2- ب / جـ = د /هـ جـ / ب = هـ / د
3- ب / جـ = د / هـ ب / د= جـ / هـ
4- ب / جـ = د / هـ ب + جـ / جـ = د + هـ / هـ أو
ب – جـ / جـ = د – هـ / هـ
حيث إن ب جـ، د هـ
5- ب / جـ = د / هـ ب + د / جـ + هـ = ب / جـ = د / هـ
حيث إن ب / جـ = د / هـ ب / د = جـ / هـ من (3)
لهذا ب + د / د = جـ + هـ / هـ من (4)
إذا ب + د / جـ + هـ = د / هـ من (3) ولكن د / هـ = ب / جـ
لذلك ب + د / جـ + هـ = ب / جـ = د / هـ
أوضح ابن الهيثم طريقة التوسط بافتراضه أن المعادلة المطلوب إيجاد جذرها الحقيقي التقريبي (س) = 0 وأن جذريها الحقيقيين المعروفين هما س1، س2 فاتباع الطريقة الآتية: * افترض أن س1 س3 س2
* س1 / 1 س2 / 1 س1 س1 + س2 / 1 + 1 س2
لهذا س1 س1 + س2 / 2 س2 س3 = س1 + س2 / 2
وبتكرار هذه الطريقة مرة ثانية نجد أن الجذر الحقيقي التقريبي يوحد بين (س1، س2)
س1 س1 + س3 / 2
مثال: احسب قيمة الجذر الحقيقي التقريبي الواقع بين 1، 2 للمعادلة (س) = 0
الحل: بما أن س1 س1+ س2 / 2 س2 حيث إن س1 = 1، س2= 2.
لذا 1 / 1 1+2 / 1+1 2 / 1 1 1، 5 2 س3= 1، 5 الجذر الحقيقي التقريبي
لو أريد إيجاد الجذر الحقيقي التقريبي الثاني لاعتبر (س1، س3) الجذرين الحقيقين التقريبيين المعروفين.
1 / 1 1+ 3 / 1+ 2 3 / 2 1 4 / 3 3 / 2 س4 = 1.33000.(4/308)
صفحة فارغة(4/309)
بعض مؤلفاته
وقد ألف قبل وفاته في القاهرة مجموعة من المسائل المشابهة لمفروضات إقليدس، وقد نال الشهرة على ما كتبه، وهو يقارب مائتي مؤلف في حقول مختلفة، مثل الرياضيات والفيزياء وعلم الفلك وعلم الطب، ومن مؤلفاته:
1 - المختصر في علم هندسة إقليدس.
2 - كتاب فيه ردود على الفلاسفة اليونانيين وعلماء الكلام.
3 - الكتاب الجامع في أصول الحساب.
4 - كتاب يحتوي على مجموعة مقالات في علم الهندسة وعلم الحساب مأخوذة من مؤلفات إقليدس.
5 - كتاب لخص فيه علم المناظر.
6 - كتاب في الجبر والمقالة وفي تحليل لمسائل عديدة.
7 - كتاب يحتوي على مجموعة من المقالات في الرياضيات العامة.
8 - كتاب في العديد من المسائل الحسابية والجبرية والهندسية.(4/310)
9 - مؤلفه في القياسات.
10 - كتاب يشتمل على حلول مسائل في الكتاب الأول لإقليدس في علم الهندسة.
11 - كتاب فيه حلول مسائل من الكتاب الخامس لإقليدس.
12 - مقالة شرح فيها اتجاه القبلة.
13 - مقالة أوضح فيها علاقة الجبر بعلم الفرائض.
14 - مقالة عن المخروط.
15 - رسالة أعطى فيها حلا ميكانيكيا جميلا لمسألة أرخميدس في قطع الكرة بمستوى بحيث تكون بالنسبة بين حجمي جزءيها المقطوعين تساوي نسبة معلومة.
16 - كتاب شرح فيه مصادرات كتاب إقليدس في الأصول حيث يناقش تعاريف ومسلمات وبديهات إقليدس.
17 - كتاب بعنوان حل شكوك كتاب إقليدس في الأصول، وفيه ناقش وعلق على نظريات إقليدس.
18 - رسالة تحتوي على دراسة نظرية الخطوط المتوازية ومحاولة لبرهان المسلمة الخامسة لإقليدس.
19 - كتاب بعنوان مساحة المجسمات المكافئة، وفيه تمكن من حساب حجم الجسم الناتج من دوران قطعة القطع المكافئ حول محوره.
20 - رسالة استطاع فيها تحديد ارتفاع الطبقة الهوائية فوق الأرض، وذلك بالاعتماد على ما أثبته من أن الظلام لا يحل إلا بعد انخفاض الشمس عن خط الأفق بزاوية قدرها 19 درجة.
21 - كتاب فيه لخص علم المناظر من كتابي إقليدس وبطليموس.
22 - رسالة فيها بحث كيفية استخراج سمة القبلة في جميع أنحاء العالم.
23 - رسالة برهن فيها أن القطع الزائد للمخروط والخطين اللذين لا يلقيانه يقربان أبدا ولا يلتقيان.
24 - رسالة في أصول المسائل العددية الصم وتحليلها.
25 - رسالة في المرايا المحرقة بالقطوع.
26 - رسالة في المرايا المحرقة بالدائرة.(4/311)
27 - رسالة في ضوء القمر.
28 - مخطوطة تحتوي على مجموعة مسائل في علم المجسمات.
29 - كتاب التحليل والتركيب الهندسيين.
30 - كتاب شرح فيه وعلق على الكتاب الثاني عشر لإقليدس في علم الهندسة.
31 - رسالة في الأعداد الصم.
32 - رسالة بين فيها أن جميع الأمور الدنيوية والدينية هي نتاج العلوم الفلسفية.
33 - مقالة في نظرية التفريغ.
34 - كتاب يحتوي على شرح كاف عن علم الهندسة وخواصها.
35 - كتاب في البصريات.
36 - مقالة في حساب الخطأين.
37 - مقالة في علم الهندسة والمثلثات وحساب المعاملات.
38 - مقالة علق فيها على مؤلفات أرسطو طاليس في علم المنطق.
39 - مقالة عن كيفية إدراك البصر بالانعكاس.
40 - مقالة في انعطاف الضوء.
41 - رسالة في العين والإبصار.
42 - كتاب هيئة العالم.
43 - كتاب شرح المصادر.
44 - كتاب عن العالم والسماء.
* * *
نذكر أن ابن الهيثم نهج المنهج العلمي البحت والذي ساعده في ذلك علم الرياضيات، حيث مكنه من تنظيم بحثه، وعلم الفلسفة ساعده على حسن تخيل الأمور.(4/312)
* ولقد قال حكيم محمد سيد رئيس مجلس العلوم في كراتشي بمناسبة الحفلة السنوية التي تقام لابن الهيثم في الباكستان: (هذه السنة التي تعتبر أول سنة وقف فيها الإنسان على القمر، وكل هذا يرجع إلى التكنولوجيا الحديثة، ولو أخذ كل شيء بعين الاعتبار فإن ابن الهيثم قد سبق هؤلاء الأمريكيين، وكل نظرياتهم الرياضية من ابتكارات أبي علي، ولهذا باستطاعتي أن أقول: إن ابن الهيثم عنده عقل القرن العشرين، ولكنه عاش في القرن العاشر، ومهما حاولت أن أصف عالمنا الكبير فإنني عاجز عن هذا) .
* كما أن الأقطار العربية قد اهتمت بعالمنا الفاضل ابن الهيثم، وذلك بتكريمه والاعتراف بفضله، ومن أمثلة تكريمه وتخليد اسمه أن جامعة القاهرة خصت في عام 1939 ميلادية قاعة لإلقاء المحاضرات باسم ابن الهيثم، وكذلك حدث في كلية العلوم بجامعة بغداد أن أسموا قاعة المحاضرات باسمه.
* * *(4/313)
علي عبد الله الدفاع
1 - الكفاءة العلمية
الاسم: علي عبد الله الدفاع.
أ) الابتدائية " السعودية بعنيزة ".
ب) الثانوية " ثانوية عنيزة " شعبة علوم -تخصص رياضيات.
ج) درجة البكالوريوس في الرياضة البحتة من جامعة أوهايو عام 1966 م.
د) درجة الماجستير في العلاقات العالمية من جامعة تكساس الشرقية عام 1968 م.
هـ) درجة الماجستير في الرياضة من جامعة فاندربلت عام 1969 م.
و) درجة الدكتوراه في الرياضة البحتة من كلية بي بودي، وجامعة فاندربلت عام 1973 م.
* وكان عنوان رسالة الماجستير في العلاقات العالمية (علاقة قوى العالم الكبرى بالنزاع العربي الإسرائيلي في يونيو 1967 م) .
* أما عنوان رسالة الماجستير في الرياضة (حول النقط المنفردة للدوال المركبة) .
* وكان عنوان بحث الدكتوراه هو (الخوارزمي ومعادلة الدرجة الثانية والكميات التخيلية) .
2 - خبرات التدريس
1971 - 1972 م معيدا بجامعة فاندربلت.
1972 - 1973 م (الخريف) مدرسا، بكلية بي - بودي في الولايات المتحدة الأمريكية.
1973 - 1974 م أستاذا مساعدا بجامعة البترول والمعادن - الظهران - السعودية.
1974 - 1977 م ورئيس قسم الرياضيات بجامعة البترول والمعادن - الظهران.
1975 - 1977 م عميد كلية العلوم بالنيابة من آن لآخر بجامعة البترول والمعادن - الظهران.(4/314)
1977 - الوقت الحاضر: عميد كلية العلوم بجامعة البترول والمعادن - الظهران.
الأبحاث العلمية والكتب والمقالات
أ - رسالات دراسية علمية
رسالة
1 - رسالة الماجستير " علاقة قوى العالم الكبرى بالنزاع العربي الإسرائيلي في يونيو 1967 م " مجلة جامعة تكساس الشرقية - المجلد الخامس العدد الأول عام 1968 م.
2 - رسالة الماجستير في الرياضة البحتة " حول النقط المنفردة للدالة المركبة " في مجلة جامعة فاندربلت المجلد العاشر العدد الأول عام 1970 م.
3 - رسالة الدكتوراه في الرياضيات " الخوارزمي ومعادلة الدرجة الثانية والكميات التخيلية " مجلة جامعة فاندربلت المجلد العشرون العدد الخامس عام 1973 م.
ب - الكتب
1 - إسهام المسلمين في الرياضيات (كتاب باللغة الإنجليزية) نشرته دار النشر البريطانية (شركة كروم هلم المحدودة) ودار النشر الأمريكية (شركة الدراسات العامة للنشر) عام 1977 م.
2 - بعض نوابغ علماء العرب والمسلمين في الرياضيات (كتاب باللغة العربية) .
جـ - مقالات علمية ومقالات نشرت
1 - " إسهام المسلمين في علم الحساب " الجزء الأول - مجلة رابطة الدول الإسلامية المجلد الأول العدد الثاني عشر سبتمبر 1974 م. ص 45 - ص 45 - 53.
2 - " التراث العلمي الإسلامي " مجلة اليمامة - المجلد السادس العدد 319 سبتمبر 1974 م. ص 24.
3 - " إسهام المسلمين في علم الحساب " الجزء الثاني - مجلة رابطة الدول الإسلامية المجلد الثاني العدد الأول، أكتوبر نوفمبر 1974 م. ص 56 - 59.
4 - " فكرة علم الحساب " الجزء الأول - مجلة اليمامة، المجلد السادس العدد 325 نوفمبر 1974 م. ص 23.
5 - " فكرة علم الحساب " الجزء الثاني - مجلة اليمامة - المجلد السادس العدد 326 نوفمبر 1974 م. ص 14 - 15.
6 - " علم الجبر " مجلة اليمامة، المجلد السادس العدد 328 نوفمبر 1974 م. ص 24.
7 - " إسهام المسلمين في الهندسة " مجلة رابطة الدول الإسلامية، المجلد الثاني العدد الثاني ديسمبر 1974 م. ص 45 - 54.
8 - " تطور علم الهندسة " مجلة اليمامة، المجلد السابع العدد 338، فبراير 1975 م. ص 22 - 23.
9 - " علم المثلثات " مجلة اليمامة، المجلد السابع العدد 340، فبراير 1975 م. ص 23 - 27.
10 - " حل ثابت بن قرة لمعادلة الدرجة الثالثة " مجلة مجتمع الرياضة الأمريكي، المجلد الثاني والعشرون العدد الخامس، أغسطس 1975 م. ص 65.
11 - " الرياضيون العرب " المجلة العربية للعلوم والهندسة، المجلد الأول العدد الأول نوفمبر 1975 م. ص 49.
12 - " الأعداد المتحابة " مجلة الخفجي، المجلد الخامس العدد الثامن نوفمبر 1975 م. ص 18 - 19.
13 - " الميزان الرياضي لبهاء الدين العاملي " مجلة الخفجي، المجلد السادس العدد الثاني عشر مارس 1977 م. ص 31 - 32.
14 - " أبو عبد الله البتاني: عميد علماء الرياضيات والفلك في العالم " المجلة العربية المجلد الثاني العدد الثاني يوليو 1977 م. ص 92 - 93.
15 - " مبتكر معادلة المربع السحري: ثابت بن قرة " مجلة الفيصل المجلد الأول العدد الثاني يوليو 1977 م. ص 75 - 78.(4/315)
16 - " الكرخي " المجلة العربية للعلوم والهندسة، المجلد الثاني العدد الثاني مايو 77 - 1 م. ص 131 - 132.
17 - " العمليات الحسابية عند المسلمين " مجلة الخفجي المجلد الخامس العدد التاسع ديسمبر 1975 م. ص 8 - 9.
18 - " فيلسوف العرب " مجلة الخفجي المجلد السادس العدد الثامن مايو 1976 م. ص 8.
19 - " نظرية فيثاغورث الجديدة لثابت بن قرة " مجلة الدارة، المجلد الثالث العدد الأول فبراير 1977 م. ص 83 - 91.
20 - " الرياضيات المعاصرة " مجلة اليمامة المجلد العاشر العدد 420، أكتوبر 1976 م. ص 36 - 37.
21 - " ازدهار الرياضيات عند المسلمين " مجلة اليمامة، المجلد العاشر العدد 430 ديسمبر 1976 م. ص 38 - 39.
22 - " ابن الشاظر " المجلة العربية للعلوم والهندسة، المجلد الثاني العدد الأول، نوفمبر 1976 م. ص 57.
23 - " ابن الخليج: عميد علماء المشرق والمغرب " مجلة اليمامة، المجلد الحادي عشر العدد 436، نوفمبر 1977 م. ص 36 - 37.
24 - " المتطابقات المثلثية للبتناني " في مجلة الأمين الهندية، المجلد الرابع العدد الثالث يناير 1977 م. ص 8 - 9.
25 - " تأثير الرياضيين المسلمين على المعارف الشرقية والغربية " في مجلة قافلة الزيت، المجلد السادس العدد 25 مايو يونيو 1977 م. ص 34 - 37.
26 - " الرياضيات المعاصرة تخاطب القدرات العقلية " مجلة اليمامة، المجلد الحادي عشر العدد 449 مايو 1977 م. ص 36 - 37.
27 - " الإبداع الرياضي وتدريس الرياضيات " مجلة اليمامة، المجلد الحادي عشر العدد 445 إبريل 1977 م. ص 36 - 37.
28 - " دور الأرقام العربية في الحضارة الإسلامية " في مجلة قافلة الزيت، المجلد الخامس والعشرون - العدد الحادي عشر أكتوبر نوفمبر 1977 م. ص 37 - 39.
1 - " طريقة الخوارزمي في حل معادلات الدرجة الثانية " قدمت في المؤتمر القومي السادس للرياضيات، مارس 1975 م، ونشرت في مجلة المؤتمر - جامعة جندي شابور أهواز - إيران. ص 65 - 69.
2 - " مآثر نصر الدين في علم الرياضيات " قدمت في مؤتمر علماء الرياضيات والفيزياء عند العرب، مارس 1976 م، ونشرت في مجلة المؤتمر - جامعة بغداد الجمهورية العراقية. ص 17 - 18.
3 - " امتداد وتعميم لنظرية فيثاغورث " قدمت في المؤتمر الأول لتاريخ العلوم عند العرب، إبريل 1976 م، ونشرت في مجلة المؤتمر - جامعة حلب - سوريا ص 10 - 12.
4 - " نظرية الخطأين لمحمد بن موسى الخوارزمي " قدمت في مؤتمر الرياضيات التطبيقية أغسطس 1976 م، ونشرت في مجلة المؤتمر - جامعة دبلن - دبلن أيرلندا. ص 21 - 23.
5 - " الجبر والمقابلة لمحمد بن موسى الخوارزمي " قدمت في المؤتمر العالمي لتاريخ العلوم، أغسطس 1977 م، ونشرت في ملخص مجلة المؤتمر - جامعة أدنبرا - أدنبرا اسكتلاندا ص 14.
ج) من الذين يصححون ويعلقون على المقالات قبل الطبع في مجلة اتحاد الرياضيين والفيزيائيين العرب.
أ) من الذين يصححون المقالات قبل الطبع لمجلة تاريخ الرياضيات في كندا (مجلة عالمية مشهورة) .
ب) من الذين يصححون المقالات قبل الطبع لمجلة " أيسز " مجلة تاريخ العلوم الأمريكية (مجلة ذات شهرة دولية) .
ج) الجمعية الرياضية الأمريكية.
د) الجمعية البريطانية لتاريخ العلوم.
هـ) الرابطة الإسلامية للعلماء والمهندسين.
و) عضو شرف في الرابطة الإيرانية للعلوم والرياضيات.
ز) عضو في جمعية الرياضيين والفيزيائيين العرب.(4/316)
مصطفى الحديدي الطير (1)
الواحد الصمد
البيان
حديثي هذا مع الذين آمنوا ليزدادوا إيمانا، ومع الذين ارتابوا ليستأصلوا الريب من نفوسهم، ويثوبوا إلى رحاب أهل الإيمان والاطمئنان، الذين يسعدهم أن يأوي إلى رحابهم أهل الفكر الرشيد، والعقل السديد، الذين إذا ذكروا ذكروا، وإذا أرشدوا رشدوا.
ينظر المتأمل فيرى أمامه هذا الكون الفسيح بجماله وجلاله، يرى من فوقه قبة زرقاء مزدانة نهارا بالشمس ترسل أشعتها على الغبراء، فتقشع عنها ظلام الليل، وتلبسها حلة من النور والجمال، وتبعث الدفء في أرجائها، والحياة في جنباتها.
ويرى تلك القبة الزرقاء ليلا، مزدانة بمصابيح نيرات، تهدي الساري إذا سرى، وترشد قائد السفينة إلى الجهة التي يريد توجيهها إليها، ويرى بين تلك المصابيح مصباحا أقوى إضاءة منها لأهل الأرض، يتسم بالروعة والجمال يبدو أولا دقيقا، ثم يتكامل ليلة بعد
__________
(1) الأستاذ مصطفى الحديدي الطير: عضو لجنة التنسيق بمجمع البحوث الإسلامية - الأزهر.(4/317)
أخرى حتى يصير بدرا، ثم يتناقص شيئا فشيئا حتى يعود كالعرجون القديم كما بدأ، وهكذا كل شهر بطريقة لا خلل فيها ولا اضطراب مما يحير العقول والألباب.
* * *
ولهذه الكواكب إلى جانب ذلك وظائف في الكون، عرف بعضها العلماء المفكرون، وجهل ما لا يحصى منها الباحثون المحققون.
* ويرى من تحته سهولا جرداء، إذا وضع فيها الحب وأصابها الماء، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج طعاما للآكلين، وفاكهة للمتفكهين، وزينة لأهل الأذواق الرفيعة، وراحة للنفوس المكدودة.
ويرى من حوله جبالا شامخة أرسيت بها الأرض حتى لا تميد بالناس واتخذت منها القصور والحصون، ورصفت بها الطرق، ولها منافع وراء ذلك تفوت الحصر.
* ويرى اليابس من الأرض ينتهي إلى بحار بعيدة المدى، رهيبة جليلة المنظر، تموج فيها أمواج تلو أمواج ما بين رقيقة هينة، وعاتية عنيفة، وعلى ضفافها نسيم عليل، وهواء بليل، يلطف حرارة الجو، ويريح النفوس المكدودة، وينظم الأنفاس المضطربة، وتجري فيها عجائب الأسماك جماعات وأفرادا ما بين صغار وكبار، وهادئة ومفترسة، لها ألوان مختلفات تسر الناظرين وتبهج المتأملين، وهذه وتلك كل يسعى إلى رزقه بغرائز مودعة في أعصابها تجذبها إلى مراع بعيدة المدى، لم يسبق لها رؤيتها، ولم تسع من قبل إليها، تحيا إن بقيت في الماء، وتموت إن خرجت إلى الفضاء، بعكس سائر الحيوان، إذ يحيا باستنشاق الهواء، ويموت إذا غمر في الماء، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (1)
* ويرى الحر حين يحمى عليه وطيسه، ويشتد أواره، ويجعله يتصبب عرقا، ويجتهد نصبا، فإذا رحمة حانية، تأتيه من الغيب، فتبعث إليه نسيما عليلا، وهواء لطيفا، يجفف عرقه، ويريح أنفاسه.
* * *
يرى هذا وغير هذا من العجائب المتقنة ذات الجلال الرائع، فيقول لنفسه: من الذي أوجد هذا الكون وأبدعه، وجعل أجزاءه مترابطة، ومصالحه متعاونة متماسكة، وأحاط بكل شيء علما، وأحكمه تدبيرا، لا يغفل عن شيء ولا ينام، ولا تفوته ذرة في هذا الملكوت؟ فكل ما فيه تحت رعايته ورحمته، مشمول برعايته وعظيم تدبيره.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 14(4/318)
ثم تقول له نفسه: لماذا لا يكون هذا الكون قد وجد بنفسه بلا موجود يوجده، ومدبر يدبره، ولا يلبث أن يجد صوتا من الأعماق قد يناديه: أخطأت التقدير، وجاوزت المعقول، أليست هذه صنعة، وكل صنعة لا بد لها من صانع؟ أليست شيئا حادثا، وكل حادث لا بد له من محدث؟ فكيف يحدث الشيء نفسه؟ هل رأيت قصرا أو حصنا أو مصنعا أو أداة صنعت نفسها؟ فإذا قلت: كلا، فالجواب: إن هذا الكون لم يصنع نفسه، بل صنعه وأوجده موجود عظيم.
* ثم يكرر هذا الصوت نداءه من الأعماق، ويزيد في إرشاده إلى الحق فيقول: إن الوجود والعدم أمران متساويان، فلا يمكن أن يرجح الوجود على العدم بدون مرجح، فهل رأيت كفتي ميزان رجحت إحداهما على الأخرى بدون ما يرجحها ويثقلها، فإذا قلت: كلا، فالجواب: أن هذا الكون لا يمكن أن يترجح وجوده على عدمه السابق، إلا بموجد اختار إحداثه على إبقائه في حالة العدم.
وإذا قلت لك: إن الوجود والعدم أمران متساويان، فذلك من باب التساهل معك، وإلا فالحقيقة أن العدم أرجح من الوجود لسبقه إياه، فترجيح الوجود عليه لا يكون إلا بقدرة قادر، ومشيئة حكيم.
وإذا كانت منزلة الصانع من العلم والحكمة على مقدار صنعته، فصانع هذا الكون ومبدعه لا بد أن قدرته وعلمه وتدبيره لا غاية لعظمتها، وأنه على كل شيء قدير.
* فماذا رأيت أيها المتأمل بعد هذا العلم؟ ستقول إن كنت من المؤمنين: لقد ازددت به إيمانا على إيمان، وستقول إن كنت مرتابا: لقد كشف عن نفسي غطاؤها، وأصبحت موقنا بخالق هذا الكون، وأما إن كنت سادرا في غيك، متأثرا بإضلال غيرك، فلم ترفع لذلك رأسا، ولم تحرك لتلك الآيات فكرا، ولم تتأثر بها سمعا ولا قلبا ولا بصرا، فإننا نقول لك: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (1) .
* * *
__________
(1) سورة الحج الآية 46(4/319)
وحدانية الخالق جل وعلا
يقول هذا المفكر المتأمل:
اتضح عندي تماما أن لهذا الكون خالقا عظيما، ثم إن الإسلام يطالب الناس بالإيمان بأن الخالق العظيم واحد لا شريك له، ولكننا نرى الصنعة العظيمة تحتاج إلى عدد من المهندسين والعمال لكي يحولوها من فكرة إلى واقع، وإزاء هذا أريد أن أظفر بدليل يريح نفسي ومنطق واضح(4/319)
يهديني إلى ما يدعو إليه الدين الإسلامي من أن الخالق واحد أحد فرد صمد.
* ثم يسكت هذا المفكر هنيهة يسمع بعدها صوت مناد عابر، الحق يناديه من الأعماق قائلا: يا صاحبي، ليس شأن الكون كشأن سائر المنشآت، وليس شأن خالقه كشأن المهندسين والمخترعين، إن هذا الكون مرتبط بعضه ببعض برباط عجيب، ومتماسك بقوانين مشتركة، فلا يستطيع أن يوجده إلا إله يعلم كل شيء، ويقدر على كل شيء، ولا يصح عقلا أن يشاركه أحد في خلقه، ولو كان معه إله آخر لفسد وتصدع وتهاوى، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} (1) {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} (2) .
* إن المهندس يعجز عن تحقيق اختراعه بدون من يعاونه؛ لأن قدرته محدودة، وعلمه محدود، أما الخالق فلا غاية لقدرته، ولا منتهى لعلمه {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3) . إنه تعالى {قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (4) . ومن كان كذلك لا يحتاج إلى خالق آخر يشاركه في إبداعه ولا إلى عمال يساعدونه في إبراز مراده، حتى يخرج من عالم المشيئة إلى عالم الوجود، وينتقل من عالم الممكن إلى عالم الموجود.
* فيقول هذا المفكر لضميره: نحن نسمع أن للخالق ملائكة، فما شأنهم مع الله، وقد قلت: إنه تعالى ليس له شريك ولا معين؟
فيقول منادي الإيمان: إن هؤلاء الملائكة من خلق الله وإبداعه، وعهد إليهم بما كلفهم به من التكاليف في أرضه وسمائه، وقد فعل ذلك بحكم ربوبيته لهم، وعبوديتهم لجلاله وعظمته، وشأنهم في ذلك كشأن الناس، خلقهم وعهد إليهم بمختلف مصالحهم ومنافعهم والعناية بالحيوانات التي أخضعها لسلطانهم، وعمارة الأرض التي يعيشون عليها، وزراعة وديانها ووهادها، ليعيشوا هم وحيواناتهم على حاصلاتها، وأقدرهم على استخراج المعادن من جوفها، والانتفاع بما في البحار من أرزاقها وخيراتها.
* فإذا كان بنو الإنسان ليست لهم قدرة ذاتية حتى يقال: إنهم يعينون الخالق بها على ما نيط بهم، بل هم يستمدون قدرتهم ممن خلقهم، فكذلك الملائكة ليست لهم قدرة ذاتية حتى يقال: إنهم يعينون الله فيما نيط بهم، وإذا كان بنو الإنسان لا يعملون فيما هو من خلقهم، ولا يرسلون ماء السماء على أرضهم، ولا ينبتون النبات الذي بذروا حبه في الأرض، بل الذي أنبته هو خالقهم، فكذلك الملائكة لا يعملون إلا فيما خلقه الله، ولا يقدرون على شيء إلا بإقدار الله، فهو الذي يعينهم، أما هم فلا يعينونه.
* * *
__________
(1) سورة الملك الآية 3
(2) سورة الملك الآية 4
(3) سورة يس الآية 82
(4) سورة الطلاق الآية 12(4/320)
وما خلق السماوات والأرض والإنسان والملائكة إلا مظهر لصفة الجبروت والسلطان لله والقدرة والرحمة من الله، ولكي يعبده العابدون، ويثاب المحسنون ويعاقب المسيئون، وكيف تتوهم يا صاحبي أن الملائكة يعاونون الله، وقد خلق الله هذا الملكوت قبل أن يخلقهم، إنهم خلقوا لعبادة الله وطاعته، فهم كما قال الله: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (1) ، وشأنهم في ذلك شأن الجن والإنس في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (3) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (4) ، وإن من عبادة الملائكة لله تنفيذهم لما كلفهم به في ملكه، وإن ما يسند إلى الملائكة من أعمال كونية، ليس لحاجة الله إلى مساعدتهم ومعونتهم، بل لأن ذلك من جمال التنظيم الذي أجرى ملكه على نسقه ويجري على هذا النسق إقامة الملوك والرؤساء ليحكموا رعاياهم ويعمروا ممالكهم، وإلهام جماعات الحيوانات المختلفة أن تختار من بينها رئيسا لتنظيم شئونها، كما هو واضح في جماعات الطيور الراحلة من قطر إلى قطر، وفي جماعات النحل والنمل وغير ذلك، وصدق الله إذ يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (5) .
فالكون يا صاحبي مسلسل الطبقات، ولكل حي فيه وظيفة، سواء كانت وظيفة عليا أم دنيا، وبذلك تم النظام في الكون على أسلوب الجمال والجلال والتنسيق، وحتى بدا في أبدع نظام وأحكم إتقان.
* * *
__________
(1) سورة التحريم الآية 6
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة الذاريات الآية 57
(4) سورة الذاريات الآية 58
(5) سورة الأنعام الآية 38(4/321)
الأدلة العقلية على استحالة الشريك
قال المفكر لضميره الذي يلهمه: إنك تكلمت على عدم احتياج الخالق إلى عمال يساعدونه، وذكرت أن الملائكة لا يعملون في ملك الله معاونة له، بل امتثالا لأمره واكتسابا لمرضاته ومظهرا من مظاهر الجمال والنظام في ملكوته، بدليل أنه خلق الكون قبل أن يخلقهم، ولكنك لم تذكر الدليل العقلي على أنه ليس له شركاء يشتركون معه في الخلق والتدبير والألوهية. قال ضميره: أيها(4/321)
السائل المستفيد: إن الخالق سبحانه كما لم يحتج إلى عمال يساعدونه، فهو بغير حاجة إلى شريك أو شركاء يخلقون معه الكون ويدبرونه، لأن قدرته ومشيئته، وعلمه وحكمته، لا يخرج عن دائرتها أي ممكن من الممكنات، ومن كان كذلك فهو بغير حاجة إلى شريك في هذا الملكوت، فلا يصح فرض وجوده حتى لا يكون إلها وخالقا عاطلا ليس له عمل، لعدم الحاجة إليه، فضلا عن أنه لو كان له شريك لفسد الكون، كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (1) . ولتوضيح ذلك نقول: لا يخلو أمر هؤلاء الآلهة من أن يكونوا مؤتلفين أو مختلفين، فإن فرض أنهم مؤتلفون، وأن لكل واحد منهم قدرة وعلما وتدبيرا ومشيئة تماثل الآخرين - كما يقول بعض أهل الكتاب - وأن كل واحد منهم قادر على خلق الكون وتدبيره وحده، فأي حاجة إلى تعددهم مع كفاية واحد منهم لذلك، إن العقل يجزم بأن تعددهم حينئذ عبث، والعبث على الإله الخالق محال، فوجب أن يكون الإله واحدا.
* وإن فرض أن كل واحد منهم قادر على خلق بعض هذا الكون، ولكنه عاجز عن خلق باقي أجزائه، فلهذا تعددوا ليتعاونوا على خلقه كله، ومثل ذلك كمثل مهندسين يقومون بإنشاء مصنع، أحدهم يقوم بالبناء ما يتصل به، وثانيهم يقوم بإنشاء آلاته وتركيبها، وثالثهم يقوم بعمل الكهرباء، وبهذا يتم بناء المصنع، ويؤدي ما أنشئ من أجله.
* والجواب على هذا أن إبداع الكون ليس كإنشاء المصنع، حتى يقاس عليه، فالبناء في المصنع قائم بذاته، وآلاته قائمة بذاتها، وكذلك الكهرباء، ولذا يمكن أن يقام المصنع في أرض دون بناء حوله، وكل من البناء والكهرباء يستعمل في غير المصنع، أما الكون فمرتبط بعضه ببعض، لا يستغني جزء فيه عن غيره، ولذا تجد العناصر فيه واحدة في أرضه وسمائه، ونجد بعضها مرتبطا ببعض بقانون التناسب، فما لم يعلم الخالق ما في كل جزء من الكون من مناسبة للجزء الآخر في الخصائص، ويقدر على خلق جميع أجزائه، وربط بعضها ببعض على وجه يؤدي إلى ما نراه فيه من نظام وإحكام، فإنه لا يستطيع باشتراكه مع غيره التوصل إلى خلقه، لأنه لا يعرف ما يناسبه، ومن أجل ذلك لا يقدر على ربط ما يصنعه بغيره، فلهذا يستحيل أن يخلق هذا الملكوت العظيم آلهة عاجزون على هذا النمط المفروض.
* أما إن فرض اختلاف هؤلاء المتعددين، فإن ذلك يؤدي إلى تعارضهم، فهذا يريد أن يخلق هذا الكوكب - مثلا - وذاك لا يريد، وهذا يريد أن يخلق إنسانا وذاك لا يريد، فهل تعتقد أنه من الممكن تحقيق هذا التعارض؟ بأن يخلق الكوكب ولا يخلق، ويخلق الإنسان ولا يخلق، هل تعتقد أنه يمكن اجتماع النقيضين؟ فإن قلت: كلا، قلت: إذن يستحيل وجود عديد من الآلهة مختلفين، ألا ترى أنه يترتب على اختلافهم تنازعهم في الألوهية، ومحاربة كل منهم للآخر، ومحاولة إفساد ما صنع، وهل هذا
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 22(4/322)
يتفق مع ما نراه من هذا النظام البديع المحكم، كلا، إنه ناطق بأن الذي أوجده إله واحد، متصف بجميع الكمالات، منزه عن شوائب النقص، وصدق الله إذ يقول: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (1)
* يا صاحبي، إن الذي منع الناس من الاستضاءة بأنوار المعرفة عبادتهم لشهواتهم، وانصرافهم عن التبصر فيما حولهم من ملك الله، ولو تأملوا في خلق أنفسهم لاهتدوا إلى سواء السبيل، قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (2) وقال: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (3) {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (4) {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} (5) {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} (6) {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} (7) . ويقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (8) {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} (9) {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (10) .
* * *
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 22
(2) سورة الذاريات الآية 21
(3) سورة عبس الآية 17
(4) سورة عبس الآية 18
(5) سورة عبس الآية 19
(6) سورة عبس الآية 20
(7) سورة عبس الآية 21
(8) سورة المؤمنون الآية 12
(9) سورة المؤمنون الآية 13
(10) سورة المؤمنون الآية 14(4/323)
التوحيد أمر فطري
لو ترك الإنسان لفطرته ولم يؤثر عليه أهل السوء، لانصرف إلى الإيمان بالله وبصفات الكمال الواجبة له، فهذا أعرابي كان يسوق ناقة في ليل داج، والسماء صافية الأديم والفجاج أمامه فسيحة، فإذا فكره الفطري يتنقل بين عظمة السماء والأرض وآياتهما، ثم يقول بفطرته: البعرة تدل على البعير، وآثار السير على المسير، فأرض ذات فجاج، وسماء ذات أبراج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على إله عليم، قادر حكيم.
وهذا زيد بن عمرو بن نفيل نظر في هذا الكون العظيم، فاهتدى إلى خالقه، ورفض ما عليه قومه من الوثنية، وجعل يقول:
تركت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الرجل الصبور
فلا العزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني غنم أزور
ولا هبلا أزور وكان ربا ... لنا في الدهر إذ حلمي صغير
ويقصد زيد بن عمرو بابنتي العزى صنمي اللات ومناة، وكان هبل أعظم أصنام مشركي مكة، وكان على صورة إنسان، أدركته قريش ويده مكسورة، فجعلوا له يدا من ذهب، كما جاء في كتاب الأصنام للكلبي.
وبعد. . . فهذه عجالة يسيرة في التعريف بالخالق جل وعلا، كتبتها لأولي الألباب بأسلوب سهل ميسر، خال عما جرى عليه القدامى من العبارات الفنية المعقدة، ومشتمل على حوار خفيف يمنع الملل ويستدعي مواصلة القراءة، رجوت به أن يزداد المؤمن إيمانا، وينقشع الريب عمن أصابته ظلمة، والله الهادي إلى سواء السبيل.(4/324)
من ملفات الإفتاء
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(4/325)
إضافة اللقيط لمن تبناه إضافة نسب
فتوى رقم 122 وتاريخ 8 \ 5 \ 1392 هـ
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
رجل يسأل فيقول: نعرض لكم أن أحد أقاربنا قد تبنى له طفلا ذكرا لقيطا، ورباه وعلمه وأحسن إليه، وبطريق الاجتهاد والعطف أسماه " يوسف " ثم توفي المتبني في الزبير، وليس له أولاد يرثونه، والولد بلغ الرشد والتحق بمعهد الظهران الفني، وقد تشاور الأقارب في تعديل اسم اللقيط، فمنهم من يرى تعديل اسمه، ومنهم من لم ير ذلك اهتماما، وخشية من وقوع اختلاط في النسب وخطأ في المواريث، أرجو إفتائي بحكم الشرع في ذلك لنسير على ضوء الفتوى.
* * *(4/326)
وقد أجابت عليه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالجواب التالي:
لا يجوز شرعا إضافة اللقيط إلى من تبناه إضافة نسب يسمى فيها الولد اللقيط باسم من تبناه وينسب إليه اللقيط نسبة الولد إلى أبيه وإلى قبيلته كما جاء في الاستفتاء؛ لما في ذلك من الكذب والزور واختلاط الأنساب والخطورة على الأعراض وتغيير مجرى المواريث بحرمان مستحق وإعطاء غير مستحق، وإحلال الحرام وتحريم الحلال في الخلوة والنكاح، وما إلى هذا من انتهاك الحرمات وتجاوز حدود الشريعة، لذلك حرم الله نسبة الولد إلى غير أبيه، ولعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من انتسب إلى غير أبيه أو غير مواليه، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (1) {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: 32 «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام (3) » . رواه أحمد والبخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة (4) » 32، فاجتهاد المستفتي في التسمية المذكورة خطأ لا يجوز الاستمرار عليه، ويجب العمل على التغيير والتعديل؛ للنصوص الواردة في تحريم هذه التسمية وللحكم التي تقدم بيانها، وأما العطف على اللقيط وتربيته والإحسان إليه فمن المعروف الذي رغبت فيه الشريعة الإسلامية. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم.
* * *
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 4
(2) سورة الأحزاب الآية 5
(3) صحيح البخاري المغازي (4327) ، صحيح مسلم الإيمان (63) ، سنن أبو داود الأدب (5113) ، سنن ابن ماجه الحدود (2610) ، مسند أحمد بن حنبل (1/180) ، سنن الدارمي السير (2530) .
(4) صحيح مسلم الحج (1370) ، سنن الترمذي الولاء والهبة (2127) .(4/327)
نكاح الشغار
فتوى رقم 275 وتاريخ 8 \ 11 \ 1392 هـ
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي: (إن نكاح الشغار سائد في غالب مناطق الجنوب، وإن بعض الناس هناك يتخذون الحيل تخوفا من المطاردة، ومن تلك الحيل المباينة بين المهور والمباينة بين الأزمنة، بأن يتملك أحدهما اليوم والآخر بعد مدة، وأن يعقد أحدهما عند مأذون خلاف الذي عقد للآخر ويطلب إفتاء عن حكم هذا النكاح، وهل يخرج عن كونه شغارا، سيما وأن الشرط فيه: زوجني أزوجك وإلا فلا) .
* * *
وقد أجابت عليه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالجواب التالي:
سبق أن ورد لسماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - سؤال مماثل، وقد أجاب عليه، فإننا نكتفي به ونورد للسائل نصه، والجواب (الحمد لله: الشغار هو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، أو يزوجه أخته على أن يزوجه أخته، وليس بينهما صداق(4/328)
وسمي هذا النوع من التعاقد شغارا لقبحه؛ شبهه في القبح برفع الكلب رجله ليبول، يقال: شغر الكلب، إذا رفع رجله ليبول، فكان كل واحد رفع رجله للآخر عما يريد، وقيل: إنه من الخلو، يقال: شغر المكان، إذا خلا، والجهة شاغرة أي: خالية، والشغار فعال، فهو من الطرفين إخلاء بإخلاء بضع ببضع، ولا خلاف في تحريم الشغار وأنه مخالف لشرع الله، كما يدل على هذا الأحاديث الصحيحة الشريفة في تحريمه ومخالفته للمقتضيات الشرعية؛ ففي الصحيحين عن نافع عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن الشغار (1) » : والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، وليس بينهما صداق، وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا شغار في الإسلام (2) » . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشغار. والشغار أن يقول: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي (3) » . وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشغار (4) » ، وعن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج «أن العباس بن عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وقد كانا جعلا صداقا، فكتب معاوية بن أبي سفيان إلى مروان بن الحكم يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم (5) » - رواه أحمد وأبو داود. وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في تفسير الشغار كما اختلفوا في صحته، قال في نيل الأوطار: وللشغار صورتان؛ إحداهما المذكورة في الأحاديث، وهو خلو بضع كل منهما من الصداق، والثانية: أن يشرط كل واحد من الوليين على الآخر أن يزوجه وليته، فمن العلماء من اعتبر الأولى فقط، فمنعها دون الثانية. قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز، ولكن اختلفوا في صحته، فالجمهور على البطلان، وفي رواية مالك: يفسخ قبل الدخول لا بعده، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي. وذهبت الحنفية إلى صحته ووجوب المهر، وهو قول الزهري ومكحول والثوري والليث ورواية عن أحمد وإسحاق وأبي ثور، وقال ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد: اختلف الفقهاء في ذلك، فقال أحمد: الشغار الباطل أن يزوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته، ولا مهر بينهما، فإن سموا مع ذلك مهرا صح العقد بالمسمى عنده، وقال الخرقي: لا يصح وإن سموا مهرا، وقال أبو البركات ابن تيمية وغيره من أصحاب أحمد: وإن سموا مهرا وقالوا مع ذلك بضع كل واحدة مهر الأخرى لم يصح، وإن لم يقولوا ذلك صح، وقال في المحرر: ومن زوج وليته من رجل على أن يزوجه الآخر وليته فأجابه ولا مهر بينهما، لم يصح العقد، ويسمى نكاح الشغار، وإن سموا مهرا صح العقد بالمسمى، نص عليه، وقال الخرقي: ولا يصح أصلا، وقيل: إن قال فيه: وبضع كل واحدة مهر الأخرى لم يصح، وإلا صح، وهو الأصح. ونظرا لوجود الخلاف في المسألة فالذي يترجح عندنا أن ما كان منه شغارا صريحا لا خلاف فيه، وهو ألا يكون لأحدهما مهر، بل بضع في نظير بضع، أو هناك مهر قليل حيلة إن حكم هذا البطلان فيفسخ العقد فيه، سواء كان قبل الدخول أو بعده، وقد جاءت الشريعة الإسلامية بتحريم الشغار؛ لما فيه من التلاعب بمسئولية الولاية وما تقتضيه من وجوب النصح وبذل الجهد في اختيار من يكون عونا لها على ما يسعدها في حياتها الدنيا وفي الآخرة، وذلك أن الولي نظره لموليته نظر مصلحة ورعاية واهتمام لا نظر شهوة وتسلط وإهمال، فليست بمنزلة أمته أو بهيمته أو ما يملكه مما يعاوض بها على ما يريد، وإنما هي أمانة في عنقه يتعين عليه أن يحقق لها من زواجها كفاءة الزوج وصداق المثل، فكل راع مسئول عن رعيته، ومتى كان من الولي تساهل في
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5112) ، صحيح مسلم النكاح (1415) ، سنن الترمذي النكاح (1124) ، سنن النسائي النكاح (3337) ، سنن أبو داود النكاح (2074) ، سنن ابن ماجه النكاح (1883) ، مسند أحمد بن حنبل (2/62) ، موطأ مالك النكاح (1134) ، سنن الدارمي النكاح (2180) .
(2) صحيح البخاري النكاح (5112) ، صحيح مسلم النكاح (1415) ، سنن النسائي النكاح (3337) ، سنن أبو داود النكاح (2074) ، سنن ابن ماجه النكاح (1883) ، مسند أحمد بن حنبل (2/62) ، موطأ مالك النكاح (1134) ، سنن الدارمي النكاح (2180) .
(3) صحيح البخاري النكاح (5112) ، صحيح مسلم النكاح (1415) ، سنن الترمذي النكاح (1124) ، سنن النسائي النكاح (3337) ، سنن أبو داود النكاح (2074) ، سنن ابن ماجه النكاح (1883) ، مسند أحمد بن حنبل (2/62) ، موطأ مالك النكاح (1134) ، سنن الدارمي النكاح (2180) .
(4) صحيح البخاري النكاح (5112) ، صحيح مسلم النكاح (1415) ، سنن الترمذي النكاح (1124) ، سنن النسائي النكاح (3337) ، سنن أبو داود النكاح (2074) ، سنن ابن ماجه النكاح (1883) ، مسند أحمد بن حنبل (2/62) ، موطأ مالك النكاح (1134) ، سنن الدارمي النكاح (2180) .
(5) سنن أبو داود النكاح (2075) ، مسند أحمد بن حنبل (4/94) .(4/329)
توخي مصلحة موليته بإيثار مصلحته عليها كأن يعاوضه عليها بمال أو زوجة أو يعضلها عن الزواج انتظارا لمن يعطيه ما يريد، سقطت ولايته عليها وقامت ولايتها لمن يعنى بها وبمصالحها ممن هو أولى بولايتها. أما ما ذكره السائل أن الشغار منتشر في قبائل بني الحارث وغيرها فإنه يتعين عليه وعلى جميع الغيورين على مصالح المسلمين أن ينكروا ذلك عليهم بألسنتهم، فإن لم يحصل ارتداع فعليهم أن يرفعوا ذلك إلى ولاة الأمر، وسيقوم ولاة الأمر إن شاء الله بما يحق الحق ويبطل الباطل ويحفظ للإسلام حرمته والعمل بمقتضياته. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم) .
* * *(4/330)
في المواريث
فتوى رقم 288 وتاريخ 12 \ 11 \ 1392 هـ
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
رجل يسأل فيقول: إن له زوجة وأما وأختا لأب وابن عم هو عاصبه، وأن ابن عمه متباعد عنه لا يواصله ولا يساعده، وأنه يملك دارا ويريد أن يوقفها على أمه وزوجته وأخته، ثم بعد وفاتهن تعود وقفية الدار إلى جهة خيرية ثابتة كالمساجد مثلا، وأن يقصد بهذا التصرف حرمان ابن عمه من العصب فقط، ويسأل: هل يجوز هذا التصرف؟
* * *
وقد أجابت عليه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالجواب التالي:
روى الشيخان في صحيحيهما عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (1) » . وقد صرح المستفتي أنه لا يريد من تصرفه هذا إلا حرمان ابن عمه من العصب فقط، وعليه فإنه لا يظهر لنا جواز هذا التصرف والحال ما ذكر من النية، فإنه وإن كان ابن عمه غير وارث الآن لاستغراق الفروض المال، فقد يكون وارثا في المستقبل. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(4/331)
من آثار عملية نقل الدم
فتوى رقم 310 وتاريخ 15 \ 11 \ 1392 هـ
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
رجل يسأل فيقول: إن زوجته مريضة، وإنها بحال اضطرت إلى إسعافها بدم، وإن المستشفى سحب منه دما لزوجته، ويسأل: هل يؤثر ذلك على حياته الزوجية معها؟
* * *
وقد أجابت عليه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بما يلي:
لعل السائل وقع في نفسه قياس الدم على اللبن الناشر للحرمة، وهو قياس غير صحيح لأمرين: أحدهما: أن الدم ليس مغذيا كاللبن، والثاني: أن الذي تنتشر به الحرمة بموجب النص هو رضاع اللبن بشرطين: أحدهما: أن يبلغ الرضاع خمس رضعات فأكثر، الثاني: أن يكون في الحولين، وعليه فإنه لا أثر لهذا الدم المسحوب منك لزوجتك على حياتك الزوجية معها، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(4/332)
في زكاة أموال جمعت للتجارة
فتوى رقم 292 وتاريخ 12 \ 11 \ 1392 هـ
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
حيث عن رجل رئيس عشيرة جمع من عشيرته مائتي ألف ريال عربي بصفة أنه يريد جمعية تعاونية للتجارة، وضم معه من عشيرته فوق عشرة أعضاء في الجمعية، واشتغل بالتجارة من هذا المبلغ، ومكث هذا المبلغ عنده أربع سنين ولم يزك منه شيئا، وأصر على عدم زكاته، وقال: هو مجموع من أناس كثيرين، فمنهم من دفع خمسة آلاف ريال، ومنهم من دفع ثلاثة آلاف ريال وهكذا دواليك، حتى تكون هذا المبلغ، فهل تسقط الزكاة عن هذا المال؟ ومن المسئول عن هذا المبلغ في كل عام؟
* * *(4/333)
وقد أجابت عليه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بما يلي:
حيث ذكر السائل أن رأس مال هذه الشركة التعاونية مائتا ألف ريال، وأن هذا المبلغ مجموع من أناس كثيرين، فمنهم من دفع خمسة آلاف ريال، ومنهم من دفع ثلاثة آلاف ريال وهكذا دواليك، وأن هذه الجمعية تحت إشراف رئيس العشيرة، والأعضاء فوق العشرة الذين اختارهم، وأن هذا المبلغ يشغل بالتجارة، وأن زكاته لم تخرج من أربع سنوات، فبناء على ذلك فمتى بلغ نصيب كل واحد منهم نصابا ابتدأ حوله من بلوغه النصاب، ونصاب الفضة مائتا درهم، ونصاب الذهب عشرون مثقالا، وما حصل من الربح فحوله حول أصله فحوله حول أصله إذا بلغ نصابا، فتجب الزكاة في الأصل وفي ربحه، والمسئول عن إخراج الزكاة هو رئيس الجمعية وأعضاؤها؛ لأنهم يمثلون جميع المشتركين فيها، وينوبون عنهم في كل ما يتعلق بهذه الجمعية بمقتضى نظامها الذي يتمشى مع الشرع. لكن إن كان من أموال هذه الجمعية عقار يؤجر وجبت الزكاة في الأجرة لا في قيمة المؤجر، ويبدأ حول الأجرة من وقت استحقاقه، وإن كان مما تشغله هذه الجمعية عروض تجارة فإنها تقوم عند تمام الحول، وتخرج زكاتها من قيمتها. وإن كان مما يدخل تحت اشتراك هذه الجمعية ممتلكات ثابتة كالشيش التي يباع منها البنزين، أو مكائن كهرباء لإضاءة بلد ما، أو معدات زراعية، فإن هذه الممتلكات لا تجب الزكاة في قيمتها، وإنما تجب أجرتها إن كانت مؤجرة، وفي غلتها إن كانت تستغل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
* * *(4/334)
في الزكاة
فتوى رقم 282 وتاريخ 11 \ 11 \ 1392 هـ
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد استفتاء من أحد الإخوة السعوديين.
وقد وجدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء مشتملا على أسئلة فأجابت عنها على الترتيب التالي:
س 1 - موظف يوفر من مرتبه شهريا مبلغا متفاوتا من المال، شهر يقل التوفير، وشهر آخر يزيد، ويكون أولهما قد مضى عليه الحول والبعض الآخر لم يمض عليه الحول، ولا يعرف مقدار ما وفره في كل شهر، فكيف يزكيه؟
* * *
س 2 - موظف آخر يتسلم راتبه شهريا ويودعه في خزينة لديه كل ما استلمه، ويصرف من هذه الخزينة يوميا أو أوقاتا متقاربة نفقة بيته ومتطلباته على مبالغ متفاوتة حسب الحاجة، فكيف يكون حول ما يتوفر في الخزينة، وكيف تخرج الزكاة في مثل هذه الحال مع أن عملية التوفير كما أسلفنا لم يمض على جميعها الحول؟
س 3 - هناك كلمات تقال في المجتمعات الإسلامية في مجال إبراز النهج الذي تسير عليه هذه المجتمعات وفق التعاليم الإسلامية وهي قولهم: " وتمشيا مع العادات والتقاليد الإسلامية " نهجنا كذا إلى آخره، ونظرا لاختلاف بعض العلماء المعاصرين في جواز استعمالها من عدمه، ففئة ترى منع استعمالها؛ لأن الإسلام يختلف ويغاير للعادات والتقاليد وأكثروا الكلام عنها، ومن ضمن كلام بعضهم أن هذه الكلمة مدسوسة من قبل أعداء الإسلام. وفئة ترى ألا بأس باستعمالها لأن ذلك يدل على خضوع المسلم واستسلامه لما يأمره به ربه عز وجل، ولما يأمره به الرسول - عليه الصلاة والسلام - دون النظر إلى أي أمر آخر، وهذا هو غاية العبادة، وذلك استمدادا من التقليد الذي عرفه العلماء في كتب العلم لهذا الاختلاف. أرجو إيضاح ملابسات هذه الكلمة، ثم حكم استعمالها جوازا أو منعا مع الأدلة؟
* * *(4/335)
* ج 1، 2: لما كان السؤال الأول والثاني في معنى واحد، وكان لهما نظائر، رأت اللجنة أن تجيب جوابا شاملا تعميما للفائدة، وهو: من ملك نصابا من النقود، ثم ملك تباعا نقودا أخرى في أوقات مختلفة، وكانت غير متولدة من الأولى ولا ناشئة عنها، بل كانت مستقلة، كالذي يوفره الموظف شهريا من مرتبه، وكإرث أو هبة أو أجور عقار مثلا، فإن كان حريصا على الاستقصاء في حقه، حريصا على ألا يدفع من الصدقة لمستحقيها إلا ما وجب لهم في ماله من الزكاة، فعليه أن يجعل لنفسه جدول حساب لكسبه يخص فيه كل مبلغ من أمثال هذه المبالغ بحول يبدأ من يوم ملكه، ويخرج زكاة كل مبلغ لحاله كلما مضى عليه حول من تاريخ امتلاكه إياه.
وإن أراد الراحة وسلك طريق السماحة وطابت نفسه أن يؤثر جانب الفقراء وغيرهم من مصارف الزكاة على جانب نفسه، زكى جميع ما يملكه من النقود حينما يحول الحول على أول نصاب ملكه منها، وهذا أعظم لأجره، وأرفع لدرجته، وأوفر لراحته، وأرعى لحقوق الفقراء والمساكين وسائر مصارف الزكاة، وما زاد فيما أخرجه عما وجب عليه من الزكاة يقصد به التوسعة والإحسان شكرا لله على نعمه وكثرة عطائه، وأملا فيه سبحانه أن يزيده من فضله. {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (1) والله الموفق.
* * *
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 7(4/337)
ج 3 - إن الإسلام نفسه ليس عادات ولا تقاليد، وإنما هو وحي أوحى الله به إلى رسوله، وأنزل به كتبه، فإذا تقلده المسلمون ودأبوا على العمل به صار خلقا لهم، وشأنا من شئونهم، وكل مسلم يعلم أن الإسلام ليس نظما مستقاة من عادات وتقاليد ضرورة إيمانه بالله ورسوله وسائر أصول التشريع الإسلامي، لكن غلبت عليهم الكلمات الدارجة في الإذاعة والصحف والمجلات وفي وضع النظم واللوائح مثل ما سئل عنه من قولهم: " وتمشيا مع العادات والتقاليد "، فاستعملوها بحسن نية قاصدين منها الاستسلام للدين الإسلامي وأحكامه، وهذا قصد سليم يحمدون عليه، غير أنهم ينبغي لهم أن يتحروا في التعبير عن قصدهم عبارة واضحة الدلالة على ما قصدوا إليه غير موهمة أن الإسلام جملة عادات وتقاليد سرنا عليها أو ورثناها عن أسلافنا المسلمين، فيقال مثلا: " وتمشيا مع شريعة الإسلام وأحكامه العادلة " بدلا من هذه الكلمة التي درج الكثير على استعمالها في مجال إبراز النهج الذي تسير عليه هذه المجتمعات. . إلخ، ولا يكفي المسلم حسن النية حتى يضم إلى ذلك سلامة العبارة ووضوحها، وعلى ذلك لا ينبغي للمسلم أن يستعمل هذه العبارة وأمثالها من العبارات الموهمة للخطأ باعتبار التشريع الإسلامي عادات وتقاليد، ولا يعفيه حسن نيته من تبعات الألفاظ الموهمة لمثل هذا الخطأ، مع إمكانه أن يسلك سبيلا آخر أحفظ للسانه، وأبعد عن المآخذ والإيهام، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
* * *(4/336)
في الرضاعة
فتوى رقم 68 وتاريخ 22 \ 4 \ 1392 هـ
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الاستفتاء التالي:
وقد وجدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أنه مشتمل على سؤالين، فأجابت عن كل سؤال بعده:
س 1 - تزوج رجل امرأة فرضعت مع أولاده، ثم تزوج الرجل نفسه امرأة أخرى فأنجبت له ذكورا وبنتا، فهل يجوز لي أن أتزوج بهذه البنت الأخيرة، علما بأني لم أرضع من أمها ولم ترضع من أمي. اهـ؟
* * *(4/338)
في إفطار رمضان والقضاء والكفارة
فتوى رقم 102 وتاريخ 29 \ 4 \ 1392 هـ
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد استفتاء يتضمن سبعة أسئلة.
وقد أجابت عليها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء متبعة كل سؤال جوابه:
س 1 - إذا كان علي صيام عشرة أيام من رمضان منذ ثمان سنوات، والسبب كنت مريضا، فهل أصومها أو أكفر؟
* * *
ج 1 - حيث ذكرت أنك أفطرت بسبب المرض، ومضى عليك ثمان سنوات وأنت لم تصمها، فإن فطرك مشروع، ويجب عليك القضاء، ولا يجزئك أن تتصدق إلا إذا تقرر عجزك عنها عجزا دائما، فتكون بمنزلة الكبير الذي لا يستطيع الصيام، ومما يحسن تنبيهك عليه أنه إن كان قد حصل لك الشفاء قبل رمضان آخر لم يجز لك تأخير القضاء من غير عذر، ومن أخر القضاء من غير عذر حتى أدركه رمضان آخر حرم عليه، وحينئذ(4/339)
فعليك مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم ما يجزئ في كفارة، رواه سعيد بإسناد حسن عن ابن عباس والدارقطني بإسناد صحيح عن أبي هريرة، ومقدار الإطعام هو مد من البر عن كل يوم يعطي المساكين، وإن كان التأخير لعذر فليس فيه إلا القضاء.
