الرابع: ما تقدم من حديث ابن عباس وقوله "هذا مما حرم الله ورسوله".
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/28) .
(2) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/28) .(7/43)
* الدليل الخامس: ما رواه الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا سعيد عن أبي إسحاق عن العالية ورواه حرب من حديث إسرائيل حدثني أبو إسحاق عن جدته العالية، يعني جدة إسرائيل: فإنها امرأة أبي إسحاق قالت: "دخلت على عائشة في نسوة فقالت: ما حاجتكن؟
فكان أول من سألها أم محبة: فقالت: يا أم المؤمنين هل تعرفين زيد بن أرقم؟
قالت: نعم.
قالت: فإني بعته جارية لي بثمانمائة درهم إلى العطاء. وأنه أراد أن يبيعها فابتعتها بستمائة درهم نقدا.
فأقبلت عليها وهي غضبى فقالت: بئسما شريت، وبئسما اشتريت أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب.
وأفحمت صاحبتنا فلم تتكلم طويلا ثم أنه سهل عنها فقالت: يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي فتلت عليها: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (1) .
فلولا أن عند أم المؤمنين علما لا تستريب فيه أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا بالاجتهاد ولا سيما إن كانت قد قصدت أن العمل يحبط بالردة وأن استحلال الربا أكفر وهذا منه ولكن زيدا معذور لأنه لم يعلم أن هذا محرم ولهذا قالت "أبلغيه".
ويحتمل أن تكون قد قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد فيصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئا.
وعلى التقديرين: فجزم أم المؤمنين بهذا دليل على أنه لا يسوغ فيه الاجتهاد ولو كانت هذه من مسائل الاجتهاد والنزاع بين الصحابة لم تطلق عائشة ذلك على زيد. فإن الحسنات لا تبطل بمسائل الاجتهاد.
ولا يقال: فزيد من الصحابة وقد خالفها لأن زيدا لم يقل: هذا حلال بل فعله وفعل المجتهد لا يدل على قوله على الصحيح لاحتمال سهو، أو غفلة، أو
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(7/44)
تأويل، أو رجوع ونحوه وكثيرا ما يفعل الرجل الشيء ولا يعلم مفسدته. فإذا نبه له انتبه، ولا سيما أم ولده. فإنها دخلت على عائشة تستفتيها وطلبت الرجوع إلى رأس مالها وهذا يدل على الرجوع عن ذلك العقد ولم ينقل عن زيد أنه أصر على ذلك.
فإن قيل: لا نسلم ثبوت الحديث فإن أم ولد زيد مجهولة.
قلنا: أم ولده لم ترو الحديث وإنما كانت هي صاحبة القصة، وأما العالية فهي امرأة أبي إسحاق السبيعي وهي من التابعيات وقد دخلت على عائشة وروى عنها أبو إسحاق. وهو أعلم بها، وفي الحديث قصة وسياق يدل على أنه محفوظ وأن العالية لم تختلق هذه القصة ولم تضعها بل يغلب على الظن غلبة قوية صدقها فيها وحفظها لها ولهذا رواها عنها زوجها ميمون ولم ينهها ولا سيما عند من يقول: رواية العدل عن غيره تعديل له والكذب لم يكن فاشيا في التابعين فشوه فيمن بعدهم وكثير منهم كان يروي عن أمه وامرأته ما يخبرهن به أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتج به.
* فهذه أربعة أحاديث تبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم العينة:
حديث ابن عمر الذي فيه تغليظ العينة.
وحديث أنس وابن عباس: أنهما مما حرم الله ورسوله.
وحديث عائشة هذا والمرسل منها له ما يوافقه. وقد عمل به بعض الصحابة والسلف. وهذه حجة باتفاق الفقهاء.
* الدليل السادس: ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (1) » .
* وللعلماء في تفسيره قولان:
أحدهما: أن يقول: بعتك بعشرة نقدا أو عشرين نسيئة وهذا هو الذي رواه أحمد عن سماك ففسره في حديث ابن مسعود قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .(7/45)
صفقتين في صفقة (1) » قال سماك: الرجل يبيع البيع فيقول هو علي نساء بكذا وينقد بكذا.
وهذا التفسير ضعيف فإنه لا يدخل الربا في هذه الصورة ولا "صفقتين" هنا وإنما هي صفقة واحدة بأحد الثمنين.
والتفسير الثاني: أن يقول: أبيعكها بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك بثمانين حالة وهذا معنى الحديث الذي لا معنى له غيره. وهو مطابق لقوله "فله أوكسهما أو الربا" فإنه إما أن يأخذ الثمن الزائد فيربى أو الثمن الأول فيكون هو أوكسهما وهو مطابق لصفقتين في صفقة. فإنه قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة ومبيع واحد، وهو قد قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها ولا يستحق إلا رأس ماله وهو أوكس الصفقتين. فإن أبى إلا الأكثر كان قد أخذ الربا.
فتدبر مطابقة هذا التفسير لألفاظه صلى الله عليه وسلم، وانطباقه عليها.
ومما يشهد لهذا التفسير: ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن بيعتين في بيعة " و " عن سلف وبيع (2) » فجمعه بين هذين العقدين في النهي لأن كلا منهما يؤول إلى الربا، لأنهما في الظاهر بيع وفي الحقيقة ربا.
ومما يدل على تحريم العينة: حديث ابن مسعود يرفعه: «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والمحلل والمحلل له (3) » .
ومعلوم أن الشاهدين والكاتب إنما يكتب ويشهد على عقد صورته جائزة الكتابة والشهادة لا يشهد بمجرد الربا ولا يكتبه. ولهذا أقرنه بالمحلل والمحلل له حيث أظهر صورة النكاح ولا نكاح كما أظهر الكاتب والشاهد أنه صورة البيع ولا بيع.
وتأمل كيف لعن في الحديث الشاهدين والكاتب والآكل والموكل فلعن المعقود له والمعين له على ذلك العقد ولعن المحلل والمحلل له فالمحلل له: هو الذي يعقد التحليل لأجله والمحلل: هو المعين له بإظهار صورة العقد، كما أن المرابي: هو المعان على أكل الربا بإظهار صورة العقد المكتوب المشهود به.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/398) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (368) ، سنن النسائي البيوع (4517) ، سنن ابن ماجه التجارات (2169) ، موطأ مالك الجامع (1704) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1597، 1598) ، سنن الترمذي البيوع (1206) ، سنن أبو داود البيوع (3333) ، سنن ابن ماجه التجارات (2277) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي البيوع (2535) .(7/46)
فصلوات الله على من أوتي جوامع الكلم.
* الدليل السابع: ما صح عن ابن عباس أنه قال: "إذا استقمت بنقد، فبعت بنقد فلا بأس وإذا استقمت بنقد فبعت بنسيئة فلا خير فيه تلك ورق بورق". رواه سعيد وغيره.
ومعنى كلامه: أنك إذا قومت السلعة بنقد ثم بعتها بنسيئة كان مقصود المشتري شراء دراهم معجلة بدراهم مؤجلة وإذا قومتها بنقد ثم بعتها به فلا بأس؛ فإن ذلك بيع المقصود منه السلعة لا الربا.
* الدليل الثامن: ما رواه ابن بطه عن الأوزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع (1) » (يعني العينة) .
وهذا - وإن كان مرسلا - فهو صالح للاعتضاد به ولا سيما وقد تقدم من المرفوع ما يؤكده.
ويشهد له أيضا: قوله صلى الله عليه وسلم: «ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها (2) » .
وقوله أيضا فيما رواه إبراهيم الحربي من حديث أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول دينكم نبوة ورحمة ثم خلافة ورحمة ثم ملك ورحمة ثم ملك وجبرية ثم ملك عضوض يستحل فيه الحر والحرير (3) » والحر بكسر الحاء وتخفيف الراء: هو الفرج فهذا إخبار عن استحلال المحارم ولكنه بتغيير أسمائها وإظهارها في صورة تجعل وسيلة إلى استباحتها وهي الربا والخمر والزنا فيسمى كل منها بغير اسمها، ويستباح بالاسم الذي سمي به وقد وقعت الثلاثة.
وفي قول عائشة: "بئسما شريت، وبئسما اشتريت" دليل على بطلان العقدين معا وهذا هو الصحيح من المذهب لأن الثاني عقد ربا والأول وسيلة إليه.
وفيه قول آخر في المذهب: أن العقد الأول صحيح لأنه تم بأركانه وشروطه. فطريان الثاني عليه لا يبطله، وهذا ضعيف فإنه لم يكن مقصودا لذاته وإنما
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2059) ، سنن النسائي البيوع (4454) ، مسند أحمد بن حنبل (2/435) ، سنن الدارمي البيوع (2536) .
(2) سنن أبو داود الأشربة (3688) ، سنن ابن ماجه الفتن (4020) .
(3) سنن الدارمي الأشربة (2101) .(7/47)
جعله وسيلة إلى الربا، فهو طريق إلى المحرم فكيف يحكم بصحته؟ وهذا القول لا يليق بقواعد المذهب.
فإن قيل: فما تقولون فيمن باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة؟
قلنا: قد نص أحمد في رواية حرب على أنه لا يجوز إلا أن تتغير السلعة لأن هذا يتخذ وسيلة إلى الربا فهو كمسألة العينة سواء وهي عكسها صورة وفي الصورتين قد ترتب في ذمته دراهم مؤجلة بأقل منها نقدا لكن في إحدى الصورتين: البائع هو الذي اشتغلت ذمته، وفي الصورة الأخرى: المشتري هو الذي اشتغلت ذمته فلا فرق بينهما.
وقال بعض أصحابنا: يحتمل أن تجوز الصورة الثانية إذا لم يكن ذلك حيلة ولا مواطأة بل وقع اتفاقا.
وفرق بينهما وبين الصورة الأولى بفرقين:
* أحدهما: أن النص ورد فيها فيبقى ما عداها على أصل الجواز.
* والثاني: أن التوسل إلى الربا بتلك الصورة أكثر من التوسل بهذه.
والفرقان ضعيفان: أما الأول: فليس في النص ما يدل على اختصاص العينة بالصورة الأولى حتى تتقيد به نصوص مطلقة على تحريم العينة.
والعينة فعلة من العين النقد قال الشاعر:
أندان , أم نعتان , أم ينبري لنا ... فتى مثل نصل السيف ميزت مضاربه؟
قال الجوزجاني: أنا أظن أن العينة إنما اشتقت من حاجة الرجل إلى العين من الذهب والورق فيشتري السلعة ويبيعها بالعين التي احتاج إليها وليست به إلى السلعة حاجة.
* وأما الفرق الثاني: فكذلك لأن المعتبر في هذا الباب هو الذريعة ولو اعتبر فيه الفرق من الاتفاق والقصد لزم طرد ذلك في الصورة الأولى وأنتم لا تعتبرونه.
فإن قيل: فما تقولون إذا لم تعد السلعة إليه بل رجعت إلى ثالث هل تسمون ذلك عينة؟
قيل: هذه مسألة التورق لأن المقصود منها الورق وقد نص أحمد في رواية أبي داود على أنها من العينة وأطلق عليها اسمها.(7/48)
وقد اختلف السلف في كراهيتها فكان عمر بن عبد العزيز يكرهها وكان يقول "التورق أخية الربا" ورخص فيها إياس بن معاوية.
وعن أحمد فيها روايتان منصوصتان. وعلل الكراهة في إحدهما بأنه بيع مضطر، وقد روى أبو داود عن علي «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضطر (1) » وفي المسند عن علي قال: «سيأتي على الناس زمان يعض المؤمن على ما في يده ولم يؤمر بذلك قال الله تعالى: (3) » ويبايع المضطرون وقد «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر (4) » وذكر الحديث.
فأحمد -رحمه الله تعالى- أشار إلى أن العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نقد لأن الموسر يضن عليه بالقرض فيضطر إلى أن يشتري منه سلعة ثم يبيعها فإن اشتراها منه بائعها كانت عينة وإن باعها من غيره فهي التورق. ومقصوده في الموضعين: الثمن. فقد حصل في ذمته ثمن مؤجل مقابل لثمن حال أنقص منه ولا معنى للربا إلا هذا لكنه ربا بسلم لم يحصل له مقصوده إلا بمشقة ولو لم يقصده كان ربا بسهولة.
وللعينة صورة رابعة -وهي أخت صورها- وهي: أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا نسيئة ونص أحمد على كراهة ذلك فقال: العينة أن يكون عنده المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة فإن باع بنسيئة ونقد فلا بأس.
وقال أيضا: أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة فلا يبيع بنقد.
قال ابن عقيل: إنما كره ذلك لمضارعته الربا، فإن البائع بنسيئة يقصد الزيادة غالبا.
وعلله شيخنا ابن تيمية رضي الله عنه بأنه يدخل في بيع المضطر فإن غالب من يشتري بنسيئة إنما يكون لتعذر النقد عليه فإذا كان الرجل لا يبيع إلا بنسيئة كان ربحه على أهل الضرورة والحاجة وإذا باع بنقد ونسيئة كان تاجرا من التجار.
وللعينة صورة خامسة: -وهي أقبح صورها وأشدها تحريما - وهي: أن
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) .
(2) سنن أبو داود البيوع (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) .
(3) سورة البقرة الآية 237 (2) {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}
(4) سنن أبو داود البيوع (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) .(7/49)
المترابيين يتواطآن على الربا، ثم يعمدان إلى رجل عنده متاع فيشتريه منه المحتاج ثم يبيعه للمربي بثمن حال ويقبضه منه ثم يبيعه إياه المربي بثمن مؤجل وهو ما اتفقا عليه ثم يعيد المتاع إلى ربه ويعطيه شيئا وهذه تسمى الثلاثية لأنها بين ثلاثة وإذا كانت السلعة بينهما خاصة فهي الثنائية، وفي الثلاثية: قد أدخلا بينهما محللا يزعمان أنه يحلل لهما ما حرم الله من الربا، وهو كمحلل النكاح فهذا محلل الربا، وذلك محلل الفروج، والله تعالى لا تخفى عليه خافية بل يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور (1) .
سئل الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله عن رجل عليه دين لرجل يحتاج إلى بضاعة أو حيوان ينتفع به أو يتاجر فيه فيطلبه من إنسان دينا فلم يكن عنده هل للمطلوب أن يشتريه ثم يبيعه له بثمن إلى أجل وهل له أن يوكله في شرائه ثم يبيعه له بعد ذلك بربح اتفقا عليه قبل الشراء؟
فأجاب: من كان له عليه دين فإن كان موسرا وجب عليه أن يوفيه وإن كان معسرا وجب إنظاره ولا يجوز قلبه عليه بمعاملة ولا غيرها وأما البيع إلى أجل ابتداء فإن كان مقصود المشتري الانتفاع بالسلعة أو التجارة فيها جاز إذا كان على الوجه المباح وأما إذا كان مقصوده الدراهم فيشتريها بمائة مؤجلة ويبيعها في السوق بسبعين حالة فهذا مذموم منهي عنه في أظهر قولي العلماء وهذا يسمى التورق، قال أبو عمر بن عبد البر: التورق أخية الربا.
__________
(1) ص: 99- 109 \ جزء: 3 - ص: 17- 8 \ جزء: 5 من الدرر(7/50)
وسئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن حكم التورق فأجاب فيما يلي:
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم أحمد علي الروضان، سلمه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد
وصل كتابك الذي تستفتي فيه عما يتعامل به بعض الناس إذا احتاج إلى نقود وذهب إلى التاجر ليستدين منه وباع عليه أكياس سكر وغيرها نسيئة بثمن يزيد على ثمنها نقدا فيأخذ المحتاج السكر ويبيعه بالنقص عما اشتراه به من التاجر ليقضي حاجته، وتسأل هل هذا التعامل حرام أم حلال وهل يعتبر من الربا في شيء؟
الجواب: هذه المسألة تسمى مسألة التورق والمشهور من المذهب جوازها وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا لم يكن للمشتري حاجة إلى السلعة بل حاجته إلى الذهب والورق فيشتري السلعة ليبيعها بالعين التي احتاج إليها فإن أعاد السلعة إلى البائع فهو الذي لا يشك في تحريمه وإن باعها لغيره بيعا تاما ولم تعد إلى الأول بحال فقد اختلف السلف في كراهته ويسمونه التورق، وكان عمر بن عبد العزيز يكرهه ويقول: التورق أخية الربا وإياس بن معاوية يرخص فيه وعن الإمام أحمد روايتان.
والمشهور الجواز وهو الصواب قال في (مطالب أولي النهى) : ولو احتاج إنسان لنقد فاشترى ما يساوي مائة بأكثر كمائة وخمسين مثلا ليتوسع بثمنه فلا بأس بذلك نص عليه وهي مسألة التورق، وقال في الاختيارات، قال أبو طالب: قيل للإمام أحمد إن ربح الرجل في العشرة خمسة يكره ذلك، قال: إذا كان أجله إلى سنة أو بقدر الربح فلا بأس وقال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبد الله (يعني أحمد بن حنبل) يقول: بيع النسيئة إذا كان مقاربا فلا بأس به وهذا يقتضي كراهة الربح الكثير الذي يزيد على قدر الأجل لأنه يشبه بيع المضطر وهذا يعم بيع المرابحة والمساومة. والله أعلم.
مفتي البلاد السعودية في 12 \ 5 \ 1386هـ.(7/51)
وسئل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز عن حكم البيع إلى أجل وبيع التورق والعينة والقرض بالفائدة فأجاب وفقه الله:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه.
أما بعد، فقد سئلت عن حكم بيع كيس السكر ونحوه بمبلغ مائة وخمسين ريالا إلى أجل وهو يساوي مبلغ مائة ريال نقدا؟
والجواب عن ذلك أن هذه المعاملة لا بأس بها؛ لأن بيع النقد غير بيع التأجيل. ولم يزل المسلمون يستعملون مثل هذه المعاملة، وهو كالإجماع منهم على جوازها، وقد شذ بعض أهل العلم فمنع الزيادة لأجل الأجل وظن ذلك من الربا وهو قول لا وجه له وليس من الربا في شيء؛ لأن التاجر حين باع السلعة إلى أجل إنما وافق على التأجيل من أجل انتفاعه بالزيادة والمشتري إنما رضي بالزيادة من أجل المهلة وعجزه عن تسليم الثمن نقدا فكلاهما منتفع بهذه المعاملة وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على جواز ذلك «أنه صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يجهز جيشا فكان يشتري البعير بالبعيرين (1) » إلى أجل ثم هذه المعاملة تدخل في عموم قول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) الآية، وهذه المعاملة من المداينات الجائزة الداخلة في الآية المذكورة وهي من جنس معاملة بيع السلم، فإن البائع في السلم يبيع من ذمته حبوبا أو غيرها مما يصح السلم فيه بثمن حاضر أقل من الثمن الذي يباع به المسلم فيه وقت السلم لكون المسلم فيه مؤجلا والثمن معجلا فهو عكس المسألة المسؤول عنها.
وهو جائز بالإجماع وهو مثل البيع إلى أجل في المعنى والحاجة إليه ماسة كالحاجة إلى المسلم والزيادة في السلم مثل الزيادة في البيع إلى أجل سببها فيهما تأخير تسليم المبلغ في مسألة السلم وتأخير تسليم الثمن في مسألة البيع إلى أجل لكن إذا كان مقصود المشتري لكيس السكر ونحوه بيعه والانتفاع بثمنه وليس مقصوده الانتفاع بالسلعة نفسها فهذه المعاملة تسمى مسألة (التورق) ويسميها بعض العامة (الوعدة) .
* وقد اختلف العلماء في جوازها على قولين:
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3357) ، مسند أحمد بن حنبل (2/171) .
(2) سورة البقرة الآية 282(7/52)
أحدهما: أنها ممنوعة أو مكروهة لأن المقصود منها شراء دراهم بدراهم وإنما السلعة المبيعة واسطة غير مقصودة.
والقول الثاني: للعلماء جواز هذه المعاملة لمسيس الحاجة إليها لأنه ليس كل أحد اشتدت حاجته إلى النقد يجد من يقرضه بدون ربا، ولدخولها في عموم قوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) ولأن الأصل في الشرع حل جميع المعاملات إلا ما قام الدليل على منعه ولا نعلم حجة شرعية تمنع هذه المعاملة، وأما تعليل من منعها أو كرهها لكون المقصود منها هو النقد فليس ذلك موجبا لتحريمها ولا لكراهتها لأن مقصود التجار غالبا في المعاملات هو تحصيل نقود أكثر بنقود أقل والسلع المبيعة هي الواسطة في ذلك وإنما يمنع مثل هذا العقد إذا كان البيع والشراء من شخص واحد كمسألة العينة.
فإن ذلك يتخذ حيلة على الربا وصورة ذلك أن يشتري شخص سلعة من آخر بثمن في الذمة ثم يبيعها عليه بثمن أقل ينقده إياه فهذا ممنوع شرعا لما فيه من الحيلة على الربا، وتسمى هذه المسألة مسألة العينة، وقد ورد فيها من حديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهما ما يدل على منعها. أما مسألة التورق التي يسميها بعض الناس الوعدة فهي معاملة أخرى ليست من جنس مسألة العينة لأن المشتري فيها اشترى السلعة من شخص إلى أجل وباعها من آخر نقدا من أجل حاجته للنقد وليس في ذلك حيلة على الربا لأن المشتري غير البايع ولكن كثيرا من الناس في هذه المعاملة لا يعملون بما يقتضيه الشرع في هذه المعاملة فبعضهم يبيع ما لا يملك ثم يشتري السلعة بعد ذلك ويسلمها للمشتري وبعضهم إذا اشتراها يبيعها وهي في محل البايع قبل أن يقبضها القبض الشرعي وكلا الأمرين غير جائز لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك (3) » وقال عليه الصلاة والسلام «لا يحل سلف وبيع ولا بيع ما ليس عندك (4) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه (5) » قال ابن عمر رضي الله عنهما: «كنا نشتري الطعام جزافا فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ينهانا أن نبيعه حتى ننقله إلى رحالنا (6) » وثبت عنه عليه الصلاة
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) .
(4) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/403) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(5) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/22) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(6) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(7/53)
والسلام أيضا أنه «نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (1) » .
ومن هذه الأحاديث وما جاء في معناها يتضح لطالب الحق أنه لا يجوز للمسلم أن يبيع سلعة ليست في ملكه ثم يذهب فيشتريها، بل الواجب تأخير بيعها حتى يشتريها ويحوزها إلى ملكه ويتضح أيضا أن ما يفعله كثير من الناس من بيع السلع وهي في محل البائع قبل نقلها إلى ملك المشتري أو إلى السوق أمر لا يجوز، لما فيه من مخالفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما فيه من التلاعب بالمعاملات، وعدم التقيد فيها بالشرع المطهر وفي ذلك من الفساد والشرور والعواقب الوخيمة ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، نسأل الله لنا ولجميع المسلمين التوفيق للتمسك بشرعه والحذر مما يخالفه.
أما الزيادة التي تكون بها المعاملة من المعاملات الربوية فهي التي تبذل لدائن بعد حلول الأجل ليمهل المدين وينظره، فهذه الزيادة هي التي كان يفعلها أهل الجاهلية.
ويقولون للمدين قولهم المشهور: "إما أن تقضي وإما أن تربى" فمنع الإسلام ذلك وأنزل الله فيه قوله سبحانه {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (2) وأجمع العلماء على تحريم هذه الزيادة وعلى تحريم كل معاملة يتوسل بها إلى تحليل هذه الزيادة مثل أن يقول الدائن للمدين: اشتر مني سلعة من سكر أو غيره إلى أجل ثم بعها بالنقد وأوفني حقي الأول، فإن هذه المعاملة حيلة ظاهرة على استحلال الزيادة الربوية التي يتعاطاها أهل الجاهلية لكن بطريق آخر غير طريقهم.
فالواجب تركها والحذر منها وإنظار المدين المعسر حتى يسهل الله له القضاء كما أن الواجب على المدين المعسر أن يتقي الله ويعمل الأسباب الممكنة المباحة لتحصيل ما يقضي به الدين ويبرئ به ذمته من حق الدائنين.
وإذا تساهل في ذلك ولم يجتهد في أسباب قضاء ما عليه من الحقوق فهو ظالم لأهل الحق غير مؤد للأمانة فهو في حكم الغني المماطل وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مطل الغني ظلم (3) » وقال: عليه الصلاة والسلام «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته (4) » والله المستعان.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(2) سورة البقرة الآية 280
(3) صحيح البخاري الحوالات (2287) ، صحيح مسلم المساقاة (1564) ، سنن الترمذي البيوع (1308) ، سنن النسائي البيوع (4691) ، سنن أبو داود البيوع (3345) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2403) ، مسند أحمد بن حنبل (2/380) ، موطأ مالك البيوع (1379) ، سنن الدارمي البيوع (2586) .
(4) سنن النسائي البيوع (4689) ، سنن أبو داود الأقضية (3628) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2427) ، مسند أحمد بن حنبل (4/388) .(7/54)
ومن المعاملات الربوية أيضا ما يفعله بعض البنوك وبعض التجار من الزيادة في القرض إما مطلقا، وإما في كل سنة شيئا معلوما، فالأول مثل أن يقرضه ألفا على أن يرد إليه ألفا ومائة، أو يسكنه داره، أو دكانه، أو يعيره سيارته، أو دابته مدة معلومة، أو ما أشبه ذلك من الزيادات.
وأما الثاني: فهو أن يجعل له كل سنة أو كل شهر ربحا معلوما في مقابل استعماله المال الذي دفعه إليه المقرض سواء دفعه باسم القرض أم باسم الأمانة. فإنه متى قبضه باسم الأمانة للتصرف فيه كان قرضا مضمونا ولا يجوز أن يدفع إلى صاحبه شيئا من الربح إلا أن يتفق هو والبنك أو التاجر على استعمال ذلك المال على وجه المضاربة بجزء مشاع معلوم من الربح لأحدهما والباقي للآخر، وهذا العقد يسمى أيضا: القراض وهو جائز بالإجماع لأنهما قد اشتركا في الربح والخسران والمال الأساسي في هذا العقد في حكم الأمانة في يد العامل إذا تلف من غير تعد ولا تفريط لم يضمنه وليس له عن عمله إلا الجزء المشاع المعلوم من الربح المتفق عليه في العقد.
وبهذا تتضح المعاملة الشرعية والمعاملة الربوية.
والله ولي التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
مجمل ما ذكر في النقول في العينة والتورق
1 - تطلق العينة ويراد بها بيع إنسان من آخر سلعة لأجل بمائة ريال مثلا، ثم شراؤه إياها منه نقدا بأقل من ذلك، وهي بهذا المعنى من أبرز أنواع البيوع في التحايل على الربا، وأظهرها في استغلال حاجة المضطرين.
وسميت عينة، لأن المقصد منها الحصول على العين، وهو النقد، دون قصد حقيقة البيع وتملك السلعة، وقيل: هي فعلة من العون، لأن البائع يستعين بالمشتري على تحصيل مقاصده، وقيل من العناء وهو تجشم المشقة.(7/55)
2 - قال بتحريم العينة بهذا المعنى جمهور العلماء لأدلة:
أمنها أنها ذريعة قريبة إلى الربا، فكانت حراما، وقد أوضح هذا ابن القيم بوجوه نقلت في الأعداد.
ب ومنها ما رواه الإمام أحمد في المسند من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعتم بالعينة (1) » . . . " الحديث ورواه أبو داود في سننه من طريق عطاء الخراساني أن نافعا حدثه عن ابن عمر رضي الله عنهما فذكره.
ج ومنها ما ذكرته عائشة رضي الله عنها في قصة زيد بن أرقم وأم ولده، ورجوع أم ولده عن أخذ الزيادة من زيد ولم ينقل أن زيدا رد على عائشة قولها، رضي الله عنهم، ومثل هذا الإنكار من عائشة لا يكون إلا عن توقيف.
د ومنها قول أنس رضي الله عنه حينما سئل عن العينة: "إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله"، وقول ابن عباس لما سئل عن حريرة بيعت بدراهم، ثم اشتراها من باعها بأقل: (دراهم بدراهم بينهما حريرة، هذا مما حرم الله ورسوله) ومثل هذا القول من أنس وابن عباس رضي الله عنه له حكم المرفوع.
هـ ومنها ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (2) » فإنه ينطبق على العينة بالمعنى المتقدم كما صرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم رحمة الله عليهما.
وقال الشافعي: يجوز بيع العينة بالمعنى المتقدم ولم يثبت الأحاديث الواردة في النهي عنها، وتأول حديث عائشة رضي الله عنها بحمله على البيع إلى العطاء وهو أجل مجهول، وقال: إن هذه السلعة كسائر مالي، فلم لا أبيع ملكي بما شئت وشاء
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/28) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .(7/56)
المشتري؟ وقال: إن قول عائشة عارضه عمل زيد.
ورد طعنه في حديث عائشة رضي الله عنها بأن العالية بنت سبيع معروفة برواية ابنها يونس وزوجها أبي إسحاق عنها وتوثيق العجلي لها، ورد تأويله حديثها بأنها ترى جواز البيع إلى العطاء، وردت معارضته قولها بعمل زيد رضي الله عنهما بأنه لم يعرف عنه إنكار قولها أو الإصرار على بقائه على العمل بالعينة ورد قياسه بأنه قياس مع الفارق ومنقوض بمعارضته لقاعدة سد الذرائع ولأحاديث النهي عن العينة.
3 وتطلق العينة أيضا على ما إذا تواطأ المترابيان على الربا ثم عمدا إلى رجل عنده متاع فيشتريه منه المحتاج ثم يبيعه للمربي بثمن حال ويقبضه منه، ثم يبيعه إياه المربي بثمن أكثر مؤجل وهو ما اتفقا عليه، ثم يعيد المتاع إلى ربه ويعطيه شيئا وهذه تسمى: الثلاثية لأنها بين ثلاثة، وذكر ابن القيم رحمه الله أن هذه الصورة أقبح صور العينة، وأشدها تحريما، وأنها في البيع شبيهة بصورة المحلل في النكاح.
4 قال ابن القيم -رحمه الله- فيما إذا باع إنسان سلعة بنقد ثم اشتراها ممن باعها له أولا بأكثر منه إلى أجل: إن هذه الصورة شبيهة بالعينة في المقصد لأنه قد ترتب في ذمة كل منهما دراهم مؤجلة بأقل منها نقدا، لكن في إحدى الصورتين البائع هو الذي اشتغلت ذمته، وفي الصورة الأخرى المشتري هو الذي اشتغلت ذمته فلا فرق بينهما في الحكم، وذكر أن الإمام أحمد -رحمه الله- نص في رواية حرب أن هذه الصورة لا تجوز، وذكر عن بعض الأصحاب احتمال جواز الصورة الثانية ونقل عنهم الفرق بين الصورتين ثم رده. وقال: ليس في النص ما يدل على اختصاص العينة بالصورة الأولى حتى تتقيد به نصوص مطلقة على تحريم العينة.
5 ذكر ابن القيم أن من صور العينة ما إذا اضطر الإنسان إلى مال فاشترى سلعة ليبيعها حتى يحصل على المال الذي يسد به حاجته وقال: قد نص أحمد في(7/57)
رواية أبي داود على أنها من العينة وأطلق عليها اسمها، وذكر أيضا أن هذه الصورة تسمى: التورق. لأن المقصود منها الورق لسد حاجته وسبقه إلى ذلك ابن تيمية وتبعهما فيه الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ورجحوا تحريمها سواء سميت تورقا أو عينة.
6 من صور العينة عند بعضهم أن يكون عند الرجل أمتعة لا يبيعها إلا نسيئة قصدا للزيادة في الربح وقد نص الإمام أحمد -رحمه الله- على كراهة ذلك أما إذا كان يبيع بنقد ونسيئة فلا بأس.
7 أطلق التورق على ما ذكر في الفقرة الخامسة ومقتضى تعليل تسميته تورقا بأنه بيع يقصد منه الورق لا تملك السلعة ولا الحاجة إلى استهلاكها أنه يطلق على كل صور العينة.
8 الغالب في العينة والتورق أن يكون عقدهما بين موسر ومحتاج أو مضطر وقد ورد النهي عن استغلال المضطر في البيع، وقد يكون عقدهما أحيانا بين موسرين حرصا من المغبون فيهما على زيادة رأس ماله ليتسع نطاق تصرفه في التجارة ونحوها مثلا.(7/58)
من مسائل السلم:
آراء الفقهاء في حكم بيع دين السلم مع التوجيه والمناقشة:
أ - قال صاحب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع -رحمه الله (1) -:
(فصل)
وأما بيان ما يجوز من التصرف في المسلم فيه وما لا يجوز فنقول وبالله التوفيق: لا يجوز استبدال المسلم فيه قبل قبضه، بأن يأخذ رب السلم مكانه من غير جنسه لما ذكرنا أن المسلم فيه وإن كان دينا فهو مبيع ولا يجوز بيع المبيع المنقول قبل القبض، ويجوز الإبراء عنه لأن قبضه ليس بمستحق على رب السلم، وكان هو بالإبراء متصرفا في خالص حقه بالإسقاط فله ذلك بخلاف الإبراء عن رأس المال، لأنه مستحق القبض حقا للشرع فلا يملك إسقاطه بنفسه بالإبراء على ما ذكرنا.
بـ - قال ابن رشد - رحمه الله - في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2) :
مسألة اختلاف العلماء في بيع المسلم فيه إذا حان الأجل من المسلم إليه قبل قبضه فمن العلماء من لم يجز ذلك أصلا، وهم القائلون بأن كل شيء لا يجوز بيعه قبل قبضه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق. وتمسك أحمد وإسحاق في منع هذا بحديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (3) » .
وأما مالك فإنه منع شراء المسلم فيه قبل قبضه في موضعين:
أحدهما: إذا كان المسلم فيه طعاما، وذلك بناء على مذهبه في أن الذي يشترط في بيعه القبض هو الطعام على ما جاء عليه النص في الحديث.
__________
(1) ص: 3178 \ جزء:7
(2) ص: 155 \ جزء:2
(3) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .(7/59)
والثاني: إذا لم يكن المسلم فيه طعاما فأخذ عوضه المسلم ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله قبل أن يكون المسلم فيه عرضا، والثمن عرضا مخالفا له، فيأخذ المسلم من المسلم إليه إذا حان الأجل شيئا من جنس ذلك العرض الذي هو الثمن وذلك أن هذا يدخله إما سلف أو زيادة إن كان العرض المأخوذ أكثر من رأس مال السلم، وإما ضمان وسلف إن كان مثله أو أقل وكذلك إن كان رأس مال السلم طعاما لم يجز أن يأخذ فيه طعاما آخر أكثر، لا من جنسه ولا من غير جنسه، فإن كان مثل طعامه في الجنس والكيل والصفة فيما حكاه عبد الوهاب جاز، لأنه يحمله على العوض وكذلك يجوز عنده أن يأخذ من الطعام المسلم فيه طعاما من صفته، وإن كان أقل جودة، لأنه عنده من باب البدل في الدنانير والإحسان: مثل أن يكون له عليه قمح فيأخذ بمكيلته شعيرا، وهذا كله من شرطه عند مالك أن لا يتأخر القبض لأنه يدخله الدين بالدين.
وإن كان رأس مال السلم عينا وأخذ المسلم فيه عينا من جنسه جاز ما لم يكن أكثر منه، ولم يتهمه على بيع العين بالعين نسيئة إذا كان مثله أو أقل وإن أخذ دراهم في دنانير لم يتهمه على الصرف المتأخر، وكذلك إن أخذ فيه دنانير من غير صنف الدنانير التي هي رأس مال السلم.
وأما بيع السلم من غير المسلم إليه، فيجوز بكل شيء يجوز به التبايع ما لم يكن طعاما، لأنه يدخله ببيع الطعام قبل قبضه. وأما الإقالة فمن شرطها عند مالك أن لا يدخلها زيادة ولا نقصان فإن دخلها زيادة أو نقصان كان بيعا من البيوع ودخلها ما يدخل البيوع، أعني أنها تفسد عنده بما يفسد بيوع الآجال مثل أن يتذرع إلى بيع وسلف، أو إلى وضع وتعجل، أو إلى بيع السلم بما لا يجوز بيعه، مثال ذلك في دخول بيع وسلف به إذا حل الأجل، فأقاله على أن أخذ البعض وأقال من البعض فإنه لا يجوز عنده فإنه يدخله التذرع إلى بيع وسلف. وذلك جائز عند الشافعي وأبي حنيفة لأنهما لا يقولان بتحريم بيوع الذرائع.(7/60)
ج قال صاحب المجموع شرح المهذب (1) :
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
يجوز فسخ عقد السلم بالإقالة لأن الحق لهما فجاز لهما الرضا بإسقاطه فإذا فسخا أو انفسخ بانقطاع الثمرة في أحد القولين أو بالفسخ في القول الآخر رجع المسلم إلى رأس المال فإن كان باقيا وجب رده وإن كان تالفا ثبت بدله في ذمة المسلم إليه، فإن أراد أن يسلمه في شيء آخر لم يجز لأنه بيع دين بدين، وإن أراد أن يشتري به عينا نظرت فإن كان تجمعهما علة واحدة في الربا كالدراهم بالدنانير والحنطة بالشعير لم يجز أن يتفرقا قبل القبض، كما لو أراد أن يبيع أحدهما بالآخر عينا بعين وإن لم تجمعهما علة واحدة في الربا كالدراهم بالحنطة والثوب بالثوب ففيه وجهان.
أحدهما: يجوز أن يتفرقا من غير قبض كما يجوز إذا باع أحدهما بالآخر عينا بعين أن يتفرقا من غير قبض.
والثاني: لا يجوز، لأن المبيع في الذمة فلا يجوز أن يتفرقا قبل قبض عوضه كالمسلم فيه. والله تعالى أعلم.
الشرح - الأحكام: الإقالة فسخ وليست ببيع على المشهور من المذهب سواء كان قبل القبض أو بعده، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- لأنه يقول: هي بيع في حق غير المتعاقدين، فثبتت بها الشفعة، وقال أبو يوسف -رحمه الله-: إن كان قبل القبض فهي فسخ، وإن كان بعد القبض فهي بيع، وقال مالك -رحمه الله-: هي بيع بكل حال.
وحكى القاضي أبو الطيب أنه قول قديم للشافعي -رحمه الله-. وأما أبو حامد فحكاه وجها لبعض أصحابنا. دليلنا أن المبيع عاد إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع فكان فسخا كالرد بالعيب، إذا ثبت هذا فإن سلم رجل إلى غيره شيئا في شيء ثم تقابلا في عقد السلم صح. وقد وافقنا مالك -رحمه
__________
(1) ص: 119 - 161 \ جزء: 12(7/61)
الله- على ذلك وهذا من أوضح دليل على أن الإقالة فسخ، لأنها لو كانت بيعا لما صح في المسلم فيه قبل القبض، كما لا يصح بيعه. وإن أقاله في بعض المسلم فيه صح في القدر الذي أقاله.
وقال ابن أبي ليلى. يكون إقالة في الجميع، وقال ربيعة ومالك لا يصح؛ دليلنا أن الإقالة مندوب إليها بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «من أقال نادما في بيع أقاله الله نفسه يوم القيامة (1) » وما جاز في جميع المبيع جاز في بعضه كالإبراء والإنظار، وإن أقاله بأكثر من الثمن أو أقل منه إلي جنس آخر لم تصح الإقالة، وقال أبو حنيفة تصح الإقالة، ويجب رد الثمن المسمى في العقد، دليلنا أن المسلم والمشتري لم يسقط حقه من المبيع إلا بشرط العوض الذي شرطه، فإذا لم يصح له العوض لم تصح له الإقالة، كما لو اشترى منه داره بألف بشرط العوض الذي شرطه، فإذا لم يصح له العوض لم تصح له الإقالة. كما لو اشترى منه داره بألف بشرط أن يبيعه سيارته بألف.
(فرع) وإن ضمن ضامن عن المسلم إليه المسلم فيه ثم إن الضامن صالح المسلم عما في ذمة المسلم إليه بمثل رأس مال المسلم لم يصح الصلح، لأن الضامن لا يملك المسلم فيه فيعوض عنه، فأما إذا أكد المسلم إليه بمثل رأس مال السلم، قال أبو العباس صح الصلح وكان إقالة، لأن الإقالة هي أن يشتري ما دفع ويعطي ما أخذ. وهذا مثله.
* (فرع) وإذا انفسخ عقد السلم بالفسخ أو الانفساخ سقط المسلم فيه عن ذمة المسلم إليه، ورجع المسلم إلى رأس مال السلم، فإن كان باقيا أخذه، وإن كان تالفا رجع إلى مثله إن كان له مثل وإن كان لا مثل له رجع إلى قيمته، وإن أراد أن يسلم في شيء آخر لم يجز لأنه بيع دين بدين، وإن أراد أن يأخذ ما هو من جنسه جاز أن يأخذ مثله، ولم يجز أن يأخذ أكثر منه ولا أقل منه، ولا يصح أن يتفرقا قبل قبضه، كما قلنا في البيع، وإن أراد أن يأخذ منه عوضا ليس من أموال الربا، كالثياب والدواب، أو كان رأس المال من غير أموال الربا صح ذلك أيضا.
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3460) ، سنن ابن ماجه التجارات (2199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .(7/62)
وهل يشترط فيه القبض قبل التفرق؟
فيه وجهان:
أحدهما: أنه يشترط ذلك، فلا يفترقان والعوض المعوض في ضمان واحد.
والثاني: لا يشترط ذلك، كما لو اشترى أحدهما بالآخر، وإن اختلفا في قدر رأس مال السلم فالقول قول المسلم إليه مع يمينه، لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على ما أقر به، وإن اختلفا في قدر المسلم فيه أو الأجل أو في قدره تحالفا وإن اتفقا على الأجل واختلفا في انقضائه وادعى المسلم انقضاء الأجل وادعى المسلم إليه بقاءه فالقول قول المسلم إليه مع يمينه لأن الأصل بقاؤه، والله أعلم.
د قال صاحب المغني -رحمه الله - (1) :
مسألة - قال: (وبيع المسلم فيه من بائعه أو من غيره قبل قبضه فاسد وكذلك الشركة فيه والتولية والحوالة به طعاما كان أو غيره) أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافا، وقد «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه وعن ربح ما لم يضمن» . لأنه مبيع لم يدخل في ضمانه. فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه.
وأما الشركة فيه والتولية فلا تجوز أيضا. لأنهما بيع على ما ذكرنا من قبل وبهذا قال أكثر أهل العلم، وحكى عن مالك جواز الشركة والتولية. لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وأرخص في الشركة والتولية» .
* ولنا: أنها معاوضة في المسلم فيه قبل القبض فلم تجز كما لو كانت بلفظ البيع، ولأنهما نوعا بيع فلم يجوزا في السلم قبل قبضه كالنوع الآخر، والخبر لا نعرفه، وهو حجة لنا، لأنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه والشركة والتولية بيع، فيدخلان في النهي. ويحمل قوله «وأرخص في الشركة والتولية» على أنه أرخص فيهما في الجملة لا في هذا الموضع.
__________
(1) ص: 301- 303 \ جزء:4.(7/63)
وأما الإقالة: فإنها فسخ وليست بيعا.
وأما الحوالة به فغير جائزة، لأن الحوالة إنما تجوز على دين مستقر والسلم بعرض الفسخ فليس بمستقر، ولأنه نقل الملك في السلم فيه على غير وجه الفسخ فلم يجز كالبيع، ومعنى الحوالة به أن يكون لرجل طعام من سلم وعليه مثله من قرض أو سلم آخر أو بيع فيحيل بما عليه من الطعام على الذي له عنده السلم فلا يجوز. وإن أحال المسلم إليه المسلم بالطعام الذي عليه لم يصح أيضا، لأنه معاوضة بالمسلم فيه قبل قبضه فلم يجز كالبيع.
وأما بيع المسلم فيه من بائعه فهو أن يأخذ غير ما أسلم فيه عوضا، عن المسلم فيه، فهذا حرام سواء كان المسلم فيه موجودا أو معدوما سواء كان العرض مثل المسلم فيه في القيمة أو أقل أو أكثر وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى فيمن أسلم في بر فعدمه عند المحل، فرضي المسلم بأخذ الشعير مكان البر جاز ولم يجز أكثر من ذلك. وهذا يحمل على الرواية التي فيها أن البر والشعير جنس واحد، والصحيح في المذهب خلافه.
وقال مالك: يجوز أن يأخذ غير المسلم فيه مكانه بتعجله ولا يؤخره، إلا الطعام.
قال ابن المنذر: وقد ثبت أن ابن عباس قال: "إذا أسلم في شيء إلى أجل فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا فخذ عوضا أنقص منه ولا تربح مرتين" رواه سعيد في سننه.
* ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (1) » رواه أبو داود وابن ماجه، ولأن أخذ العوض عن المسلم فيه بيع، فلم يجز كبيعه من غيره، فأما إن أعطاه من جنس ما أسلم فيه خيرا منه أو دونه في الصفات جاز لأن ذلك ليس ببيع، إنما هو قضاء للحق مع تفضل من أحدهما.
* قال ابن القيم -رحمه الله- في تهذيب السنن على حديث «من أسلف في
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .(7/64)
شيء فلا يصرفه إلى غيره» اختلف الفقهاء في حكم هذا الحديث وهو جواز أخذ غير المسلم فيه عوضا عنه وللمسألة صورتان:
* إحداهما: أن يعارض عن المسلم فيه مع بقاء عقد السلم، فيكون قد باع دين السلم قبل قبضه.
* والصورة الثانية: أن ينفسخ العقد بإقالة أو غيرها، فهل يجوز أن يصرف الثمن في عوض آخر غير المسلم فيه؟
* فأما المسألة الأولى: فمذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد -في المشهور عنه- أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه لا لمن هو في ذمته ولا لغيره. وحكى بعض أصحابنا ذلك إجماعا. وليس بإجماع، فمذهب مالك جوازه وقد نص عليه أحمد في غير موضع. وجوز أن يأخذ عوضه عرضا بقدر قيمة دين السلم وقت الاعتياض ولا يربح فيه.
* وطائفة من أصحابنا خصت هذه الرواية بالحنطة والشعير فقط. كما قال في المستوعب: ومن أسلم في شيء لم يجز أن يأخذ من غير جنسه بحال في إحدى الروايتين. والأخرى: يجوز أن يأخذ ما دون الحنطة من الحبوب كالشعير ونحوه بمقدار كيل الحنطة لا أكثر منها ولا بقيمتها، نص عليه في رواية أبي طالب إذا أسلفت في كر حنطة فأخذت شعيرا فلا بأس وهو دون حقك ولا يأخذ مكان الشعير حنطة.
* وطائفة ثالثة من أصحابنا: جعلت المسألة رواية واحدة وأن هذا النص بناء على قوله في الحنطة والشعير أنهما جنس واحد وهي طريقة صاحب المغني.
* وطائفة رابعة من أصحابنا: حكوا رواية مطلقة في المكيل والموزون وغيره. ونصوص أحمد تدل على صحة هذه الطريقة وهي طريقة أبي حفص الطبري وغيره.(7/65)
قال القاضي: نقلت من خط أبي حفص في مجموعه: فإن كان ما أسلم فيه مما يكال أو يوزن فأخذ من غير نوعه مثل كيله مما هو دونه في الجودة جاز وكذلك إن أخذ بثمنه مما لا يكال ولا يوزن كيف شاء.
ونقل أبو القاسم عن أحمد قلت لأبي عبد الله: إذا لم يجد ما أسلم فيه ووجد غيره من جنسه أيأخذه؟ قال: نعم، إذا كان دون الشيء الذي له كما لو أسلم في قفيز حنطة موصلي فقال: أخذ مكانه شلبيا. أو قفيز شعير فكيلته واحدة لا يزداد، وإن كان فوقه فلا يأخذ. وذكر حديث ابن عباس الذي رواه طاوس عنه: "إذا أسلمت في شيء فجاء الأجل فلم تجد الذي أسلمت فيه فخذ عوضا بأنقص منه ولا تربح مرتين".
ونقل أحمد بن أصرم: سئل أحمد عن رجل أسلم في طعام إلى أجل، فإذا حل الأجل يشتري منه عقارا أو دار؟ فقال: نعم، يشتري منه ما لا يكال ولا يوزن.
وقال حرب: سألت أحمد فقلت: رجل أسلم إلى رجل دراهم في بر فلما حل الأجل لم يكن عنده بر؟ فقال: قوم الشعير بالدراهم فخذ من الشعير فقال: لا يأخذ منه الشعير إلا مثل كيل البر أو أنقص، قلت: إذا كان البر عشرة أجربة يأخذ الشعير عشرة أجربة؟ قال: نعم.
إذا عرف هذا. فاحتج المانعون بوجوه:
أحدها: الحديث.
والثاني: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه.
الثالث: نهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن وهذا غير مضمون عليه. لأنه في ذمة المسلم إليه.
والرابع: أن هذا المبيع مضمون له على المسلم إليه. فلو جوزنا بيعه صار مضمونا عليه للمشتري فيتولى في المبيع ضمانان.
الخامس: أن هذا إجماع كما تقدم.
هذا جملة ما احتجوا به.
قال المجوزون بالصواب: جواز هذا العقد والكلام معكم في مقامين:(7/66)
أحدهما: في الاستدلال على جوازه.
والثاني: في الجواب عما استدللتم به على المنع.
* فأما الأول: فنقول قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس أنه قال: "إذا أسلفت في شيء إلى أجل فإن أخذت ما أسلفت وإلا فخذ عوضا أنقص منه ولا تربح مرتين" رواه شعبة.
فهذا قول صحابي، وهو حجة، ما لم يخالف.
قالوا: وأيضا فلو امتنعت المعاوضة عليه لكان ذلك لأجل كونه مبيعا لم يتصل به القبض، وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء فهذا بيع للثمن ممن هو في ذمته قبل قبضه (1) » .
فما الفرق بينه وبين الاعتياض عن دين السلم بغيره؟
قالوا: وقد نص أحمد على جواز بيع الدين لمن هو في ذمته ولغيره وإن كان أكثر أصحابنا لا يحكون عنه جوازه لغير من هو في ذمته فقد نص عليه في مواضع حكاه شيخنا أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله- عنه.
والذين منعوا جواز بيعه لمن هو في ذمته قاسوه على السلم وقالوا لأنه دين. فلا يجوز بيعه كدين السلم. وهذا ضعيف من وجهين:
أحدهما: أنه قد ثبت في حديث ابن عمر جوازه.
والثاني: أن دين السلم غير مجمع على منع بيعه فقد ذكرنا عن ابن عباس جوازه. ومالك يجوز بيعه من غير المستلف.
والذين فرقوا بين دين السلم وغيره لم يفرقوا بفرق مؤثر والقياس التسوية بينهما.
وأما المقام الثاني: فقالوا: أما الحديث: فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: ضعفه كما تقدم.
والثاني: أن المراد به أن لا يصرف المسلم فيه إلى سلم آخر أو يبيعه بمعين
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/83) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .(7/67)
مؤجل لأنه حينئذ يصير بيع دين بدين وهو منهي عنه، وأما بيعه بعوض حاضر من غير ربح فلا محذور فيه كما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر.
فالذي نهى عنه من ذلك: هو من جنس ما نهى عنه من بيع الكالئ بالكالئ والذي يجوز منه هو من جنس ما أذن فيه من بيع النقد لمن هو في ذمته بغيره من غير ربح.
وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه: فهذا إنما هو في المعين أو المتعلق به حق التوفية من كيل أو وزن فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه. وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء وفائدته سقوط ما في ذمته عنه لا حدوث ملك له. فلا يقاس بالبيع الذي يتضمن شغل الذمة. فإنه إذا أخذ منه عن دين السلم عوضا أو غيره أسقط في ذمته. فكان كالمستوفي دينه لأن بدله يقوم مقامه. ولا يدخل هذا في بيع الكالئ بالكالئ بحال.
والبيع المعروف: هو أن يملك المشتري ما اشتراه. وهذا لم يملك شيئا. بل سقط الدين من ذمته. ولهذا لو وفاه ما في ذمته لم يقل إنه باعه دراهم بدراهم بل يقال وفاه حقه بخلاف ما لو باعه دراهم معينة بمثلها. فإنه بيع. ففي الأعيان إذا عاوض عليها بجنسها أو بعين غير جنسها يسمى بيعا. وفي الدين إذا وفاها بجنسها لم يكن بيعا. فكذلك إذا وفاها بغير جنسها لم يكن بيعا بل هو إيفاء فيه معنى المعاوضة ولو حلف ليقضينه حقه غدا فأعطاه عنه عوضا بر في أصح الوجهين.
وجواب آخر: أن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه أريد به بيعه من غير بائعه. وأما بيعه من البائع ففيه قولان معروفان.
وذلك لأن العلة في المنع إن كانت توالي الضمانين اطرد المنع في البائع وغيره، وإن كانت عدم تمام الاستيلاء. وأن البائع لم تنقطع علقه عن المبيع. بحيث ينقطع طمعه في الفسخ ولا يتمكن من الامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه. لم يطرد النهي في بيعه من بائعه قبل قبضه لانتفاء هذه العلة في حقه. وهذه العلة أظهر وتوالي الضمانين ليس بعلة مؤثرة ولا تتنافى بين كون العين الواحدة مضمونة له من وجه وعليه من وجه آخر. فهي مضمونة له وعليه(7/68)
باعتبارين. وأي محذور في هذا؟ كمنافع الإجارة فإن المستأجر له أن يؤجر ما استأجره، فتكون المنفعة مضمونة له وعليه وكالثمار بعد بدو صلاحها، له أن يبيعها على الشجر وإن أصابتها جائحة رجع على البائع، فهي مضمونة له وعليه. ونظائره كثيرة.
وأيضا: فبيعه من بائعه شبيه بالإقالة وهي جائزة قبل القبض على الصحة.
وأيضا: فدين السلم تجوز الإقالة فيه بلا نزاع. وبيع المبيع لبائعه قبل قبضه غير جائز في أحد القولين.
فعلم أن الأمر في دين السلم أسهل منه في بيع الأعيان. فإذا جاز في الأعيان أن تباع لبائعها قبل القبض فدين السلم أولى بالجواز، كما جازت الإقالة فيه قبل القبض اتفاقا. بخلاف الإقالة في الأعيان.
ومما يوضح ذلك: أن ابن عباس لا يجوز بيع المبيع قبل قبضه، واحتج عليه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه. وقال "أحسب كل شيء بمنزلة الطعام ومع هذا فقد ثبت عنه: أنه جوز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح فيه ولم يفرق بين الطعام وغيره، ولا بين المكيل والموزون وغيرهما، لأن البيع هنا من البائع للبائع الذي هو في ذمته. فهو يقبضه من نفسه لنفسه، بل في الحقيقة ليس هنا قبض، بل يسقط عنه ما في ذمته، فتبرأ ذمته وبراءة الذمم مطلوبة في نظر الشرع لما في شغلها من المفسدة. فكيف يصح قياس هذا على بيع شيء غير مقبوض لأجنبي لم يتحصل بعد ولم تنقطع علق بائعه عنه؟ وأيضا: فإنه لو سلم المسلم فيه ثم أعاده إليه جاز فأي فائدة في أخذه منه ثم إعادته إليه؟ وهل ذلك إلا مجرد كلفة ومشقة لم تحصل بها فائدة؟
ومن هنا يعرف فضل علم الصحابة وفقههم على كل من بعدهم.
قالوا: وأما استدلالكم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن: فنحن نقول بموجبه وأنه لا يربح فيه كما قال ابن عباس: "خذ عوضا بأنقص منه ولا تربح مرتين".
فنحن إنما نجوز له أن يعارض عنه بسعر يومه، كما «قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر في بيع النقود في الذمة: " لا بأس إذا أخذتم بسعر يومها (1) » فالنبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .(7/69)
إنما جوز الاعتياض عن الثمن بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.
وقد نص أحمد على هذا الأصل في بدل العوض وغيره من الديون: أنه إنما يعتاض عنه بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.
وكذلك قال مالك: يجوز الاعتياض عنه بسعر يومه كما قال ابن عباس، لكن مالك يستثنى الطعام خاصة، لأن من أصله: أن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز، بخلاف غيره.
وأما أحمد: فإنه فرق بين أن يعتاض عنه بعوض أو حيوان أو نحوه دون أن يعتاض بمكيل أو موزون، فإن كان بعوض ونحوه جوزه بسعر يومه كما قال ابن عباس ومالك. وإن اعتاض عن المكيل بمكيل أو عن الموزون بموزون فإنه منعه لئلا يشبه بيع المكيل بالمكيل من غير تقابض إذا كان لم توجد حقيقة التقابض من الطرفين، ولكن جوزه إذا أخذ بقدره مما هو دونه كالشعير عن الحنطة نظرا منه إلى أن هذا استيفاء لا معاوضة كما لا يستوفى الجيد عن الردئ. ففي العوض جوز المعاوضة إذ لا يشترط هناك تقابض. وفي المكيل والموزون منع المعاوضة لأجل التقابض وجوز أخذ قدر حقه أو دونه، لأنه استيفاء. وهذا من دقيق فقهه رضي الله عنه.
* قالوا: وأما قولكم: إن هذا الدين مضمون له فلو جوزنا بيعه لزم توالي الضمانين فهو دليل باطل من وجهين:
أحدهما: أنه لا توالي ضمانين هنا أصلا، فإن الدين كان مضمونا له في ذمة المسلم إليه. فإذا باعه إياه لم يصر مضمونا عليه بحال، لأنه مقبوض في ذمة المسلم إليه. فمن أي وجه يكون مضمونا على البائع بل لو باعه لغيره لكان مضمونا له على المسلم إليه ومضمونا عليه للمشتري، وحينئذ يتوالى ضمانان.
* الجواب الثاني: أنه لا محذور في توالي الضمانين، وليس بوصف مستلزم لمفسدة يحرم العقد لأجلها. وأين الشاهد من أصول الشرع لتأثير هذا الوصف وأي حكم علق الشارع فساده على توالي الضمانين؟ وما كان من الأوصاف هكذا فهو طردي لا تأثير له.(7/70)
وقد قدمنا ذكر الصور التي فيها توالي الضمانين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جوز المعاوضة عن ثمن المبيع في الذمة ولا فرق بينه وبين دين السلم.
قالوا: وأيضا فالمبيع إذا أتلف قبل التمكن من قبضه كان على البائع أداء الثمن الذي قبضه من المشتري، فإذا كان هذا المشتري قد باعه فعليه أداء الثمن الذي قبضه من المشتري الثاني، فالواجب بضمان هذا غير الواجب بضمان الآخر. فلا محذور في ذلك.
وشاهده: المنافع في الإجارة والثمرة قبل القطع، فإنه قد ثبت في السنة الصحيحة التي لا معارض لها: وضع الثمن عن المشتري إذا أصابتها جائحة، ومع هذا يجوز التصرف فيها، ولو تلفت لصارت مضمونة عليه بالثمن الذي أخذه، كما هي مضمونة له بالثمن الذي دفعه.
قالوا: وأما قولكم: إن المنع منه إجماع فكيف يصح دعوى الإجماع مع مخالفة حبر الأمة ابن عباس وعالم المدينة مالك بن أنس؟
فثبت أنه لا نص في التحريم ولا إجماع ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة كما تقدم والواجب عند التنازع: الرد إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(7/71)
* (فصل) وأما المسألة الثانية: وهي إذا انفسخ العقد بإقالة أو غيرها فهل يجوز أن يأخذ عن دين السلم عوضا من غير جنسه؟ فيه وجهان:
* أحدهما: لا يجوز ذلك حتى يقبضه ثم يصرفه فيما شاء وهذا اختيار الشريف أبي جعفر وهو مذهب أبي حنيفة.
والثاني: يجوز أخذ العوض عنه وهو اختيار القاضي أبي يعلى، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مذهب الشافعي وهو الصحيح، فإن هذا عوض مستقر في الذمة فجازت المعاوضة عليه كسائر الديون من القرض وغيره.
وأيضا: فهذا مال رجع إليه بفسخ العقد فجاز أخذ العوض عنه كالثمن في المبيع.
وأيضا: فحديث ابن عمر في المعاوضة عما في الذمة صريح في الجواز.(7/71)
واحتج المانعون بقوله صلى الله عليه وسلم: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (1) » .
قالوا: ولأنه مضمون على المسلم إليه بعقد السلم فلم تجز المعاوضة عليه قبل قبضه وحيازته كالمسلم فيه.
قال المجوزون: أما استدلالكم بالحديث: فقد تقدم ضعفه، ولو صح له بتناول محل النزاع، لأنه لم يصرف المسلم فيه في غيره، وإنما عاوض عن دين السلم بغيره فأين المسلم فيه من رأس مال السلم.
وأما قياسكم المنع على نفس المسلم فيه: فالكلام فيه أيضا وقد تقدم: أنه لا نص يقتضي المنع منه ولا إجماع ولا قياس.
ثم لو قدر تسليمه لكان الفرق بين المسلم فيه ورأس مال السلم واضحا، فإن المسلم فيه مضمون بنفس العقد، والثمن إنما يضمن بعد فسخ العقد فكيف يلحق أحدهما بالآخر؟ فثبت أنه لا نص في المنع ولا إجماع ولا قياس.
فإذا عرف هذا فحكم رأس المال بعد الفسخ حكم سائر الديون لا يجوز أن تجعل سلما في شيء آخر لوجهين:
* أحدهما: أنه بيع دين بدين.
* والثاني: أنه من ضمان المسلم إليه فإذا جعله سلما في شيء آخر ربح فيه وذلك ربح ما لم يضمن، ويجوز فيه ما يجوز في دين القرض وأثمان المبيعات إذا قسمت، فإذا أخذ فيه أحد النقدين عن الآخر وجب قبض العوض في المجلس لأنه صرف بسعر يومه لأنه غير مضمون عليه، وإن عاوض عن المكيل بمكيل أو عن الموزون بموزون من غير جنسه كقطن بحرير أو كتان وجب قبض عوضه في مجلس التعويض، وإن بيع بغير مكيل أو موزون كالعقار والحيوان فهل يشترط القبض في مجلس التعويض؟
فيه وجهان:
* أصحهما: لا يشترط، وهو منصوص أحمد.
* والثاني: يشترط.
ومآخذ القولين: أن تأخير قبض العوض يشبه بيع الدين بالدين فيمنع منه ومأخذ الجواز - وهو الصحيح - أن النسائين ما لا يجمعهما علة الربا
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .(7/72)
كالحيوان بالموزون جائز للاتفاق على جواز سلم النقدين في ذلك، والله أعلم.
ونظير هذه المسألة: إذا باعه ما يجري فيه الربا كالحنطة مثلا بثمن مؤجل فحل الأجل فاشترى بالثمن حنطة أو مكيلا آخر من غير الجنس مما يمتنع ربا النساء بينهما فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان:
* أحدهما: المنع، وهو المأثور عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وطاوس وهو مذهب مالك وإسحاق.
* والثاني: الجواز، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وابن المنذر وبه قال جابر بن زيد وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين وهو اختيار صاحب المغني وشيخنا.
والأول: اختيار عامة الأصحاب.
والصحيح: الجواز لما تقدم.
قال عبد الله بن زيد: قدمت على علي بن حسين فقلت له: "إني أجذ نخلي وأبيع ممن حضرني التمر إلى أجل، فيقدمون بالحنطة وقد حل الأجل فيوقفونها بالسوق، فأبتاع منهم وأقاصهم؟ " قال: لا بأس بذلك، إذا لم يكن منك على رأي: يعني إذا لم يكن حيلة مقصودة.
فهذا شراء للطعام بالدراهم التي في الذمة بعد لزوم العقد الأول فصح لأنه لا يتضمن ربا بنسيئة ولا تفاضل.
والذين يمنعون ذلك يجوزون أن يشتري منه الطعام بدراهم ويسلمها إليه ثم يأخذها منه وفاء أو نسيئة منه بدراهم في ذمته ثم يقاصه بها ومعلوم أن شراءه الطعام منه بالدراهم التي له في ذمته أيسر من هذا وأقل كلفة، والله أعلم.
قال محمد بن إسماعيل الصنعاني في سبل السلام:
وعن ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» يعني الدين بالدين رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف ورواه الحاكم والدارقطني من دون تفسير لكن في إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف، قال(7/73)
أحمد: لا تحل الرواية عندي عنه ولا أعرف هذا الحديث لغيره وصحفه الحاكم فقال موسى بن عتبة فصححه على شرط مسلم، وتعجب البيهقي من تصحيفه على الحاكم. قال أحمد: ليس في هذا حديث يصح، لكن إجماع الناس أنه لا يجوز بيع دين بدين. وظاهر الحديث أن تفسيره بذلك مرفوع، والكالئ من كلاء الدين، كلوا فهو كالئ إذا تأخر، وكلأته إذا أنسأته وقد لا يهمز تخفيفا.
قال في النهاية: هو أن يشتري الرجل شيئا إلى أجل، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به فيقول: بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء فيبيعه ولا يجري بينهما تقابض، والحديث دل على تحريم ذلك وإذا وقع كان باطلا.(7/74)
بيعتان في بيعة:
آراء الفقهاء في حكم البيعتين في بيعة مع التوجيه والمناقشة:
أ: قال النووي -رحمه الله- في المجموع شرح المهذب (1) :
* قال المصنف -رحمه الله-:
(فإن قال بعتك بألف مثقال ذهبا وفضة، فالبيع باطل. لأنه لم يبين القدر من كل واحد منهما فكان باطلا. وإن قال: بعتك بألف نقدا أو بألفين نسيئة: فالبيع باطل، لأنه لم يعقد على ثمن بعينه، فهو كما لو قال: بعتك أحد هذين العبدين) .
* (الشرح) هاتان المسألتان كما قالهما باتفاق الأصحاب وهما داخلتان في النهي عن بيع الغرر وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين
__________
(1) ص: 372 \ جزء:9(7/74)
في بيعة (1) » رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، قال: وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد وأنس وفسر الشافعي وغيره من العلماء البيعتين في بيعة تفسيرين:
أحدهما: أن يقول: بعتك هذا بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة.
والثاني: أن يقول: بعتك بمائة مثلا على أن تبيعني دارك بكذا وكذا. وقد ذكر المصنف التفسيرين في الفصل الذي بعد هذا، وذكرهما أيضا في التنبيه وذكرهما الأصحاب وغيرهم. (والأول) أشهر وعلى التقديرين البيع باطل بالإجماع.
(وأما) الحديث الذي في سنن أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو (2) » الربا". فقال الخطابي وغيره: يحتمل أن يكون ذلك في قصة بعينها، كأن أسلف دينارا في قفيز حنطة إلى شهر فحل الأجل فطالبه فقال: بعني القفيز الذي لك علي إلى شهرين بقفيزينن، فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين في بيعة، فيرد إلى أوكسهما وهو الأصل فإن تبايعا البيع الثاني قبل فسخ الأول كانا قد دخلا في الربا والله سبحانه وتعالى أعلم.
* (فرع) في مذاهب العلماء فيمن باع بألف مثقال ذهب وفضة. مذهبنا أنه بيع باطل. وقال أبو حنيفة: يصح ويكون الثمن نصفين واحتج أصحابنا بالقياس على ما لو باعه بألف بضعه ذهب وبعضه فضة فإنه لا يصح.
ب قال عبد الله بن قدامة -رحمه الله- في المغني (3) :
* مسألة: قال: (وإذا قال بعتك بكذا على أن آخذ منك الدينار بكذا، لم ينعقد البيع وكذلك إن باعه بذهب على أن يأخذ منه دراهم بصرف ذكراه) وجملته: أن البيع بهذه الصفة باطل، لأنه شرط في العقد أن يصارفه بالثمن
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .
(3) ص: 233-235 \ جزء:4(7/75)
الذي وقع العقد به والمصارفة عقد بيع فيكون بيعتان في بيعة، قال أحمد هذا معناه. وقد روى أبو هريرة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة (1) » أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وروى أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا كل ما كان في معنى هذا مثل أن يقول: بعتك داري هذه على أن أبيعك داري الأخرى بكذا أو على أن تبيعني دارك أو على أن أؤجرك أو على أن تؤجرني كذا، أو على أن تزوجني ابنتك أو على أن أزوجك ابنتي ونحو هذا، فهذا كله لا يصح. قال ابن مسعود: " الصفقتان في صفقة ربا " وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور العلماء، وجوزه مالك وقال: لا ألتفت إلى اللفظ الفاسد، إذا كان معلوما حلالا، فكأنه باع السلعة بالدراهم التي ذكر أنه يأخذها بالدنانير.
* ولنا: الخبر وأن النهي يقتضي الفساد، ولأن العقد لا يجب بالشرط لكونه لا يثبت في الذمة فيسقط فيفسد العقد. لأن البائع لم يرض به إلا بذلك الشرط، فإذا فات الرضا به، ولأنه شرط عقدا في عقد لم يصح كنكاح الشغار وقوله: لا ألتفت إلى اللفظ، لا يصح لأن البيع هو اللفظ. فإذا كان فاسدا فكيف يكون صحيحا ويتخرج أن يصح البيع ويفسد الشرط بناء على ما لو شرط ما ينافي مقتضى العقد كما سبق. والله أعلم.
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) .(7/76)
(فصل)
وقد روى في تفسير بيعتين في بيعة وجه آخر: وهو أن يقول بعتك هذا العبد بعشرة نقدا أو بخمسة عشر نسيئة، أو بعشرة مكسرة أو تسعة صحاحا، هكذا فسره مالك والثوري وإسحاق وهو أيضا باطل. وهو قول الجمهور لأنه لم يجزم له ببيع واحد فأشبه ما لو قال بعتك هذا أو هذا، ولأن الثمن مجهول فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول، ولأن أحد العوضين غير معين ولا معلوم، فلم يصح كما لو قال بعتك أحد عبيدي.
وقد روي عن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا: لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا. فيذهب على أحدهما وهذا محمول على أنه جرى بينهما بعد ما يجري في العقد.(7/76)
فكأن المشتري قال أنا آخذه بالنسيئة بكذا فقال: خذه أو قد رضيت ونحو ذلك. فيكون عقدا كافيا وإن لم يوجد ما يقوم مقام الإيجاب أو يدل عليه لم يصح؛ لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجابا لما ذكرناه، وقد روي عن أحمد فيمن قال: إن خطته اليوم فلك درهم. وإن خطته غدا فلك نصف درهم: أنه صحيح. فيحتمل أن يلحق به هذا البيع فيخرج وجها في الصحة، ويحتمل أن يفرق بينهما من حيث إن العقد ثم يمكن أن يصح لكونه جعالة يحتمل فيه الجهالة بخلاف البيع ولأن العمل الذي يستحق به الأجر لا يمكن وقوعه إلا على إحدى الصفقتين فتتعين الأجرة المسماة عوضا له. فلا يفضي إلى التنازع وهاهنا بخلافه.(7/77)
(فصل)
ولو باعه بشرط أن يسلفه أو يقرضه أو شرط المشتري ذلك عليه. فهو محرم والبيع باطل، وهذا مذهب مالك والشافعي، ولا أعلم فيه خلافا إلا أن مالكا قال: إن ترك مشترط السلف صح البيع.
* ولنا: ما روى عبد الله بن عمرو «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن، وعن بيع ما لم يقبض، وعن بيعتين في بيعة، وعن شرطين في بيع، وعن بيع وسلف (1) » أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وفي لفظ «لا يحل بيع وسلف (2) » ولأنه اشترط عقدا في عقد، ففسد كبيعتين في بيعة، ولأنه إذا اشترط القرض زاد في الثمن لأجله فتصير الزيادة في الثمن عوضا عن القرض وربحا له. وذلك ربا محرم ففسد كما لو صرح به ولأنه بيع فاسد فلا يعود صحيحا كما لو باع درهما بدرهمين ثم ترك أحدهما.
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4631) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .(7/77)
(فصل)
ج قال محمد بن علي الشوكاني -رحمه الله- في نيل الأوطار (باب بيعتين في بيعة) (1) :
__________
(1) ص: 248-249 \ جزء:5.(7/77)
(عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (1) » رواه أبو داود وفي لفظ «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة (2) » رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه، وعن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة (3) » قال سماك هو الرجل يبيع البيع فيقول هو بنسأ بكذا وهو بنقد بكذا وكذا) رواه أحمد.
حديث أبي هريرة باللفظ الأول في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة وقد تكلم فيه غير واحد قال المنذري: والمشهور عنه من رواية الدراوردي ومحمد بن عبد الله الأنصاري «أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة (4) » انتهى. وهو باللفظ الثاني عند من ذكره المصنف وأخرجه أيضا الشافعي ومالك في بلاغاته وحديث ابن مسعود أورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه. وقال في مجمع الزوائد: رجال أحمد ثقات، وأخرجه أيضا البزار والطبراني في الكبير والأوسط، وفي الباب عن ابن عمر عند الدارقطني وابن عبد البر قوله: من باع بيعتين فسره سماك بما رواه المصنف عن أحمد عنه وقد وافقه على مثل ذلك الشافعي فقال: بأن يقول بعتك بألف نقدا أو ألفين إلى سنة فخذ أيهما شئت أنت وشئت أنا، ونقل ابن الرفعة عن القاضي أن المسألة مفروضة على أنه قبل على الإيهام، أما لو قال قبلت بألف نقدا أو بألفين بالنسيئة صح ذلك وقد فسر الشافعي في تفسير آخر فقال: هو أن يقول بعتك ذا العبد بألف على أن تبيعني دارك بكذا أي إذا وجب لك عندي وجب لي عندك وهذا يصلح تفسيرا للرواية الأخرى من حديث أبي هريرة لا للأولى، فإن قوله: فله أوكسهما يدل على أنه باع الشيء الواحد بيعتين ببيعة بأقل وبيعة بأكثر.
وقيل في تفسير ذلك هو أن يسلفه دينارا في قفيز حنطة إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالحنطة قال: بعني القفيز الذي لك علي إلى شهرين بقفيزين، فصار ذلك بيعتين في بيعة لأن البيع الثاني قد دخل على الأول فيرد إليه أوكسهما وهو الأول، كذا في شرح السنن لابن رسلان، قوله "فله أوكسهما" أي أنقصهما قال الخطابي: لا أعلم أحدا قال بظاهر الحديث وصحح البيع بأوكس الثمنين إلا ما حكى
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/398) .
(4) صحيح البخاري الصلاة (368) ، سنن النسائي البيوع (4517) ، سنن ابن ماجه التجارات (2169) ، موطأ مالك الجامع (1704) .(7/78)
عن الأوزاعي وهو مذهب فاسد انتهى. ولا يخفى أن ما قاله هو ظاهر الحديث لأن الحكم له بالأوكس يستلزم صحة البيع به، قوله: "أو الربا" يعني أو يكون قد دخل هو وصاحبه في الربا المحرم إذا لم يأخذ الأوكس بل أخذ الأكثر، وذلك ظاهر في التفسير الذي ذكره ابن رسلان، وأما في التفسير الذي ذكره أحمد عن سماك وذكره الشافعي ففيه متمسك من قال: يحرم بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء، وقد ذهب إلى ذلك زين العابدين علي بن الحسين والناصر والمنصور بالله والهادوية والإمام يحيى.
وقالت الشافعية والحنفية وزيد بن علي والمؤيد بالله والجمهور: إنه يجوز لعموم الأدلة القاضية بجوازه وهو الظاهر لأن ذلك المتمسك هو الرواية الأولى من حديث أبي هريرة، وقد عرفت ما في راويها من المقال ومع ذلك فالمشهور عنه اللفظ الذي رواه غيره وهو النهي عن بيعتين في بيعة ولا نتيجة فيه على المطلوب، ولو سلمنا أن تلك الرواية التي تفرد بها ذلك الراوي صالحة للاحتجاج لكان احتمالها لتفسير خارج عن محل النزاع كما سلف عن ابن رسلان قادحا في الاستدلال بها على التنازع فيه على أن غاية ما فيها الدلالة على المنع من البيع إذا وقع على هذه الصورة وهي أن يقول: نقدا بكذا ونسيئة بكذا، إلا إذا قال من أول الأمر: نسيئة بكذا فقط، وكان أكثر من سعر يومه مع أن المتمسكين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة ولا يدل الحديث على ذلك فالدليل أخص من الدعوى، وقد جمعنا رسالة في هذه المسألة وسميناها شفاء الغلل في حكم زيادة الثمن لمجرد الأجل وحققناها تحقيقا لم نسبق إليه والعلة في تحريم بيعتين في بيعة عدم استقرار الثمن في ثورة بيع الشيء الواحد بثمنين والتعليق بالشرط المستقبل في صورة بيع هذا على أن يبيع منه ذاك ولزوم الربا في صورة القفيز الحنطة: قوله: " أو صفقتين في صفقة " أي بيعتين في بيعة.
د قال صاحب نصب الراية -رحمه الله- في أحاديث الهداية:
الحديث الثالث عشر: روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صفقتين في صفقة (1) » ، قلت رواه أحمد في (مسنده) حدثنا حسن، وأبو النضر، وأسود بن عامر،
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/398) .(7/79)
قالوا: ثنا شريك عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة (1) » قال أسود: قال شريك: قال سماك: هو أن يبيع الرجل بيعا فيقول: هو نقدا بكذا، ونسيئة بكذا، انتهى.
ورواه البزار في (مسنده) عن أسود بن عامر به، ورواه الطبراني في (معجمه الوسط) حدثنا أحمد بن القاسم حدثنا عبد الملك بن عبد ربه الطائي حدثنا ابن السماك بن حرب عن أبيه مرفوعا: «لا تحل صفقتان في صفقة» انتهى.
ورواه العقيلي في (ضعفائه) من حديث عمرو بن عثمان بن أبي صفوان الثقفي حدثنا سفيان عن سماك به مرفوعا: «الصفقة في الصفقتين ربا» ، انتهى. وأعله بعمرو بن عثمان هذا، وقال: لا يتابع على رفعه، والموقوف أولى، ثم أخرجه من طريق أبي نعيم حدثنا سفيان به موقوفا، وهكذا رواه الطبراني في (معجمه الكبير) من طريق أبي نعيم به موقوفا، وكذلك رواه أبو عبيد القاسم بن سلام حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان به موقوفا، قال أبو عبيد: ومعنى صفقتان في صفقة: أن يقول الرجل للرجل: أبيعك هذا نقدا بكذا ونسيئة بكذا، ويفترقان عليه، انتهى.
وكذلك رواه ابن حبان في (صحيحه) في النوع الثامن والعشرين، من القسم الأول من حديث شعبة عن سماك به موقوفا. الصفقة في الصفقتين ربا. وأعاده في النوع التاسع والمائة من القسم الثاني كذلك. بلفظ: لا تحل صفقتان في صفقة اهـ.
* حديث آخر: أخرجه الترمذي والنسائي عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص عن أبي سلمة عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة (2) » انتهى. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، قال: وفسره بعض أهل العلم: أن يقول الرجل: أبيعك هذا الثوب نقدا بعشرة، ونسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على أحدهما، وقال الشافعي: معناه أن يقول: أبيعك داري هذه بكذا، على أن تبيعني غلامك بكذا، فإذا وجب لي غلامك وجبت لك داري، انتهى.
والمصنف فسره بأن يقول: أبيعك عبدي هذا على أن تخدمني شهرا، أو داري هذه على أن أسكنها شهرا قال: فإن الخدمة والسكنى إن كان يقابلها شيء من
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/398) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) .(7/80)
الثمن يكون إجارة في بيع، وإلا فهو إعارة في بيع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع صفقتين الحديث، والحديث في (الموطأ) بلاغ قال أبو مصعب: أخبرنا مالك أنه بلغه «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة (1) » اهـ.
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) .(7/81)
بيع المضطر:
أجاء في سنن أبي داود (1) :
عن شيخ من بني تميم قال: «خطبنا علي بن أبي طالب - أو قال: قال علي سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤمر بذلك قال الله تعالى: ويبايع المضطرون. . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمر قبل أن تدرك، (3) » في إسناده رجل مجهول.
* قال الشيخ: بيع المضطر يكون من وجهين:
* أحدهما: أن يضطر إلى العقد من طريق الإكراه عليه فهذا فاسد لا ينعقد.
والوجه الآخر: أن يضطر إلى البيع لدين يركبه أو مؤونة ترهقه فيبيع ما في يده بالوكس من أجل الضرورة. لهذا سبيله في حق الدين والمروءة أن لا يبايع على هذا الوجه وأن لا يفتات عليه بماله، ولكن يعان ويقرض ويستمهل له إلى الميسرة حتى يكون له في ذلك بلاغ فإن عقد البيع مع الضرورة على هذا الوجه جاز في الحكم ولم يفسخ.
وفي إسناد الحديث رجل مجهول لا ندري من هو إلا أن عامة أهل العلم قد كرهوا البيع على هذا الوجه.
* قال الشيخ: أصل الغرر: هو ما طوي عنك علمه وخفي عليك باطنه وسره، وهو مأخوذ من قولك طويت الثوب على غرة، أي على كسره الأول، وكل بيع كان المقصود منه مجهولا غير معلوم، ومعجوزا عنه غير مقدور عليه فهو غرر وذلك: مثل أن يبيعه سمكا في الماء، أو طيرا في الهواء، أو لؤلؤة في البحر، أو عبدا آبقا، أو جملا شاردا، أو ثوبا في جراب لم يره ولم ينشره، أو طعاما في بيت لم يفتحه،
__________
(1) ص: 47 \ جزء: 3.
(2) سنن أبو داود البيوع (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) .
(3) سورة البقرة الآية 237 (2) {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}(7/81)
أو ولد بهيمة لم يولد، أو ثمر شجرة لم تثمر في نحوها من الأمور التي لا تعلم ولا يدري هل تكون أم لا؟ فإن البيع مفسوخ فيها.
وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه البيوع تحصينا للأموال أن تضيع وقطعا للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها.(7/82)
ب قال ابن مفلح في البيع وله شروط (1) :
* أحدها: الرضا فإن أكره بحق صح، وإن أكره على وزن مال فباع ملكه كره الشراء ويصح على الأصح وهو مع المضطر ونقل حرب تحريمه وكراهته وفسره في روايته فقال: يجيئك محتاج فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين، ولأبي داود عن محمد بن عيسى عن هشيم عن صالح بن عامر، كذا قال محمد قال: حدثنا شيخ من بني تميم قال: خطبنا علي أو قال: قال علي: «نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمرة قبل أن تدرك (2) » . صالح لا يعرف: تفرد عنه هشيم والشيخ لا يعرف أيضا، ولأبي يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا روح بن حاتم حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال بلغني عن حذيفة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه «إلا أن بيع المضطرين حرام (3) » .
الكوثر ضعيف بإجماع، قال أحمد: أحاديثه بواطيل ليس بشيء وقال ابن هبيرة: رأيت بخط ابن عقيل حكي عن كسرى أن بعض عماله أراد أن يجري نهرا فكتب إليه أنه لا يجري إلا في بيت لعجوز فأمر أن يشتري منها فضوعف لها الثمن فلم تقبل، فكتب كسرى أن خذوا بيتها فإن المصالح الكليات تغفر فيها المفاسد الجزئيات. قال ابن عقيل وجدت هذا صحيحا فإن الله وهو الغاية في العدل يبعث المطر والشمس فإن كان الحكيم القادر لم يراع نوادر المضار لعموم المصالح فغيره أولى.
__________
(1) ص: 5 \ جزء: 4
(2) سنن أبو داود البيوع (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) .
(3) سنن أبو داود البيوع (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) .(7/82)
ج قال ابن القيم -رحمه الله- بصدد حديثه عن اعتبار القصود في العقود (1) :
* الصورة السابعة: إذا اشترى أو استأجر مكرها لم يصح وإن كان في الظاهر قد حصل صورة العقد لعدم قصده وإرادته فدل على أن القصد روح العقد ومصححه ومبطله فاعتبار القصود في العقود أولى من اعتبار الألفاظ فإن الألفاظ مقصودة لغيرها ومقاصد العقود هي التي تراد لأجلها فإذا ألغيت واعتبرت الألفاظ التي لا تراد لنفسها كان هذا إلغاء لما يجب اعتباره لما قد يسوغ إلغاؤه، وكيف يقدم اعتبار اللفظ الذي قد ظهر كل الظهور أن المراد خلافه؟ بل قد يقطع بذلك على المعنى الذي قد ظهر بل قد يتيقن أنه المراد. تقدم بعض الكلام في بيع المضطر في الحديث عن العينة والتورق.
__________
(1) ص: 106 \ جزء: 4 إعلام الموقعين.(7/83)
بيع الإنسان ما لم يقبض وبيعه ما ليس عنده وذكر آراء الفقهاء في ذلك.
أقال صاحب بدائع الصنائع وترتيب الشرائع -رحمه الله- بصدد كلامه عن شروط صحة البيع:
ومنها القبض في بيع المشتري المنقول فلا يصح بيعه قبل القبض لما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما لم يقبض (1) » (1672) والنهي يوجب فساد المنهي ولأنه بيع فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه، لأنه إذا هلك المعقود عليه قبل القبض يبطل البيع الأول فينفسخ الثاني لأنه بناه على الأول، وقد «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر» (1673) وسواء باعه من غير بائعه لأن النهي مطلق لا يوجب الفصل بين البيع من غير بائعه وبيع البيع من بائعه، وكذا معنى الغرر لا يفصل بينهما فلا يصح الثاني والأول على حاله ولا يجوز إشراكه وتوليته لأن كل ذلك بيع اهـ، المقصود منه (2) .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2135) ، صحيح مسلم البيوع (1525) ، سنن الترمذي البيوع (1291) ، سنن النسائي البيوع (4600) ، سنن أبو داود البيوع (3497) ، سنن ابن ماجه التجارات (2227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/356) .
(2) ص: 3097-3098 \ جزء: 7.(7/83)
ب قال ابن رشد -رحمه الله- في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (1) :
وأما بيع الطعام قبل قبضه فإن العلماء مجمعون على منع ذلك إلا ما يحكى عن عثمان البتي، وإنما أجمع العلماء على ذلك لثبوت النهي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (2) » واختلف من هذه المسألة في ثلاثة مواضع:
أحدها: فيما يشترط فيه القبض من المبيعات.
والثاني: في الاستفادات التي يشترط في بيعها القبض من التي لا يشترط.
والثالثة: في الفرق بين ما يباع من الطعام مكيلا وجزافا، ففيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول - فيما يشترط فيه القبض من المبيعات:
وأما بيع ما سوى الطعام قبل القبض فلا خلاف في مذهب مالك في إجازته، وأما الطعام الربوي فلا خلاف في مذهبه أن القبض شرط في بيعه، وأما غير الربوي من الطعام فعنه في ذلك روايتان:
إحدهما: المنع وهي الأشهر، وبها قال أحمد وأبو ثور إلا أنهما اشترطا مع الطعام الكيل والوزن.
والرواية الأخرى: الجواز.
وأما أبو حنيفة فالقبض عنده شرط في كل مبيع ما عدا المبيعات التي لا تنقل ولا تحول من الدور والعقار وأما الشافعي فإن القبض عنده شرط في كل مبيع، وبه قال الثوري، وهو مروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس، وقال أبو عبيد وإسحاق: كل شيء لا يكال ولا يوزن فلا بأس ببيعه قبل قبضه، فاشترط هؤلاء القبض في المكيل والموزون، وبه قال ابن حبيب وعبد العزيز بن أبي سلمة وربيعة، وزاد هؤلاء مع الكيل والوزن المعدود، فيحصل في اشتراط القبض سبعة أقوال:
__________
(1) ص: 108 - 111 \ جزء: 2.
(2) صحيح البخاري البيوع (2133) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4596) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1336) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(7/84)
الأول: في الطعام الربوي فقط.
الثاني: في الطعام بإطلاق.
الثالث: في الطعام المكيل والموزون.
الرابع: في كل شيء ينقل.
الخامس: في كل شيء.
السادس: في المكيل والموزون.
السابع: في المكيل والموزون المعدود.
أما عمدة مالك في منعه ما عدا المنصوص عليه فدليل الخطاب في الحديث المتقدم، وأما عمدة الشافعي في تعميم ذلك في كل بيع فعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل بيع وسلف ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك (1) » وهذا من باب بيع ما لم يضمن، وهذا مبني على مذهبه من أن القبض شرط في دخول المبيع في ضمان المشتري، واحتج أيضا بحديث حكيم بن حزام قال: «قلت يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم؟ فقال: يا ابن أخي إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه (2) » قال أبو عمر: حديث حكيم بن حزام رواه يحيى بن أبي كثير عن يوسف بن ماهك أن عبد الله بن عصمة حدثه أن حكيم بن حزام قال: ويوسف بن ماهك وعبد الله بن عصمة لا أعرف لهما جرحة إلا أنه لم يرو عنهما إلا رجل واحد فقط، وذلك في الحقيقة ليس بجرحة وإن كرهه جماعة من المحدثين. ومن طريق المعنى أن بيع ما لم يقبض يتطرق منه إلى الربا، وإنما استثنى أبو حنيفة ما يحول وينقل عنده مما لا ينقل، لأن ما ينقل القبض عنده فيه هي التخلية. وأما من اعتبر الكيل والوزن فلاتفاقهم أن المكيل والموزون لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري إلا بالكيل أو الوزن وقد نهى عن بيع ما لم يضمن.
الفصل الثاني: في الاستفادات التي يشترط في بيعها القبض من التي لا يشترط.
وأما ما يعتبر ذلك فيه مما لا يعتبر، فإن العقود تنقسم أولا إلى قسمين: قسم
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4603) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2187) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) .(7/85)
يكون بمعاوضة، وقسم يكون بغير معاوضة، كالهبات والصدقات، والذي يكون بمعاوضة ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: يخص بقصد المغابنة والمكايسة وهي البيوع والإجارات والمهور والصلح والمال المضمون بالتعدي وغيره.
والقسم الثاني: لا يختص بقصد المغابنة وإنما يكون على جهة الرفق وهو القرض.
والقسم الثالث: فهو ما يصح أن يقع على الوجهين جميعا: أعني على قصد المغابنة وعلى قصد الوفق، كالشركة والإقالة والتولية وتحصيل أقوال العلماء في هذه الأقسام، أما ما كان بيعا ويعوض فلا خلاف في اشتراط القبض فيه، وذلك في الشيء الذي يشترط فيه القبض واحد من العلماء. وأما ما كان خالصا للرفق: أعني القرض، فلا خلاف أيضا أن القبض ليس شرطا في بيعه، أعني أنه يجوز للرجل أن يبيع القرض قبل أن يقبضه، واستثنى أبو حنيفة مما يكون بعوض المهر والخلع فقال: يجوز بيعهما قبل القبض، وأما العقود التي تتردد بين قصد الرفق والمغابنة، وهي التولية والشركة والإقالة، فإذا وقعت على وجه الرفق من غير أن تكون الإقالة أو التولية بزيادة أو نقصان، فلا خلاف أعلمه في هذا المذهب أن ذلك جائز قبل القبض وبعده، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تجوز الشركة ولا التولية قبل القبض، وتجوز الإقالة عندهما لأنها قبل القبض فسخ بيع لا بيع، فعمدة من اشترط القبض في جميع المعاوضات أنها في معنى البيع المنهي عنه، وإنما استثنى مالك من ذلك التولية، والإقالة والشركة للأثر والمعنى. وأما الأثر فما رواه من مرسل سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه (1) » إلا ما كان من شركة أو تولية أو إقالة وأما طريق المعنى فإن هذه إنما يراد بها الرفق لا المغابنة إذا لم تدخلها زيادة ولا نقصان، وإنما استثنى من ذلك أبو حنيفة الصداق والخلع والجعل، لأن العوض في ذلك ليس بينا إذا لم يكن عينا.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2126) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4595) ، سنن أبو داود البيوع (3492) ، سنن ابن ماجه التجارات (2226) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1335) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(7/86)
الفصل الثالث: في الفرق بين ما يباع من الطعام مكيلا وجزافا:
وأما اشتراط القبض فيما بيع من الطعام جزافا، فإن مالكا رخص فيه وأجازه وبه قال الأوزاعي ولم يجز ذلك أبو حنيفة والشافعي، وحجتهما عموم الحديث المتضمن للنهي عن بيع الطعام قبل قبضه، لأن الذريعة موجودة في الجزاف وغير الجزاف، ومن الحجة لهما ما روي عن ابن عمر أنه قال: «كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتاع الطعام جزافا، فبعث إلينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه (1) » قال أبو عمر: وإن كان مالك لم يرو عن نافع في هذا الحديث ذكر الجزاف. فقد روته جماعة وجوده عبيد الله بن عمر وغيره، وهو مقدم في حفظ حديث نافع، وعمدة المالكية أن الجزاف ليس فيه حق توفيه، فهو عندهم من ضمان المشتري بنفس العقد، وهذا من باب تخصيص العموم بالقياس المظنون العلة.
وقد يدخل في هذا الباب إجماع العلماء على منع بيع الرجل شيئا لا يملكه، وهو المسمى عينة عند من يرى نقله (2) من باب الذريعة إلى الربا، وأما من رأى منعه من جهة أنه قد لا يمكنه نقله فهو داخل في بيوع الغرر، وصورة التذرع منه إلى الربا المنهي عنه أن يقول رجل لرجل: أعطني عشرة دنانير على أن أدفع لك إلى مدة كذا ضعفا، فيقول له: هذا لا يصلح، ولكن أبيع منك سلعة كذا لسلعة يسميها ليست عنده بهذا العدد، ثم يعمد هو فيشتري تلك السلعة فيقبضها له بعد أن كمل البيع بينهما، وتلك السلعة قيمتها قريب مما كان سأله أن يعطيه من الدراهم قرضا فيرد عليه ضعفها، وفي المذهب في هذا تفصيل ليس هذا موضع ذكره، ولا خلاف في هذه الصورة التي ذكرنا أنها غير جائزة في المذهب: أعني إذا تقارا على الثمن الذي يأخذ به السلعة قبل شرائها، وأما الدين بالدين، فأجمع المسلمون على منعه، واختلفوا في مسائل هل هي منه أم ليست منه؟ مثل ما كان ابن القاسم لا يجيز أن يأخذ الرجل من غريمه في دين له عليه تمرا قد بدا صلاحه ولا سكنى دار ولا جارية تتواضع، ويراه من باب
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4605) ، سنن أبو داود البيوع (3493) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/113) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(2) لعله فصله(7/87)
الدين بالدين وكان أشهب يجيز ذلك ويقول: ليس هذا من باب الدين بالدين وإنما الدين بالدين لم يشرع في أخذ شيء منه، وهو القياس عند كثير من المالكيين، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، ومما أجازه مالك من هذا الباب وخالفه فيه جمهور ما قاله في المدونة من أن الناس كانوا يبيعون اللحم بسعر معلوم والثمن إلى العطاء، فيأخذ المبتاع كل يوم وزنا معلوما قال: ولم ير الناس بذلك بأسا، وكذلك كل ما يبتاع في الأسواق، وروى ابن القاسم أن ذلك لا يجوز إلا فيما خشي عليه الفساد من الفواكه إذا أخذ جميعه، أما القمح وشبهه فلا، فهذه هي أصول هذا الباب، وهذا الباب كله إنما حرم في الشرع لمكان الغبن الذي يكون طوعا وعن علم.
ج قال صاحب المجموع شرح المهذب (1) :
* (فرع) في مذاهب العلماء في بيع المبيع قبل القبض. قد ذكرنا أن مذهبنا بطلانه مطلقا سواء كان طعاما أو غيره وبه قال ابن عباس ثبت ذلك عنه ومحمد بن الحسن. قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن من اشترى طعاما فليس له بيعه حتى يقبضه، قال: واختلفوا في غير الطعام في أربعة مذاهب:
أحدها: لا يجوز بيع شيء قبل قبضه سواء جميع المبيعات كما في الطعام قاله الشافعي ومحمد بن الحسن.
والثاني: يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه إلا المكيل والموزون قاله عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد والأوزاعي وأحمد وإسحاق.
والثالث: لا يجوز بيع مبيع قبل قبضه إلا الدور والأرض قاله أبو حنيفة وأبو يوسف.
والرابع: يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه إلا المأكول والمشروب قاله مالك وأبو ثور قال ابن المنذر: وهو أصح المذاهب لحديث النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفى.
__________
(1) ص: 295 - 303 \ جزء: 9(7/88)
واحتج لمالك وموافقيه بحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (1) » رواه البخاري ومسلم، وعنه قال: «لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون جزافا يعني الطعام فضربوا أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤوه إلى رحالهم (2) » رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عباس قال «أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض (3) » . قال ابن عباس: وأحسب كل شيء مثله، رواه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (4) » قال ابن عباس: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكيله» رواه مسلم، وفي رواية قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفى (5) » وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه (6) » رواه مسلم قالوا: فالتنصيص في هذه الأحاديث يدل على أن غيره بخلافه قالوا: وقياسا على ما ملكه بإرث أو وصية. وعلى إعتاقه وإجارته قبل قبضه، وعلى بيع الثمر قبل قبضه.
واحتج أصحابنا بحديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبع ما لم تقبضه» وهو حديث حسن كما سبق بيانه في أول هذا الفصل. وبحديث زيد بن ثابت «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (7) » . رواه أبو داود بإسناد صحيح إلا أنه من رواية محمد بن إسحاق بن يسار عن أبي الزناد وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به وهو مدلس وقد قال: عن أبي الزناد والمدلس إذا قال: "عن" لا يحتج به. لكن لم يضعف أبو داود هذا الحديث. وقد سبق أن ما لم يضعفه فهو حجة عنده فلعله اعتضد عنده أو ثبت عنده بسماع ابن إسحاق له من أبي الزناد وبالقياس على الطعام.
(والجواب) : عن احتجاجهم بأحاديث النهي عن بيع الطعام من وجهين:
أحدهما: أن هذا استدلال بداخل الخطاب والتنبيه مقدم عليه: فإنه إذا نهى عن بيع الطعام مع كثرة الحاجة إليه فغيره أولى.
والثاني: أن النطق الخاص مقدم عليه وهو حديث حكيم وحديث زيد.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2133) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4596) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1336) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2137) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3498) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2135) ، صحيح مسلم البيوع (1525) ، سنن الترمذي البيوع (1291) ، سنن النسائي البيوع (4599) ، سنن أبو داود البيوع (3497) ، سنن ابن ماجه التجارات (2227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/221) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2133) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4596) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1336) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(5) صحيح مسلم البيوع (1528) ، مسند أحمد بن حنبل (2/349) .
(6) صحيح مسلم البيوع (1529) ، مسند أحمد بن حنبل (3/327) .
(7) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(7/89)
وأما قياسهم على العتق ففيه خلاف سبق فإن سلمناه فالفرق أن العتق له قوة وسراية. ولأن العتق إتلاف للمالية والإتلاف قبض.
(والجواب) : عن قياسهم على الثمن أن فيه قولين فإن سلمناه فالفرق أنه في الذمة مستقر لا يتصور تلفه ونظير المبيع إنما هو الثمن المعين ولا يجوز بيعه قبل القبض، وأما بيع الميراث والموصى به فجوابه أن الملك فيهما مستقر بخلاف المبيع والله أعلم.
واحتج لأبي حنيفة بإطلاق النصوص ولأنه لا يتصور تلف العقار بخلاف غيره. واحتج أصحابنا بما سبق في الاحتجاج على مالك وأجابوا عن النصوص بأنها مخصوصة بما ذكرناه.
وأما قولهم: لا يتصور تلفه. فينتقض بالجديد الكثير والله سبحانه وتعالى أعلم.
* قال المصنف -رحمه الله-:
وأما الديون فينظر فيها. فإن كان الملك عليها مستقرا كغرامة المتلف وبدل القرض، جاز بيعه ممن عليه قبل القبض لأن ملكه مستقر عليه. فجاز بيعه كالمبيع بعد القبض وهل يجوز من غيره؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، لأن ما جاز بيعه ممن عليه جاز بيعه من غيره كالوديعة.
والثاني: لا يجوز لأنه لا يقدر على تسليمه إليه لأنه ربما منعه أو جحده، وذلك غرر لا حاجة به إليه، فلم يجز والأول أظهر لأن الظاهر أنه يقدر على تسليمه إليه من غير منع ولا جحود. وإن كان الدين غير مستقر نظرت فإن كان مسلما فيه لم يجز بيعه لما روي أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن رجل أسلف في حلل دقاق فلم يجد تلك الحلل فقال: آخذ منك مقام كل حلة من الدقاق حلتين من الجل فكرهه ابن عباس، وقال: خذ برأس المال علفا أو غنما، ولأن الملك في المسلم فيه غير مستقر لأنه ربما تعذر فانفسخ البيع فيه فلم يجز بيعه كالبيع قبل القبض.
وإن كان ثمنا في بيع ففيه قولان قال في الصرف: يجوز بيعه قبل القبض لما روى(7/90)
ابن عمر قال: «كنت أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير، فآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم فآخذ الدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس ما لم تتفرقا وبينكما شيء (1) » ولأنه لا يخشى انفساخ العقد فيه بالهلاك فصار كالبيع بعد القبض. وروى المزني في جامعه الكبير أنه لا يجوز لأن ملكه غير مستقر عليه، لأنه قد ينفسخ البيع فيه بتلف المبيع أو بالرد بالعيب، فلم يجز بيعه كالمبيع قبل القبض، وفي بيع نجوم المكاتب قبل القبض طريقان:
أحدهما: أنه على قولين بناء على القولين في بيع رقبته.
والثاني: أنه لا يصح ذلك قولا واحدا وهو المنصوص في المختصر لأنه لا يملكه ملكا مستقرا فلم يصح بيعه كالمسلم فيه.
* (الشرح) حديث ابن عمر صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وآخرون بأسانيد صحيحة عن سماك بن حرب عن سعيد بن عمر بلفظه هذا قال الترمذي وغيره: لم يرفعه غير سماك وذكره البيهقي في معرفة السنن والآثار إن أكثر الرواة وقفوه على ابن عمر، (قلت) : وهذا لا يقدح في رفعه وقد قدمنا مرات أن الحديث إذا رواه بعضهم مرسلا وبعضهم متصلا وبعضهم موقوفا مرفوعا كان محكوما بوصله ورفعه على المذهب الصحيح الذي قاله الفقهاء والأصوليون ومحققو المحدثين من المتقدمين والمتأخرين. بالبقيع هو بالباء الموحدة وإنما قيدته لأني رأيت من يصحفه.
(وقوله) السلم في حلل هو جمع حلة بضم الحاء وهي ثوبان ولا يكون إلا ثوبان كذا قاله أهل اللغة. والمدق بكسر الدال والجل بكسر الجيم وهو الغليظ.
(وقوله) من غير حاجة إليه يحترز من أساس الدار فإنه يصح بيعه وهو غرر للحاجة وهذا الاحتراز يكرره المصنف في كتاب البيوع كثيرا.
أما الأحكام فقد لخصها الرافعي أحسن تلخيص وهذا مختصر كلامه قال: الدين في الذمة ثلاثة أضرب: مثمن وثمن وغيرهما وفي حقيقة الثمن ثلاثة أوجه:
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/83) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .(7/91)
أحدها: أنه ما ألصق به الباء كقولك بعت كذا بكذا والأول مثمن. والثاني ثمن وهذا قول القفال.
والثاني: أنه النقد مطلقا والمثمن ما يقابله على الوجهين.
أصحهما: أن الثمن النقد، والمثمن ما يقابله، فإن لم يكن في العقد نقد أو كان العوضان نقدين فالثمن ما ألصقت به الباء. والمثمن ما يقابله. فلو باع أحد النقدين بالآخر فلا مثمن فيه على الوجه الثاني، ولو باع عرضا بعرض فعلى الوجه الثاني لا ثمن فيه وإنما هو مبادلة، ولو قال بعتك هذه الدراهم بهذا العبد فعلى الوجه الأول العبد ثمن والدراهم مثمن. وعلى الوجه الثاني والثالث في صحة هذا العقد وجهان: كالسلم في الدراهم والدنانير (الأصح) الصحة في الموضعين. فإن صححناه فالعبد مثمن.
ولو قال: بعتك هذا الثوب بهذا العبد ووصفه صح العقد. (فإن قلنا) : الثمن ما ألصق به الباء فالعبد ثمن ولا يجب تسليم الثوب في المجلس وإلا ففي وجوب تسليم الثوب وجهان لأنه ليس فيه لفظ السلم لكن فيه معناه. فإذا عرف عدنا إلى بيان الأضرب الثلاثة.
* الضرب الأول: المثمن وهو المسلم فيه فلا يجوز بيعه ولا الاستبدال عنه، وهل تجوز الحوالة به؟ بأن يحيل المسلم إليه المسلم بحقه على من له عليه دين قرض، أو إتلاف، أو الحوالة عليه بأن يحيل المسلم من له عليه دين قرض أو إتلاف على المسلم إليه. فيه ثلاثة أوجه:
أصحها: لا.
والثاني: نعم.
والثالث: لا يجوز عليه ويجوز به. هكذا حكموا الثالث. وعكسه الغزالي في الوسيط فقال: يجوز عليه لا به ولا أظن نقله ثابتا.
* الضرب الثاني: الثمن فإذا باع بدراهم أو دنانير في الذمة ففي الاستبدال عنها طريقان:(7/92)
أحدهما: القطع بالجواز قاله القاضي أبو حامد وابن القطان.
وأشهرهما: على قولين:
أصحهما: وهو الجديد جوازه.
والقديم: منعه، ولو باع في الذمة بغير الدراهم والدنانير، فإن قلنا الثمن ما ألصقت به الباء صح الاستبدال عنه كالنقدين وادعى البغوي أنه المذهب وإلا فلا؛ لأن ما نثبت في الذمة فثمنا لم يجز الاستبدال عنه وأما الأجرة فكالثمن وأما الصداق وبدل الخلع فكذلك إن قلنا إنهما مضمونان ضمان العقد وإلا فهما كبدل الإتلاف.
* (التفريع) إن منعنا الاستبدال عن الدراهم فذلك إذا استبدل عنها عرضا، فلو استبدل نوعا منها بنوع أو استبدل الدراهم عن الدنانير فوجهان لاستوائهما في الجواز وإن جوزنا الاستبدال فلا فرق بين بدل وبدل ثم ينظر إن استبدل ما يوافقهما في علة الربا كدنانير عن دراهم اشترط قبض البدل في المجلس. وكذا إن استبدل عن الحنطة المبيعة شعيرا إن جوزنا ذلك. وفي اشتراط تعيين البدل عند العقد وجهان:
أحدهما: يشترط وإلا فهو بيع دين بدين.
وأصحهما: لا يشترط كما لو تصارفا في الذمة ثم عينا وتقابضا في المجلس وإن استبدل ما ليس موافقا لها في علة الربا كالطعام والثياب عن الدراهم نظر إن عين البدل في الاستبدال جاز، وفي اشتراط قبضه في المجلس وجهان: "صحح" الغزالي وجماعة الاشتراط وهو ظاهر نصه في المختصر، وصحح الإمام البغوي عدمه، قلت: هذا الثاني أصح، وصححه الرافعي في المحرر، وإن لم يعين بل وصف في الذمة فعلى الوجهين السابقين. وإن جوزناه اشترط التعيين في المجلس وفي اشتراط القبض الوجهان.
* (الضرب الثالث) ما ليس ثمنا ولا مثمنا كدين القرض والإتلاف فيجوز الاستبدال عنه بلا خلاف كما لو كان له في يد غيره مال بغصب أو عارية فإنه يجوز بيعه له. ثم الكلام في اعتبار التعيين والقبض على ما سبق. وذكر صاحب(7/93)
الشامل أن القرض إنما يستبدل عنه إذا تلف، فإن بقي في يده فلا، ولم يفرق الجمهور بينهما، ولا يجوز استبدال المؤجل عن الحال -ويجوز عكسه- وهذا الذي ذكرنا كله في الاستبدال وهو بيع الدين ممن هو عليه. فأما بيعه لغيره كمن له على رجل مائة فاشترى من آخر عبدا بتلك المائة ففي صحته قولان مشهوران:
أصحهما: لا يصح لعدم القدرة على التسليم.
والثاني: يصح بشرط أن يقبض مشتري الدين الدين ممن هو عليه وأن يقبض بائع الدين العوض في المجلس فإن تفرقا قبل قبض أحدهما بطل العقد. ولو كان له دين على إنسان ولآخر مثله على ذلك الإنسان فباع أحدهما ما له عليه بما لصاحبه له لم يصح سواء اتفق الجنس لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ هذا آخر كلام الرافعي. (قلت) : قد صحح المصنف هنا وفي التنبيه جواز بيع الدين لغير من هو عليه وصحح الرافعي في الشرح والمحرر أنه لا يجوز.(7/94)
(فرع) قال الشيخ أبو حامد في تعليقه في آخر باب بيع الطعام قبل أن يستوفي: إذا باع طعاما بثمن مؤجل فحل الأجل فأخذ بالثمن طعاما جاز عندنا قال الشافعي: وقال مالك: لا يجوز لأنه يصير في معنى بيعي طعام بطعام مؤجل دليلنا أنه إنما يأخذ منه الطعام بالثمن الذي له عليه لا بالطعام وهذا الذي جزم به أبو حامد تفريعا على الصحيح وهو الاستبدال عن الثمن وقد صرح بهذا جماعة منهم القاضي أبو الطيب في تعليقه، قال صاحب البيان: قال الصيمري والصيدلاني: فلو أراد أن يأخذ ثمن الدين المؤجل عوضا من نقد وعرض قبل حلوله لم يصح.
أما تقديم الدين نفسه فيجوز لأنه لا يملك المطالبة به قبل الحلول فكأنه أخذ العوض عما لا يستحقه. والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال المصنف -رحمه الله-:
(والقبض فيما ينقل النقل لما روى زيد بن ثابت «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن(7/94)
تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم، (1) » وفيما لا ينقل كالعقار والثمر قبل أوان الجذاذ التخلية؛ لأن القبض ورد به الشرع وأطلقه فحمل على العرف. والعرف فيما ينقل النقل وفيما لا ينقل التخلية) .
* (الشرح) أما حديث زيد فسبق بيانه قريبا في فرع مذاهب العلماء في بيع المبيع قبل القبض وفي التجار لغتان -كسر التاء مع تخفيف الجيم، وضمها مع التشديد -والجذاذ- بفتح الجيم وكسرها-.
أما الأحكام فقال أصحابنا: الرجوع في القبض إلى العرف وهو ثلاثة أقسام:
أحدها: العقار والثمر على الشجرة فقبضه بالتخلية.
والثاني: ما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيتان ونحوها فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به سواء نقل إلى ملك المشتري أو موات أو شارع أو مسجد أو غيره. وفيه قول حكاه الخراسانيون أنه يكفي فيه التخلية وهو مذهب أبي حنيفة.
والثالث: ما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والمنديل والثوب والإناء الخفيف والكتاب ونحوها فقبضه بالتناول بلا خلاف. صرح بذلك الشيخ أبو حامد في تعليقه، والقاضي أبو الطيب والمحاملي والماوردي والمصنف في التنبيه والبغوي وخلائق لا يحصون، وينكر على المصنف كونه أهمله هنا مع شهرته ومع ذكره له في التنبيه والله تعالى أعلم.
وقد فحص الرافعي - رحمه الله - كلام الأصحاب وجمع متصرفه مختصرا، وأنا أنقل مختصره وأضم إليه ما أهمله إن شاء الله تعالى، قال -رحمه الله-: القول الجملي فيه أن الرجوع فيما يكون قبضا إلى العادة وتختلف بحسب اختلاف المال.
* وأما تفصيله فنقول: المال إما أن يباع من غير اعتبار تقدير فيه وإما مع اعتبار فيه فهما نوعان:
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(7/95)
* الأول ما لا يعتبر فيه تقدير إما لعدم إمكانه وإما مع إمكانه فينظر إن كان المبيع مما لا ينقل كالأرض والدار فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري ويمكنه من اليد والتصرف بتسليم المفتاح إليه ولا يعتبر دخوله وتصرفه فيه، ويشترط كونه فارغا من أمتعة البائع، فلو باع دارا فيها أمتعة للبائع توقف التسليم على تفريقها، وكذا لو باع سفينة مشحونة بالقماش. وحكى الرافعي بعد هذا وجها شاذا ضعيفا عند ذكر بيع الدار المذروعة أنه لا يصح بيع الدار المشحونة بالأقمشة وادعى إمام الحرمين أنه ظاهر المذهب.
ولو جمع البائع متاعه في بيت من الدار وخلى بين المشتري وبين الدار حصل القبض فيما عدا ذلك البيت كذا قاله الأصحاب وكذا نقله المتولي عن الأصحاب. وفي اشتراط حضور البائع عند المبيع في حال الإقباض ثلاثة أوجه:
أحدها: يشترط. فإن حضرا عنده فقال البائع للمشتري: دونك هذا ولا مانع حصل القبض وإلا فلا.
والثاني: يشترط حضور المشتري دون البائع.
وأصحها: لا يشترط حضور واحد منهما، لأن ذلك يشق فعلى هذا هل يشترط زمان إمكان المضي؟ فيه وجهان:
أصحهما: نعم، وبه قطع المتولي وغيره، وفي معنى الأرض الشجر الثابت والثمرة المبيعة على الشجر قبل أوان الجذاذ، والله سبحانه أعلم.
* وأما إذا كان المبيع من المنقولات فالمذهب والمشهور أنه لا تكفي التخلية بل يشترط النقل والتحويل. وفي قول رواه حرملة تكفي التخلية لنقل الضمان إلى المشتري ولا تكفي لجواز تصرفه فعلى المذهب إن كان المبيع عبدا يأمره بالانتقال من موضعه، وإن كان دابة ساقها أو قادها (قلت) : قال صاحب البيان: لو أمر العبد بعمل لم ينتقل فيه عن موضعه، أو ركب البهيمة ولم تنقل عن موضعها فالذي يقتضيه المذهب أنه لا يكون قبضا كما لا يكون غصبا، قال: ولو وطيء الجارية فليس قبضا على الصحيح من الوجهين، وبهذا قطع الجمهور وهذا الذي ذكره في الغصب فيه خلاف نذكره في الغصب إن شاء الله تعالى.
قال الرافعي: إذا كان المبيع في موضع لا يختص بالبائع كموات ومسجد وشارع أو(7/96)
في موضع يختص بالمشتري فالتحويل إلى مكان منه كاف في حصول القبض، وإن كان في بقعة مخصوصة بالبائع فالنقل من زاوية منه إلى زاوية، أو من بيت من داره إلى بيت بغير إذن البائع لا يكفي لجواز التصرف ويكفي لدخوله في ضمانه، وإن نقل بإذنه حصل القبض وكأنه استعار ما نقل إليه.
ولو اشترى الدار مع أمتعة فيها صفقة واحدة، فخلى البائع بينهما وبينه حصل القبض في الدار وفي الأمتعة وجهان:
أصحهما: يشترط نقلها لأنها منقولة كما لو أفردت.
والثاني: يحصل فيها القبض تبعا وبه قطع الماوردي وزاد فقال: لو اشترى صبرة ولم ينقلها حتى اشترى الأرض التي عليها الصبرة وخلى البائع بينه وبينها حصل القبض في الصبرة.
(قلت) قال الماوردي: ولو استأجر الأرض من البائع فوجهان:
أصحهما: أنه ليس قبضا للأمتعة والله سبحانه وتعالى أعلم.(7/97)
قال الرافعي: ولو لم يتفقا على القبض فجاء البائع بالمبيع فامتنع المشتري من قبضه أجبره الحاكم عليه، فإن أصر أمر الحاكم من يقبضه كما لو كان غائبا، قال: ولو جاء البائع بالمبيع فقال المشتري شيئا أو قال: لا أريده فوجهان:
أحدهما: لا يحصل القبض كما لا يحصل الإيداع.
وأصحهما: يحصل لوجوب التسليم، كما لو وضع المغصوب بين يدي المالك فإنه يبرأ من الضمان فعلى هذا للمشتري التصرف فيه، ولو تلف فمن ضمانه، لكن لو خرج مستحقا ولم يجر إلا وضعه فليس للمستحق مطالبة المشتري الضمان، لأن هذا القدر لا يكفي لضمان الغصب.
قال ابن قدامة -رحمه الله- في المغني (1) :
*
(فصل)
وقبض كل شيء بحسبه فإن كان مكيلا أو موزونا بيع كيلا أو وزنا
__________
(1) ص: 100-105 \ جزء: 4.(7/97)
فقبضه بكيله ووزنه وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: التخلية في ذلك قبض. وقد روى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل فكان قبضا له كالعقار، ولنا ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل (1) » رواه النجاد، وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري (2) » رواه ابن ماجه وهذا فيما بيع كيلا، وإن بيع جزافا فقبضه نقله لأن ابن عمر قال: «كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه حتى يحولوه، (3) » وفي لفظ «كنا نبتاع الطعام جزافا فبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من مكانه الذي ابتعناه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه (4) » ، وفي لفظ: «كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله (5) » ، رواهن مسلم. وهذا يبين أن الكيل إنما وجب فيها بيع بالكيل وقد دل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا سميت الكيل فكل (6) » رواه الأثرم.
وإن كان المبيع دراهم أو دنانير فقبضها باليد وإن كان ثيابا فقبضها بنقلها، وإن كان حيوانا فقبضه تمشيته من مكانه، وإن كان مما لا ينقل ويحول فقبضه التخلية بينه وبين مشتريه لا حائل دونه، وقد ذكره الخرقي في باب الرهن فقال: إن كان مما ينقل فقبضه أخذه إياه من راهنه منقولا، وإن كان مما لا ينقل فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه لا حائل دونه، ولأن القبض مطلق في الشرع فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإحراز والتفرق والعادة في قبض هذه الأشياء ما ذكرنا. إلى أن قال:
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (1/62) .
(2) سنن ابن ماجه التجارات (2228) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2166) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4605) ، سنن أبو داود البيوع (3493) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(5) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(6) سنن ابن ماجه التجارات (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (1/75) .(7/98)
مسألة: قال (ومن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه حتى يقبضه) .