* * *
س 2 - إذا كانت والدتي مريضة وذلك قبل رمضان بأيام، وأنهكها المرض وهي كبيرة السن، فصامت خمسة عشر يوما من رمضان، ولكن لم تستطع صيام ما تبقى ولم تقدر على القضاء، فهل يصح لها أن تتصدق، وكم يكفي في الصدقة يوميا، مع العلم بأنني أعولها، فهل أدفع ما عليها في حالة ما لم يكن عندها ما تتصدق به؟
* * *
ج 2 - من عجز عن الصوم لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا، قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (1) قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: نزلت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصيام فيطعمان مكان كل يوم مسكينا. رواه البخاري.
فأمك يجب أن تطعم عن كل يوم مسكينا، وهو مد بر، وإن كانت لا تجد ما تطعمه عن نفسها وأردت الإطعام عنها، فهذا من باب الإحسان، والله يحب المحسنين.
* * *
س 3: إذا كان الإنسان حريصا على صيام رمضان والصلاة في رمضان فقط، ولكنه يتخلى عن الصلاة بمجرد انتهاء رمضان، فهل له صيام؟
* * *
__________
(1) سورة البقرة الآية 184(4/340)
ج 3 - الصلاة ركن من أركان الإسلام، وهي آكد الأركان بعد الشهادتين، وهي من فروض الأعيان، ومن تركها جاحدا لوجوبها أو تركها تهاونا وكسلا فقد كفر، أما الذين يصومون رمضان ويصلون في رمضان فقط فهذا مخادعة لله، فبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان، فلا يصح لهم صيام مع تركهم الصلاة في غير رمضان.
س 4 - من كان يشرب الخمر ويزني دائما ويقوم بالصلاة وخلافها من الأركان ولكن لم يترك شرب الخمر والزنا، فهل تصح العبادة؟
* * *
ج 4 - من شرب الخمر أو زنى أو فعل شيئا من المعاصي مستحلا لها فقد كفر، ولا يصح مع الكفر عمل، ومن كان يفعل المعصية وهو مقر بتحريمها ولكن تغلبه نفسه ويرجو الله أن يعصمه منها فهذا مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته، والواجب على العبد إذا اقترف شيئا من المعاصي أن يتوب ويرجع إلى الله جل وعلا ويعترف بذنبه، ويعزم على ألا يعود إليه ويندم على فعله، ولا يتلاعب في دين الله ويغتر بستر الله عليه أو إمهاله له، فإن الله جل وعلا أخرج إبليس من رحمته وطرده طردا مؤبدا وجعله شيطانا رجيما بسبب ذنب واحد، أمره الله بالسجود لآدم فامتنع، وأهبط الله آدم من الجنة بسبب أنه عصى الله جل وعلا معصية واحدة، ولكن آدم تاب فتاب الله عليه وهداه إلى صراط مستقيم، فلا يجوز للعبد أن يكون مسلكه مع ربه مسلك المخادع الماكر، بل الواجب عليه أن يقف مع الله موقف الخائف، يفعل ما أمره به ويترك ما نهاه عنه.
* * *
س 5: هل يجوز لشخص مؤمن أن يشرب الخمر بدعوى علاجه من بعض الألم؟
* * *
ج 5 - الخمر حرام لا يجوز التداوي بها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عباد الله، تداووا، ولا تتداووا بحرام؛ فإن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها (1) » .
__________
(1) سنن الترمذي الطب (2038) ، سنن أبو داود الطب (3855) ، سنن ابن ماجه الطب (3436) ، مسند أحمد بن حنبل (4/278) .(4/341)
س 6 - إذا شرب الشارب الخمر وسقى بها بعض رفاقه يوم عقد قرانه بالزواج هل يؤثر ذلك في عقد الزواج، وكان ذلك في يوم العقد وأيام بعده، وكان المأذون أعلم بوجود ذلك في الشارب؟
ج 6 - إن كان العقد حصل من المتعاقدين في حال سكرهما فإنه غير صحيح، وإن حصل في غير حال السكر فإنه صحيح، ولكن هذا العمل كفران بنعمة الله، ومقابلة نعمته بمعصيته.
* * *
س 7 - هل يجوز للمرأة أن تذبح أي ذبيحة أو لا تجوز ذبيحة المرأة؟
* * *
ج 7 - الأصل في أحكام الشريعة اشتراك الرجال والنساء فيها إلا إذا دل دليل على الخصوصية، والذبح من الأحكام المشتركة، ولا نعلم دليلا يدل على خصوصيته بالرجل، والأدلة العامة الدالة على مشروعية الذبح يدخل فيها الرجال والنساء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
* * *(4/342)
في الرضاعة
فتوى رقم 116 وتاريخ 3 \ 5 \ 1392 هـ
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
لقد ملكت بنتي على ولد أخي، وبعد عقد الملاك تأكدنا من امرأة والد الولد المتزوج بأنها قد أرضعت البنت المتزوجة خمسة أيام، والأكيد والأصح أربعة متتابعة، علما بأن المرضعة ليست أم الولد المزوج، بل عمته زوجة أبيه، فهل تحل البنت لهذا الولد؟
* * *
وقد أجابت عليه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالجواب التالي:
إذا كانت البنت المعقود له عليها قد رضعت من زوجة أبيه من لبنها، وكان الرضاع خمس رضعات في الحولين، فإن هذه البنت تكون أختا له من الرضاع، وعليه فلا يجوز له أن يتزوجها؛ لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (1) إلى أن قال: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (2) ولقول عائشة - رضي الله عنها -: أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخ من ذلك خمس رضعات، وصار إلى خمس رضعات معلومات يحرمن، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك رواه مسلم، ولقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (3) ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام (4) » . قال الترمذي: حسن صحيح. والرضعة هي أن يمتص الرضيع اللبن من الثدي ثم يقطعه لتنفس، أو انتقال إلى ثدي آخر ونحوه، فهذه رضعة، فإن عاد ولو قريبا فثنتان وهكذا. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة النساء الآية 23
(2) سورة النساء الآية 23
(3) سورة البقرة الآية 233
(4) سنن الترمذي الرضاع (1152) .(4/343)
حكم الإحداد
على الملوك والزعماء
في نظر الشريعة الإسلامية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد.
فقد جرت عادة الكثير من الدول الإسلامية في هذا العصر بالأمر بالإحداد على من يموت من الملوك والزعماء لمدة ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر، مع تعطيل الدوائر الحكومية وتنكيس الأعلام، ولا شك أن هذا العمل مخالف للشريعة المحمدية، وفيه تشبه بأعداء الإسلام، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنهى عن الإحداد وتحذر منه إلا في حق الزوجة؛ فإنها تحد على زوجها أربعة أشهر وعشرا كما جاءت الرخصة عنه - صلى الله عليه وسلم - للمرأة خاصة أن تحد على قريبها ثلاثة أيام فأقل، أما ما سوى ذلك من الإحداد فهو ممنوع شرعا، وليس في الشريعة الكاملة ما يجيزه على ملك أو زعيم أو غيرهما، وقد مات في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنه إبراهيم وبناته الثلاث وأعيان آخرون، فلم يحد عليهم - عليه الصلاة والسلام - وقتل في زمانه أمراء جيش مؤتة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة - رضي الله عنهم - فلم يحد عليهم، ثم توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أشرف الخلق وأفضل الأنبياء وسيد ولد آدم، والمصيبة بموته أعظم المصائب - ولم يحد عليه الصحابة رضي الله عنهم، ثم مات أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو أفضل الصحابة وأشرف الخلق بعد الأنبياء فلم يحدوا عليه، ثم قتل عمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء وبعد أبي بكر الصديق فلم يحدوا عليهم(4/344)
وهكذا مات الصحابة جميعا فلم يحد عليهم التابعون، وهكذا مات أئمة الإسلام وأئمة الهدى من علماء التابعين ومن بعدهم، كسعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين زين العابدين، وابنه محمد بن علي، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، والإمام أبي حنيفة، وصاحبيه، والإمام مالك بن أنس، والأوزاعي، والثوري، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة العلم والهدى، فلم يحد عليهم المسلمون، ولو كان خيرا لكان السلف الصالح إليه أسبق، والخير كله في اتباعهم، والشر كله في مخالفتهم، وقد دلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي أسلفنا ذكرها على أن ما فعله سلفنا الصالح من ترك الإحداد على غير الأزواج هو الحق والصواب، وأن ما يفعله الناس اليوم من الإحداد على الملوك والزعماء أمر مخالف للشريعة المطهرة، مع ما يترتب عليه من الأضرار الكثيرة وتعطيل المصالح والتشبه بأعداء الإسلام، وبذلك يعلم أن الواجب على قادة المسلمين وأعيانهم ترك هذا الإحداد والسير على نهج سلفنا الصالح من الصحابة ومن سلك سبيلهم، والواجب على أهل العلم تنبيه الناس على ذلك وإعلامهم به؛ أداء لواجب النصيحة وتعاونا على البر والتقوى ولما أوجب الله سبحانه من النصيحة لله ولكتابه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللأئمة المسلمين وعامتهم رأيت تحرير هذه الكلمة الموجزة.
وأسأل الله عز وجل أن يوفق قادة المسلمين وعامتهم لكل ما فيه رضاه والتمسك بشريعته والحذر مما خالفها، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، إنه سميع الدعاء قريب الإجابة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه.
الرئيس العام
لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(4/345)
سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز المحترم
بعد التحية. . .
تسلمت بمزيد من السرور خطابكم رقم 1606 \ 2 وتاريخ 18 \ 11 \ 1397 هـ ومعه العدد الثالث من مجلة البحوث الإسلامية، التي حوت من البحوث الإسلامية المفيدة والمقالات النافعة ما يستفيد منه كل مسلم حريص على التمسك بأهداب دينه.
وإذ أشكر لسماحتكم اهتمامكم بنشر التراث والعمل على نشر الدعوة الإسلامية لأرجو أن تبعثوا للحرس الوطني عدد (200) مائتي نسخة من هذه المجلة بصفة دائمة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . .
نائب رئيس الحرس الوطني بدر بن عبد العزيز(4/348)
حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
"سلمه الله"
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
تلقيت رسالة فضيلتكم رقم 2065 \ 1 المؤرخة 27 \ 8 \ 96 م. . وبرفقتها نسخة من مجلة البحوث الإسلامية العدد الثاني راجيا من الله أن يوفق الجميع لما فيه الخير وللمجلة مزيد التقدم.
ولفضيلتكم تحياتي.
نواف بن عبد العزيز(4/349)
فضيلة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
تلقيت بالتقدير رسالتكم الكريمة وبرفقتها مجلة البحوث الإسلامية العدد الثاني والتي كانت زاخرة بالبحوث العلمية والإسلامية القيمة، معبرا لفضيلتكم عن سروري وامتناني بالمستوى الجيد الذي كانت عليه تلك المجلة والتي ستكون بإذن الله مرجعا نافعا لكل طالب علم.
مع أطيب تمنياتي.
سعود الفيصل
وزير الخارجية(4/350)
فضيلة الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . وبعد:
تلقيت شاكرا خطاب فضيلتكم رقم 2037 \ 1 \ وتاريخ 25 \ 8 \ 96 م والمرفق به نسخة من مجلة البحوث الإسلامية العدد الثاني. .
وإنني إذا أشكر لفضيلتكم ذلك لأرجو من الله العلي القدير أن يوفقكم والعاملين على هذه المجلة لما فيه الخير والسداد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لرعاية الشباب
فيصل بن فهد بن عبد العزيز(4/351)
سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
"حفظه الله"
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
تسلمت خطابكم رقم 1332 تاريخ 21 \ 8 \ 96 م وبرفقه العدد الثاني من مجلة البحوث الإسلامية. . وإنني أحمد الله على المستوى الذي جاءت عليه من حيث المادة والإخراج. . بحيث جاء إخراجها جذابا موفقا.
فأرجو قبول تهنئتي وأسرة وزارة الإعلام على المستوى الذي ظهرت به. . وعلى المجهود الموفق الذي بذل فيها. وكان إصدارها جيدا يدل على العمل الجاد في خدمة العلم والبحث والثقافة. وإني إذ أشكركم وجميع القائمين معكم على ما تبذلونه من الجهود الموفقة لخدمة العلم.
أسأل الله أن ينفع بها وأن يوفقنا جميعا لما فيه الخير والسداد.
والله يحفظكم.
وزير الإعلام
محمد عبده يماني(4/352)
سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
إشارة لخطابكم رقم 166 \ 2 وتاريخ 18 \ 10 \ 97 المرفق به نسخة من مجلة البحوث الإسلامية. . يسرني أن أشكر سماحتكم على هذه الهدية المليئة بالبحوث والدراسات الإسلامية المفيدة، أرجو الله العلي القدير أن ينفع بها المسلمين وأن تكون نبراس خير وهداية، والحقيقة أنها مثال للجهد الطيب والعمل المتقن، وهذا ليس بكثير على نخبة وهبت نفسها لخدمة الإسلام والمسلمين. . فأرجو من الله أن يوفق القائمين عليها حتى تؤتي المجلة ثمارها وتحقق الهدف الذي من أجله أنشئت. . كما أرجو أن يتكرم سماحتكم بالأمر بتزويدي بالعدد الأول والثاني من هذه المجلة لأنهما يحتويان على بحوث ومقالات قيمة.
والله أسأل أن يجزيكم عنا خير الجزاء. . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وزير الإعلام محمد عبده يماني(4/353)
رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية. . . المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
تسلمت العدد الثالث من مجلة البحوث الإسلامية الواردة رفق كتابكم رقم 158 \ 2 \ م وتاريخ 18 \ 11 \ 1397 هـ.
وإنني إذ أشكركم على إهدائكم الكريم لأود أن أحييكم على الجهد المخلص المبذول في إخراج هذا العدد. مع تمنياتي الطيبة للمجلة بالتقدم والازدهار.
مع خالص التحية
مدير جامعة الملك فيصل د. محمد سعيد القحطاني(4/354)
الأستاذ عثمان الصالح رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية الموقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
إشارة إلى خطاب سعادتكم رقم 424 \ 2 \ م في 8 \ 11 \ 1396 هـ وبرفقه خمس نسخ من العدد الثاني من مجلة البحوث الإسلامية.
يسرني بمناسبة إصدار العدد الثاني من مجلة البحوث الإسلامية أن أشيد بما قدمته المجلة من مواد قيمة وبحوث مفيدة، وجودة صدورها يدل على العمل الجاد والجهد المبذول المفيد لخدمة العلم والبحث والثقافة، مما يجعل القارئ يتنقل بين مواضيع شتى مفيدة، ولا يسعني إلا أن أقدم لسعادتكم جزيل شكري ولجميع القائمين معكم على ما تبذلونه من الجهود الموفقة لخدمة الدين والذود عنه وجذب القراء لرفع مستواهم الثقافي العام، متمنين للجميع التوفيق والسداد، مع أطيب تمنياتنا للمجلة بالتقدم والازدهار في عهد جلالة الملك خالد المعظم وسمو ولي عهده الأمين المعظم، والله يحفظكم.
مصطفى إبراهيم المدني رئيس الشعبة العسكرية برئاسة مجلس الوزراء(4/355)
الأخ الكريم الشيخ عثمان الصالح
رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية حفظه الله
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته
تسلمت - ببالغ التقدير - العدد الثالث من المجلة المرافق لكتابكم ذي الرقم 154 \ 2 \ م المؤرخ في 18 \ 11 \ 1397 هـ. وأشكركم على الاهتمام والمتابعة، والإسهام الفعال في نشر علوم الإسلام وبحوثه الحيوية، وأرجو لكم العون والتوفيق وللمجلة الازدهار والانتشار، وأن ينفع الله بها.
ولكم شكري ودعائي الصالح.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم د. عبد الله بن عبد المحسن التركي مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية(4/356)
فضيلة الشيخ عثمان الصالح. . . المحترم
رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
استلمت خطابكم رقم 159 \ 2 \ م في 18 \ 11 \ 1397 هـ، ومرفق به العدد الثالث من مجلة البحوث الإسلامية، وبهذه المناسبة أعبر لكم عن جزيل شكري وتقديري على هذه المبادرة من قبلكم، وقد وجدت في هذا العدد ثروة قيمة من الدراسات الإسلامية التي ستساهم إن شاء الله في توضيح بعض الجوانب المهمة في الشريعة الإسلامية، أرجو لكم كل التوفيق في أعمالكم القيمة.
وتقبلوا فائق تحياتي. .
وكيل جامعة البترول والمعادن عبد العزيز عبد الرحمن القويز(4/357)
فضيلة الشيخ عثمان الناصر الصالح المحترم
رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
تلقيت رسالتكم المؤرخة 25 \ 10 \ 93 رقم 116 \ 2 \ م أدعو الله تعالى أن يكلل جهودكم وجهادكم بالقلم في سبيل إعلاء كلمة الحق بالنجاح، وأن تعم الرسالة السامية جميع أرجاء العالم لمكافحة الغزو الفكري الغربي، الذي يجتاح العالم الإسلامي، ومن فضل الله على هذه الأمة أن قيض في كل عصر ومصر رجالا أكفاء لصد الهجوم على الإسلام والمسلمين بلسانهم وقلمهم، فأرحب بإدارة البحوث العلمية التي قررت إصدار هذه المجلة وأهنئها على تولي هذه الخدمة الجليلة.
ونظرا لارتباطاتي العاجلة والرحلات المتواصلة منذ بعض الوقت سوف لا أتمكن من تلبية رغبتكم عاجلا، ولكني واثق بأني كلما أتاحت لي الظروف الفرصة سأقوم بهذا الواجب للمشاركة في هذا المجهود الكريم، ولكم جزيل الشكر، والله هو الموفق الأعلى.
أبو الحسن علي الحسني الندوي(4/358)
فضيلة الأستاذ الفاضل عثمان الصالح
رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
سعدت بتلقي خطابكم رقم 413 تاريخ 4 \ 1 \ 1397 هـ الذي يعبر عما تكنوه لابنكم من عواطف طيبة، وإنني أشارككم نفس المشاعر، ولكم عندي كل تقدير ومحبة، مع اعتزازي بمعرفتكم كرائد من رواد التربية والتعليم الذين ساهموا منذ أمد بعيد في نشر المعرفة بين الأجيال، وكان من بينهم القيادات الفذة التي تشارك في عملية التنمية في بلادنا العزيزة.
ولا أنسى أن أشيد بالجهود التي تبذلونها في مجال نشر الوعي الإسلامي من خلال إشرافكم على مجلة البحوث. وأملي استمرار تزويدي بهذه المجلة القيمة، كذلك العددين المشار إليهما في خطابكم حيث لم ترد برفقة. والله الموفق.
ولسعادتكم أطيب تحياتي.
وكيل وزارة الإعلام للشئون الإعلامية د. عبد العزيز محي الدين خوجه(4/359)
فصيلة الشيخ عثمان الصالح
رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية الموقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فقد وصل خطابكم الكريم رقم 56 \ 2 \ م وتاريخ 22 \ 10 \ 1397 هـ، ويسعدني أن أبدي لكم أني تسلمت مع الشكر والتقدير هديتكم الثمينة العدد الثالث من مجلة البحوث الإسلامية الغراء، وقرأته فوجدته عددا حافلا بالمواد العلمية الإسلامية الدسمة المفيدة، وقد أضفى عليه فضيلتكم خاصة ديباجة مشرقة. والإخراج كان عظيما. بارك الله في جهودكم المكللة دائما بالتوفيق والنجاح. وقد كتبنا كلمة مناسبة عن العدد المشار إليه في المنهل بعدد ذي الحجة 1397 هـ؛ وذلك لأن وصول عدد مجلة البحوث الإسلامية كان بعد الانتهاء من توضيب وتنظيم مواد عدد ذي القعدة عام 97 هـ حسب الترتيب الجديد للمنهل مع المطبعة. ونهنئكم بنجاح مجهودكم العلمي والصحفي الكبير. نسأل الله لكم طول العمر في هناء وصحة ومسرات مقرونا ذلك بالتوفيق الدائم إن شاء الله.
والله يحفظكم ويرعاكم.
المخلص صاحب مجلة المنهل عبد القدوس الأنصاري(4/360)
الشيخ عثمان الناصر الصالح رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
تسلمت خطابكم الكريم رقم 136 \ 2 \ م وتاريخ 19 \ 9 \ 96 المشفوع به أربع نسخ من العدد الثاني من مجلة البحوث الإسلامية، ولقد ألقيت عليه نظرة عابرة، وقد راقني وأعجبني وأثلج صدري هذا الحشد الكبير من أصحاب السماحة والفضيلة والسعادة العلماء المثقفين ذوي المؤهلات العالية والفهم العميق لأمور الدين والحياة والذين شاركوا في الكتابة فيها وتلك المواضيع الكثيرة التي احتوتها المجلة والبحث القيم الذي تطرق له أولئك العلماء الأفاضل في كتاباتهم وبحوثهم التي يفتقر إليها كل مسلم؛ لأن فيها تبصيرا له وإرشادا للطريق الصحيح الذي يوصله إلى الفلاح في الدنيا والآخرة.
وكم كانت غبطتي عظيمة بذلك إلى جانب ما اشتملت عليه المجلة من طباعة أنيقة وتبويب منسق وطباعة واضحة سهلة تعين القارئ على الاسترسال والاستزادة وإشباع نهمه في قراءتها في أقل وقت ممكن، وهذه هي الأشياء اللامعة التي شدت انتباهي لأول وهلة من إلقاء نظرة عابرة، وأقول: عابرة لأن ضخامة العدد وكبر حجمه يتطلب وقتا ليتسنى بعد ذلك الإلمام بشكل أكثر دقة بتلك المعلومات والبحوث والدراسات، وفي الحقيقة أن خير ما يطلق على هذه المجلة هو أنها (دائرة معارف) ، وهذا بدون شك يعطي فكرة واضحة عن الجهود المبذولة والعرق الذي انسكب في سبيل إخراج المجلة بهذا الإخراج الجيد الذي يرفع الرأس، وبدون شك فأنتم وزملاؤكم ممن شاركوا في تحريرها أهل لكل خير، وفيكم الخير، ونأمل أن تسير المجلة في أعدادها القادمة من حسن إلى أحسن. وحيث إن المجلة ليست في حاجة إلى استزادة إلا أنني من باب المحبة الصادقة للمجلة ورئيس تحريرها أقول:
لاحظت كتابة اسم المجلة وبعض المعلومات عنها بالصفحة الأخيرة من الغلاف باللغة الإنجليزية، وفي رأيي أن هذا شيء جميل، لكن الفائدة منه محدودة، فحبذا لو أنكم أخذتم بفكرة طباعة المجلة باللغتين العربية والإنجليزية، ولو أدى ذلك إلى التقليل من حجمها الحالي؛ لأن الفائدة ستكون أعم، ولأنها ستكون أكثر ذيوعا وانتشارا، وسيقرؤها ويستفيد منها إخوة لنا مسلمون لا يعرفون اللغة العربية، فما هو رأيكم؟ أرجو أن يتحقق ذلك في القريب العاجل. وقبل ختام رسالتي هذه أشكركم كثيرا على هديتكم القيمة، وأدعو لكم من صميم قلبي بالتوفيق، ولكم تحياتي.
عبد العزيز بن حمد السويلم
مدير عام الإدارة بمجلس الأمن الوطني(4/361)
الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله
فضيلة الشيخ عثمان الصالح
دام حفظكم والسلام عليكم ورحمة الله وبعد:
فقد أطلعني الأخ الأستاذ محمد بن عبد السلام على رسالتكم التي بعثتموها إليه تحيون فيها وفد علماء المغرب الذي زار المملكة العربية السعودية في الأسبوع الماضي، فتأثرت بالغ التأثر بما تضمنته من المشاعر النبيلة نحو إخوانكم وبلدكم الثاني، وقدرت هذا الاهتمام الذي جعلكم تتبعون خطواتنا وتعيشون بفكركم معنا أينما توجهنا، ولا غرو فالأديب يحن إلى الأديب، كما تحن النيب إلى النيب، وما يجمع بيننا أكثر من وشيجة، وعملنا في الدعوة والجهاد ليس فيه من دون الله ورسوله وليجة.
أما عن إكرامنا في بيتكم العامر فقد قام به نيابة عنكم سماحة الرئيس الشيخ ابن باز حفظه الله ومعالي وزير العدل الشيخ إبراهيم آل الشيخ، والجماعة. وهل كان وجودنا في السعودية إلا إكراما خاصا من كل سعودي سعودي. . الأمر الذي طوقنا بأياد نسأل الله أن يعيننا على أداء بعض حقها، وألا يجعله آخر عهد بكم هنا أو هناك. وشكرا لكم على أعداد مجلة البحوث التي تفضلتم بإهدائها إلى أعضاء الوفد، وعلى كل ما لقيناه منكم من حفاوة استقبال ومزيد احتفال، وعلى خالص المودة والاحترام، والسلام.
عبد الله كنون رئيس رابطة علماء المغرب(4/362)
فضيلة الشيخ عثمان الصالح رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية الموقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد فقد أتيح لي - بفضل الله ومنه - فرصة سعيدة للاطلاع على مجلتكم الغراء الحافلة بأنواع العلوم الجامعة لشتات المعارف الفياضة بمواهب الله لعباده الذين حملهم مسئولية إيضاح معالم الدين والدفاع عن حرماته، ولعمري لقد كان لهذه المجلة أحسن الأثر في نفسي، فقد تصفحتها ولم أجد فيها إلا ما يشرح الصدر ويقر العين وما أحوجنا - ونحن في عصر استطار في هشيمه الفساد وهاجت فيه أعاصير الإلحاد فأطفأت المصابيح وطمست المعالم واقتلعت جذور الإيمان والفضيلة - إلى نشر الوعي الإسلامي في الأوساط المسلمة حتى يأخذ المسلمون حذرهم ويتحملوا رسالتهم ويدركوا واقعهم ليتبوأوا مكانتهم من بين الأمم.
وفق الله الكل لكل خير وأخذ بأيدينا جميعا إلى ما فيه رضاه والسلام عليكم ورحمة الله.
أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام لسلطنة عمان(4/363)
إلى حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض
المملكة العربية السعودية.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لقد اطلعنا على هذه المجلة ووجدناها حافلة بالمقالات العلمية والبحوث القيمة التي لا تدر بثمن، ولهذا فإننا نرجو من فضيلتكم إدراج اسم مكتبة مركز الدراسات الإسلامية العالية " كلنتن، نيلم فوري كوتبهارو " ضمن قائمة التوزيع من المجلة المذكورة التي تحت إشرافكم.
أخيرا وفقنا الله لخدمة الإسلام والمسلمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المخلص (عبد القادر بن حاج محمد) أمين مكتبة مركز الدراسات الإسلامية العالية كلنتن، نيلم فوري، ماليزيا(4/364)
الأخ العزيز الأستاذ عثمان الصالح
رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية
الرياض، المملكة العربية السعودية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بعد التحية والاحترام يسعدني أن أحيط علم سيادتكم بأن مجلة البحوث الإسلامية العدد الأول والثاني التي طلبناها من فضيلتكم قد تسلمناها. فلكم منا جزيل الشكر على هذه الهدية العلمية الكريمة. ونبارككم الموافقة للرئيس العام في إدراج مكتبة المركز ضمن قائمة توزيع المجلة.
وأسأل الله أن يوفقنا جميعا لما فيه رضاه والسلام.
المخلص (عبد القادر بن حاج محمد) أمين مكتبة مركز الدراسات الإسلامية العالية كلنتن، نيلم فوري، ماليزيا(4/365)
فضيلة الشيخ عثمان الصالح
رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية الغراء
تحية طيبة وبعد،
فقد تلقيت بمزيد السرور رسالتكم المؤرخة في 26 \ 5 \ 97 م ومعها نسخة من العدد الثاني من مجلة البحوث الإسلامية. فشكر الله لكم هذه الهدية النافعة، وجزى الله الشيخ عبد الرحمن البسام الذي اقترح اسمي خير الجزاء.
وبالاطلاع على هذه المجلة وجدتها حافلة بالبحوث القيمة المتنوعة التي أسهم في تقديمها علية من علماء العالم الإسلامي، كما أعجبني ترتيب موادها وإخراجها بهذه الصفة المشرفة.
وإنني إذ أهنئكم بما وفقتم إليه بإصدار هذه المجلة، أرجو لكم استمرار التوفيق، وسأكتب من جهتي إلى جميع الدوائر المعنية لدينا للاشتراك في المجلة بما يكفل ذيوعها في منطقتنا.
والسلام عليكم ورحمة الله.
د. عز الدين إبراهيم المستشار الثقافي لرئيس دولة الإمارات العربية المتحدة(4/366)
الأخ الكريم الأستاذ عثمان الصالح المحترم
رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
وبعد. . فلقد تلقيت ببالغ الغبطة والسرور العدد الأول والثاني من مجلتنا الغراء " البحوث الإسلامية " التي أعجبت فيها أيما إعجاب، وأكبرت الجهد الذي بذل لإخراجها بهذا الثوب الرائع القشيب، فضلا عن المحتوى القديم من المقالات الدسمة التي دبجتها أقلام أفاضل العلماء ورجال الفكر الإسلامي، وإنني لأبتهل إلى الله العلي القدير أن يسدد خطاكم ويأخذ بأيديكم إلى مزيد من التقدم والتوفيق، وأن يجعل هذه المجلة صوتا من أصوات الإسلام تنطق باسمه وتعلي كلمته وتنشر دعوته وتعرضه للناس بأسلوب العصر، وتفند كل ما يثار حوله من غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وترد عنه كيد الكائدين وتخرصات المبطلين. . جزاكم الله كل خير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد الله عقيل مدير الشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت(4/367)
فضيلة الشيخ عثمان الصالح. . . حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
يسعدني إحاطتكم علما باستلامنا لمذكرتكم رقم 294 \ 2 \ م في 10 \ 10 \ 96 والمرفق بها نسخة واحدة من العدد الثاني لمجلة البحوث الإسلامية، وإنني حين أهنئكم على حسن الإخراج مع غزارة المادة التي تحتويها هذه المجلة، أطلب منكم أن تزودوا مخصص المكتب لاعتقادي الجازم بكثرة راغبيها، كما ألفت نظر فضيلتكم إلى أن العدد الأول لم يصل إلى المكتب - إن كان سبق وأن أرسل - وأرجو تزويدنا بنسخ منه، سائلا المولى الكريم أن يأخذ بأيدي العاملين إلى ما فيه خدمة المسلمين ورفع راية الإسلام، وأن يمنحكم التوفيق والسداد، والمجلة الدوام والازدهار.
وتقبلوا تحياتي الطيبة.
أخوكم الملحق التعليمي بتونس عبد الملك بن عبد الله آل الشيخ(4/368)
رئيس تحرير (مجلة البحوث الإسلامية) المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
إشارة إلى خطاب سعادتكم رقم 293 \ 2 \ م وتاريخ 10 \ 10 \ 96 م المرفق به نسخة من العدد الثاني من (مجلة البحوث الإسلامية) أفيد سعادتكم بأني استلمت هذه النسخة، وإني أهنئ الجهود المخلصة التي بذلت لإخراج هذه المجلة، شاكرا لسعادتكم اهتمامكم وتعاونكم البالغ لما فيه صلاح أمتنا والعالم الإسلامي أجمع، راجيا من الله العلي القدير أن يحفظكم وأن تزودونا مستقبلا بأعداد أكثر من ذلك لكي نقدمه إلى المختصين هنا؛ حتى نتمكن من نشر الثقافة واطلاع أبناء هذا القطر الإسلامي بالجمهورية الإسلامية الموريتانية مما تقدمه المملكة في المجالات التربوية والعلمية والتاريخية والثقافية.
وفق الله سعادتكم إلى ما فيه الخير والصلاح.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الملحق التعليمي السعودي بالجمهورية الإسلامية الموريتانية جميل أحمد أبو سليمان(4/369)
حضرة السيد المكرم رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد، فقد استلمنا - بأيدي الشكر والتقدير - العدد الثالث من مجلة البحوث الإسلامية الغراء برفق رسالتكم الرقيقة. ونسأل الله تعالى أن يشكر جهودكم التي تبذلونها لإعلاء كلمة الإسلام ونشر تعاليمه السامية النبيلة. وتقبلوا تحياتنا الطيبة.
والسلام عليكم.
المخلص أبو الحسن علي الفراهي (مدير مدرسة الإصلاح بالهند) .(4/370)
فضيلة الشيخ عثمان الصالح
رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية
المملكة العربية السعودية - الرياض - ميدان دخنه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وجميع أسرة مجلة البحوث الإسلامية، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وأهل بيته الكرام. بعد
استلمت العددين الثاني والثالث من مجلتنا القيمة، وسأتمسك بوعد فضيلتكم لشخصي الضعيف بأنكم ستبعثون لي بالعدد الأول عند توفره إن شاء الله، وأرجو أن يكون ذلك قريبا، وخاصة بعد أن وجدت بين صفحات العددين ما اطمأن إليه القلب فعلا من علم وحكمة ورشاد.
إن هذه المجلة وبهذه الصورة شكلا. . . وموضوعا تعتبر بحق مجلة العالم الإسلامي في كل أنحاء الكرة الأرضية، وليست خاصة بالسعودية وحدها.
إن مجلة البحوث الإسلامية بهذا الإخراج القيم الممتاز محتوية بين دفتي صفحاتها بهذه البحوث والفتاوى والدراسات أخرجت هذا العمل من دائرة المجلات إلى مصاف الموسوعات العلمية، فأيدكم الله بنصره ووفقكم إلى نشر الإسلام في أجلى صورة، وخاصة وكما قال سمو الأمير ولي عهد المملكة العربية السعودية في تقريظه للمجلة: " في هذا الوقت الذي يقف فيه معظم بني الإنسان على مفترق الطرق بسبب النشاط المتزايد يوما بعد يوم من قوى الإلحاد بمختلف اتجاهاتها من شيوعية وصهيونية باذلة كل جهودها للقضاء على الإسلام ".
سيدي. . .
لقد كانت كل صفحة من صفحات موسوعتنا الإسلامية " مجلة البحوث الإسلامية " إضافة جديدة ومنبرا إسلاميا صادقا للدعوة لدين الله وسنة نبينا الحبيب محمد بن عبد الله، فعلى بركة الله سيروا.
وإن شاء الله سأوافيكم بقيمة اشتراكي عن السنة الأولى من العدد الأول حتى العدد الرابع (25 ريال سعودي) في القريب العاجل بمجرد سفري إلى القاهرة، حيث إن موقع عملي في وسط الصحراء، فأرجو من فضيلتكم بموافاتي بالعدد الرابع عند صدوره إن شاء الله واعتباري مشتركا دائما بمجلة البحوث الإسلامية.
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وسلك بنا وبكم مسالك الأخيار المهتدين، وأحيانا حياة الأعزاء السعداء، وأماتنا موت المجاهدين الشهداء. إنه نعم المولى ونعم النصير.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . .
أخوكم في الإسلام
حسن محمد المصري
جمهورية مصر العربية - مديرية التحرير
مركز بدر - إدارة المشتريات(4/371)
من أخبار الرئاسة
للأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
عقد مجلس هيئة كبار العلماء دورته العادية الثانية عشرة برئاسة صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح عضو الهيئة، ورئيس محاكم منطقة المدينة المنورة - من يوم السبت الموافق 2 \ 4 \ 98 م، وقد استمرت جلسات مجلس الهيئة حتى يوم 13 \ 4 \ 1398 هـ، ونظر المجلس في الموضوعات المدرجة على جدول أعماله، ومن أهمها تحديد أوقات الصلاة والصيام في البلاد الإسكندنافية وما وراءها وما يماثلها، حيث يطول النهار في بعض الفصول ويقصر في بعضها، كما درس المجلس بعض الموضوعات الأخرى كحوادث السيارات من صدم ودهس وانقلاب وما يترتب على ذلك من حق الله تعالى وحق عباده. . ونظر أيضا في موضوع نجاسة الخمر والكولونيا وموضوع المصفاة من المياه المتنجسة كمياه المجاري.
واتخذ بشأن هذه الموضوعات القرارات والتوصيات اللازمة.
* * *(4/372)
إدارة الدعوة في الخارج
1 - يكتمل نصاب الدعاة في ثمان وخمسين دولة من دول العالم.
2 - ينجز الدعاة في سير أعمالهم تخفيف الضغط التبشيري الكنسي، ويقضي على المفتريات المضادة لعقيدة السلف.
3 - يتجه سير أعمال الدعاة إلى ثلاث جبهات رئيسية: المادية المتحدة، الطائفية المنحرفة، الطرق المبتدعة.
4 - يتمركز العمل الإسلامي في غرب إفريقيا وفي شرقها وفي الشرق الأقصى لوجود تمثيليات لمراكز رئيسية فيها.
5 - يستهل العمل الإسلامي في عامه الحالي افتتاح مراكز إسلامية في الولايات المتحدة وفي دول أوروبا وآسيا.
6 - الكتاب وسيلة صامتة للعمل الإسلامي المفيد. تقوم الرئاسة بنشر الكتاب الإسلامي باللغات المتعددة، وفي مقدمة ذلك القرآن الكريم، وقد تم مؤخرا شراء "70000" سبعين ألف نسخة من المصحف بالطبع الجميل لتوزيعه على العالم الإسلامي.
7 - يتجدد النشاط الإسلامي بالعمل الميداني المباشر، لذا فقد ابتعثت هذه الرئاسة عددا من العلماء المتجولين في عطلة الصيف الماضي في دول أوروبا وإفريقيا وعادوا بالثمرات، حيث قدموا تقارير عن وضع العالم الإسلامي.
8 - كما قام فضيلة المدير المساعد لإدارة الدعوة والإرشاد في الخارج (إسماعيل بن سعد بن عتيق) بزيارة عدد من الدول الإفريقية والآسيوية لنفس الغرض مع دراسة ما يرد هذه الرئاسة من طلبات، مع الاطلاع على سير أعمال الدعاة.
9 - وقد رأت الرئاسة بتوجيهات من صاحب السماحة الرئيس العام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز استضافة الدعاة العاملين في بلدانهم رسميين وغير رسميين، فقد قدم وفد المجلس الأعلى للشئون الإسلامية في تنزانيا برئاسة الشيخ صالح ماساسى ضيوفا على هذه الرئاسة، وحصل اللقاء بالعلماء والتشاور في أمر الدعوة إلى الله وتنسيق العمل بين إدارة الدعوة في الخارج وبين المجلس الأعلى للشئون الإسلامية في تنزانيا.
كما زار وفد من المغرب العربي يمثل ضيوفا على هذه الرئاسة وبدعوة من سماحة رئيسها، جرى في هذا اللقاء الخير الكثير، نسأل الله المزيد من الأعمال الصالحة.
10 - يتسم العمل الإسلامي في هذه الرئاسة بالصمت الدائم حفاظا على مصلحة العمل والإخلاص فيه، وبصفة خاصة يمكنك الاتصال بإدارة الدعوة في الخارج لمزيد من الأخبار السارة متى رغبت في ذلك.
11 - ومتى رغبت المشاركة في خدمة الدعوة إلى الله فراجع هذه الإدارة لتنسق مجهودك لخدمة دينك وأمتك.
12 - سابق إلى الخير فللخير أهله، ندعوك بكل إخلاص إلى مشاركتك الفعلية ونلتمس إرشاداتك ونصائحك نحو عمل أفضل لديننا وأمتنا.
13 - نحن إخوة قبل أن نكون عمالا، وأمة قبل أن نكون فرادى، فضع يدك معنا على حب الله ورسوله والإخلاص لدينه، ولا تنس قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (1)
__________
(1) سورة الزخرف الآية 44(4/373)
مراقبة المطبوعات والمصاحف
عدم السماح بدخول أية نسخة تطبع من المصحف الشريف إلا بعد إجازتها من قبل البحوث العلمية.
صاحب المعالي وزير المالية والاقتصاد الوطني
بعد التحية:
بناء ما يقتضيه الواجب نرغب إليكم تعميد من يلزم، والتأكيد بعدم السماح بدخول أية نسخة تطبع من المصحف الشريف إلا بعد عرضها على إدارة مراقبة المطبوعات بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد لإجازة دخولها أو منع ذلك، وقد أعطي لكل من معالي وزير الإعلام ومعالي وزير الحج والأوقاف ومعالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي ولفضيلة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد نسخة من هذا لاعتماده. ودمتم.
نائب رئيس مجلس الوزراء
* * *
سحب جميع نسخ القرآن المغلوطة من كافة المدارس:
أصدر سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد قرارا يقضي بسحب جميع نسخ القرآن الكريم المكتوب على غلافه " قرآن كريم " بخط " طاهر خوشنويس " المطبوع بإيران؛ لوجود أغلاط كثيرة منها التحريف والزيادة والنقص في الآيات، وطمس بعض النقط والحروف، واختلاف بعض الرسم للحروف.
وقد زودت وزارة المعارف ورئاسة تعليم البنات بنسخة من المصحف الذي قامت بتعميمه على كافة المناطق لسحبه من جميع المدارس.
1 - صدر قرار من المقام السامي بعدم السماح بدخول أية نسخة من المصحف الشريف إلا بعد إجازتها من قبل إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، ويقوم بهذه المهمة رجال مختصون برسم المصحف وضبطه ونقطه وشكله، ولديهم المؤهلات العلمية لذلك.
2 - تقوم الإدارة بمهمة أخرى، وهي مراقبة الكتب والمجلات وجميع أنواع المطبوعات التي ترد إلى المملكة من الخارج عقائديا وسلوكيا وأخلاقيا وفكريا، وذلك بوجود مختصين ومؤهلين تأهيلا علميا بتواجدهم بمداخل المملكة جنبا إلى جنب مع إخوانهم منسوبي وزارة الإعلام والجمارك.(4/374)
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
كلية العلوم الاجتماعية
تعتزم جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - كلية العلوم الاجتماعية - بمشيئة الله عقد مؤتمر للجغرافيين المسلمين باسم المؤتمر الجغرافي الإسلامي الأول، وقد تمت موافقة المقام السامي على عقده، وشكلت لجنة تحضيرية للإعداد له يرأسها فضيلة عميد الكلية الشيخ محمد عبد الله عرفة، وعضوية كل من الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا، والدكتور محمد متولي موسى، الدكتور محمد السيد غلاب، الدكتور علي عبد الحليم محمود، والدكتور عبد العزيز الفريح، والأستاذ محمد العبد الله الفاضل - أمين سر اللجنة.
وقد عقدت اللجنة عدة جلسات اتخذت فيها عدة قرارات، أهمها:
أولا: تشكيل اللجان والموضوعات العلمية للمؤتمر الجغرافي، وهي:
أ - لجنة التراث الجغرافي، وتشمل الموضوعات التالية:
1 - مناهج البحث لدى الجغرافيين المسلمين.
2 - جهود الجغرافيين المسلمين في رسم الخرائط الجغرافية.
3 - أثر الرحالة المسلمين في إثراء المعرفة والكشوف الجغرافية.
4 - أثر الجغرافية الإسلامية في الثقافة الجغرافية العالمية.
5 - الكشف عن المخطوطات الجغرافية الإسلامية التي لم تحقق بعد.
ب - لجنة الجغرافية الاقتصادية للعالم الإسلامي، وتشمل الموضوعات التالية:
1 - الثروة الزراعية والرعوية في العالم الإسلامي.
2 - مشكلة الأراضي الجافة في العالم الإسلامي.
3 - الثروات المعدنية في العالم الإسلامي.
4 - مستقبل الطاقة الحديثة في العالم الإسلامي.
5 - التنمية الصناعية للعالم الإسلامي.
6 - التكامل الاقتصادي في العالم الإسلامي.
7 - التكامل الاقتصادي في مجال إنتاج الغذاء في العالم الإسلامي.(4/375)
ج - لجنة جغرافية السكان والعمران:
1 - الحركة السكانية في العالم الإسلامي.
2 - التكامل السكاني في العالم الإسلامي.
3 - المدينة الإسلامية وخصائصها.
4 - تنمية الريف في العالم الإسلامي.
د - لجنة جغرافية انتشار الإسلام، وتشمل الموضوعات التالية:
1 - مسالك انتشار الإسلام.
2 - مسالك الأقليات الإسلامية - توزيعها، مستقبلها.
هـ - لجنة الجغرافية السياسية:
1 - مشكلة فلسطين.
2 - مشكلة كشمير.
3 - مشكلة أرترية.
4 - مشكلة الفلبين.
5 - مشكلة فطاني.
6 - دور الجغرافية في تغطية دعوة التضامن الإسلامي.
واللجنة التربوية الجغرافية، وتشمل الموضوعات التالية:
1 - توجيه الجغرافية لترسيخ الإيمان بالله.
2 - توجيه الجغرافية في تدعيم فكرة وحدة العالم الإسلامي.
* * *
ثانيا: إقامة معرضين أثناء انعقاد المؤتمر الأول للجغرافية، وهما:
الأول: معرض للخرائط الجغرافية:
وتشمل الخرائط التاريخية وخرائط الرحالة المسلمين، وخرائط لسكان العالم الإسلامي، وخرائط للعمران ومراكزه الرئيسية في العالم الإسلامي، وخرائط للنشاط الاقتصادي، وأخرى للإنتاج الزراعي والثروة(4/376)
الحيوانية في العالم الإسلامي، كما أن هناك خرائط تبين المراكز الصناعية والإنتاج الصناعي للعالم الإسلامي، بالإضافة إلى مجموعة خرائط للنشاط التجاري وعن المملكة، سيضم المعرض خرائط طبيعية وعمرانية وأخرى للمشاعر المقدسة وللثروة المعدنية ومناطق إنتاج البترول وتكريره وتوزيع صادراته.
كما سيضم المعرض أيضا بعض المجسمات، مثل مجسم للعالم الإسلامي وخريطة مجسمة للمملكة والأجهزة والأدوات الملاحية التي استعملها الجغرافيون المسلمون القدماء.
الثاني: معرض الكتاب الجغرافي:
وسوف تنظمه وتشرف على إعداده كل من اللجنة التحضيرية للمؤتمر وعمادة شئون المكتبات بالجامعة، بالإضافة إلى دور النشر والهيئات المتخصصة، سواء المحلية أو العالمية، وسوف يضم هذا المعرض العديد من الكتب الجغرافية عن العالم الإسلامي، وما يتصل بها من علوم أخرى كالأنثروبولوجيا والجيولوجيا والجيورفولوجيا والاقتصادية والسياسية، بالإضافة إلى عرض بعض وسائل الإيضاح المساعدة لشرح مختلف جوانب هذا التخصص العلمي المهم.
ثالثا: تأليف كتاب عن دول العالم الإسلامي والأقليات الإسلامية:
وهي دراسة إقليمية لمختلف دول العالم الإسلامي وأقلياته، موضحا فيه موقع تلك الدول ومكانتها العالية، وذلك من خلال الخرائط والأرقام، إضافة على المعلومات العلمية الدقيقة الحديثة.
وقد عهد بتأليفه إلى عدد من أساتذة قسم الجغرافية بالكلية.
رابعا: ترجمة كتاب وصف إفريقية لمؤلفه الرحالة الحسن محمد الوزان من الفرنسية إلى العربية، وتقديمه كإنجاز من إنجازات المؤتمر.
هذا وقد أرسلت الدعوات إلى مختلف الجامعات والهيئات العلمية العربية والإسلامية، وكذلك إلى عدد كبير من مختلف أساتذة الجغرافية المسلمين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وقد أرفق بطي الدعوة استبيان طلب فيه - بعد كتابة اسم الأستاذ المدعو وبيان مؤهلاته ولقبه العلمي واسم الجامعة والمؤتمرات التي شارك فيها والتدرج في هيئة التدريس والمؤلفات والترجمات والبحوث التي أعدها، مع بيان عن حياته العلمية - أن يختار موضوعا يكتب فيه من بين أحد الموضوعات المبينة، على أن يرسل موجزا لبحثه الذي اختاره، وبعد ترشيحه من قبل اللجنة يتم تبليغه بمواصلة البحث.
هذا وإن اللجنة التحضيرية للمؤتمر الجغرافي ترجو من ذوي الاختصاص ممن يرغب في المشاركة الاتصال باللجنة على العنوان التالي:
الرياض - الناصرية - ص. ب 3169.
هذا وتوالي اللجنة جلساتها من أجل الإعداد لهذا المؤتمر، وترجو من الله العلي القدير التوفيق والسداد.(4/377)
تنبيه وتصحيح
تنبيه: -
وردنا ملاحظة من فضيلة الشيخ يوسف عبد الرحمن البرقاوي على كلمة صاحب الفضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين في العدد الثالث من المجلة السطر الخامس من صفحة 394 قوله: (فإذا قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فطلقة واحدة رجعية، سواء كانت مدخولا بها أم غير مدخول بها) .
وبعد الكتابة لصاحب الفضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين كاتب الكلمة أفادنا بالجواب الذي يتلخص فيما يلي: -
" والأولى حذف كلمة (رجعية) ؛ لما توهمه من تناقض ". شاكرين لصاحبي الفضيلة الشيخين المذكورين اهتمامهما لخدمة العلم.(4/378)
بسم الله الرحمن الرحيم
حدثنا هناد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة بن اليمان حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا: «أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام نومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفطت فتراه منتبرا وليس فيه شيء. ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله قال: فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلا أمينا وحتى يقال للرجل: ما أجلده وأظرفه وأعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان (6) »
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح
سنن الترمذي المجلد الرابع ما جاء في رفع الأمانة
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6497) ، صحيح مسلم الإيمان (143) ، سنن الترمذي الفتن (2179) ، سنن ابن ماجه الفتن (4053) ، مسند أحمد بن حنبل (5/384) .
(2) جذر قلوب الرجال أي في أصلها (1)
(3) الوكت: الأثر اليسير (2)
(4) المجل: أقوى من الوكت كالأثر في أكف من قوة الخدمة (3)
(5) فنفطت: تقرحت وأصابها بثور من أثر الجم. (4)
(6) منتبرا: مرتفعا ظاهرا (5)(5/1)
لجنة الإشراف سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
فضيلة الشيخ إبراهيم بن صالح آل الشيخ
فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الفالح
فضيلة الشيخ عثمان الصالح
أشرف على التحرير الأستاذ جمال النهري
الأستاذ عبد الله البعادي
الأستاذ أحمد أبو شلباية
المراسلات: رئيس التحرير
مجلة البحوث الإسلامية
المملكة العربية السعودية - شارع الرياض
جنوب شارع عسير
تليفون: 4359712 - 4596062(5/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض
رئيس التحرير
عثمان الصالح
الإشراف الفني
جمال النهري(5/3)
المحتويات
1 الافتتاحية سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
2 تجارة وتجارة أخرى لن تبور فضيلة الشيخ: عثمان الصالح 11
من أبحاث هيئة كبار العلماء
3 حكم رمي الجمرات قبل طلوع الشمس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 19
4 حكم الطلاق المعلق اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 51
5 تحديد المهور اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 95
6 تحديد النسل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 109
7 الفلسفة الدكتور عبد الحليم محمود 129
8 البلاغة النبوية وتأثيرها في النفوس دكتور حسن جاد 149
9 أقباس من العسكرية الإسلامية في القرآن الكريم اللواء الركن محمود شيت خطاب 163
10 أبو بكر الخوارزمي مؤسس علم الجبر الدكتور علي عبد الله الدفاع 171(5/4)
كتب العدد:
11 اختلاف ربا الدين في الإسلام عن ربا اليهود دكتور حسين توفيق رضا 189
12 جهاز تعيين اتجاه القبلة من أي مكان على سطح الأرض الدكتور حسين كمال الدين 227
المؤتمرات:
13 المؤتمر العالمي بلندن عن حياة المسيح عليه السلام ترجمة الأستاذ محمد لقمان السلفي 241
14 الحوار الإسلامي المسيحي ووجهة نظر إسلامية الأستاذ السيد متولي الدرش 245
15 إيضاحات وتنبيهات لسماحة الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 253
16 التنبيه على خبر باطل في أخبار مكة
حول ما سمي بمسجد الخندق بالمدينة المنورة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري 271 - 279
17 من ملفات الإفتاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 287
18 تعليقات وبيانات سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز 309(5/5)
الافتتاحية
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن خير ما بذلت فيه الأعمار والأوقات والأموال هو العلم بكتاب الله وسنة رسوله إذ عليهما مدار السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة وإن ما يؤلف من كتب في الأصول والفروع والتفسير والحديث وما يصدر من مجلات وصحف إسلامية إنما هو بيان وشرح لكتاب الله وسنة رسوله حسب اجتهاد المؤلفين والمصدرين وحسب ما منحهم الله من العلم وحينما قامت الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بإصدار مجلة البحوث الإسلامية إنما كانت تهدف من وراء ذلك إلى(5/7)
بيان حكم الله في كثير من القضايا التي لا غنى للمسلمين عنها والتي لم يغفلها الشرع المطهر وذلك في صورة بحوث تصدر عن هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية مدعمة بالأدلة من الكتاب والسنة والإجماع مع ما يضاف إلى ذلك من المقالات المفيدة والبحوث النافعة التي ترد إلى المجلة من أهل العلم وإن هذه المجلة بجانب زميلاتها المجلات الإسلامية في الدول الإسلامية كالمجتمع والبلاغ والدعوة والاعتصام ورابطة العالم الإسلامي والبعث الإسلامي والوعي الإسلامي ومنبر الإسلام والإرشاد والتضامن الإسلامي وغيرها كلها تمثل منهجا ملتزما في مجال الفكر الإسلامي وتعبر عن يقظة ووعي إسلاميين في زمن اضطربت فيه الموازين واختلت المقاييس والمعايير وبدا الباطل وكأنه هو الواقع الذي لا مفر منه وجندت قوى الباطل كل ما تملك من وسائل اقتصادية وإعلامية وثقافية لتكون لها الهيمنة والنفوذ ولكن قوة الله أعظم {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (1) .
إن مجلة البحوث الإسلامية وهي تصدر عن رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من هذا البلد الذي شرفه الله بالإسلام ووجود الحرمين الشريفين ومنه انطلقت دعوة الإسلام إلى أرجاء الدنيا لتدعو كل فكر إسلامي نير أن يساهم بالكتابة في هذه المجلة وفي المجلات الإسلامية الأخرى وأن يرد على الأقلام المأجورة التي تحاول النيل من الإسلام والإساءة إلى المسلمين سواء من الأعداء أو السائرين في ركابهم وأن يوضح ما للشريعة الإسلامية من مزايا وحسنات وما لعلماء الإسلام أولئك الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم
__________
(1) سورة الأنفال الآية 8(5/8)
ومؤلفاتهم وخدموا الشريعة خدمة جليلة وأثروا المكتبة الإسلامية بروائع إنتاجهم في التوحيد والحديث والتفسير والفقه والأصول والتاريخ واللغة العربية والعلوم الأخرى التي اضطر الغرب للاستفادة منها وتدريسها في معاهده وجامعاته.
إن مجلة البحوث الإسلامية وهي تلتقي مع قرائها في عددها الخامس لتأمل أن تكون على المستوىالمأمول فيها وأن يستمر صدورها دون عائق مع علمنا بأن القراء الكرام سيقبلون العذر في تأخر أعدادها إذا ما رأوا الجهد المبذول في إخراجها وإن كنا نود أن تخرج في موعدها المقرر لها بل نسعى جادين إلى أن تخرج كما أريد لها كل ثلاثة أشهر مستلهمين العون من الله تعالى. إنني أطالب العلماء والمفكرين أن يمدوا أيديهم بالكتابة في مجلة البحوث الإسلامية إذ ما يكتبونه من جملة زاد المجلة الذي يجعلها تقف على قدميها وتخطو الخطوات المرسومة لها.
وفي الختام أشكر كل من ساهم بقلمه وجهده ووقته في إخراج هذه المجلة الفتية وغيرها من المجلات والصحف الإسلامية المفيدة وأرجو لها ولزميلاتها التوفيق والنجاح وأن يستمر عطاؤها الخير لعموم المسلمين والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(5/9)
تجارة
وتجارة أخرى لن تبور. .!
فضيلة الشيخ
عثمان الصالح
رئيس التحرير
تتأكد بمرور الأيام أهمية الكلمة " منطوقة أو مكتوبة". .
وإذا كانت الكلمة المنطوقة لها دويها نحسه فيما تردده أجهزة كالمذياع والتلفاز وأشرطة التسجيل. .
فإنه سيظل مع ذلك للكلمة المقروءة " وزن خاص" تنفرد به في خضم ذلك الدوي الطنان من الكلمات الهادرة. . والسيل المتدفق من الكلمات في "أسواق الكلمة" العالمية المنحدرة من مختلف أصقاع العالم.
فالكلمة " مكتوبة فمقروءة". . ربما انفردت - لمن يقرأ فيخلص القراءة - بلون خاص من الإصغاء العقلي والتدبر المتأمل تعكس ازدهارا يعقبه من تأملات القلب والعقل ما لا يتأتى إلا بها.
قد يوافقني في ذلك من يدرك الفرق بين " قراءة" القرآن وبين(5/11)
"الاستماع" إليه. . وإن كان في كل خير. .!
ألست ترى أخي "القارئ" أن العلماء. . . سواء كانوا متخصصين في العلوم الاجتماعية أم العلوم العملية. . . كالطب والهندسة وغيرها. .
لا يرضون بالقراءة بديلا وإن ضموا إليها وسائل أخرى.
وليعذرني القارئ. . . .
إن استخدمت تعبير " أسواق الكلمة". . إذ يبدو بهذا كما لو أني أدخلت " الكلمة" في "قاموس التجارة ". . ومن ثم فقد أجريت عليها " البيع والشراء". . وفتحت عليها بابا ما أوسعه وأشد خطره. .؟؟
وما إلى هذا قصدت. .
ولكني عنيت. . أطهر أنواع البيع والشراء حين تقتات الكلمة الشريفة على عصارة ذهن الكاتب الشريف وقلبه فالمكسب الذي يبتغيه من رواج " سلعته الكلامية". . .
ارتفاع مئذنة. .
وتشييد قبة جامعة. .
وبناء سور. . بل وأسوار وقلاع تحمي بلادنا وأخلاقنا ولنا في تشبيهات كتابنا الكريم المثل الأعلى. .
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (1)
فها أنت ترى " بيعا وشراء". .!
__________
(1) سورة التوبة الآية 111(5/12)
ولكنه ليس على ما ترى في عالمنا الذي يتسم اليوم بالغش والتدليس في تجارة الكلمة يزوقها ويغلفها بغية إدخالها على القارئ مدخل صدق. .