وقد ذكرنا الذي يحتاج إلى قبض والخلاف فيه وكل ما يحتاج إلى قبض إذا اشتراه لم يجز بيعه حتى يقبضه لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه (1) » متفق عليه، ولأنه من ضمان بائعه فلم يجز بيعه كالسلم ولم أعلم بين أهل العلم خلافا إلا ما حكي عن البتي أنه قال: لا بأس ببيع كل شيء قبل قبضه، وقال ابن عبد البر وهذا قول مردود بالسنة والحجة المجمعة على
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2126) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4595) ، سنن أبو داود البيوع (3492) ، سنن ابن ماجه التجارات (2226) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1335) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(7/98)
الطعام وأظنه لم يبلغه هذا الحديث ومثل هذا لا يلتفت إليه، وأما غير ذلك فيجوز بيعه قبل قبضه في أظهر الروايتين ويروى مثل هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والحكم وحماد والأوزاعي وإسحاق، وعن أحمد رواية أخرى لا يجوز بيع شيء قبل قبضه اختارها ابن عقيل وروى ذلك عن ابن عباس وهذا قول أبي حنيفة والشافعي إلا أن أبا حنيفة أجاز بيع العقار قبل قبضه واحتجوا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه، وبما روى أبو داود «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (1) » ، وروى ابن ماجه «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء الصدقات حتى تقبض (2) » ، وروى «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث عتاب بن أسيد إلى مكة قال: "انههم عن بيع ما لم يقبضوه وعن ربح ما لم يضمنوه» ولأنه لم يتم الملك عليه فلم يجز بيعه كغير المتعين أو كالمكيل والموزون.
ولنا ما روى ابن عمر قال: «كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم فنأخذ بدل الدراهم الدنانير ونبيعها بالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء (3) » وهذا التصرف في الثمن قبل قبضه وهو أحد العوضين، وروى «ابن عمر أنه كان على بعير صعب -يعني لعمر - فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "بعنيه" فقال هو لك يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو لك يا عبد الله بن عمر فاصنع به ما شئت، (4) » وهذا ظاهره التصرف في المبيع بالهبة قبل قبضه، واشترى من جابر جمله ونقده ثمنه ثم وهبه إياه قبل قبضه، ولأنه أحد نوعي المعقود عليه فجاز التصرف فيه قبل قبضه كالمنافع في الإجارة فإنه يجوز له إجارة العين المستأجرة قبل قبض المنافع، ولأنه مبيع لا يتعلق به حق توفيه فصرح بيعه كالمال في يد مودعه أو مضاربه، فأما أحاديثهم فقد قيل لم يصح منها إلا حديث الطعام وهو حجة لنا بمفهومه فإن تخصيصه الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه يدل على إباحة ذلك فيما سواه، وقولهم لم يتم الملك عليه ممنوع فإن السبب المقتضى للملك متحقق وأكثر ما فيه تخلف القبض، واليد ليست شرطا في صحة البيع بدليل جواز بيع المال المودع والموروث والتصرف في الصداق وعوض الخلع عند أبي حنيفة.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(2) سنن ابن ماجه التجارات (2196) ، مسند أحمد بن حنبل (3/42) .
(3) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/83) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .
(4) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2611) .(7/99)
(فصل)
وما لا يجوز بيعه قبل قبضه لا يجوز بيعه لبائعه لعموم الخبر فيه، قال القاضي: لو ابتاع شيئا مما يحتاج إلى قبض فلقيه ببلد آخر لم يكن له مطالبته ولا أخذ بدله وإن تراضيا؛ لأنه مبيع لم يقبض، فإن كان مما لا يحتاج إلى قبض جاز أخذ البدل عنه وإن كان في سلم لم يجز أخذ البدل عنه لأنه أيضا لا يجوز بيعه.
(فصل)
وكل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض لم يجز التصرف فيه قبل قبضه كالذي ذكرنا، والأجرة وبدل الصلح إذا كانا من المكيل أو الموزون أو المعدود، وما لا ينفسخ العقد بهلاكه جاز التصرف فيه قبل قبضه كعوض الخلع والعتق على مال وبدل الصلح عن دم العمد وأرش الجناية وقيمة المتلف لأن المطلق للتصرف الملك وقد وجد، لكن ما يتوهم فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه لم يجز بناء عقد آخر عليه تحرزا من الغرر وما لا يتوهم فيه ذلك الغرر انتفى المانع فجاز العقد عليه وهذا قول أبي حنيفة والمهر كذلك عند القاضي وهو قول أبي حنيفة لأن العقد لا ينفسخ بهلاكه وقال الشافعي: لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه ووافقه أبو الخطاب في غير المتعين لأنه يخشى رجوعه بانتقاص سببه بالردة قبل الدخول أو انفساخه بسبب من جهة المرأة أو نصفه بالطلاق أو انفساخه بسبب من غير جهتها وكذلك قال الشافعي في عوض الخلع وهذا التعليل باطل بما بعد القبض فإن قبضه لا يمنع الرجوع فيه قبل الدخول، وأما ما ملك بإرث أو وصية أو غنيمة، أو تعين ملكه فيه فإنه يجوز له التصرف فيه بالبيع وغيره قبل قبضه لأنه غير مضمون بعقد معاوضة فهو كالمبيع المقبوض. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ولا أعلم عن غيرهم خلافهم.
* وإن كان لإنسان في يد غيره وديعة أو عارية أو مضاربة أو جعله وكيلا فيه جاز له بيعه ممن هو في يده ومن غيره لأنه عين مال مقدور على تسليمها لا يخشى انفساخ الملك فيها فجاز بيعها كالتي في يده، وإن كان عصبا جاز بيعه ممن هو في يده لأنه مقبوض معه فأشبه بيع العارية ممن هي في يده وأما بيعه لغيره فإن كان عجزا عن استنقاذه أو ظن أنه عاجز لم يصح شراؤه له، لأنه معجوز(7/100)
عن تسليمه إليه فأشبه بيع الآبق والشارد وإن ظن أنه قادر على استنقاذه ممن هو في يده صح البيع لإمكان قبضه، فإن عجز عن استنقاذه فله الخيار بين الفسخ والإمضاء لأن العقد صح لكونه مظنون القدرة على قبضه ويثبت له الفسخ للعجز عن القبض فأشبه ما لو باعه فرسا فشردت قبل تسليمها أو غائبا بالصفة فعجز عن تسليمه.
* قال ابن حجر في فتح الباري -رحمه الله-:
باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك، حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال: الذي حفظناه من عمرو بن دينار سمع طاوسا يقول: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: «أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم: فهو الطعام أن يباع حتى يقبض (1) » ، قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله. حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه (2) » ، زاد إسماعيل فلا يبعه حتى يقبضه.
باب من رأى إذا اشترى طعاما جزافا أن لا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله والأدب في ذلك حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتاعون جزافا يعني الطعام يضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤوه إلى رحالهم (3) » .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2135) ، صحيح مسلم البيوع (1525) ، سنن الترمذي البيوع (1291) ، سنن النسائي البيوع (4599) ، سنن أبو داود البيوع (3497) ، سنن ابن ماجه التجارات (2227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/221) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/22) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2137) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3498) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك العتق والولاء (1520) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(7/101)
(قوله باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك) لم يذكر في حديثي الباب بيع ما ليس عندك وكأنه لم يثبت على شرطه فاستنبطه من النهي عن البيع قبل القبض ووجه الاستدلال منه بطريق الأولى. وحديث النهي عن بيع ما ليس عندك أخرجه أصحاب السنن من حديث حكيم بن حزام بلفظ «قلت: يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني البيع ليس عندي أبيعه منه ثم أبتاعه له من السوق؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك (1) » . وأخرجه الترمذي مختصرا ولفظه: «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندي (2) » ، قال ابن المنذر: وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين:
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1233) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/403) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .(7/101)
أحدهما: أن يقول أبيعك عبدا أو دارا معينة وهي غائبة فيشبه بيع الغرر لاحتمال أن تتلف أو لا يرضاها.
ثانيهما: أن يقول هذه الدار بكذا على أن أشتريها لك من صاحبها أو على أن يسلمها لك صاحبها أهـ.
وقصة حكيم موافقة للاحتمال الثاني. (قوله حدثنا سفيان) هو ابن عيينة وقوله الذي حفظناه من عمرو كأن سفيان يشير إلى أن في رواية غير عمرو بن دينار عن طاوس زيادة على ما حدثهم به عمرو بن دينار عنه كسؤال طاوس من ابن عباس عن سبب النهي وجوابه وغير ذلك.
(قوله عن ابن عباس أما الذي نهى عنه الخ. .) أي وأما الذي لم أحفظ نهيه فيما سوى ذلك (قوله فهو الطعام أن يباع حتى يقبض) في رواية مسعر عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه قال مسعر: وأظنه قال: أو علفا وهو بفتح المهملة واللام والفاء.
(قوله قال ابن عباس: لا أحسب كل شيء إلا مثله) ولمسلم من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام وهذا من تفقه ابن عباس، ومال ابن المنذر إلى اختصاص ذلك بالطعام واحتج باتفاقهم على أن من اشترى عبدا فأعتقه قبل قبضه أن عتقه جائز، قال: فالبيع كذلك وتعقب بالفارق وهو تشوف الشارع إلى العتق وقول طاوس في الباب قبله قلت لابن عباس كيف ذاك؟ قال: ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ معناه أنه استفهم عن سبب هذا النهي، فأجابه ابن عباس بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باعه دراهم بدراهم ويبين ذلك ما وقع في رواية سفيان عن ابن طاوس عند مسلم قال طاوس: قلت لابن عباس: لم؟ قال ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجأ أي فإذا اشترى طعاما بمائة دينار مثلا ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام ثم باع الطعام لآخر بمائة وعشرين دينارا وقبضها والطعام في يد البائع فكأنه باع مائة دينار بمائة وعشرين دينارا، وعلى هذا التفسير لا يختص النهي بالطعام ولذلك قال ابن عباس: لا يحسب كل شيء إلا مثله ويؤيده حديث زيد بن ثابت «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (1) » أخرجه أبو داود
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(7/102)
وصححه ابن حبان، قال القرطبي: هذه الأحاديث حجة على عثمان الليثي حيث أجاز بيع كل شيء قبل قبضه وقد أخذ بظاهرها مالك فحمل الطعام على عمومه وألحق بالشراء جميع المعاوضات، وألحق الشافعي وابن حبيب وسحنون بالطعام كل ما فيه حق توفيه، وزاد أبو حنيفة والشافعي فعدياه إلى كل مشتري إلا أن أبا حنيفة استثنى العقار وما لا ينقل واحتج الشافعي بحديث عبد الله بن عمر وقال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن (1) » أخرجه الترمذي، (قلت) وفي معناه حديث حكيم بن حزام المذكور في صدر الترجمة وفي صفة القبض عن الشافعي تفصيل فما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والثوب فقبضه بالتناول، وما لا ينقل كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية، وما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان الاختصاص للبائع به، وفيه قول أنه يكفي فيه التخلية. قوله عقب حديث ابن عمر: زاد إسماعيل فلا يبعه حتى يقبضه يعني أن إسماعيل بن أبي أويس روى الحديث المذكور عن مالك بسنده بلفظ حتى يقبضه بدل قوله حتى يستوفيه، وقد وصله البيهقي من طريق إسماعيل كذلك، وقال الإسماعيلي وافق إسماعيل على هذا اللفظ ابن وهب وابن مهدي والشافعي وقتيبة.
(قلت) وقول البخاري زاد إسماعيل يريد الزيادة في المعنى لأن في قوله: حتى يقبضه زيادة في المعنى على قوله: حتى يستوفيه لأنه قد يستوفيه بالكيل بأن يكيله البائع ولا يقبضه للمشتري بل يحبسه عنده لا لينقده الثمن مثلا وعرف بهذا جواب من اعترضه من الشراح فقال: ليس في هذه الرواية زيادة، وجواب من حمل الزيادة على مجرد اللفظ فقال: معناه زاد لفظا آخر وهو يقبضه وإن كان هو بمعنى يستوفيه ويعرف من ذلك أن اختيار البخاري أن استيفاء المبيع المنقول من البائع وتبقيته في منزل البائع لا يكون قبضا شرعيا حتى ينقله المشتري إلى مكان لا اختصاص للبائع به كما تقدم نقله عن الشافعي وهذا هو النكتة في تعقيب المصنف له بالترجمة الآتية:
(قوله باب من رأى إذا اشترى طعاما جزافا ألا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله والأدب في ذلك)
أي: تعزيره من يبعه قبل أن يؤويه إلى رحله ذكر فيه حديث ابن عمر في ذلك
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .(7/103)
وهو ظاهر فيما ترجم له وبه قال الجمهور لكنهم لم يخصوه بالجزاف ولا قيموه بالإيواء إلى الرحال. أما الأول فلما ثبت من النهي عن بيع الطعام قبل قبضه فدخل فيه المكيل، وورد التنصيص على المكيل من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعا، أخرجه أبو داود. وأما الثاني فلأن الإيواء إلى الرحال خرج مخرج الغالب، وفي بعض طرق مسلم عن ابن عمر «كنا نبتاع الطعام فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه، (1) » وفرق مالك في المشهور عنه بين الجزاف والمكيل فأجاز بيع الجزاف قبل قبضه وبه قال الأوزاعي وإسحاق واحتج لهم بأن الجزاف مرئي فتكفى فيه التخلية، والاستيفاء إنما يكون في مكيل أو موزون وقد روى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعا «من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه (2) » ورواه أبو داود والنسائي بلفظ: «نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه (3) » ، والدارقطني من حديث جابر «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع والمشتري، (4) » ونحوه للبزار من حديث أبي هريرة بإسناد حسن وفي ذلك دلالة على اشتراط القبض في المكيل بالكيل وفي الموزون بالوزن. فمن اشترى شيئا مكايلة أو موازنة فقبضه جزافا فاسد. وكذا لو اشترى مكايلة فقبضه موازنة وبالعكس ومن اشترى مكايلة وقبضه ثم باعه لغيره لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيا، وبذلك كله قال الجمهور، وقال عطاء: يجوز بيعه بالكيل الأول مطلقا، وقيل: إن باعه بنقد جاز بالكيل الأول وإن باعه بنسيئة لم يجز بالأول والأحاديث المذكورة ترد عليه، وفي الحديث مشروعية تأديب من يتعاطى العقود الفاسدة وإقامة الإمام على الناس من يراعي أحوالهم في ذلك والله أعلم.
وقوله: جزافا مثلثة الجيم والكسر أفصح وفي هذا الحديث جواز بيع الصبرة جزافا سواء علم البائع قدرها أم لم يعلم، وعن مالك التفرقة فلو علم لم يصح، وقال ابن قدامة: يجوز بيع الصبرة جزافا لا نعلم فيه خلافا إذا جهل البائع والمشتري قدرها فإن اشتراها جزافا ففي بيعها قبل نقلها روايتان عن أحمد، ونقلها قبضها (5) .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4605) ، سنن أبو داود البيوع (3493) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4604) ، سنن أبو داود البيوع (3495) ، سنن ابن ماجه التجارات (2226) ، مسند أحمد بن حنبل (2/111) ، موطأ مالك البيوع (1335) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4604) ، سنن أبو داود البيوع (3495) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(4) سنن ابن ماجه التجارات (2228) .
(5) ص: 277-279 \ جزء:4(7/104)
يمكن القضاء على جشع التجار الذين يحتالون بأنواع من البيوع المحرمة على استغلال حاجة المضطرين بالأمور التالية:
أولا:
التوعية الشاملة:
يقوم العلماء بتبيين أنواع البيوع المحرمة، ويحذرون الناس من التعامل بها لما فيها من غضب الله وسخطه، ولما يترتب عليها من أخطار على الأمة وخاصة المحتاجين، وما ينشأ عنها من أضرار اجتماعية ومالية من توليد الضغائن والأحقاد وتقطيع أواصر المحبة والإخاء وتكبيل من صاروا فريسة للتحايل في البيوع وسائر المعاملات والتلاعب فيها بكثرة الديون وتراكمها على الضعفاء وشغل القضاة وسائر ولاة الأمور بالخصومات.
ويكون ذلك بإلقاء الخطب والدروس بالمساجد والمحاضرات في النوادي والتلفزيون والإذاعة والمجتمعات العامة وبنشر المقالات في الصحف والمجلات، فإن لذلك التأثير البين إن شاء الله على ذوي القلوب الحية والنفوس الطيبة وبه يخف الجشع والاحتيال لأكل الأموال بالباطل.
ثانيا:
ينصح الجمهور بالاقتصاد في النفقات فلا يتوسعون في وسائل الترف وينصح من عنده رأس مال يتجر فيه ألا يدخل في مداينات أو معاملات محرمة ليتوسع بها في رأس ماله وليستغن بما آتاه الله وما أباحه له من طرق الاتجار والكسب الحلال عما حرمه الله عليه شكرا لنعمة الله عليه عسى أن يزيده سبحانه وتعالى من فضله.
ثالثا:
الأخذ على يد المتلاعبين في المعاملات:
يقوم ولاة الأمور بمراقبة الأسواق العامة والمحلات التجارية لمعرفة ما يجري فيها من المعاملات المحرمة ويأخذون على يد من حصل منه ذلك فيعزرونه بما يردعه من حبس أو ضرب أو غرامات مالية أو بمصادرة العوض في المعاملة المحرمة إلى أمثال(7/105)
هذا مما يرونه للمسيء ولأمثاله الذين لم يستجيبوا للتوعية والإرشاد ولم تؤثر فيهم الدروس والمواعظ فلم يعبئوا بالتحذير ولم يبالوا بالوعيد وصارم الجزاء. وهذا مما يقضي على جشعهم أو يقلله إن شاء الله ويجعلهم على حذر مستمر من الاستغلال السيء والكسب المحرم.
رابعا:
توجيه الزراع إلى بنك التسليف الزراعي ليتعاملوا معه فيأخذوا منه ما يحتاجونه لمزارعهم من الآلات الزراعية وغيرها بأسعار معتدلة تدفع على أقساط مناسبة دون ربا وإرهاق أو استغلال للظروف.
خامسا:
توجيه من يريد بناء مسكن له أو يريد التوسع في بناء مساكن للإسهام في حل أزمة المساكن ولينتفع بذلك. إلى بنك التنمية والاستثمار العقاري ليقدم إليه من المال ما يستعين به في إقامة ما يريد من بناء ثم يسدد ما أخذ أقساطا لا يشق عليه الوفاء بها في مواعيدها دون أن يتقاضى البنك على ذلك منه ربا.
سادسا:
إرشاد من يحتاج إلى قرض لشئون أخرى يحتاجها في حياته أن يتقدم إلى البنك الإسلامي أو أحد الأفراد الأغنياء بإبداء حاجته ليعطيه قرضا بلا ربا يسد به حاجته.
هذا ما تيسر إعداده وبالله التوفيق
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(7/106)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية(7/107)
فتوى رقم 51 - 17 \ 3 \ 1393هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
س: رجل باع على رجل أكياس أرز إلى أجل معلوم فقبضهن المشتري من البائع وحرج عليهن الدلال بالسوق واشتراهن رجل آخر من الدلال وقال: اقبضهن، فلم يوجد المشتري حاضرا، فقال البائع الأول: أنا وكيل أقبضهن له من الدلال، فصاح الحاضرون وقالوا: ربا، ربا، أفتونا مأجورين.
الجواب: إن كان من اشترى الأرز من الدلال إنما اشتراه لنفسه ولم يكن بينه وبين البائع الأول تواطؤ واتفاق على أن يشتريه له ولا هو عامل عنده يقوم بأعماله وكان قبض البائع الأول لأكياس الأرز إنما هو عن طريق الوكالة للمشتري من الدلال: فالبيع صحيح وليس فيه ربا. وإن كان هناك تواطؤ سابق بين البائع الأول ومشتري أكياس الأرز من الدلال على أن يتولى الشراء لتعود الأكياس إلى البائع الأول فهو من الربا، والبيع غير صحيح، وما جرى بينهم مخادعة لا تخفى على الله، ولا تحل حراما.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(7/108)
فتوى رقم 71 - 22 \ 4 \ 1392هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
س: إذا كان عند رجل كيس من السكر يباع حاليا بثمانين ريالا. وطلبه منه مشتر لأجل فباعه عليه بمائة وخمسين لأجل فهل للزيادة حد تقف عنده؟
الجواب: البيع حالا أو لأجل مشروع لا حظر فيه والأصل في الأثمان عدم التحديد سواء أكانت في بيع حال أو مؤجل فتترك لتأثير العرض والطلب، إلا أنه ينبغي للناس أن يتراحموا فيما بينهم وأن تسود بينهم السماحة في البيع والشراء، وألا ينتهزوا الفرص لإدخال بعضهم الضيق في المعاملات على بعض. . قال صلى الله عليه وسلم «رحم الله امرأ سمحا إذا باع وإذا اشترى (1) » .
فإذا انتهز إنسان فرصة الضيق وشدة حاجة أخيه إلى ما بيده وهو لا يجده عند غيره أو يجده ولكن تواطأ من في السوق من التجار على رفع الأسعار طمعا في زيادة الكسب وغلوا فيه، حرم على من بيده السلعة أن يبيعها على من اشتدت حاجته إليها بأكثر من ثمن مثلها حالا في البيع الحال وثمن مثله مؤجلا في المؤجل، وعلى من حضر ذلك أن يساعد على العدل ويمنع من الظلم كل على قدر حاله. . وفي درجته التي تليق به من درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والحال الراهنة وقت البيع والشراء هي التي تحدد ثمن المثل فلكل سوق سعره ولكل وقت سعره ولكل حال من كثرة
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2076) ، سنن الترمذي البيوع (1320) ، سنن ابن ماجه التجارات (2203) ، مسند أحمد بن حنبل (3/340) ، موطأ مالك البيوع (1395) .(7/109)
العرض وقلته وقلة الطلب وكثرته سعره.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(7/110)
فتوى رقم 71 - 22 \ 4 \ 1393هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
س: رجل صاحب إبل اختلطت معها واحدة من الإبل صغيرة السن وليس عليها وسم تعرف به وبقيت مع إبله حتى كبرت وأنجبت ولم يعرف لها طالب، وتفقد أحيانا ويبحث وراءها حتى يجدها ولم يعارض فيها ولا تزال إلى الآن عنده هي وأولادها ويرغب معرفة حكم الشرع فيها؟
الجواب: إن كان ما اختلط من الإبل بإبله صغيرا صغرا لا يقوى معه على ورود الماء ولا على الامتناع من صغار السباع فهو كالغنم يجوز له إبقاؤه مع إبله صيانة له من الهلاك لضعفه. . وعليه أداؤه فقط لصاحبه إن جاء يوما من الدهر. . فإن أعطاه النماء مع الأصل كان ذلك فضلا منه وإحسانا. . وإن كان ما اختلط من الإبل بإبله كبيرا أو صغيرا لا يمنعه من أن يرد الماء بنفسه ويدفع عن نفسه صغار السباع كان آثما بإبقاء تلك الإبل مع إبله وضمن(7/110)
ذلك لصاحبه، ولو تلفت لأنه في حكم الغاصب لقوله صلى الله عليه وسلم لما «سأله رجل عن ضالة الإبل ما لك وما لها: " دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها (1) » رواه أحمد والبخاري ومسلم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) صحيح البخاري في اللقطة (2436) ، صحيح مسلم اللقطة (1722) ، سنن الترمذي الأحكام (1372) ، سنن أبو داود اللقطة (1704) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2504) ، مسند أحمد بن حنبل (4/115) ، موطأ مالك الأقضية (1482) .(7/111)
فتوى رقم 82 - 23 \ 4 \ 1392هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
س: إني منتسب في صنعة المساند التي تحشى بالنجارة وعندما أبيعها أفهم المشتري أن حشوها من النجارة فهل يجوز لي ذلك؟
الجواب: حيث إنك تخبر المشتري بأن حشو المساند بالنجارة فإذا كان هذا النوع من النجارة متميزا عن غيره تميزا تاما بحيث إذا أخبرت المشتري فكأنه يشاهده وأخبرت كل من يشتري منك بذلك فليس عليك في ذلك إثم(7/111)
لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم (1) » .
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) سنن أبو داود الأقضية (3594) .(7/112)
فتوى رقم 96 - 25 \ 4 \ 1392هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
س: ما حكم بيع الدم وهل يجوز أخذ العوض المبذول عنه أم لا؟
الجواب: الدم نجس لا يجوز استعماله ولا تناوله لعلاج ولا لغيره سواء استعمل عن طريق الفم أو عن طريق الشرايين أو غير ذلك لعموم الأحاديث الواردة بالمنع من التداوي بالنجس والمحرم ومنه حديث أم الدرداء قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بحرام (1) » . وقال ابن مسعود في المسكر: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ذكره البخاري، لكن إذا وصل بالإنسان المرض إلى حالة الاضطرار وخشي على نفسه الهلاك إن لم يستعمل الدم فالضرورات تبيح المحظورات. . قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) فإذا بلغ الحال بالمريض إلى خوف
__________
(1) رواه أبو داود.
(2) سورة المائدة الآية 3(7/112)
التلف على نفسه جاز نقل الدم له بل ربما يجب لإنقاذ النفس، وأما أخذ العوض عن ذلك فلا يجوز؛ لأن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه، وروى أبو داود وابن أبي شيبة من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود حرم الله عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها (1) » فإن تعذر حصوله على دم بلا عوض جاز له أخذه بعوض وحرم أخذ العوض على باذله وعليه حصل التوقيع. .
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3460) ، صحيح مسلم المساقاة (1582) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4257) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3383) ، مسند أحمد بن حنبل (1/25) ، سنن الدارمي الأشربة (2104) .(7/113)
فتوى رقم 101 - 29 \ 4 \ 1393هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
س: إذا جاء شخص إلى آخر يريد الأول من الثاني (بضاعة) دينا، فهل يجوز للثاني أن يشتري له بضاعة من السوق ويبيعها عليه؟ وإذا كان عنده بعض البضاعة فهل يأخذ غلاقه من السوق ويبيعها على المستدين؟ وإذا صارت البضاعة عند الثاني فهل يجوز أن يدعي الأول الألف بألف وخمسمائة؟ وهل يصح أن يكون الثمن يدفع أقساطا كل شهر وهل يجوز أن يقول(7/113)
العشرة خمسة عشر - مثلا - انتهى؟
الجواب من وجوه: الأول: مجرد الاتفاق السابق للعقد ليس بملزم للطرفين ولا لأحدهما فكل منهما لو أراد الرجوع فله ذلك، وعلى هذا الأساس فإذا اشترى الثاني المال أو غلاقه من الورق ثم قبضه ثم باعه على المستدين ثم قبضه المستدين صح البيع ولزم، ولكن إذا كان المشتري لا يريد إلا الدراهم فيشتري السلعة بمائة مؤجلة ويبيعها في السوق بسبعين حالة فهذا كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: دراهم بدراهم بينهما حريرة، وكرهه بعض أهل العلم منهم عمر بن عبد العزيز فينبغي تجنب تعاطيه احتياطا وبراءة للذمة وخروجا من الخلاف. وممن أفتى في هذه المسألة من أئمة الدعوة الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - قال: وأما البيع إلى أجل ابتداء جاز إذا كان على الوجه المباح. وأما إذا كان مقصوده الدراهم فيشتريها بمائة مؤجلة ويبيعها في السوق بسبعين حالة فهذا مذموم منهي عنه في أظهر قولي العلماء وهذا يسمى: التورق، قال عمر بن عبد العزيز: التورق أخية الربا.
* الوجه الثاني: إن مقصود السائل بقوله إذا صارت البضاعة عندي ويريد عوض ألف هل يصح أقيد عليه الألف بألف وخمسمائة؟ إن كان مقصوده أنه يبيعه على ما وصف في المسألة السابقة فقد تقدم حكمه، وإن كان يريد أنهما يتفقان على أن البضاعة التي ثمنها ألف تكون بألف وخمسمائة فيستلم المشتري الألف ويقيد عليه البائع ألفا وخمسمائة وتكون السلعة صورية، وفي الحقيقة لم يحصل سلعة تباع وتشترى فهذا ربا لا إشكال فيه، فهو داخل في عموم الأدلة الدالة على تحريم الربا من الكتاب والسنة.
* الوجه الثالث: أنه لا مانع من كون الثمن كله مؤجلا يحل في وقت واحد أو في أوقات مختلفة بمعنى أنه يكون أقساطا كل قسط يسلم بعد شهر أو شهرين مثلا والأصل في ذلك عموم آية الدين فإنه لم يحدد فيها أن يكون(7/114)
الأجل واحدا أو متعددا كل قسم من الثمن يكون له أجل.
* الوجه الرابع: يجوز للإنسان أن يقول العشرة خمسة عشر إذا كان المقصود ما ثمنه عشرة حالة يكون بخمسة عشرة مؤجلا، وأما إذا كان المقصود هو أن عشرة ريالات تباع بخمسة عشر مثلا فهذا لا يجوز وقد تقدم الكلام فيه.
* الوجه الخامس: أن المشروع في حق المسلم على المسلم إذا جاء ليستدين منه فإنه لا يلجئه إلى زيادة في الثمن تكون خارجة عما تعارف عليه عموم التعامل الذي يجري على سنن العدل فإن الله تعالى أمر بالعدل، يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (1) الآية. والعدل في كل شيء بحسبه ولهذا منعت الشريعة بيع المكره بغير حق ومن تلقى الركبان وبيع الحاضر للبادي إلا بشروط معلومة ونحو ذلك. فعلى المسلمين أن يتراحموا فيما بينهم فإن من رحم رحم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) سورة النحل الآية 90(7/115)
فتوى رقم 111 - 29 \ 4 \ 1393هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
س: طلب الإفادة عن حكم بيع الدولار الأمريكي لأجل يكسب به، وعما يجب دفعه للبائع عند الأجل على تقدير أن البيع غير جائز، وعما يترتب على مثل هذا التعامل بالنسبة للمتعاملين به؟
الجواب: الدولار يعتبر نقدا فيجري في التعامل به ما يجري في التعامل بالنقود وعلى ذلك لا يجوز بيعه بجنسه مع كسب إلى أجل؛ لما في ذلك من ربا الفضل والنسيئة، ولا يجوز بيعه بغير جنسه من النقود لأجل؛ لما فيه من الصرف المؤخر وهو من ربا النسأ. . والعقد في الحالتين فاسد.
وأما ما يدفع إلى البائع فهو أصل المبلغ دون ما زاد عليه من الكسب لقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} (1) ويستحقه فورا لفساد العقد، وأما ما يترتب على هذا التعاقد فهو قبول توبة من ازدجر عن هذا المنكر بعد البيان وتاب إلى الله
__________
(1) سورة البقرة الآية 279(7/116)
تعالى. . وتعزير ولاة الأمور له بما يرونه زاجرا له إن تمادى ولم يتب من ذنب.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
من الآية 279 من سورة البقرة.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(7/117)
فتوى رقم 169 - 15 \ 6 \ 1393هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
س: ما رأيكم في بيع السيارة بعشرة آلاف نقدا أو باثني عشر ألفا تقسيطا كما هو معروف الآن في معارض السيارات؟
الجواب: إذا باع إنسان لآخر سيارة أو غيرها بعشرة آلاف ريال مثلا نقدا أو باثني عشر ألف ريال مثلا إلى أجل وتفرقا من مجلس العقد دون أن يتفقا على أحد الأمرين ثمن الحلول أو ثمن الأجل لم يجز البيع ولم يصح لجهالة الثمن والحال التي انتهى إليها البيع من حلول أو تأجيل، وقد استدل بهذا كثير من العلماء «بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة (1) » فإذا اتفق المتبايعان قبل أن يتفرقا من مجلس العقد على أحد الثمنين بأن عينا ثمن النقد أو ثمن التأجيل ثم تفرقا بعد التعيين فالبيع جائز
__________
(1) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. .(7/117)
صحيح للعلم بالثمن وحاله.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(7/118)
فتوى رقم 421 - 25 \ 3 \ 1393هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
س: نسمع من الذين يذاكرون في المساجد أن البيع والشراء بالنسيئة حرام. فما رأيكم فيمن اشترى مالا ودفع قيمته من صاحبه ثم أتى إليه رجل ثان واشتراه من قيمته إلى الحلول؟
الجواب: بيع المال إلى أجل بثمن أكثر من ثمنه حالا يعرف عند أهل العلم بمسألة التورق، والمقدم عند الحنابلة أنها جائزة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا لم يكن للمشتري إلى السلعة حاجة بل حاجته في الذهب والورق يشتري السلعة ليبيعها بالعين التي احتاج إليها، فإن أعاد السلعة إلى البائع فهو الذي لا يشك في تحريمه، وإن باعها لغيره تاما ولم تعد إلى الأول بحال فقد(7/118)
اختلف السلف في كراهته ويسمونه التورق، وكان عمر بن عبد العزيز يكرهه، ويقول التورق أخية الربا. . وإياس بن معاوية يرخص فيه، وعن الإمام أحمد فيه روايتان منصوصتان، وقال أيضا: ومن تدين من رجل دينا ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون بينهم مواطأة لفظية أو عرفية على أن يشتري السلعة من رب الحانوت ثم يبيعها للمشتري ثم تعاد إلى صاحب الحانوت فلا يجوز ذلك.
الثاني: أن يشتريها منه ثم يعيدها إليه فلا يجوز لحديث أم ولد زيد بن أرقم رضي الله عنه.
الثالث: أن يشتري السلعة شراء ثابتا ثم يبيعها للمستدين ثانيا فيبيعها أحدهما فهذه تسمى التورق؛ لأن غرض المشتري هو الورق، فيأخذ مائة ويبقي عليه مائة وعشرون مثلا فقد تنازع في ذلك السلف، والأقوى أنه منهي عنه قال عمر بن عبد العزيز: التورق ربا، فإن الله حرم أخذ دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل لما في ذلك من ضرر المحتاج، وأكل ماله بالباطل، وهذا المعنى موجود في هذه الصورة، وإنما الأعمال بالنيات والذي أباحه الله البيع والتجارة، انتهى كلام شيخ الإسلام.
وأما إذا كان مقصود المشتري هو استهلاك البضاعة التي اشتراها أو أراد بها التجارة فيجوز بيعها عليه نسيئة بأكثر من ثمنها حالا إذا كان ذلك بعد ما ملكها البائع، وبالله التوفيق.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(7/119)
فتوى رقم 437
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
س: إذا وجد محتاج وأخذ من أحد الناس مبلغا من النقود على أن يعطيه به بعد مدة معينة مبلغا من الآصع من البر أو الذرة من الثمرة وذلك قبل بدو صلاحها؟
الجواب: إذا التزم له بالآصع المذكورة في ذمته فهذه المسألة تعتبر من مسائل السلم وهو نوع من البيع يصح بشروطه مع شروط سبعة:
أحدهما: أن يكون فيما يمكن ضبط صفته.
الثاني: أن يصفه بما يختلف به الثمن ظاهرا.
الثالث: أن يذكر قدره بالكيل في المكيل وبالوزن في الموزون وبالذراع في المذروع.
الرابع: أن يشترط لتسليمه فيه أجلا معلوما.
الخامس: أن يكون المسلم فيه عام الوجود في محله.
السادس: أن يقبض الثمن في مجلس العقد.
السابع: أن يسلم في الذمة فإن أسلم في عين لم يصح، والأصل في جواز السلم من القرآن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) الآية. . قال ابن عباس رضي الله عنهما: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل قد أحله الله تعالى في كتابه وأذن فيه ثم قرأ الآية رواه سعيد.
__________
(1) سورة البقرة الآية 282(7/120)
ومن السنة ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: " من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (1) » متفق عليه.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2241) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن الترمذي البيوع (1311) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/358) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .(7/121)
فتوى رقم 697 - 15 \ 3 \ 1394هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
س: إذا كان عندي مبلغ من المال وجاءني شخص وقال أريدك أن تعطيني ألف ريال دينا وقلت له: أعطيك العشرة ثلاثة عشر ريالا أعني بذلك أنني أكسب في كل عشرة ثلاثة ريالات ثم قبل ذلك وذهبت معه إلى السوق واشتريت بضاعة قيمتها ألف ريال وبعتها على المستدين بألف وثلاثمائة ريال، هل هي حلال أم حرام مع العلم أن عقد البيع قبل شرائي للبضاعة؟(7/121)
وبعد دراسة اللجنة لهذا السؤال كتب الجواب التالي:
الجواب: حيث ذكر السائل أنه باع مالا على شخص قبل ملكه له وبعدما باعه عليه ذهب واشتراه من السوق، فالعقد بهذه الصورة لا يصح؛ لأنه باع ما لا يملك وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تبع ما ليس عندك (1) » أخرجه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، وبالله التوفيق.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) .(7/122)
فتوى رقم 986 - 24 \ 3 \ 1395هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
س: وفيه يذكر أنه باع بقرة على رجل لا يعرفه، ثم إن البقرة شردت من بيت مشتريها إلى بيته، وحيث إنه لا يعرف مشتريها فقد باعها وأكل ثمنها، ويسأل ماذا يترتب عليه؟
الجواب: هذه البقرة بعد أن تصرف فيها السائل الذي ذكره في السؤال لها حكم اللقطة، وحيث ذكر أنه باعها وأكل ثمنها فيلزمه أن ينادي عليها في الأسواق(7/122)
والمجامع مدة سنة، فإن حضر صاحبها أخبره بالواقع وسلم له قيمة البقرة التي باعها بها، وإن لم يحضر تصدق بثمنها على نية ضمانها لصاحبها في حالة معرفته ومطالبته بها وعدم إجازته التصدق بها.
س: رجل اشترى له سلعة بمائتي ريال ثم احتاج نقدا فعرضها للبيع على رجل، فسامها منه بمائة ريال مع العلم أنه يعلم أن قيمتها أكثر من ذلك، فهل يجوز لهذا الرجل أن يشتريها بمائة ريال مع أن قيمتها على صاحبها مائتا ريال؟
الجواب: لا يخلو الأمر من حالين إما أن تكون السلعة المشتراة بمائتي ريال ثمنها مؤجل، أو حال وقد نقده المشتري وإن كان مؤجلا، فإما أن تكون السلعة من نفس الرجل الذي عرضت عليه فسامها بمائة ريال، أو من غيره، فإن كانت مشتراة بثمن مؤجل من الرجل الذي سامها بمائة ريال فلا يجوز له أن يشتريها وهي مسألة العينة التي قال جمهور أهل العلم بتحريمها؛ لكون التبايع بها وسيلة الربا، فهي داخلة في عموم أدلة الربا. أما إن كانت مشتراة بثمن حال نقده المشتري أو أنها بثمن مؤجل إلا أنها من شخص آخر فإذا كان صاحبها أهلا للتصرفات الشرعية فإذا باعها بأقل من ثمنها الذي اشتراها له فلا بأس بذلك، إلا أنه ينبغي للمسلم أن يكون ذا شفقة وعطف على أخيه المسلم فلا ينتهز فرصة حاجته ليرهقه بما يشق عليه ليكسب من تلك الحاجة، فقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر (2) » ، وقال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (3) » ، وهذا الوصف لحال المسلمين يتنافى مع مشقة
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10
(2) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(3) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .(7/123)
بعضهم على بعض واغتنام حاجة بعضهم لتكون سببا في المبالغة في التكسب.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(7/124)
فتوى رقم 1115 - 14 \ 11 \ 1395هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
س: بخصوص استفتائه عن حكم بيع الحصة المشاع تملكها في قطعة أرض معروفة الحدود والمساحة والموقع، والمملوكة بموجب سند يثبت المساهمة في تملكها ويعين مقدار هذه الحصة بالنسبة لكامل الأرض.
الجواب: لا بأس بتداول الحصة المشاع تملكها في عقار معروف الحدود والمساحة والموقع إذا كانت نسبتها إليه معلومة كأن تكون ربعه أو ثمنه أو ربع عشره أو نحو ذلك، لا بأس بتداولها بيعا وشراء وهبة وإرثا ورهنا وغير ذلك من(7/124)
التصرفات الشرعية فيما يملكه المرء لانتفاء المانع الشرعي في ذلك.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(7/125)
فتوى رقم 1171 - 30 \ 1 \ 1396هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
س: عندما يقام الحراج العلني في سلعة ما، ويحضر المشترون يحتالون بحيلة يتفادون فيها زيادة بعضهم، وهي الاشتراك بطريقة لا يشعر بها البائع أو صاحب السلعة، بحيث يتوقف كل من له رغبة، لأنه شريك، والقصد عدم الزيادة في السلعة، أرجو التفضل عن حكم ذلك، هل ذلك جائز أم لا؟ وهل يصح البيع لأحد هؤلاء الشركاء إن وقع؟
الجواب: تواطؤ المشترين للسلعة في الحراج أو غيره على أن يقفوا بسعر السلعة عند حد معين واحتيالهم لمنع الزيادة فيها حرام؛ لما في ذلك من الأثرة الممقوتة والإضرار بأرباب السلع، وكل من الأثرة وإضرار الإنسان بغيره ممنوع وهو خلق ذميم لا يليق بالمسلمين ولا ترضاه الشريعة الإسلامية، وهو أيضا(7/125)
في معنى التسعير لغير ضرورة، وفي معنى تلقي الركبان ونحوهما مما فيه إضرار فرد أو جماعة بآخرين وتوليد الضغائن والأحقاد، وأكل أموال الناس بالباطل، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان وبيع حاضر لباد، والتسعير لغير ضرورة، وسوم الرجل على سوم أخيه، وبيعه على بيع أخيه، وخطبته على خطبة أخيه، وما في معنى ذلك لما فيه من الظلم والإضرار وتوليد الضغائن، وعلى ذلك يكون للبائع المتواطئ على منع الزيادة في سلعته الخيار إن ظهر أنه مغبون في سلعته إن شاء طلب فسخ البيع، وإن شاء أمضاه.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(7/126)
فتوى رقم 1178 - 30 \ 1 \ 1396هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
س: أنا رجل أملك مبلغا من المال وأستثمره في شراء سيارات نقدا، ثمن السيارة تسعة آلاف ريال، ثم أبيع السيارة بالتقسيط لمدة سنة أو سنتين بمبلغ أربعة عشر ألفا أو بعشرة آلاف ريال بعد أن آخذ مقدما ألفي ريال أو ثلاثة آلاف ريال، وأنا شاك هل هذا البيع صحيح أو ربا؟ وما حكم ما سبق في هذا البيع؟ علما أن لي مدة سنتين بهذه الطريقة(7/126)
الجواب: لقد أحل الله البيع وحرم الربا فقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ، وكان مما أحله من البيع إلى أجل، يدل على مشروعية ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} (2) قال القرطبي في تفسيره: هي تتناول جميع المداينات إجماعا، وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها- «أن بريرة باعها أهلها بتسع أواق تسعة أقساط في كل عام أوقية، فأقر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم (3) » ، وبهذا يعلم جواز التعامل بالصورة التي سأل عنها السائل لدخولها في عموم الآية وبالله التوفيق.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) صحيح البخاري كتاب الشروط (2729) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .(7/127)
فتوى رقم 1249 - 26 \ 4 \ 1396هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:(7/127)
س: بخصوص ما ذكره من أنه متسبب في البيع والشراء، وأنه يبيع السلعة مؤجلا بربح قد يصل إلى الثلث أو الربع، وقد يبيع السلعة على شخص بثمن أقل أو أكثر من بيعها على الآخر، ويسأل هل يجوز ذلك؟ وبدراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بما يلي: الجواب: قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) وعليه فإذا كان السائل يبيع ما يبيعه بعد تملكه إياه تملكا تاما وحيازته فلا حرج عليه في بيعه بما يجعل التراضي والاتفاق عليه سواء ربح الربع أو الثلث، كما أنه لا حرج عليه في تفاوت سعر بيعه بضائعه بشرط ألا يكذب على المشتري بأنه باعه مثل ما باع على فلان والحال أن بيعه عليه يختلف عنه، وألا يكون فيه غرر، ولا مخالفة لما عليه سعر السوق، إلا أنه ينبغي له التخلق بالسماحة والقناعة، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ ففي ذلك خير وبركة، ولا يتمادى في الطمع والجشع؛ فإن ذلك يصدر غالبا عن قساوة القلوب ولؤم الطباع وشراسة الأخلاق. .
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 282(7/128)
فتوى رقم 1267 - 9 \ 5 \ 1386هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
س: أزاول التجارة وجاء واحد يطلب (دركتر) من جدة، طلبنا منه مقدما أربعين ألف ريال على أن أوصي من يشتري له واحدا من جدة عند وصوله مهما يتكلف الثمن من الشركة (والكلفاء) تخصم ما دفعه مقدما، وما زاد عن مقدمه نأخذ في الألفين ألف ريال مصلحة على أن تكون مقسطة عليه لكل شهر يدفع ثلاثة آلاف ريال حتى يسدد حسب الشروط، على أن الدركتر يشتغل به؛ مثلا قيمة الدركتر مائة وعشرون ألف، دفع مقدما أربعين ألفا نقدا وثمانون ألفا أخذ مصلحة أربعين ألفا، يكون لديه أربعون ألفا مقسطة، لكل شهر ثلاثة آلاف ريال وأربعة آلاف ريال حسب الشروط معه؛ لأن المدة طويلة التي سيكون فيها الأقساط إذا كان الاتفاق على ثلاثة آلاف ريال فالمدة أربعون شهرا، وإن كان القسط أربعة آلاف ريال فالمدة ثلاثون شهرا.
ثم جاءني واحد آخر يطلب مني قلابا، طلبت منه أن يسلم لي عشرين ألف ريال مقدما، وأطلب له من جدة على أن يكون بثمنه مهما يكلف من الشركة من تكاليف آخذ منه مصلحة في ألفي ريال ألف ريال؛ مثلا قيمة القلاب خمسون ألف ريال، مقدم منها عشرون ألفا، والباقي ثلاثون ألفا، لنا مصلحة خمسة عشر ألفا، يكون الباقي على المشتري خمسة وأربعين ألفا مقسطة لكل شهر ألف ريال، وألفي ريال على أن يشتغل به.
ثم جاءني واحد يطلب مني سيارة تويوتا، طلبت منه مقدما عشرة آلاف ريال على أن أطلب له ذلك من جدة؛ مثلا جاءت السيارة متكلفة من(7/129)
جدة بأربعة وعشرين ألفا، منها عشرة آلاف ريال مقدمة، والباقي أربعة عشر ألف ريال، والمصلحة سبعة آلاف ريال، يكون المتبقي لديه واحد وعشرون ألف مقسطة لكل شهر ألف ريال، على أن يشتغل فيها، مع العلم أن جميع الاتفاقات لا تكون نافذة بيننا وبين المقاول إلا بعد وصول الصنف نسلمه ونعمل الاتفاقية معه، أرجو إفتائي.
الجواب: إذا كان ما جرى بينك وبين من تستورد له الدركتر أو القلابي أو التيوتا مجرد وعد على أن يشتري لك ما استوردته من أجله، وأن ما دفعه مقدما يخصم من الثمن، وابتداء عقد البيع بينك وبينه يكون عند وصول السيارة أو الدركتر ومعرفة الثمن والتكاليف، وقدرت لنفسك مصلحة هي نسبة معلومة من ثمنها الأول تجعل منه الثمن الذي اشتراها به منك فهذا البيع جائز؛ لأنك بعت ما ذكرت من السيارات بعدما ملكته بثمن معلوم وربح معلوم وإن كان الثمن مقسطا.
وأما إن كان ما جرى بينك وبين من تستورد له الدركتر ونحوه عقد بيع يلتزم المشتري منك بما استوردته له بثمن لم يتبين بعد فالبيع غير صحيح؛ لأن الثمن مجهول، ولأنك بعت ما لا تملك، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وروى أبو داود والترمذي عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه- قال: «قلت: يا رسول الله، إن الرجل ليأتيني فيريد مني البيع وليس عندي ما يطلب، أفأبيع منه، ثم أبتاعه من السوق؟ قال: لا تبع ما ليس عندك (1) » وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا بيع ما ليس عندك (2) » الحديث. . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/403) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .(7/130)
فتوى رقم 1407 - 9 \ 11 \ 1396هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
س: ما حكم التجارة في الدخان والجراك وأمثالهما، وهل تجوز الصدقة والحج وأعمال البر من أثمانها وأرباحها؟ الجواب: لا تحل التجارة في الدخان والجراك وسائر المحرمات؛ لأنها من الخبائث، ولما فيها من الضرر البدني والروحي والمالي، وإذا أراد الشخص أن يتصدق أو يحج أو ينفق في وجوه البر فينبغي له أن يتحرى الطيب من ماله ليتصدق به أو يحج به أو ينفقه في وجوه البر؛ لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} (1) الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا (2) » الحديث. . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 267
(2) صحيح مسلم الزكاة (1015) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (2/328) ، سنن الدارمي الرقاق (2717) .(7/131)
فتوى رقم 1638 - 7 \ 8 \ 1397هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
س: أراد رجل الزواج - مثلا - وليس عنده ما يكفي من مبلغ الصداق، فذهب إلى صاحب دكان، فقال له صاحب الدكان أبيعك سيارة داتسون بسبعة عشر ألف ريال سعودي دينا تدفعها كاملة عند نهاية السنة، فهل هذا ربا؟ وهل بالمقابل حلال أو حرام؟ مع العلم أن قيمة السيارة نقدا عشرة آلاف وخمسمائة ريال سعودي فقط، وهذه السيارة هي التي اشترط عليها، وهي محور الاشتراط ما بين هذا البائع ومن يريد الزواج.
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر من شراء شخص من آخر سيارة لأجل ثمن أكثر مما تباع به نقدا عاجلا ليبيعها المشتري إلى من شاء سوى من باعها عليه ومن في حكمه فليس ربا، بل هو عقد بيع صحيح جائز، أما إذا اشترى السيارة - مثلا - من شخص لأجل على أن يردها عليه بثمن عاجل أقل مما اشتراها به فذلك بيع نقد مع التفاضل، وهو الربا الذي حرمه الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم- والعقد على السيارة صوري قصد به الخداع(7/132)
والاحتيال على الربا وأكل الأموال بالباطل وكذا لو باع المشتري السيارة على شخص عرف أنه تابع للبائع الأول في عمله، أو شخص وسيط تواطآ عليه لتعود السيارة في النهاية إلى البائع الأول، فكل هذا من الخداع والاحتيال على الربا.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(7/133)
فتوى رقم 2020 - 9 \ 7 \ 1398هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
س: طلب إنسان من صديقه أن يشتري له سيارة بنقد ثم يعيد بيعها له إلى أجل مع ربح في البيع، بمعنى إذا كانت السيارة بألف عند الشراء بنقد يعيد بيعها لصديقه بألف ومائة - مثلا - على أجل ونحوه، مع بيان القول في قول الإمام مالك - رحمه الله- أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيعتين في بيعة (1) » ، مع رجاء إيراد بعض الصور التي يمكن أن تندرج تحت هذا النهي، وهل يعد من باب الربا؟
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) .(7/133)
الجواب: إذا طلب إنسان من آخر أن يشتري سيارة - مثلا - معينة أو موصوفة بوصف يضبطها، ووعده أن يشتريها منه، فاشتراها من طلبت منه وقبضها؛ جاز لمن طلبها أن يشتريها منه بعد ذلك نقدا أو أقساطا مؤجلة بربح معلوم، وليس هذا من بيع الإنسان ما ليس عنده؛ لأن من طلب منه السلعة إنما باعها على طالبها بعد أن اشتراها وقبضها، وليس له أن يبيعها على صديقه - مثلا - قبل أن يشتريها أو بعد شرائه إياها وقبل قبضها؛ لنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع السلع حين تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم.
أما ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من البيعتين في بيعة فقد فسره جمهور العلماء بأن يقول صاحب السلعة بعتك هذه السلعة بعشرة دراهم - مثلا - نقدا أو بخمسة عشر إلى سنة - مثلا - أو يقول: بعتك إحدى هاتين البقرتين بألف ريال - مثلا - ويتم القبول من المشتري ثم يفترقان دون تعيين إحدى الحالين من نقد أو أجل في الصورة الأولى ودون تعيين إحدى البقرتين - مثلا - في الصورة الثانية؛ فهذا محرم لجهالة الحال من التعجيل أو التأجيل وجهالة الثمن تبعا لذلك في المسألة الأولى، ولجهالة السلعة التي وقع عليها بالعقد في المسألة الثانية.
وجعل منه جمهور العلماء أيضا قول إنسان لآخر: بعتك داري هذه بكذا على أن تبيعني دارك هذه، أو على أن تشتغل أجيرا عندي شهرا - مثلا - بكذا، أو على أن تزوجني ابنتك بكذا، أو على أن أزوجك ابني بكذا، فهذه الصور من البيوع الباطلة؛ لكونها من صور البيعتين في بيعة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ومن صور البيعتين في بيعة مسألة العينة المشهورة.(7/134)
وننصح لك مراجعة المغني لابن قدامة - رحمه الله- في هذه المسألة، وكلام العلامة ابن القيم على حديث النهي عن بيعتين في بيعة في كتاب تهذيب السنن وأعلام الموقعين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(7/135)
الزاني المحصن
قرار رقم 84 وتاريخ 11 \ 11 \ 1401هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فقد اطلع مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثامنة المنعقدة في مدينة الطائف ابتداء من يوم السبت 29 \ 10 \ 1401هـ على البحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في بيان حكم حد الزاني المحصن. وبعد الإطلاع على ما فيه من الأدلة ونقول إجماع أهل العلم المعتد بهم في هذا المجال؛ فإن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رأى ذكر بعض النصوص من كتاب الله وسنة رسوله، وبعض كلام أهل العلم في بيان هذا الحكم الذي استمر عليه العمل من حين رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الصحابة- رضي الله عنهم- إلى يومنا هذا في كافة العصور التي يقضي فيها بأحكام الإسلام قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) وقال سبحانه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (2) وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (3) وقال جل من قائل: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (4)
وثبت في صحيح مسلم وغيره من رواية عبادة بن الصامت - رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم (5) » رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم، وثبت عن عمر - رضي الله عنه- أنه قال: «الرجم في كتاب الله
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سورة النساء الآية 115
(3) سورة النحل الآية 44
(4) سورة النساء الآية 15
(5) صحيح مسلم الحدود (1690) ، سنن الترمذي الحدود (1434) ، سنن أبو داود الحدود (4415) ، سنن ابن ماجه الحدود (2550) ، مسند أحمد بن حنبل (5/317) ، سنن الدارمي الحدود (2327) .(7/136)
حق على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن إذا قامت البينة أو الحبل أو الاعتراف (1) » . رواه مالك والبخاري ومسلم، وروى مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما- قال: سمعت عمر - رضي الله عنه- وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ويقول: «إن الله بعث محمدا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، ومما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله. فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله في كتابه؛ فإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، وايم الله لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله، لكتبتها (2) » .
وروى مالك في الموطأ من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما- أن عمر - رضي الله عنه - لما قدم المدينة من حجته خطب الناس فقال: «يا أيها الناس، قد سنت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة إلا أن تضلوا يمينا وشمالا، وضرب بإحدى يديه على الأخرى ثم قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم، يقول قائل: لا نجد حدين في كتاب الله، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس: زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله، لكتبتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، فإنا قد قرأناها (3) » . قال مالك: قال يحيى بن سعيد: قال سعيد بن المسيب: فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر - رضي الله عنه - قال مالك: الشيخ والشيخة: يعني الثيب والثيبة.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقد ثبت في الصحاح والسنن والمسانيد «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا ورجم الغامدية (4) » ورجم التي زنى بها العسيف حيث قال: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها (5) » ، ورجم اليهوديين الذين زنيا، وتلقى الناس هذا الحكم وعملوا به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده مع خلفائه الراشدين، وعمل به المسلمون بعدهم إلى يومنا هذا في كل بلد تطبق فيه أحكام شريعة الإسلام، وأجمع على هذا الحكم علماء الإسلام، فنقل الإجماع على ذلك الإمام ابن المنذر وابن عبد البر وابن حزم وابن رشد وابن هبيرة في الإفصاح، والموفق في المغنى، ولم يذكر شيخ الإسلام ابن تيميه خلافا في ذلك إلا في جمع الجلد مع الرجم، كما نقل الإجماع عن ابن المنذر بهاء الدين المقدسي في شرح العمدة، وكذا نقل الإجماع ابن الهمام الحنفي والرملي والشربيني وغيرهم، ولم يعلم
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6830) ، سنن الترمذي الحدود (1432) ، سنن أبو داود الحدود (4418) ، سنن ابن ماجه الحدود (2553) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك الحدود (1558) ، سنن الدارمي الحدود (2322) .
(2) صحيح البخاري الحدود (6830) ، صحيح مسلم الحدود (1691) ، سنن الترمذي الحدود (1432) ، سنن أبو داود الحدود (4418) ، سنن ابن ماجه الحدود (2553) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك الحدود (1558) ، سنن الدارمي الحدود (2322) .
(3) سنن الترمذي الحدود (1431) ، سنن أبو داود الحدود (4418) ، سنن ابن ماجه الحدود (2553) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك الحدود (1560) .
(4) صحيح مسلم الحدود (1695) ، سنن أبو داود الحدود (4434) ، مسند أحمد بن حنبل (5/348) ، سنن الدارمي الحدود (2324) .
(5) صحيح البخاري الوكالة (2315) ، صحيح مسلم الحدود (1698) ، سنن الترمذي الحدود (1433) ، سنن النسائي آداب القضاة (5411) ، سنن أبو داود الحدود (4445) ، سنن ابن ماجه الحدود (2549) ، مسند أحمد بن حنبل (4/115) ، موطأ مالك الحدود (1556) ، سنن الدارمي الحدود (2317) .(7/137)
أن أحدا خالف في ذلك من أهل العلم إلا من لا يعتد بخلافهم من إحدى طوائف الضلال، وهؤلاء لا عبرة بخلافهم لإجماع علماء السلف على شناعة بدعتهم وضلالهم.
ولما تقدم يقرر المجلس أن الرجم حد ثابت بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، وأن من خالف في حد الرجم للزاني المحصن فقد خالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين وجميع علماء الأمة المتبعين لدين الله، ومن خالف في هذا العصر فقد تأثر بدعايات أهل الكفر وتشكيكهم بأحكام الإسلام؛ ليفسدوا على المسلمين أحوالهم بانتشار الفساد وشيوع الفواحش واختلاط الأنساب، وكثرة البغاء حتى تذهب من نفوس المسلمين حميتهم لدينهم وغيرتهم على عقيدتهم ومكارم أخلاقهم، ولهذا فإن من ينكر حد الرجم قد خالف الكتاب والسنة والإجماع واتبع غير سبيل المؤمنين؛ إذ لا بقاء لدين الإسلام إذا ألغيت منه حدوده، واستبعدت منه عقوباته التي هي العلاج الواقي من الهلاك، وقد قال عمر - وهو المحدث الملهم-: لا تهلكوا عن آية الرجم. فعد ترك هذا الحد هلاكا للأمة الإسلامية؛ إذ هو ضياع لأمرها، وتسليط لأهل الفساد عليها، ولا بقاء لدين استبعدت عنه أسباب حفظه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء(7/138)
العقيدة الصحيحة وما يضادها
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلما كانت العقيدة الصحيحة هي أصل دين الإسلام وأساس الملة، رأيت أن تكون هي موضوع هذا المقال، ومعلوم بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة أن الأعمال والأقوال إنما تصح وتقبل إذا صدرت عن عقيدة صحيحة، فإن كانت العقيدة غير صحيحة بطل ما يتفرع عنها من أعمال وأقوال كما قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد دل كتاب الله المبين وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم على أن العقيدة الصحيحة تتلخص في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة الزمر الآية 65(7/139)
وشره، فهذه الأمور الستة هي أصول العقيدة الصحيحة التي نزل بها كتاب الله العزيز، وبعث الله بها رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام، ويتفرع عن هذه الأصول كل ما يجب الإيمان به من أمور الغيب، وجميع ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وأدلة هذه الأصول الستة في الكتاب والسنة كثيرة جدا، فمن ذلك قول الله سبحانه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (1) الآية، وقوله سبحانه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (2) الآية، وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا} (3) ، وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضَ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (4) .
أما الأحاديث الصحيحة الدالة على هذه الأصول فكثيرة جدا، منها الحديث الصحيح المشهور الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- أن جبريل- عليه السلام- سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال له: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره (5) » الحديث، وأخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة.
وهذه الأصول الستة يتفرع عنها جميع ما يجب على المسلم اعتقاده في حق الله سبحانه، وفي أمر الميعاد وغير ذلك من أمور الغيب.
فمن الإيمان بالله سبحانه: الإيمان بأنه الإله الحق المستحق للعبادة دون كل ما سواه؛ لكونه خالق العباد والمحسن إليهم والقائم بأرزاقهم والعالم بسرهم وعلانيتهم،
__________
(1) سورة البقرة الآية 177
(2) سورة البقرة الآية 285
(3) سورة النساء الآية 136
(4) سورة الحج الآية 70
(5) صحيح البخاري تفسير القرآن (4777) ، صحيح مسلم الإيمان (10) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4991) ، سنن ابن ماجه المقدمة (64) ، مسند أحمد بن حنبل (2/426) .(7/140)
والقادر على إثابة مطيعهم وعقاب عاصيهم، ولهذه العبادة خلق الله الثقلين وأمرهم بها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (1) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (2) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (3) وقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4) {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) .
وقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب لبيان هذا الحق والدعوة إليه، والتحذير مما يضاده، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (6) ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (7) ، وقال عز وجل: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (8) {أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} (9) .
وحقيقة هذه العبادة هي إفراد الله سبحانه بجميع ما تعبد العباد به من دعاء وخوف ورجاء وصلاة وصوم وذبح ونذر وغير ذلك من أنواع العبادة، على وجه الخضوع له والرغبة والرهبة، مع كمال الحب له سبحانه والذل لعظمته، وغالب القرآن الكريم نزل في هذا الأصل العظيم، كقوله سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (10) {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (11) ، وقوله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} (12) ، وقوله عز وجل: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (13) ، وفي الصحيحين عن معاذ - رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (14) » .
ومن الإيمان بالله أيضا الإيمان بجميع ما أوجبه على عباده وفرضه عليهم من أركان الإسلام الخمسة
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الذاريات الآية 57
(3) سورة الذاريات الآية 58
(4) سورة البقرة الآية 21
(5) سورة البقرة الآية 22
(6) سورة النحل الآية 36
(7) سورة الأنبياء الآية 25
(8) سورة هود الآية 1
(9) سورة هود الآية 2
(10) سورة الزمر الآية 2
(11) سورة الزمر الآية 3
(12) سورة الإسراء الآية 23
(13) سورة غافر الآية 14
(14) صحيح البخاري الجهاد والسير (2856) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) .(7/141)
الظاهرة وهي:
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا، وغير ذلك من الفرائض التي جاء بها الشرع المطهر، وأهم هذه الأركان وأعظمها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ فشهادة أن لا إله إلا الله تقتضي إخلاص العبادة لله وحده، ونفيها عما سواه، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود بحق إلا الله، فكل ما عبد من دون الله من بشر أو ملك أو جنى أو غير ذلك فكله معبود بالباطل، والمعبود بالحق هو الله وحده كما قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (1) ، وقد سبق بيان أن الله سبحانه خلق الثقلين لهذا الأصل الأصيل وأمرهم به، وأرسل به رسله، وأنزل به كتبه، فتأمل ذلك جيدا وتدبره كثيرا ليتضح لك ما وقع فيه أكثر المسلمين من الجهل العظيم بهذا الأصل الأصيل حتى عبدوا مع الله غيره، وصرفوا خالص حقه لسواه، فالله المستعان.
* * *
ومن الإيمان بالله سبحانه، الإيمان بأنه خالق العالم ومدبر شئونهم، والمتصرف فيهم بعلمه وقدرته كما يشاء سبحانه، وأنه مالك الدنيا والآخرة، ورب العالمين جميعا، لا خالق غيره، ولا رب سواه، وأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب لإصلاح العباد ودعوتهم إلى ما فيه نجاتهم وصلاحهم في العاجل والآجل، وأنه سبحانه لا شريك له في جميع ذلك، كما قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (2) ، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (3) .
__________
(1) سورة الحج الآية 62
(2) سورة الزمر الآية 62
(3) سورة الأعراف الآية 54(7/142)
ومن الإيمان بالله أيضا الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلا الواردة في كتابه العزيز، والثابتة عن رسوله الأمين، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، بل يجب أن تمر كما جاءت بلا كيف، مع الإيمان بما دلت عليه من المعاني العظيمة التي هي أوصاف لله عز وجل يجب وصفه بها على الوجه اللائق به من غير أن يشابه خلقه في شيء من صفاته، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) ، وقال عز وجل: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (2) ، وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، وهي التي نقلها الإمام أبو الحسن الأشعري - رحمه الله - في كتابه (المقالات عن أصحاب الحديث وأهل السنة) ، ونقلها غيره من أهل العلم والإيمان.
* قال الأوزاعي - رحمه الله-: سئل الزهري ومكحول عن آيات الصفات فقالا: أمروها كما جاءت. وقال الوليد بن مسلم - رحمه الله-: سئل مالك والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان الثوري - رحمهم الله- عن الأخبار الواردة في الصفات، فقالوا جميعا: أمروها كما جاءت بلا كيف. وقال الأوزاعي - رحمه الله-: كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله سبحانه على عرشه، ونؤمن بما ورد في السنة من الصفات. ولما سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك -رحمة الله عليهما- عن الاستواء قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ المبين، وعلينا التصديق. ولما سئل الإمام مالك - رحمه الله- عن ذلك قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم قال للسائل: ما أراك إلا رجل سوء، وأمر به فأخرج. وروي هذا المعنى عن أم المؤمنين أم سلمة - رضي الله عنها- وقال الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك - رحمة الله عليه-: نعرف ربنا سبحانه بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة النحل الآية 74(7/143)
خلقه.
وكلام الأئمة في هذا الباب كثير جدا لا يمكن نقله في هذا المقال الموجز، ومن أراد الوقوف على كثير من ذلك فليراجع ما كتبه علماء السنة في هذا الباب، مثل كتاب (السنة) لعبد الله الإمام أحمد، وكتاب (التوحيد) للإمام الجليل محمد بن خزيمة، وكتاب (السنة) لأبي القاسم اللالكائي الطبري، وكتاب (السنة) لأبي بكر بن أبي عاصم، وجواب شيخ الإسلام ابن تيمية لأهل حماة، وهو جواب عظيم كثير الفائدة قد أوضح فيه- رحمه الله- عقيدة أهل السنة، ونقل فيه الكثير من كلامهم والأدلة الشرعية والعقلية على صحة ما قاله أهل السنة، وبطلان ما قاله خصومهم، وهكذا رسالته الموسومة بالتدمرية قد بسط فيها المقام، وبين فيها عقيدة أهل السنة بأدلتها النقلية والعقلية، والرد على المخالفين بما يظهر الحق ويدمغ الباطل لكل من نظر في ذلك من أهل العلم بقصد صالح ورغبة في معرفة الحق، وكل من خالف أهل السنة فيما اعتقدوا في باب الأسماء والصفات فإنه يقع ولا بد في مخالفة الأدلة النقلية والعقلية مع التناقض الواضح في كل ما يثبته وينفيه.
* أما أهل السنة والجماعة فأثبتوا لله سبحانه ما أثبته لنفسه في كتابه الكريم، أو أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة إثباتا بلا تمثيل، ونزهوه سبحانه عن مشابهة خلقه تنزيها بريئا من التعطيل، ففازوا بالسلامة من التناقض وعملوا بالأدلة كلها، وهذه سنة الله سبحانه فيمن تمسك بالحق الذي بعث به رسله وبذل وسعه في ذلك وأخلص لله في طلبه أن يوفقه للحق، ويظهر حجته كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (1) ، وقال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (2) 23 الفرقان. .
وقد ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله- في تفسيره المشهور عند كلامه على قول الله عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (3) ، الآية
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 18
(2) سورة الفرقان الآية 33
(3) سورة الأعراف الآية 54(7/144)
كلاما حسنا في هذا الباب يحسن نقله هاهنا لعظم فائدته، قال- رحمه الله- ما نصه:
للناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير، بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري، قال: من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله تعالى النقائص؛ فقد سلك سبيل الهدى.
* وأما الإيمان بالملائكة فيتضمن الإيمان بهم إجمالا وتفصيلا، فيؤمن المسلم بأن لله ملائكة خلقهم لطاعته، ووصفهم بأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (1) 28 الأنبياء، وهم أصناف كثيرة منهم الموكلون بحمل العرش، ومنهم خزنة الجنة والنار، ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد، ونؤمن على سبيل التفصيل بمن سمى الله ورسوله منهم، كجبريل وميكائيل، ومالك خازن النار، وإسرافيل الموكل بالنفخ في الصور، وقد جاء ذكره في أحاديث صحيحة، وقد ثبت في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم، (2) » خرجه مسلم في صحيحه.
وهكذا الإيمان بالكتب، يجب الإيمان بأن الله سبحانه أنزل كتبا على أنبيائه ورسله؛ لبيان حقه والدعوة إليه، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (3) الآية، وقال تعالى:
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 28
(2) صحيح مسلم الزهد والرقائق (2996) ، مسند أحمد بن حنبل (6/168) .
(3) سورة الحديد الآية 25(7/145)
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (1) ، الآية.
* * *
ونؤمن على سبيل التفصيل بما سمى الله منها كالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن، والقرآن هو أفضلها وخاتمها، وهو المهيمن عليها والمصدق لها، وهو الذي يجب على جميع الأمة اتباعه وتحكيمه مع ما صحت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله سبحانه بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا إلى جميع الثقلين، وأنزل عليه هذا القرآن ليحكم به بينهم، وجعله شفاء لما في الصدور، وتبيانا لكل شيء وهدى ورحمة للمؤمنين، كما قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) ، وقال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (3) ، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (4) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وهكذا الرسل يجب الإيمان بهم إجمالا وتفصيلا، فنؤمن أن الله سبحانه أرسل إلى عباده رسلا منهم، مبشرين ومنذرين ودعاة إلى الحق، فمن أجابهم فاز بالسعادة، ومن خالفهم باء بالخيبة والندامة، وخاتمهم وأفضلهم هو نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (5) ، وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (6) 165 النساء.، وقال تعالى:
__________
(1) سورة البقرة الآية 213
(2) سورة الأنعام الآية 155
(3) سورة النحل الآية 89
(4) سورة الأعراف الآية 158
(5) سورة النحل الآية 36
(6) سورة النساء الآية 165(7/146)
{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1) ، ومن سمى الله منهم أو ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسميته آمنا به على سبيل التفصيل والتعيين، كنوح وهود وصالح وإبراهيم وغيرهم صلى الله عليهم وسلم وعلى آلهم وأتباعهم.
* * *
وأما الإيمان باليوم الآخر فيدخل فيه الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت كفتنة القبر وعذابه ونعيمه، وما يكون يوم القيامة من الأهوال والشدائد والصراط والميزان والحساب والجزاء ونشر الصحف بين الناس، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، ويدخل في ذلك أيضا الإيمان بالحوض المورود لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالجنة والنار، ورؤية المؤمنين لربهم سبحانه، وتكليمه إياهم، وغير ذلك مما جاء في القرآن الكريم والسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب الإيمان بذلك كله وتصديقه على الوجه الذي بينه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
* وأما الإيمان بالقدر فيتضمن الإيمان بأمور أربعة:
* أولها: أن الله سبحانه قد علم ما كان وما يكون، وعلم أحوال عباده، وعلم أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، وغير ذلك من شئونهم لا يخفى عليه من ذلك شيء سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) ، وقال عز وجل: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (3) .
* الأمر الثاني: كتابته سبحانه لكل ما قدره وقضاه كما قال سبحانه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} (4) ، وقال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (5) 12 يس.، وقال تعالى:
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 40
(2) سورة العنكبوت الآية 62
(3) سورة الطلاق الآية 12
(4) سورة ق الآية 4
(5) سورة يس الآية 12(7/147)
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضَ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (1) .
* الأمر الثالث: الإيمان بمشيئته النافذة؛ فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (2) ، وقال عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3) ، وقال سبحانه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (4) .
* الأمر الرابع: خلقه سبحانه لجميع الموجودات، لا خالق غيره، ولا رب سواه، كما قال سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (5) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (6) .
فالإيمان بالقدر يشمل الإيمان بهذه الأمور الأربعة عند أهل السنة والجماعة خلافا لمن أنكر بعض ذلك من أهل البدع.
ويدخل في الإيمان بالله اعتقاد أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنه لا يجوز تكفير أحد من المسلمين بشيء من المعاصي التي دون الشرك والكفر، كالزنا والسرقة وأكل الربا وشرب المسكرات وعقوق الوالدين، وغير ذلك من الكبائر، ما لم يستحل ذلك؛ لقول الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (7) ، ولما ثبت في الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.
ومن الإيمان بالله الحب في الله والبغض في الله، والموالاة في الله والمعاداة في الله، فيحب المؤمن المؤمنين ويواليهم، ويبغض الكفار ويعاديهم، وعلى رأس المؤمنين من هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهل السنة والجماعة يحبونهم ويوالونهم، ويعتقدون أنهم خير الناس بعد الأنبياء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني ثم
__________
(1) سورة الحج الآية 70
(2) سورة الحج الآية 18
(3) سورة يس الآية 82
(4) سورة التكوير الآية 29
(5) سورة الزمر الآية 62
(6) سورة فاطر الآية 3
(7) سورة النساء الآية 116(7/148)
الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (1) » ، متفق على صحته، ويعتقدون أن أفضلهم أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذو النورين ثم علي المرتضى - رضي الله عنهم أجمعين- وبعدهم بقية العشرة، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويعتقدون أنهم في ذلك مجتهدون، من أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر، ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين به، ويتولونهم، ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويترضون عنهن جميعا، ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسبونهم، ويغلون في أهل البيت ويرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله عز وجل، كما يتبرءون من طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل.
* * *
وجميع ما ذكرناه في هذا المقال الموجز داخل في العقيدة الصحيحة التي بعث الله بها رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، وهي عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله سبحانه (2) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. فقال الصحابة: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي (3) » ، وهي العقيدة التي يجب التمسك بها والاستقامة عليها والحذر مما خالفها.
وأما المنحرفون عن هذه العقيدة والسائرون على ضدها فهم أصناف كثيرة، فمنهم عباد الأصنام والأوثان والملائكة والأولياء والجن والأشجار والأحجار وغيرها، فهؤلاء لم يستجيبوا لدعوة الرسل بل خالفوهم وعاندوهم كما فعلت قريش وأصناف العرب مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسألون معبوداتهم قضاء الحاجات وشفاء المرضى والنصر على الأعداء، ويذبحون لهم وينذرون لهم، فلما أنكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وأمرهم بإخلاص العبادة لله وحده، استغربوا ذلك وأنكروه وقالوا:
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2652) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2533) ، سنن الترمذي المناقب (3859) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2362) ، مسند أحمد بن حنبل (1/434) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1920) ، سنن الترمذي الفتن (2229) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4252) ، سنن ابن ماجه الفتن (3952) ، مسند أحمد بن حنبل (5/279) .
(3) سنن الترمذي الإيمان (2640) ، سنن أبو داود السنة (4596) ، سنن ابن ماجه الفتن (3991) ، مسند أحمد بن حنبل (2/332) .(7/149)
{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (1) فلم يزل صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله وينذرهم من الشرك، ويشرح لهم حقيقة ما يدعو إليه؛ حتى هدى الله منهم من هدى، ثم دخلوا بعد ذلك في دين الله أفواجا، فظهر دين الله على سائر الأديان بعد دعوة متواصلة وجهاد طويل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه- رضي الله عنهم- والتابعين لهم بإحسان.
ثم تغيرت الأحوال، وغلب الجهل على أكثر الخلق حتى عاد الأكثرون إلى دين الجاهلية، بالغلو في الأنبياء والأولياء ودعائهم والاستغاثة بهم، وغير ذلك من أنواع الشرك، ولم يعرفوا معنى لا إله إلا الله كما عرف معناها كفار العرب، فالله المستعان.
ولم يزل هذا الشرك يفشو في الناس إلى عصرنا هذا بسبب غلبة الجهل وبعد العهد بعصر النبوة.
وشبهة هؤلاء المتأخرين هي شبهة الأولين، وهي قولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (2) ، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (3) ، وقد أبطل الله هذه الشبهة وبين أن من عبد غيره كائنا من كان فقد أشرك به وكفر، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (4) ، فرد الله عليهم سبحانه بقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (5) ، فبين سبحانه في هذه الآية أن عبادة غيره من الأنبياء والأولياء أو غيرهم هي الشرك الأكبر، وإن سماها فاعلوها بغير ذلك، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (6) ، فرد الله عليهم سبحانه بقوله: {اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (7) ، فأبان بذلك سبحانه أن عبادتهم لغيره بالدعاء والخوف والرجاء ونحو ذلك كفر به سبحانه، وأكذبهم في قولهم: إن آلتهم تقربهم إليه زلفى.
__________
(1) سورة ص الآية 5
(2) سورة يونس الآية 18
(3) سورة الزمر الآية 3
(4) سورة يونس الآية 18
(5) سورة يونس الآية 18
(6) سورة الزمر الآية 3
(7) سورة الزمر الآية 3(7/150)
* ومن العقائد الفكرية المضادة للعقيدة الصحيحة والمخالفة لما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام ما يعتقده الملاحدة في هذا العصر من أتباع ماركس ولينين وغيرهم من دعاة الإلحاد والكفر، سواء سموا ذلك اشتراكية أو شيوعية أو بعثية أو غير ذلك من الأسماء، فإن من أصول هؤلاء الملاحدة أنه لا إله والحياة مادة، ومن أصولهم إنكار المعاد وإنكار الجنة والنار، والكفر بالأديان كلها، ومن نظر في كتبهم ودرس ما هم عليه علم ذلك يقينا، ولا ريب أن هذه العقيدة مضادة لجميع الأديان السماوية، ومفضية بأهلها إلى أسوأ العواقب في الدنيا والآخرة.
ومن العقائد المضادة للحق ما يعتقده بعض الباطنية وبعض المتصوفة من أن بعض من يسمونهم بالأولياء يشاركون الله في التدبير، ويتصرفون في شئون العالم، ويسمونهم بالأقطاب والأوتاد والأغواث، وغير ذلك من الأسماء التي اخترعوها لآلهتهم، وهذا من أقبح الشرك في الربوبية، وهو شر من شرك جاهلية العرب؛ لأن كفار العرب لم يشركوا في الربوبية، وإنما أشركوا في العبادة، وكان شركهم في حال الرخاء، أما في حال الشدة فيخلصون لله العبادة، كما قال سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (1) ، أما الربوبية فكانوا معترفين بها لله وحده، كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (2) ، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضَ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (3) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
* أما المشركون المتأخرون فزادوا على الأولين من جهتين:
* إحداها: شرك بعضهم في الربوبية.
* والثانية: شركهم في الرخاء والشدة كما يعلم ذلك من خالطهم وسبر
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 65
(2) سورة الزخرف الآية 87
(3) سورة يونس الآية 31(7/151)
أحوالهم، ورأى ما يفعلون عند قبر الحسين والبدوي وغيرهما في مصر، وعند قبر العيدروس في عدن، والهادي في اليمن وابن عربي في الشام، والشيخ عبد القادر الجيلاني في العراق، وغيرها من القبور المشهورة التي غلت فيها العامة، وصرفوا لها الكثير من حق الله عز وجل، وقل من ينكر عليهم ذلك ويبين علهم حقيقة التوحيد الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، ومن قبله من الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأله سبحانه وتعالى أن يردهم إلى رشدهم، وإن يكثر بينهم دعاة الهدى، وأن يوفق قادة المسلمين وعلماءهم لمحاربة هذا الشرك والقضاء عليه ووسائله، إنه سميع قريب.
* ومن العقائد المضادة للعقيدة الصحيحة في باب الأسماء والصفات عقائد أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم في نفي صفات الله عز وجل وتعطيله سبحانه من صفات الكمال، ووصفه عز وجل بصفة المعدومات والجمادات والمستحيلات، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، ويدخل في ذلك من نفى بعض الصفات وأثبت بعضها، كالأشاعرة، فإنه يلزمهم فيما أثبتوه من الصفات نظير ما فروا منه في الصفات التي نفوها وتأولوا أدلتها، فخالفوا بذلك الأدلة السمعية والعقلية، وتناقضوا في ذلك تناقضا بينا.
أما أهل السنة والجماعة فقد أثبتوا لله سبحانه ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على وجه الكمال، ونزهوه عن مشابهة خلقه تنزيها بريئا من شائبة التعطيل، فعملوا بالأدلة كلها، ولم يحرفوا ولم يعطلوا، وسلموا من التناقض الذي وقع فيه- كما سبق بيان ذلك- وهذا هو سبيل النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، وهو الصراط المستقيم الذي سلكه سلف هذه الأمة وأئمتها، ولن يصلح آخرهم إلا ما صلح به أولهم وهو اتباع الكتاب والسنة وترك ما خالفهما.
والله ولي التوفيق وهو سبحانه حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا به، وصلى الله عليه وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(7/152)
أسئلة وأجوبة
مع سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
توجهت مجلة البحوث الإسلامية لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالأسئلة التالية التي تهم المسلمين في كل مكان، فتفضل الإجابة عنها بما يلي:
س1: يعتبر الحج موسما لتجمع المسلمين، فما دوره في سبيل الدعوة إلى الله؟
* * *
ج1: جعل الله سبحانه وتعالى كثيرا من أنواع العبادات في الإسلام من وسائل اجتماع المسلمين والتعرف على أحوال بعضهم من بعض؛ لأن الدين الإسلامي هو دين الله الذي بعث به أنبياءه ورسله، وهو الدين الذي اختاره الله لخير أمة أخرجت في الأرض على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وما دام دين الله كله خيرا، فلا بد أن تتمثل شرائعه وتعليماته بالكمال فيما يتعلق بإصلاح الفرد والمجتمع، والمتمعن في تعاليم هذا الدين وشرائعه يستنتج أن كل شيء جاء لحكمة لما فيها من صلاح وإصلاح. فصلاة الجمعة والجماعة نموذج للالتقاء ولاهتمام بعض الناس ببعض، والزكاة نموذج للتكافل وإرضاء الفقير حتى لا ينقم على الغني فتحصل الجريمة في المجتمع، ويأتي دور الحج حيث يلتقي المسلمون من أطراف الأرض الواسعة فيتعارفون ويتحابون ويتدارسون أمور دينه، وهذا اللقاء فرصة لتقارب المسلمين وإزالة ما علق بالأذهان من تنافر وتباعد، وهو مناسبة للالتقاء على صراط الله المستقيم، ومنهجه السليم؛ فالعالم يوجه ويبذل(7/153)
من علمه، والجاهل يسترشد ويسأل، والشاك يستوضح حتى تتبين له الحقيقة التي تتفق مع حكم الله وتشريعه وسنة رسوله الكريم.
كما أن الحج فرصة لإزالة ما علق ببعض الفرق الإسلامية من شكوك أو بدع، والتي قد لا يدركها المسلم في بلده لأن من حوله متعلقون بها، فيظنها من تعاليم الإسلام، فيبينها له إخوانه المسلمون بالدليل المقنع، وبالقدوة في العمل، حيث إن باب الله مفتوح، والولوج فيه سهل إن يسره الله عليه، وإن التقاء المسلمين ببعضهم في الحج مفتاح من مفاتيح هذا الباب.
* * *(7/154)
س2: ذكر الله في كتابه الكريم أن هناك منافع في الحج فما هي هذه المنافع؟
ج2: لقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه المنافع في قوله جل وعلا في سورة الحج بعدما أمر نبيه وخليله إبراهيم ببناء البيت الحرام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (1) {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (2) .
ومن هذا ذكر بعض المفسرين رحمهم الله تعالى المنافع التي تحصل للحجاج: دنيوية وأخروية مما يشاهده ويحس به الفرد المسلم في نفسه وفي أمت، فمن المنافع الدنيوية التي يلمسها الناس البيع والشراء، ومكاسب أصحاب الحرف التي تتعلق بالحجاج والحركة المستمرة في وسائل النقل المختلفة، وفائدة الفقراء بما يدفع لهم من صدقات أو يقدم من ذبائح الهدي والكفارات عن كل محظور يرتكبه المحرم، وتسويق البضائع والأنعام إلى غير ذلك مما يلمسه كل مسلم يشارك في الحج، ومن المشاهد أن الله يهون النفقة والبذل فيه على الإنسان حتى تجود يده بما لم يجد به من قبل في حياته العادية، علاوة على ما في الحج من التعارف فيما بين المسلمين والتعاون على مصالحهم.
__________
(1) سورة الحج الآية 27
(2) سورة الحج الآية 28(7/154)
أما المنافع الدينية والتي تعود بالخير الجزيل على أعمال الآخرة فمنها: التفقه في الدين، والاهتمام بشئون المسلمين عموما، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله سبحانه، والفوز بما وعد الله به الحجاج والعمار من تكفير السيئات، والفوز بالجنة، وتنزل الرحمة على عباد الله في هذه المشاعر العظيمة. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو فيباهي بهم ملائكته فيقول: ما أراد هؤلاء؟ (1) » رواه مسلم من حديث عائشة - رضي الله عنها- وقال عليه الصلاة والسلام: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (2) » متفق عليه. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (3) » ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
* * *
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1348، 1348) ، سنن النسائي مناسك الحج (3003، 3003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3014، 3014) .
(2) صحيح البخاري الحج (1773) ، صحيح مسلم الحج (1349) ، سنن الترمذي الحج (933) ، سنن النسائي مناسك الحج (2622) ، سنن ابن ماجه المناسك (2888) ، مسند أحمد بن حنبل (2/246) ، موطأ مالك الحج (776) ، سنن الدارمي المناسك (1795) .
(3) صحيح البخاري الحج (1521، 1521) ، صحيح مسلم الحج (1350، 1350) ، سنن الترمذي الحج (811، 811) ، سنن النسائي مناسك الحج (2627، 2627) ، سنن ابن ماجه المناسك (2889، 2889) ، مسند أحمد بن حنبل (2/248، 2/248) ، سنن الدارمي المناسك (1796، 1796) .(7/155)
س3: ما الحكم إذا لم يستطع الحاج المبيت في منى أيام التشريق؟
ج3: لا شيء عليه؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) سواء كان تركه المبيت لمرض أو عدم وجود مكان أو نحوهما من الأعذار الشرعية كالسقاة والرعاة ومن في حكمهما.
* * *
س4: ما العبرة التي يخرج بها المسلم عند رميه الجمرات؟
* * *
ج4: رمي جمرة العقبة في يوم العيد ورمي الجمار الثلاث في أيام منى وبمواعيدها
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(7/155)
التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم تفيد المسلم في العبرة من وجوه منها:
* أولا: أنها قدوة بأبينا إبراهيم الخليل عليه السلام عندما اعترضه إبليس في هذه المواقف ليحاول إغواءه - مع أن الأنبياء عليهم السلام قد عصمهم الله منه، وهو يعلم هذا - أو إلهاءه عن الامتثال لأوامر ربه وأدائها على وجهها.
* ثانيا: إقامة ذكر الله وإعلانه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله (1) » .
* ثالثا: التقيد بالعدد سبعة له حكمة عظيمة ترمي بسبع حصيات كالطواف سبعا، والسعي سبعا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر (2) » ، وله سبحانه وبحمده حكم كثيرة فيما يشرعه لعباده قد يعلمها العباد أو بعضها، وقد لا يعلمونها، لكنهم موقنون بأن الله سبحانه حكيم عليم، لا يفعل شيئا ولا يشرع شيئا عبثا.
* رابعا: أن الدين الإسلامي دين امتثال لأمر الله، وأن المسلم مأمور بالعبادة حسب النص التشريعي ولو خفيت عليه الأسرار؛ لأن الله عليم بكل شيء، وعلم البشر قاصر ولا يساوي شيئا إلى جانب علم الله عز وجل.
* خامسا: رمي الجمار يشعر المسلم بالتواضع والخضوع في امتثال الأمر، وفي حالة الأداء، كما أنه يعود الفرد المسلم على النظام والترتيب في المواعيد المحددة والمواظبة على ذلك في ذهابه لرمي الجمار الأولى والثانية ثم الثالثة التي هي جمرة العقبة، ثم التقيد بالحصيات السبع واحدة بعد أخرى، مع الهدوء وعدم الإيذاء للآخرين من فسوق أو جدال، كل هذا يعود المؤمن على تنظيم الأمور المهمة، والعناية بها حتى تؤدي في أوقاتها كاملة.
* سادسا: الاحتفاظ بالحصيات وعدم وضعها في غير مكانها تشعر المسلم بأهمية المحافظة على ما شرع ربه وعدم الإسراف، ووضع الأمور في مواضعها من غير تبذير ولا زيادة أو نقص.
__________
(1) سنن الترمذي الحج (902) ، سنن أبو داود المناسك (1888) ، مسند أحمد بن حنبل (6/75) ، سنن الدارمي المناسك (1853) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (453) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1675) ، سنن أبو داود الصلاة (1416، 1416) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1169، 1169) ، مسند أحمد بن حنبل (1/148) .(7/156)
س5: ما واجب علماء المسلمين تجاه الأزمات والنكبات التي حلت بالعالم الإسلامي؟
* * *
ج5: مما لا شك فيه أن السيئات والابتعاد عن عقيدة الإسلام الصحيحة قولا وعملا من أهم الأسباب التي جعلت الأزمات والنكبات تحل بالمسلمين، يقول الله جلت قدرته: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (1) ، ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (2) .
فالله جلت قدرته حليم على عباده غفور رحيم يرسل لهم الآيات والنذر لعلهم يرجعون إليه ليتوب عليهم، وإذا تقرب إليه عبدا ذراعا تقرب سبحانه إلى عبده باعا؛ لأنه تعالى يحب من عبده التوبة ويفرح بها، وهو جل وعلا غني عن عباده، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، ولكنه بعباده رءوف رحيم، وهو الموفق لهم لفعل الطاعات وترك المعاصي، والأزمات والنكبات ما هي إلا نذر لعباده ليرجعوا إليه، وبلوى يختبرهم بها، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (3) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (4) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (5) ، وقال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (6) .
فالواجب على قادة المسلمين علماء وأمراء الاهتمام بكل مصيبة تحل أو نكبة تقع، وتذكير الناس، وبيان ما وقعوا فيه، وأن يكون ولاة الأمر من العلماء
__________
(1) سورة النساء الآية 79
(2) سورة الشورى الآية 30
(3) سورة البقرة الآية 155
(4) سورة البقرة الآية 156
(5) سورة البقرة الآية 157
(6) سورة الروم الآية 41(7/157)
والحكام هم القدوة الصالحة في العمل الصالح، والبحث عن مسببات غضب الله ونقمته وعلاجها بالتوبة والاستغفار، وإصلاح الأوضاع، والأمة تبع لهم؛ لأن هداية العالم وحكمة الوالي ذات أثر في الرعية، «فكلكم راع وكل مسئول عن رعيته (1) » ، وإذا استمرأ المسلمون المعاصي ولم ينكرها من بيده الأمر والحل والعقد يوشك أن يعم الله الأمة بغضب منه، وإذا وقع غضب الله وحلت نقمته فإن ذلك يشمل المحسن والمسيء عياذا بالله من ذلك، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (2) الآية.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه (3) » ، وقال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (4) .
وعلى العلماء بالذات مسئولية كبيرة أمام الله في تبصير الناس وإرشادهم وبيان الصواب من الخطأ والنافع من الضار.
نسأل الله أن يعيد المسلمين إلى طاعة ربهم والتمسك بهدي نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يوفق قادتهم ويبصر علماءهم بطريق الرشاد حتى يسلكوه، ويوجهوا الأمة إليه، وأن يهدي ضال المسلمين ويصلح أحوالهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
* * *
__________
(1) صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2409) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .
(2) سورة الأنفال الآية 25
(3) سنن الترمذي الفتن (2168) ، سنن ابن ماجه الفتن (4005) .
(4) سورة الرعد الآية 11(7/158)
س6: ما واجب علماء المسلمين حيال كثرة الجمعيات والجماعات في كثير من الدول الإسلامية وغيرها، واختلافها فيما بينها، حتى إن كل جماعة تضلل الأخر؟ ألا ترون من المناسب التدخل في مثل هذه المسألة بإيضاح وجه(7/158)
الحق في هذه الخلافات خشية تفاقمها وعواقبها الوخيمة على المسلمين هناك؟
* * *
ج6: إن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بين لنا دربا واحدا يجب على المسلمين أن يسلكوه وهو صراط الله المستقيم ومنهج دينه القويم، يقول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) ، كما ينهى رب العزة والجلال أمة محمد صلى الله عليه وسلم عن التفرق واختلاف الكلمة، فيكون ذلك سببا من أسباب الفشل وتسلط العدو، وفي قوله جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} (2) ، وقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (3) .
فهذه دعوة إلهية باتحاد الكلمة وتآلف القلوب، والجمعيات إذا كثرت في أي بلد إسلامي من أجل الخير والمساعدات والتعاون بين المسلمين دون أن تختلف أهواء أصحابها فهي خير وبركة، أما إذا كانت كما جاء في السؤال كل واحدة تضلل الأخرى وتنقد أعمالها فإن الضرر بها حينئذ عظيم، والعواقب وخيمة، فالواجب على علماء المسلمين توضيح الحقيقة ومناقشة كل جماعة أو جمعية، ونصح الجميع بأن يسيروا في الخط الذي رسمه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن تجاوز هذا أو استمر في عناده لمصالح شخصية أو لمقاصد لا يعلمها إلا الله فإن الواجب التشهير به، والتحذير منه ممن عرف الحقيقة؛ حتى يتجنب الناس
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) سورة آل عمران الآية 103
(3) سورة الشورى الآية 13(7/159)
طريقهم، وحتى لا يدخل معهم من لا يعرف حقيقة أمرهم فيضلوه ويصرفوه عن الطريق المستقيم الذي أمرنا الله باتباعه في قوله جل وعلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) .
ومما لا شك فيه أن كثرة الفرق والجماعات في المجتمع الإسلامي مما يحرص عليه الشيطان أولا وأعداء الإسلام من الإنس ثانيا؛ لأن اتفاق كلمة المسلمين ووحدتهم وإدراكهم الخطر الذي يهددهم ويستهدف عقيدتهم يجعلهم ينشطون لمكافحة ذلك والعمل في صف واحد من أجل مصلحة المسلمين ودرء الخطر عن دينهم وبلادهم وإخوانهم، وهذا مسلك لا يرضاه الأعداء، فلذا يحرصون على تفريق كلمة المسلمين وتشتيت شملهم، وبذر أسباب العداوة بينهم، نسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين على الحق، وأن يزيل من مجتمعهم كل فتنة وضلالة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
* * *
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153(7/160)
س7: يحرص أعداء الله على التغلغل في ديار الإسلام بشتى الطرق، فما المجهود الذي ترون بذله للوقوف أمام هذا التيار الذي يهدد المجتمعات الإسلامية؟
* * *
ج7: هذا ليس بغريب من الدعاة إلى النصرانية أو اليهودية أو غيرهما من ملل الكفر ومذاهب الهدم؛ لأن الله سبحانه وبحمده قد أخبرنا عن ذلك بقوله في محكم التنزيل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 120(7/160)
ولهذا فإنهم يبذلون كل ما يستطيعون للنفوذ في ديار الإسلام، ولهم طرقهم المختلفة في هذا، منها: التشكيك وزعزعة الأفكار، وهم دائبون على ذلك بدون كلل أو، ملل تحركهم الكنيسة والحقد والبغضاء بالتوجيه والدفع والبذل.
والجهود التي يجب أن تبذل هي التوعية والتوجيه لأبناء المسلمين من القادة والعلماء، ومقابلة جهود أعداء الإسلام بجهود معاكسة، فأمة الإسلام أمة قد حملت أمانة هذا الدين وتبليغه، فإذا حرصنا في المجتمعات الإسلامية على تسليح أبناء وبنات المسلمين بالعلم والمعرفة والتفقه في، الدين والتعويد على تطبيق ذلك من الصغر فإننا لن نخشى بإذن الله عليهم شيئا ما داموا متمسكين بدين الله معظمين له متبعين شرائعه محاربين لما يخالفه، بل العكس سيخافهم الأعداء؛ لأن الله سبحانه وبحمده يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) ، ويقول عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (2) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، فأهم عامل للوقوف أمام هذا التيار هو تهيئة جيل عارف بحقيقة الإسلام، ويتم هذا بالتوجيه والرعاية في البيت والأسرة والمناهج التعليمية ووسائل الإعلام وتنمية المجتمع.
يضاف إلى هذا دور الرعاية والتوجيه من القيادات الإسلامية، والدأب على العمل النافع وتذكير الناس دائما بما ينفعهم وينمي العقيدة في نفوسهم {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (3) ، ولا ريب أن الغفلة من أسباب نفاذ أعداء الإسلام إلى ديار المسلمين بالثقافة والعلوم التي تباعد المسلمين عن دينهم شيئا فشيئا، وبذا يدخل النفوذ عليهم فيتأثرون بأفكار أعدائهم، والله سبحانه وتعالى
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة آل عمران الآية 120
(3) سورة الرعد الآية 28(7/161)
يأمر الفئة المؤمنة بالصبر والمصابرة والمجاهدة في سبيله بكل وسيلة في قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) .
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يصلح أحوال المسلمين ويفقههم في الدين، وأن يجمع كلمة قادتهم على الحق، ويصلح لهم البطانة، إنه جواد كريم، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 200(7/162)
تبيين العجب بما ورد في فضل رجب
بقلم الدكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن الربيعة
) ولد في حريملاء عام 1361هـ، المملكة العربية السعودية.
2) درس مرحلة الليسانس بكلية الشريعة بالرياض، ونال الماجستير من المعهد العالي للقضاء، والدكتوراه من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر. 3) يعمل أستاذا مشاركا بقسم أصول الفقه بكلية الشريعة، الرياض.
4) صدر له:
- (السبب عند الأصوليين) - ثلاثة أجزاء.
- (أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها) .
- (صور من سماحة الإسلام) .
ومقالات وبحوث في مجلات علمية أخرى.(7/163)
تبيين العجب بما ورد في فضل رجب
هذا هو عنوان كتاب قام بتأليفه إمام زمانه في الحديث وعلومه، العلامة أحمد بن علي بن محمد أبو الفضل الكناني الشافعي، المعروف بابن حجر العسقلاني، المولود سنة 773هـ والمتوفى سنة 852هـ.
وهو عالم غني عن التعريف به، فله في كل فن من فنون الشريعة واللغة مكانة لا يوازيها إلا من تبحر فيه، وله من التآليف ما بز به الأقران سعة وشمولا، وعمقا وتحقيقا، وتتبعا واستقصاء، وحيادا ونزاهة، وتنوعا وكثرة، حيث وصلت في مقدارها مائة وخمسين مؤلفا، يقف على رأسها أكبر قاموس للسنة النبوية وهو (فتح الباري بشرح صحيح البخاري) ، و (الإصابة في تمييز الصحابة) ، و (تهذيب التهذيب) و (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) ، وغيرها من كنوز المؤلفات وروائع التراث.
ويأتي هذا الكتاب الذي معنا واحدا من الكتب التي دبجها يراع هذا العبقري الفذ، والعالم العملاق.
وستكون دراستنا له عرضا لوصفه، وبيانا لمنهج المؤلف فيه، وذكرا لمباحثه وتوضيحا لقيمته العلمية، ولذا كان البحث فيه على الطريقة الآتية:(7/164)
أولا: وصف الكتاب
يقع هذا الكتاب في حجم يبلغ طوله 19. 5 سم وعرضه 13. 5سم، ويشغل خمسا وثلاثين صفحة، وتبلغ أسطر كل صفحة على وجه العموم تسعة عشر سطرا، وقد طبع بالقاهرة بمطبعة المعاهد بجوار قسم الجمالية على نفقة الحاج (شكاره) سنة 1351هـ، وقام بتصحيحه الشيخ عبد الله بن محمد بن الصديق المغربي الحسني أحد علماء الأزهر، وتولت نشره مكتبة حضرة عبد الواحد التازاي، وكانت طباعته بحرف جيد، مناسب في حجمه، ولكن الكتاب مع ذلك لم يخل من الأخطاء كما هو واضح لمن يقرأ الكتاب، أو ينظر فيما سطرته المطبعة في قائمة التطبيعات.
* * *
ثانيا: موضوعه
لقد أعلن المؤلف- رحمه الله- في مستهل كتابه عن موضوعه بأنه جمع لما ورد في فضائل شهر رجب، وتبيان لما هو صحيح من ذلك وما هو سقيم، فهو يقول في الصفحة الثانية من هذا الكتاب:
". . . فقد تكرر سؤال جماعة من الإخوان في جمع ما ورد في فضائل شهر رجب الفرد، وصيامه، والصلاة فيه، وبيان صحيح ذلك من سقيمه، فسطرت في هذه الأوراق ما وصلت إليه بحسب العجلة".
* * *
ثالثا: منهج المؤلف 1 - ابتدأ المؤلف هذا الكتاب بمقدمة تستلزم طبيعة أي بحث علمي يقدم للناس: فيه الفكرة العميقة، والشمول الكامل، والاستقصاء للحقائق، والنقد المرتكز على المنقول والمعقول.
فهو ابتدأ بحمد الله، والشهادة بوحدانيته والعبودية والرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وآل كل وصحبه قديما وأخيرا.(7/165)
ثم انتقل إلى السبب الذي دعاه لتأليف هذا الكتاب، وهو تكرر سؤال جماعة من الإخوان له بأن يقوم بهذا الشأن، وأعقبه بالتصريح بموضوعه.
ثم انتقل إلى تمهيد للدخول في تفاصيل موضوع البحث، فذكر فيه ما ورد على لسان العرب في جمع كلمة (رجب) ، ثم ذكر ما ورد فيه من أسماء قارنا كل اسم بسبب تسميته، وقد أبلغها ستة عشر اسما، وذيلها باسمين لكنهما في الحقيقة ليسا زائدين على ما ورد في الأسماء الستة عشر، وإنما اختلافهما عنها من جهة الاشتقاق فقط.
وقد شغلت هذه المقدمة مساحة صفحة ونصف تقريبا.
2 - وفي النصف الأخير من الصفحة الثالثة، انتقل المؤلف من التمهيد إلى عقد فصل هو صميم البحث وموضوعه الذي من أجله قام بتأليف الكتاب، وقد ابتدأ بنفي ورود حديث صحيح يصلح للاحتجاج في فضل شهر رجب وصيامه، وصيام شيء منه معين، وقيام ليلة مخصوصة فيه، وبين أن هذا رأي لم يختص به وحده، بل سبقه إلى ذلك علماء كثر لهم في التحقيق قدم راسخة وفي العلم باع طويل.
كما بين أن هناك علماء يتسامحون بإيراد أحاديث ضعيفة في الفضائل.
وهو وإن كان- رحمه الله- لا يؤيد ذلك ولا يرتضيه ولا ينتجه في طريقته التأليفية، فقد بدا منها ما يدل على الترفق بهم في هذه الطريقة، حيث اكتفى ممن يقتفيها بأن يعتقد العامل كون هذا الحديث ضعيفا، وألا يشهر ذلك حتى لا يقع بسبب ذلك في تشريع ما لم يشرعه الله، أو يراه بعض الجهلة يعمل به فيظن أنه سنة صحيحة.
ولكن المؤلف- رحمه الله- لم يترك المكان خاليا مما يعتقده من وجوب تجنب إيراد الأحاديث الضعيفة والتحدث بها، فقد ختم ذلك المعنى الذي أوجب فيه تلك الشروط بما ترتعد له الفرائص، وتقشعر منه الجلود، وتنفر منه النفوس، ذلك هو ما يستحقه من حدث عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنه كذب، وفي هذه المعاني يقول- رحمه الله-: " ولم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه ولا في صيام شيء منه(7/166)
معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ، رويناه عنه بإسناد صحيح، وكذلك رويناه عن غيره، ولكن اشتهر أن أهل العلم يتسامحون في إيراد الأحاديث في الفضائل، وإن كان فيها ضعف ما لم تكن موضوعة، وينبغي مع ذلك اشتراط أن يعتقد العامل كون ذلك الحديث ضعيفا، وألا يشهر ذلك، لئلا يعمل المرء بحديث ضعيف، فيشرع ما ليس بشرع أو يراه بعض الجهال فيظن أنه سنة صحيحة، وقد صرح بمعنى ذلك الأستاذ أبو محمد بن عبد السلام وغيره، وليحذر المرء من دخوله تحت قوله صلى الله عليه وسلم: «من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين (1) » فكيف بمن عمل به؟ ولا فرق في العمل بالحديث في الأحكام أو في الفضائل، إذ الكل شرع ".
3 - ثم انتقل المؤلف إلى النظر فيما ورد من الأحاديث غير الصريحة في فضل رجب، فبين أن أمثل ما ورد فيها ثلاثة أحاديث، وكلها في شأن الصوم:
* أما الأول: فما رواه النسائي من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما- قال: «قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان. قال: ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان (2) » ، الحديث.
ويتابع المؤلف بحثه في هذا الحديث ببيان وجه الاستدلال به فيقول (3) : " فهذا فيه إشعار بأن في رجب مشابهة برمضان، وأن الناس يشتغلون فيه من العبادة بما يشتغلون به في رمضان، ويغفلون عن نظير ذلك في شعبان، لذلك كان يصومه، وفي تخصيصه ذلك بالصوم إشعار بفضل صيام رجب، وأن ذلك كان من المعلوم المقرر لديهم".
* * *
وأما الحديث الثاني: فهو ما رواه أبو داود في السنن عن مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها، وفيه: «صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك فقال
__________
(1) صحيح مسلم مقدمة (1) ، سنن الترمذي الجنائز (1000) ، سنن ابن ماجه المقدمة (41) ، مسند أحمد بن حنبل (4/252) .
(2) سنن النسائي الصيام (2357) ، مسند أحمد بن حنبل (5/201) .
(3) ص: 4.(7/167)
بأصابعه الثلاثة، فضمها ثم أرسلها» وقد استنتج منه المؤلف استحباب صيام بعض رجب لأنه أحد الأشهر الحرم، لكنه مع ذلك قال: " إن في إسناده من لا يعرف".
* وأما الحديث الثالث: فهو في فوائد تمام الرازي من حديث أنس (1) ، وقد علق المؤلف عليه بأن في سنده ضعفاء ومجاهيل.
4 - ثم انتقل إلى تتبع الأحاديث الصريحة الواردة في فضل رجب، أو فضل صيامه، أو صيام شيء منه، فحصرها، وتحصل له نتيجة لهذا الحصر أنها تنقسم قسمين: قسما ضعيفا، وقسما موضوعا.
واجتمع له من الضعيف أحد عشر حديثا، ومن الموضوع واحد وعشرون حديثا بما في ذلك الأحاديث الشواهد، أو المروية بألفاظ مختلفة.
ولم يشأ المؤلف- رحمه الله- أن يفرد كل قسم على استقلاله، ويضم حديث كل قسم إلى أخيه، بل نراه يعرض في مبدأ البحث أربعة أحاديث ضعاف، وينتقل منها إلى سرد ثمانية عشر حديثا موضوعا، ويردفها بثلاثة أحاديث ضعاف، ثم يذكر حديثا واحدا موضوعا، وهكذا كانت طريقته حتى انتهى من ذكرها جميعا.
* أما طريقته في بحثها، فهي طريقة العالم الجليل، والناقد البصير، والباحث المستوعب، وليس هذا مستغربا من هذا الجبل الأشم، والبحر الزاخر، الذي ملأت تصانيفه الدنيا، واستوقفت بحوثه جهابذة العلماء، ووصلت معرفته بأحوال المحدثين حدا جعلته من أبرز فرسان هذا الميدان، وصار الناس يعتمدون على آرائه النقدية في ذلك إلى حد أن اعتبروها قاطعة لكل قول.
ولا أدل على ذلك من أنه اتبع في هذه الأحاديث ذكر جميع الطرق التي وصلت منها، وعزاها إلى الدواوين التي توجد بها، بل بلغ في هذا الأمر أن عين الأبواب التي ذكرت فيها، وذلك غاية في دقة الإحالة والتوثيق اللذين يتباهى بهما المؤلفون المحدثون في مناهج البحث، ويرون أنهم هم المبتكرون لتلك الدقة والتوثيق، في
__________
(1) ص:5.(7/168)
حين أننا نجد أمثال هذا العالم العملاق يسبقهم بمئات السنين إلى تلك الدقة الرصينة والتوثيق المحكم.
ويذكر بعد كل حديث ما قيل في شأنه من طعن، وما تكلم به في إسناده من تضعيف أو تكذيب، حتى إذا انتهى من تلك النقول بعد كل حديث، أردفها بما يراه هو نفسه من طعون عليها، وتضعيفات لها، وهكذا كانت طريقته إزاء كل حديث حتى خلص منها.
5 - وفي النصف الأخير من الصفحة الحادية والثلاثين حتى نهاية الكتاب، يعقد المؤلف فصلا يخصه بذكر ما ورد من الأحاديث في النهي عن اتخاذ رجب عيدا، أو الاعتقاد بأنه معظم كما كان في الجاهلية، أو أنه أفضل من غيره من الشهور، ويذكر أنه لا يجوز شيء من الأعمال العبادية فيه، حيث كانت تابعة لهذا المقصد.
أما حيث لا يوجد شيء من ذلك فيرى أنه لا بأس به، ما لم يخش بأن يظن أن ذلك واجب أو سنة فيكره، ولذا نراه يقول: أما إن صامه (أي رجب) لقصد الصوم في الجملة من غير أن يجعله حتما، أو يخص منه أياما معينة يواظب على صومها، أو ليالي معينة يواظب على قيامها، بحيث يظن أنها سنة فهذا من فعله مع السلامة مما استثنى، فلا بأس به، فإن خص ذلك أو جعله حتما فهذا محظور، وهو في المنع بمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تخصوا يوم الجمعة بصيام، ولا ليلتها بقيام (1) » ، رواه مسلم.
ويقول في ثاني الاحتمالين الذين وردا على الحديث الذي رواه ابن ماجه في السنن عن ابن عباس، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم رجب كله (2) » : ". . . ثم إن صح فهو محمول على التنزيه، والمعنى فيه ما ذكره الشافعي في القديم قال: وأكره أن يتخذ الرجل صوم شهر يكمله من بين الشهور كما يكمل رمضان، قال: وكذلك أكره أن يتخذ الرجل يوما من الأيام، وإنما كرهت هذا لئلا يتأسى جاهل، فيظن أن ذلك واجب".
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1985) ، صحيح مسلم الصيام (1144) ، سنن الترمذي الصوم (743) ، سنن أبو داود الصوم (2420) ، سنن ابن ماجه الصيام (1723) ، مسند أحمد بن حنبل (2/422) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/26) .(7/169)
وينقل في هذا الموضوع عن أبي بكر الطرطوشي في كتابه البدع والحوادث قوله: يكره صوم رجب على ثلاثة أوجه:
* أحدها: أنه إذا خصه المسلمون بالصوم في كل عام حسب العوام إما أنه فرض كشهر رمضان، وإما سنة ثابتة كالسنن الثابتة، وإما أن الصوم فيه مخصوص بفضل ثواب صيام باقي الشهور، ولو كان من هذا شيء لبينه صلى الله عليه وسلم.
* * *
قيمته العلمية:
ومن خلال ما عرضناه من مباحث يتبين لنا أن هذا الكتاب الصغير في حجمه، القليل في مادته الكلامية كبير في معناه، غني في مباحثه، ومن هنا كانت له القيمة الكبيرة في ميدان البحوث العلمية.
ويمكن إبراز هذه القيمة من النواحي الآتية:
* الأولى:
أن الذي قام بتأليفه هو من هو جلالة وعلما، وبصرا ونقدا، وحيادا ونزاهة، وتدينا وورعا، وكفيل بمن كانت هذه أوصاف صاحبه أن يكون له القيمة العلمية الكبرى، وأن يتلقفه الناس في شغف، ليطلعوا عليه، ويعملوا بما فيه.
* الثانية:
المنهج العلمي الذي اتبع في تأليفه، فمؤلفه- رحمه الله- قد أفرغ فيه أحسن مزايا البحث العلمي الرصين، حيث جمع كل ما وصل إلى علمه من أحاديث هذا الموضوع، ثم أوردها بكل أمانة ودقة، متتبعا جميع طرقها التي وصلت معها، وهذه مزية تعطي الكتاب قيمة كبرى عند الباحثين، حيث تطمئن باستيعاب البحث وصحة مادته العلمية.(7/170)
* الثالثة:
موضوعيته؛ فقد التزم المؤلف- رحمه الله- في كتابه البحث في موضوع واحد، وهو ما عنون به الكتاب، ولم يتعده ولو مرة واحدة في بحثه، وذلك وصف عظيم يعطي الكتاب قيمة كبرى في دنيا البحوث العلمية.
* الرابعة:
الجهد العلمي المبذول فيه من حيث النقد، فقد أولاه المؤلف- رحمه الله- من وقته وإخلاصه وجهده قدرا كبيرا، تمثل لنا في تلك النقول الكثيرة المتوعة عن علماء كثر في نقد هذه الأحاديث تضعيفا أو وضعا.
كما تمثل لنا في تلك الآراء السديدة التي يراها في تلك الأحاديث، يؤيدها بما أنعم الله عليه من علم غزير، وفهم دقيق.
* الخامسة:
الحاجة الماسة لموضوع الكتاب، ومعرفة ما فيه من أبحاث، والوقوف على ما ينتهى إليه فيها من نتائج، ذلك أن الناس وخاصة في زماننا هذا قد كثرت فيهم البدع، وانتشرت بينهم أمور ليست من الإسلام في شيء، ومن أبرزها الاعتقاد بأن رجب يشتمل على ما كان مدونا في تلك الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي ردها المؤلف في هذا الكتاب، ففي الاطلاع على ما ورد في هذا الكتاب كبح لجماح هذه البدع، وهداية للناس على الطريق الأقوم، وهذا كله يعطي الكتاب قيمة علمية كبرى.
بل إنني أذهب إلى أبعد من ذلك، فأرى أن هذا المعنى منه يوجب علينا أن نقوم بإعادة طباعة هذا الكتاب، والإكثار من إخراج نسخ له، وتعميمها في العالم الإسلامي، وتسهيل وصولها إلى يد كل مسلم حتى يكون على بصيرة من أمره، عارفا بأن ما يعمله بعض الجهلة في رجب إنما هو مبتدع مرذول.
وبهذا نكون مؤدين لبعض ما يجب علينا تجاه إخواننا المسلمين من حق النصح وأمانة التبليغ.(7/171)
الحاجة إلى الرسل
بقلم الشيخ مناع خليل القطان
1) ولد في شنشور - محافظة المنوفية - سنة 1345هـ ودرس في مصر.
2) تخرج في كلية أصول الدين وحصل على تخصص التدريس سنة 1371هـ.
3) أعير للمملكة للعمل بالمعاهد والكليات سنة 1373هـ.
4) تولى إدارة المعهد العالي للقضاء خمس سنوات.
5) مدير الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود حاليا وعضو اللجنة التحضيرية لسياسة التعليم.
6) له عدة مؤلفات منها:
- تفسير آيات الأحكام.
- مباحث في علوم القرآن.
- تاريخ التشريع الإسلامي.
- كتب الحديث والثقافة الإسلامية بالمرحلة الثانوية.(7/172)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، لقد فطر الله الناس على توحيده وطاعته، وأودع في النفس البشرية استعداها للخير واستعدادها للشر، ومنح الإنسان القوى المدركة المميزة، وما كان لهذه القوى أن تدرك الصواب والحق دائما فضلا عن عالم الغيب، فامتن الله على عباده ببعثة رسله، بيانا للحق وموازينه وإعذارا لهم وإسقاطا لحجتهم.
1 - فطر الله الناس على توحيده وطاعته، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (1) {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (3) .
وأصل الفطر: الشق، ومنه قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} (4) ، وتفطرت الأرض بالنبات: إذا تصدعت، وفطر الله الخلق يفطرهم: خلقهم وبدأهم، والفطرة: الابتداء والاختراع، وفي التنزيل العزيز: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ} (5) ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما-: ما كنت أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي أنا ابتدأت حفرها.
__________
(1) سورة الروم الآية 30
(2) سورة الروم الآية 31
(3) سورة الروم الآية 32
(4) سورة الانفطار الآية 1
(5) سورة فاطر الآية 1(7/173)
والفطرة ما فطر الله عليه الخلق من المعرفة به، وقد فطره يفطره، بالضم فطرا، أي خلقه، وقوله تعالى: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} (1) أي خلقني، ومن الحديث: «كل مولود يولد على الفطرة (2) » .
والفطرة كذلك: الكلمة التي يصير بها العبد مسلما، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فتلك الفطرة للدين، والدليل على ذلك حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم، «أنه علم رجلا يقول دعاء إذا نام وقال: فإنك إن مت من ليلتك مت على الفطرة (3) » ، وقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (4) فهذه فطرة فطر عليها المؤمن، وقيل: فطر كل إنسان على معرفته بأن الله رب كل شيء وخالقه.
وإذا كان الفطر بمعنى الابتداء والاختراع، فالفطرة منه الحالة كالجلسة، والمعنى أنه يولد على نوع من الجبلة والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يعدل عنه من يعدل لآفة من آفات البشر والتقليد (5) .
هذه هي المعاني التي يذكرها علماء اللغة في معنى الفطرة، ولا يخرج كلام المفسرين في تفسيرهم عن هذا، وجماعه في معنيين:
* المعنى الأول: أن يكون المراد بالفطرة الخلقة والجبلة والطبع، فقد خلق الله الناس على حالة تمكنهم من إدراك الحق وقبوله.
__________
(1) سورة يس الآية 22
(2) صحيح البخاري الجنائز (1385) ، صحيح مسلم القدر (2658) ، سنن الترمذي القدر (2138) ، سنن أبو داود السنة (4714) ، مسند أحمد بن حنبل (2/275) ، موطأ مالك الجنائز (569) .
(3) صحيح البخاري الدعوات (6311) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2710) ، سنن الترمذي الدعوات (3394) ، سنن أبو داود الأدب (5046) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3876) ، مسند أحمد بن حنبل (4/290) ، سنن الدارمي الاستئذان (2683) .
(4) سورة الروم الآية 30
(5) انظر لسان العرب لابن منظور مادة ''فطر''(7/174)
*والمعنى الثاني: أن يكون المراد بالفطرة ملة الإسلام التي خلقهم الله تعالى عليها، فإنهم لو خلوا وما خلقوا عليه لكانوا مسلمين موحدين.
وقد توجه الخطاب في صدر الآية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أمره الحق تبارك وتعالى أن يسدد وجهه ويستمر على الدين الذي شرعه الله، ويثبت عليه مائلا عما سواه، غير ملتفت إلى غيره، وأن يلزم الفطرة السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر الخلق على توحيده وعبادته: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (1) ولكن الخطاب يشمل جميع الأمة، وإنما توجه الخطاب بصيغة المفرد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتباره إماما لأمته، فأمره عليه الصلاة والسلام يستتبع أمرهم، ولذا جاء قوله تعالى بعد: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} (2) بصفة الجمع.
ويتأكد الأمر بلزوم فطرته تعالى بالجملة التي وقعت تعليلا له: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (3) سواء أكانت هذه الجملة خبرا بمعنى الطلب، أي لا تبدلوا خلق الله فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها، أم كانت خبرا على بابه، والمعنى أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة، لا يولد أحد إلا على ذلك، ولا تفاوت بين الناس في هذا. أو المعنى لا صحة ولا استقامة لتبديل الفطرة بما يخل بها من اتباع الهوى وخطوات الشيطان، فالخبر على بابه وليس بمعنى الطلب.
وذلك هو الدين المستوي الذي لا عوج فيه، وهو الفطرة السليمة المستقيمة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك، فيصدون عنه، ويتنكبون طريقه، وفي مثل هذه الحال يكون الرجوع إلى الله والإنابة إليه واجتناب ما نهى عنه والقيام على الدين، وعماده الصلاة، يكون ذلك ضمانا للحفاظ على سلامة الفطرة مرة أخرى.
ثم يأتي النهي عن الشرك بما يدل على أن انحراف الفطرة من ضروب الشرك، وأن المبدلين لفطرة الله تعالى يشركون به، فيختلفون في معتقداتهم وسلوكهم باختلاف أهوائهم وشهواتهم، واختلاف نحل من يستدرجونهم للضلال والباطل، ويتفرقون فرقا
__________
(1) سورة الروم الآية 30
(2) سورة الروم الآية 31
(3) سورة الروم الآية 30(7/175)
تشايع كل منها عقيدتها الزائغة وإمامها الذي أضلها، فهي فرق شر في مزاعمها الباطلة، ومذاهبها المنحرفة، كل حزب منها فرح بما لديه، يظن أنه على حق، والحق لا يتعدد، فإنه صراط الله المستقيم.
وجاءت الأحاديث مبينة لهذا المعنى، عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: (2) » الآية.
إن الإنسان يولد على الفطرة الكاملة السليمة، التي لا تشوبها شائبة تكدر صفوها، أو تؤثر على جبلتها كما تولد البهيمة مجتمعة الأعضاء، سليمة الحواس، لا نقص فيها، وإنما يعرض للفطرة ما يعرض لها من تغير وتبديل وزيغ وانحراف تحت تأثير العوامل التي تحيط بها من بيئة خاصة كبيئة المنزل، أو بيئة عامة من بيئات المجتمع، فالتعبير بالأبوين وأثرهما في التهويد والتنصير والتمجيس رمز للمؤثرات الخارجة على الفطرة، شأنها في ذلك شأن ما يعرض للبهيمة التي تولد كاملة الأعضاء، فيطرأ عليها ما يطرأ من نقص وفساد، ولم يذكر الإسلام في العوامل المؤثرة للدلالة على أنه دين الفطرة. وهذه الفطرة هي الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (3) {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (4) {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (5) .
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1359) ، صحيح مسلم القدر (2658) ، سنن أبو داود السنة (4714) ، مسند أحمد بن حنبل (2/315) ، موطأ مالك الجنائز (569) .
(2) سورة الروم الآية 30 (1) {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}
(3) سورة الأعراف الآية 172
(4) سورة الأعراف الآية 173
(5) سورة الأعراف الآية 174(7/176)
وقد ذهب المفسرون في بيان هذا الميثاق إلى مذهبين رئيسين:
* أولهما: أن يحمل هذا على الحقيقة كما جاء في عدة آثار بألفاظ متقاربة وإن تعددت روايتها، منها ما جاء مرفوعا، ومنها ما جاء موقوفا، قال ابن كثير: " والموقوف أكثر وأثبت". جاء في هذه الآثار أن الله سبحانه وتعالى مسح ظهر آدم، فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى. وكل فعل ينسب إلى الله بسند صحيح يجب الإيمان به والتسليم بوقوعه، وإن لم ندرك كنهه أو نعلم كيفيته، مع إيماننا بأن كيفيات أفعاله تعالى ليست مثل كيفيات أفعال خلقه، كما أنه لا يشبه خلقه في ذاته ولا في صفة من صفاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) . .
ولا غرابة في ذلك، فإن العلم الحديث عن الأجنة والوراثة، يقرر أن الناسلات وهي خلايا الوراثة التي تحفظ سجل الإنسان وتكمن فيها خصائص الأفراد وهم بعد خلايا في الأصلاب، يقرر العلم أن هذه الناسلات التي تحفظ سجل ثلاثة آلاف مليون من البشر، وتكمن فيها خصائصهم كلها لا يزيد حجمها على (سنتمتر مكعب) (2) .
* ثانيهما: وثاني هذين المذهبين في تفسير الآية أن يكون هذا من باب التمثيل لخلق الله تعالى الناس جميعا على الفطرة، فقد نصب الله دلائل توحيده في الأنفس والآفاق، وخلق في الإنسان الحواس والقوى المدركة التي يؤدي النظر السليم بها في كائنات الله إلى الإيمان به والاعتراف بوحدانيته، فجعل تمكينهم من ذلك كالاعتراف والإشهاد، كما قيل في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (3) . .
* قال القرطبي في تفسير آية الميثاق: وهذه آية مشكلة، وقد تكلم العلماء في تأويلها وأحكامها، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه، فقال قوم:
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) انظر في ظلال القرآن: للشهيد سيد قطب في تفسير الآية.
(3) سورة فصلت الآية 11(7/177)
معنى الآية أن الله تعالى أخرج من ظهور بني آدم بعضهم من بعض، قالوا: ومعنى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (1) دلهم بخلقه على توحيده، لأن كل بالغ ضرورة أن له ربا واحدا {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (2) أي قال: فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم والإقرار منهم، كما قال تعالى في السماوات والأرض قالتا ائتيا طائعين أي هذا كان بلسان الحال لا بلسان المقال.
* وقال ابن كثير في تفسيره: قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة (3) ، وقد فسر الحسن الآية بذلك. ولهذا قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} (4) ولم يقل من آدم، {مِنْ ظُهُورِهِمْ} (5) ولم يقل من ظهره، ذريتهم أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن، كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} (6) .
والشهادة تارة تكون بالقول كقوله تعالى: {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} (7) ، وتارة تكون حالا كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} (8) أي حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك، ومما يدل على أن المراد ذلك جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قال من قال لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه، فإن قيل إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم به كاف في وجوده، فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد، ولهذا قال: أن تقولوا أي لئلا تقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا} (9) أي التوحيد {غَافِلِينَ} (10) {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا} (11) الآية.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 172
(2) سورة الأعراف الآية 172
(3) إشارة إلى حديث: '' ما من مولود إلا يولد على الفطرة '' الآنف الذكر.
(4) سورة الأعراف الآية 172
(5) سورة الأعراف الآية 172
(6) سورة الأنعام الآية 165
(7) سورة الأنعام الآية 130
(8) سورة التوبة الآية 17
(9) سورة الأعراف الآية 172
(10) سورة الأعراف الآية 172
(11) سورة الأعراف الآية 173(7/178)
وفي الحديث القدسي: «يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم (1) » .
وأصل الحنف في القدمين: إقبال كل واحدة منهما على الأخرى بإبهامها، أو ميل كل واحدة من الإبهامين على صاحبتها، والحنيف: المائل، ثم عبر بذلك عن الميل إلى الحق، فالحنيف: المسلم المستقيم الذي يميل عن الباطل إلى الحق، وعن الضلال إلى الهدى، والحنيفية: ملة إبراهيم وهي ملة الإسلام.
واجتالتهم الشياطين: أي استخفتهم، فجالوا معها في الضلال، يقال: جال واجتال: أي ذهب وجاء، ومنه الجولان في الحرب، واجتال الشيء: إذا ذهب به وساقه.
أي أن الله سبحانه وتعالى خلق عباده بفطرتهم على ملة الإسلام، فجاءتهم شياطين الإنس والجن وحادت بهم عن هذا الدين الحنيف.
ودلت أحاديث أخرى على أن الفطرة المركوزة في النفس البشرية هي توحيد الله تعالى.
ففي حديث البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم إني أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأ ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، واجعلهن من آخر كلامك، فإن مت من ليلتك مت على الفطرة (2) » ، أي مت على الإسلام. 2 - وأودع الله في النفس البشرية استعدادها للخير واستعدادها للشر، إن طبيعة الإنسان في خلقه تشبه طبيعته النفسية، ولقد كان الخلق الإنساني مزدوجا في أصل تكوينه من المادة والروح، فمادته في النشأة الأولى من طين أو صلصال من حمأ مسنون، وفي نسله الممتد من ماء مهين، هو ماء الزوجين الذي يخرج من
__________
(1) رواه مسلم.
(2) متفق عليه.(7/179)
صلب الرجل وترائب المرأة، وروحه التي كانت بها حياته هي الجانب الأسمى الذي منحه الله إياه، يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (1) {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (2) ، ويقول عز وجل: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} (3) {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (4) {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (5) . .
فالتكوين المادي الجسدي في نشأة آدم أبي البشر يرجع إلى الطين اليابس الذي يصل من يبسه أي: يصوت، الطين المتغير من طول مكثه الذي أفرغ على صورة الإنسان، ويرجع هذا التكوين الجسدي في النسل البشري إلى نطفة الرجل وبويضة المرأة، والتكوين الروحي يرجع إلى النفخة العلوية من روح الله، وهي النفخة التي نقلت هذا التكوين الجسدي إلى الأفق الأعلى في التلقي عن الله والاتصال بالله، وأعطته خصائص الإنسانية الكريمة التي أهلته للخلافة في الأرض، وكيفية هذا التكوين المزدوج من الأسرار الإلهية التي نؤمن بها أدرك العلم شيئا منها أو لم يدرك.
وشتان بين عناصر الجانبين في هذا التكوين المزدوج، فعناصر التكوين العضوي تشد الإنسانية إلى ضرورات بقائها في الطعام والشراب والملبس والمسكن وفي الشهوات والنزوات، وتجذبه إلى أصلها، إلى الطين أو الماء المهين، وعناصر التكوين الروحي تسمو بالإنسانية إلى الأفق السماوي وتوثيق الصلة بالملأ الأعلى، إيمانا وعبادة واستقامة واستعلاء على جواذب الأرض، وترفعا عن مطالبها الهابطة، وتطلعا إلى القمة السامقة في نقاء النفس وطهارة الضمير، {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} (6) والروح من خلق الله، وإنما أضيفت إلى الله تشريفا وتكريما، كقوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} (7) ، وقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (8) وكما
__________
(1) سورة الحجر الآية 28
(2) سورة الحجر الآية 29
(3) سورة السجدة الآية 7
(4) سورة السجدة الآية 8
(5) سورة السجدة الآية 9
(6) سورة السجدة الآية 9
(7) سورة الشمس الآية 13
(8) سورة الحج الآية 26(7/180)
قال تعالى في عيسى عليه السلام: {وَرُوحٌ مِنْهُ} (1) .
كذلك كانت طبيعة النفس البشرية، فهي طبيعة مزدوجة في استعداها لازدواج طبيعة خلق الإنسان، يقول تعالى في طبيعة هذه النفس واستعدادها للخير والشر، والهدى والضلال، والحق والباطل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} (2) {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (3) {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (4) {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (5) والنفس: الروح، أو ما يكون به التمييز، وقد يعبر بها عن الإنسان جميعه، والمراد بها هنا: القوة المدبرة المميزة في الإنسان، وتسويتها: إعطاؤها القوى الكثيرة، كالقوى السامعة والباصرة والمفكرة. وذلك عام في كل نفس، والتنكير للتكثير، هذه النفس الإنسانية زودها الله باستعدادات متساوية للتقوى والفجور، تكمن في كيانها، فإما أن يوفقها الله بالتقوى، وإما أن يخذلها بالفجور، والفائز هو الذي يزكيها بالطاعة، وينمي استعدادها للخير بالاستقامة، والخاسر من أخفى هذا الاستعداد الخير بالفجور والمعصية، فالتزكية: التطهير، والتزكية كذلك: الإنماء والإعلاء بالتقوى، والتدسية: النقص والإخفاء بالفجور، وأصل دس: دسس كما قيل في تقضض تقضي.
إن تعاهد بواعث الخير في النفس يجعلها زاكية نامية تفيض بالبر والهدى والخير والتقوى والصلاح، ولا شيء يطفئ تلك البواعث ويحجب آثارها الخيرة ويخفي استعدادها للنماء واستعلاءها على نوازع الشر كالفجور الذي يطمس معالمها.
وفي هذا المعنى جاء قول الله تعالى عن الإنسان: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} (6) {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} (7) {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (8) ، جعل الله للإنسان من الحواس ما يطلعه على كائنات الله وما أودعه الله من أسرار وفي مقدمتها حاسة النظر، وخلق فيه أداة التعبير والبيان عما يجول في جوانحه من أفكار، وهداه النجدين، والنجدان: هما سبيلا الخير والشر، من النجد وهو الطريق المرتفع، فكأنه لما وضحت الدلائل جعلت كالطريق المرتفعة العالية لأنها واضحة للعقول وضوح الطريق العالي للأبصار.
__________
(1) سورة النساء الآية 171
(2) سورة الشمس الآية 7
(3) سورة الشمس الآية 8
(4) سورة الشمس الآية 9
(5) سورة الشمس الآية 10
(6) سورة البلد الآية 8
(7) سورة البلد الآية 9
(8) سورة البلد الآية 10(7/181)
وجاء هذا المعنى كذلك في قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (1) {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (2) خلق الله الإنسان من نطفة أمشاج تختلط فيها خلية الرجل ببويضة المرأة بعد التلقيح، والمشيج في اللغة: الخلط، والأمشاج: الأخلاط، واحدها مشج ومشيج، وقال صاحب الكشاف: الأمشاج: لفظ مفرد وليس بجمع، بدليل أنه صفة للمفرد {نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} (3) ونظيره برمة أعشار، أي قطع مكسرة، وثوب أخلاق. وتحمل كل من الخلية والبويضة عامل الوراثة من الصفات المميزة للجنين، ولا يخلق الله هذا عبثا، ولكنه يخلقه للابتلاء والامتحان والاختبار حتى تظهر آثار ذلك على الإنسان فيما قدره الله عليه، وقد أعطاه الله ما يصح الابتلاء، وهو السمع والبصر، وهما كنايتان عن الفهم والتمييز، فيكون بهذا مستعدا للتلقي والاستجابة والمعرفة والاختبار، وبين له سبحانه سبيل الهدى والضلال، سبيل الخير والشر، سبيل النجاة والهلاك، حيث خلق فيه وسائل الإدراك ودلائل العقل الهادي، يستوي في هذا أن يكون شاكرا يستثمر نعم الله عليه في عبادته وطاعته، أو يكون كفورا يجحد نعم الله ويضل عن سواء السبيل.
وهكذا كانت طبيعة النفس الإنسانية مزدوجة في استعدادها لازدواج طبيعة خلق الإنسان.
3 - ومنح الله الإنسان القوى المدركة المميزة: تميز الإنسان بأنه حيوان ناطق، وهم يعنون بالنطق التفكير، أي أنه مفكر بالقوة، وهو ما يعبر عنه في الاصطلاح الشرعي بالعقل الذي كان مناطا للتكليف.
وقد نوه القرآن الكريم بالعقل وعول عليه في أمر العقيدة، وأمر التبعة والمسئولية، وجاء التنبيه بالرجوع إليه في كثير من الآيات، فهو ملكة تقوي الإنسان إلى القيام بالمعروف والامتناع عن المنكر، وكان اشتقاقه من هذه المادة التي تدل في اللغة على المنع، ومنها أخذ العقال، لأنه يعقل صاحبه عما لا يليق.
أحمد القاضي
__________
(1) سورة الإنسان الآية 2
(2) سورة الإنسان الآية 3
(3) سورة الإنسان الآية 2(7/182)
فالعقل هو ملكة الإدراك والفهم والتصور والرشد، والاستفادة من هذه الوظائف العقلية أمر يفرضه الإسلام، حيث يخاطب القرآن الناس ويشحذ فيهم ملكة التفكير والنظر والتدبر والتعقل، ويجعل هذا سبيل الاهتداء إلى وحدانية الله {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (2) .
ويذكر الله في سورة الروم آيات متتابعة تحث الناس على التفكير في طبيعة تكوين أنفسهم، وطبيعة هذا الكون كله من حولهم، فإن هذا وذاك يدل دلالة قاطعة على أن هذا الوجود في نظامه الدقيق المحكم قائم على الحق وأن من مقتضيات هذا الحق الذي يقوم عليه الوجود أن تكون هناك آخرة {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} (3) .
ويحثهم على السير في الأرض والتأمل في مصائر الغابرين الذين كانوا أولي بأس وقوة، وذوي قدرة على عمارة الأرض، وجاءتهم رسلهم بالبينات ولم يؤمنوا فمضت فيهم سنة الله في المكذبين، ولم تغن عنهم قوتهم ولا حضارتهم.
ثم تأتي آيات بدء الخلق ومعاده ومصير المؤمنين والكافرين، تتلوها آيات الله في الحياة والموت، وفي خلق الإنسان وخلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان، ونوم البشر بالليل وسعيهم ابتغاء رزق الله بالنهار، وظاهرة البرق والمطر وحياة الأرض بالنبات بعد موتها، وقيام السماوات والأرض بأمر الله، ودعوة الناس للخروج من القبور، وتقرير البعث والقيامة، ويتخلل هذه الآيات تذييلها بقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة البقرة الآية 164
(3) سورة الروم الآية 8
(4) سورة الروم الآية 21(7/183)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} (1) .
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} (2) .
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (3) .
وفي نهاية المطاف نقرأ قول الله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (4) .
فضرب الله المثل لمن كانوا يتخذون من دون الله شركاء خلقا من خلقه، وهم لا يرتضون أن يشاركهم مواليهم في شيء مما تحت أيديهم من الرزق فضلا عن أن يساووهم فيه، يخشون أن يجوروا عليهم خشيتهم من جور شركائهم والأحرار الأكفاء الأنداد، فإذا كان هذا شأنهم فكيف يرضونه في حق الله ولله المثل الأعلى؟
إنه مثل واضح حاسم يعتمد على العقل المستقيم، ولا مجال للجدال فيه {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (5) .
وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم تنتهي بالتذكير والتدبر العقلي، لأن العقل خير مرجع للهداية الذاتية في ضمير الإنسان.
كما يأتي الخطاب متوجها إلى أولي الألباب في آيات أخرى، ولب كل شيء خالصه وخياره، ولب الإنسان ما أودع الله فيه من العقل المدرك الواعي.
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الْأَلْبَابِ} (6) .
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (7) .
__________
(1) سورة الروم الآية 22
(2) سورة الروم الآية 23
(3) سورة الروم الآية 24
(4) سورة الروم الآية 28
(5) سورة الروم الآية 28
(6) سورة البقرة الآية 269
(7) سورة يوسف الآية 111(7/184)
{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) .
وأولوا الألباب هم الذين استخدموا العقل في أداء وظيفته لتلقي الحكمة والاعتبار بقصص الماضين، والاتعاظ بالذكر.
وما أكثر الآيات القرآنية التي تستثير العقل حتى يفكر وينظر ويتدبر ويتذكر ويعتبر مستفيدا من الملكات الذهنية المتعددة.
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (2) {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ} (3) .
{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (4) .
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (5) .
{وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (6) .
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} (7) .
ويؤكد الإسلام على إزالة الموانع التي تعطل العقل وتعوقه عن أداء وظيفته، وعلى رأسها موانع العرف والعادة، وموانع الاقتداء الأعمى بأصحاب السلطة الدينية، وموانع الخوف من أصحاب السلطة الدنيوية.
فلا يقبل الإسلام من المسلم أن يلغي عقله ليجري على سنة آبائه وأجداده {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} (8) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 18
(2) سورة آل عمران الآية 190
(3) سورة آل عمران الآية 191
(4) سورة الأعراف الآية 185
(5) سورة ص الآية 29
(6) سورة الأنعام الآية 126
(7) سورة الحشر الآية 2
(8) سورة البقرة الآية 170(7/185)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (1) .
ولا يقبل الإسلام من المسلم أن يلغي عقله خنوعا لمن يسخره باسم الدين في غير ما يرضي العقل والدين.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} (2) {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} (3) {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (4) .
ولا يقبل الإسلام من المسلم أن يلغي عقله رهبة من بطش الأقوياء وطغيان الأشداء.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} (5) {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} (6) {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} (7) {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} (8) .
{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ} (9) {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ} (10) {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} (11) .
ويدعو القرآن الكريم في النظر والاستدلال والحكم والاعتقاد إلى الاستناد إلى اليقين وإلى الحقائق المدروسة التي يطمئن إليها العقل، وينحى باللائمة على أولئك الذين يتعلقون بالأوهام والظنون فإنها لا تغني من الحق شيئا.
{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (12) .
__________
(1) سورة لقمان الآية 21
(2) سورة البقرة الآية 165
(3) سورة البقرة الآية 166
(4) سورة البقرة الآية 167
(5) سورة هود الآية 96
(6) سورة هود الآية 97
(7) سورة هود الآية 98
(8) سورة هود الآية 99
(9) سورة الأحزاب الآية 66
(10) سورة الأحزاب الآية 67
(11) سورة الأحزاب الآية 68
(12) سورة يونس الآية 36(7/186)
4 - وما كان لهذه القوى أن تدرك الصواب والحق دائما فضلا عن عالم الغيب. إن القوى المدركة في الإنسان تدرك الأشياء بالحواس المخلتفة، ويتصورها العقل ويفكر فيها ويحكم عليها، فيميز بين الجميل والقبيح في المبصرات والمسموعات والملموسات والمذوقات والمشمومات، كما يميز بين الأمور المعقولة.
ففي المبصرات مثلا يجد الإنسان إعجابا بألوان بعض الزهور والطيور والتكوين الخلقي للمخلوقات، ويدرك جمال كثير مما تقع عليه عينه من المرئيات ويشعر في المقابل نحو أمور أخرى يشاهدها بالقبح وسوء المنظر.
وفي المعقولات ينكر الإنسان الجهل، ونقص العقل، وفساد الخلق، وسقوط الهمة، وضعف العزيمة، ويمتدح رجاحة العقل، وحسن الخلق، وعلو الهمة، وقوة العزيمة.
ويرجع هذا التمييز إلى الإحساس الوجداني وما يتبعه من لذة وألم حتى إن القبيح قد يجمل بجمال أثره، والجميل يقبح بقبح ما يقتدي به.
فالمر قبيح مستبشع، ولكنه يكون جميلا مقبولا لأثره في علاج المرض، والسلطان جميل لنفوذه وسيطرته، ولكنه يكون قبيحا لظلمه وبطشه وفجوره. وأفعال الإنسان الاختيارية يصدق عليها هذا.
فالعمل الذي يجلب مصلحة أو يدفع مضرة يكون جميلا، والعمل الذي يجر إلى الضرر ويهدر المصلحة يكون قبيحا.
واللذيذ يكون قبيحا لسوء عاقبته، فسماع الأغاني، وشرب الخمر، واتباع الشهوة مما فيه لذة، ولكن هذا يقبح ما فيه من ضياع الوقت والصحة والعقل وإتلاف المال وانتهاك الحرمات.
والمؤلم يكون حسنا لحسن عاقبته، كتجشم المشاق في كسب الرزق واكتساب العلم والصبر على الطاعة وفعل المعروف وجهاد الأعداء دفاعا عن البيضة وإعلاء لكلمة الحق.
فالعقل يميز بين النفع والضر، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة، وهذا التمييز فيما يدركه العقل يرد عليه أمور ينبغي أخذها في الحسبان.(7/187)
أ) فالناس يتفاوتون في مداركهم تفاوت وسائل الإدراك عندهم، وإذا كانت وسائل الإدراك سليمة صحيحة فإنها تدرك الشيء على حقيقته، وتميز بين الجميل والقبيح، والنافع والضار، وإذا كانت هذه الوسائل ضعيفة لسبب خلقي أو لسبب مرضي مزمن أو عارض فإنها لا تدرك الشيء على حقيقته ولا تميز بين الجميل والقبيح، ولا بين النافع والضار تمييزا صحيحا.
فمن أمراض العين ما يؤثر على الألوان في المبصرات فيراها على غير حقيقة لونها، وربما رأى الشخص شيئا في ضوء خافت أو على مسافة بعيدة فتصوره بغير صورته.
وقد يسمع الإنسان الكلام فيقع في سمعه حروف بعض الكلمات بأصوات أخرى فيفهم الكلام على غير معناه وإن كان حسب سمعه، يحدث هذا لضعف في حاسة السمع، أو لمرض يصيبها، أو لعبد مصدر الصوت عنه.
ب) وتتوقف صحة الإدراك على اعتدال المزاج، فإذا فسد المزاج وخرج عن سنن الاعتدال خرج العقل عن الصواب، ووقع في الخطأ.
فتفكير الإنسان في حال الرضا يختلف عن تفكيره في حال الغضب، وتفكيره في وقت راحته يختلف عن تفكيره في وقت تعبه، وتفكيره في أحواله المعتادة يختلف عن تفكيره في شدة الحزن أو الجوع أو الخوف.
والرغبة الجامحة ذات أثر فعال، يرى المرء في المال منفعة كبيرة في رخاء العيش والاستمتاع بالطيبات، والقدرة على الإنفاق، والوجاهة عند الناس، ويؤثر عليه في هذا عواطفه نحو أهله وولده حتى يتركهم أثرياء وتشتد رغبته في الحصول على المال فتحجب عنه طريق التفكير الصحيح في وجوه التكسب، فلا يقتصر على الكسب الحلال، وإنما يعمد في الحصول على المال إلى وسائل غير مشروعة من أي وجه كان، ويستبيح الكذب والغش وأكل المال بالباطل وسائر ما يحرز به كسبا يحقق له الثراء، فيعتدي على الآخرين بسلب أموالهم ويحرمهم من ثمار كدهم ويرى في ذلك منفعة له.
إن لاعوجاج الفكر واستقامته أعظم الأثر في التمييز بين النافع والضار وإن(7/188)
للأمزجة، وما يحف بالشخص من أهل وعشيرة تأثيرا بالغا على ما يحكم به العقل من خطأ أو صواب.
ج) وأهواء الإنسان وشهواته تتغلب عليه وتشل قدراته الفكرية فلا يكون إدراكه للأمور إدراكا مجردا من المؤثرات، إنما يكون هذا الإدراك متأثرا بغلبة الهوى، أو نزوة الشهوة، فلا يرى الشيء إلا بمنظار هواه ولا يبصر فيه إلا ما يروي ظمأ شهوته، وهذا يجعل تفكيره جائرا، ينأى عن الحق، ويبعد عن الصواب، فيستمرئ الباطل، ويتمادى في الخطأ، وهو يحسب أنه يحسن صنعا.
د) ومهما كانت وسائل الإدراك صحيحة خالية من المؤثرات فإن الإنسان ينتهي فكره إلى أمد، ويقف عند غاية محدودة، وليس في استطاعة العقل البشري أن يدرك الأهداف البعيدة ويهتدي فيها إلى الحق والصواب.
ويقتصر هذا الإدراك على ما يتصل بالشخص من منفعة ومضرة، أو لذة وألم، أو ما يتصل به وبالأقربين من حوله، ولا يتجاوز هذا إلى مصلحة الجماعة الكبرى، أو إلى مصلحة الجماعة العامة، ومصلحة الجماعة هي الجديرة بالنظر الصائب، والفكر الثاقب، والعقل الرشيد، ولو كان في هذه المصلحة ما يضر بشخص أو أشخاص.
وكثيرا ما يضر النظر العقلي بصاحبه ويجره إلى ما لا تحمد عاقبته، لا عن قصد منه، وإنما لسوء تقديره، وخطأ تفكيره، وزلة عقله، فيقع ما لم يكن في حسبانه.
ولو أن كل إنسان هداه تفكيره إلى الصواب لوصل إلى بغيته، ونجح في بلوغ قصده، وما شاهدها من أرباب المهن والتجارة من تبور بضاعته وتكسد تجارته، وما وجدنا أحدا يبوء بالفشل، إذ لا يرتضى عاقل أن يضر بنفسه مختارا.
هـ) وتعجز العقول عن معرفة الضوابط السلوكية التي تحدد علاقة الإنسان بأخيه، حفظا للحقوق، وصيانة للحرمات، وضمانا لاستقامة موازين الحياة الثابتة، حتى(7/189)
تستثمر مواهب الناس وقدراتهم بما فيه خيرهم وسعادتهم، في ظلال الأمن والعدالة والرخاء.
وتعجز العقول كذلك عن إدراك أسرار العبادات ما لا يعرف العقل سره، لأنه غير معقول المعنى، لماذا كانت الصلوات الخمس؟ ولماذا كانت في هذه الأوقات؟ ولماذا تفاوتت في عدد ركعاتها؟ ولماذا كان هذا العدد دون غيره؟ ولماذا كانت بهذه الصورة دون سواها؟
وهكذا الشأن في تحديد الأموال التي تزكى، ونصاب زكاتها، وتحديد الصيام المفروض وكيفيته، وكيفية الحج ومناسكه التي لم تدرك إلا بالشرع، وقلما يفهم لها معنى معقول.
ومعرفة عالم الغيب وما فيه من بعث وحساب وصراط وميزان وجنة ونار، ومعرفة الملائكة ووظائفهم، والرسل وصفاتهم، كل هذا وما يتصل به كيف يستطيع العقل أن يدركه؟ وهو عالم مجهول عنده ما لم يصله خبر صادق عنه.
لهذا ونظائره كان العقل الإنساني قاصرا عاجزا، وكان في حاجة إلى هداية تجنبه المزالق، وترشد قوى إدراكه إلى الصواب، وتطلعه على ما لا قبل له بعلمه.
5 - وقد امتن الله على عباده ببعثة رسله بيانا للحق وموازينه وإعذارا لهم وإسقاطا لحجتهم: لم يدع الله تعالى الناس لفطرتهم، فإن هذه الفطرة يعرض لها ما يفسد جبلتها، وتغشاها غواشي الحياة المختلفة التي تتجاذبها هنا وهناك فتقع فريسة لها، تتأثر بها وتجنح نحوها، وتنحرف عن جادة الحق، وتحيد عن الصراط المستقيم، وإنما تظل الفطرة سليمة إذا تركت وشأنها دون مؤثرات الحياة وعوارضها ونزوات النفس وشهواتها.
وفي الفطرة مقياس الخير والشر في إحساسها الذي ينبع من داخل النفس ويختلج بين الجوانح، ولكن هذا لا يحول دون الوقوع في الإثم، ففي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «سئل عن البر والإثم فقال: البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس (1) » وجاء هذا الحديث عن الإمام أحمد بأن
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2553) ، سنن الترمذي الزهد (2389) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) ، سنن الدارمي الرقاق (2789) .(7/190)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب السائل بقوله: «استفت قلبك واستفت نفسك، ثلاث مرات، البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك (1) » .
فالنفس السوية تفرق بين الحق والباطل، والخير والشر، فتنشرح للحق والخير، وتجد الريبة والشك في الباطل والشر.
ولم يدع الله تعالى الناس لعقولهم مع ما في طبيعتهم من الاستعداد للخير والاستعداد للشر، فإن العقل البشري يعجز عن إدراك كثير من الأمور، ولا يبرأ من الهوى، ولا يكون حكمه صائبا في كل حال، فهو في حاجة إلى معين يهديه ويحول بينه وبين زلاته وشططه، ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى الرسل يدل على ذلك ما يأتي:
أولا: الدليل الاعتقادي:
يجمع العقلاء في تاريخ البشرية على أن هذا العالم البديع الصنع في كائناته التي لا تحصى ونظامه المحكم الدقيق يدل دلالة قاطعة على وجود مبدع صانع خلقه، وأحكم صنعه، ودبر شئونه على هذه الحال التي تفوق تصور البشر فلم يوجد بمحض الصدفة، كما أنه لم يوجد نفسه، وإنما يختلفون في تسمية هذا الموجد الخالق، ولا يدركون صفاته، ولا ما يجب في حقه.
والدين يقرر أن هذا الموجد الخالق هو الله تعالى. فهو خالق كل شيء ولا سبيل للعقل إلى معرفة صفات الله وما يجب في حقه. وسبيل ذلك هو السمع وحده بالنقل عن الرسول الذي يصطفيه الله لإبلاغ الرسالة، ويؤيده بالمعجزات الدالة على صدقه.
واتفقت كلمة العقلاء مع اختلاف مللهم ونحلهم ومذاهبهم على أن النفس البشرية لا تزول زوالا مطلقا بالموت إلى غير رجعة، وإنما يكون لها نوع من البقاء، واختلفوا في تصويره وفي طرق الاستدلال عليه.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/228) ، سنن الدارمي البيوع (2533) .(7/191)
فمن قائل: بالتناسخ، ومن ذاهب إلى أن التناسخ ينتهي عند ما تبلغ النفس أعلى مراتب الكمال. ومن قائل: إنها إذا فارقت الجسد عادت إلى تجردها عن المادة حافظة لما فيه لذاتها أو ما به شقوتها.
ويسود شعور عام لدى البشرية كلها بحياة بعد هذه الحياة الدنيا التي يعيشها الناس، وأن هذا العمر القصير ليس هو منتهى ما للإنسان في الوجود، بل ينتهي عمره ويموت ثم يكون حيا باقيا في طور آخر وإن لم يدرك كنهه، ولا يستثنى من ذلك سوى الدهرين الذين قال الله تعالى عنهم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} (1) .
وهي نظرة سطحية قصيرة لا تتجاوز ظاهر الأمر الذي يشهدونه، ولا تبحث عما وراء ذلك من أسرار، فمن أين جاءت إليه الحياة الدنيا؟ وإذا جاءت فمن ذا يذهب بها عنهم؟ إن هذا ظن غامض، لا يقوم على تدبر، ولا يستند إلى علم، ولا ينظر إلى ما وراء ظاهرة الحياة والموت من سر.
وإذا كنا في عالم الشهادة نستعمل عقولنا في تقويم معيشتنا القصيرة الأمد، ونتلقى من العلوم ما ينمي أفكارنا، ويعيننا على استقامة حياتنا، وإدراك رغباتنا، ثم لا نلبث حتى نجد هذا غير كاف في الاستقامة على المنهج الأقوم، فنعود إلى تعديل هذه الأفكار وتصحيحها مرة بعد أخرى، إذا كنا في عالم الشهادة كذلك فكيف تصل عقولنا وأفكارنا إلى إدراك ما في عالم الغيب؟ وإلى معرفة ما يكون فيه، وكيف تكون الحياة الجديدة الباقية؟ إن طرائق النظر والاستدلال الفكري لا تقود الناظر إلى العلم بذلك علم اليقين حتى يعتقده ويؤمن به، وهو مجهول لديه، والنظر في المعلومات الحاضرة لا يوصل إلى اليقين بحقائق تلك العوالم المستقبلة.
فاقتضت حكمة الصانع الحكيم الذي خلق الإنسان وعلمه البيان أن يصطفي من عباده من يشاء، وأن يخصهم بصفات تميزهم، وإن يوحي إليهم من أمره تعالى ما يشاء أن يعتقده العباد، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه، بما تحتمله طاقة عقولهم، ولا يبعد عن متناول أفهامهم، وأن يبلغوا عنه شرائع تحدد
__________
(1) سورة الجاثية الآية 24(7/192)
لهم ما فيه تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم في ذلك الكون المغيب عن مشاعرهم بتفصيله، وإن علموه من داخل نفوسهم في إجماله، ثم يؤيد الله هؤلاء الذين يصطفيهم لإبلاغ تلك الأمانة بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات، حتى تقوم بهم الحجة، ويتم الإقناع بصدق الرسالة، فيكونون بذلك رسلا من لدنه إلى خلقه مبشرين ومنذرين، يبشرون من آمن بهم واتبع هديهم بما وعد الله به المؤمنين من خير ومثوبة، وينذرون من كفر بهم وتنكب طريقهم بما توعدهم الله به من شر وعقوبة.
لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه، وأبدع في كل كائن صنعه، ووسعت رحمته كل شيء يكون من رحمته بمن خلقه في أحسن تقويم، وهيأ له وسائل الإدراك والمعرفة، أن ينقذه من حيرته، ويخلصه من التخبط والضلال (1) .
ثانيا: دليل العدل وموازين الحق:
الإنسان كائن اجتماعي، فهو في حاجة إلى غيره، كما أن غيره في حاجة إليه، ينبئ عن هذا الشعور النفسي، والواقع الاجتماعي.
يشعر كل إنسان من داخل نفسه أنه لا يستطيع أن يعيش في عزلة عن غيره، ينقطع فيها عن الناس، ولا يتصل بأحد منهم، فالعزلة قاتلة له، والوحدة وأد لطبيعته، وإذا عاش فترة قصيرة بعيدا عن الناس منقطعا عن الاتصال بهم أحس بالوحشة، واشتدت مخاوفه، وتبرم من الحياة نفسها كأن الموت يطارده.
وفي طبيعة خلقه ضرورة اجتماعية، فقد وهبه الخالق القدرة على الكلام، وهذه الخاصة وحدها من أقوى الدلائل على حاجته إلى من يتكلم معه، لأن اللسان أداة التفاهم، وبه يكون التعبير عما في النفس، فمع من يتفاهم إذا كان يعيش وحده؟ ولمن يعبر إذا كان في عزلة؟
وواقعه الاجتماعي يحتم عليه الاتصال بالآخرين، فإن مطالبه كثيرة، ومنذ ولادته يكون عاجزا عن الوفاء بضرورات حياته، وليس شأنه كشأن الحيوانات الأخرى التي
__________
(1) انظر ''رسالة التوحيد'' للشيخ محمد عبده ص: 96 دار المعارف بمصر.(7/193)
ألهمت سبل عيشها، وكفاها هذا الإلهام مدة صغرها على قصرها، ولازمها ذلك بعد في حياتها، فإن الإنسان يولد ولا قدرة له على الحركة، وهو في حاجة إلى غذاء جسمي، وتعهد نظافته، وتفقد أحواله للمحافظة على سلامته، والعمل على راحته، ويستمر هذا فترة طويلة من الزمن تمتد عدة سنين، حتى يستطيع أن يخدم نفسه.
وإذا شب عن الطوق وقوي ساعده، لازمه العجز عن الوفاء بمطالبه، فلا يستطيع وحده أن يزرع ويحصد، وأن يغزل وينسج ويحيك ثيابه ليلبس، وأن يصنع طعاما يقوته ومسكنا يؤويه، وكلما تطورت حياته اتسعت مطالبه، وتشعبت حاجته، فلا يقف في تعاونه مع غيره عند أهله وعشيرته كما كان حاله في عصره الأول، بل زادت دائرة هذا التعاون، وعاش في مجتمع أكبر، يبذل فيه كل فرد ما عنده من قدرات للجماعة، وتبذل الجماعة لكل فرد فيها ما لديها من ثمار كدحها ونتاج أيديها وعقولها.
ويوشك العالم اليوم في العصر الحديث أن يكون مجتمعا واحدا لو استطاع، لتداخل مصالحه، وترابط مطالبه، واتساع حاجاته.
وليست الحياة الإنسانية كحياة النحل والنمل يكفي فيها الإلهام الغريزي لانتظامها، وتحقيق تعاون أفرادها، والقيام بوظائفها، فإن الحياة الإنسانية تتميز بالعقل والتفكير والتدبير والاختيار، فلا يجدي فيها هذا الإلهام، ولا يستقيم أمرها إلا بانتظامها في سلك واحد، عن فكر ونظر.
وفي الإنسان غرائز شتى، كحب النفس، وحب التملك، وحب السيطرة، وهذه الغرائز تصطرع فيها القوى البشرية، ويسعى كل إنسان في المجتمع البشري إلى أن يكون حظه أوفر من غيره، وأن يستأثر بالمنفعة واللذة، وأن تكون له الغلبة والقهر، وقد نشأ من ذلك التخاصم والتشاجر والعداء والمقاتلة في حياة الأفراد وحياة الأمم، ويشتد التنافس في هذا المضمار فتضيع الحقوق وتهدر الحرمات وتكون السيطرة للأشد الأقوى، ولا يقف الصراع البشري عند حد، بل يتتابع في حياة كل قبيل بكل جيل، وهذا يجعل الحياة الإنسانية جحيما لا يطاق، ولا علاج لذلك إلا أن يكون هناك ضوابط سلوكية محكمة وموازين للحق ثابتة، تقيم العدل(7/194)
بين الناس، فتنصف المظلوم من الظالم، وتعيد الحق إلى نصابه.
فمن الذي يصنع الضوابط السلوكية وموازين الحق لتحقيق العدل بين الناس؟
قد يقول قائل: إن الناس عقلاء، ولا يعدم المجتمع البشري أن يجد من علمائه ومفكريه وعباقرته من يسن الأنظمة والقوانين لضبط السلوك وقيام العدل، وهذا حق من وجه.
ولكن العقل البشري بطبيعته لا يحيط بكل شيء علما، وإذا أدرك الصواب في حالة فإنه يخطئ في حالات، وأولئك النوابغ المفكرون الذين يقررون موازين الحق لن ترقى عقولهم إلى درجة تجنبهم الخطأ، فإنهم ليسوا معصومين من الزلل.
والعقل البشري من ناحية أخرى يتأثر في تفكيره بالعواطف المختلفة، ورجال الفكر في أي عصر لا يتجردون من هذه العواطف تجردا كاملا، فلا تكون القوانين التي يضعونها منزهة عن كل عيب، بل إن شواهد الحال في حياة الأمم تدل على أن واضعي القوانين يحصرون على تحقيق أهداف يرومونها، فيصوغون قوانينهم لتحقيق هذه الأهداف حتى يكون نظام الحكم منسقا معها، ولذا اختلفت من أمة لأخرى، وكانت عرضة للتغير والتبديل، كلما ذهب قوم جاء آخرون بأهداف جديدة وصاغوا قوانينهم بفكر جديد.
ولو سلمنا جدلا أن العقلاء النوابغ يستطيعون الوصول إلى موازين ثابتة تحقق العدل بين الناس فإن غيرهم لا يسلم لهم بذلك، فالناس متفاوتون في مواهبهم وأفكارهم ونزغات أهوائهم، ويأبى أرباب العقول أن يخضع بعضهم لبعض، ويدعي كل أنه أرقى من الآخر فكرا وأسمى عقلا، فلماذا يخضع له عن اختيار منه؟ إن خضوعه لا يكون إلا بالقهر والغلبة.
فلا بد إذا من قوة قاهرة فوق قدرة البشر، تقيم موازين الحق لتحقيق العدل بين الناس، حتى يشعر جميع العقلاء أنهم فيها سواء، وبهذا يكون خضوعهم، فإن الناس جميعا يتفقون على الإذعان لما فاق قدرتهم، وعلا متناول استطاعتهم.
لذا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يختار من بين أفراد النوع الإنساني مرشدين هادين، يميزهم بخصائص في أنفسهم، ويؤيدهم بالمعجزات التي تبهر(7/195)
العقول، وتأخذ بالألباب، ويوحى إليهم بموازين الحق والعدل التي تدهش عظمتها المدارك، فلا يملك الناس إزاءها إلا الإذعان والقبول لها، لأنها شرع إلهي قاهر، وليست من وضع البشر، وأولئك هم المرسلون.
قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (1) .
ثالثا: دليل الإعذار وإسقاط الحجة:
إذا كانت الفطرة لا تكفي في استقامة الإنسان على جادة الحق لما يعتريها من ركام العادات والأعراف والتقاليد.
وإذا كان العقل لا يكفي لهداية الإنسان لما فيه من قصور ولما يعرض له من نزوات الهوى والشهوة.
فإن هذا وذاك قد يجد الإنسان فيه مجالا للاعتذار عما وقع فيه من خطأ، وما ارتكبه من إثم.
لذا شاء الله تعالى رحمة منه أن يرسل إلى الناس الرسل مبشرين ومنذرين لاستنفاذ فطرتهم من ركام الإلف والعادة، وتحرير عقولهم من أسر الأهواء والشهوات.
إنه مع وجود الفطرة التواقة إلى الاتصال ببارئها والإذعان له، ومع هبة العقل الذي أوتي القدرة على النظر والتفكير والتدبر، فإن الله سبحانه- بما يعلم من عوامل الضعف التي تطرأ على هذه القوى كلها فتعطلها أو تفسدها أو تطمسها أو تدخل في حكمها الخطأ والشطط- قد أعفى الناس من حجية الفطرة وحجية العقل ما لم يرسل إليهم الرسل ليستنقذوا دلائل الفطرة ودلائل العقل مما يعتريها من عوامل الفساد، وليضبطوا بموازين الحق الإلهي في رسالتهم تلك الدلائل، فتصح أحكامها، وتستقيم على ضوابط شرع الله، وعندئذ فقط يلزمها الإقرار والطاعة والاتباع، أو تسقط حجتها وتستحق العقاب {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (2) .
__________
(1) سورة الحديد الآية 25
(2) سورة النساء الآية 165(7/196)
ولو علم الله أن العقل البشري الذي وهبه للإنسان يكفي في أن يهتدى به وأن يدرك مصلحة حياته لوكله إلى هذا العقل وحده، يبحث عن دلائل الهدى، ويرسم لنفسه المنهج الذي تقوم عليه حياته حتى تستقيم على الحق والصواب، ولما أرسل إليه الرسل على مدى التاريخ، ولما جعل حجته على عباده لإرساله الرسل إليهم، وتبليغهم عن ربهم، ولما جعل حجة الناس عنده سبحانه وتعالى عدم مجيء الرسل إليهم {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (1) ولكن لما علم الله سبحانه وتعالى أن العقل الذي آتاه للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى بغير توجيه من الرسالة وعون وضبط، وقاصرة كذلك عن رسم منهج للحياة الإنسانية يحقق المصلحة الصحيحة لهذه الحياة وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة لما علم الله سبحانه وتعالى هذا اقتضت رحمته أن يبعث للناس بالرسل وألا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والتبليغ {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (2) .
فلا يؤاخذهم بالفطرة التي خلقهم عليها أو بعهد الفطرة الذي أخذه على بني آدم في ظهور آبائهم ولا يؤاخذهم بموجبات العقل ومقتضيات النظر في آياته الكونية المبثوثة في الوجود، وإنما يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ليعذر إلى عباده قبل أن يأخذهم بالعذاب.
__________
(1) سورة النساء الآية 165
(2) سورة الإسراء الآية 15(7/197)
فوظيفة العقل أن يتلقى عن الرسالة وأن يفهم ما يتلقاه عن الرسول وليست وظيفة العقل أن يكون حاكما على الدين من حيث الصحة أو البطلان، والقبول أو الرفض، بعد صحة صدوره عن الله.
وإذا قلنا إن الإسلام يخاطب العقل فإننا نعني بهذا أن الإسلام يوقظه ويوجهه ويقيم له منهج النظر الصحيح، ولا يعني هذا أن العقل يحكم بصحة الدين أو بطلانه، وبقبوله أو رفضه، فمثى ثبت النص كان هو الحكم، وكان على العقل البشري أن يقبله ويطيعه وينفذه، سواء كان مدلوله مألوفا له أو غريبا عليه.
ومهمة العقل أن يفهم ما الذي يعنيه النص وما مدلوله الذي يعطيه حسب معاني العبارة في اللغة والاصطلاح، والمدلول الصحيح للنص لا يقبل البطلان أو الرفض بحكم من هذا العقل، فهذا النص من عند الله والعقل ليس إلها يحكم بالصحة أو البطلان، وبالقبول أو الرفض لما جاء من عند الله.
لقد علم الله أن قدرات العقل تنوشها الشهوات والنزوات، وأن الدلائل المبثوثة في تضاعيف الكون وأطوار النفس قد يحجبها الغرض والهوى، ويحجبها الجهل والقصور، ومن ثم لم يكل إلى العقل البشري تبعة الهدى والضلال إلا بعد الرسالة والبيان، ولم يكل إليه بعد البيان والاهتداء وضع منهج الحياة، إنما وكل إليه تطبيق منهج الحياة الذي يقرره له الله، وترك له ما وراء ذلك يبدع فيه ما يشاء، والاجتهاد يكون في فهم النص المجمل الذي يحتمل أكثر من معنى أو في تطبيق مدلول النص القطعي على الجزئيات المتجددة في الحياة (1) .
وأخبرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم عن حال المكذبين، وأنه تعالى أعذر إليهم إذ أرسل إليهم رسوله، فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} (2) . فقطعت عليهم الرسالة الحجة ولم يعد لهم من عذر بعدها.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أغير من الله، من أجل
__________
(1) انظر تفسير آية النساء ذات الرقم 165 في كتاب ''في ظلال القرآن'' للشهيد سيد قطب.
(2) سورة طه الآية 134(7/198)
ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين (1) » وفي لفظ «من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه (2) » .
وبعد: لقد فطر الله الناس على توحيده وطاعته، وأودع في النفس البشرية استعدادها للخير واستعدادها للشر، ومنح الإنسان القوى المدركة المميزة، وما كان لهذه القوى أن تدرك الصواب والحق دائما فضلا عن عالم الغيب، فامتن الله على عباده ببعثة رسله بيانا للحق وموازينه وإعذارا لهم وإسقاطا لحجتهم.
والعالم اليوم يهيم على وجهه باسم الحضارة والعلم، وقد تملكه الغرور بما وصل إليه من معرفة، وما أدركه من دقائقها، فغزا الفضاء، وابتكر وأبدع، ولكنه يسير على غير هدى، يتخبط في دياجير المذاهب والأفكار والنظم والقوانين ويتسابق في اختراع وسائل التدمير، ويوشك أن تندلع فيه نار حرب ذرية أو نووية فتأتي على بنيانه من القواعد، وتحوله إلى خراب ودمار.
وبيد المسلمين وحدهم مشعل الهداية الربانية التي بعث بها خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، فأنقذ البشرية من براثن الشرك والجهالة، وأخرجها من الظلمات إلى النور، وأرسى دعائم الحضارة الإسلامية الفاضلة التي لم يشهد التاريخ لها مثيلا.
فهل آن لأمة الإسلام بعد أن حادت عن الجادة أن تنيب إلى ربها وتستقيم على صراط الله المستقيم؟ حتى تعود لها مكانتها، وتقود الإنسانية إلى الهدى والخير والحق من جديد {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (3) ؟ . هذا ما نرجوه، وما ذلك على الله بعزيز.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4634) ، صحيح مسلم التوبة (2760) ، سنن الترمذي الدعوات (3530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) ، سنن الدارمي النكاح (2225) .
(2) متفق عليه، والله تعالى يوصف بالغيرة عند أهل السنة والجماعة على وجه لا يماثل فيه صفة المخلوقين ولا يعرف كنهها وكيفيتها إلا هو سبحانه كما يقول في الاستواء والنزول والرضا والغضب وغير ذلك من صفاته سبحانه.
(3) سورة البقرة الآية 143(7/199)
التفسير بالأثر والرأي وأشهر
كتب التفسير فيهما
بقلم الدكتور
عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله الوهيبي
1) من مواليد الإحساء عام 1364هـ.
2) حاصل على الماجستير 1394هـ. والدكتوراه 1399هـ، من جامعة الأزهر في التفسير وعلومه.
3) أستاذ مساعد بكلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وعضو بمركز البحث العلمي بالجامعة.
4) من مؤلفاته:
- العز بن عبد السلام: حياته وآثاره ومنهجه في التفسير (مطبوع) .
- تحقيق تفسير العز بن عبد السلام (مخطوط) .
- أسباب النزول (مخطوط) .(7/200)
التفسير بالأثر والرأي
يشتمل هذا الموضوع على بيان معنى التفسير لغة واصطلاحا والفرق بينه وبين التأويل، واهتمام الصحابة والتابعين بالتفسير، وتاريخ تدوينه، وأقسامه، ونبذة موجزة عن أشهر كتب التفسير بالأثر والرأي.(7/201)
* معنى التفسير لغة واصطلاحا:
* التفسير في اللغة: هو الإيضاح والتبيين، ومنه قوله تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (1)
وهو مأخوذ من الفسر أي: الإبانة والكشف، قال في القاموس: الفسر: الإبانة وكشف المغطى كالتفسير، والفعل كضرب ونصر.
والتفسير في الاصطلاح عرفه الزركشي بأنه: علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه. واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو التصريف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ (2) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 33
(2) راجع كتاب: البرهان في علوم القرآن ج: 1 \ 13.(7/201)
معنى التأويل لغة:
التأويل في اللغة مأخوذ من الأول وهو الرجوع، قال في القاموس: آل إليه أولا ومآلا رجع وعنه ارتد وأول الكلام تأويلا، وتأوله دبره وقدره وفسره (1) .
* قال الراغب الأصفهاني: التأويل من الأول أي الرجوع إلى الأصل، ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه، وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كان أو فعلا، ففي العلم نحو قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} (2) (3) . [الأعراف: 53] .
* * *
__________
(1) راجع في القاموس في مادة آل ج: 3.
(2) سورة الأعراف الآية 53
(3) راجع كتابه: المفردات في غريب القرآن ص: 38.(7/202)
التأويل في الاصطلاح والفرق بينه وبين التفسير:
والتأويل في الاصطلاح مختلف فيه، فيرى بعض العلماء أن التأويل بمعنى التفسير، وعلى هذا جرى الطبري في تفسيره فتجده يقول: (تأويل قوله تعالى. . . . أو يقول اختلف أهل التأويل) يريد بذلك أهل التفسير، ويرى بعض العلماء أن التأويل مخالف للتفسير، فالتأويل يتعلق بحقيقة ما يؤول إليه الكلام علما أو عملا كما سبق في كلام الراغب، والتفسير يتعلق بالألفاظ وبمفرداتها، وقيل: التفسير القطع بأن مراد الله تعالى كذا، والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون قطع. . . وقيل التفسير ما يتعلق بالرواية، والتأويل ما يتعلق بالدراية (1) ولذا اختلف السلف في الوقف على قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (2) فمن قال: إن التأويل بمعنى التفسير وقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (3) أي أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه ببيان معناه لغة وشرح ألفاظه، ومن قال: إن التأويل بمعنى حقيقة ما يؤول إليه
__________
(1) راجع تفسير الألوسي (1 \ 5) .
(2) سورة آل عمران الآية 7
(3) سورة آل عمران الآية 7(7/202)
الكلام وقف على قوله (إلا الله) بمعنى أنه لا يعرف حقيقة ما يؤول إليه المتشابه إلا الله تعالى.
* * *(7/203)
التأويل في اصطلاح علماء الكلام:
هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل. وهذا الاصطلاح استخدمه علماء الكلام في صرف آيات الصفات عن ظاهرها ومعانيها الراجحة إلى معان مرجوحة كما قالوا في قوله تعالى: {وجاء ربك والملك صفا صفا} . [الفجر: 22] . المراد به جاء أمر ربك لأنهم لو أثبتوا المعنى الظاهر وهو المجيء لترتب على هذا خلو المكان والحدوث والله منزه عن ذلك، فصرفوا الكلام عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح لتنزيه الله تعالى وهذا الدليل غير مسلم لهم عند أهل السنة والجماعة، فهم يثبتون المجيء على ظاهره من غير تكييف ولا تمثيل على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وهو الصواب؛ لأن الذين تأولوا آيات الصفات خشية من الوقوع في التشبيه قد وقعوا فيما فروا منه، لأنهم تصوروا أن الله كالمخلوق يلزم من مجيئه الخلو والحدوث، فشبهوا الله به ثم تأولوا صفات الله فوقعوا في التعطيل، فلو أنهم تصوروا أن الله بخلاف المخلوق في ذاته للزم على هذا أنه مخالف له في صفاته، فوجب إثبات الصفات له على ما يليق بجلاله.
والراجح أن التفسير يتعلق بشرح ألفاظ القرآن وبيان معانيها من جهة اللغة، والتأويل يتعلق باستنباط الحكم والأحكام من الآيات وترجيح أحد المحتملات، هذا إذا أردنا التفريق بين التفسير والتأويل، وإلا فيصح إطلاق أحدهما على الآخر فبينهما عموم وخصوص من وجه كالإيمان والإسلام، فإذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فإذا استعملنا كلمة التفسير مفردة فتعم التأويل، وكذلك إذا استعملنا كلمة التأويل مفردة فتعم التفسير، وإذا جمعنا بين الكلمتين فقلنا التفسير والتأويل فينصرف التفسير
__________
(1) سورة الشورى الآية 11(7/203)
إلى شرح ألفاظ القرآن وبيان معيناه، وينصرف التأويل إلى استنباط الحكم والأحكام وترجيح المحتملات كما سبق بيانه. والله أعلم.
* * *(7/204)
اهتمام الصحابة والتابعين بالتفسير:
اهتم الصحابة رضوان الله عليهم بحفظ القرآن، وتدبر معانيه وفهم مراد الله، والعمل بما جاء فيه، فكان من اهتمامهم بالقرآن أنهم إذا حفظوا مجموعة من الآيات لا يتجاوزونها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قال أبو عبد الرحمن السلمي: (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وابن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا حفظوا من الرسول صلى الله عليه وسلم عشر آيات لا يتجاوزونها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قال فحفظنا القرآن والعلم والعمل جميعا) .
وروي عن ابن عمر أنه أقام على حفظ سورة البقرة ثماني سنين، وهذا دليل على تدبره لها وفهمه لمعانيها وتطبيق ذلك.
وروي عن أنس بن مالك أنه قال: (كان الرجل منا إذا حفظ البقرة وآل عمران جل في أعيننا) أي عظم قدره (1) .
وكذلك كان التابعون يحرصون على حفظ القرآن وتدبر معانيه، فهذا مجاهد يقول: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث مرات أوقفه عند كل آية وأسأله عنها.
* وقال الشعبي: رحل مسروق إلى البصرة في تفسير آية فقيل له إن الذي يفسرها رحل إلى الشام فتجهز ورحل إليه حتى علم تفسيرها (2) .
فتفسير القرآن من أشرف العلوم وأفضلها، لأن العلم يشرف بشرف المعلوم، وعلم التفسير يتعلق بكلام الله
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير (1 \ 3) .
(2) راجع تفسير الثعالبي (1 \ 11) .(7/204)
وهو خير الكلام، قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (1)
فالحكمة فهم القرآن وتفسيره كما قال المفسرون. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (2) » .
* * *
__________
(1) سورة البقرة الآية 269
(2) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .(7/205)
المفسرون من الصحابة والتابعين:
وقد اشتهر بالتفسير من الصحابة- رضي الله عنهم- الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، وأبو موسى الأشعري، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وأكثر من روي عنه من الخلفاء علي بن أبي طالب لأن الخلافة لم تشغله أول الأمر، ولبقائه مدة طويلة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكلما طال الزمان بالناس احتاجوا إلى التفسير نظرا لما يجد عندهم من قضايا لم تكن موجودة، ولاختلاطهم بالأعاجم، وبعدهم عن عهد العروبة الأول، لذا يشكل عليهم القرآن كثيرا فيحتاجون إلى التفسير لذا تجد ما روي عن ابن عباس أكثر مما روي عن علي - رضي الله عنهما- بخلاف الثلاثة السابقين فقد اشتغلوا بالخلافة أولا، وكانت مدة بقائهم، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيرة، خصوصا أبا بكر الصديق - رضي الله عنهم- فإنه لم يلبث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سنتين وأشهرا لذا لم يرو عنه في التفسير إلا نزر يسير أما علي - رضي الله عنه- فقد روي عنه كثير، وكان يقول: (سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل) .(7/205)
وكان يقول: (والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت، وأين أنزلت، إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا سؤولا.) (1) وكذا روى عن ابن مسعود كثير، وكان يقول: (والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته) (2) فما روي عنهم من قسم علي العلم بكتاب الله أية آية دليل على مدى اهتمامهم بهذا الكتاب العظيم، وتدبرهم له آية آية، وتتبعهم لنزوله، وفهم مقاصده ومراميه والعمل به.
لذا نجد ابن عباس - رضي الله عنه- لما فاته الأخذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم لصغر سنه حيث توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة تقريبا، نجده يلازم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجد في الطلب، ويتحمل في ذلك المشاق والمتاعب، فقد روي عنه أنه كان يجلس في القائلة عند باب أحدهم والرياح تؤذيه والشمس تشتد عليه، ومع هذا يتحمل في سبيل تعلم كتاب الله، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فبجهوده التي بذلها في طلب العلم، وبركة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل (3) » فتح الله عليه في فهم القرآن، وتدبره فكان حكما في تفسيره {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (4)
واشتهر من التابعين مجاهد وقد قيل: (إذا جاءك التفسير من مجاهد فحسبك) وممن اشتهر من التابعين أيضا سعيد بن جبير، وعكرمة- مولى ابن عباس - وقتادة، والضحاك، وعطاء بن أبي رباح، وزيد بن أسلم وغيرهم كثير.
__________
(1) الإتقان للسيوطي (2 \ 187)
(2) الإتقان للسيوطي (2 \ 187)
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/266) .
(4) سورة البقرة الآية 269(7/206)
تاريخ تدوين التفسير:
مر تدوين تفسير القرآن بالمراحل الآتية:
* المرحلة الأولى:
أن التفسير كان يعتمد على الرواية والنقل فالصحابة يروون عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويروي بعضهم عن بعض.(7/206)
* المرحلة الثانية:
أن التفسير دون ضمن كتب الحديث، فالمحدثون الذين تخصصوا في رواية أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وجمعها كالبخاري ومسلم وأصحاب السنن أفردوا بابا للتفسير في كتبهم جمعوا فيه ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين في تفسير القرآن، فتجد ضمن صحيح البخاري ومسلم باب التفسير وكذلك كتب السنن.
* المرحلة الثالثة:
أن التفسير دون مستقلا في كتب خاصة به جمعه فيها مؤلفوها ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين مرتبا حسب ترتيب المصحف، فيذكرون أولا ما روي في تفسير سورة الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران، وهكذا إلى آخر سورة الناس.
تم ذلك على أيدي طائفة من العلماء منهم ابن ماجه (ت273هـ) . وابن جرير الطبري (ت 310هـ) . وأبو بكر بن المنذر النيسابوري (ت318هـ) وابن أبي حاتم (ت327هـ) . وأبو الشيخ بن أبي حبان (ت369هـ) . والحاكم (ت405هـ) وأبو بكر بن مردويه (ت410هـ) وغيرهم من أئمة هذا الشأن، وكل هذه التفاسير مروية بالإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الصحابة والتابعين وتابع التابعين، وليس فيها شيء من غير التفسير المأثور، اللهم إلا ابن جرير الطبري؛ فإنه ذكر الأقوال ثم وجهها ورجح بعضها على بعض، وزاد على ذلك الإعراب إن دعت إليه حاجة، واستنبط الأحكام التي تؤخذ من الآيات القرآنية (1) .
* المرحلة الرابعة:
في هذه المرحلة دون التفسير مجردا عن الإسناد، واختلط الصحيح بالضعيف، ودخلت الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، والذين جاءوا بعد ذلك نقلوا هذه الأقوال على أنها صحيحة.
__________
(1) التفسير والمفسرون للذهبي (1 \ 141) .(7/207)
تلون التفسير بثقافة المفسرين:
ثم كثر التأليف في التفسير بالرأي والاجتهاد فخرجت تفاسير تلونت بلون ثقافة مؤلفيها، فالعالم بالنحو حشا تفسيره بقواعد النحو وخلافياته كما فعل أبو حيان في تفسيره (البحر المحيط) ، وصاحب العلوم العقلية والفلسفية حشا تفسيره بأقوال الفلاسفة ونظرياتهم وفندها ورد عليها كما فعل الفخر الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب) ، وصاحب الفقه حشا تفسيره بذكر مسائل الفقه وفروعه وأدلة المذاهب كما فعل القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) ، وصاحب القصص والأساطير حشا تفسيره بذكر قصص الأنبياء مع قومهم واستطرد في ذلك كما فعل الثعلبي في تفسيره (الكشف والبيان عن تفسير القرآن) ، وهكذا تلون التفسير بعلم من ألف فيه.
* * *(7/208)
التفسير الموضوعي:
وبجانب تلك التفاسير ظهرت كتب عنيت بدراسة جانب من جوانب القرآن، فأفردته بالبحث والدراسة، وتوسعت فيه وتحدثت عن جزئياته، سميت فيما بعد (بالتفسير الموضوعي) ، ففي مقدمة المؤلفين في هذا النوع من الدراسة (قتادة بن دعامة الدوسي) (ت 118هـ) . روي أنه أول من ألف في (الناسخ والمنسوخ) ، كما ألف أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 210هـ) . في مجاز القرآن وكتابه طبع في القاهرة سنة 1954م. وألف أبو عبيد القاسم بن سلام (ت244هـ) . في (الناسخ والمنسوخ) أيضا، وكذا أبو داود السجستاني صاحب السنة (ت275هـ) . وألف علي ابن المديني شيخ البخاري (ت234هـ) كتابه في (أسباب النزول) ، وهو أول من ألف في أسباب النزول في القرآن الكريم، ولكن كتابه لم يصل إلينا (1) .
__________
(1) مذكرات في علوم القرآن د. الكومي، د. القاسم (17 \ 18) .(7/208)
كما ألف أبو الفرج ابن الجوزي (ت597هـ) . كتابه (أسباب نزول القرآن) ، وألف الواحدي (ت468هـ) . كتابه (أسباب النزول) وهو مطبوع ومتداول، وألف الراغب الأصفهاني (ت502هـ) . كتابه (المفردات في غريب القرآن) ، وأفرد الجصاص الفقيه الحنفي (ت370هـ) كتابا خاصا (بأحكام القرآن) تناول فيه تفسير آيات الأحكام، وكذلك فعل ابن العربي المالكي (ت543هـ) . والكيا الهراس الشافعي (ت504هـ) .
* * *(7/209)
أقسام التفسير:
ينقسم التفسير إلى قسمين:
1 - التفسير بالمأثور:
ويشمل تفسير القرآن بالقرآن، لأن ما أجمل وأطلق في مكان بين وقيد في مكان آخر، والتفسير المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين.
* مثال تفسير القرآن بالقرآن، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} (1) فقوله تعالى: {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} (2) فسر بالآية رقم 3 من السورة وهي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} (3) الآية. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} (4) فسر بالآيات التي بعده {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} (5) {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (6) {إِلا الْمُصَلِّينَ} (7) ومثال المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة المائدة الآية 1
(2) سورة المائدة الآية 1
(3) سورة المائدة الآية 3
(4) سورة المعارج الآية 19
(5) سورة المعارج الآية 20
(6) سورة المعارج الآية 21
(7) سورة المعارج الآية 22(7/209)
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} (1) «فسر الرسول صلى الله عليه وسلم المغضوب عليهم: باليهود، والضالين: بالنصارى» رواه الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه (2) .
ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه- أنه قال: «لما نزلت شق ذلك على المسلمين، وقالوا أينا لا يظلم نفسه؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس ذلك؛ إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: (5) » . [لقمان: 13] . رواه البخاري ومسلم والترمذي (6) .
* * *
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 7
(2) راجع جامع الأصول لابن الأثير (2 \ 7) .
(3) صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6937) ، صحيح مسلم الإيمان (124) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3067) ، مسند أحمد بن حنبل (1/444) .
(4) سورة الأنعام الآية 82 (3) {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}
(5) سورة لقمان الآية 13 (4) {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
(6) راجع جامع الأصول لابن الأثير (2 \ 134) .(7/210)
2 - التفسير بالرأي:
وهو الذي يعتمد فيه المفسر على الاستنتاج العقلي للأحكام والحكم من الآيات، وترجيح المحتملات، ويجوز التفسير بالرأي لمن كان عالما باللغة العربية والنحو والصرف والبلاغة وناسخ القرآن ومنسوخه وأسباب النزول والسنة صحيحها وضعيفها وأصول الفقه، وأن يكون موهوبا، والموهبة لا تأتي إلا بالتقوى، فكلما كان الإنسان أكثر تقوى وخشية لله فتح الله عليه وعلمه ما لم يعلم، وبارك في علمه، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (1)
فالمطلع على كتب العلماء السابقين يجد نفسه أمام موسوعات علمية في التفسير والحديث والتوحيد والفقه والأصول، فإذا ما قرأ فيها وجد فيها الغزارة العلمية والاستنتاج الدقيق والاستقصاء والترجيح بين الأدلة والرد على المخالفين ودفع الشبه وغير ذلك من المباحث، فيتساءل كيف جمعوا هذه المعلومات وكيف اتسعت أعمارهم لتأليف هذه الموسوعات، ولا يجد جوابا على ذلك إلا أنهم أخلصوا النية في طلب العلم، واتقوا الله، ففتح الله عليهم وبارك في وقتهم وعلمهم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 282(7/210)
ويحرم التفسير بالرأي لمن لا تتوفر فيه الشروط السابقة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار (1) » رواه الترمذي، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ (2) » رواه أبو داود والترمذي عن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - (3) .
والمعنى أن من فسر القرآن برأيه المجرد دون الرجوع إلى لغة العرب وأساليبها في البيان والرجوع إلى المروي عن الرسول والصحابة، ومعرفة الناسخ والمنسوخ فقد أخطأ الطريق الذي يتوصل به إلى تفسير كتاب الله وإن أصاب في رأيه لمراد الله؛ لأنه أتى الأمر من غير بابه حيث فسر كتاب الله بما لا يعلمه، ولذا نجد الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين تكلموا في القرآن بما يعلمون، وتحرجوا عن الكلام في القرآن بما لا علم لهم به، روي عن أبي بكر - رضي الله عنه- أنه قال: (أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلمه) وروي عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} (4) فقال: هذه الفاكهة عرفناها فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه وقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر (5) وهذا محمول على أنه إنما أراد استكشاف علم كيفية الأب وإلا فكونه نبتا من الأرض ظاهر لا يجهل لقوله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} (6) {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} (7) {وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا} (8) {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} (9) {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} (10)
* * *
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (2950) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) .
(2) سنن الترمذي تفسير القرآن (2952) ، سنن أبو داود العلم (3652) .
(3) راجع جامع الأصول لابن الأثير (\ 3) .
(4) سورة عبس الآية 31
(5) راجع تفسير ابن كثير (1 \ 5) .
(6) سورة عبس الآية 27
(7) سورة عبس الآية 28
(8) سورة عبس الآية 29
(9) سورة عبس الآية 30
(10) سورة عبس الآية 31(7/211)
أشهر كتب التفسير بالأثر والرأي:
هذا المبحث يحتوي على نبذة موجزة عن أشهر كتب التفسير بالأثر والرأي تتناول التعريف بمؤلفيها وبيان طريقتهم في التفسير، وما تمتاز به هذه التفاسير وما يلاحظ عليها. وقد قسمنا هذه التفاسير إلى تفاسير بالأثر وتفاسير بالرأي، ولا يعني ذلك(7/211)
خلو تفاسير الأثر عن الرأي وخلو تفاسير الرأي عن الأثر، فكل تفسير يجمع بين الرأي والأثر، ولكن تقسيمنا مبني على الغالب، فما يغلب عليه الأثر جعلناه من تفاسير الأثر، وما يغلب عليه الرأي جعلناه من تفاسير الرأي.
* * *
أ- أشهر كتب التفسير بالأثر:
1 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن
لابن جرير الطبري
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
هو الإمام الحافظ المفسر المحدث الفقيه المؤرخ شيخ المفسرين والمؤرخين، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، ولد بآمل من بلاط طبرستان سنة 224هـ، وتوفي ببغداد سنة 310هـ، وكان عالما بالقراءات بصيرا بالمعاني، عالما بالسنة، متفانيا في العلم، ذكر عنه أنه مكث أربعين سنة يكتب كل يوم أربعين ورقة، وكان من الأئمة المجتهدين، وقد ألف في علوم كثيرة فأبدع فيها، ومن مؤلفاته:
1 - تاريخ الأمم والملوك، مطبوع وهو من أهم مصادر التاريخ.
2 - اختلاف الفقهاء، مطبوع.
3 - كتاب التبصر في أحوال الدين.
4 - تفسيره (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) .
* التعريف بتفسيره وطريقته فيه:
تفسير الطبري من أجل التفاسير بالمأثور وأعظمها قدرا، ذكر فيه ما روي في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأتباعهم، وكانت التفاسير قبل ابن جرير لا يذكر فيها إلا الروايات الصرفة، حتى جاء ابن جرير فزاد توجيه الأقوال، وترجيح(7/212)
بعضها على بعض، وذكر الأعاريب والاستنتباطات والاستشهاد بأشعار العرب على معاني الألفاظ.
وطريقته في التفسير أنه يلخص الأقوال التي قيلت في تفسير الآية، ثم يذكر بعد كل قول الروايات التي رويت فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين، ثم يروي الروايات التي قيلت في القول الثاني ثم الثالث، وهكذا حتى يستكمل الأقوال والروايات، ثم يرجح ما يراه ويستدل عليه ويرد الأقوال المخالفة.
وكان الطبري في نيته أن يكون تفسيره أوسع مما كان، ولكنه اختصره استجابة لرغبة طلابه، فابن السبكي يذكر في طبقاته الكبرى أن أبا جعفر قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فقال ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا ربما تفنى الأعمار قبل تمامه. فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال قبل ذلك في تاريخه. ويقع تفسير ابن جرير في ثلاثين جزءا من الحجم الكبير، وكان هذا الكتاب من عهد قريب يكاد يكون مفقودا لا وجود له، ثم قدر الله له الظهور والتداول، فكان مفاجأة سارة للأوساط العلمية في الشرق والعرب أن وجدت في حيازة أمير حائل الأمير حمود بن عبيد عبد الرشيد نسخة مخطوطة كاملة من هذا الكتاب طبع عليها الكتاب من زمن قريب فأصبحت في يدنا دائرة معارف غنية في التفسير المأثور، وقد حظي هذا التفسير بالقبول والثناء في الأوساط العلمية قديما وحديثا، قال النووي: أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل تفسير الطبري. وقال أبو حامد الاسفراييني: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل على كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيرا. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير ابن جرير الطبري؛ فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير والكلبي.
هذا وكتب (نولدكه) في سنة 1860م. بعد اطلاعه على بعض فقرات من هذا الكتاب: لو كان بيدنا هذا الكتاب لاستغنينا به عن كل التفاسير المتأخرة ومع(7/213)
الأسف فقد كان يظهر أنه مفقود تماما، وكان مثل تاريخه الكبير مرجعا لا يغيض معينه أخذ عنه المتأخرون معارفهم.
وقد التزم ابن جرير في تفسيره ذكر الروايات بأسانيدها إلا أنه في الأعم الأغلب لا يتعقب الأسانيد بتصحيح ولا تضعيف لأنه كان يرى كما هو مقرر في أصول الحديث، أن من أسند لك فقد حملك البحث عن رجال السند ومعرفة مبلغهم من العدالة والجرح، فهو بعمله هذا قد خرج من العهدة، ومع ذلك فابن جرير يقف أحيانا من السند موقف الناقد البصير، فيعدل من يعدل رجال الإسناد، ويجرح من يجرح منهم ويرد الرواية التي لا يثق بصحتها، ويصرح برأيه فيها بما يناسبها.
ثم إننا نجد ابن جرير يأتي في تفسيره بأخبار إسرائيلية يرويها بإسناده إلى كعب الأحبار ووهب بن منبه وابن جريج والسدي وغيرهم، ونراه ينقل عن محمد بن إسحاق كثيرا مما رواه عن مسلمة الأنصاري.
وهكذا يكثر ابن جرير من رواية الإسرائيليات، ولعل هذا راجع إلى ما تأثر به من الروايات التاريخية التي عالجها في بحوثه التاريخية الواسعة.
فعلى الباحث في تفسيره أن يتابع هذه الروايات بالنظر الشامل والنقد الفاحص، وقد يسر لنا ابن جرير الأمر في ذلك حيث إنه ذكر الإسناد، وبذلك يكون قد خرج من العهدة.
وعلينا نحن أن ننظر في السند ونتفقد الروايات (1) وقد استفاد المفسرون الذين جاءوا بعد الطبري من تفسيره، فاعتمدوا عليه في نقل كثير من التفسير المأثور، واستناروا بآرائه واجتهاداته وترجيحاته.
ويوجد لهذا التفسير طبعتان طبعة الحلبي كاملة في ثلاثين جزءا ولكنها غير محققة، وطبعة دار المعارف بتحقيق أحمد شاكر وأخيه محمود شاكر، ولكنها ناقصة حيث بدأت من مقدمة التفسير إلى تفسير الآية (27) من سورة إبراهيم في ستة عشر مجلدا.
__________
(1) راجع التفسير والمفسرون. د. محمد حسين الذهبي (1 \ 207) .(7/214)
2 - الكشف والبيان عن تفسير القرآن للثعلبي
هو أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري المقرئ المفسر، كان حافظا واعظا رأسا في التفسير والعربية متين الديانة، حدث عن أبي طاهر بن خزيمة، وعنه أخذ أبو الحسن الواحدي التفسير وأثنى عليه، وكان كثير الحديث كثير الشيوخ، ولكن هناك من العلماء من يرى أنه لا يوثق به ولا يصح نقله، توفي سنة 427هـ. ومن مؤلفاته:
1 - كتاب العرائس في قصص الأنبياء عليهم السلام، مطبوع.
2 - من ربيع المذكرين.
3 - تفسيره: الكشف والبيان عن تفسير القرآن (1) .
* التعريف بتفسيره وطريقته فيه:
وطريقته في التفسير أنه يفسر القرآن بما جاء عن السلف مع اختصاره للأسانيد اكتفاء بذكرها في مقدمة الكتاب، كما أنه يعرض للمسائل النحوية ويخوض فيها بتوسع ظاهر، ويعرض لشرح الكلمات اللغوية وبيان أصولها، ويستشهد على ما يقول بالشعر العربي، ويتوسع في الكلام عن المسائل الفقهية عندما يتناول آية من آيات الأحكام، فتراه يذكر الأحكام والخلافات والأدلة ويعرض للمسألة من جميع نواحيها إلى درجة تخريجه عما يراد من الآية. ويلاحظ عليه أنه يكثر من ذكر الإسرائيليات بدون تعقيب مع ذكره لقصص إسرائيلية في منتهى الغرابة.
ويظهر من ذلك أن الثعلبي كان مولعا بالأخبار والقصص إلى درجة كبيرة، بدليل أنه ألف كتابا يشتمل على قصص الأنبياء، وإن أردت أمثلة على ذلك: فارجع إليه
__________
(1) راجع طبقات المفسرين للداودي (1 \ 65) .(7/215)
عند تفسير قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} (1) وقوله تعالى: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} (2) ثم ارجع إليه عند تفسير قوله تعالى من سورة مريم: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} (3) كذلك نجده قد وقع فيما وقع فيه كثير من المفسرين من الاغترار بالأحاديث الموضوعة في فضائل السور سورة سورة، فروى في نهاية كل سورة حديثا في فضلها منسوبا إلى أبي بن كعب، كما اغتر بكثير من الأحاديث الموضوعة على ألسنة الشيعة، فشوه بها كتابه دون أن يشير إلى وضعها واختلاقها، ومن هذا ما يدل على أن الثعلبي لم يكن له باع في معرفة صحيح الأخبار من سقيمها.
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته في أصول التفسير:
والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين، وكان حاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع.
* وقال الكتاني: في الرسالة المستطرفة عند الكلام عن الواحدي المفسر: لم يكن له ولا لشيخه الثعلبي الكبير بضاعة في الحديث، بل في تفسيرهما وخصوصا الثعلبي، أحاديث موضوعة وقصص باطلة (4) .
* * *
__________
(1) سورة الكهف الآية 10
(2) سورة الكهف الآية 94
(3) سورة مريم الآية 27
(4) راجع التفسير والمفسرون د. الذهبي (1 \ 233) .(7/216)
3 -
معالم التنزيل
للبغوي
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
هو أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالفراء البغوي الفقيه الشافعي المحدث المفسر الملقب بمحيي السنة وركن الدين، كان تقيا ورعا زاهدا إذا ألقى الدرس لا يلقيه إلا على طهارة ولد سنة 436هـ. وتوفي سنة 516هـ. بمروالروذ.(7/216)
كان البغوي إماما في التفسير والحديث والفقه، وله مؤلفات في هذه العلوم، فمن مؤلفاته: 1- شرح السنة، مطبوع.
2 - مصابيح السنة، مطبوع.
3 - الجمع بين الصحيحين في الحديث.
4 - التهذيب في الفقه، مخطوط.
5 - تفسيره: معالم التنزيل، مطبوع (1) .
تفسيره وطريقته فيه:
تفسير البغوي مختصر من تفسير الثعلبي، لكنه صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة والإسرائيليات المبتدعة.
وطريقته أنه يفسر الآية بلفظ سهل موجز، وينقل ما جاء عن السلف في تفسيرها، وذلك بدون ذكر الإسناد فيقول: قال ابن عباس، أو قال مجاهد، وهكذا اكتفاء بذكر إسناده إلى كل من روي عنهم في مقدمة تفسيره، وقد يذكر الإسناد في أثناء التفسير إذا روي بإسناد آخر لم يذكره في المقدمة، ويمتاز بأنه يتعرض للقرآن بدون إسراف، ويتحاشى الاستطراد في الإعراب ونكت البلاغة وغير ذلك من العلوم التي أولع بها المفسرون، ويلاحظ عليه أنه يذكر روايات عن السلف في تفسير الآية ولا يرجح، وينقل عن الضعفاء كالكلبي، ويذكر بعض الإسرائيليات بدون تعقيب. قال حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون عن تفسير البغوي: هو كتاب متوسط نقل فيه عن مفسري الصحابة والتابعين ومن بعدهم، واختصره الشيخ تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن محمد الحسين المتوفى سنة 875هـ (2) .
* وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن أقرب التفاسير للكتاب والسنة؟ الزمخشري؟ أم القرطبي؟ أم البغوي؟ أم غير هؤلاء؟ فقال في فتاواه. وأما التفاسير الثلاثة المسئول عنها فأسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة البغوي، لكنه مختصر
__________
(1) راجع طبقات المفسرين (1 \ 157) والأعلام للزركلي (2 \ 259) .
(2) راجع التفسير والمفسرون د. الذهبي (1 \ 235)(7/217)
من تفسير الثعلبي، وحذف منه الأحاديث الموضوعة والبدع التي فيه، وحذف أشياء غير ذلك (1) اه.
* * *
__________
(1) راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13 \ 386) .(7/218)
4 - تفسير القرآن العظيم
لابن كثير
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
هو الإمام الجليل الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الفقيه الشافعي، لازم المزي، وقرأ عليه تهذيب الكمال، وصاهره على ابنته، وأخذ عن ابن تيمية وفتن بحبه وامتحن بسببه، ولد في قرية من أعمال بصرى الشام سنة 701هـ وتوفي سنة 774هـ.
كان ابن كثير على مبلغ عظيم من العلم، وقد شهد له العلماء بسعة علمه وغزارة مادته خصوصا في التفسير والحديث والتاريخ، ومن مؤلفاته:
1 - البداية والنهاية في التاريخ، مطبوع.
2 - شرح صحيح البخاري؛ ولم يكمله.
3 - طبقات الشافعية.
4 - جامع المسانيد، مخطوط في ثمانية مجلدات.
5 - تفسير القرآن العظيم، مطبوع.(7/218)
* التعريف بتفسيره وطريقته فيه:
تفسير ابن كثير من أشهر ما دون في التفسير بالمأثور، ويعتبر الكتاب الثاني بعد كتاب ابن جرير الطبري، اعتنى فيه مؤلفه بالرواية عن مفسري السلف. وقد قدم له بمقدمة طويلة هامة تعرض فيها لكثير من الأمور التي لها تعلق واتصال بالقرآن وتفسيره، ولكن أغلب هذه المقدمة مأخوذ بنصه من كلام شيخه ابن تيمية الذي ذكره في كتابه أصول التفسير.
وطريقته في تفسيره أنه يفسر الآية بأسلوب سهل واضح، ويذكر وجوه القراءات بدون إسراف، ويشير إلى الإعراب إن كان له تعلق بتفسير الآية، ثم يفسر الآية بآية أخرى إن أمكن، ويسرد في ذلك الآيات التي تناسبها، وهذا من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، وقد اشتهر ابن كثير بذلك، ثم يذكر الأحاديث المرفوعة المتعلقة بتفسير الآية وما روي عن الصحابة والتابعين في ذلك، ويعني بتصحيح الأسانيد أو تضعيفها مع بيان سبب الضعف، وترجيح بعض الأقوال على بعض مع توجيه ذلك.
وكثيرا ما نجده ينقل من تفسير ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم وعبد الرزاق وابن عطية والفخر الرازي وغيرهم ممن تقدمه، وقد يتعقب أقوالهم. ومما يمتاز به تفسيره أنه ينبه على ما في تفسير المأثور من منكرات الإسرائيليات، ويحذر منها على وجه الإجمال تارة، وعلى وجه التعيين لبعض منكراتها تارة أخرى، مع نقد أسانيدها ومتونها، ويذكر مناقشات الفقهاء وآرائهم وأدلتهم عندما يشرح آية من آيات الأحكام من غير إسراف ولا استطراد.
وبالجملة فإن هذا التفسير من خير كتب التفسير بالمأثور، وقد شهد له بعض العلماء فقال السيوطي في ذيل تذكرة الحفاظ والزرقاني في شرح المواهب: إنه لم يؤلف على نمط مثله (1)
__________
(1) راجع التفسير والمفسرون للذهبي (1 \ 347) .(7/219)
5 - الدرر المنثور في التفسير بالمأثور
للسيوطي
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
هو الحافظ جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي الشافعي المسند المحقق صاحب المؤلفات الفائقة النافعة، حفظ القرآن وهو ابن ثماني سنين، وحفظ كثيرا من المتون، وأخذ عن شيوخ كثيرين عدهم الداودي فبلغ بهم واحدا وخمسين كما عد مؤلفاته فبلغ بها ما يزيد على خمسمائة مؤلف ولد سنة 849هـ. وتوفي سنة 911 هـ. بالقاهرة، ومن مؤلفاته:
1 - الجامع الصغير في الحديث، مطبوع.
2 - حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة، مطبوع.
3 - همع الهوامع في النحو، مطبوع.
4 - الإتقان في علوم القرآن، مطبوع.
5 - الدر المنثور في التفسر بالمأثور، مطبوع (1) .
* التعريف بتفسيره وطريقته فيه:
عرف السيوطي تفسيره في مقدمته فقال: فلما ألفت كتاب ترجمان القرآن وهو التفسير المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وتم بحمد الله في مجلدات فكان ما أوردته فيه من الآثار بأسانيد الكتب المخرج منها واردات، رأيت قصور أكثر الهمم عن تحصيله ورغبتهم في الاقتصار على متون الأحاديث دون الإسناد وتطويله فلخصت منه هذا المختصر مقتصرا فيه على متن الأثر مصدرا بالعزو والتخريج إلى كل كتاب معتبر وسميته: بالدر المنثور في التفسير المأثور (2) .
__________
(1) الأعلام للزركلي (3 \ 301) والتفسير والمفسرون (1 \ 253) .
(2) راجع الدر المنثور للسيوطي (1 \ 2) .(7/220)
فالسيوطي يسرد في الروايات عن السلف في التفسير بدون أن يعقب عليها، فلا يعدل ولا يجرح ولا يضعف ولا يصحح إلا في حالات نادرة، وقد أخذ هذه الروايات من البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأحمد وأبي داود وابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وغيرهم.
ونلاحظ أن تفسير السيوطي هو الوحيد الذي اقتصر على التفسير بالمأثور من بين التفاسير السابقة التي تحدثنا عنها، فلم يخلط بالروايات التي نقلها شيئا من عمل الرأي كما فعل غيره.(7/221)
ب- أشهر كتب التفسير بالرأي
1 - مفاتيح الغيب
للفخر الرازي
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
هو محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن فخر الدين الرازي أبو عبد الله القرشي التميمي من ذرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه المفسر الفقيه المتكلم، إمام وقته في العلوم العقلية، ولد في رمضان سنة 544هـ. طلب العلم على والده ضياء الدين عمر، وأتقن علوما كثيرة وبرز فيها، وتخرج عليه طلاب كثيرون، حكي أنه إذا ركب يمشي حوله نحو ثلاثمائة تلميذ فقهاء وغيرهم، وصنف في فنون كثيرة، وقيل إنه ندم على دخوله في علم الكلام، روي عنه أنه قال: لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فلم أجدها تروي غليلا ولا تشفي عليلا، ورأيت أصح الطرق طريقة القرآن، توفي بهراة سنة 606هـ وخلف مصنفات كثيرة منها: 1- كتاب المحصول في أصول الفقه، مطبوع.
2 - كتاب شرح أسماء الله الحسنى، مطبوع.(7/221)
3 - كتاب من إعجاز القرآن.
4 - كتاب المطالب العالية في ثلاثة مجلدات ولم يتمه وهو من آخر تصانيفه.
5 - تفسيره: مفاتيح الغيب (1) .
* * *
التعريف بتفسيره وطريقته فيه:
تفسير الفخر الرازي: "مفاتيح الغيب" من التفاسير المطولة، ويقع في اثنين وثلاثين جزءا في طبعة دار المصحف، وهذا التفسير لم يتمه الفخر الرازي، ذكر حاجي خليفة في: كشف الظنون، أنه وصل فيه إلى تفسير سورة الأنبياء ثم أتمه نجم الدين أحمد بن محمد القمولي المتوفي سنة 727هـ. وقاضي القضاة شهاب الدين بن خليل الخوى أكمل ما نقص منه أيضا توفي سنة 639هـ. وذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، أن الذي أكمله نجم الدين القمولي. فلعل الشيخين اشتركا في تكملته بوجه من الوجوه أو أن كل واحد منهما ألف تكملة له، (2) ومسألة تكملة تفسير الفخر الرازي والموضع الذي انتهى إليه الفخر الرازي في تفسيره مسألة فيها خلاف قديم بين العلماء ولم تحقق إلى الآن، وطريقة الفخر الرازي في تفسيره أنه يعني بذكر مناسبة السور بعضها لبعض، ومناسبة الآيات بعضها لبعض، فيذكر أكثر من مناسبة، ويلاحظ على بعض هذه المناسبات بعيدة أو فيها تكلف، كما أنه يعني بذكر أسباب النزول، فيذكر للآية الواحدة سببا أو أكثر من سبب حسب ما روي فيها، ويذكر وجوه القراءات ووجوه الإعراب، ويعني باللغة، فتجد له مباحث لغوية قصيرة لتحقيق بعض اللغويات،
__________
(1) راجع طبقات المفسرين للداودي (2 \ 213) .
(2) التفسير والمفسرون (1 \ 293) .(7/222)
ويشير إلى القواعد الأصولية، ويتوسع في المباحثات الفقهية، فيعني كثيرا بمذهب الشافعي وتحقيقه وترجيح آرائه والرد على مخالفيها، كما أنه في مسألة آيات الصفات يجريها على طريقة الأشعري في مذهبه، ويرد على أقوال المعتزلة في مسألة الصفات وغيرها، ويفند أقوالهم، وكذلك يعني بذكر آراء الفلاسفة ونظرياتهم في الكون ويفندها، وقد استطرد في المباحث الفلسفية والكلامية فطغت على تفسيره، فهو مرجع في هذا الباب إلا أنه يؤخذ عليه أن يورد شبه الجاحدين والمخالفين يوردها ويحققها ويتوسع في تحقيقها أكثر من أصحابها ثم يرد عليها ردا ضعيفا لأنه قد استنفذ طاقته في التوسع في تحقيقها حتى قال عنه بعض المغاربة: يورد الشبه نقدا ويحللها نسيئة، فنلاحظ من هذا الاستعراض السريع لطريقة الفخر الرازي في تفسيره أنه جمع في تفسيره علوما كثيرة، واستطرد في بعضها مما جعله يخرج عن التفسير، ولذا قال بعض العلماء: فيه كل شيء إلا التفسير، وهذا القول وإن كان فيه مبالغة إلا أنه يشعر باستطرادات الفخر الرازي في تقرير بعض قضايا التفسير (1)
* * *
__________
(1) راجع التفسير والمفسرون (1 \ 296) .(7/223)
2 - الجامع لأحكام القرآن
للقرطبي
التعريف بمؤلف هذا التفسير * التعريف بمؤلف هذا التفسير:
هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح بإسكان الراء والحاء المهملة الأنصاري الخزرجي القرطبي، كان من العباد الصالحين والعلماء العارفين الزاهدين في الدنيا، وكان متواضعا، وكانت أوقاته كلها معمورة بالتوجه إلى الله بالعبادة(7/223)
تارة وبالتصنيف تارة أخرى، حتى أخرج للناس كتبا انتفعوا بها، توفي سنة 671هـ. بمنية بني خصيب بصعيد مصر، ومن مصنفاته:
1 - كتاب شرح أسماء الله الحسنى.
2 - كتاب التذكار في أفضل الأذكار، مطبوع.
3 - كتاب التذكرة في أمور الآخرة، مطبوع.
4 - تفسيره: الجامع لأحكام القرآن (1) .
التعريف بتفسيره وطريقته فيه * التعريف بتفسيره وطريقته فيه:
قال في مقدمة تفسيره يبين السبب الذي دفعه إلى تأليفه فالطريقة التي سار عليها فقال: وبعد، فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع الذي استقل بالسنة والفرض، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض رأيت أن أشتغل به مدى عمري واستفرغ فيه منتى (2) بأن أكتب فيه تعليقا وجيزا يتضمن نكتا من التفسير واللغات والإعراب والقراءات والرد على أهل الزيغ والضلالات، وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات جامعا بين معانيها ومبينا ما أشكل منها بأقاويل السلف، ومن تبعهم من الخلف. . . وشرطي في هذا الكتاب إضافة الأقوال إلى قائليها والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله، وكثيرا ما يجيء الحديث في كتب الفقه والتفسير مبهما لا يعرف من أخرجه إلا من اطلع على كتب الحديث، فيبقى من لا خبرة له بذلك حائرا لا يعرف الصحيح من السقيم، ومعرفة ذلك علم جسيم، فلا يقبل منه الاحتجاج به ولا الاستدلال حتى يضيفه إلى من خرجه من الأئمة الأعلام، والثقات المشاهير من علماء الإسلام، ونحن نشير إلى جمل من ذلك في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب.
وأضرب عن كثير من قصص المفسرين، وأخبار المؤرخين، إلا ما لا بد منه ولا غنى عنه للتبيين واعتضت من ذلك تبيين آي الأحكام، بمسائل تسفر عن معناها، وترشد الطالب إلى مقتضاها، فضمت كل آية تتضمن حكما أو حكمين فما زاد
__________
(1) راجع طبقات المفسرين للداودي (2 \ 65) والأعلام للزركلي (5 \ 322) .
(2) المنة: بالضم القوة.(7/224)
مسائل نبين فيها ما تحتوي عليه من أسباب النزول والتفسير الغريب، والحكمة، فإن لم تتضمن حكما ذكرت ما فيها من التفسير والتأويل.
وهكذا إلى آخر الكتاب، وسميته بالجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان (1) .
فنلاحظ من هذه المقدمة الطريقة التي سار عليها القرطبي في تفسيره حيث إنه يذكر آية أو مجموعة من الآيات متصلة في المعنى، فيجعل تفسيره لهذه الآيات في جملة مسائل تكون مسألتين، وقد تصل إلى أربعين مسألة فأكثر، يذكر في كل مسألة حكما من أحكام الآية أو سببا من أسباب النزول أو تفسيرا لغريب الآية أو صلة لها، أو يذكر فروعها فقهية تتصل بالآية من بعيد أو من قريب، ويستدل على ذلك بالأحاديث ويخرج هذه الأحاديث، كما يستدل بأقاويل السلف وينسبها إلى قائلها. كما أنه لا يستطرد في ذكر القصص والتواريخ، وقد وفى بما وعد في مقدمة تفسيره إلا أنه استطرد في ذكر الفروع الفقهية والتفصيلات الدقيقة في مذاهب أئمة الفقه التي لا تتصل بالآية إلا من بعيد حتى إن القارئ فيه أحيانا يجد نفسه أمام ثروة كبيرة من الأقوال الفقهية تخرجه عن تفسير الآيات القرآنية، ومن المراجع التي اعتمد عليها القرطبي في تفسيره ابن جرير الطبري وابن عطية وابن العربي والكيا الهراس وأبو بكر الجصاص، ومما يمتاز به القرطبي في تفسيره أنه لا يتعصب لمذهبه المالكي، فتجده في بعض المسائل يسوق رأي الإمام مالك ثم يرجح غيره مما دل عليه الدليل، ومن أمثلة ذلك تفسيره لقوله تعالى في الآية 43 من سورة البقرة: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (2) نجده عند المسألة السادسة عشرة من مسائل هذه الآية يعرض لإمامة الصغير ويذكر أقوال من يجيزها ومن يمنعها، ويذكر أن من المانعين لها الإمام مالك والثوري وأصحاب الرأي، ولكنا نجده يخالف إمامه فيقول بجواز إمامة الصغير لما ظهر له من الدليل على جوازها، وهو ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن سلمة أن
__________
(1) راجع تفسير القرطبي (1 \ 2-3) .
(2) سورة البقرة الآية 43(7/225)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا قال عمرو بن سلمة: فنظر قومي فلم يكن أحد أكثر مني قرآنا لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين (1) » اهـ. باختصار (2) .
ومن أمثلة ذلك تفسيره للآية [172 من سورة البقرة] {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (3) نجده يعقد المسألة الثانية والثلاثين من مسائل هذه الآية في اختلاف العلماء فيمن كان في سفره معصية كقطع طريق فاضطر إلى الأكل من المحرمات فيذكر أن مالكا حذر ذلك عليه، وكذلك الشافعي في أحد قوليه، ثم يعقب القرطبي على هذا كله فيقول: (قلت الصحيح خلاف هذا، فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه) قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (4) وهذا عام، ولعله يتوب في ثاني الحال فتمحو التوبة عنه ما كان. . .
وقد لاحظت في بعض المسائل الفقهية التي يذكرها القرطبي تشابها مع المسائل التي يذكرها ابن قدامة في المغنى، فلعل القرطبي استفاد من كتاب المغنى لابن قدامة في نقل بعض المسائل الفقهية؛ لأن ابن قدامة سابق في الوفاة للقرطبي، فابن قدامة متوفى سنة 620هـ. والقرطبي متوفى سنة 671هـ. وهذه المسألة تحتاج إلى تحقيق.
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4302) ، سنن النسائي الأذان (636) ، سنن أبو داود الصلاة (585) ، مسند أحمد بن حنبل (5/30) .
(2) راجع تفسير القرطبي (1 \ 353) .
(3) سورة البقرة الآية 173
(4) سورة النساء الآية 29(7/226)
3 - إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
لأبي السعود
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
هو محمد بن محمد بن مصطفى العمادي أبو السعود من علماء الترك المستعربين، مفسر شاعر، ولد بقرب استنبول، سنة 898هـ. ودرس ودرس في(7/226)
بلاد متعددة، وتولى القضاء في بروسة فاستنبول فالروم أيلي، وأضيف إليه الإفتاء سنة 952هـ، وكان حاضر الذهن سريع البديهة، وحكي عنه أنه يكتب الإفتاء على نسق سؤال المستفتي، فإن كان سؤاله بالشعر أفتاه بالشعر بوزن شعره، وإن كان السؤال بالفارسية أفتاه بها، وكذا إن كان بالتركية أو بالعربية، وقد أشغلته المناصب التي تولاها عن التأليف، فلذا لم يترك لنا إلا مؤلفات قليلة، وكان مهيبا، حظيا عند السلطان، توفي سنة 982هـ. ودفن بجوار أبي أيوب الأنصاري باستنبول. ومن مؤلفاته:
1 - تحفة الطلاب.
2 - رسالة المسح على الخفين.
3 - قصة هاروت وماروت.
4 - تفسيره: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1) .
* التعريف بتفسيره وطريقته فيه:
ذكر أبو السعود في مقدمة تفسيره أنه بعد ما قرأ الكشاف للزمخشري وأنوار التنزيل للبيضاوي رأى أن يؤلف تفسيرا يجمع فيه فوائد هذين التفسيرين ويضيف إليه ما تحصل عليه من فوائد من التفاسير الأخرى، فألف هذا التفسير الذي جلى فيه بلاغة القرآن وإعجازه وأبرزها في أحسن صورة، وهذا مما امتاز به هذا التفسير، يضاف إلى ذلك ذكره للفوائد الدقيقة والحكم البديعة التي دلت عليها الآية والنكت البلاغية النادرة، كما أنه يشير إلى القراءات ووجوه الإعراب ويبين معنى الآية على حسب ذلك دون إطالة، ويعرض للمسائل الفقهية المستفادة من الآية، ويشير إلى آراء أئمة المذاهب من غير استطراد، ويعني بذكر أقوال الحنفية ويرجحها كثيرا.
ولم يستطرد في ذكر الأخبار الإسرائيلية، وإن ذكرها فإنه يصدرها بلفظ روي أو قيل إشارة إلى ضعفها، كما أنه يعني بذكر المناسبات بين الآيات، هذا ويلاحظ عليه ذكره للأحاديث الموضوعة في فضائل السور، حيث ذكر في نهاية كل سورة ما روي
__________
(1) الأعلام للزركلي (7 \ 59) .(7/227)
فيها من تلك الأحاديث، ويلاحظ عليه صعوبة عبارته في بعض المواضع ودقة إشارته واختصاره للعبارة، بشكل يجعلها غامضة على القارئ العادي فلا يدركها إلا القارئ المتخصص، وقد نال هذا التفسير شهرة واسعة بين العلماء، فقد اهتموا به وتدارسوه واقتبسوا منه.
* * *(7/228)
4 - فتح القدير للشوكاني
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
هو محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني الإمام العلامة الفقيه المحدث المجتهد، ولد بهجرة شوكان عام 1173هـ. في ذي القعدة، وتربى في صنعاء، وقد حفظ القرآن وقرأه وختمه على الفقيه حسن بن عبد الله الهبل، وجد في حفظ متون كتب الفقه والحديث واللغة، واطلع على كتب التاريخ، تفقه - رحمه الله - على مذهب الزيدية وبرع فيه وألف وأفتى، ثم خلع ربقه التقليد وتحلى بمنصب الاجتهاد، وألف رسالة سماها: القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد وتحامل عليه من أجلها جماعة من العلماء، وأرسل إليه أهل جهته سهام اللوم والنقد، وثارت من أجل ذلك فتنة في صنعاء اليمن بين من هو مقلد ومن هو مجتهد، وعقيدة الشوكاني عقيدة السلف من حمل صفات الله الواردة في الكتاب والسنة على ظاهرها من غير تأويل ولا تشبيه، وقد ألف رسالة في ذلك سماها: التحف بمذهب السلف، وتوفي الشوكاني - رحمه الله - سنة 1250هـ. وقد خلف الشوكاني مجموعة من المؤلفات منها:
1 - نيل الأوطار "شرح منتقى الأخبار"، مطبوع.
2 - إرشاد الفحول إلى علم الأصول، مطبوع.
3 - السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، طبع بعضه.(7/228)
4 - إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات (رد به على موسى بن ميمون اليهودي) (1) .
5 - تفسيره: فتح القدير.
__________
(1) راجع ترجمته في مقدمة تفسيره (1 \ مقدمة) .(7/229)
التعريف بتفسيره وطريقته فيه:
يعتبر تفسيره أصلا من أصول التفسير ومرجعا مفيدا للباحثين، وقد جمع في تفسيره من الرواية عن السلف والدراية بالاستنباط ومناقشة الآراء والترجيح، وقد اعتمد في تفسيره على أبي جعفر النحاس وابن عطية الدمشقي وابن عطية الأندلسي والقرطبي والزمخشري وابن جرير الطبري وابن كثير والسيوطي، وقد استفاد كثيرا من تفسير السيوطي (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) وطريقة الشوكاني في تفسيره أنه يذكر ما في تفسير الآية من جهة اللغة والبلاغة ويشير إلى الإعراب إن كان له أثر في المعنى، ويذكر القراءات في الآية، ويناقش الآراء التي ينقلها، ويرجح في بعض الحالات، ويستنتج من الآيات الأحكام الفقهية، ويناقش بعض المسائل الفقهية ويبدي فيها رأيه، ثم بعد ذلك يسرد ما روي في تفسير الآية من التفسير المأثور معتمدا في ذلك على تفسير الدر المنثور، وقد يضيف إلى ذلك إضافات استفادها من كتب أخرى، كما نبه على ذلك في مقدمة تفسيره.
وقد لاحظ عليه الدكتور الذهبي أنه ينقل بعض الروايات الموضوعة في تفسيره ولا ينبه عليها، وضرب مثلا لذلك بتفسيره للآية (55) من سورة المائدة وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ} (1) ذكر أنها نزلت في علي - رضي الله عنه - حينما تصدق بخاتمه وهو في الصلاة، وذكر الشوكاني أنه لا يصح الاستدلال بها، ولم ينبه على أنها موضوعة، وقد نبه على ذلك ابن تيمية في مقدمة التفسير وقال: إن هذه القصة موضوعة باتفاق العلماء، كما استدل الذهبي بتفسير الشوكاني للآية (67) من سورة المائدة وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (2) فذكر روايات عن السلف
__________
(1) سورة المائدة الآية 55
(2) سورة المائدة الآية 67(7/229)
في تفسير هذه الآيات منها ما رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: إن هذه الآية نزلت على رسول الله يوم "غدير خمة". في علي ابن أبي طالب. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: «كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك إن عليا مولى المؤمنين وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس» قال الذهبي إنه مر على هاتين الروايتين أيضا بدون أن يتعقبهما بشيء أصلا (1) .
قلت: الشوكاني معذور في هذا لأنه جرى على المنهج الذي رسمه وقد بينه في مقدمة تفسيره، ونقطف منه هذا النص الذي يهم الموضوع وهو قول الشوكاني: (وقد أذكر الحديث معزوا إلى راويه من غير بيان حال الإسناد؛ لأني أجده في الأصول التي نقلت عنها كذلك كما يقع في تفسير ابن جرير والقرطبي وابن كثير والسيوطي وغيرهم. ويبعد كل البعد أن يعلموا في الحديث ضعفا ولا يبينونه، ولا ينبغي أن يقال فيما أطلقوه إنهم علموا بثبوته، فإن من الجائز ان ينقلوه من دون كشف عن حال الإسناد، بل هذا هو الذي يغلب به الظن، لأنهم لو كشفوا عنه فثبت عندهم صحته لم يتركوا بيان ذلك، كما يقع منهم كثيرا التصريح بالصحة أو الحسن، فمن وجد الأصول التي يروون عنها ويعزون ما في تفاسيرهم إليها فلينظر في أسانيدها موفقا إن شاء الله) (2) .
وقد لاحظ عليه الدكتور الذهبي ذمه للتقليد، وأنه كان شديد العبارة على مقلدي أئمة المذاهب فيرميهم بأنهم تاركون لكتاب الله معرضون عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قسا إلى حد كبير على المقلدين حيث يطبق ما ورد من الآيات في حق الكفرة على مقلدي الأئمة وأتباعهم، فمثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (28) من سورة الأعراف: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (3) قال ما نصه (. . . وإن في هذه الآية الشريفة لأعظم زاجر وأبلغ واعظ للمقلدة الذين يتبعون آباءهم في المذاهب
__________
(1) التفسير والمفسرون (2 \ 288) .
(2) تفسير الشوكاني (1 \ 13) .
(3) سورة الأعراف الآية 28(7/230)
المخالفة للحق، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر لا بأهل الحق فإنهم قائلون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (1) والقائلون: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} (2)
والمقلد لولا اغتراره بكونه وجد أباه على ذلك المذهب مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به وأنه الحق، لم يبق عليه وهذه الخصلة هي التي بقي بها اليهودي على اليهودية والنصراني على النصرانية والمبتدع على بدعته. فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية أو النصرانية أو البدعة، وأحسنوا الظن بهم بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به، ولم ينظروا لأنفسهم ولا طلبوا الحق كما يجب ولا بحثوا عن دين الله كما ينبغي، وهذا هو التقليد البحت والقصور الخالص. . . (3) .
ويمتاز تفسير الشوكاني بأنه يناقش آراء المعتزلة ويرد عليهم وقد عد الذهبي تفسير الشوكاني من تفاسير الزيدية، والواقع أنه ليس كذلك، فالمتتبع لتفسير الشوكاني لا يجد الشوكاني يتبنى فيه رأيا للزيدية، فعقيدته سلفية، وهو يرد آراء المعتزلة، فلو كان زيديا لوافقهم، لأن الزيدية يوافقون المعتزلة في أقوالهم في تأويل الصفات، ومسألة العدل، وغير ذلك من المسائل التي اختلف فيها أهل السنة والمعتزلة، وكذلك أيضا في آرائه الفقهية لا يتبنى آراء الزيدية، وإنما يذكرها كما يذكر آراء غيرهم، ويعني بذكر آرائهم لمعرفته بها، لأنه تفقه في الأصل على مذهب زيد، ثم ترقى في العلم حتى بلغ مرتبة الاجتهاد.
ومما جعله يعني بآراء الزيدية أنه يمنى ويعاهد طائفة الزيدية في بلاده، فكان عليه أن يذكر آراءهم ويناقشهم.
__________
(1) سورة الزخرف الآية 23
(2) سورة الأعراف الآية 28
(3) تفسير الشوكاني (2 \ 295) .(7/231)
5 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
للألوسي
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
هو أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود أفندي الألوسي، ولد سنة 1217هـ.(7/231)
في جانب الكرخ من بغداد، كان - رحمه الله - شيخ العلماء في العراق، جمع كثيرا من العلوم حتى أصبح علامة في المنقول والمعقول، فبرز في التفسير والحديث والأصول والفروع، أخذ العلم عن فحول العلماء، منهم والده، والشيخ خالد النقشبندي، والشيخ علي السويدي. وقد اشتغل بالتدريس والتأليف وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وتخرج عليه جماعة من العلماء، وكان ذا حافظة عجيبة، وكثيرا ما كان يقول: ما استودعت ذهني شيئا فخانني، ولا دعوت فكري لمعضلة إلا وأجابني، وقد قلد إفتاء الحنفية، وولى الأوقاف بالمدرسة المرجانية وكانت مشروطة لأعلم أهل البلد، وكان - رحمه الله - عالما باختلاف المذاهب مطلعا على الملل والنحل، سلفي الاعتقاد، شافعي المذهب، إلا أنه في كثير من المسائل يقلد الإمام أبا حنيفة - رضي الله عنه - وكان في آخر أمره يميل للاجتهاد، توفي في 25 ذي القعدة سنة 1270هـ. ودفن بالكرخ، وقد خلف مؤلفات نافعة منها:
1 - شرح السلم في المنطق.
2 - الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية.
3 - درة الغواص في أوهام الخواص.
4 - تفسيره: روح المعاني.
* * *(7/232)
* التعريف بتفسيره وطريقته فيه:
ذكر في مقدمة تفسيره أنه شرع في تأليفه في شعبان سنة 1252هـ. وانتهى من تأليفه سنة 1267هـ. وذكر أنه كان في نهاره يشتغل بالتدريس والإفتاء وفي أول ليلة يجتمع بالعلماء ويتناقش معهم في المسائل العلمية، وفي آخر ليلة يكتب في التفسير، ثم بعد ذلك يدفع ما كتبه إلى كتاب استأجرهم لهذه المهمة، فيبيضون ما كتبه في ليلته في عشر ساعات، فهذا يدل على كثرة كتابته وسرعة بديهته، والمطلع على تفسيره يجد نفسه أمام موسوعة تفسيرية كبيرة، حوت أقوالا في التفسير كثيرة للسلف والخلف كما أنه رجع إلى تفاسير كثيرة في كتابة تفسيره منها تفسير أبي(7/232)
السعود وإذا نقل عنه قال: قال شيخ الإسلام، وتفسير البيضاوي وإذا نقل عنه قال: قال القاضي، وتفسير الفخر الرازي وإذا نقل عنه قال: قال الإمام، كما نقل عن تفسير ابن عطية وأبي حيان والزمخشري وابن كثير وغير ذلك من التفاسير، فقد نقل في تفسيره خلاصة هذه التفاسير، ولا يقتصر على النقل فقط، فنجده ينصب نفسه حكما بين هذه التفاسير ويناقشها ويرجح ما يراه صحيحا ويضعف ما يراه ضعيفا، فكان يناقش المعتزلة في آرائهم ويرد عليها كما في تفسير قوله تعالى: {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (1) وقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (2) ويناقش الشيعة ويرد عليهم في طعنهم على الصحابة كما في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (3) كما نجده يستطرد في ذكر المسائل النحوية متأثرا بأبي حيان في تفسيره في ذلك. ويعني بذكر القراءات المتواترة وغيرها وذكر المناسبات بين الآيات وبين السور، وذكر أسباب النزول، ويستطرد في ذكر مسائل الفقه عند تفسير آيات الأحكام، فيذكر أقوال الفقهاء وأدلتهم مع الترجيح وغالبا ما يرجح مذهب أبي حنيفة ولا يتعصب له، فنجده أحيانا يرجح مذهب الشافعي إذا اقتنع بأدلته، كما أنه يناقش الإسرائيليات ويفندها، ومن ذلك تفنيده لقصة عوج ابن عنق، وقصة سفينة نوح (4) .
ويلاحظ على الألوسي اهتمامه بالتفسير الإشاري على طريقة الصوفية فإذا انتهى من التفسير الظاهر تكلم عن التفسير الباطن فينقل فيه كلام الصوفية في التفسير كالجنيد وابن عطاء وأبي العباس المرسي، فينقل عنهم نقولا في تفسير باطن الآية وهي بعيدة عن التفسير، ومن أمثلة ذلك تسيره لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (5) [آل عمران: 33] .
قال الألوسي: وما يتعلق بالباطن من أصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ والولد سر أبيه ويمكن أن يقال: آدم هو الروح في أول مقامات ظهورها، ونوح هو هي مقامها الثاني من مقامات التنزل وإبراهيم هو القلب الذي ألقاه نمرود النفس في نيران
__________
(1) سورة التوبة الآية 93
(2) سورة البقرة الآية 15
(3) سورة الجمعة الآية 11
(4) تفسير الشوكاني (1 \ 360) .
(5) سورة آل عمران الآية 33(7/233)
الفتن ورماه فيما بمنجنيق الشهوات والقوى الروحانية، ومران هو العقل الإمام في بيت مقدس البدن والتابعون له في ذلك البيت المقتدون به كل ذلك ذرية بعضها من بعض لوحدة المورد واتفاق المشرب: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} (1) عن رق النفس مخلصا في عبادتك عن الميل إلى السوى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} (2) قال الواسطي: محفوظ عن إدراك الخلق: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} (3) حيث سقاها من مياه القدرة، وأثمرها شجرة النبوة وكفلها زكريا لطهارة سره وشيبه الشيء منجذب إليه كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا هو ما علمت، ويجوز أن يراد الرزق الروحاني من المعارف والحقائق والعلوم والحكم الفائضة عليها من عند الله تعالى إذ الاختصاص بالعندية يدل على كونه أشرف من الأرزاق البدنية (4) ، فهذا التفسير بعيد جدا عن ظاهر الآيات ولا علاقة له البتة بالآية، لأن الآية ورد فيها اصطفاء الله لآدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، فهؤلاء أشخاص فكيف يرمز لهم بالمعاني كالروح أو العقل أو القلب، فهذه الرموز لا علاقة لها بالآية ولا دليل عليها من السنة أو كلام السلف أو لغة العرب، فهذه التفسيرات وأمثالها باطلة لا يصح تفسير كتاب الله بها، فالسير على هذا المنهج في التفسير تحريف لآيات الله، وإبطال لمعانيها فكان الأولى بالألوسي أن ينزه تفسيره عن مثل هذا، كما لا يفوتني أن أبين أن الألوسي ينقل عن الصوفية تفسيرات قد تكون قريبة من معنى الآية أو لها وجه صحيح، وهذا كثير في مواضع متعددة من تفسيره ولا يحتاج إلى تمثيل.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 35
(2) سورة آل عمران الآية 37
(3) سورة آل عمران الآية 37
(4) الألوسي (3 \ 143)(7/234)
فهرس المراجع
1 - الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (ت 911هـ.) طبع مصطفى الحلبي بمصر - ط: 3 - 1370هـ - 1951م.
2 - الأعلام للزركلي (ت 1396هـ.) ثمانية أجزاء - دار العلم للملايين - بيروت - ط: 5 - 1980م.
3 - البرهان في علوم القرآن للزركشي (ت 794هـ.) - أربعة أجزاء - طبع عيسى الحلبي بمصر - ط: 2 - 1391هـ - 1972م.
4 - تفسير ابن كثير (ت 774هـ.) - 4 أجزاء - طبع عيسى الحلبي بمصر.
5 - تفسير أبي السعود (ت 982هـ.) : إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم - طبع عبد الرحمن محمد بمصر - 9 أجزاء.
6 - تفسير الألوسي (ت 1270هـ.) : روح المعاني - المطبعة الميزية - بمصر ط: 2 - 30 جزء.
7 - تفسير البغوي (ت 516هـ.) : معالم التنزيل - مطبوع بهامش تفسير الخازن - طبع مصطفى الحلبي بمصر ط: 2 - 1375هـ.