حتى ليبدو وكأن عالم اليوم قد انقسم إلى قسمين: خادع ومخدوع. . فاللهم إنا نستغيث بك أن نخدع. . أو نخدع. .
واسمع معي أخي المسلم " القارئ". .
المتمعن الفاحص لسلعة الكلمات في أسواقها الرائجة اللامعة وقد اختلف منتجوها. . وتنوعت من وراء ذلك أهداف. . وأهداف. . ألا يحضرك. . ويحضرني معك الآن. .
حديثه صلى الله عليه وسلم محذرا من هؤلاء المنتجين المزيفين. .!! وفي وصفهم ما يجفل منه القلب وتنبه الأعين لرصدهم. .
" حدثنا سويد. . أخبرنا ابن المبارك. أخبرنا يحيى بن عبيد الله
قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
«يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين. .
يلبسون للناس جلود الضأن من اللين،
ألسنتهم أحلى من السكر،
وقلوبهم قلوب ذئاب.
يقول الله عز وجل:
__________
(1) سنن الترمذي الزهد (2404) .(5/13)
أبي يغترون؟
أم علي يجترئون؟
فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيران (1) »
وفي صحيح الترمذي رضي الله عنه يختلون الدنيا بالدين، أي يطلبون عمل الدنيا بعمل الآخرة، يقال: ختله أي خدعه وراوغه. .
ولو وعينا إلى حديث رسول الله هذا. . لكنا أمة من أوعى الأمم في تصنيف الرجال. . . وسبر أغوارهم. . .
بل ما كان يمكن أن ترتفع في سمائنا راية لكاتب مزيف. . مزيف أو لمداح أو هجاء. . . سواء بسواء. . .
كذلك ما جرت عجلات المطابع بطباعة. . . ولا قرأ القراء. . لمؤلف مخادع. . . ولو جرى قلمه بكلام أحلى مذاقا وأشهى من العسل. . .
وأن لو استقمنا على هذه الطريقة. بهذا الحذر الفردي والجماعي بجذوره المرتوية من أحاديثه صلى الله عليه وسلم. . لما امتلأت صحفنا وكتبنا تحذر من الغزو الفكري " وغسل العقول" وما تسللت إلينا كتابات تهدم ما رسخ من أشرف معتقداتنا وسلوكنا. .
تبدأ الكلمات هجومها من القلب والعقل وتنتهي إلى ابتلاع الأوطان ذاتها.
أردت أن أؤكد أننا اليوم في خضم ما يموج به العالم. .
نحتاج للكلمة تعيها أذن واعية. .!
وتسبر أغوارها عين فاحصة. .!!
__________
(1) يختلون الدنيا بالدين: أي يطلبون عمل الدنيا بعمل الآخرة، يقال ختله. (1)(5/14)
فالكلمة تلتصق بأعماق الأفكار. .
فإذا ما تركت ليوم أو بعض يوم. . . إذا هي عملاقة كأنها مارد يتبختر في طرقاتنا لا نستطيع له دفعا. . .
وهكذا فإن الأذن. . والعين كما تكونان للفرد تكونان للمؤسسات
تخلصان للكلمة النقية. . . وتشغلان بها إنتاجا وترويجا. . منعا ومحقا لما سواها. .!
فالكلمات مثل حدود البلاد يدافع عنها. . ويراقب الداخل إلينا. . والصادر عنا. . . . . كما يفتش في الأمتعة والسيارات والطائرات على ما يضر أمن الوطن والمواطن من سلاح ومخدرات وخمور. .
إننا ينبغي أن نأخذ بذلك أشد الأخذ صرامة. .
وفي حديثه صلى الله عليه وسلم من الدقة في التعبير ما يوضح ما نريده وليكن لنا من عبرته العميقة لقلوبنا مورد ثابت. .
حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا أبو معاوية. حدثنا الأعمش عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. .
«مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها. .
كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر. .!
فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها. .
فكان الذين في أسفلها يصعدون فيستقون الماء فيصبون على الذين في أعلاها. .
فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا. .!
فقال الذين في أسفلها: فإنا ننقبها من أسفلها فنستقي. .!؟؟
فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم: نجوا جميعا. .!
وإن تركوهم غرقوا جميعا (1) » . .
" حديث حسن صحيح "
__________
(1) صحيح البخاري الشركة (2493) ، سنن الترمذي الفتن (2173) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .(5/15)
صلى الله عليك وسلم يا رسول الله. .
لقد تركت فينا ما إن تمسكنا به فلن نهلك أبدا. . بل ولاتقينا الفتنة تنشأ من بين أيدينا وأرجلنا. . . ولهي فتنة أشد علينا وعلى المسلمين من أعدائهم من خارج بلادهم. .
" حدثنا محمد بن بشار: حدثنا وهب بن جرير: حدثنا أبي قال: سمعت النعمان بن راشد يحدث عن الزهري عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن خباب بن الأرت عن أبيه قال.
«صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة فأطالها. .
قالوا: يا رسول الله صليت صلاة لم تكن تصليها؟
قال: أجل إنها صلاة رغبة ورهبة. .
إني سألت الله فيها ثلاثا. .
فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة. .!!
سألته أن لا يهلك أمتي بسنة. . فأعطانيها. .
وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم. . فأعطانيها. .
وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض. . فمنعنيها (1) » . .!! "
إذن فلا خوف علينا من أن نهلك لنقص في الثمرات. . . .
بل ولا من تداعي الأمم علينا. .
ولكن الخوف والخوف كله من أن يذيق بعضنا بأس بعض. .!
وهل تبدأ نيران هذا البأس إلا بشرارة الكلمات المخاتلة تخلط الدنيا بالدين. . . ومن أولئك الذين يلبسون جلود الضأن من اللين. . وقلوبهم قلوب ذئاب. .!
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2175) .(5/16)
وإذا كنت ألفت الأنظار في مجال الكلمة " مكتوبة فمقروءة". . وأهميتها البالغة. فإنني أنبه لأهمية إشاعة الكلمة العربية منطوقة فمقروءة. . لأنها لغة قرآننا وسمة حضارتنا. .
وليس أولى من جامعاتنا مجتمعة بهذا الدور الأساسي
ولذلك أود ولعلكم تودون معي أن يصبح للغة العربية مرتكز أساسي في أكثر من كلية في أكثر من جامعة. .
أود ذلك في جامعة الرياض. . فهي في القلب والمركز. . في العاصمة. . وأرجوه أكثر في جامعة البترول والمعادن. .
وأتمناه في جامعة الملك فيصل. .
ففي هاتين الجامعتين اللتين تقعان في أطراف البلاد تبدو الحاجة ماسة للغة العربية حيث تفشو الألسنة المتباينة وتفد الكلمات الأعجمية. .
حقائق ربما يعلمها القاصي قبل الداني. .
وهذا الاهتمام الواعي هو من صميم خطة دولتنا والقائمين عليها ممن يسهرون على حماية الإسلام ومقدساته. . . واللغة العربية سورها العظيم. . . .
نعم إننا نحترم التخصص. .
إلا أننا نود والدولة توجب. .! أن يخرج المتخصص في النهاية مسلما عربيا. . منتميا لقومه ودينه وبلسان هذا الدين القيم ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. .
اللهم اجعلنا من الذين إذا قرءوا المسطور من الكلمات. . يتبعون أحسنها. .
- والذين إذا رأوا تجارة. . أو لهوا. . . لا ينفضون إليها. .
- أولئك الذين يرجون تجارة لن تبور. . .(5/17)
رمي الجمرة قبل طلوع الشمس(5/19)
الحمد لله وحده وبعد:
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثانية المنعقدة في مدينة الرياض في المدة من 1 \ 8 \ 1392 هـ إلى 13 \ 8 \ 1392هـ.
موضوع (حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد ورميها في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق. وكذا حكم تقديم الرمي أيام التشريق قبل الزوال. وحكم الرمي ليالي أيام التشريق) مشفوعا بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
ورغبة في إطلاع قراء (مجلة البحوث الإسلامية) على هذا البحث القيم ننشره بنصه:(5/20)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فهذا بحث في بيان حكم رمي جمرة العقبة ليلة النحر، ورميها ليلة القمر، وتقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق، والرمي في ليلتي يومي الثاني عشر والثالث عشر، وبيان أدلة الترخيص للرعاة، وطريقة البحث هي: تحرير محل الخلاف، وذكر المذاهب، وبعض القائلين بكل مذهب وبيان مآخذهم، ومناقشة هذه المآخذ، والمقارنة بينها على القدر الذي يسره الله جل وعلا وترك الترجيح لأصحاب السماحة والفضيلة أعضاء مجلس هيئة كبار العلماء، وقد روعي في إعداد هذا البحث نسبة كل قول إلى من قال به مع ذكر المصدر الذي أخذ منه، وسيكون في آخر البحث قائمة تشتمل على بيان كاف للمصادر التي أخذ منها حتى يتيسر الأمر لمن أراد الاطلاع عليها والله ولي التوفيق.(5/21)
رمي الجمرة قبل طلوع الشمس
المسألة الأولى: حكم رمي جمرة العقبة ليلة العيد
اختلف العلماء متى يبتدئ وقت رميها فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه يجوز رميها بعد منتصف الليل من ليلة النحر وممن قال (1) به الشافعي وقال (2) المرداوي: وهو الصحيح من المذهب مطلقا وقول أكثر الأصحاب وقال** (3) ابن قدامة: وبذلك قال عطاء وابن أبي ليلى وعكرمة بن خالد.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول
عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم " تعني" عندها (4) » رواه أبو داود وسكت عنه. قال (5) أبو حازم: قال أبو داود في رسالته لأهل مكة وليس في كتاب السنن الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيء. وقال (6) ابن كثير: انفرد به أبو داود وهو إسناد جيد. وقال (7) ابن حجر: إسناده صحيح، وقال (8) ابن قدامة: واحتج به أحمد.
__________
(1) الأم - 2 \ 180
(2) الإنصاف - 4 \ 37
(3) المغني والشرح 3 \ 49
(4) سنن أبو داود المناسك (1942) .
(5) شروط الأئمة الخمسة 54
(6) البداية والنهاية 5 \ 182
(7) الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2 \ 24
(8) المغني والشرح 3 \ 49(5/22)
وجه الدلالة قال (1) الشافعي: وهذا لا يكون إلا وقد رمت قبل الفجر بساعة، وقد اعترض على هذا الحديث من جهة سنده ومتنه ودلالته.
أما الاعتراض عليه من جهة سنده فإنه روي مرسلا وموصولا مسندا. قال (2) القرطبي روى معمر قال: أخبرني هشام بن عروة عن أبيه قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة أن تصبح بمكة يوم النحر وكان يومها (3) » . قال أبو عمر اختلف على هشام في هذا الحديث، فروته طائفة عن هشام عن أبيه مرسلا كما رواه معمر ورواه آخرون عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: أمر أم سلمة بذلك مسندا، ورواه آخرون عن هشام عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة مسندا أيضا وكلهم ثقاة. انتهى.
* قال (4) إذا اختلف الثقات في حديث فرواه بعضهم متصلا وبعضهم مرسلا فاختلف أهل الحديث هل الحكم لمن وصل أو لمن أرسل أو للأكثر أو للأحفظ على أربعة أقوال، أحدهما الحكم لمن وصل وهو الأظهر الصحيح كما صححه الخطيب، وقال ابن الصلاح إنه الصحيح في الفقه وأصوله. وقد اعتضد هذا الحديث بما رواه (5) الخلال بسنده عن سليمان بن داود عن هشام بن عروة عن أبيه قال: «أخبرتني أم سلمة قالت قدمني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قدم من أهله ليلة المزدلفة قالت فرميت بليل ثم مضيت إلى مكة فصليت بها الصبح ثم رجعت إلى منى» .
قال ابن القيم: قلت: سليمان بن أبي داود - هذا - هو الدمشقي الخولاني ويقال: ابن داود، قال أبو زرعة عن أحمد رجل من أهل الجزيرة ليس بشيء، وقال عثمان بن سعيد: ضعيف. انتهى.
قال (6) ابن حجر قال فيه ابن حبان: سليمان بن داود الخولاني من أهل دمشق ثقة مأمون وقد أثنى على سليمان بن داود أبو زرعة وأبو حاتم وعثمان بن سعيد وجماعة من الحفاظ. ثم قال أيضا: قلت أما سليمان بن داود الخولاني فلا ريب في أنه صدوق. انتهى.
قال (7) الخطيب البغدادي - إذا عدل جماعة رجلا وجرحه أقل عددا من المعدلين فإن الذي عليه جمهور العلماء أن الحكم للجرح والعمل به أولى، وقالت طائفة: بل الحكم للعدالة، وهذا خطأ لأجل ما ذكرناه من أن الجارحين يصدقون المعدلين في العلم بالظاهر ويقولون: عندنا زيادة علم لم تعلموه من باطن أمره. وقد اعتلت هذه الطائفة بأن كثرة المعدلين تقوي حالهم وتوجب العمل بخبرهم وقلة الجارحين تضعف خبرهم، وهذا بعد ممن توهمه لأن المعدلين وإن كثروا ليسوا يخبرون عن عدم ما أخبر به الجارحون، ولو أخبروا بذلك وقالوا: نشهد أن هذا لم يقع منه لخرجوا بذلك من أن يكونوا أهل
__________
(1) الأم 2 \ 180
(2) تفسير القرطبي 3 \ 625.
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/326) .
(4) شرح ألفية العراقي 1 \ 174
(5) زاد المعاد 1 \ 470.
(6) تهذيب التهذيب.
(7) الكفاية في علم الرواية 107(5/23)
تعديل أو جرح لأنها شهادة باطلة على نفي ما يصح ويجوز وقوعه وإن لم يعلموه فثبت ما ذكرناه. وقال (1) أيضا: والذي يقوي عندنا ترك الكشف عن ذلك إذا كان الجارح عالما، وقد (2) أبطل ابن القيم - رحمه الله - حديث أم سلمة بما ثبت في الصحيحين عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: «استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أن تدفع قبله وقبل حطمة الناس وكانت امرأة ثبطة قالت فأذن لها فخرجت قبل دفعه وحبسنا حتى أصبحنا فدفعنا بدفعه ولأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة أحب إلى من مفروح به (3) »
وجه الدلالة أن الحديث الصحيح يبين أن نساءه غير سودة إنما دفعن معه وقد رد هذا الاستدلال بما رواه الدارقطني وغيره عن عائشة - رضي الله عنها - «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر نساءه أن يخرجن من جمع ليلة جمع ويرمين الجمرة ثم نصبح في منزلنا فكانت تصنع ذلك حتى ماتت (4) » .
وقد أجاب ابن القيم - رحمه الله - عن هذا الرد فقال: يرده محمد بن حميد أحد رواته كذبه غير واحد.
ويرده أيضا حديثها الذي في الصحيحين وقولها " وددت إني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة ".
وقد أورد على جواب ابن القيم بأنه ثبت في صحيح مسلم عن أم حبيبة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل (5) » .
فأجاب عنه بأنها من الضعفة التي قدمها صلى الله عليه وسلم.
ثم أورد ابن القيم اعتراضا فقال: فما تصنعون بما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر فرموا الجمرة مع الفجر (6) » .
فأجاب عنه بقوله قيل: نقدم عليه حديثه الآخر الذي رواه أيضا الإمام أحمد والترمذي وصححه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله وقال: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس (7) » ، ولفظ أحمد فيه: «قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أي بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس (8) » لأنه أصح منه وفيه «نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن رمي الجمرة قبل طلوع الشمس» وهو محفوظ بذكر القصة فيه، والحديث الآخر إنما فيه أنهم رموها مع الفجر. انتهى كلام ابن القيم. وأما الاعتراض عليه من جهة متنه: فقال (9) ابن القيم: وأما حديث عائشة رضي الله عنها «أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت وكان ذلك اليوم
__________
(1) الكفاية في علم الرواية 107
(2) زاد المعاد 1 \ 470، 471
(3) صحيح البخاري الحج (1681) ، صحيح مسلم الحج (1290) ، سنن النسائي مناسك الحج (3049) ، سنن ابن ماجه المناسك (3027) ، مسند أحمد بن حنبل (6/164) ، سنن الدارمي المناسك (1886) .
(4) سنن النسائي مناسك الحج (3066) .
(5) صحيح مسلم الحج (1292) ، مسند أحمد بن حنبل (6/427) ، سنن الدارمي المناسك (1885) .
(6) مسند أحمد بن حنبل (1/320) .
(7) صحيح البخاري الحج (1678) ، سنن الترمذي الحج (893) ، سنن النسائي مناسك الحج (3048) ، سنن أبو داود المناسك (1941) ، سنن ابن ماجه المناسك (3026) .
(8) صحيح البخاري كتاب الأدب (6148) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1802) ، سنن الترمذي الحج (893) ، سنن النسائي مناسك الحج (3064) ، سنن أبو داود المناسك (1940) ، سنن ابن ماجه المناسك (3025) ، مسند أحمد بن حنبل (1/311) .
(9) زاد المعاد 1 \ 470، 469(5/24)
الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني عندها (1) » - رواه أبو داود. فحديث منكر أنكره الإمام أحمد وغيره، ومما يدل على إنكاره أن فيه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمرها أن توافي صلاة الصبح يوم النحر بمكة " وفي رواية " توافيه بمكة، وكان يومها فأحب أن توافيه (2) » وهذا من المحال قطعا. قال الأثرم: قال لي أبو عبد الله حدثنا أبو معاوية عن هشام عن أبيه «عن زينب بنت أم سلمة " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه يوم النحر بمكة (3) » ولم يسنده غيره وهو خطأ وقال وكيع عن أبيه مرسلا «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة (4) » أو نحو هذا، وهذا أعجب أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر وقت الصبح ما يصنع بمكة ينكر ذلك. قال فجئت إلى يحيى بن سعيد فسألته فقال عن هشام عن أبيه " أمرها أن توافي" ليس " توافيه" قال وبين " ذين فرق" قال: قال لي يحيى: سل عبد الرحمن عنه فسألته فقال: هكذا عن هشام عن أبيه قال الخلال: سها الأثرم في حكايته عن وكيع " توافيه" وإنما قال وكيع: " توافي منى " وأصاب في قوله " توافي" كما قال أصحابه وأخطأ في قوله: " منى " انتهى المقصود.
فقد اعتمد ابن القيم - رحمه الله - في إنكار هذا الحديث على إنكار الإمام أحمد كما اعتمد عليه (5) ابن التركماني (6) ، والطحاوي ولكن يرد استنكار الإمام أحمد - رحمه الله - لهذا الحديث قول (7) ابن قدامة - رحمه الله - بعد ذكره لهذا الحديث، واحتج به أحمد، وقد سبق ذكر طائفة من أهل العلم بالحديث ورجاله أنهم صححوه واعتماد ابن القيم - رحمه الله - وكذلك الطحاوي وابن التركماني على استنكار الإمام أحمد غير صحيح فقد تبين أنه احتج به فبطل الأصل وببطلانه يبطل قول من اعتمد عليه، وصرح (8) ابن حجر في التلخيص الجيد بسلامته من الزيادة التي استنكرها الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - أي سلامة رواية أبي داود.
وأما الاعتراض على حديث أم سلمة من ناحية الدلالة فمن وجهين: أحدهما أنه خاص بها.
قال (9) الخطابي: وقال غيره - أي الشافعي - إنما هذا رخصة فلا يجوز أن يرمي قبل الفجر.
قال (10) الزرقاني، ويؤيده كون ذلك اليوم يوم نوبتها منه صلى الله عليه وسلم وله أن يخص من شاء بما شاء.
ويجاب عن هذا بأن القاعدة المقررة في علم الأصول أن خطاب (11) المواجهة يعم إلا إذا أول الدليل على الخصوص.
ويرد ذلك بورود الأدلة الدالة على نهي ابن عباس وأمثاله عن الرمي قبل طلوع الشمس، وكذلك رميه صلى الله عليه وسلم ضحى مع قوله: «خذوا عني مناسككم (12) » .
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1942) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (6/291) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (6/291) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (6/291) .
(5) الجوهر النقي في الرد على البيهقي 5 \ 132
(6) شرح معاني الآثار 2 \ 221
(7) المغني والشرح الكبير 3 \ 449
(8) التلخيص الحبير 2 \ 258
(9) معالم السنن 2 \ 405
(10) شرح المواهب اللدنية 8 \ 188
(11) الروضة 2 \ 101، 100
(12) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .(5/25)
ويمكن أن يجاب (1) عن هذا بأن حديث عائشة محمول على الجواز، وحديث ابن عباس محمول على الأفضل.
أو أن حديث ابن عباس محمول على غير أهل الأعذار، وحديث عائشة محمول على أهل الأعذار.
الوجه الثاني أن الرخصة لأم سلمة رضي الله عنها أن ترمي في الليل عام في النساء فقط لكنه يجوز لمن بعث معهن من الضعفة كالعبيد والصبيان أن يرمي في وقت رميهن.
وقد يفهم تخصيص ذلك بالنساء من تصرف النسائي حيث ترجم هذه الترجمة " الرخصة في ذلك للنساء" وساق حديث عائشة وذلك بعد روايته لحديث ابن عباس الذي في النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس".
* وقال (2) محمد شمس الحق العظيم أبادي: وهذا الحكم مختص بالنساء فلا يصلح للتمسك به على جواز الرمي لغيرهن من هذا الوقت لورود الأدلة الدالة بخلاف ذلك لكنه يجوز لمن ذهب معهن من الضعفة كالعبيد والصبيان أن يرمي في وقت رميهن ويجري في هذا الوجه من المناقشة والمقارنة ما جرى في الوجه الذي قبله.
الدليل الثاني
عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر «أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي فصلت ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا. ثم صلت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ فقلت: نعم. قالت: فارتحلوا. فارتحلنا فمضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت: يا هنتاه ما أرانا ألا قد غلسنا. قالت: يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن للظعن (3) » . هذا لفظ البخاري وعن عطاء بن أبي رباح، رضي الله عنه، قال: إن مولاة أسماء بنت أبي بكر أخبرته قالت: «جئنا مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما منى بغلس، قالت: فقلت لها: لقد جئنا منى بغلس، فقالت: كنا نصنع ذلك مع من هو خير منك (4) » . أخرجه مالك في الموطأ والنسائي في السنن.
وأخرج أبو داود قال عطاء: أخبرني مخبر «عن أسماء أنها رمت الجمرة قلت: إنا رمينا الجمرة بليل. قالت: إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) » ، وقول أسماء رضي الله عنها: كنا نصنع ذلك مع من هو خير منك، وكنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم له حكم الرفع كما هو مقرر في (6) علم أصول الحديث.
وجه الدلالة في (7) هذا الحديث دليل على أنه يجوز للنساء الرمي لجمرة العقبة في النصف الأخير من الليل (8) وحد القبلية نصف الليل بشهادة العرف وظاهره سواء كان ثمة عذر أم لا، ولذلك «قالت أسماء: كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى عليه وسلم، (9) » وخطاب المواجهة يعم كما سبق، وقد سبق في رواية البخاري «قد أذن للظعن (10) » .
__________
(1) الروض النضير 3 \ 53
(2) عون المعبود 2 \ 139
(3) صحيح البخاري الحج (1679) ، مسند أحمد بن حنبل (6/347) .
(4) صحيح البخاري الحج (1679) ، سنن النسائي مناسك الحج (3050) ، سنن أبو داود المناسك (1943) ، مسند أحمد بن حنبل (6/347) ، موطأ مالك كتاب الحج (889) .
(5) صحيح البخاري الحج (1679) ، سنن النسائي مناسك الحج (3050) ، سنن أبو داود المناسك (1943) ، مسند أحمد بن حنبل (6/347) ، موطأ مالك كتاب الحج (889) .
(6) شرح ألفية العراقي 1 \ 128
(7) عون المعبود 2 \ 139
(8) الروض النضير 3 \ 53
(9) صحيح البخاري الحج (1679) ، سنن النسائي مناسك الحج (3050) ، سنن أبو داود المناسك (1943) ، مسند أحمد بن حنبل (6/347) ، موطأ مالك كتاب الحج (889) .
(10) صحيح البخاري الحج (1679) ، صحيح مسلم الحج (1291) ، مسند أحمد بن حنبل (6/347) .(5/26)
وقد رد هذا الوجه بأن أسماء إنما رمت بعد طلوع الفجر فلا حجة فيه لمن استدل به على جواز رميها قبل طلوع الفجر قال (1) ابن القيم ليس في هذا " يعني" حديث أسماء دليل على جواز رميها أي جمرة العقبة بعد نصف الليل فإن القمر يتأخر في الليلة العاشرة إلى قبيل الفجر، وقد ذهبت أسماء بعد غيابه من مزدلفة إلى منى فلعلها وصلت مع الفجر أو بعده فهي واقعة عليه، ومع هذا فهي رخصة للظعن وإن دلت على تقدم الرمي فإنما تدل على الرمي بعد طلوع الفجر. انتهى.
* وقال (2) الطحاوي متعقبا الاستدلال بحديث أسماء على جواز الرمي بعد نصف الليل قال: فقد يحتمل " أي قول مولى أسماء لها" قد غلسنا " أن يكون أراد التغليس في الدفع من مزدلفة، ويجوز أن يكون أراد التغليس في الرمي فأخبرته أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أذن لهم في التغليس لما سألها عن التغليس به من ذلك، وقال بعد ذلك في باب رمي جمرة العقبة ليلة النحر قبل طلوع الفجر" قد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا الباب حديث أسماء أنها رمت ثم رجعت إلى منزلها فصلت الفجر فقلت لها: قد غلسنا فقالت: «رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للظعن (3) » . فأخبرت أن ما قد كان رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك للظعن هو الإفاضة من المزدلفة في وقت ما يصيرون إلى منى في حال مآلهم أن يصلوا صلاة الصبح. انتهى.
* (4) وتعقبه أيضا ابن كثير فقال: إن كانت أسماء بنت الصديق رمت الجمار قبل طلوع الشمس كما ذكرها هنا عن توقيف فروايتها مقدمة على رواية ابن عباس لأن إسناد حديثها أصح من إسناد حديثه اللهم إلا أن يقال: إن الغلمان أخف حالا من النساء وأنشط، فلهذا أمر الغلمان بألا يرموا قبل طلوع الشمس، وأذن للظعن في الرمي قبل طلوع الشمس لأنهم أثقل حالا وأبلغ في التستر، وإن كانت أسماء لم تفعله عن توقيف فحديث ابن عباس مقدم على فعلها لكن يقوي الأول قول أبي داود. .
«عن أسماء أنها رمت الجمرة بليل، قلت: إنا رمينا الجمرة بليل، قالت: إنا كنا نصنع هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم (5) » . انتهى كلام ابن كثير.
والغلس (6) محركة ظلمة آخر الليل، والليل (7) والليلات من مغرب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق أو الشمس. انتهى. وإذا كان رميها قد وقع قبل الفجر فتجري فيه المناقشة والمقارنة التي مضت في الجواب عن الاعتراض الثاني على حديث أم سلمة من جهة دلالته.
الدليل الثالث
القياس ونصه: ولأنه (8) وقت للدفع من مزدلفة وكان وقتا للرمي كبعد طلوع الشمس. ويجاب عن (9) هذا بأن أوقات المناسك لا تعرف قياسا.
__________
(1) تهذيب السنن 2 \ 406
(2) شرح معاني الآثار 2 \ 218، 216
(3) صحيح البخاري الحج (1679) ، صحيح مسلم الحج (1291) ، مسند أحمد بن حنبل (6/347) .
(4) البداية والنهاية 5 \ 182
(5) صحيح البخاري الحج (1679) ، صحيح مسلم الحج (1291) ، سنن النسائي مناسك الحج (3050) ، سنن أبو داود المناسك (1943) ، مسند أحمد بن حنبل (6/347) ، موطأ مالك كتاب الحج (889) .
(6) القاموس2 \ 232
(7) القاموس 4 \ 48
(8) المغنى لابن قدامة 3 \ 449
(9) بدائع الصنائع 2 \ 138(5/27)
القول الثاني
لا يجوز رميها قبل طلوع الفجر، ومن رماها قبل طلوع الفجر أعادها.
وقال (1) القرطبي قال الإمام مالك: لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لأحد برمي قبل طلوع الفجر ولا يجوز رميها قبل الفجر، فإن رماها قبل الفجر أعادها. انتهى كلام القرطبي.
وكذلك (2) قال بالمنع أبو حنيفة وأصحابه.
واستدل لهذا القول بالأدلة الآتية:
الدليل الأول
عن كريب عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر نساءه وثقله من صبيحة جمع أن يفيضوا مع أول الفجر بسواد، وأن لا يرموا الجمرة إلا مصبحين» . أخرجه البيهقي في السنن الكبرى والطحاوي في شرح معاني الآثار.
وعن مقسم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه في الثقل وقال: لا ترموا الجمرة حتى تصبحوا (3) » . أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار.
وجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم نهاهم عن رمي جمرة العقبة إذا قدموا منى حتى يصبحوا (4) إذ المعنى حتى تدخلوا في الصباح وهو ما يحصل بأول الفجر ورد (5) هذا الاستدلال بأن اللفظ مطلق يدل على فرد شائع مما يحتمله اللفظ ومن جملة ما تصح إرادته الوقت الذي بعد طلوع الشمس لدخوله في مطلق الإصباح فيكون مجملا، وقد بين بفعله صلى الله عليه وسلم حيث رماها ضحى فكان هو المراد ولا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم (حتى تطلع الشمس) لعدم التفاوت بين طلوعها ووقت الضحى الذي هو انبساطها وإشراق نورها إذ فيه تحقيق للبعدية. انتهى.
وأما قول مالك - رحمه الله - لم يبلغنا يعارض بما سبق في حديث أم سلمة وأسماء.
الدليل الثاني القياس وهو (6) أن النصف الآخر من الليل وقت الوقوف فلم يكن وقتا للرمي كالنصف الأول.
ويجاب عنه بأن (7) أوقات المناسك لا تعرف قياسا.
__________
(1) تفسير القرطبي 3 \ 5
(2) بدائع الصنائع 2 \ 137 والمغني والشرح 3 \ 449
(3) صحيح مسلم الحج (1294) ، سنن الترمذي الحج (893) ، سنن أبو داود المناسك (1941) .
(4) الروض النضير 3 \ 53
(5) الروض النضير 3 \ 54
(6) المنتقي للباجي 2 \ 22
(7) بدائع الصنائع 2 \ 138(5/28)
القول الثالث
أن أول وقته للضعفة من طلوع الفجر ولغيرهم من بعد طلوع الشمس وهو (1) قول النخعي والثوري (2) واختيار ابن القيم.
واستدل لهذا القول بأدلة:
الدليل الأول عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: (لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه (3) » رواه مسلم.
وجه الدلالة قال النووي (4) وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «لتأخذوا مناسككم (5) » ، فهذه اللام لام الأمر ومعناه: خذوا مناسككم، وهكذا وقع في رواية غير مسلم، وتقديره هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال، والهيئات هي أمور الحج وصفته وهي مناسككم فخذوها عني واقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس، وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة: «صلوا كما رأيتموني أصلي (6) » . انتهى.
الدليل الثاني عن عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم ضعفة أهله بغلس ويأمرهم ألا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس (7) » . رواه أصحاب السنن الأربعة (8) وصححه الترمذي (9) والنووي (10) وابن القيم.
ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة وقد مضى إيراد ابن القيم على هذا الحديث ودفعه ومناقشته لحديث أم سلمة وأسماء.
الدليل الثالث حديث أسماء المتفق عليه وقد سبق قال فيه: «قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: نعم قالت: فارتحلوا. فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا قالت: يا بني " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن (11) » أ. هـ.
__________
(1) المغني والشرح 3 \ 449
(2) زاد المعاد 1 \ 471
(3) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) .
(4) النووي على مسلم 9 \ 43
(5) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) .
(6) صحيح البخاري الأذان (631) ، سنن الدارمي الصلاة (1253) .
(7) صحيح البخاري الحج (1678) ، سنن الترمذي الحج (893) ، سنن النسائي مناسك الحج (3048) ، سنن أبو داود المناسك (1941) .
(8) جامع الترمذي مع التحفة 2 \ 103
(9) المجموع شرح المهذب 8 \ 108
(10) زاد المعاد 1 \ 471
(11) صحيح البخاري الحج (1679) ، مسند أحمد بن حنبل (6/347) .(5/29)
وجه الدلالة: هذا (1) الحديث المتفق عليه صريح أن أسماء رمت الجمرة قبل طلوع الشمس بل بغلس وهو بقية الظلام.
وصرحت بأنه صلى الله عليه وسلم أذن في ذلك للظعن ومفهومه أنه لم يأذن للذكور الأقوياء. انتهى.
وقد مضت مناقشة هذا الدليل عند الاستدلال به للمذهب الأول.
الدليل الثاني حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه وفيه أنه كان يقدم ضعفة أهله وأن منهم من يقدم لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول رخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجه الدلالة حديث (2) ابن عمر هذا المتفق عليه يدل دلالة واضحة على الترخيص للضعفة في رمي جمرة العقبة بعد الصبح قبل طلوع الشمس كما ترى ومفهومه أنه لم يرخص لغيرهم في ذلك. وقد جمع ابن القيم بين أدلة هذا الباب فقال: لا (3) تعارض بين هذه الأحاديث فإنه أمر الصبيان ألا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس فإنه لا عذر لهم في تقديم الرمي، أما من قدمه من النساء فرمين قبل الشمس للعذر والخوف عليهن من مزاحمة الناس وحطمهم وهذا الذي دلت عليه السنة جواز الرمي قبل طلوع الشمس للعذر بمرض أو كبر يشق معه مزاحمة الناس لأجله، وأما القادر الصحيح فلا يجوز له ذلك. انتهى.
وبعد سرده للمذاهب في هذه المسألة قال (4) : والذي دلت عليه السنة إنما هو التعجيل بعد غيبوبة القمر لا نصف الليل وليس مع من حده بالنصف دليل.
* وقال (5) الشيخ محمد الأمين الشنقيطي الذي يقتضي الدليل رجحانه في هذه المسألة أن الذكور الأقوياء لا يجوز لهم رمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس وأن الضعفة والنساء لا ينبغي التوقف في جواز رميهم بعد الصبح قبل طلوع الشمس لحديث أسماء وابن عمر المتفق عليهما الصريحين في الترخيص لهم في ذلك، وأما رميهم أعني الضعفة والنساء قبل طلوع الفجر فهو محل نظر فحديث عائشة عن أبي داود يقتضي جوازه وحديث ابن عباس عند أصحاب السنن يقتضي منعه.
والقاعدة المقررة في علم الأصول هي أن يجمع بين النصين إن أمكن الجمع وإلا فالترجيح بينهما، وقد جمعت
__________
(1) أضواء البيان5 \ 279
(2) أضواء البيان 5 \ 279
(3) زاد المعاد 1 \ 471
(4) زاد المعاد 1 \ 472
(5) أضواء البيان 5 \ 280(5/30)
بينهما جماعة من أهل العلم فجعلوا لرمي جمرة العقبة وقتين وقت فضيلة ووقت جواز وحملوا حديث ابن عباس على وقت الفضيلة وحديث عائشة على وقت الجواز وله وجه من النظر.
أما الذكور الأقوياء فلم يرد في الكتاب ولا السنة دليل يدل على جواز رميهم جمرة العقبة قبل طلوع الشمس لأن جميع الأحاديث الواردة في الترخيص في ذلك كلها في الضعفة وليس شيء منها في الأقوياء الذكور. انتهى المقصود.(5/31)
المسألة الثانية: حكم رمي جمرة العقبة ليلة النفر، في هذه المسألة مذهبان
المذهب الأول
إن غربت الشمس يوم النحر وهو لم يرم جمرة العقبة فإنه يرميها
قال (1) الطحاوي وقال أبو حنيفة: إن ترك رجل رمي جمرة العقبة في يوم النحر ثم رماها في الليلة التي بعده فلا شيء عليه، وإن لم يرمها حتى أصبح من غده رماها وعليه دم لتأخيره إياها إلى خروج وقتها وهو طلوع الفجر من يومئذ انتهى.
وقال (2) الكاساني: فإن لم يرم حتى غربت الشمس فيرمي قبل طلوع الفجر من اليوم الثاني أجزأ، ولا شيء عليه في قول أصحابنا انتهى.
هذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
وأما مذهب مالك فقد جاء في المدونة (3) هذا النص: ما قول مالك فيمن ترك رمي جمرة العقبة يوم النحر حتى الليل؟ قال مالك: من أصابه مثل ما أصاب صفية حين احتبست على ابنة أخيها فأتت بعدما غابت الشمس فرمت ولم يبلغنا أن ابن عمر أمرهما في ذلك بشيء. قال مالك: وأما أنا فأرى على من كان في مثل حال صفية ولم يرم حتى غابت الشمس أن عليه الدم، قال مالك: من ترك رمي جمرة العقبة حتى تغيب الشمس فعليه دم. . .
قلت: أرأيت إن ترك بعض رمي جمرة العقبة من يوم النحر ترك حصاة أو حصاتين حتى غابت الشمس؟ قال: قال مالك: يرمي ما ترك من رميه ولا يستأنف جميع الرمي ولكن يرمي ما نسي من عدد الحصا. قلت: فهل عليه دم؟ قال ابن القاسم: قد اختلف قوله في هذا، وأحب إلي أن يكون عليه دم.
قلت: فيرمي ليلا في قول مالك هذا الذي ترك من رمي جمرة العقبة شيئا أو ترك الجمرة كلها؟ قال: نعم يرميها في قول مالك ليلا. قلت: فيكون عليه الدم قال: كان مالك مرة يرى ذلك عليه، ومرة لا يرى ذلك عليه. انتهى.
وأما المذهب الشافعي فقد نص (4) الشافعي على أنه يرمي ليلا ولا شيء عليه وقال (5) النووي لو ترك رمي
__________
(1) شرح معاني الآثار 1 \ 415
(2) بدائع الصنائع 2 \ 137
(3) المدونة 1 \ 323
(4) الأم للشافعي 2 \ 181
(5) الإيضاح \ 406(5/31)
جمرة العقبة فالأصح أنه يتداركه
في الليل وفي أيام التشريق ويشترط فيه الترتيب فيقدمه على أيام التشريق ويكون أداء على الأصح وإذا قلنا بالأصح: إن المتدارك أداء لا قضاء كان تعجيل كل يوم للمقدار المأمور به وقت اختيار وفضيلة كأوقات الاختيار للصلاة. انتهى.
هذا ما تيسر تفصيله للمذاهب الثلاثة فهم متفقون على رميها لكن هل هو قضاء أو أداء وهل فيه دم أو لا شيء فيه؟ بينهم خلاف كما سبق.
* واستدل لقولهم بجواز رميها بعد غروب الشمس بأدلة:
الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى فيقول: لا حرج، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح. قال: " اذبح ولا حرج" فقال: رميت بعدما أمسيت. فقال: " لا حرج" (1) » . رواه البخاري. وقد بسط (2) الشيخ محمد الأمين الشنقيطي الكلام على هذا الدليل فنسوق المقصود من كلامه. فقالوا: قد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن من رمى بعدما أمسى لا حرج عليه واسم المساء يصدق بجزء من الليل.
ورد هذا الاستدلال بأن مراد السائل بقوله: بعدما أمسيت يعني به بعد زوال الشمس في آخر النهار قبل الليل.
* قالوا: والدليل الواضح على ذلك أن حديث ابن عباس المذكور «كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى (3) » . الحديث.
فتصريحه بقوله يوم النحر. يدل على أن السؤال وقع في النهار والرمي بعد الإمساء يطلق لغة على ما بعد وقت الظهر إلى الليل.
قال ابن حجر في فتح الباري في شرح الحديث المذكور قال: رميت بعدما أمسيت أي بعد دخول المساء وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتد الظلام فلم يتعين لكون الرمي المذكور كان بالليل. انتهى.
* وقال ابن منظور في لسان العرب: المساء بعد الظهر إلى صلاة المغرب وقال بعضهم إلى نصف الليل.
* قالوا فالحديث صريح في أن المراد بالمساء فيه آخر النهار بعد الزوال لا الليل وإذا فلا حجة فيه للرمي ليلا.
* وأجاب القائلون بجواز الرمي ليلا عن هذا بأجوبة:
الأول منها قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا حرج " بعد قول السائل: رميت بعدما أمسيت. يشمل لفظه نفي الحرج عمن رمى بعدما أمسى وخصوص سببه بالنهار لا عبرة به لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، ولفظ المساء عام لجزء من النهار وجزء من الليل وسبب ورود الحديث المذكور خاص بالنهار.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1735) ، صحيح مسلم الحج (1307) ، سنن النسائي مناسك الحج (3067) ، سنن أبو داود المناسك (1983) ، سنن ابن ماجه المناسك (3050) ، مسند أحمد بن حنبل (1/291) .
(2) أضواء البيان 5 \ 281-285
(3) صحيح البخاري الحج (1735) ، صحيح مسلم الحج (1307) ، سنن النسائي مناسك الحج (3067) ، سنن أبو داود المناسك (1983) ، سنن ابن ماجه المناسك (3050) ، مسند أحمد بن حنبل (1/291) .(5/32)
الجواب الثاني أنه ثبت في بعض روايات حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - المذكور ما هو أعم من يوم النحر وهو صادق قطعا بحسب الوضع اللغوي ببعض أيام التشريق، ومعلوم أن الرمي فيه لا يكون إلا بعد الزوال فقول السائل في بعض أيام التشريق ": رميت بعدما أمسيت" لا ينصرف إلا إلى الليل لأن الرمي فيها بعد الزوال معلوم فلا يسأل عنه صحابي.
قال أبو عبد الرحمن النسائي في سننه أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال: حدثنا يزيد هو ابن زريق قال حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أيام منى فيقول " لا حرج" فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح. قال " لا حرج" فقال رجل: رميت بعدما أمسيت. قال " لا حرج (1) » وهذا الحديث صحيح الإسناد كما ترى لأن طبقته الأولى محمد بن عبد الله بن بزيع وهو ثقة معروف وهو من رجال مسلم في صحيحه وبقية إسناده هي بعينها إسناد البخاري الذي ذكرناه آنفا وقوله في هذا الحديث صحيح أيام منى بصيغة الجمع صادق بأكثر من يوم واحد فهو صادق بحسب وضع اللغة ببعض أيام التشريق والسؤال عن الرمي بعد المساء فيها لا ينصرف إلا إلى الليل فإن قيل: صيغة الجمع في رواية النسائي تخصص بيوم النحر الوارد في رواية البخاري فيحمل ذلك الجمع على المفرد نظرا لتخصصه به ويؤيد ذلك أن في رواية أبي داود وابن ماجه لحديث ابن عباس المذكور يوم منى بالإفراد.
فالجواب أن المقرر في الأصول أن ذكر بعض أفراد العام لا يخصصه على مذهب الجمهور خلافا لأبي ثور (2) سواء كان العام وبعض أفراده المذكور بحكمه في نص واحد أو نصين. . .
وللمخالفين القائلين لا يجوز الرمي ليلا أن يردوا هذا الاستدلال فيقولوا: رواية النسائي العامة في أيام منى فيها «أنه كان يسأل فيها فيقول " لا حرج (3) » وأنه «سأله رجل فقال: رميت بعدما أمسيت. فقال: لا حرج (4) » ولم يعين اليوم الذي قال فيه: رميت بعدما أمسيت وعموم أيام منى صادق بيوم النحر وقد بينت رواية البخاري أن ذلك السؤال وقع في خصوص يوم النحر أيام منى ولا ينافي ذلك أنه قال " لا حرج" في أشياء أخر في بقية أيام منى وغاية ذلك أن أيام منى عام، ورواية البخاري عينت اليوم الذي قال فيه: رميت بعدما أمسيت.
الجواب الثالث هو ما قدمناه في الموطأ عن ابن عمر من أنه أمر زوجته صفية بنت أبي عبيد وابنة أخيها برمي الجمرة بعد الغروب، ورأى أنهما لا شيء عليهما في ذلك، وذلك يدل على أنه علم من النبي صلى الله عليه وسلم أن الرمي جائز ليلا. انتهى.
وقد يقال: إن صفية وابنة أخيها كان لهما عذران لأن ابنة أخيها عذرها النفاس ليلة المزدلفة وهي عذرها معاونة ابنة أخيها (5) . انتهى المقصود.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1735) ، صحيح مسلم الحج (1307) ، سنن النسائي مناسك الحج (3067) ، سنن أبو داود المناسك (1983) ، سنن ابن ماجه المناسك (3050) ، مسند أحمد بن حنبل (1/291) .
(2) يريد بذلك أنه لا يخصصه إذا كان متفقا معه في حكمه
(3) صحيح البخاري الحج (1735) ، صحيح مسلم الحج (1307) ، سنن النسائي مناسك الحج (3067) ، سنن أبو داود المناسك (1983) ، سنن ابن ماجه المناسك (3050) ، مسند أحمد بن حنبل (1/291) .
(4) صحيح البخاري الحج (1735) ، صحيح مسلم الحج (1307) ، سنن النسائي مناسك الحج (3067) ، سنن أبو داود المناسك (1983) ، سنن ابن ماجه المناسك (3050) ، مسند أحمد بن حنبل (1/291) .
(5) أضواء البيان 5 \ 288 \ 285(5/33)
الدليل الثاني عن أبي بكر بن نافع عن أبيه أن ابنة أخ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة فتخلفت هي وصفية حتى أتتا منى بعد أن غربت الشمس من يوم النحر فأمرهما عبد الله بن عمر أن ترميا الجمرة حين أتتا ولم ير عليهما شيئا. رواه مالك في الموطأ، وابن أبي شيبة في المصنف وقد سبق بيان وجه الاستدلال منه.
الدليل الثالث عن ابن جريج عن عمرو قال: أخبرني من رأى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ترمي غربت أو لم تغرب رواه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف.
الدليل الرابع ما رواه الثوري عن رجل عن نافع قال: قال ابن عمر: إذا نسيت رمي الجمرة يوم النحر إلى الليل فارمها بالليل، وإذا كان من الغد فنسيت الجمار حتى الليل فلا ترمه حتى يكون من الغد عند زوال الشمس ارم الأول فالأول، ورواه عبيد الله عن نافع عن عمر مختصرا بلفظ " من نسي أيام الجمار وقال رمي الجمار إلى الليل فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد رواه البيهقي في السنن الكبرى.
الدليل الخامس عن عطاء بن أبي رباح قال سمعت ابن عباس يقول: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «الراعي يرمي بالليل ويرعى بالنهار» رواه البيهقي في السنن والطحاوي في شرح معاني الآثار (1) وأورد على هذا الاستدلال بأنه رخص لهم للعذر (2) .
وأجيب بأنه ما كان لهم عذر لأنه كان يمكن أن يستنيب بعضهم بعضا فيأتي بالنهار فيرمي فثبت أن الإباحة كانت لغير عذر فيدل على الجواز مطلقا.
__________
(1) المنتقى 3 \ 51
(2) بدائع الصنائع 2 \ 137(5/34)
المذهب الثاني
إذا غربت الشمس من يوم النحر وهو لم يرم جمرة العقبة فلا يرميها إلا من الغد بعد الزوال، وهذا مذهب أحمد والرواية الثانية عن الشافعي.
واستدل لهذا بأن ابن عمر رضي الله عنه قال: من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد. وقد سبق أنه رواه البيهقي، وهذا الأثر معارض بما تقدم ذكره عن ابن عمر ففيه فرق بين رمي جمرة العقبة يوم النحر، ورمي غيرها وهو الدليل الرابع من أدلة القائلين بجواز رميها في ليلة القر.(5/34)
المسألة الثالثة: حكم تقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق الثلاثة، وفيه مذاهب
المذهب الأول
لا يجوز تقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق الثلاثة، ومن رمى قبل الزوال أعاده وممن ذهب إلى هذا مالك (1) والشافعي (2) وهو (3) الصحيح من مذهب أحمد ويستدل لهذا المذهب بما يأتي:
الدليل الأول ما جاء في خطبته صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر من حديث جابر «لتأخذوا عني مناسككم (4) » .
وقد مضى بيان معنى هذه الجملة وهو وجه الاستدلال من الحديث بصفة عامة، وأن هذه اللام لام الأمر، وقد (5) جاء في بعض الروايات التصريح بالأمر وكونه صلى الله عليه وسلم يؤخر الرمي حتى تزول الشمس في هذه الأيام الثلاثة. هذا بيان لوقت بدء الرمي، وهذا داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم «لتأخذوا عني مناسككم (6) » وقد تقرر في علم الأصول أن البيان تابع للمبين في الحكم، والحكم هنا هو الأمر، والأمر في الأصل يقتضي الوجوب إلا بقرينة تصرفه عن هذا الأصل فيكون الرمي بعد الزوال واجبا، والأمر بالشيء نهي عن ضده فلا يجوز الرمي قبل الزوال.
ومن الأدلة الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم لم يرم في هذه الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال ما رواه جابر رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فبعد الزوال (7) » . رواه مسلم في الصحيح، ورواه الترمذي والنسائي وأبو داود وقال الترمذي بعد إخراجه حديث حسن صحيح. وأخرجه البخاري تعليقا بصيغة الجزم.
قال (8) ابن حجر وقد وصله مسلم وابن خزيمة وابن حبان من طريق ابن جريج أخبرني أبو الزبير عن جابر.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها «ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات (9) » الحديث رواه أحمد في المسند وأبو داود والبيهقي في المسند والحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه.
الدليل الثاني عن وبرة بن عبد الرحمن السلمي قال سألت ابن عمر رضي الله عنهما: متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمي إمامك. فأعدت عليه المسألة قال: كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا أخرجه البخاري في الصحيح.
__________
(1) المدونة 2 \ 183
(2) الأم 2 \ 180
(3) المغني والشرح 3 \ 476 والإنصاف 4 \ 45
(4) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) .
(5) فتح الباري 3 \ 579
(6) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) .
(7) صحيح مسلم الحج (1299) ، سنن الترمذي الحج (894) ، سنن النسائي مناسك الحج (3063) ، سنن أبو داود المناسك (1971) ، سنن ابن ماجه المناسك (3053) ، مسند أحمد بن حنبل (3/318) ، سنن الدارمي المناسك (1896) .
(8) فتح الباري 3 \ 579
(9) سنن أبو داود المناسك (1973) ، مسند أحمد بن حنبل (6/90) .(5/35)
ورواية مالك في الموطأ عن ابن عمر رضي الله عنهما لا ترمي الجمار حتى تزول الشمس وجه الاستدلال قال (1) ابن الأثير: نتحين تحينت الوقت أي طلبت الحين وهو الوقت. وقال (2) ابن حجر فأعلمه بما كانوا يفعلونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) جامع الأصول 3 \ 278
(2) الفتح 3 \ 580(5/36)
المذهب الثاني
يجوز رمي الجمار في هذه الأيام الثلاثة قبل الزوال مطلقا.
ونسب ابن حجر (1) والعيني (2) هذا المذهب إلى عطاء وطاوس، ولكن بالنسبة لعطاء قد ورد عنه ما يدل على خلاف هذا المذهب المنسوب إليه فقد روى الحاكم في المستدرك بسنده عن ابن جريج عن عطاء أنه قال: لا أرمي حتى تزيغ الشمس إن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي يوم النحر قبل الزوال فأما بعد ذلك فعند الزوال (3) » قال الحاكم بعد سياق سنده ومتنه: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي في تلخيصه.
__________
(1) الفتح 3 \ 580
(2) عمدة القاري 10 \ 86
(3) صحيح مسلم الحج (1299) ، سنن الترمذي الحج (894) ، سنن النسائي مناسك الحج (3063) ، سنن أبو داود المناسك (1971) ، سنن ابن ماجه المناسك (3053) ، سنن الدارمي المناسك (1896) .(5/36)
المذهب الثالث
مذهب أبي حنيفة وفيه تفصيل هذا بيانه مع المستند وجوابه عن أدلة الجمهور.
* قال (1) الكاساني وأما وقت الرمي من اليوم الأول والثاني من أيام التشريق وهو اليوم الثاني والثالث من أيام الرمي فبعد الزوال حتى لا يجوز الرمي فيهما قبل الزوال في الرواية المشهورة عن أبي حنيفة، وروي عن أبي حنيفة أن الأفضل أن يرمي في اليوم الثاني والثالث بعد الزوال فإن رمى قبله جاز.
ووجه هذه الرواية أن قبل الزوال وقت الرمي في يوم النحر فكذا في اليوم الثاني والثالث لأن الكل أيام النحر.
ووجه الرواية المشهورة ما روي عن جابر رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر ضحى ورمى في بقية الأيام بعد الزوال، (2) » وهذا باب لا يعرف بالقياس بل بالتوقيف. . . وأما وقت الرمي في اليوم الثالث من أيام التشريق وهو اليوم الرابع من أيام الرمي فالوقت المستحب له بعد الزوال، ولو رمى قبل الزوال يجوز في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف ومحمد لا يجوز واحتجا بما روي عن جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر ضحى ورمى في بقية الأيام بعد الزوال، (3) » وأوقات المناسك لا تعرف قياسا فدل أن وقته بعد الزوال ولأن هذا يوم من أيام الرمي فكان وقت الرمي فيه بعد الزوال كاليوم الثاني والثالث من أيام التشريق.
ولأبي حنيفة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال إذا افتتح النهار من آخر أيام التشريق جاز
__________
(1) بدائع الصنائع 2 \ 136، 137
(2) صحيح مسلم الحج (1299) ، سنن الترمذي الحج (894) ، سنن النسائي مناسك الحج (3063) ، سنن أبو داود المناسك (1971) ، سنن ابن ماجه المناسك (3053) ، سنن الدارمي المناسك (1896) .
(3) سنن النسائي مناسك الحج (3063) .(5/36)
الرمي، والظاهر أنه قاله سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو باب لا يدرك بالرأي والاجتهاد فصار اليوم الأخير من أيام التشريق مخصوصا من حديث جابر رضي الله عنه بهذا الحديث أو يحمل فعله في اليوم الأخير على الاستحباب، ولأن له أن ينفر قبل الرمي، ويترك الرمي في هذا اليوم رأسا فإذا جاز له ترك الرمي أصلا فلأن يجوز له الرمي قبل الزوال أولى. انتهى.
* قال الزيلعي: ورواية (1) البيهقي عن ابن عباس (إذا انتفخ النهار من يوم النفر فقد حل الرمي والصدر) انتهى في مسند طلحة بن عمر وضعفه البيهقي قال: والانتفاخ: الارتفاع. انتهى.
وقال (2) ابن منظور: وانتفخ النهار علا قبل الانتصاف بساعة. وقال (3) البابرتي، قوله في المشهور من الرواية احتراز عما روى الحسن عن أبي حنيفة أنه إن كان من قصده أن يتعجل في النفر الأول فلا بأس بأن يرمي في اليوم الثالث قبل الزوال، وإن رمى بعده فهو أفضل وإن لم يكن ذلك من قصده فلا يجوز أن يرمي إلا بعد الزوال وذلك لدفع الحرج لأنه إذا نفر بعد الزوال لا يصل إلى مكة إلا بالليل فيحرج في تحصيل موضع المنزل.
وقال (4) ابن الهمام: قوله في المشهور من الرواية احتراز عما روي عن أبي حنيفة - رحمه الله - قال: أحب إلي ألا يرمي في اليوم الثاني والثالث حتى تزول الشمس فإن رمى قبل ذلك أجزأه.
وحمل المروي من قوله عليه السلام على اختيار الأفضل. وجه الظاهر ما قدمناه من وجوب اتباع المنقول لعدم المعقولية، ولم يظهر أثر تخفيف فيها بتجويز الترك لينفتح باب التخفيف بالتقديم وهذه الزيادة يحتاج إليها أبو حنيفة وحده. انتهى.
* قال (5) الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بعد سياقه للأدلة الدالة على أنه لا يجوز الرمي إلا بعد الزوال في أيام التشريق. قال: وبهذه النصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم أن قول عطاء وطاوس بجواز الرمي في أيام التشريق قبل الزوال وترخيص أبي حنيفة في الرمي يوم النفر قبل الزوال، وقول إسحاق إن رمى قبل الزوال في اليوم الثالث أجزأه كل ذلك خلاف التحقيق لأنه مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك خالف في الترخيص أبا حنيفة صاحباه محمد وأبو يوسف. ولم يرد في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يخالف ذلك فالقول بالرمي قبل الزوال في أيام التشريق لا مستند له البتة مع مخالفته للسنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي لأحد أن يفعله.
__________
(1) نصب الراية 3 \ 85
(2) لسان العرب 4 \ 31
(3) العناية على الهداية 2 \ 185
(4) فتح القدير 2 \ 185
(5) أضواء البيان 5 \ 295(5/37)
المسألة الرابعة: حكم رمي الجمار في ليلتي اليوم الثاني عشر والثالث عشر عن اليوم الذي قبلها، في هذه المسألة مذهبان
المذهب الأول
الجواز وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية.
* أما الحنفية فقال (1) السندي " ولو لم يرم يوم النحر" أي اليوم الأول " أو الثاني أو الثالث رماه في الليلة المقبلة" أي الآتية لكل من الأيام الماضية " ولا شيء عليه سوى الإساءة" أي لتركه السنة " إن لم يكن عذر" أي ضرورة " ولو رمى ليلة الحادي عشر أو غيرها عن غدها" أي من أيامها المقبلة لم يصح لأن الليالي " في الحج" أي في حقه " في حكم الأيام الماضية لا المستقبلة" أي فيجوز رمي اليوم الثاني من أيام النحر ليلة الثالث، ولا يجوز فيها رمي اليوم الثالث كما أن الوقوف جائز في ليلة العاشر ولا يجوز فيها من أفعال ذلك اليوم من الوقوف بمزدلفة والرمي ونحوهما " ولو لم يرم في الليل" أي من ليالي أيامها الماضية أداء " رماه في النهار" أي في نهار الأيام التالية على التأليف "قضاء" أي اتفاقا " وعليه الكفارة" الدم عند الإمام ولا شيء عليه عندهما. انتهى.
وأما المالكية ففي المدونة (2) قلت: فإن ترك رمي الجمرة من الجمار في اليوم الذي بعد يوم النحر ما عليه في قول مالك قال: قد اختلف قول مالك مرة يقول: من نسي رمي الجمار حتى تغيب الشمس فليرم، ولا شيء عليه. ومرة قال: ليرم وعليه دم، قال: وأحب إلي أن يكون عليه الدم. قلت: وكذلك اليوم الذي بعده؟ قال: نعم. انتهى.
وفي (3) الموطأ قال يحيى: سئل مالك عمن نسي جمرة من الجمار في بعض أيام منى حتى يمسي قال: ليرم أية ساعة ذكر من ليل أو نهار، كما يصلي الصلاة إذا نسيها ثم ذكرها ليلا أو نهارا، انتهى المقصود.
* وفي (4) مختصر خليل وشرحه للدردير " والليل" عقب كل يوم " قضاء" لذلك اليوم الذي يجب فيه الدم.
* وقال (5) الباجي بعد سياقه للدليل الدال على مشروعية الرمي بعد الزوال وكلامه عليه قال: إذا ثبت ذلك فإن أول أداء الرمي لكل يوم من أيام التشريق زوال الشمس منه وآخره غروب الشمس، ووقت القضاء من غروب الشمس إلى بقية أيام التشريق الليل والنهار سواء في القضاء يبين ذلك ما روي عن مالك في رمي رعاء الإبل الجمار أنهم لا يرمون اليوم الذي يلي يوم النحر إلا في اليوم الذي بعده لأنه لا يقضى شيء حتى يجب فإذا وجب ومضى كان القضاء بعد ذلك.
__________
(1) لباب المناسك وشرحه المسلك المتقسط في المنسك المتوسط 161
(2) المدونة 1 \ 323
(3) الموطأ مع المنتقى 3 \ 53
(4) مختصر خليل وشرحه للدردير 2 \ 48
(5) المنتقى 3 \ 51(5/38)
* وأما (1) الشافعية فقال النووي: إذا ترك شيئا من الرمي نهارا فالأصح أنه يتداركه ليلا أو فيما بقي من أيام التشريق سواء تركه عمدا أو سهوا وإذا تداركه فيها فالأصح أنه أداء لا قضاء. انتهى المقصود.
* وقال (2) الرملي: وإذا ترك رمي يوم أو يومين من أيام التشريق عمدا أو سهوا أو جهلا تداركه في باقي الأيام منها في الأظهر بالنص في الرعاء وأهل السقاية وبالقياس في غيرهم إذ لو كانت بقية الأيام غير صالحة للرمي لم يفترق الحال فيها بين المعذور وغيره كما في الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة، والمتدارك أداء كما مر، ولو تدارك قبل الزوال أو ليلا أجزأه كما جزم به في الأول في أصل الروضة والمجموع والمناسك واقتضاه نص الشافعي - رحمه الله - وبالثاني لابن الصباغ في شامله وابن الصلاح والمصنف في مناسكهما وإن جزم ابن المقري تبعا لجمع بخلافه فيهما إذ جملة أيام الرمي كوقت واحد وكل يوم لرميه وقت اختيار لكن لا يجوز تقديم رمي كل يوم عن زوال شمسه كما مر. انتهى.
الأدلة: قد بنى الحنفية مذهبهم على الرخصة للرعاة أن يرموا ليلا وعندهم أنه ليس خاصا بهم بل هو عام كما سيأتي في الكلام على أدلة الرخصة للرعاة وهي المسألة الخامسة.
وينوه أيضا على أن الليلة في حكم اليوم الذي قبلها في الحج كما سبق عن السندي، وأما المالكية فأما مالك فإنه يقوله في الناسي فقط - حسبما اطلعنا عليه
وقد بناه قياسا على من نسي صلاة أخذا من حديث: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها (3) » الحديث.
* وأما الباجي ومن وافقه فقد استدل بحديث الرعاء وسيأتي في كلام الباجي مع بيان وجه الاستدلال به عند الكلام على أدلة الرخصة للرعاة أن يرموا ليلا، وأما الشافعية فإنهم يقولون به بالنص للرعاء وأهل السقاية وبالقياس في غيرهم وسيأتي الكلام على أحاديث الرخصة للرعاء ومناقشتها، وأما أهل السقاية فإن الرخصة التي وردت في حقهم هي الرخصة في المبيت لا الرخصة في الرمي - هذا حسبما وقفنا عليه - وفي حالة عدم ثبوت دليل يدل على الرخصة لهم في الرمي فلا يصح القياس عليهم وقد مضت مناقشة الاستدلال بالقياس في العبادات ويمكن أن يستدل للقول بجواز الرمي ليلا عن اليوم الذي قبله برواية النسائي التي سبقت وقد جاء فيها \ كان يسأل أيام منى وفيها فسأله رجل فقال: رميت بعدما أمسيت. قال: ارم ولا حرج \ وقد مضى الكلام على هذا الدليل.
__________
(1) الإيضاح 406
(2) نهاية المحتاج 2 \ 315
(3) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (597) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (684) ، سنن الترمذي الصلاة (178) ، سنن النسائي المواقيت (613) ، سنن أبو داود الصلاة (442) ، سنن ابن ماجه الصلاة (696) ، مسند أحمد بن حنبل (3/269) ، سنن الدارمي الصلاة (1229) .(5/39)
المذهب الثاني
من غربت عليه الشمس في اليوم الحادي عشر والثاني عشر من أيام التشريق وهو لم يرم الجمار لذلك اليوم فإنه يرميها من الغد بعد الزوال.
وهذا مذهب أحمد ومن وافقه واستدل به ابن قدامة في المغني بقول ابن عمر - رضي الله عنهما - من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد وقد مضى هذا الأثر.
قال (1) المرداوي وقال ابن عقيل: نصه للرعاة خاصة الرمي ليلا نقله ابن منصور. انتهى.
__________
(1) الإنصاف 4 \ 37(5/39)
المسألة الخامسة: أدلة الترخيص للرعاة في الرمي
عن عاصم بن عدي عن أبيه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر (1) » هذا لفظ الموطأ قال مالك تفسير ذلك فيما نرى والله أعلم " أنهم يرمون يوم النحر فإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد وذلك يوم النفر الأول ويرمون لليوم الذي مضى ثم يرمون ليومهم ذلك لأنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه، فإذا وجب عليه ومضى كان القضاء بعد ذلك، فإن بدا لهم في النفر فقد فرغوا وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الآخر ونفروا. أخرجه في الموطأ.
* قال الباجي (2) قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى يقتضي أن هناك منعا خاصا هذا منه لأن لفظة "رخصة" لا تستعمل إلا فيما يخص من المحظور للعذر وذلك أن للرعاء عذرا في الكون مع الظهر الذي لا بد من مراعاته والرعي به للحاجة إلى الظهر في الانصراف إلى بعيد البلاد وقد قال تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} (3) فأبيح لهم ذلك لهذا المعنى. انتهى.
قال (4) الكاساني: ولا يقال: إنه رخص لهم ذلك لعذر؛ لأنا نقول: ما كان لهم عذر لأنه كان يمكنهم أن يستنيب بعضهم بعضا فيأتي بالنهار فيرمي فثبت أن الإباحة كانت لغير عذر فيدل على الجواز مطلقا فلا يجب الدم. انتهى المقصود.
* وقال (5) الباجي وقوله: يرمون يوم النحر، أخبر أن رميهم يوم النحر لا يتعلق به رخصة ولا يغير عن وقته ولا إضافة إلى غيره ثم يرمون الغد يريد أنه يرمي لليومين فقال: يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين فذكر الأيام التي يرمي لها وهي الغد من يوم النحر وبعد الغد وهما أول أيام التشريق وثانيهما ولم يذكر وقت الرمي وإنما يرمي لهما في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال ولذلك جمع بينهما في اللفظ فقال: ليومين وقد فسر ذلك مالك على ما تقدم ذكره وفي رواية الترمذي قال: «أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ثم يجمعون رمي يومين بعد يوم النحر فيرمونه في أحدهما (6) » .
قال: قال مالك ظننت أنه قال في الأول منهما: ثم يرمون يوم النفر وفي أخرى له ولأبي داود والنسائي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما (7) » .
وفي أخرى للنسائي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء في البيتوتة يرمون يوم النحر واليومين اللذين بعده يجمعونه في أحدهما (8) » .
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1975) ، سنن ابن ماجه المناسك (3037) ، موطأ مالك الحج (935) ، سنن الدارمي المناسك (1897) .
(2) المنتقى 3 \ 51
(3) سورة النحل الآية 7
(4) بدائع الصنائع 2 \ 137
(5) المنتقى 3 \ 51
(6) سنن الترمذي الحج (955) ، سنن النسائي مناسك الحج (3069) ، سنن أبو داود المناسك (1975) ، سنن ابن ماجه المناسك (3037) ، موطأ مالك الحج (935) ، سنن الدارمي المناسك (1897) .
(7) سنن الترمذي الحج (954) ، سنن النسائي مناسك الحج (3068) ، سنن أبو داود المناسك (1976) ، سنن ابن ماجه المناسك (3036) ، مسند أحمد بن حنبل (5/450) ، موطأ مالك الحج (935) ، سنن الدارمي المناسك (1897) .
(8) سنن الترمذي الحج (955) ، سنن النسائي مناسك الحج (3069) ، سنن أبو داود المناسك (1975) ، سنن ابن ماجه المناسك (3037) .(5/40)
قال (1) ابن الأثير: إسناد هذا الحديث في الموطأ عن أبي البداح عاصم بن عدي عن أبيه.
وفي نسخة أخرى عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه.
وفي الترمذي عن أبي البداح بن عدي عن أبيه وقال: وقد روى مالك بن أنس عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه قال الترمذي: ورواية مالك أصح.
وأخرجه أبو داود عن أبي البداح بن عاصم عن أبيه.
وأخرج أيضا هو والترمذي عن أبي البداح بن عدي عن أبيه الرواية الثانية.
وأخرج النسائي مرة عن أبي البداح بن عدي عن أبيه، ومرة عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه.
قال (2) صاحب التحفة عند الكلام على رواية الترمذي «رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما (3) »
قال: يعني يجوز لهم أن يرموا اليوم الأول من أيام التشريق ويذهبوا إلى إبلهم فيبيتوا عندها ويدعوا يوم النفر الأول ثم يأتوا في اليوم الثالث فيرموا ما فاتهم في اليوم الثاني مع رميهم لليوم الثالث وفيه تفسير ثان وهو أنهم يرمون جمرة العقبة ويدعون رمي ذلك اليوم ويذهبون ثم يأتون في اليوم الثاني من التشريق فيرمون ما فاتهم ثم يرمون عن ذلك اليوم كما تقدم وكلاهما جائز.
كذا في النيل.
وقال (4) صاحب عون المعبود عند الكلام على رواية أبي داود: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد ومن بعد الغد بيومين ويرمون يوم النفر (5) » قال: فظاهر الحديث أنهم يرمون بعد يوم النحر وهو اليوم الحادي عشر لذلك اليوم واليوم الآتي وهو الثاني عشر ويجمعون بين رمي يومين بتقديم الرمي على يومه وفي الترمذي والنسائي وغيرهما من هذا الوجه بلفظ: «رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر فيرموه في أحدهما (6) » وهذا الظاهر خلاف ما فسره مالك لهذا الحديث.
ويدل لفهم الإمام مالك رواية سفيان الآتية بلفظ: «رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما (7) » .
* قال الخطابي: أراد يوم النفر ها هنا النفر الكبير انتهى المقصود، وقال (8) أيضا: وقد اختلف الناس في تعيين اليوم الذي يرمي فيه فقال مالك: يرمون يوم النحر فإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد وذلك يوم النفر الأول يرمون لليوم الذي مضى ويرمون ليومهم ذلك؛ وذلك لأنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه.
* وقال الشافعي نحوا من قول مالك وقال بعضهم: هم بالخيار إن شاءوا قدموا وإن شاءوا أخروا. انتهى.
__________
(1) جامع الأصول 3 \ 281- 282
(2) تحفة الأحوذي شرح الترمذي 2 \ 121
(3) سنن الترمذي الحج (954) ، سنن النسائي مناسك الحج (3068) ، سنن أبو داود المناسك (1976) ، سنن ابن ماجه المناسك (3036) ، مسند أحمد بن حنبل (5/450) ، موطأ مالك الحج (935) ، سنن الدارمي المناسك (1897) .
(4) عون المعبود 2 \ 148
(5) سنن الترمذي الحج (955) ، سنن النسائي مناسك الحج (3069) ، سنن أبو داود المناسك (1975) ، سنن ابن ماجه المناسك (3037) ، موطأ مالك الحج (935) ، سنن الدارمي المناسك (1897) .
(6) سنن الترمذي الحج (955) ، سنن النسائي مناسك الحج (3069) ، سنن أبو داود المناسك (1975) ، سنن ابن ماجه المناسك (3037) ، مسند أحمد بن حنبل (5/450) ، موطأ مالك الحج (935) ، سنن الدارمي المناسك (1897) .
(7) سنن الترمذي الحج (954) ، سنن النسائي مناسك الحج (3068) ، سنن أبو داود المناسك (1976) ، سنن ابن ماجه المناسك (3036) ، مسند أحمد بن حنبل (5/450) ، موطأ مالك الحج (935) ، سنن الدارمي المناسك (1897) .
(8) عون المعبود 2 \ 148(5/41)
وقد وردت أدلة تدل على أن الرعاء يرمون ليلا في ليالي أيام التشريق، فروى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح أنه سمعه يذكر أنه رخص للرعاء أن يرموا بالليل يقول: في الزمان الأول. قال (1) الباجي: إنما أبيح لهم ذلك لأنه أرفق بهم وأحوط فيما يحاولونه من رعي الإبل لأن الليل وقت لا ترعى فيه الإبل ولا تنتشر فيرمون في ذلك الوقت.
* وقال ابن المواز: إن رعوا بالنهار ورموا بالليل فلا بأس به ويحتمل أن يرموا على هذا في كل ليلة لاستغنائهم في ذلك الوقت عن حفظ الإبل على وجه الرعي، ويحتمل إن كان ذلك عليهم مشقة أن يكون رميهم بالليل على حكم رميهم بالنهار من الجمع.
* وقال (2) الباجي أيضا: وقوله: في الزمان الأول يقتضي إطلاقه زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الأول من زمان هذه الشريعة فعلى هذا هو مرسل.
ويحتمل أن يريد به أول زمن أدركه عطاء فيكون موقوفا متصلا.
* وقال (3) على قوله " يقول: في الزمان الأول" أي زمن الصحابة وبهم القدوة وبهذا قال محمد بن مواز وهو كما قال بعضهم وفاقا للمذهب لأنه إذا رخص لهم في تأخير اليوم الثاني فرميهم بالليل أولى.
* وقال (4) القرطبي بعد سياقه لرواية مالك عن يحيى بن سعيد عن عطاء المتقدمة وكلام الباجي قال: " قلت: هو مسند من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم خرجه الدارقطني وغيره"، وقد ذكرناه في المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس. انتهى المقصود.
والحديث الذي أشار إليه القرطبي رواه الدارقطني (5) بسنده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء أن يرموا بالليل وأية ساعة شاءوا من النهار (6) » وقد أعل هذا الحديث بما قاله الزيلعي قال: قال (7) ابن القطان في كتابه: وإبراهيم بن يزيد هذا إن كان هو الخوزي فهو ضعيف، وإن كان غيره فلا يدرى من هو، وبكر بن بكار قال فيه ابن معين: ليس بالقوي: ودون بكر بن بكار جعفر بن محمد الشيرازي، لا خالد، قال: وروى البزار هذا الحديث عن ابن عمر بإسناد أحسن من هذا.
والحديث الذي أشار إليه ابن القطان أن البزار رواه قد أخرجه (8) الزيلعي فقال: وأما حديث ابن عمر فرواه البزار في مسنده. .
__________
(1) المنتقى 3 \ 52
(2) المنتقى
(3) شرح الزرقاني على الموطأ
(4) تفسير القرطبي
(5) سنن الدارقطني
(6) موطأ مالك الحج (936) .
(7) نصب الراية 3 \ 86
(8) نصب الراية 3 \ 86(5/42)
عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل أن يرموا بالليل (1) » .
وقد أعل هذا الحديث بما نقله الزيلعي بقوله: قال (2) ابن القطان ومسلم بن خالد الزنجي شيخ الشافعي ضعفه قوم ووثقه آخرون. قال البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث.
* وقال (3) ابن حجر: رواه البزار بإسناد حسن والحاكم والبيهقي. انتهى.
* وذكر (4) الزيلعي أن الطبراني رواه وذكر الحديث بسند الطبراني.
* قال (5) الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهو متروك. انتهى.
* وقال (6) الزيلعي: ورواه ابن أبي شيبة في مسنده حدثنا محمد بن الصباح عن خالد بن عبد الله عن عبد الرحمن بن إسحاق عن عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخره، وفيه أن يرموا الجمار رواه في مصنفه: حدثنا ابن عيينة عن ابن جريج عن عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . مرسلا. انتهى.
* قال (7) وروى ابن أبي شيبة عن ابن عيينة عن ابن جريج عن عطاء مرسلا مثله ووصله في مسنده بذكر ابن عباس لكنه من رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن عطاء، ولم يسمع عبد الرحمن من عطاء وإنما رواه عن إسحاق بن أبي فروة أحد المتروكين رواه مسدد والطبراني من طريقه. انتهى.
وإلى هنا انتهى ما يسره الله جل وعلا من الكلام على هذا البحث وترى اللجنة أن يضاف إلى هذا البحث ما كتبه سماحة المفتي - رحمه الله - في رسالته التي سماها تحذير الناسك مما أحدثه ابن محمود في المناسك، وحيث إن الرخصة للرعاة فرع من فروع قاعدة " المشقة تجلب التيسير" وأنه قد يتمسك بالمشقة في مناسك الحج ويجري فيها التغيير عما تقتضيه الأدلة الشرعية، فقد رأت اللجنة أن تلحق بهذا البحث خاتمة تشتمل على أصل هذه القاعدة وأسباب تخفيف المشقة وأقسام المشقة وضابط المشقة المؤثرة وموضع وأنواع تخفيفات الشرع وموارد هذه القاعدة من الشريعة.
__________
(1) موطأ مالك الحج (936) .
(2) نصب الراية 3 \ 86
(3) تلخيص الحبير 2 \ 263
(4) نصب الراية 3 \ 85 و86.
(5) مجمع الزوائد 3 \ 260
(6) نصب الراية 3 \ 86
(7) الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2 \ 28 و29(5/43)
المشقة تجلب التيسير
أصل هذه القاعدة الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (1) وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} (2) ، وأما السنة فعن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، " يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" (3) » رواه البخاري ومسلم.
* قال ابن حجر وقال النووي: لو اقتصر على يسروا، لصدق على من يسر مرة وعسر كثيرا، فقال " ولا تعسروا" لنفي التعسير في جميع الأحوال.
وأخرجه أحمد في المسند من حديث جابر وأبي أمامة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «بعثت بالحنيفية السمحة (4) »
وأخرج أحمد في مسنده والطبراني والبزار وغيرهما «عن ابن عباس قال: قيل: يا رسول الله، أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: (الحنيفية السمحة (5) » وروى أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «إن دين الله يسر (6) » ثلاثا. وروى أحمد أيضا من حديث الأعرابي بسند صحيح: «خير دينكم أيسره (7) » .
أسباب التخفيف. ذكر ابن نجيم أنها (8) سبعة: وهي السفر والإكراه والنسيان والجهل والعسر وعموم البلوى والنقص وأمثلتها ظاهرة.
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) صحيح البخاري العلم (69) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1734) ، مسند أحمد بن حنبل (3/209) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (5/266) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (1/236) .
(6) مسند أحمد بن حنبل (5/69) .
(7) مسند أحمد بن حنبل (3/479) .
(8) الأشباه والنظائر من 75 إلى 82(5/44)
أقسام المشقة
قال (1) القرافي: المشاق قسمان:
أحدهما لا تنفك عنه العبادة كالوضوء والغسل في البرد، والصوم في النهار الطويل، والمخاطرة بالنفس في الجهاد ونحو ذلك، فهذا القسم يوجب تخفيفا في العبادة لأنه قرر معها.
وثانيهما المشاق التي تنفك عنها العبادة وهي ثلاثة أنواع: 1- نوع في الرتبة العليا كالخوف على النفوس والأعضاء والمنافع فيوجب التخفيف لأن حفظ هذه الأمور هو سبب مصالح الدنيا والآخرة فلو حصلنا هذه العبادة لثوابها لذهب أمثال هذه العبادة.
__________
(1) الفروق 1 \ 118 و 119(5/44)
2 - ونوع في المرتبة الدنيا " كأدنى وجع في إصبع فتحصيل هذه العبادة أولى من درء هذه المشقة لشرف العبادة وخفة هذه المشقة.
3 - النوع الثالث مشقة بين هذين النوعين فما قرب من العليا أوجب التخفيف، وما قرب من الدنيا لم يوجبه، وما توسط يختلف فيه لتجاذب الطرفين فعلى تحرير هاتين القاعدتين تتخرج الفتاوى في مشاق العبادات. انتهى.
ثم قال فائدة (1) قال بعض العلماء: المشاق تختلف باختلاف رتب العبادات، فما كان في نظر الشرع أهم يشترط في إسقاطه أشد المشاق أو أعمها؛ فإن العموم بكثرته يقوم مقام العظم، كما يسقط التطهر من الخبث في الصلاة التي هي أهم العبادات بسبب التكرار كثوب المرضع ودم البراغيث وكما سقط الوضوء فيها بالتيمم لكثرة عدم الماء والحاجة إليه أو العجز عن استعماله، وما لم تعظم مرتبته في نظر الشرع تؤثر فيه المشاق الخفيفة، وتحرير هاتين القاعدتين يطرد في الصلاة وغيرها من العبادات وأبواب الفقه، فكما وجدت المشاق في الوضوء ثلاثة أقسام: متفق على عدم اعتباره، ومتفق على اعتباره: ومختلف فيه، كذلك تجده في الصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوقان الجائع للطعام عند حضور الصلاة، والتأذي بالرياح الباردة في الليلة الظلماء، والمشي في الوحل، وغضب الحكام وجورهم المانعين من استيفاء الفكر وغير ذلك، وكذلك الغرر والجهالة في البيع ثلاثة أقسام، واعتبر ذلك في جميع أبواب الفقه. انتهى.
* وقد بسط العز بن عبد السلام (2) الكلام على أقسام المشاق الموجبة للتخفيف في الشريعة.
* ضابط المشقة المؤثرة قال (3) القرافي: يجب على الفقيه أن يفحص عن أدنى مشاق تلك العبادة المعينة فيحققه بنص أو إجماع أو استدلال ثم ما ورد عليه بعد ذلك من المشاق مثل تلك المشقة أو أعلى منها جعله مسقطا وإن كان أدنى منها لم يجعله مسقطا مثاله التأذي بالقمل في الحج مبيح للحلق بالحديث الوارد عن كعب بن عجرة فأي مرض آذى مثله أو أعلى منه أباح، وإلا فلا، والسفر مبيح للفطر بالنص فيعتبر به غيره من المشاق.
__________
(1) الفروق 1 \ 119
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام من 9 إلى 17
(3) الفروق 1 \ 120(5/45)
موضع اعتبار الحرج والمشقة
* قال ابن نجيم (1) : المشقة والحرج إنما يعتبران في موضع لا نص فيه، وأما مع النص بخلافه فلا، ولذا قال أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله - بحرمة رعي حشيش الحرم وقطعه إلا الإذخر وجوز أبو حنيفة رعيه للحرج ورد عليه بما ذكرنا. انتهى.
__________
(1) الأشباه والنظائر 83(5/45)
أنواع تخفيفات الشرع:
* ذكر العز بن عبد السلام (1) ستة أنواع:
1 - تخفيف الإسقاط كإسقاط الجمعات والصوم والحج والعمرة بأعذار معروفة.
2 - تخفيف التنقيص كقصر الصلاة وتنقيص ما عجز عنه المريض من أفعال الصلوات كتنقيص الركوع والسجود وغيرهما إلى القدر الميسور من ذلك.
3 - تخفيف الأبدال كإبدال الوضوء والغسل بالتيمم وإبدال القيام في الصلاة بالقعود، والقعود بالاضطجاع، والاضطجاع بالإيماء وإبدال العتق بالصوم، وكإبدال بعض واجبات الحج والعمرة بالكفارات عند قيام الأعذار.
4 - تخفيف التقديم كتقديم العصر إلى الظهر، والعشاء إلى المغرب في السفر والمطر، وكتقديم الزكاة على حولها، والكفارة على حنثها.
5 - تخفيف التأخير كتأخير الظهر إلى العصر، والمغرب إلى العشاء، ورمضان إلى ما بعده.
6 - تخفيف الترخيص كصلاة التيمم مع الحدث وصلاة المستجمر مع فضلة النجو، وكأكل النجاسات للمداواة وشرب الخمر للغصة، والتلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه، ويعبر عن هذا بالإطلاق مع قيام المانع أو بالإجابة مع قيام الحاظر.
مورد هذه القاعدة من الشريعة قال (2) الشاطبي: وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات، ففي العبادات كالرخص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر وفي العادات كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا وما أشبه ذلك، وفي المعاملات كالقراض والمساقاة والسلم وإلغاء التوابع في العقد على المتبوعات كثمرة الشجرة ومال العباد وفي الجنايات كالحكم باللوث والتدمية والقسامة وضرب الدية على العاقلة وتضمين الصناع وما أشبه ذلك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الإمام 2 \ 8 و9
(2) الموافقات 2 \ 11(5/46)
قرار رقم 3(5/46)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه. وبعد:
بناء على خطاب المقام السامي رقم 22310 وتاريخ 4 \ 11 \ 1391هـ المتضمن الموافقة على اقتراح سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بحث موضوع حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد ورميها في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق، وكذا حكم تقديم الرمي أيام التشريق قبل الزوال، وحكم الرمي ليالي أيام التشريق من قبل هيئة كبار العلماء.
عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورتها الثانية المنعقدة في شهر شعبان عام 1392هـ ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في موضوع الرمي المشتمل على المسائل الآتية:
أ- حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد.
ب- حكم رمي جمرة العقبة ليلة القر.
ج- حكم رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال.
د- حكم رمي الجمار ليلتي اليوم الثاني والثالث من أيام التشريق.
وبعد دراسة المجلس للمسائل المذكورة واطلاعه على أقوال أهل العلم وتداوله الرأي فيها قرر ما يلي:
1 - جواز رمي جمرة العقبة بعد نصف ليلة يوم النحر للضعفة من النساء وكبار السن والعاجزين ومن يلازمهم للقيام بشؤونهم لما ورد من الأحاديث والآثار الدالة على جواز ذلك.
2 - عدم جواز رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال لفعله صلى الله عليه وسلم وقوله «خذوا عني مناسككم (1) » ولقول ابن عمر أيام التشريق كنا نتحين الرمي فإذا زالت الشمس رمينا. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس وأنصح الناس وأرحمهم، فلو كان ذلك جائزا قبل الزوال لبينه صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .(5/47)
3 - أما ما عدا ذلك من المسائل الخلافية من أعمال المناسك المشار إليها أعلاه فإن الخلاف فيها معروف بين العلماء ومدون في كتب المناسك وغيرها، وما زال عمل الناس جاريا على ذلك، وينبغي للحاج أن يحرص على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله ما استطاع إليه سبيلا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم (1) » .
ويرى المجلس في هذه المسائل الخلافية أن يستفتي العامي من يثق بدينه وأمانته وعلمه في تلك المسائل ومذهب العامي مذهب من يفتيه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. .
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .(5/48)
مصادر البحث وملحقاته
1 - الجامع لأحكام القرآن طبعة دار الكتب المصرية سنة 1936.
2 - أضواء البيان.
3 - صحيح البخاري مع فتح الباري \ طبعة المطبعة السلفية ومكتبتها.
4 - صحيح البخاري مع فتح الباري \ عمدة القاري طبعة منيرية.
5 - صحيح مسلم وعليه النووي - الطبعة الأولى بالمطبعة المصرية بالأزهر سنة 1347هـ.
6 - موطأ مالك وعليه شرح الزرقاني \ طبع مطبعة الاستقامة بمصر الطبعة الأولى عام 1332هـ.
7 - المنتقى على موطأ مالك طبع مطبعة السعادة بمصر الطبعة الأولى عام 1332هـ.
8 - تهذيب السنن على المختصر لابن القيم \ طبعة مطبعة السنة المحمدية سنة 1367هـ.
9 - معالم السنن للخطابي على مختصر السنن \ طبعة مطبعة أنصار السنة المحمدية 1367هـ.
10 - عون المعبود على سنن أبي داود نشر صاحب دار الكتاب العامة ببيروت لبنان (مصور) .
11 - جامع الأصول لابن الأثير نشر وتوزيع مكتبة الحلواني ومطبعة الملاح ومكتبة دار البيان سنة 1390هـ.
12 - جامع الترمذي مع التحفة طبعة حيدر آباد سنة 1346هـ.
13 - سنن البيهقي وعليها الجوهر النقي لابن التركماني \ طبعة حيدر آباد.
14 - سنن الدارقطني طبعة دار المحاسن للطباعة بالقاهرة سنة 1386هـ.
15 - شرح معاني الأثار \ طبع مطبعة الأنوار المحمدية بالقاهرة.
16 - شرح المواهب طبع المطبعة الأزهرية المصرية عام 1328هـ.
17 - نصب الراية \ الطبعة الأولى - حقوق الطبع محفوظة للمجلس العلمي سنة 1357هـ. طبع مطبعة دار المأمون.
18 - تلخيص الحديث طبع مطبعة شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة.
19 - الدراية في تخريج أحاديث الهداية \ طبع مطبعة الفجالة الجديدة سنة 1384هـ.
20 - البداية والنهاية \ طبع مطبعة السعادة بجوار محافظة مصر الطبعة الأولى سنة 1351 هـ.
21 - الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي \ طبع دائرة المعارف العثمانية سنة 1357هـ.
22 - شرح ألفية العراقي له طبع بالمطبعة الجديدة بطالعة فاس عدد 64 سنة 1354هـ.
23 - شروط الأئمة الخمسة لأبي حازم ومعه شروط الأئمة الستة \ نشر مكتبة القدسي بالقاهرة سنة 1357هـ.
24 - تهذيب التهذيب الطبعة بمطبعة دائرة المعارف النظامية بالهند عام 1326هـ.
25 - بدائع الصنائع طبع في مطبعة شركة المطبوعات العلمية بمصر المطبعة الأولى عام 1327هـ.
26 - فتح القدير على الهداية لابن الهمام الطبعة الأولى بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر سنة 1315هـ.(5/49)
27 - العناية على الهداية مع فتح القدير.
28 - المسلك المتقسط في المنسك المتوسط على لباب المناسك الأصل للسندي والشرح لملا علي قاري وعليه حاشية تسمى إرشاد الساري إلى مناسك الملا علي قاري.
29 - المدونة الطبعة الأولى.
30 - مختصر خليل وشرحه للدردير طبعة الحلبي.
31 - الأم الطبعة الأولى طبعة أميرية سنة 1331.
32 - الإيضاح للنووي الطبعة الثانية مطبعة دار التأليف.
33 - المجموع شرح المهذب مطبعة التضامن الأخوي بمصر.
34 - نهاية المحتاج للرملي طبعة حلبية الطبعة الأخيرة سنة 1386هـ.
35 - المغني والشرح الكبير الطبعة الأولى بمطبعة المنار سنة 1346هـ.
36 - الإنصاف الطبعة الأولى 1375هـ.
37 - زاد المعاد مطبعة السنة المحمدية.
38 - الروض النضير الطبعة الأولى مطبعة السعادة سنة 1348هـ.
39 - روضة الناظر وعليها حاشية بدران.
40 - الأشباه والنظائر لابن نجيم الناشر مؤسسة الحلبي عام 1387هـ.
41 - الفروق للقرافي طبعة أولى بمطبعة دار إحياء الكتب العربية عام 1344هـ.
42 - الموافقات للشاطبي طبع مطبعة الشرق الأدنى بالموسكي.
43 - قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام طبعت بمطبعة دار الشرق للطباعة عام 1388هـ.
44 - لسان العرب طبعة أميرية عام 1300هـ.
45 - القاموس المحيط طبع بالمطبعة الأميرية ببولاق عام 1301هـ.(5/50)
الطلاق المعلق
هيئة كبار العلماء(5/51)
الحمد لله وحده وبعد. .
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الرابعة المنعقدة في مدينة الرياض في الفترة من 29 \ 10 \ 93هـ. إلى 12 \ 11 \ 93هـ. موضوع (حكم الطلاق المعلق) مشفوعا بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ورغبة في اطلاع قراء (مجلة البحوث الإسلامية) على هذا البحث القيم ننشره بنصه:(5/52)
الطلاق المعلق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
فبناء على اقتراح اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أن يصدر قرار من مجلس هيئة كبار العلماء في حكم الطلاق المعلق، أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الطلاق المعلق، هل يعتبر ويقع عند وقوع المعلق عليه طلاقا أو يمينا تلزم فيها الكفارة، أو يكون لغوا وقد تضمن البحث ما تيسر مما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار في ذلك والمذاهب الأربعة، وفيما يلي ذكر ذلك على الترتيب. .(5/53)
أولا ما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار:
قال (1) نافع: طلق رجل امرأته البتة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس (بشيء) رواه البخاري في صحيحه عن نافع عن ابن عمر معلقا بصيغة الجزم،
__________
(1) باب الطلاق في الإغلاق والكره. الخ(5/53)
استدل بهذا الأثر من قال باعتبار تعليق الرجل طلاق زوجته على شيء وبوقوعه عند حصول المعلق عليه، وحمله ابن تيمية وابن القيم ومن وافقهما على ما إذا قصد الزوج الطلاق لا الحلف. جمعا بين الآثار الواردة في ذلك.
ب- وروى البيهقي من طريق سفيان الثوري عن الزبير بن عدي عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود رضي الله عنه في رجل قال لامرأته: إن فعلت كذا وكذا فهي طالق، فتفعله، قال: هي واحدة، وهو أحق بها. نوقش هذا الأثر بأنه منقطع، لأن إبراهيم الراوي عن ابن مسعود هو ابن يزيد النخعي، وقد ولد بعد وفاة ابن مسعود بسبع عشرة سنة تقريبا، وبأنه على تقدير قبوله وهو مرسل يمكن حمله على قصد الرجل الطلاق بتعليقه دون الحلف.
ج- وقال البيهقي: أخبرنا أبو الحسن الرفا، أخبرنا عثمان بن بشر، أخبرنا إسماعيل القاضي، أخبرنا إسماعيل بن أبي أويس، أخبرنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن الفقهاء الستة من أهل المدينة كانوا يقولون: أيما رجل قال لأمرأته: أنت طالق إن خرجت إلى الليل. فخرجت، أو قال ذلك في غلامه فخرج قبل الليل بغير علمه، طلقت امرأته وعتق غلامه، لأنه ترك أن يستثني، لو شاء قال: إلا بإذني: لكنه فرط في الاستثناء، فإنما يجعل تفريطه عليه) . .
ونوقش بأن في سنده إسماعيل بن أبي أويس، وقد ضعفه غير واحد من أئمة الحديث، بل رماه بعضهم بوضع الحديث وبأنه اعترف بأنه كان يضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم، وعابوا على الشيخين إخراجهما حديثه في صحيحيهما، قال ابن حجر لعل ذلك كان منه في شبيبته ثم انصلح، قال: وأما الشيخان فما أظن بهما أنهما أخرجا عنه إلا الصحيح من حديثه الذي شارك فيه الثقات. . انظر بقية الكلام عليه في تهذيب التهذيب وفي مقدمة فتح الباري لابن حجر لاستيفاء ما قيل فيه من توثيق وتجريح.
د- وفي سنده أيضا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، وقد ضعفه ابن معين وابن المديني وابن مهدي وغيرهم، وقال فيه أحمد: إنه مضطرب الحديث، وتكلم فيه مالك لروايته عن أبيه كتاب السبعة يعني الفقهاء وقال: أين كنا عن هذا. . . انظر ترجمته في تهذيب التهذيب.
ر- وقال البيهقي (1) : أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمر، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الحسن بن علي بن عفان، أخبرنا يحيى بن آدم، أخبرنا حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم في رجل قال لامرأته
__________
(1) باب الطلاق بالوقت والفصل(5/54)
هي طالق إلى سنة، قال: هي امرأته يستمتع منها إلى سنة، ويروى مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال عطاء وجابر بن زيد. اهـ.
ونوقش بأن الإمام أحمد قال: حماد بن سلمة عنده عن حماد بن أبي سليمان تخليط كثير، وقال شعبة في حماد بن أبي سليمان: كان لا يحفظ، وقال حبيب بن أبي ثابت: كان حماد يقول: قال إبراهيم، فقلت: والله إنك لتكذب على إبراهيم، أو أن إبراهيم ليخطئ، وقال الذهلي فيه: كثير الخطأ والوهم، وقال ابن سعد: كان ضعيفا في الحديث، واختلط في آخر أمره. . انظر بقية ترجمته في تهذيب التهذيب، وقد وثقه بعض أئمة الحديث، إلا أن الجرح إذا بين كما هنا مقدم على التعديل، ومع ذلك فهذا مما قصد به الطلاق من غير شك دون الحلف، فلو صح لم يكن معارضا لما قيل من أن تعليق الطلاق يعتبر طلاقا عند القصد إلى الطلاق. . أما إن قصد الحث أو المنع فيعتبر يمينا تلزم فيها الكفارة.
وجملة القول أن هذه الآثار استدل بها من قال باعتبار تعليق الطلاق على شيء وبوقوعه طلاقا عند حصول المعلق عليه، وقد عرف ما تأولها به من فصل بين قصد الطلاق وقصد الحلف وما قيل في أسانيدها، وسيأتي. . .
هـ - وروى عبد الرزاق في مصنفه (1) عن ابن التيمي عن أبيه عن بكر بن عبد الله المزني، قال: أخبرني أبو رافع، قال: قالت مولاتي ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق زوجتك أو تفرق بينك وبين امرأتك، قال: فأتيت زينب بنت أم سلمة - وكانت إذا ذكرت امرأة بفقه ذكرت زينب - قال: فجاءت معي إليها، فقالت: أفي البيت هاروت وماروت، فقالت: يا زينب - جعلني الله فداك - إنها قالت: كل مملوك لها حر، وهي يهودية ونصرانية، فقالت: يهودية ونصرانية، خلي بين الرجل وامرأته، قال: فكأنها لم تقبل ذلك، قال: فأتيت حفصة، فأرسلت معي إليها، فقالت أم المؤمنين- جعلني الله فداك - إنها قالت: كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى، وهي يهودية ونصرانية، قال: فقالت حفصة: يهودية ونصرانية، خلي بين الرجل وامرأته، فكأنها أبت، فأتيت عبد الله بن عمر فانطلق معي إليها، فلما سلم عرفت صوته، فقالت: بأبي أنت وبآبائي أبوك، فقال: أمن حجارة أنت أم من حديد أم من أي شيء أنت؟ أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين فلم تقبلي منهما. قالت: يا أبا عبد الرحمن - جعلني الله فداك - إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدى، وهي يهودية ونصرانية، قال: يهودية ونصرانية، كفري عن يمينك، خلي بين الرجل وامرأته أ. هـ.
__________
(1) ج8 ص486(5/55)
وقد ذكر ابن القيم أن له طرقا أخرى تدل على أن التيمي لم ينفرد برواية هذا الأثر، وسيأتي تمام البحث في هذا الأثر في التعليق على مذهب الحنابلة، وجه الدلالة أن هذا الأمر وإن لم يكن فيه ذكر للطلاق إلا أن من تمسك به في اعتبار الطلاق المعلق لغوا أو يمينا مكفرة قاس الطلاق على ما ذكر فيه من المال والعتق في أنه لم يلزمه المعلق عند تحقق ما علق عليه، بل كان لغوا إن اعتبرنا سكوت حفصة وزينب رضي الله عنهما عن الإلزام به أو بكفارة دليلا على الإلغاء أو تلزم فيه الكفارة إن نظرنا إلى ما أفتى به ابن عمر رضي الله عنهما.
وفيما يأتي من أقوال الفقهاء استدلال بآيات وأحاديث وآثار أخرى مع مناقشتها إن شاء الله. . والله الموفق.(5/56)
ثانيا: أقوال فقهاء المذاهب الأربعة
أ - مذهب الحنفية
1 - ق ال البرهان علي بن أبي بكر المرغيناني في الهداية: (وإذا أضافه - أي الطلاق- إلى شرط وقع عقيب الشرط مثل أن يقول لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، قال الشارح ص128ج 3: وهذا بالاتفاق لأن الملك قائم في الحال، والظاهر بقاؤه إلى وقت وجود الشرط، فيصبح يمينا أو إيقاعا قال ابن الهمام في فتح القدير: فيصبح يمينا أو إيقاعا، أي فيصح التعليق المذكور يمينا عندنا، لأنه لا يعمل عندنا في الحال، أو إيقاعا عند الشافعي، لأنه عنده سبب في الحال) ا. هـ.
2 - وفي مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ما نصه: إنما يصح - التعليق حال كونه - في الملك - أي القدرة على التصرف في الزوجية بوصف الاختصاص وذلك عند وجود النكاح أو العدة مع حل العقد فإنه لو وجد أحدهما والمرأة مدخولة محرمة بالمصاهرة لم يصح التعليق فيه، فمن بعض الظن تأويل الملك بوجود النكاح والمتبادر أن الملك لم يشترط لصحة التنجيز وليس كذلك، وبقاء الملك في عدة الرجعي مما لا خلاف فيه، وأما في عدة البائن ففيه خلاف كما في القهستاني - كقوله لمنكوحته أو لمعتدته: إن زرت فأنت طالق - فيقع بعد وجود الشرط وهو الزيارة ولو كان المعلق عاقلا عند التعليق ثم جن عند الشرط، لأنه إيقاع حكما ألا يرى أنه لو كان عنينا أو مجنونا يفرق بينهما، - ويجعل طلاقا - (أو مضافا إلى الملك) - بأن يعلق على نفس الملك نحو إن ملكت طلاقك فأنت طالق أو على سبب - كقوله لأجنبية: إن نكحتك - أي تزوجتك - فأنت طالق. فإن النكاح سبب للملك فاستعير السبب للمسبب أي ملكتك بالنكاح، فيقع إن نكحها لوجود الشرط، وفي الزاهدي قد ظفرت بروايتين عن محمد أنه لو أضاف إلى سبب الملك لم يصح التعليق كما قال بشر المريسي؛ لأن الملك يثبت عقيب سببه، والجزاء يقع عقيب شرطه، فلو صح تعليقه به لكان الطلاق مقارنا لثبوت الملك،(5/56)
والطلاق المقارن لثبوت الملك أو زواله لم يقع، كما لو قال: أنت طالق مع نكاحك أو في نكاحك أو مع موتي أو مع موتك وتمامه في التبيين فليطالع، ولا فرق بين ما إذا خصص أو عمم كقوله: كل امرأة، خلافا لمالك فإنه قال: إذا لم يسم امرأة بعينها أو قبيلة أو أرضا أو نحو هذا فلا يلزمه ذلك. وقال الشافعي: لا يصح التعليق المضاف إلى الملك) .
مما تقدم يتبين:
1 - أن تعليق الطلاق صحيح عند وجود النكاح أو العدة مع حل العقد وأنه يقع المعلق عند وجود المعلق عليه باتفاق عند الحنفية وأنه يصح تعليق الطلاق على ملك الطلاق مثل: إن ملكت طلاقك فأنت طالق. وتعليقه على سبب الملك كقوله: إن تزوجتك فأنت طالق، ويقع الطلاق إن نكحها أو ملك طلاقها، وخالف محمد بن الحسن في اعتبار التعليق على ملك الطلاق أو النكاح فلم يوقع الطلاق عند حصول المعلق عليه لما ذكر من التعليل بمقارنة الطلاق لوجود الملك والطلاق المقارن غير معتبر.
2 - أنه لا فرق في التعليق على الملك بين إذا عمم في النساء أو خصص خلافا للمالكية في التعميم، أما إذا خصص امرأة أو قبيلة مثلا فمعتبر ويقع عند وقوع المعلق عليه عندهم كالحنفية.(5/57)
ب- مذهب المالكية
قال ابن رشد (1) . فصل: فأما ما يلزمه باتفاق فاليمين بالطلاق لا اختلاف بين أحد من العلماء أن الرجل إذا حلف بطلاق امرأته على نفسه أو على غيره أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله أن اليمين لازمة له وأن الطلاق واقع عليه في زوجته إذا حنث في يمينه لأن الحالف بالطلاق أن لا يفعل فعلا أو أن يفعله إنما هو مطلق على صفة ما، فإذا وجدت الصفة التي علق بها طلاق امرأته لزمه ذلك، إلا ما روي عن أشهب في الحالف على امرأته بطلاقها أن لا تفعل فعلا فتفعله قاصدة لتحنيثه أن لا شيء عليه، وهو شذوذ، وإنما الاختلاف المعلوم فيمن قال لعبده: أنت حر إن فعلت كذا وكذا ففعله. وبالله سبحانه التوفيق.
ثم قال (2) ابن رشد في الفصل الذي عقده لما لا يلزمه باتفاق: وأما ما لا يلزمه باتفاق فما يوجب على نفسه بشرط أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله مما ليس لله بطاعة ولا يتقرب به إليه كان مباحا أو معصية كقوله في المعصية: علي ضرب فلان، أو إني أفعل كذا وكذا، أو في المباح: علي المشي إلى السوق إن لم أفعل كذا وكذا، أو ما أشبه ذلك ما عدا الطلاق فإن اليمين به تلزمه وإن كان من المباح الذي ليس لله فيه طاعة ولا معصية للمعنى الذي قدمت ذكره وهو أن الحالف به مطلق على صفة ما (3) .
ثم عقد ابن رشد فصلا خاصا فيما ينقسم إليه الطلاق من الوجوه، وقسم
__________
(1) المقدمات 2 \ 119 كتاب الأيمان بالطلاق
(2) المقدمات 2 \ 120 كتاب الأيمان بالطلاق
(3) المقدمات 2 \ 122 كتاب الأيمان بالطلاق(5/57)
فيه الطلاق إلى مطلق وإلى مقيد بالصفة قال فيه: وأما الطلاق المقيد بصفة فإنه ينقسم إلى وجهين:
أحدهما أن يقيد ذلك بلفظ الشرط.
والثاني أن يقيده فيها بلفظ الوجوب.
فأما إذا قيده بلفظ الشرط مثل أن يقول: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا أو أن لا أفعله. فإن الفقهاء يسمون ذلك يمينا بالطلاق على المجاز لما فيه من معنى اليمين بالله تعالى وهو أن الطلاق يجب عليه بالشرط كما تجب الكفارة على الحالف بالله تعالى بالحنث فاستويا جميعا في القصد إلى الامتناع مما يجب به الطلاق أو الكفارة دون القصد إلى الطلاق أو الكفارة. ومن ذلك أيضا أنه ينعقد في المستقبل من الأزمان كما تنعقد الأيمان بالله تعالى، ويكون في الماضي إما واقع كذا وإما ساقط كاليمين بالله الذي يكون في الماضي إما لغو أو حالف على صدق لا تجب فيه كفارة وإما غموس أعظم من أن تكون فيه كفارة يأثم إذا حلف على الغيب أو على الكذب أو على الشك كما يأثم في اليمين بالله إذا حلف على شيء من ذلك وليس بحقيقة وإنما حقيقة اليمين بالطلاق قول الرجل: وحق الطلاق لأفعلن كذا وكذا. وبالله سبحانه التوفيق.
ثم قال ابن رشد (ص 123) : فصل فيما تقسم إليه اليمين بالطلاق من الوجوه وهو - أعني اليمين بالطلاق - على ما ذكرته من المجاز تنقسم على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يحلف بالطلاق على نفسه.
والثاني: أن يحلف على غيره.
والثالث: أن يحلف على مغيب من الأمور.
فالأول وهو حلفه بالطلاق على نفسه فهو ينقسم على قسمين:
أحدهما: أن يحلف بالطلاق أن لا يفعل فعلا فيقول: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا.
والثاني: أن يحلف به أن يفعل فعلا فيقول: امرأتي طالق إن لم أفعل كذا وكذا.
فأما الوجه الأول وهو أن يحلف بالطلاق أن لا يفعل فعلا فلا يخلو من ثلاثة أوجه:
أحدهما: أن يكون ذلك الفعل مما يمكنه فعله وتركه.
والثاني: أن يكون مما لا يمكنه تركه.
والثالث: أن يكون مما لا يمكنه فعله.
فأما إذا كان ما يمكنه فعله وتركه فلا خلاف في أنه لا طلاق عليه إلا أن يفعل ذلك الفعل مثل أن يقول: امرأتي طالق إن ضربت عبدي أو دخلت الدار أو ركبت الدابة أو ما أشبه ذلك، إلا في مسألة واحدة وهي أن يقول: امرأتي طالق إن وطئتك فإن لها تفصيلا وفيها اختلاف، وهو مذكور في الأمهات وسيأتي تحصيل القول عليه في كتاب الإيلاء.(5/58)
وأما إذا كان مما لا يمكنه تركه فقيل: إنه يجعل عليه الطلاق وهو قول سحنون، وقيل: إنه لا طلاق عليه حتى يفعل ذلك الفعل كالوجه الأول وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة، مثال ذلك أن يقول: امرأتي طالق إن أكلت أو شربت أو صمت أو صليت وما أشبه ذلك.
وأما إذا كان مما لا يمكنه فعله فقيل: إنه لا شيء عليه، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقيل: إن الطلاق يعجل عليه لأنه يعد نادما وهو قول سحنون وروي مثله عن ابن القاسم، مثال ذلك أن يقول: امرأتي طالق إن مسست السماء أو ولجت في سم الخياط وما أشبه ذلك.
وأما الوجه الثاني وهو أن يحلف بالطلاق أن يفعل فعلا فلا يخلو من ثلاثة أوجه:
أحدهما: أن يكون ذلك الفعل مما يمكنه فعله وتركه.
والثاني: أن يكون مما لا يمكنه فعله في الحال.
والثالث: أن يكون مما لا يمكنه فعله على حال. . وقال أيضا:
فصل فأما إذا كان مما يمكنه فعله وتركه مثل قوله: أنت طالق إن لم أدخل الدار وإن لم أضرب عبدي، وما أشبه ذلك فإنه يمنع من الوطء لأنه على حنث ولا يبر إلا بفعل ذلك الشيء، فإن رفعت امرأته أمرها ضرب له أجل المولي وطلق عليه عند انقضائه إلا أن يبر بفعل ذلك الفعل الذي حلف عليه ليفعلنه أو تحب البقاء معه بغير وطء فإن اجترأ ووطئ سقط أجل الإيلاء واستؤنف لها ضربه إن رفعت ذلك ولا يقع عليه طلاق بترك ذلك الفعل الذي حلف عليه ليفعلنه لأنه طلاق لا يكشفه إلا الموت. وإن أراد أن يحنث نفسه بالطلاق دون أن يطلق عليه الإمام بالإيلاء كان ذلك له إلا أن يضرب أجلا فيقول: امرأتي طالق إن لم أفعل كذا وكذا إلى وقت كذا وكذا. ولا يكون له أن يحنث نفسه بالطلاق ويطأ إلى الأجل على اختلاف من قول ابن القاسم ويضرب له أجل الإيلاء على القول الذي يقول: لا يطأ إذ كان الأجل أكثر من أربعة أشهر فهذا حكم هذا القسم الا في مسألتين:
إحداهما: أن يقول: امرأتي طالق إن لم أطلقها.
والثاني: أن يقول: امرأتي طالق إن لم أحبلها. فأما إذا قال: امرأتي طالق إن لم أطلقها ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها أن الطلاق يعجل عليه ساعة حلف، ووجه ذلك أنه حمله على التعجيل والفور فكأنه قال: أنت طالق إن لم أطلقك الساعة.
والثاني أن الطلاق يعجل عليه إلا أن ترفعه امرأته إلى السلطان وتوقفه على الوجه.
والثالث أنه لا يطلق عليه إن رفعته امرأته ويضرب له أجل الإيلاء فإن طلقها وإلا طلق عليه بالإيلاء عند انقضاء أجله ولم يمكن من الوطء لأنه لا يجوز له من أجل أنه على حنث وإن اجترأ فوطئ سقط عنه الإيلاء واستؤنف ضربه له ثانية إن رفعت امرأته أمرها إلى السلطان وفائدة ضرب أجل الإيلاء على هذا القول وإن لم(5/59)
يمكن من الفيء بالوطء رجاء أن ترضى في خلال الأجل بالبقاء معه على العصمة دون وطء.
وأما إذا قال: امرأتي طالق إن لم أحبلها فإنه يطأ أبدا حتى يحبلها لأن بره في إحبالها، وكذلك إن قال لامرأته: أنت طالق إن لم أطأك. له أن يطأها لأن بره في وطئها فإن وقف عن وطئها كان موليا عند مالك والليث فيما روي عنهما، وقال ابن القاسم: لا إيلاء عليه وهو الصواب وبالله سبحانه وتعالى والتوفيق.
فصل وأما إذا كان ذلك الفعل مما لا يمكنه فعله في الحال مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أحج وهو في أول العام. ففي ذلك أربعة أقوال:
أحدها أنه يمنع من الوطء الآن وهو ظاهر قول ابن القاسم في كتاب الإيلاء من المدونة ورواية عيسى عنه في الأيمان بالطلاق من العتبية+.
والثاني أنه لا يمنع من الوطء حتى يمكنه فعل ذلك الفعل.
والثالث أنه لا يمنع من الوطء حتى يخشى فوات ذلك الفعل.
والرابع أنه لا يمنع منه حتى يفوت فعل ذلك الفعل.
وقال أيضا فصل: فإذا قلنا: نه يطأ حتى يمكنه فعل ذلك الفعل فأمسك عن الوطء بإمكان الفعل له ثم فات الوقت ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها أنه لا يرجع إلى الوطء أبدا.
والثاني أنها تطلق عليه.
والثالث أنه يرجع إلى الوطء حتى يمكنه الفعل مرة أخرى، وقد زدنا هذه الأوجه بيانا في كتاب الإيلاء.
وأما إذا كان الفعل مما لا يمكنه فعله على حال لعدم القدرة عليه مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أمس السماء وإن لم ألج في سم الخياط وما أشبه ذلك فإنه يعجل عليه بالطلاق إلا أن يجترئ على الفعل الذي يمنعه منه الشرع فيفعله قبل أن يعجل عليه الطلاق فإنه يبر في يمينه ويأثم في فعله ولا اختلاف في هذا الوجه، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل وأما القسم الثاني وهو أن يحلف بالطلاق على غيره فإنه ينقسم أيضا على وجهين:
أحدهما أن يحلف عليه أن لا يفعل فعلا.
والثاني أن يحلف عليه ليفعلنه، فأما إذا حلف عليه أن لا يفعل فعلا مثل أن يقول: امرأتي طالق إن فعل فلان كذا وكذا. فهو كالحالف على فعل نفسه سواء في جميع الوجوه، وقد تقدم تفسير ذلك، وأما إذا حلف أن يفعل فعلا مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم يفعل فلان كذا وكذا. ففي ذلك لابن القاسم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه كالحالف على فعل نفسه أن يفعل فعلا يمنع من الوطء ويدخل عليه الإيلاء جملة من غير تفصيل.(5/60)
والثاني أنه يتلوم له على قدر ما يرى أنه أراد بيمينه، واختلف هل يطأ في هذا التلوم أم لا على قولين جاريين على الاختلاف إذا ضرب له أجل لأن التلوم كضرب الأجل فإن بلغ التلوم على مذهب من يمنعه من الوطء أكثر من أربعة أشهر دخل عليه الإيلاء.
والثالث الفرق بين أن يحلف على حاضر أو غائب وهو الذي يأتي على ما في سماع يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل وأما القسم الثالث وهو أن يحلف بالطلاق على مغيب من الأمور فإن كان مما له طريق إلى معرفته لم يعجل عليه بالطلاق حتى يعلم صدقه من كذبه كالقائل: امرأتي طالق إن لم يجئ فلان غدا فإن مضى الأجل ولم يعلم صدقه من كذبه حمل من ذلك ما تحمل وإن كان مما لا طريق له إلى معرفته عجل عليه الطلاق ولم يستأن به واختلف إن غفل عن الطلاق عليه حتى جاء الأمر على ما حلف عليه فيتخرج ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها أن يطلق عليه.
والثاني أنه لا يطلق عليه.
والثالث أنه إن كان حلف على غالب ظنه لأمر توسمه مما يجوز له في الشرع لم تطلق عليه. وإن كان حلف على ما ظهر عليه بكهانة أو تنجيم أو على الشك أو على تعمد الكذب طلق عليه.
وأما الوجه الثاني وهو أن يقيد طلاقه بالصفة بلفظ الوجوب وهو أن يقول: امرأتي طالق إن كان كذا وكذا. فإنه ينقسم على أربعة أقسام:
أحدها أن تكون الصفة آتية على كل حال.
والثاني أن تكون الصفة غير آتية على كل حال.
والثالث أن تكون مترددة بين أن تأتي وأن لا تأتي من غير أن يغلب أحد الوجهين على الآخر أو يكون الأغلب منها أنها لا تأتي.
والرابع أن تكون مترددة بين أن تأتي أو لا تأتي والأغلب منهما أنها تأتي.
* فالأول يعجل عليه فيها الطلاق باتفاق.
والثاني يتخرج على قولين.
والثالث لا يعجل عليه الطلاق باتفاق.
والرابع يختلف فيه على قولين منصوصين وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. اهـ. نص مقدمات ابن رشد.(5/61)
مما تقدم يتبين أنه لا خلاف بين المالكية في اعتبار تعليق الزوج الطلاق على أمر ما فعل أو ترك، مباح أو معصية ماض أو مستقبل، ولا خلاف بينهم أيضا في وقوع الطلاق عند حصول ما علق عليه سواء أكان المعلق عليه من فعله أو فعل غيره إلا فيما نقل عن أشهب بن عبد العزيز في الحالف على امرأته بالطلاق ألا تفعل فعلا ففعلته قاصدة لتحنيثه أنه لا شيء عليه، بناء منه على قاعدة المعاملة بنقيض القصد، وقد اعتبر المالكية ذلك منه شذوذا.