8 - تفسير الثعالبي (ت 876هـ.) : الجواهر الحسان في تفسير القرآن: 4 أجزاء - الناشر: مؤسسة الأعلمي، بيروت.
9 - تفسير السيوطي (ت 911هـ.) : الدر المثنور في التفسير بالمأثور - 6 أجزاء - الناشر: محمد أمين دمج - بيروت.
10 - تفسير الشوكاني (ت 1250هـ.) : فتح القدير - 5 أجزاء - طبع مصطفى الحلبي - بمصر.(7/235)
11 - تفسير الطبري (ت 310هـ.) : جامع البيان عن تأويل آي القرآن - تحقيق أحمد شاكر وأخيه محمود - طبعة دار المعارف بمصر - وهي ناقصة. وطبعة مصطفى الحلبي الثالثة - 1383هـ. - وهي كاملة في 30 جزءا.
12 - تفسير الفخر الرازي (ت 606هـ.) : مفاتيح الغيب - 32 جزءا - طبع عبد الرحمن محمد بالقاهرة.
13 - تفسير القرطبي (ت 671هـ.) : الجامع لأحكام القرآن - 20 جزءا - طبعة دار الكتب المصرية - 1387هـ.
14 - التفسير والمفسرون لأستاذنا المرحوم د. محمد حسين الذهبي (ت 1397هـ.) - 3 أجزاء -مطابع دار الكتاب العربي بمصر ط: 1 - 1381هـ.
15 - جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لابن الأثير الجزري (ت 606هـ.) تحقيق عبد القادر الأرناؤوط - 11 مجلدا - طبع بيروت سنة 1389هـ.
16 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ.) - 4 أجزاء - دار الجيل - بيروت -.
17 - ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الحديث: لعبد الغني النابلسي سنة 1143هـ. - 4 أجزاء - الناشر: ناصر خسرو - طهران.
18 - صحيح البخاري (ت 256هـ.) بشرح - فتح الباري - لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ.) المطبعة السلفية بمصر - 13 مجلدا -.
19 - طبقات المفسرين للداودي (ت 945هـ.) بتحقيق علي محمد عمر(7/236)
- جزءان - مطبعة الاستقلال الكبرى بمصر - ط: 1 - 1392.
20 - فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ.) - 37 مجلدا - مصور عن الطبعة الأولى سنة 1398هـ.
21 - القاموس المحيط: للفيروزآبادي (ت 817هـ.) - 4 أجزاء - المطبعة الحسينية بمصر.
22 - مذكرات في علوم القرآن لأستاذنا فضيلة الدكتور أحمد السيد الكومي، د. القاسم - مطبعة دار الجيل بالقاهرة - ط: 1 سنة 1391هـ.
23 - معجم البلدان لياقوت الحموي (ت 626هـ.) - 5 مجلدات - دار صادر بيروت سنة 1376هـ.
24 - المفردات في غريب القرآن للراغب الأصبهاني (ت 502هـ.) الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية - المطبعة الفنية الحديثة.
25 - مقدمة في أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 828هـ.) - المطبعة السلفية بالقاهرة - ط: 2 سنة 1385هـ.(7/237)
الذكاة الشرعية وأحكامها
وحكم اللحوم المستوردة
بقلم الدكتور
صالح بن فوزان
الدراسات العليا بكلية الشريعة (الرياض)
والدكتوراه في أحكام الأطعمة
التدريس بالمعهد العلمي فكلية الشريعة فكلية أصول الدين ثم مديرا للمعهد العالي للقضاء المؤلفات:
1 - التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية.
2 - أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية.
3 - نقد كتاب الحلال والحرام في الإسلام.
4 - شرح العقيدة الواسطية.
5 - شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
6 - الخطب المنبرية في المناسبات العصرية.
7 - التعقيب على ما ذكره الخطيب في حق الشيخ محمد بن عبد الوهاب.(7/238)
الحمد لله رب العالمين أرسل إلى عباده رسولا يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث. فبلغ رسالة ربه وترك أمته على المحجة البيضاء. صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الذين تمسكوا بسنته وقاموا بنشر دينه حتى بلغ المشارق والمغارب. أما بعد.
فإنه لا يخفى ما لإطابة المطعم بتحري ما أحل الله وترك ما حرم الله من أثر بالغ على قلب الإنسان وسلوكه، ولهذا أمر الله جميع الناس بالأكل من الحلال الطيب حيث يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا} (1) فقوله: حلالا، أي محللا لكم تناولها ليس بنصب ولا سرقة ولا متحصل من معاملة محرمة كالربا والغش، وقوله: طيبا، أي ليس بخبيث كالميتة والدم ولحم الخنزير والخبائث كلها (2) .
وأمر المؤمنين خاصة أن يأكلوا من طيبات ما رزقهم حيث يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (3) فأمر المؤمنين بما أمر به المرسلين حيث يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} (4) فالأكل من الطيبات له آثار حميدة على النفوس والأبدان، لأن الطيبات تؤثر الخير والنفع للأبدان والعقول والأخلاق، والخبائث تؤثر شرا وضررا في الأبدان والعقول والأخلاق، وكل ما ينفع فهو طيب وكل ما يضر فهو خبيث.
__________
(1) سورة البقرة الآية 168
(2) تفسير السعدي (1-96) .
(3) سورة البقرة الآية 172
(4) سورة المؤمنون الآية 51(7/239)
أغذية الإنسانية تنقسم إلى قسمين:
* القسم الأول: كل طعام طاهر غير حيوان كالنبات والثمار الجامدات والمائعات فهذا القسم قد اتفقوا على أنه مباح ما لم يكن متنجسا أو ضارا (1) .
* القسم الثاني: حيوانات وهي على نوعين: برية وبحرية:
فالحيوانات البرية: هي ما لا يعيش إلا في البر، والأصل فيها الحل إلا ما نص الشارع على تحريمه.
وما يحل أكله منها نوعان:
* النوع الأول: حيوان أهلي كبهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم وكالدجاج.
* النوع الثاني: حيوان وحشي كالظباء والنعام والأرانب والطيور المباحة.
والحيوانات البحرية: هي ما لا يعيش إلا في الماء كالسمك والحيتان.
وكل هذه الحيوانات برية كانت أو بحرية يباح أكلها، إلا ما دل دليل من الشرع على تحريمه.
لكن الفرق بين النوعين أن الحيوانات البرية لا تحل بدون ذكاة، وأما الحيوانات البحرية فتحل بدون ذكاة؛ لأن الشارع قد فرق بينهما بذلك، قال تعالى في حيوانات البر: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} (2) ، وقال في حيوانات البحر: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} (3) ، والمراد بطعامه ميتته عند جمهور العلماء (4) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته (5) » ، فهذه النصوص تدل على التفريق بين حيوانات البر والبحر من حيث الذكاة وعدمها.
__________
(1) الإفصاح لابن هبيرة (2 \ 452) .
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سورة المائدة الآية 96
(4) تفسير الشنقيطي (1 \ 90) .
(5) رواه مالك والشافعي والأربعة وصححه ابن خزيمة.(7/240)
والذكاة في اللغة: تمام الشيء ومنه الذكاء في الفهم، يقال فلان ذكى، إذا كان تام العقل سريع القبول (1) .
وهي شرعا: ذبح أو نحر الحيوان المأكول بقطع حلقومه ومريئه أو عقر الممتنع (2) ، وقد أجمع العلماء على أنه لا يحل الحيوان المأكول غير السمك والجراد إلا بذكاة أو ما في معنى الذكاة، والحكمة فيها تطييب الحيوان المذكى بإسالة دمه الضار وذكر اسم الله عليه بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا (3) » وأنهر الدم معناه أساله وصبه فدل الحديث على أن القصد من الذكاة استخراج الدم الخبيث من الذبيحة والتنبيه على أن تحريم الميتة لبقاء دمها فيها. فإن الميتة إنما حرمت لاحتقان الرطوبات والفضلات والدم الخبيث فيها، فالذكاة لما كانت تزيل ذلك الدم والفضلات كانت سبب الحل، فليس السبب في تحريم الميتة مجرد موتها، لأن الموت يحصل بالذكاة أيضا. ولذلك يحل السمك والجراد بالموت بدون ذكاة لأنه ليس فيها فضلات ودم، وحرمت الميتة أيضا لأنها فقدت ذكر اسم الله عليها، لأن ذكر الله على الذبيحة يطيبها ويطرد الشيطان عنها. فالذكاة تطيب الحيوان حسيا بإخراج الدم والفضلات منه، ومعنويا يطرد الشيطان عنه بذكر الله عليه.
* * *
__________
(1) مختار الصحاح (1 \ 224) .
(2) الروض المربع بحاشيته (3 \ 354) .
(3) صحيح البخاري الشركة (2507) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1491) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) .(7/241)
وللذكاة الشرعية محل معين ولها شروط:
فأما محلها فيختلف باختلاف حالات الحيوان، فتارة يكون مقدورا عليه، وتارة يكون غير مقدور عليه، فإن كان مقدورا عليه فقد اتفقوا على أن الذكاة هو الحلق واللبة ولا يجوز الذبح في غير هذا المحل بالإجماع كما حكاه صاحب المغنى (1) ، وإنما اختصت الذكاة بهذا المحل لأنه مجمع العروق، فإذا وقعت الذكاة فيه انسكبت الدماء وأسرع زهوق النفس، فيكون ذلك أطيب للحم وأخف على الحيوان
__________
(1) ص: 44 جزء 11 مع الشرح الكبير.(7/241)
المذكى، والذكاة في الحلق تسمى ذبحا، وتكون فيما عدا الإبل، وفي النحر تسمى نحرا وتكون للإبل خاصة.
وإن كان الحيوان غير مقدور عليه لكنه متوحشا أصلا، أو توحش بعد استئناس أو تردي في بئر ونحوه فهذا تكون تذكيته بجرحه من أي موضع من بدنه بشيء حاد من سهم ونحوه لحديث رافع بن خديج رضي الله عنه قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فند بعير من إبل القوم ولم يكن معهم خيل فرماه رجل بسهم فحبسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما فعل منها هذا فافعلوا به هكذا (1) » ، ولحديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض قال: إذا أصبت بحده فكل وإذا أصبت بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ (2) » والمعراض بكسر الميم وسكون العين عصا رأسها محدد، وقال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} (3) .
فدلت هذه النصوص على أن ما لا يقدر عليه من الصيد وما في حكمه تكون تذكيته بإصابته في أي موضع من بدنه إذا مات من جراء تلك الإصابة قبل الوصول إليه بشروط واعتبارات مذكورة في باب الصيد من كتب الفقه. أما المقدور عليه ابتداء أو الصيد الذي تمكنا من إمساكه وفيه حياة مستقرة فإنه لا يحل إلا بتذكيته في المحل المعين وبشروط معتبرة، بعضها يعتبر في الذابح وبعضها يعتبر في آلة الذبح وبعضها يعتبر في صفة الذبح.
__________
(1) رواه الجماعة.
(2) متفق عليه
(3) سورة المائدة الآية 4(7/242)
فقد نص فقهاؤنا على أنه يشترط للذكاة أربعة شروط:
* أولها: أهلية المذكى، وإنما يكون أهلا للذكاة من توفر فيه شرطان: -
الشرط الأول: أن يكون عاقلا، لأن الذكاة يعتبر لها القصد كالعبادة، ومن لا عقل له كالمجنون وغيره لا يصح منه القصد؛ فيكون ذبحه بمثابة ما لو وقعت الحديدة بنفسها على حلق شاة فذبحتها.(7/242)
- الشرط الثاني: أن يكون الذابح ذا دين سماوي، مسلما كان أو كتابيا، قال تعالى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} (1) أي ما ذكاه المسلمون؛ لأن الخطاب لهم، وقال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2) وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، والمراد بطعامهم ذبائحهم قطعا؛ لأن غير الذبائح يحل منهم ومن غيرهم، وقد أجمع (3) العلماء على حل ذبائح أهل الكتاب، أما من عداهم من الكفار فلا تحل ذبائحهم على اختلاف نحلهم من وثنيين ومجوس ومرتدين، لمفهوم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (4) فمفهوم الآية تحريم ذبائح الكفار غير الكتابيين؛ لأنهم لا كتاب لهم، وهذا مجمع عليه، والحكمة في ذلك والله أعلم أن ذبح هؤلاء يكسب الذبيحة خبثا، قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (إن ذبح هؤلاء يكسب المذبوح خبثا أوجب تحريمه، لأن ذكر اسم الأوثان والكواكب والجن على الذبيحة يكسبها خبثا، وذكر اسم الله وحده يكسبها طيبا (5) فإن قيل: لماذا أبيحت ذبيحة الكتابي مع أنه كافر؟ فالجواب: أن هناك فرقا بين أهل الكتاب؛ لأن أهل الكتاب يؤمنون بالبعث والجزاء والنبوات في الجملة، أما عبدة الأوثان فهم يكفرون بالبعث والجزاء، ويكفرون بالرسل جميعا ويعادونهم، وأهل الكتاب في دينهم تحريم الميتة، والوثنيون يستحلون الميتة.
* الشرط الثاني: من شروط صحة الذكاة: يتعلق بآلة الذبح، فلا بد أن يتوفر فيه شرطان:
- الشرط الأول: أن تكون محددة تجرح بحدها لا بثقلها، كالسكين والسيف والحجر المحدد وغير ذلك.
- الشرط الثاني: ألا تكون سنا ولا ظفرا، فإذا توفر فيها هذان الشرطان حل الذبح بها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سنا أو ظفرا وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة (6) » .
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) انظر تفسير ابن كثير (2 \ 19) .
(4) سورة المائدة الآية 5
(5) أعلام الموقعين (2 \ 154) .
(6) رواه الجماعة.(7/243)
وما جرح بثقله لا تحصل به الذكاة لأن ذلك وقذ وقد حرم الله الموقوذة، وفي حديث عدي: قال «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض قال: إذا أصبت بحده فكل وإذا أصبت بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ (1) » والوقيذ ما قتل بمثقل.
* الشرط الثالث: قطع المريء والحلقوم فإن في الحلق أربعة أشياء المريء والحلقوم والودجان، والمريء هو مجرى الطعام والشراب، والحلقوم مجرى النفس، وبعض العلماء يشترط مع قطعهما قطع أحد الودجين، وهما عرقان في جانبي العنق يجري فيهما الدم، وفريق ثالث يرى أنه لا بد من قطع الأربعة المريء والحلقوم والدجين، ولعل الراجح في ذلك أنه يكتفى بقطع ثلاثة من هذه الأربعة من غير تعيين، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث قال: (والأقوى أن قطع ثلاثة من الأربعة يبيح سواء كان فيها الحلقوم أو لم يكن، فإن قطع الودجين أبلغ من قطع الحلقوم وأبلغ في إنهار الدم) (2) .
* الشرط الرابع: أن يذكر اسم الله تعالى على الذبيحة، قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} (3) {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} (4) {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} (5) {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (6) ففي هذه الآيات الكريمة أمر الله سبحانه المؤمنين أن يأكلوا من الذبائح ما ذكر عليه اسمه، ونهى عن الأكل من الذبائح التي لم يذكر عليها اسمه وسماه فسقا، وكذلك السنة المطهرة جاءت بالأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا (7) » ففيه دليل على اشتراط التسمية لحل الذبيحة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علق الإذن بالأكل منها على مجموع الأمرين وهما
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) الاختيارات الفقهية ص: 323.
(3) سورة الأنعام الآية 118
(4) سورة الأنعام الآية 119
(5) سورة الأنعام الآية 120
(6) سورة الأنعام الآية 121
(7) صحيح البخاري الشركة (2507) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1491) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) .(7/244)
إنهار الدم والتسمية والمعلق على شيئين لا يكتفي فيه بوجود أحدهما.(7/245)
وأكتفي بهذا العرض الموجز لشروط الذكاة لأنتقل إلى مسألة لها علاقة وطيدة بهذا الموضوع ألا وهي مسألة الذبائح المستوردة إلى بلادنا من البلاد الخارجية هل تتوفر فيها تلك الشروط فتكون مباحة، أو لا تتوفر فيها فتكون محرمة، لا شك أن قضية كهذه لها دور هام في حياة المسلمين، لأن الغذاء له قوة في التأثير على سلوك الإنسان وهذه اللحوم يتغذى بها أعداد كبيرة من المسلمين، وقد كثر التساؤل عن حكمها واختلفت أقوال المجيبين عن تلك التساؤلات اختلافا ربما زاد الأمر تعقيدا. والمستورد من اللحوم ينقسم إلى أربعة أقسام:
* القسم الأول: ما كان من اللحوم مستوردا من بلاد كافرة أهلها من غير أهل الكتاب أو ذبحه كافر غير كتابي في أي بلد فهذا حرام بالإجماع.
* القسم الثاني: ما كان مستوردا من بلاد كافرة أهلها أهل كتاب أو ذبحه كتابي في أي بلد وعلم في هذا النوع أنه ذبح على الطريقة الشرعية فهو حلال بالإجماع.
* القسم الثالث: ما كان مستوردا من بلاد كافرة أهلها أهل كتاب وعلم أنهم ذبحوه على غير الطريقة الشرعية فهذا النوع جمهور الأمة على تحريمه، وقد أفتى بحله بعض العلماء المتأخرين منهم القاضي ابن العربي المالكي محتجا بعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) حيث قال في كتابه، أحكام القرآن في تفسير هذه الآية: (هذا دليل قاطع على أن الصيد وطعام الذين أوتوا الكتاب من الطيبات التي أباحها الله وهو الحلال المطلق، ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها هل تؤكل معه أو تؤخذ منه طعاما فقلت: تؤكل لأنها طعامه مطلقا، وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه) انتهى كلامه وقد استند إلى هذه الفتوى الشيخ محمد عبده حيث قال: (2) (وأما الذبائح فالذي أراه
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) انظر تاريخ محمد عبده (1 \ 682) .(7/245)
أن يأخذ المسلمون في تلك الأطراف بنص كتاب الله تعالى في قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) وأن يعولوا على ما قاله الإمام الجليل أبو بكر بن العربي المالكي من أن المدار على أن يكون ما يذبح مأكول أهل الكتاب قسيسهم وعامتهم ويعد طعاما لهم كافة، انتهى.
وقد أحدثت هذه الفتوى من الشيخ محمد عبده ضجة كبرى بين العلماء في وقته ما بين مستنكر لها ومؤيد لها، وممن أيدها وتحمس لها تلميذه محمد رشيد رضا في مجلة المنار وتفسير المنار (2) ويرد على هذه الفتوى من وجوه:
* الوجه الأول: أن ابن العربي قد نقض فتواه هذه حيث قال في موضع آخر من تفسيره (3) (فإن قيل: فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس، فالجواب: أن هذا ميتة وهي حرام بالنص، وإن أكلوها فلا نأكلها نحن كالخنزير فإنه حلال لهم - كذا قال - ومن طعامهم وهو حرام علينا) انتهى، وكلامه هنا واضح في أنه يرى تحريم ما ذكاه أهل الكتاب على غير الذكاة الشرعية كالخنق وحكم الرأس وأنه لا عبرة بكونه يعتبرونه طعاما لهم.
* الوجه الثاني: أن المراد بطعام أهل الكتاب الذي أباح الله لنا أكله ما ذبحوه على الطريقة الشرعية خاصة، أما ما ذبحوه على غير الطريقة الشرعية فلا يحل ولو استحلوه هم فإنهم استحلوا لحم الخنزير ولم يعتبر ذلك من طعامهم الذي أباحه الله لنا.
* الوجه الثالث: أن المسلم لو ذبح على غير الطريقة الشرعية لم تحل ذبيحته، فكيف تحل ذبيحة الكتابي وهي على غير الطريقة الشرعية، وكيف يتشدد في ذبيحة المسلم ويتساهل في ذبيحة الكتابي، والمسلم أعلى من الكافر.
* القسم الرابع: من اللحوم المستوردة ما كان مستوردا من بلاد أهل الكتاب ولم تعلم كيفية تذكيته على وجه اليقين، بينما تدور حوله شكوك قوية في أنه يذبح على غير
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) انظر مجلة المنار (6 \ 771، 812، 927) وتفسير المنار (6 \ 200-217) .
(3) تفسر آيات الأحكام لابن العربي (2 \ 553) .(7/246)
الطريقة الشرعية، فهذا قد اختلفت فيه آراء العلماء المعاصرين على قولين:
القول الأول: أنه مباح (1) عملا بالآية الكريمة: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2) والأصل في هذه الذبائح الإباحة إلا إذا علمنا أنها ذبحت على غير الطريقة الشرعية.
القول الثاني: أن هذا النوع من الذبائح حرام، لأن الأصل في الحيوانات التحريم، فلا يحل شيء منها إلا بذكاة شرعية متيقنة تنقلها من التحريم إلى الإباحة، وحصول الذكاة على الوجه الشرعي في هذه اللحوم مشكوك فيه فتبقى على التحريم؛ لأنه اشتهر من عادتهم أو عادة أكثرهم الذبح بالخنق أو بضرب الرأس أو بالصعق الكهربائي، ومن أدلة هؤلاء قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل فإن وجدت معه كلبا آخر فلا تأكل (3) » فالحديث يدل على أنه إن وجد مع كلبه المعلم كلبا آخر أنه لا يأكله تغليبا لجانب الحظر، فقد اجتمع في هذا الصيد مبيح وهو إرسال الكلب المعلم إليه مع التسمية، وغير مبيح وهو اشتراك الكلب الآخر الذي لم يرسله لذا منع الرسول صلى الله عليه وسلم من أكله (4) وكذلك اللحم المستورد من الخارج تردد بين شيئين مبيح وحاظر فيغلب جانب الحظر؛ لأنه لا يعلم كيف ذبح، مع كثرة ذبحه بالطرق غير الشرعية حسب النشرات والأخبار التي تنشر في الجرائد والمجلات، وهذا القول هو الذي يترجح عندي لقوة مستنده وليس مع مخالفيه من مستند سوى التمسك بعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (5) وهذا العموم يخصص بالنصوص التي تدل على أنه إذا تنازع حاظر ومبيح غلب جانب الحظر، وقولهم الأصل في ذبائح أهل الكتاب الحل يعارض: بأصل أقوى منه وهو أن الأصل في الذبائح التحريم إلا ما ذبح على الطريقة الشرعية، ولهذا يقول الفقهاء لو اشتريت ميتة بمذكاة لم يأكل من الاثنين، وأيضا يستبعد أن تأتي الذكاة الشرعية على جميع هذه الكميات
__________
(1) ومجلة الأزهر مجلد 4 جزء 1 ص: 26.
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) صحيح البخاري الوضوء (175) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن الترمذي الصيد (1470) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4263) ، سنن أبو داود الصيد (2847) ، سنن ابن ماجه الصيد (3208) ، مسند أحمد بن حنبل (4/256) ، سنن الدارمي الصيد (2002) .
(4) انظر في ذلك رسالة مطبوعة للشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد - رحمه الله -.
(5) سورة المائدة الآية 5(7/247)
الهائلة التي تذبح وتغلف آليا، لا سيما وأنه يوجد من بينها أحيانا بعض الدجاج برءوس لم يقطع شيء من رقابها ويجب على المسلمين عموما وولاة أمورهم خصوصا أن يهتموا بهذا الجانب غاية الاهتمام، وأن يعملوا الاحتياطات الكفيلة لتطبيق الذكاة الشرعية على تلك اللحوم ولو كلفهم ذلك بعض المشقة، حفاظا على أطعمة المسلمين من أن تختلط بالمحرمات التي تؤثر على أخلاقهم وسلوكهم وصحتهم، هذا ونسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويجنب المسلمين كل ما يضر بهم إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/248)
حكم الشهادة تحملا وأداء
بقلم الدكتور
عبد الله بن محمد الزبن
لما كانت الشهادة دليل حق، وحجة حقيقية أمام القضاء لإظهار الحقوق لأهلها، ونورا جليا للقضاة يهتدون به في إحقاق تلك الحقوق، ودفع المظالم، ورفعها عن المظلومين، لأمر الله سبحانه وتعالى بها في مواضع عديدة من القرآن الكريم حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (1) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (2) .
وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (3) ، وأداء الشهادة على الوجه المطلوب من العدل المأمور به.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} (4) .
لما كانت الشهادة كذلك اتفق جمهور الفقهاء على أن تحمل الشهادة وأداءها من فروض الكفايات، فإذا قام بها من اكتفي به فيها شرعا سقط الفرض عن الباقين، وإن امتنع الجميع عن الإجابة إلى التحمل أو الأداء عند طلب صاحب الحق أو عند خوف فوات الحق
__________
(1) سورة النساء الآية 135
(2) سورة المائدة الآية 8
(3) سورة الأنعام الآية 152
(4) سورة المعارج الآية 33(7/249)
أتموا جميعا حيث تتعين الشهادة حينئذ في حقهم، ولأن أداء الشهادة أمانة المشهود له في ذمة الشاهد وهي تقتضي الأداء.
قال تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (1) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (2) .
ومحل إثم الممتنع إذا لم يكن عليه ضرر وكانت شهادته مفيدة نافعة، فإن كان عليه ضرر في التحمل أو الأداء لم يلزمه لقوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} (3) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار (4) » . . ولأنه لا يلزمه أن يضر بنفسه لنفع غيره.
وإذا كان ممن لا تقبل شهادته لم يجب عليه؛ لأن مقصود الشهادة لا يحصل منه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) سورة النساء الآية 58
(3) سورة البقرة الآية 282
(4) أخرجه ابن ماجه في سننه عن ابن عباس، وجاء في تلك السنن بأنه ذكر في الزوائد أن في إسناده جابر الجعفي، متهم. وأخرجه ابن حنبل في مسنده، وابن ماجه عن إسحاق بن يحيي بن الوليد عن عبادة بن الصامت بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه سلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار، وقيل بأن في حديث عبادة هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع، لأنه قال الترمذي، وابن عدي بأن إسحاق بن الوليد لم يدرك عبادة بن الصامت، انظر: سنن ابن ماجه جـ2 ص784، مسند الإمام أحمد جـ5 ص327، موطأ مالك جـ2 ص745، 805، مختصر الجامع الصغير للمناوي جـ2 ص363، فيض القدير شرح الجامع الصغير جـ6 ص431، 432(7/250)
وقد يتعين الأداء على اثنين بأن لم يشهد على الحق سواهما، أو يكون قد شهد عليه جماعة لكنهم غابوا، أو ماتوا، أو كانوا فساقا إلا الاثنين فإنه يتعين عليهما الأداء إذا دعيا إليه، لأن المقصود لا يحصل إلا بهما (1) .
وقد استدل جمهور الفقهاء على تحول الشهادة وأدائها من فرض كفاية إلى فرض عين إذا طلبها صاحب الحق، أو خيف فوات حقه بالكتاب والسنة.
__________
(1) المغني لابن قدامة جـ9 ص147، جواهر العقود جـ2 ص435، البحر الرائق جـ7 ص57.(7/251)
أولا: الكتاب:
1 - مما استدلوا به من الكتاب قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (1) ففي هذه الآية الكريمة نهى الله سبحانه وتعالى الشهود عن الامتناع عن أداء الشهادة عندما يدعون لذلك حيث تتعين، لأنها وسيلة لإقامة العدل وإحقاق الحق. والله هو الذي فرضها كي يلبيها الشهداء عن طواعية تلبية وجدانية بدون تضرر أو تلكؤ، وبدون تفضل كذلك على المتعاقدين أو أحدهما، إذا كانت الدعوة من أحدهما أو كليهما (2) . وبما أن النهي عن الشيء أمر بضده وضد الامتناع الأداء، لذا يكون النهي عن الامتناع عن أداء الشهادة أمرا بأدائها عند الدعوة إليها.
هذا وقد اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يأب الشهداء عن تحمل الشهادة وإثباتها في الكتاب، فإذا دعوا للتحمل فعليهم الإجابة ليتحملوها، ويكون اسم الشهداء مجازا فمن سيتصف، ويكون الإباء عن التحمل حينئذ مكروها كراهة تنزيه على أن النهي حينئذ يدل على الكراهة التنزيهية، ومرجعها خلاف الأولى، لأن التحمل لما فيه من إعانة
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) تفسير ابن كثير جـ1 ص335، تفسير: في ظلال القرآن جـ1 ص494، ط السابعة.(7/251)
المسلم على حفظ حقه أولى. وسياق الآية لا يأبى هذا التأويل وهو قرينة المجاز.
وبهذا قال ابن عباس، وقتادة، والربيع بن أنس.
قال القرطبي معقبا على أقوال المفسرين في هذه الآية: وقد يستلوح من هذه الآية دليل على أنه يجوز للإمام أن يقيم للناس ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم، فلا يكون لهم شغل إلا تحمل حقوق الناس حفظا لها، وإن لم يكن ذلك ضاعت الحقوق وبطلت. فيكون المعنى: ولا يأب الشهداء إذا أخذوا حقوقهم أن يجيبوا، فإن قيل: هذه شهادة بالأجر، قلنا: إنما هي شهادة خالصة من قوم استوفوا حقوقهم من بيت المال، وذلك كأرزاق القضاة والولاة وجميع المصالح التي تعن للمسلمين وهذه من جملتها.
الثاني: لا يأب الشهداء عن أداء الشهادة إذا كانت قد حصلت عندهم بالتحمل ودعوا لأدائها، فيكون المراد نهي مسمى الشهداء عن الإباء، وحقيقة الشهداء من اتصفوا بالشهادة، ولا اتصاف قبل الدعاء إلا بالتحمل، فيلزم كون النهي عن إباء الأداء مستعملا في حقيقته.
وبه قال مجاهد، وابن جبير، والسدي، وغيرهم.
اعتراض:
ويعترض على هذا القول بعدم التسليم به، لأن الله تعالى قال:(7/252)
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (1) فسماهما شهيدين وأمر باستشهادهما قبل أن يستشهدا، لأنه لا خلاف أن حال الابتداء مرادة بهذا اللفظ، وهو كما في قوله تعالى: {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2) سورة البقرة آية 230، فسماه زوجا قبل حصول الزواج، وإنما يلزم الشاهد إثبات الشهادة ابتداء، ويلزمه إقامتها على طريق الإيجاب إذا لم يوجد من يشهد غيره، وعلى هذا فإن النهي لا يقتصر على نهي الشهود عن الإباء، بل يشمل معها حالة التحمل (3) .
الثالث: لا يأب الشهداء عنهما معا. أي لا يأب الشهداء عن تحمل الشهادة إذا حملوها، ولا يأبوا عن إقامتها إذا تحملوها.
وبه قال الحسن البصري، وهو قول آخر لابن عباس، قال في كشاف القناع: "وتطلق الشهادة على التحمل والأداء لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (4) وقوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} (5) الآية.
قال القرطبي في تفسيره: قال ابن عطية: "والآية كما قال الحسن جمعت بين أمرين على جهة الندب، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والأمن من تعطيل الحق فالمدعو مندوب، وله أن يتخلف لأدنى عذر، وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له. وإن كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من الوجوب، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها، لا سيما إن كانت محصلة وكان الدعاء
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 230
(3) أحكام القرآن للجصاص جـ1 ص520.
(4) سورة البقرة الآية 282
(5) سورة البقرة الآية 283(7/253)
إلى أدائها، فإن هذا الظرف آكد، لأنها قلادة في العنق تقتضي الأداء (1) .
الترجيح:
الراجح أن الآية الكريمة تحتمل المعنى الثاني، لأن حقيقة الشهداء من اتصفوا بالشهادة، فيكون النهي عن الإباء لمن اتصف بالشهادة حقيقة إذا دعي لأدائها، لأنه لا اتصاف بالشهادة قبل الدعاء لأدائها إلا بتحملها، فيلزم كون النهي عن إباء الأداء، لما فيه من المحافظة على حقيقة اللفظ، والأداء المفروض لا يكون إلا عند الحاكم ففرض الله سبحانه وتعالى على المتحمل أن يذهب إلى الحاكم لأداء ما تحمله من شهادة (2) .
وقد جرت العادة بأن المتعاقدين هما اللذان يحضران للشهود ليحصل التحمل، ولا يلزم الشهود الحضور إليهما، بينما في الأداء يلزم الشهود الحضور إلى القاضي لتأدية شهادتهم مما يجعل النهي عن إباء الأداء هو المراد.
2 - قوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (3) تفيد الآية الكريمة نهي الشاهد عن إخفاء الشهادة وعدم إظهارها، فيكون أمرا بالإظهار، لأن النهي يستلزم الأمر بالضد الذي لا يتحقق الامتناع إلا به وهو الإظهار، والأمر يفيد الوجوب، وبما أن الوعيد الشديد المقترن بالنهي عن الكتمان لا يكون إلا عند الدعوة إلى الشهادة لإحياء الحق، أو عند الخوف من فوات الحق، لذا كان الأمر مفيدا للوجوب عند هاتين الحالتين.
وقال ابن عباس: (على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد، ويخبر حيثما
__________
(1) تفسير القرطبي جـ3 ص398.
(2) تفسير ابن كثير جـ1 ص335، شرح فتح القدير على الهداية جـ7 ص366.
(3) سورة البقرة الآية 283(7/254)
استخبر، وقال: ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبر بها لعله يرجع أو يرعوى (1)) .
ومعنى آثم قلبه: أي فاجر قلبه، وهذه كقوله تعالى: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} (2) سورة المائدة آية: 106.
ونهيه تعالى في قوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} (3) يحرم بموجبه كتمان الشهادة عن القاضي، فيكون الإظهار للقاضي وهو الأداء فرضا على الشهود؛ لأنه الضد الذي لا يتحقق الانتهاء عن المحرم الذي هو الكتمان إلا به.
وأكد سبحانه وتعالى التحريم المفاد بالنهي بقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (4) وهو تأكيد في تأكيد، لأن قوله تعالى: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (5) تأكيد، وإضافة الإثم إلى القلب الذي هو أشرف أعضاء البدن ورئيسها تأكيد في تأكيد، لأن القلب محل اكتساب الآثام والأجور والآلة التي وقع بها أداؤها لما عرف أن إسناد الفعل إلى محله أقوى من الإسناد إلى كله، ولأنه هو محل الكتمان فهو محل المعصية بتمامها هنا، بخلاف سائر المعاصي التي تتعلق بالأعضاء الظاهرة فإنها وإن كانت مسبوقة بمعصية القلب وهو الهم المتصل بالفعل فليس هو محلا لتمامها.
__________
(1) تفسير القرطبي جـ3 ص415.
(2) سورة المائدة الآية 106
(3) سورة البقرة الآية 283
(4) سورة البقرة الآية 283
(5) سورة البقرة الآية 283(7/255)
ثانيا: السنة:
1 - واستدلوا من السنة بما روى مسلم والنسائي والبيهقي عن عبادة بن الوليد عن أبيه عن جده قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر(7/255)
واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، ونقول الحق حيث كنا لا نخاف في الله لومة لائم (1) » .
وجه الدلالة:
أن هذا الحديث الشريف يفيد التزام الصحابة رضي الله عنهم بالتزامات سامية منها الالتزام بالقول الحق وتبليغه، والشهادة بالحق قول به سواء كان ذلك عند تحملها أو عند أدائها.
2 - وبما أخرج مسلم ومالك وأحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن زيد بن خالد الجهني. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بخير الشهداء، الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها (2) » .
قال النووي: "وفي المراد بهذا الحديث تأويلان: أصحهما وأشهرهما تأويل مالك وأصحاب الشافعي، أنه محمول على من عنده شهادة لإنسان بحق ولا يعلم ذلك الإنسان أنه شاهد، فيأتي إليه فيخبره بأنه شاهد له.
الثاني: أنه محمول على شهادة الحسبة وذلك في غير حقوق الآدميين المختصة بهم.
__________
(1) النص لمسلم والنسائي، انظر صحيح مسلم جـ3 ص1470، سنن النسائي جـ7 ص138، 139، السنن الكبرى للبيهقي جـ10 ص159.
(2) صحيح مسلم جـ3 ص1344 الطبعة الأولى لدار إحياء التراث العربي تحقيق وتعليق محمد عبد الباقي، سنن أبي داود جـ3 ص304 نشر دار إحياء السنة النبوية، الموطأ جـ2 ص720 ط البابي الحلبي وشركاه، جامع الترمذي جـ4 ص544، منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال بهامش مسند الإمام أحمد جـ3 ص49 ط المكتب الإسلامي ودار الصياد ببيروت، سبل السلام جـ4 ص126 ط مطبعة المشهد الحسيني، نيل الأوطار مع المنتقى جـ8 ص344، الإلمام بأحاديث الأحكام ص520، ط أولى 1383-1963م.(7/256)
وحكي تأويل ثالث: أنه محمول على المجاز والمبالغة في أداء الشهادة بعد طلبها لا قبله كما يقال: الجواب يعطى قبل السؤال. أي يعطى سريعا عقب السؤال من غير توقف (1) ".
وقيل: إن ذلك في الأمانة والوديعة ليتيم لا يعلم مكانها غيره فيخبر بما علم من ذلك (2) .
وعندي أن هذا القول ليس قولا مستقلا وإنما هو جزئية من مفهوم تأويل النووي الأول. لكن روي ما يدل على ذم الشهادة قبل السؤال وهو ما روى مسلم وأحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير أمتي القرن الذين بعثت فيهم ثم الذين يلونهم، - والله أعلم أذكر الثالث أم لا - قال: ثم يخلف قوم يحبون السمانة (4) » .، فإنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر من يؤدون الشهادة قبل أن تطلب منهم، وهو أمر مكروه ما لم تدع الحاجة إليه خشية فوات أو ضياع الحق.
قال النووي: قال العلماء: (الجمع بينهما أن الذم في ذلك لمن بادر بالشهادة في حق لآدمي هو عالم بها قبل أن يسألها صاحبها، وأما المدح فهو لمن كانت عنده شهادة لآدمي ولا يعلم بها صاحبها فيخبره بها ليستشهده بها عند القاضي إن أراد. ويلحق به من كانت عنده شهادة حسبة، وهي الشهادة بحقوق الله تعالى فيأتي القاضي ويشهد بها بدون أن يطلب منه ذلك، وهذا ممدوح إلا إذا كانت الشهادة بحد ورأى
__________
(1) صحيح مسلم جـ3 ص1344، صحيح مسلم بشرح النووي جـ12 ص17.
(2) نيل الأوطار مع المنتقى جـ7 ص334.
(3) رواه البخاري ومسلم وانظر: صحيح مسلم جـ4 ص1964 واللفظ له
(4) (3) يشهدون قبل أن يستشهدوا(7/257)
المصلحة في الستر. وقال: وهو مذهب أصحابنا، ومالك، وجماهير العلماء، هو الصواب) .
وقيل بأن حديث: «ثم يخلف قوم يحبون السمانة يشهدون قبل أن يستشهدوا (1) » محمول على شهادة الزور (2) .
د. عبد الله بن محمد الزبن
- ولد بالداهنة سنة 1362هـ.
- درس مرحلة الليسانس بكلية الشريعة بالرياض.
- حصل على درجة الماجستير في الفقه المقارن من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر سنة 1397هـ.
- وحصل على درجة الدكتوراه في الفقه المقارن من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر سنة 1402هـ.
- يشغل حاليا منصب مدير عام الإدارة بديوان المظالم.
__________
(1) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2534) ، مسند أحمد بن حنبل (2/228) .
(2) المجموع الجليلة ص349، تلخيص الجبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير جـ4 ص204.(7/258)
مشروعية استملاك
العقار للمنفعة العامة
بقلم الدكتور
عبد العزيز محمد عبد المنعم
1) ولد بالزلفى سنة 1352هـ.
2) درس بكلية الشريعة بالرياض، وحصل على شهادتها عام 1376هـ.
3) عمل مدرسا بمعهد المجمعة العلمي ثم مديرا لمعهد الرياض العلمي، ثم مديرا للمعاهد العلمية.
4) حصل على الماجستير في الشريعة من كلية الشريعة والقانون، جامعة الأزهر عام 1393هـ.
5) حصل على الدكتوراه في الفقه الإسلامي المقارن من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر عام 1397هـ.
6) عين وكيلا للرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أول عام 1398هـ. ولا يزال.(7/259)
نصوص الشريعة الإسلامية تقضى باحترام الملكية الفردية وتحريم الاعتداء عليها، أو المساس بها بغير رضا المالك، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) .
وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: يا أيها الناس أي يوم هذا؟
قالوا: يوم حرام.
قال: فأي بلد هذا؟
قالوا: بلد حرام.
قال: فأي شهر هذا؟
قالوا: شهر حرام.
قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، فأعادها مرارا، ثم رفع رأسه فقال: اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ (2) » .
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) صحيح البخاري الحج (1739) ، مسند أحمد بن حنبل (1/230) .(7/260)
فهذه النصوص وأمثالها واضحة وصريحة في حرمة تناول مال الغير بغير رضاه، ولكن هذه النصوص ليست على إطلاقها بإجماع الفقهاء، فقد خص الدليل منها جواز انتزاع الحق من صاحبه بغير رضاه في أحوال متعددة منها غايته دفع ضرر خاص كما في الشفعة، وبيع مال المدين لسداد دينه، ومنها ما الغرض منه منفعة العامة كمحتكر الطعام في المسغبة يجبر على بيعه بثمن المثل، وكالعقار يحتاج إليه لتوسعة مسجد أو طريق أو غيرهما مما يتعلق بمنفعة العموم، فيجبر مالكه على بيعه وتدفع له القيمة، ويعبر عن هذا الأخير، بنزع ملكية العقار للمنفعة العامة، وفي هذا البحث نورد بعض الأدلة على جواز استملاك العقار للمنفعة العامة ووقوعه.
فقد ثبت في السنة الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم اشترى عقارا ورصده للمنافع العامة، وثبت أن الخلفاء الراشدين استملكوا بيوتا، وسعوا بها المسجد الحرام، ومسجده صلى الله عليه وسلم، ومن رضى من أهلها دفعوا له القيمة، ومن امتنع رصدوا له القيمة، يأخذها متى شاء، وهدموا منزله.
روى البخاري في صحيحه عن ابن شهاب في قصة هجرته صلى الله عليه وسلم وبناء مسجده بالمدينة، قال «ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: هذا إن شاء الله المنزل ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: لا بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا (1) » .
وجاء في الطبقات الكبرى لابن سعد: أنه ابتاعه منهما بعشرة دنانير وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك ثم أخذ يصف موضع المسجد قبل استملاكه فقال: وكان جدارا مجدرا ليس عليه سقف، وقبلته إلى بيت المقدس، وكان أسعد بن زرارة بناه، فكان يصلى بأصحابه، ويجمع بهم فيه الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل الذي في الحديقة وبالغرقد الذي فيه أن يقطع، وأمر باللبن فضرب، وكان في المربد قبور جاهلية، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3906) ، مسند أحمد بن حنبل (4/176) .(7/261)
فنبشت، وأمر بالعظام أن تغيب، وكان في المربد ماء مستنجل فسيروه حتى ذهب، وأسسوا المسجد.
فهذا أول استملاك للعقار في الإسلام لمنفعة عامة، وفيه كما يقول ابن القيم: "دليل على جواز بيع عقار اليتيم، وإن لك يكن محتاجا إلى بيعه للنفقة، إذا كان في البيع مصلحة للمسلمين عامة كبناء مسجد أو سور أو نحوه، ويؤخذه من ذلك أيضا بيعه إذا عوض عنه بما هو خير له منه".
* * *
وفي أول أيامه صلى الله عليه وسلم في المدينة لم يكن المال متوفرا في بيت المال، وكانت تطرأ حالات يحتاج فيها المسلمون إلى نزع ملكية بعض العقار إما لتوسعة مسجد أو للإرفاق بهم بتوفير الماء، وتأمين مصادره، فكان عليه الصلاة والسلام يرغب ذوي المال والمقدرة من أصحابه على المشاركة في أعمال الخير والمسارعة إلى أعمال البر، فنجده صلى الله عليه وسلم حينما قدم المهاجرون المدينة واستنكروا ماءها «وكانت لرجل من بني غفار عين يقال لها "رومة " وكان يبيع منها الماء القربة بمد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تبيعنيها بعين في الجنة؟
فقال: يا رسول الله، ليس لي ولا لعيالي غيرها.
فحينئذ يعرض عليه الصلاة والسلام هذا الثواب الآجل على الصحابة فيقول: "من يشترى بئر رومة، فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟ فيشتريها عثمان بن عفان رضي الله عنه» .
وعندما يضيق مسجده صلى الله عليه وسلم بالمصلين، يندب القادر من أصحابه إلى شراء ما يوسع به المسجد فيشتريه عثمان أيضا. روى الترمذي في صحيحه عن ثمامة بن حزن القشيري قال: «شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان، فقال ائتوني بصاحبيكم اللذين ألباكم علي: فجيء بهما، قال: فأشرف عليهم عثمان فقال: أنشدكم بالله والإسلام، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشترى بئر رومة فيجعل دلوه مع المسلمين بخير له منها في الجنة، فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم(7/262)
تمنعوني أن أشرب منها حتى أشرب من ماء البحر؟ قالوا: اللهم نعم. فقال: أنشدكم بالله والإسلام، هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشترى بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة: فاشتريتها من صلب مالي (1) » .
فهذه الأحاديث والآثار تبين لنا هديه صلى الله عليه وسلم في الاستملاك للمنافع العامة، فهو يرغب صاحب الملك المراد تخصيصه لمنفعة العموم بما سيحصل عليه من الأجر، إذا هو تنازل عن حقه لمصلحة العامة، فإن كان له عذر من فقر أو حاجة، بأن كان ملكه هذا مصدرا لرزقه عرض الأمر على الملأ، ودعا أصحاب المال إلى الإنفاق في سبيل الله، وبين لهم ما ينتظرهم من جزاء في الجنة إذا هم فعلوا ما أرشدهم إليه، وفي موضع مسجده صلى الله عليه وسلم لم يقبل تنازل أربابه حينما قالوا له: "لا نطلب ثمنه إلا من الله عز وجل" لأنه كان ملكا ليتيمين، واليتيم يجب معاملته دائما بما هو خير، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) والنبي عليه الصلاة والسلام كان خلقه القرآن، لذا نراه يأمر أبا بكر الصديق رضي الله عنه بأن يدفع عشرة دنانير ثمنا لما أخذه.
وإذا كانت البقعة المراد تخصيصها للمنفعة العامة، ليست ملكا لأحد بعينه، ولكنها حريم لعامر يستعملها المجاورون لها، ويتوسعون بها ويدفنون موتاهم بناحية منها، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يرهق أصحابها ويأخذها منهم قهرا، بل يندبهم إلى ما يريد، ويطلبها منهم بالحسنى، لأنه عليه الصلاة والسلام كان رحيما بأمته، رفيقا بهم في كل الأحوال، روى ابن زبالة عن عباس بن سهل عن أبيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بني ساعدة فقال: إني قد جئتكم في حاجة، تعطوني مكان مقابركم، فأجعلها سوقا وكانت مقابرهم ما حازت دار ابن أبي ذئب إلى دار زيد بن ثابت، فأعطاه بعض القوم، ومنعه بعضهم، وقالوا: مقابرنا ومخرج نسائنا، ثم تلاوموا، فلحقوه وأعطوه إياه، فجعله سوقا» .
__________
(1) سنن الترمذي المناقب (3703) ، سنن النسائي الأحباس (3608) .
(2) سورة الإسراء الآية 34(7/263)
فهذه أربعة مواقف ثبت فيها نزع ملكية العقار بإذنه صلى الله عليه وسلم، وخصصت للمنافع العامة.
وفي عهد الخلفاء الراشدين، نجد الحاجة تتجدد وتدعوه إلى توسعة مسجده صلى الله عليه وسلم، وتوسعة المسجد الحرام، فيقوم الخليفة عمر رضي الله عنه بشراء الدور المحيطة بمسجده صلى الله عليه وسلم فيما عدا حجرات أمهات المؤمنين، فلا يعرض لها، وأما غيرها من الدور فهو يقومها، ويدفع لأربابها قيمتها رضوا أم كرهوا، ثم يهدمها، ويوسع بها المسجد، وقد توقف في أخذ دار العباس بن عبد المطلب لمكانته من النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن داره هذه قطيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرض عليه عمر حاجة المسجد لها، ويرغبه في التنازل عنها مقابل تعويض عادل، ويخيره بين أشياء ويقول له: "يا أبا الفضل، إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم، وقد ابتعت ما حوله من المنازل، نوسع به على المسلمين في مسجدهم إلا دارك، وحجر أمهات المؤمنين، فأما حجر أمهات المؤمنين فلا سبيل إليها، وأما دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين أوسع بها في مسجدهم.
فقال العباس: ما كنت لأفعل.
قال فقال له عمر: اختر منى إحدى ثلاث: إما أن تبيعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين، وإما أن أخطك حيث شئت من المدينة وأبنيها لك من بيت مال المسلمين، وإما أن تصدق بها على المسلمين فتوسع بها من مسجدهم" قال العباس: اللهم لا آخذ لها ثوابا، وقد تصدقت بها على جماعة المسلمين، فقبلها عمر رضي الله عنه منه، فأدخلها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى أن عمر خط للعباس داره التي هي اليوم وبناها من بيت مال المسلمين.
ونقل السمهودي في تاريخ المدينة عن يحيى بن سعيد "أن عمر بن الخطاب لما زاد في المسجد دعا من كان له إلى جانبه فنزل فقال: اختاروا مني بين ثلاث خصال: إما البيع فأثمن، وإما الهبة فأشكر، وإما الصدقة على مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابه الناس ".(7/264)
وكما دعت الحاجة إلى توسعة المسجد النبوي، فقد ضاق المسجد الحرام بالمصلين والطائفين، فاشترى الخليفة عمر رضي الله عنه الدور المحيطة به، ودفع أقيامها لأهلها ومن أبى منهم قوم داره ثم رصد أثمانها في خزانة الكعبة، وألزمهم بإخلائها وهدمها، وقال: إن البيت لم ينزل عليكم، وإنما نزلتم عليه فهو فناؤه.
ذكر أبو الوليد الأزرقي في تاريخ مكة بسنده عن ابن جريج قال: " كان المسجد الحرام ليس عليه جدران محاطة، إنما كانت الدور محدقة به من كل جانب، غير أن بين الدور أبوابا يدخل منها الناس من كل نواحيه، فضاق على الناس فاشترى عمر بن الخطاب رضي الله عنه دورا فهدمها، وهدم على من قرب من المسجد، وأبى بعضهم أن يأخذ الثمن، وتمنع من البيع، فوضعت أثمانها في خزانة الكعبة حتى أخذوها بعد، ثم أحاط عليه جدارا قصيرا، وقال عمر: إنما نزلتم على الكعبة فهو فناؤها، ولم تنزل الكعبة عليكم، ثم كثر الناس في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه، فوسع المسجد، واشترى من قوم، وأبى آخرون أن يبيعوا، فهدم عليهم، فصيحوا به، فدعاهم وقال: إنما جرأكم علي حلمى عنكم، فقد فعل بكم عمر هذا فلم يصيح به أحد، فاحتذيت على مثاله، فصيحتم بي، ثم أمر بهم إلى الحبس، حتى كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فتركهم ".
* * *
وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه الراشدون، متوخين في عملهم هذا خير الأمة، ومصلحة عامة الناس، فهم يقدمون منفعة العموم على مصلحة الفرد، ودون أن يضار الأفراد بشيء، إذ أن من أخذت داره عوض عنها بالقيمة أو بدار أخرى.
وهذا الصنيع داخل تحت القاعدة المشهورة: يتحمل الضرر الخاص لأجل رفع الضرر العام. ويعلل الشاطبي لذلك فيقول: "لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة، بدليل النهى عن تلقي السلع، وعن بيع الحاضر للبادي، واتفاق السلف على تضمين الصناع مع أن الأصل فيهم الأمانة، وقد زادوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره مما رضي أهله ومما لا يرضون، وذلك يقضي بتقديم مصلحة(7/265)
العموم على مصلحة الخصوص، لكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة".
وقد اقتفى الخلفاء والأئمة سبيل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن، فابن الزبير رضي الله عنه يشتري الدور المجاورة للحرم المكي ويضمها إليه، ويوسعه بها، وكذلك الوليد بن عبد الملك يكلف واليه على المدينة عمر بن عبد العزيز بإعادة بناء المسجد النبوي، ويشترى البيوت المجاورة له، ويضيفها إليه.
ومن بعد هؤلاء أبو جعفر المنصور - كما ذكر الأزرقى - اشترى من الناس دورهم اللاصقة بالمسجد الحرام من أسفله حتى وضعه إلى منتهاه اليوم.
ولقد عد الفقهاء من قبيل ذلك نقل شهداء أحد من قبورهم عندما أراد معاوية إجراء عين الكظامة فنادى مناديه بالمدينة: من كان له قتيل بأحد فليشهد.
قال ابن عرفة "إنما فعل معاوية ذلك لمصلحة عامة حاجية كبيع الحبس لتوسيع جامع الخطبة".
وهذه الأعمال سواء منها إكراه البعض على بيع دورهم لمنفعة عامة كزيادة في مسجد ضاق على المصلين، أو نبش الأموات، ونقل رفاتهم إلى أماكن أخرى، هذه الأعمال مما لا يخفى، وكان الصحابة ثم التابعون، ثم تابعوهم موجودين، ولم يظهر من أحد منهم خلاف أو اعتراض على ذلك. يقول السمهودي في تاريخ المدينة " روى يحيى بن سعيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: لما ولي عثمان بن عفان سنة أربع وعشرين، كلمه الناس أن يزيد في مسجدهم، وشكوا إليه ضيقه يوم الجمعة، حتى إنهم ليصلون في الرحاب، فشاور فيه عثمان أهل الرأي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجمعوا على أن يهدمه ويزيد فيه، فصلى الظهر بالناس ثم صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزيد فيه، وأشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة، (1) » وقد كان لي فيه سلف وإمام سبقني وتقدمني عمر بن الخطاب، كان قد زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (319) .(7/266)
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمعوا على هدمه وبنائه وتوسيعه، فحس الناس يومئذ ذلك ودعوا له، فأصبح فدعا العمال، وباشر ذلك بنفسه " اهـ.
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم(7/267)
مصادر ومراجع البحث
1 - أخبار مكة، للأزرقي جزء: 2.
2 - الأشباه والنظائر. ابن نجيم الحنفي ص: 87.
3 - بدائع الفوائد، ابن القيم: جزء: 3.
4 - التاج والإكليل، المواق: جزء: 2.
5 - جامع الترمذي، وعليه تحفة الأحوذي: جزء: 10.
6 - السنن الكبرى، البيهقي: جزء: 6.
7 - صحيح البخاري: جزء 4.
8 - الطبقات الكبرى، ابن سعد: جزء: 4.
9 - فتح الباري، ابن حجر العسقلاني: جزء: 5.
10 - الموافقات، الشاطبي: جزء: 2.
11 - وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، السمهودي: جزء: 2.(7/267)
رسالة الفاروق لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما
والمبادئ العامة في أصول القضاء
بقلم الدكتور: سعود بن سعد بن دريب
1) ولد بحوطة بني تميم عام 1357، المملكة العربية السعودية.
2) دكتوراه في السياسة الشرعية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
3) وكيل وزارة العدل للشئون القضائية.
له عدة مؤلفات طبع منها:
1 - كتاب المعاملات المصرفية في ضوء الشريعة الإسلامية.
2 - التنظيم القضائي في المملكة العربية السعودية في ضوء الشريعة الإسلامية.
* * *
1 - الشيخ محمد بن عبد الوهاب حامل راية الإسلام في القرن الثاني عشر (لم يطبع) .
2 - الشركات في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي (لم يطبع) .(7/268)
تكاد تنحصر وسائل التعبير في الكلمة المكتوبة، والكلمة المسموعة، وقد تعددت وسائل أو قنوات إيصالهما، فالكلمة المكتوبة بدلا من أن تصل عن طريق البريد، والحمام الزاجل أصبحت تصل عن طريق البرق "اللاسلكي" وعن طريق "التلكس" وعن طريق الصحف والمجلات.
كما أن الكلمة المسموعة بدلا من أن تصل عن طريق المشافهة أو النقل بواسطة السفير والراوي، أصبحت تصل عن طريق وسائل الأعلام المسموعة والمرئية وفي مقدمتها الهاتف "التلفون" والإذاعة والتلفاز.
وفي الاستناد لا تزال الكلمة المكتوبة تحتل مركز الصدارة على الكلمة المسموعة خصوصا فيما يصدر من الرئيس للمرؤوس، ولقد نقلت لنا كتب الحديث وكتب التاريخ الموثوق بها الشيء الكثير من الكلام المكتوب.
ونقلت هذه المصادر فيما نقلت كتابات عمر بن الخطاب رضي الله عنه لولاته وقضاته على البلاد الكبيرة والبلاد البعيدة عن المدينة - عاصمة الخلافة- وهي كتابات كثيرة ومتنوعة منها ما يرجع إلى بيان حكم في قضية أو قضايا، كبعض كتبه إلى القاضي شريح، ومنها ما يرجع إلى تذكير قضاته وإرشادهم بتحري الحق والعدل في قضائهم، ومنها ما يرجع إلى أسلوب القضاء وطريقه، ويأتي في مقدمة ذلك كتابه لأبي موسى الأشعري.(7/269)
كتاب عمر لأبي موسى:
عن أبي العوام البصري، قال كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري، أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك (وأنفذ إذا تبين لك) (1) فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا (أي لا يخالف النظام العام في اصطلاح أهل العصر) . ومن ادعى حقا غائبا، أو بينة فاضرب له أمدا ينتهي إليه، فإن جاء ببينة أعطيته حقه، فإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ في العذر، وأجلى للعمى، ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فرجعت فيه لرأيك، وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق لأن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل (وهو ما يعبر عنه اليوم بالعدول عن اجتهاد سابق واتباع اجتهاد جديد) . والمسلمون عدول بعضهم على بعض في الشهادة إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة الزور، أو ظنينا في ولاء أو قرابة فإن الله عز وجل تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان. . . ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال والأشباه، ثم اعمد إلى أحبها إلى الله فيما ترى، وأشبهها بالحق، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس عند الخصومة والتنكر، فإن القضاء في مواطن الحق يوجب الله له الأجر، ويحسن به الذخر، فمن خلصت نيته في الحق- ولو كان على نفسه- كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين لهم بما ليس في قلبه شانه الله، فإن الله لا يقبل من العباد إلا ما
__________
(1) هذه الزيادة في صبح الأعشى (10 \ 193) .(7/270)
كان له خالصا، وما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام. . .)(7/271)
مكانة الكتاب عند العلماء، ومصادر رواياته:
يعتبر هذا الكتاب- في مضمونه- دستورا قويما في نظام القضاء والتقاضي، ومصدرا من مصادر أصول المحاكمات، كما يعتبر- في أسلوبه- مثالا يحتذى في البلاغة والإيجاز والترسل، تلقاه العلماء بالقبول، وعنى به المؤلفون والكتاب والمؤرخون والأدباء والباحثون، وقام كثير من الفقهاء بتفسيره والتعليق عليه، وقد أفاض ابن القيم في شرحه في كتابه "أعلام الموقعين" وقال عنه (وهذا كتاب جليل القدر، تلقاه العلماء بالقبول، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه، وإلى تأمله والتفقه فيه) (1) ويقول ابن سهل من المالكية (وهذه الرسالة أصل فيما تضمنته من فصول القضاء ومعاني الأحكام، وعليها احتذى قضاة الإسلام، وقد ذكرها كثير من العلماء وصدروا بها كتبهم، ومنهم: عبد الملك بن حبيب) (2) (ت238هـ.) .
كما اعتبر مؤرخو الآداب الإسلامية هذا الكتاب من جملة النصوص الهامة، فساقوه في مؤلفاتهم كمثال لأسلوب صدر الإسلام في البلاغة، وسلاسة اللفظ وإحكام الفكرة، وقلما يوجد مؤلف قديم أو حديث إلا عرض لهذا الكتاب أو أشار إليه، وقد ترجم إلى أكثر لغات العالم، وكان إميل تيان ممن ترجمه إلى الفرنسية في كتابه في (تاريخ التنظيم القضائي في بلاد الإسلام) وممن ترجمه إلى الإنجليزية الأستاذ هنري كتن، وترجمه هامر الألماني إلى الألمانية (3) .
__________
(1) أعلام الموقعين (1 \ 86) .
(2) تبصرة الحكام لابن فرحون (1 \ 23)
(3) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي ص:439، 451.(7/271)
أما مصادر هذا الكتاب، فهي كثيرة، منها الأصيل ومنها التبعي، وكما قلنا: قلما يوجد مؤلف قديم أو حديث إلا ذكر هذا الكتاب أو أشار إليه، وقد عنى محمد حميد الله الحيدر أبادي في (مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة) بتتبع مواضع ورود هذا الكتاب وأوصلها إلى ثمانية، وتتبعه ظافر القاسمي، واستدرك عليه أربعة مصادر أيضا (1) .
وكما فات على الأول شيء فقد فات على الثاني أشياء، وقد قمت بتتبع ذلك أيضا وأوصلتها إلى أكثر من ثلاثين مصدرا مقتصرا على القديم منها، وهي مفصلة كما يلي:
* أولا: كتب الحديث، وكتب علوم القرآن:
1 - مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (ت 241هـ.) كما أشار إلى ذلك البيهقي في سننه.
2 - مسند البزار، أحمد بن عمرو بنعبد الخالق (ت 292هـ.) ذكره القلقشندي في صبح الأعشى.
3 - سنن الدارقطني (ت 385هـ.) 4 \ 206-207.
4 - السنن الكبرى (10 \ 150) للبيهقي، أحمد بن حسين (ت 458هـ.) وقد أورده مختصرا وبأسانيد أخرى في الصفحات 115، 119، 135، 155، 156 من الجزء العاشر.
5 - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال (5 \ 806، 807) للبرهان فورى (ت 975 هـ.) .
6 - سبل السلام شرح بلوغ المرام (4 \ 175-176) لمحمد بن إسماعيل الصنعاني (ت1182هـ.) .
7 - وممن أورده القاضي محمد بن الطيب الباقلاني، (ت 403هـ.) في كتابه "إعجاز القرآن" ص: 214.
__________
(1) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي ص: 444، وما بعدها.(7/272)
* ثانيا: وممن أورده في مؤلفاتهم من الفقهاء والعلماء:
1 - أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم، صاحب أبي حنيفة (ت 182هـ.) أورد منه جزءا في كتابه (الخراج) ص: 117.
2 - أبو بكر أحمد بن عمر الشيباني، المعروف بالخصاف (ت 261هـ.) في كتابه أدب القاضي (1 \ 55-234) .
3 -4- الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب (ت 450هـ.) في كتابه الأحكام السلطانية ص71، 72، وفي كتابه أدب القاضي الفقرات (396، 1347، 1772، 1840، 2210، 2938) من الجزء الأول والثاني.
5 - السرخسى، شمس الدين (ت 490هـ.) في كتابه المبسوط (16 \ 59) ، وما بعدها، وقام بشرحه وذكر أن محمد بن الحسن بدأ به الكتاب.
6 - الكاساني الحنفي، علاء الدين أبو بكر بن مسعود (ت 587هـ.) في كتابه بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (7 \ 9) .
7 شيخ الإسلام تقي الدين، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني الحنبلي (ت 728هـ.) في كتابه منهاج السنة (3 \ 146) .
8 - ابن القيم، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر (ت 751هـ.) في كتابه أعلام الموقعين (1 \ 85، 86) ، ويكاد يكون الكتاب شرحا له.
9 - جمال الدين أبو محمد عبد الله الحنفي الزيلعي (ت 762هـ.) في كتابه نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية (4 \ 81-82) .
10 - ابن فرحون المالكي، إبراهيم بن علي اليعمري (ت 799هـ.) في كتابه تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (1 \ 22) .
11 - الطرابلسي الحنفي، علاء الدين أبو الحسن علي بن خليل (ت 844هـ) في كتابه معين الحكام ص: 14، 15.
12 \ 13 أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852هـ.) ذكر منه نقولا في كتابيه: الدراية (2 \ 171) ، وتلخيص الحبير (4 \ 196) .
14 \ 15 ابن حزم الأندلسي، علي بن أحمد (ت 456هـ.) رواه مفرقا في(7/273)
كتابيه: المحلى (1 \ 17، 9 \ 393) ، وملخص إبطال القياس والرأي ص: 6، وسنأتي على رأيه في هذا الكتاب فيما بعد إن شاء الله.
16 - وأورد أجزاء منه الموفق ابن قدامة في كتابه المغني (11 \ 394، 404، 415، 442) .
17 - كما ذكر منه نقولا أبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة المقدسي (ت 682هـ.) في الشرح الكبير (11 \ 401، 413، 440) على هامش كتاب المغنى.
18 - ونجم الدين النسفي (ت 537هـ.) (1) في طلبة الطلبة، في الاصطلاحات الفقيهة ص: 129.
19 - وابن مفلح الحنبلي، برهان الدين (ت 884هـ.) في كتاب المبدع (10 \ 34) .
20 - جلال الدين السيوطي الشافعي (ت 911هـ.) في كتابه الأشباه والنظائر ص: 7 أورده بسنده.
21 - وقد روى أبو عمر بن عبد البر (ت 463هـ.) جزءا منه في كتابه جامع بيان العلم وفضله ص: 355.
22 - كما رواه بسنده الخطيب البغدادي (ت 463هـ.) في كتابه (الفقيه والمتفقه) ، (1 \ 200) . مطابع القصيم بالرياض الطبعة الأولى.
* ثالثا: كتب التاريخ:
1 - تاريخ القضاة (1 \ 70 وما بعدها) ، و (283، وما بعدها) ، لوكيع محمد بن خلف بن حيان (ت 306هـ.)
2 - التاريخ الكبير، المعروف بتاريخ دمشق لابن عساكر، علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين (ت 571هـ.) .
3 - تاريخ عمر بن الخطاب ص: 155، 156، للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي (ت 597هـ.) .
__________
(1) وهو غير النسفي (المفسر) عبد الله بن أحمد المتوفى سنة 710هـ، أنظر الأعلام (4 \ 192، 5 \ 222) .(7/274)
4 - مقدمة ديوان المبتدأ والخبر ص: 221 لابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (ت 808 هـ.) .
* رابعا: ومن كتب الأدب والاختيارات:
1 - البيان والتبيين (2 \ 64) لأبي عثمان، عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 هـ.) . وقد ساقه بسنده إلى أبي المليح الهذلي.
2 - عيون الأخبار (1 \ 266) لابن قتيبة أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري (ت 276 هـ.) قال: بلغني عن كثير بن هشام عن جعفر بن برقان، قال: كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري.
3 - الكامل في الأدب (1 \ 9) للمبرد، محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الشمالي الأزدي (ت 286 هـ.) وأورده بدون إسناد.
4 - العقد الفريد (1 \ 86، 87) لابن عبد ربه أحمد بن محمد (ت 328هـ.) .
5 - نهاية الأرب في فنون الأدب (6 \ 257) للنويري، أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدايم القرشي التميمي (ت 733هـ.) ينقل عن الماوردي.
6 - شرح نهج البلاغة (3 \ 119) لعبد الحميد بن أبي الحديد (ت 655هـ.) .
7 - صبح الأعشى في صناعة الإنشاء (10 \ 193) العباس، أحمد بن علي القلقشندي (ت 821هـ.) ينقل عن العقد الفريد.(7/275)
الاعتراضات والشكوك في الكتاب، ومناقشتها والرد عليها:
وقد أثار بعض الفقهاء والباحثين من القدامي والمحدثين بعض الشكوك حول نسبة هذا الكتاب إلى عمر بن الخطاب فطعنوا فيه من ناحية سنده، ومن ناحية متنه.
* فمن ناحية السند:
1 - طعنوا في رجال سنده، كما تعللوا بعدم وصله.
2 - وطعنوا فيه أيضا من هذه الناحية، بأنه جاء في بعض رواياته أنه أرسل إلى أبي(7/275)
موسى، وهو على قضاء الكوفة، والحال أنه لم يتول قضاءها لعمر، قالوا: وهذا دليل على عدم صحة الكتاب.
* ومن ناحية المتن أو الموضوع فيتلخص تشكيكهم فيما يلي:
1 - اشتمال الكتاب على بعض الاصطلاحات الدقيقة التي تعتبر وليدة لعصر ما بعد الصحابة.
2 - أن عمر بن الخطاب نفسه لم يعمل ببعض ما فيه، وهو جملة (المسلمون عدول بعضهم على بعض) ، فقد رجع عمر عن ذلك فيما رواه مالك في الموطأ.
3 - أن هناك اختلافا بينا في ألفاظ روايات الكتاب المتعددة، مما يجعل ذلك سببا للتشكيك في نسبته لعمر.
هذا ملخص لجملة الطعون التي يقولها المنكرون لكتاب عمر، ويستند عليها من سار في ركبهم، وسنتناول ما أجملناه بشيء من التفصيل: لتتضح الرؤية.(7/276)
أولا: الطعن في سند الكتاب:
تزعم أبو محمد بن حزم الأندلسي الظاهري في سند هذا الكتاب فقال في الرد على القائلين بجواز القياس (فإن ادعوا أن الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعوا على القول بالقياس، قيل لهم: كذبتم، بل الحق أنهم كلهم أجمعوا على إبطاله، برهان كذبهم أنه لا سبيل إلى وجود حديث عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - أنه أطلق الأمر بالقول بالقياس أبدا، إلا في الرسالة المكذوبة الموضوعة على عمر - رضي الله عنه - فإن فيها (واعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور) ، وهذه الرسالة لم يروها إلا عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه، وهو ساقط بلا خلاف، وأبوه أسقط منه، أو هو مثله في السقوط (1) .
وقال في ملخص إبطال القياس والرأي (وهذه رسالة لا تصح، تفرد بها عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه وكلاهما متروك، ومن طريق عبد الله بن أبي
__________
(1) كتاب المحلى (1 \ 77) لابن حزم.(7/276)
سعيد، وهو مجهول، ومثلها بعيد عن عمر) (1) .
وأضاف المنكرون لهذه الرسالة قولهم: (وقد جاء في أعلام الموقعين عقب كتاب عمر مباشرة ما نصه: قال أبو عبيد - راوي الكتاب - فقلت لكثير بن هشام هل أسنده جعفر الزبرقان؟ قال: لا. .) قالوا: وهذا يدل على انقطاع سنده.
* الرد على ذلك:
وما قاله ابن حزم من كون راوي الكتاب عبد الملك، وأبيه الوليد بن معدان الضبعي ساقطين بلا خلاف، فغير مسلم: فإن والد عبد الملك ليس ساقطا كما ذكر ابن حزم، فقد عده ابن حبان في الثقات. أما عبد الملك نفسه، فإنه وإن ضعفه بعض رجال الحديث: إلا أن بعضهم قد قبل روايته، فقال عنه يحيى بن معين (صالح) (2) .
فعلى هذا، فدعوى ابن حزم عدم الخلاف في سقوط عبد الملك غير صحيح، ويكفي في قبول الراوي أن يقبل مرويه بعض رجال الحديث: سيما إذا أيد ما رواه من طريق أخرى، وقد أخرجه البيهقي في المعرفة بطريق غير طريق عبد الملك بن الوليد، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا محمد بن عبد الله بن كناسة حدثنا جعفر بن برقان عن معمر البصري عن أبي العوام البصري، قال: كتب عمر فذكره.
وقد استدل ابن القيم في نقل هذا الكتاب إلى هذه السلسلة، قال أبو عبيد: حدثنا كثير بن هشام عن جعفر بن برقان، وقال أبو نعيم عن جعفر بن برقان عن معمر البصري عن أبي العوام، وقال سفيان بن عيينة حدثنا إدريس أبو عبد الله بن إدريس قال: أتيت سعيد بن أبي بردة فسألته عن رسائل عمر بن الخطاب التي كان يكتب بها إلى أبي موسى الأشعري، وكان أبو موسى قد أوصى إلى أبي بردة، فأخرج إليه كتبا فرأيت في كتاب منها، ثم ساق الكتاب، وقال في آخره: قال أبو عبيد: قلت لكثير هل أسنده جعفر؟ قال: لا، وعقب ابن القيم على هذا فقال: (وهذا
__________
(1) ملخص إبطال القياس والرأي ص: 6.
(2) تهذيب التهذيب (6 \ 428) .(7/277)
كناب جليل تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتى أحوج شيء إلى تأمله والتفقه فيه) .
قلت: وفي هذا ما يدل على أن الكتاب قد روي عن طريق الوجادة، حيث تلقاه إدريس عن أبي بردة قراءة لا حفظا فقط، وهذه وجادة جيدة في قوة الإسناد الصحيح، فالقراءة من الكتاب أوثق من التلقي عن الحفظ، قال ابن حجر - عند الكلام على سندي الكتاب - (لكن اختلاف المخرج فيهما، مما يقوى الرسالة: لا سيما وفي بعض طرقه أن راويه الرسالة مكتوبة) (1) .
وبهذا ينتفى القول بانقطاع سند الكتاب، وعلى هذا - أيضا - فلا وجه لما طعن به ابن حزم عليه، وقد حمل ابن حزم على هذا الكتاب، لكون ما جاء فيه لا يتمشى مع أصول الظاهرية، نفاة القياس، ولذا فالعلماء لم يعولوا على طعن ابن حزم في هذا كما مر بنا في كلام ابن سهل المالكي، وكلام ابن القيم الحنبلي.
2 - وطعنوا في سند الكتاب بما جاء في بعض رواياته من أن عمر أرسله إلى أبي موسى وهو على قضاء الكوفة، كما جاء في مقدمة ابن خلدون، إذ يقول (وولى أبا موسى الأشعري الكوفة، وكتب له في ذلك الكتاب المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاء، وهي مستوفاة فيه ثم ذكر الكتاب) (2) . قالوا: والحال أن أبا موسى لم يتول قضاءها لعمر، وإنما وليها في زمن عثمان، قالوا: فمن هذه الوجهة يمكننا أن نرجح ما قاله ابن حزم في هذه الرسالة (3) وفي هذا الصدد يقول الدكتور علي حسن عبد القادر (إن أبا موسى لم يل القضاء لعمر، وإنما ولي له إمرة البصرة، وقضى لعمر بالبصرة كعب بن سور) (4) .
ونقول - ردا على ذلك - لقد ثبت في التاريخ أن أبا موسى ولي الكوفة لعمر حوالي سنة واحدة، ففي تاريخ الطبري (ت 310هـ) الذي يعني خاصة
__________
(1) تلخيص الحبير (4 \ 196) .
(2) مقدمة ابن خلدون ص: 221
(3) تاريخ القضاء في الإسلام ص: 15 لابن عرنوس.
(4) نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي ص: 74(7/278)
بتسجيل أسماء ولاة عمر على الأمصار، والتغييرات التي تطرأ عليهم من عزل ووفاة، وكذا في الكامل لابن الأثير الجزري (ت 630هـ) (أن أهل الكوفة بعد أن طلبوا من عمر أن يعزل واليه عليهم عمار بن ياسر: لأنه ليس خبيرا بشئون الولاية ولا يدري علام استعمله عمر، أشاروا على عمر أن يولي عليهم أبا موسى الأشعرى، فولاه عليهم، ثم إنهم طلبوا عزله عن الكوفة بعد ذلك بسنة؛ لأن له غلاما يتجر في بعض أرزاقهم فعزله عمر عنها، وصرفه إلى البصرة، وبعث عليهم (المغيرة بن شعبة) ، وقال ابن الأثير (دخلت سنة إحدى وعشرين وفيها عزل عمر بن الخطاب عمار بن ياسر عن الكوفة، واستعمل أبا موسى فأقام فيهم سنة) (1) .
وبهذا يتبين أن أبا موسى كان واليا لعمر على الكوفة مدة من الزمن، وهذا بخلاف ما توصل إليه بعض الباحثين - ممن يقولون بصحة هذه الرسالة - من أنه بالتحقيق ثبت أن عمر لم يول أبا موسى الأشعرى قضاء الكوفة، وأنه ليس هنا رواية معتمدة يعول عليها في ذلك (2) .
والحاصل أن مدة الولاية لم تكن طويلة مما جعل بعض المؤرخين وكتاب السير يغفلونها، ولا يعبئون بذكرها سوى الإشارة إليها من قبل ابن خلدون عند ذكر هذه الرسالة: مع أن كل المصادر التي ذكرناها من قبل لم تنص على شيء من ذلك: بل اكتفت بذكرها على أنها لأبي موسى والي عمر دون قيد بمكان.
وقد ولي أبو موسى لعمر البصرة أيضا بعد المغيرة بن شعبة، إلا أن هناك رواية تفيد أن عمر عينه واليا، وثانية تفيد أنه عينه قاضيا.
وإزاء ذلك يتساءل المنكرون لكتاب عمر كيف يعينه قاضيا على البصرة وفي الوقت نفسه يعين كعب بن سور قاضيا عليها، مع أنهما ظلا بالبصرة معا حتى موت عمر؟ وأخذوا بالرواية التي تصادف ما في نفوسهم من أبا موسى لم يل لعمر إلا إمرة البصرة، وبنوا على ذلك من أنه لم يل القضاء بحال من الأحوال ليصلوا من وراء ذلك إلى نفي كتاب عمر.
__________
(1) تاريخ الطبري (4 \ 262) ، الكامل لابن الأثير (3 \ 20، 31، وما بعدها) .
(2) تاريخ القضاء في الإسلام: ص: 117، 130 أحمد البهي.(7/279)
والحق في ذلك: أن عمر عين أبا موسى واليا وقاضيا على البصرة، ثم أبقاه على الولاية فقط، وعين لها قاضيا سواه.
أما إمرة البصرة فالمنكرون لا ينازعون في ذلك، فلا حاجة إلى إثباته. أما ولايته لقضاء البصرة فالدليل على ذلك ما يلي:
1 - روى ابن سيرين قال: كتب عمر إلى أبي موسى أن ينظر قضايا أبي مريم الحنفي، فكتب إليه: إني لا أتهم أبا مريم، ومفاد ذلك: أن أبا موسى كان واليا وقاضيا على البصرة لعمر، وظل يجمع بينهما حتى عين عمر كعب بن سور الأزدي على القضاء، وأبقى أبا موسى على الولاية، وهذا ما يمكن أن يقال في الجمع بين الروايتين محل تساؤل المنكرين لكتاب عمر، مع أن الطبري عبر عن تولي كعب بن سور قضاء البصرة بكلمة: (قيل) ، وهذا إشارة منه إلى تضعيف هذه الرواية، على أن أبا موسى بقي علي البصرة واليا حتى وفاة عمر بن الخطاب سنة 23هـ. فاستخلفه عثمان في بداية خلافته على البصرة وصلاتها وأحداثها، فأصبح كما كان سابقا واليا وقاضيا حتى عزله عثمان في آخر سنة 28هـ. وأول سنة 29هـ (1) .
2 - ويؤيد ذلك ما ذكرناه سابقا مما هو ثابت باتفاق أن الوالي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ثم في عهد أبي بكر كان الحاكم والقاضي، واستمر الحال على ذلك زمنا من خلافة عمر، ثم بعد فترة من خلافته فصل القضاء عن الولاية - على ما ذكرناه - بسبب كثرة الأعمال على الولاة واتساع النطاق العمراني، وعلى هذا ليس ثمة ما يمنع من أن عمر قد أرسل إلى واليه أبي موسى بهذه الوصايا والتوجيهات القضائية ليستعين بها في الحكم بين الناس، وحل خلافاتهم، شأن مكاتباته مع الولاة الآخرين.
وأمام هذه الحقائق فإنه لا وجه للطاعنين في سند الكتاب.
__________
(1) أخبار القضاة (1 \ 270، 274، 275) ، تاريخ الطبري (3 \ 304، 319) .(7/280)
ثانيا: الطعن في متن الكتاب أو موضوعه:
قد أشرنا إلى ملخص الطعون الموجهة إلى متن هذا الكتاب فيما سبق، وسنتناول فيما يلي مناقشتها والرد عليها، وهي تتلخص - كما ذكرنا - في ثلاث نقاط:
* إحداها: ما نقله الدكتور علي حسن عبد القادر في كتابه (نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي) (1) من شك بعض المستشرقين مثل: جلد تسهير ومتز وفلهوزن حيث يقول (كما شك بعض الباحثين المحدثين في هذه الرسالة، ورسالة شريح، وفي الرسالة التي جاءت بمعناها، كوصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن، واحتج بأن هذه الرسائل والوصايا تشتمل على اصطلاحات دقيقة تعتبر وليدة عصر ما بعد الصحابة. وإذا سلمنا بأن هذه الرسائل والوصايا قد صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر حقا، فإنه من العسير أن نوفق بينهما وبين مسلك أهل الحديث في كراهة الأخذ بالرأي والقياس، والتشديد في ذلك تشديدا بينا، ومن ثم فإنهم عمدوا إلى تضعيف هذه الروايات والتهوين من شأنها) .
ويعني بالاصلاحات التي قال عنها: إنها وليدة عصر ما بعد الصحابة ما جاء في كتاب عمر (وأعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور بعضها ببعض فانظر أقربها إلى الله، وأشبهها بالحق فاتبعه وأعمد إليه) .
* والرد على هذا: أن كلمة (القياس) كانت تستعمل بمعنى الرأي في عصر النبوة، وفي عصر الصحابة، من ذلك ما أخرجه ابن حزم نفسه بسنده في ملخص إبطال القياس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحلون الحرام ويحرمون الحلال (2) » .
استدل ابن حزم بالحديث على إبطال القياس بذم من يقيس الأمور برأيه لأنهم أشد فرق الأمة فتنة عليها، ونوقش أنه يجب حمله على القياس الباطل جمعا بين
__________
(1) نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي ص:75.
(2) ملخص إبطال القياس ص: 69 وأخرجه الترمذي.(7/281)
الأدلة، ويؤيد ذلك قوله في الحديث: «فيحلون الحرام ويحرمون الحلال» .
ومن استعمال القياس بمعنى الرأي في عصر الصحابة - رضوان الله عليهم - ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: " قراؤكم وصلحاؤكم يذهبون، ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم ". . . (1) إلي غير ذلك من الأحاديث والآثار الكثيرة.
ومن هذا يظهر أن كلمة (القياس) قد استعملت في عصر الصحابة بالمعنى الذي تعارف عليه الفقهاء، ولم يكن استعمالها اصطلاحا جديدا، كما قال ذلك المستشرقون، ومن نحا نحوهم وقال بقولهم.
ثانيتها: أن عمر بن الخطاب نفسه لم يعمل ببعض ما في هذا الكتاب، وهو جملة (المسلمون عدول بعضهم على بعض) وهي تعني قبول شهادة جميع المسلمين، وأن الأصل في كل واحد منهم العدالة، عدا من تعرضت عدالتهم بالشك، حيث ثبت رجوع عمر بما رواه مالك في الموطأ بقوله: (والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول) ثم إن مضمون هذه الجملة يخالف قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (2) وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (3) قالوا: وكذلك الفقهاء من أصحاب القياس حنفيهم ومالكيهم وشافعيهم لا يقولون بهذا القول - عدالة المسلمين بعضهم على بعض - ولو صح في تلك الرسالة في القياس حجة فقوله في أن المسلمين عدول كلهم إلا مجلودا في حد حجة، وإن لم يكن قوله في ذلك حجة، فليس قوله في القياس حجة ولو صح، فكيف ولم يصح (4) .
* والرد على ذلك: إنما ذكر في تفسير عدالة الشهود ليس بمذهب عمر حيث قال بعد ذلك (فإن الله تبارك وتعالى تولى من العباد السرائر وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان) يريد بذلك أن من ظهرت فيه علانية خير فقبلت شهادته، ووكل أمر سريرته إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الله سبحانه لم يجعل أحكام الدنيا على
__________
(1) ذكره بسنده ابن القيم في أعلام الموقعين (1 \ 57) .
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة البقرة الآية 282
(4) المحلى لابن حزم (1 \ 77، 78) ، وانظر أيضا تاريخ القضاء في الإسلام لابن عرنوس ص: 16.(7/282)
السرائر بل على الظواهر، والسرائر تبعا لها. وأما أحكام الآخرة فعلى السرائر، والظواهر تبع لها، ويؤيد هذا ما روي عنه أنه قال في خطبته: (من أظهر لنا خيرا ظننا به خيرا وأحببناه عليه، ومن أظهر لنا شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه) . (1) .
قال الماوردي في الأحكام السلطانية بعد سياق الإيراد على كتاب عمر عن اعتباره في الشهود عدالة الظاهر، والمعتبر فيه عدالة الباطن بعد الكشف والمسألة، قال: ففيه جوابان:
* أحدهما: أنه يجوز أن يكون عمر ممن يرى ذلك فذكره إخبارا عن اعتقاده فيه لا أمرا.
* والثاني: معناه أنهم - بعد الكشف والمسألة - عدول ما لم يظهر جرح، إلا مجلودا في حد (2) .
قلت: والجواب الثاني هو المراد لما أوضحناه سابقا من أن كلام عمر لا يدل على الجواب الأول الذي ذكره الماوردي، قال ابن القيم: ولا يدل كلام عمر على هذا المذهب.
قلت أيضا: ولو فرض أن ما قاله المنكرون في تفسير عدالة الشهود هو ما ذهب إليه عمر أولا ثم رجع إلى اشتراط العدالة في كل شاهد ابتداء وإلى التحري عنه قبل قبول شهادته، فإن رجوعه في هذه الجزئية لا يعتبر دليلا على نفى صحة هذا الكتاب بأكمله.
وأما قول ابن حزم إن الفقهاء كلهم لم يقولوا بهذا القول - عدالة المسلمين بعضهم على بعض - وخالفهم عمر بن الخطاب في ذلك فقد روي عن أبي حنيفة القول بجواز القضاء لظاهر العدالة، وهو المعروف عند الأحناف بالقضاء بشهادة المستور (3) .
__________
(1) ذكره ابن القيم بسنده في أعلام الموقعين (1 \ 129) .
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص: 72.
(3) أدب القاضي للخصاف (1 \ 227) ، والمبسوط للسرخسي (16 \ 63) .(7/283)
وقد ذكر ابن القيم أن بعض أهل العراق قد احتج بقول عمر هذا على قبول شهادة كل مسلم لم تظهر منه ريبة، وإن كان مجهول الحال، منهم الحسن البصري، والليث بن سعد - رضي الله عنهما - كما أشار ابن حزم نفسه إلى مذهب أبي حنيفة في هذا في كتاب الشهادات من كتابه المحلى (1) .
قلت: وعلى هذا فقد انتقض قول أبي محمد بن حزم في نفيه أن أحدا من الفقهاء- على سبيل العموم - حنفيهم وشافعيهم ومالكيهم لم يقل بذلك، كيف وقد ظهر أن كلام عمر لم يدل على هذا المذهب؟ كما قال ابن القيم.
أما ما ذكره من أن جملة (المسلمون عدول بعضهم على بعض) تخالف قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (2) وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (3) فإنه على ما جرى إيضاحه في أول هذا الكلام لم تكن هناك مخالفة.
على أن هذه الآية دلت على اعتبار العدالة في الشهود، ولكنها لم تبين مفهوم العدالة وما تتحقق به، وقد اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسلام وحده في شهادة الأعرابي فيما روى عكرمة عن ابن عباس قال: «جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت الهلال - يعني: هلال رمضان - فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله، قال: نعم، قال: أتشهد أن محمدا رسول الله، قال: نعم، قال: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا (4) » رواه الخمسة (5) .
ونخلص من هذا: أن ما قاله المنكرون لا يصح دليلا لإنكار الكتاب أو نفي صدوره عن عمر.
وثالثة الأثافي من الطعون الموجهة لمتن الكتاب ما جاء في بعض رواياته من اختلاف في بعض الألفاظ، فقد ذكر محقق كتاب (أخبار القضاة) عبد العزيز مصطفى المراغي من أن المستشرق مرجوليوث - أستاذ اللغة العربية في جامعة أكسفورد سابقا - كتب فصلا عن كتاب عمر في مجلة الجمعية الآسيوية عمد فيه للمقارنة
__________
(1) المحلى (10 \ 565) .
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة البقرة الآية 282
(4) سنن الترمذي الصوم (691) ، سنن النسائي الصيام (2113) ، سنن أبو داود الصوم (2340) ، سنن ابن ماجه الصيام (1652) ، سنن الدارمي الصوم (1692) .
(5) نيل الأوطار للشوكاني (4 \ 186) .(7/284)
بين ثلاث روايات اختارها، وهي رواية الجاحظ، وابن قتيبة، وابن خلدون وحاول أن يجعل من اختلاف الروايات سببا للتشكك في صحة نسبة الكتاب إلى عمر، ويجب أن يكون هذا الكتاب قد نقل شفاها من عمر لأبي موسى، وقد رد عليه بقوله (وليس أحد الأمرين - فيما نرى - داعيا للتشكك في الكتاب، أما الثاني - يعنى: تعجب مرجوليوث من نقل الكتاب مشافهة - فلأن أغلب الروايات تدور على سعيد بن أبي بردة عن أبي موسى، وفيها يقول الراوي عنه: فأخرج لنا كتبا فيها كتاب عمر إلى أبي موسى، وأما الأولى: فلأن اختلاف الروايات في الحديث لا يكون سببا قادحا فيه وموجبا لرده، ولا يغير من شأنه اختلاف الروايات فيه ما دامت كلها تحمل هذا المعنى. . . (1)
ولزيادة الإيضاح نورد العبادات التي جاء فيها الخلاف بين الروايات الثلاث وأترك استنتاج المقارنة لفطنة القارئ، ليدرك وهن ما يطعن به هذا المستشرق:
1 - في رواية الجاحظ (ولا يمنعك قضاء قضية بالأمس فراجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع عنه إلى الحق) ورواية المقدمة (ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق) .
2 - ورواية الجاحظ (الفهم الفهم عندما يتلجلج في صدرك مما لم يبلغك في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم) . ورواية المقدمة (الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة) .
3 - في رواية الجاحظ (وقس الأمور عند ذلك ثم اعهد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى) وفي رواية المقدمة (وقس الأمور بنظائرها) .
4 - في رواية الجاحظ وابن قتيبة (أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة) ورواية المقدمة (أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في نسب أو ولاء) .
5 - في رواية ابن قتيبة (واجعل لمن ادعى حقا غائبا) وفي رواية الجاحظ والمقدمة (حقا غائبا أو بينة) .
__________
(1) أخبار القضاة لوكيع (1 \ 74) هامش - تحقيق عبد العزيز المراغي -.(7/285)
6 - في عيون الأخبار (وإلا استحللت القضية عليه) وفي الجاحظ (وإلا وجهت عليه القضاء) وفي المقدمة (وإلا استحللت عليه القضاء) .
7 - في رواية المقدمة (فإن الله سبحانه عفا عن الأيمان ودرأ بالبينات) وفي رواية ابن قتيبة (فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ عنكم بالبينات) ورواية الجاحظ (ودرأ عنكم الشبهات) .
8 - في رواية الجاحظ (والتنكر للخصوم في مواطن الحق) ورواية المقدمة (فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر) .
9 - في رواية الجاحظ (ومن تزين للناس بما يعلم الله خلافه منه هتك الله ستره وأبدى فعله) ورواية عيون الأخبار (ومن تزين للناس بغير ما يعلم الله منه شانه الله) وليس في المقدمة شيء من ذلك.
وهكذا يظهر أن الاختلاف بين هذه الروايات يسير، ولا يحيل المعنى ولا يغيره، خصوصا وأن التدوين لم يعرف في ذلك الوقت، فكل راو نقل ما سمعه وتمسك به ولا يعتبر ذلك طعنا: لأن علماء الحديث أجازوا الرواية بالمعنى، واعتبروا الزيادة من الثقة مقبولة.(7/286)
صحة الكتاب وحقيقة محتواه:
وبعد كل ما تقدم من دفع الشبهات والاعتراضات التي وجهت للكتاب سواء من جهة سنده أو من جهة متنه فإنه لا يصح التعويل على ما أثير حول ذلك من الطعون والشكوك حيث تعرت عن الحقيقة وأصبحت هذه الطعون بلا بينة تقوم عليها ولا دليل يسندها.
ومن هنا يتأكد صحة صدور الكتاب من عمر - رضي الله عنه -.
ولو تتبعنا ما ورد في هذا الكتاب من مبادئ ووصايا تتعلق بالقضاء لألفينا لها أصلا في السنة النبوية. وعلى هذا فلا وجه للضجة التي أثارها بعض العلماء(7/286)
والباحثين حول هذا الكتاب، وادعائهم أنه غير صحيح، لأنه على فرض التسليم لهم بعدم صحة سنده، ففي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يؤيد محتواه ومتنه على ما سنوضحه في القواعد الآتية:
1 - فقاعدة (لا اجتهاد في مورد النص) وهي ما ورد في قول عمر: (ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور) فقد روي عن الحارث بن عمرو - يرفعه إلى معاذ - «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن، قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟
قال أقضي بكتاب الله.
قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟
قال: أقضي بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟
قال: أجتهد برأي ولا آلو - أي لا أقصر -.
قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله (1) » .
2 - وقاعدة التسوية بين الناس، ففي الحديث عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل في لحظه ولفظه وإشارته ومقعده (2) » .
وفي رواية أخرى بسند آخر «من ابتلي بالقضاء بين المسلمين
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند (5 \ 230) وأبو داود (3 \ 303) والترمذي (2 \ 394) وقال لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل، وأخرجه الدارمي (1 \ 60) وقد ضعفه قوم وانتصر له آخرون بتلقي أئمة الاجتهاد له بالقبول، وبما جاء عن الصحابة من قولهم ما يوافقه. انظر تلخيص الحبير (4 \ 83) والمغنى لابن قدامة (9 \ 53) .
(2) رواه الدارقطني في كتاب الأقضية والأحكام من سننه (4 \ 205) .(7/287)
فليساو بينهم في المجلس، والإشارة، والنظر (1) » .
3 - وقاعدة منع الصلح فيما يخالف الشرع ففي الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصلح بين المسلمين جائز إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما (2) » .
4 - وقاعدة إعطاء فرصة الدفاع قبل الحكم، فقد قال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حينما ولاه قضاء اليمن «إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبين لك وجه القضاء (3) » أخرجه أهل السنن والمسانيد وغيرهم.
5 - وقاعدة البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه (4) » .
وروي أيضا «البينة على المدعي واليمين على من أنكر (5) » .
زاد الدارقطني إلا في القسامة.
__________
(1) رواه إسحاق بن راهويه في مسنده، والطبراني في معجمه، انظر الدراية في تخريج أحاديث الهداية (2 \ 169) وتلخيص الحبير (4 \ 193) كلاهما لابن حجر العسقلاني.
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده، دون الاستثناء (2 \ 366) وأبو داود بتمامه في باب الصلح (3 \ 304) كلاهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن طريق الوليد بن رباح، وصححه ابن حبان والحاكم وأخرجه الترمذي (2 \ 304) وابن ماجه في الأحكام (2 \ 788) وكلاهما عن طريق كثير بن عبد الله المزني وهو ضعيف جدا وقد صححه الحاكم أيضا، الدراية (2 \ 180) .
(3) سنن الترمذي الأحكام (1331) ، سنن أبو داود الأقضية (3582) .
(4) أخرجه البخاري في كتاب التفسير (6 \ 43) ، ومسلم من حديث ابن عباس واللفظ له في باب اليمين على المدعى عليه (2 \ 778) .
(5) سنن الترمذي الأحكام (1341) .(7/288)
6 - وقاعدة الأحكام الجزئية تفقد المحكوم عليه أهليته للشهادة، فقد روي عنه عليه السلام أنه قال: «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في فرية» . رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وفي رواية أخرى «لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ولا ذي غمر على أخيه ولا مجرب عليه شهادة الزور ولا قانع أهل البيت وظنين في ولاء ولا قرابة (1) » .
ونخرج من هذا أن هذا الكتاب ليس جديدا في مادته، وإن كان جديدا في صياغته، وليس معنى هذا التقليل من شأنه، فقد احتوى على الكثير من السنة النبوية - كما قلنا -بالإضافة إلى أنه قد وفر على القضاة كثيرا من الجهد في تتبع ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المجال في عصر ما قبل تدوين الحديث: إذ لم يكن كل الصحابة على علم بكل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن هنا فقد كان كتاب عمر ذخيرة للقضاة.
__________
(1) حديث لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة روى من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفي أحدهما آدم بن قائد، وفي الثاني المثنى بن الصباح، قال البيهقي: لا يحتج بهما. وروي من طريق ثالث عن عائشة - رضي الله عنها - وفي سنده زيد بن أبي زياد ويقال ابن زياد الشامي، قال عنه البيهقي: هذا ضعيف، وروي من طريق رابع عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - وفي سنده يحيى بن سعيد الفارسي، متروك، وعبد الله الأعلى بن محمد ضعيف. وقال في الجوهر النقي على سنن البيهقي بعد ذكر رواية ابن أبي شيبة وقد تابع الحجاج بن أرطأة آدم والمثنى، والحجاج أخرج له مسلم مقرونا بآخر انظر سنن البيهقي والجوهر النقي على هامشه (10 \ 155، 156) .(7/289)
نظرية براءة المتهم حتى تثبت إدانته
وحظها من الاعتبار في الشريعة
الإسلامية
بقلم الشيخ
عبد الله بن سليمان بن منيع
1 - ولد بشقراء عام 1349 هـ المملكة العربية السعودية.
2 - ماجستير في الشريعة الإسلامية من المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود.
3 - قاض في محكمة التمييز بالمنطقة الغربية وعضو هيئة كبار العلماء والمجلس الأعلى للأوقاف.
4 - أمضى قرابة عشرين عاما عضوا في الإفتاء وقرابة عامين نائبا للرئيس العام وأربعة في المجال القضائي لتمييز الأحكام بالمملكة العربية السعودية.
* الآثار العلمية:
1 - الورق النقدي.
2 - مع المالكي في رد أضاليله ومنكراته.
3 - مع الاشتراكيين في أضواء الشريعة.(7/290)
الحمد لله وأستعينه وأستغفره وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام المتقين وسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا
وبعد، فلقد أجمعت القوانين الوضعية أو كاد إجماعها ينعقد على براءة المتهم حتى تثبت إدانته. وحيث إن الاتهام في حد ذاته تختلف مقومات اعتباره باختلاف الأحوال والظروف والملابسات المحيطة به وباختلاف القرائن المقوية للاتهام أو المهونة من أمره، وحيث إن المتهم نفسه قد يكون في حد ذاته أهلا للاتهام إما لسوابقه وقدم سبقه في الإجرام أو لأن مثله حري بالإجرام، أو لأن حاله توحي بالإجرام وتغري به، وحيث إن التهمة نفسها منزلة بين البراءة التامة وبين ثبوت الجريمة، لذلك كله فإن القول ببراءة المتهم حتى تثبت إدانته قول لا يتفق مع معنى الاتهام في اللغة ولا يلتقي مع مبدأ أخذ المتهم والتحقيق معه حتى لو آل أمر التحقيق معهن إلى حبسه وضربه. كما أن القول بثبوت الإجرام بالاتهام فقط قول لا يتفق مع العدل والإنصاف والبراءة الأصلية، وحيث إن هذا المبدأ القانوني قد أخذ به مجموعة من فقهاء التشريعات السماوية والوضعية واعتبروه من النظريات البديهية التي لا تقبل الجدل أو التردد في الاعتبار فقد بدا لي أن أكتب في نظرية براءة المتهم حتى تثبت إدانته وحظها من الاعتبار في الشريعة الإسلامية ومناقشة ذلك في ضوء معنى الاتهام وحجم الاتهام وحال الاتهام وتقييم أخذ المتهم بتهمته ظلما أو عدلا.
* المتهم اسم مفعول من اتهم يتهم فهو متهم اسم مفعول مزيد بالألف والتاء وأصله قبل الإبدال اوتهم على وزن افتعل فأبدلت الواو التي هي فاء الكلمة تاء وأدغمت في تاء الافتعال فصار بعد الإبدال والإدغام اتهم.(7/291)
وأصل الفعل من باب فتح يفتح وضرب يضرب ومصدره وهم. قال في القاموس وشرحه الوهم مرجوح أحد طرفي المتردد فيه. وأوهمه ووهمه غيره واتهمه بكذا اتهاما واتهمه كافتعله وأوهمه أدخل عليه التهمة، وقال في اللسان: الوهم من خطرات القلب. والتهمة أصلها الوهمة من الوهم، ويقال اتهمته افتعال منه يقال اتهمت فلانا على بناء افتعلت أي أدخلت عليه التهمة: وقال الجوهري. اتهمت فلانا بكذا والاسم التهمة بالتحريك وأصل التاء فيه واو على ما ذكر في وكل، وقال ابن سيده التهمة الظن تاؤه مبدلة من واو كما أبدلوها في تخمة سيبويه - إلى أن قال - واتهم الرجل واتهمه وأوهمه أدخل عليه التهمة أي ما يتهم عليه إلى أن قال: واتهم الرجل إذا صارت به الريبة. اهـ.
فقول صاحب القاموس إن الوهم مرجوح أحد طرفي المتردد فيه. يفيد أن الاتهام لا يعتبر إلا بما ينقدح في الذهن مرجحا لأحد طرفي المتردد فيه باعتبارات خارجية موجبة، وهذا يعني أن استواء طرفي المتردد فيه لا يسمى وهما، وبالتالي فلا يجوز الوصف بالاتهام إذا لم يكن ثم ما يقيمه ويعطي رجحان أحد طرفيه عطاء إيجابيا. فلو أن إنسانا مجهول الحال وجهت إليه التهمة بفعل جريمة ما وليس لهذا الاتهام ما يسنده مطلقا لا من حيث حال الفعل وملابساته وظروفه ولا من حيث حال الشخص نفسه. فالاتهام نفسه طرف والبراءة من الاتهام طرف، وكلا الطرفين متساو في النظر والاعتبار، وكل طرف من الطرفين متردد في اعتباره إذ ليس في العقل ولا في الحس ما يحول دون إمكان وجود الجريمة من المتهم بها، ولو لم يكن في الوجود الذهني ما يؤيد وقوعها. كما أن البراءة الأصلية لا تحول دون الانتقال منها إلى الإجرام إلا أن فقدنا ما يقوي أحد الطرفين جعلنا ننفى عن ذلك الشخص وصفه بالاتهام، وهذا معنى استواء طرفي المتردد فيه.
ولو أن إنسانا آخر وجهت إليه التهمة بفعل جريمة ما وكان لهذا الاتهام ما يسنده من حيث الأحوال أو الظروف أو الملابسات، أو أن الشخص نفسه أهل للاتهام من حيث سوابقه، أو أن مثله يفعل ذلك فقد ترجح لدينا اتهامه وقوي جانب الادعاء عليه به، وأصبحت البراءة الأصلية بالنسبة له مرجوحة، وهذا معنى الوهم مرجوح أحد طرفي المتردد فيه، فهذا المتهم لا نستطيع أن نسلم له بالبراءة الأصلية المطلقة حتى تثبت الجريمة؛ لأننا بذلك نضيع على أنفسنا أمورا(7/292)
بإضاعة مثلها تفقد العدالة كثيرا من مقومات سلطانها وحفاظها على الحق والعدل والاستقرار.
* حقا إن القضاء الإسلامي وهو لسان الحق والعدل والإنصاف لا يستطيع أن يستبعد من اعتباره ونظره ومجال تأمله شواهد الأحوال والقرائن والأمارات في قوة الاتهام وتقوية جانب الادعاء لمن يحمل في ادعائه ما يقوي به جانبه من قرائن وأمارات، وبالتالي فإن القضاء في الإسلام لا يعطي المتهم براءة مطلقة من الادعاء ما لم يكن الاتهام خاليا مما يسنده.
* لقد اعتبرت الشريعة الإسلامية القرائن والأمارات مؤيدة للادعاء وإن لم تكن في نفسها طريقا كافيا للإثبات. قال تعالى في قصة يوسف: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (2) {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (3) {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (4) {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} (5)
فاتهام يوسف واتهام امرأة العزيز بالمراودة فصلت فيه القرائن والأمارات حيث كان شق قميص يوسف من دبره يدل على أنه كان هاربا منها وأنها وراءه متعلقة به آخذة بوثبه حتى انشق من الخلف، فكان هذا كافيا للعزيز في تبرئة يوسف من الاتهام والحكم على امرأة العزيز بالمراودة.
قال شيخنا الشيخ محمد الشنقيطي رحمه الله في تفسيره: أضواء البيان: ما نصه: يفهم من هذه الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة الدالة على صدق أحد الخصمين وكذب الآخر؛ لأن ذكر الله لهذه القصة في معرض تسليم الاستدلال بتلك القرينة على براءة يوسف يدل على أن الحكم بمثل ذلك حق وصواب؛ لأن كون القميص مشقوقا من جهة دبره دليل واضح على أنه هارب عنها وهي تنوشه من خلفه، ولكنه تعالى بين في موضع آخر أن محل العمل بالقرينة ما لم تعارضها قرينة أقوى منها، فإن عارضتها قرينة أقوى منها أبطلتها، وذلك في قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (6)
__________
(1) سورة يوسف الآية 25
(2) سورة يوسف الآية 26
(3) سورة يوسف الآية 27
(4) سورة يوسف الآية 28
(5) سورة يوسف الآية 29
(6) سورة يوسف الآية 18(7/293)
لأن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب جعلوا على قميصه دم سخلة ليكون وجود الدم على قميصه قرينة على صدقهم في دعواهم أنه أكله الذئب. ولا شك أن الدم قرينة على افتراس الذئب له، ولكن يعقوب أبطل قرينتهم هذه بقرينة أقوى منها وهي عدم شق القميص، فقال: سبحان الله متى كان الذئب حليما كيسا يقتل يوسف ولا يشق قميصه، ولذا صرح بتكذيبه لهم في قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (1) وهذه الآيات المذكورة أصل في الحكم بالقرائن. اهـ (2) .
قال القرطبي - رحمه الله - في تفسيره: قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} (3) استدل الفقهاء بهذه الآية على إعمال الأمارات في مسائل من الفقه كالقسامة وغيرها، وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بصحة القميص، وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح وهي قوة التهمة، ولا خلاف في الحكم بها، قاله ابن العربي. اهـ (4) .
وقال ابن القيم - رحمه الله - في كتابه الطرق الحكمية في معرض ذكره مجموعة من الشواهد على اعتبار القرائن والأحوال والأمارات وذكره مما ذكر قصة يوسف مع امرأة العزيز وإيراده للآية الكريمة قال: فنتوصل بقد القميص إلى تمييز الصادق منهما من الكاذب وهو لوث في أحد المتنازعين يبين به أولاهما بالحق. اهـ (5) .
* وقال تعالى في قصة شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآَثِمِينَ} (6)
__________
(1) سورة يوسف الآية 18
(2) الجزء الثالث ص: 61 - 62.
(3) سورة يوسف الآية 18
(4) الجزء التاسع: ص: 150.
(5) الطرق الحكمية ص: 6.
(6) سورة المائدة الآية 106(7/294)
{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (1) {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} (2) فقد اعتبر الشارع تعالى شهادة غير المسلم على المسلم قرينة مؤيدة لدعوى الوصية من الميت وأمر في حالة الارتياب فيها أن يحلف الشاهد على صدقه في شهادته ثم تثبت الدعوى بالوصية.
* قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الطرق الحكمية: وقد ذكر الله سبحانه اللوث في دعوى المال في قصة شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر وأمر بالحكم بموجبه، وجاءت السنة المطهرة باعتبار القرائن والأمارات مؤيدة للدعوى، فقد روى أبو داود في سننه وأحمد وغيرهما من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده «أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة ما (3) » قال علي بن المديني: حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده صحيح، وفي جامع الخلال عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يوما وليلة» .
«وعاقب صلى الله عليه وسلم بالضرب في تهمة، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما أجلى يهود بني النضير من المدينة على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم غير الحلقة والسلاح كان لابن أبي الحقيق مال عظيم يبلغ مسك ثور من ذهب وحلي، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وكان بعضها عنوة وبعضها صلحا ففتح أحد جانبيها صلحا، وتحصن أهل الجانب الآخر فحصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوما فسألوه الصلح وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل فأكلمك؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم فنزل ابن أبي الحقيق فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقن دماء في حصونهم من المقاتلة وترك الذرية لهم ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ويخلون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة إلا ثوبا على ظهر إنسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا، فصالحوه على ذلك» .
قال حماد بن سلمة: أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم فغلب على الزرع والأرض والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء
__________
(1) سورة المائدة الآية 107
(2) سورة المائدة الآية 108
(3) سنن الترمذي الديات (1417) ، سنن النسائي قطع السارق (4876) ، سنن أبو داود الأقضية (3630) .(7/295)
وشرط عليهم ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي بن أخطب: ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير؟ قال أذهبته النفقات والحروب، قال: العهد قريب والمال أكثر من ذلك، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير فمسه بعذاب، وقد كان قبل ذلك دخل خربة فقال قد رأيت صبيا يطوف في خربة ههنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق - وأحدهما زوج صفية - بالنكث الذي نكثوا.
قال ابن القيم - رحمه الله - بعد إيراده هذه القصة: ففي هذه السنة الصحيحة الاعتماد على شواهد الحال والأمارات الظاهرة وعقوبة أهل التهم. اهـ (1) .
* والزم علي بن أبي طالب رضي الله عنه الظعينة التي حملت خطاب حاطب بن أبي بلتعة لقريش بضرورة إخراجها الخطاب حينما أنكرته، وقال: لها لتخرجن الكتاب أو لنجردنك، فلما رأت الجد أخرجته من عفاصها. ومشروعية القسامة في الدماء والأموال نوع من العمل بالقرائن والأمارات والحكم بالقسامة اعتماد على ظاهر الأمارات المقوية جانب الدعوى حيث جاز للمدعي بها ولأجل القرائن أن يحلف أيمان القسامة ويستحق دم المدعى عليه أو دية مورثه مع أنه لم ير ولم يشهد.
* وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، وابن القيم في كتابه الطرق الحكمية، وابن فرحون في كتابه تبصرة الحكام، وأبو الحسن الطرابلسي في كتابه معين الحكام، وابن الشحم في كتابه لسان الحكام. ذكروا - رحمهم الله - مجموعة من الشواهد والوقائع على العمل بالقرينة في تقوية جانب الادعاء على المتهم لولا خوف الإطالة لاستعرضناها.
* فلو قلنا ببراءة المتهم حتى تثبت إدانته لتعين علينا طرح قرائن الاتهام لأنها - على الصحيح مما اتجه إليه المحققون من أهل العلم - ليست طرق إثبات بمفردها، ولاضطررنا إلى تعطيل الكثير من روافد الإثبات من قرائن وأحوال وملابسات وأمارات، ولكان حبس المتهم ومسه بالعذاب للتحقيق معه في دعوى التهمة ضربا من الظلم والطغيان، ولكان الحكم بالقسامة ضربا من الجور والعدوان، ولا يقول
__________
(1) الطرق الحكمية ص: 8.(7/296)
بهذا من له أدنى نظر في التعرف على الحقوق وعوامل إقرارها وإحقاقها والحكم بثبوتها.
وفي مثل هذا يقول ابن القيم - رحمه الله - في كتابه الطرق الحكمية ما نصه: وبالجملة فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره، ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد لم يعط مسماها حقه. ولم تأت البينة قط مرادا بها الشاهدان، وإنما أتت مرادا بها الحجة والدليل والبرهان مفردة ومجموعة، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «البينة على المدعي (1) » المراد به أن عليه ما يصحح دعواه ليحكم له والشاهدان من البينة، ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوى منها كدلالة الحال على صدق المدعي فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد، والبينة والدلالة والحجة والبرهان والآية والتبصرة والعلامة والأمارة متقاربة في المعنى، وقد روى ابن ماجه وغيره عن جابر بن عبد الله قال: «أردت السفر إلى خيبر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إني أريد الخروج إلى خيبر، فقال: إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا فإذا طلب منك آية فضع يدك على ترقوته (2) » .
فهذا اعتماد في الدفع على مجرد العلامة وإقامة لها مقام الشاهد، فالشارع لم يلغ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال، بل من استقرأ الشرع في مصادره وموارده وجده شاهدا له بالاعتبار مرتبا عليها الأحكام - ثم قال بعد أن استنكر رأي من يقف من القرائن والأمارات موقفا سلبيا ويعتمد على أدلة الإثبات من شهادة أو إقرار -: وهذا موضع مزلة أقدام ومخبلة أفهام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرؤا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنها حق مطابق للواقع ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع، ولعمر الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نفت ما فهموه هم من شريعة باجتهادهم. والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمر إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياستهم شرا طويلا وفسادا عريضا فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه وعز على
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1341) .
(2) سنن أبو داود الأقضية (3632) .(7/297)
العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك واستنفاذها من تلك المهالك، وأفرطت طائفة أخرى قابلت تلك الطائفة فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله. وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه فالله سبحانه وتعالى أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإن ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له. فلا يقال إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله أظهر بهذه الأمارات والعلامات، فقد «حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم في تهمة وعاقب في تهمة (1) » لما ظهرت له أمارات الريبة على المتهم.
فمن أطرق كل متهم وحلفه وخلى سبيله مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض وكثرة سرقاته وقال لا آخذه إلا بشاهدي عدل فقوله مخالف للسياسة الشرعية اهـ (2) .
* إننا لا نريد بهذا ومن هذا أن نقرر ضرورة الأخذ بالقرائن والأمارات والأحوال والملابسات وإعطائها ما تستحقه من النظر والاعتبار في تقوية جانب الادعاء، فهذا أمر مسلم به، ويرحم الله من العلماء من خدموه ووضحوه وأزاحوه وأزاحوا عن وجهه القترة والأعتام حتى أصبح من الأمور البديهية في محيط القضاء في الإسلام.
* وإنما نريد من ذلك توضيح ما تستلزمه هذه القرائن والأحوال من التصاق المتهم بما يتجه عليه الادعاء به وبالتالي رفض القول ببراءة المتهم حتى تثبت إدانته، والحال أن القرائن والأمارات والأحوال والملابسات تلصق به الاتهام.
* ثم إن المتهم نفسه لا يخلو من أحوال ثلاثة: إما أن يكون على جانب من الصلاح والاستقامة والتقوى وأن مثله يستبعد اتهامه بما اتهم به، فهذا يعتبر بريئا براءة مطلقة ولا
__________
(1) سنن الترمذي الديات (1417) ، سنن النسائي قطع السارق (4876) ، سنن أبو داود الأقضية (3630) .
(2) الطرق الحكمية ص: 12-14.(7/298)
يجوز لذلك القبض عليه ولا تناوله بشيء مما يمس كرامته أو يجرح شعوره من حبس أو ضرب أو توبيخ، والدعوى عليه بالاتهام إن كانت من حقوق الله تعالى فلا تسمع، وإن كانت حقا لآدمي فقد اختلف أهل العلم في سماعها، وعلى القول بسماعها فهل يحلف على نفي الدعوى أم لا؟ خلاف بين أهل العلم في ذلك. وتوجيه براءته البراءة المطلقة أن براءته من الاتهام طرف واتهامه بالدعوى طرف، والأصل أنهما طرفان متساويان لإمكان قيامه بالفعل المدعى عليه به، ولأن الأصل براءته من ذلك الفعل إلا أن حاله المتمثلة في استقامته وصلاحه وتقواه تؤيد براءته الأصلية من التهمة لاستبعاد قيامه بما فيه الدعوى بحكم ما هو عليه من حال توجب ذلك، فقد ترجح بهذا طرف البراءة الأصلية فقلنا ببراءته من الاتهام براءة مطلقة، وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - هذا النوع من أقسام المتهمين بقوله: فإن كان بريئا لم تجز عقوبته اتفاقا، واختلفوا في عقوبة المتهم له على قولين أصحهما يعاقب صيانة لتسلط أهل الشر والعدوان على أعراض البرآء.
قال مالك وأشهب - رحمهما الله -: لا أدب على المدعي إلا أن يقصد أذية المدعى عليه وعيبه وشتمه فيؤدب، وقال أصبغ: يؤدب، قصد أذية أو لم يقصد.
وهل يحلف في هذه الصور؟ فإن كان المدعى حدا لله لم يحلف عليه، وإن كان حقا لآدمي ففيه قولان مبنيان على سماع الدعوى، فإن سمعت الدعوى أحلف له، وإلا لم يحلف، والصحيح أنه لا يسمع الدعوى في هذه الصورة ولا يحلف المتهم لئلا يتطرق الأراذل والأشرار إلى الاستهانة بأهل الفضل والأخيار. اهـ (1) .
* وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: وذلك أن الناس في التهم ثلاثة أصناف: صنف معروف عند الناس بالدين والورع وأنه ليس من أهل التهم فهذا لا يحبس ولا يضرب، بل ولا يستحلف في أحد قولي العلماء، بل يؤدب من يتهمه فيما ذكره كثير منهم (2) اهـ.
الحال الثانية: أن يكون المتهم مجهول الحال لا يعرف باستقامة ولا فجور، ففي هذه الحال يستوي الطرفان طرف البراءة الأصلية من الاتهام وطرف إمكان القيام بالفعل
__________
(1) الطرق الحكمية ص: 101.
(2) مجموع الفتاوى - ص: 236- جزء 34.(7/299)
موضوع الدعوى. وحيث إن الشارع ينظر إلى الحقوق نظرة حفاظ ورعاية واحتياط. وحيث إن مجهول الحال من المتهمين لا يستبعد منه أن يقوم بما فيه الدعوى بالاتهام، فإن واجب الاحتياط لرعاية الحقوق والحفاظ عليها يرجح جانب الاتهام على جانب البراءة الأصلية حيث يستدعي الأمر القبض على المتهم والتحقق معه فيما اتهم به وحبسه حتى ينكشف أمره، وهذا يعني أننا لا نقول ببراءة مجهول الحال براءة مطلقة بحيث يعتبر القبض عليه والتحقيق معه وحبسه حتى ينكشف أمره ضربا من الظلم والتعدي، ولا نقول باتهامه اتهاما يوجب ضربه، وإنما نقول بضرورة رعاية جانب الحقوق ممن لا يستبعد منه الاعتداء عليها بأخذه بما يعتبر تحفظا.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ما نصه: والثاني من يكون مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور، فهذا يحبس حتى يكشف عن حاله، وقد قيل يحبس شهرا وقيل يحبس بحسب اجتهاد ولي الأمر.