وما ذكر من الخلاف في فروع هذه المسألة وتفاصيل وجوهها فإنما هو في تعجيل حنثه أو كونه على بر حتى يحنث وفي اعتباره موليا أو غير مول من زوجته، ونحو ذلك مما لا تعلق له بأصل البحث الذي نحن بصدد إعداده. وكذا يعتبر تعليق الرجل طلاق امرأة أجنبية منه على زواجه بها كما لو قال: إن تزوجت فلانة أو من قبيلة كذا أو من بلد كذا فهي طالق، فيقع الطلاق عند عقد النكاح عليها، ولو عمم في التعليق لم يعتد به، لا لأن التعليق من حيث هو غير معتبر بل لأن الأمر كلما ضاق اتسع، فإلغاء التعليق خاص بصورة التعميم لما ذكر.(5/62)
ج- مذهب الشافعية
1 - قال النووي (1) بعد ذكره لأدوات التعليق: ولا يقتضين فورا إن علق بإثبات في غير خلع، إلا " أنت طالق إن شئت"، ولا تكرارا إلا كلما، ولو قال: إذا طلقتك فأنت طالق. ثم طلق أو علق بصفة فوجدت فطلقتان، أو كلما وقع طلاقي فطلق فثلاث في ممسوسة. وفي غيرها طلقة. . ولو علق بنفي فعل فالمذهب أنه إن علق (بإن) كإن لم تدخلي. وقع عند اليأس من الدخول، أو بغيرها فعند مضي زمن يمكن فيه ذلك الفعل، ولو قال: أنت طالق إن دخلت أو أن لم تدخل بفتح (أن) وقع في الحال. قلت: إلا في غير نحوي فتعليقه في الأصح.
2 - وقال (2) أيضا: خطاب الأجنبية بطلاق وتعليقه بنكاح وغيره لغو، والأصح صحة تعليق العبد ثالثة، كقوله: إن عتقت؛ أو إن دخلت فأنت طالق ثلاثا فيقع إذا عتق، أو دخلت بعد عتقه ويلحق رجعية لا مختلعة انتهى المقصود.
3 - قال (3) الشيرازي: إذا علق الطلاق بشرط لا يستحيل كدخول الدار ومجيء الشهر تعلق به فإذا وجد الشرط وقع وإذا لم يوجد لم يقع لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمنون عند شروطهم» ولأن
__________
(1) المنهاج \ 422-423
(2) المنهاج \ 413
(3) المهذب وعليه شرح المجموع 16 \ 152(5/62)
الطلاق كالعتق لأن لكل واحد منهما قوة وسراية، ثم العتق إذا علق بشرط وقع بوجوده ولم يقع قبل وجوده فكذلك الطلاق.
4 - قال تقي الدين السبكي (1) مسألة إذا علق الرجل طلاق زوجته على شرط قاصدا اليمين، إما لحث أو منع، أو تصديق، ثم وجد ذلك الشرط، وقع الطلاق، وبيان ذلك: أن مقتضى القضية الشرطية الحكم بالمشروط على تقدير الشرط خبرية كانت أو إنشائية، والمعلق فيها هو نسبة أحد الجزءين إلى الآخر لا الحكم بتلك النسبة الذي هو منقسم إلى الخبر والإنشاء، لأن كلا منهما يستحيل تعليقه، فالمعلق في مسألتنا هو الطلاق، وأما التطليق فهو فعل الزوج، يوقعه منجزا، أو معلقا، ويوصف التعليق بكونه تطليقا عند وجود الشرط حقيقة، فإن لم يجز التعليق يخرج الذي حصل مقتضاه عن الشرط، ويشهد لذلك أحكام الشريعة كلها المعلقة بالشروط.
ومن منع تعليق الطلاق بالصفات مطلقا فقد التبس عليه التعليق بتعليق، فظن أن تعليق الطلاق من الثاني، وإنما هو من الأول. . وقد علق الله إحلال المرأة لنبيه صلى الله عليه وسلم على هبتها نفسها له وإرادته استنكاحها وإن خرج مخرج اليمين فالأمر كذلك لوجوه: -
أحدها أنه تعليق خاص فيجب ثبوت حكم التعليق العام له.
الثاني قوله تعالى {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (2) .
ووجه الاستدلال: أن الملاعن يقصد بهذا الشرط التصديق فهو خارج مخرج اليمين، ومع ذلك فهو موجب اللعنة والغضب على تقدير الكذب بدليل قوله: إنها موجبة وبأنه لو كان المترتب على ذلك الكفارة لكان الإتيان بالقسم أولى.
الثالث أن في القرآن والسنة وأشعار العرب الفصحاء من التعليقات التي فيها الحث أو المنع أو التصديق ما لا يحصى مع القطع بحصول الشروط فيها.
الرابع أن تسمية التعليق يمينا لا يعرفه العرب ولم يتفق عليه الفقهاء ولم يرد به الشرع وإنما سمي بذلك على وجه المجاز فلا يدخل تحت النصوص الواردة في الأيمان وأنها قابلة للتكفير.
__________
(1) النظر المحقق في الطلاق المعلق \ 56 ضمن مجموعة رسائل السبكي
(2) سورة النور الآية 7(5/63)
الخامس أن هذا التعليق وإن قصد به المنع فالطلاق مقصود به على ذلك التقدير، ولذلك نصبه الزوج مانعا من ذلك الفعل، ولولا ذلك لما امتنع، ولا استحالة في كون الطلاق غير مقصود للزوج في نفس الأمر، ومقصودا له على تقدير، وإذا كان مقصودا ووجد الشرط وقع الطلاق على مقتضى تعليقه وقصده.
السادس أنه عند الشرط يصح اسم التطليق لما تقدم فيندرج تحت قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَه} (1) .
السابع أن التطليق مفوض إلى العبد بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِن} (2) وهو أعم من المنجز والمعلق فيندرج المعلق تحت الآية.
5 - وقال (3) أيضا وقد نقل إجماع الأمة على ذلك - أي إيقاع الطلاق المعلق سواء كان على وجه اليمين أو لا - أئمة لا يرتاب في قولهم. ولا يتوقف في صحة نقلهم، فمن ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه وناهيك به قال: وممن نقل الإجماع على هذه المسألة الإمام المجتهد أبو عبيد وهو من أئمة الاجتهاد كالشافعي وأحمد وغيرهما، وكذلك نقله أبو ثور وهو من الأئمة أيضا، وكذلك نقل الإجماع على وقوع الطلاق الإمام محمد بن جرير الطبري وهو من أئمة الاجتهاد أصحاب المذاهب المتبوعة، وكذلك نقل الإجماع أبو بكر بن المنذر، ونقله أيضا الإمام الرباني المشهور بالولاية والعلم محمد بن نصر المروزي، ونقله الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابيه "التمهيد" و "الاستذكار" وبسط القول فيه على وجه لم يبق لقائل مقالا. . ونقل الإجماع الإمام ابن رشد في كتاب المقدمات له، ونقله الإمام الباجي في المنتقى، وغير هؤلاء من الأئمة.
وأما الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأتباعهم فلم يختلفوا في هذه المسألة بل كلهم نصوا على وقوع الطلاق، وهذا مستقر بين الأمة، والإمام أحمد أكثرهم نصا عليها، فإنه نص على وقوع الطلاق ونص على أن يمين الطلاق والعتاق ليست من الأيمان التي تكفر ولا تدخلها الكفارة، وذكر العتق وذكر الأثر الذي استدل به ابن تيمية فيه وهو خبر ليلى بنت العجماء الذي يبني ابن تيمية حجته عليه ورده بأثر آخر صح عنده وهو أثر عثمان بن حاضر وفيه فتوى ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وجابر رضي الله عنهم بإيقاع العتق على الحانث في يمينه ولم يعمل بأثر ليلى بنت العجماء ولم يبق في المسألة إلباسا رضي الله عنه.
6 - وقال (4) السبكي أيضا فإن قلت: يرد عليك أمران:
أحدهما: طلب الفرق بين هذا وبين نذر اللجاج عند من جعله يتخلص منه بكفارة يمين.
__________
(1) سورة البقرة الآية 230
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) الدرة المضيئة \ 13 طبع مطبعة الترقي بدمشق \ 12
(4) النظر المحقق في الطلاق المعلق \ 57-58(5/64)
والثاني: في دعوى الإجماع، وقد نقل بعض الناس قولين آخرين أنه لا يلزمه به شيء، والثاني أنه يلزمه به كفارة.
* قلت: أما الأول فالجواب عنه أن الطلاق إسقاط حق لا يشترط فيه قصد القربة وفي اللجاج لم يوجد هذا الشرط، ولم يأذن الشرع فيه، وليس للعبيد إيجاب ولا تحريم إلا بإذن الله، وأيضا فإن الدليل قد قام على ما قلناه وهو على وفق الأصل فإن دل دليل على خروج اللجاج عنه بقي ما عداه على الأصل، وأما أن يجعل اللجاج المختلف فيه الخارج عن الأصل أصلا ويلحق به الجاري على وفق الأصل فغير سديد.
* وأما الثاني فإن القول بعدم الوقوع ما قاله أحد من الصحابة ولا من التابعين - إلا أن طاوسا نقل عنه لفظ محتمل لذلك، أولناه (1) - ولا ممن بعدهم إلا الشيعة ومن وافقهم ممن لا يعتد بخلافه، وأما القول بالكفارة في ذلك فلم يثبت عن أحد من المسلمين قبل ابن تيمية وإن كان مقتضى كلام ابن حزم في مراتب الإجماع نقل ذلك إلا أن ذلك مع إبهامه وعدم تعيين قائله ليس فيه أنه في مسألة التعليق فيجوز أن يحمل على غيرها من صور الخلف. . . انتهى.
وقول السبكي بشأن رأي طاوس "أولناه" يريد تأويله في الدرة المضيئة بالإكراه، يقول: ذكره عبد الرزاق في طلاق المكره، وذكر أنه أجاب عنه أجوبة كثيرة غير هذا في بعض مصنفاته كما ذكر أن طاوسا قد صح النقل عنه بخلاف ذلك قال: قد أفتى بوقوع الطلاق في هذه المسألة ونقل ذلك عنه بالسند الصحيح في عدة مصنفات جليلة منها كتاب السنن لسعيد بن منصور ومنها مصنف عبد الرزاق.
* وقال (2) أيضا بعد ذكر الوارد عن الصحابة في الوقوع قال: " فهذا عصر الصحابة لم ينقل فيه إلا الوقوع، وأما التابعون رضي الله عنهم فأئمة العلم منهم معدودن معروفون وهم الذين تنقل مذاهبهم وفتاويهم ". قال: " وقد نقلنا من الكتب المعروفة الصحيحة كجامع عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة وسنن سعيد بن منصور، والسنن الكبرى للبيهقي وغيرها فتاوى التابعين أئمة الاجتهاد وكلهم بالأسانيد الصحيحة أنهم أوقعوا الطلاق بالحنث في اليمين ولم يقضوا بالكفارة وهم سعيد بن المسيب أفضل التابعين والحسن البصري وعطاء، والشعبي وشريح وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد وقتادة والزهري وأبو مخلد والفقهاء السبعة فقهاء المدينة وهم عروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر وعبيد الله بن عبيد الله بن عتبة بن مسعود وخارجة بن زيد وأبو بكر بن عبد الرحمن وسالم بن عبد الله بن عمر وسليمان بن يسار وهؤلاء إذا أجمعوا على مسألة كان قولهم مقدما على غيرهم وأصحاب ابن مسعود السادات وهم علقمة والأسود ومسروق وعبيدة السلماني وأبو وائل شقيق بن سلمة وطارق بن شهاب، وزر بن حبيش وغير هؤلاء من التابعين مثل ابن شبرمة وأبي عمرو الشيباني وأبي الأحوص وزيد بن وهب والحكم وعمر بن عبد العزيز وخلاس بن عمر وكل هؤلاء نقلت فتاويهم بإيقاع الطلاق لم يختلفوا في ذلك ومن هم علماء التابعين غير هؤلاء، فهذا عصر الصحابة وعصر التابعين كلهم قائلون بالإيقاع ولم يقل أحد: إن هذا مما يجري به الكفارة
__________
(1) الدرة المضيئة \ 15
(2) الدرة المضيئة \ 18(5/65)
وأما من بعد هذين العصرين فمذاهبهم معروفة مشهورة كلها تشهد بصحة هذا القول كأبي حنيفة وسفيان الثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر وابن جرير الطبري وهذه مذاهبهم منقولة بين يدينا ولم يختلفوا في هذه المسألة.
يتبين مما تقدم أمران:
الأول أن الرجل إذا علق طلاق زوجته على شيء فتعليقه معتبر ويقع طلاقه عند وجود ما علق به، سواء قصد بذلك إيقاع الطلاق أم قصد اليمين حثا أو منعا أو تصديقا لخبر أو تكذيبا له، واستدلوا على ذلك بأدلة منها حديث «المؤمنون عند شروطهم» ومنها قياس الطلاق على العتق بجامع ما لكل منهما من قوة وسراية، ومنها اعتبار الكتاب والسنة للتعليقات مطلقا من القطع بحصول المشروط فيها عند وجود شرطه، ومنها ما نقله الأئمة من إجماع الأمة على إيقاع الطلاق المعلق عند وجود المعلق عليه سواء كان التعليق على وجه اليمين أم لا. إلى آخر الوجوه التي ذكرها تقي الدين السبكي في الاستدلال على ما تقدم، ويناقش ذلك بما يأتي نقله عن ابن تيمية وابن القيم.
الأمر الثاني أن الرجل إذا علق طلاق أجنبية منه على نكاحها فتعليقه لغو، ولا يقع طلاقه عند زواجه بها، بناء على أنها أجنبية منه وقت التعليق، وأن التعليق إيقاع لا يمين كما تقدم بيانه نقلا عن ابن الهمام عند ذكر مذهب الحنفية. . وما وراء هذا من اقتضاء صيغ التعليق للفور أو التكرار وعدم اقتضائها لذلك ومن وقوع المعلق على نفي الفعل عند اليأس منه أو عند مضي زمن يمكن فيه الفعل فلا تعلق له بأصل البحث المطلوب إعداده.(5/66)
د- المذهب الحنبلي
1 - قال (1) شيخ الإسلام: قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يقول لابنه: " إن كلمتك فامرأتي طالق، وعبدي حر ". قال: لا يقوم هذا مقام اليمين ويلزمه ذلك في الغضب والرضا.
2 - وقال (2) أيضا: وما وجدت أحدا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد، فقال المروزي، قال أبو عبد الله: إذا قال: كل مملوك له حر فيعتق عليه إذا حنث لأن
__________
(1) القواعد النورانية \ 236
(2) القواعد النورانية \ 237(5/66)
الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة وقال: ليس يقول: كل مملوك لها حر- في حديث ليلى بنت العجماء حديث أبي رافع، أنها سألت ابن عمر وحفصة وزينب وذكرت العتق فأمروها بالكفارة إلا التيمي، وأما حميد وغيره فلم يذكروا العتق، قال: سألت أبا عبد الله عن حديث أبي رافع - قصة حلف مولاته ليفارقن امرأته وأنها سألت ابن عمر وحفصة فأمروها بكفارة يمين قلت: فيها شيء؟ قال: نعم، أذهب إلى أن فيه كفارة يمين، قال أبو عبد الله ليس يقول فيه: " كل مملوك" إلا التيمي قلت: فإذا حلف بعتق مملوكه فحنث، قال: يعتق، كذا يروى عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: الجارية تعتق، ثم قال: سمعناه إلا من عبد الرزاق إسماعيل بن أمية وأيوب بن موسى وهما مكيان، وقد فرقا بين الحلف بالطلاق والعتق، والحلف بالنذر لأنهما لا يكفران واتبع ما بلغه في ذلك عن ابن عمر وحفصة وزينب مع انفراد التيمي بهذه الزيادة، وقال صالح بن أحمد قال أبي: وإذا قال: جاريتي حرة إن كان كذا وكذا، قال: قال ابن عمر وابن عباس تعتق، وإذا قال: كل مالي في المساكين لم يدخل فيه جاريته فإن هذا لا يشبه هذا، ألا ترى أن ابن عمر فرق بينهما العتق والطلاق لا يكفران.
3 - وقال (1) أيضا: وأما قول القائل إن العتق انفرد به التيمي فعنده جوابان:
أحدهما: أنه لم ينفرد به بل تابعه عليه أشعث، وجسر بن الحسن، وأحمد ذكر أنه لم يبلغه العتق إلا من طريق التيمي وقد بلغ غيره من طريق أخرى ثانية، ومن طريق ثالثة أيضا شاهدة وعاضدة.
الثاني: أن التيمي أجل من روى هذا الأثر عن بكر وأفقههم فانفراده به لا يقدح فيه، ألا ترى أن منهم من ذكر فيه ما لم يذكره الآخرون ومنهم من بسطه ومنهم من استوفاه، وقد روى عن التيمي مثل يحيى بن سعيد القطان، ومثل ابنة المعتمر وغيرهما، واتفقوا عنه على لفظ واحد فدل على ضبطه وإتقانه.
4 - وقال (2) أيضا: وأما أحمد فبلغه أثر في الحلف بالعتق في حديث ليلى بنت العجماء لكن لم يبلغه إلا من وجه واحد، فظن أن التيمي انفرد به، فكان ذلك علة فيه عنده، وعارضه بأثر آخر روي عن ابن عمر وابن عباس. . وقد ذكرت في غير هذا الموضع حديث ليلى بنت العجماء، وأنه روي من ثلاثة أوجه وأنه على شرط الصحيحين، وممن رواه أبو بكر الأثرم في مسائله عن أحمد. . . الخ.
5 - وقال (3) أيضا وأما معارضة ذلك بما روي عن ابن عمر وابن عباس فعنه أجوبة، هذا ملخصها:
__________
(1) نظرية العقد \ 136
(2) نظرية العقد \ 118
(3) نظرية العقد \ 137(5/67)
أحدها: أن ذلك المنقول ليس فيه حجة فإن فيه أنها حلفت بالعتق وأيمان أخرى فأفتيت في الجميع باللزوم ليس فيه أن ابن عمر وابن عباس أفتيا بالفرق بين العتق وبين غيره من الأيمان بل فيه أنهم سووا بين ذلك وفي بعض طرقه أنه كان معهم ابن الزبير. . إلخ.
الثاني: أن هذا الحديث هو الذي ذكره الهندواني من الحنفية أن لزوم نذر اللجاج والغضب هو قول العبادلة ابن عمر وابن عباس وابن الزبير، وأنكر الناس ذلك عليه، وطعنوا في ذلك، فإن كان هذا الحديث صحيحا ثبت ما نقله الهندواني وإن لم يكن صحيحا لم يكن لأحد أن يحتج به.
الثالث: أنه بتقدير ثبوته - يكون الصحابة متنازعين في جنس هذه التعليقات التي هي من جنس نذر اللجاج والغضب. . إلخ.
الرابع: أن هؤلاء الذين نقل عنهم في هذا الجواب أنهم ألزموا الحالف ما حلف به قد ثبت عنهم نقيض ذلك، فثبت عن ابن عباس من غير وجه أنه أفتى بكفارة يمين في هذه الأيمان، وكذلك ابن عمر فغاية الأمر أن يكون عنهما روايتان، وأما عائشة وحفصة وزينب وعمر بن الخطاب فلم ينقل عنهم إلا أنها أيمان مكفرة، فمن اختلف عنه سقط قوله، ويبقى الذين لم يختلف عنهم.
الخامس: أن هذا الحديث لا تقوم به حجة لأن راويه لم يعلم أنه حافظ وإنما كان قاصا، وإذا لم يثبت حفظ الناقل لم يؤمن غلطه، فلا يقبل ما ينفرد به، لا سيما إذا خالف الثقات.
السادس: أنه قد ثبت عن هؤلاء الصحابة بنقل الثقات من الطرق المتعددة ما يخالف نقل عثمان بن حاضر فدل ذلك على أنه غلط فيما رواه.
السابع: أن غاية هذا أنه نقل عن بعض الصحابة الفرق بين العتق وغيره، وقد نقل عن هذا وعن غيره التسوية بينهما، فلو كان النقلان ثابتين لكان مسألة نزاع بين الصحابة، فكيف إذا كان هذا النقل أثبت والصحابة الذين فيه أكثر وأفضل والذين في ذلك هم في هذا وزيادة.
الثامن: أن فيه من الخطأ ما يدل على أنه لم يحفظ فلفظ حديث عبد الرزاق - وساقه إلى آخره وقال بعد ذلك - وهذا اللفظ فيه أنهما أفتيا بلزوم ما حلفت به فأوقعا العتق وقالا في المال بإجزاء زكاته لا بكفارة يمين، وهذا القول لا يعرف عن أحد قبل ربيعة بن أبي عبد الرحمن، بل أهل العلم بأقوال العلماء كالمتفقين على أنه لم يقله أحد قبل ربيعة، وقد ثبت بالنقول الصحيحة عن ابن عباس أنه كان يأمر في ذلك بكفارة يمين وكذلك عن ابن عمر.(5/68)
6 - قال (1) ابن قدامة: اختلف أصحابنا في الحلف بالطلاق، فقال القاضي في الجامع وأبو الخطاب " هو تعليقه على شرط أي شرط كان، إلا قوله: إذا شئت فأنت طالق ونحوه فإنه تمليك، وإذا حضت فأنت طالق فإنه طلاق بدعة وإذا طهرت فأنت طالق فإنه طلاق سنة، وهذا قول أبي حنيفة؛ لأن ذلك يسمى حلفا عرفا فيتعلق به الحكم، كما لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق، ولأن في الشرط معنى القسم من حيث كونه جملة غير مستقلة دون الجواب فأشبه قوله: والله وبالله وتالله، وقال القاضي في المجرد: هو تعليقه على شرط يقصد به الحث على الفعل أو المنع منه كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو إن لم تدخلي فأنت طالق أو على تصديق خبره مثل قوله: أنت طالق قدم زيد أو لم يقدم، فأما التعليق على غير ذلك كقوله: أنت طالق إن طلعت الشمس أو قدم الحاج أو إن لم يقدم السلطان فهو شرط محض ليس بحلف؛ لأن حقيقة الحلف القسم وإنما سمي تعليق الطلاق على شرط حلفا تجوزا لمشاركته الحلف في المعنى المشهور وهو الحث أو المنع أو تأكيد الخبر نحو قوله: والله لأفعلن أو لا أفعل أو قد فعلت أو لم أفعل وما لم يوجد فيه هذا المعنى لا يصح تسميته حلفا وهذا مذهب الشافعي فإذا قال لزوجته إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال إذا طلعت الشمس فأنت طالق لم تطلق في الحال على القول الثاني لأنه ليس بحلف، وتطلق على الأول لأنه حلف وإن قال كلما كلمت أباك فأنت طالق طلقت على القولين جميعا لأنه علق طلاقها على شرط يمكن فعله وتركه فكان حلفا كما لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق، وإن قال: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم أعاد ذلك طلقت واحدة كلما أعاد مرة طلقت حتى تكمل الثلاث؛ لأن كل مرة يوجد بها شرط الطلاق وينعقد شرط طلقة أخرى، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي.
وقال أبو ثور: ليس ذلك بحلف ولا يقع الطلاق بتكراره لأنه تكرار للكلام فيكون تأكيدا لا حلفا. . ولنا أنه تعليق للطلاق على شرط يمكن فعله وتركه فكان حلفا كما لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق. وقوله: إنه تكرار للكلام حجة عليه، فإن تكرار الشيء عبارة عن وجوده مرة أخرى فإذا كان في الأول حلفا فوجد مرة أخرى فقد وجد الحلف مرة أخرى، وأما التأكيد فإنما يحمل عليه الكلام المكرر إذا قصده وهاهنا إن قصد إفهامها لم يقع بالثاني شيء كما لو قال أنت طالق أنت طالق يعني بالثانية إفهامها فأما إن كرر ذلك لغير مدخول بها بانت بطلقة ولم يقع أكثر منها فإذا قال لها ذلك ثلاثا بانت بالمرة الثانية ولم تطلق بالثالثة فإن جدد نكاحها ثم أعاد ذلك لها أو قال لها: إن تكلمت فأنت طالق أو نحو ذلك لم تطلق بذلك؛ لأن شرط طلاقها إنما كان بعد بينونتها.
7 - وقال أيضا باب تعليق الطلاق بالشروط: يصح ذلك من الزوج ولا يصح من الأجنبي فلو قال إن تزوجت فلانة أو إن تزوجت امرأة فهي طالق لم تطلق إذا تزوجها وعنه تطلق وإن قال لأجنبية إن قمت فأنت طالق فتزوجها ثم قامت لم تطلق رواية واحدة.
8 - ومن (2) حاشية المقنع ما نصه: قوله: ولا يصح من الأجنبي فلو قال إلخ، اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله تعالى في هذه المسألة فالمشهور عنه أنه لا يقع وهو المذهب وهو قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن
__________
(1) المغني ومعه الشرح 8 \ 334
(2) المقنع وحاشيته بخط الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب 3 \ 177(5/69)
سعيد بن المسيب وبه قال عطاء والحسن وعروة وجابر بن زيد وسوار القاضي والشافعي وأبو ثور وابن المنذر، ورواه الترمذي عن علي رضي الله عنه وجابر بن عبد الله وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين وشريح، وروي عن أحمد ما يدل على وقوع الطلاق، قال في الفروع وعنه صحة قوله لزوجته من تزوجت عليك فهي طالق أو قوله لعتيقته إن تزوجتك فأنت طالق أو قال لرجعيته إن راجعتك فأنت طالق ثلاثا أراد التغليظ عليها وهذا قول الثوري وأصحاب الرأي لأنه يصح تعليقه على الأخطار فصح تعليقه على حدوث الملك كالوصية، والأول أصح لقوله: عليه الصلاة والسلام «لا طلاق ولا عتاق لابن آدم فيما لا يملك (1) » رواه أحمد وأبو داود والترمذي بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب، قال الترمذي حديث حسن وهو أحسن شيء في الباب، ورواه الدارقطني وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها وزاد وإن عينها، وعن المسور مرفوعا قال: «لا طلاق قبل نكاح ولا عتق قبل ملك (2) » رواه ابن ماجه بإسناد حسن قال أحمد رحمه الله تعالى هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعدة من أصحابه.
9 - وقال (3) علي بن سليمان المرداوي على قول الموفق: " ولا يصح من الأجنبي إلخ " قال هذا المذهب وعليه الأصحاب ونص عليه - ثم ساق ما يدل على الوقوع -.
10 - وقال (4) عبد الله بن محمد بن مفلح " يصح مع تقدم الشرط " و " كعتق على وجه النذر " ع " أولا، وكذا إن تأخر وعنه يتنجز. ونقله ابن هانئ في العتق قال شيخنا وتأخر القسم، كأنت طالق لأفعلن كالشرط، وأولى بأن لا يلحق، وذكر ابن عقيل في أنت طالق وكرره أربعا ثم قال عقب الرابعة إن قمت طلقت ثلاثا؛ لأنه لا يجوز تعليق ما لم يملك بشرط، ويصح بصريحه وبكنايته، مع قصده من زوج، وتعليقه من أجنبي كتعليقه عتقا بملك، والمذهب لا يصح مطلقا قاله القاضي وغيره، وعنه صحة قوله لزوجته من تزوجت عليك فهي طالق أو لعتيقته إن تزوجتك فأنت طالق أو لرجعيته إن راجعتك فأنت طالق ثلاثا وأراد التغليظ عليها وجزم به في الرعاية وغيرها في الأوليين قال أحمد في العتيقة قد وطئها: والمطلق قبل الملك لم يطأ. وظاهر أكثر كلام أصحابه التسوية، ويقع بوجود شرطه نص عليه، وقال الطلاق والعتاق ليسا من الأيمان واحتج بابن عمر وابن عباس، وأن حديث ليلى بنت العجماء حديث أبي رافع لم يقل فيه وكل مملوك لها حر، وأنهم أمروها بكفارة يمين، إلا سليمان التيمي انفرد به واحتج في رواية أبي طالب بهذا الأثر على أن من حلف إلى بيت الله الحرام وهو محرم بحجة وهو يهدي وماله في المساكين صدقة يكفر واحدة وأن فيه أعتقي جاريتك، ولا أعلم أحدا قال فيه يجزئ عنه في العتق والطلاق كفارة يمين ورواه أيضا الأثرم من حديث أشعث الحمراني بإسناد صحيح، وذكر ابن عبد البر أنهما تفردا به، وذكر ابن حزم أنه صحيح فيه، وذكر البيهقي وغيره أنه روي عنهما فيه أما الجارية فتعتق فكأن الراوي اختصره، واختار شيخنا إن أراد الجزاء بتعليقه كره الشرط أولا، وكذا عنده الحلف به وبعتق وظهار وتحريم، وإن عليه دل كلام أحمد، وقال: نقل حرب أنه توقف عن وقوع العتق، وما توقف فيه يخرجه أصحابه على وجهين
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1181) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3792) ، سنن أبو داود الطلاق (2190) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2047) ، مسند أحمد بن حنبل (2/190) .
(2) سنن ابن ماجه الطلاق (2048) .
(3) الإنصاف 9 \ 59
(4) الفروع 5 \ 424 وما بعدها(5/70)
قال ومنهم من يجعله رواية، قال شيخنا: كما سلم الجمهور أن الحالف بالنذر ليس ناذرا، ولأنه لو علق إسلامه أو كفره لم يلزمه وإن قصد الكفر تنجز وما لزم منجز مع تعليقه أبلغ، فإذا كان هذا إذا قصد اليمين به معلقا لا يلزم فذاك أولى، فعلى هذا إذا حنث فإنه في العتق إن لم يختره لزمه كفارة يمين، وفي غيره مبني على نذره فيكفر وإلا التزم ذلك بما يحدثه من قول أو فعل يكون موفيا لموجب عقده، ولا يجيء التخيير بينه وبين الكفارة عند من يوجب الكفارة عينا في الحلف بنذر الطاعة، وأما أنه لا شيء عليه ولا تطلق قبله (1) ذهب أحمد إلى قول أبي ذر: أنت حر إلى الحول، وعنه: بلى مع تيقن وجوده وخصها شيخنا بالثلاث لأنه الذي يصير كمتعة ونقل مهنا في هذه الصورة تطلق إذن، قيل له فتتزوج في: قبل موتي بشهر؟ قال: لا، ولكن يمسك عن الوطء حتى يموت وذكر في الرعاية تحريمه وجها. انتهى المقصود.
11 - قال (2) شيخ الإسلام: وأما صيغة القسم، فهو أن يقول الطلاق يلزمني لأفعلن كذا، ولا أفعل، فيحلف به على حض لنفسه أو لغيره أو منع لنفسه أو لغيره، أو على تصديق خبر أو تكذيبه فهذا يدخل في مسائل الطلاق والأيمان، فإن هذا يمين باتفاق أهل اللغة فإنها صيغة قسم، وهو يمين أيضا في عرف الفقهاء، لم يتنازعوا في أنها تسمى يمينا ولكن تنازعوا في حكمها، فمن الفقهاء من غلب عليها جانب الطلاق فأوقع به الطلاق إذا حنث، ومنهم من غلب عليها جانب اليمين فلم يوقع به الطلاق بل قال: عليه كفارة يمين أو قال: لا شيء عليه بحال.
12 - وقال (3) أيضا: والثالث صيغة تعليق كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق ويسمى هذا طلاقا بصفة، فإما أن يكون قصد صاحبه الحلف وهو يكره وقوع الطلاق إذا وجدت الصفة، وأما أن يكون قصده إيقاع الطلاق عند تحقق الصفة، فالأول حكمه حكم الحلف بالطلاق باتفاق الفقهاء، ولو قال: إن حلفت يمينا فعلي عتق رقبة وحلف بالطلاق حنث بلا نزاع نعلمه بين العلماء المشهورين، وكذلك ما يعلق بالشرط لقصد اليمين كقوله: إن فعلت كذا فعلي عتق رقبة، أو فعبيدي أحرار، أو فعلي الحج، أو علي صوم شهر أو فمالي صدقة، أو هدي ونحو ذلك، فإن هذا بمنزلة أن يقول: العتق يلزمني لأفعل كذا، أو علي الحج لا أفعل كذا، أو نحو ذلك، لكن المؤخر في صيغة الشرط مقدم في صيغة القسم، والمنفي في هذه الصيغة مثبت في هذه الصيغة.
وقال أيضا: والثاني وهو أن يكون قصد إيقاع الطلاق عند الصفة فهذا يقع به الطلاق إذا وجدت الصفة كما يقع المنجز عند عامة السلف والخلف، وكذلك إذا وقت الطلاق بوقت كقوله: أنت طالق عند رأس الشهر، وقد ذكر غير واحد الإجماع على وقوع هذا الطلاق المعلق ولم يعلم فيه خلاف قديم، لكن ابن حزم زعم أنه لا يقع به الطلاق وهو قول الإمامية مع أن ابن حزم ذكر في كتاب الإجماع إجماع العلماء على أنه يقع به الطلاق، وذكر أن الخلاف إنما هو فيما إذا أخرجه مخرج اليمين، هل يقع الطلاق أو لا يقع أو لا شيء عليه؟ أو
__________
(1) في الهامش بعد قوله: '' قبله '' في مخطوط الدار '' وإن قال ''
(2) مجموع الفتاوى 33 \ 45
(3) مجموع الفتاوى 33 \ 45(5/71)
يكون يمينا مكفرة على ثلاثة أقوال كما أن نظائر ذلك من الأيمان فيها هذه الأقوال الثلاثة، وهذا الضرب وهو الطلاق المعلق بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها وليس فيها معنى الحض أو المنع كقوله: إن طلعت الشمس فأنت طالق هل هو يمين؟ فيه قولان، أحدهما: هو يمين كقول " أبي حنيفة " وأحد القولين في مذهب " أحمد " والثاني أنه ليس بيمين كقول " الشافعي " والقول الآخر في مذهب أحمد وهذا القول أصح شرعا ولغة، وأما العرف فيختلف.
ثم ذكر (1) أنواع الأيمان جملة وتكلم على نوع منها تفصيلا قال: والثاني أن يكون مقصوده الحض أو المنع، أو التصديق أو التكذيب فهذا هو الحلف بالنذر والطلاق والعتاق والظهار والحرام كقوله: إن فعلت كذا فعلي الحج وصوم سنة ومالي صدقة وعبيدي أحرار ونسائي طوالق، فهذا الصنف يدخل في مسائل الأيمان، ويدخل في مسائل الطلاق والعتاق والنذر والظهار، وللعلماء فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يلزمه ما حلف به إذا حنث، لأنه التزم الجزاء عند وجود الشرط وقد وجد الشرط فيلزمه كنذر التبرر المعلق بالشرط.
والقول الثاني: هذه يمين غير منعقدة فلا شيء فيها إذا حنث لا كفارة ولا وقوع؛ لأن هذا حلف بغير الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت (2) » وفي رواية في الصحيح «لا تحلفوا إلا بالله (3) » .
والقول الثالث: إن هذا أيمان مكفرة إذا حنث فيها كغيرها من الأيمان.
ومن العلماء من فرق بين ما عقده لله من الوجوب وهو الحلف بالنذر وما عقده لله من تحريم وهو الحلف بالطلاق والعتاق فقالوا في الأول عليه كفارة يمين إذا حنث، وقالوا في الثاني يلزمه ما علقه وهو الذي حلف به إذا حنث؛ لأن الملتزم في الأول فعل واجب فلا يبرأ إلا بفعله فيمكنه التكفير قبل ذلك، والملتزم في الثاني وقوع حرمة وهذا يحصل بالشرط فلا يرتفع بالكفارة.
والقول الثالث هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار وعليه تدل أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجملة كما بسط ذلك في موضعه، وذلك أن الله تعالى قال في كتابه: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (4) إلى قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (5) وقال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (6)
__________
(1) مجموع لفتاوى 33 \ 49 وما بعدها
(2) صحيح البخاري الشهادات (2679) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(3) صحيح البخاري المناقب (3836) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(4) سورة المائدة الآية 89
(5) سورة المائدة الآية 89
(6) سورة التحريم الآية 2(5/72)
وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه (1) » . وهذا يتناول جميع أيمان المسلمين لفظا ومعنى، أما اللفظ فلقوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (2) وقوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} (3) وهذا خطاب للمؤمنين فكل ما كان من أيمانهم فهو داخل في هذا. والحلف بالمخلوقات شرك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد أشرك (4) » رواه أهل السنن أبو داود وغيره، فلا تدخل هذه في أيمان المسلمين، وأما ما عقده بالله والله فهو من أيمان المسلمين فيدخل في ذلك، ولهذا لو قال: أيمان المسلمين أو أيمان البيعة تلزمني ونوى دخول الطلاق والعتاق دخل في ذلك كما ذكر ذلك الفقهاء، ولا أعلم فيها نزاعا، ولا يدخل في ذلك الحلف بالكعبة وغيرها من المخلوقات، وإذا كانت من أيمان المسلمين تناولها الخطاب. وأما من جهة المعنى فهو أن الله فرض الكفارة في أيمان المسلمين لئلا تكون اليمين موجبة عليهم ومحرمة عليهم، لا مخرج لهم كما كانوا عليه في أول الإسلام قبل أن تشرع الكفارة لم يكن للحالف مخرج إلا الوفاء باليمين فلو كان من الأيمان ما لا كفارة فيه كانت المفسدة موجودة.
وأيضا فقد قال تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} (5) نهاهم الله أن يجعلوا الحلف بالله مانعا لهم من فعل ما أمر به لئلا يمتنعوا عن طاعته باليمين التي حلفوها فلو كان في الأيمان ما ينعقد ولا كفارة فيه لكان ذلك مانعا لهم من طاعة الله إذا حلفوا به.
وأيضا فقد قال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (6) {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} (7) " والإيلاء " هو الحلف والقسم، والمراد بالإيلاء هنا أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته، وهو إذا حلف بما عقده بالله كان موليا، وإن حلف بما عقد لله كالحلف بالنذر والظهار والطلاق والعتاق كان موليا عند جماهير العلماء كأبي حنيفة ومالك والشافعي في قوله: الجديد وأحمد.
ومن العلماء من لم يذكر في هذه المسألة نزاعا كابن المنذر وغيره، وذكر عن ابن عباس أنه قال: كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء، والله سبحانه وتعالى قد جعل المولي بين خيرتين إما أن يفيء وإما أن يطلق، والفيئة هي الوطء خير بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان، فإن فاء فوطئها حصل
__________
(1) صحيح مسلم الأيمان (1650) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1530) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1034) .
(2) سورة التحريم الآية 2
(3) سورة المائدة الآية 89
(4) سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) .
(5) سورة البقرة الآية 224
(6) سورة البقرة الآية 226
(7) سورة البقرة الآية 227(5/73)
مقصودها، وقد أمسك بمعروف، وقد قال تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ومغفرته ورحمته للمولي توجب رفع الإثم عنه وإبقاء امرأته، ولا تسقط الكفارة، كما في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (3) فبين أنه غفور رحيم بما فرضه من تحلة الأيمان، حيث رحم عباده بما فرضه لهم من الكفارة، وغفر لهم بذلك نقضهم لليمين التي عقدها فإن موجب العقد الوفاء لولا ما فرضه من التحلة التي جعلها تحل عقدة اليمين وإن كان المولي لا يفيء، بل قد عزم على الطلاق فإن الله سميع عليم فحكم المولي في كتاب الله أنه إما أن يفيء وإما أن يعزم الطلاق فإن فاء فإن الله غفور رحيم لا يقع به الطلاق، وهذا متفق عليه في اليمين بالله تعالى.
وأما اليمين بالطلاق فمن قال: إنه يقع به الطلاق فلا يكفر، فإنه يقول إن المولي بالطلاق وقع به الطلاق، وإن عزم الطلاق فأوقعه وقع به الطلاق، فالطلاق على قوله: لازم سواء أمسك بمعروف أو سرح بإحسان، والقرآن يدل على أن المولي مخير: إما أن يفيء وإما أن يطلق فإذا فاء لم يلزمه الطلاق، بل عليه كفارة الحنث إذا قيل بأن الحلف بالطلاق فيه الكفارة، فإن المولي بالحلف بالله إذا فاء لزمته كفارة الحنث عند جمهور العلماء، وفيه قول شاذ أنه لا شيء عليه بحال، وقول الجمهور أصح، فإن الله بين في كتابه كفارة اليمين في سورة المائدة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ويكفر عن يمينه (4) » .
فإن قيل: المولي بالطلاق إذا فاء غفر الله ما تقدم من تأخير الوطء للزوجة وإن وقع به الطلاق ورحمه بذلك.
قيل: هذا لا يصح فإن أحد قولي العلماء القائلين بهذا الأصل أن الحالف بالطلاق ثلاثا أن لا يطأ امرأته لا يجوز له وطؤها بحال، فإنه إذا أولج حنث، وكان النزع في أجنبية، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد وأحد القولين في مذهب مالك.
والثاني يجوز له وطأة واحدة ينزع عقبها وتحرم بها عليه امرأته، ومعلوم أن الإيلاء إنما كان لحق المرأة في الوطء، والمرأة لا تختار وطأة يقع بها الطلاق الثلاث عقبها إلا إذا كانت كارهة له فلا يحصل مقصودها بهذه الفيئة.
وأيضا فإنه على هذا التقدير لا فائدة في التأجيل، بل تعجيل الطلاق أحب إليها لتقضي العدة لتباح لغيره، فإن كان لا بد لها من الطلاق على التقديرين كان التأجيل ضررا محضا لها، وهذا خلاف مقصود الإيلاء الذي شرع لنفع المرأة لا لضرها.
__________
(1) سورة البقرة الآية 226
(2) سورة التحريم الآية 1
(3) سورة التحريم الآية 2
(4) صحيح مسلم الأيمان (1650) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1530) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1034) .(5/74)
وما ذكرته من النصوص قد استدل به الصحابة وغيرهم من العلماء في هذا الجنس فأفتوا من حلف فقال: إن فعلت كذا فمالي هدي، وعبيدي أحرار، ونحو ذلك بأن يكفر عن يمينه، فجعلوا هذا يمينا مكفرة، وكذلك غير واحد من علماء السلف والخلف جعلوا هذا متناولا للحلف بالطلاق والعتاق وغير ذلك من الأيمان، وجعلوا كل يمين يحلف بها الحالف ففيها كفارة يمين وإن عظمت، وقد ظن طائفة من العلماء أن هذا الضرب فيه شبه من النذر والطلاق والعتاق وشبه من الأيمان وليس كذلك بل هذه أيمان محضة.
وأئمة الفقهاء الذين اتبعوا الصحابة بينوا أن هذه أيمان محضة كما قرر الشافعي وأحمد وغيرهما في الحلف بالنذر، لكن هي أيمان علق الحنث فيها على شيئين:
أحدهما: فعل المحلوف عليه.
والثاني: عدم إيقاع المحلوف به.
فقول القائل: إن فعلت كذا فعلي الحج هذا العام بمنزلة قوله: والله إن فعلت كذا لأحجن هذا العام، وهو لو قال ذلك لم يلزمه كفارة إلا إذا فعل ولم يحج ذلك العام، كذلك إذا قال: إن فعلت كذا فعلي أن أحج هذا العام إنما تلزمه الكفارة إذا فعله ولم يحج ذلك العام، وكذلك إذا قال: إن فعلت كذا فعلي أن أعتق عبيدي أو أطلق امرأتي فإنه لا تلزمه الكفارة إلا إذا فعله ولم يطلق ولم يعتق، ولو قال: والله إن فعلت كذا فوالله لأطلقن امرأتي ولأعتقن عبيدي، وكذلك إذا قال إن فعلت كذا فامرأتي طالق وعبدي حر وهو بمنزلة قوله: والله إن فعلت كذا ليقعن بي الطلاق والعتاق، ولأوقعن الطلاق والعتاق وهو إذا فعله لم تلزمه الكفارة إلا إذا لم يقع به الطلاق والعتاق وإذا لم يوقعه لم يقع؛ لأنه لم يوجد شرط الحنث؛ لأن الحنث معلق بشرطين والمعلق بالشرط قد يكون وجوبا، وقد يكون وقوعا، فإذا قال: إن فعلت كذا فعلي صوم شهر فالمعلق وجوب الصوم، وإذا قال فعبدي حر وامرأتي طالق فالمعلق وقوع العتاق والطلاق وقد تقدم أن الرجل المعلق إن كان قصده وقوع الجزاء عند الشرط وقع، كما إذا كان قصده أن يطلقها إذا برأته من الصداق فقال إن أبرأتيني من صداقك فأنت طالق فهاهنا إذا وجدت الصفة وقع الطلاق.
وأما إذا كان قصده الحلف وهو يكره وقوع الجزاء عند الشرط فهذا حالف كما لو قال: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا.
وأما قول القائل: إنه التزم الطلاق عند الشرط فيلزمه فهذا باطل من أوجه:
أحدها: أن الحالف بالكفر والإسلام كقوله: - إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني، وقول الذمي إن فعلت كذا فأنا مسلم - هو التزام للكفر والإسلام عند الشرط، ولا يلزمه ذلك بالاتفاق لأنه لم يقصد وقوعه عند الشرط، بل قصد الحلف به، وهذا المعنى موجود في سائر أنواع الحلف بصيغة التعليق.(5/75)
الثاني: أنه إذا قال - إن فعلت كذا فعلي أن أطلق امرأتي لم يلزمه أن يطلقها بالاتفاق إذا فعله.
الثالث: أن الملتزم لأمر عند الشرط إنما يلزمه بشرطين.
أحدهما: أن يكون الملتزم قربة.
والثاني: أن يكون قصده التقرب إلى الله به لا الحلف به فلو التزم ما ليس بقربة كالتطليق والبيع والإجارة والأكل والشرب لم يلزمه. بل تجزيه كفارة يمين عند الصحابة وجمهور السلف وهو مذهب الشافعي وأحمد، وآخر الروايتين عن أبي حنيفة وقول المحققين من أصحاب مالك.
وهنا الحالف بالطلاق هو التزم وقوعه على وجه اليمين، وهو يكره وقوعه إذا وجد الشرط، كما يكره وقوع الكفر إذا حلف به، وكما يكره وجوب تلك العبادات إذا حلف بها.
وأما قول القائل: إن هذا حالف بغير الله فلا يلزمه كفارة.
فيقال: النص ورد فيمن حلف بالمخلوقات، ولهذا جعله شركا؛ لأنه عقد اليمين بغير الله، فمن عقد اليمين لله فهو أبلغ ممن عقدها بالله، ولهذا كان النذر أبلغ من اليمين، فوجوب الكفارة فيما عقده لله أولى من وجوبها فيما عقده بالله.(5/76)
13 - وقال أيضا (1) فصل في التفريق بين التعليق الذي يقصد به الإيقاع والتعليق الذي يقصد به اليمين.
فالأول: أن يكون مريدا للجزاء عند الشرط، وإن كان الشرط مكروها له، لكنه إذا وجد الشرط فإنه يريد الطلاق، لكون الشرط أكره إليه من الطلاق فإنه وإن كان يكره طلاقها ويكره الشرط، لكن إذا وجد الشرط فإنه يختار طلاقها: مثل أن يكون كارها للتزوج بامرأة بغي أو فاجرة أو خائنة أو هو لا يختار طلاقها، لكن إذا فعلت هذه الأمور اختار طلاقها فيقول إن زنيت أو سرقت أو خنت فأنت طالق ومراده إذا فعلت ذلك أن يطلقها: إما عقوبة لها، وإما كراهة لمقامه معها على هذا الحال فهذا موقع للطلاق عند الصفة لا حالف، ووقوع الطلاق في مثل هذا هو المأثور عن الصحابة كابن مسعود وابن عمر، وعن التابعين وسائر العلماء وما علمت أحدا من السلف قال في مثل هذا أنه لا يقع به الطلاق ولكن نازع في ذلك طائفة من الشيعة، وطائفة من الظاهرية وهذا ليس بحالف، ولا يدخل في لفظ اليمين المكفرة الواردة في الكتاب والسنة، ولكن من الناس من سمى هذا حالفا كما أن منهم من يسمي كل معلق حالفا ومن الناس من يسمي كل منجز للطلاق حالفا، وهذه الاصطلاحات الثلاثة ليس لها أصل في اللغة ولا في كلام الشارع، ولا كلام الصحابة وإنما سمي ذلك يمينا لما بينه وبين اليمين من القدر المشترك عند المسمى وهو ظنه وقوع الطلاق عند الصفة.
__________
(1) مجموع الفتاوى 33 \ 64(5/76)
وأما التعليق الذي يقصد به اليمين فيمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم بخلاف النوع الأول فإنه لا يمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم، وهذا القسم إذا ذكره بصيغة الجزاء فإنما يكون إذا كان كارها للجزاء، أو هو أكره إليه من الشرط، فيكون كارها للشرط، وهو للجزاء أكره، ويلتزم أعظم المكروهين عنده ليمتنع به من أوفى المكروهين، فيقول إن فعلت كذا فامرأتي طالق أو عبيدي أحرارا أو علي الحج، ونحو ذلك، أو يقول لامرأته إن زنيت أو سرقت أو خنت فأنت طالق بقصد زجرها أو تخويفها باليمين لإيقاع الطلاق إذا فعلت لأنه يكون مريدا لها، وإن فعلت ذلك لكون طلاقها أكره إليه من مقامها على تلك الحال، فهو علق بذلك لقصد الحظر والمنع، لا لقصد الإيقاع، فهذا حالف ليس بموقع وهذا هو الحالف في الكتاب والسنة، وهو الذي تجزئه الكفارة، والناس يحلفون بصيغة القسم، وقد يحلفون بصيغة الشرط التي في معناها فإن علم هذا وهذا سواء باتفاق العلماء.
14 - وقال أيضا (1) إذا حلف الرجل بالحرام فقال: الحرام يلزمني لا أفعل كذا، أو الحل علي حرام لا أفعل كذا، أو ما أحل الله علي حرام إن فعلت كذا، أو ما يحل للمسلمين يحرم علي إن فعلت كذا، أو نحو ذلك وله زوجة ففي هذه المسألة نزاع مشهور بين السلف والخلف، ولكن القول الراجح أن هذه يمين من الأيمان لا يلزمه بها طلاق، ولو قصد بذلك الحلف بالطلاق، وهذا مذهب الإمام أحمد المشهور عنه، حتى لو قال: أنت علي حرام ونوى به الطلاق لم يقع عنده، ولو قال: أنت علي كظهر أمي وقصد به الطلاق فإن هذا لا يقع به الطلاق عند عامة العلماء، وفي ذلك أنزل الله القرآن فإنهم كانوا يعدون الظهار طلاقا، والإيلاء طلاقا، فرفع الله ذلك كله وجعل في الظهار الكفارة الكبرى، وجعل الإيلاء يمينا يتربص فيها الرجل أربعة أشهر- فإما أن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان، كذلك قال كثير من السلف والخلف- إنه إذا كان متزوجا فحرم امرأته أو حرم الحلال مطلقا كان مظاهرا، وهذا مذهب أحمد، وإذا حلف بالظهار والحرام لا يفعل شيئا وحنث في يمينه أجزأته الكفارة في مذهبه، لكن قيل إن الواجب كفارة ظهار، سواء حلف أو أوقع وهو المنقول عن أحمد، وقيل بل إن حلف أجزأه كفارة يمين وإن أوقعه لزمه كفارة ظهار وهذا أقوى وأقيس على أصول أحمد وغيره كالحلف بالحرام يجزيه كفارة يمين، كما يجزئ الحالف بالنذر إذا قال إن فعلت كذا فعلي الحج، أو مالي صدقة، كذلك إذا حلف بالعتق يجزئه كفارة عند أكثر السلف من الصحابة والتابعين، وكذلك الحلف بالطلاق يجزئ فيه كفارة يمين كما أفتى به جماعة من السلف والخلف، والثابت عن الصحابة لا يخالف ذلك بل معناه يوافقه فكل يمين يحلف بها المسلمون في أيمانهم ففيها كفارة يمين كما دل عليه الكتاب والسنة، وأما إذا كان مقصود الرجل أن يطلق أو أن يعتق أو أن يظاهر، فهذا يلزمه ما أوقعه سواء كان منجزا أو معلقا ولا يجزئه كفارة يمين.
15 - وقال ابن القيم (2) : ومن هذا الباب اليمين بالطلاق والعتاق فإن إلزام الحالف بهما إذا حنث بطلاق زوجته وعتق عبده مما حدث الإفتاء به بعد انقراض عصر الصحابة، فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق به أبدا، وإنما المحفوظ إلزام الطلاق بصيغة الشرط والجزاء إن قصد به الطلاق عند وجود الشرط كما
__________
(1) مجموع الفتاوى 33 \ 74
(2) إعلام الموقعين 3 \ 46-54(5/77)
في صحيح البخاري عن نافع قال طلق رجل امرأته ألبتة إن خرجت فقال ابن عمر إن خرجت فقد بانت منه وإن لم تخرج فليس بشيء، فهذا لا ينازع فيه إلا من يمنع وقوع الطلاق المعلق بالشرط مطلقا، وأما من يفصل بين القسم المحض، والتعليق الذي يقصد به الوقوع فإنه يقول بالأثار المروية عن الصحابة كلها في هذا الباب، فإنهم صح عنهم الإفتاء بالوقوع في صور، وقد صح عنهم عدم الوقوع في صور، والصواب ما أفتوا به من النوعين ولا يؤخذ ببعض فتاويهم، ولا يترك بعضها. فأما الوقوع، فالمحفوظ عنهم ما ذكره البخاري عن ابن عمر، وما رواه الثوري عن الزبير بن عدي عن إبراهيم عن ابن مسعود رضي الله عنه في رجل قال لامرأته: إن فعلت كذا وكذا فهي طالق ففعلته قال: هي واحدة وهو أحق بها على أنه منقطع (1) وكذلك ما ذكره البيهقي وغيره عن ابن عباس في رجل قال لامرأته هي طالق إلى سنة قال: يستمتع بها إلى سنة، ومن هذا قول أبي ذر لامرأته وقد ألحت عليه في سؤاله عن ليلة القدر فقال إن عدت سألتيني فأنت طالق. . فهذه جميع الآثار المحفوظة عن الصحابة في وقوع الطلاق المعلق، وأما الآثار عنهم في خلافه فصح عن عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة فيمن حلفت بأن كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته أنها تكفر عن يمينها ولا تفرق بينهما.
قال الأثرم في سننه: ثنا عارم بن الفضل، ثنا معمر بن سليمان، قال قال أبي ثنا بكر بن عبد الله قال أخبرني أبو رافع قال قالت مولاتي ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية وهي نصرانية إن لم تطلق امرأتك أو تفرق بينك وبين امرأتك، قال فأتيت زينب بنت أم سلمة وكانت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب قال: فأتيتها فجاءت معي إليها فقالت: في البيت هاروت وماروت؟ ! فقالت: يا زينب جعلني الله فداك إنها قالت إن كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية فقالت: يهودية ونصرانية؟ ! خلي بين الرجل وامرأته قال: فأتيت حفصة أم المؤمنين - فأرسلت إليها فأتتها فقالت: يا أم المؤمنين جعلني الله فداك إنها قالت: كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية فقالت: يهودية ونصرانية؟ ! خلى بين الرجل وامرأته قال فأتيت عبد الله بن عمر فجاء معي إليها فقام معي على الباب فسلم فقالت: بأبي أنت وبأبي أبوك فقال أمن حجارة أنت أم من حديد أنت أم أي شيء؟ أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين فلم تقبلي فتياهما فقالت: يا أبا عبد الرحمن جعلني الله فداك أنها قالت كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية فقال: يهودية ونصرانية؟ ! كفري عن يمينك وخلي بين الرجل وامرأته.
وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في المترجم له: ثنا صفوان بن صالح، ثنا عمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي قال حدثني جسر بن الحسن قال حدثني بكر بن عبد الله المزني قال حدثني رفيع قال: كنت أنا وامرأتي مملوكين لامرأة من الأنصار فحلفت بالهدي والعتاق أن تفرق بيننا فأتيت امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت لها ذلك فأرسلت إليها أن كفري عن يمينك. فأبت، فأتيت ابن عمر فذكرت ذلك له، فأرسل إليها ابن عمر أن كفري عن يمينك فأبت فقام ابن عمر فأتاها، فقال أرسلت إليك فلانة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وزينب أن تكفري عن يمينك فأبيت قالت: يا أبا عبد الرحمن إني حلفت بالهدي، والعتاقة قال وإن كنت قد حلفت بهما.
__________
(1) في سنده الجراح بن المنهال، ضعفه غير واحد وقال ابن حبان كان يكذب في الحديث ويشرب الخمر(5/78)
وقال الدارقطني: ثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا محمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري، ثنا أشعث ثنا بكر بن عبد الله المزني عن أبي رافع أن مولاة له أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته فقالت هي يوما يهودية، ويوما نصرانية، وكل مملوك لها حر إن لم تفرق بينهما فسألت عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة رضي الله عنهم فكلهم قالوا لها أتريدين أن تكفري مثل هاروت وماروت فأمروها أن تكفر عن يمينها، وتخلي بينهما، وقد رواه البيهقي من طريق الأنصاري، ثنا أشعث، ثنا بكر عن أبي رافع، أن مولاته أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته فقالت هي يوما يهودية، ويوما نصرانية، وكل مملوك لها حر، وكل مال لها في سبيل الله وعليها المشي إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما فسألت عائشة وابن عمر وابن عباس وحفصة وأم سلمة فكلهم قالوا لها أتريدين أن تكفري مثل هاروت وماروت وأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلي بينهما. رواه روح والأنصاري واللفظ له، وحديث روح مختصر.
وقال النضر بن شميل: ثنا أشعث، عن بكر بن عبد الله عن أبي رافع عن ابن عمر وعائشة وأم سلمة في هذه القصة قالوا: تكفر يمينها، وقال يحيى بن سعيد القطان عن سليمان التيمي ثنا بكر بن عبد الله عن أبي رافع أن ليلى بنت العجماء مولاته قالت هي يهودية وهي نصرانية، وكل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي إن لم يطلق امرأته إن لم تفرق بينهما فذكر القصة، وقال: فأتيت ابن عمر، فجاء معي، فقام بالباب، فلما سلم قالت بأبي أنت وأبوك، قال أمن حجارة أنت أم من حديد؟ أفتتك زينب وأرسلت إليك حفصة قالت: قد حلفت بكذا وكذا. قال: كفري عن يمينك وخلي بين الرجل وامرأته.