* والأصل في ذلك ما روى أبو داود وغيره «أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة (1) » . وقد نص على ذلك الأئمة، وذلك أن هذه بمنزلة ما لو ادعى عليه مدع فإنه يحضر مجلس ولي الأمر الحاكم بينهما، وإن كان في ذلك تعويقه عن أشغاله فكذلك تعويق هذا إلى أن يعلم أمره، ثم إذا سأل عنه ووجد بارا أطلق. اهـ (2) .
* الثالث: أن يكون المتهم معروفا بالفجور والإجرام وأن مثله يقع في الاتهام، فهذا أشد من الثاني وأوغل منه في الاتهام، فقد ترجح جانب اتهامه على جانب براءته مما هو عليه من حال تقوى جانب الإدعاء عليه بالاتهام. وفي هذا الصنف من أصناف المتهمين يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في المجموع ما نصه: وإن وجد فاجر كان من الصنف الثالث، وهو الفاجر الذي عرف منه السرقة قبل ذلك، أو عرف بأسباب السرقة مثل أن يكون معروفا بالقمار والفواحش التي لا تتأتى إلا بالمال وليس له مال، ونحو ذلك فهذا لوث في التهمة، ولهذا قالت طائفة من العلماء: إن مثل هذا يمتحن بالضرب يضربه الوالي والقاضي كما قال أشهب صاحب مالك وغيره حتى يقر بالمال - إلى أن قال - ثم المتولي له أن يقصد بضربه مع تقريره عقوبته على فجوره
__________
(1) سنن الترمذي الديات (1417) ، سنن النسائي قطع السارق (4876) ، سنن أبو داود الأقضية (3630) .
(2) مجموع الفتاوى جزء: 34 ص: 236.(7/300)
المعروف فيكون تعزيرا وتقريرا وليس على المتولي أن يرسل جميع المتهمين حتى يأتي أرباب الأموال بالبينة على من سرق. اهـ (1) .
* وقال الشاطبي - رحمه الله - (2) ما نصه: إن العلماء اختلفوا في الضرب بالتهم. وذهب مالك إلى جواز الضرب وهو عند الشيوخ من قبيل تضمين الصناع، فإنه لو لم يكن الضرب والسجن بالتهم لتعذر استخلاص الأموال من أيدي السراق والغصاب، إذ قد يتعذر إقامة البينة، فكانت المصلحة في التعذيب وسيلة إلى التحصيل بالتعيين والإقرار.
* فإن قيل هذا فتح باب تعذيب البرئ قيل: ففي الإعراض عنه إبطال استرجاع الأموال، بل الإضراب عن التعذيب أشد ضررا، إذ لا يعذب أحد لمجرد الدعوى بل مع اقتران قرينة تحيك في النفس وتؤثر في القلب نوعا من الظن، فالتعذيب في الغالب لا يصادف البرئ، وإن أمكن مصادفته فيغتفر كما اغتفر في تضمين الصناع، فإن قيل لا فائدة في الضرب وهو لو أقر لم يقبل إقراره في تلك الحال، فالجواب إن له فائدتين إحداهما: أن يعين المتاع فتشهد عليه البينة به وهي فائدة ظاهرة، والثانية: أن غيره قد يزدجر حتى لا يكثر الإقدام فتقل أنواع هذا الفساد. وقد عد له سحنون فائدة ثالثة، وهي الإقرار حالة التعذيب بأن يؤخذ عنده بما أقر في تلك الحال، قالوا: وهو ضعيف فقد قال الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (3) ولكن سحنون نزله على من أكره بطريق غير مشروع كما إذا أكره على طلاق زوجته، أما إذا أكره بطريق صحيح فإنه يؤخذ به كالكافر يسلم تحت ظلال السيوف فإنه مأخوذ به، وقد تتفق له بهذه الفائدة على مذهب غير سحنون إذا أقر حالة التعذيب ثم تمادى على الإقرار بعد أمنه فيؤخذ به. اهـ.
والمقصود مما سبق إيراده أن الشريعة الإسلامية لم تتجه الاتجاه الذي اتجهه القانون العام واقتبست منه القوانين المختلفة حول النص على براءة المتهم حتى تثبت إدانته، ذلك أن الاتهام في حد ذاته أمر ينقدح في الذهن ويعطي أحد طرفي المتردد فيه رجحانا يجيز للفكر الصادق التهمة بمن وجه إليه الاتهام إما لما
__________
(1) مجموع الفتاوى جزء 34: 236-237.
(2) الاعتصام، الجزء الثاني ص293 وما بعدها.
(3) سورة البقرة الآية 256(7/301)
يصاحب الدعوى من الظروف والملابسات وشواهد الأحوال أو لما تتهيأ له النفس من قبول الدعوى به لإمكان حدوث الفعل موضوع الاتهام من المتهم بها إما للجهل بحاله أو لأن مثله جرى بالدعوى عليه به. وهذا يعني أن المتهم قد التصق به من مقومات الادعاء بموضوع الاتهام ما تستحيل معه براءته براءة مطلقة، وإذا لم تكن هذه المقومات كافية لإقرار موضوع التهمة وإثباتها فإن لوجودها دورا إيجابيا في تعيين طريق الإثبات ونوعه وجهته وتخفيف حجمه، وهذا يعني أن لمقومات اتجاه الاتهام حظها من الإثبات، وبالتالي فإن المتهم غير برئ لقيام مقومات الاتهام وإسنادها الادعاء به واعتبارها جزءا من الإثبات. وما دام المتهم قد علق به من مقومات الادعاء بموضوع الاتهام ما انتفت به براءته من الاتهام فإن القبض عليه والتحقيق معه واستعماله وسائل انتزاع الحقيقة منه بما لا يخرج عن أصل الكرامة الإنسانية سائغ ومتفق مع ابتغاء العدل وتحقيقه، ولا يعد ذلك عدوانا ولا ظلما، فقد «حبس صلى الله عليه وسلم في تهمة وضرب في تهمة وأذن في القسامة لأولياء الدم أن يحلفوا القسامة ويستحقوا دم خصمهم أو دية مورثهم ولو لم يروا أو يشهدوا» وهدد علي بن أبي طالب رضي الله عنه المرأة التي حملت خطاب حاطب بن أبي بلتعة بتجريدها واستباحته ذلك منها إن لم تبرز الخطاب، واعتبر ذلك كله عين الحق وعين العدل وعين النصف، مع أن الجريمة لم تثبت بوسائل الإثبات التقليدية الشهادة أو الإقرار، ولا شك أن ما اتجهت إليه القوانين الوضعية في تبرئة المتهم حتى تثبت إدانته كان له أثره الملموس في تفشي الجريمة وانتشارها واعتبار الإجرام حرفة ينخرط في سلكها كل من يستهين بالقيم والأخلاق مما كان له مردوده وخلفياته في اضطراب الأمن وتعدد الجرائم وضياع الكثير من حقوق في الأنفس والأعراض والأموال حيث إن الإنسان تحت سلطان هذه القوانين لا يأمن على حقوقه في الحياة مهما كان وأينما كان، فكم سمعنا من جرائم الفتك بالأنفس والاختطافات والسرقات، وقد كان لهذا أثره في الاضطرار إلى اتخاذ الاحتياطات الضخمة لتوفير الحماية لعلية القوم من ساسة ورجال أعمال وغيرهم في بيوتهم وسياراتهم ومراكز أعمالهم، ولنا في كل يوم جديد أكثر من شاهد على ما نقول، فكم من نفس قد انتهكت قيمتها، وكم من مال قد هتك حرزه، وكم من عرض قد استبيحت حرمته، وكم من مجتمع قد أفسدت مقومات(7/302)
اجتماعه، وهذا كله في ظل العدالة الديمقراطية والحضارة الإنسانية والحرية الفردية وتحت شعار: المتهم برئ حتى تثبت إدانته. تحت سلطان القوانين الوضعية يقبض على المتهم بالقتل أو السرقة أو انتهاك العرض أو قطع الطريق أو الإفساد في الأرض ويصاحب الاتهام ما يقوى به الادعاء وتأتي القاعدة القانونية: المتهم برئ حتى تثبت إدانته لتكون حجر عثرة في مسار القضاء نحو تحقيق العدل وإحقاق الحق. فلا يجوز تحت سلطان هذا المبدأ مسه بسوء لاستصحاب براءته الأصلية حتى توجد الأدلة التقليدية الكافية لإثبات جريمته وقد لا توجد، وإن كانت الأمارات والقرائن متوفرة في إسناد الاتهام وتقوية جانب الادعاء به. وبالتالي يتعين إطلاق سراحه لبقاء براءته وانتفاء إدانته حتى لو كانت شواهد الأحوال تصرخ بظلمه وعدوانه وإجرامه، ولو كان من أفجر عباد الله وأقربهم إلى الشر وأبعدهم عن الخير.
وبهذا نستطيع القول إن الشريعة الإسلامية لا تسلم للقانون بصواب ما اتجه إليه في تبرئة المتهم حتى تثبت إدانته ما لم يكن الاتهام عاريا عما يسنده من قرائن وأمارات والمتهم معروفا بالبر والصلاح والاستقامة وسلامة الاتجاه، أما إذا كان الاتهام مصحوبا بما يقوى جانب الادعاء به وكان المتهم ممن لا يستبعد وقوعه فيما اتهم فهذا النوع من المتهمين غير بريء وحاله وما صاحب حاله من أمارات وقرائن تلزمه بجانب من إثبات الاتهام، وقد كان لهذا التجاه من الشريعة الإسلامية وهذا النظر في القضاء الإسلامي والسياسة الشرعية أثره في الحفاظ على الحقوق وبناء مجتمعات إسلامية تعيش في ظلال وارفة من الأمن والاستقرار والثقة بوازعي القرآن والسلطان في حماية الحقوق بمختلف أجناسها وأنواعها، كما أن لذلك أثره في محاربة الجريمة والتقليل منها ومن أصحابها، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
هذا ما تيسر لي إيراده، وأرجو أن أكون بما قدمته قد وضحت ما أراه وأعتقده في موضوع البحث والله المستعان.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا.
القاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة
وعضو هيئة كبار العلماء عبد الله بن سليمان بن منيع(7/303)
بسم الله الرحمن الرحيم
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (1) {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2)
صدق الله العظيم
الآية 75 و 76 سورة النحل
__________
(1) سورة النحل الآية 75
(2) سورة النحل الآية 76(7/303)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (1)
(سورة المؤمنون - الآية 52)
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 52(8/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله الفالح
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(8/2)
مجلة البحوث الإسلامية
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا
العدد الثامن: ذو القعدة. ذو الحجة عام 1403. محرم. صفر. عام 1404 هـ
أغسطس. سبتمبر. اكتوبر. نوفمبر عام 1983 مـ(8/3)
المحتويات
الافتتاحية
الله خالق كل شيء وما سواه مخلوق سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
المعاملات المصرفية إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 18
الفتاوى إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 149
بيان مذهب أهل السنة في الاستواء سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 169
القضاء في الإسلام وأثر تطبيق السعودية له بقلم الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع 173(8/4)
التمسك بالسنة وأثره في استقامة المسلم بقلم الشيخ صالح بن سعود العلي 183
هل توجد في القرآن كلمات معربة بقلم الدكتور محمد تقي الدين الهلالي 206
التغيير في حياة الأمم وعوامل الثبات والاهتزاز بقلم الدكتور أحمد محمد العسال 223
ثمرات الإيمان بالله واليوم الآخر بقلم الشيخ الغزالي خليل عيد 243
أسئلة وأجوبة عن الغزو الفكري مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز إعداد التحرير 286(8/5)
صفحة فارغة(8/6)
الافتتاحية
الله خالق كل شيء وما سواه مخلوق
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أما بعد: فقد كتب إلي بعض الإخوان يذكر أنه ألقى عليه بعض زملائه شبهة قائلا: إنه يعترف أن الله سبحانه هو خالق السماوات والأرض والعرش والكرسي وكل شيء، ولكنه يسأل قائلا: الله ممن تكون؟ فأجابه بقوله له: كلامك الأول صحيح لا تعليق عليه، أما قولك الثاني وهو قولك: الله ممن تكون؟ فلا يقوله مسلم وينبغي أن يسعك ما وسع الصحابة - رضي الله عنهم - فإنهم لم يسألوا مثل هذا السؤال وهم الفطاحل في العلم، وقال له أيضا: إن الله سبحانه قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وقال: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) ، إلى آخر ما ذكره وسألني الإجابة عن هذه الشبهة فأجبته عن ذلك بما نصه:
اعلم وفقني الله وإياك وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه أن
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة الحديد الآية 3(8/7)
شياطين الإنس والجن لم يزالوا ولن يزالوا يوردون الكثير من الشبه على أهل الإسلام وغيرهم للتشكيك في الحق وإخراج المسلم من النور إلى الظلمات وتثبيت الكافر على عقيدته الباطلة، وما ذاك إلا لما سبق في علم الله وقدره السابق من جعل هذه الدار دار ابتلاء وامتحان، وصراع بين الحق والباطل حتى يتبين طالب الهدى من غيره وحتى يتبين الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق كما قال سبحانه: {الم} (1) {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} (2) {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (3) ، وقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (4) ، وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (5) . وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (6) {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} (7) ، فأوضح سبحانه في الآيات: الأولى والثانية والثالثة أنه يبتلى مدعي الإيمان بشيء من الفتن ليتبين صدقه في إيمانه أو عدمه.
وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك بمن مضى ليعلم سبحانه الصادقين من الكاذبين وهذه الفتنة تشمل فتنة المال والفقر والمرض، والصحة والعدو وما يلقي الشياطين من الإنس والجن من أنواع الشبه وغير ذلك من أنواع الفتن، فيتبين بعد ذلك الصادق في إيمانه من الكاذب، ويعلم الله ذلك علما ظاهرا موجودا في الخارج بعد علمه السابق
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 1
(2) سورة العنكبوت الآية 2
(3) سورة العنكبوت الآية 3
(4) سورة محمد الآية 31
(5) سورة الأنعام الآية 121
(6) سورة الأنعام الآية 112
(7) سورة الأنعام الآية 113(8/8)
لأنه سبحانه قد سبق في علمه كل شيء كما قال عز وجل: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال: وعرشه على الماء (2) » خرجه مسلم في صحيحه، ولكنه عز وجل لا يؤاخذ العباد بمقتضى علمه السابق وإنما يؤاخذهم ويثيبهم على ما يعلمه منهم بعد علمهم إياه ووجوده منهم في الخارج، وذكر في الآيات الرابعة والخامسة والسادسة أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم من أنواع الشبه وزخرف القول ما يغرونهم به؛ ليجادلوا به أهل الحق ويشبهوا به على أهل الإيمان ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، وليرضوا به؛ فيصولوا ويجولوا ويلبسوا الحق بالباطل ليشككوا الناس في الحق ويصدوهم عن الهدى وما الله بغافل عما يعملون، لكن من رحمته عز وجل أن قيض لهؤلاء الشياطين وأوليائهم من يكشف باطلهم ويزيح شبهتهم بالحجج الدامغة والبراهين القاطعة فيقيموا بذلك الحجة ويقطعوا المعذرة، وأنزل كتابه سبحانه تبيانا لكل شيء كما قال عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (3) وقال سبحانه: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (4) قال بعض السلف: هذه الآية عامة لكل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: أوقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان (5) » ، قال بعض أهل العلم في تفسير ذلك: إن الإنسان قد يوقع الشيطان في نفسه من الشكوك والوساوس ما يصعب عليه أن ينطق به لعظم بشاعته ونكارته حتى إن خروره من السماء أهون عليه من أن ينطق به، فاستنكار العبد لهذه الوساوس واستعظامه إياها ومحاربته لها، هو صريح الإيمان؛ لأن إيمانه الصادق بالله - عز وجل - وبكمال أسمائه وصفاته وأنه لا شبيه له، ولا ند له وأنه الخلاق العليم الحكيم الخبير
__________
(1) سورة الطلاق الآية 12
(2) صحيح مسلم القدر (2653) ، سنن الترمذي القدر (2156) ، مسند أحمد بن حنبل (2/169) .
(3) سورة النحل الآية 89
(4) سورة الفرقان الآية 33
(5) صحيح مسلم الإيمان (132) ، سنن أبو داود الأدب (5111) ، مسند أحمد بن حنبل (2/456) .(8/9)
يقتضي منه إنكار هذه الشكوك والوساوس ومحاربتها واعتقاد بطلانها ولا شك أن ما ذكره لك هذا الزميل من جملة الوساوس وقد أحسنت في جوابه ووفقت للصواب فيما رددت به عليه زادك الله علما وتوفيقا.
وأنا أذكر لك - إن شاء الله - في هذا الجواب بعض ما ورد في هذه المسألة من الأحاديث وبعض كلام أهل العلم عليها لعله يتضح لك من ذلك الزميل المبتلى بالشبهة التي ذكرت ما يكشف الشبهة ويبطلها، ويوضح الحق، ويبين ما يجب على المؤمن أن يقوله ويعتمده عند ورود مثل هذه الشبهة ثم أختم ذلك بما فتح الله علي في هذا المقام العظيم وهو سبحانه ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل.
قال الإمام البخاري - رحمه الله - في كتابه الجامع الصحيح ص 336 من المجلد السادس من فتح الباري طبعة المطبعة السلفية، في باب صفة إبليس وجنوده: حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير، قال: أبو هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته (1) » ، ثم رواه في كتاب الاعتصام ص 264 من المجلد الثالث عشر من فتح الباري، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله (2) » انتهى.
وأخرج مسلم في صحيحه اللفظ الأول من حديث أبي هريرة ص 154، من الجزء الثاني من المجلد الأول من شرح مسلم للنووي - رحمه الله - وأخرج مسلم أيضا بلفظ آخر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله ورسله (3) » ، ثم ساقه بألفاظ أخرى ثم رواه أنس - رضي الله عنه - «عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله - عز وجل -: إن أمتك لا يزالون يقولون ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله (4) » .
وخرج مسلم أيضا - رحمه الله - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال «جاء ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3276) ، صحيح مسلم الإيمان (134) ، مسند أحمد بن حنبل (2/331) .
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7296) ، صحيح مسلم الإيمان (136) ، مسند أحمد بن حنبل (3/102) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (134) ، سنن أبو داود السنة (4721) .
(4) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7296) ، صحيح مسلم الإيمان (136) ، مسند أحمد بن حنبل (3/102) .(8/10)
أحدنا أن يتكلم به قال: وقد وجدتموه، قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان (1) » ، ثم رواه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: سئل النووي - رحمه الله - في شرح مسلم لما ذكر هذه الأحاديث ما نصه.
أما معاني الأحاديث وفقهها فقوله صلى الله عليه وسلم: «ذاك صريح الإيمان ومحض الإيمان (2) » ، معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلا عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك، واعلم أن الرواية الثانية وإن لم يكن فيها ذكر الاستعظام فهو مراد وهي مختصرة من الرواية الأولى؛ ولهذا قدم مسلم - رحمه الله - الرواية الأولى وقيل معناه: إن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه.
وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء ولا يقتصر في حقه على الوسوسة بل يتلاعب به كيف أراد، فعلى هذا معنى الحديث سبب الوسوسة محض الإيمان، أو الوسوسة علامة محض الإيمان، وهذا القول اختيار القاضي عياض.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن وجد ذلك فليقل آمنت بالله (3) » وفي الرواية الأخرى: «فليستعذ بالله ولينته (4) » ، فمعناه الإعراض عن هذا الخاطر الباطل والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه، قال الإمام المازري - رحمه الله -: ظاهر الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها، قال: والذي يقال في هذا المعنى: أن الخواطر على قسمين: فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها وعلى هذا يحمل الحديث، وعلى مثلها يطلق اسم الوسوسة، فكأنه لما كان أمرا طارئا بغير أصل دفع بغير نظر في دليل؛ إذ لا أصل له ينظر فيه، وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها والله أعلم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «فليستعذ بالله ولينته (5) » ، فمعناه إذا عرض له هذا الوسواس فليلجأ إلى الله تعالى في دفع شره عنه، وليعرض عن الفكر في ذلك وليعلم أن هذا الخاطر من
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (132) ، سنن أبو داود الأدب (5111) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (132) ، سنن أبو داود الأدب (5111) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (134) ، سنن أبو داود السنة (4721) ، مسند أحمد بن حنبل (2/331) .
(4) صحيح البخاري بدء الخلق (3276) ، صحيح مسلم الإيمان (134) .
(5) صحيح البخاري بدء الخلق (3276) ، صحيح مسلم الإيمان (134) .(8/11)
وسوسة الشيطان، وهو إنما يسعى بالفساد والإغواء فليعرض عن الإصغاء إلى وسوسته وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها، والله أعلم.
وقال الحافظ في الفتح في الكلام على حديث أبي هريرة المذكور في أول هذا الجواب ما نصه: قوله: «من خلق ربك، فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته (1) » ، أي: عن الاسترسال معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعه، ويعلم أنه يريد إفساد دينه وعقله بهذه الوسوسة، فينبغي أن يجتهد في دفعها بالاشتغال بغيرها، قال الخطابي: وجه هذا الحديث أن الشيطان إذا وسوس بذلك فاستعاذ الشخص بالله منه وكف عن مطاولته في ذلك اندفع، قال: وهذا بخلاف ما لو تعرض أحد من البشر بذلك فإنه يمكن قطعه بالحجة والبرهان، قال: والفرق بينهما أن الآدمي يقع منه كلام بالسؤال والجواب والحال معه محصور، فإذا راعى الطريقة وأصاب الحجة انقطع، وأما الشيطان فليس لوسوسته انتهاء، بل كلما ألزم حجة زاغ إلى غيرها إلى أن يفضي بالمرء إلى الحيرة، نعوذ بالله من ذلك.
قال الخطابي: على أن قوله: من خلق ربك؟ كلام متهافت ينقض آخره أوله؛ ولأن الخالق يستحيل أن يكون مخلوقا ثم لو كان السؤال متجها لاستلزم التسلسل وهو محال، وقد أثبت العقل أن المحدثات مفتقرة إلى محدث، فلو كان هو مفتقرا إلى محدث لكان من المحدثات، انتهى.
والذي نحا إليه من التفرقة بين وسوسة الشيطان ومخاطبة البشر فيه نظر؛ لأنه ثبت في مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه في هذا الحديث: «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل: آمنت بالله (2) » ، فسوى في الكف عن الخوض في ذلك بين كل سائل عن ذلك من بشر وغيره.
وفي رواية مسلم عن أبي هريرة قال: سألني عنها اثنان، وكان السؤال عن ذلك لما كان واهيا لم يستحق جوابا؛ أو الكف عن ذلك نظير الأمر بالكف عن الخوض في الصفات والذات.
قال المازري: الخواطر على قسمين: فالتي لا تستقر ولا يجلبها شبهة هي التي تندفع بالإعراض عنها، وعلى هذا ينزل الحديث، وعلى مثلها
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3276) ، صحيح مسلم الإيمان (134) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (134) ، سنن أبو داود السنة (4721) .(8/12)
يطلق اسم وسوسة، وأما الخواطر المستقرة الناشئة عن الشبهة فهي التي لا تندفع إلا بالنظر والاستدلال.
قال الطيبي: إنما أمره بالاستعاذة والاشتغال بأمر آخر ولم يأمر بالتأمل والاحتجاج؛ لأن العلم باستغناء الله - جل وعلا - عن الموجود أمر ضروري لا يقبل المناظرة، ولأن الاسترسال في الفكر في ذلك لا يزيد المرء إلا حيرة، ومن هذا حاله فلا علاج له إلا الملجأ إلى الله تعالى والاعتصام به. وفي الحديث إشارة إلى ذم كثرة السؤال عما لا يعني المرء وعما هو مستغن عنه، وفيه علم من أعلام النبوة لإخباره بوقوع ما سيقع فوقع.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول: ولفظ التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات - وهو أن يكون للحادث فاعل وللفاعل فاعل- وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، وهذا هو التسلسل الذي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يستعاذ بالله منه، وأمر بالانتهاء عنه، وأن يقول القائل آمنت بالله ورسله، كما في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته (1) » ، وفي رواية: «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ قال فبينما أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب، فقالوا: يا أبا هريرة هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ قال: فأخذ حصى بكفه فرماهم به، ثم قال: قوموا قوموا، صدق خليلي (2) » .
وفي الصحيح أيضا عن أنس بن مالك «عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله: إن أمتك لا يزالون يسألون: ما كذا؟ ما كذا حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ (3) » انتهى المقصود من كلام الشيخ رحمه الله.
ولعله يتضح لك أيها السائل ولزميلك الذي أورد عليك الشبهة مما ذكرنا من الآيات والأحاديث، وكلام أهل العلم ما يزيل الشبهة ويقضي عليها من أساسها، ويبين بطلانها؛ لأن الله سبحانه لا شبيه له ولا كفو له ولا ند له، وهو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو الخالق لكل شيء وما سواه مخلوق، وقد أخبرنا في كتابه المبين وعلى لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم بما يجب اعتقاده في حقه سبحانه، وبما يعرفنا به ويدلنا عليه من
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3276) ، صحيح مسلم الإيمان (134) ، مسند أحمد بن حنبل (2/331) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (135) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (136) ، مسند أحمد بن حنبل (3/102) .(8/13)
أسمائه وصفاته وآياته المشاهدة من سماء وأرض وجبال وبحار وأنهار وغير ذلك، من مخلوقاته عز وجل. ومن جملة ذلك نفس الإنسان فإنها من آيات الله الدالة على قدرته وعظمته وكمال علمه وحكمته.
كما قال عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (1) ، وقال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} (2) {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (3) أما كنه ذاته وكيفيتها وكيفية صفاته فذلك من علم الغيب الذي لم يطلعنا عليه فالواجب علينا فيه الإيمان والتسليم وعدم الخوض في ذلك ما وسع ذلك سلفنا الصالح من الصحابة - رضي الله عنهم - وأتباعهم بإحسان، فإنهم لم يخوضوا في ذلك ولم يسألوا عنه بل آمنوا بالله سبحانه وبما أخبر به عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يزيدوا على ذلك مع إيمانهم بأنه سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وعلى كل من وجد شيئا من هذه الوساوس، أو ألقي إليه شيء منها أن يستعظمها وينكرها من أعماق قلبه إنكارا شديدا، وأن يقول: آمنت بالله ورسله، وأن يستعيذ بالله من نزغات الشيطان وأن ينتهي عنها ويطرحها كما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك في الأحاديث السابقة، وأخبر أن استعظامها وإنكارها هو صريح الإيمان وعليه أن لا يتمادى مع السائلين في هذا الباب؛ لأن ذلك قد يفضي إلى شر كثير وإلى شكوك لا تنتهي، فأحسن علاج للقضاء على ذلك والسلامة منه هو امتثال ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - والتمسك به والتعويل عليه وعدم الخوض في ذلك وهذا هو الموافق لقوله الله عز وجل: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (4) .
فالاستعاذة بالله سبحانه واللجوء إليه وعدم الخوض فيما أحدثه الموسوسون وأرباب الكلام الباطل من الفلاسفة ومن سلك سبيلهم في الخوض في باب أسماء الله وصفاته وما استأثر الله بعلمه من غير حجة ولا برهان هو سبيل أهل
__________
(1) سورة آل عمران الآية 190
(2) سورة الذاريات الآية 20
(3) سورة الذاريات الآية 21
(4) سورة فصلت الآية 36(8/14)
الحق والإيمان، وهو طريق السلامة والنجاة والعافية من مكايد شياطين الإنس والجن وفقني الله وإياك وسائر المسلمين للسلامة من مكائدهم.
ولهذا لما سأل بعض الناس أبا هريرة - رضي الله عنه - عن هذه الوسوسة حصبهم بالحصاء، ولم يجبهم على سؤالهم وقال: صدق خليلي.
ومن أهم ما ينبغي للمؤمن في هذا الباب أن يكثر من تلاوة القرآن الكريم وتدبره؛ لأن فيه من بيان صفات الله وعظمته وأدلة وجوده وكماله ما يملأ القلوب إيمانا ومحبة وتعظيما واعتقادا جازما، بأنه سبحانه هو رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق لكل شيء والعالم بكل شيء والقادر على كل شيء لا إله غيره ولا رب سواه، كما ينبغي للمؤمن أن يكثر من سؤال الله المزيد من العلم النافع والبصر النافذ والثبات على الحق والعافية من الزيغ بعد الهدى فإنه سبحانه قد وجه عباده إلى سؤاله ورغبهم في ذلك ووعدهم الإجابة كما قال عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياك وزميلك وسائر المسلمين للفقه في الدين والثبات عليه، وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن ومن مكائد شياطين الإنس والجن ووساوسهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة غافر الآية 60(8/15)
صفحة فارغة(8/16)
موضوع العدد
بحث في المعاملات المصرفية
إعداد
هيئة كبار العلماء
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(8/17)
المعاملات المصرفية
إعداد \ اللجنة الدائمة للبحوث العلمية الإفتاء
الحمد لله وحده، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه، وبعد: - فبناء على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في دورته المنعقدة في النصف الأول من شهر صفر لعام 1395هـ، من بحث المعاملات المصرفية في الدورة القادمة للمجلس في شهر شعبان أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك، ونظرا إلى أن مواضيع المعاملات المصرفية كثيرة ومتشعبة، رأت اللجنة الاكتفاء ببحث المواضيع الآتية وإرجاء الباقي إلى دورة أخرى:
[1]- عمليات الإيداع وتشمل ما يلي: - (أ) الودائع النقدية.
(ب) ودائع الوثائق والمستندات.
(ج) استئجار الخزائن الحديدية للإيداع فيها.(8/18)
[2]- عمليات الائتمان وبحث منها ما يلي: (أ) الإقراض.
(ب) الاعتماد البسيط.
(ج) الضمان ويشمل خطابات الضمان، الكفالة، الاعتماد بالقبول.
(د) الاعتماد المستندي.
وقد ختمت اللجنة كلا من الإيداع وعمليات الائتمان بخلاصة للإعداد في ذلك وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] عمليات الإيداع:
الإيداع:
تعريفه، الغرض منه، أهم أنواعه.
يقصد بالإيداع: إيداع المرء غيره ما يود حفظه من نقد أو عين أو وثائق.
وإذا كان المودع في الغالب يقصد من الإيداع حفظ ما يودعه فقد يكون له أهداف أخرى للإيداع غير الحفظ، كإيداعه البنك نقوده أو بعضها للاستثمار، أو وثائقه لإدارتها وتحصيل أرباحها، وقد يكون لديه من التكتم والحفاظ على سرية أعماله التجارية أو المدنية ما يدعوه إلى استئجار خزائن حديدية في البنك تكون تحت تصرفه وحده، ويودع فيها وثائقه ومستنداته، ومجوهراته، ونحو ذلك مما يود حفظه والتكتم على سرية تملكه.(8/19)
وعمليات الإيداع لا تنحصر في عمليات محدودة إلا أن أهمها إيداع النقود وإيداع الوثائق، والمستندات، واستئجار الخزائن الحديدية للإيداع فيها، وفيما يلي بحوث في عمليات الإيداع الثلاثة.
أولا: الودائع النقدية:
لا شك أن النقود هي أهم الودائع التي تتلقاها البنوك؛ إذ هي القوة التي يستطيع بها البنك أن يقوم بجميع عملياته المصرفية كما أنها الوسيلة الطبيعية لائتمان التاجر البنك حينما يأتمنه في إيداع نقوده لديه لأجل قصير أو تحت الطلب ريثما يجد الفرصة سانحة لعقد صفقة تجارية ما، لما في ذلك من سهولة استعماله لهذه النقود المودعة في البنك دون الاضطرار إلى حملها أو عدها أو التأمين عليها، وقد يقصد المودع في البنك تخصيص وديعته النقدية لعملية تجارية يرى أن البنك خير وسيلة لإتمامها.(8/20)
تعريف الوديعة النقدية:
يذهب الأستاذ أدوار عيد في تعريفه الوديعة النقدية إلى القول بأن الوديعة النقدية: عقد بمقتضاه يسلم شخص مبلغا من النقود إلى المصرف الذي يتعهد بأن يرد إليه قيمة مماثلة دفعة واحدة أو عدة دفعات لدى أول طلب منه أو ضمن المهل والشروط المتفق عليه في العقد (م 307 فقرة تجارة) .
وما دامت الوديعة تتناول مبلغا من النقود فيلتقي الوديع أي المصرف حق استعمال هذه النقود ويصبح مالكا لها على أن يلتزم برد مبلغ مماثل إلى المودع (1) .
__________
(1) انظر ص (510) من كتابه العقود التجارية وعمليات المصارف، طبعة النجوى(8/20)
مزايا الإيداع النقدي: يذكر الأستاذ الدكتور أدوار عيد: أن لعملية إيداع النقود مزايا عديدة تجاه الطرفين سيما إذا اقترنت بأجل ما، فإنها بالنسبة للمودع تشكل نوعا من الادخار، وتدر عليه في ذات الوقت فائدة يختلف معدلها باختلاف المدة التي تبقى فيها الأموال بيد المصرف.
وبالنسبة للمصرف فإنها تؤمن من المبالغ اللازمة للقيام بعمليات الخصم والائتمان التي تضمن له عائدات هامة من فوائد أو عمولات (1) ، وفضلا عما ذكره الدكتور أدوار فإن الودائع النقدية تعتبر للبنك مصدر ثقة في نفوس المودعين تعطيهم الاطمئنان على سلامة ودائعهم وقدرتهم على سحبها أو سحب ما يريدون منها متى شاءوا، كما أنها القوة التي يستطيع بها البنك ممارسة نشاطه المصرفي.
__________
(1) انظر ص (511) من كتابه العقود التجارية وعمليات المصارف، طبعة النجوى(8/21)
الودائع لدى الاطلاع أو لدى الطلب أنواع الودائع النقدية:
تتخذ الودائع النقدية عدة أشكال تبعا لطبيعة إيداعها، ويذكر الأستاذ أدوار عيد: أن أهم الودائع النقدية ما يلي:
(1) الودائع لدى الاطلاع أو لدى الطلب، وهي تشكل أهم صورة الودائع النقدية، ويكون لمودعها حق استردادها أو جزء منها متى شاء مباشرة أو بطريق إصدار شيكات أو التحويل، ونظرا لما يقتضيه هذا النوع من الودائع من ضرورة احتفاظ المصرف في خزائنه بأموال كافية لدفع قيمتها فإن المصرف لا يدفع عنها سوى فائدة قليلة جدا، وقد يدفع عنها شيئا.(8/21)
(2) الودائع لأجل ولاستحقاق معين، وهذا النوع من الودائع لا يسترد قبل أجل معين يجري الاتفاق على تحديده، وهو أقل شيوعا من الودائع تحت الطلب، ولكنه أكثر فائدة للمصارف؛ لأنها تستطيع استعمال هذه المبالغ المؤجل دفعها طيلة مدة التأجيل، وتكون الفائدة عليه مرتفعة نسبيا تبعا للمدة التي يتفق على بقائها لدى المصرف.(8/22)
(3) الودائع بشرط الإخطار: وهي ودائع يكون لأصحابها حق استردادها دون انتظار أجل معين، لكن بشرط إشعار المصرف بذلك قبل استردادها بمدة ما، ويعطى هذا النوع من الفوائد مثلما تعطى الودائع تحت الطلب؛ لأن البنوك لا تستطيع الاعتماد عليها في تمويل نشاطها المصرفي.(8/22)
(4) الودائع المخصصة لغرض معين لمصلحة المودع كالمبالغ المودعة لدى المصرف، لشراء أسهم أو للاكتتاب بأسهم في شركة تحت التأسيس أو لدفع ديون معينة وقد يكون الإيداع لمصلحة المصرف، كأن تكون الوديعة ضمانا لمصلحة حساب آخر أو لمصلحة شخص ثالث كما هو الحال في تجميد مئونة شيك مؤشر عليه لمصلحة الحامل بصورة مؤقتة، وهاتان الحالتان لا يجوز فيهما للمودع استرداد وديعته حتى انقضاء المودع لأجلها. اهـ، باختصار (1) .
وقد اختلف علماء الاقتصاد في التكييف القانوني للوديعة النقدية، فذهب بعضهم إلى أنها وديعة بالمعنى الحقيقي للوديعة بالمقاصة بها كما يبرأ البنك منها لو هلكت بقوة قاهرة، ويتعين عليه أن يرد المبلغ المودع بذاته ويقوم بحفظه حتى طلبه.
وينتقد الأستاذ الدكتور محمد عوض هذا الرأي فيقول: ولكن هذه المبادئ الخاصة بعقد الوديعة لا تنطبق على الوديعة المصرفية؛ لأنه فيما عدا الحالة الاستثنائية لإيداع نقود بذاتها فإن البنك لا يقصد أبدا المحافظة على النقود التي تلقاها بذاتها بل
__________
(1) انظر ص (511 - 513) من كتابه العقود التجارية وعمليات المصارف، طبعة النجوى(8/22)
يقصد استخدامها على أن يرد مثلها، كما أن القضاء يجيز له أن يرد طلب الاسترداد بالمقاصة بمسئوليته عن رد الوديعة ولو هلكت بقوة قاهرة فيلزمه أن يرد مثلها.
هذه الأحكام تباعد بين الوديعة العادية والوديعة المصرفية، ففي كلتيهما يلتزم الوديع بالرد لكن هناك في الأولى التزام بالحفظ، بينما في الثانية لا يلتزم البنك بالمحافظة على ذات الوديعة، وكل ما هناك أنه يحفظ للمودع حقه في استرداد مثل ما أودعه.
وذهب آخرون: إلى أنها شاذة أو ناقصة، ويذكر الأستاذ محمد عوض: أن الوديعة الناقصة أو الشاذة، وديعة تملكها المودع، ويلتزم برد مثلها بخلاف الوديعة الكاملة التي لا يجوز للوديع أن يتملكها مطلقا، ويناقش هذا الرأي بقوله: والواقع أن طبيعة الوديعة الشاذة محل خلاف في فرنسا حتى لقد أنكر البعض تسميتها بالوديعة على أساس أنه مادام الوديع مأذونا في استعمال الوديعة فقد سقط التزام الحفظ لأن الوديعة تهلك بالاستعمال؛ ولذلك وجب حتما استبعاد فكرة الوديعة والقول بفكرة القرض، ولم يدع القانون المصري مجالا لفكرة الوديعة الشاذة بل قضى في المادة (726) منه أنه: إذا كانت الوديعة مبلغا من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال، وكان المودع عنده مأذونا له في استعماله اعتبر العقد قرضا. اهـ (1) .
وذهب فريق ثالث: إلى أن الوديعة النقدية تعتبر قرضا يلتزم المقترض برد شيء مماثل للوديعة عند الطلب، فيجوز له دفع طلب استردادها بالمقاصة ولا يتعين عليه حفظها بل يعتبر مالكا لها ضامنا لهلاكها، ملزما برد مثلها عند طلبها، ويذكر الدكتور محمد عوض أنه مراعاة للوضع الغالب في العمل، فإن مجموعة الشراح وعلماء الاقتصاد يميلون إلى هذا الرأي فالوديع، وهو البنك مثلا يعتبر تاجرا يعطي ائتمانا للغير وهو بذلك يضطر للحصول على ما يقرضه للغير من طريق الاقتراض، والاستيداع، وليس من طريق الاستعانة برأس ماله، وكذلك المودع فإن له مصلحة في
__________
(1) انظر ص (21- 22) من كتابه عمليات البنوك من الوجهة القانونية، طباعة النهضة العربية(8/23)
الإيداع تتجسم في الفائدة التي يستحصلها من البنك، فإذا لم تقرر له فائدة فحسبه حفظ ماله (1) .
ويرى الدكتور محمد عوض: أن تكييف عقد الوديعة النقدية من الناحية القانونية يكمن في إرادة الطرفين، ويستقل بالكشف عنها قاضي الاختصاص، فإذا كان البنك مأذونا له في استعمال المال المودع، كانت الوديعة النقدية قرضا تسري عليها أحكام القرض، وهذا هو الغالب على معظم الودائع النقدية المصرفية.
أما إذا كان البنك غير مأذون له في الاستعمال، فإن المال المودع يعتبر وديعة بما تعنيه الوديعة من معنى، وتسري عليه أحكام الوديعة، ويمثل لذلك بالوديعة المصرفية المصحوبة بتخصيصها لغرض معين أو لمجرد حفظها بذاتها لدى البنك (2) .
والغالب على عمليات الإيداع النقدي أن تكون الوديعة تحت الطلب بحيث يسهل على المودع سحبها متى شاء أو تجزئة السحب منها، ومن هنا ترتبط فكرة الإيداع بفكرة فتح الحساب، وفي فتح الحساب وفي هذا يقول الأستاذ علي البارودي: - ويكون العقد الذي يتم بين البنك والعميل، ليس مجرد عقد وديعة نقود، وإنما عقد فتح حساب ودائع يلقي فيها العميل بالمبلغ الأول الذي يحتمل الزيادة بواسطة العمليات التي قد يكلف البنك بها وتؤدي إلى دخل نقدي للعميل، ويحتمل النقصان بعمليات السحب أو غيرها من العمليات التي تقتضي الإنفاق من النقود المودعة على ألا تتجاوز هذه العمليات قيمة النقود المودعة فعلا. اهـ (3) .
ونظرا إلى أن الغالب على عمليات الإيداع النقدي أن تكون الوديعة تحت الطلب بمعنى أن يدخل العميل مع البنك في فتح حساب ودائع فمن المتعين أن يتناول مبحث الودائع النقدية أنواع الحسابات المصرفية والتفرقة بينها ومعرفة طبيعة كل نوع من هذه الحسابات.
__________
(1) انظر ص (22) من كتابه عمليات البنوك من الوجهة القانونية، طباعة النهضة العربية
(2) انظر ص (24-25) من عمليات البنوك من الوجهة القانونية، للدكتور محمد جمال عوض
(3) انظر ص (274) من كتابه العقود وعمليات البنوك التجارية، الطبعة الثانية(8/24)
لا شك أن لدى المصارف أنواعا من الحسابات منها أصوله وقواعده، هذه الحسابات يختلف بعضها عن بعض تبعا لاختلاف الأغراض التي فتحت لأجلها، فإن كان الغرض من فتح الحساب مجرد إثبات عمليات الأخذ والعطاء مع احتفاظ كل عملية بذاتها وطابعها، فهذا ما يسمى بالحساب البسيط أو العادي أو حساب الودائع.
أما إن كان القصد من فتحه أن تفقد عمليات التبادل ذاتيتها وتتحول إلى مفردات حسابية لا تسوى إلا عند قفل الحساب، فهذا ما يسمى بالحساب الجاري ويتضح نوع الحساب المفتوح بمعرفة مقصد أطرافه، وفي ذلك يقول الدكتور محمد عوض: إن فيصل التفرقة بين الحساب العادي والحساب الجاري هو قصد الطرفين، وهدفهما من قيد حاصل العملية في حساب، فإن قصدا تسويتها فورا واتخذا الحساب كمجرد إثبات لهذه التسوية أو لإثبات وقوع العملية فهو حساب عادي، أما إذا كان القصد هو تحويل العملية إلى مفرد في الحساب، وإرجاء تسوية هذا المفرد إلى وقت نهاية الحساب فهو حساب جار. اهـ (1) .
***
__________
(1) انظر كتابه عمليات البنوك من الوجهة القانونية ص (130)(8/25)
الحساب العادي أو البسيط أو حساب الودائع:
عقد فتح الحساب:
الواقع أنه لا توجد هناك نصوص خاصة تحكم عقود فتح الحسابات، وإنما يرجع في إبرامها إلى القواعد العامة، وما كان جرى عليه العمل وتعارفه الناس، وما تمليه إرادة الطرفين؛ ولذلك فإن عقد فتح الحساب بين العميل والبنك يتم على وضع خاضع للاعتبارات السابقة.
ونظرا إلى أن العقد يعني إيجاد نوع من المعاملة المتبادلة بين البنك، وعميله فإن البنك لا يدخل مع عميله في مثل هذه المعاملة حتى يطمئن إلى عميله بما يجريه نحوه(8/25)
من التحريات عن شخصه، ومدى أهليته لتلك العلاقة سواء كان شخصا طبيعيا أو شخصا معنويا، ذلك لأن الإيداع يتبعه حق السحب إما مباشرة أو عن طريق إصدار شيكات أو سندات تجارية فلا بد من توفر الأهلية الموجبة لصحة تلك التصرفات من ذلك العميل.
وقد يكتفي البنك من تحرياته في الأحوال العادية بما يقدمه العميل من بطاقة شخصية أو أي ورقة رسمية تثبت هويته، وبما يقدمه من نماذج لتواقيعه لتجرى مقابلتها على تواقيع سحبه.
وقد يتفق اثنان فأكثر على فتح حساب واحد على وجه التضامن، فيسمى بالحساب المشترك، ويكون لكل منهم حق إيداع مبلغ ما كما يكون له حق السحب. وأكثر ما يكون بين الشركاء والأخوة والأزواج، وبعض البلاد تشترط لفتح الحساب المشترك واستمراره كون الشركاء على قيد الحياة، فإذا توفي أحدهما أوقف الحساب خشية تلاعب بقية الشركاء بحقوق ورثة شريكهم المتوفى.
والغالب على الإيداع المفتوح به حساب أن تكون الوديعة فيه تحت الطلب فإذا كانت الوديعة تحت الطلب فقد جرى بعض البنوك على عدم إعطاء فوائد على بقائها عندها؛ لأن البنك يفترض من العميل طلبها أو السحب عليها أو على بعضها فلا يعتمد عليها في تمويل عملياته المصرفية، وبالتالي فهو لا يستفيد من بقائها لديه إلا أن تجارب البنوك لعمليات الإيداع تحت الطلب قد أعطتهم نتائج تقضي بأن نسبة كبيرة من الودائع تحت الطلب تبقى في البنك دون طلبها مما ييسر لهم أمر الانتفاع بهذه النسبة المتجمدة لديهم.
ولهذا عمدت بعض البنوك إلى إعطاء فوائد قليلة على الودائع تحت الطلب، أما إن كانت الودائع لأجل معين فإن البنك يعطي عميله فائدة على بقائها عنده يتم الاتفاق بينهما على تحديد مقدارها ووقت سريانها وإضافتها لأصل الوديعة ليكون لها حقها في الفائدة.
وإذا تم فتح الحساب بين طرفيه تخللته عمليات مختلفة بين أخذ وعطاء سواء كان ذلك مباشرة أو نقلا مصرفيا أو مبالغ يقبضها البنك لحساب عميله كقيمة إسناد أو تحصيل شيكات أو عائدات أسهم مالية يفوض العميل البنك في(8/26)
استحصالها، وهذه العمليات المختلفة والمتبادلة بين طرفي الحساب تسمى في اصطلاح المصارف: بتشغيل الحساب.
وفي ذلك يقول الدكتور علي البارودي: تتخلل عمليات الحساب منذ فتحه إلى قفله عمليات مختلفة بين العميل والبنك، تحتفظ كل عملية منها باستقلالها ولا يطرأ عليها أي تحول (على خلاف ما سنرى فيما يتعلق بالعمليات التي تدخل الحساب الجاري) كل ما هنالك أنها تترجم في حساب الودائع إلى قيود تذكر في الجانب الدائن للعميل أو في الجانب المدين حتى يأتي اليوم الذي يصفى فيه الحساب فيظهر الرصيد النهائي. اهـ (1) .
ويعتبر النقل أو التحويل المصرفي رافدا من روافد الإيداع وله قواعد وأصول سارت البنوك في معاملاتها على رعايتها والتقيد بمقتضاها، وعليه فإن من إيفاء البحث حقه التعرض له بذكر بعض مما أورده بعضهم بخصوصه.
يقول الدكتور علي البارودي: عملية التحويل المصرفي تتم بواسطة قيود يجريها البنك، مضمونها أنه يجعل حساب عميل معين مدينا بمبلغ معين لكي يجعل حساب عميل آخر دائنا بذات المبلغ، أو هي نقل مبلغ من حساب لحساب آخر بمجرد قيود في الحسابين، وتبدأ هذه العملية عندما تنشأ علاقة مديونية بين شخصين لكل منهما حساب في البنك فبدلا من أن يقوم المدين منهما بسحب مبلغ من حسابه فيوفي به للآخر الذي يلجأ إلى البنك مرة أخرى ليودعه، يصدر العميل المدين أمرا إلى البنك بأن ينقل من حسابه إلى حساب دائنه مبلغا يعادل قيمة الدين فيجري البنك القيود اللازمة، ثم يخطر العميل الدائن بأنه أضاف إلى حسابه هذا المبلغ نقلا عن حساب مدينه، فيوافق الدائن أو على الأقل لا يعترض، وتمام العملية على هذا الوجه يغني عن استعمال النقود لذلك سميت بأنها نقود قيدية.
اهـ -ويقول- والغالب أن يتم النقل أو التحويل المصرفي من حساب عميل معين إلى حساب عميل آخر، ولكن لا يوجد ما يمنع من أن يصدر العميل إلى البنك أمرا بإجراء عملية التحويل المصرفي بين حسابين له في ذات البنك إذا كان يخصص
__________
(1) انظر ص (277 - 278) من كتابه العقود وعمليات البنوك التجارية، الطبعة الثانية(8/27)
كلا منهما لغرض معين كما إذا كان له حساب لعملياته الشخصية وحساب آخر للعمليات التي يقوم بها في ممارسة حرفة معينة، وكما إذا كان شخصا معنويا - شركة أو جمعية مثلا - وله حساب خاص لكل فرع من فروعه المختلفة تسهيلا لعمليات السحب والإيداع.
وقد يتم التحويل المصرفي بين عميلين لكل منهما حساب في ذات البنك، ولكنه قد يتم أيضا بين عميلين في بنكين مختلفين فيصدر الأمر من العميل المدين إلى البنك الذي يتعامل معه بأن يضع تحت تصرف بنك العميل الدائن مبلغا يقيده هذا البنك الأخير في حساب العميل الدائن، فكأن البنك الثاني يتولى عن البنك الأول القيام بعملية النقل بين العميلين دون استعمال النقود، ولا يقتضي الأمر عادة أن يعطي البنك الأول إلى البنك الثاني مبلغ ما قيده البنك الثاني لحساب عميله الثاني الدائن؛ إذ إنه غالبا ما يكون بين البنكين حسابات متصلة تتم تصفيتها عن طريق المقاصة. اهـ (1) .
ويشترط لصحة النقل المصرفي: أن يكون الأمر بالنقل مؤخرا ليكون ذلك مانعا العميل الآمر من الرجوع عن أمره بالتحويل المصرفي، وليعطي تاريخ الأمر العلم بوقته في حال إفلاس أحد الطرفين البنك أو العميل ليجري ترتيب المجريات القضائية على حكم التصرف في ذلك التاريخ.
ويذهب الدكتور علي البارودي إلى القول بأن النقل أو التحويل المصرفي عملية مجردة تشبه عملية تسليم النقود، وفي هذا يقول: والنقل أو التحويل المصرفي عملية مجردة فهو أشبه بعملية تسليم النقود ماديا من العميل الآمر إلى دائنه العميل المستفيد، عن طريق مناولة يدوية من جانب البنك المتوسط، وعلى ذلك فإن حق المستفيد في مواجهة البنك بعد القيد بات مستقلا تماما عن العلاقة بين البنك وبين العميل الآمر (2) .
ويقول في موضع آخر في معرض الحديث عن التكييف القانوني للنقل المصرفي ما نصه: لذلك اتجه أغلب الفقه والقضاء إلى تكييف النقل المصرفي بأنه عملية مادية شكلية تساوي في نظر القانون عملية تسليم مادية من النقود، بل لقد أطلقوا عليها - والتعبير موفق إلى أبعد حد -
__________
(1) انظر ص (278 - 280) ، من كتابه العقود وعمليات البنوك التجارية. الطبعة الثانية
(2) انظر ص (281) من كتابه العقود وعمليات البنوك التجارية. الطبعة الثانية(8/28)
أنها نقود قيدية، فالعميل المستفيد قد تسلم نقودا بالفعل من العميل الآمر وكل ما هناك أن طريقة التسليم طريقة مصرفية حديثة (1) .
هذا العقد يثبت عادة بتسليم المدخر دفتر التوفير الموقع عليه بإمضائين من إمضاءات البنك المعتمدة، والمقيد به المبلغ الذي فتح بمقتضاه حساب التوفير، وتنظم البنوك عادة بنود هذا العقد على النحو الذي يضمن جدية العقد من ناحية وتشجيع المدخرين من ناحية أخرى؛ فعقد حساب التوفير له طابع شخصي بحت والدفتر اسمي غير قابل للتحويل ولا للتداول ولا يمكن لغير صاحب الدفتر أو ورثته أو وكلائه - متى أثبتوا صفتهم - السحب من المبالغ المودعة.
وبديهي أنه لا يجوز السحب عن طريق إصدار الشيكات. وفيما يتعلق بالمبالغ المودعة في حساب التوفير يضع البنك عادة حدا أدنى للمبلغ الذي يجوز فتح حساب التوفير بمقتضاه (5 جنيهات مثلا) ويضع كذلك حدا أقصى (5000 جنيه) كما أنه يضع حدا أدنى للمبالغ التي تودع أو تسحب بعد ذلك من الدفتر - مبلغ جنيه واحد - كذلك يضع البنك حدا أدنى للمبلغ الذي يمكن أن يرتب فوائد لصالح المدخر (10 جنيه) بحيث إذا نقص المبلغ المودع في الدفتر عنه فإنه لا تحسب له فوائد أصلا، وبديهي أن هذه الحدود الدنيا الضئيلة تمثل أقل ما يمكن أن يتطلبه البنك لجدية العقد أما الحد الأقصى فالغرض منه استبعاد كبار المودعين الذين يريدون الاستفادة من فوائد حساب التوفير مع الاحتفاظ بودائعهم الكبيرة تحت الطلب. اهـ (2)
__________
(1) انظر ص (284) من كتابه العقود وعمليات البنوك التجارية. الطبعة الثانية
(2) انظر '' كتابه العقود وعمليات البنوك '' ص 293(8/29)
قفل الحساب:
قفل الحساب يعني إيقاف عمليات تبادل المدفوعات وتصفيتها وإخراج(8/29)
الرصيد النهائي لها دينا محررا واجب الأداء، والغالب أن يكون ذلك في صالح العميل ولقفل الحساب أسباب وآثار:
أسباب قفل الحساب [أ]- أسباب قفل الحساب:
لقفل الحساب أسباب كثيرة أهمها أن يكون بين البنك وعميله اتفاق على فتحه لمدة معينة أو أن فتحه كان لعملية مصرفية معينة، فبمجرد انقضاء المدة أو الانتهاء من العملية المصرفية يصبح الحساب مقفولا ما لم يحددا اتفاقا على تمديد فتحه، أما إذا لم يكن هناك اتفاق على تحديد مدة فتحه فيقفل الحساب بناء على طلب أحد طرفيه في وقت لاحق، ويقول الأستاذ الدكتور علي البارودي بأن للحساب طابعا شخصيا لذلك يجب قفله إذا طرأ على أهلية أحد الطرفين طارئ، كما إذا توفي العميل أو حجر عليه أو أفلس أو إذا كان العميل شخصا معنويا فانقضى، كذلك يجب قفل الحساب بمجرد إفلاس البنك أو تصفيته. اهـ (1) .
__________
(1) انظر ص (285) من كتابه العقود وعمليات البنوك، الطبعة الثانية(8/30)
[ب]- آثار قفل الحساب:
يقول الدكتور علي البارودي ما نصه: عند قفل الحساب يجب تصفيته وبيان الرصيد النهائي، وهو عادة لصالح العميل في حساب الودائع، وتصبح نتيجة الحساب نهائية بالاتفاق عليها أو بالحكم القضائي فلا يجوز إعادة النظر فيها بعد ذلك إلا لإصلاح خطأ مادي أو خطأ في عملية الحساب أو ترك أو تكرار لأحد القيود، ولا تقبل دعوى تصحيح الحساب حينئذ إلا إذا حدد المدعي المفردات التي وقع فيها الخطأ وعزز ادعاءه بالأدلة (1) .
__________
(1) انظر ص (286) من كتابه العقود وعمليات البنوك، الطبعة الثانية(8/30)
حساب الادخار والتوفير:
يعتبر حساب الادخار والتوفير ضربا من ضروب حساب الودائع، إلا أن له بعض سمات تجعل له لونا خاصا في التعامل وإلى ذلك يشير الدكتور علي البارودي(8/30)
بقوله: عقد حساب التوفير كسائر عقود البنك عقد رضائي يتم باتفاق العميل المدخر مع البنك.
***(8/31)
(الحساب الجاري)
تعريفه ومزاياه:
للحساب الجاري أصول وقواعد وأحكام يختلف بها عن بقية الحسابات الأخرى؛ إذ إن كل دفعة من الدفعات تفقد ذاتيتها وتشكل جزءا من كل لا يتجرأ في الحساب الجاري، وكثيرا ما يركن إليه إذا ما تعددت العمليات التبادلية وتكررت وأريد تصفيتها وإنهاؤها.
ولقد درج بعضهم إلى تعريفه بما نصت عليه بعض المواد القانونية التجارية ومن ذلك المادة (106) من قانون التجارة الأردني، والمادة (393) من قانون التجارة السوري والمادة (298) من قانون التجارة اللبناني من أنه يراد بعقد الحساب الجاري الاتفاق الحاصل بين شخصين على أن ما يسلمه كل منهما للآخر بدفعات مختلفة من نقود وأموال وأسناد تجارية قابلة للتمليك يسجل في حساب واحد لمصلحة الدافع ودينا على القابض دون أن يكون لأي منهما حق مطالبة الآخر بما سلمه له بكل دفعة على حدة بحيث يصبح الرصيد النهائي وحده عند إقفال هذا الحساب دينا مستحقا ومهيأ للأداء اهـ.
ويذكر الدكتور أدوار عيد بأن الحساب الجاري لا يعتبر مجرد قائمة بالعمليات المتبادلة بين الطرفين بقصد ضبط هذه العمليات وإقصاء عامل النسيان عنها وقت التصفية، وإنما هو صيغة حسابية خاصة تترتب عليها آثار هامة بين الطرفين، أهم خصائصها أن تندمج العمليات الجارية بين الطرفين اندماجا تاما داخل الحساب بحيث تفقد كل منها كيانها الذاتي واستقلالها بمجرد قيدها فيه فلا يعتبر أحد(8/31)
الطرفين دائنا أو مدينا للآخر طالما أن الحساب مفتوح بينهما حتى إقفال الحساب وتسويته حيث يظهر عندئذ رصيد دائن لأحد الطرفين على الطرف الآخر يكون مستحقا وقابلا للأداء في الحال، إلى أن قال: وللحساب الجاري مزايا عديدة فإنه يسهل تصفية العمليات بين طرفيه ويفادي استعمال النقود بصدد كل منهما مكتفيا بمجرد قيدها في الحساب وما ينتج عنه من مقاصة فيما بينهما، بحيث إن الرصيد النهائي فقط يستلزم دفع النقود، وبحكم هذه المقاصة بين الطرفين فإنه يلاقي كل منهما خطر إعسار الآخر وتنجلي هذه الفائدة على الأخص في حالة إفلاس أحد الطرفين حيث إن الديون المستحقة والمقيدة في الحساب تكون قد سقطت فيما بينها بالمقاصة، كما أن الديون لأجل المقيدة في الحساب على الطرف الذي أعلن إفلاسه تدخل تحت حكم المقاصة أيضا لمجرد قيدها فيه قبل إعلان الإفلاس وسقوط أجلها بمجرد هذا الإفلاس.
اهـ (1)
__________
(1) انظر كتابه العقود التجارية وعمليات المصارف، ص (607- 608) مطبعة النجوى(8/32)
أركان الحساب الجاري:
للحساب الجاري ثلاثة أركان، أحدها: الركن الإداري وهو اتفاق الطرفين على فتحه سواء كان الاتفاق منهما صراحة أو ضمنا مع اشتراط أن يكون كل منهما أهلا لصحة التصرفات الصادرة منه، ويعتبر الاتفاق ضمنا في حال ما إذا جرى بين الطرفين مجموعة من المدفوعات المتبادلة يقيدها كل منهما في حساب فتحه لديه دينا للدافع على القابض دون المطالبة بتسديد كل عملية على انفراد مع نية تسديد الرصيد عند إنهاء علاقتهما المتبادلة، وقد يعتبر حسابا جاريا في حال ما إذا أشعر البنك عميله بفتح اعتماد له في حساب جار ثم قام العميل بعد ذلك بسحب شيء من ذلك الاعتماد دون الاعتراض على فتح حساب جار بينهما، ويعود تقدير وجود حساب جار بينهما من عدمه في حال الخصومة في ذلك إلى محكمة الاختصاص.
الركن الثاني: المدفوعات بين الطرفين وهي الركن المادي ويشترط لقيد أي مدفوع في الحساب الجاري أن يكون مثليا لتمكن المقاصة بينهما، سواء كان ذلك نقدا(8/32)
أو عينا كالأرز والسكر ونحوهما وأن يكون المدفوع حقا واجب الأداء أما إن كان منازعا فيه أو معلقا على شرط محتمل الوقوع فلا يصح قيده في الحساب الجاري، ولا يعني هذا استبعاد الديون المؤجلة عن قيدها في الحسابات الجارية وإنما المقصود من ذلك استبعاد الديون المشكوك في وجوبها وفي هذا يقول الدكتور أدوار عيد: وإذا كان الدين لأجل فيمكن قيده في الحساب الجاري؛ إذ يعتبر نهائيا رغم تأجيل استحقاقه، وقد رأينا أن من مزايا الحساب الجاري أنه يتيح قيد الديون المؤجلة فيه حتى إذ أفلس العميل استحقت هذه الديون فور إعلان إفلاسه وجرت المقاصة بينهما وبين الديون القابلة لها في الحساب (1) .
كما يشترط في المدفوع أن يكون معين المقدار وأن يكون الدافع قد سلمها للقابض على سبيل التمليك.
الركن الثالث: أن تكون المدفوعات المدرجة في الحساب الجاري متبادلة ومتشابكة، متبادلة بمعنى أن يقوم كل من الطرفين بدور القابض حينا ودور الدافع حينا آخر، فإن كان أحد الطرفين دافعا طيلة مدة الحساب دون أن يتلقى مدفوعات من الطرف الآخر لم يكن الحساب بينهما جاريا، ومتشابكة بمعنى أن يتخلل بعضها بعضا، فإن قام أحد الطرفين بمدفوعاته في الحساب ثم تلاه الآخر بمدفوعاته الأخرى لم يكن الحساب جاريا لفقد شرط التشابك في المدفوع.
__________
(1) انظر ص 619 من كتابه العقود التجارية وعمليات المصارف(8/33)
الفرق بينه وبين الحسابات الأخرى: فرق شراح القانون وعلماء الاقتصاد بين الحساب الجاري وحسابات الودائع والادخار، ونحوها من حيث إن المدفوعات المتبادلة في الحساب الجاري تندمج بعضها(8/33)
في بعض بحيث تشكل كلا لا يتجزأ حيث لا يمكن فصل بند من بنوده بمطالبة أو دعوى أو طلب مقاصة بخلاف الحسابات الأخرى فإن كل بند من بنودها يحتفظ باستقلاله وذاتيته وصلاحه للمطالبة والدعوى وضماناته الخاصة، وفي ذلك يقول الدكتور علي البارودي: لذلك لا بد - والأمر غاية في الأهمية - من تحديد نوع الحساب ومعرفة العلامات التي نعرف بها كلا منهما ونميزه بها على الآخر، والتفرقة من الناحية القانونية تظهر من الاتفاق إذ من الطبيعي أن يبين طرفا الحساب ما إذا كانا يريدان الدخول في حساب جار أو مجرد حساب ودائع، ولا بد أن تتضح نية الطرفين بوجه خاص عند الاتفاق على دخول في حساب جار - إلى أن قال - ومن الناحية العملية يغلب أن يكون الحساب الجاري بين تجارة أو بين البنك وتاجر أو صانع أو صاحب حرفة لمقتضيات الائتمان بحرفته.
أما حساب الودائع فيغلب أن يكون بين البنك وبين المدخرين من الأفراد الذين يحفظون أموالهم في البنك ويتعاملون بالشيكات التي يسحبونها عليه - إلى أن قال - على أنه يجب أن لا ننسى أن هذه العلامات المميزة ليست هي الفيصل القاطع بين الحسابين، ونكرر مرة أخرى أن المرجع في معرفة نوع الحساب هو إرادة طرفيه ثم الشروط الخاصة التي يجب أن تتوافر في الحساب حتى يمكن اعتباره حسابا جاريا اهـ (1) .
__________
(1) انظر 304 - 305 من كتابه العقود وعمليات البنوك، الطبعة الثانية(8/34)
الفوائد المتعلقة بالحساب الجاري:
يقول الأستاذ الدكتور محمد عوض: إن العادة قد استقرت بين البنوك وغيرها من البيوت التجارية أن كل مدفوع في الحساب الجاري يرتب فائدة بقوة القانون دون حاجة إلى الاتفاق على ذلك أو إنذار أو مطالبة قضائية، بخلاف الحسابات الأخرى فيجب فيها الاتفاق على ترتيب هذه الفوائد، ويعلل الأستاذ محمد عوض ترتب الفائدة على المدفوعات المتبادلة بأن ذلك تفسير لإرادة الطرفين حينما يتنازل كل منهما عن(8/34)
استحقاقه الفوري لما دفعه فلا أقل من أن يتقاضى فائدة على بقائه، ويقول: وعلى كل حال فقد استقر هذا العرف ولم يعد محلا لمنازعته. ويضيف إلى ذلك قوله: وقد جرى العرف المصرفي على أن الأصل هو سريان فوائد المفردات من وقت دخولها الحساب، إلا أنه يغلب أن يحدد الطرفان موعدا آخر لبدء سريان الفائدة ويكون تاليا لتاريخ دخول المفرد في الحساب ويسمى هذا الموعد -اصطلاحا - القيمة، فيقال: إن المبلغ دخل الحساب في أول يناير والقيمة في (15) منه أي إن فائدته لا تسري إلا من (15) يناير (1) .
__________
(1) انظر ص 258 - 260 من كتابه عمليات البنوك من الوجهة القانونية، طبع دار النهضة(8/35)
العمولة على فتح الحساب الجاري:
كما أن البنك يجري فائدة على المدفوعات المتبادلة بينه وبين عملائه في الحسابات الجارية فإنه في الغالب لا يكتفي بما يأخذه فائدة لمدفوعاته؛ لكونها في رأيه غير كافية لتغطية نفقاته لفتح الحساب وتشغيله وتعريضه للمخاطر؛ ولهذا فقد استقر العرف المصرفي على أن للبنك الحق في أن يتقاضى أجرا عن هذه الخدمات يسمى عمولة.
ويقول الأستاذ محمد عوض بأن البنك لا يقتضي هذه العمولة إلا إذا كانت بينه وبين عميله سلسلة عمليات تؤدي إلى عدة قيود في الحساب، كما لو فتح الحساب بقصد منح العميل قروضا وبقصد وفاء ما يسحبه من أوراق تجارية وتنفيذ أوامر النقل المصرفي التي يصدرها، أما إذا كان المقصود من فتح الحساب هو تسوية عمليات سبق أن تقاضى البنك عن كل منها عمولة خاصة وقت إبرامها فإن البنك لا يطلب عمولة عن الحساب المفتوح لقيد مثل هذه العمليات، كذلك لا محل لاقتضاء مثل هذه العمولة إذا كان الحساب عاديا لا جاريا (1) .
__________
(1) انظر ص 268 - 269 من كتابه عمليات البنوك من الوجهة القانونية، طبع دار النهضة(8/35)
وقف الحساب الجاري: قد يعرض لأحد طرفي الحساب الجاري ما يتوقف به الحساب فترة من الزمن كإيقاف حركته فترة ما لعمل ميزان مؤقت يكشف عن مركز طرفيه من حيث الدائنية والمديونية وقد يحلو لبعضهم التعبير عن ذلك الوقف بقطع الحساب، ويرتب وقف الحساب أو قطعه آثارا أشار إليها الأستاذ الدكتور محمد عوض بقوله: ويرتب هذا القطع آثارا متعددة فهو شرط لإمكان ترحيل الفوائد إلى الأصل وتجميدها ويتقاضى البنك عمولة، كما أن القضاء أعطاه دورا هاما في حالات عدة عندما سمح للعميل أن يستخدم صفته كدائن أثناء سير الحساب معتمدا على ناتج هذا القطع (1) .
__________
(1) انظر ص 271 من كتابه عمليات البنوك من الوجهة القانونية. طباعة دار النهضة العربية(8/36)
تعليل قاعدة عدم التجزئة: إذا انعقد الحساب الجاري بين طرفيه فإن كل دفعة فيه بأي طريق من طرق الإيداع تتحول إلى بند من بنوده فتفقد كيانها الذاتي واستقلالها، وفي ذلك تقول المادة (303) من القانون التجاري اللبناني، والمادة (398) من القانون التجاري السوري والمادة (111) من القانون التجاري الأردني ما مضمونه: إن الديون المترتبة لأحد الطرفين إذا أدخلت في الحساب الجاري فقدت صفاتها الخاصة وكيانها الذاتي، فلا تكون بعد ذلك قابلة على حدة للإيفاء ولا للمقاصة ولا للمداعاة ولا لإحدى طرق التنفيذ ولا للسقوط منفردة بمرور الزمن، وتزول التأمينات الشخصية أو العينية المتصلة بالديون التي أدخلت في الحساب الجاري ما لم يكن اتفاق مخالف بين الفريقين.
وقد ذهب بعض فقهاء القانون وشراحه في تعليل تحول الإيداع الجديد في الحساب الجاري إلى بند من بنوده إلا أن في ذلك تجديدا للحساب بالتغيير، سببه إذ إن(8/36)
المدين الذي كان ملتزما بدفع الدين الأصلي لا يكون ملتزما بعد قيده في الحساب الجاري إلا بدفع رصيد هذا الحساب بعد قفله.
وقد انتقد الأستاذ الدكتور أدوار عيد هذا التعليل بقوله: ولكن هذه النظرية كانت محل نقد شديد من جانب بعض الفقهاء ذلك أن التجديد يؤدي إلى انقضاء الدين الأصلي وحلول دين جديد مكانه الأمر الذي لا يتحقق في الدين الذي يدخل في الحساب الجاري؛ لأن هذا الدين لا يتحول بدخوله في الحساب إلى دين جديد مستقل، بل إلى مجرد بند في الحساب أي إلى جزء منه لا كيان له ولا استقلال.
ولذا فقد ذهب الفقهاء الذين يؤيدون نظرية التجديد إلى القول: بأنه ليس ثمة تجديد بالمعنى الصحيح بل شبه تجديد أو تجديد من نوع خاص وهذا تعبير غير واضح من الناحية القانونية (1) .
وذهب بعضهم إلى تعليل ذلك بنظرية المقاصة إذ كل دين يدخل في أحد جانبي الحساب الجاري ينقضي بالمقاصة مع ديون أخرى في الجانب الآخر من الحساب بحيث يصبح الحساب الجاري عمليات مقاصة متتابعة.
وقد انتقد الأستاذ أدوار عيد هذه النظرية بقوله: ولكن هذه النظرية قابلة للنقد أيضا ذلك أن المقاصة تفترض وجود دينين متقابلين ينقضيان بمقدار الدين الأقل منهما بينما قد يحصل أن يدخل دين أحد الطرفين في الحساب دون أن يكون هناك دين مقابل له للطرف الآخر - إلى أن قال - كما أن تطبيق نظرية المقاصة يؤدي في حال وجود اختلاف بين قيمة الدينين المتقابلين أي بين رصيد الحساب والدين المعاكس له الذي يفترض أعلى قيمة منه إلى استمرار تأمينات هذا الدين الأخير بالنسبة للفرق بين الدينين في حين أن أحكام الحساب الجاري تقتضي زوال هذه التأمينات (2) .
واختار لذلك القول بأن قاعدة تحول الدين إلى بند في الحساب الجاري تنطوي على ميزات وآثار خاصة بها لا يمكن ردها إلى القواعد العامة المقررة في القانون المدني
__________
(1) انظر ص 633 من كتابه العقود التجارية وعمليات المصارف. مطبعة النجوى
(2) انظر ص 634 من كتابه العقود التجارية وعمليات المصارف، مطبعة النجوى(8/37)
وهذه الميزات والآثار تجعل من الحساب الجاري نظاما خاصا مستقلا بنفسه تحكمه القواعد المقررة بشأنه في قانون التجارة وفي العرف والاجتهاد القضائي.
وعلى أي حال فسواء وجد تعليل وجيه لقاعدة تحول الدين الجديد في الحساب الجاري إلى بند من بنوده أولم يوجد فإن التقنين التجاري والعرف المصرفي قد أقرا هذه القاعدة وأوجبا العمل بمقتضاها فصارت سمة لازمة للحساب الجاري.(8/38)
آثار قاعدة عدم التجزئة:
تترتب على قاعدة عدم التجزئة في الحساب الجاري آثار أهمها ما يلي:
1 - لا يجوز رفع الدعوى بالمطالبة بدين أدخل في الحساب الجاري؛ لأنه بدخوله فيه أصبح غير مستحق حتى يظهر الرصيد النهائي.
2 - إذا دفع أحد طرفي الحساب الجاري مبلغا ما لإدخاله فيه فإن هذا المبلغ لا يعتبر وفاء لمديونيته فيه؛ لأن كل طرف فيه لا يعتبر دائنا أو مديونا قبل قفل الحساب وظهور الرصيد النهائي فيه.
3 - إن أي دفعة فيه لا يجوز إجراء مقاصة عليها؛ لأن المقاصة تعتمد على اعتبار الدفعة الجديدة فيه دينا مستقلا والقاعدة تقضي بأن أي دين جديد في الحساب الجاري يعتبر بندا من بنوده ويفقد ذاته واستقلاله.
4 - إن الدين الذي يدخل في الحساب الجاري لا يخضع للتقادم المسقط؛ لأنه باعتباره بندا من بنوده الجاري عليها الحساب يعتبر متحركا حتى قفل الحساب وظهور رصيده النهائي (1) .
__________
(1) انظر ص 635 - 637 من كتاب '' العقود التجارية وعمليات المصارف '' للدكتور أدوار عيد، مطبعة النجوى(8/38)
قفل الحساب الجاري:
إن قفل الحساب الجاري يعني إيقاف التعامل به نهائيا والاتفاق على إنهاء(8/38)
جانبيه بعدم السماح بدخول مدفوعات جديدة ومن ثم تصفيته واستخلاص الرصيد النهائي من مجموع مفرداته ليمكن تحديد مركز طرفيه من ذلك الرصيد من دائن ومدين.
ولقفل الحساب أسباب إرادية وأسباب خارجة عن الإرادة، ويمكن تلخيص الأسباب الإرادية فيما يلي:
(1) اتفاق الطرفين صراحة على إنهاء الحساب ولو كان ذلك قبل مضي مدة اتفقا على تحديدها مدة لجريان حسابهما.
(2) اتفاق الطرفين ضمنا على إنهاء الحساب الجاري بينهما كأن تتوقف عمليات المدفوعات المتبادلة بين طرفيه ويتوقف تبعا لتوقفها إرسال ميزان الحساب مرة أخرى أو أن يفقد الحساب قدرته على تلقي المدفوعات بين الطرفين.
(3) رغبة أحد الطرفين في قفله إذا لم يكن بينهما اتفاق على مدة معينة لجريانه إلا أنه يشترط لهذه الرغبة أن تكون في وقت مناسب ومتفق مع العادة المتبعة في المصارف.
أما الأسباب الخارجة عن الإرادة فأهمها ما يلي:
(1) الإفلاس: ذلك أن إفلاس أحد طرفي الحساب يؤدي إلى عجزه عن تتابع المدفوعات بين طرفيه للحجز على يد المفلس في إدارة أمواله.
(2) الوفاة: وقد خالف بعضهم في اعتبار الوفاة سببا موجبا لقفل الحساب إذا أبدى الورثة رغبتهم في استمرار الحساب مع أن مجموعة من القوانين التجارية في البلاد العربية قد نصت على أن الوفاة سبب لقفل الحساب، فقد ذكرت المادة (306) من قانون التجارة اللبناني، والمادة (401) من قانون التجارة السوري، والمادة (114) من قانون التجارة الأردني على أن عقد الحساب الجاري ينتهي بوفاة أحد طرفيه أو فقدانه الأهلية، أو بإفلاسه.
وقد علل شراح القوانين اعتبار الوفاة سببا موجبا لقفل الحساب: بأن الحساب الجاري يشبه بعض العقود الجائزة كالوكالة أو الشراكة.(8/39)
وقد انتقد الأستاذ الدكتور محمد عوض هذا الرأي وقال: وأولى أن يشبه عقد الحساب الجاري بالعقود المستمرة فهو عقد مستمر وككل العقود المستمرة هو يقوم على الثقة؛ لأن استطالة مدة التنفيذ تتطلب من كل من طرفي العقد أن يركن إلى أمانة الطرف الآخر، ومن الثابت أن موت أحد طرفي العقود المستمرة لا يؤدي إلى إنهائها فورا وبقوة القانون؛ فضلا على أن عقد الحساب الجاري هو عقد تابع مقصود به تسوية العمليات المترتبة على عقود أخرى بين طرفيه فإذا كانت هذه العقود لم تنته بالوفاة فما معنى انتهاء عقد الحساب الجاري وهو تابع خادم للعقود الأصلية.
ولعل بعض القضاة قد راعى هذه الملاحظات فحكم أن في وسع ورثة المتوفى إطالة أجل الحساب الجاري الذي كان مورثهم طرفا فيه، وتستخلص رغبتهم في ذلك من عدم قيامهم بإخطار البنك بوفاة العميل ورغبتهم في قفل الحساب وتسويته، كما حكم أن الحساب الذي يفتحه البنك لورثة عميله وهم في حالة شيوع مع استمرارهم في ذات الاستغلال الذي كان مورثهم يباشره لا يعد حسابا مستقلا قانونا عن الحساب الأول اهـ (1) .
وإذا تم قفل الحساب ترتبت عليه الآثار الآتية:
(أ) وقوع المقاصة بين مفردات الحساب.
(ب) استخراج الرصيد وتسويته.
(ج) الوفاء بالرصيد بمعنى أنه بمجرد تسويته واستخراجه يكون مستحق الأداء فورا ما لم يتفق الطرفان على تأجيل الوفاء أو إدراجه في حساب جديد.
(د) جواز الحجز عليه تحت يد المدين به باعتباره دينا واجبا مستحق الأداء.
(هـ) عدم جواز إحياء الحساب بعد قفله لكون رصيده أصبح دينا مستحقا واجب الأداء، فإذا أراد طرفاه استئناف التعامل بينهما بطريق الحساب الجاري فتحا حسابا جديدا (2) .
__________
(1) انظر كتابه ص 278 '' عمليات البنوك من الوجهة القانونية ''
(2) انظر ص 238 - 240، من العقود وعمليات البنوك التجارية للدكتور علي البارودي، الطبعة الثانية(8/40)
ومما مضى نستطيع استعراض أهم خصائص الودائع والحساب الجاري فيما يلي:
1 - إن الودائع بمختلف أنواعها يدخل صاحبها مع المصرف الوديع في حساب يسمى حساب الودائع، والغالب أن المصرف يعطي على بقائها فوائد ربوية يختلف حجم بعضها عن بعض تبعا لطول بقاء هذه الودائع لديه وقصره.
ولا شك أن البنك لا يقوم بحفظ ذات الودائع لديه وإنما يأخذها على سبيل تملكها وضمان مثلها ولزوم دفعها حال الطلب، وإن وجد الخلاف في تكييفها من الناحية القانونية، هل هي قرض أو وديعة بالمعنى الصحيح أو وديعة شاذة أو ناقصة؟(8/41)
تكييف الودائع المصرفية من الناحية الشرعية:
إن الفقه الإسلامي قد يعتبرها في حكم القرض؛ لاتفاقها معه من حيث النتيجة في تملك عينها وتعلقها بذمة آخذها ورده مثلها في حال مطالبة صاحبها بها.
قال في الروض المربع: - القرض دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله. . . ويصح بلفظه ولفظ السلف وكل ما أدى - معناهما. . . ويملك القرض بقبضه كالهبة ويتم القبول. . . فلا يلزم رد عينه للزومه بالقبض بل يثبت بدله في ذمة المقترض حالا ولو أجله (1) .
وقال في كشاف القناع عن متن الإقناع: فإن استعارها - أي الدراهم والدنانير - لينفقها أو أطلق أو استعار مكيلا أو موزونا ليأكله أو أطلق، فقرض تغليبا للمعنى فملكه بالقبض (2) .
وقد يعتبرها ربا لما فيها من المعاوضة بين نقدين والحديث: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل (3) » . . . إلخ، وأما الفوائد على بقاء الودائع لدى المودع فأمرها جلي
__________
(1) انظر الجزء الثاني ص 151 - 153 مطبعة السعادة بمصر.
(2) انظر ص 51 الجزء الرابع مطبعة أنصار السنة المحمدية.
(3) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(8/41)
واضح في أنها تجمع بين نوعي الربا ربا الفضل وربا النسيئة، حيث يأخذ المودع زيادة على ما دفع مع التأخر وبالرغم من تحقق معنى الربا فيما يعطيه المصرف للمودعين ووضوحه ووضوح تحريمه من نصوص الشريعة الإسلامية وقواعدها، عرض لجماعة من المعاصرين شبهة في ذلك جعلتهم يعتقدون الجواز فيما يدفعه المصرف للمودعين زيادة على رءوس أموالهم، بناء على أن المصرف استقبل ما يدفع إليه من الأموال وأخذها للتنمية والإنتاج لا لدفع كربة أو تفريج شدة من تسديد ديون أو استهلاك في كسوة أو قوت أو نحو ذلك من ضرورات الحياة حتى تكون محرمة، وبناء على زعمهم أن مقاصد الشريعة تقضي بتحريم الربا فيما أخذ للاستهلاك فقط وأن هذا هو ربا الجاهلية الذي وردت النصوص بتحريمه دون ربا التنمية والإنتاج.
وقد ذكر الأستاذ الدكتور محمد عبد الله العربي تلك الشبهة وأجاب عنها بما نصه: قال بعض المعاصرين - هنا وفي بلاد إسلامية أخرى - إن الربا الذي حرمه الإسلام هو ما اتصل بقروض استهلاكية، يقترضها ذوو الحاجة الملحة ويؤدون عنها رأس مالها ثم الربا المضاف إليها، أما القروض الإنتاجية التي يقترضها الموسرون ويوظفونها في مشروعات إنتاجية تدر عليهم ربحا وفيرا فإن الفائدة التي يؤدونها عن رأس المال الذي اقترضوه ليست بالربا المحرم.
ونرد عليهم بأن تسمية الربا بالفائدة لا يغير طبيعته، فالفائدة لست إلا زيادة في رأس المال المقرض، وكل زيادة عنه هي ربا لغة وشرعا.
وأكبر حجة ساقوها على هذا الرأي هو أن الربا الذي حرمه القرآن هو ما كان سائدا في الجاهلية قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن العصر الجاهلي لم يكن أهله على علم بالقروض الإنتاجية وأثرها في النشاط الاقتصادي الحديث.
ونسوا أن القرآن خاتم الهدايات الإلهية لم يكن ليشرع لعصر معين بل تشريعه يمتد إلى أبد الدهر، ولم يكن ليغيب عن علم الله - سبحانه وتعالى - ما سوف يتمخض عنه اقتصاد هذا العصر - أو أي عصر - من اعتماد القروض الإنتاجية، والزعم بضرورة ترتيب فائدة عليها حتى لا تنقطع ونسوا قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 279(8/42)
بغير تمييز بين ما إذا كانت رءوس الأموال هذه التي استخدمها مقترضوها قد استخدموها في أغراض إنتاجية أو استهلاكية، ونسوا كذلك الحديث الذي يقرر أن «كل قرض جر نفعا فهو ربا (1) » فلم يميز الرسول بين ما إذا كان القرض الذي عاد بزيادة على المقرض قد فرج كربة المقترض أو وظفه في تمويل مشروع إنتاجي، ولو شاء سبحانه هذا التمييز أو علم أن فيه خيرا للناس لما ترك النص عليه.
وسنبين لهم - من واقع تجارب هذا العصر وشهادة كثير من علماء الاقتصاد في هذا العصر بالذات - أن الربا في هذه القروض الإنتاجية قد تسبب في أضرار فادحة في الاقتصاد العالمي المعاصر، ولكنا نريد في البداية أن نمحص الحجة التي يتوكئون عليها وهي أن العصر الجاهلي لم يكن يعرف ما نشأ في العصور الحديثة من القروض الإنتاجية.
حسب الباحث أن يتأمل في الظروف المادية التي أحاطت بالاقتصاد الجاهلي وبالبيئة الجاهلية - بيئة مكة وما حولها من قرى الحجاز - ليوقن أن القروض الإنتاجية كانت ضرورة حيوية من ضرورات اقتصادهم، فمكة - مهد الإسلام - وما حولها من القرى كانت ترتبط معا بروابط اقتصادية وتجارية تجعل القرض الإنتاجي لازما من لوازم حياتهم.
وينبئنا التاريخ بأن الطائف - مقر قبيلة ثقيف - وهي قرية تبعد إلى الجنوب الشرقي من مكة بنحو خمسة وسبعين ميلا، وكانت تمتاز بأرض خصبة في الوديان المحيطة بها وكانت لذلك تصدر إلى مكة وقرى الحجاز الأخرى حاصلاتها من الزبيب والقمح والأخشاب وغيرها، وكانت تستورد من مكة السلع التي تأتي بها قريش في كل من رحلة الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن وجنوب الجزيرة، وهذا التبادل التجاري كان يتم أكثره عن طريق القروض الربوية لا سيما أن جالية كبيرة يهودية كانت تقيم بالطائف، هاجرت إليها بعد طردها من اليمن، ولم تكن لها صناعة إلا الإقراض بالربا لهذا النشاط التجاري لأهل الطائف وما حولها.
__________
(1) روي مرفوعا ولم يصح، وروي موقوفا على علي وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام.(8/43)
أما مكة فكانت في أرض جدباء لا زراعة فيها ولا غابات ولا معادن، ولذلك كانت لا تعتمد في رزقها إلا على التجارة حتى أصبحت أعظم مركز تجاري في الجزيرة العربية.
يقول المؤرخون إنها كانت (المحطة) الوسطى بين مأرب وغزة في طريق القوافل الرئيسي بين متاجر الشرق ومتاجر الغرب، وقالوا: إن مكة صارت على هذا النحو أشبه بجمهورية تجارية تعيش اقتصاديا على الرحلتين، وكان يزيد في مكانتها التجارية أن قريشا كانوا سدنة الكعبة والبيت الحرام، وكانوا لذلك موضع الرعاية والتكريم في حلهم وترحالهم.
وكان للتجارة بصفة عامة احترام كبير في نفوس قريش، ويتجلى ذلك على الأخص في أن المهاجرين من قريش إلى يثرب - بالرغم من كل ما قدم لهم الأنصار من مشاركة في أرزاقهم تغنيهم عن الكد والسعي - آثر أكثرهم أن يبدأوا في الحال ممارسة التجارة، قال أبو هريرة: (إن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق) أي الخروج إلى التجارة.
وهكذا يروي التاريخ كيف كانت مكة مركز نشاط تجاري عظيم، ومحط القوافل في غدوها ورواحها، يترقبها أهل مكة رجالا ونساء وأكثرهم قد وظف بعض ماله في السلع، التي تحملها هذه القوافل، كما يروي التاريخ أن قافلة أبي سفيان التي أدى خوف الاستيلاء عليها إلى غزوة بدر، كانت قريش كلها مساهمة في تمويلها، والتمويل يحتاج إلى رأس مال، فإذا لم يكن رأس المال متوافرا لدى بعضهم لجأ هذا البعض إلى الاقتراض بربا يتعهد بأدائه إلى المقرض اعتمادا على أن الربح الذي سوف يجنيه من توظيف المال المقترض في التجارة سوف يدر عليه أكثر من الربا المفروض عليه، أي: أن هؤلاء كانوا يقومون بالدور الذي يسمى الآن دور " الشريك القائم " يعطي ما اقترضه من المال إلى القائمين فعلا بالإتجار، وشراء السلع في إحدى الرحلتين ثم بيعها في الرحلة الأخرى، ثم يدفع في النهاية من النصيب الذي خصه رأس المال الذي اقترضه بالإضافة إلى مبلغ الربا المتفق عليه.
لذلك عجبت قريش عندما جاء الإسلام يحرم الربا: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (1) هو تأجير لرأس المال، والربا الذي يستحقه المقرض هو أجرة رأس المال،
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(8/44)
فكان الربا على هذا النحو جزءا لا يتجزأ من حياتهم الاقتصادية، وكان أصحاب المال في مكة لا يقتصرون على إقراض مواطنيهم في مكة بل يمتد إقراضهم إلى أهل القرى الأخرى في الحجاز، فكانوا يساهمون بصفة أصلية في تمويل القوافل وفي الوقت ذاته يقرضون غيرهم ليشاركهم في تمويلها، فقد ثبت أن عباس بن عبد المطلب عم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخالد بن الوليد وغيرهما كان إقراضهم يتجاوز حدود مكة إلى أهل الطائف، وثبت أن عثمان بن عفان كان من أغنياء التجار الذين يمولون التجارة بالربا على نطاق واسع.
وهكذا يتبين بما لا شك فيه أن عرب الجاهلية كانوا يتعاملون بالربا في حالتين:
(الحالة الأولى) : عند تقديم قرض لأجل معين بربا يزيد على رأس مال القرض، وكانت هذه الزيادة تحدد بما يتفق عليه الطرفان، فطورا كان المقترض يدفع هذه الزيادة على أقساط شهرية وطورا كان يدفعها جملة واحدة عند حلول أجل القرض، فإذا عجز المقترض عن السداد أعطى أجلا آخر بعد مضاعفة قيمة القرض، وفي حالة تقسيم الزيادة على أقساط شهرية كانت تضاعف هذه الأقساط مقابل تأجيل سدادها.
(الحالة الثانية) : حالة البيع، أي: يبيع البائع السلعة بثمن مؤجل فإذا حل الأجل أو عجز المشتري عن أداء الثمن زيد الثمن وامتد الأجل، كما ثبت أن البيع مع تأجيل الثمن لم يكن فقط لعجز المشتري عن تعجيل الثمن بل كان لإمهاله حتى يبيع السلع التي اشتراها، وكانت الشركة المسماة " شركة الوجود " شائعة في الجاهلية، وهي أن شخصين أو ثلاثة يعقدون عقد شركة فيما بينهم بغير تقديم أي مال من أحدهم، وكانوا اعتمادا على الثقة فيهم يشترون مع تأجيل الثمن، فإذا باعوا سلعهم المشتراة اقتسموا الربح بعد تسديد الثمن، وفي بيئة كالبيئة الجاهلية كان شراؤهم بغير تعجيل الثمن يقترن دائما بفائدة ربوية للبائعين مقابل الأجل.
فلما جاء الإسلام أحدث ثورة في أساس حياتهم الاقتصادية:
كان أساس القرض الإنتاجي في العصر الجاهلي أن لا يقترن الإقراض بأي مخاطرة من جانب رب المال، فهو يقدم مال القرض ويفرض عليه الفائدة الربوية ثم(8/45)
يسترد رأس المال ورباه، سواء ربح المشروع أو خسر، ثم جاء الإسلام فحرم الربا مهما كان هدف القرض، ووجه بذلك ضربة قاضية إلى النظام الاقتصادي القائم.
إن أهمية (أحل الله البيع وحرم الربا) لم تقتصر على البيع وتحريم الربا، بل قلبت التفكير الاقتصادي عن دور رأس المال ودور التجارة رأسا على عقب؛ جاء الإسلام فشجع التجارة وبالتالي شجع عملية الإقراض ولكن بغير زيادة على رأس المال.
عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن السلف - أي القرض - يجري مجرى شطر الصدقة (1) » ، وجاء في السنن لابن ماجه أنه قال: «ما من مسلم يقرض قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة (2) » ، وعن ابن مسعود أنه قال: (كل قرض صدقة) (3) .
وهكذا استمرت بعد الإسلام القروض بنوعيها - استهلاكية وإنتاجية - يقدمها أرباب المال بغير ربا، بدافع الإخاء الإسلامي والتعاون الإسلامي وما يرتجيه رب المال من ثواب على هذا الصنيع، بل ثبت أن بيت المال كان يخرج بغير ربا قروضا لمشروعات إنتاجية، وروى الطبري: أن هندا ابنة عتبة قامت إلى عمر بن الخطاب فاستقرضته من بيت المال أربعة ألاف درهم تتجر فهيا وتضمنها فأقرضها، فخرجت بها إلى بلاد كلب فاشترت وباعت، فلما أتت المدينة شكت الوضيعة - أي الخسارة - فقال لها عمر: لو كان مالي لتركته ولكنه مال المسلمين اهـ. إلى أن قال: ونحسب أنه بعد هذا البيان لم يبق محل للجدل في أن الربا الذي حرمه الإسلام يشمل القروض الإنتاجية والقروض الاستهلاكية على السواء، وأن القروض الإنتاجية كانت شائعة في العصر الجاهلي فجاء الإسلام يحرم الربا عليها كما حرمه على القروض الاستهلاكية.
وقبل أن نختم هذه الكلمة الموجزة عن الربا يجب أن نكشف عن العلة في تحرميه كشفا نهتدي فيه بعقلنا البشري، أما التحريم في ذاته فهو قائم لأنه أمر الله، الله الذي لا يريد لعباده إلا الخير وقد تقصر عقولنا البشرية عن إدراك مدى حكمته.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند
(2) سنن ابن ماجه الأحكام (2430) .
(3) رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية(8/46)
أما الربا على القرض الاستهلاكي فحكمة تحريمه ظاهرة لا تحتاج إلى بيان فهو يتنافى مع الأخلاق الإسلامية، وهو يهدم جميع الخصائص التي جعلها الله من مقومات المجتمع الإسلامي.
أما الربا على القرض الإنتاجي فلعل حكمة تحريمه لم تظهر على أوضح وجه كما ظهرت منذ أجازت التشريعات الأوربية قرض (الفائدة) على القروض.
ونكتفي هنا بما أثبتته المشاهدات الواقعية لآثار هذا الربا في عصرنا مرجئين التدليل عليها إلى سياق البحث.
فمن جهة المرابي: ترتب على تحليل الربا على القرض الإنتاجي في القرون الثلاثة الأخيرة - كما سنوضح تفصيلا فيما بعد - أن نشأت البنوك الحديثة، فتركز في أيدي أصحابها الجانب الأكبر من المال المتداول في المجتمع، حتى صارت لهم السيطرة الكبرى على اقتصاديات المجتمع ثم امتدت هذه السيطرة إلى سياسة المجتمع الداخلية والخارجية، وإلى تشريعات المجتمع، بل وإلى أخلاقياته، وأسلوب تفكيره بما أحرزوه من سيطرة على وسائل الإعلام، ودأبوا على توجيه كل هذه القوى في الاتجاه الذي يكفل لهم المزيد من القوة المالية، ويدعم المكانة الرفيعة التي اغتصبوها، وإن ضحوا في سبيل ذلك بالمصالح الحقيقية للشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها.
ثم يجب أن لا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن المال الذي آتى أصحاب البنوك هذه القوة وهذه السيطرة لم يكن في البداية مالهم الخاص، بل أكثره مال المودعين الذي أودعوه في خزائنهم لآجال معينة يحصلون في مقابلها على فائدة صغيرة، ثم يقرض أصحاب البنوك أصحاب المشروعات الإنتاجية بفائدة أكبر، ويستحلون هذا الفرق الكبير بين الفائدتين، وشيئا فشيئا تركز أكثر المال السائل في المجتمع في حوزتهم، وهكذا دانت السيطرة المالية بغير أي كد أو جهد بذلوه بل كانت عملية امتصاص دماء المجتمع وهم رابضون في بنوكهم.(8/47)
أما من جهة المنتج الذي يقترض بالربا فهذه بعض النتائج التي تترتب على رباه:
أولا: غلاء أسعار السلع التي ينتجها المقترض، إذ المنتج يضيف فائدة القرض إلى تكاليف إنتاج السلع التي يشتريها المستهلكون، فكأن المجتمع - لا المنتج - المقترض هو الذي يدفع الفائدة الربوية.
ثانيا: المجتمع يدفع الفائدة الربوية إذا ظلت دورة الرخاء التي اعتمد عليها المنتج قائمة وإذا ظل مستوى الطلب على السلعة متفقا مع تقديره، أما إذا تقلصت دورة الرخاء أو إذا نقص الطلب على السلعة بسبب ارتفاع ثمنها نتيجة لإضافة الفائدة الربوية، فإن الوضع يختلف، إذا يؤدي ارتفاع الثمن إلى انحسار الاستهلاك تدريجيا، فيبقى فائض من المنتجات بغير تصريف هذا الفائض له عواقبه.
ثالثا: المنتج إذا أراد تخفيض تكاليف الإنتاج التي ارتفعت بسبب إضافة الفائدة إليها لا يجد أمامه إلا أجور العمال، فيسعى إلى تخفيضها أو إلى الاستغناء عن بعضهم، أما الاستغناء فيؤدي إلى خلق البطالة، وأما تخفيض أجور العمال فيؤدي إلى نقص القوة الشرائية في المجتمع، وفي الحالتين يزداد الاستهلاك انحسارا ويزداد فائض المنتجات فتنشأ الأزمة الدورية التي صارت لازمة من لوازم الاقتصاد الغربي.
رابعا: والسعي إلى تصريف فائض الإنتاج يؤدي إلى البحث عن أسواق خارجية، وطبعا لن يكون أكثرها إلا في البلاد المتخلفة غير الصناعية، ولا سبيل إلى استدامة هذه الأسواق إلا ببسط نفوذ الدول الصناعية عن طريق الاستعمار، وهكذا تنتقل بلية الربا من مجتمع إلى مجتمعات الإنسانية كلها، كما ثبت أن هذا التنافس الاستعماري كان من الأسباب التي أشعلت حربين عالميتين وقد يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة.
خامسا: إذا أخفق المنتجون المقترضون بالربا في تخفيض أجور العمال لجأوا إلى وسيلة أخرى هي تخفيض أثمان المواد الأولية التي تعتمد عليها صناعاتهم والتي يستوردون أكثرها من البلاد المتخلفة غير الصناعية، وهنا تتآمر الدول(8/48)
الصناعية بتكتلاتها الاحتكارية على تخفيض أثمان المواد الأولية، غير مكترثين بالأضرار الفادحة التي تصيب الجانب الأكبر من سكان الأرض، وغير حافلة بالجهود التي تبذلها منظمات هيئة الأمم المتحدة في محاولة قمع هذا الاتجاه.
وبعد فهذه بعض الأضرار التي أصابت البشرية كلها من إجازة الفائدة الربوية على القروض الإنتاجية، حتى رأينا بعض علماء الاقتصاد - وفي الدول الرأسمالية بالذات - يندد بالفائدة في الاقتصاد الرأسمالي، وهذا تصديق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} (2) . اهـ.
2 - التفريق بين حساب الودائع والحساب الجاري من حيث احتفاظ كل دفعة من أي طرف في الحساب العادي أو البسيط أو حساب الودائع بكيانها واستقلالها وبالتالي خضوعها للآثار الحقوقية من حيث المطالبة بها والمقاصة عليها بخلاف ذلك في الحساب الجاري فإن كل دفعة من أي طرفيه تفقد كيانها واستقلالها وتخضع للانصهار في كليته لتكون بندا من بنوده لا تجوز المطالبة بها ولا المقاصة عليها ولا اعتبارها حقا قائما بذاته وإنما هي جزء من كل لا يتجزأ هو جانبا الحساب الجاري الدائنية والمديونية.
وقد مر بنا محاولة تعليل هذا التقعيد للحساب الجاري فمن قائل: بأن انصهار المدفوعات في الحساب الجاري وعدم اعتبار أي دفعة منها دينا قائما بذاته يعني بذلك التجديد، ومن قائل: بأن المقاصة بين المديونية والدائنية هي التي قضت على كل دفعة فيه، واتجه النقد إلى كلا التعليلين، ثم قيل: بأن العرف المصرفي وقواعد الحساب الجاري قضيا بذلك سواء وجد تعليل يسنده المنطق أو لم يوجد.
هذه المسألة تحتاج إلى كثير من النظر والتأمل، وعلى افتراض وجاهة التقعيد لها في الحساب الجاري فيمكن أن يقال: بأن المصلحة تعتبر سندا لتلك القاعدة باعتبار
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279(8/49)
أن تجزئة الحساب وبقاء كل دفعة فيه متعلقة بما عليها وما لها من حقوق يعرقل سير الحساب ويحول دون أدائه وظائفه التي من أهمها تسوية المدفوعات المتشابكة والمتبادلة بين الطرفين.(8/50)
العمولة في نظر القانون 3 - العمولة في نظر القانون:
العمولة: سبق ذكر أن العادة المصرفية قد جرت بين البنوك في أخذ عمولة على الحساب الجاري باعتبار أن أخذ البنك الفائدة على مدفوعاته لا يكفي لتغطية نفقاته وقيمة مسئولياته تجاهه وقد أخذ باعتبار ذلك ومشروعيته بعض القوانين العربية وغيرها، وحكمت بوجاهته واعتباره بعض محاكم الاختصاص في فرنسا ومصر وغيرهما ولكن بشيء من التحفظ والقيود وفي ذلك تقول المادة (227) من القانون المدني المصري الجديد ما نصه: كل عمولة أو منفعة أيا كان نوعها اشترطها الدائن إذا زادت هي والفائدة المتفق عليها على الحد الأقصى المتقدم ذكره وهو 7% تعتبر فائدة مستمرة وتكون قابلة للتخفيض إذا ما ثبت أن هذه العمولة أو المنفعة لا تقابلها خدمة حقيقية يكون الدائن قد أداها ولا منفعة مشروعة (1) .
__________
(1) انظر الوسيط للسنهوري الجزء الثاني رقم 512 ص 908(8/50)
العمولة في حكم الشريعة الإسلامية العمولة في حكم الشريعة الإسلامية:
إن العمولة التي يأخذها البنك يمكن أن يقال عنها: بأنها من قبيل الأجرة على تحمل متاعب تشغيل الحساب الجاري كما يتعلل بذلك أصحاب المصارف، كما يمكن أن يقال: بأنها جزء من الفائدة الربوية تشكل قدرا إضافيا إليها صار من البنوك الاحتيال عليها بتسميتها عمولة، وإذا ادعى أنها من قبيل الأجرة على قيد وتشغيل الحساب كنفقات قرطاسية فإن النفقات القرطاسية في الغالب لا تخضع للزيادة(8/50)
والنقصان تبعا لزيادة حجم المدفوع ونقصها إذ إن النفقات قيد القليل والكثير واحدة.
ولذلك يمن أن يقال بأن الأخذ بمبدأ النسبة المئوية في العمولة تبعا لحجم المدفوعات والحال أن قيود القليل والكثير واحدة في غير محله وقد يعطي البرهان على إرادة الفائدة الإضافية، ويمكن أن يقال أيضا: بأن لتحمل المسئولية مجالا في الاعتبار فإن الاحتياطات التي تبذل في سبيل قيود المدفوعات الكثيرة ليست الاحتياطات التي تبذل بخصوص المدفوعات القليلة وعليه فيمكن التسليم بوجاهة توظيف الأجرة بطريق النسب المئوية على المدفوعات في الحسابات الجارية، وربما يرد على القول بأن لتحمل المسئولية مجالا في الاعتبار، بأن تحمل المسئولية ليس متقوما حتى يجعل له اعتبار في استحقاق العوض.(8/51)
ثانيا: إيداع الوثائق والمستندات:
تعتبر وديعة الوثائق والمستندات لدى المصارف وديعة بالمعنى الحقيقي تترتب عليها أحكام الوديعة من قيام الوديع بحفظ الوديعة في حرز مثلها وبرد عينها وبانتفاء الضمان في هلاكها بما لا قدرة له على دفعه من الأسباب القاهرة، ويرى الأستاذ علي البارودي: بأنها تشبه الوديعة المدنية العادية، ثم ذكر أنها تختلف عنها من حيث إنها تتضمن معاوضة، إذ يتقاضى البنك عنها دائما أجرا يتفق عليه بينما الأصل في الوديعة المدنية أنها تبرعية ما لم يتفق صراحة على أجر، كذلك يتميز عقد وديعة الصكوك في البنك بأنه قد يستتبع عمليات ثانوية متعددة يقوم بها البنك وكيلا عن عملية المودع (1) .
والغالب أن الاتفاق بين البنك وعميله على إبداع المستندات يكون بأجرة رمزية؛ لأن البنك يهدف من تلقى ودائع الوثائق والمستندات إلى تأكيد صلته بعملائه
__________
(1) انظر ص 255 من كتابه العقود وعمليات البنوك التجارية. الطبعة الثانية(8/51)
ليعهدوا إليه بعمليات قد تستلزمها تلك الوثائق كتحصيل أرباحها أو التوسط في بيع محتوياتها لأخذ عمولات على ذلك، كما أن احتفاظ البنك بمحفظة مالية لأحد عملائه يعني علمه بحالته المالية فيفيده إذا أقدم على ائتمانه في عمليات أخرى، والغالب أن الإيداع من العميل يكون اختياريا، وقد يجد العميل نفسه مضطرا للإيداع كأن يكون عضوا في مجلس إدارة مؤسسة مالية يفرض عليه النظام العام أو نظام المؤسسة نفسها إيداع أسهم الضمان في بنك معتمد من جهة الاختصاص.
ونظرا إلى وديعة المستندات تتم بين العميل والمصرف بأجرة يجري الاتفاق على تحديدها وإلى أنه يعطي البنك توكيلا في البيع أو التحصيل أو نحو ذلك مما تستلزمه تلك المستندات، يشترط للدخول في عقدها الأهلية للالتزام بذلك، وقد استقر العرف القانوني على تسمية الاتفاق على الإيداع عقدا بين المودع والوديع يتم به تسليم المستندات إلى البنك بعد تحرير بيانها بقائمة تجري مراجعتها من قبل الوديع ومن ثم إعطاء المودع إيصالا بها تكون له قيمته في الإثبات وفي حق حضور اجتماع الجمعيات العمومية للشركات التي أصدرتها أو أصدرت بعضها، وتلزم بالاتفاق على الوديعة والدخول في إنفاذها أجرة يجري تعيين مقدراها بين الطرفين، ونظرا إلى أن العقد من حيث هو عقد يقضي بالتزامات كل طرف تجاه الآخر، فإن لعقد ودائع الوثائق والمستندات التزامات من الطرفين المودع والوديع للآخر، أشار إليها الدكتور محمد عوض فبين: أن العقد يرتب على العميل التزامات أهمها ما يلي: (أ) - دفع الأجرة التي جرى عليها الاتفاق بينه وبين البنك وإذا لم يكن بينهما اتفاق على تحديدها فيرجع إلى العرف في ذلك، والغالب أن يستقل البنك بتحديد هذه الأجرة، وإذا كانت السندات المودعة عنده لحامله فيبالغ في تحديد الأجرة لأن مخاطر حفظها أكثر من مخاطر حفظ السندات الإسمية.
(ب) - دفع عمولة على مجرد فتح ملف خاص بالوديعة ولو استردها المودع فورا.
(ج) - دفع العمولات المستحقة عن العمليات التي يجريها البنك بناء على طلب المودع مما له تعلق بالوثائق والمستندات.(8/52)
وللبنك أن يحبس الأوراق المودعة حتى يستوفي حقه عليها من أجر وعمولة مما له تعلق بعملياتها التبعية.
وكما أن على العميل المودع التزامات للبنك تجاه وديعته فإن على البنك الوديع التزامات أصلية والتزامات تبعية.
أما الالتزامات الأصلية فأهمها ما يلي: (أ) - على البنك أن يبذل طاقته وجهده للمحافظة على الأوراق الوثيقية المسلمة إليه من الناحية المادية مع مراعاة حكم العادات المصرفية، والأصل أن يحفظ الوديعة في مكان الإيداع فإن نقلها عن محل الإيداع بلا إذن الوديع اعتبر مفرطا وسئل عما يترتب على النقل من مخاطره.
(ب) - لا يجوز للبنك الوديع أن يستعمل وديعة الوثائق والمستندات لأغراض خاصة به، فلا يجوز للبنك أن يرهن السندات لدين عليه كما لا يجوز له أن يمكن غيره من استعمالها.
(ج) - يتعين على البنك أن يرد الوديعة في الموعد المتفق عليه إن كان ثم بينهما اتفاق على موعد معين وإلا ردها إليه متى طلبها، ذلك أن من مقتضيات الالتزام بالحفظ رد الوديعة في الموعد المتفق عليه إلا في حالات أشار إليها الأستاذ الدكتور محمد جمال الدين عوض بما ملخصه: إنه قد يكون العقد بين البنك والعميل وديعة ومع ذلك لا يكون البنك ملزما بتنفيذ الالتزام بالرد في حالات أهمها ما يلي: أ - إذا كان من حق البنك أن يحبس المستندات حتى يستوفي حقوقه ضد المودع.
ب - متى كان له أن يتمسك بامتياز حفظ المنقول عليها.
ج - إذا باشر عليها إجراءات الحجز تحت يد نفسه طبقا للمادة (573) مرافعات (1) .
__________
(1) من قانون المرافعات المصري(8/53)
د - إذا حجر عليها تحت يده أو عارض شخص في تسليمها إلى المودع مستندا إلى حق له عليها.
هـ - إذا تغير العقد الأصلي وحل محله عقد جديد، فقد يزول الالتزام بالرد ليحل محله الالتزام الناشئة من هذا العقد الجديد، كأن يتلقى البنك أمرا من المودع ببيع المستندات المودعة فيصبح البنك من هذه اللحظة وكيلا بالبيع وينتهي التزامه برد المستندات، كما إذا أقرض البنك العميل أو فتح له اعتمادا برهن المستندات تغيرت صفة حيازة البنك فأصبح جائزا بصفته مرتهنا بعد أن كان حائزا بصفته وديعا.
وأما التزامات البنك التبعية فيقول عنها الدكتور محمد عوض ما نصه:
لا يقتصر التزام البنك على مجرد حفظ المستندات ماديا، بل إن عليه فوق ذلك القيام بعمليات قانونية ومادية معينة تهدف إلى تحقيق هذا الغرض وهو الحفظ وإلا لم تتحقق الفائدة من العقد بل إنه يكون مصدر متاعب للمودع؛ إذا يضطر أن يسترد السندات في أوقات معينة ليقوم هو بهذه العمليات ثم يردها إلى البنك وهكذا، ويكون عندئذ من الأوفر له أن يستأجر لها خزانة بأجر زهيد، ولذلك فالمقرر أن عقد إيداع السندات يلقى بذاته على البنك واجب القيام ببعض العمليات اللازمة لخدمتها دون حاجة إلى اتفاق خاص ويظل العقد مع ذلك خاضعا لأحكام الوديعة، وإن كان البنك في خصوص العمليات التي يقوم بها لحساب العميل في مركز الوكيل، ثم ذكر أن مستلزمات البنك التبعية تستمد من العقد المبرم بينه وبين عمليه ومن قصدهما في إبرامه، ويستنتج القصد من قيمة الأجرة ومن النشرات التي يصدرها البنك لعملائه إلى غير ذلك مما يلابس عملية الإيداع من القرائن والأحوال.
ثم بدأ في استعراض تلك التزامات التبعية فذكرها بما ملخصه:
يلزم البنك استحصال الكوبونات والسندات المستهلكة باعتبار أن ذلك نتيجة(8/54)
من نتائج الإيداع والالتزام بالحفظ ويضيف الدكتور علي البارودي إلى ذلك قوله: ففيما يتعلق بالأسهم مثلا يقوم البنك بتحصيل الكوبونات ويتحقق من صحة القرعة عند الاستهلاك ويقوم بتنبيه المودع إلى حقوقه في القيام بالعمليات التي تخولها له ملكية الأسهم وعلى الأخص حقه في الاكتتاب عند زيادة رأس مال الشركة وخطره بمواعيد اجتماع الجمعية العمومية للشركات المختلفة التي أصدرت الصكوك المودعة.
وينفذ فوق هذا أو ذاك التعليمات والأوامر التي يصدرها إليه عمليه من بيع أو شراء أو تحويل أو تجميع لهذه الصكوك (1) .
__________
(1) انظر ص 261 من كتابه العقود وعمليات البنوك التجارية، الطبعة الثانية(8/55)
ثالثا: إيجار الخزائن الحديدية: تعريفه - فوائده - طابعه - آثاره:
يقول الدكتور علي البارودي: بأن ماهية إيجار الخزائن الحديدية عبارة عن عقد يلتزم البنك بمقتضاه أن يضع في العقار الذي يشغله خزانة حديدية تحت تصرف العميل وحده مقابل أخر يختلف باختلاف حجم الخزانة ومدة انتفاع العميل بها (1) .
ويتميز عقد إيجار الخزائن الحديدية عن غيره من عقود المعاملات المصرفية بأنه عقد مستقل بالعميل نفسه لا يعود للبنك منه أي فائدة تبعية سوى أنه عامل من عوامل اجتذاب العملاء، وإذا كان البنك يأخذ أجرة على تأجيره الخزائن فإن هذه الأجرة في الغالب لا تتناسب مع تكاليف إنشاء هذه الخزائن ولا مع المسئولية في الحفاظ عليها بعد استئجارها.
أما العميل فله فوائد أهمها: ضمان سلامة وحفظ الأشياء التي أودعها في الخزانة الحديدية، وضمان سريتها والقدرة على الاستمرار في السرية بحكم أن مفتاحها بيده وحده وأن البنك لا يمكن غيره من فتحها بخلاف ما لو كان ذلك في بيته أو
__________
(1) العقود وعمليات البنوك التجارية ص 265(8/55)
متجره فإن المحافظة على سريتها والاستمرار على ذلك مما لا يستطيعه في الغالب.
ولعقود إيجار الخزائن الحديدية طابع شخصي يبدو في حرص البنك على اختيار عملائه المستأجرين في أن يكونوا من ذوي المؤهلات الخلقية ممن يعرفون باستقامتهم وحسن معاملاتهم ونزاهة تصرفاتهم في مختلف شئون الحياة من تجارية ومدنية وسياسية، كل ذلك لتفادي البنك الأضرار التي تنجم ممن ليسوا في مستوى أخلاقي صالح للتعامل المدني أو التجاري عند دخولهم قاعة الخزائن (1) .
__________
(1) انظر ص 265 - 266 من العقود وعمليات البنوك التجارية، للدكتور علي البارودي: الطبعة الثانية(8/56)
آثار العقد:
لعقد إجارة الخزائن الحديدية آثار تتضح في الالتزامات المتبادلة بين طرفيه ذلك أن عقد إجارة الخزانة الحديدية يلزم البنك لعميله أمورا أهمها ما يلي:
أ - محافظة البنك على الخزائن وحراستها عن الأسباب التي قد تؤدي إلى هلاك ما بها أو تلفه كالحريق والسرقة ونحو ذلك مما في مقدوره دفعه.
ب - تمكين المستأجر من الانتفاع بالخزائن وبذل الجهد في سبيل تأمين رغبة المستأجر في أن يكون انتفاعه بها سريا تحقيقا لغرضه من الاستئجار، ومن ذلك إيجار فواصل خاصة بين الخزائن حتى يضمن العميل سرية الاطلاع المنفرد على ما بداخل خزانته.
ج - التحقق من شخصية عميله المستأجر قبل السماح له بدخول صالة الخزائن.
د - احتفاظ البنك بمفتاح آخر يستعمله في حال الاضطرار إلى إنقاذ محتويات الخزانة من حريق أو فيضان أو نحو ذلك.
كما أن العقد يلزم العميل للبنك أمورا أهمها ما يلي:
أ - دفعه الأجرة المتفق عليها في عقد الإجارة واحتفاظه بمفتاح الخزانة ورده عند انقضاء العقد.(8/56)
ب - في حال فقده مفتاح الخزانة عليه إبلاغ البنك بذلك ليمنع البنك أي محاولة ممن يجد المفتاح من الدخول إلى صالة الخزائن وفتحه الخزانة.
ج - احترامه للائحة صالة الخزائن وتقيده بمواعيد الزيارة، وألا يضع في الخزانة ما يهدد سلامة الخزانة أو البنك نفسه (1) .
__________
(1) انظر العقود وعمليات البنوك التجارية للدكتور علي البارودي صفحة 267 - 268. الطبعة الثانية(8/57)
التكييف القانوني لعقد إيجار الخزانة:
اختلف فقهاء القانون وشراحه في تخريج عقد إيجار الخزائن الحديدية هل يخرج على أنه وديعة أم على أنه عقد إجارة، فمن نظر إلى أن الخزانة وما تحتويه من ممتلكات العميل تعتبر في عهده البنك وحراسته اعتبر العقد وديعة وأجرى عليه أحكام الوديعة.
ومن نظر إلى أن العميل قد استأجر بالفعل هذه الخزينة من البنك ومكنه من استخدامها استخداما يتمكن به من الحفاظ على سرية ما يضعه فيها وسلامته بأجرة معينة لمدة محدودة اعتبرها من عقود الإجارة، وفي ذلك يقول الدكتور علي البارودي: إن معرفة ما إذا كان إيجار الخزائن أقرب إلى الوديعة أو هو أقرب إلى الإيجار ذلك أيضا موضوع خلاف بين الفقهاء وبين أحكام القضاء ويذهب البعض إلى القول: بأنه عقد ذو طبيعة خاصة يسميه عقد الحراسة، ولكن مثل هذا الرأي لا يحل الإشكال القائم إذ يبقى بيان الآثار الخاصة التي يمكن أن تترتب على هذا العقد الجديد، والواقع أن في هذا العقد نوعا من الحيازة المشتركة لا تتوافر في عقد الوديعة حيث تكون الحيازة للمودع لديه وحده ولا في عقد الإيجار حيث تكون الحيازة للمستأجر وحده، ففي عقد إيجار الخزانة يحوز البنك الخزانة ويحوز العميل ما بداخلها، فلو أن الخزانة ذاتها ملك للعميل لما كان هناك شك في أن العقد يكون وديعة تماما كمن يودع حقيبة مغلقة لدى شخص آخر لا يعلم ما بداخل الحقيبة، فملكية البنك للخزانة هي التي تمنع القول بأن العقد عقد وديعة (1) .