فقد تبين بسياق هذه الطرق انتفاء العلة التي أعل بها حديث ليلى هذا وهي تفرد التيمي فيه بذكر العتق كذا، قال الإمام أحمد: لم يقل وكل مملوك لها حر إلا التيمي وبرئ التيمي من عهدة التفرد، وقاعدة الإمام أحمد أن ما أفتى به الصحابة لا يخرج عنه إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، فعلى أصله الذي بنى مذهبه عليه يلزمه القول بهذا الأثر لصحته وانتفاء علته.
فإن قيل: للحديث علة أخرى، وهي التي منعت الإمام أحمد من القول به، وقد أشار إليها في رواية الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول في حديث ليلى بنت العجماء: حلفت بكذا وكذا وكل مملوك لها حر، فأفتيت بكفارة يمين، فاحتج بحديث ابن عمر وابن عباس حين أفتيا فيمن حلف بعتق جاريته وأيمان، فقال أما الجارية فتعتق.
قلت يريد بهما ما رواه معمر عن إسماعيل بن أمية عن عثمان بن أبي حاضر قال: حلفت امرأة من آل ذي أصبح فقالت: ما لها في سبيل الله وجاريتها حرة إن لم تفعل كذا وكذا لشيء يكرهه زوجها فحلف زوجها أن لا تفعله، فسأل عن ذلك ابن عباس وابن عمر فقالا: أما الجارية فتعتق وأما قولها مالي في سبيل الله فتتصدق بزكاة مالها، فقيل: لا ريب قد روي عن ابن عمر وابن عباس ذلك ولكنه أثر معلول تفرد به عثمان. هذا وحديث ليلى بنت العجماء أشهر إسنادا وأصح من حديث عثمان فإن رواته حفاظ أئمة، وقد خالفوا عثمان.
وأما ابن عباس فقد روى عنه خلاف ما رواه عثمان فيمن حلف بصدقة ماله، قال: يكفر يمينه وغاية هذا الأثر إن صح أن يكون عن ابن عمر روايتان، ولم يختلف على عائشة وزينب وحفصة وأم سلمة، قال أبو(5/79)
محمد بن حزم وصح عن ابن عمر وعائشة وأم سلمة أمي المؤمنين، وعن ابن عمر أنهم جعلوا في قول ليلى بنت العجماء كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق امرأتك كفارة يمين واحدة، فإذا صح هذا عن الصحابة، ولم يعلم لهم مخالف سوى هذا الأثر المعلول أثر عثمان بن حاضر في قول الحالف عبده حر إن فعل أنه يجزيه كفارة يمين، وإذا لم يلزموه بالعتق المحبوب إلى الله تعالى فلأن لا يلزموه بالطلاق البغيض إلى الله أولى وأحرى، كيف وقد أفتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الحالف بالطلاق أنه لا شيء عليه، ولم يعرف له في الصحابة مخالف، قال عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التيمي المعروف بابن بزيزة في شرحه لأحكام عبد الحق " الباب الثالث في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه " وقد قدمنا في كتاب الأيمان اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والمشي وغير ذلك هل يلزم أم لا؟ فقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه وشريح وطاوس لا يلزم من ذلك شيء ولا يقضي بالطلاق على من حلف به بحنث، ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة، هذا لفظه بعينه، فهذه فتوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلف بالعتق والطلاق، وقد قدمنا فتاويهم في وقوع الطلاق المعلق بالشرط، ولا تعارض بين ذلك فإن الحالف لم يقصد وقوع الطلاق، وإنما قصد منع نفسه بالحلف بما لا يريد وقوعه فهو كما لو خض أو منع نفسه بالتزام التطليق والإعتاق والحج والصوم وصدقة المال، وكما لو قصد منع نفسه بالتزام ما يكرهه من الكفر فإن كراهته لذلك كله، وإخراجه مخرج اليمين بما لا يريد وقوعه منع من ثبوت حكمه، وهذه علة صحيحة فيجب طردها في الحلف بالعتق والطلاق إذ لا فرق ألبتة. والعلة متى تخصصت بدون فوات شرط أو وجود مانع دل ذلك على فسادها، كيف والمعنى الذي منع لزوم الحج والصدقة والصوم بل لزوم الإعتاق والتطليق، بل لزوم اليهودية والنصرانية هو في الحلف بالطلاق أولى، أما العبادات المالية والبدنية فإذا منع لزومها قصد اليمين، وعدم قصد وقوعها فالطلاق أولى، وكل ما يقال في الطلاق فهو بعينه في صور الإلزام سواء بسواء، وأما الحلف بالتزام التطليق والإعتاق فإذا كان قصد اليمين قد منع ثلاثة أشياء وهي: وجوب التطليق، وفعله، وحصول أثره، وهو الطلاق، فلأن يقوى على منع واحد من الثلاثة وهو وقوع الطلاق وحده أولى وأحرى، وأما الحلف بالتزام الكفر الذي يحصل بالنية تارة وبالفعل تارة، وبالقول تارة، وبالشك تارة ومع هذا فقصد اليمين منع من وقوعه فلأن يمنع من وقوع الطلاق أولى وأحرى، وإذا كان العتق الذي هو أحب الأشياء إلى الله ويسري في ملك الغير وله من القوة وسرعة النفوذ ما ليس لغيره ويحصل بالملك والفعل، قد منع قصد اليمين من وقوعه كما أفتى به الصحابة فالطلاق أولى وأحرى بعدم الوقوع وإذا كانت اليمين بالطلاق قد دخلت في قول - المكلف (أيمان المسلمين تلزمني) عند من ألزمها بالطلاق فدخولها في قول رب العالمين {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1) أولى وأحرى، وإذا دخلت في قول الحالف: إن حلفت يمينا فعبدي حر فدخولها في قول النبي صلى الله عليه وسلم «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير (2) » أولى وأحرى.
وإذا دخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم «من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك (3) » فدخولها في قوله: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه أولى
__________
(1) سورة التحريم الآية 2
(2) صحيح مسلم الأيمان (1650) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1530) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1034) .
(3) سنن الترمذي النذور والأيمان (1532) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2104) .(5/80)
وأحرى، (1) » فإن الحديث أصح وأصرح، وإذا دخلت في قوله: «من حلف على يمين فاجرة يتقطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان (2) » فدخولها في قوله تعالى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (3) أولى وأحرى بالدخول، أو مثله، وإذا أدخلت في قوله تعالى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُر} (4) فلو حلف بالطلاق كان موليا، فدخولها في نصوص الأيمان أولى وأحرى؛ لأن الإيلاء نوع من اليمين، فإذا دخل الحلف في الطلاق في النوع فدخوله في الجنس سابق عليه، فإن النوع مستلزم الجنس، ولا ينعكس، وإذا دخلت في قوله: (يمينك على ما يصدقك به صاحبك) فكيف لا يدخل في بقية نصوص الأيمان، وما الذي أوجب هذا التخصيص من غير مخصص، وإذا دخلت في قوله: «إياكم وكثرة الحلف في البيع فإنه ينفق ثم يمحق (5) » فهلا دخلت في غيره من نصوص اليمين وما الفرق المؤثر شرعا أو عقلا، أو لغة؟ وإذا دخلت في قوله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (6) فهلا دخلت في قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (7) .
وإذا دخلت في قول الحالف " أيمان البيعة تلزمني " وهي الأيمان التي رتبها الحجاج، فلم لا تكون أولى بالدخول في لفظ الأيمان في كلام الله تعالى ورسوله فإن كانت يمين الطلاق يمينا شرعية بمعنى أن الشرع اعتبرها وجب أن تعطي حكم الأيمان، وإن لم تكن يمينا شرعية كانت باطلة في الشرع فلا يلزم الحالف بها شيئا كما صح عن طاوس من رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عنه (ليس الحلف بالطلاق شيئا) وصح عن عكرمة من رواية سنيد بن داود بن علي في تفسيره عنه أنها من خطوات الشيطان لا يلزم بها شيء، وصح عن شريح قاضي أمير المؤمنين علي وابن مسعود أنها لا يلزم بها طلاق وهو مذهب داود بن علي وجميع أصحابه وهو قول بعض أصحاب مالك في بعض الصور فيما إذا حلف عليها بالطلاق على شيء لا تفعله هي كقوله: - إن كلمت فلانا فأنت طالق - قال: لا تطلق إن كلمته؛ لأن الطلاق لا يكون بيدها إن شاءت طلقت وان شاءت أمسكت وهو قول بعض الشافعية في بعض الصور، كقوله: الطلاق يلزمني، أو لازم لي لا أفعل كذا وكذا فإن لهم فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه إن نوى وقوع الطلاق بذلك لزمه وإلا فلا يلزمه وجعله هؤلاء كناية، والطلاق يقع بالكناية مع النية.
الوجه الثاني: إنه صريح فلا يحتاج إلى نيته وهذا اختيار الروياني، ووجهه أن هذا اللفظ قد غلب في إرادة الطلاق فلا يحتاج إلى نية.
__________
(1) صحيح مسلم الأيمان (1650) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1530) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1034) .
(2) صحيح البخاري المساقاة (2357) ، صحيح مسلم الإيمان (138) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2996) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3243) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2323) ، مسند أحمد بن حنبل (1/379) .
(3) سورة المائدة الآية 89
(4) سورة البقرة الآية 226
(5) صحيح مسلم المساقاة (1607) ، سنن النسائي البيوع (4460) ، سنن ابن ماجه التجارات (2209) ، مسند أحمد بن حنبل (5/297) .
(6) سورة المائدة الآية 89
(7) سورة المائدة الآية 89(5/81)
الوجه الثالث: إنه ليس بصريح ولا كناية ولا يقع به طلاق وإن نواه وهذا اختيار القفال في فتاويه، ووجهه أن الطلاق لا بد فيه من إضافته إلى المرأة كقوله: أنت طالق أو طلقتك، أو قد طلقتك أو يقول امرأتي طالق أو فلانة طالق ونحو هذا، ولم توجد هذه الإضافة في قوله: الطلاق يلزمني، ولهذا قال ابن عباس فيمن قال لامرأته طلقي نفسك فقالت: أنت طالق، فإنه لا يقع بذلك طلاقا، وقال عطاء: الله بوأها، وتبعه على ذلك الأئمة فإذا قال الطلاق يلزمني لم يكن لازما له إلا أن يضيفه إلى محله وإن لم يضفه فلا يقع، والموقعون يقولون: إذا التزمه فقد لزمه ومن ضرورة لزومه إضافته إلى المحل فجاءت الإضافة من ضرورة اللزوم، ولمن نصر قول القفال أن يقول إما أن يكون قائل هذا اللفظ قد التزم التطليق أو وقوع الطلاق الذي هو أثره، فإن كان الأول لم يلزمه، لأنه نذر أن يطلق ولا تطلق المرأة بذلك، وإن كان قد التزم الوقوع فالتزامه بدون سبب الوقوع ممتنع، وقوله: الطلاق يلزمني التزام لحكمه عند وقوع سببه، وهذا حق فأين في هذا اللفظ وجود سبب الطلاق، وقوله: الطلاق يلزمني لا يصلح أن يكون سببا إذا لم يضف فيه الطلاق إلى محله بوجه، ونظير هذا أن يقول له بعني أو أجرني فيقول البيع يلزمني، أو الإجارة تلزمني فإنه لا يكون بذلك موجبا لعقد البيع أو الإجارة حتى يضيفهما إلى محلهما، وكذلك لو قال الظهار يلزمني لم يكن بذلك مظاهرا حتى يضيفه إلى محله، كما لو قال العتق يلزمني، ولم يضف فيه العتق إلى محله، وهذا بخلاف ما لو قال الصوم يلزمني أو الحج، أو الصدقة، فإن محله الذمة، وقد أضافه إليها، فإن قيل وهاهنا محل الطلاق والعتاق الذمة؟ قيل هذا غلط بل محل الطلاق والعتاق نفس الزوجة والعبد وإنما الذمة محل وجوب ذلك وهو التطليق والإعتاق وحينئذ فيعود الالتزام إلى التطليق والإعتاق وذلك لا يوجب الوقوع، والذي يوضح هذا أنه لو قال أنا منك طالق لم تطلق بذلك لإضافة الطلاق إلى غير محله، وقيل تطلق إذا نوى طلاقها هي بذلك، تنزيلا لهذا اللفظ منزلة الكنايات فهذا كشف سر هذه المسألة، وممن ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو القاسم بن يونس في شرح التنبيه. انتهى المقصود.
وقال ابن القيم (1) أيضا: قد عرف أن الحلف بالطلاق له صيغتان إحداهما إن فعلت كذا وكذا فأنت طالق.
والثانية الطلاق يلزمني لا أفعل كذا، وأن الخلاف في الصيغتين قديما وحديثا.
16 - قال السبكي ردا على استدلال شيخ الإسلام ابن تيمية قال: الفصل الثالث في الجواب عن استدلاله بالآيتين المذكورتين على وجه التفصيل:
__________
(1) إعلام الموقعين 3 \ 56(5/82)
أما الآية الأولى فهي قوله تعالى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (1) وساق الآية إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2) ثم قال - وإنما الاستدلال بها إذا تبين دخول يمين الطلاق في عموم قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (3) ولم يكن لذلك معارض يمنع دخولها فيه، والكلام على هذه الآية يلتفت على الكلام على الآية الأخرى في سورة البقرة قال الله تعالى {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} (4) وساق الآية إلى قوله تعالى {حَلِيمٌ} (5) ثم قال - وللمفسرين في معنى قوله تعالى {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} (6) قولان:
أحدهما: أن المراد لا تجعلوا اليمين بالله تعالى عرضة بينكم وبين أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس فتحلفوا لا تفعلوا فتبقى اليمين متعرضة بين الحالف وبين البر والتقوى فنهاهم الله عن اليمين على ذلك ثم شرع لهم الكفارة للتخلص من هذا المنع ليكون طريقا للحالف إلى الرجوع إلى البر والتقوى والإصلاح، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم «إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير (7) » ) .
والقول الثاني أن المراد لا تجعلوا اسم الله عرضة لأيمانكم فتبتذلوه بالحلف به في كل شيء وقوله: {أَنْ تَبَرُّوا} (8) معناها إرادة أن تبروا يعني إذا لم تبتذلوا اسم الله في كل يمين قدرتم على البر، ثم شرع لهم الكفارة لتكون جابرة لما يحصل من انتهاك حرمة الاسم المعظم ولا شك أن اليمين بالله تعالى مراده في الآيتين وهي اليمين الشرعية، وهي التي شرعت الكفارة فيها أصلا فالحالف يعقد اليمين بالله على أن يفعل كذا أو أن لا يفعل كذا فإذا قال " والله لا أفعل أو الله لأفعلن فقد أكد عقده بهذا الاسم المعظم. . ولهذا نهي عن الحلف بغير الله عز وجل، ونقل ابن عبد البر إجماع العلماء أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها.
ومن هاهنا قال أهل الظاهر لا كفارة إلا في اليمين بأسماء الله عز وجل وصفاته ولا تجب الكفارة في يمين غير ذلك، وممن قال بهذا القول الشعبي والحكم والحارث العكلي، وابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن نقله ابن عبد البر، وقال هو الصواب عندنا والحمد لله.
وقال جمهور العلماء بوجوب الكفارة في أيمان غيرها لكن على سبيل الإلحاق بها لوجود علة وجوب الكفارة عندهم وعلى هذا الأصل جعل ابن تيمية الطلاق المعلق على شرط يمينا تلزم فيها الكفارة إذا قصد بالتعليق الحث على الفعل أو المنع منه. . الخ.، هذه أقوال المعتبرين من العلماء. . . . هذا مع اتفاق العلماء كلهم على أمرين:
__________
(1) سورة المائدة الآية 89
(2) سورة المائدة الآية 89
(3) سورة المائدة الآية 89
(4) سورة البقرة الآية 224
(5) سورة البقرة الآية 225
(6) سورة البقرة الآية 224
(7) صحيح البخاري كفارات الأيمان (6718) ، صحيح مسلم الأيمان (1649) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2107) ، مسند أحمد بن حنبل (4/401) .
(8) سورة البقرة الآية 224(5/83)
أحدهما: أن يمين الطلاق لا كفارة فيها ولو قلنا هي يمين.
والثاني: أن عموم الآية مخصوص فلا تجب الكفارة في كل ما يطلق عليه اسم اليمين لغة، وإذا كانت الكفارة لا تجب في كل ما يسمى يمينا في اللغة لم تبق الآية الكريمة مجراة على عمومها، وحينئذ فالآية إما محمولة على اليمين الشرعية، أو على اليمين اللغوية، والحمل على الموضوع الشرعي أولى عند المحققين من العلماء فإذا كان للفظ معنى في اللغة ومعنى في الشرع إما يقاربه وإما يباينه ووجدنا ذلك اللفظ في خطاب الشارع حملناه على معناه في الشرع فإن تعذر حملناه على معناه في اللغة والعرف، وهاهنا في الآية زيادة وهي أن الحمل فيها على الموضوع اللغوي يوجب تخصيص عمومها والحمل على المعنى الشرعي قد لا يوجب ذلك، وما سلم من التخصيص أو كان أقل تخصيصا كان أولى فيتعين حمل الأيمان في الآية الكريمة على المعنى الشرعي، واليمين الشرعية هي ما شرع الحلف به، أو لم يكره ولم يحرم، وقد قال صلى الله عليه وسلم «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله (1) » وكانت قريش تحلف بآبائها فقال «لا تحلفوا بآبائكم (2) » وفي سنن النسائي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون (3) » فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل يمين بغير الله عز وجل وما نهى عنه لم يكن شرعيا، ولا فرق بين اليمين باسم الله عز وجل أو غيره من الأسماء الحسنى والصفات العليا والكل شرعي ينعقد فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف فيقول «لا ومقلب القلوب (4) » وفي حديث صفة الجنة أن جبريل قال «وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها (5) » ولما حلف الصحابة بالكعبة قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم «قولوا ورب الكعبة (6) » فكل أيمان شرعية؛ لأن المعنى في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف تعظيم للمحلوف به على وجه لا يليق بغير الله عز وجل، فبأي اسم من أسماء الله عز وجل أو صفاته حلف لم يكن معظما لغير الله تعالى فإذا كانت اليمين الشرعية هي اليمين بالله عز وجل أو صفاته كانت الآية محمولة على ذلك فدلت الآية على أن كل يمين بالله أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته يوجب الكفارة عند الحنث؛ لأن اللفظ شرعي فيحمل على المعنى الشرعي وتكون الآية على عمومها في كل الأيمان الشرعية فلا تكون الآية دالة على إيجاب الكفارة في شيء من الأيمان سوى الأيمان الشرعية وهي الأيمان بالله وبأسمائه وصفاته ولا تدخل اليمين بالطلاق ولا غيرها في ذلك.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3836) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3836) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(3) صحيح البخاري المناقب (3836) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(4) صحيح البخاري القدر (6617) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1540) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3761) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3263) ، مسند أحمد بن حنبل (2/68) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2350) .
(5) سنن الترمذي صفة الجنة (2560) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3763) ، مسند أحمد بن حنبل (2/333) .
(6) سنن النسائي الأيمان والنذور (3773) ، مسند أحمد بن حنبل (6/372) .(5/84)
ثم إن العلماء رأوا أن بعض الأيمان ملحق باليمين بالله تعالى في إيجاب الكفارة فألحقوه بذلك لوجود المعنى الذي شرعت الكفارة لأجله، وعند هذا اختلف نظرهم فمنهم من يلحق أنواعا كثيرة ومنهم من يلحق أقل من ذلك على اختلاف نظرهم واجتهادهم ويوجد هذا الاختلاف بالصحابة والتابعين ومن بعدهم ومضى إلى أن قال: قد اجتمعت الأمة على أن يمين الطلاق ليست داخلة في أيمان الكفارة فلا معدل عن الإجماع بدليل غيره هذا أيضا لم يقله أحد من المسلمين ثم إن هذه الأيمان التي ذكرناها هل تسمى أيمانا قال ابن عبد البر وأما الحلف بالطلاق والعتق فليس بيمين عند أهل التحصيل والنظر وإنما هو طلاق بصفة أو عتق بصفة إذا أوقعه موقعا وقع على حسب ما يجب في ذلك عند العلماء كان على أصله وقول المتقدمين بين الأيمان بالطلاق والعتق إنما هو كلام خرج على الامتناع والمجاز والتقريب وأما الحقيقة فإنما هو طلاق على وصف وعتق على وصف ما ولا يمين في الحقيقة إلا بالله عز وجل فقد تبين خروج يمين الطلاق من الآية الكريمة وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1) فإن المستدل تعلق بها بناء على أن الكفارة وجبت في التحريم خاصة وأن الله سبحانه جعله يمينا وأجراه مجرى اليمين في الكفارة ونبه على دخوله في الآية المذكورة قبلها، وهذا ليس كذلك فإن هذه الواقعة قد قيل أنها في قصة مارية وقيل في قصة العسل، ومن العلماء من لم يذكر فيها يمينا بالله تعالى وجعل الكفارة للتحريم، وعلى هذا القول يخرج الجواب مما تقدم والنبي صلى الله عليه وسلم توقف عن الكفارة حتى قال الله سبحانه ما قال فلو كان الحرام يسمى حقيقة لعلم دخوله في الآية الأولى فلما احتاج إلى إعلام الله إياه دل على أنه لم يدخل في اليمين إلا في الحكم لا في الاسم الحقيقي، وفي مسألة التحريم أقوال كثيرة للعلماء وأكثرهم على أنه ليس بيمين على الإطلاق فلا يدخل في الآية الكريمة إلا في الحكم لا في الاسم الحقيقي هذا على قول من يوجب الكفارة لكونه تحريما.
__________
(1) سورة التحريم الآية 2(5/85)
وأما من لم يقل بذلك فيقول الكفارة ليمين بالله اقترنت بالتحريم وقد قال بعض من استدل بالآية على أن التحريم يمين (من قال بأن النبي صلى الله عليه وسلم حلف مع الكفارة فقد قال ما لم يقله أحد) وقد روي البيهقي بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: «آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم فجعل الحلال حراما وجعل في اليمين الكفارة (1) » .
وروي أبو داود مرسلا عن قتادة قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت حفصة فدخلت فرأت معه فقالت في بيتي وفي يومي فقال «اسكتي فوالله لا أقربها وهي على حرام» وروي البيهقي مرسلا أيضا عن مسروق أنه قال «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف لحفصة أن لا يقرب أمته وقال " هي على حرام» فنزلت الكفارة ليمينه وأمر أن لا يحرم ما أحل الله! (2) .
وأما قصة العسل وهي أشهر في سبب نزول الآية فروى البيهقي أن عبيد بن عمير قال سمعت عائشة تخبر «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا فتواصيت أنا وحفصة أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له فقال بل شربت عسلا عند زينب ولن أعود له فنزلت إلى لعائشة وحفصة؛ لقوله: بل شربت عسلا (6) » قال البيهقي رواه البخاري في الصحيح عن الحسن بن محمد ورواه مسلم عن محمد بن حاتم كلاهما عن حجاج قال البخاري وقال إبراهيم بن موسى عن هشام بن يوسف عن ابن جريج عن عطاء في هذا الحديث «ولن أعود له وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا (7) » قال ابن عبد البر: وقد روي «عن ابن عباس في تأويله قوله تعالى والله لا أشرب العسل بعدها، (9) » فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حلف بالله فالكفارة لليمين بالله، وهذا معنى قول عائشة فجعل الحلال حراما وجعل في اليمين الكفارة فلم تكن الكفارة إلا في اليمين بالله تعالى ولا يحتاج إلى الجواب عن الآية. انتهى المقصود.
__________
(1) الاستدلال بهذا الحديث على اقتران التحريم في هذه القصة بيمين مردود لأمور: أ- أن الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة إما العسل، وإما مارية القبطية والذي في هذا الحديث أنه حرم نساءه، ومارية ليست من زوجاته ولا هي جماعة. ب- أن الواقعة التي آلى فيها من نسائه قد اعتزل فيها نساءه شهرا وأمضى ما حلف عليه وعلى هذا لم يكن فرضا عليه أن يتحلل من يمينه بكفارة. ج- أن هذا الحديث من رواية مسلمة بن علقمة المازني عن داود بن علي عن عامر الشعبي عن مسروق عن عائشة مرفوعا، وقد خالفه في ذلك على بن مسهر وغيره عن داود عن الشعبي مرسلا، وعلي بن مسهر ومن شاركه في رواية هذا الحديث عن داود أوثق فكان وصل مسلمة له شاذا، قال أبو عيسى الترمذي: حديث مسلمة بن علقمة عن داود - رواه علي بن مسهر وغيره عن داود عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وليس فيه - عن مسروق عن عائشة - وهذا أصح من حديث مسلمة بن علقمة. د- مسلمة بن علقمة المازني ضعفه غير واحد، ذكره العقيلي في الضعفاء، وقال له عن داود - مناكير، وما لا يتابع عليه من حديثه كثير، وذكر له ابن عدي أحاديث، وقال: وله غير ما ذكرت مما لا يتابع عليه وبذلك يكون وصله لهذا الحديث منكرا لمخالفته من أرسله من الثقاة.
(2) ما ذكره من مرسل قتادة ومسروق لا حجة فيهما لمطلوبه - لما فيهما من الإرسال.
(3) صحيح البخاري الطلاق (5267) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3795) ، مسند أحمد بن حنبل (6/221) .
(4) سورة التحريم الآية 1 (3) {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك}
(5) سورة التحريم الآية 4 (4) {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ}
(6) سورة التحريم الآية 3 (5) {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا}
(7) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6691) .
(8) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6691) ، صحيح مسلم الطلاق (1474) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3795) ، سنن أبو داود الأشربة (3714) ، مسند أحمد بن حنبل (6/221) .
(9) سورة التحريم الآية 1 (8) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}(5/86)
يتخلص المقصود مما تقدم في أمور:
الأول: لاختلاف في ضابط ما يسمى حلفا بالطلاق، فقيل هو كل طلاق علق على شرط أيا كان هذا الشرط وقيل كل طلاق علق على شرط وقصد به الحث على الفعل أو المنع منه، أو قصد به تصديق خبر أو تكذيبه، مثل إذا دخلت الدار فأنت طالق، وإلا كان شرطا محضا، مثل إن طلعت الشمس فأنت طالق، والحلف بالطلاق على الأول أعم منه على الثاني، وذكر ابن تيمية أن الضابط الثاني أصح لغة وشرعا، وأما العرف فيختلف.
الثاني: أن الرجل إذا علق طلاق زوجته على شيء اعتبر تعليقه، ووقع الطلاق عند وجود المعلق عليه، ولو كان قاصدا الحث على فعل أو المنع منه أو تصديق خبر أو تكذيبه، ولا كفارة عليه في ذلك واستدل الإمام أحمد لذلك بما روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم من اعتبار التعليق ووقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه، ورد ما زاده سليمان بن طرخان التيمي في روايته لقصة ليلى بنت العجماء من قوله: فيها (كل مملوك لها حر) لتفرده بهذه الزيادة، وعارضه بما رواه عبد الرزاق من طريق عثمان بن حاضر عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وعلى ذلك لا يتم لمن جعل الطلاق المعلق يمينا تلزم فيها الكفارة قياسه على ما جاء من الفتوى في قصة ليلى بنت العجماء في لزوم الكفارة دون وقوع الطلاق.
ونوقش بأن سليمان لم ينفرد بالزيادة، وبأنه على تقدير فهو ثقة، وزيادة الثقة مقبولة ما لم تعارض رواية من هو أوثق منه معارضة لا يمكن معها الجمع، ونوقشت المعارضة بإمكان الجمع وعلى تقدير عدم إمكانه فرواية سليمان أرجح من رواية عثمان بن حاضر لما سبق من النقل عن ابن تيمية وابن القيم من مبررات الترجيح.
الثالث - أن الرجل إذا علق طلاق أجنبية منه على زواجه بها كان تعليقه لغوا ولا تطلق بذلك إذا تزوجها إما لأنها أجنبية منه وقت التعليق كما علل به الشافعية، وإما لمقارنة وقوع الطلاق عقد الزواج كما علل به محمد بن الحسن من الحنفية.
وروي عن الإمام أحمد إنه يصح تعليق طلاق الأجنبية على الزواج بها، لأنه يصح تعليقه على الإخطار فيصح تعليقه على الملك كالوصية، وهذه الرواية موافقة لمذهب المالكية والحنفية سوى محمد بن الحسن.
هذا وجملة القول أنه لم يثبت نص صريح لا في كتاب ولا في السنة باعتبار الطلاق المعلق طلاقا عند الحنث وعدم اعتباره فكانت المسألة نظرية، للاجتهاد فيها مجال، من أجل هذا اختلف الآثار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم في حكمها، فمن قائل إن تعليق الطلاق على شرط لغو، لأنه حلف خالف ما جاءت به الأحاديث من النهي عن الحلف بغير أسماء الله تعالى وصفاته، ومن قائل: إنه معتبر ويقع به الطلاق عند حصول(5/87)
المعلق عليه؛ لقوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) ولحديث «المسلمون عند شروطهم» وللآثار الواردة في اعتباره طلاقا بل ادعى أنه مجمع عليه وقد سبقت مناقشته ومن قائل إنه داخل في جنس الأيمان إن قصد به الحث أو المنع أو تصديق خبر أو تكذيبه دون إيقاع الطلاق فتلزم فيه الكفارة عند الحنث كما تلزم في سائر الأيمان واستندوا إلى القياس على ما ورد في قصة ليلى بنت العجماء، ورأوا أن الإلزام بالكفارة فيه جمع بين ما ورد عن السلف من الآثار المختلفة، فكان أولى من إلغائه أو اعتباره طلاقا، إلى آخر ما تقدم من الاستدلال ومناقشة كل فريق لمخالفه. هذا ما تيسر جمعه، والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم. . . .
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) سورة المائدة الآية 1(5/88)
قرار رقم 16 وتاريخ 12 \ 11 \ 1393 هـ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده،.
وبعد: فبناء على قرار مجلس هيئة كبار العلماء رقم 14 الصادر عنها في دورتها الثالثة المنعقدة فيما بين 1 \ 4 \ 1393هـ و17 \ 4 \ 1393هـ القاضي بتأجيل دراسة موضوع الطلاق المعلق إلى الدورة الرابعة لمجلس الهيئة.
فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة لدورتها الرابعة المنعقدة فيما بين 29 \ 10 \ 1393هـ و12 \ 11 \ 1393هـ وفي هذه الدورة جرى دراسة الموضوع بعد الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء والمعد من اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء.
وبعد دراسة الموضوع وتداول الرأي واستعراض كلام أهل العلم في ذلك ومناقشة ما على كل قول من إيراد مع الأخذ في الاعتبار أنه لم يثبت نص صريح لا في كتاب ولا في سنة باعتبار الطلاق المعلق طلاقا عند الحنث وعدم اعتباره وأن المسألة نظرية للاجتهاد فيها مجال. بعد ذلك توصل المجلس بأكثريته إلى اختيار القول بوقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه سواء قصد من علق طلاقه على شرط الطلاق المحض أو كان قصده الحث أو المنع أو تصديق خبر أو تكذيبه وذلك لأمور أهمها ما يلي: -
1 - ما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار في ذلك، ومنه ما أخرجه البخاري في صحيحه معلقا بصيغة الجزم من أن رجلا طلق امرأته البتة إن خرجت فقال ابن عمر إن خرجت فقد بانت منه وإن لم تخرج فليس بشيء. وما روى البيهقي بإسناده عن ابن مسعود في رجل قال لامرأته إن فعلت كذا وكذا فهي طالق فتفعله قال هي واحدة وهو أحق بها، وما رواه أيضا بإسناده إلى أبي الزناد عن أبيه أن الفقهاء السبعة من أهل المدينة كانوا يقولون: أيما رجل قال لامرأته أنت طالق إن خرجت إلى الليل فخرجت طلقت امرأته. إلى غير ذلك من الآثار، مما يقوى بعضها بعضا.
2 - لما أجمع عليه أهل العلم - إلا من شذ - في إيقاع الطلاق من الهازل مع القطع بأنه لم يقصد الطلاق وذلك(5/89)
استنادا إلى حديث أبي هريرة وغيره مما تلقته الأمة بالقبول من أن «ثلاثا جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والنكاح والعتاق (1) » . فإن كلا من الهازل والحالف بالطلاق قد عمد قلبه إلى ذكر الطلاق وإن لم يقصده فلا وجه للتفريق بينهما بإيقاعه على الهازل به وعدم إيقاعه على الحالف به.
3 - لقوله تعالى {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (2) ووجه الاستدلال بها أن الملاعن يقصد بهذا الشرط التصديق ومع ذلك فهو موجب اللعنة والغضب على تقدير الكذب.
4 - إن هذا التعليق وإن قصد به المنع فالطلاق مقصود به على تقدير الوقوع ولذلك أقامه الزوج مانعا له من وقوع الفعل ولولا ذلك لما امتنع.
5 - إن القول بوقوع الطلاق عند حصول الشرط المعلق عليه قول جماهير أهل العلم وأئمتهم فهو قول الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وهو المشهور في مذاهبهم قال تقي الدين السبكي في رسالته الدرة المضيئة: وقد نقل إجماع الأمة على ذلك أئمة لا يرتاب في قولهم ولا يتوقف في صحة نقلهم فمن ذلك الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وناهيك به. وممن نقل الإجماع على هذه المسألة الإمام المجتهد أبو عبيد وهو من أئمة الاجتهاد كالشافعي وأحمد وغيرهما، وكذلك نقله أبو ثور وهو من الأئمة أيضا وكذلك نقل الإجماع على وقوع الطلاق الإمام محمد بن جرير الطبري وهو من أئمة الاجتهاد أصحاب المذاهب المتبوعة، وكذلك نقل الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابيه التمهيد والاستذكار وبسط القول فيه على وجه لم يبق لقائل مقالا ونقل الإجماع الإمام ابن رشد في كتاب المقدمات له، ونقله الإمام الباجي في المنتقى - إلى أن قال: وأما الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأتباعهم فلم يختلفوا في هذه المسألة بل كلهم نصوا على وقوع الطلاق وهذا مستقر بين الأئمة والإمام أحمد أكثرهم نصا عليها فإنه نص على وقوع الطلاق، ونص على أن يمين الطلاق والعتاق ليست من الأيمان التي تكفر ولا تدخلها الكفارة. اهـ.
وقد أجاب من يرى خلاف ذلك عما ذكره السبكي - رحمه الله - من الإجماع بأنه خاص فيما إذا- قصد وقوع الطلاق بوقوع الشرط.
وفي القواعد النورانية لشيخ الإسلام ابن تيمية ما نصه:
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1184) ، سنن أبو داود الطلاق (2194) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2039) .
(2) سورة النور الآية 7(5/90)
قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يقول لابنه " إن كلمتك فامرأتي طالق وعبدي حر ". قال " لا يقوم هذا مقام اليمين ويلزمه ذلك في الغضب والرضا ". اهـ.
وقال أيضا: وما وجدت أحدا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد. فقال المروزي: قال أبو عبد الله: إذا قال كل مملوك له حر فيعتق عليه إذا حنث؛ لأن الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة. اهـ.
أما المشايخ عبد الله بن حميد وعبد العزيز بن باز وعبد الله خياط وعبد الرزاق عفيفي وإبراهيم بن محمد آل الشيخ ومحمد بن جبير وصالح بن لحيدان فقد اختاروا القول باعتبار الطلاق المعلق على شرط يقصد به الحث أو المنع أو تصديق خبر أو تكذيبه ولم يقصد إيقاع الطلاق يمينا مكفرة ولهم في ذلك وجهة نظر مرفقة، وبالله التوفيق.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. . . .
هيئة كبار العلماء(5/91)
وجهة نظر
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه، وبعد: - فبناء على دراسة موضوع تعليق الطلاق من قبل مجلس هيئة كبار العلماء واختيار أكثرية الأعضاء وقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه سواء قصد الزوج الحث أو المنع أو تصديق خبر أو تكذيبه أو قصد إيقاع الطلاق، وقد وجه مختارو هذا القول اختيارهم وذكروا مستندهم من كلام أهل العلم إذ لا نعلم وجود نص من كتاب ولا سنة في الموضوع ولذلك حصل الاختلاف في وقوع الطلاق من عدمه. ورأينا نحن الموقعين أدناه أن الطلاق المعلق إن قصد الزوج بتعليقه على شيء وقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه اعتبر طلاقا كقوله: إن طلعت الشمس فأنت طالق. وإن قصد بتعليق الطلاق الحث أو المنع أو تصديق خبر أو تكذيبه لم يقع الطلاق عند حصول المعلق عليه إنما يكون يمينا تجب فيها الكفارة للأمور الآتية: -
الأول: أنه لم يقصد الطلاق وإنما قصد الحث أو المنع مثلا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(5/92)
الثاني: الطلاق المعلق لقصد المنع أو الحث يسمى يمينا في اللغة وفي عرف الفقهاء ولذا دخل في أيمان البيعة، وفي عموم اليمين في حديث الاستثناء في اليمين وفي عموم اليمين في حديث التحذير من اقتطاع مال امرئ مسلم بيمين فاجرة، وفي عموم الإيلاء، وفي عموم حديث «يمينك على ما يصدقك به صاحبك (1) » وفي عموم حديث «إياكم والحلف في البيع (2) » كما ذكر ذلك العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من المحققين، وإذا كان يمينا دخل في عموم قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (3) وقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (4) الآية فتجب فيها الكفارة.
الثالث: قياس الطلاق المعلق لقصد الحث أو المنع على ما ورد في قصة ليلى بنت العجماء وهي ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن سليمان التيمي عن بكر بن المزني قال أخبرني أبو رافع قال: قالت مولاتي ليلى بنت العجماء كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق زوجتك أو تفرق بينك وبين امرأتك قال فأتيت زينب بنت أم سلمة. إلخ - ثم ذكر أنه أتى حفصة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم وكلهم أفتاها بأن تكفر عن يمينها وتخلي بين الرجل وامرأته مع أن الهدي والصدقة والعتق أمور محبوبة لله تعالى يثيب فاعليها، ولم يأمرها أولئك بإنفاذ مقتضى حلفها بل اكتفوا منها بالكفارة فكيف يقال إن الطلاق الذي هو مكروه عند الله تعالى ولا يحبه من عباده يقع عند التعليق للحث والمنع إلخ. ولا يقع العتق والصدقة والهدي المحبوبة لله تعالى يكون ذلك يمينا مكفرة وقد اختار عدم وقوع الطلاق المعلق إذا أريد به الحث أو المنع مثلا جماعات من المحققين من السلف والخلف منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وهما هما في العلم والمعرفة والبصيرة.
الرابع: ما قيل عن تفرد سليمان التيمي بزيادة العتق في يمين ليلى بنت العجماء مردود برواية هذه الزيادة من طريقين غير طريق سليمان التيمي ولو فرضنا تفرد سليمان التيمي بهذه الزيادة لم يضره ذلك؛ لأن زيادة الثقة مقبولة كما هو معلوم في مصطلح أهل الأثر كيف وهو لم ينفرد بها ومع ذلك فهو أجل من روى أثر ليلى بنت العجماء عن بكر بن عبد الله وأفقههم، وما قيل من التعارض بين رواية عثمان بن حاضر للقصة دون هذه الزيادة وبين رواية سليمان التيمي التي فيها الزيادة فمردود بأن هذا لا يسمى تعارضا؛ لأن الزيادة التي ثبتت في رواية سليمان التيمي لا تتنافى مع أصل الأثر ولو فرض وجود التعارض فإن رواية سليمان أرجح من رواية عثمان وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم البحث في هذا المقام بحيث لم يبق معه لباحث مجال وقد ذكر بعضه في إعداد البحث.
__________
(1) صحيح مسلم الأيمان (1653) ، سنن الترمذي الأحكام (1354) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3255) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2121) ، مسند أحمد بن حنبل (2/228) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2349) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1607) ، سنن النسائي البيوع (4460) ، سنن ابن ماجه التجارات (2209) ، مسند أحمد بن حنبل (5/297) .
(3) سورة التحريم الآية 2
(4) سورة المائدة الآية 89(5/93)
الخامس ما ورد من الآثار عن الصحابة من الفتوى بوقوع الطلاق المعلق عند حصول المعلق عليه فإنه إما غير صحيح نقلا وإما صحيح معارض بمثله وإما صحيح لكنه فيما قصد به إيقاع الطلاق لا الحث على الفعل أو المنع منه فهو في غير محل النزاع فلا يكون فيه حجة على ما نحن بصدده والصواب التفصيل كما ذكرنا وعلى هذا لا تصح دعوى الإجماع على وقوع الطلاق المعلق وبالله التوفيق. . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عضو هيئة كبار العلماء ... عضو هيئة كبار العلماء ... عضو هيئة كبار العلماء ... عضو هيئة كبار العلماء ... عضو هيئة كبار العلماء ... عضو هيئة كبار العلماء ... عضو هيئة كبار العلماء
عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن حميد ... صالح بن لحيدان ... محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(5/94)
تحديد المهور.
هيئة كبار العلماء.(5/95)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد، فبناء على ما ورد من المقام السامي برقم 4 \ هـ 24185 وتاريخ شوال 1396هـ الموجه إلى سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من عرض موضوع تحديد المهور على هيئة كبار العلماء في الدورة القادمة فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا مختصرا في ذلك مشتملا على العناصر الآتية:
أولا: مهر زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وبناته.
ثانيا: ما عرف مهرها من سائر زوجات أصحابه رضي الله عنهم.
ثالثا: هل وجد في نصوص الشريعة حد للمهور؟
رابعا: قصة عمر مع من أنكرت عليه حديثه في تحديد المهور.
خامسا: ما الفرق بين تحديد أسعار الأعيان والمنافع وتحديد المهور.
سادسا: مبررات التحديد ومضار عدمه.
سابعا: هل تحديد المهور علاج واقعي ناجح وإن لم يكن فما العلاج؟(5/96)
تحديد المهور
أولا:
مهر زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم
روى مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال «سألت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا
قالت: أتدري ما النش؟
قلت: لا
قالت: نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم (1) » .
«وقال عمر رضي الله عنه ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية (2) » قال الترمذي حديث حسن صحيح، انتهى.
وروى أبو داود والنسائي «عن أم حبيبة رضي الله عنها أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف وبعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) صحيح مسلم النكاح (1426) ، سنن النسائي النكاح (3347) ، سنن أبو داود النكاح (2105) ، سنن ابن ماجه النكاح (1886) ، مسند أحمد بن حنبل (6/94) ، سنن الدارمي النكاح (2199) .
(2) سنن الترمذي النكاح (1114) ، سنن النسائي كتاب النكاح (3349) ، سنن أبو داود النكاح (2106) ، سنن ابن ماجه النكاح (1887) .(5/97)
مع شرحبيل بن حسنة (1) » وفي رواية «أن النجاشي زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم على صداق أربعة آلاف درهم وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل (2) » وعند النسائي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بأرض الحبشة زوجها النجاشي وأمهرها أربعة آلاف وجهزها من عنده وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة ولم يبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء وكان مهور نسائه أربعمائة درهم (3) » .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية " بنت حيي " وجعل عتقها صداقها (4) » أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي وهو طرف من حديث طويل أخرجه البخاري ومسلم.
__________
(1) سنن النسائي النكاح (3350) ، سنن أبو داود النكاح (2107) ، مسند أحمد بن حنبل (6/427) .
(2) سنن النسائي النكاح (3350) ، سنن أبو داود النكاح (2108) ، مسند أحمد بن حنبل (6/427) .
(3) سنن النسائي النكاح (3350) ، سنن أبو داود النكاح (2086) ، مسند أحمد بن حنبل (6/427) .
(4) صحيح البخاري النكاح (5086) ، صحيح مسلم النكاح (1365) ، سنن الترمذي النكاح (1115) ، سنن النسائي النكاح (3380) ، سنن أبو داود النكاح (2054) ، سنن ابن ماجه النكاح (1957) ، مسند أحمد بن حنبل (3/181) ، سنن الدارمي النكاح (2243) .(5/98)
ثانيا: من عرف مهرها من سائر زوجات أصحابه رضي الله عنهم.
روى البخاري في صحيحه بسنده عن سهل بن سعد الساعدي قال: «جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله جئت أهب لك نفسي
قال: فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد النظر فيها وصوبه، ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست، فقام رجل من أصحابه فقال يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها
فقال: وهل عندك من شيء؟
قال: لا، والله يا رسول الله
فقال: اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا فذهب ثم رجع
فقال: لا والله ما وجدت شيئا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انظر ولو خاتما من حديد، فذهب ثم رجع
فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد ولكن هذا إزاري
قال سهل ما له رداء - فلها نصفه-
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا فأمر به فدعي فلما جاء
قال: ماذا معك من القرآن؟
قال: معي سورة كذا وسورة كذا - عددها -(5/98)
فقال: تقرؤهن عن ظهر قلبك؟
قال: نعم
قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن (1) » .
هذا الحديث أخرجه أيضا مسلم في الصحيح ومالك في الموطأ وأبو داود والترمذي في السنن وهذا لفظ البخاري.
وفي رواية لأبي داود أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال نحو هذه القصة ولم يذكر الإزار والخاتم إلى أن قال: «وما تحفظ من القرآن؟ قال سورة البقرة والتي تليها قال: قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك (2) » .
وفي سنده: أبو قرة البصري وهو ضعيف ولكن للحديث شواهد بمعناه فهو حسن.
وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقا أو تمرا فقد استحل (3) » وفي رواية قال «كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نستمتع بالقبضة من الطعام على معنى المتعة (4) » .
وفي سنده موسى بن مسلم وهو ضعيف قال الحافظ ابن حجر في التلخيص وروي موقوفا وهو أقوى وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود في إسناده موسى بن مسلم وهو ضعيف وذكر أبو داود أن بعضهم رواه موقوفا وقال رواه أبو عاصم عن صالح بن رومان عن أبي الزبير عن جابر ثم ذكر الرواية الأخرى قال أبو داود رواه ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر على معنى أبي عاصم وهذا الذي رواه أبو داود معلقا قد أخرجه مسلم في صحيحه من حديث ابن جريج عن أبي الزبير قال سمعت جابر بن عبد الله يقول «كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) » .
وقال أبو بكر البيهقي وهذا وإن كان في نكاح المتعة، ونكاح المتعة قد صار منسوخا فإنما نسخ منه شرط الأجل فأما ما يجعلونه صداقا فإنه لم يرد فيه النسخ.
وروى الترمذي عن عبد الله بن عامر عن أبيه «أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ قالت نعم فأجازه (6) » أخرجه الترمذي.
وفي سنده عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب وهو ضعيف، وقال الترمذي: حديث عامر بن ربيعة حديث حسن صحيح قال الحافظ في بلوغ المرام بعد أن حكى تصحيح الترمذي هذا: إنه خولف في ذلك. وروى النسائي في سننه، قال: أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا محمد بن موسى، عن عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أم سليم قبل
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5087) ، صحيح مسلم النكاح (1425) ، سنن الترمذي النكاح (1114) ، سنن النسائي النكاح (3280) ، سنن أبو داود النكاح (2111) ، سنن ابن ماجه النكاح (1889) ، مسند أحمد بن حنبل (5/336) ، موطأ مالك النكاح (1118) ، سنن الدارمي النكاح (2201) .
(2) صحيح البخاري النكاح (5087) ، صحيح مسلم النكاح (1425) ، سنن الترمذي النكاح (1114) ، سنن النسائي النكاح (3280) ، سنن أبو داود النكاح (2111) ، سنن ابن ماجه النكاح (1889) ، مسند أحمد بن حنبل (5/336) ، موطأ مالك النكاح (1118) ، سنن الدارمي النكاح (2201) .
(3) سنن أبو داود النكاح (2110) .
(4) سنن أبي داود 2 \ 585
(5) صحيح مسلم النكاح (1405) .
(6) سنن الترمذي النكاح (1113) ، سنن ابن ماجه النكاح (1888) .(5/99)
أبي طلحة فخطبها فقالت إني قد أسلمت فإن أسلمت نكحتك فأسلم فكان صداق ما بينهما، وفي رواية أخبرنا محمد بن النضر بن مساور، قال: أنبأنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس، قال: خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: والله ما مثلك يا أبا طلحة يرد ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك فإن تسلم فذلك مهري ولا أسألك غيره، فأسلم وكان ذلك مهرها، قال ثابت: فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرا من أم سليم، الإسلام، فدخل بها فولدت له.
وروى أبو داود بسنده عن أنس رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه ردع زعفران.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " مهيم "؟
فقال يا رسول الله: تزوجت امرأة
قال ما أصدقتها؟
قال: وزن نواة من ذهب، قال: أولم ولو بشاة، (1) » وقد أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما (2) .
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار فأعني على مهرها
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل نظرت إليها فإن في عيون الأنصار شيئا
قال: قد نظرت إليها
قال: على كم تزوجتها؟
قال: على أربع أواق
قال: (وعلى أربع أواق؟) كأنكم تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل ما عندنا ما نعطيك ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه.
قال: فبعث بعثا إلى بني عبس فبعثه معهم (3) » .
وروى أبو داود عن عقبة بن عامر رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: أترضى أن أزوجك من فلانة؟
قال: نعم، وقال للمرأة أترضين أن أزوجك فلانا؟
قالت: نعم، فزوج أحدهما صاحبه فدخل بها الرجل ولم يفرض لها صداقا، ولم يعطها شيئا، وكان ممن شهد الحديبية وكان من شهد الحديبية له سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني
__________
(1) صحيح مسلم النكاح (1427) ، سنن الترمذي البر والصلة (1933) ، سنن النسائي النكاح (3388) ، سنن أبو داود النكاح (2109) ، سنن ابن ماجه النكاح (1907) ، مسند أحمد بن حنبل (3/271) ، موطأ مالك النكاح (1157) ، سنن الدارمي النكاح (2204) .
(2) الردع هو أثر الطيب، مهيم: أي ما شأنك أو ما هذا أو هي كلمة استفهام مبنية على السكون.
(3) صحيح مسلم النكاح (1424) .(5/100)
فلانة - يعني امرأته - ولم أفرض لها صداقا ولم أعطها شيئا، وإني أشهدكم أني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر فأخذته فباعته بعد موته بمائة ألف، (1) » قال أبو داود: وزاد عمر بن الخطاب (وحديثه أتم) في أول الحديث، قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم «خير النكاح أيسره (2) » وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل، ثم ساق معناه.
قال أبو داود: يخاف أن يكون هذا الحديث ملزقا؛ لأن الأمر على غير هذا.
__________
(1) سنن أبو داود النكاح (2117) .
(2) سنن أبو داود النكاح (2117) .(5/101)
ثالثا: هل وجد في نصوص الشريعة حد للمهور؟
لا نعلم دليلا من القرآن ولا من السنة يدل على تحديد المهور، فالأدلة التي جاءت في القرآن منها ما فيه التنبيه على جواز دفع المهر الكثير ومنها ما هو عام يشمل القليل والكثير، والأدلة التي جاءت من السنة الدالة على تفسير هذا العموم بجوازه بالقليل والكثير، ونحن نذكر فيما يلي نقولا عن أهل العلم بعدم التحديد ثم نتبعها بالأدلة من القرآن ثم الأدلة من السنة.
أما النقول عن أهل العلم فمن ذلك:
قال القرطبي: " وقد أجمع العلماء على أن لا تحديد في أكثر الصداق " (1) .
قال ابن قدامة: وأما أكثر الصداق فلا توقيت فيه بإجماع أهل العلم قاله ابن عبد البر (2) انتهى.
وأما الدليل من القرآن المنبه على جواز كثرة المهر فهو قوله تعالى {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (3) الآية.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: فيها دليل على جواز المغالاة في المهور؛ لأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح (4) انتهى.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 5 \ 101
(2) المغني 7 \ 138
(3) سورة النساء الآية 20
(4) تفسير القرطبي 5 \ 99.(5/101)
وقال ابن كثير: في الآية دليل على جواز الإصداق بالمال الكثير (1) انتهى. وأما ما جاء من القرآن عاما يشمل القليل والكثير فمن ذلك قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (2) .
وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (3) فإن لفظ الأموال ولفظ الأجور عام يشمل القليل والكثير.
وأما الأدلة التي جاءت من السنة دالة على وقائع مختلفة حصل فيها تفاوت كبير في المهور كمهر زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وبناته رضي الله عنهن، وما عرف من مهور زوجات أصحابه رضي الله عنهم كالتزويج على ما مع المتزوج من القرآن، والتزويج على النعلين، وعلى وزن نواة من ذهب، وعلى أربع أواق فقد سبق ذكر ذلك في الأمر الأول والثاني.
__________
(1) تفسير ابن كثير2 \ 466
(2) سورة النساء الآية 24
(3) سورة المائدة الآية 5(5/102)
رابعا: قصة عمر مع من أنكرت عليه حديثه في تقليل المهور
روى أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي العجفاء السلمي قال: «خطبنا عمر يوما فقال: " ألا لا تغالوا في صدقات النساء فإن ذلك لو كان مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدق امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية (1) » هذه رواية أبي داود.
وفي رواية الترمذي بعد قوله: " كان أولاكم بها نبي الله صلى الله عليه وسلم «ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية (2) » .
__________
(1) سنن النسائي كتاب النكاح (3349) ، سنن أبو داود النكاح (2106) ، سنن ابن ماجه النكاح (1887) ، مسند أحمد بن حنبل (1/41) ، سنن الدارمي النكاح (2200) .
(2) سنن الترمذي النكاح (1114) ، سنن النسائي كتاب النكاح (3349) ، سنن أبو داود النكاح (2106) ، سنن ابن ماجه النكاح (1887) ، مسند أحمد بن حنبل (1/48) ، سنن الدارمي النكاح (2200) .(5/102)
وأخرج النسائي الأولى وزاد عليها: وإن الرجل ليغلي بصدقة المرأة حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول: كلفت لكم علق القربة - وكنت غلاما عربيا مولدا فلم أدر ما علق القربة " انتهى المقصود.
وقال القرطبي في تفسيره: «وخطب عمر فقال: ألا لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية فقامت إليه امرأة
فقالت يا عمر: يعطينا الله وتحرمنا، أليس الله سبحانه وتعالى يقول: قال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر، وفي رواية فأطرق عمر
ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر، وفي أخرى: امرأة أصابت ورجل أخطأ والله المستعان (2) » .
وترك الإنكار أخرجه أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي العجفاء السلمي، قال: خطب عمر الناس فذكره إلى قوله: اثنتي عشرة أوقية، ولم يذكر فقامت امرأة إلى آخره، وأخرجه ابن ماجه في سننه عن أبي العجفاء وزاد بعد قوله: أوقية وإن الرجل ليغلي صدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه ويقول وقد كلفت إليك علق القربة أو عرق القربة وكنت رجلا عربيا مولدا ما أدري ما علق القربة أو عرق القربة (3) .
وقال ابن كثير في تفسيره: وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق ثم رجع عن ذلك كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين قال: نبئت «عن أبي العجفاء السلمي قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: ألا لا تغلوا في صداق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول كلفت إليك علق القربة، (4) » ثم رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن محمد بن سيرين عن أبي العجفاء واسمه هرم بن سيب البصري وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
طريق أخرى عن عمر قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن عبد الرحمن، عن خالد بن سعيد، عن الشعبي، عن مسروق قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس ما إكثاركم في صداق النساء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها فلأعرفن ما زاد الرجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم، قال: ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم؟ قال: نعم فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن، قال: وأي ذلك قالت أما سمعت الله يقول {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (5) الآية، قال: فقال: اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر، فقال: أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب، قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل، إسناده
__________
(1) سنن النسائي كتاب النكاح (3349) ، سنن أبو داود النكاح (2106) ، سنن ابن ماجه النكاح (1887) ، سنن الدارمي النكاح (2200) .
(2) سورة النساء الآية 20 (1) {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}
(3) تفسير القرطبي 5 \ 99
(4) سنن النسائي كتاب النكاح (3349) ، سنن أبو داود النكاح (2106) ، سنن ابن ماجه النكاح (1887) ، مسند أحمد بن حنبل (1/41) ، سنن الدارمي النكاح (2200) .
(5) سورة النساء الآية 20(5/103)
جيد قوي، طريق أخرى، قال ابن المنذر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق عن قيس بن ربيع عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال عمر بن الخطاب لا تغالوا في مهور النساء فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر إن الله يقول " وآتيتم إحداهن قنطارا من ذهب " - قال وكذلك هي من قراءة عبد الله بن مسعود - فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئا فقال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته.
(طريق أخرى عن عمر فيها انقطاع) قال الزبير بن بكار: حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال: قال عمر بن الخطاب لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي القصة. يعني يزيد بن الحصين الحارثي فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال فقالت امرأة من صفة النساء طويلة في أنفها فطس: ما ذاك لك، قال ولم؟ قالت إن الله قال {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (1) الآية فقال عمر امرأة أصابت وأخطأ عمر (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 20
(2) تفسير ابن كثير 1 \ 466 وما بعدها(5/104)
خامسا: ما الفرق بين تحديد أسعار الأعيان والمنافع وتحديد المهور؟
تحديد الأسعار بالنسبة للأعيان والمنافع محل خلاف بين أهل العلم وقد سبق أن أعد في ذلك بحث ووزع على أصحاب السماحة والفضيلة أعضاء المجلس في الدورة الثامنة وبإمكانهم الرجوع إليه ولكن الفرق بين تحديد الأسعار في الأعيان والمنافع عند من يقول به وتحديد المهور يمكن أن يقال بأن تحديد أسعار الأعيان والمنافع يمكن ضبطه أما تحديد المهور فلا يمكن ضبطه؛ لأن العادات في إظهار الاهتمام مختلفة والرغبات لها مراتب متفاوتة وظروف الناس وأمكنتهم وقدراتهم تختلف فيعطي كل بحسب حاله ومع ذلك فقد ورد التنبيه في السنة إلى اليسر في ذلك وعدم التغالي فيه ومنه حديث «إن من خير النساء أيسرهن صداقا» رواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس وحديث «إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير إصداقها (1) » رواه أحمد والحاكم والبيهقي من حديث عائشة.
ويمكن أن يقال: إن الفرق بينهما أن المعاوضة في السلع والمنافع يغلب عليها المغالبة أما بذل المال في النكاح فيغلب عليه قصد التكرم دون المغالبة.