__________
(1) انظر كتاب العقود وعمليات البنوك التجارية صفحة 269-270. الطبعة الثانية(8/57)
التكييف الشرعي لعملية استئجار الخزانة: يظهر - والله أعلم - أن للعقد جانبيين: جانب استئجار يبدو في تأجير البنك عمليه الخزانة الحديدية بأجرة معينة لمدة محدودة يتمكن فيها من استخدام الخزانة في غرضه الذي استأجرها لأجله. هذا الجانب يمكن اعتباره عقدا مستقلا تثبت له أحكام الإجارة، وجانب إيداع يبدو في التزام البنك بالحفاظ على الخزانة وبذل الأسباب العادية في حمايتها وسلامتها من أي ضرر يلحق بها مما يستطيع دفعه، ونظرا إلى أن البنك مسئول مسئولية ضمان عن هذه الخزينة المستأجرة وحماية محتوياتها من الأسباب الموجبة لهلاكها أو تلفها فيمكن أن تعتبر بيده وديعة مضمونة ولا يؤثر على اعتبارها وديعة أن البنك يملكها فإن العميل قد استأجرها منه فانتفى حقه في الانتفاع بها مدة الإجارة وأصبح الانتفاع بها من حق العميل وحده فكأنها ملكه، وعليه فيمكن أن يقال بجواز ذلك شرعا.(8/58)
خلاصة عمليات الإيداع الإيداع أن يدفع شخص لغيره ما يريد حفظه من نقد أوعين أو وثائق، أو ما يريد حفظ سريته، أو ينال ربحا من ورائه، أو ما يريد إدارته من الوثائق.
ولعمليات الإيداع أنواع كثيرة، أهمها: إيداع النقود، وإيداع الوثائق والمستندات، والإيداع في خزائن حديدية يستأجرها العميل من المصرف، وفيما يلي بيان ذلك:
أولا: الودائع النقدية:
وهي ما يسلمه شخص من النقود لمصرف بناء على عقد بينهما يملك به(8/58)
المصرف ما تسلمه، ويتعهد للمودع أن يرد إليه مثله عند طلبه أو عند أجل محدد في العقد دفعة أو دفعات مع فائدة ثابتة أو دون فائدة، وتتخذ أشكالا عدة تبعا لطبيعة إبداعها، فقد تكون تحت الطلب، فللمودع أن يستردها متى شاء، وقد يتفق المصرف معه على فائدة ثابتة إذا كان ذلك في مصلحة المصرف، وقد تكون وديعة لأجل، فليس للمودع أن يستردها قبله، والغالب أن المصرف يعطي فائدة عليها؛ لأنه يستطيع أن يعتمد عليها في نشاطه، وقد تكون وديعة بشرط الإخطار، فللمودع أن يستردها متى شاء لكن بشرط إشعار المصرف قبل استردادها بمدة ما، ويعطي صاحبها فائدة مثل ما يعطي على الودائع التي تحت الطلب، وقد تكون ودائع مخصصة لغرض تعود مصلحته على المودع كرصد مبلغ لصفقة، أو تعود مصلحته للمصرف، كأن تكون ضمانا لحساب آخر، أو لمصلحة شخص ثالث، ولا يجوز استرداد الوديعة في هاتين الحالتين حتى ينتهي الغرض الذي أودعت من أجله.
وللودائع النقدية مزايا: فإنها تساعد المودع على الادخار، وتحفظ له ماله، ويكسب منها فائدة، وتؤمن للمصرف المبالغ التي تساعده على عمليات الخصم والائتمان اللذين يعودان عليه بالعمولة والفوائد وتكسبه ثقة في نفوس المودعين.(8/59)
تكييف عقد الإيداع:
اختلف علماء الاقتصاد في تكييف عقد الودائع النقدية، فقيل: تعتبر ودائع عادية حقيقية، ونقد بأن خواص الودائع الحقيقية لا توجد فيها، فإن المصرف يملكها وتثبت في ذمته ويتصرف فيها ويضمنها للمودع ولو هلكت بأمر لا طاقة له برده.
وقيل: تعتبر وديعة شاذة ناقصة، ونقد بما تقدم، بأنها محل خلاف فقد أنكرها بعض علماء الاقتصاد.
وقيل: إنها قرض، وقيل: إنها من الناحية القانونية عقد يكمن في إرادة الطرفين، ويستقل قاضي الاختصاص بالكشف عنه، فإن كان المصرف مأذونا له في استعمالها فهي قرض تسري فيه أحكام القروض، وإن كان غير مأذون له في استعمالها فهي وديعة حقيقية تسري عليها أحكام الودائع، والذي يعنينا تشخيص(8/59)
عقدها عند علماء الفقه الإسلامي وسيأتي إن شاء الله.
ويستتبع عقد إيداع النقود عقد فتح حساب بين المودع والمصرف من أجل ما يطرأ على الودائع من زيادة ونقص بدفع المودع مبالغ أخرى أو سحبه من ودائعه، وبقيد مبالغ في حسابه من حساب مدينه أو العكس.
وبإضافة مبالغ لحسابه قد قبضها المصرف بتفويضه، كقيمة أسناد أو تحصيل شيكات أو عائدات أسهم مالية وتسمى هذه العمليات المتبادلة بين الطرفين تشغيل الحساب، وتختلف الحسابات المفتوحة باختلاف غرض الطرفين، فإن كان قصدها من قيد حاصل العملية في حساب تسويتها فورا، واتخاذ الحساب لمجرد إثبات لهذه التسوية أو لإثبات وقوع العملية فهو حساب عادي، وإن كان القصد تحويل العملية إلى مفرد في الحساب وإرجاء تسوية هذا المفرد إلى نهاية الحساب فهو حساب جار، وفيما يلي الكلام على كل منهما:(8/60)
أ - الحساب العادي أو البسيط أو حساب الودائع:
تعتبر كل عملية من عملياته أو دفعة من دفعاته مستقلة عن الأخرى، تمكن الدعوى والمطالبة بها وسحبها والحوالة عليها واعتبار كل من الطرفين دائنا أو مدينا قبل نهاية الحساب، ويغلب أن يكون هذا الحساب بين المصارف والمدخرين الذين يحفظون أموالهم في البنك، ويتعاملون بالشيكات التي يسحبونها عليه.
ينهى هذا الحساب بإيقاف عمليات تبادل المدفوعات وتصفيتها، وإخراج الرصيد النهائي لها دينا محددا أو واجب الوفاء، ولإنهائه أسباب، أهمها: انقضاء المدة المتفق عليها، وانتهاء العملية المصرفية التي فتح الحساب من أجلها، وطروء ما يسلب أهلية أحد الطرفين كوفاة العميل أو إفلاسه أو جنونه، أو إفلاس المصرف أو تصفيته، وينهى أيضا بطلب أحد الطرفين في وقت مناسب إذا لم يكن بينهما أجل محدد، وتصبح نتيجة الحساب نهائية بالاتفاق عليها أو بالحكم القضائي، فلا يجوز إعادة النظر فيها إلا لإصلاح خطأ مادي أو خطأ في عملية الحساب ولا تقبل دعوى ذلك إلا بتحديد المدعي موقع الخطأ وتعزيز دعواه بالأدلة.(8/60)
ومن أنواع حساب الودائع:
حساب الادخار والتوفير وهو عقد رضائي يتم باتفاق العميل المدخر مع المصرف، ويثبت بتسليم المدخر دفتر التوفير موقعا عليه بإمضاءين من إمضاءات البنك المعتمدة ومشتملا على ما يضمن جدية العقد، ويرغب المدخرين، إلا أنه يفترق عن حساب الودائع بأمور، منها أنه شخصي بحت والدفتر اسمي غير قابل للتحويل ولا يجوز سحب شيء من المدخر عن طريق الشيك ولا يجوز لغير صاحب الدفتر أو ورثته أو وكيله السحب ولو أثبت صفته. . . إلخ.(8/61)
[ب]- الحساب الجاري ومزاياه:
هو عقد بين شخصين على أن ما يسلمه كل منهما للآخر بدفعات مختلفة من نقود وأموال وأسناد تجارية يسجل في حساب واحد لمصلحة الدافع بحيث تفقد كل دفعة استقلالها بمجرد قيدها فيه، فلا يعتبر أحد الطرفين مدينا ولا دائنا حتى يسوى الحساب، ويقفل فعندئذ إذا ظهر رصيد مدين بشيء وجب الأداء في الحال للطرف الدائن.
وللحساب الجاري مزايا، منها تسهيل تصفية العمليات بين الطرفين، وتفادي استعمال النقود اكتفاء بمجرد قيدها والمقاصة بينها.
أركانه مع شروطها:
أركانه ثلاثة: الأول إرادي: وهو اتفاق الطرفين على فتحه صراحة أو ضمنا ويشترط في كل منهما أن يكون أهلا لصحة التصرفات الصادرة منه ويرجع عند الخصومة في وجود حساب جار إلى محكمة الاختصاص.
والثاني مادي: وهو المدفوعات بين الطرفين، ويشترط لقيد أي مدفوع في الحساب الجاري أن يكون مثليا لتمكن المقاصة، وأن يكون حقا ثابتا ولو مؤجلا، لا متنازعا فيه ولا معلقا على أمر محتمل الوقوع، وأن يكون معلوم المقدار، وأن يسلمه(8/61)
الدافع للقابض على سبيل التمليك.
والثالث: أن تكون المدفوعات متبادلة متشابكة، متبادلة بمعنى أن يقوم كل من الطرفين بدور الدافع حينا ودور القابض حينا، ومتشابكة بمعنى أن يتخلل بعضها بعضا.(8/62)
الفوائد والعمولة في الحساب الجاري:
استقر العرف المصرفي على أن كل مدفوع في الحساب الجاري يوجب فائدة دون اتفاق على ذلك أو إنذار أو مطالبة قضائية بخلاف حساب الودائع فلا تثبت إلا بالاتفاق عليها، كما جرى العرف المصري بأن الأصل سريانها على كل دفعة من وقت قيدها في الحساب، إلا أن الغالب أن يحدد الطرفان موعدا لبدء سريانها بعد تاريخ قيد الدفعة في الحساب، ويسمى هذا الموعد القيمة.
ولا يكتفي البنك غالبا بما يأخذ من فائدة لمدفوعاته، لكونها في نظره غير كافية لتغطية نفقاته لفتح الحساب وتشغيله وتعريضه للمخاطر، ولذا استقر العرف المصرفي على أن للبنك الحق أن يتقاضى أجرا عن خدماته يسمى عمولة، وذلك فيما إذا كان بينه وبين عميله سلسلة عمليات تؤدي إلى عدة قيود في الحساب.(8/62)
تعليل قاعدة عدم التجزئة في الحساب الجاري وبيان آثارها:
تقدم أن دفعات الحساب الجاري يندمج بعضها في بعض بحيث تفقد كل واحدة منها استقلالها، وقد علل علماء الاقتصاد ذلك بعلل لم تسلم منها واحدة مع ما يشوبها من خفاء وغموض، إلا أن التقنين التجاري والعرف المصرفي قد أقرا هذه القاعدة وأوجبا العمل بمقتضاها، فصارت سمة لازمة للحساب الجاري، والذي يعنينا بيان الحكم الشرعي فيها وفيما يتبعها من عمولة وفوائد.
أما آثارها فأهمها ما يلي:
[1]- لا يجوز رفع دعوى بالمطالبة بدين أدخل في الحساب الجاري حتى(8/62)
يظهر الرصيد النهائي.
[2]- لا يعتبر ما أدخله أحد الطرفين في الحساب وفاء بدين عليه للطرف الآخر حتى يظهر الرصيد النهائي.
[3]- لا يجوز إجراء مقاصة بين دفعاته حتى تتم التصفية ويظهر الرصيد النهائي.
[4]- لا يخضع الدين الذي أدخل في الحساب الجاري لنظام التقادم فلا يسقط به.(8/63)
قفل الحساب الجاري وأسبابه وآثاره:
قد يرى أحد طرفي الحساب الجاري وقفه فترة من الزمن لينكشف بذلك الدائن والمدين من طرفيه، وقد يسمى هذا قطع الحساب، ويترتب عليه إمكان ترحيل الفوائد إلى الأصل وتجميدها، وتقاضي البنك عمولة، واستخدام صفته كدائن أثناء سير الحساب اعتمادا على نتيجة هذا القطع، وقد يكون وقفه نهائيا بمنع دخول دفعات جديدة، ثم تصفيته واستخلاص الرصيد النهائي من مجموع دفعاته ليتبين الدائن والمدين من طرفيه.
أما أسباب قفله: فإرادية وغير إرادية، فمن الإرادية:
[1]- اتفاق الطرفين صراحة على إنهائه ولو قبل المدة المحددة بينهما لجريان حسابهما.
[2]- اتفاقهما ضمنا على إنهائه، كتوقف عمليات المدفوعات المتبادلة بينهما، أو فقد الحساب قدرته على تلقي المدفوعات بين الطرفين.
[3]- رغبة أحد الطرفين في قفله عند عدم تحديدهما مدة لجريانه، ولكن يشترط أن يكون ذلك في وقت مناسب وأن يكون متفقا مع العادة المتبعة في المصارف.(8/63)
وغير الإرادية: إفلاس أحد طرفيه، أو فقده الأهلية، أو وفاته على خلاف فيها إذا استعد الورثة للاستمرار.
وأما آثاره فوقوع المقاصة بين مفردات الحساب وتصفيته الرصيد، ووجوب الوفاء على المدين من طرفيه فورا ما لم يتفقا على التأجيل أو إدراج الدين في حساب جديد، وجواز الحجر عليه تحت يد المدين به، وعدم إحياء الحساب بعد قفله، ولكن لهما أن يفتحا حسابا جديدا.
***(8/64)
تكييف عمليات حساب الودائع في الفقه الإسلامي وبيان حكمها:
مما تقدم يتبين أن ما يسمى بالودائع في حساب الودائع يملكه المصرف ويضمن مثله لعميله ويدفع عليه في الغالب الفوائد، ويأخذ عمولة في بعض الأحوال، كما يتبين أن علماء القانون والاقتصاد اختلفوا في تكييف عقد هذه العمليات، فقيل عقد ودائع حقيقية، وقيل عقد ودائع شاذة، وقيل عقد قرض، والذي يعنينا هنا تكييفه في الفقه الإسلامي، هل هو نوع من العقود التي سماه بها علماء الاقتصاد أو عقد بيع، فقد يقال: لا يجوز أن يكون وديعة حقيقية ولا شاذة؛ لأن ما دفعه العميل يملكه المصرف ويتصرف فيه ويضمن مثله ويدفع عليه فائدة، وهذه الخواص ليست من سمات الودائع بل هي على العكس من ذلك، وقد يقال أيضا لا يجوز أن يكون عقد قرض؛ لأن أخص خواص القرض قصد الإرفاق المحض والمعروف الخالص ابتغاء الثواب.
ولذا استثني من عموم النهي عن بيع الربوي بمثله نسيئة، وهذا المعنى ليس متحققا في حساب الودائع، ويمكن أن يقال: إنه عقد بيع، لتضمنه معاوضة نقد أو ما في حكمه بنقد أو ما في حكمه مع قصد الكسب المادي من فائدة ربوية يأخذها العميل بالإيداع، ويتمكن فيها المصرف من الإقراض أو غيره، ومن أجل ذلك سماه(8/64)
النبي صلى الله عليه وسلم بيعا في قوله: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل يدا بيد. . . إلى أن قال: فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد".
وعلى هذا تكون من العقود المحرمة بالكتاب والسنة والإجماع لما فيها من التفاضل بين ربويين قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (1) الآيات إلى قوله: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) وفسر ذلك أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي نهى فيها عن الربا وعلى ذلك أجمعت الأمة.
ولكن هل يفسد العقد لعدم اشتراط الربا فيه، فيرد للعميل رأس ماله فقط، وتلغى الفائدة والعمولة، أو يصح العقد ويبطل الشرط فللعميل رأس ماله فقط، ثم هل يجوز الإيداع في المصرف بلا فائدة للحاجة إلى الحفظ، وتيسير المعاملات أو يمتنع نظرا لما فيه من إعانة المصارف على استعمالها في الربا، أو التمكن من استعمال غيرها بسبب وجودها في المصرف.
أما عمولة المصرف على القيد في السجلات والإجراءات ونحوها فهي جائزة إن لم تتخذ ستارا يؤكل الربا باسمها.
ومن زعم أن الربا المحرم هو ربا القروض الاستهلاكية؛ لأنه ربا الجاهلية الذي حرمته النصوص؛ ولأنه هو الذي يتجلى فيه الظلم، لا ربا القروض التي يستعان بها في الإنتاج لما فيها من تيسير الإنتاج وتبادل المصالح وإنماء الثروة والنهوض بالأمة في شتى المرافق، من زعم ذلك فهو واهم، أو ملبس متكلف للباطل، وذلك لأمور: الأول: أن ربا الإنتاج كان موجودا أيضا زمن نزول آيات تحريم الربا كما يدل على ذلك تاريخ واقع الجزيرة أيام الوحي، فإن المسلمين في مكة كانوا تجارا، والمهاجرين بالمدينة كانوا تجارا واليهود حول المدينة كانوا تجارا، والأنصار بالمدينة كانوا زراعا، وكل من التجارة الزراعة طريق من طرق التنمية
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 279(8/65)
والإنتاج والشأن في ذلك الحاجة إلى الإقراض والاقتراض، وقد نزلت آيات الربا عامة، وفصلتها الأحاديث وأكدت عمومها، فشمل التحريم ربا الإنتاج والاستهلاك.
الثاني: أنه على تقدير أن قروض الإنتاج لم تكن في عهد النبوة فالشريعة المحمدية عامة لمن كان في عهد النبوة ومن سيجيء إلى يوم القيامة مبينة لأحكام العبادات والمعاملات في كل عصر من العصور والله عليم بما كان وما سيكون، فمن حكمته أن بين لهم أحكام ما كان من الأحداث والمعاملات وما سيكون رحمة بالأمة وإسقاطا للأعذار.
الثالث: أنه ليس كل ما فيه منفعة يكون مباحا أو مشروعا، بل لا بد من ذلك أن ترجح مصلحته على مضرته ويغلب خيره شره حتى يكون مشروعا أو مباحا، فإن الخمر والميسر فيهما منافع للناس وقد حرمهما الله سبحانه قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (1) ، ولذا حرمهما سبحانه وتعالى، وقد رحم عباده بسعة ما أباحه لهم من المعاملات فجعل الأصل فيها الإباحة حتى يثبت دليل المنع، وحرم علينا الربا في المعاملات فكان فيما أحله غنى لنا عما حرمه مما تربو مضرته على منفعته.
الرابع: أن المصارف الربوية من أقوى العوامل في تكدس الثروات في أيد قليلة ليسوا ملاكها، بل هي ودائع مصارفهم تمكنهم من السيادة الاقتصادية، ثم الكفاح بذلك وبالمكر السيئ إلى الأخذ بمقاليد السلطة السياسية وتوجيهها إلى ما يراد من استيلاء وقهر واستعمار وتحكم في العباد ودعاية إلى الشر والفساد والتمكين للقلق والاضطراب في الدول والإمارات ويوضح هذا ما
__________
(1) سورة البقرة الآية 219(8/66)
نقله الدكتور محمد عبد الله العربي عن كتاب "فرنسا اليهودية أمام الرأي العام": قال: إن الذي يلفت النظر في عصرنا ليس هو فقط تكدس الثروات في أيد قليلة، وأحيانا بأساليب فاجرة بل هو على الأخص تكدس قوة هائلة تتمثل في سيطرة اقتصادية لا ضابط لها ولا قيد، وسيطرة تصول بها فئة قليلة ليسوا هم في الغالب ملاك المال، بل هم مجرد مستودعين له، ولكنهم يديرون ويتصرفون كما لو كانوا ملاكه بالفعل، إنها لقوة هائلة تلك التي يصول بها هؤلاء في سيطرتهم المطلقة على المال وعلى الائتمان أي الإقراض الذي يوزعونه بمحض مشيئتهم المطلقة، فكأنهم بذلك إنما يوزعون الدم اللازم لحيوية الجهاز الاقتصادي بكل أوضاعه، فإذا شاءوا حرموه دم الحياة فلا يستطيع أن يتنفس، وإذا شاءوا قدروا مدى انسيابه في جسم هذا الجهاز التقدير الذي يتفق مع مصالحهم الذاتية.
ثم إن تجمع هذه القوة وهذه الموارد المالية في أيديهم يؤدي إلى الاستيلاء على السلطة السياسية في النهاية، وذلك يتحقق في خطوات ثلاث متدرجة مساندة: الأولى: الكفاح في سبيل إحراز السيادة الاقتصادية، ثم الكفاح في جمع مقاليد السيادة السياسية في أيديهم، ومتى تحققت لهم بادروا إلى استغلال طاقاتها وسلطاتها في تدعيم سيادتهم الاقتصادية، وفي النهاية ينقلون المعركة إلى المجال الدولي العالمي" اهـ. ويتبع ذلك مضار تعود على المستهلكين وغيرهم، مثل غلاء الأسعار نتيجة لإضافة المنتج فائدة القرض إلى تكاليف إنتاج السلع، وإذن فالذي يدفع الفائدة إنما هو الشعب المستهلك، ومثل تخفيض أجور العمال أو الاستغناء عن بعضهم إذا اضطر لتخفيض الأسعار، ومن ذلك تنشأ أزمات مختلفة.(8/67)
ثانيا: إيداع الوثائق والمستندات:
هو عقد يتم بتسليم المودع الوثائق إلى المصرف لحفظها بأعيانها بعد تحرير بيانها بقائمة يراجعها المصرف ويعطيه بذلك إيصالا يثب حقه، ثم يردها إليه عند طلبها أو الأجل المحدد بينهما وذلك مقابل أجرة يتفقان عليها، وقد يكون الإيداع اختياريا وقد يكون اضطراريا بفرض النظام، وقد يستتبع علميات أخرى يقوم بها المصرف وكيلا عن المودع في تحصيل أرباحها أو بيع محتوياتها مقابل عمولة.
ولعقد ودائع الوثائق التزامات يجب على كل من الطرفين الوفاء بها للآخر.
فيجب على المودع دفع الأجرة المتفق عليها، فإن لم يكن اتفاق فالغالب أن المصرف هو الذي يحددها، ويجب عليه أيضا دفع عمولة على مجرد فتح ملف لوديعته ولو استردها فورا، ودفع عمولات على ما طلبه من إجراءات تتعلق بوثائقه إذا قام بها المصرف.
ويجب على المصرف حفظ ما أودع من وثائق، ولا يجوز له أن يستعملها في أغراض خاصة به، ويلزمه ردها للمودع عند طلبها أو الأجل المحدد منهما إلا في حالات خاصة كأن يتعلق بها حق له، أو يحجز عليها تحت يده. . . إلخ.
تكييفها في الفقه الإسلامي وحكمه:
لا يختلف تكييف عقد إيداع الوثائق والمستندات في الفقه الإسلامي عنه في نظر علماء الاقتصاد فهو عقد إيجار على حفظ ودائع حقيقية بأجرة معلومة للطرفين، فإذا فوض المودع المصرف في تحصيل أرباح الوثائق أو بيع(8/68)
محتوياتها كان هذا التفويض عقد وكالة يستحق المصرف على القيام بالواجب نحو ذلك عمولة أجرة لعمله، وكلاهما عقد صحيح في نفسه بقطع النظر عما كتب في المحتويات، وعن كيفية ما فوض البنك من البيع والتحصيل.(8/69)
ثالثا: الإيداع في خزائن حديدية بأجرة:
هو عقد يلتزم البنك بمقتضاه أن يضع في العقار الذي يشغله خزانة حديدية تحت تصرف العميل وحده لينتفع بها مقابل أجرة ويترتب على عقد إيجار خزائن الودائع واجبات يلزم الوفاء بها.
فيجب على البنك المحافظة على الخزائن مما يؤدي إلى تلفها أو ضياع ما فيها، وأن يمكن المودع من الانتفاع بالخزانة مع تحقيق غرضه في السرية، وأن يتحقق من شخصية عميله قبل الإذن له بدخول صالة الخزائن، وأن يحتفظ بمفتاح آخر ليستعمله عند الضرورة لإنقاذ محتويات الخزانة من حريق وفيضان ونحو ذلك.
ويجب على العميل دفع أجرة الخزانة والاحتفاظ بمفتاحها ورده عند انقضاء العقد، وإبلاغ البنك عن ضياعه إذا فقده، ليحتاط لحفظ الخزانة أكثر، وأن يحترم لائحة صالة الخزائن ويتقيد بمواعيد الزيارة ولا يضع في الخزانة ما يهدد سلامتها.(8/69)
تكييف عقد إيجار الخزائن في نظر القانون:
قيل: إنه عقد وديعة حقيقية بناء على أن ما تحتويه الخزانة من ممتلكات العميل في عهدة البنك وحراسته، فتجري عليه أحكام الودائع، وقيل: إنه عقد إجارة، نظرا إلى استئجار العميل الخزانة من البنك لاستخدامها في(8/69)
المحافظة على ممتلكاته وعلى سريتها، ونوقش كل من القولين بأنه لا تتوفر فيه خواص الوديعة وحدها ولا خواص الإجارة وحدها من أجل الاشتراك في الحيازة وجولان اليد في الجملة.
تكييفه في الفقه الإسلامي:
يمكن أن يعتبر عقد إجارة بالنسبة لاستئجار العميل الخزانة من البنك لحفظ ما يضعه فيها، ويعتبر عقد وديعة بالنسبة لوضع الخزانة التي ملك منافعها ووضع ما فيها من ممتلكاته تحت يد البنك لحفظها، فهما عقدان عقد إجارة وعقد وديعة، ويمكن أن يقال: إن كلا منهما عقد إجارة، فالأول إجارة للخزانة، والثاني: إجارة على الحراسة وحفظ ما تحتويه الخزانة.
حكمه في الفقه الإسلامي:
يعتبر الاتفاق على الإيداع في خزائن خاصة عقد إجارة بالنسبة لاستئجارها، وعقد وديعة حقيقية أو عقد إجارة على الحراسة والحفظ، وعلى كل حال هي عقود صحيحة في نفسها بقطع النظر عن أحوال ما احتوت عليه الخزانة المستأجرة.(8/70)
2 - عمليات الائتمان
لعمليات الائتمان أنواع كثيرة نتكلم في هذا البحث على الاعتمادات المصرفية منها:
الاعتمادات المصرفية
الاعتمادات التي تقدمها البنوك لعملائها كثيرة ولكن الغاية منها واحدة وهي(8/70)
إنشاء وتقديم الائتمان من البنوك للعملاء من أجل أن يتحصلوا بذلك على ثقة من يتعاملون معه، فالبنك يقدم للعميل أو للشخص الذي يحدده العميل فورا أو عند أجل معين أدوات للوفاء إما نقدا كما في القرض البات وإما تعهدا بالوفاء كما في اعتماد خطاب الضمان، والبنك يأخذ مقابل ذلك فوائد وعمولة يتفقان عليهما، والعميل يتعهد للبنك برد ما أخذه ورد فائدته والعمولة في الوقت الذي يحصل الاتفاق بينهما على تحديده، ويشمل الكلام عليها: الإقراض - فتح الاعتماد البسيط - الضمان -الكفالة وخطاب الضمان والقبول - الاعتماد المستندي - الخصم، وفيما يلي الكلام على كل منهما:(8/71)
الأول الإقراض:
الإقراض النقدي أبسط صور الاعتمادات المصرفية ذلك أن البنك يقدم لعميله قرضا نقديا أو يقدم ذلك لشخص يعينه العميل ويقصد بتقديم المبلغ أن البنك يضعه تحت أمر العميل الذي يملك التصرف فيه، وفيما يلي بيان واقعه ثم حكم الشرع فيه: أما الأول فشمل تعريفه وطبيعته وأنواعه، وضرورة الاتفاق على القرض وتجاريته وإبرام العقد وإثباته وفائدته، وفيما يأتي تفصيل ذلك:
[أ]- تعريفه: قال الدكتور علي البارودي: هو تسليم النقود مباشرة إلى العميل وتحديد أجل للرد، واتفاق على سعر الفائدة، وبيان الضمانات إن اشترطت، لذلك فهو يخضع فيما يتعلق بالآثار القانونية للقواعد العامة.
[ب]- طبيعته: قال الدكتور محمد سلطان أبو علي: تعتبر عمليات الإقراض والاقتراض وجهين لذات الموضوع فالاقتراض أو الدين إن هو إلا التزام بالدفع في تاريخ معين مستقبل، ولما كانت النقود هي معيار المدفوعات الآجلة فعادة ما تكون هذه الديون التزاما بدفع مبلغ معين من النقود، ويعتبر هذا المبلغ ائتمانا من وجهة نظر الشخص الذي سيدفع إليه، ومن الواضح أن إجمال الديون(8/71)
القائمة في تاريخ معين يعادل إجمالي الائتمان الممنوح وينشأ القرض أو الائتمان عادة نتيجة للمبادلات الاقتصادية والمالية والتي يتنازل بموجبها الدائن عن قدر من الأشياء في نظير وعد من المدين بالدفع في تاريخ مستقبل، وقد تكون هذه الأشياء التي يتنازل عنها الدائن نقودا أو سلعا، أو خدمات، أو أصولا مالية كالأسهم والسندات، ولن يقوم المدين عادة بالسداد عن طريق النقود، ويقال عموما عند منح الائتمان أو الاقتراض إن هناك تبادلا للسلع الحاضرة أو للقوة الشرائية الممثلة في النقود في مقابل سلع مستقبلة أو قوة شرائية مستقبلة، ويتحمل المقترض عادة فوائد في نظير الحصول على قرضه.
[ج]-أنواعه: للقرض أنواع متعددة فقد يكون أساس التعدد طبيعة المقترض أو طبيعة القرض الذي من أجله اندفع المقترض أو مدة القرض، وقد بسط ذلك الدكتور محمد سلطان أبو علي، فقال: أول هذه المعايير طبيعة المقترض فمن الممكن بناء على هذا المعيار التفرقة بين القروض لأفراد أو لشركات أو للحكومة، أما إذا كان معيار التفرقة هو طبيعة المقرض فإننا نجد أن مانحي القروض قد يتنوعون من أفراد إلى بنوك تجارية، والمؤسسات المالية الأخرى والشركات غير المالية أو الحكومة.
والمعيار الثالث للتفرقة هو القرض الذي من أجله أنشئ الدين وفي هذه الحالة تنقسم الديون إلى ديون لأغراض الاستهلاك أو أغراض الإنتاج. . . أما بالنسبة للقروض لأغراض الاستهلاك فيحصل الشخص على نقود أو سلع أو خدمات لهذا القرض، أما القروض لأغراض الإنتاج فتستخدم عادة في العملية الإنتاجية لدفع الأجور أو شراء مخزون، أو شراء الأراضي أو المعدات المستخدمة في الإنتاج، وأخيرا تنقسم الديون بحسب فترة الإقراض إلى قروض طويلة الأجل ومتوسطة الأجل وقصيرة الأجل مستحقة عند الطلب، ولا شك أن طول الفترة الزمنية يعتمد على طبيعة المجال موضع الدراسة، والمقصود بالفترة الطويلة في(8/72)
مجال القروض مدة تزيد على خمس سنوات، والقروض متوسطة الأجل يتراوح أجلها بين سنة وخمس سنوات، أما القروض قصيرة الأجل فهي لفترة تقل عن سنة، ونستطيع التمييز بين أنواع أخرى من القروض على أساس التصنيف التبادلي للمعايير السابقة كأن يكون القرض إنتاجيا وقصير الأجل أو قرضا حكوميا قصير الأجل لأغراض الاستهلاك وهكذا (1) .
[د]- ضرورة الاتفاق على القرض، تجاريته، إبرام العقد:
الاتفاق على القرض بين البنك وعميله أمر ضروري، والقرض قد يكون تجاريا وقد يكون مدنيا فإذا صار البنك فيه طرفا فهو تجاري بصرف النظر عن الطرف الآخر، وعقد القرض من جملة العقود يحتاج إلى قواعد يبرم على أساسها، وفيما يلي بيان ذلك:
قال الدكتور علي جمال الدين عوض: الأصل في القرض أن يكون متفقا عليه، وقد لا يكون هناك اتفاق على القرض ويكون الحساب مفتوحا بين الطرفين ويكون مركز العميل فيه مدينا للبنك ويسكت البنك على هذا المركز. . . ويعتبر سكوت البنك تسامحا غير ملزم له قانونا، وله أن يطلب إلى عميله أن يدفع في الحساب ما يغطي مركزه ولا يسأل البنك إذا قفل الحساب رجوعا منه في هذه الرخصة إلا إذا كان سلوكه منطويا على قصد الإضرار أو سوء استعمال لحقه بأن كان فجائيا وبلا إخطار أو كان مخالفا للعادة التي جرى عليها مع العميل، وقد يكون هناك اتفاق ضمني على ترك الحساب مكشوفا وتمكين العميل من الإفادة من هذا الوضع فيعتبر ذلك اتفاقا على القرض.
وفي تجارية القرض الذي يعقده البنك مع عميله خلاف، ومع ذلك فالراجح في القضاء الفرنسي أن القرض الصادر من البنك يعتبر تجاريا دائما
__________
(1) محاضرات اقتصاديات النقود والبنوك:31.(8/73)
وبالنسبة للطرفين أيا كانت صفة المقترض وغرضه من القرض؛ لأن ذلك يدخل في عمل البنوك المعتبرة تجارية بحكم القانون م 631 و 632 تجاري فرنسي، ويفترض هذا الرأي أن البنك إنما يباشر عملا داخلا حدود حرفته.
ولذلك فإن القرض الذي يعقده ويكون خارجا -بشروطه وظروفه- عن نشاطه المعتاد يخرج عن حدود هذا المعيار ويعتبر كأنه صادر من شخص غير بنك فلا يعتبر تجاريا إلا إذا كان معقودا لاستغلال تجاري.
ويبرم العقد ويثبت طبقا للقواعد العامة مع ملاحظة أحكام الإثبات الخاصة بالأعمال التجارية والغالب أن ينظم العقد كيفية تسليم المبلغ للعميل ورده إلى البنك. . . (1) .
وكذلك سعر الفائدة، ولما كان المعتاد أن يلجأ إلى هذا الاقتراض غير التجاري، فالغالب أن يصحبه تأمين لصاحب البنك.
[هـ]- فائدته: البنك يأخذ فائدة على ما يقرضه يتفقان عليها وتختلف باختلاف مقدار المدة، فقد يكون أجل القرض قصيرا أو متوسطا أو طويلا، وقد يكون المقترض له أهمية كبرى من جهة مركزه المالي، وكذلك ضخامة القرض وصغر حجمه، وهذه الفائدة لها حد أعلى، وقد يكون لهذه الفوائد إذا كانت متجمدة فوائد وفيما يلي تفضيل ذلك:
قال الدكتور محمد سلطان أبو علي: يدفع المقترضون عادة أصل القرض علاوة على مبلغ إضافي وهذا المبلغ الإضافي يعرف على أنه فائدة على القرض، وعادة ما تحدد الفائدة المستحقة على قرض بناء على سعر فائدة معينة ويحسب سعر الفائدة على أساس سنوي. . . (2) .
__________
(1) عمليات البنوك من الوجهة القانونية \ 344 وما بعدها.
(2) محاضرات في اقتصاديات النقود والبنوك \ 25 - 26- ا.(8/74)
وقال الدكتور علي جمال الدين عوض: ويغلب عملا أن يكون ثمة محل لتطبيق العادة التي تشير إليها المادة (232) من القانون المدني التي تقول: لا يجوز تقاضي فوائد على متجمد الفوائد ولا يجوز في أية حال أن يكون مجموع الفوائد التي يتقاضاها الدائن أكثر من رأس المال وذلك كله دون إخلال بالقواعد والعادات التجارية وهي تشترط للإفادة من الاستثناء الوارد بها والسماح بتجميد الفوائد أن تكون القواعد والعادات التجارية قد جرت بذلك في خصوص المعاملة ولا يكفي مجرد أن يكون القرض تجاريا. (1) .
***
__________
(1) عمليات البنوك من الوجهة القانونية \ 348 - ا.(8/75)
تكييف الإقراض المصرفي في الفقه الإسلامي:
إقراض المصرف لشخص مبلغا من المال حسب طلبه لمدة على أن يرد مثله إليه مع فائدة يتفقان عليها إما أن يكون قرضا كما تسميه المصارف وإما أن يكون بيعا ولا يجوز أن يكون قرضا في نظر فقهاء الشريعة الإسلامية؛ لأن القرض عندهم أن يدفع شخص مبلغا من المال لآخر على وجه الإرفاق المحض والمعونة على أن يرد مثله إليه دون شرط زيادة أو جريان عرف بها وما يدفعه المصرف لا يقصد به الإرفاق المحض بل يقصد به استثمار ماله أولا، وإن وجد إرفاق فهو تابع.
وقد يكون ما يدفعه المصرف على ما تقدم بيعا لأنه يتضمن معاوضة مالية بين نقدين مثلا أحدهما آجل على وجه المالية وقصد التنمية والاسثتمار، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا بيعا فيما رواه البخاري في صحيحه عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء والفضة بالفضة إلا سواء بسواء، وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم (1) » وفي وراية لمسلم عن عثمان عن
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2175) ، صحيح مسلم المساقاة (1590) ، سنن النسائي البيوع (4579) ، مسند أحمد بن حنبل (5/38) .(8/75)
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين (1) » وفي رواية لأحمد، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «ولا تبيعوا منها غائبا بناجز (2) » .
فسمى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مبادلة الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والفضة بالذهب والذهب بالفضة بيعا.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1585) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(8/76)
حكم الإقراض المصرفي في الفقه الإسلامي:
إذا ثبت أنه بيع فهو من البيوع المحرمة ما دام في معاوضات ربوية وذلك لتضمنه ربا الفضل وربا النسيئة، أما ربا الفضل فالزيادة التي يدفعها المقترض بالإضافة إلى ما اقترضه بناء على الشرط المتفق عليه مع المصرف، وأما النساء فلتأجيل ما يدفعه المقترض للمصرف وفاء للدين وقد يعجز المقترض عن الوفاء في الميعاد فيمتد الأجل ويلزمه دفع فائدة عن الدين الأصلي وما أضيف إليه من الفوائد قبل امتداد الأجل فيكون ربا مركبا.
ومن الأدلة الدالة على تحريم ذلك ما رواه مسلم في صحيحه والإمام أحمد في المسند والنسائي في السنن عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «الذهب بالذهب وزنا بوزن، مثلا بمثل والفضة بالفضة، وزنا بوزن مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا (1) » ، وما رواه مسلم وأحمد والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة وبالبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى والآخذ والمعطي سواء (2) » ، وما رواه مسلم والإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1588) ، سنن ابن ماجه التجارات (2255) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن النسائي البيوع (4565) ، مسند أحمد بن حنبل (3/97) .(8/76)
بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (1) » .
فقد نهى صلى الله تعالى عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا حالا أو مؤجلا، ونهى عن بيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب مؤجلا والنهي يقتضي التحريم، والقرض المصرفي قد يكون مبادلة ذهب بذهب أو فضة بفضة مع التأجيل أو زيادة فيحقق فيه ربا الفضل والنساء وقد يكون مبادلة ذهب بفضة، أو فضة بذهب مع التأجيل فيتحقق ربا النساء، وعلى هذا فيكون داخلا في عموم ما دلت عليه الأدلة السابقة من النهي.
وعلى تقدير أنه فرض فهو محرم أيضا لأنه جر نفعا مشروطا وقد ذكر الفقهاء أن كل قرض جر نفعا مشروطا فهو ربا، وفيما يلي ذكر طائفة من أقوالهم وما استندوا إليه من أدلة الكتاب والسنة والأثر والمعنى.
أولا: ذكر طائفة من أقوال الفقهاء في حكم القرض الذي جر نفعا.
قال الكاساني: وأما الذي يرجع إلى نفس القرض فهو ألا يكون فيه جر منفعة فإن كان لم يجر، نحو ما إذا أقرض غلة على أن يرد عليه صحاحا أو أقرضه وشرط شرطا له فيه منفعة. (2) .
وقال الدردير: أو جر منفعة. . . كشرط قضاء عفن بسالم أو شرط دفع دقيق أو كعكة ببلد غير بلد القرض، ولو لحاج لما فيه من تخفيف مؤونة حمله ومفهومه الجواز مع عدم الشرط وهو كذلك، ثم شبه في المنع قوله كسفتجة -الكتاب الذي يرسله المقترض لوكيله ببلد ليدفع للمقرض نظير ما أخذه منه ببلده- ويحتمل أنه مثال لما جر منفعة، إلا أن يعم الخوف أي يغلب سائر الطرق فلا حرمة بل يندب للأمن على النفس أو المال بلا قيد يجب (3) .
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(2) بدائع الصنائع \ 7 \ 395- 396) ، ويرجع أيضا إلى الفتاوى الهندية \ 3 \ 202 - 203 -ا.
(3) الشرح الكبير ومعه حاشية الدسوقي \ 3 \ 225 وما بعدها.(8/77)
وقال الشيرازي: ولا يجوز قرض جر منفعة مثل أن يقرضه على أن يبيعه داره وعلى أن يرد عليه أجود منه أو أكثر منه أو على أن يكتب له سفتجة يربح بها خطر الطريق. (1) .
وقال ابن قدامة: كل قرض شرط فيه أن يزيد فهو حرام بلا خلاف (2) .
ثانيا: الأدلة:
أما الأدلة من الكتاب والسنة فما جاء في القرآن والسنة من النصوص الدالة على النهي عن الربا وهي كثيرة معلومة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: نص النهي عن الربا في القرآن يتناول كل ما نهى عنه من ربا النساء والفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك فالنص متناول له كله. (3) .
ومن الأدلة الخاصة في ذلك ما رواه ابن ماجه بسنده عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي، قال: سألت أنس بن مالك: الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي له؟ قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على دابة فلا يركبها ولا يقبلها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك (4) » ، حسنه السيوطي وأقره المناوي على ذلك.
وممن استدل بهذا الحديث من العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية في إقامة الدليل على بطلان التحليل وتلميذه ابن القيم في إعلام الموقعين، وتهذيب سنن أبي داود، وإغاثة اللهفان. . . ومنها حديث أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «نهى عن قرض جر منفعة» وفي رواية «كل قرض جر منفعة فهو ربا» .
قال ابن حجر في هذا الحديث: قال عمر بن بدر في المغني لم يصح فيه
__________
(1) المهذب \ 1 \ 304 - ا) .
(2) المغني \ 4 \ 360- ا.
(3) الفتاوى المصرية الكبرى \ 1 \ 412.
(4) سنن ابن ماجه الأحكام (2432) .(8/78)
شيء، وأما إمام الحرمين فقال: إنه صح وتبعه الغزالي، وقد رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث علي باللفظ الأول وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك، ورواه البيهقي في المعرفة عن فضالة بن عبيد موقوفا بلفظ: «كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا،» ورواه في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام، وابن عباس موقوفا عليهم. (1) .
وأما الأثر فمنه ما رواه مالك في الموطأ أنه بلغه أن رجلا أتى عبد الله بن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن إني أسلفت رجلا واشترطت عليه أفضل مما أسلفته، فقال عبد الله بن عمر: فذلك الربا، قال: فكيف تأمرني يا أبا عبد الرحمن؟ فقال عبد الله: السلف على ثلاثة وجوه: سلف تسلفه تريد به وجه الله فلك وجه الله، وسلف تريد به وجه صاحبك فلك وجه صاحبك، وسلف تسلفه لتأخذ خبيثا بطيب فذلك هو الربا، قال: فكيف تأمرني يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أرى أن تشق الصحيفة، فإن أعطاك مثل الذي أسلفته قبلته، وإن أعطاك دون الذي أسلفته فأخذته أجرت، وإن أعطاك أفضل مما أسلفته طيبة به نفسه فذلك شكر شكره لك ولك أجر ما أنظرته.
وفي الباب جملة آثار عن عمر بن الخطاب رواها عنه مالك في المدونة.
وعن عبد الله بن مسعود في الموطأ، وعبد الله بن سلام رواها عنه عبد الرزاق في المصنف، وعبد الله بن عباس في مصنف عبد الرزاق وغيرهم.
وأما المعنى فإن القرض عقد إرفاق فإذا شرط فيه منفعة خرج عن موضوعه.
__________
(1) تلخيص الحبير 3 \ 34(8/79)
ثانيا: فتح الاعتماد البسيط:
عندما يريد شخص القيام بمشروع من المشاريع بطريق المقاولة مثلا: تحتاج إلى تمويل المشروع حتى يبرز إلى حيز الوجود على الصفة المرضية المتفق عليها(8/79)
بين المعنيين بها ويحتاج إلى ثقة يعتمد عليها من أجل أن تكون مقنعة للطرف الآخر ليكل إليه تنفيذ العملية فيذهب إلى أحد المصارف ليتفق معه على أن يعتمد له مبلغا من المال يجعله تحت تصرفه خلال مدة معينة يتفقان عليها.(8/80)
وفيما يلي الكلام على واقعه وتكييفه وحكمه في الفقه الإسلامي:
أما الأول فيشمل بيان تعريفه، وصوره، وخصائصه، وتكوين العقد وإثباته وطبيعته، وآثاره، وانتهاء العقد، وانتقال الاعتماد:
[أ]- تعريفه، وصوره: قال الدكتور علي جمال الدين عوض: هو عقد يتعهد به البنك أن يضع تحت تصرف العميل -بطريق مباشر أو غير مباشر- أداة من أدوات الائتمان في حدود مبلغ نقدي معين لمدة محدودة أو غير محدودة، وقد يكون هناك اعتماد مفتوح من قبل ويتفق فقط على إطالة مدته فيعتبر هذا الاتفاق فتحا لاعتماد جديد، وكذلك لو كان دين العميل قد حل أجله فمنحه البنك أجلا جديدا إذ يعتبر ذلك فتحا لاعتماد جديد تماما كما لو قدم البنك لعميله المبلغ نقدا أو بالقيد في الحساب.
وقال أيضا: وقد يكون الاعتماد بمجرد خصم الأوراق التي يقدمها العميل للبنك وقد لا يرغب البنك في التجرد من مبلغ نقدي لحساب العميل بل يقتصر على تقديم ائتمانه أي توقيعه فيكون للعميل أن يقدم إليه أوراقا للقبول ثم يخصمها العميل لدى بنك آخر. (1) .
[ب]- خصائصه: عقد فتح الاعتماد البسيط له خصائص فهو عقد رضائي ويخضع للقواعد العامة، وقد يكون تجاريا وقد يكون مدنيا، ويشترط فيه تقديم الضمانات وبيان ما يفعله البنك إذا حصل نقص هام في الضمانات العينية أو الشخصية المقدمة من العميل المعتمد له وقد شرح الدكتور أدوار عيد هذه الخصائص فقال:
عقد فتح الاعتماد هو عقد رضائي يتم بمجرد اتفاق الطرفان وقد يكون
__________
(1) عمليات البنوك من الوجهة القانونية \ 312 وما بعدها.(8/80)
خطيا أو شفويا وفي هذه الحالة الأخيرة يعمد المصرف غالبا إلى إرسال كتاب للعميل بتأكيد فتح الاعتماد ويحدد العقد المبلغ الذي يضعه المصرف تحت تصرف العميل والذي لا يمكنه تجاوزه ويسمى بحد الائتمان كما يحدد المدة التي يحق للعميل استعمال المبلغ خلالها، وطريقة أو طرق هذا الاستعمال ومعدل الفائدة وقيمة العمولة التي تعود للمصرف عن هذه العملية.
ويخضع العقد للقواعد العامة من حيث شروط الصحة والأهلية، وهو يعد من عقود الاعتبار الشخصي فلا يلتزم فيه المصرف إلا تجاه شخص العميل ذاته، فإذا توفي هذا الأخير اعتبر العقد فاسخا ولا يلتزم المصرف بإبقاء الاعتماد ساريا لمصلحة ورثته، كما أنه لا يلتزم بتوفير الاعتماد لوكيل التفليسة عند الإفلاس، ولا للعميل نفسه في حالة فقد أهليته، كما أنه لا يحق لدائني العميل استعمال الاعتماد بالاستناد إلى أحكام المادة (276) من قانون الموجبات والعقود.
ويعتبر العقد تجاريا بالنسبة للمصرف، ويكون أيضا تجاريا بالنسبة للعميل إذا كان تاجرا وتم فتح الاعتماد لحاجات تجارية وإلا اعتبر مدنيا بالنسبة له، وإذا كان العقد تجاريا جاز إثباته بجميع الطرق، وإن مجرد قيد المبلغ المعتمد في الحساب الجاري يعد دليلا كافيا على وجود هذا العقد. . . ويشترط المصرف على العميل -في الغالب- تقديم ضمانات معينة مقابل فتح الاعتماد له وقد تكون هذه الضمانات شخصية أو عينية وقد تتكون من المستندات الممثلة للبضاعة المنقولة كما هي الحال في فتح الاعتماد المستندي ولا تتعلق الضمانات المقدمة إلا بالاعتماد المفتوح وفي حدود المبلغ والمدة المتفق عليها.
فإذا حصل تجاوز على هذه الحدود وجب تقديم ضمانات جديدة بشأن الالتزامات الزائدة ما لم يتفق على خلاف ذلك، ويعود أثر الضمان المقدم إلى تاريخ الاتفاق على فتح الاعتماد، أما إذا جرى فتح الاعتماد في حساب جار فيتناول الضمان رصيد الحساب بتاريخ قفله، غير أنه يخشى في(8/81)
حال إدخال قيود جديدة في الحساب تتعلق بعمليات خارجة عن نطاق فتح الاعتماد أن يؤدي ذلك بحكم فقدان الدين لكيانه الذاتي وتحوله إلى مجرد بند في الحساب إلى زوال الضمانات المتعلقة بفتح الاعتماد (م: 303: فقرة: 2 تجارة) ولكن الاجتهاد الفرنسي يقرر في هذه الحال أن ضمانات فتح الاعتماد تظل قائمة وتنتقل إلى رصيد الحساب الجاري، مستندا في ذلك إلى اتفاق ضمني بين الطرفين في هذا الصدد.
وإذا وقع نقص هام في الضمانات العينية أو الشخصية المقدمة من العميل المعتمد له جاز للمصرف فاتح الاعتماد، وفقا لمقتضيات الحال، إما أن يطلب من العميل تقديم ضمانات إضافية، وإما أن يخفض مبلغ الاعتماد إلى الحد الذي يتناسب مع الضمانات الباقية، وإما أيضا أن يقفل الاعتماد (م 311: فقرة 2 تجارة) كما يحق للمصرف فاتح الاعتماد أن ينقض العقد أيضا إذا أصبح العميل المعتمد له معسرا أو كان في حالة الإعسار وقت التعاقد بدون علم من المصرف (م 311 فقرة 1 تجارة) ويجوز أن ينتهي العقد أيضا كما قدمنا بوفاة العميل أو بفقده الأهلية أو بإفلاسه، وإذا كان شركة فبإبطالها أو حلها، كما ينتهي كذلك بانتهاء مدة العقد غير أنه يجوز الاتفاق على تجديد هذه المدة، وفي حال عدم تجديد مدة العقد، يجوز للمصرف فاتح الاعتماد أن ينقض هذا العقد متى يشاء شرط إخطار العميل مسبقا في المهلة المتفق عليها أو المقررة عرفا، كما يجوز للعميل نقض العقد أيضا.(8/82)
[ج]- تكوين العقد وإثباته:
يتكون العقد من رضا الطرفين وأهليتهما وسلطة التصرف وكون سبب العقد(8/82)
مشروعا وأنه يثبت طبقا للقواعد العامة، وفيما يلي تفصيل ذلك.
قال الدكتور علي جمال الدين عوض:
الرضا والأهلية والسلطة: فتح الاعتماد عقد يلزم لصحته أن يصدر الرضاء به من طرفيه صحيحا وفي هذا تنطبق القواعد العامة، ولكن قيامه على الاعتبار الشخصي يجعل العقد قابلا للإبطال إذا وقع البنك في غلط في شخص المتعاقد أو صفة جوهرية فيه، مثلا إذا كان يجهل سبق شهر إفلاسه أو أنه أصدر شيكات مزورة أو بلا رصيد، ولا يقبل القضاء إبطال العقد لهذا السبب إلا إذا كان وقوع البنك في الغلط، له ما يبرره وليس نتيجة إهمال أو خطأ مهني من البنك مع مراعاة ظروف كل حالة وما إذا كان البنك لم يقم بالتحريات اللازمة وإنما فتح الاعتماد بتسرع ورعونة، أو أنه بالعكس اتخذ كل احتياط ولكنه رضي به بناء على خداع من العميل.
وإذا كان فتح الاعتماد ملزما لجانبين وجب أن يكون طرفاه كاملي الأهلية للالتزام، وهذه حالة العقد الذي يلزم العميل بدفع عمولة لفتح الاعتماد، وحالة ما إذا تعهد باستخدام الاعتماد. . أما إذا كان ملزما لجانب واحد هو البنك كانت الأهلية الكاملة واجبة في الملتزم دون الطرف الآخر فيكفي أن يكون مميزا ولا تلزم له الأهلية الكاملة إلا عندما يبرم العقود المنفذة للاعتماد، وذلك لما تقدم من أن فتح الاعتماد مستقل تماما في شروطه وآثاره عن العقود التي يمهد لإبرامها.
ونشير إلى أن العقود التي يمهد عقد الاعتماد لإبرامها تنعقد بمجرد أن يظهر العميل رغبته في الإفادة عن الاعتماد وذلك إذا كانت عناصر هذه العقود محددة في عقد الاعتماد بشكل مفصل أما إذا كانت بشكل عام لم تنعقد إلا برضا جديد من البنك كما كان من حقه أن يناقش الأوراق المطلوب خصمها، وكذلك حكم الاعتماد الذي يطلب تدخلا منه كالقبول.(8/83)
أما من حيث السلطة المطلوبة في الطرفين فهي سلطة التصرف:
ولذا فإن المفلس -بحكم رفع يده عن إدارة أمواله- لا يستطيع الالتزام بشكل صحيح ونافذ على جماعة الدائنين في عقد فتح الاعتماد لا كدائن ولا كمدين، ولكن لوكيل التفليسة إذا أذن بالاستمرار في تجارة المفلس أن يفتح اعتمادا لحساب المفلس ويعتبر ذلك تعاقدا نيابة عن التفليسة ذاتها.
وإذا وضعت أموال شخص تحت الحراسة "الإدارية" فإن ذلك لا يمس أهليته التي تظل كاملة له وإنما تتأثر بذلك سلطاته ويغلب أن يحل محله الحارس في إدارة أمواله ولذا يكون من الخطورة على مصالح البنك أن يفتح لهذا الشخص -دون تدخل الحارس- اعتمادا، ولكن ما الحكم إذا كان هذا الشخص مستفيدا من اعتماد مفتوح قبل فرض الحراسة، هل للحارس أن يتمسك باستمرار هذا الاعتماد؟ نرى أن للبنك حق إنهاء الاعتماد تأسيسا على تأثر الاعتبار الشخصي، وأن على من ينفذ الاعتماد مع البنك ليس هو الشخص الذي رضي به البنك ابتداء؛ لأن فرض الحراسة يؤثر في اعتبار المفروض عليه الحراسة ولأن الحارس وإن كان وكيلا عنه إلا أنه وكيل مفروض.
المحل: محل العقد هو إنشاء التزام على البنك بتقديم الائتمان أو الاعتماد المبين به، ويغلب أن يحدد العقد الوسائل التي يضعها البنك في خدمة العميل، فإذا لم يرد به هذا التحديد كان المرجع إلى العرف ونية الطرفين في تحديدها.
وينشئ العقد التزاما على العميل بدفع العمولة، والغالب أن يبين الشروط والقيود التي يتحملها إذا أراد الانتفاع بالاعتماد المفتوح والمدة التي يبقى خلالها التزام البنك قائما.
وتوجب المادة (101) مدني لصحة الوعد بالتعاقد -وفتح الاعتماد صورة منه- أن يتفق فيه على المسائل الجوهرية للعقود المراد إبرامها، وعلى المدة التي تبرم فيها هذه العقود وإن جاز تحديدها ضمنا من الظروف.(8/84)
السبب: سبب التزام كل من الطرفين هو تنفيذ الطرف الآخر التزامه ولا جديد في ذلك، وأما سبب العقد فهو الغاية التي يستهدفها الطرفان من إبرامه وتنفيذه والسبب يجب أن يكون مشروعا ولذلك يبطل الاعتماد المفتوح لشخص بقصد تمكينه من إدارة محل للقمار، طبقا للقواعد العامة في الالتزامات.
إثبات العقد: يثبت العقد طبقا للقواعد العامة فإذا كان مدنيا بالنسبة لطرفيه وجب اتباع القواعد المدنية، أما إذا كان مدنيا بالنسبة لطرف وتجاريا بالنسبة للطرف الآخر جاز إثباته ضد الأخير بكافة الطرق أيا كانت قيمته، مثلا يقيده في الحساب الجاري بين الطرفين أو يتقاضى البنك العمولة التي يتقاضاها لفتح الاعتماد أو حتى بمجرد الشهود أو عبارات واردة في عقد رهن أبرم ضمانا للاعتماد، وإثبات فتح الاعتماد مستقل عن إثبات عمليات تنفيذ الاعتماد ذاته. (1)
__________
(1) عمليات البنوك من الوجهة القانونية 321 - 325.(8/85)
[د]- طبيعته: ثار الخلاف في تحديد طبيعة عقد فتح الاعتماد البسيط هل يقال: إنه قرض، أو إنه قرض معلق على شرط واقف أو إنه عقد غير مسمى أو إنه وعد بالقرض أو إنه عقد مركب من القرض والوديعة، وفما يلي ذكر هذه الآراء ومناقشتها وبيان الراجح منها في نظرهم.
قال الدكتور أدوار عيد: يلاحظ أولا أن ثمة فرقا بين فتح الاعتماد والقرض البات إذ إن العميل المعتمد له لا يستلم المبلغ فور التعاقد، كما هي الحال في القرض، وقد لا يتسلم أي مبلغ إذا لم يجد حاجة له ويظل مع ذلك عقد فتح الاعتماد قائما منتجا لجميع آثاره في حين أن استلام المبلغ في عقد القرض هو أمر أساسي يتوقف عليه نشوء آثار هذا العقد.
ولا يمكن القول أيضا: إن فتح الاعتماد هو قرض معلق على شرط واقف،(8/85)
هو استفادة العميل فعليا من الاعتماد، ما دام أن عدم تحقق هذا الشرط لا يؤثر في صحة العقد ولا في إنتاج آثاره. . . ويذهب فريق إلى أن فتح الاعتماد هو عقد غير مسمى وهو يشتمل على اتفاق من جانب واحد إذ إن المصرف يلتزم بمنح الاعتماد بينما العميل لا يجبر على الاستفادة منه.
أما غالبية الفقهاء فتعتبر أن العقد يشكل وعدا بالقرض ويتحول إلى قرض بات عندما يطلب العميل تسلم الأموال تنفيذا لوعد المصرف.
وأن هذا الرأي الأخير هو الراجح من الناحية القانونية، غير أنه يلاحظ مع ذلك أن هذا العقد لا يترتب عليه التزام أساسي إلا على عاتق طرف واحد هو المصرف الذي يتعهد بفتح الاعتماد، أما الطرف الآخر، أي العميل فلا يجبر على سحب المبلغ الموضوع بتصرفه، إنما يحق له أن يسحب منه بمقدار حاجته فقط، وقد لا يسحب شيئا عند انعدام الحاجة، كما يتغلب في هذا العقد الطابع الشخصي بحيث إن المصرف لا يلتزم إلا تجاه العميل شخصيا ويعتبر العقد منتهيا عند وفاة هذا الأخير أو إفلاسه وفقد أهليته. (1) .
وقال الدكتور علي البارودي بعد كلام سابق يتفق مع ما قاله الدكتور أدوار عيد، قال: والواقع أن فكرة فتح الاعتماد تتميز بوجه عام عن فكرة القرض بأنها أشمل وأوسع حتى إذا تغاضينا عن الصعوبة الناشئة عن عدم استفادة العميل من فتح الاعتماد عقب العقد مباشرة، ذلك أن القرض الذي تعرفه العامة يواجه -في قصد المقترض حاجة عاجة إلى مبلغ معين من المال الوعد بالقرض يواجه هو الآخر- في قصد المستفيد من الوعد حاجة آجلة محتملة إلى مبلغ معين من المال، وفي الحالتين ينحصر العقد في حدود ضيقة معينة يبينها الطرفان ويرتكز عليها العقد. . . أما في فتح الاعتماد فطلبه لا يعرف مدى حاجته ولا مواعيد هذه الحاجة بل وقد لا يعرف أن ثمة حاجة مقبلة تلجئه إلى استعمال الاعتماد المفتوح، وإنما هو يقصد من عقد الاعتماد إلى
__________
(1) العقود التجارية وعمليات المصارف 569 - 570.(8/86)
الحصول على مجرد الاطمئنان إلى قوة مركزة الائتماني إزاء ديون تحل في المستقبل أو عمليات تجارية ينوي إبرامها.
هذا المركز الائتماني الوحيد هو الهدف الأساسي للعقد وليس كما في القرض أو الوعد بالقرض مجرد الحصول على مبلغ معين من المال، لذلك قد تكون الاستفادة من الاعتماد المفتوح عن طريق سحب شيكات أو تحرير أوراق تجارية أو تكليف البنك بالقيام بعمليات معينة لصالح العميل، وإذا اقترن فتح الاعتماد بفتح الحساب الجاري -كما هو الغالب في العمل- فإن كل هذه العملات بما فيها عملية فتح الاعتماد تصبح مدفوعات متبادلة متشابكة لا يمكن أن نصف أحدها بأنه قرض أو بأنه وفاء لهذا القرض.
لذلك لا بد من الاعتداد بهذا الشمول والاتساع في فكرة فتح الاعتماد عند تكييف طبيعته القانونية، فلا نتبع الغرض الاقتصادي لعقد فتح الاعتماد باعتباره عملية مركبة تتميز عن العقود البسيطة التي يعرفها القانون المدني.
وإذا أردنا أن نتتبع هذه العمليات المركبة ونحلل أهداف العميل فيها، فإننا نراه يهدف إلى تحقيق غرضين متتاليين:
أولا: أن يطمئن إلى الحصول على هذا المبلغ النقدي.
ثانيا: أن يطمئن إلى أن هذا المبلغ موجود في مكان أمين حتى يستفيد منه عندما يحتاج إليه في عملياته التجارية المختلفة.
فلو أن العميل أراد أن يصل إلى هذين عن طريق العقود المدنية فإنه لا بد أن يلجأ إلى عقدين لا إلى عقد واحد، يلجأ أولا إلى اقتراض المبلغ الذي يكفيه، ثم يلجأ إلى إيداع هذا المبلغ عند أمين، إذا لا بد له من عقد قرض يتبعه عقد وديعة، ولما كان العميل يقترض من البنك ثم يقوم بالإيداع في ذات البنك فلا مناص من اندماج هذين العقدين في عملية واحدة هي بلا شك عملية فتح الاعتماد.
ومن ذلك يتضح لماذا لا يتبع فتح تسليم المبلغ كما هو الأمر في القرض.(8/87)
ذلك أن اندماج القرض مع عقد الإيداع عند ذات المقرض يؤدي إلى امتناع التسليم والتسلم، بينما عقد القرض يقتضي تسليم المبلغ من البنك للعميل فإن عقد الإيداع الذي يتبعه يقتضي تسليم ذات المبلغ من العميل إلى البنك، فإذا اندمج هذان العقدان لم يعد هناك موجب لأن يتبادل الطرفان تسليم وتسلم المبلغ المتفق عليه. (1)
__________
(1) العقود وعلميات البنوك التجارية 329 وما بعدها.(8/88)
[هـ]- آثار عقد فتح الاعتماد:
لعقد فتح الاعتماد آثار هي ما يقتضيه من التزامات كل من العميل والبنك، وفيما يلي ما يلزم به كل منهما: 1 - التزامات العميل:
قال الدكتور علي البارودي: يلتزم العميل برد المبالغ التي استعملها في الميعاد المتفق عليه مع الفوائد المتفق عليها، وبأن يدفع العمولة إذا نص عليها العقد.
ولكنه لا يلتزم بأن يستعمل النقود التي يضعها البنك تحت تصرفه بمقتضى العقد حتى ولو كان البنك قد قام بما يكفل وجود هذه النقود مائة في المائة في خزانته، أو امتنع عن التصرف فيها لغيره من العملاء، ففتح الاعتماد يمنح العميل حق الخيار في الاستفادة أو عدم الاستفادة منه ما لم يتفق على تقييد هذا الحق صراحة، كأن يشترط البنك مثلا فسخ الاعتماد بغير إخطار إذا لم يستعمله العميل خلال أجل معين.
على أن البنوك لا تلجأ عادة إلى وضع هذا القيد، ولكنها قد تشترط على العميل مثلا أن يقصر بعض عملياته التجارية عليها، وعلى الأخص خصم الأوراق التجارية. (1) .
__________
(1) العقود وعمليات البنوك التجارية \ 367 - 368 \، وعمليات البنوك من الوجهة القانونية 329- 330.(8/88)
وقال الدكتور علي جمال الدين عوض: استخدام الاعتماد شخصي للمستفيد منه: رأينا أن الاعتماد يفتح للعميل لاعتبارات شخصية فيه، ولذلك لا يجوز لهذا الأخير أن يحيل حقه إلى شخص آخر بدون رضا البنك، وإن كان يمكنه توكيل غيره في استخدامه، ويظل هو مرتبطا في مواجهة البنك.
وكذلك لا يجوز للبنك أن يحول حقوقه والتزاماته إلى غيره بل يظل مرتبطا أمام العميل، كما لا ينتقل حق العميل إلى الورثة.
كما أن المطالبة ذاتها بتنفيذ الاعتماد شخصية ترجع إلى تقدير شخص المستفيد فلا يجوز لدائنيه أن يحلوا محله في طلبها ولا أن يحجزوا على هذا الحق تحت يد البنك. (1) .
وقال الدكتور علي جمال الدين عوض موضحا العمولة التي أخذها البنك: ويلتزم العميل أن يدفع للبنك عمولة معينة تستحق -غالبا- بمجرد إبرام عقد فتح الاعتماد سواء استخدمه أو لم يستخدمه، وتبرر العمولة بأنها مقابل ما يتحمله البنك ليكون مستعدا لمواجهة احتياجات العميل، والغالب أن ينص على عمولة أخرى تستحق إذا طلب العميل الإفادة من الاعتماد، وإذا فتح للاعتماد حساب لدى البنك استحقت عمولة أخرى نظير فتح هذا الحساب وتشغيله. (2) .
2 - التزامات البنك:
يقول الدكتور علي البارودي: أهم هذه الالتزامات أن يضع النقود التي وعد بها تحت تصرف العميل طوال الأجل المعين، ويتأكد هذا الالتزام إذا كان العميل يقوم بدفع عمولة مقابل هذا الوعد، إلا أن البنوك لا تأخذ عادة عمولة على مجرد فتح الاعتماد اكتفاء بالفوائد وبالعمولات الأخرى المختلفة عن العمليات التي يكلف بها العميل.
ومع ذلك فعدم الاتفاق على عمولة لا يعطي البنك حق فسخ
__________
(1) عمليات البنوك من الوجهة القانونية \ 329 - 330.
(2) عمليات البنوك من الوجهة القانونية \ 330 - 331.(8/89)
العقد حتى ولو لم يستعمل العميل المبالغ الموضوعة تحت تصرفه.
ولا يجوز للبنك الرجوع في الوعد قبل الأجل المحدد، ولا يكون صحيحا الشرط الذي يعطي البنك حق الرجوع فيه متى شاء لأنه يعتبر شرطا إراديا محضا، ولكن فتح الاعتماد يستند إلى ثقة البنك في العميل، وله لذلك طابع شخصي واضح، ولذلك فالرأي مستقر على أنه يفسخ العقد أو ينهيه، ليس فقط عند وفاة العميل أو إفلاسه أو نقص أهليته -كما هو الأمر في سائر العقود التي تقوم على الاعتبار الشخصي- وإنما يكون له ذلك أيضا إذا حدث تغيرات هامة في سمعة العميل أو في إمكانياته، كما إذا أدين في جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة، أو ثبت دخوله في عمليات خطرة لها طابع المقامرة.
ولكي يتجنب البنك ما قد يثيره العميل من منازعات قضائية في هذه الظروف، فإنه يعمد عادة إلى وضع شرط صريح في العقد يسمح لنفسه فيه بأن يطلب -في أي وقت يشاء- إنهاء العقد فورا واسترداد ما يكون العميل قد أخذه من المبالغ المفتوح به الاعتماد دون تقيد بمدة محدودة، وبديهي أن البنك لا يقدم على استعمال هذا الشرط إلا في الحالات التي تختل فيها ثقته في العميل إذ إنه يفضل في الظروف العادية أن يحصل على الفوائد المتفق عليها خلال مدة فتح الاعتماد.
وفي رأينا أن هذا الشرط -في جميع الأحوال- يخضع لرقابة القضاء، ولا يمكن أن يكون مطلقا حتى إذا كانت صياغته تحمل معنى الإطلاق، ويقع على البنك عبء إثبات الأسباب الجدية التي تبرر سحب ثقته في العميل وللقضاء في ذلك سلطة تقديريه واسعة.(8/90)
[و]- انتهاء العقد:
لانتهاء العقد أسباب متعددة كوفاء البنك بالتزامه وحلول الأجل وما(8/90)
يرجع إلى الاعتبار الشخصي والوفاة والإفلاس وفسخ العقد، وفيما يلي شرح هذه الأسباب: قال الدكتور علي جمال الدين عوض: الأصل أن ينتهي بحلول الأجل المحدد لها بانتهاء العمل الذي فتح من أجله، ولكن هناك أسباب أخرى كثيرة ينتهي بها، أهمها يرجع إلى تأثير الاعتبار الشخصي لأحد الطرفين؛ لأن فتح الاعتماد يقوم على هذا الاعتبار، ولكن يلاحظ أن انتهاء العقد لا تبدو أهميته إلا من ناحية التزام البنك ولذلك نخصه بالدراسة:
1 - وفاء البنك بالتزامه أي وفاؤه بما تعهد به أيا كانت وسيلة تنفيذ الاعتماد، فذلك ينهي التزامات البنك، وإذا كان تعهده بتقديم نقود في حساب جار لم ينته التزام البنك بمجرد سحب العميل المبلغ؛ لأن ذلك لا يعتبر وفاء من البنك ولا ينتهي التزامه إلا بقفل الحساب، وإذا كان الاعتماد مفتوحا لتحويل عملية معينة واجهها العقد امتنع إنهاؤه قبل انتهاء هذه العملية.
2 - حلول الأجل: أي انتهاء المدة المصرح للعميل بالإفادة خلالها من الاعتماد الذي وعده البنك إذا كان محددا في العقد مدة، ولا يكون للبنك في هذه الحالة أن ينهي العقد بإرادته إلا إذا وجد مبرر مما سنعرض له.
وبالرغم من كون الاعتماد قد فتح محددا بمدة معينة فإن هذه المدة تعتبر أجلا لصالح البنك له أن يمسك بحلوله وله أن ينزل عن ذلك ويطيل فيه. . . أما إذا لم تحدد المدة فيجوز لكل طرفي العقد إنهاؤه، وإن كان العميل لا يلجأ إلى ذلك؛ لأنه غير مجبر على استخدام الاعتماد كما تقدم، وأما البنك فليس له إنهاء العقد إلا بقيود تهدف إلى عدم الإضرار بالعميل ضررا لا تبرره حماية مصالح البنك فيجب أن يكون إنهاء العقد بحسن النية، وفي وقت مناسب، وأن يوجه البنك إخطارا إلى العميل(8/91)
قبل وقف الاعتماد بوقت كاف ليمكنه من مواجهة المركز الجديد الناشئ عن وقف الاعتماد.
2 - أسباب ترجع إلى الاعتبار الشخصي: يقوم فتح الاعتمادات على اعتبارات معينة يراعيها البنك في شخص العميل، منها يساره وأمانته، وحسن تصرفه واستقامته فإذا اهتز اعتبار منها كان للبنك أن يفسخ العقد أو ينهيه، ويحكم هذه المسألة اعتباران يراعيهما القضاء هما: ضرورة احترام القوة الملزمة للعقد من ناحية، وقيام العقد على الاعتبار الشخصي من ناحية أخرى.
4 -الوفاة والإفلاس: الراجح أن وفاة أحد الطرفين ينهى عقد الاعتماد فورا، ونرى أنه إذا توفي أحد الطرفين فمن الأنسب ألا نقضي على العقد بل نترك ذلك للطرف الآخر إذا أراد لأنه هو الذي يقدر ما إذا كانت مصالحه تتأثر بهذا الحادث، فضلا على أنه إذا توفي العميل فليس للبنك أن ينهي الاعتماد إذا كان مضمونا بتأمين عيني.
أما إذا كان فاتح الاعتماد فردا وتوفي، انقضى التزامه إلا إذا استمر وارثه في استغلال المؤسسة ومباشرة ذات المهنة فيتحمل التزامات مورثه ويشبه بالموت -في هذا الأثر- انحلال الشركة أو تغيير شخصيتها كذلك ينهي إفلاس أحد الطرفين العقد لانهيار الثقة ورفع يدي المفلس عن إدارة أمواله.
5 - فسخ العقد: لكل من طرفي عقد الاعتماد أن يطلب فسخه إذا أخل الطرف الآخر بالتزامه وفي ذلك تنطبق القواعد العامة (م 157 مدني وما بعدها) ولا يرتب الفسخ أثره إلا بالنسبة للمستقبل؛ لأن التزامات البنك مستمرة وذلك فهو في حقيقته إنهاء لها.
فسخ الاعتماد لا يؤثر على ما نفذ منه: وإذا فسخ العقد فإن هذا(8/92)
الفسخ بالإنهاء إنما يرد على عقد الاعتماد ذاته المبرم بين البنك وعميله، أما العمليات والعقود التي تمت تنفيذا لعقد الاعتماد فهذه لا تتأثر بفسخ الاعتماد أو انتهائه، بل تظل مستقلة عنه من حيث شروطها وآثارها ومصيرها كما قدمنا فإذا تحمل البنك - نتيجة الاعتماد أو عملية من هذه العمليات المشار إليها- التزاما أمام شخص من الغير ظل ملتزما ولو تحلل من التزامه الناشئ من الاعتماد المفتوح لصالح العميل، فإذا كان الاعتماد بالقبول مثلا وقدمت للبنك كمبيالة قبلها ثم فسخ الاعتماد ظل قبوله صحيحا والتزم به أمام الغير، وإذا كان الاعتماد بالضمان وأصدر خطاب الضمان بالفعل ثم فسخ عقد الاعتماد الذي صدر الخطاب تنفيذا له ظل مع لك ملزما بعبارات الخطاب أمام المستفيد منه وهكذا. (1)
__________
(1) عمليات البنوك من الوجهة القانونية \ 331 - 337- ا.(8/93)
[ز]- انتقال الاعتماد:
بيان المراد منه، المشكلة الناشئة عن ذلك واختلاف النظر في الإجابة عنها:
قال الدكتور علي جمال الدين عوض: المقصود بانتقال الاعتماد -في هذا الخصوص- هو انتقال الحقوق أو الالتزامات الناشئة من العقد أثناء تنفيذه إلى شخص آخر غير طرفيه، وتثور المشكلة من الناحية العملية في كيفية الإبقاء على الاعتماد مع تأميناته رغم انتقاله إلى شخص آخر.
ويمكن النظر إلى المسألة من ناحيتين: ناحية المستفيد، وناحية البنك فاتح الاعتماد.
أما من ناحية المستفيد فلا يعتبر نقلا للاعتماد أن يوكل المستفيد غيره في(8/93)
استخدام الاعتماد لحسابه لأنه يظل هو الموكل الأصيل، وكذلك لا يعتبر نقلا له أن ينقل المستفيد حقه المالي الناشئ من استخدامه الاعتماد بمعرفته، إذا المقصود دائما هو معرفة ما إذا كان يمكنه نقل الرخصة أو الحق في المطالبة بتنفيذ الاعتماد أي بإلزام البنك أن ينفذ تعهده الناشئ من العقد.
إن الإجابة على هذا السؤال تحكمها قاعدتان: الأول: أنه إذا جاز نقل الحقوق فلا يجوز نقل الديون دون رضا الدائن.
الثانية: أن الاعتبار الشخصي يمنع -بحسب الأصل- أن ينقل الدائن حقه القائم على هذا الاعتبار إلى شخص آخر.
ومقتضى ذلك أنه يلزم لينقل المستفيد حق الإفادة من الاعتماد إلى غيره أن يكون ذلك باتفاق مع البنك على إحلال هذا الغير محله في الحقوق وفي الديون التي تنشأ من العقد، فمتى تم ذلك كانت العملية تجديدا أي إنشاء لعلاقة جديدة لا تحظى بالضرورة بالضمانات التي كانت مقررة للعلاقة الأولى ما لم تتخذ لذلك الإجراءات اللازمة.
وهذا الرأي وسط بين رأيين متطرفين، يقول أحدهما: إن الحقوق الناشئة من الاعتماد لا تقبل الانتقال إطلاقا بسبب الاعتبار الشخصي لدى الطرفين أو أحدهما، وعيبه أنه يرقى بهذا الاعتبار إلى جوهر العقد في حين أننا قد رأينا أنه وإن كان من طبيعة فتح الاعتماد إلا أنه ليس من جوهره، وللطرفين أن يستبعداه باتفاقهما، والرأي الثاني يجيز دائما نقل الاعتماد ولو بغير رضى البنك مستثنيا من ذلك حالة الاعتماد التي يكون فيها التزام البنك أو تدخله شخصيا بالدرجة الأولى كضمانه احتياطيا كمبيالات يسحبها العميل، وهو رأي يعيبه أنه يتجاهل الطبيعة الشخصية للاعتماد، ويقيم تفرقة تحكمية بين صوره.
وإذا تمت حوالة الاعتماد من جانب المستفيد بشكل صحيح ونافذ كان من حق المحال إليه الإفادة من العقد في حدود الحوالة.(8/94)
ومتى تضمنت العملية إبراء البنك للمستفيد القديم كانت إنابة كاملة يترتب عليها تجديد الدين بحيث تسقط الضمانات التي كانت مقررة لدين المستفيد القديم، هذا من جهة المستفيد، أما من جهة فاتح الاعتماد فالأصل أنه ليس له أن يحيل التزامه أمام المستفيد وذلك لقيام هذا التعهد على الاعتبار الشخصي ما لم يكن متفقا على ذلك أو كان مفهوما ضمنا بين الطرفين. (1)
__________
(1) عمليات البنوك من الوجهة القانونية 337 - 389.(8/95)
تكييف عقد فتح الاعتماد البسيط المصرفي في الفقه الإسلامي وبيان حكمه:
مما تقدم يتبين أنه عقد يتعهد البنك بمقتضاه أن يضع تحت تصرف العميل بطريق مباشر أو غير مباشر أداة من أدوات الائتمان في حدود مبلغ نقدي معين ولمدة محدودة أو غير محدودة، وأن العميل بمقتضى هذا العقد يسحب من البنك بالتدريج كلما احتاج إلى مبلغ منها وأنه يدفع للبنك ما أخذه في الوقت المحدد ويدفع ما اتفقا عليه من عمولة وفائدة فإما أن يقال: إنه عقد إقراض وإما أن يقال إنه عقد بيع وقد يقال: لا يجوز أن يكون قرضا في نظر فقهاء الشريعة الإسلامية؛ لأن القرض عندهم دفع مال إرفاقا محضا لمن ينتفع به ويرد بدله بدون زيادة مشروطة أو جريان عرف بها، وما يدفعه المصرف للعميل بمقتضى عقد فتح الاعتماد البسيط لا يقصد منه إلا الاستثمار وإن حصل إرفاق للعميل فعلى وجه المتبع.
وقد يقال: إنه من باب البيع لأنه يتضمن معاوضة مالية فالمصرف يدفع للعميل مبلغا من المال حالا ويرد العميل هذا المبلغ مع العمولة والفائدة بعد أجل وقد سمى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مثل هذا بيعا فيما رواه عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا الشعير(8/95)
بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء عينا بعين، يدا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق والورق بالذهب والبر بالشعير والشعير بالبر، والتمر بالملح والملح بالتمر يدا بيد كيف شئتم (1) » .
فسمى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مبادلة الذهب بالذهب والورق بالورق، والورق بالذهب والذهب بالورق، وما ذكر معها سماه بيعا.
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4562) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) .(8/96)
حكمه في الفقه الإسلامي:
إذا ثبت أنه بيع فهو من البيوع المنهي عنها ما دام في معاملات ربوية؛ لأنه يتضمن ربا الفضل وربا النسيئة، فالعميل يدفع للمصرف ما أخذه منه وزيادة مشروطة متفقا عليه بينهما، ويتحقق ربا النساء من جهة أن العميل يدفع ما يستحقه عليه المصرف بعد مدة من استلامه المبلغ من المصرف وهذه المدة يتفق عليها بينهما.
وقد ينتهي الأجل المحدد لتسليم العميل المبلغ المستحق لديه مع العمولة والفائدة ولكنه لا يتمكن من الوفاء فيمد الأجل في مقابل فائدة على أصل المبلغ وعلى العمولة والفائدة حسبما يقتضيه العقد الأول فيكون هذا من الربا المركب.
وهو في جميع هذه الحالات داخل في عموم أدلة الربا وقد سبق ذكر طائفة منها في بيان حكم الإقراض المصرفي في الفقه الإسلامي فيستغنى بما ذكر هناك من الأدلة لتكون أدلة لبيان حكم فتح الاعتماد البسيط.
ما سبق هو في حالة ما إذا تسلم العميل من المصرف المبلغ المتفق عليه كله أو بعضه.
أما إذا لم يتسلم شيئا ودفع للبنك في مقابل رصده المبلغ مدة من الزمن ما يسمونه عمولة ويدخلون فيها الفائدة فهذا مع أنه عقد ربوي فهو(8/96)
أيضا من أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن البنك لم يدفع شيئا مطلقا وقد قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1) الآية.
وعلى فرض أن يكون عقد فتح الاعتماد البسيط عقد قرض على اختلاف تعبيراتهم عنه فهو عقد محرم؛ لأنه قرض جر نفعا، وكل قرض جر نفعا مشروطا فهو محرم، وسيبقى في الكلام على القرض البات ذكر طائفة من كلام أهل العلم في بيان حكم القرض الذي جر نفعا وما استدلوا به من الكتاب والسنة والأثر، وأرى ترك ذكرها هنا اكتفاء بذكرها هناك.
__________
(1) سورة البقرة الآية 188(8/97)
ثالثا: الضمان: قد لا يحتاج العميل إلى أن يكون الاعتماد المصرفي على صورة القرض كما سبق بيانه في القسم الأول ولكنه يكتفي بما يصدره البنك من تعهد له إذ إنه يحصل به على الثقة من الشخص الذي يريد أن يتعامل معه أو يمنحه الأجل الذي يريده، وأهم صور ضمان البنك للعميل أمام الغير ثلاث صور: فالبنك قد يقوم بدور الكفيل لعميله أمام دائن هذا العميل طبقا لما يتفقان عليه من الشروط، وقد يكون ضمان البنك بصفة خطاب الضمان، وقد يكون على صورة ورقة تجارية -كمبيالة من جانب العميل.
ويتعهد البنك بقبول هذه الكمبيالة تيسيرا لتداولها فيمكن العميل عندئذ من خصمها بسهولة والحصول على ما يريده من نقود من البنك الذي يقوم بخصمها: فهذه ثلاث صور: الكفالة، وخطابات الضمان، والاعتماد بالقبول، وفيما يلي الكلام على كل واحدة منها وبيان واقعها ثم بيان حكمها في الفقه الإسلامي:(8/97)
الصورة الأولى: الكفالة
كثيرا ما تقوم البنوك بدور الكفلاء لعملائها أمام دائنيهم وذلك على حسب ما تقتضيه طبيعة الكفالة وما يتفق عليه من شروط، وفيما يلي الكلام عليها من حيث واقعها وحكمها في الفقه الإسلامي: أما الأول فيشمل الكلام على: تعريفها، والفرق بينها وبين تأمين الضمان، وبيان الضمانات التي يطلبها البنك.(8/98)
[أ]- تعريفها: عرفها الدكتور علي جمال الدين عوض بقوله: الكفالة عقد بمقتضاه يكفل شخص لتنفيذ التزام بأن يتعهد للدائن أن يفي بهذا الالتزام إذا لم يف به المدين نفسه (م 772) وتجوز الكفالة في الدين المستقبل إذا حدد مقدما بالمبلغ المكفول، كما تجوز الكفالة في الدين الشرطي، على أنه إذا كان الكفيل في الدين المستقبل لم يعين مدة الكفالة كان له في أي وقت أن يرجع فيها ما دام الدين المكفول لم ينشأ (م 778) (1)
__________
(1) عمليات البنوك من الوجهة القانونية 351 - ا.(8/98)
[ب]- الفرق بين الكفالة وتأمين الضمان: عند المقارنة بين شيئين قد يكون الاتفاق بينهما تاما وقد يتشابهان من بعض الوجوه ويختلفان من وجوه أخرى وقد لا يكون بينهما تشابه مطلقا وبالمقارنة بين الكفالة بالمعنى المتقدم وبين تأمين الضمان نجد أنهما يتشابهان من جهة أن عدم وفاء المدين بالدين يحرك التزام كل من الكفيل والمؤمن وهدف كل منهما هو تأمين أو ضمان وفاء الدين لكن الكفيل يساعد المدين، والمؤمن يساعد الدائن ويفترقان من وجوه أخرى، وفيما يلي تفصيل ذلك:
قال الدكتور علي جمال الدين عوض: قد تشتبه الكفالة بالمعنى المتقدم مع عملية أخرى قريبة منها يقوم بها البنك أو شركات التأمين وهي المسماة بتأمين الضمان.(8/98)
ووجه الشبه بينهما أن عدم وفاء المدين الدين يحرك التزام كل من الكفيل والمؤمن ولكن بين العمليتين فروقا كثيرة، فالهدف من كل منهما هو تأمين أو ضمان وفاء الدين، أو بعبارة أخرى تفادي نتائج التخلف عن وفائه، ولكن الكفيل إذ يتدخل فهو يساعد المدين ويقوي ائتمانه ويمكنه من الحصول على ما يريد من نقود أو أجل وهو دور البنك، أما في تأمين الضمان فالمؤمن لا يهدف إلى مساعدة المدين بل الدائن لأنه هو الذي يبرم التأمين ويؤمن نفسه ضد مخاطر تخلف المدين، أما الفروق بين العمليتين فكثيرة أهمها: أنه في الكفالة يتعهد الكفيل -بعلم المدين أو بغير علمه- أن يدفع الدين إذا لم يدفعه المدين.
وهذا التعهد قد يكون بطلب من المدين دون اقتراح الدائن أو بناء على اشتراطه تقديم كفيل، ويكون تعهد الكفيل بالوفاء للدائن أيا كان سبب عدم وفاء المدين أي ولو لم يكن معسرا، وأمام الدائن طريقان: إما أن يطلب إلى المدين أن يقدم له كفيلا، وإما أن يلجأ هو إلى التأمين لصالح نفسه من خطر تخلف المدين عن الوفاء، بخلاف المدين فهو لا يستطيع التأمين لصالح نفسه من خطر عدم الوفاء؛ لأن هذا التخلف من جانبه لا يصلح أن يكون محلا للتأمين بوصفه فعلا إراديا من جانبه، وإنما له أن يبرم تأمينا لصالح نفسه من خطر إعساره.
والكفيل يتدخل لضمان عملية هو غريب عنها وتتم دون تدخله، كما أنه لا يعتبر مؤمنا لا للدائن ولا للمدين، وتعهده غير مشروط بإعسار المدين ولا يقبض قسطا يحسب على أساس القسط الذي يتقاضاه المؤمن بل يتقاضى من المدين ثمن الخدمة التي يقدمها له بتدخله.
كما أن الكفالة في جوهرها عقد ملزم لجانب واحد هو الكفيل، وهو عقد تابع، أما التأمين فهو ملزم للجانبين ويقوم استقلالا؛ لأن التزام المؤمن مستقل عن التزام المدين الذي يعطي التأمين إعساره، وسببه هو اقتضاء(8/99)
القسط وموضوعه ليس تنفيذ التزام المدين بل تعويض الضرر الناشئ عن عدم تنفيذ هذا الالتزام (1)
__________
(1) عمليات البنوك من الوجهة القانونية 351 - 352.(8/100)
[ج]- الضمانات التي يطلبها البنك:
التعامل بين البنك والعميل الذي يريد أن يجعل البنك كفيلا عنه أمام الغير في مبلغ ما -مثلا- قد يكون مبنيا على ثقة متبادلة بينهما فلا يحتاج البنك إلى ضمانات يقدمها العميل وقد يكون العميل غير معروف لدى البنك أو أن البنك يعرفه ولكنه لا يثق به إلا مطلق ثقة أو لا يثق به مطلقا، فتختلف حال البنك في طلب الضمان، فقد لا يطلب شيئا أصلا وقد يطلب نقدا وقد يطلب رهنا من الدرجة الأولى أو رهنا حيازيا أو ضمانا شخصيا، وفيما يلي تفصيل ذلك: قال الدكتور علي جمال الدين عوض: الضمانات التي يطلبها البنك قد تكون ضمانا نقديا يقدمه العميل إلى البنك، وقد تكون رهنا من الدرجة الأولى على مال يملكه ولا يمكنه هو أن يقدمه إلى دائنة الذي يشترط كفالة مصرفية أو رهنا حيازيا على مستندات تكون في حيازة البنك أو يقدمها العميل للبنك على سبيل الرهن أو ضمانا شخصيا من مدير المؤسسة أو الشركة في صورة توقيع منه على ورقة تجارية تتعهد بها المؤسسة أو الشركة طالبة الكفالة، ويلاحظ أن هذا الضمان الأخير يعتمد على شخصية المدير (1)
__________
(1) عمليات البنوك من الوجهة القانونية، ص: 353.(8/100)
الصورة الثانية: خطاب الضمان
خطاب الضمان صورة من صور إقراض التوقيع على أمل أن البنك يسلم(8/100)
المبلغ الذي ضمنه لعميله عندما تدعو الحاجة إليه على حسب ما يتفقان عليه من الشروط، ويشمل الكلام على واقعه وحكمه في الفقه الإسلامي.
أما الكلام على واقعه ففي بيان تعريفه، وأهميته، وأنواعه، وطبيعته ومدى التزام البنك، وشروطه، وغطائه، والعلاقات الناشئة بين أطراف الخطاب، وانقضاء التزام البنك، وما يأخذه البنك مقابل تقديمه خطاب الضمان.
وفيما يلي تفصيل ذلك:
[أ]- تعريفه: قال الدكتور علي البارودي: هو أن يكفل البنك عميله في مواجهة الغير بخطاب يرسله إليه أو بعقد مستقل، أو بأن يوقع كضامن احتياطي له في ورقة تجارية أو بأي طريقة أخرى تتناسب مع العملية التي يضمنها البنك ويتقاضى عمولة في مقابل هذا الضمان (1) .
وعرفه حسن محمد كمال بقوله: خطابات الضمان المصرفية عبارة عن صكوك تصدرها البنوك بناء على طلب عملائها وتتعهد فيها بأن تدفع إلى طرف ثالث يسمى المستفيد (على علاقة عمل مع العميل) مبلغا لا يتجاوز حدا معينا في حالة توافر شروط معينة (2) .
[ب]- أهميته: قال الدكتور حسن محمد كمال: إن الهيئات والمؤسسات العامة تطلب ممن يرغب في الاشتراك فيما تطرحه من مناقصات ومزايدات تقديم مبلغ معين أو نسبة معينة من قيمة العمليات كضمان لجدية العطاءات التي يتقدمون بها وهناك حالات أخرى تتطلب تقديم ضمان كما يحصل في حالات إرسال المنسوجات إلى الخارج بطبعها وإعادتها إلى البلاد، وحالة اصطحاب المسافر إلى الخارج لمجوهراته، وحالة إرسال الآلات إلى الخارج لإصلاحها وإعادتها ففي مثل هذه الحالات تتطلب مصلحة الجمارك إيداع ضمان مالي لديها لضمان استعادة ما سبق تصديره، ولما كان إيداع الضمان المالي يؤدي إلى حرمان المودع مدة طويلة من جزء كبير من رأس ماله إلى جانب ما يلاقيه من
__________
(1) العقود وعمليات البنوك التجارية 393- ا.
(2) البنوك التجارية \ 221 -ا.(8/101)
صعوبات لاسترداده ولذلك يفضل رجال الأعمال الالتجاء إلى البنوك ليحصلوا منها على خطابات ضمان يقدمونها إلى الجهات المختصة بدلا من الضمان المالي.
في حالة الاشتراك في المناقصات الدولية تقوم خطابات الضمان بدورها إذ إنها توفر على مقدم الضمان القيام بإجراءات تحويل العملة واستردادها وتحميه مما قد يتعرض له من خسائر نتيجة لاحتمال هبوط أسعار العملة عند استرداد الضمان. (1)
__________
(1) البنوك التجارية \ 221 ويرجع إلى عمليات البنوك من الوجهة القانونية 357 - 359 - ا.(8/102)
[ج]- أنواع خطابات الضمان:
تتنوع خطابات الضمان إلى ابتدائية ونهائية وخطابات ضمان عن دفعات مقدمة، وخطابات ضمان أخرى، وفيما يلي بيان ذلك:
قال الدكتور حسن محمد كمال: تختلف خطابات الضمان باختلاف القرض الذي تعد من أجله، وفيما يلي أهم أنواع خطابات الضمان الشائعة الاستخدام:
أ- خطابات ضمان ابتدائية:
وهي عبارة عن خطابات الضمان التي تقدم إلى الجهات أو الهيئات الحكومية كتأمينات مؤقتة أو ابتدائية بواقع 1% من مجموع قيمة العطاء في مقاولات الأعمال، 2% بالنسبة للعطاءات الأخرى، والغرض الرئيسي لهذا النوع من خطابات الضمان هو التثبت من كفاية المركز المالي لمقدم العطاء وضمان جديته.
ب - خطابات ضمان نهائية:
ويقدم هذا النوع من الخطابات بعد أن يتم اختيار الجهة أو(8/102)
الهيئة الحكومية لأقل المناقصين للقيام بتنفيذ العملية أو المقاولة، وكتأمين نهائي لضمان تنفيذ العقد المبرم، وتصدر البنوك هذا النوع بما يعادل 5% من مجموع قيمة العطاء في مقاولات الأعمال و 10% فيما عدا ذلك.
ج- خطابات ضمان عن دفعات مقدمة:
ويقدم هذا النوع في خطابات الضمان في حالة الدفعات المقدمة التي يحصل عليها الموردون أو المقاولون التي تبرم معهم، بحيث لا تصرف هذه الدفعات إلا مقابل خطابات ضمان عنها.
[د]- خطابات ضمان أخرى:
وإلى جانب ما تقدم، تصدر البنوك أنواعا أخرى من خطابات الضمان منها، خطابات ضمان ملاحية، ويقدمها المستوردون لربان السفن عن البضائع التي لم ترد بعد مستندات الشحن الخاص بها لإمكان استلام هذه البضائع خطابات ضمان يقدمها الأفراد المسافرون للخارج إلى مصلحة الهجرة والجوازات والجنسية لضمان نفقات العودة من الخارج، خطابات ضمان يقدمها الأفراد إلى مصلحة الجمارك عن خروج الأشياء الثمينة لضمان إعادتها مرة أخرى إلى البلاد (1) .
[د]- طبيعة ومدى التزام البنك:
إن خطاب الضمان الذي يقدمه البنك يقوم مقام النقود تماما، وفيما يلي تفصيل ذلك:
قال الدكتور علي جمال الدين عوض: لتحديد طبيعة ومدى التزام
__________
(1) البنوك التجارية \ 222 وما بعدها(8/103)
البنك يجب أن نشير إلى الوظيفة الاقتصادية المطلوبة من تدخله، فهو من هذه الناحية لا يضمن العميل في تنفيذ التزامه قبل الغير كما هو شأن الكفيل العادي، بل إن كفالة البنك هنا معنى أبعد ووظيفة أهم تبدو في أن خطاب الضمان يحل محل النقود تماما والذي يطلب إلى من تعاقد معه تقديم كفالة مصرفية يطلب أولا أن يعطيه تأمينا نقديا ولا يقبل بدلا منه إلا كفالة مصرفية، وقد رأينا مثالا لذلك في لائحة المناقصات والمزايدات، فهي تشترط على المتعاقد معها إيداع تأمين نقدي أو كفالة مصرفية، فكأن من يطلب خطاب ضمان مصرفي إنما يريد أن يطمئن كما لو كانت لديه كفالة نقدية، ولذلك يجب أن تتوفر في التزام البنك على هذا النحو العناصر التي تمكن من أداء هذه الوظيفة وهي حلول الخطاب محل النقود تماما كما يحل الشيك أو الورقة التجارية محل النقود والوفاء.
وهذه الوظيفة الملحوظة في خطاب الضمان بصورته الغالبة هي ما استقر عليه العمل كما يستخلص من العرف المصرفي ومما ورد في أحكام القضاء (1)
__________
(1) عمليات البنوك من الوجهة القانونية \ 366- 367 - ا.(8/104)
[هـ]- شروط خطابات الضمان:
للضمان شروط من جهة تحديد المبلغ الذي يضمنه البنك ومقدار مدة الضمان وأن قيمة خطاب الضمان لا تتعدى الحد المصرح به للبنك، وفيما يلي بيان ذلك، قال الدكتور علي جمال الدين عوض:
1 - مبلغ الضمان: الأصل أن يحدد ضمان البنك بمبلغ معين: ومع ذلك فمن المتصور أن يصدر الخطاب بغير تحديد مبلغ بل يتعهد فيه البنك أن يضمن عميله في كل ما يسببه تصرفه من ضرر للغير أي المستفيد، وتتبع هذه الصورة على الخصوص في كفالة المرسل إليه الذي يسحب بضاعة من الجمرك قبل أن تصله سندات الشحن(8/104)
فيشترط عليه الجمرك تقديم كفالة من البنك تضمن له كل ما قد يتحمله الجمرك بسبب تسليمه البضاعة، وتعهد البنك على هذا النحو صحيح؛ لأن محله وإن لم يكن محددا فهو قابل للتحديد، ولا يدفع البنك إلا الضرر الذي يثبت المستفيد وهو الجمرك أنه أصابه بسبب الواقعة التي ضمن البنك نتائجها.
2 - مدة الضمان: الأصل أن يصدر الخطاب لمدة محددة يحرص على تأكيدها باعتبارها مدة سريان الخطاب وعلى اشتراط وصول المطالبة قبل تاريخ معين، وبيان أن ضمان البنك يسقط تلقائيا إذا لم تصل البنك مطالبة حتى التاريخ المحدد.
وإذا لم تحدد مدة اعتبر الضمان -كقاعدة- غير محددة، لمدة فيجوز للبنك وهو الملتزم أن ينهيه في أي وقت بشرط إخطار العميل قبله بوقت مناسب، ومع ذلك إذا كانت العملية المضمونة مذكورة في الخطاب امتد الضمان إلى وقت انتهائها وظل قائما ما دامت قائمة متى كان هذا المعنى مفهوما من الخطاب، ويبدو ذلك، مثلا إذا قدم الخطاب لضمان حسن سلوك شخص أجنبي دخل البلاد بضمان البنك فيظل الضمان قائما ما دامت العملية قائمة أو ما دام الأجنبي حيا مقيما في المصر، ومعنى سريان الضمان خلال مدة معينة أو دون تحديد مدة أن البنك يلزم بالدفع فورا إذا طولب بالوفاء خلالها.
ويعتبر الموعد المذكور في الخطاب حدا أقصى لنفاذه بحيث يسقط التزام البنك بحلوله حتما وبلا حاجة إلى إخطار منه على المستفيد ولا اتخاذ إجراء آخر، ويحرص الخطاب عادة على بيان التزامه بالدفع إذا وصلته المطالبة في الميعاد فلا يلزم إذا لم تسلم له في المدة ولو أرسلت إليه خلالها ويترتب على ذلك أن المستفيد هو الذي يتحمل نتائج تأخير البريد وعليه إذن أن يكون حريصا فلا ينتظر إلى آخر لحظة.(8/105)
وهذا الحل يفرضه أن عميل البنك يسترد غطاء الخطاب من البنك في اليوم التالي فورا لانتهاء الضمان ومن العدل إبراء البنك من التزامه من هذه اللحظة؛ لأنه فقد ضمانه ضد العميل، فضلا على عدم إمكان القول بإلزامه في طريقها إليه (1) .
3 - الإقرار: قال عبد العزيز عامر: يجب النص في خطابات الضمان النهائية على أن قيمة خطاب الضمان لا تتعدى الحد المصرح به للبنك من وزارة الاقتصاد والتجارة وذلك على صيغة إقرار من البنك ويجوز للجهة المستفيدة رفض الخطاب إذا لم يحمل هذا الإقرار (2) .
[و]- الغطاء: يختلف الغطاء في الحالة التي يطلب فيها البنك غطاء من العميل يبقيه لديه فقد يكون نقدا وقد يكون أوراقا مالية وقد يكون ما يطلبه يساوي القيمة التي تعهد بها ليدفعها بمقتضى خطاب الضمان وقد تكون أقل من ذلك وقد لا يطلب من العميل غطاء أصلا إذا كان الذي طلب خطاب الضمان من البنك أهلا لذلك بموجب اعتبارات يعلمها البنك، وفيما يلي بيان أنواع الغطاء: قال الدكتور حسن محمد كمال: غطاء خطابات الضمان يتخذ صورا منها:
أ- نقدية: وذلك بأن يقدم العميل مبلغا نقديا إلى البنك غطاء يعاد قيمة الضمان أو جزءا من القيمة، أو بأن يحجز البنك القيمة أو نسبة منها من الحساب الجاري للعميل، إذا كان من عملاء البنك وترحل المبالغ المحجوزة إلى حساب خاص يسمى احتياطي خطابات الضمان.
ب- أوراق مالية: وذلك بأن يقدم العميل أوراقا مالية مملوكة له وتكون قيمتها التسليفية معادلة على الأقل لقيمة الضمان المطلوب أو أن
__________
(1) عمليات المصارف من الوجهة القانونية للدكتور علي جمال الدين عوض \ 362 - 364 -ا.
(2) البنوك والائتمان - عبد العزيز عامر 175.(8/106)
يحجز البنك على هذه الأوراق إذا كانت مودعة لديه بصفة أمانة بناء على طلب العميل بمعنى أن يمنعها من التداول طوال الفترة المحددة للضمان.
ج - مكشوفة: يقصد بخطابات الضمان المكشوفة، الخطابات التي يصدرها البنك بدون غطاء وهذا الإجراء نادر، وتقتصر هذه الحالة عادة على العملاء في البنوك الكبرى وعملاء البنك من الشركات الكبرى والأفراد ذوي المركز المالي المتين (1) .
ز- العلاقات الناشئة بين أطراف الخطاب:
تنشأ علاقات ثلاث بين أطراف الخطاب كل واحدة منها متميزة عن الأخرى وهي علاقة البنك بعميله وعلاقة العميل بصاحب المشروع أو المتعامل معه وعلاقة البنك بالمستفيد وترتيبا على ذلك، ولا بد من التفرقة بين هذه العلاقات وبيان أن ضمان البنك لصالح المستفيد لا يعتبر عقدا بينه وبين المستفيد، وأن البنك يلتزم للمستفيد بصفته أصيلا، وأنه لا يجوز تداول خطاب الضمان، وأن البنك يدفع للمستفيد وليس لحامل الخطاب والحكم في حالة ما إذا فقد الخطاب، وأن البنك لا يضمن تنفيذ التزام العميل قانونا، وأن ضمان البنك مرتبط اقتصاديا بالتزام العميل، وأن البنك ليس كفيلا والتزامه ليس تضامنيا.
وبيان النتائج المترتبة على استقلال التزام البنك الثابت في خطاب الضمان عن دين العميل قبل المستفيد وأن البنك يرجع على العميل، وفيما يلي بيان ذلك مختصرا من كلام الدكتور علي جمال الدين عوض: قال: تمكين نظام خطاب الضمان بصورته الغالبة من أداء هذه الوظيفة المقصودة منه يقتضي التفرقة بين علاقة البنك بعميله ويحكمها عقد الاعتماد بالكفالة أو الضمان، وعلاقة العميل بصاحب المشروع أو المتعامل
__________
(1) البنوك التجارية - 224، يرجع إلى كتاب عمليات البنوك من الوجهة القانونية - 273 - 374 -ا(8/107)
معه أيا كان يحكمها عقد التوريد أو المقاولة وعلاقة البنك بصاحب المشروع وهو المستفيد الذي صدر لصالحه خطاب الضمان ويحكمه خطاب الضمان وحده فإذا كان متفقا على إصدار خطاب بشروط معينة وصدر الخطاب بشروط أخرى كان الأساس في إلزام البنك هي الشروط التي صدر بها لا الشروط المتفق عليها بين العميل والمستفيد أو بين العميل والبنك.
فضمان البنك لصالح المستفيد لا يعتبر عقدا بينه وبين المستفيد؛ لأن الخطاب يصدر تنفيذا للعقد بين الآمر والبنك وليس تنفيذا لعقد بين البنك والمستفيد من الخطاب، فلا يشترط لإلزام البنك أن يقبل المستفيد الخطاب، بل يلتزم البنك نهائيا بمجرد إصداره الخطاب ووصوله إلى علم المستفيد منه ما دام لم يرفضه، صحيح أن المستفيد في مطالبته البنك يلتزم الشروط الواردة بالخطاب ولكن ليس لأنه طرف في عقد بينه وبين البنك، بل لأن هذه هي حدود التزام البنك المبينة في خطاب التزام البنك للمستفيد فالبنك يلتزم بمجرد إصداره لخطاب ولا يلتزم إذا لم يصدره ولو اتفق مع العميل على أن يضمنه قبل المستفيد؛ لأن هذا الاتفاق يظل مقصورا على طرفيه دون أن يكون للمستفيد أن يتمسك به ولكن يجب لالتزام البنك بالخطاب أن يصل إلى علم المستفيد وإلا فللبنك حق الرجوع في إرادته قبل وصول الخطاب إلى علم المستفيد.
ولا يعتبر البنك -في التزامه بخطاب الضمان- نائبا عن عميله بل هو يلتزم بصفته أصيلا؛ لأن النيابة لا تقوم في الضمان، بل يكون العميل والبنك ملتزمين قبل المستفيد ولكن دين كل منهما مستقل عن دين الآخر.
والبنك إذ يصدر خطاب الضمان يتعهد بالوفاء لشخص معين هو المتعاقد مع عميل البنك الذي صدر الخطاب بناء على طلبه وهو ما يحرص الخطاب على إيضاحه بالنص على أن البنك يتعهد بالدفع إلى شخص آخر أو جهة معينة.(8/108)
ويترتب على أن الخطاب شخصي أنه لا يجوز للمستفيد تظهيره إلى غيره خاصة ولا يتضمن شرط الإذن ولا يعتبر لذلك ورقة تجارية ولا يجوز له أن يتنازل عنه لأي شخص آخر بأي طريقة حتى ولا بالتبعية لتنازله عن عقد المقاولة الأصلي لأن شخصية المستفيد من الخطاب وأمانته محل اعتبار لدى عميل البنك.
ولا يجوز أن يدفع البنك قيمة خطاب الضمان إلا لشخص المستفيد أو وكيله.
وإذا فقد وجب على البنك أن يعطي المستفيد بدل فاقد أو يدفع له وليس له أن يرفض بحجة عدم تقديم الخطاب ما دامت شروط الدفع متوافرة، وبالعكس عليه أن يمتنع عن الدفع إذا لم يكن المطالب هو المستفيد ولو كان حاملا لخطاب الضمان، وللمستفيد وحده حق طلب تنفيذ الخطاب ولا يجوز لدائنيه أن يحجزوا على قيمته تحت يد البنك؛ لأن المطالبة بتنفيذه حق شخصي تقديري له لا يجوز لدائنيه أن يستعملوه بدلا عنه أو يجبروه على استعماله.
ولا يضمن البنك حسن تنفيذ العميل لالتزامه أمام دائنيه بل هو يطلق تعهدا يمكن القول: إنه تعهد مجرد عن ظروف التزام العميل أمام المستفيد فهو يلتزم بدفع المبلغ المحدد في الخطاب أيا كان مقدار مديونية العميل ولو كان هذا المقدار أكبر أو أقل مما تعهد به البنك للمستفيد وهو تعهد منقطع الصلة بكيفية تنفيذ العميل المدين التزامه فلا يعتبر ما تعهد البنك بدفعه تعويضا للدائن المستفيد من عدم تنفيذ العميل التزامه أو إساءة هذا التنفيذ.
يرتبط خطاب الضمان بالتزام العميل اقتصاديا فهو يصدر خدمة لعلاقة العميل بدائنه إذ يستهدف به العميل الحصول على ثقة هذا الدائن الذي لا يرضى بأي ضمان آخر سوى هذه الصورة من صور الضمان، ومع ذلك فالبنك ليس كفيلا والتزامه ليس تضامنيا.(8/109)
ومما يترتب على نتائج استقلال البنك عن دين العميل قبل المستفيد أنه لا حاجة بالبنك إلى إخطار المدين -عميله- قبل أن يدفع للمستفيد، وليس للبنك التمسك على المستفيد بدفوع مستمدة من العلاقة بين المستفيد وعميل البنك وليس للعميل أن يعارض في الوفاء للمستفيد بسبب مستمد من علاقته بهذا المستفيد.
وللبنك أن يرجع بما دفعه للمستفيد إلى عميله إذا كان هذا الوفاء تنفيذ خطاب ضمان، صدر صحيحا ومطابقا لتعليمات العميل الآمر (1) .
ح- انقضاء التزام البنك: ينقضي التزام البنك بانقضاء المدة المحددة بينهما أو مرور مدة التقادم أو إعادة الخطاب إليه دون انقضاء المدة المقررة فيه (2) .
ط- العمولات: تعتبر عمولات خطابات الضمان دخلا لا بأس به بالنسبة للبنك وهي محددة بموجب تعريفة اتحاد البنوك وتستحق لفترات ربع سنوية أي كل ثلاثة شهور ومضاعافاتها، كما يجوز احتساب العمولة على الأرصدة الحالية من خطابات الضمان المتناقصة التي تكفل دفع أقساط دورية معينة (3)
__________
(1) عمليات البنوك من الوجهة القانونية \ 358 وما بعدها.
(2) انظر عمليات البنوك من الوجهة القانونية ص 374.
(3) البنوك والائتمان \ 175.(8/110)
الصورة الثالثة: الاعتماد بالقبول
الاعتماد بالقبول صورة من صور إقراض التوقيع، وفيما يلي بيان وصف العملية، والصور المختلفة للالتجاء إلى القبول المصرفي، وأن الاعتماد بالقبول غير متجدد ومدى صحة الأوراق المقبولة، وخصم البنك للأوراق التي عليها قبوله والتزامات الطرفين في الاعتماد بالقبول.(8/110)
1 - التعريف بعملية القبول المصرفي: يقول الدكتور علي البارودي: مضمون هذه العملية هو أن البنك يقبل كمبيالة يسحبها عليه العميل أو الطرف الآخر الذي يتعامل معه العميل، وبقبول البنك للكمبيالة تكتسب قوة ائتمانية كبيرة تجعل من السهل تداولها أو خصمها لدى بنك آخر، فكأن البنك دون أن يخرج نقودا من خزانته، قد هيأ للعميل فرصة الحصول على المبالغ اللازمة له، كذلك يستطيع العميل أن يرسل هذه الكمبيالة إلى البائع فيطمئن إلى التعامل معه، إذ يلتزم البنك كأي مسحوب عليه قابل للورقة التجارية ويخضع لقانون الصرف (1) .
2 -الصور المختلفة للالتجاء إلى القبول المصرفي: الأسباب الداعية للالتجاء إلى القبول المصرفي متعددة منها تمويل العمليات التجارية في الداخل أو الخارج ومنها تحقيق اشتراك عدة بنوك في عملية ائتمان واحدة، وفيما يلي بيان ذلك باختصار من كلام الدكتور علي البارودي: [أ]- يكثر الالتجاء إلى القبول المصرفي لتمويل العمليات التجارية ذات الطابع الدولي، فالمستورد يلجأ إلى البنك ليحصل على قبوله على كمبيالة يرسلها إلى البائع الأجنبي، كذلك إذا كان المصدر قد أمهل مدينه في الوفاء فإنه يستطيع أن يحصل على مبلغ فوري من البنك بأن يقدم له مستندات الصفقة ويحصل على قبوله في كمبيالة يخصمها في البنك آخر، وقد أخذ العمل في بعض البنوك الأوربية يشهد استعمال القبول في مجال التجارة الداخلية أيضا ويتقاضى البنك عمولة مقابل إقراضه توقعيه، هذه العمولة غالبا ما تكون نسبة معينة من مبلغ الكمبيالة المقبولة يراعي في تحديدها مقدار الخطر الذي يتعرض له، على أن الأمر لا يقتصر بالنسبة للبنك على مجرد التوقيع، إذ لا شك أنه يجب أن يحسب حساب الحالات التي لا تنتهي فيها العملية نهاية طبيعية
__________
(1) العقود وعمليات البنوك التجارية \ 388- ا.(8/111)
فيضطر إلى الدفع باعتباره المسئول الأول عن الوفاء بقيمة الكمبيالة دون أن يكون قد استلم شيئا من العميل، لذلك فهو يهتم بالضمانات.
[ب]- ويستخدم القبول أيضا لتحقيق اشتراك عدة بنوك في عملية ائتمان واحدة يطلق عليها الائتمان الجماعي وذلك عندما يرى البنك أن من الأنسب أن يشرك بنكا آخر في مخاطر العملية إما لضخامة قيمتها أو لازدياد احتمالات الخطر فيها أو للأمرين معا (1) .
3 - الاعتماد بالقبول لا يتجدد:
ولا يتجدد الاعتماد بالقبول كما بين ذلك الدكتور علي جمال الدين عوض يقول: الاعتماد بالقبول بطبيعته غير متجدد؛ لأن استعماله يكون مرتبطا بتنفيذ عملية تجارية معينة فلا يجوز للعميل الذي حصل على قبول البنك للأوراق المتفق عليها أن يطلب قبوله مرة أخرى على أوراق غيرها وذلك ما لم يتفق بينهما على تجديد هذا الاعتماد (2) .
4 - مدى صحة الأوراق المقبولة:
قد يقبل البنك الكمبيالة المسحوبة عليه دون أن يكون لديه مقابل وفائها ومع ذلك فالورقة صحيحة ولا يعتبر من أوراق المجاملة التي يقضى في القضاء ببطلانها؛ لأن البنك المسحوب عليه لا يقبلها لمجرد مجاملة الساحب بل هو يقبلها ويقصد أن يدفع قيمتها للمستفيد منها، ولو لم يصله مقابل الوفاء من عميله الساحب قبل حلول الأجل (3) .
5 - خصم البنك للأوراق التي عليها قبوله:
ويقول يمكن للبنك بمقتضى عقد جديد أن يخصم ورقة سبق له قبولها وذلك
__________
(1) العقود وعمليات البنوك التجارية \ 389 وما بعدها.
(2) عمليات البنوك من الوجهة القانونية \ 381 -ا
(3) عمليات البنوك من الوجهة القانونية \ 381- ا.(8/112)
متى قدمها للخصم عميله أو شخص آخر حامل لها (1) .
6 - التزامات الطرفين:
أما التزامات الطرفين في الاعتماد بالقبول فقد قال عنها: يتعهد البنك في علاقته بالمستفيد وبمقتضى العقد أن يقبل الكمبيالة المسحوبة عليه من العميل، أو من شخص آخر يعينه العميل، ومتى توافرت الشروط المتفق عليها من حيث حدود المدة والمبلغ فإذا قبل الورقة فقد نفذ تعهده، ولكنه بذلك يلتزم -صرفيا- أمام الحاملين بقبوله فيكون لهؤلاء التمسك عليه بكل ما يقره لهم قانون الصرف ولو كانوا يعلمون أن الورقة مسحوبة بناء على اعتماد مفتوح، ويكون لهم أن يتمسكوا عليه بقاعدة عدم الاحتجاج بالمدفوع غير الظاهرة في الورقة، وحتى لو أنهى الاعتماد بعد إطلاق الورقة في التداول فإن ذلك لا يؤثر التزام البنك أمام الغير حسني النية.
أما العميل المستفيد فيلتزم بدفع العمولة المتفق عليها وبتقديم مقابل الوفاء للبنك قبل حلول الأجل لأن الأصل أن العقد لا يلزم البنك بالوفاء بقيمة الورقة من خزينته وهدفه الوحيد هو تسهيل تداول الورقة، فإن تأخر المستفيد واضطر البنك إلى الوفاء من ماله كان له دعوى باسترداد ما دفعه من العميل وبتعويض عن تعطل المبلغ المدفوع.