ويمكن أن يقال أيضا هناك فرق آخر وهو أن المقصود في المعاملات المالية سواء أكانت أعيانا أو منافع هو المال، أما في النكاح فالمقصود ذات المرأة والاستمتاع بها وذات الزوج لا المال.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (6/77) .(5/104)
سادسا: مبررات التحديد ومضار عدمه
أ- مبررات التحديد: قد يقال إن للتحديد مبررات كثيرة منها:
1 - تيسير الزواج.
2 - بقاء النسل وتكثيره بطريق شرعي.
3 - خلو المجتمع من العناصر الفاسدة ومن الفساد.
4 - عمار الأرض بآلات صالحة.
5 - حفظ كيان الأسرة والعمران بنسل شرعي.
6 - تحصين الفروج وغض البصر.
7 - استفراغ الشهوة واستنزاف مواد المضرة وإصلاح الجسد بالطريق الشرعي.
ب- مضار عدمه: قد يقال إن لعدم التحديد مضارا كثيرة منها:
1 - قلة الزواج؛ لأن الغلو في المهور يكلف الرجال ما لا طاقة لهم به.
2 - قلة الزواج تؤدي إلى انتشار الفساد بين الرجال والنساء وبين الرجال أنفسهم وبين النساء أنفسهن فتكثر الفواحش بسبب ذلك.
3 - وجود شيء من هذه المفاسد في شخص ما تجعله عضوا أشل لا ينتفع به في مجال البناء السليم دينيا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا وصناعيا وغير ذلك من الأمور التي تنفع دنيا وأخرى.
4 - المجتمع الذي تنتشر به هذه المفاسد يكون مجتمعا غير مترابط.
5 - يضاف إلى ما سبق أن الشخص إذا تعذر عليه الزواج من بلده نتيجة غلاء المهر اضطر إلى أن يتزوج من الخارج والزواج بالأجنبية في هذا الوقت له آثاره السيئة على الفرد والأسرة والمجتمع والدولة.
6 - قد يؤدي عدم التحديد إلى أن المرأة هي التي تخطب الرجل مستقبلا وتدفع له المهر كما هي عادة غير المسلمين.
7 - من النتائج السيئة لعدم التحديد أن الآباء قد يمنعون الأكفاء لأنهم لا يستطيعون دفع مهر كثير ويزوجون غير الأكفاء لأنهم يدفعون ما يرضي الآباء من المهر.
إذا علم ما سبق من المصالح المترتبة على التحديد والمفاسد الناشئة عن عدم التحديد فإن من القواعد المقررة في الشريعة أن المصالح إذا تعارضت قدم أرجحها، وأن المفاسد إذا لم يمكن تركها كلها وجب ترك أعظمها ضررا ولو بارتكاب أقلها ضررا، وإذا تعارضت المصالح والمفاسد قدم الراجح منها، وإذا تساوت في نظر المجتهد فإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.(5/105)
سابعا: هل تحديد المهور علاج واقعي ناجح، وإن لم يكن فما العلاج
قد يقال إن تحديد المهور ليس بعلاج عملي ناجح في دفع مغالاة الناس فيها لأمور:
أحدها: أن الناس جبلوا على التقليد فينظر الضعيف منهم للقوي والفقير للغني فإذا وجدوا الوجهاء والأغنياء غلوا في مهور بناتهم أو من يتزوجونهن مجاملة أو إكراما أو فخرا قلدوهم في ذلك.
الثاني: أن النقود اليوم قد هبطت قيمتها نتيجة لعدة عوامل فالشيء الذي يساوي مائة ريال سابقا- مثلا- يساوي اليوم عشرين ألفا تقريبا فإذا قيست على المهور سابقا فقد لا تعتبر مغال فيها وربما تعلل أولياء البنات بهذا وادعوا أن ما تعطاه البنت من المهر لا يقوم بما تحتاجه لتستعد بما يلزم لزواجها من الأثاث والملابس وغيرها.
الثالث: الإبقاء على النكاح والتخلص منه بيد الزوج فإذا حددت المهور بمبلغ فربما يسهل على الزوج أمر الطلاق ويكثر منه وهذا مما لا يتفق مع مقاصد الشريعة في النكاح من الاستقرار وطمأنينة النفس وبناء الأسرة.
وقد يقال إن العلاج ممكن بدون تحديد وذلك بما يأتي:
أ- توعية الناس بطرق الإعلام والخطابة في الجوامع والمجامع المناسبة ويركز على تحذير الأولياء من العضل ويرغب الناس في الاصطلاح بينهم على مهر معين وذلك بأن يتفق أهل كل بلد أو كل قبيلة على مقدار معين.
ب- منع الناس من الإسراف في مراسم الزواج.
ج- التطبيق العملي من الطبقة الواعية من الناس بأن يزوجوا مولياتهم من الأكفاء ويقتنعوا بما تيسر. هذا ما تيسر ذكره.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(5/106)
قرار رقم 52 وتاريخ 4 \ 4 \ 1397هـ
الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبي بعده وبعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء قد اطلع في دورته العاشرة المعقودة في مدينة الرياض فيما بين يوم 21 \ 3 \ 1397هـ و \ 4 \ 1397هـ على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة من هيئة كبار العلماء في موضوع تحديد مهور النساء بناء على ما قضى به أمر سمو نائب رئيس مجلس الوزراء من عرض هذا الموضوع على هيئة كبار العلماء لإفادة سموه بما يتقرر وجرى استعراض بعض ما رفع للجهات المسئولة عن تمادي الناس في المغالاة في المهور والتسابق في إظهار البذخ والإسراف في حفلات الزواج ويتجاوز الحد في الولائم وما يصحبها من إضاءات عظيمة خارجة عن حد الاعتدال ولهو وغناء بآلات طرب محرمة بأصوات عالية قد تستمر طول الليل حتى تعلو في بعض الأحيان على أصوات المؤذنين في صلاة الصبح وما سبق ذلك من ولائم الخطوبة وولائم عقد القران كما استعرض بعض ما ورد في الحث على تخفيف المهور والاعتدال في النفقات والبعد عن الإسراف والتبذير فمن ذلك قول الله تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (1) {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (2) - وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال «سألت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا قالت: أتدري ما النش؟ قلت: لا قالت: نصف أوقية فذلك خمسمائة درهم (3) » .
وقال عمر رضي الله عنه: «ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية (4) » قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج امرأة رجلا بما معه من القرآن» .
وروى الترمذي وصححه «أن عمر رضي الله عنه قال لا تغلوا في صداق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون عداوة في نفسه وحتى يقول كلفت لك علق القربة (5) » والأحاديث والآثار في الحض على الاعتدال في النفقات والنهي عن تجاوز الحاجة كثيرة معلومة وبناء على ذلك ولما يسببه هذا التمادي في المغالاة في المهور والمسابقة في التوسع في الولائم بتجاوز الحدود المعقولة وتعدادها قبل الزواج وبعده وما صاحب ذلك من أمور محرمة تدعو إلى تفسخ الأخلاق من غناء واختلاط الرجال بالنساء في بعض الأحيان ومباشرة الرجال لخدمة النساء في الفنادق إذا أقيمت الحفلات
__________
(1) سورة الإسراء الآية 26
(2) سورة الإسراء الآية 27
(3) صحيح مسلم النكاح (1426) ، سنن النسائي النكاح (3347) ، سنن أبو داود النكاح (2105) ، سنن ابن ماجه النكاح (1886) ، مسند أحمد بن حنبل (6/94) ، سنن الدارمي النكاح (2199) .
(4) سنن الترمذي النكاح (1114) ، سنن النسائي كتاب النكاح (3349) ، سنن أبو داود النكاح (2106) ، سنن ابن ماجه النكاح (1887) ، مسند أحمد بن حنبل (1/48) ، سنن الدارمي النكاح (2200) .
(5) سنن الترمذي النكاح (1114) ، سنن النسائي كتاب النكاح (3349) ، سنن أبو داود النكاح (2106) ، سنن ابن ماجه النكاح (1887) ، مسند أحمد بن حنبل (1/41) ، سنن الدارمي النكاح (2200) .(5/107)
فيها مما يعد من أفحش المنكرات، ولما يسببه الانزلاق في هذا الميدان من عجز الكثير من الناس عن نفقات الزواج فيجرهم ذلك إلى الزواج من مجتمع لا يتفق في أخلاقه وتقاليده مع مجتمعنا فيكثر الانحراف في العقيدة والأخلاق بل قد يجر هذا التوسع الفاحش إلى انحراف الشاب من بنين وبنات، ولذلك كله فإن مجلس هيئة كبار العلماء يرى ضرورة معالجة لهذا الوضع معالجة جادة وحازمة بما يلي:
1 - يرى المجلس منع الغناء الذي أحدث في حفلات الزواج بما يصحبه من آلات اللهو وما يستأجر له من مغنيين ومغنيات وبآلات تكبير الصوت؛ لأن ذلك منكر محرم يجب منعه ومعاقبة فاعله.
2 - منع اختلاط الرجال بالنساء في حفلات الزواج وغيرها ومنع دخول الزوج على زوجته بين النساء السافرات ومعاقبة من يحصل عندهم ذلك من زوج وأولياء الزوجة معاقبة تزجر عن مثل هذا من المنكر.
3 - منع الإسراف وتجاوز الحد في ولائم الزواج وتحذير الناس من ذلك بواسطة مأذوني عقود الأنكحة وفي وسائل الإعلام وأن يرغب الناس في تخفيف المهور ويذم لهم الإسراف في ذلك على منابر المساجد وفي مجالس العلم وفي برامج التوعية التي تبث في أجهزة الإعلام.
4 - يرى المجلس بالأكثرية معاقبة من أسرف في ولائم الأعراس إسرافا بينا وأن يحال بواسطة أهل الحسبة إلى المحاكم لتعزر من يثبت مجاوزته الحد بما يراه الحاكم الشرعي من عقوبة رادعة زاجرة تكبح جماح الناس عن هذا الميدان المخيف؛ لأن من الناس من لا يمتنع إلا بعقوبة وولي الأمر - وفقه الله - عليه أن يعالج مشاكل الأمة بما يصلحها ويقضي على أسباب انحرافها وأن يوقع على كل مخالف من العقوبة ما يكفي لكفه.
5 - يرى المجلس الحث على تقليل المهور والترغيب في ذلك على منابر المساجد وفي وسائل الإعلام وذكر الأمثلة التي تكون قدوة في تسهيل الزواج إذا وجد من الناس من يرد بعض ما يدفع إليه من مهر أو اقتصر على حفلة متواضعة لما في القدوة من التأثير.
6 - يرى المجلس أن من أنجح الوسائل في القضاء على السرف والإسراف أن يبدأ بذلك قادة الناس من الأمراء والعلماء وغيرهم من وجهاء الناس وأعيانهم وما لم يمتنع هؤلاء من الإسراف وإظهار البذخ والتبذير فإن عامة الناس لا يمتنعون من ذلك لأنهم تبع لرؤسائهم وأعيان مجتمعهم فعلى ولاة الأمر أن يبدءوا في ذلك بأنفسهم ويأمروا به ذوي خاصتهم قبل غيرهم ويؤكدوا على ذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم واحتياطا لمجتمعهم لئلا تتفشى فيه العزوبة التي ينتج عنها انحراف الأخلاق وشيوع الفساد وولاة الأمر مسئولون أمام الله عن هذه الأمة وواجب عليهم كفهم عن السوء ومنع أسبابه عنهم وعليهم تقصي الأسباب التي تثبط الشباب عن الزواج - ليعالجوها بما يقضي على هذه الظاهرة والحكومة أعانها الله ووفقها قادرة بما أعطاها الله من إمكانات متوفرة ورغبة أكيدة في الإصلاح أن تقضي على كل ما يضر بهذا المجتمع أو يوجد فيه أي انحراف وفقها الله لنصرة دينه وإعلاء كلمته وإصلاح عباده وأثابها أجزل الثواب في الدنيا والآخرة وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء(5/108)
تحديد النسل
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه، وبعد: -
فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في النصف الأول من شهر شعبان سنة 1395هـ من إدراج موضوع تحديد النسل في جدول أعمال الدورة الثامنة للهيئة المزمع عقدها في النصف الأول من شهر ربيع الآخر عام 1396هـ أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته ما يلي: -
1 - ترغيب الشريعة الإسلامية في التناسل.
2 - الفرق بين منع الحمل وتحديد النسل وتنظيمه.
3 - البواعث التي تدعو إلى الأخذ بها مع مناقشتها.
4 - الوسائل التي تتخذ لمنع الحمل أو تحديد النسل أو تنظيمه مع بيان آثارها.
5 - بيان الحكم مع الأدلة.
والله الموفق،. . .(5/110)
تحديد النسل
1 - الترغيب في النكاح وبيان مقاصده
شرع الله- جلت حكمته- الزواج لحكم كثيرة منها: أنه أحصن للفرج وأغض للبصر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (1) » رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن، ومنها: الإبقاء على الجنس البشري في الأرض لعمارتها وإصلاحها؛ تحقيقا لما أراده الله تعالى قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (2) {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (3) {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (4) {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (5) .
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5066) ، صحيح مسلم النكاح (1400) ، سنن الترمذي النكاح (1081) ، سنن النسائي الصيام (2240) ، سنن أبو داود النكاح (2046) ، سنن ابن ماجه النكاح (1845) ، مسند أحمد بن حنبل (1/378) ، سنن الدارمي النكاح (2166) .
(2) سورة البقرة الآية 30
(3) سورة البقرة الآية 31
(4) سورة البقرة الآية 32
(5) سورة البقرة الآية 33(5/111)
ومنها: كثرة الأولاد الذي يتم بهم بناء الأسرة، وتقوى بهم الأمة، ويتحقق التعاون بينهم - لعمارة الأرض، ولذا عد الله سبحانه الذرية نعمة منه على الناس تستوجب منهم أن يشكروه ولا يكفروه، وأن يتقوه؛ رجاء رحمته، وخوف عذابه، وأن يصلوا أرحامهم؛ أداء لحق القرابة، وتقوية لأواصرها حتى يكونوا عباد الله إخوانا متحابين، قال الله تعالى في بيان كمال قدرته وعظيم منته على عباده {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) .
ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم- عن التبتل، وأمر بالزواج، وحبب إلى الرجال التزوج بالودود الولود خاصة، تحقيقا لرغبته في المباهاة بأمته يوم القيامة، فعن أنس أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالباءة، وينهى عن التبتل نهيا شديدا، ويقول: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة (2) » رواه الإمام أحمد، وأخرجه ابن حبان وصححه. وعن عبد الله بن عمر أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «انكحوا أمهات الأولاد، فإني أباهي بكم يوم القيامة (3) » رواه الإمام أحمد، وأشار إليه الترمذي في جامعه، وقال. . في مجمع الزوائد: فيه جرير بن عبد الله العامري، وقد وثق وهو ضعيف، وعن معقل بن يسار قال: «جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد، فأتزوجها؟ قال: " لا " ثم أتاه الثانية " فنهاه " ثم أتاه الثالثة فقال: " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم (4) » رواه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم، وفي الباب أحاديث كثيرة وفي بعضها ضعف، لكن مجموعها يدل على المقصود من الترغيب في النكاح وخاصة نكاح الولود، وقد بين الغزالي مقاصد النكاح وفوائده فقال: إن النكاح معين على الدين، ومهين للشياطين، وحصن دون عدو الله حصين، وسبب للتكثير الذي به مباهاة سيد المرسلين لسائر النبيين، فما أحراه بأن تتحرى أسبابه، وتشرح مقاصده وآدابه. ثم قال: في الزواج فوائد خمسة: الولد، وكسر الشهوة، وتدبير المنزل، وكثرة العشيرة، ومجاهدة النفس بالقيام بهن. . ثم ذكر أنه إذا قصد بالزواج- التناسل كان قربة يؤجر عليها من حسنت نيته. وبين ذلك بوجوه:
__________
(1) سورة النساء الآية 1
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/158) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (2/172) .
(4) سنن النسائي النكاح (3227) ، سنن أبو داود النكاح (2050) .(5/112)
أولا: موافقة محبة الله في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان.
ثانيا: طلب محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تكثير من به مباهاة.
ثالثا: طلب البركة وكثرة الأجر ومغفرة الذنب بدعاء الولد الصالح له بعده.
وأكد الغزالي أن الوجه الأول أقواها وأظهرها لذوي الألباب، وضرب لذلك مثلا خلاصته: سيد أعطى عبده بذورا وآلات حراثة وأرضا صالحة للزراعة ووكل به رقيبا يستحثه فإن تراخى العبد في الحراثة والزرع ونحى ذلك الوكيل الذي يستحثه فقد استوجب غضب سيده وطرده، والله تعالى خلق الزوجين الذكر والأنثى وزود كلا منهما بخواصه. وجعل الشهوة فيهما قوة دافعة إلى إظهار حكمته تعالى في التناسل والإنجاب، فمن انحرف عن ذلك أو عارضه فهو متحد لسنن الله في الكون مستوجب لغضبه وسخطه (1) .
ومن المعلوم أن الأولاد منذ القديم كانوا أمنية الناس حتى الأنبياء والمرسلين وسائر عباد الله الصالحين، وسيظلون كذلك ما سلمت فطرة الإنسان، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (2) ولما دعا إبراهيم قومه إلى توحيد الله وعبادته دون سواه وصبر على أذاهم وثابر على دعوتهم ألقوه في النار وأنجاه الله منها، واعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهب له إسماعيل ثم إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب استجابة لقوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} (3) بشره بإسماعيل أولا، ولما بلغ معه السعي ابتلاه فيه، وأمره بذبحه، وآثر امتثال أمر ربه على حبه لولده، وصدق في تنفيذ أمره، فبشره ثانيا بإسحاق نبيا من الصالحين، وجعل النبوة في ذرية خليله من بعده، جزاء كريما بصبره على الأذى في سبيل الدعوة إلى الله ونجاحه أتم نجاح فيما ابتلاه الله به من كلمات. فالأولاد نعمة تتعلق بها قلوب البشر وترجوها؛ لتأنس بها من الوحشة، وتقوى بها عند الوحدة، وتكون قرة عين لها في الدنيا والآخرة، ولذا طلبها إبراهيم الخليل عليه السلام فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} (4) وطلب زكريا عليه السلام من ربه ذرية طيبة، قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} (5) وقال: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} (6) {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (7) {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (8) {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} (9) {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (10) {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} (11) وأثنى سبحانه
__________
(1) الجزء الثاني من كتاب إحياء علوم الدين
(2) سورة الأعراف الآية 189
(3) سورة الصافات الآية 100
(4) سورة الصافات الآية 100
(5) سورة الأنبياء الآية 89
(6) سورة مريم الآية 2
(7) سورة مريم الآية 3
(8) سورة مريم الآية 4
(9) سورة مريم الآية 5
(10) سورة مريم الآية 6
(11) سورة مريم الآية 7(5/113)
على عباده الصالحين بمحامد كثيرة منها قوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (1) وأخبر تعالى أن شعيبا عليه الصلاة والسلام أمر قومه أن يذكروا نعمة الله عليهم إذ جعلهم كثرة بعد قلة قال: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} (2) وذلك لتشكروه ولا تكفروه وليعرفوا لله حقه وللعباد حقوقهم، فاعتبر تكثيرهم بعد القلة نعمة عظمى توجب عليهم طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة الفرقان الآية 74
(2) سورة الأعراف الآية 86(5/114)
2 - الفرق بين منع الحمل وتنظيمه وتحديد النسل
1 - منع الحمل هو استعمال الوسائل التي يظن أنها تحول بين المرأة وبين الحمل كالعزل وتناول العقاقير ووضع اللبوس ونحوه في الفرج، وترك الوطء في وقت الإخصاب، ونحو ذلك.
2 - تحديد النسل هو الوقوف بالإنسال عند الوصول إلى عدد معين من الذرية باستعمال وسائل يظن أنها تمنع من الحمل.
3 - تنظيم الحمل هو استعمال وسائل معروفة لا يراد من استعمالها إحداث العقم أو القضاء على وظيفة جهاز التناسل بل يراد بذلك الوقوف عن الحمل فترة من الزمن لمصلحة ما يراها الزوجان أو من يثقان به من أهل الخبرة.
فالقصد من الأول عدم التناسل أصلا سواء أصيب جهاز التناسل بعقم أم لا.
والقصد من الثاني تقليل عدد النسل بالوقوف به عند غاية، سواء أصيب جهاز التناسل بعد هذه الغاية بعقم أم لا.
والقصد من الثالث مراعاة حال الأسرة وشئونها من صحة أو قدرة على الخدمة مع مراعاة الإبقاء على استعداد جهاز التناسل للقيام بوظيفته.(5/114)
بواعث منع الحمل وتحديد النسل مع المناقشة.
إن الدعاة إلى تحديد النسل ومنع الحمل قد اعتمدوا على عدة دواع وأسباب في دعايتهم لرأيهم وترويجهم له نذكرها فيما يلي مع مناقشتها:
الأول أن مساحة الأرض محدودة والصالح منها لسكنى الناس والزراعة وإنتاج ما يحتاجه الناس محدود، وأن وسائل المعاش الأخرى من الصناعة والصيد، وتربية المواشي، والتجارة، ونحوها محدودة أيضا. أما تناسل الناس فهو في نمو مستمر وزيادة غير محدودة فإذا استمر الحال على ذلك ضاقت الأرض بسكانها ولم تسعهم وسائل المعاش، ولم تكف لقوتهم وكسوتهم، وهبط مستواهم في جميع النواحي صحة وعلما وثقافة، وانتهى بهم الأمر إلى أن يعيشوا عيشة بؤس وشقاء أو أن يهلكوا نتيجة للعري والجوع والنزاع والتناحر على لقمة العيش، وما يدفع عنهم غائلة الحر والبرد فوجب أن يتخذ ما يلزم من وسائل لتحديد النسل، والوقوف به عند غايته، إنقاذا للناس من خطر داهم قد ظهرت بوادره وأنذرتهم سوء المصير.
المناقشة.
أولا: الحكم في أن زيادة التناسل وتضاعف عدد الناس في المستقبل يفضي إلى ضيق الأرض عن سكناهم وضيق وسائل المعاش العديدة عن أن تسعهم وتكفي لسد حاجتهم حكم مبناه الخرص والتخمين والنظر الاقتصادي الخاطئ الذي كذبه الواقع إن الأرض لم تضق بسكانها مع كثرة نموهم وتزايدهم، ولم تزل وسائل المعاش تتسع لهم منذ خلقوا إلى يومنا الحاضر، وقد قرر ذلك كثير من علماء الاقتصاد وخطئوا النظرية الاقتصادية التي يبني عليها دعاة تحديد النسل رأيهم.
ثانيا: إن دعوى أن مساحة الأرض التي تصلح للسكنى والزراعة والإنتاج محدودة دعوى غير صحيحة فإن ما سكن من الأرض وما استثمر منها في الزراعة والإنتاج وإخراج دفائنه وخاماته قدر ضئيل بالنسبة لما لم يسكن وما لم يستغل غير أنه يحتاج إلى تهيئة للسكنى والاستثمار وسعة في العلم بالكونيات وما أودعه الله في الأرض(5/115)
ومعرفة بطرق استخراجها وتخليصها وخبرة بخواصها وكيفية استغلالها والانتفاع بها، فعلى تقدير وجود مشكلة فهي لم تنشأ عن كثرة تناسل وتكاثف السكان وإنما نشأت من الجهل بما أودعه الله في الأرض من خيرات، وقلة العلم بطرق الاستغلال وإهمال الناس أو إعراضهم عن العمل والسعي لكسب ما فيه سعة ورخاء ونهوض بهم وارتقاء.
ثالثا: إن ضرورة الناس وشدة حاجتهم ألجأتهم إلى تهيئة ما يستطيعون من الأرض وإصلاحه للسكنى والزراعة واضطرتهم أن يتعلموا من العلوم الكونية ما يساعدهم على التوسع في ذلك، ويفتح لهم أبوابا كثيرة لمعرفة الوسائل العديدة التي تقوم عليها حياة الناس، وتجعلهم مترفين منعمين، ولا يزالون يجدون في العمل ويدأبون فيه بدافع فطرتهم وغرائزهم حتى تكشفت لهم وسائل عمرانية لم يعهدوها من قبل، وعرفوا كثيرا من طرق الكسب والمعاش والنهوض والرخاء لم تكن تخطر لهم ببال، وليس ببعيد لو عرضت عليهم من قبل أن يقول قائلهم إنها سحر أو ضرب من ضروب الخيال، وما ندري ما يسفر عنه المستقبل من شئون الحياة التي قدرها الله لعباده، وأودع لهم أصولها في أبواب السماء وخزائن الأرض، وجعل لهم من الأفكار والعلوم ما به يتمكنون من تسخيرها لمصالحهم وسعادتهم، قال الله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} (1) {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (2) {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (3) ومن نظر في زيادة المساحة المعمورة من الأرض وتحويلها إلى قصور شاهقة وزروع مثمرة وجنات فيحاء ممتعة، ونظر إلى زيادة وسائل العيش وكثرتها وتنوعها وجدها تتضاعف مضاعفة مطردة مع نمو السكان وزيادة عددهم، ولا عجب في ذلك، فإنهم الأيدي العاملة التي خلقها الله لعمارة الأرض وإنها لسنة الله سبحانه في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولولا ذلك لكانت الأرض خرابا يبابا، أو وقف بها العمران عند غاية تتفق مع عدد السكان وقدراتهم ومعارفهم حسب ما تقضي به سنة الله سبحانه في الأسباب العادية ونتائجها، وإن الواقع لأقوى وأعدل شاهد لما تقدم وإنه لدليل واضح على خطأ النظرية الاقتصادية التي بنى عليها دعاة تحديد النسل مقالتهم، وقد اضطر هذا الواقع كثيرا من علماء الاقتصاد أن يردوا على إخوانهم دعاة تحديد النسل مذهبهم وأن يبينوا لهم مخالفته لواقع الحال وحقيقة الأمر، ولذلك أيضا رجع عن هذا الرأي كثير ممن كانوا يدعون إليه حينما أحسوا بعواقبه السيئة من ضعف في قوى حماية البلاد والدفاع عنها، وفي قوى الإنتاج لقلة الأيدي العاملة. إلخ. ودعوا إلى التناسل ورغبوا في كثرته بإعطاء المكافآت إنقاذا لأنفسهم من الخطر الذي أصابهم من جراء الدعوة المشؤومة إلى تحديد النسل وبهذا يعرف فساد ما زعمه بعضهم من أن عدم تحديد النسل يخرج للأمة أولادا لا حاجة إليهم، ولا يفيدونها في ميدان الحياة، وربما
__________
(1) سورة الذاريات الآية 20
(2) سورة الذاريات الآية 21
(3) سورة الذاريات الآية 22(5/116)
ولدوا مرضى فيكونون كلا على أولياء أمورهم أو على حكومتهم، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند الكلام على مضار وسائل تحديد النسل أو منعه أو تنظيمه.
رابعا: إن الدعاة إلى تحديد النسل خشية أن تضيق الأرض بالسكان، وخشية أن تضيق بهم وسائل العيش من كثرتهم مع خطئهم في تقديرهم وقصور عقولهم يظنون بالله الظنون، ويتدخلون في تقديره لشئون عباده، وهذا هو الضلال البعيد، فإن الله هو الذي خلق عباده، وهو الذي يدبر معايشهم، وهو الرزاق ذو القوة المتين، وقد قدر أرزاقهم وما يجري عليهم في جميع أحوالهم قبل أن يكونوا، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (1) وقال {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (2) وقال {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (3) وقد أنكر على المشركين قتلهم أولادهم خشية الفقر، لاشتماله على جرائم، جريمة قتل النفس، وجريمة ظن السوء بالله، ودخول الإنسان فيما لا يعنيه مما هو شأن من شئون الله، وكل من قتل النفس وظن السوء بالله، والدخول فيما هو من شئون الله وحده جريمة، قال الله تعالى {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (4) وقال {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (5) وقال تعالى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (6) فمن حدد النسل بإجهاض قد يكون مرتكبا لهذه الجرائم الثلاث أو لبعضها، ومن حدده بمنع الحمل بوسيلة غير الإجهاض فهو مرتكب لجريمة ظن السوء بالله، وجريمة الدخول فيما هو من شئونه وحده، وكفى بذلك عدوانا وضلالا مبينا.
الثاني: ذكر دعاة تحديد النسل أن الفطرة وضعت حدا مناسبا لتنظيم النسل والمنع من تضخمه في جميع أنواع الأحياء حتى الإنسان، وذلك بالقضاء على كثير من أسباب التوالد والتناسل ابتداء وبالموت
__________
(1) سورة القمر الآية 49
(2) سورة الرعد الآية 8
(3) سورة هود الآية 6
(4) سورة الأنعام الآية 151
(5) سورة الإسراء الآية 31
(6) سورة الإسراء الآية 36(5/117)
والفناء بعد الوجود في أطوار وأزمان مختلفة، فليس بعجيب أن يقال بتحديد النسل أو تنظيمه بالوسائل الحديثة المتبعة اليوم، بل في ذلك مجاراة للفطرة، وسير معها إلى الهدف المنشود من التوازن بين عدد السكان ووسائل العيش والنهوض بالإنسان إلى مستوىيكفل له الراحة وطمأنينة النفس والشعور بمتعة الحياة ولذاتها.
المناقشة.
أ- إن كان المراد بالفطرة في نظر دعاة تحديد النسل طبيعة الأحياء وخواصهم وغرائزهم التي أودعت فيهم لتقوم الحياة ويعمر الكون فما ذكروه مبررا لتحديد النسل أو تنظيمه مناقض للفطرة، وحرب على ما أودعه الله في الإنسان من طبائع وخواص فإن الإنسان مجبول على الرغبة الملحة في التزاوج، مجبول على حب التناسل، تواقة نفسه إلى الذرية مسلما كان أو كافرا، حتى إن من حرم الذرية أو أصيب فيما رزق منها بآفات قضت عليها ليكاد يتقطع أسى وحسرة على ما فاته من نعمة الذرية، واعتبر ذلك بلاء نزل به وقضى على سعادته إلا من عصمه الله بالإيمان، ورضي بقضاء الله وقدره فيه، ومن آتاه الله الذرية عد نفسه سعيدا، وتجلت فيه عاطفة الأبوة أو الأمومة وحنانها، وبذل جهده فيما يلزم لسعادة أولاده مع ارتياح ورحابة صدر، وسهر الليالي لسهرهم عملا على راحتهم وتحقيقا لمصلحتهم، وبهذا اتضح أي الأمرين جرى على سنن الفطرة، ومقتضى الطبيعة البشرية، الإبقاء على النسل وعدم الوقوف في طريق ازدياده أم العمل على منعه والقضاء عليه بعد الحمل بإجهاض ونحوه. أضف إلى ذلك ما في كلامهم من الزيغ، حيث نسبوا إلى فطرة الأحياء وطبائعهم تحديد النسل أو تنظيمه بالعقم أو بالموت والقضاء على كثير من أسباب التناسل، وذلك لا يصدر إلا عن جاهل فاسد العقيدة، قال تعالى {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} (1) {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (2) وقال {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (3) .
ب- وإن زعموا أن المراد بالفطرة ما يسمى في شريعة الإسلام بالله رب العالمين ففيه أولا: سوء أدب في التعبير، وثانيا: التدخل في شأن من شئون الله وحده، وليس مما يعود إليهم تدبيره، وثالثا: قياس أنفسهم في تقديرهم لتحديد النسل على الله في تدبيره وتعريفه لشئون عباده، وشتان ما بين عبد مملوك خطاء قاصر الفكر والتقدير والتدبير. إلخ ورب حكيم له كمال القدرة وإحكام التدبير وله الخلق والأمر وكمال الاختيار يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد. إلخ. لقد فشلت نظرية تحديد النسل أول الأمر اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا؛ لمناقضتها
__________
(1) سورة الشورى الآية 49
(2) سورة الشورى الآية 50
(3) سورة يونس الآية 56(5/118)
مقتضى الفطرة وطبيعة البشر وبنائها على الخرص والتخمين الذي كذبه الواقع، ولإفضائها إلى نتائج خبيثة وعواقب وخيمة ومضار فادحة كما سيجيء بيانه في مضار الوسائل التي تتخذ لذلك، ولم يكتب لها الانتشار إلا بكثرة الدعاية والتلبيس على الناس ومصادفة هوى عند عباد الشهوات ومن يفرون من تحمل المسئوليات ويحرصون على نزواتهم دون المصالح العامة مع عوامل أخرى كالتقدم الصناعي وإقبال الناس على الصناعة وانتقالهم إلى المدن لذلك وزهدهم في الزراعة وانغماس الناس في الترف والنعيم وكثرة الكماليات والأثرة المادية فارتفعت الأسعار وكثرت التكاليف وعمل كل لنفسه بدافع غريزة حب التملك، وخرجت المرأة إلى ميدان العمل وكرهوا تحمل أعباء نفقة الأولاد ورعايتهم، ولم يلبث الأمر أن انكشف الستار وظهرت الحقيقة للمفكرين منهم فرجعوا عن ذلك، وردوا على هذه النظرية ردودا حاسمة.
الثالث: أن طبقات الناس متفاوتة غنى وفقرا، والطبقة الفقيرة منهم لا تتسع ثروتها لتربية الأولاد تربية تكفل لهم السعادة والهناء، وليس في أموالهم ما ينهض بتعليمهم تعليما عاليا يسمون به وتسمو به أمتهم فإذا تركوا وشأنهم في التناسل زاد عدد الأولاد وتكاثر، واشتدت الكارثة، وعجز أولياء أمورهم عن القيام بشئونهم تغذية وكسوة وتعليما على ما يرام، وعندئذ يعيشون عيشة لا يغبطون عليها أما الطبقة الغنية والمتوسطة فإن أولادهم إذا زاد عددهم تفتتت ثروتهم وهبط مستواهم وضعفت إمكانياتهم، وبذلك تسوء حالتهم وحال الأمة ويضعف شأنها وتتأخر علما وإنتاجا، وتعيش عيشة بؤس وشقاء، فلهذا وجب الحد من التناسل؛ صيانة للأسرة مما يتهددها من خطر كثرة الأولاد، وإنقاذا للأمة مما يتوقع لها من البلاء وشدة الأزمات (1) ".
المناقشة.
هذه الشبهة وليدة للشبهة الأولى وصنو لها، فيجاب عنها بما تقدم من المناقشة فيها ثم هي لا تزيد على أن تكون دعاية لتحديد النسل بتزيين الباطل، والتلبيس على الناس ليخدعوهم عن مقتضى فطرتهم السليمة التي فطرهم الله عليها، ويصدوهم عما هو مصدر سعادتهم، وما تتحقق به مصالحهم، ويحصل لهم به عوامل القوة والنماء والرخاء فإن الأولاد هم الأيدي العاملة وهم مصدر الثروة والنماء وزيادة الرخاء، فبكثرتهم تكثر الخيرات، ويزداد العمران في الأرض، وتنهض الأمم في جيشها وقوتها، وفي علمها واختراعها، وفي إنتاجها ورعايتها لجميع
__________
(1) انظر ما نقله الأستاذ أبو الأعلى المودودي عن الأطباء وعلماء النفس في كتابه '' حركة تحديد النسل(5/119)
مرافق حياتها، وكثيرا ما وجدنا بيوتا قد فتحت على أيدي الأولاد، وعمها الخير والرخاء، وكثيرا ما شاهدنا العلماء من أبناء الفقراء والطبقات المتوسطة، وأنهم نهضوا بأممهم وقاموا بمصالحهم وكانوا ملاك سعادتها وزهرة حياتها، وعنوان مجدها، فإن تخلف شيء من ذلك فهو من الفوضى والإهمال والتفريط لا من زيادة التناسل، ومن المعروف أن النهوض وليد الطموح ويقظة النفس وشعورها بالحاجة، وأن الفساد والهبوط وليد الدعة وتبلد النفس وعدم الإحساس بالحاجة وقد يكون ذلك مع الغني كما يكون مع الفقير وإذا فليست المشكلة من كثرة التناسل وزيادة الأولاد حتى يسعى في حلها بتحديد النسل أو منع الحمل.
الرابع: زعموا أن تحديد النسل أو منع الحمل يحفظ للمرأة صحتها وجمالها، وأن تتابع الحمل والولادة وما يتبع ذلك من رعايتها لأولادها وقيامها بشئونهم ورعايتها لهم وسهرها على مصالحهم يهدم كيانها ويذهب قواها وجمالها، ويهدد حياتها الزوجية، فقد يزهد فيها زوجها فيطلقها أو ينصرف عنها إلى غيرها لسوء حالها واشتغالها عنه بأولادها.
المناقشة.
أ- إن هذه الشبهة إنما يتشدق بها ويروج لها من طغت عليه شهوته الحيوانية، وانحرفت فطرته الإنسانية فلا هم له إلا الاستمتاع بزوجته وقضاء وطره منها ويفر من تكاليف الذرية وتحمل أعبائها، استجابة لدواعي الشهوة البهيمية، وإيثارا لجانب اللذائذ الحيوانية التي لا تعدل في نفس من سلمت فطرته من الناس أو تقارب إرواء عاطفة الأبوة والأمومة الكامنة في أعماق النفوس وحياة القلوب.
ب- إن عزل المرأة عن وظيفة الحمل والولادة التي هي من أجل ما خلقها الله لها يحدث فيها كبتا ويولد فيها عقدا نفسية، ويورثها بؤسا وكآبة تذهب بجمالها وحسن رونقها، وإذا استعملت لمنع الحمل أو إسقاطه العقاقير وأمثالها زادها ذلك هما وضاعف آفاتها ومضارها. ولا شك أن هذا الخطر يزيد على ما يذكره دعاة تحديد النسل في شبهتهم من المضار الناشئة عن كثرة الحمل والولادة - مع ما في زيادة التناسل من النماء في الإنتاج وزيادة وسائل المعيشة والنفع الخاص بالأسرة والعام للأمة، فأي الأمرين أحق بالحرص عليه والدعوة إليه قال الدكتور " الكسيس كارل " في كتابه " الإنسان ذلك المجهول " إنه حتى هذه الأيام لم ينضج فكر الإنسان ولم يشعر على الوجه التام بما لوظيفة التوليد من الأهمية في حياة المرأة، إن قيام المرأة بهذه الوظيفة مما لا مندوحة عنه لكمالها القياسي، فما تحريف النساء عن التوليد ورعاية الطفل إلا حماقة شنيعة لا يقدم عليها عاقل. وقال الدكتور " ازوالد شوارز " أحد علماء النفس في كتابه " نفسية الجنس ": أي شيء يا ترى يدل عليه وجود الغريزة الجنسية في الإنسان؟ ولأي غرض قد وضعت فيه؟ ومن الحقيقة التي لا غبار عليها أن هذه الغريزة إنما هي لإنجاب الذرية وتخليد النسل، إذ من القوانين الثابتة في علم الأحياء أن كل عضو في جسد الإنسان يجب أن يؤدي وظيفته الخاصة المستقلة حتى يحقق بذلك المهمة التي قد أسندت إليه، وعلى هذا إذا منع هذا العضو من أداء وظيفته الخاصة فلا بد أن تتعرض حياة الإنسان لمشاكل مرهقة متعددة، ومما يتعلق بهذا البحث أن جسد المرأة لم يخلق في معظمه إلا لوظيفة الحمل والتوليد فهي إذا منعت أن تعمل لتحقيق هذه الوظيفة الأساسية لنظامها الجسدي والعقلي فلا بد أن(5/120)
تذهب ضحية الاضمحلال والتذمر والعقد النفسية المتعددة، وعلى خلاف هذا فإنها عندما تصبح أما تجد جمالا جديدا وبهاء روحيا يتغلب على ما قد يعتريها من الضعف والاضمحلال بسبب وضع الطفل وإرضاعه.
وقال أيضا: إن كل عضو في جسدنا يجب أن يقوم بوظيفته، وعلى هذا فإنه إذا حيل بينه وبين أن يقوم بوظيفته فلا بد أن يختل به التوازن في نظامنا الجسدي، إن المرأة ليست بحاجة إلى إنجاب ذرية لمجرد أن ذلك تقتضيه عاطفة الأمومة التي قد فطرت عليها، أو لمجرد أنها ترى القيام بهذه الخدمة واجبا عليها، بناء على ضابط خلقي مفروض عليها، وإنما هي بحاجة إليها؛ لأن نظامها الجسدي ما بني كله إلا للقيام بها فهي إذا منعت أن تقوم بها فلا بد أن تتأثر شخصيتها كلها بالانقباض والحرمان والهزيمة واليأس المميت. أهـ.
إن الذين بدءوا بالدعوة إلى منع الحمل أو تحديد النسل وروجوا دعوتهم بما تقدم من الشبه وأمثالها جماعة لا يؤمنون بأن للعالم ربا عليما خبيرا بشئون عباده، حكيما في تدبير أمورهم وتصريف أحوالهم ولا يرضون بشريعة الإسلام دينا ولا بمحمد رسولا، فلا عجب أن يظنوا بالله الظنون الكاذبة، وأن يدخلوا تفكيرهم القاصر المحدود فيما هو من شأنه وحده، وأن يناقضوا شريعة الإسلام ويكونوا حربا على مقاصدها، ولا عجب أيضا أن يسير في ركابهم ويدعو بدعوتهم بعض جهلة المسلمين وأرباب الهوى منهم، فإن الجهل قتال يقذف بصاحبه في لجج الضلال والهلاك وأن الهوى يعمي ويصم، وإنما العجب أن يناقضوا ما يدعون أنهم قتلوه بحثا وأحاطوا به علما من نظريات الاقتصاد وأصول علم النفس وعلم الأحياء وتاريخ الأمم وما جرى عليها من أحداث.
ونختتم الكلام على ما ذكروا من البواعث والدواعي لمنع الحمل أو تحديد النسل بذكر بعض دواع أخرى تقع قليلا أو نادرا فيحكم فيها بما يناسبها من الأحكام، فإنها تختلف عما تقدم في أهدافها ومقاصدها وربما كان لمن ألمت به العذر في منع الحمل أو تنظيمه.
أ- قد يكون بالمرأة ما تتعذر معه الولادة العادية، فيخرج الولد بإجراء عملية جراحية، وربما كان في ذلك خطورة، كما أن تكرر ذلك خطر على المرأة وقضاء على حياتها ففي مثل هذا يمكن أن يقال بوجوب منع الحمل أو المنع من تكراره، محافظة على حياة المرأة وذلك راجع إلى مقصد من المقاصد الضرورية الخمسة، وهو المحافظة على النفس ولكن من الواضح أن هذا وأمثاله ليس من تحديد النسل ولا من تنظيمه ولا يتفق معه في الدواعي أو الغرض الذي ألجأ إليه، فلا يصح أن يخلط بينهما تلبيسا على الناس، ولا أن يحتج بمثل هذا على تحديد النسل أو منعه للدواعي الأخرى.
ب- وقد يضر المرأة تتابع الحمل لضعف بها أو مرض، ويقرر أهل الخبرة إن كان عليها من تتابعه خطورة، فلها أن تتخذ وسائل غير ضارة لتنظيم الحمل وتأخيره فترة من الزمن تستجم فيها، وتسترد نشاطها وقوتها، ويرجع فيما تستخدمه من الوسائل لأهل الخبرة، مخافة أن تصاب بعقم أو مرض آخر من جراء استخدام الوسائل لتنظيم الحمل، للبواعث الأخرى التي اعتمد عليها دعاة تحديد النسل فلا مستند فيه لهم.(5/121)
ج- وقد يظن الرجل أن وطأه امرأته أو أمته وهي ترضع يضر بالولد، فيمتنع من ذلك محافظة على صحة الرضيع وحرصا على سلامته، سواء قلنا تغير لبن المرأة وتضرر الرضيع بنفس الجماع أو بالحمل المتوقع منه فعلى تقدير أن ذلك يعتبر عذرا للرجل في ترك الجماع أو للزوجة في الامتناع منه فإنه ليس من باب تحديد النسل أصلا ولا من جنس منع الحمل للدواعي المنكرة التي اعتمد عليها دعاة تحديد النسل أو منعه، على أن النبي - صلى الله عليه وسلم- هم أن ينهى عن الغيلة محافظة على الرضيع ثم رجع عن ذلك وبين السبب، روى أحمد ومسلم عن جذامة بنت وهب الأسدية قالت حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت إلى الروم فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم شيئا (1) » . . " الحديث.
د- ربما يحتاج الرجل إلى العزل عن أمته أو زوجته حرة أو أمة، وقد اختلف العلماء في حكم ذلك اختلافا كثيرا فمنهم من حرم ذلك مطلقا عن أمته وزوجته حرة أو أمة، ومنهم من أجازه مطلقا وفرق جماعة بين الأمة والحرة، وفرق آخرون بين حالة الإذن وعدمه فأباحه في الأولى دون الثانية وتفصيل الخلاف في ذلك معروف في كتب الفقه، ومنشؤه اختلاف العلماء في فهم ما ورد في ذلك من الأحاديث واختلافهم فيمن له الحق في الوطء والولد ومن لا حق له في ذلك.
ولما كان كلام ابن القيم مستوفيا لتفصيل القول في حكم العزل مع الأدلة والمناقشة اكتفينا بذكره هنا قال رحمه الله (2) فصل: في حكمه صلى الله عليه وسلم - في العزل.
ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد قال «أصبنا سبيا فكنا نعزل فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: وإنكم لتفعلون قالها ثلاثا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة (3) » . وفي السنن عنه أن رجلا قال: «يا رسول الله إن لي جارية وأنا أعزل عنها وأنا أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى قال: كذبت يهود لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه (4) » . وفي الصحيحين عن جابر «كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل (5) » . وفي صحيح مسلم عنه «كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا (6) » . وفي مسلم أيضا: عنه قال: «سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي جارية وأنا أعزل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ذلك لا يمنع شيئا أراده الله قال فجاء الرجل فقال يا رسول الله إن الجارية التي ذكرتها لك حملت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا عبد الله ورسوله (7) » .
وفي صحيح مسلم أيضا عن أسامة بن زيد أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول
__________
(1) صحيح مسلم النكاح (1442) ، سنن الترمذي الطب (2077) ، سنن النسائي النكاح (3326) ، سنن أبو داود الطب (3882) ، سنن ابن ماجه النكاح (2011) ، مسند أحمد بن حنبل (6/434) ، موطأ مالك الرضاع (1292) ، سنن الدارمي النكاح (2217) .
(2) ص30 من ج4 من زاد المعاد طبع مطبعة أنصار السنة المحمدية
(3) صحيح البخاري النكاح (5210) ، صحيح مسلم النكاح (1438) ، سنن الترمذي النكاح (1138) ، سنن النسائي النكاح (3327) ، سنن أبو داود النكاح (2172) ، سنن ابن ماجه النكاح (1926) ، مسند أحمد بن حنبل (3/68) ، موطأ مالك الطلاق (1262) ، سنن الدارمي النكاح (2224) .
(4) سنن أبو داود النكاح (2171) ، مسند أحمد بن حنبل (3/82) ، موطأ مالك الطلاق (1262) ، سنن الدارمي النكاح (2224) .
(5) صحيح البخاري النكاح (5209) ، صحيح مسلم النكاح (1440) ، سنن الترمذي النكاح (1136) ، سنن ابن ماجه النكاح (1927) ، مسند أحمد بن حنبل (3/309) .
(6) صحيح البخاري النكاح (5209) ، صحيح مسلم النكاح (1440) ، سنن الترمذي النكاح (1136) ، سنن ابن ماجه النكاح (1927) ، مسند أحمد بن حنبل (3/309) .
(7) صحيح مسلم النكاح (1439) ، سنن أبو داود النكاح (2173) ، سنن ابن ماجه المقدمة (89) ، مسند أحمد بن حنبل (3/388) .(5/122)
الله، إني أعزل عن امرأتي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تفعل ذلك؟ فقال الرجل أشفق على ولدها أو قال على أولادها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان ضارا ضر فارس والروم (1) » . وفي مسند أحمد وسنن ابن ماجه من حديث عمر بن الخطاب «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها (2) » وقال أبو داود: سمعت أبا عبد الله ذكر حديث ابن لهيعة عن جعفر بن ربيعة عن الزهري عن المحرز بن أبي هريرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها (3) » فقال: ما أنكره! فهذه الأحاديث صريحة في جواز العزل. وقد رويت الرخصة فيه عن عشرة من الصحابة. علي وسعد بن أبي وقاص وأبي أيوب وزيد بن ثابت وجابر وابن عباس والحسن بن علي وخباب بن الأرت وأبي سعيد الخدري وابن مسعود. قال ابن حزم: وجاءت الإباحة للعزل صحيحة. عن جابر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت وابن مسعود، وهذا هو الصحيح.
وحرمه جماعة منهم: أبو محمد بن حزم وغيره وفرقت طائفة بين أن تأذن له الحرة، فيباح، أو لا تاذن: فيحرم. فإن كانت زوجته أمة أبيح بإذن سيدها ولم يبح بدون إذنه. وهذا منصوص أحمد. ومن أصحابه من قال: لا يباح بحال ومنهم من قال: يباح بكل حال، ومنهم من قال: يباح بإذن الزوجة حرة كانت أو أمة ولا يباح بدون إذنها حرة كانت أو أمة فمن أباحه مطلقا احتج بما ذكرنا من الأحاديث، وبأن حق المرأة في ذوق العسيله لا في الإنزال ومن حرمه مطلقا: احتج بما رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة عن جذامة بنت وهب أخت عكاشه قال: «حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس فسألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الوأد الخفي وهي قوله تعالى (5) » قالوا: وهذا ناسخ لأخبار الإباحة فإنه ناقل عن الأصل، وأحاديث الإباحة: على وفق البراءة الأصلية وأحكام الشرع ناقلة عن البراءة الأصلية قالوا: وقول جابر «كنا نعزل والقرآن ينزل فلو كان شيئا ينهى عنه لنهى عنه القرآن (6) » فيقال: قد نهى عنه من أنزل عليه القرآن بقوله: «إنه الموءودة الصغرى (7) » والوأد كله حرام قالوا: وقد فهم الحسن البصري النهي من حديث أبي سعيد الخدري، «لما ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا عليكم ألا تفعلوا. ذاكم: إنما هو القدر (8) » قال ابن عون: فحدثت به الحسن فقال والله لكأن هذا زجر قالوا ولأن فيه قطع النسل المطلوب من النكاح وسوء العشرة وقطع اللذة عند استدعاء الطبيعة لها قالوا ولهذا كان ابن عمر لا يعزل وقال: " لو علمت أن أحدا من ولدي يعزل لنكلته " وكان علي يكره العزل. ذكره شعبة عن عاصم عن زر بن حبيش عنه وصح عن ابن مسعود أنه قال في العزل هو الموءودة الصغرى، وصح عن أبي أمامة أنه سئل عنه؟ فقال ما كنت أرى مسلما يفعل، وقال نافع عن ابن عمر " إن عمر ضرب على العزل بعض بنيه " قال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب " كان عمر وعثمان ينهيان عن العزل " وليس في هذا ما يعارض أحاديث الإباحة مع صراحتها وصحتها.
__________
(1) صحيح مسلم النكاح (1443) ، مسند أحمد بن حنبل (5/203) .
(2) سنن ابن ماجه النكاح (1928) .
(3) سنن ابن ماجه النكاح (1928) .
(4) صحيح مسلم النكاح (1442) ، سنن الترمذي الطب (2077) ، سنن النسائي النكاح (3326) ، سنن أبو داود الطب (3882) ، سنن ابن ماجه النكاح (2011) ، مسند أحمد بن حنبل (6/434) ، موطأ مالك الرضاع (1292) ، سنن الدارمي النكاح (2217) .
(5) سورة التكوير الآية 8 (4) {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ}
(6) صحيح البخاري النكاح (5209) ، صحيح مسلم النكاح (1440) ، سنن الترمذي النكاح (1136) ، سنن ابن ماجه النكاح (1927) ، مسند أحمد بن حنبل (3/377) .
(7) سنن الترمذي النكاح (1136) ، سنن أبو داود النكاح (2173) .
(8) صحيح البخاري كتاب القدر (6603) ، صحيح مسلم النكاح (1438) ، سنن الترمذي النكاح (1138) ، سنن النسائي النكاح (3327) ، سنن أبو داود النكاح (2172) ، سنن ابن ماجه النكاح (1926) ، مسند أحمد بن حنبل (3/68) ، موطأ مالك الطلاق (1262) ، سنن الدارمي النكاح (2224) .(5/123)
أما حديث جدامة بنت وهب فإنه وإن كان رواه مسلم فإن الأحاديث الكثيرة على خلافه، وقد قال أبو داود - حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا يحيى: أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حدثه أن رفاعة حدثه عن أبي سعيد الخدري " أن رجلا قال: «يا رسول الله، إن لي جارية، وأنا أعزل عنها. وأنا أكره أن تحمل. وأنا أريد ما يريد الرجال، وأن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى. قال كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه (1) » وحسبك بهذا الإسناد صحة فكلهم ثقات حفاظ، وقد أعله بعضهم بأنه مضطرب، فإنه اختلف فيه على يحيى بن أبي كثير. فقيل: عنه عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبد الله ومن هذه الطريق أخرجه الترمذي والنسائي، وقيل فيه عن أبي مطيع عن رفاعة وقيل عن أبي رفاعة. وقيل: عن أبي سلمة أن أبا هريرة. وهذا لا يقدح في الحديث. فإنه عند يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر. وعنده عن ابن ثوبان، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وعنده عن ابن ثوبان، عن رفاعة عن أبي سعيد. ويبقى الاختلاف في اسم أبي رفاعة: هل هو رفاعة، أو ابن رفاعة، أو أبو مطيع؟ وهذا لا يضر مع العلم بحال رفاعة. ولا ريب أن أحاديث جابر صريحة صحيحة في جواز العزل وقد قال الشافعي ونحن نروي عن عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم رخصوا في ذلك، ولم يروا به بأسا. قال البيهقي: وقد روينا الرخصة فيه عن سعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت، وابن عباس وغيرهم. وهو مذهب مالك والشافعي وأهل الكوفة، وجمهور أهل العلم.
وقد أجيب عن حديث جدامة بأنه على طريق التنزيل وضعفته طائفة، وقالوا: كيف يصح أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كذب اليهود في ذلك، ثم يخبر به كخبرهم؟ هذا من المحال البين. وردت عليهم طائفة أخرى، وقالوا: حديث تكذيبهم فيه اضطراب. وحديث جدامة في الصحيح. وجمعت طائفة أخرى بين الحديثين، وقالت: إن اليهود كانت تقول: إن العزل لا يكون معه حمل أصلا. فكذبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. ويدل عليه قوله: صلى الله عليه وسلم «لو أراد الله أن يخلقه لما استطعت أن تصرفه (2) » وقوله: «إنه الوأد الخفي (3) » وإن لم يمنع الحمل بالكلية، كترك الوطء. فهو مؤثر في تقليله. قالت طائفة أخرى: الحديثان صحيحان. ولكن حديث التحريم ناسخ. وهذه طريقة أبي محمد بن حزم. قالوا: لأنه ناقل عن الأصل. والأحكام كانت قبل التحريم على الإباحة ودعوى هؤلاء: تحتاج إلى تاريخ محقق، يبين تأخير أحد الحديثين عن الآخر، وأنى لهم به؟ وقد اتفق عمر وعلي على أنها لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع. فروى القاضي أبو يعلي وغيره بإسناده عن عبيد بن رفاعة عن أبيه قال " جلس إلى عمر: علي والزبير وسعد
__________
(1) سنن أبو داود النكاح (2171) ، مسند أحمد بن حنبل (3/82) ، موطأ مالك الطلاق (1262) ، سنن الدارمي النكاح (2224) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4138) ، صحيح مسلم النكاح (1438) ، سنن الترمذي النكاح (1138) ، سنن النسائي النكاح (3327) ، سنن أبو داود النكاح (2171) ، سنن ابن ماجه النكاح (1926) ، مسند أحمد بن حنبل (3/82) ، موطأ مالك الطلاق (1262) ، سنن الدارمي النكاح (2224) .
(3) صحيح مسلم النكاح (1442) ، سنن الترمذي الطب (2077) ، سنن النسائي النكاح (3326) ، سنن أبو داود الطب (3882) ، سنن ابن ماجه النكاح (2011) ، مسند أحمد بن حنبل (6/434) ، موطأ مالك الرضاع (1292) ، سنن الدارمي النكاح (2217) .(5/124)
في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكروا العزل. فقالوا: لا بأس به فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموءودة الصغرى. فقال علي: لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع، حتى تكون من سلالة من طين، ثم تكون نطفة ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاما، ثم تكون لحما، ثم تكون خلقا أخر، فقال عمر: صدقت. أطال الله بقاءك وبهذا احتج من احتج على جواز الدعاء للرجل بطول البقاء.
وأما من جوزه بإذن حرة، فقال: للمرأة حق في الولد كما للرجل حق فيه. ولهذا كانت أحق بحضانته.
قالوا: ولم يعتبروا إذن السرية فيه. لأنها لا حق لها في القسم. ولهذا لا تطالبه بالفيئة. ولو كان لها حق في الوطء لطولب المولي منها بالفيئة. قالوا: وأما زوجته الرقيقة فله أن يعزل عنها بغير إذنها، صيانة لولده عن الرق. ولكن يعتبر إذن سيدها؛ لأن له حقا في الولد. فاعتبر إذنه في العزل كإذن الحرة ولأن بدل البضع يحصل للسيد كما يحصل للحرة. فكان إذنه في العزل كإذن الحرة. قال أحمد في رواية أبي طالب، في الأمة إذا نكحها: يستأذن أهلها، يعني في العزل لأنهم لا يريدون الولد، والمرأة لها حق، تريد الولد، وملك يمينه لا يستأذنها، وقال في رواية صالح، وابن منصور، وحنبل، وأبي الحرث والفضل بن زياد، والمروذي: يعزل عن الحرة بإذنها، والأمة بغير إذنها يعني أمته، وقال في رواية ابن هانئ: إذا عزل عنها لزمه الولد، قد يكون الولد مع العزل، وقد قال بعض من قال: ما لي ولد إلا من العزل، وقال في رواية المروذي في العزل عن أم الولد: إن شاء. فإن قالت: لا يحل لك، ليس لها ذلك اهـ.