والتزام العميل تقديم مقابل الوفاء قبل الأجل يجب تنفيذه فعلا أي نقدا، فإن كان له رصيد دائن في الحساب الجاري بينه وبين العميل كان للبنك أن يجري قيدا عكسيا في هذا الحساب بالمبلغ المستحق له، ولكن هذه رخصة اختيارية له والرأي على أن له أن يطلب تقديم المقابل نقدا (2)
__________
(1) عمليات البنوك من الوجهة القانونية \ 381- ا
(2) عمليات البنوك من الوجهة القانونية \ 382 - 383- ا.(8/113)
تكييف الضمان المصرفي في الفقه الإسلامي وبيان حكمه:
مما تقدم يتبين أن المصرف قد يضمن العميل في جزء من المبلغ المستحق عليه أو ما يستحق عليه لدى طرف آخر، وقد يضمنه في جميع المبلغ، وقد يدفع المصرف عن العميل للمستفيد ما ضمنه عنه كله أو بعضه في حالة عجزه عنه ويأخذ المصرف فائدة وعمولة على المبلغ الذي ضمنه بموجب اتفاق بين المصرف والعميل، وإذا دفع المصرف عن العميل للمستفيد فقد يعجز العميل عن التسديد في الوقت الذي يتفقان عليه فيجعل المصرف نسبة معينة من الفائدة والعمولة مقابل التأخير عن كل شهر أو يوم -مثلا- وقد يجعل العميل لدى المصرف غطاء كاملا أو جزئيا يحتفظ به المصرف ليسدد منه ما يستحقه على العميل إذا عجز عن الدفع في الوقت المحدد للدفع وقد يستغل المصرف هذا الغطاء وتكون أرباحه له.
وعلى هذا فإنه يكون عقد ضمان من المصرف لعميله في مقابل فائدة وعمولة فلا يجوز لأمور:
1 - أخذ المصرف مالا في مقابلة الضمان، والضمان من باب المعروف الذي يبذل ابتغاء الثوب من الله.
2 - أخذ فائدة في مقابلة ما دفعه من المال عن عميله فإنه يعتبر قرضا جر نفعا.
3 - ما قد ينتفع به من استغلال للغطاء، والغطاء هنا من باب الرهن، فكان انتفاع الضامن به محرما حيث لم يكن ظهرا يركب بنفقته أو ذا دار يحلب بنفقته.(8/114)
رابعا: الاعتمادات المستندية
الاعتمادات المستندية هي أصلح وسائل الدفع وأكثرها انتشارا في العمليات التجارية الخارجية ذلك أنه يتولد عنها ثقة لا حد لها إذ هي مشتقة من الضمانات التي تنطوي عليها، والعلاقة في هذا النوع لا تقتصر على المصرف والعميل كما في(8/114)
الاعتماد البسيط فهي تتناول شخصا ثالثا إذا كان الاعتماد المستندي غير مؤيد، ورابعا إذا كان الاعتماد المستندي مؤيدا، ويشمل الكلام عليها أولا: بيان واقعها، وثانيا: بيان حكمها في الفقه الإسلامي.
يتضمن الكلام عليها من حيث واقعها: تعريفها، وأنوعها، وطبيعتها، وأسباب أهميتها، وتحليل العلاقات القانونية الناشئة عنها:
[أ]- تعريفها: عرف الدكتور حسن محمد كمال الاعتماد المستندي بقوله: هو عبارة عن تعهد كتابي يصدره البنك: وهو الذي يقوم بدور الوسيط والضامن، في هذه العملية بناء على طلب مستورد البضاعة، يتعهد بمقتضاه بقبول أو دفع قيمة الكمبيالة التي يسحبها مصدر البضاعة عند تقديمها مستوفاة للشروط المنصوص عليها في الاعتماد (1) .
[ب]- أنواعها: الاعتمادات المستندية تتخذ صورا متعددة مختلفة نتيجة لاختلاف صفاتها والغرض منها، فقد يكون اعتمادا قابلا للإلغاء أو غير قابل وقد يكون مبلغ الاعتماد ثابتا، وقد يكون متغيرا أو متجددا على حسب اتفاق ذوي الشأن، وفيما يلي بيان هذه الأنواع.
قال الدكتور علي جمال الدين عوض:
أولا: من حيث قوة تعهد البنك: ينقسم الاعتماد المستندي إلى اعتماد قابل للإلغاء واعتماد قطعي أو نهائي، ويقصد بالاعتماد القابل للإلغاء الاعتماد الذي يجوز للبنك أن يرجع فيه دون مسئولية عليه قبل الآمر أو المستفيد، فلا يترتب على هذا الاعتماد أي التزام على البنك ولا أي حق للمستفيد، ولذلك يخطر البنك المستفيد بأنه فتح لصالحه اعتمادا في حدود مبلغ كذا، ولكنه يصرح أنه قابل للإلغاء في كل وقت فهو لا يعد المستفيد بشيء بل يخطره بالتفاهم الذي حصل بينه وبين العميل، وكذلك لا يعتبر الاتفاق بين البنك
__________
(1) البنوك التجارية \ 194.(8/115)
وعميله على هذا الإخطار اعتمادا بالمعنى الفني؛ لأن الاعتماد يفترض ثقة البنك في عميله الآمر وهي ثقة غير متوفرة بدليل احتفاظ البنك بحق الرجوع فيه في كل وقت ولا يلزم البنك إذا سحب الاعتماد أن يخطر المستفيد بذلك ولو سبق أن أخطره بفتحه، ومتى طلب العميل الآمر من البنك إنهاء الاعتماد وجب عليه سحبه فورا؛ لأنه وكيل عن الآمر فضلا على أنه لم يلتزم أمام الغير بشيء.
ومع ذلك فكثيرا ما يلجأ إلى الاعتماد القابل للإلغاء لأن مصاريفه أقل من مصاريف الاعتماد القطعي؛ ولأنه طالما كان مفتوحا فالبنك ينفذه طبقا لما وعده في إخطاره، كما أن معظم البنوك وإن كان لا يلتزم قانون بإخطار المستفيد بسحب الاعتماد إلا أنه يفعل ذلك دائما، ومتى نفذ البنك هذا الاعتماد ودفع للبائع نظير تلقيه المستندات استقرت أوضاع الأطراف كما في حالة الاعتماد القطعي.
أما الاعتماد القطعي أو النهائي فهو الذي لا يجوز للبنك أن يرجع فيه أو يلغيه؛ وذلك لأنه متى أخطر به المستفيد ترتب في ذمة البنك التزاما شخصيا مباشرا أمام المستفيد بتنفيذ ما جاء في خطاب الإخطار.
ثانيا: من حيث تدخل عدة بنوك في تنفيذه ينقسم إلى:
الاعتماد المؤيد: والاعتماد غير المؤيد: قد يكون الاعتماد القطعي مؤيدا من بنك آخر غير البنك الذي فتح الاعتماد إذ يغلب أن لا يقنع البائع باعتماد يفتحه المشتري لدى البنك في بلده وبتولي بنك في بلد البائع إخطاره به بحيث يكون مجرد وسيط غير مسئول شخصيا فيكون الاعتماد قطعيا من البنك الذي فتحه، ولكنه غير مؤيد من البنك الوسيط الذي أخطر به المستفيد بل يشترط أن يتعهد هذا البنك شخصيا أمامه بان يؤيد فتح الاعتماد فيكون الاعتماد هنا قطعيا ممن أصدره ومؤيدا من بنك ثان ويلاحظ أن الاعتماد غير النهائي لا يمكن أن يكون مؤيدا؛ لأن البنك يفتحه لا يلتزم أمام المستفيد، فلا يتصور أن يلتزم البنك الوسيط شخصيا؛ لأنه مجرد وكيل عن الأول، وإذا التزم كان التزامه أصيلا وليس تأييد الالتزام به وحده ولم يكن له رجوع على البنك الأول.(8/116)
ثالثا: من حيث كيفية تنفيذه ينقسم إلى:
اعتماد الوفاء واعتماد الخصم واعتماد القبول: قد يتعهد البنك أن يدفع نقدا إذا قدم إليه المستندات المعنية وقد يتعهد بخصم الكمبيالات التي يسحبها البائع على المشتري، بشروط معينة وقد تعهده على مجرد قبول هذه الكمبيالات دون خصمها، وقد ينفذ الاعتماد مرة واحدة أي دفعة واحدة، وقد ينفذ على دفعات ولهذا الائتمان صورتان:
الصورة الأولى: هي حالة الاتفاق على أن يدفع البنك على البائع مبلغا على المكشوف ويدفع البنك إلى البائع دفعة على الحساب، أي إلى أن يقدم المستندات، وذلك نظير إيصال منه، ويتحلل هذا الاعتماد إلى اعتماد مستندي مضاف إليه اعتماد نقدي بطريق الخزينة.
الصورة الثانية: أن يتفق على أن ينفذ البنك تعهده جزئيا متى قدم له البائع مستندات مؤقتة أي مستندات تدل على أنه بدأ في تنفيذ التزاماته، ولكنها ليست هي المستندات النهائية المطلوبة للتنفيذ الكامل.
وقد يعين مبلغ الاعتماد لمرة واحدة خلال المدة المحددة، وقد يتفق على تجديده وينص على أن للمستفيد حق استخدامه بصفة دورية متجددة، فيتجدد مثلا لمدة ستة شهور بمبلغ ألف جنيه شهريا يكون للمستفيد أن يسحبه كل شهر مرة، ويسمى ذلك الاعتماد المتجدد، والأصل أن يكون الاعتماد مفتوحا لشخص معين هو البائع، وعندئذ لا يقبل من هذا البائع أن يحول حقه في الإفادة من الاعتماد إلى شخص آخر، وقد ينص في الاعتماد المفتوح على حق المستفيد منه أن ينقله إلى غيره فيكون للمنقول إليه حق مباشر ضد البنك(8/117)
ج- طبيعتها: محل الصعوبة في عملية الاعتماد المستندي هو تفسير التزام البنك في مواجهة البائع، ثم هو لا يستند إلى أي عقد أو اتفاق سابق بين البنك، وبين البائع المستفيد، لذلك اختلفت الآراء في تشخيص طبيعته وكثر الأخذ والرد في ذلك.
وفيما يلي كلام للدكتور علي جمال الدين عوض ذكر فيه جملة من الآراء ونقد وبين ما يختاره هو ثم يليه نقد عام للدكتور علي البارودي وبيان الرأي الذي يختاره ووجه اختياره.
قال الدكتور علي جمال الدين عوض:
1 - عقد غير مسمى، فقيل أولا إن علاقة المشتري بالبنك هي عقد من نوع خاص غريب عن العقود المدنية وله أحكام خاصة، ومنها أنه ينشئ التزاما لصالح البائع يصبح مستقلا عن مصدره ولا غرابة في ذلك لأن هذا العقد نشأ تطورا لخدمة حاجات التجارة.
وعيب هذه الفكرة أنها تقرر الواقع ولكنها لا تفسره.
2 - القبول المصرفي: ذهب البعض إلى أن البنك بإصداره خطاب الاعتماد إنما يقبل مقدما الكمبيالات التي يسحبها عليه البائع تنفيذا للاتفاق المبرم بينه وبين المشتري، ولكن يلاحظ أن هذا الوعد بالقبول لا يمكن أن يعتبر قبولا صرفيا كما لا تصلح هذه النظرية لحالات تنفيذ الاعتماد بواسطة الدفع فورا وحتى في الحالات التي يكون فيها تنفيذه بواسطة القبول يلاحظ أن القبول المصرفي يجب أن يكون غير معلق على شرط في حين أن البنك في الاعتماد المستندي يتعهد بالقبول إذا قدم البائع المستندات المطلوبة كما أن الحق في الاعتماد لا يقبل الانتقال ولا التداول في حين أن التعهد الناشئ من القبول المصرفي ينتقل إلى كل حامل للكمبيالة.(8/118)
3 - الكفالة: يأخذ رأيا بفكرة اعتبار البنك كفيلا ضامنا للمشتري في التزامه أمام البائع، ويرتب على ذلك أنه لا يجوز للبنك أن يرجع في تعهده بحجة أن المشتري لم يدفع له أجره، وأن البنك لا يكون له بعد الوفاء للبائع سوى الرجوع على المشتري وأنه إذا تنازل المشتري عن عقده إلى شخص آخر فإنه يصبح غريبا عن البنك ويحل المشتري من بالباطن محله ولا يكون للبنك بعدئذ أن يرجع على المشتري الأصلي وينحصر حقه في الرجوع على المشتري من الباطن.
ويعيب هذا التحليل أن فكرة الاعتماد المستندي تقوم على إنشاء التزام في ذمة البنك مستقل تماما عن عقد البيع وتنفيذه، فلا يتوقف وفاء البنك للبائع على تنفيذ البائع التزاماته الناشئة من عقد البيع، في حين أن التزام الكفيل التزام تابع فلا يقوم ولا يبقى إلا إذا نشأ التزام المدين الأصلي وظل قائما، مع أن أنصار هذا الرأي يلزمون البنك بالدفع أيا كان مصير عقد البيع، كما أن للكفيل ولو كان متضامنا أن يتمسك على الدائن بالدفوع التي للمدين ضد الدائن، ومعنى ذلك أن يكون للبنك أن يرفض الوفاء للبائع كلما استطاع أن يدفع أن يدفع مطالبته بدفع للمشتري ضد البائع وهو ما ينكره الفقه والقضاء.
4 - الاشتراط لمصلحة الغير: قيل إن المشتري يشترط في الاعتماد لصالح البائع فيكون للأخير حق مباشر ضد هذا البنك يتأكد بقبوله خطاب الاعتماد وعندئذ لا يستطيع المشتري، ولا البنك الرجوع فيه.
ويعيب هذا التصوير أن التزام المتعهد في الاشتراط لمصلحة الغير مرتبط بعقد الاشتراط فالمتعهد يلتزم التزاما جديدا لصالح المستفيد ولكن هذا الالتزام ليس مستقلا عن علاقته بالمشترط، في حين أن البنك في الاعتماد القطعي يتعهد بالتزام جديد ومستقل عن التزامه قبل المشتري.(8/119)
5 - الإنابة: اقترح الأستاذ هامل تفسير هذه العملية بفكرة الإنابة، فالمشتري دائن بمقتضى الاعتماد ومدين بمقتضى عقد البيع وهو المنيب، أما المناب فهو البنك وأما المناب لديه فهو البائع، والصعوبة هي في شخص المناب لدين لأن الأصل أن المناب لا يلتزم إلا بقبول المناب لديه؛ لأن الإنابة عقد ثلاثي لأطرافه في حين أن الاعتماد يلزم البنك بمجرد وصول خطابه إلى البائع دون حاجة إلى قبوله.
والحقيقة أن هذا القبول، في رأي هامل، موجود ومستخلص ضمنا من مجرد طلبه من المشتري فتح الاعتماد ومن عدم اعتراضه على البنك الذي اختاره المشتري، وتفسير الإنابة كون البنك نهائيا ومستقلا، ولكن الإنابة تظل ناقصة في علاقة البائع بالمشتري إذ تظل علاقتهما المستمدة من عقد البيع قائمة وبمجرد قبول البائع الخطاب يمتنع على المشتري الرجوع في أمره، ويكون التزام البنك مستقلا عن البيع، فعليه أن يدفع للبائع ولو كانت البضاعة معينة، وللمشتري بعد ذلك أن يرجع على البائع.
ولا تلعب نهائية الالتزام دورها بين البنك والمشتري إلا متى نفذ البنك بدقة أوامر المشتري ولا يكون للبنك الرجوع على المشتري إلا إذا كان قد نفذ التزاماته الناشئة عن عقد الاعتماد تنفيذا دقيقا ولكن مع كل ذلك تقوم أمام هذه النظرية صعوبتان: الأولى: هي أنه في الإنابة تقوم وحدة الدين، بمعنى أنه بالغرم من استقلال التزام كل من المنيب والمناب فموضوعهما واحد، وهو دين المنيب الذي يتعهد به المناب، في حين أنه في الاعتماد يكون التزام العميل هو دفع الثمن والتزام البنك دفع مبلغ نقدي ليس له هذا الوصف.
يرد أنصار نظرية الكفالة على ذلك بقولهم: إن هذه الملاحظة فيها تشدد واضح؛ لأن الحقيقة هي أن التزام البنك والتزام المشتري دفع مبلغ نقدي.
والصعوبة الثانية: هي أن الإنابة لا تمنع المناب من التمسك على المناب لديه بالدفوع(8/120)
التي للمنيب ضد المناب لديه.
وقد رفض الأخذ بهذه النظرية القضاء المصري في حكم حدث سنة 1961.
6 - تقابل الإرادات بطريق التوسط: قال بهذه الفكرة الأستاذ خان مال، وهي تتلخص في أنه حيث لا يلزم تعاصر الإرادتين أمكن أن يتم التعاقد بين شخصين، كل منهما يطلق رغبته في التعاقد بشروط معينة، فالبائع والبنك يتعاقدان هنا بواسطة المشتري، ويتم التعاقد عندما يفتح البنك الاعتماد، إذ يشترط البائع على المشتري تسوية الثمن بواسطة فتح الاعتماد والبنك يقبل هذا الإيجاب الذي يعلنه به المشتري.
وواضح ما في هذه النظرية من إرهاق لفكرة التعاقد، ومن تعرضها لكثير من الانتقادات الموجهة لغيرها من النظريات.
7 - الإرادة المنفردة: ويلاحظ الأستاذ أسكار أن أيا من النظريات المقترحة لا يصلح لتغير الآثار المستقرة للاعتماد المستندي، وأنه وإن كان ولا بد من تقريب هذا النظام من شبيه له يعرفه القانون المدني، فهو الإرادة المنفردة، ذلك أن مركز البنك كمركز الواعد بجائزة يتعهد كلاهما تعهدا مستقلا بأداء معين إذا نفذ شخص عملا معينا هو في الاعتماد تقديم المستندات وهو في الوعد بجائزة العمل الذي تستحق به الجائزة.
وفي نظرنا هذه الفكرة أقرب الأسس إلى تفسير النظام تفسيرا صحيحا. . . وقال الدكتور علي البارودي بعد أن ذكر ما قيل من أنه حوالة أو كفالة أو الاشتراط لمصلحة الغير أو الإنابة أو سند مصرفي ذو طبيعة خاصة، أو أن البنك يكون في مركز الوكيل بالعمالة الضامن، وبأن البنك يجمد مبلغا معينا(8/121)
لصالح البائع فيصبح حائزا لحسابه، وتحت تصرفه أيا كان مصير العملية أو فكرة القبول المصرفي أو الإرادة المنفردة، أو أنه عقد غير مسمى أنشأه العرف التجاري.
قال بعد ذلك: وإنما يمكن القول بصفة عامة أن أغلب هذه النظريات يفسر جانبا من جوانب التزام البنك دون جانب، وأغلبها يعجز عن تفسير التزام البنك الذي يعتبر نهائيا مستقلا، دون حاجة إلى قبول صريح من جانب البائع الأجنبي أو عن تفسير استقلاله التام عن عقد البيع وما ينشأ عنه من دفوعات خاصة، أو استقلاله عن إرادة المشتري العميل الذي لا يستطيع بعد ذلك أن يطلب الامتناع عن دفع الثمن للبائع لسبب أو لآخر، أو استقلاله عن إرادة البنك نفسه الذي لا يستطيع الرجوع في هذا الالتزام حتى ولو أفلس العميل المشتري، أو قام بما يبرر فسخ الاعتماد المفتوح.
ثم ذكر أن دور البنك المستقل هو دور الحكم أو المشرف على العملية بين الطرفين، وذكر في نهاية بحثه أنه يميل إلى القبول بأن التزام البنك يصدر عن إرادة منفردة، فهذا الرأي هو أقرب الآراء إلى الصحة (1)
__________
(1) العقود وعمليات البنوك التجارية 386 - 387.(8/122)
د- أسباب أهميتها:
للاعتمادات المستندية أهمية كبرى في التجارة الخارجية في مجال الاستيراد والتصدير، وفيما يلي ذكر أهم هذه الأسباب:
قال الأستاذ أمين ميخائيل:
1 - سهولة حصول المصدر على قيمة بضاعته بمجرد تسليمه إلى البنك في بلده المستندات الخاصة بهذه البضاعة والمنصوص عليها في الاعتماد المستندي المفتوح(8/122)
لصالحه، ومن المعروف أنه في الأوقات المشكوك فيها؛ أي في الأزمات والحروب، وأوقات انخفاض الأسعار يخشى التجار من تسليم بضائعهم أو التنازل عن ملكيتها، إلا بعد تأكدهم من قبض أثمانها.
فهم لذلك يجدون في الاعتمادات المستندية المفتوحة عن طريق البنوك التي لا تدعو سمعتها المالية إلى الشك خير ضمان لهم، كما أن استبعاد خطر عدم الدفع لهم يجعلهم يبيعون بضاعتهم بأثمان مغرية، أضف إلى ذلك سرعة تداول رؤوس الأموال المستثمرة في التجارة وعدم تجميدها لمدة طويلة.
2 - عادة لا يبذل المصدر للسلعة جهدا في الحصول على المعلومات والبيانات عن المركز المالي للمشتري لبضاعته ما دام سيحصل على قيمة بضاعته بمجرد تسليمه للبنك المستندات المطلوبة.
3 - عندما يدفع المستورد ثمن البضاعة التي اشتراها، فإنه يكون على ثقة تامة من أن البنك سيحصل له من البائع على كل المستندات التي يطلبها والتي بمقتضاها تنتقل ملكية هذه البضاعة إليه بعد شحنها، وتنازل البائع له عنها باستلامه قيمتها.
4 - أن أي نقص أو خطأ في مستندات الشحن يمكن تصحيحه أو استكماله في أقل وقت ممكن عندما يقوم البنك بفحص هذه المستندات بعد تسليمها إليه، ليدفع قيمتها من الاعتماد المفتوح لديه.
5 - يقوم المستورد باستيفاء جميع الإجراءات التي تتطلبها الرقابة على الاستيراد والرقابة على النقد في بلده قبل أن يطلب من البنك الذي يتعامل معه في فتح الاعتماد المستندي، كما أن المصدر يتولى استيفاء جميع الإجراءات اللازمة لتصدير بضاعته بمجرد أن يخطر بفتح الاعتماد المستندي اللازمة لصالحه(8/123)
تحليل العلاقات القانونية المتفرعة عن الاعتمادات المستندية:
تقدم أن فتح الاعتماد البسيط ينشأ بين علاقتين: المصرف والعميل، وأن فتح الاعتماد المستندي ينشأ بين علاقات ثلاث: معطي الأمر، والبنك الذي يفتح الاعتماد استجابة للأمر الصادر إليه، والمستفيد من الاعتماد.
وإذا تدخل بنك وسيط في العملية ليؤيد الاعتماد للمستفيد، أضيف بذلك طرف آخر، فأطرافه ثلاثة إذا كان غير مؤيد، وأربعة إذا كان مؤيدا، وفيما يلي كلام للدكتور أمين محمد بدر، حلل فيه العلاقات بين الأطراف إذا كان الاعتماد غير قطعي، أو قابلا للإلغاء، ثم أتبع ذلك بتحليل العلاقات بالنسبة للاعتماد القطعي أو غير القابل للإلغاء، فبين العلاقة بين معطي الأمر والمستفيد، ثم العلاقة بين معطي الأمر والبنك الذي يفتح الاعتماد، ثم العلاقة بين البنك الذي فتح الاعتماد وغير المستفيد.
قال الدكتور أمين محمد بدر:
الاعتماد غير القطعي أو القابل للإلغاء:
في هذه الصورة لا يوجد اعتماد بالمعنى الحقيقي إلا في أضيق الحدود، ذلك أن البنك الذي يفتح الاعتماد يحتفظ لنفسه في كل وقت بالحق في إلغائه دون حاجة إلى إخطار المستفيد بأنه فتح لمصحلته - بناء على طلب معطي الأمر- اعتمادا قابلا للإلغاء.
وترتيبا على ذلك يستطيع البنك أن يرفض دفع ما يسحبه عليه المستفيد من كمبيالات تنفيذا للاعتماد، ما لم يكن قد سبق لهذا البنك أن وقع على هذه الكمبيالات بالقبول، إذ يلتزم في هذه الحالة التزاما شخصيا مباشرا بدفع هذه الكمبيالات للحامل، وذلك تطبيقا لقواعد الأوراق التجارية، ومن ناحية أخرى يستطيع معطي الأمر إلغاء الاعتماد في كل وقت.
ومتى أعطى البنك أمرا بالإلغاء تعين على البنك تنفيذه، إذ إنه وكيل عن معطي الأمر، ومن واجب الوكيل أن ينفذ تعليمات الموكل على أن البنك لا يسأل عن التنفيذ(8/124)
أو الإلغاء إلا اعتبارا من الوقت الذي يصل فيه إلى علمه تطبيقا للمادة (91) من القانون المدني، التي نصت على أن التعبير عن الإرادة ينتج أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه، ويعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به ما لم يقم الدليل على عكس ذلك.
وقد يحتاج البنك إلى الاتصال ببنك وسيط سبق له أن أنهى إليه فتح الاعتماد لمصلحة المستفيد حتى يكون هو الآخر على علم بواقعة الإلغاء، وفي هذه الحالة لا يحاسب البنك الذي فتح الاعتماد عن عدم تنفيذ أمر الإلغاء إلا بعد مرور الوقت الكافي لإخطار البنك الجديد بالواقعة المذكورة، وإذا ألغى البنك الاعتماد بناء على طلب معطي الأمر، فإنه لا يلزم البنك إخطار المستفيد، وأما إذا تم الإلغاء ابتداء من جانب البنك، فقد ثار السؤال عن التزام البنك بإخطار المستفيد بإلغاء الاعتماد.
ولكن الرأي الغالب استقر على عدم وجود مثل هذا الالتزام؛ لأن كون الاعتماد غير قطعي يفيد بذاته إمكان إلغائه من جانب البنك دون إخطار سابق. على أن الحاصل -عملا- هو أن البنوك تحرص على إخطار المستفيد بواقعة الإلغاء، وأنها لا تقدم على الإلغاء إلا إذا توافرت لديها أسباب جدية مستمدة من إعسار معطي الأمر، أو إفلاسه، أو عدم أهليته الطارئ.
وفضلا عن ذلك فقد استقر الرأي على أن البنك الذي يتلقى من معطي الأمر مقابل وفاء الكمبيالات التي يسحبها عليه المستفيد، لا يجوز له أن يلغي الاعتماد غير القطعي، وإلا كان متعسفا في استعمال حقه، ومسئولا عن تعويض الضرر الذي يصيب معطي الأمر أو المستفيد نتيجة الإلغاء المذكور، والواقع أن هذا الغرض نادر إذ تنعدم مصلحة البنك في الإلغاء في مثل هذه الصورة.
وكما أن الاعتماد غير القطعي يمكن أن يلغى بناء على طلب معطي الأمر، فإنه يتأثر بكل ما يطرأ على هذا الشخص من أمور مؤثرة في حالته القانونية أو في مقدرته المالية، فينقضي بوفائه وبشهر إفلاسه، وبما يطرأ عليه من عدم الأهلية.(8/125)
ثانيا: الاعتماد القطعي أو غير القابل للإلغاء:
ويأتي في العلاقات المتقدمة وهي:
(أ) - العلاقة بين معطي الأمر والمستفيد:
تخضع هذه العلاقة للشروط المتفق عليها بين الطرفين، فإذا أوجب العقد المذكور على المشتري مثلا فتح اعتماد قطعي لصالح البائع، تعين على المشتري أن ينفذ هذا الالتزام وإلا كان مقصرا، ولا يشفع له في هذا التقصير أية صعوبة ترجع إلى الرقابة على التنفيذ التي قد تفرضها الدولة التي يتبعها، إذ كان يتعين عليه أن يقدر هذه الصعوبة مقدما، وأن يهيئ لها العلاج المناسب، أو أن يرفض ابتداء الالتزام قبل البائع بفتح الاعتماد المستندي قطعيا.(8/126)
(ب) - العلاقة بين معطي الأمر والبنك الذي يفتح الاعتماد:
يلتزم معطي الأمر قبل البنك بأن يرد إليه المبالغ التي دفعها البنك تنفيذا للاعتماد، وتتم تسوية هذا الالتزام عن طريق قيد المبالغ المذكورة في الجانب المدين من حساب معطي الأمر، وقد يحصل القيد المذكور على حسب الأحوال في الوقت الذي يتلقى فيه البنك الأمر بفتح الاعتماد القطعي، وقد يحصل في الوقت الذي يخطر فيه البنك المستفيد بوجود اعتماد قطعي لصالحه، وقد يحصل في الوقت الذي يقبل فيه البنك أن يدفع كمبيالة سحبها عليه المستفيد تنفيذا للاعتماد.
فلا توجد قاعدة في هذا الخصوص، بل يتوقف الأمر على اتفاق الطرفين، وعلى مدى الثقة التي يستشعرها البنك في من أعطاه الأمر بفتح الاعتماد.
ومن ناحية أخرى يلتزم البنك الذي فتح الاعتماد بأن ينفذ بدقة التعليمات الصادرة إليه من معطي الأمر، وأهم التزام يقع على البنك في هذا الخصوص، هو أن يقوم بالتحقيق من مطابقة مستندات الشحن للتعليمات(8/126)
المذكورة، ويعنينا أن نوضح أن التزام البنك في هذه الناحية إنما يرد على التحقق من مطابقة أوصاف البضاعة المبينة في مستندات الشحن بتلك المحددة في التعليمات الصادرة من معطي الأمر، بمعنى أن البنك لا يلتزم بفحص البضائع ذاتها فحصا ماديا للتحقق من مطابقتها للتعليمات، وعلى ذلك فإذا تحقق البنك من مطابقة الوثائق للتعليمات، تعين عليه أن يدفع قيمة الكمبيالة للحامل وإلا كان مقصرا في تنفيذ التزامه، ولا يشفع للبنك في هذا الخصوص أن يتحقق من أن البضاعة الموجودة على السفينة غير مطابقة لطلبات المشتري.
والأصل أن البنك الذي فتح الاعتماد يجب أن يحتفظ بمستندات الشحن ما دام لم يسترد من معطي الأمر ما دفعه نيابة عنه للمستفيد، ذلك أن البنك لا يستبقي حقه في رهن البضاعة رهنا حيازيا إلا إذا ظل حائزا لمستندات الشحن التي تمثل البضاعة المذكورة، أو تمثل قيمتها في حالة الهلاك أو الضياع، على أن المشتري قد يكون في حاجة ملحة إلى إعادة بيع البضاعة، وهي في طريقها إليه، حتى يستطيع من جانبه أن يوفي مطلوب البنك، وهو لا يستطيع إعادة بيع البضاعة على هذا الوجه إلا إذا كانت مستندات شحنها بين يديه، حتى يستطيع أن يتصرف فيها إلى المشتري الجديد.
وقد سعت البنوك إلى تقدير هذا الوضع، فابتدعت صكوكا تمكن المشتري من التصرف في البضاعة المرهونة للبنك، وفي الوقت نفسه تستبقي فيها البنوك حقها في الرهن، وقد ذهبت محكمة النقض الفرنسية إلى ترك قانونية هذه الصكوك وأثرها في بقاء الرهن للبنوك أو في زواله لتقدير المحاكم بحسب ظروف كل دعوى، على أن المسلم به في القانون الفرنسي وكذلك الحال في القانون المصري، هو أن تخلي البنك المرتهن عن مستندات الشحن - ولو تخليا مؤقتا - يستتبع زوال الرهن المقرر لصالحه، ذلك أن تنقل الحيازة من المدين الراهن إلى الدائن المرتهن هو أمر يتصل بحماية الغير لحسن النية، ولا يتوقف على مجرد اتفاق الطرفين.
وإذا استعان البنك الذي صدر إليه الأمر بفتح الاعتماد ببنك آخر في(8/127)
هذا الخصوص، وأخطأ البنك الوسيط في تنفيذ شروط الاعتماد، فإن البنك الأصلي يبقى مسئولا عن هذا الخطأ قبل معطي الأمر، ما لم يكن هذا الأخير قد رخص للبنك صراحة بالاستعانة بالبنك الوسيط، وهذا الحكم هو تطبيق للمادة (708) من القانون المدني في خصوص الوكالة، فقد نصت المادة المذكورة على أنه إذا أناب الوكيل عنه غيره في تنفيذ الوكالة دون أن يكون مرخصا له في ذلك، كان مسئولا عن عمل النائب، كما لو كان هذا العمل قد صدر منه هو، ويكون الوكيل ونائبه في هذه الحالة متضامنين في المسئولية.
أما إذا رخص للوكيل إقامة نائب عنه دون أن يعين شخص النائب، فإن الوكيل لا يكون مسئولا إلا عن خطئه في اختيار نائبه، أو عن خطئه فيما أصدره له من تعليمات، ويجوز في الحالتين السابقتين للموكل ولنائب الوكيل أن يرجع كل منهما مباشرة على الآخر.
وعلى ذلك فإن من مصلحة البنك الذي يريد الاستعانة ببنك آخر في فتح الاعتماد، أن يحصل من معطي الأمر على ترخيص له بإقامة غيره مقامه في فتح الاعتماد، حتى لا يكون مسئولا عن أخطاء هذا الأخير، وأما إذا قنع بإنهاء واقعة الاستعانة ببنك آخر إلى معطي الأمر، فإن هذا العلم لا ينهض في نظر القضاء بديلا عن الإذن الصريح، ومن ثم لا يجدي البنك في التحلل من المسئولية عن أخطاء البنك الذي استعان به.(8/128)
(ج) - العلاقة بين البنك الذي فتح الاعتماد والغير المستفيد:
يرتب الاعتماد القطعي في ذمة البنك التزاما مباشرا لمصلحة المستفيد، بحيث يتعين على البنك أن يقبل أو أن يدفع ما يسحبه عليه المستفيد من كمبيالات ما دامت المستندات الموافقة لهذه الكمبيالات مطابقة لشروط فتح الاعتماد، وبعبارة أخرى: يرتب الاعتماد القطعي علاقة قانونية مباشرة بين البنك والمستفيد بحيث يمتنع على البنك أن ينهي هذه العلاقة دون رضاء المستفيد أيا كانت المبررات المستمدة من ظروف معاملاته مع معطي الأمر.(8/128)
وعلى ذلك لا يستطيع البنك أن يلغي الاعتماد المذكور، لا من تلقاء نفسه، ولا بناء على تعليمات معطي الأمر، ذلك أن علاقة البنك بالمستفيد هي في الأصل علاقة مستقلة عن العلاقات التي تربط بين البنك ومعطي الأمر.
وثمة نتيجة أخرى تلزم عن قيام العلاقة المباشرة بين البنك والمستفيد، وهي أنه يمتنع على البنك أن يحتج على المستفيد بالدفوع المستمدة من العقد الأصلي الذي يربط بين معطي الأمر والمستفيد، وهو في الغالب عقد بيع كما بينا، إذ إن التمسك بهذه الدفوع يخص معطي الأمر وحده، ولكن لا شأن له بالالتزام المباشر الذي ترتب للمستفيد في ذمة البنك الذي فتح الاعتماد.
وهذا الاستقلال بين العملية المصرفية والعملية التجارية من الناحية القانونية، هو أمر مسلم، إذ بدونه تنهار قيمة الاعتماد المستندي القطعي.
وقد قدرت الغرفة التجارية الدولية أهمية هذه الحقيقة، فحرصت على تقريرها في المادة الأولى من مجموعة القواعد والعادات الموحدة في الاعتمادات المستندية، وتابعتها في هذا المسلك لجنة تعديل قانون التجارة الفرنسي في المشروع الذي أقرته في سنة 1951 وقد لخص الأستاذ مصطفى الزرقاء الطبيعة القانونية للاعتماد المستندي، ثم ذكر بعده موقف الفقه الإسلامي من العملية، فقال: الوصف القانوني للعملية هو اعتماد (مالي) يفتحه المصرف بناء على طلب شخص يسمى الآمر، لمصلحة عميل لهذا الآمر، ومضمون بحيازة مستندات ممثلة لبضاعة مستحقة للآمر لدى عميله المذكور، ويستوي أن يكون طريق التنفيذ بالوفاء أو بقبول بفتحه.
يتضح من هذا التعريف أن فتح الاعتماد هو عبارة عن عهدة مالية يلتزم(8/129)
بها المصرف عن شخص لمصلحة آخر في صفقة تجارية، ولنضرب لها مثالا يوضحه: تاجر في إنجلترا باع بضاعة لتاجر مصري، وقد لا تكون بينهما ثقة متبادلة أو تكون، ولكنهما يؤثران الحيطة، لا سيما والمستقبل غيب، وقد يحدث ما ليس في الحسبان، فيطلب البائع من المشتري توسيط مصرف يثق به، فيتعهد المصرف بتأدية الثمن المحدد للبضاعة إلى البائع تعهدا معلقا على تقديم البائع إلى المصرف الوثائق المستندية التالية:
1) مستندات شحن البضاعة في الميعاد المتفق عليه.
2) وثيقة تأمين تغطي جميع الأخطار المنصوص عليها في الاعتماد.
3) القائمة والفاتورة، ولا بد أن يتطابق الوارد في الاعتماد مطابقة تامة دون اختصار، أو اكتفاء بتعميم أو تخصيص.
فهذا التعهد من المصرف يسمى فتح اعتماد، ويخبر به البائع لكي يشحن البضاعة اعتمادا عليه.
والغالب أن يكلف المشتري بفتح الاعتماد مصرفا في بلده - مصريا في مثالنا-، وهذا يرسل خطاب الاعتماد إلى مصرف في بلد البائع - إنجليزي في مثالنا - ليبلغ البائع باستعداده للتنفيذ نيابة عن المصرف المصري.
وقد يكون هذا المصرف الإنجليزي مكلفا بتأييد الاعتماد - وفقا لرغبة أخرى للبائع - بحيث يصبح المصرف الثاني مدينا أصليا للبائع بمجرد تبليغه فتح الاعتماد لديه، لا مجرد وكيل بالقبض عرضة للعزل في أي وقت، ويسمى الاعتماد حينئذ: اعتمادا مؤيدا، ولا يكون الاعتماد المؤيد إلا من قبيل الاعتمادات النهائية، أي التي بمجرد تبلغيها إلى المستفيد تصير غير قابلة للرجوع، ولو أفلس الآمر أو أمر بإلغاء الاعتماد أو ثبت بطلان البيع، ما لم تحكم محكمة بصحة الرجوع في هذا الاعتماد بسبب ما، رغم أن الأصل عدم جواز الرجوع فيه.
أما الاعتمادات القابلة للإلغاء بحسب رغبة المصرف أو الآمر فهي -(8/130)
وإن كانت أقل تكاليف - قلما يعول عليها اليوم، لأنها لا تعطي البائع التأمين الكافي الذي يريده ولا تقبل التأييد.
وإذا قدم البائع المستندات المطلوبة ودفع له المصرف الثاني الثمن، ضم المصرف المذكور هذه المستندات إلى الورقة التجارية المثبتة دفعه الثمن للبائع (الإيصال) ، وأرسل الوثائق كلها إلى المصرف الأول - المصري- ليقوم بتأدية مبلغها مع المصاريف - ومنها العمولة - إلى المصرف الثاني في بلد البائع.
وللمصرف الأول - المصري - أيضا عمولته المتفق عليها يستوفيها وسائر التوابع مع مبلغ الاعتماد من المشتري، فإن أبى المشتري الدفع كان للمصرف المصري حق بيع البضاعة؛ لأنها مرهونة بحقه، وقلما تكفي وليس له حق الرجوع جبرا على البائع بحال مهما تكن الأسباب؛ لأن العملية بطبيعتها تتضمن نزول المصرف فاتح الاعتماد عن حقوقه المصرفية تجاه البائع ليطمئن هذا البائع إلى نهاية الوفاء، فإذا أخطأ المصرف، فدفع المبلغ وكانت المستندات غير مطابقة، فلا رجوع له على الآمر - المشتري - كما لا رجوع له على المستفيد - البائع - لأنه هو المقصر وقد كانت لديه المهلة الكافية للتأكد من سلامة هذه الوثائق ومطابقتها، إلا إذا كان المصرف قد شرط الرجوع على المستفيد عند رفض الآمر المستندات مثلا (1) .
2 - أما موقف الفقه الإسلامي من هذه العملية، فقال الأستاذ مصطفى الزرقاء: هذه المعاملة صحيحة إجمالا فيما يبدو من وجهة نظر الفقه الإسلامي، على أحد الأسس الآتية:
الأساس الأول: توكيل ورهن، فيمكن تخريج هذه المعاملة على أنها تتضمن عقد وكالة بعوض في أداء الدين - هو حق المستفيد على الآمر-، وفي تسلم مستندات البضاعة قبل الأداء، فالتوكيل بالأداء مقيد بكونه بعد تسلم
__________
(1) الموسوعة الفقهية نموذج 3 الحوالة ص 243 - 244، ومحاضرة أمين بدر 16- 24.(8/131)
المستندات الصحيحة، والوكالة المقيدة يلتزم فيها قيدها، وهذا التوكيل يتضمن رهنا ضمنيا للبضاعة لدى الوكيل إلى أن يستوفي الثمن الذي وكل بأدائه من ماله، وهو رهن ضمني مستنده العرف، وتثبته نصوص القوانين، وهذا التخريج الفقهي يفسر لنا أمورا مهمة في هذه المعاملة وهي:
1 - نهائية الالتزام، وعدم قبوله الرجعة من جانب الوكيل - وهو هنا المصرف الوسيط فاتح الاعتماد - لأن الوكيل بأجر يجب عليه القيام بما وكل فيه ويجبر على ذلك، لا سيما أنه تعلق بالوكالة هنا حق الغير وهو البائع، كما أن عقد القرض - بمجرد انعقاده - لازم عند المالكية من جانب المقرض ليس له الرجوع فيه حتى ينتفع به المقترض على العادة في مثله.
والمقرر عرفا وقانونا في هذا الشأن أنه إذا أصر الموكل - في مسألة فتح الاعتماد - على الامتناع من الدفع بغير حق وتعذر الاستيفاء منه، كان للمصرف حق التصرف في البضاعة؛ ليستوفي حقه بأن يبيع منها بقدر الحاجة، وهذا سائغ عند فقهاء الشريعة دون رجوع إلى القاضي إذا كان عن شرط، بل له ذلك عند الشافعية من غير تعذر الاستيفاء ما دام الخصم ممتنعا من دفع الحق الثابت عليه.
2 - عدم مسألة المصرف بعد قيامه بالدفع وفق شروط الاعتماد مهما تكن حال البيع نفسه، إذ لا شأن للمصرف بذلك، فإن الوكيل بالأقباض ليس وكيلا في عقد مالي، فلا عهدة عليه كالرسول.
3 - نهائية الالتزام من جانب الآمر - هو المشتري طالب فتح الاعتماد -، فيكون الاعتماد من هذه الناحية غير قابل للإلغاء على أساس أنه توكيل تعلق به حق الغير، فيمتنع على الآمر الموكل الرجوع عنه.
ملاحظة: قد يرد على هذا الحل أنه قاصر لا يفسر لنا كون المصرف يصبح(8/132)
مدينا أصليا للمستفيد حل محل الآمر فبرئت بذلك ذمة الآمر تجاه المستفيد كما هو الحكم المقرر قانونا.
وحينئذ يمكن إحلال الحوالة محل الوكالة في هذا التخريج، فتعتبر معاملة الاعتماد المستندي حوالة على المصرف فاتح الاعتماد بأمر الآمر، فيكون له عليه حق الرجوع بعد الأداء، ويكون المستفيد البائع محالا قد قبل الحوالة بقبوله فتح الاعتماد لمصلحته، ويبرأ تجاهه الآمر، وهو هنا المشتري طالب فتح الاعتماد كما نوضحه في الأساس الثاني.
الأساس الثاني: وقد يسعنا أن نقول استنادا إلى وجهة نظر أخرى: أنه حين ينص على نهائية الالتزام من طرفيه -أو يكون ذلك كالمنصوص - يكون الآمر إذا محيلا بدين المستفيد على المصرف الوسيط فاتح الاعتماد، ورضا الأطراف الثلاثة قائم، وليست هذه الحوالة معلقة على شرط - تسليم المستندات- بل حوالة مطلقة منجزة بدين مؤجل يحل عند تقديم هذه المستندات، وقد قبلها المحال عليه - المصرف الوسيط- بأمر المحيل، فيحق له الرجوع عليه، وقد يدفع الآمر جانبا من مبلغ الاعتماد مقدما إلى المصرف، ففي هذه الحال يكون طلب فتح الاعتماد توكيلا بالأداء إلى الدائن فيما قدمه الآمر، وحوالة في الباقي.
ولا بأس فيها بالعمولة المصرفية، لأنها منفصلة عن الحوالة، فليست حوالة بأجر حتى يقال: إن ذلك يتنافى مع طبيعتها من كونها عقد إيفاء واستيفاء لا غير، أو عقد إرفاق إنما هي أجرة مستحقة لأجير - هو المصرف - على الأعمال الكثيرة التي يقوم بها، كما حررناه في بحث التحويل المصرفي (ر: ف \ 362) ، وقد يعترض على هذا الحل بأنه لا يطابق ما هو مقرر في التقنينات الحديثة من أنه لا علاقة للمصرف الذي أصدر الاعتماد بصحة البيع أو بطلانه، ذلك لأن الحوالة - من الوجهة الشرعية الإسلامية - تبطل إذا تبين بطلان البيع الذي بنيت عليه، وإذا كان المحال عليه قد دفع إلى المحال فإنه يتخير بين الرجوع على القابض، لفساد قبضه، والرجوع على المحيل، كما في الحوالة الصحيحة (ر: ف \ 257) .(8/133)
وللرد على هذا الاعتراض يلزم توضيح الفارق بين نظرة الفقه الإسلامي إلى الحوالة، وبين موقف التقنينات الحديثة في الاعتماد المستندي.
فالفقه الإسلامي يجعل بين الحوالة والبيع الذي أحيل فيه بالثمن أو عليه علاقة وثيقة، فإذا تبين بطلان البيع كان طبيعيا أن تبطل الحوالة المرتبطة به.
أما الاعتماد المستندي فينظر إليه القانونيون نظرة مستقلة تماما عن البيع الذي فتح الاعتماد تنفيذا له، لاختلاف أطرافه وأساسه القانوني، ولذلك كان طبيعيا عندهم ألا يتأثر الاعتماد ببطلان البيع.
على أن هذا الفارق نظري، إذ النتائج من الناحية العملية واحدة، ففي الاعتماد المستندي يرجع المصرف على الآمر فاتح الاعتماد بالقيمة طالما أنه نفذ التزامه بتسليمه المستندات المطابقة لشروط فتح الاعتماد، بصرف النظر عما إذا كان عقد البيع صحيحا أو باطلا.
وفي الفقه الإسلامي يرجع المحال عليه - المصرف هنا- بعد أداء القيمة إلى البائع - المحال- على الآمر فاتح الاعتماد - المعتبر محلا- في كل الأحوال، أي سواء أكان البيع صحيحا أم باطلا، كما أن للمصرف - بمقتضى مذهب الحنفية - الخيار في حالة تبين بطلان البيع بين الرجوع على المحيل، وبين الرجوع على المحال القابض - البائع في مثالنا- فالنظر القانوني إنما قطع فقط طريق الرجوع على القابض وبذا يتبين أن النتائج العملية واحدة وإن اختلف الأساس النظري.
الأساس الثالث: إن البحث في الاعتبارين السابق شرحهما لتخريج الاعتماد المستندي على أساس من العقود التقلدية في كتب الفقه، لا يعدو أن يكون محاولة لتصنيفه على أساس هذه العقود على أنه قد سبق أن بينا أن الأصل في المعاملات جواز استحداث ما يتلاءم مع الحاجات المتجددة المتنوعة طالما لم يصادم العقد المستحدث أصلا شرعيا.
وهذه التخريجات الثلاثة نقدمها على أساس تجريد الاعتماد المستندي مما ليس(8/134)
لازما قانونا له مما قد يكون فيه شبهة أو خلاف في وجهة النظر الشرعية بين فقهاء العصر، كالتأمين على البضاعة، إذ يجوز أن يفتح الاعتماد دون اشتراط وثيقة التأمين ضمن المستندات التي يلتزم المصرف بتسليمها، فيمكن اعتباره بعد ذلك عقدا جديدا تدعو إليه مصلحة التجارة المشروعة (1) .
***
__________
(1) الموسوعة الفقهية الأنموذج \ 3 \ الحوالة ص 244- 246. اهـ(8/135)
الخلاصة
يندرج تحت عمليات الائتمان أنواع كثيرة من المعاملات المصرفية منها: الاعتمادات المصرفية، والاعتمادات المصرفية هي ما يقدمه البنك للعميل أو لشخص يعينه العميل من أدوات الوفاء، إما نقدا، أو تعهدا بالوفاء، على أن يأخذ البنك على ذلك فائدة أو عمولة يتفق عليها الطرفان، وعلى ردها مع ما أخذه.
ويشمل الاعتماد المصرفي الإقراض، وفتح الاعتماد البسيط، والضمان، والاعتماد المستندي والخصم، وفيما يأتي الكلام على ما ينبني عليه الحكم من واقع كل منها، ثم تكييفه في الفقه الإسلامي وبيان حكمه:(8/135)
أولا: الإقراض أو القرض: هو عقد اختياري تجاري يسلم البنك بمقتضاه للعميل، أو من يعينه العميل نقودا مباشرة، أو يضعها تحت تصرفه، ويتضمن تحديد سعر الفائدة وأجل الوفاء وبيان ما قد يشترط من ضمان.
تكييفه في الفقه الإسلامي:
مما قدم يتبين أن عقد القرض يشتمل على معاوضة نقدية بين طرفين لأجل مع زيادة في الوفاء، ومع ذلك اتفق علماء القانون والاقتصاد على تسميته إقراضا، ولا(8/135)
مشاحة في الاصطلاح ما دامت العبرة في تطبيق الأحكام بالحقائق.
أما في نظر فقهاء الشريعة الإسلامية: فقد يقال: إنه يسمى قرضا أيضا، لكن يناقش بأن القرض عندهم أن يدفع شخص مبلغا لآخر على وجه الإرفاق المحض، على أن يرد مثله إليه دون شرط زيادة أو جريان عرف بها. ولهذا استثني من تحريم المعاوضة بين الربويين مع التأخير لأحدهما، وما يدفعه البنك يقصد به استثمار ماله وتنميته أولا، بدليل اشتراط الزيادة في الوفاء، وأنه عقد تجاري يترتب عليه ما يترتب على عقود التجارة من الآثار، فإن ترتب عليه إرفاق بالمقترض فبالمتبع.
وقد يقال: إنه عقد بيع، لأنه يتضمن معاوضة مالية بين نقدين، أحدهما عاجل، والآخر آجل على وجه المغالبة والتنمية والاستثمار بدليل ما تقدم من أنه تجاري، وأن الزيادة في الوفاء مشترطة فيه، وقد سمى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - المبادلة بين النقدين بيعا كان ذلك ناجزا أو لأجل، اتفق نوع العوضين أو اختلف، متساويا أو زاد أحدهما على الآخر، غير أنه نهى عن النساء، أو الزيادة في المعاوضة بينهما كما سيجيء ذلك في بيان الحكم.
حكمه في الفقه الإسلامي:
إذا ثبت ما تقدم فهو بيع محرم، لما فيه من ربا الفضل وربا النسيئة، أما الأول فللزيادة التي يدفعها المقترض بناء على الشرط المتفق عليه مع المصرف، وأما النساء فلتأجيل الوفاء بدين القرض.
وقد دل على تحريم ذلك القرآن، وبينته السنة الصحيحة وأكدته، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (1)) الآيات، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (2) » إلى غير ذلك
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(8/136)
من الأحاديث الثابتة، وقد أجمعت الأمة على تحريم مثل ذلك الربا بنوعيه، وما نقل عن ابن عباس من إباحة ربا الفضل، فقد كان قبل أن يبلغه النص في تحريمه، فلما بلغه الصحابة النص رجع في التحريم، وثبت ذلك عنه بالنقل الصحيح.
وعلى تقدير أن هذا العقد يسمى قرضا فهو محرم أيضا؛ لأنه جر نفعا مشروطا، وقد أجمع فقهاء الإسلام على أن كل قرض جر نفعا مشروطا فهو ربا.(8/137)
ثانيا: فتح الاعتماد البسيط:
أ) تعريفه: هو عقد يلتزم المصرف بمقتضاه أن يضع تحت تصرف العميل أداة من أدوات الائتمان في حدود مبلغ معين لمدة يحق للعميل خلالها استخدامها، ويبين فيه طرق استخدامه، ويحدد فيه معدل الفائدة، وقيمة العمولة التي يستحقها المصرف على ذلك.
ب) شروطه: يشترط لصحته رضا الطرفين وأهليتهما للتصرف، وأن يكون ما فتح الاعتماد من أجله مشروعا، فلا يصح لتأسيس محل خمر وإدارته مثلا.
ج) خواصه: ومن خواصه أنه عقد تجاري بالنسبة للبنك، فيثبت بجميع طرق الإثبات التي تثبت بها عقود التجارة أيا كانت قيمته، ولا يكون تجاريا بالنسبة للعميل إلا إذا كان تاجرا وفتح الاعتماد لحاجات التجارة، وإلا كان مدنيا تسري عليه أحكام العقود المدنية، ويعد عقد فتح الاعتماد من عقود الاعتبار الشخصي، فلا يجوز لكل من طرفيه نقل التزاماته إلى غيره أثناء مدة تنفيذ العقد إلا برضا الطرفين، أو باتفاق سابق صريح أو مفهوم ضمنا بينهما، ويمكن أن يوكل كل منهما من يقوم بأداء التزاماته، ولا يعتبر ذلك نقلا لها، والغالب أن يكون فيه من الضمان ما يغطي المبلغ، وللمصرف أن يطلب حقه في الضمان كلما زاد مبلغ الاعتماد، أو نقص الغطاء.
د) طبيعته: قيل إنه عقد قرض بات، وقيل: عقد قرض معلق على استفادة العميل(8/137)
من الاعتماد المفتوح، وقيل: عقد غير مسمى، وقيل: وعد بالقرض، ثم يصير قرضا باتا عند تسلم العميل المال تنفيذا للوعد المصرفي، وقيل: إنه مركب من عقدين، عقد استحق به العميل التصرف في المبلغ، وعقد إيداع من العميل لهذا المبلغ في نفس المصرف، حيث لم يتسلمه العميل بالفعل، بل قيد لحسابه فقط، وهذا مبني على ما قصده العميل من فتح الاعتماد، وهو الحصول على مبلغ تحت تصرفه، وحفظه في مكان أمين لحين حاجته إليه، ولم تسلم هذه الآراء من مناقشة علماء الاقتصاد، ومهما يكون من اختلافهم في طبيعته فالعبرة بحقيقته في الفقه الإسلامي، فإنها هي التي يترتب عليها حكمه في الإسلام.
هـ) كيفيته في الفقه الإسلامي:
قد يقول بعض فقهاء الإسلام: إنه قرض فقط، أو وعد بقرض تبعه إيداع، كما تقدم في بيان طبيعته عند علماء الاقتصاد، لكن ما سبق في تعريفه يتنافى مع حقيقته في الفقه الإسلامي، حيث اشترط في العقد زيادة فائدة أو عمولة في الوفاء، وقصد به المصرف تنمية رأس ماله واستثماره، والقرض في عرف فقهاء الإسلام يقصد به الإرفاق والثواب من الله، ويعطله اشتراط الزيادة في الوفاء، إلى آخر ما تقدم في بيان حقيقة الإقراض عند فقهاء الإسلام.
وقد يرى بعضهم أنه عقد بيع، لتضمنه معنى المعاوضة بين نقدين على وجه المغالبة، وقصد التنمية والاستثمار بدليل اشتراط الزيادة أو العمولة في الوفاء، ويؤيد ذلك أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - سماه بيعا كما في الأحاديث المتقدمة في تكييف الإقراض وبيان حكمه.
حكمه في الفقه الإسلامي:
إذا ثبت ذلك فهو من البيوع المحرمة ما دام في معاوضات ربوية؛ لتحقق ربا الفضل والنسيئة فيه، حيث كان الوفاء بالقرض مؤجلا مع اشتماله على زيادة الفائدة،(8/138)
وعلى تقدير أن المقترض لم يدفع فائدة لعدم تسلمه شيئا من مبلغ الاعتماد، فهي مدخول عليها بالاشتراط، وهذا كاف في الحكم بتحريم العقد، وقد سبقت أدلة التحريم في مبحث الاقتراض وخلاصته، أما العمولة فإن اتخذت حيلة وستارا لأخذ الربا باسمها في الحالة التي لم يتسلم فيها العميل شيئا من مبلغ الاعتماد، أو لزيادة الفائدة تحت ستارها في حالة الاستسلام فهي محرمة، لأن العبرة بحقائق الأشياء لا بأسمائها، وإن كانت أجرة محضة لإجراءات وخدمات، فقد يقال: إنها جائزة إلا إن روعي بناؤها على عقد فاسد من أجل اشتراط الفائدة فيه، فربما قيل بسريان الفساد إليها، وعلى تقدير أن عقد فتح الاعتماد يعتبر قرضا فهو محرم أيضا، لكونه جر نفعا على فاتح الاعتماد، وهو الفائدة أو العمولة.(8/139)
ثالثا: الاعتماد بالضمان أو الائتمان الناشئ عن مجرد التوقيع أو إقراض المصرف توقيعه للعميل:
هذه العناوين وإن اختلفت فالمقصود منها واحد، وهو ما يلتزم به البنك مثلا لمستفيد، مما يبعث الثقة في نفسه بمن يريد أن يتعامل معه من كفالة أو خطاب ضمان أو اعتماد بالقبول للكمبيالة ليسهل خصمها والحصول على ما فيها من البنك بعد الخصم، فالصور ثلاث، الكفالة وخطاب الضمان والاعتماد بالقبول، وفيما يلي الكلام على واقع كل منها، ثم بيان الحكم.
أ-الكفالة: وهي عقد يتعهد فيه شخص لآخر أن يفي له بما التزم به أمام ثالث إذا تخلف المكفول عن الوفاء، على أن يقدم المكفول ضمانا نقديا أو رهنا للكفيل، ويلتزم له أيضا بعمالة على الكفالة، وفائدة بنسبة مئوية من المبلغ إن دفعه عنه المستفيد.
ب- الضمان البنكي أو خطاب الضمان: هو عقد يتعهد فيه مصرف لشخص أو جماعة بدفع مبلغ معين، أو قابل للتعيين عن مقاول مثلا بمجرد طلب(8/139)
المستفيد من المصرف خلال مدة محددة، وذلك من أجل قيام العميل بعمل، أو التزامه بأمر لذلك الشخص أو الجماعة، على أن يدفع عمالة للمتعهد بالمبلغ، ويضع تحت يده في الغالب ضمانا نقديا أو رهنا؛ ليكون ذلك غطاء للمبلغ المتعهد بدفعه.
هذا ولا يضمن المصرف بهذا التعهد حسن تنفيذ العمل لالتزامه، ولا مراقبة التنفيذ، ولا يلزمه القيام بدلا من العميل بتنفيذ الالتزام، ولا بسداد ما عليه من دين بخلاف الكفالة.
ج- الاعتماد بالقبول: هو أن يتعهد مصرف دفع مبلغ عن طريق توقيع بالقبول على كمبيالة مسحوبة عليه مقابل عمالة على التوقيع يدفعها العميل، وبذلك تكسب الكمبيالة الثقة بها، ويسهل تداولها وحصول العميل أو غيره على ما فيها بعد الخصم من المصرف الذي وقع عليها، أو من غيره.
وإذا تأخر العميل عن الدفع للمستفيد، واضطر المصرف للوفاء، كان له حق الرجوع على العميل بما دفعه عنه، وبتعويض عن تعطيل المبلغ المدفوع.
الغرض من الاعتماد بالضمان بجميع صوره انتفاع المصرف أولا، وإعانة العميل، وطمأنينة المستفيد، وتنشيط حركة العمل وتيسير وسائلها.
تكييفه في الفقه الإسلامي وحكمه
مما تقدم نرى أولا أن هذه العملية اشتملت على ثلاثة أطراف: المصرف وعميله والمستفيد، وعلى عوضين هما: العمل والمبلغ، وعلى غطاء في الغالب كاملا أو نسبة مئوية منه، وعلى عمالة مقابل الالتزام بالدفع يدفعها العميل للمصرف، وعلى فائدة أو تعويض عن تعطيل المبلغ الذي يدفعه المصرف عند تخلف العميل.
ثانيا: أن المصرف ضامن لعميله لدى المستفيد بعمالة، وقد يقال: إن ذلك محرم(8/140)
لأن الضمان غير متقوم، فلا يقابل بمال بل يبذل على وجه المعروف والإرفاق، ابتغاء مرضاة الله.
ثالثا: أن المصرف يأخذ فائدة من عميله إذا دفع المبلغ للمستفيد عند تخلف العميل عن الوفاء في الميعاد، وقد تسمى هذه الفائدة تعويضا عن تعطيل المبلغ المدفوع، وهذا محرم.
رابعا: أن المصرف يستغل ما تحت يده في غطاء نقدي أو رهن عيني، وقد يقال: إنه محرم لأنه إما أن يعتبر تتميما للعمالة على الضمان، وإما أن يعتبر فائدة لما قد يدفعه المصرف أو لما يدفعه بالفعل عن العميل، وذلك ما لم يكن ظهرا يركب بنفقته أو ذا در يحلب بنفقته.(8/141)
رابعا الاعتمادات المستندية:
1 - هي عقد مالي يلتزم بمقتضاه مصرف بدفع مبلغ معين لمستورد -يسمى الآمر- بناء على طلبه لمصدر - هو صاحب البضاعة - عند وصول الوثائق المتعلقة بالبضاعة، أو يلتزم بقبول أو بخصم الكمبيالة التي يسحبها البائع على المشتري، في نظير أن يدفع المستورد للمصرف نسبة مئوية من مبلغ الاعتماد مقدما، ويدفع له مؤخرا مع باقي الثمن مبلغا يكون عمالة مقابل خدمته وضمانه، وفائدة لما دفعه المصرف عنه من الثمن، وقد لا يدفع المستورد شيئا من الثمن مقدما، فيكون الاعتماد مكشوفا.
2 - الغرض منه سهولة حصول المصدر على ثمن بضاعته عند تسليمه المستندات الخاصة بها إلى المصرف، وتفاديه خطر تنازل المشتري عن ملكيتها، واستفتاؤه عن الاستقصاء في الحصول على معلومات عن المشترى منه، وثقة المشتري بالحصول على البضاعة التي اشتراها بسهولة، واطمئانه إلى صحة مستندات الشحن وغيرها، أو استدراك ما قد يكون فيها من نقص أو خطأ بأسرع ما(8/141)
يمكن لقيام المصرف عنه بفحصها، وتيسير تبادل المنافع، وسرعة تداول رؤوس الأموال المستثمرة في التجارة، وتنشيط الحركة التجارية، وتوفير السلع في الأسواق للمستهلكين وغير ذلك من المصالح.
3 - قد يكون الاعتماد المستندي قابلا للإلغاء؛ بمعنى أنه يجوز لكل من المصرف والآمر الرجوع فيه، فليس عقدا نهائيا، ولا قابلا لتأييده من بنك آخر، وإنما هو عقد وكالة، وقد يكون قطعيا نهائيا، فلا يجوز لأحد من أطرافه الرجوع فيه، وهذا قد يؤيد من بنك آخر، فيكسب زيادة ثقة وقوة ائتمانية، وتزيد أطرافه تبعا لعدد مرات التأييد، وقد يكون غير مؤيد من بنك آخر اكتفاء بالثقة بالمصرف الذي فتح الاعتماد فتبقى أطرافه ثلاثة.
4 - يجب على المصرف دفع الثمن مع توابعه كاملا للمصدر عند وصول الفاتورة ووثائق الشحن والتأمين من المخاطر، أما المشتري فإن دفع الثمن وما يتبعه من عمالة وفائدة للمصرف فيها، وإن أبى تصرف المصرف في البضاعة، لأنها رهن في حقه يستوفي منه، فإن نقص عن حقه فليس له الرجوع على البائع -المستفيد- لتنازله عن حقوقه لديه حتى يطمئن على تمام الصفقة والوفاء، إلا إذا كان قد شرط عليه ابتداء الرجوع عند رفض المشتري تسليم البضاعة.
5 - ومن هذا يتبين أن فتح الاعتماد المستندي يشتمل على ما يلي:
أ) طالب فتح الاعتماد وهو المستورد ويسمى: الآمر.
ب) المصدر وهو البائع - المستفيد.
ج) وسيط بينهما وهو المصرف.
د) العوضين - الثمن والبضاعة.
هـ) مبلغ يدفعه المستورد زيادة على الثمن يعتبر أجرة للمصرف على خدماته وضمانه وفائدة لما دفعه عنه.
و) ما قد يدفعه المستورد من الثمن للمصرف مقدما.(8/142)
6 - طبيعتها القانونية:
اختلف علماء القانون والاقتصاد في تحديد طبيعتها.
فقيل: إن علاقة البنك بالمشتري تعتبر عقدا بعيدا عن العقود المدنية، لما له من أحكام خاصة منها: أن ينشئ التزاما لصالح البائع مستقلا عن مصدره، فكان عقدا غير مسمى.
وقيل: إنه عقد كفالة من المصرف للمشتري، لالتزامه بما عليه أمام البائع.
وقيل: إنه عقد بين البنك والمشتري اشترط فيه المشتري أن يكون الاعتماد لصالح البائع، فلا يجوز للمصرف، ولا للمشتري الرجوع فيه، لأن الحق فيه صار للبائع.
وقيل: إنه عقد إنابة، لأن المشتري أناب المدين له بمقتضى الاعتماد؛ ليقوم بسداد ما عليه للبائع من ثمن البضاعة.
وقيل: إنه تقابل إرادتين عن طريق وسيط، فالبنك والبائع يتعاقدان هنا عن طريق المشتري، ويتم التعاقد عندما يفتح الاعتماد.
وقيل: إنه وعد من البنك بأداء مبلغ معين للبائع إذا قدم المستندات اللازمة كالوعد بجائزة على عمل معين، فهو من باب الإرادة المنفردة.
وقيل: إنه عقد وكالة من المستورد للمصرف، وقيل عقد حوالة من المستورد للبائع على المصرف بثمن البضاعة وتوابعه.
واختار الدكتور علي جمال الدين عوض، والدكتور علي البارودي القول بأن التزام البنك يصدر عن إرادة منفردة.
وهذه الآراء لم يسلم أي واحد منها من مناقشة علماء القانون والاقتصاد، ومهما يكن من اختلاف رأيهم في طبيعتها، ومناقشة الأقوال في ذلك، فالعبرة ببيان حقيقتها في الفقه الإسلامي، فإن ذلك هو الأصل الذي يبنى عليه حكم علماء الإسلام فيها.(8/143)
7 - حقيقتها في الفقه الإسلامي وحكمها:
خرجها بعض المعاصرين من علماء الفقه الإسلامي على أحد أسس ثلاثة:
الأول: أنها عقد وكالة يتضمن رهنا ضمنيا لبضاعة المشتري لدى الوكيل؛ ليستوفي حقه منها إذا لم يسلمه الموكل. ثم نقده بأنه يتنافى مع كون المصرف بهذا العقد مدينا أصليا للمستفيد حل محل الآمر، فبرئت ذمة الآمر تجاه المستفيد، كما هو الحكم المقرر قانونا، وإذن فلا يصح أن يعتبر وكيلا (1) ، ويمكن أن يضاف إلى ذلك أن هذا يتنافى مع كون العلاقة بين المصرف والمستفيد مستقلة عن العلاقة بين الآمر والمستفيد، حيث إن عقد الوكالة يقضي بالارتباط بين العلاقتين.
الثاني: أنها عقد حوالة، فالآمر وهو المشتري- محيل- والمستفيد وهو البائع- محال- والمصرف محال عليه، ثم نقد ذلك بأن ما تقرر في التقنينات الحديثة من أنه لا علاقة للمصرف الذي أصدر الاعتماد بصحة البيع أو بطلانه؛ يتنافى مع الوجهة الإسلامية في الحكم ببطلان الحوالة ببطلان البيع الذي بنيت عليه، ثم أجاب بأن هذا الفرق بين الوجهتين نظري، وأن النتيجة واحدة، حيث إن المصرف إذا نفذ التزامه رجع على الآمر بالقيمة قانونا صح البيع أو بطل. كما أن المحال عليه وهو المصرف، يرجع بما دفعه للمحال وهو البائع على المحيل وهو المشتري في الفقه الإسلامي، صح البيع أو بطل.
لكن قد يقال: إن الحوالة نقل دين من ذمة إلى أخرى، وليس هذا متحققا في مسألتنا، وإنما فيها إنشاء دين في ذمة من هو بصدد
__________
(1) ص 91 - 92 من الأعداد(8/144)
الشراء منه، ولذا سمى بعض العلماء هذا وكالة على الاستيفاء لما سيجد من الدين، وقد رد صاحب هذا التخريج جعل الاعتماد المستندي حوالة.
الثالث: أنها تعتبر عقدا مستحدثا في المعاملات دعت إليه الحاجة، وهو جائز ما لم يصادم أصلا شرعيا. اهـ بتصرف.
وقد يقال: هذا تخريج سليم إذا لم يمكن تخريجها على عقد فقهي، أو عقود فقهية باعتبارات مختلفة وما لم تثبت مصادمته لأدلة الشريعة.
وفيما يلي محاولات لتخريجه على عقود الفقه الإسلامي المعروفة ثم بيان حكمه:
في الاعتمادات المستندية ثلاث علاقات؛ علاقة بين المصرف والآمر، وهو طالب فتح الاعتماد، وعلاقة بين المصرف والمستفيد من فتح الاعتماد، وهو البائع من أجل التزامه بدفع المبلغ له، وعلاقة بين المستفيد والآمر من أجل صفقة البيع، وبين هذه العلاقات في الحقيقة ارتباط وثيق من حيث منشؤها والداعي إلى وجودها، فإن التزام البنك بالدفع للبائع المستفيد إنما كان بناء على طلب المشتري من البنك فتح الاعتماد، وطلبه إنما كان لتحقيق رغبة البائع، وإثبات جدية الصفقة، واطمئنانه إلى وصول الثمن إليه بسهولة وسرعة، وهذا الارتباط لا يزال قائما حتى النهاية، بدليل أن الصفقة إذا تمت مستوفية للشروط، ودفع المشتري الثمن وما يتبعه عند تسلم الوثائق للبائع عن طريق البنك أو بوجه آخر برئت ذمته وذمة البنك، وإن أبى مع استيفاء الشروط استوفى البنك حقه من البضاعة، وما قد يكون دفعه مقدما للبنك، فإن نقص عن الوفاء بحقه رجع بالباقي له على المشتري في ذمته. وإن أثبت المصرف عدم استيفاء الوثائق للشروط حين وصولها إليه رجع البنك على البائع المستفيد، فالصلة(8/145)
قائمة بين العلاقات الثلاث على هذا الوجه إلى النهاية، وإنما وجد نوع خاص من انقطاع صلة البائع بالمشتري بخصوص الثمن، وإلزام البنك وحده بالدفع للبائع محافظة على حقه، ولإثبات جدية الصفقة، ومنع التلاعب في المعاملات، وهذا لم يقض على ما ذكر من العلاقات.
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الاعتمادات المستندية عدة عقود مرتبط بعضها ببعض، عقد بيع بين البائع المستفيد والمشتري الذي طلب فتح باب الاعتماد، تتوقف صحته على استيفاء شروط البيع، وعقد ضمان التزم فيه البنك التزاما خاصا للبائع المستفيد بدفع مبلغ معين من أجل الصفقة عند وصول الوثائق اللازمة مستوفية للشروط، وعقد وكالة من المشتري للمصرف بجعالة لقيامه عنه بإجراءات معينة تتعلق بالصفقة.
وفي اعتبار هذه العقود رعاية للجوانب المختلفة في الاعتماد المستندي، وكل منها جائز في نفسه، ولا مانع من تعددها لعدم التضارب بين خواصها وآثارها، بل بعضها يخدم بعضا، ويساعد على الإنجاز بسهولة في أقرب وقت ممكن، غير أنها اقترن بها أمور منها:
(أ) دفع المستورد فائدة للمصرف الوسيط لما دفعه عنه للمصدر من الثمن، وهو ربا واضح.
(ب) دفع مقابل التأمين على البضاعة من المخاطر أو التزام ذلك، وقد يقال بتحريمه لما فيه من المقامرة، وأكل المال بالباطل.
(ج) دفع المستورد عمولة لضمان المصرف له وفي إباحتها نظر.
(د) بيع المصرف البضاعة المشتراة قبل قبضها ليستوفي منها دينه على المشتري إذا امتنع من تسلمها، وهذا محرم مطلقا، أو إذا كانت البضاعة طعاما للأحاديث الواردة في ذلك.(8/146)
(هـ) دفع المستورد أجرة للمصرف مقابل ما يقوم به من خدمات وإجراءات تتعلق بالبضاعة، وهو جائز إن لم يتخذ ستارا للربا وإلا امتنع.
فإن ثبت تحريم ما ذكر أو بعضه؛ فالاعتمادات المستندية محرمة لما لابسها لا لذاتها، وهل يعود ذلك التحريم على العقد بالفساد، أو يبطل الشرط الملابس للعقد، ويمضي العقد؟ هذا محل نظر وموضع اجتهاد اختلفت في مثله آراء الفقهاء، وعلماء الأصول.
هذا ما تيسر، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(8/147)
صفحة فارغة(8/148)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
بالمملكة العربية السعودية
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية.(8/149)
فتوى رقم 161 في 12 \ 6 \ 1392هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسارات المرسلة من أحد السائلين وهي:
***
السؤال الأول: هل تجب الزكاة في مال اليتيم والمجنون؟
والجواب: الحمد لله. تجب الزكاة في مال كل منهما إذا كان حرا مسلما تام الملك، لما روى الدارقطني مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «من ولي مال يتيم فليتجر به، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة (1) » . ولما روى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه أنه قال: كانت عائشة تليني وأخا لي يتيمين في حجرها، فكانت تخرج من أموالنا الزكاة. والقول بوجوب الزكاة في مال كل منهما هو قول علي وابن عمر وجابر وعائشة والحسن بن علي، حكاه عنهم ابن المنذر.
***
__________
(1) سنن الترمذي الزكاة (641) .(8/150)
السؤال الثاني: هل تجب الزكاة في أموال المساجد الموقوفة؟
***
والجواب: لا تجب الزكاة في أموال الأوقاف على المساجد ونحوها قولا واحدا لانتفاء الملك فيها.(8/150)
السؤال الثالث: هل تجب الزكاة في الخضراوات مثل الطماطم والبطاطس والبصل ونحوه؟
***(8/150)
والجواب: تجب الزكاة في الحبوب وفي كل ثمر يكال ويدخر منه، أما الخضراوات، فلا تجب فيها الزكاة مطلقا لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الدارقطني بإسناده عن علي رضي الله عنه: «ليس في الخضراوات صدقة (1) » . وعن عائشة - رضي الله عنها - نحوه. ولما روى الأثرم أن عامل عمر - رضي الله عنه - كتب إليه في كروم فيها من الفرسك والرمان ما هو أكثر غلة من الكروم، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: ليس فيه عشر هي من العضاه.
***
__________
(1) سنن الترمذي الزكاة (638) .(8/151)
فتوى رقم 210 تاريخ 15 \ 8 \ 1392هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: جمع أحدهم مبلغا من النقود بكسب يمينه، وإن أغلبها حال عليه الحول إلا أنه صرفها في أشياء عادت عليه بالنفع. ويسأل هل تجب الزكاة فيها؟
***
الجواب: ما حال عليه الحول من المال الذي جمعه، وكان قد بلغ نصابا؛ فتجب فيه الزكاة ولو تصرف فيه بعد ذلك بزواج ونحوه. فإذا لم يكن أخرج زكاة ما وجبت فيه الزكاة من ماله، فهي باقية عليه في ذمته يتعين عليه إخراجها. أما ما لم يحل عليه الحول من ماله بأن تصرف فيه بالإنفاق قبل ذلك، فلا زكاة فيه، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(8/151)
فتوى رقم 217 تاريخ 26 \ 8 \ 1392هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
***
الأول: هل يجوز الصرف على المسجد لترميمه وفرشه ونحو ذلك من الزكاة، حيث إن المسجد ليس له غلال تقوم به والأهالي فقراء؟
***
الجواب: لا يخفى أن شئون المساجد متعلقة بوزارة الحج والأوقاف، فهي الجهة المسئولة عن إصلاح المساجد وفرشها وتأمين ما تحتاجه، فإن كانت إمكانيات الوزارة عاجزة عن القيام بجميع متطلبات المساجد، وصارت تبدأ بالأهم فالمهم، وتأخرت الوزارة لذلك عن إصلاح المسجد، ورغب أهله عدم الانتظار، فينبغي لهم أن يقوموا بإصلاحه من أموالهم. أما الزكاة فهي مخصوصة لثمان جهات عينها الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} (1) ، ومن ذلك يتضح أن المساجد ليست جهة من الجهات الثمان المذكورة في الآية، والمحصور إخراج الزكاة فيها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(8/152)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(8/153)
من الفتوى رقم 232 وتاريخ 27 \ 8 \ 1392هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسارات المرسلة من أحد السائلين، وهي: -
***
السؤال الأول: ويتضمن أن عنده نقودا يقترضها من بعض إخوانه ومعارفه وأصدقائه، وقد تعود إليه أو لا تعود، ويسأل هل تجب فيها الزكاة؟
***
والجواب: من كان له على مليء دين يبلغ النصاب، أو يكمل بلوغ نصاب عنده، فتجب فيه الزكاة ويزكيه إذا قبضه، لما مضى عليه سواء كان ذلك سنة أو أكثر، وإن زكاه قبل قبضه فحسن، وإن كان على غير مليء فيزكيه إذا قبضه لسنة واحدة، وإن مضى عليه أكثر من سنة وهذا رواية عن الإمام أحمد وهو قول مالك، وأفتى به الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وقال: وهو اختيار محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
***
السؤال الثاني: كم النصاب الذي تجب فيه الزكاة من الفلوس؟
***
والجواب: يظهر أن مقصود السائل بالفلوس النقود وعليه فإن نصاب(8/153)
الذهب وزن عشرين مثقالا، ونصاب الفضة وزن مائتي درهم، والواجب في كل منهما ربع العشر.
***
السؤال الثالث: هل يحق له أخذ ما يعطيه البنك من فوائد على أمواله المودعة عنده ويتصدق بها؟
***
والجواب: تقدم في جواب السؤال الثاني حكم فوائد الأموال المودعة لدى البنك من أنها ربا، وأنه لا يجوز أخذها ولا اشتراطها عند الاستيداع، كما أنه لا يجوز أخذها للتصدق بها؛ لأنها مال خبيث، وقد قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (1) ، ويحسن ممن قدمت له فامتنع عن أخذها لحرمتها أن يشعر ولي الأمر، ليتولى أخذها من البنك لبيت المال عقوبة للبنك على تعامله بالربا، ولئلا يجمع له بين العوض والمعوض فيكون ذلك عونا له على الإثم والعدوان أشبه حلوان الكاهن ومهر البغي.
***
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) سورة آل عمران الآية 92(8/154)
فتوى رقم 265 وتاريخ 17 \ 9 \ 1392هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: قد أحطنا علما بما جاء في الفتوى الصادرة من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برقم 205 وتاريخ 15 \ 8 \ 92هـ، حول جواز دفع الزكاة إلى جمعية البر بالرياض لتقوم بصرفها للمستحقين، وقد وردتنا تساؤلات من بعض المواطنين مستوضحين عن دفع الزكاة إلى الجمعية مع قيامهم بدفع الزكاة عادة إلى الجهات المختصة في الحكومة، فنود إيضاح المقصود. اهـ.
***
الجواب: الأموال المزكاة ضربان: ظاهرة كالحبوب والثمار والمواشي، وباطنة كالذهب والفضة وعروض التجارة، والسؤال إنما كان عن زكاة الأموال الباطنة التي خلى ولي الأمر بينها وبين من وجبت عليه؛ ليتولى دفعها إلى مستحقيها بنفسه أو بوكيله ممن يثق به، والذي يدل على هذا المقصود أمران: الأمر الأول: ما جاء في أصل السؤال من أن الداعي إلى تقديم السؤال في هذا الوقت مناسبة شهر رمضان، فإنه الوقت الذي جرت عادة أكثر الناس بإخراج زكاة هذا النوع فيه غالبا دون زكاة الحبوب والثمار وبهيمة الأنعام.
الأمر الثاني: أن السائل له شأنه في تحمل المسؤولية، وله بحكم مركزه معرفة بالنظم التي تسير عليها المملكة في جباية الزكاة وغيرها، وله شأنه في المحافظة عليها فلا يكون سؤاله عن زكاة تبنت الحكومة جبايتها، ورسمت الخطة المناسبة لجمعها ممن وجبت عليه، فهذا النوع هو الذي أجابت عنه اللجنة فأجازت لصاحبه دفع زكاته لمن نصب نفسه في صرف الزكاة في مصارفها الشرعية ممن يوثق بهم نيابة عنه، أما زكاة الأموال الظاهرة، والأموال التي جعل ولي الأمر نظاما لجبايتها وتبنى ذلك بعماله، فليست مقصودة بالسؤال، ولا مقصودة من الفتوى، فإن السنة المتبعة من عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى وقتنا هذا أن ولي الأمر يبعث سعاة لجبايتها وتصرف في(8/155)
مصارفها الشرعية، وما كان من حق السلطان فليس لأحد أن يدخل فيه إلا بإذنه، وهذا أمر معلوم لا إشكال فيه مطلقا، ومن تأمل السؤال وأمعن النظر فالجواب راعى أحوال السائل، وما جرى عليه عمل هذه الدولة الإسلامية، ولاحظ أوضاع الناس، تبين له المقصود من السؤال والفتوى، وأنه بخصوص الزكاة التي خلى ولي الأمر بينها وبين أصحابها في أن يدفعوها إلى مستحقيها، أما النظر إلى كلمة: "يجوز دفع زكاة المال إلى جمعية البر" مجردة عما يحوط بها مما تقدم بيانه، فهو منشأ فهم العموم في جواز دفع زكاة الأموال لجمعية البر والتوسع في الدعاة والتطبيق فذلك مما لا ينبغي. فإنه يجب النظر إلى الجواب مع السؤال، وإلى ظروف السائل، والخلاصة أن الفتوى بجواز دفع الزكاة إلى هذه الجمعية ملحوظ فيها ما يأتي:
1 - أن لا تكون الزكاة من الأموال الظاهرة.
2 - أن لا تكون الزكاة مما طلبه ولي الأمر. بل ممن خلى ولي الأمر بين صاحبها وبينها ليتولى دفعها إلى مستحقيها بنفسه أو بمن ينيبه.
3 - أن يصرفها المسئولون عن هذه الجمعية في مصارفها الشرعية، ويكون في أقرب وقت ممكن.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(8/156)
من الفتوى رقم 264 تاريخ 23 \ 9 \ 1392هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل(8/156)
من أحد السائلين وهو:
السؤال: إذا كان عند شخص أربع نياق وقبل قيام الحول بيوم واحد ولدت إحداها، فهل يكمل النصاب بهذا الحوار؟
***
الجواب: سبق أن ورد للجنة سؤال مشابه لهذا السؤال، وأجابت عنه بما يلي: " إذا كان عند إنسان أقل من نصاب الزكاة كثلاثين من الغنم، ثم زاد عددها بسبب نتاجها قبل أن يحول الحول على أصولها، اعتبر ابتداء حولها من يوم تمام النصاب عند الجمهور والعمل عليه، وخالف في ذلك مالك فقال: إن بلغت بزيادة نتاجها أثناء الحول (40) شاة واستمر ذلك إلى الحول ففيها شاة زكاة، لأن حول النتاج تبع لحول الأصول فتجب الزكاة، وهو رواية عن أحمد وعليه فعلى القول المشهور والذي عليه على العمل أنه لا زكاة على الأربع النياق، وأن الحول يبدأ من تمامها خمسا.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(8/157)
من الفتوى رقم 378 تاريخ 26 \ 9 \ 1392هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: إذا كان لإنسان أخت شقيقة متزوجة من إنسان فقير الحال، فهل يجوز لها من زكاة إخوانها شيء؟(8/157)
الجواب: نفقة المرأة واجبة على زوجها، فإذا كان فقيرا فلإخوان زوجته أن يعطوه من زكاة أموالهم لينفق منها على نفسه وزوجته ومن يعول، ولإخوان هذه الزوجة أن يعطوا أختهم من زكاة أموالهم لتنفق منها على نفسها وزوجها الفقير وأولاده، بل هذه الزوجة إذا كان لها مال وجبت فيه الزكاة، فلها أن تعطي زكاة مالها لزوجها لينفق منها على من يعولهم، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(8/158)
فتوى رقم 282 وتاريخ 11 \ 11 \ 1392هـ
الحمد لله وحده،، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسارات المرسلة من أحد السائلين وهي:
السؤال الأول: موظف يوفر من مرتبه شهريا مبلغا متفاوتا من المال، شهر يقل التوفير، وشهر آخر يزيد، ويكون أولها قد مضى عليه الحول، والبعض الآخر لم يمض عليه الحول، ولا يعرف مقدار ما وفره في كل شهر فكيف يزكيه؟
السؤال الثاني: موظف آخر يتسلم راتبه شهريا ويودعه في خزينة لديه - كل ما استلمه - ويصرف من هذه الخزينة يوميا أو أوقاتا متقاربة نفقة بيته ومتطلباته على مبالغ متفاوتة حسب الحاجة، فكيف يكون حول ما يتوفر في الخزينة، وكيف تخرج الزكاة في مثل هذه الحالة، مع أن عملية التوفير كما أسلفناها لم يمض على جميعها الحول.
***
الجواب: لما كان السؤال الأول والثاني في معنى واحد، وكان لهما نظائر رأت(8/158)
اللجنة أن تجيب جوابا شاملا تعميما للفائدة وهو: من ملك نصابا من النقود، ثم ملك تباعا نقودا أخرى في أوقات مختلفة، وكانت غير متولدة من الأولى، ولا ناشئة عنها، بل كانت مستقلة، كالذي يوفره الموظف شهريا من مرتبه وكإرث أو هبة وأجور عقار مثلا، فإن كان حريصا على الاستقصاء في حقه، حريصا على أن لا يدفع من الصدقة لمستحقيها إلا ما وجب لهم في ماله من الزكاة، فعليه أن يجعل لنفسه جدول حساب لكسبه يخص فيه كل مبلغ من أمثال هذه المبالغ بحول يبدأ من يوم ملكه، ويخرج زكاة كل مبلغ لحاله كلما مضى عليه حول من تاريخ امتلاكه إياه.
وإن أراد الراحة وسلك طريق السماحة، وطابت نفسه أن يؤثر جانب الفقراء وغيرهم من مصارف الزكاة على جانب نفسه؛ زكى جميع ما يملكه من النقود حينما يحول الحول على أول نصاب ملكه منها، وهذا أعظم لأجره وأرفع لدرجته وأوفر لراحته وأرعى لحقوق الفقراء والمساكين وسائر مصارف الزكاة، وما زاد فيها أخرجه عما وجب عليه من الزكاة يقصد به التوسعة والإحسان شكرا لله على نعمه وكثرة عطائه، وأملا فيه سبحانه أن يزيده من فضله {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (1) والله الموفق.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 7(8/159)
فتوى رقم 292 وتاريخ 11 \ 12 \ 1392هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل(8/159)
من أحد السائلين وهو:
السؤال: أفتونا عن رجل رئيس عشيرة جمع من عشيرته مائتي ألف ريال عربي بصفة أنه يريد تأسيس جمعية تعاونية للتجارة، وضم معه من عشيرته فوق عشرة أعضاء في الجمعية، واشتغل بالتجارة من هذا المبلغ، ومكث هذا المبلغ عنده أربع سنين ولم يزك منه شيئا وأصر على عدم زكاته، وقال: هو مجموع من أناس كثيرين، فمنهم من دفع خمسة آلاف ريال، ومنهم من دفع ثلاثة آلاف ريال وهكذا دواليك حتى تكون هذا المبلغ، فهل تسقط الزكاة عن هذا المال؟ ومن المسئول عن هذا المبلغ في كل عام؟
***
الجواب: حيث ذكر السائل أن رأس مال هذه الشركة التعاونية مائتا ألف ريال، وأن هذا المبلغ مجموع من أناس كثيرين، فمنهم من دفع خمسة آلاف ريال، ومنهم من دفع ثلاثة آلاف ريال وهكذا دواليك، وأن هذه الجمعية تحت إشراف رئيس العشيرة والأعضاء فوق العشرة الذين اختارهم، وأن هذا المبلغ يشغل بالتجارة، وأن زكاته لم تخرج من أربع سنوات، فبناء على ذلك فمتى بلغ نصيب كل واحد منهم نصابا، ابتدأ حوله من بلوغه النصاب، ونصاب الفضة مائتا درهم، ونصاب الذهب عشرون مثقالا، وما حصل من الربح فحوله حول أصله إذا بلغ نصابا فتجب الزكاة في الأصل وفي ربحه، والمسئول عن إخراج الزكاة هو رئيس الجمعية وأعضاؤها، لأنهم يمثلون جميع المشتركين فيها، وينوبون عنهم في كل ما يتعلق بهذه الجمعية بمقتضى نظامها الذي يتمشى مع الشرع.
لكن إذا كان من أموال هذه الجمعية عقار يؤجر وجبت الزكاة في الأجرة، لا في قيمة المؤجر، ويبدأ حول الأجرة من وقت استحقاقه وإن كان مما تشغله هذه الجمعية عروض تجارة فإنها تقوم عند تمام الحول، وتخرج زكاتها من قيمتها. وإن كان مما يدخل تحت اشتراك هذه الجمعية ممتلكات ثابتة مثل محطات الوقود التي يباع منها البنزين، أو مكائن الكهرباء لإضاءة بلد ما، أو معدات زراعية، فإن هذه الممتلكات لا تجب الزكاة في قيمتها وإنما تجب في أجرتها إن كانت مؤجرة، وفي غلتها إن كانت تستغل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(8/160)
فتوى رقم 379 وتاريخ 26 \ 1 \ 1393هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
***
السؤال: سبالة نخل تقع في المغترة، وفيها ست أضاح، وهي مساقاة عليها، للفلاح ثلاثة أرباع الثمرة، وللموصي الربع، فهل تجب الزكاة في ربع الثمرة التي تخص الموصي أم لا؟ علما بأن نصيب الموصي لا يفي بالموصى به، فلا تستوعب الأضاحي التي أوصى بها الميت إلا سنة بعد سنة؟
والجواب: إذا كان الأمر كما ذكرت، فالزكاة لا تجب في نصيب الموصي لأنه وقف، ومصرفه كله في بر وفعل الخير. والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(8/161)
فتوى رقم 409 تاريخ 11 \ 3 \ 1393هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: لدينا جمعية تعاونية مشروط في نظامها أن يقتطع من صافي(8/161)
أرباحها عشرة في المائة لصرفه في وجوه الخير، وأن مصلحة الزكاة تطالب الجمعية بزكاة أرباحها، ويسأل هل يجب عليها أن تدفع زكاة أرباحها؟ والحال أنها تدفع من الأرباح عشرة في المائة في وجوه الخير، وإذا كان يلزمها ذلك فهل يجب عليها زكاة ما مضى من الأعوام التي لم تدفع زكاتها؟
***
والجواب: هذه الجمعية التعاونية حكمها حكم الشركات التجارية في وجوب الزكاة في أموالها، وما ذكرته في نظامها من اقتطاع عشرة في المائة من صافي أرباحها، لصرفه في وجوه البر لا يسقط عنها الزكاة الواجبة عليها، إذ إن العشرة في المائة المشار إليها هي بمثابة صدقة تطوع، وصدقة التطوع لا تغني عن الزكاة الواجبة؛ لأن الزكاة عبادة واجبة يحتاج أداؤها إلى نية، وهذا المبلغ عشرة في المائة لا يدفع على أنه زكاة، وإنما يدفع على سبيل صدقة التطوع وعليه فإن الواجب يقتضى إخراج زكاة أموال هذه الجمعية وبذلها لولي الأمر حيث طلبها، كما أن الزكاة واجبة في أموالها للسنوات التي لم تدفع زكاتها، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(8/162)
فتوى رقم 412 تاريخ 18 \ 3 \ 1393هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل(8/162)
من أحد السائلين، وهو:
السؤال الأول: زكاة الحبوب فقد اختلفت المقادير من زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهل تخرج على مكيال أهل الزمان المتعارف بينهم؟ فإذا كان بمد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فما قدره اليوم بالكيلو؟
***
الجواب: الأصل في هذا الباب وجوب الزكاة في الحبوب والثمار إذا بلغت نصابا، والنصاب خمسة أوسق، والوسق ستون صاعا، فيكون النصاب بالصاع النبوي ثلاثمائة صاع، ومقدار الصاع النبوي زنة ثمانين ريالا من الفرانسة، وزنة الكيلو من الفرانسة ستة وثلاثون ريالا وخمسة ريالات تقريبا، وبطريقة أخرى: الصاع أربعة أمداد، والمد رطل وثلث رطل، فالصاع النبوي خمسة أرطال وثلث رطل بالرطل الذي وزنه مائة درهم وثمانية وعشرون درهما بالدراهم التي كانت عشرة منها وزن سبعة مثاقيل، وقد ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «فيما دون خمسة أوسق صدقة (1) » ، وحيث ثبت الأصل وتقرر، فإن الآلة التي يستعملها الناس على اختلاف بلدانهم للكيل والوزن تختلف مرجعها كلها إلى هذا الأصل فتطبق عليه، وبالله التوفيق.
***
السؤال الثاني: زكاة العسل كم تساوي؟ أن تكون زكاته اليوم بالكيلو أم بمد أهل إنتاجه؟ وما هو حلها الصحيح؟
***
الجواب: من قال بوجوب زكاة العسل كالحنابلة على ما هو المقدم عندهم وكذلك من وافقهم من أهل العلم، فإن نصابه عندهم عشرة أفراق كل فرق ستون رطلا، قال في المقنع: وفي العسل العشر سواء أخذ من موات أو من ملكه، ونصابه
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1447) ، صحيح مسلم الزكاة (979) ، سنن الترمذي الزكاة (626) ، سنن النسائي الزكاة (2476) ، سنن أبو داود الزكاة (1558) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1793) ، مسند أحمد بن حنبل (3/30) ، موطأ مالك الزكاة (575) ، سنن الدارمي الزكاة (1633) .(8/163)
عشرة أفراق كل فرق ستون رطلا، وفي حاشية المقنع: واحتج أحمد بقول عمر رضي الله عنه، قيل لأحمد: إنهم تطوعوا به، قال: لا، بل أخذ منهم، وقال أيضا وهو قول الزهري لقول عمر رضي الله عنه: في كل عشرة أفراق فرق، رواه الجوزجاني، فلا زكاة في قليله بل يعتبر بالأفراق، انتهى، وعلى هذا فيكون نصابه ستمائة رطل عراقي على التقدير الذي سبق في جواب السؤال الأول، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(8/164)
فتوى رقم 465 وتاريخ 2 \ 5 \ 1393هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد: -
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسارات المرسلة من أحد السائلين وهو:
الأول: لي عقار ولي دخل غير سنوي يؤجر لمدة تسعة أشهر من المدرسين، وعقار مؤجر سنويا، وعندما تصرف الأجرة أحب إخراج ما علي من الزكاة المفروضة، فهل من المؤجر شهريا تدفع أجرته زكاة. .؟
***
والجواب: العقار الذي يؤجر تجب الزكاة في أجرته إذا توفرت شروط وجوب الزكاة، ومنها: بلوغه نصابا، وتمام الحول من حين تملكه، ولا تجب الزكاة في قيمة العقار(8/164)
الذي يؤجر إلا إذا كان صاحبه قد اشتراه فرارا من زكاة قيمته معاملة له بنقيض قصده.
***
الثاني: هل يجوز دفع الزكاة لأصحاب الجنايات والديات والمديونين عندما يصل أحدهم بطلب المعونة أم لا. . .؟
***
والجواب: بين الله تبارك وتعالى مصارف الزكاة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} (1)) ، وقد ذكر منهم الغارمين وهم قسمان: أحدهما الغارم لإصلاح ذات البين، وهو الذي يتوسط بالصلح في حالة ما إذا وقع بين جماعة عظيمة كقبيلتين وأهل قريتين تشاجر في دماء وأموال، ويحدث بسببها الشحناء والعداوة، فيلتزم هذا المتوسط في ذمته مالا عوضا عما بينهم يطفئ الثائرة، فيدفع له من الزكاة ما يكفي وفاء لما تحمله ولو كان غنيا إن لم يدفع من ماله فإن دفع من ماله لم يجز أن يدفع له. . والثاني: إذا تداين في شراء نفسه من كفار أو شراء مباح أو محرم وتلف فإذا كان فقيرا فإنه يعطى من الزكاة وفاء دينه ولو لله.
***
الثالث: كيف أصرف إذا خفي علي مقدار الزكاة في الماضي؟
***
والجواب: معلوم أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وواجب على من وجبت عليه أن يخرجها، فإن كان جازما بمقدراها أخرج، وإن لم يكن جازما فإنه يخرج من ماله مقدارا ينويه زكاة حتى يغلب ظنه أن ما أخرجه يكفي عن الزكاة الواجبة في
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(8/165)
ذمته، والبناء على الظن أصل من أصول الشريعة.
***
الرابع: هل يمكن إذا تصدقت بنقود على محتاج أعتقد أنها من الزكاة أم لا. .؟
***
والجواب: إذا أخرجت شيئا من مالك، وسلمته بيد فقير، ونويت أنه زكاة عن مالك عند الدفع له فإنه يجزئ زكاة.
***
الخامس: إذا أعطيت قرضا لبعض الناس وتعسر عليه الدفع وسامحتهم على نيتي أنها من الزكاة فهل يجوز وتجزئ أم لا. .؟
***
والجواب: إذا وجب لك حق على شخص، فلا يجوز أن تسقطه عنه وتنويه من الزكاة؛ لأن في ذلك وقاية لمالك فقد اتخذت إسقاط هذا المال الذي لم تحصله زكاة عن مالك، وأبقيت الزكاة التي يجب عليك إخراجها ملكا لك، وبالله التوفيق. .، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه. .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(8/166)
من الفتوى رقم 443 تاريخ 16 \ 5 \ 1393هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: هل تفرض الزكاة على من لا يتجر ولا يحرث كمسلم في دول أوروبا يتلقى أجرة عمله يوميا أو غيرها؟
***
الجواب: إذا استلم المستأجر المسلم راتبه اليومي أو الشهري، فلا تجب فيه الزكاة إلا بعد تمام الحول على ما يوفر منه، وبلوغه نصابا، ونصاب الذهب عشرون مثقالا، ونصاب الفضة مائتا درهم ومقدار الواجب فيه ربع العشر. .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(8/167)
من الفتوى رقم 327 تاريخ 21 \ 11 \ 1393هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: لي أخ يملك أموالا كثيرة، وقد جعل أمواله في عمائر ومحلات(8/167)
تجارية وأراضي، وكلها تثمر، ونصحته بإخراج زكاة أصل ماله وثروته، فأخبرني أنه لا يجب عليه إلا زكاة الأجرة إذا حال عليها الحول دون أصل ماله، ولو وضع الأجرة كلما قبضها في عمارة لم تجب عليه الزكاة فيها ولا في أصلها إلا إذا دار الحول على الأجرة قبل أن يضعها في عمارة، ولأخي هذا نظراء يفعلون مثله، فهل يجيز الإسلام مثل هذا الفعل ولا يأثم الفاعل؟ وما العقار الذي لا تجب الزكاة في أصله ولا إدارته حتى يحول عليه الحول؟ وهل له حد يقف عنده، أو يستوي في ذلك القليل والكثير؟
***
الجواب: المال الذي يملكه الإنسان أنواع: فما كان منه نقودا وجبت فيه الزكاة إذا بلغ نصابا، وحال عليه الحول، وما كان أرضا وجبت الزكاة في الحبوب والثمار يوم الحصاد لا في نفس الأرض، وما كان منه أرضا تؤجر أو عمارة تؤجر وجبت الزكاة في أجرتها إذا حال عليها الحول لا في نفس الأرض أو العمارة، وما كان منه أرضا أو عمائر أو عروضا أخرى للتجارة وجبت الزكاة فيه إن حال عليه الحول، وحول الربح فيه حول الأصل إذا كان الأصل نصابا، وما كان منه من بهيمة الأنعام وجبت فيه الزكاة إذا بلغت نصابا وحال عليها الحول. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(8/168)
بيان مذهب أهل السنة في الاستواء
سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت أخيرا على ما نشر في مجلة البلاغ بعددها رقم 637 من إجابة الشيخ أحمد محمود دهلوب على السؤال الآتي: ما تفسير قوله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) ، وجاء في هذه الإجابة جملة نسبها إلى السلف، وهي قوله: "وقال السلف استوى على العرش أي استولى عليه وملكه"، كقولهم:
استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق
وحيث إن هذه النسبة إلى السلف غلط محض. أحببت التنبيه على ذلك لئلا يغتر من يراها فيظنها من قول العلماء المعتبرين، والصواب أن هذا التفسير هو تفسير الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم في نفي الصفات وتعطيل الباري سبحانه وتعالى عما وصف به نفسه من صفات الكمال. وقد أنكر علماء السلف - رحمهم الله - مثل هذا التأويل، وقالوا: القول في الاستواء كالقول في سائر الصفات، وهو إثبات الجميع لله على
__________
(1) سورة الأعراف الآية 54(8/169)
الوجه اللائق به سبحانه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، قال الإمام مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) .
وعلى هذا درج علماء السلف من أهل السنة والجماعة رحمهم الله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الرسالة الحموية، (فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء، وهو عال على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء مثل قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (1) ، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (2) ، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (3) ، {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} (4) ، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ} (5) ، {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (6) ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (7) ، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (8) في سبعة مواضع إلى أن قال إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بالكلفة، وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بالكلفة مثل قصة معراج الرسول إلى ربه، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه، وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار: «فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم (9) » ، وفي الصحيح في حديث الخوارج: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء (10) » إلى أن قال (إلى
__________
(1) سورة فاطر الآية 10
(2) سورة آل عمران الآية 55
(3) سورة الملك الآية 16
(4) سورة الملك الآية 17
(5) سورة النساء الآية 158
(6) سورة السجدة الآية 5
(7) سورة النحل الآية 50
(8) سورة الأعراف الآية 54
(9) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (555) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (632) ، سنن النسائي الصلاة (485) ، مسند أحمد بن حنبل (2/486) ، موطأ مالك النداء للصلاة (413) .
(10) صحيح البخاري المغازي (4351) ، صحيح مسلم الزكاة (1064) ، مسند أحمد بن حنبل (3/5) .(8/170)
أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله مما هو أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية التي تورث علما يقينا من أبلغ العلوم الضرورية؛ أن الرسول المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه على العرش، وأنه فوق السماء، كما فطر الله على ذلك جميع الأمم عربهم وعجمهم في الجاهلية والإسلام إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته، ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين أو ألوفا إلخ) ا. هـ.
وبما ذكرناه يتضح للقراء أن ما نسبه أحمد محمود دهلوب إلى السلف من تفسير الاستواء بالاستيلاء غلط كبير وكذب صريح لا يجوز الالتفات إليه، بل كلام السلف الصالح في ذلك معلوم ومتواتر، وهو ما أوضحه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - من تفسير الاستواء بالعلو فوق العرش، وأن الإيمان به واجب، وأن كيفيته لا يعلمها إلا الله سبحانه، وقد روي هذا المعنى عن أم سلمة - أم المؤمنين - وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك - رحمه الله - وهو الحق الذي لا ريب فيه، وهو قول أهل السنة والجماعة بلا ريب.
وهكذا القول في باقي الصفات من السمع والبصر والرضى والغضب، واليد والقدم والأصابع والكلام والإرادة وغير ذلك. كلها يقال فيها إنها معلومة من حيث اللغة العربية، فالإيمان بها واجب، والكيف مجهول لنا لا يعلمه إلا الله سبحانه مع الإيمان أن صفاته سبحانه كلها كاملة، وأنه سبحانه لا يشبه شيئا من خلقه فليس علمه كعلمنا ولا يده كأيدينا ولا أصابعه كأصابعنا ولا رضاه كرضانا، إلى غير ذلك، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) ، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (3) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (4) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (5) ، وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (6) ، والمعنى: أنه لا أحد يساميه سبحانه، أي يشابهه، وقال عز وجل: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (7) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، والواجب على المؤمن التمسك بما أخبر الله به ورسوله ودرج عليه
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة الإخلاص الآية 1
(3) سورة الإخلاص الآية 2
(4) سورة الإخلاص الآية 3
(5) سورة الإخلاص الآية 4
(6) سورة مريم الآية 65
(7) سورة النحل الآية 74(8/171)
سلف الأمة من الصحابة - رضي الله عنهم - وأتباعهم بإحسان، والحذر من مقالات أهل البدع الذين أعرضوا عن الكتاب والسنة، وحكموا أفكارهم وعقولهم فضلوا وأضلوا، والله المسئول أن يحفظنا وجميع المسلمين من مضلات الفتن، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من نزعات الشيطان واتباع خطواته إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(8/172)
القضاء في الإسلام
وأثر تطبيق السعودية له
في حفظ الحقوق ومكافحة الجريمة
بقلم الشيخ \ عبد الله بن سليمان بن منيع (1)
عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية
والقاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
لا شك أن للقضاء أهميته في حضارة الشعوب، وتقدمها، وأصالة حياتها، وحسن جوارها، وطيب تعايشها الاجتماعي، وهو معيار ذلك والدليل على اعتباره، ذلك أن القضاء ميزان الادعاء ونبراس العدل وملاذ المظلوم والسد المانع لأنواع المظالم والغصوب والتعديات، وبقدر ما يكون للقضاء من هيبة وسلطة ونفاذ في أي مجتمع ما، فإن لذلك المجتمع نصيبه الموازي لذلك القدر من السعادة والرخاء، وتوافر مسالك الحياة الأفضل لكافة أفراده، كما أن له نصيبه من الاحترام والتقدير والثقة والاطمئنان إلى التعامل معه من المجتمعات الأخرى.
ونظرا إلى أن بني الإنسان خلق الله خلقهم تعالى لحكمة أرادها، ونفى الفوارق بينهم في الخلق إلا بالتقوى والعمل الصالح، فمن كان ذا تقى وصلاح ونفع لعباده كان
__________
(1) ورد لكاتب البحث ترجمة في العدد السابق من المجلة، صفحة (290)(8/173)
أفضل من غيره ممن كان دون ذلك، وحيث إن الإنسان مجبول على الظلم والجهل والطمع والأنانية؛ فقد أرسل الله رسله ليبينوا للناس حكمة وجودهم، وضرورة رعايتهم حقوق بني جنسهم من عقيدة ونفس وعقل ومال وعرض وغير ذلك مما يعود على هذه الحقوق الأساسية بالرعاية والعناية والبقاء، وجعل رسله قضاة بين الناس ليحكموا بالعدل، وأن يكون في أحكامهم من أسباب الاقتداء والاهتداء والعدل في القضاء ما يكون طريقا قويما لمن يأتي بعدهم من القضاة، قال الله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (1) ، وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (2) ، والإسلام وهو خلاصة الأديان السماوية، وعنده الكلمة الفصل فيما اختلف فيه أهل الكتاب في الأصول والفروع؛ له عنايته الفائقة بالقضاء، وبضرورة إعطائه السلطة العليا في إحقاق الحق وإزهاق الباطل، ورد المظالم، وفض الخصومات، والقضاء على التنازع.
__________
(1) سورة ص الآية 26
(2) سورة المائدة الآية 49(8/174)
تتمثل عناية الإسلام بالقضاء فيما يلي:
1 - الدقة في اختيار القضاة، وأن يكونوا على جانب كبير من العلم والتقوى والصلاح وصلابة الإيمان بالله وبوعده ووعيده، فضلا عما يجب أن يكونوا عليه من النزاهة والعفة وقوة الشخصية وصلابة الرأي وبعد النظر ودقة الإدراك ورجاحة العقل وجلال المظهر وطهارة المخبر.
2 - التحذير ممن طلب القضاء، وضرورة رفض طلبه حتى لا يسند القضاء إلى من يمكن أن يستغله فيما تمليه عليه عواطفه ومشاعره وهواه، فقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم قوله: «من سأل القضاء وكل إلى نفسه، ومن جبر عليه ينزل عليه ملك يسدده (1) » .
3 - التحذير من ممارسة أعمال القضاء وإبراز خطورة القيام به، ومن ذلك ما روي
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1323) ، سنن أبو داود الأقضية (3578) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2309) ، مسند أحمد بن حنبل (3/118) .(8/174)
عن رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، وقاض علم الحق فجار متعمدا فذلك في النار، وقاض قضى بغير علم واستحيا أن يقول: إني لا أعلم فهو في النار (1) » ، ولهذا كان مجموعة من أهل العلم والتقى والصلاح ينفرون من القضاء، ويجد السلطان مشقة كبيرة في تكليفهم، من ذلك أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استدعى سعيد بن عامر الجمحي، فقال له: إني مستعملك على كذا، فقال له سعيد: لا تفتني، فقال عمر: والله لا أدعك قلدتموها عنقي وتتركوني.
وأراد أبو جعفر المنصور أحد ملوك بني العباس إسناد القضاء إلى الإمام أبي حنيفة فرفض، فحلف عليه الخليفة أن يتولاه، فحلف أبو حنيفة ألا يتولاه، وقال: اتق الله ولا تشرك في أمانتك إلا من يخاف الله، والله ما أنا بمأمون الرضا، فكيف أكون مأمون الغضب، وإني لا أصلح لذلك، فقال له الخليفة: كذبت أنت تصلح.
فقال له أبو حنيفة: أنت حكمت على نفسك، فكيف يحل لك أن تولي قاضيا على أمانتك وهو كذاب؟
ولولا الإطالة المملة لذكرنا العديد من هذه الصور المشرقة الناطقة بجلال القضاء، ومدى أهميته، واستشعار أولي الفضل والعقول والبصائر خطورة مزاولته.
4 - ضرورة إكرام القضاة، وكفالة متطلبات حياتهم العامة والخاصة حتى لا تضطرهم الحاجة إلى الممالأة المفضية إلى الجور في الحكم والقضاء، في هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا (2) » .
5 - كراهة مباشرتهم قضاء حاجاتهم بيعا أو شراء أو نحو ذلك مما يقتضي اختلاط
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1322) ، سنن أبو داود الأقضية (3573) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2315) .
(2) سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2945) .(8/175)
القاضي بأهل الأعمال التجارية أو المهنية ممن يحتمل التجاؤهم إليه في قضائه، فيكون للعواطف والأحاسيس أثرها في الجور في القضاء.
6 - ضرورة أن يكون للقاضي من الأصفياء والأصدقاء من ذوي العلم والتقى والصلاح من يجد لديهم القدرة على بذل النصح والمشورة فيما يستشكله في قضائه، وما يستعصي عليه من حل مشكلاته وفض خصوماته.
7 - ضرورة أن يكون للقاضي صلاحية ما في تأديب من يتجاوز حده عند التقاضي حتى يكون للقاضي ولمجلس القضاء من الهيبة والجلال والتقدير والاحترام ما يكون سببا في إضعاف صوت الباطل وتقوية صوت الحق.
8 - ضرورة أن يكون لمكان التقاضي شكل معين يعطي الضعيف قوة في إبراز حجته، ويحد من غطرسة المبطل فلا يجد مجالا لغمط الناس حقوقهم، فقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم (1) » .
9 - مراعاة أولوية القضايا التي لها صفة الاستعجال والاهتمام الأكثر، كقضايا السجناء والغرباء ونحوهم.
10 - ضرورة عناية القاضي بحفظ مشاعره وعواطفه بين الخصوم، وأن يظهر لهم سواسيتهم في مجلسه ونظره حتى لا يطمع مبطل في باطل، ولا ييئس محق من حقه.
11 - منع القاضي من أن يحكم بعلمه فيما طريقه الإثبات حتى لا تتجه الريبة إليه في قضائه، وليكون حكمه مبنيا على وضوح المستند وقوة الاحتجاج.
12 - منع القاضي من القضاء، وهو في حال من القلق والاضطراب، كأن يكون خائفا أو جائعا أو غاضبا أو في جو غير مناسب للراحة النفسية، حتى لا ينغلق عليه الإدراك ويتعذر عليه الفهم، وفي ذلك التوجيه النبوي الكريم: «لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان (2) » .
__________
(1) سنن أبو داود الأقضية (3588) ، مسند أحمد بن حنبل (4/4) .
(2) صحيح البخاري الأحكام (7158) ، صحيح مسلم الأقضية (1717) ، سنن الترمذي الأحكام (1334) ، سنن النسائي آداب القضاة (5406) ، سنن أبو داود الأقضية (3589) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2316) ، مسند أحمد بن حنبل (5/46) .(8/176)
وفضلا عن ذلك كله فإن الإسلام يعتبر القضاء سلطة عليا لها استقلالها الكامل، فلا سلطان لأحد عليها مهما كان ذلك الأحد.
ولم يكن لتحذير الإسلام من القضاء أثر في تعطيل هذا المرفق العظيم، بل كان له أثره الكبير في القدرة على الانتقاء والاختيار، فمن كان أهلا للقضاء علما وخلقا وتقى وصلاحا ونزاهة، واستجاب لرغبة ولي الأمر في مزاولة القضاء؛ كان معنيا بفضل الله وكرمه بما جاء من النصوص في فضل القضاء والقضاة.
من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعمل بها (2) » ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن اجتهد فأصاب فله أجران (3) » ، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن الإمام العادل ممن يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله (4) » .
ومصادر القضاء في الإسلام تعتمد أول ما تعتمد على أصلين عظيمين هما: كتاب الله وهو القرآن، وسنة رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي أقواله وأفعاله وتقريراته، وفي التحذير والترهيب من الحكم بغيرهما نصوص صريحة منها قول الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (5) ، وقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (6) ، وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (7) ، ومن السنة ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1827) ، سنن النسائي آداب القضاة (5379) ، مسند أحمد بن حنبل (2/160) .
(2) صحيح البخاري العلم (73) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (816) ، سنن ابن ماجه الزهد (4208) ، مسند أحمد بن حنبل (1/432) .
(3) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7352) ، صحيح مسلم الأقضية (1716) ، سنن الترمذي الأحكام (1326) ، سنن النسائي آداب القضاة (5381) ، سنن أبو داود الأقضية (3574) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2314) ، مسند أحمد بن حنبل (4/198) .
(4) صحيح البخاري الأذان (660) ، صحيح مسلم الزكاة (1031) ، سنن الترمذي الزهد (2391) ، سنن النسائي آداب القضاة (5380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، موطأ مالك الجامع (1777) .
(5) سورة النساء الآية 65
(6) سورة المائدة الآية 49
(7) سورة المائدة الآية 44(8/177)
حينما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيا، قال له: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله، ولا في كتاب الله، قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى به رسول الله (1) » .
وهناك مصدران متفرعان عن الأصلين السابقين هما: الإجماع والقياس، أما الإجماع: فالمراد به إجماع علماء المسلمين على الحكم في مسألة ما، ولا شك أن إجماعهم مفترض فيه أن يكون مبنيا على نص من كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم - علمه من علمه، وجهله من جهله، وأما القياس: فوجه الأخذ به أن النصوص متناهية، والقضايا غير متناهية، فليست كل قضية مهيأة لاختصاصها بنص ينص على الحكم فيها، وإنما تقاس الأشباه بالنظائر، وتلحق الجزئيات بكلياتها، فيكون الحكم فيما لا نص فيه بما فيه نص مما هو نظيره ومشابهه، فإذا لم يجد القاضي حكمه في كتاب الله، ولا في سنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يجد للأمة الإسلامية إجماعا في ذلك، وتعذر عليه القياس؛ كان عليه أن يبذل قصارى جهده في الاجتهاد آخذا في تقديره ما لكل قضية من الملابسات والاعتبارات والتقديرات.
ثم إن هناك أمرا ذا أهمية بالغة في المحيط القضائي ألا وهو القرينة، فإن القرينة اعتبارها في الإسلام ذلكم الاعتبار يمثل في تقويتها جانب حاملها من المتخاصمين، فإذا انعدمت البينة، كانت اليمين مشروعة في جانب حاملها إن كان لها من القوة ما تشد به أزر صاحبها.
وللعلامة ابن القيم - رحمه الله - في كتابه "الطرق الحكمية" بحث في القرينة وضرورة اعتبارها والأخذ بها، يجدر بالمهتمين بشئون القضاء الاطلاع عليه، وإعطاؤه ما يستحقه من النظر والدراسة والاعتبار.
وللخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتاب لأحد قضاته يعتبر
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1327) ، سنن أبو داود الأقضية (3592) ، مسند أحمد بن حنبل (5/230) ، سنن الدارمي المقدمة (168) .(8/178)
نبراسا يستضيء به القضاة في أحكامهم، ونظاما قضائيا يجدر بالمهتمين بشئون القضاء إعارته ما يستحقه في الدراسة والتحليل والنظر والاعتبار، وأجد المقام يلح علي في إيراده:
بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، سلام عليك، أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وآس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييئس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت اليوم فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور بنظائرها، واجعل لمن ادعى حقا غائبا، أو بينة أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا وجهت القضاء عليه فإن ذلك أبلغ للعذر وأجلى للغمة، المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد، أو مجربا عليه في شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو نسب.
فإن الله تولى منكم السرائر، ودرأ عنكم بالبينات والأيمان والشبهات، وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم، والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر، ويحسن به الذكر، فمن صحت نيته وأقبل على الناس كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. اهـ.
وقد اعتنى علماء الإسلام بهذا الكتاب القيم الجامع المانع فتناولوه بالشرح والتحليل والاستنباط، وكان من أبرز من تناوله بالشرح المستفيض الإمام العالم العلامة ابن القيم - رحمه الله - فقد أورده في كتاب " أعلام الموقعين "، وشرحه شرحا وافيا أتى فيه على القضاء ومدى أهمية رسالته وخطورة مزاولته، وعلى الصلح ومدى صحته ونفاذه، وعلى(8/179)
البينة وتعريفها وأنها أوسع من أن تكون محصورة في الشهادة أو الإقرار، وعلى الشهادة وضرورة أدائها، والإثم في كتمانها، وأن تكون على حال من الوضوح والجلاء كوضوح الشمس في وسط النهار، وعلى موانع ردها كما أتى على القياس وأقسامه، وأنه ليس في الشريعة الإسلامية في المجالات المدنية والجزئية ما يخرج عن التعليل بحيث لا يكون للقياس مجال في الأخذ به.
والخلاصة أن ابن القيم - رحمه الله - قد شرح هذا الكتاب في أكثر من ألف صفحة من كتابه القيم " أعلام الموقعين " البالغ أربعة أجزاء.
والمملكة العربية السعودية وهي إحدى الدول الإسلامية، ومركز الثقل للإسلام باعتبارها مهبط الوحي، وفيها قبلة المسلمين، ومنها انبعث الإسلام وانتشر في أنحاء المعمورة، يسير القضاء فيها وفق ما تقضي به تعاليم الإسلام.
فمصدر القضاء فيها كتاب الله، وسنة رسوله والإجماع والقياس، فإذا وجد الحكم في قضية ما موضع خلاف بين علماء المسلمين أخذ القاضي السعودي بالراجح من مذهب الإمام أحمد بن حنبل مما يؤيده الدليل، وهو يتمثل فيما يذكره العلامة الشيخ منصور البهوتي في كتابه " كشاف القناع عن متن الإقناع "، و " شرح منتهى الإرادات "، فإن وجد بينهما خلاف في مسألة ما فالمصير إلى ما ذهب إليه في كتابه " شرح منتهى الإرادات "، وفي المملكة ثلاث درجات للتقاضي:(8/180)
الدرجة الأولى: المحكمة العامة، ويصدر الحكم فيها من قاض واحد إلا إذا كانت القضية قتلا أو موجبة لحد السرقة أو الزنا، فيجب أن يصدر الحكم من ثلاثة قضاة على الأقل؛ فإذا لم يكن الحكم جزائيا، وحصلت القناعة به من الخصوم، اكتسب الحكم بالقناعة به القطعية. فإن أبدى الخصوم أو أحدهم الاعتراض على الحكم؛ صار لزاما على قلم المحكمة أن يمكن المعترض على الحكم من الاعتراض بإعطائه صك الحكم ليعيده بعد مدة محدودة ومعه لائحته الاعتراضية. وبعد اطلاع الحاكم على اللائحة الاعتراضية، فإن بدا له منها ما يدعوه إلى إعادة النظر فيما حكم به تعين عليه ذلك، وإن لم ير في اللائحة ما يقتضي منه إعادة النظر تعين عليه بعث(8/180)
كامل ملف القضية بما في ذلك صك الحكم وصورة ضبط جلسات المحاكمة واللائحة الاعتراضية على الحكم إلى محكمة التمييز لمراجعة الحكم والنظر في دعوى بطلانه، أما إن كان الحكم جزائيا فيتعين بعث كامل ملف القضية لمحكمة التمييز لمراجعته سواء حصلت القناعة به أو لم تحصل.(8/181)
الدرجة الثانية: التقاضي بمحكمة التمييز وهي ما تسمى لدى بعض الدول بمحكمة النقص والإبرام، ويختص هذا النوع من درجات التقاضي بمراجعة الحكم الصادر من المحكمة العامة شكلا وموضوعا وعلى ضوء لائحة الاعتراض، ويصدر القرار منها على الحكم بالملاحظة أو التصديق أو النقض من ثلاثة قضاة إلا إذا كان موضوع الحكم قتلا أو حد سرقة أو زنا فيتعين أن يصدر القرار على الحكم من خمسة قضاة، ويعتبر القرار النهائي من محكمة التمييز على أي حكم قرارا قطعيا سواء كان تأييدا أو نقضا إلا إذا كان الحكم بالقتل قصاصا أو حدا أو كان الحكم حدا في سرقة أو زنا وتأيد من محكمة التمييز، فيجب رفع كامل ملف القضية إلى المجلس الأعلى للقضاء لمراجعة الحكم.(8/181)
الدرجة الثالثة: التقاضي بالمجلس الأعلى للقضاء ويختص نظره القضائي بمراجعة الأحكام الصادرة في قضايا القتل حدا أو قصاصا ولقضايا حدود السرقة والزنا ولا يعتبر قراره لتأييد الحكم نهائيا حتى يتأيد من جلالة الملك وفي هذه الحال يجري تنفيذه، وغنى عن البيان القول بأن المملكة العربية السعودية تعيش في حال من الرخاء والاستقرار والأمن على الأموال والأنفس والأعراض، قد لا يوجد اختلاف بين متتبعي عوامل هذه الحياة السعيدة بأن أعظم الأسباب في ذلك تطبيقها الشريعة الإسلامية في قضاها وإدارة شؤونها.
كما أن القضاء في المملكة العربية السعودية مكفول للجميع بلا مقابل يستوي أمام القضاء كل من يتقدم يطلبه سواء كان مواطنا أو غيره وسواء كان على مستوى معين من الوجاهة والاعتبار أو كان غير ذلك، وأذكر مثالا من جملة أمثلة على نزاهة القضاء في المملكة واستقلاله وبعده عن أي مؤثر خارجي فقد تداعى الملك فيصل(8/181)
رحمه الله مع أحد خدمه في عقار لدى محكمة مدينة الطائف وانتهت القضية بالحكم على الملك فيصل بثبوت الدعوى عليه فأمر رحمه الله بإنفاذه.
وفي المملكة العربية السعودية شعبة قضائية تسمى ديوان المظالم يديرها رئيس برتبة وزير وهي مختصة بنظر ما ينشأ من قضايا حقوقية بين الدولة والشخصيات الاعتبارية كالشركات والمؤسسات العامة والخاصة وبالنظر في تطبيق الأحكام الصادرة من المحاكم الأجنبية في البلاد الأخرى مما يقتضي المطالبة بتطبيقه على من حكم عليه به ممن يقيم في المملكة سواء كان مواطنا أو غيره، والمملكة العربية السعودية وإن كانت لم تأخذ بنظام ما يسمى بالنيابة العامة إلا أن اختصاصات النيابة العامة في الغالب ليست مهدورة بل هي موكولة إلى وزارة الداخلية فهي التي تقوم بالتحقيقات الجنائية وهي التي تتقدم لدى القضاء بالادعاء العام وهي صاحبة الاختصاص في الاعتراض على الحكم الصادر في أي قضية أخلاقية أو جنائية أو مخلة بأمن الدولة.
هذه لمحة خاطفة عن القضاء في الإسلام ومدى أهميته وخطورته وعن الوضع القضائي في المملكة العربية السعودية وأثره في استتباب الأمن وحفظ الحقوق ومكافحة الجريمة وتواجد الفرص للحياة الأفضل، أرجو أن يكون فيها ما يغري ذوي العقول السليمة والبصائر النيرة في إعطاء القضاء في الإسلام ما يستحقه من النظر والدراسة والاعتبار فإن العالم اليوم أحوج ما يكون إلى قضاء عادل يحسم النزاع ويعطي الحق لصاحبه والله المستعان.
عبد الله بن سليمان المنيع
القاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة(8/182)
التمسك بالسنة
وأثره في استقامة المسلم
بقلم الشيخ \ صالح بن سعود العلي
مدير المعهد العالي للدعوة الإسلامية بالرياض
من مواليد مدينة حائل سنة 1357هـ
نال الشهادة العالمية من كلية الشريعة بالرياض
نال شهادة الماجستير من المعهد العالي للقضاء سنة 1394هـ
عمل مدرسا في المعاهد العلمية وفي كلية الشريعة
ولا يزال أستاذا مشاركا في الكلية
عمل مديرا للمعهد العالي للدعوة الإسلامية منذ ما يقرب من ثلاث سنوات، ولا يزال.(8/183)
1 - مقدمة عن:
أ- كمال الشريعة. ب- الحث على التمسك بالسنة ونشرها.
2 - معنى السنة في اللغة - معناها في الشرع - العلاقة بين المعنيين.
3 - أمثلة لأنواع السنة من حيث هي قول وفعل وتقرير - اعتبار قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - حجة - اعتبار تقريره حجة - فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - متى يكون حجة وتفصيل القول في هذا.
4 - ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعض الأشياء متى يكون سنة ومتى لا يكون وبسط القول في هذا.
5 - رأي بعض العلماء في ترك بعض المندوبات خوفا من فهم العامة وجوبها ومناقشة هذا الرأي.
6 - بعض المندوبات قد لا يحافظ عليه إلا بعض المبتدعة فهل يجوز هجر هذا المندوب خوفا من التشبه بالمتبدعة.
(1) مقدمة عن:
أ- كمال الشريعة.
ب- الحث على التمسك بالسنة ونشرها.
أ- من الله على هذه الأمة بأن بعث فيها محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسولا ونبيا وجعله خاتم النبيين وأرسله إلى الثقلين الجن والإنس العرب والعجم وأنزل عليه قرآنا عربيا غير ذي عوج ما ترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فيه نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا وحكم ما بيننا من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم.
فكانت شريعته - صلى الله عليه وسلم - أكمل الشرائع ورسالته خاتمة(8/184)
الرسالات يدل على هذا قوله تعالى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (1) وقوله سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (2) وقوله سبحانه في الآية الأخرى من سورة النساء التي بين فيها كثيرا من أحكام الأموال والأبضاع
{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (4) وقد وكل سبحانه وتعالى بيان ما أشكل من التنزيل إلى رسوله الأمين محمد - صلى الله عليه وسلم - كما في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (5) لهذا بلغ عليه السلام رسالة ربه وأدى الأمانة ونصح للأمة وما قبض - صلى الله عليه وسلم - حتى أكمل الله له ولأمته هذا الدين كما أخبر سبحانه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (6) وأخبر عن هذا الكمال المصطفى عليه السلام بقوله: «إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه (7) » رواه الحاكم وقال صحيح (8) الإسناد وقال أبو ذر - رضي الله عنه -: «توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما (9) » ، ولما شك ناس في موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عمه العباس بن عبد المطلب: والله ما مات رسول الله حتى ترك السبيل نهجا واضحا وأحل الحلال وحرم الحرام ونكح وطلق وحارب وسالم وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال يخبط عليها العضاة (10) بمخطبته ويمدد (11) حوضها بيده بأنصب ولا أدأب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكم (12) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 38
(2) سورة النحل الآية 89
(3) سورة النساء الآية 176
(4) سورة التوبة الآية 115
(5) سورة النحل الآية 44
(6) سورة المائدة الآية 3
(7) موطأ مالك الجامع (1661) .
(8) 60 \ 1 الترغيب والترهيب
(9) مسند أحمد بن حنبل (5/153) .
(10) العضاة: وزان كتاب وهي الأشجار ذات الشوك كالطلح
(11) يمدد بمعنى يصلح
(12) انظر جامع العلوم(8/185)
وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: قيل لسلمان: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخراء؟؟ فقال سلمان أجل، «نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو نستنجي باليمين أو أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (1) » رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح (2) .
فمن هذا يتضح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلقى هذا الدين عن ربه جل وعلا كاملا لا يعتريه نقص، شاملا لجميع متطلبات الناس وهذا مقتضى حكمته وعدله لأنه سبحانه لا يطلب من عباده أن يأتمروا بأمر أو ينتهوا عن نهي إلا وقد وضحه لهم أتم توضيح كم قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (3) ، وكما قال سبحانه: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (4) . ب- الحث على السنة والتمسك بها ونشرها:
أوجب الله على هذه الأمة أن تتبع في أمر دينها نبيها محمدا - صلى الله عليه وسلم -: تأتمر بأمره وتنتهج سنته وتنزجر عما عنه نهاها كما قال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (5) يوضح هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم (6) » رواه الشيخان (7) .
وهي حينما تقتدي به في هذا إنما ستفعله لأنه السبيل الوحيد الذي يرضى الله عنه لأن ما يصدر عنه - صلى الله عليه وسلم - إنما هو وحي يوحى من عند الله كما قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (8) {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (9) .
__________
(1) صحيح مسلم الطهارة (262) ، سنن الترمذي الطهارة (16) ، سنن النسائي الطهارة (41) ، سنن أبو داود الطهارة (7) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (316) ، مسند أحمد بن حنبل (5/439) .
(2) الجامع الصحيح 24 \ 1
(3) سورة الإسراء الآية 15
(4) سورة النساء الآية 165
(5) سورة الحشر الآية 7
(6) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الفضائل (1337) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .
(7) الأربعون النووية الحديث التاسع
(8) سورة النجم الآية 3
(9) سورة النجم الآية 4(8/186)
ثم إن اتباعه عليه السلام إنما هو دليل على محبة الله وشرعه والله جعل اتباع نبيه دليلا على محبته جل وعلا كما أخبر سبحانه بقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (1) وقال جل من قائل {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (2) فاتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - دليل محبة الله سبحانه التي لا يحصل إيمان دونها وطاعة هذا الرسول من طاعة الله التي لا ينجو أحد بسواها.
ثم إن نهجه عليه السلام هو النهج المقبول عند الله تعالى كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (3) فالمهتدي به هو الأهدى سبيلا والأصح عملا ومن حاد عن سنته فلا إيمان له وهو من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
والتحكيم فيما يعرض للأمة هو أمر يجب أن يكون الرسول عليه السلام هو القدوة فيه والمحكم كما قال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (4) .
وعند التنازع نحتكم لسنته عليه السلام كما نحتكم إلى كتاب الله حتى يصح إيماننا بالله واليوم الآخر كما أخبر الباري جل وعز {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (5) قال الإمام النووي (6) رحمه الله: قال العلماء: معناه إلى الكتاب والسنة، وقد ظهر من هذا أن الله لا يقبل من عبد عملا ما لم يستن صاحبه فيه برسول الله عليه السلام وقولا كان أو فعلا، فالعمل الذي يمكن أن يقبله الله سبحانه هو ما التزم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31
(2) سورة النساء الآية 80
(3) سورة الأحزاب الآية 21
(4) سورة النساء الآية 65
(5) سورة النساء الآية 59
(6) رياض الصالحين 85(8/187)
فيه صاحبه الإخلاص لله وحده والمتابعة لرسوله عليه السلام الهادي إلى الصراط المستقيم صراط الله القويم كما أخبر سبحانه بقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) {صِرَاطِ اللَّهِ} (2) ، وكما قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (3) .
وأما ما يدل على وجوب التمسك بسنته - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث فأكثر من أن يحصر منها:
1 - قوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة: «دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم لكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (4) » متفق عليه (5) .
2 - وقال عليه السلام من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ (6) » رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح (7) .
3 - وقال عليه السلام فيما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (8) » رواه البخاري.
4 - وعن أبي رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكة يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري: ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه (9) » حديث صحيح (10) رواه الشافعي، قال الشافعي رحمه الله: فيما وصفت من فرض الله على الناس اتباع أمر رسول الله دليل على أن
__________
(1) سورة الشورى الآية 52
(2) سورة الشورى الآية 53
(3) سورة البينة الآية 5
(4) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .
(5) رياض الصالحين 85
(6) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(7) نفس المصدر السابق
(8) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .
(9) سنن الترمذي العلم (2663) ، سنن أبو داود السنة (4605) ، سنن ابن ماجه المقدمة (13) .
(10) نفس المصدر(8/188)
سنة رسول الله إنما قبلت عن الله فمن اتبعها فبكتاب الله تبعها ولا نجد خبرا ألزمه الله خلقه نصا بينا إلا كتابه ثم سنة نبيه (1) .
وبعد: فهذه نصوص من الكتاب والسنة تدل على أن الله لا يقبل أن يعبد إلا بما شرعه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن الخير كل الخير في اجتناب ما عنه نهى وزجر فمن زاد أو استزاد فقد خسر خيري الدنيا والآخرة وعمله عليه مردود كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » رواه مسلم (3) ، فلا مجال بعد هذه النصوص التي تقرع الأسماع لأحد أن يلتمس لنفسه العذر في الابتعاد عن السنة والميل عن هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - يمينا أو شمالا لأنه لا خيار بعد هذه الآيات والأحاديث الصحيحة الصريحة فالأمر إما اهتداء وإما ضلال ولا ثالث لهما.
__________
(1) مقدمة صحيح الترمذي لأحمد شاكر 69 \ 1
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(3) الأربعون النووية حديث 5(8/189)
2 - معنى السنة في اللغة - معناها في الشرع - العلاقة بين المعنيين:
السنة في اللغة:
قال في المصباح المنير: معنى السنة في أصل اللغة الطريقة حسنة كانت أم سيئة، والسنة: السيرة حميدة كانت أم ذميمة.
وقال صاحب المفردات في غريب القرآن: السنن جمع سنة، وسنة الوجه طريقته وسنة النبي طريقته التي كان يتحراها، وسنة الله تعالى قد تقال: لطريقة حكمته وطريقة طاعته نحو قوله سبحانه: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} (1) ، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا} (2) .
__________
(1) سورة الفتح الآية 23
(2) سورة فاطر الآية 43(8/189)
وقال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث:
السنة وما تصرف منها: الأصل فيها الطريقة والسيرة.
من هذا يتضح أن هذه التعاريف متفقة على أن السنة معناها اللغوي هو الطريقة ذميمة أم حسنة.
السنة في الشرع:
* قال ابن الأثير رحمه الله (1) : إذا أطلقت السنة في الشرع فإنما يراد بها ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهى عنه وندب إليه قولا وفعلا مما لم ينطق به الكتاب العزيز ولهذا يقال في أدلة الشرع: الكتاب والسنة، أي القرآن والحديث.
* وقال الشاطبي رحمه الله (2) : يطلق لفظ السنة على ما جاء منقولا عن النبي عليه السلام على الخصوص مما لا ينص عليه في الكتاب العزيز.
ويطلق أيضا في مقابلة البدعة فيقال فلان على سنته إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* وقال الآمدي: (3) السنة في الشرع: قد تطلق على ما كان من العبادات نافلة منقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تطلق على ما صدر من الرسول عليه السلام من الأدلة الشرعية مما ليس بمتلو ولا هو معجز ولا داخل في المعجز ويدخل في ذلك أقوال النبي عليه السلام وأفعاله وتقاريره. اهـ.
__________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر 409 \ 2
(2) الموافقات 2 \ 4 وما بعدها بتصرف
(3) الأحكام 169 \ 1(8/190)
من هذا يظهر أن لفظ السنة إذا أطلق في الاصطلاح فإنه يعني واحدا من ثلاثة معان:
1 - ما يقابل القرآن فيراد به قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله وتقريره.
2 - ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه مما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وواظب عليه.
3 - ما يقابل البدعة، فيراد بها ما وافق القرآن أو حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير. وسواء كانت دلالة القرآن أو الحديث على طلب الفعل مباشرة أو بوسيلة القواعد المأخوذة منها ويدخل في هذا ما عمل عليه الصحابة - رضي الله عنهم- سواء وجد ذلك في الكتاب والسنة أم لا لكونه اتباعا لسنة ثبتت عندهم لم تنقل إلينا أو اجتهادا مجمعا عليه منهم أو من خلفائهم كما فعلوا في جمع المصحف وتدوين الدواوين وما أشبه ذلك، ويدل لهذا الإطلاق قوله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي (1) » الحديث. فالسنة إذا هي مجموع أقواله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته يدل لهذا قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) فإنه شامل لكل ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير، كما يدل أيضا قوله سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (3) والاتباع له - صلى الله عليه وسلم - يتحقق في جميع ما ذكر.
وقال الرسول عليه السلام: «صلوا كما رأيتموني أصلي (4) » رواه (5) البخاري فأمر أن نقتدي بفعله وأن نستن بهديه وهذا يدل على أن الفعل من سنته.
أما تقريره فمثل مشاهدته للأحباش في المسجد وهم يلعبون ولم ينكر عليهم.
__________
(1) انظر الموافقات 58 \ 4، وأصول الفقه للخضري 267، ورسائل الإصلاح لمحمد الخضر حسين 75 \ 3
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) سورة آل عمران الآية 31
(4) صحيح البخاري الأذان (631) .
(5) بلوغ المرام ص38(8/191)
العلاقة بين المعنيين اللغوي والشرعي:
بالنظر إلى تعريف "سنة" لغة وشرعا يتضح أن المعنى اللغوي أعم وأشمل لأن السنة فيه تعني الطريقة حميدة أو ذميمة كما أنها شاملة لطريقة كل شخص سواء كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الناس، في حين أن معناها في الاصطلاح قاصر على ما يقابل القرآن وهو سنته - صلى الله عليه وسلم - التي تعني قوله وفعله وتقريره، أما من عدا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا يطلق على طريقته سنة بهذا المعنى سوى الخلفاء الراشدين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ (1) » .
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(8/192)
3 - أ * أمثلة لأنواع السنة من حيث هي قول وفعل وتقرير.
ب * اعتبار قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - حجة.
ج * اعتبار تقرير الرسول عليه السلام حجة.
د * فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - متى يكون حجة وتفصيل القول في هذا.
أ- 1) مثال قول الرسول عليه السلام: ما رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - «أن النبي عليه السلام قال له رجل أوصني، قال: " لا تغضب فردد مرارا، قال: لا تغضب (1) » ومثاله أيضا ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (2) » .
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - بين شيئا من سنته التي يجب أن يطاع فيها وأن
__________
(1) الأربعون النووية رقم 16 و 34
(2) الأربعون النووية رقم 16 و 34(8/192)
يقتدى به بطريق هو القول بكبح الغضب في الحديث الأول وتغيير المنكر في الحديث الثاني.
2) ومثال فعله - صلى الله عليه وسلم -: ما جاء من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «صلوا كما رأيتموني أصلي (1) » وقوله: «لتأخذوا عني مناسككم (2) » فهذان الحديثان يدلان على أن من صلى كفعله للصلاة أو أخذ نسكه وفق نسك الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو ممتثل له مقتد به يحظى بشرعية عمله ومثاله أيضا قطعه يد السارق من الكوع بيانا لقوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (3) وكتيممه - صلى الله عليه وسلم - حين ضرب الأرض بكفيه ومسح بهما وجهه وظاهر كفيه بيانا لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} (4) الآية.
2) ومثال تقريره ما روى مسلم (5) عن عبد الله بن مفضل - رضي الله عنه - قال: «أصبت جرابا من شحم يوم خيبر قال: فالتزمته فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا قال: فالتفت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبتسما (6) » .
ووجه الدلالة أنه - صلى الله عليه وسلم - تبسم دون إنكار فكان إقرارا منه - صلى الله عليه وسلم - لهذا العمل وهذا يدل على أن الإقرار نوع من أنواع التشريع كالقول تماما.
ومثله: قصة قيافة المدلجي في أسامة بن زيد وأبيه وكذا أكل الضب على مائدته عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) رواه البخاري، انظر: بلوغ المرام \ 38
(2) رواه مسلم، انظر: مختصر صحيح مسلم للمنذري ص 192
(3) سورة المائدة الآية 38
(4) سورة النساء الآية 43
(5) صحيح مسلم كتاب الجهاد.
(6) صحيح البخاري فرض الخمس (3153) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1772) ، سنن النسائي الضحايا (4435) ، سنن أبو داود الجهاد (2702) ، مسند أحمد بن حنبل (5/55) ، سنن الدارمي السير (2500) .(8/193)
ب) دلالة قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن مقتضاه من شرع الله أمر لا إشكال فيه ولا تفصيل كما يقول الشاطبي (1) أي أن الامتثال لقوله - صلى الله عليه وسلم - واضح أنه مطلوب، ولكن المجتهد مطالب بأن ينظر في هذه الأقوال من حيث
__________
(1) الموافقات 58 \ 4 بتصرف.(8/193)
كونها أوامر أو نواهي أو غيرهما وهل الأمر للوجوب أو للندب، أو للإباحة وكذا النهي هل هو للتحريم أو للكراهة، كما ينظر في هذه الأقوال من حيث سلامتها من المعارضة أو وجود معارض يتعين معه الترجيح، أو البحث عنها من حيث كونها ناسخة أو منسوخة إلى آخر ما يستدعيه نظر المجتهد كما هو مبين في كتب الأصول.(8/194)
جـ) تقرير الرسول - صلى الله عليه وسلم - للفعل مع القدرة على إنكاره دليل إباحته وينسخ ما سبقه مما يدل على تحريم الفعل أو يخصصه لأنه لو لم يعتبر كذلك لكان سكوت الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الإنكار تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة. وهو محال، فإن رئي النبي - صلى الله عليه وسلم - مستبشرا من الفعل كان ذلك أدل على إباحته ومثال هذا: تبسمه - صلى الله عليه وسلم - من عبد الله بن المفضل في قصة الجراب التي مرت قريبا، وكما في قصة المدلجي لما دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا أسامة بن زيد وأبوه زيد بن حارثة عليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وقد بدت أقدامهما فقال المدلجي: إن هذه الأقدام بعضها من بعض (1) ، فدخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - على عائشة مسرورا تبرق (2) أسارير وجهه فهذا إقرار منه - صلى الله عليه وسلم - لما رأى فكان العمل به كالعمل بالقول الصادر منه - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) انظر الموافقات 67 \ 4 وما بعدها
(2) لفظ الحديث رواه الجماعة انظر منتقى الأخبار الحديث رقم 3796 (باب الحجة في العمل بالقافة)(8/194)
2 - فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - متى يكون فيه أسوة؟
أفعاله عليه الصلاة والسلام أنواع:
1) ما يفعله على وجه الجبلة والعادة كالقيام والقعود والأكل والشرب ونحوه: فهذا لا نزاع في كونه على الإباحة بالنسبة إليه وإلى أمته وهو غير داخل فيما يطلب فيه التأسي بل كل ما يفيده فعله - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأشياء الإباحة، فإذا جلس أو قام في مكان أو زمان أو ركب نوعا من الدواب أو تناول لونا من(8/194)
الأطعمة أو لبس صنفا من الثياب فلا يقال فيمن لم يفعل ذلك إنه تارك (1) لسنة فعلها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا إذا قام دليل خاص على أن هذا الفعل الجبلي مشروع مثل الأكل باليمين لا بالشمال.
ولهذا ثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان في سفر فرأى قوما ينتابون مكانا يصلون فيه فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا مكان صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ومكان صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا، من أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فليمض (2) .
__________
(1) انظر الأحكام للآمدي 173 \ 1 ورسائل الإصلاح 74 \ 3.
(2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 153 \ 15 وإغاثة اللهفان 204 \ 1(8/195)
2) ما ثبت كونه من الأفعال الخاصة به - صلى الله عليه وسلم - التي لا يشاركه فيها أحد: فلا يدل ذلك على التشريك بيننا وبينه فيه إجماعا وذلك كاختصاصه بوجوب صلاة الضحى والأضحى والوتر والتهجد بالليل والزيادة في النكاح على أربع نسوة والوصال في الصوم إلى غير ذلك من خصائصه (1) - صلى الله عليه وسلم - فليس لأحد من المسلمين أن يقتدي به فيما هو مختص به من أمثال ما ذكر على النحو المطلوب منه - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) انظر الأحكام للآمدي 173 \ 1، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 120 \ 3(8/195)
3) ما عرف كون فعله بيانا لنا: فهذا الفعل منه - صلى الله عليه وسلم - دليل على مشروعية التأسي به كقوله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن فعل الصلاة «صلوا كما رأيتموني أصلي (1) » رواه (2) البخاري وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه (3) » رواه مسلم (4) ، قال هذا - صلى الله عليه وسلم - وهو يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر، فهذا الفعل هو
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (631) .
(2) بلوغ المرام باب الصلاة رقم 59
(3) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) .
(4) نيل الأوطار 74 \ 5(8/195)
بيان لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (1) ولقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (2) الآية.
وكقطعه يد السارق من الكوع بيانا لقوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (3) وحكم الاقتداء بفعله - صلى الله عليه وسلم - في هذا حكمه المبين من وجوب أو استحباب أو إباحة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 110
(2) سورة آل عمران الآية 97
(3) سورة المائدة الآية 38(8/196)
4) ومن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يكن جبليا ولا خاصا به ولا بيانا للقرآن فهذا يبحث في ظروفه:
أ- فإن كان ثمة ما يدل على حكمه في حقه - صلى الله عليه وسلم - من وجوب أو ندب أو إباحة فأمر أمته فيه كأمره - صلى الله عليه وسلم - سواء بسواء إذ الأصل تساوي المكلفين بالأحكام.
ب- أما إن فعل - صلى الله عليه وسلم - أمرا ولم يقم دليل خاص على أنه فعله على سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة: فهذا إما أن يظهر فيه معنى القربة كصلاة ركعتين لم يواظب عليهما فهذا يحمل على أقل مراتب القرب وهو الندب ويكون التأسي به مستحبا.
وإما ألا يظهر فيه معنى القربة كإرساله - صلى الله عليه وسلم - شعر رأسه إلى شحمة الأذن وإرسال ذؤابة العمامة بين كتفيه، فهذا فيه خلاف بين العلماء:
1 - فمنهم من يرى أن فعله - صلى الله عليه وسلم - محمول على الندب نظرا إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - مشرع فالأصل في أفعاله التشريع.
2 - ومنهم من يرى أن هذا الفعل مباح وهو من قبيل العادة لا العبادة فلا(8/196)
يحكم مثلا على من حلق شعر رأسه أو من لم يسدل ذؤابة عمامته أو من لم يلبس عمامة بأنه تارك لسنة (1) .
3 - والذي اختاره هو الرأي الأول القائل بدلالة هذه الأفعال على الندب لعموم الأدلة الواردة في اتباعه - صلى الله عليه وسلم - والاستنان به كقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا} (2) وقوله سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (3) وكقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث العرباض بن سارية المتقدم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين (4) » وهذا فعل فيكون من سنته. وكقول عمر لما قبل الحجر الأسود: ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك، وهذا اقتداء بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيعم موضوع النزاع لعدم الفارق، وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن الرجل يتخذ الشعر فقال: سنة حسنة لو أمكننا اتخذناه (5) والاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأمور هو المتمشي مع الأدلة التي ذكرنا شيئا منها والتي يحمل الأمر فيها على أقل درجات القرب وهو الندب لأنه المتيقن.
__________
(1) انظر رسائل الإصلاح 76 \ 3 ومقاصد الشريعة لعلال الفاسي 181
(2) سورة الأنعام الآية 155
(3) سورة آل عمران الآية 31
(4) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(5) المغني والشرح الكبير 73 \ 1(8/197)
ترك الرسول عليه الصلاة والسلام لبعض الأشياء متى يكون سنة يقتدى به فيها ومتى لا يكون: وتفصيل القول في هذا الموضوع
تروك الرسول - صلى الله عليه وسلم - تختلف أحكامها باختلاف أنواعها كما يتضح من التفصيل الآتي.
1) النوع الأول: أن يكون ترك الرسول الفعل جبلة كما امتنع من أكل الضب فتركه - صلى الله عليه وسلم - أكل الضب أمر جبلي ليس من مواضع التأسي لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال له خالد بن الوليد: «أحرام هو يا رسول الله؟ قال: " لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه "، فما لبث خالد بعد سماع هذا الجواب أن جر إليه الضب فأكله (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري الأطعمة (5391) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1946) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4317) ، سنن أبو داود الأطعمة (3794) ، سنن ابن ماجه الصيد (3241) ، مسند أحمد بن حنبل (4/89) ، موطأ مالك الجامع (1805) ، سنن الدارمي الصيد (2017) .(8/198)
2) النوع الثاني: أن يتركه - صلى الله عليه وسلم -: لتحريم يختص به كما في تركه - صلى الله عليه وسلم - أكل بعض البقول ذوات الريح فهذا ليس التأسي به فيه من السنة لظهور اختصاصه به - صلى الله عليه وسلم - يدل لهذا ما جاء عن جابر بن عبد الله «أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتى بقدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحا فسأل فأخبر بما فيها من البقول فقال: قربوها - إلى بعض أصحابه - فلما رآه كره أكلها. قال: " كل: فإني أناجي من لا تناجي (1) » رواه البخاري (2) .
ووجه الدلالة منه: أنه - صلى الله عليه وسلم -: امتنع من أكل هذه البقول لأنه يناجي جبريل عليه السلام وأمر أصحابه بأكله لعدم المانع فيهم، فدل ذلك على أن هذا الترك ليس موضع تأس به - صلى الله عليه وسلم - لظهور ما يدل على انفراده - صلى الله عليه وسلم - بهذا الترك دون أمته.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (855) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (564) ، سنن أبو داود الأطعمة (3822) .
(2) كتاب الأذان جماعة.(8/198)
2 - ما تركه - صلى الله عليه وسلم - لأمر غير جبلي ولا خاص به:
أ- فإن علم حكم هذا الترك في حقه من حرمة أو كراهة كان الحكم شاملا الأمة لأن الأصل عدم الخصوصية ومثال هذا: تركه - صلى الله عليه وسلم -: الشهادة لمن نحل بعض ولده دون بعض، فإنه قال: «أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال:(8/198)
لا، قال: فأشهد على هذا غيري (1) » رواه مسلم (2) .
ووجه الدلالة منه: أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك الشهادة على هذا التصرف لأنه جور، فدل ذلك على أن مثل هذا الترك منه - صلى الله عليه وسلم - الذي قام الدليل على علته هو مما على الأمة أن تتأسى بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه، فالعلة التي امتنع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أجلها عن الشهادة هي علة لا تخصه بل الأمة تشاركه فيها، فترك الشهادة على مثل هذا مشروع في حق المسلمين كما هو مشروع في حقه - صلى الله عليه وسلم -.
ب- أما إن ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرا ولم يعلم حكم هذا الترك فهذا يدل على عدم الإذن وأقل مراتب عدم الإذن الكراهة فيحمل عليها حتى يقوم الدليل على ما فوقها وهو التحريم.
__________
(1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) ، صحيح مسلم الهبات (1623) ، سنن الترمذي الأحكام (1367) ، سنن النسائي النحل (3681) ، سنن أبو داود البيوع (3542) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2375) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، موطأ مالك الأقضية (1473) .
(2) مختصر صحيح مسلم للمنذري 21 \ 2(8/199)
4) النوع الرابع:
إذا ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر لمانع من الفعل يذكره سببا للترك ثم يزول هذا المانع فإنه يصح النظر بعد ذلك في أمر المتروك ويجري حكمه على ما تقتضيه أصول الشريعة كما ترك - صلى الله عليه وسلم - صلاة القيام في رمضان جماعة وذكر أن المانع من استمراره عليها خوف افتراضها عليهم، ولما انقطع الوحي بانتقاله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى ارتفع المانع من صلاة التراويح جماعة وهو خوف فرضها عليهم فلم يبق في تركها موضع للتأسي ولذلك رجع بها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى الأصل الذي هو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لها في جماعة.(8/199)
5) النوع الخامس: ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرا لم يظهر في عهده ما يقتضي فعله ثم طرأ حال يجعل المصلحة في الفعل: فهذا يرتفع في طلب التأسي ويصبح ذلك الأمر مجالا لنظر المجتهد حتى يلتمس له حكما حسب المصلحة(8/199)
الداعية إلى فعله ومثال هذا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يجمع القرآن في مصحف واحد إذ لم يظهر في عهده ما يدعو إلى هذا الجمع ولكن كثرة من قتل في حروب الردة من القراء أثارت الخوف على القرآن من الضياع ورأى أبو بكر صحة الجمع لهذا المقتضى الذي لم يكن في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائما.(8/200)
6) النوع السادس: ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمور لم تكن وسائلها قد تهيأت ولا الفنون التي يتوقف عليها إنشاؤها قد ظهرت. فهذا الترك ليس مما يتأسى به فيه لأنه لا يخطر على الباب أن نمنع وضع آلات كالساعات التي تعرف بها الأوقات في المساجد أو آلات مكبرة لصوت المؤذن والخطيب ونستند في هذا المنع إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل هذا في مسجده. فهذا لا يعد الآخذ به مخالفا لسنته وإنما يعد مثل هذا العمل من قبيل المسكوت عنه وهو موضع اجتهاد يرى فيه العلماء رأيهم ويلحقونه بالأصل الذي يصح أن يلحق به من أصول الشريعة وقواعدها الكلية (1)
__________
(1) انظر رسائل الإصلاح 76 \ 3 وما بعدها، والموافقات 59 \ 4 وما بعدها.(8/200)
7) النوع السابع: ما نقله الصحابة - رضي الله عنهم - من تركه - صلى الله عليه وسلم - لأمر من الأمور فهذا كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله نوعان وكلاهما سنة، أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله كقوله في شهداء أحد، ولم يغسلهم ولم يصل عليهم وقوله في صلاة العيد: لم يكن أذان ولا إقامة ولا نداء وقوله في جمعه بين الصلاتين: ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما ونظائره.
والثاني: عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد منهم على فعله فحيث لم ينقله واحد منهم البتة ولا حدث به في مجمع أبدا على أنه لم يكن وهذا كتركه التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة وتركه الدعاء بعد(8/200)
الصلاة مستقبلا المأمومين وهم يؤمنون على دعائه دائما بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات.
ومن هنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة فإن تركه - صلى الله عليه وسلم - سنة كما أن فعله سنة فإذا استحببنا فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله ولا فرق (1) .
فمن هذا التقسيم يتضح أن تروك النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض الأمور تختلف باختلاف أنواعها حسب التفصيل السابق، فيجب على طالب العلم الذي من الله عليه بالحرص على السنة والتأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفقه هذا الباب ويتبصر به حتى يعبد الله على بصيرة وحتى لا يقع في بعض المزالق التي وقع فيها بعض الغلاة وحتى لا يضيع في متاهات العباد الذين لم يكن لديهم الفقه في الدين الذي أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «من يرد الله به خيرا يفقه في الدين (2) » متفق عليه (3) لهذا فإن الفقه شرط للعمل، فعمل لا يستند إلى دليل، صاحبه في ضياع نسأل الله العافية.
__________
(1) إعلام الموقعين 389 \ 2 وما بعدها
(2) سنن الترمذي العلم (2645) ، مسند أحمد بن حنبل (1/306) ، سنن الدارمي المقدمة (225) .
(3) رياض الصالحين: باب فضل العلم.(8/201)
5) ترك بعض المندوبات خوفا من فهم العامة أنها واجبة ورأي الإمام مالك ومناقشته:
لا شك أن الخير كل الخير في اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - والسير على نهجه والاقتداء به في أقواله وأفعاله وتقريراته.
يدل لهذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » رواه مسلم وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين (2) » رواه الترمذي وقال حديث حسن (3) صحيح وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من رغب عن سنتي فليس مني (4) » متفق عليه.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(3) الأربعون النووية رقم 5 و 28
(4) بلوغ المرام 120(8/201)
والكلام عن السنة في هذا الموضع إنما هو من جهة أن الأمر قد يكون سنة قولية أو فعلية ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويخشى أن يفهم العامة من المداومة عليه وجوبه فهذا قد حصل فيه خلاف بين العلماء.
يرى الإمام مالك أن بعض المندوبات إذا خيف أن يفهم العامة من المداومة عليها وجوبها يرى أن تركها أفضل من فعلها، وقد بنى رأيه هذا على ما هو معروف عنه من القول بسد الذرائع الموصلة إلى الشرور ووجه ذلك أن الشارع قد ندب إلى أشياء ومعروف أن المندوب هو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه والشارع الحكيم الرحيم لما لم يوجبه أراد ألا يجعل المسلم في حرج من التزام هذا المندوب بل متى قدر عليه وتيسر له فعله أتى به وإلا تركه من غير حرج ولا تبعة ولكن قد يعمد البعض إلى التزام هذه السنة ويستديم عليها استدامة على الواجب فلا يتركها تحت أي ظرف من الظروف، فهذا عمل في حد ذاته طيب يثاب عليه لأنه اقتداء بالسنة وعض عليها بالنواجذ.
غير أن في استمرار المسلم على هذا المندوب بطريقة منتظمة حتى لو اعتل جسمه أو وجد مشقة وعنتا ما يجعل السواد الأعظم من العامة يعتقد وجوب هذا المندوب وأنه بمرتبة الواجب لا المندوب فيحافظون عليه محافظتهم على الواجبات ويتأثرون من تركه. فينشأ من ذلك الضيق والحرج والمشقة على الناس بسبب إيجاب ما ليس واجبا والتزام ما ليس لازما، وفي إيجاب المندوب تجن على الشريعة وتشريع لما لم يأذن به الله وهذا مفسدة أي مفسدة.
فلهذا السبب وهو خوف اعتقاد العامة وجوب بعض المندوبات من جراء المداومة عليها كره بعض العلماء ومنهم مالك هذه المواظبة على السنة وذلك للحيلولة دون فهم العامة ذلك وسدا لهذه الذريعة لأن إيجاب ما لم توجبه الشريعة هو مفسدة يجب منعها وسد الطرق الموصلة إليها.
قال الشاطبي رحمه الله: وكان مالك يكره المجيء إلى بيت المقدس خيفة أن يتخذ ذلك سنة (أي مستديمة) وكان يكره مجيء قباء خوفا من ذلك مع ما(8/202)
جاء في الآثار من الترغيب فيه، ولكن لما خاف العلماء عاقبة ذلك تركوه.
وقال الشاطبي: فهذه أمور مندوب إليها ولكنهم كرهوا فعلها خوفا من البدعة لأن اتخاذها سنة إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها وهذا شأن السنة وإذا جرت مجرى السنن صارت من البدع بلا شك (1) .
والخلاصة: أن ما يخشى من فعله اعتقاد العامة وجوبه راعى فيه بعض الأئمة مفسدة اعتقاد العامة وجوب ما هو مندوب إليه فذهبوا إلى كراهته كما ذهب الإمام مالك إلى كراهة صوم ستة أيام من شوال مع صحة الحديث الوارد في فضلها خشية أن يعتقد العامة وجوبها، قال أبو إسحاق الشاطبي: والذي خشي منه مالك وقع فيه العجم فصاروا يتركون (المسحرين) على عادتهم و (البواقين) وكذلك قال أبو إسحاق المروزي في أصحاب الإمام الشافعي: لا أحب أن يداوم الإمام على مثل أن يقرأ كل يوم جمعة سورة الجمعة ونحوها لئلا يعتقد العامة وجوبه (2) .
رأينا في هذه المسألة:
رغم ما ذكره الإمام الشاطبي عن الإمام مالك - رحمه الله - ومن وافقه من تبرير لكراهة بعض المندوبات فإنني أرى أن هذا رأي غير صائب ويترتب على الأخذ به خطأ كبير لأنه يؤدي إلى ترك بعض السنن التي سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أنه يؤدي إلى إماتة بعض آخر منها ثم إنه قول مبني على الاجتهاد مع وجود النص ومعلوم أنه لا اجتهاد مع النص، فالمندوب إذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الخير في الإتيان به والعصمة من الشرور والمفاسد في اتباعه لا في إماتته وإهماله.
فلو كان ما تخوف منه الإمام مالك متحققا لنبه إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولحذر منه فضلا عن أن يسنه ويندب إليه.
__________
(1) الاعتصام بتصرف 144 \ 1 وما بعدها
(2) رسائل الإصلاح للخضر حسين 80 \ 3(8/203)
أما إذا بلغ الجهل بالناس مبلغا يغلب على الظن إساءتهم فهم النصوص والخلط بين الواجب والمندوب فإن الواجب يقتضي حينئذ أن يهب العلماء والدعاة إلى الله لبيان حكم الله وإيضاح شرائعه وكشف ما قد يسبب اللبس والاشتباه على الناس.
أما أن نستسلم لأفهام السذج من الناس ونخضع الشريعة ونجمد بعض أحكامها تبعا لهذه الأفهام الخاطئة فهذا ما لا يجوز أن نلتفت إليه أو نوليه انتباهنا إلا بطريقة البيان والتوجيه وتصحيح الأخطاء، من ذلك فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين قبل الحجر الأسود: إني أعلم أنك لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك، (1) فقد جمع بين الأخذ بالسنة ودفع ما عساه يخطر في أذهان العامة من اعتضاد فاسد.
وخلاصة الرأي في هذا هو أن الامتناع من بعض السنن سد لذريعة توهم العامة وجوبها هو امتناع عن سنة ورد النص بها فيكون باطلا لأنه اجتهاد حيث لا يجوز الاجتهاد وهو ملغى لا اعتبار له ولا التفات إليه.
__________
(1) متفق عليه، انظر رياض الصالحين، باب الأمر بالمحافظة على السنة(8/204)
6 - بعض المندوبات قد لا يحافظ عليه إلا بعض المبتدعة فهل يجوز هجر هذه السنة خوفا من التشبه بالمبتدعة؟
بعض الأمور يقوم الدليل على أنه مندوب ثم يتهاون فيه الناس ولا يحافظ عليه إلا البعض ممن عرفوا بالابتداع في الدين حتى صار هذا التمسك علامة مميزة لهم وذلك مثل لبس الخاتم باليمين وتسوية القبور وإعفاء اللحى في بعض الأقطار فبعض العلماء رأى ترك هذه السنة خوفا من التشبه بهؤلاء المبتدعة لأن ترك السنة أهون من مشابهة المبتدعة.
ولكن الحق الذي لا مراء فيه هو أن تحي هذه السنة ويعمل بها لثبوتها عنه - صلى الله عليه وسلم - ولأنها من قوله أو فعله لا لأنها من قول مبتدع أو فعل مخرف أما الخوف من مشابهة هؤلاء المبتدعة فلا يعول عليه ولا يلتفت إليه، لأن الحق(8/204)
ضالة المؤمن أنى وجده أخذ به يدل لهذا:
1 - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فأمر بصيامه ولم يمنعه - صلى الله عليه وسلم - من أن يصوم يوما كان اليهود يصومونه لأن هذا الصيام حق في نفسه فلا يضره أن صامه اليهود.
2 - قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة لما أخبره أن إبليس علمه آية الكرسي ليقرأها إذا أوى إلى فراشه: قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «أما إنه قد صدقك وهو كذوب: ذاك شيطان» رواه البخاري (1) .
فالحق يقبل ويؤخذ به مهما كان قائله ولا يضر أن يصدر من غير محق كما صوب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما قاله إبليس لأنه حق وافق الحق.
ولو أن الخوف من مشابهة الضالين ينبغي معه مخالفتهم حتى فيما جاء الشرع به لترتب على هذا مفسدة عظيمة حيث إن البعض من الناس قد يجعل هذا مطردا يتذرع به لترك بعض المشروعات، فمثلا:
لو أن غير أهل السنة لازموا إعفاء لحاهم أو حافظوا على دقة المواعيد أو لازموا النظافة في المأكل والملبس أو تميزوا بالصناعة وإتقانها فإن هذه الأمور ونحوها قد طلبها منا الشارع الرحيم لأن فيها عزنا وخيرنا في الدنيا والآخرة فلا يجوز لمدعي الاحتراز من المسلمين أن يقول: هذه أمور تميز بها غير أهل السنة فلا يجوز أن نحرص عليها خوفا من مشابهة هؤلاء، وهذا زعم واضح البطلان، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.
__________
(1) رياض الصالحين 394 فضل القرآن.(8/205)
هل توجد في القرآن كلمات معربة
بقلم الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
الأستاذ بالجامعة الإسلامية "سابقا" والداعية الإسلامي
بمدينة الدار البيضاء بالمغرب العربي
ولد بسلجماسة " تفيلات " سنة 1311هـ
حصل على الدكتوراه في الأدب من جامعة برلين وعلى درجة أستاذ مساعد، ثم على درجة أستاذ من جامعة بغداد.
كان محاضرا في جامعة " بون " وأستاذا في جامعة بغداد، ثم في جامعة محمد الخامس بالمملكة المغربية، ثم في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
يقوم الآن بالدعوة إلى اتباع الكتاب والسنة في مساجد الدار البيضاء بالمغرب.
مؤلفاته كثيرة، منها: سبيل الرشاد - ستة أجزاء، القاضي العدل في حكم البناء على القبور، أحكام الخلع في الإسلام، الهدية الهادية إلى الطائفة التيجانية، تقويم اللسانين ترجمة محققة لمعاني القرآن الكريم بالإنجليزية، بمشاركة الدكتور محمد محسن خان طبيب الجامعة الإسلامية سابقا.(8/206)
اعلم أن علماء اللغات اتفقوا على أن كل لغة عظيمة تنسب إلى أمة عظيمة، لا بد أن توجد في مفرادتها كلمات وردت عليها من أمة أخرى، لأن الأمة العظيمة لا بد أن تخالف غيرها من الأمم وتتبادل معها المنافع من أغذية وأدوية ومصنوعات وتعلم وتعليم، فلا بد حينئذ من تداخل اللغات، ولا يمكن أن تستقل وتستغني عن جميع الأمم، فلا تستورد منها شيئا ولا تورد عليها شيئا، والقرآن نفسه يثبت هذا، قال تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (1) .
ذكر إبراهيم في دعائه أنه أسكن ذريته يعني إسماعيل وآله بواد غير ذي زرع وهو وادي مكة وإذا لم يكن فيه زرع لم تكن فيه ثمرات، وذكر أثناء دعائه ومناجاته لربه أنه أسكنه وذريته بذلك الوادي المقفر ليقيموا الصلاة، أي يؤدوها قائمة كاملة عند بيت الله ويعبدوه فسأل الله أن يجعل قلوب الناس تهوي إلى ذريته، أي تسرع إليهم شوقا ومحبة وتمدهم بما يحتاجون إليه وأن يرزقهم من الثمرات التي تجلب إليهم من الآفاق والأقطار المختلفة ليشكروا الله على ذلك فيزيدهم، وقد استجاب الله دعوته، فصارت أنواع الحبوب والثمرات والتوابل والأدوات والثياب والتحف والطرائف تجلب إلى مكة من جميع أنحاء المعمورة.
وهذه الأمور التي تجلب إليها كثير منها وضعت أسماؤها في البلدان التي تصدر منها فإذا جاءت مكة يسمونها بالاسم الذي جاءت به فتندمج في لغتهم وتصير جزءا منها والأصل في اللغات أن الأشياء العامة توجد لها أسماء في كل لغة، أما الأشياء الخاصة التي خص الله بها قطرا بعينه فإن الاسم الذي سماها بها أهل ذلك القطر الذي خلقت فيه يبقى في الغالب ملازما.
ولنضرب لذلك مثلا الجوز الهندي والنخيل الذي يثمره وهو "نارجيل" ويسمى بالهندية "ناريل" فهو يجلب إلى غير الهند، دون أن يبدل اسمه، وثمر
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 37(8/207)
"الأنبه" وهو أحسن الفواكه في الهند وقد يكون أحسن الفواكه مطلقا يوجد دائما في مكة شرفها الله في أحقاقه، إذا أكلته تظن أنك أكلته تحت شجرته وهذه الفاكهة موجودة في مصر وتسمى "مانكة" وتنقل إلى بلدان أخرى ويبقى اسمها ملازما لها.
وكذلك ثمر "أناناس" يجلب من إندونيسيا ويبقى اسمه ملازما له وقس على ذلك، وقد قال أحد علماء الفيلولوجيا أعني علماء اللغات أن لغة سكان أستراليا الأصليين لا تزيد مفرادتها على مائة، لأنهم أبعد الناس عن المدينة التي تستلزم مخالطة الأمم الأخرى وتبادل المنافع معها فكلما عظمت اللغة دلت عظمتها وثروتها ووفرة ألفاظها على مخالطة أهلها لشعوب أخرى واقتباسها منهم فهي تعطي وتأخذ.
وقد أخبرنا القرآن أن قريشا كانت لهم رحلتان، رحلة في الشتاء إلى جنوب الجزيرة العربية اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام وكانوا تجارا ينقلون البضائع من بلد إلى بلد، وكانت مكة شرفها الله تعالى مركزا عظيما للتجارة قبل الإسلام فكانت تنقل إليها البضائع من الشرق والغرب والجنوب والشمال فكيف يتصور أن لغة العرب تبقى مغلقة مختوما عليها لا تخرج منها كلمة ولا تدخلها كلمة.
والأئمة الذين أنكروا وجود كلمات غير عربية في القرآن تمسكوا بظاهر قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) ، وقوله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (2) .
وما أشبه ذلك وهم على حق فيما قالوا فليس في القرآن كلمة أعجمية باقية على عجمتها ألبتة، فكل ما في القرآن من الكلمات تنطق به العرب وتفهمه وهو جار على سنن كلامها لا خلاف في ذلك نعلمه، إنما الخلاف في المعرب هل هو موجود في القرآن أم لا؟
__________
(1) سورة يوسف الآية 2
(2) سورة النحل الآية 103(8/208)
قال السيوطي في الإتقان: " قد أفردت في هذا النوع " كتابا سميته (المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب) وأنا ألخص فوائده فأقول: اختلف الأئمة في وقوع المعرب في القرآن فالأكثرون منهم الإمام الشافعي وابن جرير وأبو عبيدة والقاضي أبو بكر وابن فارس على عدم وقوعه فيه لقوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (1) وقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (2) وقد شدد الشافعي النكيرة على القائلين بذلك.
وقال أبو عبيدة: إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين فمن زعم أنه غير العربية فقد أعظم القول ومن زعم أن "لدا" بالنبطية فقد أكبر القول، وقال ابن فارس: لو كان فيه من لغة غير العربية شيئا لتوهم أن العرب: إنما عجزت عن الإتيان بمثله لأنه أتى بلغات لا يعرفونها.
قال محمد تقي الدين الهلالي: إنما يمكن أن يقال ذلك إذا كان في القرآن تراكيب أعجمية، أو كلمات باقية على عجمتها، أما وجود كلمات قد صقلتها العرب بألسنتها، ونحت بها مناحي كلماتها، ودخلت في أوزانها فلا يمكن أحد أن يدعي ذلك فيها، وقد رد القرآن نفسه على من زعم ذلك من أعداء الإسلام الأولين فقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (3) وتحداهم أن يأتوا بسورة مثله بأشد أساليب
__________
(1) سورة يوسف الآية 2
(2) سورة فصلت الآية 44
(3) سورة النحل الآية 103(8/209)
التحدي فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (2) وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (3) ، فأي عدو يسمع مثل هذا التحدي ثم لا يبذل قصارى جهده في معارضة عدوه وإبطال تحديه ولو أن إحدى الدولتين المتعارضتين اليوم وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي صنعت إحداهما سفينة فضائية مثلا وقالت للأخرى إنك لن تستطيعي أن تصنعي مثلها لغضبت الدولة المتحداة ولم يقر لها قرار، حتى تصنع سفينة مماثلة أو فائقة لما صنعته الدولة المتحدية.
وهنا نحن اليوم نرى الصين الشيوعية لما رأت عدوتها الولايات المتحدة متفوقة في صنع القنابل الذرية والهيدروجينية فقد عقلها حنقا وغيظا وهي جادة في صنع هاتين القنبلتين، وزادها غيظا أن أختها في الشيوعية دولة الاتحاد السوفييتي ضنت عليها في المساعدة على التوصل إلى هذا الغرض مع أن الولايات المتحدة لم تتحد الصين إلا بلسان الحال، بل هذه فرنسا قلبت ظهر المجن لحليفتيها الولايات المتحدة وبريطانيا لأنهما لم يشركاها فيما وصلتا إليه من صنع القنبلتين المذكورتين إلا بقدر ضئيل لا يشبع نهمها ولم يكن أحد من العرب المعادين للإسلام يقول إن الذي منعهم من معارضة القرآن هو وجود كلمات فيه غير عربية بل سلموا أنه كله عربي.
أما كتاب السيوطي الذي سماه "المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب " فلا نعلم أنه موجود في هذا الزمان، لكن الملخص الذي نقله منه مؤلفه في كتاب الإتقان لا يدل على أن المؤلف مع غزارة علمه كان أهلا أن يؤلف في هذا الباب لأنه فيما يظهر لم يكن يعرف إلا اللغة العربية والمؤلف في هذا الموضوع يحتاج إلى إلمام باللغات التي قيل إن بعض مفرداتها قد عرب ودخل في القرآن، فإن لم يعلم بها كلها
__________
(1) سورة البقرة الآية 23
(2) سورة البقرة الآية 24
(3) سورة الإسراء الآية 88(8/210)
فلا أقل من الإلمام ببعضها، وأكثر علماء العرب مقصرون في علم اللغات، والذين يعرفون شيئا من اللغات الأخرى منهم قليل، وقد كان عمر - رضي الله عنه - يعرف اللغة العبرانية ويقرأ التوراة ويفهمها. وقال الترمذي في جامعه " باب تعلم السريانية " ثم روى بسنده إلى زيد بن ثابت قال «أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أتعلم كلمات يهود وقال: بأني والله ما آمن يهود على كتابي قال: فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له، قال فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت له وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم، (1) » هذا حديث حسن صحيح.
قال العالم الرباني أستاذي عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري رحمه الله رحمة واسعة في شرح هذا الحديث من كتابه "تحفة الأحوذي في شرح الترمذي " ج3 ص392. ما نصه: قال القاري: قيل فيه دليل على جواز تعلم ما هو حرام في شرعنا بالتوقي والحذر عند الوقوع في الشر كذا ذكر الطيبي في ذيل كلام مظهري وهو غير ظاهر إذ لا يعرف في الشرع تحريم تعلم شيء من اللغات سريانية أو عبرانية أو هندية أو تركية أو فارسية وقال تعالى في سورة الروم "22" {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} (2) أي لغاتهم بل هو من جملة المباحات.
وهذا الحديث رواه أيضا أحمد وأبو داود والبخاري في تاريخه وذكره في صحيحه تعليقا، ومعنى الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الصحابي الجليل كاتب الوحي زيد بن ثابت أن يتعلم كتابة اليهود وفي رواية أمره أن يتعلم السريانية وعلل ذلك بأنه عليه الصلاة والسلام لا يأمن اليهود أن يكتبوا له إذا أراد أن يكتب إليهم أو يقرءوا إليه كتابا يأتيه منهم لئلا يزيدوا فيه وينقصوا ويبدلوا ويغيروا فتعلم زيد ما أمره به النبي - صلى الله عليه وسلم - في نصف شهر وقد يشكل فهم هذا من وجهين: الأول: أن المعهود من اليهود أن يتكلموا أو يكتبوا بالعبرانية لا بالسريانية. الثاني: كيف يستطيع متعلم أن يتعلم لغة أجنبية في نصف شهر، والجواب عن الأول أن اليهود في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - بل في زمان عيسى ابن مريم عليه السلام وقبله
__________
(1) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2715) ، سنن أبو داود العلم (3645) ، مسند أحمد بن حنبل (5/186) .
(2) سورة الروم الآية 22(8/211)
بزمن لم يكونوا يتكلمون ويكتبون بالعبرانية لأنها كانت قد انقرضت ولم يبق منها إلا كلمات قليلة تردد في الصلوات وكان اليهود يكتبون علومهم الدينية والدنيوية ويتخاطبون بالسريانية وإنما جددوا العبرانية وأحيوها وبذلوا جهودا عظيمة في هذا العصر الأخير.
والجواب الثاني: أن زيدا لم يتعلم اللغة في نصف شهر وإنما تعلم الكتابة والقراءة، أما معاني لغة اليهود فكان يفهمها لأنها كانت ولا تزال قريبة جدا من لغة العرب، لأن قبائل من اليهود كانت مساكنة للأنصار، وتعلم اللغات الأجنبية للانتفاع بها في أمور الدين والدنيا أمر محمود إذا لم يكن على حساب لغة القرآن كما يفعل سكان المستعمرات المتهوكون في زمان الاستعمار وبعده فيهملون لغة القرآن وهي لغة دينهم وتاريخهم ومجدهم ويتعلمون لغة المستعمر ويتطاولون بها ويشمخون بأنوفهم ويتراطنون بها بغير ضرورة ويحتقرون شعوبهم لعدم استعمال تلك اللغة الأجنبية فهؤلاء أعضاء مجذومة في جسم الأمة يجب قطعها وهم يعلمون أن جميع الأمم تحتقرهم لأنه لا يكون لهم فضل بتعلمهم تلك اللغة الأجنبية إلا إذا أتقنوا لغتهم وكانوا أعضاء نافعين في أمتهم ولكن.
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
ثم قال: السيوطي قال ابن جرير: ما ورد عن ابن عباس وغيره من تفسير ألفاظ من القرآن أنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطية أو نحو ذلك إنما اتفق فيها توارد اللغات فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد.
قال محمد تقي الدين الهلالي: ابن جرير إمام المفسرين في زمانه وما بعده وقد أخطأ في هذا الرأي إذ لا يمكن أن تتكلم هذه الشعوب المتباينة في أنسابها ولغاتها والمتباعدة في أوطانها على سبيل المصادفة والاتفاق وتوارد الخواطر بتلك الكلمات الكثيرة العدد على أن الذين قالوا في القرآن كلمات كانت في الأصل غير عربية صارت بالاستعمال عربية لم يقل أحد منهم إن الكلمة التي أصلها فارسي قد اتفق فيها الفرس مع العرب والنبط والحبشة بل إذا كانت الكلمة فارسية كالأباريق مثلا لم(8/212)
تكن حبشية ولا نبطية والكلمة التي قيل إنها حبشية "كابلعي" من قوله تعالى: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} (1) لم يقل أنها توافق الفارسية والنبطية وهكذا يقال في سائر الكلمات كما سيأتي في ذكر الكلمات التي نسب أصلها إلى غير العربية، ثم قال السيوطي وقال غيره: بل كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتها بعض مخالطة لسائر الألسنة في أسفارهم فعلقت من لغاتهم ألفاظ غير بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الفصيح ووقع بها البيان وعلى هذا الحد نزل بها القرآن، انتهى.
هذا هو الحق الذي لا ريب فيه ثم ذكر السيوطي آراء أخرى يظهر زيفها عند الامتحان فأعرضت عن نقلها، ثم نقل عن الجويني ما معناه في القرآن وعد ووعيد، والوعد يذكر فيه ثواب المطيعين وما أعد الله لهم في الدارين مما تشتهيه أنفسهم ويرغبهم في فعل الطاعات وذلك يتضمن مآكل ومشارب وثيابا ومساكن طيبة وحورا عينا وفرشا طيبا وغلمانا للخدمة وبعض تلك الأمور وضعته أمم غير عربية وسمته بكلمات من لغاتها فنقله العرب عنها فصار في وصف النعيم والعيشة الراضية لا بد منه وضرب لذلك كلمة "إستبرق" مثلا وهو ما غلظ من ثياب الحرير، والسندس ما رق منها قال البيضاوي: وهو معرب "استبره" بالفارسية فلو أريد لتجنب استعمال كلمة إستبرق، فأما أن يترك ذكر هذا النوع من الثياب أصلا فلا يتم المطلوب وهو وصف العيشة الراضية، وأما أن يعبر عنه بكلمتين أو أكثر كثياب الحرير الغليظة فتفوت البلاغة إذا فلا بد من التعبير به ليكون الكلام بليغا.
ثم قال السيوطي قال أبو عبيد القاسم بن سلام بعد أن حكى هذا القول بالوقوع عن الفقهاء والمنع من أهل العربية، والصواب عندي مذهب فيه تطبيق القولين مجتمعين، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمي كما قال الفقهاء لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية ثم نزل القرآن بها وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال إنها عربية فهو صادق ومن قال عجمية فصادق، ومال إلى هذا القول الجوالقي وابن الجوزي وآخرون، انتهى.
__________
(1) سورة هود الآية 44(8/213)
الكلمات المشتركة
أول القرآن "بسم الله الرحمن الرحيم" اشتملت على أربع كلمات اسم، الله، الرحمن، الرحيم، أبدأ بالكلام على الرحمن قال السيوطي في كتاب الإتقان: ذهب المبرد وثعلب إلى أنه عبراني وأصله بالخاء المعجمة. قال السيوطي في تفسير قوله تعالى في سورة الفرقان "60" {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} (1) الآية. . . لأنهم ما كانوا يطلقونها على الله، أو لأنهم ظنوا أنه أراد به غيرهم ولذلك قالوا، أنسجد لما تأمرنا؟ أي للذي تأمرنا يعني تأمرنا بالسجود له أو لأمرك لنا من غير عرفان، وقيل لأنه كان معربا لم يسمعوه. انتهى.
وهذا يدل على ما قلته سابقا من جهل أكثر علماء العرب باللغات حتى أخوات لغتهم كالعبرانية والسريانية، فالرحمن كلمة عربية خالصة من الرحمة بزيادة الألف والنون كضمآن وعطشان وكانت العرب تعرفه وتفهم معناه وقد سموا به مسيلمة الكذاب فكانوا يدعونه "رحمن اليمامة" ولكنهم لجهلهم لم يكونوا يعلمون أنه من أسماء الله. ومن أعجب العجب قولهم أنه عبراني وأن أصله بالخاء المعجمة، والخاء المعجمة لا وجود لها في العبرانية استقلالا؟ وإنما تنطق الكاف بها إذا جاءت قبلها حركة مثل "ها براخا" البركة ومثل باروخ، أي مبارك، ومعناه بالعبرانية هو معناه بالعربية إلا أنه في اللغة العبرانية صفة عامة لكل من في قلبه رحمة ليس خاصا بالله تعالى، إذا فهو من الكلمات المشتركة بين العبرانية والعربية وهي كثير تعد بالآلاف، وهذه الكلمات الأربع التي في البسملة كلها مشتركة بين اللغتين، فالاسم (شم) بإبدال السين شينا وذلك كثير في العبرانية، والله "إلوهيم" والرحمن "هارحمن" وهذه الكلمات الكثيرة المشتركة بين اللغات السامية هي أصيلة في كل واحدة منها لا يقال إن إحداهن أخذتها من الأخرى وهذا هو الشأن في كل مجموعة من اللغات ترجع إلى أصل واحد كاللغات اللاتينية كالإيطالية والأسبانية والفرنسية والرومانية والبرتكالية، ومجموعة اللغات الجرمانية كالألمانية والهولاندية والفلمنكية والسويدية والنرويجية والدانمركية.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 60(8/214)
لفظ الجلالة" الله " هل هو مشتق أو مرتجل؟
ومن ذلك المعركة الكبيرة التي خاضها علماء العربية في لفظ الجلالة "الله" أهو مرتجل؟ أم مشتق؟ وإن كان مشتقا فهل اشتقاقه من "أله" أو من وله، أو من "لاه"؟ وما هو أصله على كل من هذه الأوجه؟ وماذا جرى عليه من الحذف والإدغام حتى بلغ صورته التي هو عليها؟ ومن تعلم شيئا من اللغات السامية أخوات اللغة العربية بل بناتها عند المحققين لا ينقضي عجبه من الخائضين في تلك المعركة ويرى جهودهم ضائعة ويحكم يقينا أن الاسم الكريم مرتجل بلا مرية وهو بعيد كل البعد من الاشتقاق، فإنه ثابت بهذا اللفظ في جميع اللغات السامية، ففي السريانية "ألاها" والشرقيون منهم ينطقون به "ألاه" وهو كذلك في الأشورية "ألاه" بفتح الهمزة في اللغات الثلاثة وبالعبرانية "إلوهيم". ولا تختلف الشعوب السامية فيما أعلم في هذا الاسم الكريم وكذلك في مجموعة اللغات اللاتينية وفي مجموعة اللغات الجرمانية في الاسم الكريم عندهم واحد مهما اختلفت لغاتهم في الكلمات الأخرى لا تختلف فيها.(8/215)
مثال يدل على تقارب اللغتين العربية والعبرانية
جاء في ترجمة يوسف روفلين للقرآن الكريم بالعبرانية في أول سورة الصف ما نصه مع استبدال الحروف العبرانية بحروف عربية: "با را شت ها معرخا" سمرة المعركة "بشم الوهيم ها رحمن وهاد حوم" "يشبح يات الوهيم كل أشر بشاميم" "وخل أشر يا آرص وهو هكبور واهلحخام هما أستيم لا ماتومرووات أشر لو تعسوا". بسم الله الرحمن الرحيم {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} (2) .
__________
(1) سورة الصف الآية 1
(2) سورة الصف الآية 2(8/215)
فأنت ترى أن الألفاظ كلها مشتركة من أول البسملة إلى قوله تعالى "لم" إلا أن لفظ سبح "أبدلت سينه شينا وحل المضارع محل الماضي" وهذا الفعل في العبرانية متعد بنفسه وكذلك في العربية قال تعالى في سورة "ق" (40) {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} (1) وإلا ترجمة "ما" الموصولة بأشر وزيادة "كل" لأن الترجمة إنما هي تفسير وإبدال سين السماوات شينا وجمعها بالياء والميم واستعمال باء الجر في موضع "في" وهو جائز في العربية قال تعالى في سورة الصافات (137-138) {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} (2) {وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (3) وإبدال ضاد الأرض صادا، وإبدال العزيز بالجبار "هكبور" وهما متقاربان في المعنى وإبدال الحكيم "هاحاخام" وهما شيء واحد إلا أن الكاف أبدلت خاء.
وترجمة "يا أيها الذين آمنوا" هماءنيميم يعني المؤمنين، وترجمة "لم" بـ "لاما" وتقولون بـ "تؤمرو" وترجمة "لا" بـ "لو" وهما شيء واحد بإمالة الألف إلى الواو، وترجمة "تفعلون" بـ "تعسوا" الواو في تؤمروا، وتعسو "واو" الجماعة وحذفت النون فيهما بلا ناصب ولا جازم كما تحذف في العاميات العربية وهذه النون هي نون الرفع وهي ثابتة في التوراة وفي مواضع تفوت الحصر وليس كما قال بعض المستشرقين في خمسة مواضع فقط.
__________
(1) سورة ق الآية 40
(2) سورة الصافات الآية 137
(3) سورة الصافات الآية 138(8/216)
أمثلة من الكلمات التي قيل إنها وقعت في القرآن من غير العربية
1 - أباريق: قال السيوطي في الإتقان حكى الثعالبي في فقه اللغة أنها فارسية، وقال الجوالقي الإبريق فارسي معرب ومعناه طريق الماء أو صب الماء على هينة.
قال في لسان العرب: والإبريق إناء وجمعه أباريق فارسي معرب، قال ابن بري: شاهده قول عدي بن زيد:
ودعا بالصبوح يوما فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
وقال كراع هو الكوز، وقال أبو حنيفة مرة هو الكوز وقال مرة هو مثل(8/216)
الكوز، وهو في كل ذلك فارسي معرب وفي التنزيل {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} (1) {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} (2) وأنشد أبو حنيفة لشبرمة الضبي:
كأن أباريق الشمول عشية ... أوز بأعلى الطف عوج الحناجر
وقال الفيروزآبادي في القاموس الإبريق معرف "أبرى" جمع أباريق انتهى.
قال بعض العلماء هو مركب من كلمتين "آب" وهو الماء و" راه " وهو الطريقة، وقيل مركب من "آب" وهو الماء و"ريخش" وهو الصب على مهل قاله آرثر جفري في كتابه الألفاظ الأجنبية في القرآن.
__________
(1) سورة الواقعة الآية 17
(2) سورة الواقعة الآية 18(8/217)
2 - الآب:
وقال السيوطي "آب" قال بعضهم وهو الحشيش بلغة أهل الغرب حكاه شيدلة انتهى.
ونقله عنه جفري وفسر لغة أهل الغرب بالبربرية، أقول وهذا من أعجب العجب ولا نعلم أن العرب كانت لهم علاقة بالبربر قبل الإسلام حتى تقتبس العربية من لغتهم ثم إن هذه الكلمة يبعد كل البعد أن تكون بربرية لأنها لا تشبه الكلمات البربرية وإنما تشبه العربية والسريانية والعبرانية وقال جفري: إنه مأخوذ من "أبا" الأرامية ومعناه الخضرة وقال في لسان العرب: الأب الكلاء، وعبر بعضهم عنه أنه المرعى، وقال الزجاج: الأب، جميع الكلاء الذي تعتلفه الماشية، وفي التنزيل العزيز (فاكهة وأبا) قال أبو حنيفة: سمى الله تعالى المرعى كله أبا، قال الفراء: الأب ما تأكله الأنعام، وقال مجاهد: الفاكهة ما أكله الناس، والأب ما أكلت الأنعام، فالأب من المرعى للدواب كالفاكهة للإنسان.
قال ثعلب: الأب كل ما أخرجت الأرض من النبات، وقال عطاء: كل شيء ينبت على وجه الأرض فهو الأب.
وفي حديث: أن عمر بن الخطاب قرأ قوله عز وجل {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} (1) وقال: فما الأب؟ ثم قال ما كلفنا وما أمرنا بهذا انتهى.
__________
(1) سورة عبس الآية 31(8/217)
وقال ابن كثير عن ابن جرير بسنده إلى أنس قال قرأ عمر بن الخطاب {عَبَسَ وَتَوَلَّى} (1) فلما أتى هذه الآية " وفاكهة أبا " قال عرفنا الفاكهة وما الأب؟ وقال لعمرك يا ابن الخطاب فإن هذا لهو التكلف، فهو إسناد صحيح رواه غير واحد عن أنس به. وهذا محمود على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم أنه من نبات الأرض لقوله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} (2) {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} (3) {وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا} (4) {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} (5) {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} (6)
__________
(1) سورة عبس الآية 1
(2) سورة عبس الآية 27
(3) سورة عبس الآية 28
(4) سورة عبس الآية 29
(5) سورة عبس الآية 30
(6) سورة عبس الآية 31(8/218)
3 - ابلعي:
قال السيوطي في الإتقان أخرج ابن حاتم عن وهب بن منبه في قوله تعالى "هود- 44" {ابْلَعِي مَاءَكِ} (1) قال بالحبشية: ازدرديه، وأخرج أبو الشيخ من طريق جعفر بن محمد عند أبيه قال: اشربي بلغة الهند انتهى.
وإن تعجب فعجب قولهم "ابلعي" بلغة أهل الهند وهذا القول إلى الهزل أقرب منه إلى الجد وقائله ليس أهلا أن يؤخذ عنه العلم وإنما هو يهرف بما لا يعرف وأهل الهند أجناس كثيرة لهم مئات من اللغات لا تكاد تسير مسافة يوم إلا وجدت جنسا آخر له لغة أخرى، وفي زماننا هذا نرى الدماء تسفك بينهم بسبب اللغات فلا يرضى جنس أن تكون لغة الدولة لغة أخرى غير لغته، وفي زمن الاستعمار لم تكن في الهند لغة يستطيع المسافر أن يتكلم بها ويجد من يفهم كلامه في جميع أنحاء الهند، إلا لغتين أحدهما الإنجليزية وهي لغة الدولة الحاكمة، والثانية لغة المسلمين وهي لغة أوردو على أن "بلع" كلمة عربية سامية أصيلة عريقة في عروبتها وساميتها وترفع راية اللغات السامية وهي حرف العين.
ومن المعلوم عند علماء اللغات أن العين والحاء لا توجدان إلا في اللغات السامية فإن وجدت إحداهما في كلمة من لغة غير سامية فتلك الكلمة طارئة واردة على تلك اللغة وبهذا يستدل الفيلولوجيون على أن البربر من الشعوب السامية وأنهم خرجوا من جزيرة العرب قبل خروج البابليين والأشوريين، والكنعانيين، والفينيقيين كما هو مبين في موضعه ونحن نرى إخواننا عامة المسلمين من أهل الهند يبذلون جهودهم
__________
(1) سورة هود الآية 44(8/218)
في النطق بقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1)
فلا يتمون النطق بالعينين حتى تغفر ذنوبهم من مشقة النطق بهما. ولذلك نرى السيوطي في كتاب الإتقان كحاطب ليل وليس تحقيق ولا إتقان وهذا شأنه في علوم المنقول، أما في علوم المعقول كعلوم العربية فهو فارس لا يشق له غبار وقد تحامل عليه الحافظ السخاوي في كتابه "الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع" فالله يغفر لهما جميعا.
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5(8/219)
4 - (أخلد)
قال السيوطي في الإتقان: قال الواسطي في الإرشاد: أخلد إلى الأرض ركن بالعبرانية انتهى.
أقول: هذا القول لا يقوله إلا جاهل باللغات السامية فإن أخلد وخلد موجودتان في اللغتين كلتيهما ومتفقتان في معانيهما في الجملة فمن قال إنهما عبريتان وليستا عربيتين فقد قفا ما لا علم له به ومن قال العكس فهو مثله، وإنما توجد بالعرض في حرف الكاف إذا جاءت بعد حركة، ولم نر أحدا من علماء اللغة العربية أشار إلى أن (أخلد) عبرانية كما ادعى هذا المدعي.
قال في لسان العرب: وخلد إلى الأرض وأخلد أقام فيها وفي التنزيل العزيز {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (1) أي ركن إليها وسكن وأخلد إلى الأرض وإلى فلان، أي ركن إليه ومال إليه ويرضى به، ويقال خلد إلى الأرض بغير ألف وهي قليلة انتهى.
وقال البيضاوي في تفسيره {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} (2) مال إلى الدنيا أو إلى السفالة (واتبع هواه) في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات انتهى.
5 - الأرائك:
قال السيوطي في الإتقان حكى ابن الجوزي في فنون الأفنان أنها السرر بالحبشة انتهى.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 176
(2) سورة الأعراف الآية 176(8/219)
قال الراغب: الأريكة حجلة على سرير جمعها أرائك وتسميتها بذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك وهو شجر أو لكونها مكان للعامة من قولهم أراك بالمكان أروكا وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ثم تجوز به في غيره من الإقامات، اهـ.
وقال في لسان العرب: والأريكة سرير في حجلة والجمع أريك وأرائك، وفي التنزيل {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} (1) قال المفسرون: الأرائك السرر في الحجال وقال الزجاج: الأرائك الفرش في الحجال وقيل: هي الأسرة وهي في الحقيقة الفرش كانت في الحجال أو في غير الحجال وقيل: الأريكة سرير منجد مزين في قبة أو بيت فإذا لم يكن فيه سرير فهو حجلة، وفي الحديث: «ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكة فيقول بيننا وبينكم كتاب الله (2) » ، الأريكة السرير في حجلة من دونه ستر ولا يسمى منفردا أريكة، انتهى.
قال في اللسان: والحجلة مثل القبة وحجلة العروس معروفة وهي بيت يزين بالثياب والأسرة والستور فقد رأيت أن الأرائك كلمة عربية خالصة وبطل ما ادعاه السيوطي ومن نقل عنه.
__________
(1) سورة المطففين الآية 23
(2) سنن الترمذي العلم (2664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (12) ، سنن الدارمي المقدمة (586) .(8/220)
6 - (أسباط) قال السيوطي في الإتقان حكى أبو الليث في تفسيره أنها بلغتهم كالقبائل بلغة العرب انتهى.
وفي هذا الكلام شيء ساقط لأن الضمير في لغتهم لم يذكر ما يعود عليه وهذا الساقط يحتمل أن يكون يدل على بني إسرائيل وكلام الجفري يؤيد هذا الاحتمال وهذا نص ترجمته العربية.
اضطر أبو الليث أن يعترف أنه أي السبط لفظ عبراني مستعار، قال السيوطي في الإتقان وقد أطال جفري البحث في هذا اللفظ وادعى أنه لم يستعمل في كلام العرب قبل استعماله في القرآن وربما يكون أول من استعمله محمد.(8/220)
ونحن نقول لجفري وأمثاله من الذين أعمى التعصب بصائرهم وأفقدهم صوابهم أن الله الذي أنزل التوراة والإنجيل - اللذين تؤمن بهما - هو الذي أنزل القرآن على عبده ورسوله محمد بن عبد الله خاتم النبيين على رغم أنفك ولا ضير على القرآن أن يوجد فيه لفظ شاع استعماله في العبرانية لأن هاتين اللغتين نشأتا من أصل واحد وإذا جاز أن يكون في القرآن ألفاظ هي في الأصل فارسية مع أن لغة الفرس بعيدة من لغة العرب فما المانع أن توجد فيه ألفاظ عبرانية وسريانية؟
وإذا اعتبرنا السبط اسما لقبيلة من قبائل بني إسرائيل فالتعبير به طبيعي وهو أولى من التعبير عنه بالقبيلة لأنه صار شبيها بالأعلام التي يجب ذكرها بلفظها.
قال في لسان العرب والسبط من اليهود كالقبيلة من العرب وهم الذين يرجعون إلى أب واحد، سمي سبطا ليفرق بين ولد إسماعيل وولد إسحاق وجمعه أسباط وقوله عز وجل: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} (1) ليس أسباطا بتمييز لأن المميز إنما يكون واحدا لكنه بدل من قوله (اثنتي عشرة) كأنه قال جعلناهم أسباطا والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب انتهى.
وأصله بالعبرانية (شبط على وزن إبل ومعناه القضيب والعصا والقبيلة.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 160(8/221)
7 - إستبرق
قال السيوطي في الإتقان أخرج ابن أبي حاتم أنه الديباج بلغة العجم. انتهى.
وقال البيضاوي في قوله تعالى في سورة الدخان (53) {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} (1) السندس ما رق من الحرير والإستبرق ما غلظ منه معرب استبره قال جفري: وهذا من الألفاظ القليلة التي اعترف المسلمون أنها مأخوذة من الفارسية وعزاه السيوطي في الإتقان وفي المزهر حكاه فيه الأصمعي وإلى السجستاني في غريب القرآن وإلى الجوهري في الصحاح وإلى كتاب الرسالة للكندي وإلى ابن الأثير في النهاية، قال وبعضهم يقول إنه لفظ عربي مأخوذ من البرق، انتهى.
__________
(1) سورة الدخان الآية 53(8/221)
8 - السندس
قال في القاموس ضرب من رقيق الديباج معرب بلا خلاف، وقال في لسان العرب: السندس البزيون، وفي الحديث «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى عمر بجبة سندس (1) » قال المفسرون في السندس أنه رقيق الديباج ورفيعه وفي تفسير الإستبرق أنه غليظ الديباج ولم يختلفوا فيه، الليث: السندس ضرب من البزيون يتخذ من المرتزى ولم يختلف أهل اللغة فيهما أنهما معربان، انتهى.
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2072) ، مسند أحمد بن حنبل (3/147) .(8/222)
9 - أسفار
قال السيوطي في الإتقان قال الواسطي في الإرشاد: هي الكتب بالسريانية وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: هي الكتب بالنبطية، انتهى.
قال محمد تقي الدين الهلالي: يالله يا للعجب؟ كيف يقال أن الأسفار جمع سفر بكسر فسكون ليس بعربي وإنما هو سرياني أو نبطي، لا جرم لا يقول ذلك إلا جاهل باللغات السامية، والحق الذي لا شك فيه أن السفر كلمة عربية خالصة وهي في الوقت نفسه عبرانية وسريانية ونبطية فهي من الألفاظ المشتركة بين اللغات السامية ليست واحدة منها أولى بها من غيرها.(8/222)
التغيير في حياة الأمم
وعوامل الثبات والاهتزاز
بقلم الدكتور \ أحمد محمد العسال
الأستاذ بالمعهد العالي للدعوة الإسلامية بالرياض
حصل على الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية من جامعة كامبرج سنة 1968م.
حصل على دبلوم الدراسات العليا في القانون من معهد الدراسات العربية العالمية بالقاهرة سنة 1959م.
تلقى تعليمه قبل ذلك بثانوية طنطا، ثم بكلية الشريعة بجامعة الأزهر.(8/223)
معنى التغيير:
قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: التغيير يقال على وجهين: أحدهما لتغيير صورة الشيء دون ذاته، يقال: غيرت داري إذا بنيتها بناء غير الذي كان. والثاني لتبديله بغيره نحو: غيرت غلامي ودابتي إذا أبدلتهما بغيرهما نحو قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) .
وقال في اللسان: (وتغير الشيء عن حاله: تحول، وغيره حوله وبدله كأنه جعله غير ما كان وفي التنزيل العزيز {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2) قال ثعلب: معناه حتى يبدلوا ما أمرهم الله.
والغير الاسم من التغيير، وأنشد عن اللحياني قوله:
إذ أنا مغلوب قليل الغير ... . . . . . . . . .
قال: ولا يقال إلا غيرت، وذهب اللحياني إلى أن الغير ليس بمصدر، إذ ليس له فعل ثلاثي غير مزيد، وغير عليه الأمر: حوله. وتغايرت الأشياء اختلفت، والمغير الذي يغير على بعير أداته ليخفف عنه ويريحه. . .
وغير الدهر: أحواله المتغيرة: وورد في حديث الاستسقاء «من يكفر بالله يلق الغير» أي تغير الحال وانتقالها من الصلاح إلى الفساد.
والمتأمل فيما أورده الراغب واللسان يجد الكلمة تأتي لثلاثة معان:
أحدها: تغيير صورة الشيء دون ذاته، وثانيها: تبديله بغيره وهو معنى تحويله وجعله غير ما كان، وثالثها: التخفيف وإصلاح شأن الشيء كما يخفف صاحب البعير عن بعيره من رحله ويصلح من شأنه، وبحثنا سيكون في التغيير بمعنى
__________
(1) سورة الرعد الآية 11
(2) سورة الأنفال الآية 53(8/224)
التبديل، والذي وردت الآيتان القرآنيتان فيه، والذي استشهد كل من اللسان والمفردات بهما في توضيح المراد من التبديل، ذلك أننا نريد أن نكتشف عوامل الاهتزاز والضعف التي تودي ببنيان الأمة وتوهنها وتجعلها مستحقة لعقوبة الله ونقمته، ونريد أيضا أن نكتشف عوامل القوة والثبات التي تورث الأمة العزة والقوة والطمأنينة والأمن وتجعلها مستحقة لخلافه الله في الأرض على نحو ما وعد الله أسلافنا ووعدنا في قوله المحكم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) . لقد قص الله علينا في محكم كتابه قصص أنبيائه ورسله وما حدث لهم مع أممهم وأقوامهم ليبين لنا سننه ونواميسه، وليكون هذا القصص لنا عبرة نتعلم منها، ودروسا نعيها ونستفيد منها لما يحدث في حياتنا وينزل بنا، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2) .
وجعل أيضا في حركة الزمن وتدافع الأمم وصراعاتها ومداولة النصر والهزيمة بينها عبرة تؤخذ، وامتحانا وابتلاء يعرف به الصادقون من غيرهم، وتعرف به سنن الخير والصلاح وسنن النصر والتمكين، وأسباب الهزيمة والفشل، يقول الله تعالى في نهاية قصة سيدنا داود وما حدث له من نصر على جالوت: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (3) {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (4) .
__________
(1) سورة النور الآية 55
(2) سورة يوسف الآية 111
(3) سورة البقرة الآية 250
(4) سورة البقرة الآية 251(8/225)
ويقول الله تعالى في غزوة أحد وما حدث من نصر في البداية ثم هزيمة سببها المتعجلون بجمع الغنائم وتركهم أماكنهم: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (1) ، {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 140
(2) سورة آل عمران الآية 152(8/226)
بين السنن الكونية والسنن الاجتماعية:
لقد خلق الله عز وجل هذا الكون بالحق وجعله محكم الصنع منضبط القوانين لا ترى فيه خللا ولا اضطرابا، يقول سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} (1) {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} (2) ويقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (3) .
وهكذا فإنه ما من شيء في بنيان الكون وتركيب العالم والحياة، يخضع للصدفة من أصغر شيء فيه يغور في الطوايا التي لا تراها العيون: نيوترونات، وبروتونات، وإلكترونات، وجينات وكرومسومات، وحتى السدم والمجموعات الشمسية الهائلة والمجرات المنتشرة عبر مساحات لا يحيط بها خيال إنسان!!
كل شيء يجد نفسه مضبوطا ضمن إرادة الله وعلمه وتدبيره للخلق والصيرورة
__________
(1) سورة الملك الآية 3
(2) سورة الملك الآية 4
(3) سورة القمر الآية 49(8/226)
والمصير إنها القدرة الإلهية التي تحكم سنن الكون والحياة فلا تند ولا تطغى (1) يقول الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} (2) {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (3) {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (4) {لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (5) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تتحدث عن الإبداع والانضباط والتي اكتشف العلم شيئا منها فعاد مقرا بالعجز مسلما بالقدرة المهيمنة الشاملة. . .، وإذا كان الأمر هكذا بالنسبة للكون وسننه ونظامه بهذا الوضوح والدقة، فهل هو كذلك بالنسبة لسنن الله في الحياة الاجتماعية؟ نعم: فإن السنن الكونية وسنن الله في الحياة البشرية متعانقتان مطردتان لا تتخلفان ولا تتوقفان، والقرآن يكرر هذه الحقيقة بالنسبة للحياة البشرية حين يقول: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (6) ، ويقول في آية أخرى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (7) .
ويؤكد هذه الحقيقة ويبينها في أعقاب كل جزاء يحل بقوم نتيجة ما قدمت أيديهم، يقول في قريش وما حل بهم يوم بدر: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (8) ويردف ذلك بأنها سنة عامة إذ يقول: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (9) {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (10) والسنن نوعان: سنن صالحة هادية إلى الحق وإلى طريق
__________
(1) إشارات قرآنية للدكتور عماد الدين خليل، مجلة العربي، العدد 247- رجب 1399هـ \ يونية 79 ص14
(2) سورة يس الآية 37
(3) سورة يس الآية 38
(4) سورة يس الآية 39
(5) سورة يس الآية 40
(6) سورة آل عمران الآية 137
(7) سورة الأحزاب الآية 62
(8) سورة آل عمران الآية 182
(9) سورة الأنفال الآية 52
(10) سورة الأنفال الآية 53(8/227)
مستقيم يبين ذلك قول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} (2) والنوع الآخر سنن فاسدة مدمرة تقود إلى الباطل وإلى طريق البوار وذلك على نحو ما أشار القرآن في قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نَعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} (3) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء (4) » قال في اللسان: يريد من عملها ليقتدي به فيها، وكل من ابتدأ أمرا عمل به قوم بعده قيل: هو الذي سنه (5) والآن وبعد أن وضع لنا معنى التغيير، ودور السنن بقسميها نريد أن نعرف مكان الفطرة البشرية من هذه السنن، وكيف يحدث التغيير فيها، وما العوامل المؤثرة في هذا التغيير إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
__________
(1) سورة النساء الآية 26
(2) سورة النساء الآية 27
(3) سورة إبراهيم الآية 28
(4) رواه مسلم
(5) لسان العرب \ 13 \ 225(8/228)
الفطرة والسنن:
خلق الله عز وجل الفطرة البشرية وأودع فيها حب الخير والاستجابة للحق والرغبة فيه، وجعلها ودينه القيم الذي شرعه لعباده شيئا واحدا، يقول سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْنَاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (1) وانظر إلى تعبير القرآن {فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (2) أي جميعهم، ثم قوله سبحانه: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (3) أي لا تغيير ولا اختلاف ثم قوله في نهاية الآية: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (4)
ويؤكد ذلك ويقرره قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه
__________
(1) سورة الروم الآية 30
(2) سورة الروم الآية 30
(3) سورة الروم الآية 30
(4) سورة الروم الآية 30(8/228)
أبو هريرة - رضي الله عنه -: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ " ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم (2) » الآية.
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يقول الله تعالى: (إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا (3) » .
إن أصل سنن الخير والفلاح مصدرها من عند الله عز وجل فله سبحانه المثل الأعلى والأسماء الحسنى والصفات العلا، وهو يحب معالي الأمور ويكره سفسافها؛ لذلك كان الإيمان به مصدر الخير كله وكان الإشراك به ظلما عظيما للفطرة وانتكاسا لها ومخالفا لطبيعتها وللموثق الذي أخذ عليها في عالم الذر، يقول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (4) .
ومن هنا إذا دعيت هذه الفطرة إلى الإيمان بالله والقيام بشرائع البر والحق والعدل استجابت، ووجدت في ذلك سعادتها وأمنها وامتدادها، وحققت بذلك سنن الخير والصلاح في حياتها وحياة مجتمعها. أما إذا التوى زمامها وأضلها أولياؤها عن جادة الحق والإيمان بالله، وغذيت بمناهج وعقائد بعيدة عن هداية الله. . انفرط عقدها، وانحلت عروتها فصارت مستعدة لقبول سنن الفساد والضلال ومصداق ذلك ما حدث في الجاهلية قبل الإسلام، ثم ما أحدثه الإسلام في العرب والنقلة التي نقلهم إليها ثم ما نراه اليوم في جاهلية القرن المعاصر، أما العرب في الجاهلية فقد تخبطوا في عقائدهم وأخلاقهم وعباداتهم وسياساتهم، عبدوا الأصنام وجعلوها واسطة بينهم وبين الله، وفي عباداتهم طافوا بالبيت عراة وهامت كل قبيلة حول صنم تعظمه وتقدسه، وفي أخلاقهم استحلوا الخمر والزنا، ووأدوا بناتهم وظلموا نساءهم، وفي
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1385) ، صحيح مسلم القدر (2658) ، سنن الترمذي القدر (2138) ، سنن أبو داود السنة (4714) ، مسند أحمد بن حنبل (2/275) ، موطأ مالك الجنائز (569) .
(2) سورة الروم الآية 30 (1) {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}
(3) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865) ، مسند أحمد بن حنبل (4/162) .
(4) سورة الأعراف الآية 172(8/229)
سياساتهم تعصبوا لقبائلهم وأغار بعضهم على بعض لأتفه الأسباب وأقل الأمور وهذا دليل الاضطراب والانحلال والضلال.
أما ما أحدثه الإسلام في نفوس العرب من هداية واستقامة فحدث ولا حرج من استقامة في العقيدة وفي العبادة وفي الأخلاق وفي المعاملات، وهذا ما سأعود عليه عما قريب إن شاء الله.
أما جاهلية الغرب الحديث فانظر إلى تحلل الأخلاق واضطراب الموازين والوقوف مع الظالمين من اليهود ضد المظلومين من مسلمي فلسطين، وما تطالعك به حالة الزنوج في أمريكا. . . وجنوب أفريقيا فضلا عما تعج به مجتمعاتهم من منكرات تحمل في طياتها حتفهم وزوال أمرهم.(8/230)
ثبات السنن والقيم في الإسلام واضطرابها عند غيره:
وإذا كانت الفطرة البشرية قد فطرت على حب الإيمان بالله والاستقامة على شرائعه؛ فإن دور الإسلام أن يجنب هذه الفطرة مزالق الانحراف ويبعدها عن عوامل الزيغ والضلال؛ ذلك أن الله عز وجل جعل هذه الحياة امتحانا لعباده واختبارا لحسن تصرفهم وعملهم، يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (1) ، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (3) وكان من هذا الامتحان ما خلقه الله في الإنسان من دوافع جبلية تتطلب الإشباع وتدفع إلى تعمير هذه الحياة وتنميتها بالعمل الصالح والسلوك المستقيم، ولكن هذه الدوافع لما فيها من ثورة الشهوة وقوتها كانت سبيل الشيطان إلى نفس الإنسان وحياته لتتم بذلك حقيقة الامتحان وأسلوبه في هذه الحياة، وبذلك يتصارع في الإنسان قوة الخير الذي فطره الله عليه، والدوافع التي يستغلها الشيطان وتكون ميدانه
__________
(1) سورة الكهف الآية 7
(2) سورة الملك الآية 1
(3) سورة الملك الآية 2(8/230)
ومحل إغراءاته وغوايته على نحو ما بين القرآن في وصف الشيطان إذ يقول على لسانه: لعنه الله: {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} (1) {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} (2) {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا} (3) ومن هنا كانت مهمة الإسلام تزكية الفطرة وتسليحها بشرائع الحق وتكليفها بواجبات الخير والهدى لتنضبط في سيرها وتستقيم في حياتها فلا يميل بها هوى جامح أو شهوة منحرفة عن طرق الحق: وبذلك لا يجد الشيطان إليه سبيلا وصدق الله إذ يقول: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} (4) {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (5) {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (6) {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (7) ويقول في مهمة نبيه الكريم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (8) هذه التزكية التي جاء بها الإسلام جاءت شاملة لحياة الفرد، والجماعة: لم تترك جانبا من جوانب الحياة ولا أمرا من أمورها إلا بينته ووضحته، وإنك لتجد مصداق ذلك في النظام الحق الذي وضعه العليم الخبير وجاء به الوحي؛ فلا غرو حينئذ أن تكون رسالة الإسلام هي رسالة الحق الكامل التام، يقول الله تعالى لنبيه الكريم: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} (9) .
إن هذا الهدى الذي جاءت به هذه الرسالة بثه الله في خلقه ليعمل في الفطرة البشرية كما تعمل النواميس الكونية سواء بسواء، فكما أن الماء ينزل من السماء فيحيي الله به الأرض بعد موتها فكذلك النفوس البشرية إذا اهتدت بالوحي وقامت
__________
(1) سورة النساء الآية 118
(2) سورة النساء الآية 119
(3) سورة النساء الآية 120
(4) سورة الشمس الآية 7
(5) سورة الشمس الآية 8
(6) سورة الشمس الآية 9
(7) سورة الشمس الآية 10
(8) سورة الجمعة الآية 2
(9) سورة يونس الآية 108(8/231)
بالتكاليف حيت وترعرعت. يقول الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وفي الحديث الصحيح: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها، وسقوا وزرعوا. وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (2) » .
هذه التزكية التي تحيا بها النفوس وتصلح بها الجماعات هي قوانين الله في خلقه ونواميسه لصلاح عباده يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (3) قال ابن كثير في معنى الآية: ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها، ولم يأت بقرية مصلحة بأسه وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين كما قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (4) وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (5) ويمشي في سياق الآية التي قدمناها آنفا ويؤكدها قوله سبحانه: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (6) {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (7) .
وسنن الله عز وجل تعمل عملها في نفوس عباده ومجتمعاتهم وتؤتي ثمرها لمن عمل بها ووفاها حقها والتزم بها حتى ولو كان غير مؤمن، ولكنها في الكافر تقف عند
__________
(1) سورة الأنعام الآية 122
(2) متفق عليه، رياض الصالحين طباعة دار الشعب بالقاهرة، ص394
(3) سورة هود الآية 117
(4) سورة هود الآية 101
(5) سورة فصلت الآية 46
(6) سورة القصص الآية 58
(7) سورة القصص الآية 59(8/232)
حد هذه الحياة الدنيا ولا تتجاوزها. قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} (1) {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) .
ولكن الفرق بين عمل السنن في المجتمع المؤمن وعملها في المجتمع المنحرف: أنها في المجتمع المؤمن مستقرة وثابتة مطردة وخالدة، إذ هي مرتبطة بمعايير أخلاقية وبقيم معنوية تتجاوز هذه الحياة إلى الدار الآخرة وما أعد الله فيها للمحسنين من ثواب مقيم وأجر جزيل وهذا من شأنه يربط الأمة كلها بمثل ثابتة لا تختلف باختلاف الناس ولا البيئات وصدق الله: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3) ، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (4) أما في المجتمع غير المسلم فهي غير مستقرة وغير ثابتة ومتغيرة؛ لأنها مرتبطة بالقيم المادية، ومن شأن القيم المادية التغيير وعدم الثبات؛ إذ أساسها المنفعة والمتعة، لذلك تكون الأخلاق فيها نسبية والقيم مهتزة وتصبح القاعدة: (الغاية تبرر الوسيلة) وها أنت ترى كيف أحل اليهود لأنفسهم أموال غيرهم بغير حق، وكيف عم طوفان الوسائل الدنيئة الحياة الاقتصادية - من رشوة وتجارة بالرقيق الأبيض وإفساد الذمم - حياة الناس اليوم لدرجة أن الدول تنادي الآن لعمل ميثاق دولي يحاسب الشركات ويأخذ على يد المفسدين ولكن هيهات؛ فقد اتسع الخرق على الراقع وعمت البلوى ولا بد للأمر من علاج جذري، وصدق الله تعالى: {وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} (5) .
إن المجتمع المسلم تضبطه قاعدتا التكاليف والأخلاق، فالتكاليف تذكره دائما بالله وأن الغاية من الحياة هي عبادة الله عز وجل، وبذلك تصبح أنشطة الحياة
__________
(1) سورة هود الآية 15
(2) سورة هود الآية 16
(3) سورة آل عمران الآية 101
(4) سورة إبراهيم الآية 27
(5) سورة الأعراف الآية 58(8/233)
وسائل لهذه الغاية؛ ومن شأن هذه التكاليف أن تثمر الأخلاق الطيبة الكريمة، ويأتي قانون الشريعة فيدعم هاتين القاعدتين الهائلتين في حياة الناس ويظلهم بالمظلة الواقية من الانحراف فيدعم هاتين القاعدتين الهائلتين في حياة الناس ويظلهم بالمظلة الواقية من الانحراف أو الفسق، ويضبط العلاقات بينهم على أساس حقوق الله وحقوق الناس، وعلى أساس قاعدة الحلال والحرام، وصدق الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1) ويقول الرسول الكريم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. . ومنهم: إمام عادل (2) » ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناس إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد (3) » .
وإذا كان المجال يقتضي أن يوضح الأمر بمثال فلنأخذ قضية البيع والشراء في الإسلام وكيف تنضبط بالمعايير الخلقية السليمة، ويدخل فيها وازع الإيمان وابتغاء رحمة الله ورجاء ثوابه، وكيف تتدخل الشريعة لتحسم الأمر عند الانحراف وتجاوز الأخلاق الطيبة. . يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (4) ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما (5) » .
وبناء على نص القرآن الكريم والحديث الصحيح فقد أصبح محرما استعمال أي وسيلة باطلة للحصول على المال، ووجب أن تكون الوسائل كلها صالحة ومستقيمة؛ فإذا حدث وكتم البائع شيئا من صفات المبيع أو دلس بأن ظهر المبيع على غير وجهه، فعلاوة على أن الله عز وجل ينزع بركته من هذا البيع يستلزم ذلك اكتشاف كذب البائع وعدم صدقه، وفي هذا نزع للثقة فيه وعدم احترامه في المجتمع
__________
(1) سورة النحل الآية 90
(2) رواه البخاري
(3) متفق عليه
(4) سورة النساء الآية 29
(5) رواه البخاري(8/234)
المسلم؛ فإن الشريعة ترد البيع وتعيد إلى البائع سلعته جزاء كذبه أو كتمانه أو تلزمه بثمن المثل، وإذا كان المشتري استفاد شيئا رد قيمته، يوضح ذلك حديث المصراة يقول - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك، وإن شاء ردها صاعا من تمر (1) » وهذا ما يطلق عليه الفقهاء بخيار التدليس، ومثله خيار الغبن وذلك بأن يكتشف المشتري أن البائع غبنه في ثمن السلعة وأعطاه إياه بأكثر من ثمن المثل.
__________
(1) متفق عليه.(8/235)
أسباب الاهتزاز والضعف:
وإذا كان الأمر كما ذكرت في ثبات السنن الصالحة واطرادها وأنها أشد ما تكون في المجتمع المسلم، وأنها مهتزة وغير مطردة في المجتمع غير المسلم؛ فلماذا قل نصيبنا من نتائجها الطيبة في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة؛ بل نرى على النقيض من ذلك اهتزازا في الرؤية للغاية من الحياة، واضطرابا في السلوك، وضعفا عاما مكن اليهود من اغتصاب فلسطين، وجعل التيارات الغربية الوافدة تقسم الأمرة وتحاول التسلط عليها وتوجيهها.
إن إدراك أسباب هذا الواقع المر لا يخطئه صاحب البصيرة النافذة، ولا ذو التفكير المستقيم؛ فكما أسلفنا، إن حظ أي مجتمع من النجاح أو الفشل أو التقدم أو الهبوط إنما يكون بمقدار عمله بهذه السنن مجتمعة أو تركه لها، والواقع الذي نشهده أن حصيلتنا من العمل بسنن الله ووفائنا لها حصيلة ضعيفة؛ لذلك كان حالنا كما نرى، وصدق الله: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1) .
ومن هنا فلا بد من معرفة الأسباب الكلية والعوامل الرئيسية التي سببت ذلك الاهتزاز الهائل في النفوس والأخلاق وتلك الحالة المرضية الخطيرة لندرك الطريق إلى
__________
(1) سورة النحل الآية 33(8/235)
العلاج ومن ثم النهوض والإصلاح، ويمكن إرجاع الأسباب إلى ثلاثة عوام رئيسية:
1 - ضعف الأمة داخليا وفقدانها الثقة بنفسها.
2 - عجز القيادة في الأمة وعدم قدرتها على ملء الفراغ وانفصالها نفسيا وفكريا وعمليا عن أهداف الأمة عامة.
3 - تطلع هذه القيادة في كثير من مجتماعتنا لملء هذا الفراغ عن طريق استعارة نماذج الحضارة الغربية في النهوض والإصلاح وفرضها هذه النماذج بالحديد والنار على الأمة.
إن هذه العوامل الثلاثة متداخلة ومتشابكة وكل منها يساعد الآخر ولا يمكن فصلها عن بعضها الآخر. إلا أن السبب الرئيسي يبدأ من ضعف الأمة داخليا وعدم قدرتها على مكافحة أسباب العجز والضعف، ومن ثم تصبح عندها القابلية لتقبل أمراض التخلف والضعف كالجسم العليل الذي تضعف فيه المقاومة فيصبح مرتعا للجراثيم والميكروبات.
وضعف الأمة داخليا، لا يأتي فجأة ولا يحصل بغتة، وإنما هو نتيجة مراحل طويلة وأجيال متعاقبة أهملت فيه الأمة تجديد نفسها، فركنت إلى النوم واستسلمت للأحلام، وعاشت على الذكريات ورضيت بترديدها فأصبحت خارج الأحداث معزولة عن معركة الحياة، فلم تواكب التطورات في الوسائل ولم تواجه التحديات، فضعف فكرها، وسادها الخمود، وعم التقليد، وانتشرت الأمية، وانشغل الناس بالجزئيات، وافتقدوا الوعي بواقعهم والمشكلات التي تواجههم، واستفحل أمر الشهوات والأهواء، ففشا الظلم وظهرت النفعية والانتهازية وأخلاق النفاق، فانحلت رابطة الأمة وانعدم الروح العام الذي يربط بين أبنائها، وأصبح كل إنسان مشغولا بنفسه عن أمته. . وتأخرت الدولة وأجهزتها، وأصبحت غير قادرة على النهوض والعطاء والتجديد. . وبدأ الفراغ الداخلي يعمل عمله في التطلع إلى الأمم الأقوى.
وجاءت الموجة الأوروبية الاستعمارية المتربصة بتفوقها وقدرتها ونهمها وجشعها فأغارت على هذه المجتمعات لتستغل هذه الأمراض المنتشرة وتخترق الحواجز النفسية(8/236)
وتبدأ في اصطناع قادة جدد لهذه الشعوب، وتستغل ما فيهم من ضعف. . . وتلوح لهم بالسلطان والدولة، وذلك كما حدث للشريف حسين في مكة، وكيف استعمله الإنجليز ولوحوا له بالخلافة العربية ليضربوا به جيش الخلافة العثمانية في ظهره، ويستعملوا البدو عن طريق لورانس في تحطيم خط حديد الحجاز شريان الحياة وأعظم مشروع آنذاك.
فانظر إلى المستوى الهابط من الجهل والأنانية وفقدان الوعي كيف أوصل الناس إلى التعاون مع العدو اللدود ودعوته إلى احتلال الأرض، واقتسام الأوطان على نحو ما تم بعد وبدأت به مأساتنا الحديثة التي لا زلنا نعيشها فكان الشريف حسين بحق كالمستجير من الرمضاء بالنار.
في هذا الجو المسموم بدأت الأفكار الأوروبية تأخذ طريقها وذلك مثل التشكيك في قدرة الدين على النهوض بالأمة، وأن الدين لا يتناسب مع عصر التنوير، وأن الدين من بقايا العصور الوسطى، وأنه مناقض للعلم، وأنه لا بد من الأخذ بالمنهج الأوروبي في الحياة والسياسة والأخلاق وفصل الدين عن السياسة. وأن الرابطة الإسلامية صارت عديمة الجدوى، قليلة النفع، ولا بد من التحول إلى الرابطة الوطنية والقومية والأخذ بالقوانين الغربية، وترك الشريعة والتخلص منها أو تقليصها وجعلها في الدائرة الشخصية البحتة.
وزاد الطين بلة القدرة الاجتماعية والسيادة السياسية للمستعمرين الأوروبيين واعتمادهم في إذابة مجتمعاتنا واحتوائها على بعض أبناء البعثات التي تعلمت على أيديهم والتي أرسلت إليهم من تركيا ومصر والشام وعلى الأقليات الموجودة في مجتمعاتنا، فقد عمل فريق من هؤلاء المبعوثين حينما عادوا على حمل رسالة التغريب يعاونهم في ذلك الأقليات، ويمنحهم القوة والنفوذ تمكن الدول المستعمرة في بلادنا آنذاك.
وبدأ تغيير بنية الحكم واتجاه الثقافة والولاء من الإسلام بشموله وقوته إلى الحضارة الغربية وقيمتها، وحدث الزلزال الكبير بالإجهاز على تركة الرجل المريض(8/237)
(الخلافة العثمانية) كما كانوا يقولون، وتولى تلميذ مخلص من تلامذة الغرب ألا وهو مصطفى كمال أتاتورك حمل رسالة التغريب ليحمل فأسه ويحاول أن يقوض البناء من أساسه في تركيا، حاضرة الخلافة والمدافعة عن الإسلام والعالم العربي قرابة أربعة قرون والواقفة أمام أطماع اليهود في النصف الأول من القرن العشرين. . إلخ. لقد أجهز أتاتورك على الخلافة ونادى بالطورانية (1) محل الإسلام، وأراد أن يجتث الثقافة الإسلامية فحرم العربية وأجبر الناس على قراءة القرآن بالتركية، وحول كتابة اللغة التركية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية، ليعزل الجيل الجديد عن تراثه وثقافته، واستورد القوانين الغربية، وفرض السفور ووصل في عدائه أن ألغى قانون الأسرة وجعله قانونا علمانيا وفرض اللباس الأوروبي. . وحرم الطربوش والعمامة، كل ذلك بالحديد والنار.
بهذه التجربة المرة في مجتمعاتنا المعاصرة تمزق ولاء الأمة وتشتت فكرها، وتحطمت نفسيتها وتوقفت مسيرتها، فقد عاشت هذه الأمة بالإسلام، والإسلام بطبيعته رسالة حياة حضارة، وهو في قيمه ونظرته ووجوده في واقع الأمة الإسلامية والمجتمعات الإسلامية يخالف مفهوم الدين عند الغربيين، فإذا كان الدين عند الغربيين قد حرف وبدل وصار مفهومه (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) بمعنى الفصل بين الدين والحياة. . .؛ فإن الإسلام هو توجيه الحياة كلها بمختلف أنشطتها وجعل غايتها ووجهتها لله عز وجل.
يقول الله تعالى على لسان رسوله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (3) ولهذا كانت شريعة الإسلام هي دستور الحياة الفردية والاجتماعية بحيث لا يخرج أي أمر عن
__________
(1) الطورانية: نسبة إلى سلالة طوران شاه التي جاءت منها قبائل الأتراك ما قبل الإسلام.
(2) سورة الأنعام الآية 162
(3) سورة الأنعام الآية 163(8/238)
نطاقها ونظرتها. يقول الله تعالى على لسان رسوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (1) ويقول: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (2) {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (3) .
ومن هنا فدعاة التغريب واللادينية في مجتمعاتنا إنما يحاربون الفطرة الخيرة في الأمة والتي جاء الإسلام فقواها ونماها وأعطاها وامتدادها؛ ولذلك فرغم المحاولات المريرة التي حاولها هؤلاء الدعاة ومن أبرز أمثلتهم أتاتورك، فإن شعبا كالشعب التركي رفض كل المحاولات التي حاولت ردته وتغيير وجهته وسلوكه، وحالما حانت الفرصة عبر عن إسلامه وتدينه ويكفي مثلا على ذلك شبابه ووفوده إلى بيت الله الحرام بعد انقطاع أكثر من خمس وعشرين عاما، لكن النتيجة أن هذا الصراع الذي قام به أتاتورك وطغمته دفع ضريبته هذا الشعب عزلة وتأخرا وتمزقا وضياعا. وعلى ذلك فقس باقي المجتمعات التي رزحت تحت أنظمة من هذا النوع.
والمشكلة الأساسية أن دعاة التغريب واللادينية، سواء كان يتبعون الفلك الغربي الأوروبي، أو يتبعون الفلك الشيوعي الاشتراكي، هم مقلدون تائهون يرددون كلام سادتهم وأوليائهم، ويلفقون ويزورون في دعاويهم وآرائهم، فلا قدرة عندهم على قول كلمة الحق، ولا شجاعة عندهم في النزول على حكم الأمة؛ وكل عملهم في الأمة هو عمل الغواة والسحرة، فما أضخم شعاراتهم، وما أكثر ضجيجهم، وما أسوأ أخلاقهم، افتقدت الأمة فيهم القدوة الصالحة، وانتشر بهم الكذب والفجور والتحلل، وعم بهم الإرهاب والتنكيل، وغاض العدل والإنصاف، وفقدت الطمأنينة وضاعت الثقة، فأصبحوا كابوسا ثقيلا وليلا طويلا، فما أبعد التحضر عن سلوكهم وأعمالهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) سورة الجاثية الآية 18
(2) سورة المائدة الآية 49
(3) سورة المائدة الآية 50(8/239)
هذه هي أسباب الضعف والاهتزاز بشكل مجمل وبإشارات تغني عن عبارات، ولا خلاص منها إلا بعملية تغيير جذرية تقوم بها نفوس قوية تأخذ بسنن الله وتمضي على بركة الله، تزيل الخرائب وتعيد بناء الأمة من جديد في فكرها وعملها وسلوكها، وتواكب هذا العصر بكل ما فيه من وسائل ومبتكرات، وتستطيع حينذاك أن تغلب تيار الفساد وتنهي أمره، وتلم شعث الأمة وتمكنها من أن تستأنف مسيرتها من جديد فيتحقق لها ما وعدها الله به من عز ونصر وتمكين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أحمد محمد العسال
__________
(1) سورة محمد الآية 7(8/240)
المراجع
- القرآن الكريم.
- تفسير ابن كثير للحافظ عماد الدين إسماعيل الخطيب بن كثير الشافعي - دار الأندلس للطباعة والنشر - بيروت - الطبعة الأولى 1385هـ \ 1966م.
- تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد أحمد الأنصاري القرطبي - دار الكتاب العربي للطباعة والنشر - القاهرة 1387هـ \ 1967م.
- فتح الباري - للإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - المطبعة السلفية ومكتبتها بالقاهرة 1380هـ.
- صحيح مسلم.
- سبل السلام - الإمام محمد إسماعيل الكحلاني الصنعاني المعروف بالأمير - طباعة ونشر مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر- الطبعة الرابعة 1379هـ \ 1960م.
- المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني - المكتبة المرتضوية - طهران - بين الحرمين.
- لسان العرب - للعلامة أبي الفضل جمال الدين محمد مكرم بن منظور الإفريقي المصري - دار بيروت للطباعة والنشر - 1956م \ 1375هـ.
- فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - إعداد محمد بن عبد الرحمن بن قاسم - الطبعة الأولى - مطبعة الحكومة - مكة.
- تاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان - ترجمة نبيه أمين فارس، ومنير البعلبكي - الطبعة الرابعة - دار العلم الملايين \ بيروت \ تشرين ثاني 1965م.(8/241)
- حتى يغيروا ما بأنفسهم - جودت سعيد - الطبعة الثانية - 1395هـ \ 1975م.
- وجهة العالم الإسلامي - مالك بن نبي.
- رياض الصالحين - محيي الدين أبي زكريا يحيى شرف الدين النووي الشافعي - طباعة دار الشعب - القاهرة.
المجلات:
- العربي - إشارات قرآنية للدكتور عماد الدين خليل العدد 247 - رجب 1399هـ \ 1979م.(8/242)
ثمرات الإيمان بالله واليوم الآخر
بقلم الشيخ \ الغزالي خليل عيد
الأستاذ بكلية الشريعة بالرياض - سابقا-
ولد بإقليم المنصورة، بجمهورية مصر العربية، حفظ القرآن الكريم وجوده ثم التحق بالأزهر حتى نال الشهادة العالية وتخصص التدريس.
اشتغل بالدعوة والتدريس بالمعاهد الدينية وكلية الشريعة ببغداد، ثم بإدارة معهد بني سويف، ثم ندب للتدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالمملكة العربية السعودية.
معظم مؤلفاته وكتاباته تتصل بالقرآن الكريم وعلومه وتجويده وتفسيره، ومن مؤلفاته: أثر الحدود الإسلامية. أعمال النسك تفسير سور: الأنفال، الرعد، يس، الزمر، وغيرها من السور وكثير منها مخطوط لم يطبع حتى الآن.(8/243)
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد رسول الله (وبعد) فإن للإيمان بالله واليوم الآخر ثمرات كثيرة: منها ما هو عاجل كباكورة الفاكهة، قطوفها دانية في هذه الحياة، ومنها ما هو آجل ناضج يانع مستطاب يدرك في الدار الآخرة، ثم يستمر ويدوم ويزداد، لا ينقطع، ولا يمتنع، ولا ينقص ولا يفنى، بل عطاء غير مجذوذ، ونعيم دائم، لا يشوبه خوف ولا كدر ولا حزن، فالإيمان بالله واليوم الآخر، كشجرة طيبة أصلها ثابت، وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
باكورة الثمرة أو (ثمرة الإيمان بالله واليوم الآخر في الدنيا) :
إن الإنسان الذي يؤمن بأن للعالم ربا واحدا، خالقا رازقا، وإلها عليا عظيما لا شريك له في ربوبيته، ولا يجوز أن يشرك معه أحد في عبادته، ويؤمن بأنه ساع إلى ربه سعيا فملاقيه، وأنه قائم مسئول أمامه عما قدم وأخر {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} (1) {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) .
هذا الإنسان الذي آمن بربه وبلقائه وجزائه، يحيا في هذه الدنيا حياة طيبة، دائرا في فلك الرضا والطمأنينة والأمان: شاكرا لفضل ربه وعطائه، صابرا على قضائه وابتلائه، مؤمنا بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فتراه دائما رضي القلب، مطمئن النفس، واثقا بأن ما عند الله خير وأبقى، وأعلى وأثمن وأنقى من كل ما في هذه الدنيا من زينة وبهجة ومتاع، إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر؛ لعلمه بأن هناك جزاء حسابا، ومن هذا المنطلق يقضي حياته العاجلة في طاعة ربه ما استطاع، وفي نفع نفسه، وأهله، ومجتمعه ما أمكنه ذلك، وفي دعوة الناس -بحاله وقيله - أن يسلكوا هذا السبيل السوي المستقيم. فهو من الله في
__________
(1) سورة المطففين الآية 5
(2) سورة المطففين الآية 6(8/244)