ومهما يكن من الاختلاف في حكم عزل الرجل عن زوجته حرة أو أمة أو عزله عن سريته من الإباحة مطلقا أو المنع مطلقا أو إباحته مع الإذن ومنعه بدونه فليس من باب تحديد النسل، فإنه إن كان بالنسبة للأمة إنما كان خشية أن تحمل منه وهو يكره أن يكون له منها ولد أو خشية أن تصير أم ولد وهو في حاجة إلى خدمتها أو ثمنها كما هو واضح من الأحاديث المتقدمة، وأما بالنسبة - للزوجة فقد يكون للمحافظة على رضيعها، وقد يكون خشية أن تحمل وهي مريضة أو ضعيفة فيضرها الحمل أو يضرها تتابعه، وقد يكون لأسباب أخرى دعتهم إلى ذلك غير أنها ليس منها تحديد النسل، لسلامة فطرهم وقوة توكلهم على الله وثقتهم به ومزيد حبهم للنسل ورغبتهم فيه، فلا يفعلون ما يناقض فطرهم وما تهواه قلوبهم من الذرية ولا يخوضون في شئون المستقبل وما يكون فيه من غبن وفقر ولا يتشاءمون منه ولا يظنون بالله الظنون، وبالجملة ما عهد فيهم من الاعتصام بالدين وحسن الظن بالله ليبعدهم كل البعد عن القصد إلى العزل من أجل تحديد النسل، وعلى هذا لا حجة فيما ذكر من الأحاديث لمن تعلق بها ممن يرون تحديد النسل.(5/125)
4 - وسائل تحديد النسل وبيان مضارها.
لتحديد النسل ومنع الحمل وسائل عديدة، منها الرهبنة وترك الزواج، وكبت النفس وحبسها عن الجماع، والإجهاض (إسقاط الحمل) أو وضع اللبوس في الفرج. وتعاطي العقاقير، ونحوها مما يمنع الحمل أو يقضي عليه بعد وجوده، ولكل من هذه الوسائل آثار سيئة وعواقب وخيمة، وفيما يلي بيان شيء من ذلك: -
1 - انتشار جريمة الزنا وانتهاك الحرمات، فإن الذي يردع الإنسان ويقف به عند حده خوفه من الله أولا، وقد ذهب ذلك بالإلحاد أو ضعف الوازع الديني. وخوفه من العار ثانيا، وقد ذهب ذلك بانتشار وسائل منع الحمل وتحديد النسل، حيث أمنت المرأة من الحمل وعرفت طريق التخلص منه باستعمال هذه الوسائل فاجترأت هي ومن يهواها على قضاء الوطر وإشباع الغريزة الجنسية دون خوف أو حياء.
2 - انتشار الزنا سبب لانتشار الأمراض الخبيثة كمرض الزهري والسيلان، وهما من أفتك الأمراض وأشدها خطرا على حياة الناس.
3 - انتزاع جلباب الحياء وفساد الأخلاق وضياع الأنساب وضعف الراوبط بين الأسر، وبذلك تعم الفوضى ويكثر الهرج والمرج ويشتد البلاء.
4 - نقص الآيدي العاملة وكثرة العجزة والعجائز لقلة التناسل والوقوف به عند غاية، وبذلك يقل الإنتاج وتنقص وسائل المعيشة وتشتد الأزمات وتضعف سيطرة الأمة وقوة الدفاع عنها.
5 - ضعف العلاقة الزوجية بين الزوجين لعدم الأولاد أو قلتهم باستعمال وسائل تورث العقم ابتداء أو تقف بالتناسل عند حد، فإن الأولاد تقوى بهم أواصر المحبة والوئام بين الزوجين وتضطر كلا منهما على الصبر على متاعب الحياة الزوجية وتحمل ما قد يصدر من أحدهما للآخر من الأذى وتعكير الصفو، فإذا لم تكن بينهما هذه الروابط ضعفت عرى الزوجية أو انحلت وكثرت وقائع الطلاق، ودب دبيب الشر والفساد بين الأسر، وفي ذلك ضعف المجتمع وفساده.(5/126)
6 - في الرهبانية كبت للنفس وخروج بها عن فطرتها ومقتضى ما أودع فيها من الغرائز، وهذا مما يورثها ضيقا وقلقا وأمراضا عصبية وتبرما بالحياة؛ ولهذا وغيره نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل.
7 - سقوط الرحم وحدوث أمراض أخرى تكاد تفتك بالمرأة من جراء إسقاطها الحمل تخلصا من النسل أو من كثرته.
8 - وقد ذكر كثير من الأطباء وعلماء النفس مضار وسائل منع الحمل وتحديد النسل إجمالا وتفصيلا، من ذلك ما جاء عن الدكتور كلير فولسوم، قال: ليست عندنا حتى اليوم أية وسيلة سهلة أو رخيصة غير ضارة يمكن استخدامها لتحديد النسل.
ولما تقدم وغيره من المضار قام كثير من الأطباء وعلماء النفس في دولهم بدعوة مضادة وحذروا الناس من استعمال وسائل منع الحمل وتحديد النسل، وشرحوا لهم مضار ذلك علما وتجربة واستجابت لهم حكوماتهم فحظرت الاتجار في هذه الوسائل، وأعطت المكافأة على كثرة النسل ورفعت الضرائب عمن كثرت أولادهم وفرضت العقوبات على من ثبت عليه استعمال هذه الوسائل أو الاتجار فيها أو الترويج لها والدعاية لاستعمالها.(5/127)
5 - الحكم مع الدليل.
تبين مما تقدم أن ما ذكره الدعاة إلى تحديد النسل أو منع الحمل من البواعث التي اعتمدوا عليها في ترويج ذلك والدعاية له لا تصلح مبررا له بل هي غير صحيحة لمناقضتها الواقع ومنافاتها مقتضى الفطرة والإسلام، وتبين أيضا أن لتحديد النسل أو منع الحمل بأي وسيلة من الوسائل مضارا كثيرة دينية واقتصادية وسياسية واجتماعية ونفسية وجسمية.
وعلى هذا يكون تحديد النسل محرما مطلقا ويكون منع الحمل محرما إلا في حالات فردية نادرة لا عموم لها كما في الحالة التي تدعو الحامل إلى ولادة غير عادية ويضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد وفي حالة ما إذا كان على المرأة خطر من الحمل لمرض ونحوه، فيستثنى مثل هذا منعا للضرر وابقاء على النفس، فإن الشريعة الإسلامية جاءت بجلب المصالح ودرء المفاسد وتقديم أقوى المصلحتين وارتكاب أخف الضررين عند التعارض، والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ".(5/127)
قرار رقم 42 وتاريخ 13 \ 4 \ 1396هـ.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
ففي الدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الأول من شهر ربيع الآخر عام 1396هـ بحث المجلس موضوع منع الحمل وتحديد النسل وتنظيمه، بناء على ما تقرر في الدورة السابعة للمجلس المنعقد في النصف الأول من شهر شعبان عام 1395هـ من إدراج موضوعها في جدول أعمال الدورة الثامنة، وقد اطلع المجلس على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء، وبعد تداول الرأي والمناقشة بين الأعضاء والاستماع إلى وجهات النظر قرر المجلس ما يلي:
نظرا إلى أن الشريعة الإسلامية ترغب في انتشار النسل وتكثيره وتعتبر النسل نعمة كبرى ومنة عظيمة من الله بها على عباده، فقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله مما أوردته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في بحثها المعد للهيئة والمقدم لها، ونظرا إلى أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الخلق عليها وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الرب تعالى لعباده، ونظرا إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين بصفة عامة وللأمة العربية المسلمة بصفة خاصة حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد وأهلها، وحيث إن في الأخذ بذلك ضربا من أعمال الجاهلية وسوء ظن بالله تعالى وإضعافا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها؛ لذلك كله فإن المجلس يقرر بأنه لا يجوز تحديد النسل مطلقا ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق؛ لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، أما إذا كان منع الحمل لضرورة محققة ككون المرأة لا تلد ولادة عادية وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد أو كان تأخيره لفترة ما لمصلحة يراها الزوجان فإنه لا مانع حينئذ من منع الحمل أو تأخيره عملا بما جاء في الأحاديث الصحيحة وما روى عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم من جواز العزل: وتمشيا مع ما صرح به بعض الفقهاء من جواز شرب الدواء لإلقاء النطفة قبل الأربعين، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرورة المحققة، وقد توقف فضيلة الشيخ عبد الله بن غديان في حكم الاستثناء، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ".(5/128)
الفلسفة
عبد الحليم محمود
إن كثيرا من شبابنا الذين درسوا في الغرب قد فتن بالفلسفة، كما فتن بها كثير من الذين تتلمذوا على كتب الغرب المترجمة إلى العربية ووصل الأمر إلى حد افتتان جامعاتنا في أقسامها النظرية بالفلسفة فدرسها الأساتذة في إعجاب وأيدوها.
واختلف الوضع الحاضر كثيرا عن نظرة أسلافنا إلى الفلسفة.
ولقد عارض الفلسفة جميع المحدثين وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل كما عارضها كثير من كبار المفكرين وعلى رأسهم الإمام ابن تيمية. ولقد كان للإمام ابن تيمية فضل كبير وأثر بالغ في بيان فساد علم المنطق الذي كان سائدا في الأوساط الإسلامية منذ أن كان " الكندي " و " الفارابي " و " ابن سينا "، ولقد كتب الإمام ابن تيمية فيه كتبا من أنفس ما يكون وعلى الخصوص كتاب " الرد على المنطقيين ".
ولم يقتصر الإمام ابن تيمية على نقد المنطق وإنما عمل جهده على تسفيه كل فكرة(5/129)
منحرفة من أفكارهم، ثم إنه من الذين بينوا في وضوح (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) .
وكذلك فعل الإمام ابن حزم فقد نقد أيضا المنطق وتصدى لانحرافات الفلاسفة، أما الكتاب الذي كان له أثر بالغ في انهيار الفكر الفلسفي فهو كتاب (تهافت الفلاسفة) وكلمة (تهافت) إنما تعني السقوط والانهيار والعنوان يعني إذن سقوط الفلاسفة وانهيارهم.
وعلى سنة هؤلاء وعلى طريقهم سرت في هذا المقال مؤمنا بفكرة أسلافنا مقتنعا بها بعد دراسة فاحصة متأنية: فقد درست الفلسفة في أوربا ثم درستها فترة طويلة من الزمن وخرجت من كل ذلك مما خرج به أسلافنا- رضوان الله عليهم.
وإذا كان أسلافنا قد كتبوا عن الانحراف الفلسفي بأسلوبهم وعلى طريقتهم فلعله من الخير أن يتحدث الذين يسيرون على نهجهم إلى شبابنا بأسلوب ميسر بحيث يقنعهم بمنطق العصر الحاضر حتى لا يشق عليهم فهمه.
ومن أجل أن تستمر مسيرة أسلافنا في معارضة كل ما لا يلائم الجو الإسلامي كتبت هذا البحث وأرجو الله تعالى أن يهدي به وأن يهدي إليه وأن يكون عملا نافعا.
حينما نتحدث هنا عن الفلسفة فإنما نعني: البحث العقلي البحث في ما وراء الطبيعة وفي الأخلاق.
ونعني بما وراء الطبيعة: الإلهيات، أو ما يسمى في عرف المتكلمين: العقائد.
ونعني بالأخلاق: معناها الشامل الذي يتضمن التشريع الذي يحرم المنكر ويردع الذين يفعلونه، وقد يخالفنا هذا الباحث أو ذاك في هذا الذي نعنيه بالفلسفة، ولكننا أحببنا أن نتفق والقارئ على اصطلاح محدود، وفي إطار هذا الاصطلاح يسير بنا البحث.
يقول الأستاذ (أندريه كرسن) في كتابه: (المشكلة الأخلاقية والفلسفية) ما يلي: - " إن الفلسفة بمعناها الخاص قد دارت- ولا تزال تدور- حول طائفتين أساسيتين من المسائل: -(5/130)
(1) المسائل النظرية:
ما الكائن؟
ما أصله؟
ما المصير الذي ينتظره هو وما تفرع منه؟
أفي طوق عقل الإنسان أن يضع حلولا لهذه المسائل، أم أن ذلك في حكم المستحيل؟
كل هاتيك المسائل تعتبر مسائل ميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) .
(2) المسائل العلمية:
كيف يجب أن يكون مسلكنا في الحياة؟
كيف نربي الناشئين تربية حسنة؟
ماذا يجب لقيادة الدولة حتى تسير على النهج المستقيم؟
كل هاتيك المسائل عليها تتوقف الأخلاق أو تستمد هي من الأخلاق.
* وهذا الذي ذكره الأستاذ أندريه كرسن هو رأينا الذي نسير على ضوئه في موضوعنا هذا.
* إن كل من يتصفح تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام يجد مجموعة من كبار المفكرين بحثوا، في تعمق، الموضوعات الفلسفية هذه، وانتجوا فيها انتاجا يتفاوت كما وكيفا بحسب شخصياتهم.
* وبدأت هذه المجموعة بفيلسوف العرب: " أبو يعقوب الكندي ثم كان الفارابي وابن سينا وغيرهم.
* ونتساءل الآن: لماذا كان المحدثون وكثير غيرهم خصوما للفلاسفة؟
وما هي حكمتهم في ذلك؟
* إن موقفهم من الوضوح بمكان، وذلك أن موضوع الفلسفة هو نفسه موضوع الدين.
* إن الدين: إلهيات وأخلاق تستند إلى الوحي، والوحي معصوم، والفلسفة إلهيات وأخلاق تستند إلى العقل، والعقل يخطئ ويصيب، وهو حينما يخطئ لا يعلم يقينا أنه أخطأ، وحينما يصيب لا يعلم يقينا أنه أصاب.
* ويقولون، أو لسان حالهم يقول:
" لقد ضمن الله لنا العصمة في الوحي، ولم يضمن لنا العصمة في الآراء العقلية ".
* وحينما أخذ المتفلسفون يترجمون كتب اليونان وغيرهم قال معارضو الفلسفة:
" إذا كان ما عند اليونان في العقائد حقا فعندنا ما هو أحق منه وهو عقائد الإسلام، لأنها بالأسلوب الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونحن إذا في غنى عن عقائدهم. وإذا كان ما عندهم باطلا(5/131)
فنحن في غنى عن الباطل "، وكذلك كان موقفهم من الأخلاق بمعناها العام: إن كانت أخلاق اليونان فاضلة فعندنا ما هو أفضل منها ولم تتم مكارم الأخلاق إلا في العهد الإسلامي.
«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق (1) » .
* وإن كانت أخلاق اليونان فاسدة فنحن نعوذ بالله من كل فساد ".
* وعارضوا الترجمة في الجانب الإلهي وعارضوها في الجانب الأخلاقي. . .
* ولكنهم لم يعارضوها، وإنما شجعوا عليها في جانب العلوم المادية: مثل الطبيعة، والكيمياء والفلك. . وعارضوا التفلسف في الإلهيات والأخلاق بكل ما أتوا من قوة.
* ولكن التيار الفلسفي استمر في المجتمع الإسلامي، وإذا كان قد تهافت في المشرق بتأثير الإمام الغزالي فإنه قد ازدهر في المغرب على لسان ابن ماجه وابن طفيل وابن رشد.
* وكانت آمال وأماني فلاسفة الإسلام الوصول - عن طريق المحاولات العقلية المستمرة- إلى التوفيق بين الدين والفلسفة.
* والفلسفة في الإسلام إذن تحاول جاهدة أن تعلن في نوع من الدعاية المزخرفة أنها تتفق مع الدين فيما أتى به الدين، وأنها لا تختلف عنه في مبادئها.
* وعند كل فيلسوف في الإسلام وعند كل مؤرخ للفلسفة الإسلامية فقرات وفصول بعنوان التوفيق بين الدين والفلسفة سواء أكان هذا العنوان ظاهرا أم مستورا، أنجحت الفلسفة في هذا أم أخفقت؟ .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/381) .(5/132)
ومن أجل الإجابة على هذا السؤال نحب أن نتحدث أولا عن الجو الذي نشأت فيه الفلسفة.
* إنها نشأت عند قدماء اليونان قبل الميلاد.
* وكانت اليونان فيما قبل الميلاد بقرون تدين بدين وثني: كانوا يؤمنون بمجموعة من الآلهة قابلة للزيادة عن طريق الزواج والتناسل. وهي آلهة تحب وتبغض وتتنازع وتتشاحن، ويحاول بعضها أن يعتدي على الأعراض وعلى السلطان وهي في نزاع مستمر، ثم هي تحابي من البشر من يقدم لها القرابين والأضاحي وتخذل من لم يفعل ذلك، وكانت في مستواها الأخلاقي العام بعيدة عن الكمال والفضيلة وكان الإلف والتكرار والتعود يجعل هذا الوضع للآلهة وضعا عادية لا يثير نقدا ولا استنكارا.(5/132)
* بيد أنه نشأ في القرن الخامس والرابع والثالث قبل الميلاد في بلاد اليونان مجموعة كبيرة من المفكرين النابهين، بل ومن العباقرة، فكروا وتأملوا ونقدوا واستنكروا وانفصلوا عن الدين يعلنون ذلك في صخب أو في هدوء، وفي كثير من الأحيان يسترون ذلك ويخفونه في نفوسهم، ولكنهم على أي وضع كانوا، ألفوا مذاهب آمنوا بها واعتقدوها: مذاهب بشرية لم تؤسس على وحي ولم ينزلها الله على لسان أنبيائه ورسله.
* ألفوا مذاهب تتصل بالله سبحانه وبالآخرة وبالسلوك الإنساني الذي يجب أن يلتزمه الإنسان.
* إنها مذاهب مؤسسة على العقل: عنه تصدر، ومنه تنبع، وعليه تقوم إن العقل ينشئها ويسير معها خطوة فخطوة حتى يصل بها - في تدرج - إلى غايتها، إنها مذاهب عقلية، إنها مذاهب بشرية. إنها في المستوىالبشري.
* وإذا كانت أسطورة الدين اليوناني هي التي دفعت هؤلاء المفكرين على ما أقدموا عليه فإن الأمر لم يكن كذلك فيما قبل. كان الوضع فيما قبل: التفرقة بين مجالين من مجالي المعرفة: -
1 - مجال المعرفة الحسية، وهو مجال آلات المعرفة فيه الحواس، وموضوعه المادة، والعقل يجول فيه مستنبطا ومستنتجا، فيؤلف فيه ويركب ويعيد تأليفه وتركيبه، ويستخرج قوانينه وقواعده، فتكون الحضارة، ويكون العلم بمفهومه الغربي الحديث أو بمفهومه الكوني المادي: طبيعة وكيمياء وفلك.
2 - مجال المعرفة الروحية والأخلاقية، وهو مجال ليست الحواس مصدره وليس العقل منشئه أو مبتدعه، وإنما مرده إلى الوحي ينزله الله على ألسنة من يصطفيهم لحمل الرسالة من خلقه، إنه من اختصاص الله تعالى يبينه على ألسنة رسله.
* وسار الأمر على هذه الكيفية إلى العهد اليوناني القديم: فخاض الإنسان في مجال الحس - وهو اختصاصه - وخاض في مجال الروح بعقله، وليس للعقل في مجال الغيب إلا محاولة الفهم؛ إذ الإنشاء والابتداع في هذا المجال ليس للإنسان، وليس من اختصاصه.
* وجاءت المسيحية الصادقة الموحاة فردت الأمر إلى حالته الطبيعية: عالم الحس، للإنسان أن يفكر فيه ويستنبط، وعالم الروح يتفهمه الإنسان عن طريق الوحي.(5/133)
* ولكن التيار الفلسفي اليوناني- وقد أصبح سنة مألوفة - غزا الجو المسيحي وأخذ مكانته المرموقة بين المفكرين الغربيين فنشأ فيهم الفلاسفة ونشأت في أجوائهم الفلسفة.
* وأخذ فلاسفة الغرب يحاولون التوفيق بين المسيحية والفلسفة وكان أبرزهم في هذا المجال الفيلسوف (توما الإكويني) .
* وإذا قرأت (ديكارت) تجده كأنه كان يمشي على الشوك وهو يتفلسف محاولا- ما استطاع إلى ذلك سبيلا- مداراة القساوسة وعلماء الدين والجو العام الفلسفي إذ يعلن، في مجاملة بالغة، أنه يؤيد الدين ولا ينحرف عنه وأنه يقدم إنتاجه ويعرضه على علماء الدين متقبلا ملاحظاتهم التي يوليها عنايته الفائقة، كان هذا موقف ديكارت وغيره. .
* وكان الإسلام- من قبل ديكارت ومن قبل الإكويني -: يهدي للتي هي أقوم، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويقود الإنسانية نحو مرضاة الله تعالى، ووضع الأمور في نصابها مبينا بأسلوب لا لبس فيه أن: العقيدة والأخلاق ونظام المجتمع والتشريع من أمر الله تعالى، وقد شاء الله سبحانه أن يرسم للإنسانية طريقها المعصوم في كل ذلك فأرسل الرحمة المهداة، خاتم النبيين - محمدا صلى الله عليه وسلم -:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} (1) {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} (2) {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} (3) {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} (4) {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا} (5) .
* ولكن الفلسفة اليونانية دخلت على استحياء في عهد المنصور، وقوي جناحها في عهد المأمون، وأصبح في الأمة الإسلامية فلاسفة.
__________
(1) سورة الكهف الآية 1
(2) سورة الكهف الآية 2
(3) سورة الكهف الآية 3
(4) سورة الكهف الآية 4
(5) سورة الكهف الآية 5(5/134)
والآن نتساءل: ما هي السمات العامة للفلسفة؟
* إنه لا يتأتى أن نحدد في صورة مقنعة موقف الإسلام من الفلسفة قبل تحديد سماتها العامة، فما هي هذه السمات؟(5/134)
* وأول سمة من هذه السمات، وهي أهمها، وتعتبر كالمنبع الذي عنه تفيض السمات الأخرى- هي أن الفلسفة لا مقياس لها للتفرقة بين الحق والضلال، بين الصواب والخطأ. فإذا اختلف فيلسوفان في أمر من أمور الفلسفة فإنهما لا يجدان مقياسا عقليا بحتا يرجعان إليه للحسم بينهما في موضوع الخلاف.
* أما في العلم المادي فإن المقياس هو "التجربة" فإذا اختلف عالمان في أمر كوني رجعا إلى التجربة، وهي تعلن في صراحة مشاهدة خطأ هذا وصواب ذاك.
* ما هو، في عالم الفلسفة، الذي يجري مجرى التجربة في مجال العلم؟
* لا شيء. . .
* ما الذي يحسم الخلاف في عالم الفلسفة؟
* لا شيء. .
* ما هو المرجع العقلي البحت من أجل الاتفاق في عالم الفلسفة؟
* لا مرجع.
ولقد شعر الفلاسفة بذلك: فقام اثنان من كبار عباقرة الفلسفة بمحاولة لإيجاد هذا المقياس، وهما (أرسطو) في الماضي و (ديكارت) في العصور الحديثة.
ولقد أخفق كل منهما إخفاقا تاما كاملا.
ونبدأ الحديث عن أرسطو - ولا ننسى أننا في عالم الإلهيات: مجال الفلسفة الرئيسي - لقد فكر أرسطو وقدر، ثم فكر وقدر، وخرج على العالم بما يسمى (المنطق الأرسطي) أو (المنطق الصوري) وأخذ هذا المنطق في عالم الفكر الفلسفي مجالا من الشهرة والعناية لا حد له. وأخذ في الجو الإسلامي شهرة ذائعة الصيت.
وتبناه جميع فلاسفة الإسلام ابتداء من (الكندي) في المشرق إلى (ابن رشد) في المغرب.
ولكن كثيرا من المسلمين ذوي الأصالة في الفكر الإسلامي أبانوا في وضوح أن المنطق الأرسطي منهار، وأنه متهافت، وأن الخلل في جوهره وأركانه وأنه خلل لا يصلح.(5/135)
وكان من هؤلاء (ابن تيمية) الذي كتب كثيرا في نقد المنطق ونقضه: لقد كتب في ذلك كتبا وكتب في ذلك فقرات منثورة هنا وهناك في خلال كتبه الكثيرة وفتاواه المستفيضة.
وممن كتب في نقد المنطق ونقضه: ابن حزم.
والمحدثون جميعا لا يجد المنطق عندهم ترحابا ولا قبولا.
وقد كتبنا نحن ننبه على أن المنطق لا يحسم خلافا ولا يفصل حقا عن باطل. ومما كتبناه في المنهج الحديث والمنهج الأرسطي ما يلي:
إن المقاييس هي:
أ- الاستقراء
ب- القياس
أما الاستقراء - وهو أساس المفهومات العامة والقضايا الكلية - فإنه:
1 - مبني كله على الحس: إنه استقراء محسات: إنه تتبع جزئيات، لا تخرج عن نطاق الواقع، أما المساتير فهو بريء منها كل البراءة، لأنها لا تدخل في دائرة اختصاصه: فهو عاجز عن أن يخترق الحجب ليصل إلى ما وراء الطبيعة.
2 - ثم إن الاستقراء: تام، وناقص. والتام - كما يعترف المناطقة - لا غناء فيه ولا فائدة.
أما الناقص- وهو المهم في نظرهم فإنه - في رأيهم أيضا - ظني، وهو - لذلك - عرضة للتغيير، في كل آونة.
" كل معدن يتمدد بالحرارة" تلك قضية من قضايا الاستقراء، إنها قضية عامة شاملة ولكن المعادن لم تنكشف بعد بأكملها.
ومن الجائز أن يكتشف في الغد معدن لا يتمدد بالحرارة، إنها إذن، قضية مؤقتة ظنية، تتبرأ من اليقين الفلسفي.
" والعلم المادي كما يقول أحد المفكرين- لا يعرف الكلمة الأخيرة في مسألة من مسائله- وإنما حقائقه كلها إضافية موقوتة. لها قيمتها. حتى يتكشف البحث عما يزيل هذه القيمة أو يغيرها ".
وهكذا قضايا الاستقراء، إنها:(5/136)
1 - خاصة بالطبيعة، ولا شأن لها بما وراءها.
2 - ظنية، لا تعرف اليقين.
أما القياس:
1 - فإنه مبني على الاستقراء، إذ هو منطو دائما على كلية، كلية استقرائية، وما دامت قضايا الاستقراء ظنية- كما رأينا - وميدانها المحسات، فنتائج القياس ظنية كذلك، وميدانها المحسات.
2 - إن المناطقة لا يشترطون في مقدمات القياس، أن تكون مسلمة صادقة في نفسها، وإنما يشترطون أن يسلمها المتجادلون فحسب، وقد تكون - كما يقول صاحب البصائر النصيرية: منكرة كاذبة في نفسها، وفي هذه الحالة يكون القياس صحيحا ونتيجته باطلة.
وإذا كان الأمر كذلك فما فائدة القياس الأرسطي؟ ما قيمته إذا كان لا يعول فيه إلا على أن تكون المقدمات مستوفية لشروط الإنتاج بحيث تستلزم النتيجة وإن لم تطابق النتيجة الواقع؟
ما قيمته إذا كان لا يحفل بصدق النتيجة أو كذبها؟
إنك إذا قلت: الكثير من العلم يؤدي إلى الاستقلال الفردي، وكل ما يؤدي إلى الاستقلال الفردي مضر بالمجتمع، فالكثير من العلم مضر بالمجتمع، كان هذا قياسا صحيحا في نظر المناطقة الأرسطيين.
وإذا قلت: الكثير من العلم يؤدي إلى التماسك الاجتماعي، وكل ما يؤدي إلى التماسك الاجتماعي مفيد للمجتمع، فالكثير من العلم مفيد للمجتمع، كان هذا أيضا قياسا صحيحا عند المناطقة، ومع ذلك فالنتيجتان متعارضتان.
3 - ومع كل هذا فالقياس استدلال دوري فاسد، ذلك أن العلم بالنتيجة في نحو قولنا: محمد إنسان، وكل إنسان ناطق، فمحمد ناطق" متوقف على العلم بالكبرى، والعلم بالكبرى متوقف على العلم بالنتيجة، لأنك لا تستطيع أن تحكم بالناطقية على جميع أفراد النوع الإنساني، إلا إذا تأكدت من ثبوت الناطقية لمحمد، ولو كنت في شك من ذلك، لما استطعت تعميم الحكم على جميع أفراد الإنسان، وإذن تكون النتيجة متوقفة على الكبرى وتكون الكبرى متوقفة على النتيجة، وعلى ذلك يكون القياس: استدلالا دوريا فاسدا، فلا يعول عليه.
4 - وأخيرا، فالمفروض: أن نتيجة القياس جديدة كل الجدة، إنها استنتاج مجهول هو النتيجة - من معلوم، هو المقدمات.(5/137)
ولكن النتيجة متضمنة في المقدمات، إنها ليست مجهولة، والقياس إذن لا يؤدي إلى معرفة جديدة، أو إلى استنتاج مجهول من معلوم، إنه- إذا أردت الدقة- استنتاج معلوم من. . معلوم.
تلك هي موازين العقل- وهي موازين لا غناء فيها ولا جدوى منها فيما يتعلق بالإلهيات. العقل إذن قاصر فيما يتعلق بالأخلاق. وهو قاصر على الخصوص فيما يتعلق بالإلهيات.
ومن هنا كانت الحكمة في نزول الأديان.
ومن هنا كان السبب في اقتصارها على الأخلاق والإلهيات.
وإذا كانت قد تحدثت في التشريع فإن التشريع داخل في نطاق الأخلاق.
أخفق إذن منطق أرسطو. واستمر الاختلاف بين الفلاسفة كما كان من قبل. واستمر الخلاف حتى بين المناطقة الأرسطيين: الكبار منهم والمغمورين، بل حدث الاختلاف بين تلاميذ أرسطو نفسه، وهم أتباع مدرسة واحدة هي المدرسة الأرسطية.
ومرت العصور، وتوالت القرون، وجاء (ديكارت) ، وبدأ (ديكارت) يتفلسف على استحياء وعلى حذر بالغ، فما كان جو زعماء المسيحية في الغرب إذ ذاك يوحي بالاطمئنان أو السكينة، لقد كان جوا رهيبا يأخذ على الظنة وينكل على الشبهة، لا يتحرى عدالة ولا يستشعر رحمة.
وأخذ (ديكارت) يتحسس طريقه في حيطة بالغة: مداريا، مجاملا، مادحا، متواضعا. .
وذات يوم أعلن أنه عثر على المنهج المعصوم.
وأنه على أساس من هذا المنهج سيقود الإنسانية إلى الحق. .
ورأى أن هذا المنهج صالح للكشف عن الحق في الكون وفي ما وراء الكون، في الطبيعة وفي ما وراء الطبيعة.
ولكن التجربة أظهرت خطأه في أثناء حياته.
وأن الخلاف استمر حول آرائه في الإلهيات، وآراء معاصريه، وآراء من قبله، كما كان الأمر من قبل أن يولد منهجه، وأخفق منهج ديكارت كما أخفق من قبل منهج أرسطو. .
وبقيت الحقيقة التي لا شك فيها، وهي أن الفلسفة لا مقياس لها.
هذه هي السمة الأولى. .(5/138)
السمة الثانية
ما دامت الفلسفة لا مقياس لها فهي إذن ظنية، إنها ظنية وإن عجنت بمنطق أرسطو الذي أخفق، وهي ظنية وإن خبزت بمنهج ديكارت الذي لم ينفع في قليل ولا في كثير، إنها ظنية لأنه لا يتأتى أن تفرق فيها- ولا مقياس- بين الحق والضلال، وستستمر هكذا إلى الأبد.
السمة الثالثة
مادام لا سبيل إلى اليقين في موضوعات الفلسفة فإن من البدهي أن: اختلاف الآراء فيها دائم".
وهذا هو الواقع حينما يتصفح الإنسان الفكر الفلسفي عبر القرون، إن الاختلاف والجدل دائم مستمر منذ أن نشأ الفكر الفلسفي، إنهم يختلفون حتى في المدرسة الواحدة.
وانظر مثلا إلى مدرسة سقراط فستجد تلاميذه يقرون بأستاذيته في احترام بالغ، وفي تبجيل يشبه التقديس، فإذا جئت إلى آرائهم في الإلهيات، أو في الأخلاق، فستجد الاختلاف والافتراق. . الاختلاف والافتراق بينهم وبين أستاذهم، والاختلاف والافتراق بين بعضهم وبعض. .
بل إن الأمر يصل بالشخص الواحد إلى أن يختلف مع نفسه بحسب تطور حياته، أو اختلاف بيئته أو اختلاف ما يقرأ من مصادر ثقافته.
وكل هذا واضح عبر العصور.
ومن غرائب الأمور أن الفلاسفة يعلمون علما يقينا، ويعلمون أن كل فيلسوف أتى من قبلهم هدم آراء سابقيه جميعا: إنه لم يعترف بوصول أحدهم للحق، إنه يخطئهم جميعا ولو لم يكن الأمر كذلك لأخذ بآرائهم، واكتفى بما أخبروه، أو بما أنشأه أحدهم من قبل.
ولكنه مع علمه بأن الفلسفة دائما إلى نقد ونقض فإنه لا يأبه بهذه المعرفة ويقيم مذهبه على أنقاض مذاهب سابقيه، فيأتي من بعده ويهدمه ويقيم مذهبا مآله السقوط وهكذا دواليك:(5/139)
السمة الرابعة
وما دام الاختلاف مستمرا فإن المسائل التي هي موضوع الفلسفة تستمر هي هي، "إن مسائل الفلسفة لم تتغير على مر الدهور ".
ما هي مسائل الفلسفة؟ إنها:
معرفة الله سبحانه وصفاته، وصلته بالعالم خلقا وتصريفا، وصلته بالإنسان قربا وتوجيها. .
والبعث وكيفيته. . .
والخلق الكريم الذي يمثل الفضيلة والكمال. . .
والخلق السيئ الذي يمثل الشر والفساد. . .
والنبوة والصلة بالله عن طريق الوحي: إثباتا وإنكارا، ثم: هل المعرفة ممكنة؟
وفي كل هذه الموضوعات الكبرى وغيرها مما يتصل بها اختلف الفلاسفة وما زالوا.
واستمرت هذه المسائل على مدى سبعة وعشرين قرنا تقريبا مثار بحث وجدل إلى الآن. .
لم يصل الفلاسفة في واحدة منها إلى اليقين، ولم توضع واحدة منها موضع الاتفاق.
السمة الخامسة
إن الاختلاف في مسائل الفلسفة ليس اختلافا في الإيجاب فحسب، وذلك أنه قد يجوز أن يكون لمسألة ما عدة حلول كلها إيجابية.
وليس اختلافا في السلب فحسب، وذلك أنه قد يجوز أن يكون لمسألة واحدة عدة حلول كلها سليمة
إن الخلاف عام في الإيجاب وفي السلب وإنه ليصل إلى الإنكار المطلق وإلى الإثبات المطلق في كل مسألة، وإنه ليصل بك أحيانا إلى طريق مسدود.
وإن الفكر الفلسفي ليصل بك أحيانا إلى إنكار السماء والأرض، وما بين السماء والأرض، ويقول لك: ليس في الوجود - يقينا- غيرك أنت وحدك.
وإن السمة الأخيرة هي سمة تؤدي إليها، - لا مناص- السمات السابقة.
وإذا كانت السمات السابقة يسلم كل منها إلى الآخر، فإنها جميعا تتكاتف لتؤدي إلى هذه السمة الأخيرة.(5/140)
السمة الأخيرة
هذه السمة الأخيرة هي أن:
" الفلسفة لا رأي لها ".
وقد تكون هذه السمة مفاجأة لبعض الناس، كيف يتأتى أن تكون هذه الفلسفة التي ملأت الدنيا صياحا، منذ نشأت، ولم تكف- منذ أن نشأت للآن - عن الصياح: لا رأي لها؟
والأمر أيسر من أن يحتاج إلى استفاضة:
أما أولا: فلأن " الفلسفة لا رأي لها". نتيجة واضحة لكل ما قدمنا.
وأما الثانية: فخذ أي مسألة من مسائل الفلسفة فستجد فيها الآراء التي تنكر، والآراء التي تثبت، إنك ترى الرفض والقبول في كل أمر.
والرفض فلسفة، والقبول فلسفة.
وقد يكون الرأي توقفا على الرفض والقبول وهو فلسفة، وقد يكون شكا في الرفض، وشكا في القبول في آن واحد، وهو أيضا فلسفة.
والشك إما أن يكون شكا في قيمة الآراء التي تعرض: نفيا أو إثباتا.
وإما أن يكون شكا في قيمة وسيلة المعرفة نفسها وهي الحواس والعقل.
وكل ذلك فلسفة في كل مسألة.
وإذا تساءلت- وأنت على علم بالجو الفلسفي: جو المتاهات والوهم- ما الرأي الفلسفي في هذه المسألة أو تلك فستجد كل ما قدمناه ماثلا أمامك يثبت لك بما لا مرية فيه أنه:
(لا رأي للفلسفة) .
وقبل أن نخلص إلى الخاتمة نذكر أمرا في منهج الفكر الفلسفي فيه عظة وفيه عبرة:
إن محاورة " فيدون " لأفلاطون لها أهميتها لأكثر من وجه. منها أنها:
1 - محاورة يدور البحث فيها حول خلود النفس.(5/141)
2 -وهي محاورة لا تتعارض فيها أهداف المناقشين، وإنما تتحد وتتفق ويحب المناقشون أن يصلوا فيها إلى نتيجة محببة إلى نفوسهم وهي أن: (النفس خالدة) .
3 - إن الذين يدور بينهم الحوار فلاسفة من الذين له وزنهم واعتبارهم، وأحدهم يسمونه " أبا الفلسفة" ويسمونه " أبا الفلاسفة".
4 - المتحاورون ليسوا من مدرسة واحدة وإنما هم من مدرستين مختلفتين هما: مدرسة سقراط، ومدرسة فيثاغورس، وهما وإن كانتا متقاربتين فإنه ما من شك في أن جو سقراط العقلي يختلف عن جو فيثاغورس الروحي.
ولهذا الاختلاف فإن اتفاقهما على غاية واحدة: (إثبات خلود الروح) ومحاولتهما الاستدلال عليها له أهميته الخاصة.
5 - بيد أن الأمر الأساسي الهام الذي من أجله نتحدث في هذا الموضوع هو اتفاق المدرستين على أن " الوحي" فيما يتعلق بما بعد الطبيعة هو السفينة الأمينة الآمنة المتينة، وأن العقل في مجال الإلهيات، إن هو إلا عبارة عن لوح من الخشب إذا قابلته أو إذا وازنته بالوحي: (إن الوحي سفينة والعقل لوح خشب) .
لقد كان الحوار يدور بين سقراط واثنين من الفيثاغوريين هما: سيميا " و" قابس " وهما من كبار فلاسفة المدرسة الفيثاغورية.
وأخذ الجميع يجهدون ذهنهم في البرهنة على خلود النفس ويقيمون أدلة وتنقسم بعض أدلتهم إلى فروع ثم: " ويسكت سقراط، ويسكت الجميع، وبعد هنيهة يقول سيميا:
إن العلم بحقيقة مثل هذه الأمور ممتنع أو عسير جدا في هذه الحياة، ولكن من الجبن اليأس من البحث قبل الوصول إلى آخر مدى العقل، فيجب:
إما الاستيثاق من الحق.
وإما - إن امتنع ذلك- استكشاف الدليل الأقوى والتذرع به في اجتياز الحياة.
كما يخاطر المرء بقطع البحر على لوح من خشب، ما دام لا سبيل لنا إلى مركب أمتن وآمن، أعني إلى وحي إلهي" (1) .
__________
(1) يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية(5/142)
وبعد ذلك يعودون إلى البحث من جديد حتى:
يقتنع قابس، ويعلن سيمياس أنه مقتنع أيضا، إلا أن شعوره المزدوج بعظم المسألة وبالضعف البشري يضطره إلى بعض التحفظ بإزاء هذه الأدلة على وجاهتها.
فيسلم له سقراط بحقه في هذا التحفظ، ويزيد قائلا:
بل إن المقدمات أنفسها مفتقرة إلى بحث أوكد.
إن هناك بحر الإلهيات، وهناك البحر المائي.
وكما أن للبحر المائي آلة عبور هي السفينة، فإن لبحر الإلهيات آلة عبور هي "الوحي".
فإذا استعمل الإنسان العقل في عبور بحر الإلهيات، فإنه يكون كإنسان يستعمل لوحا من خشب في عبور البحر المائي.
ولكن المضطر- حيث لا وحي- يستمسك بلوح الخشب- كما يقول سيمياس - " ما دام لا سبيل إلى مركب أمتن وآمن، أعني إلى وحي إلهي".(5/143)
اليهود والفلسفة
ولعل القارئ الكريم يسمح بأن أتحدث عن الجو الذي عشته في بواكير حياتي الفلسفية، لقد كان ذلك لأول عهدي بجامعة باريس حينما ذهبت إلى فرنسا للدراسة:
وأحب أن أصف الجو الذي عشته- بتوفيق الله - أثناءه.
دخلت الجامعة، وبدأت الدراسة في علم الاجتماع وعلم النفس، ومادة الأخلاق، وتاريخ الأديان.
وكانت هذه المواد يتزعم دراستها وتدريسها الأساتذة اليهود، أو الذين تتلمذوا على الأساتذة اليهود.
وكانت هذه المواد كلها تسير في تيار محدد، هو: أنها (علوم مجتمع) أي أنها لا تتقيد بوحي السماء، ولا تتقيد بالدين على أنه وضع إلهي، فهي تدرس موضوعاتها على أنها ظواهر اجتماعية، وظواهر إنسانية.(5/143)
وبدأنا في الدراسة نسمع مختلف الآراء في نشأة الدين، ومختلف الآراء في تفسير النبوة وينتهي الأمر برأي الأستاذ في الموضوع.
وليس في هذه الآراء- على اختلافها وتعددها- ما يتجه إلى أن الدين وحي من السماء أو أن النبي- أي نبي - موصول الأسباب بالسماء، وإذا انتظرنا من ذلك الأستاذ أن يصحح الوضع. فيدلي في النهاية برأيه مثبتا الألوهية والنبوة هادما للآراء الأخرى واصفا لها: بأنها ضلال.
إذا انتظرنا ذلك منه فإننا نكون واهمين، فإنه واحد من هؤلاء العشرات من الأساتذة في هذه المواد وما شابهها المنغمسين في تيار المادية.
لقد فسرت الجامعات الأوروبية العلم على أنه القواعد التي تقوم على التجربة والملاحظة. والتزمت أن تفسر وأن تشرح علم الاجتماع وعلم النفس وجميع الظواهر في الآفاق، وفي الأنفس، على هذا الأساس، والتزمت ذلك أيضا في تاريخ الأديان.
هذه العلوم بالذات وفروعها تتكاتف لتقود الإنسان متعاونة متساندة إلى الإلحاد.
إن للدين- فيما يزعمون- نشأة إنسانية اجتماعية، - وإن للخلق - فيما يروون- نشأة إنسانية واجتماعية، وقد تواضع الناس على سلوك معين سموه: " فضيلة " وعلى سلوك آخر سموه: " رذيلة ".
ودراسة الدين والأخلاق إذن تتجه إلى النشأة والمظاهر وعوامل التطور وظواهر التطور. . وليس للوحي في الدراسة من نصيب اللهم إلا الوصف لظاهرة نشأت في المجتمع.
وكل الظواهر والمظاهر في هذه الدراسات اعتبارية نسبية متبدلة لا تثبت على حال، ولا تستقر على وضع، لأنها في كل يوم تتبدل حالا بحال. .
وهذه الأفكار تتكرر في هذه المواد: تسمعها في علم الاجتماع، وتسمعها في علم النفس، وتسمعها في دراسة مادة الأخلاق، وتسمعها في دراسة تاريخ الأديان، وتسمعها في دراسة العلوم المتفرعة من كل ذلك.
والشاب الذي انتقل من الأقسام الثانوية إلى الجامعة يتأثر بأستاذه، فإذا كان الأساتذة متكاتفين على هدم القيم الثابتة، والمثل العليا التي يقررها الدين، وتقررها الأخلاق، إ ذا كان الأمر كذلك فإن الطالب الذي يعيش في أجواء تتعاون كلها على هدم عقائده ومثله وقيمه ينتهي به الأمر- في الأغلب الأعم من الحالات- بأن تنهار هذه القيم في شعوره.
ومن هنا كانت الظاهرة التي تجدها في طلبة الجامعات في أوربا من الاستخفاف بكثير من العقائد وبكثير من القيم وينتهي الطالب بالإلحاد، أو على أقل تقدير بالإيمان الكامن الذي لا فاعلية له، ولا تأثير في سلوك الإنسان.(5/144)
وكنت - من غير شك- أضيق بكل ما يجري في هذه الدراسات ولكن الله -سبحانه وتعالى- ألهمني التفكير في قيمة وآراء الأساتذة أنفسهم في هذه المواد.
وبدأت أفصل بين عالمين من المعرفة: عالم الماديات كالطب والطبيعة والكيمياء، وهي أمور تحكمها التجربة ولا تتعارض مع الدين، ولا اختلاف فيها. . وعالم التفكير المجرد في الدين والأخلاق والمجتمع.
وأخذت أدرس في أناة هذا الجانب الأخير من الزاوية التاريخية، فوجدت أنه منذ أن بدأ التفكير، بدأ في اللحظة الأولى الاختلاف فيه، وبدأ كل زعيم من زعمائه ينتقد الآخرين في عصره، وكل مفكري عصره ينتقدون المفكرين في العصر السابق عليه. . وهكذا الأمر.
وما من شك في أن هؤلاء الأساتذة الذين يدرسون لنا ينتقد بعضهم بعضا في آرائهم، ويخطئ بعضهم بعضا، كما ينتقدون السابقين عليهم ويخطئونهم، وسيصنع من بعدهم صنيعهم فيوجهون إليهم النقد ويخطئونهم وهكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد أخذ " دوركايم " اليهودي يعمل بمعاول هدامة في كل القيم والمفاهيم الدينية والأخلاقية، وأخذ تلميذه الأكبر اليهودي " ليفي بروهل " ينهج منهجه ويسير على طريقه في علم الاجتماع وفي علم الأخلاق وكتاب " ليفي بروهل ": " الأخلاق وعلم العادات" - مثل واضح لهذا النوع من هدم القيم، ومحاولة القضاء على كل المثل.
فكرت إذن في اختلاف الآراء، أو في هدم بعضها البعض في مواجهة كل ما يقوله الأساتذة وكنت أقول في نفسي- في مواجهة كل أستاذ- سيهدمك المعاصرون لك، وسيهدمك الذين يأتون من بعدك.
ولكني في مواجهة كل هذه الآراء الإلحادية- كنت أتشبث بيقين لا شك فيه.
- كنت أقول في نفسي: إذا كانت الأخلاق نسبية، فهل سيأتي الزمن الذي نعتقد فيه: أن الصدق رذيلة أو أن الشهامة شر، أو أن الشجاعة سوء، أو أن العفة جريمة. . أو أن كذا، أو كذا. . ثم أعود إلى نفسي فأقول: كلا. . .
- وأتساءل من جديد في مجال العقائد: هل سيأتي اليوم الذي لا نقول فيه بوحدانية الله؟ أو لا نقول فيه بإرادته وعلمه؟
- وأعود إلى نفسي وأقول: كلا. . .
- كنت أحاول دائما أن أردد أن هؤلاء القوم يسيرون في طرق لا تنتهي إلى غاية.
ما هدفهم من ذلك؟(5/145)
- وما كنت أجد الإجابة عن هذا السؤال آنئذ، لكن عرفت فيما بعد أن هذا هو المنهج اليهودي الذي رسموه بعد تفكير طويل، والتزموا به بكل الوسائل، أو بكل الطرق، وهو منهج التشكيك في القيم والمثل والعقائد والأخلاق.
يستخدمون هذا المنهج في المجالات المختلفة لإفساد المجتمعات وتحللها أخلاقيا ودينيا، ويضيفون إليه العمل على إثارة العمال على أصحاب رؤوس الأموال، وعلى إيجاد الضغائن والفتنة بين مختلف فئات الشعوب، والثمرة التي يعملون دائبين على الوصول إليها: أن يكون المجتمع شاكا مليئا بالفتن، وذلك سبيلهم إلى السيطرة.
إن اليهود يهدفون من وراء كل ذلك إلى السيطرة على العالم، إنهم يحطمون القيم والمثل حتى لا يكون في المجتمعات قوة من عقائد، أو قوة من خلق، ومن أجل ذلك تكاتفوا على أن تكون لهم الكلمة الأولى في الجامعات في علم الاجتماع وفي علم النفس، وفي مادة الأخلاق، وفي تاريخ الأديان، ولم يكن من السهل علي أثناء هذه الدراسة الاستمساك الواثق بالقيم والمثل التي نشأت عليها، لولا عون الله سبحانه، وتوفيق منه، ولولا لطف الله لصرت كواحد من هؤلاء الألوف الذين يدرسون في الجامعات الأوروبية ثم يخرجون منها، وقد تحطمت في نفوسهم المثل الدينية الكريمة.
- وانتهيت من هذه الدراسة، ثم كانت المرحلة التالية هي مرحلة " الدكتوراه ".، وبعد تجارب هنا وهناك في مجالات مختلفة من الموضوعات، وبعد تردد بين هذا الموضوع أو ذاك- هداني الله- وله الحمد والمنة- إلى دراسة (الحارث بن أسد المحاسبي) ولم يكن ذلك مصادفة، وإنما هي هداية وتوفيق من الله سبحانه وتعالى، وهي عناية أعجز عن شكر الله سبحانه وتعالى عليها.
- وانتهيت من دراسة" الدكتوراه" وأنا أشعر شعورا واضحا بمنهج المسلم في الحياة، وهو منهج: "الاتباع".
إن ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول كلمة موجزة عن هذا المنهج كأنها إعجاز من الإعجاز، إنه يقول: " اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم ".
وهي كلمة حق وصدق ثرية بالمعاني الطويلة العريضة، يبرهن آخرها على أولها، والنهي في وسطها يبرهن عليه أيضا آخرها: أي اتبعوا فقد كفيتم، والكافي هو الله سبحانه وتعالى الذي أوحى الشرع والأصول والقواعد، وطبق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كل ذلك وبينه، فكان تطبيقه مقياسا وبيانا ومرجعا يرجع إليه المختلفون.
" ولا تبتدعوا فقد كفيتم": إن الذي يبتدع هو من لا كفاية له، ولكن الله - سبحانه وتعالى- بعد أن أكمل الدين، وأتم النعمة، فليس هناك من مجال، ولا من حاجة إلى الابتداع.(5/146)
لقد كفانا الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم- كل ما أهمنا من أمر الدين.
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) .
وبعد أن وقر هذا المنهج في شعوري واستيقنته نفسي أخذت أدعو إليه: كاتبا ومحاضرا ومدرسا ثم أخرجت فيه كتابا خاصا هو كتاب: " التوحيد الخالص، أو الإسلام والعقل ".
وما فرحت بظهور كتاب من كتبي مثل فرحي يوم ظهر هذا الكتاب، لأنه من خلاصة تجربتي في حياتي الفكرية.
وهذا المنهج يفترض:
1 - مقاومة الغزو الفكري:
والغزو الفكري له مجالات مختلفة: هناك الغزو الفكري في العقائد يتمثل في كل هذا التراث الضخم الذي نقل إلى اللغة العربية فيما يتعلق بما وراء الطبيعة، وهو تراث مختلف متعارض، بل ومتناقض، وهو نتاج بشري بكل ما يتسم به النتاج البشري من خطأ وضلال.
2 - والغزو الفكري في نظام المجتمع:
الذي حاول أن يفرض علينا نظام المجتمعات الأوروبية. وإذا نحن سرنا في تياره، فإننا نصبح ولا شخصية لنا ولا ذاتية ونصبح وقد فقدنا رسالتنا التي كلفنا بتبليغها للناس ونشرها وهي رسالة الإسلام التي من أجلها كانت الأمة الإسلامية، وبدونها تصبح الأمة الإسلامية ولا مبرر لوجودها.
3 - والغزو الفكري في مجال التشريع:
وهذا الغزو الفكري في مجال التشريع توجد أسسه وأصوله بصورة مشروعة في مختلف الأقطار العربية ممثلة في كليات الحقوق التي تنفق عليها الدولة وتعتمد شهاداتها.
وكليات الحقوق هذه دراستها غزو فكري، واستعمار فكري ودراستها: أثر من آثار الاستعمار التي لم تزل بعد أن زال الاستعمار.
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(5/147)
وإذا كانت الأمم الواعية تحاول جاهدة أن تتخلص من وصمة الاستعمار بما فيها من شرور ورجس وآثام فإن الكثير من الدول العربية لم تحاول أن تتخلص من وصمة الاستعمار الصارخة الواضحة الممثلة في هذه الكليات.
إن هذه الكليات تخصص عشرين ساعة في الأسبوع للقوانين الأوروبية أي للفكر الأوربي في التشريع، وتفرض على الطالب أن يستذكره ويستوعبه ويحفظه ويتمثله، وينجح فيه في الامتحان.
أي أنها تفرض على الطالب أن يستعمر فكره الأوربيون في مجال التشريع، وأن يلغي ذاتيته الإسلامية في هذا المجال، وأن يكون تابعا للأوربيين في هذا المجال، مقلدا لهم تجره عجلتهم، مستسلما لغزوهم، وبينما تخصص هذه الكليات عشرين ساعة أسبوعيا للفكر الأوربي في التشريع، إذا بها تخصص ساعتين فقط للتشريع الإسلامي.
ولو أن هذه الكليات في فرنسا أو في إنجلترا لما فعلت أكثر من ذلك. . ومنهج الاتباع: إذن يقتضينا أن ننظر في جد في أمر هذه الكليات من أجل أن نتمثل الوطنية والإسلامية والعروبة.
وبعد: فإن منهج الاتباع هو الخلاصة الجوهرية لتجاربي الخاصة بالطريق الذي ينبغي أن يسلكه المسلم في حياته وإذا سار فيه المسلم فردا أو سار فيه المجتمع مجتمعا، فإن الله - سبحانه وتعالى- يكتب له الهدوء والطمأنينة والسعادة، لأنه يكون في جو رباني مليء برعاية الله سبحانه وتعالى وعنايته وإن منهج الاتباع ينفي من الجو الإسلامي الانحراف الفكري: ثم إنه ييسر لنا رعاية الله تعالى وتوفيقه وحمايته ونصره ويجب نشره في جميع الأجواء الإسلامية: إنه المنهج الإسلامي.
{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 101(5/148)
البلاغة النبوية وأثرها في النفوس
- الدكتور حسن جاد: (1) .
انتقلت لغة العرب بعد الإسلام من حال إلى حال، وتبدلت أوضاعها وسماتها من مظهر إلى مظهر، فلبست ثوبا قشيبا نفذت به من الأسماع إلى القلوب، واستطاعت أن تمازج الأفئدة فتؤثر فيها تأثيرا عجيبا. وذلك بفضل ما أفاضه عليها القرآن من طرائق التعبير، وروائع الأسلوب، وإعجاز الصياغة، وبراعة القصد إلى الهدف. حتى صارت تدخل على القلوب والعقول والأحاسيس دخول المأنوس به، المرغوب فيه. . ثم بما اكتسبته من أسلوب الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وبيانه الساحر، وحكمه البالغة، وبلاغته المؤثرة، وقدرته الفائقة على الاختراع والتشقيق لضروب الكلام، وتصوير المعاني بأروع الصور، وابتداع الأخيلة التي لم تعرف في كلام العرب، وظلت بعده من الحسنات التي لم ينسج الناس على منوالها، ويدبجوا كلامهم على مثالها، دون أن يقتربوا من حدها.
أجل كانت بلاغة الرسول الكريم مضرب المثل، وموضع الدهش، ومحل الإعجاب من كل من سمعه، وأنصت إلى ألفاظه تقطر رقة، وتفيض عذوبة، وأصغى إلى معانيه تطل منها أروع الحكم، وتنبجس خلالها أصدق الأمثال، حتى لقد عجب من ذلك البليغ المنطيق: «علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نعرفه، فمن علمك؟
__________
(1) الدكتور حسن جاد عميد كلية اللغة العربية جامعة الأزهر القاهرة(5/149)
فقال صلوات الله وسلامه عليه-: أدبني ربي فأحسن تأديبي» .
«وقال له صفيه وصديقه أبو بكر - رضي الله عنه: لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك» .
وكان -عليه الصلاة والسلام- يعتز بما منحه الله من نقاء الفطرة، وصفاء القريحة، وخلابة المنطق، ورجاحة الفكر، وسجاحة الأسلوب، فيقول: «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش ونشأت في سعد بن بكر» .
ولا غرو، فسفارة بين الخالق والمخلوق تعتمد على المنطق الخلاب، والبيان الجذاب، والحجة المقنعة، والحكمة البالغة، والكلام الذي يملك النفوس، ويأسر الألباب.
وإذا كان العرب أمة البلاغة، وأئمة الفصاحة؛ تعنو لهم أزمة القول، وتنقاد أعنة الكلام، ويهتفون بروائع الخيال، فينصاع لهم عصيه، ويذل لهم أبيه، وينقاد شامسه. وإذا كان الكلام صناعتهم التي بها يباهون ويتشدقون؛ فلا بد أن يكون الرسول الذي يبلغهم عن ربهم، ويهدم عقائدهم الباطلة، ومذاهبهم الزائفة؛ ويغير ما ألفوا من عادات، وما ورثوا من تقاليد. . لا بد أن يكون بيانه أسمى من بيانهم، ومنطقه أبلغ من منطقهم. ومن هنا كان تأييد الله سبحانه له بمعجزة القرآن، وحجة البيان.
ومن هنا كان بيانه- عليه السلام- السحر الحلال، والنبع الدافق، والمشرع العذب الذي يتفجر من طبع مهذب مصقول، وفطرة عريقة أصيلة، تساندت في صقلها أقوى العوامل، وتعاونت على إذكائها أبلغ المؤثرات، إذ نشأ وتقلب في أفصح القبائل وأصحها لهجة، وأخلصها منطقا، وأعذبها بيانا، وأرهفها جنانا، وأقومها سليقة.
كان مولده في بني هاشم، وهم ذروة قريش، سلاسة لسان، وفصاحة كلام، وسماحة بيان؛ وأخواله من بني زهرة، ورضاعه في سعد بن بكر، ونشأته في قريش، وتزوج خديجة وهي من بني أسد، وكل هذه قبائل خصها الله بعرق في الفصاحة عريق، وسبب من البلاغة وثيق. . وكان ذلك كله إعدادا من الله لنبيه، لينهض بأتم دعوة، وأكمل رسالة. . وكذلك كان فصيح المنطق، سلس الأسلوب، مونق العبارة، رائع الحكمة، قوي الحجة، بليغ التأثير في النفوس، يحس المرء لكلامه حلاوة العسل، ويستشعر اللذة الفنية التي تهز النفوس، وتثير الأحاسيس، وتأخذ بمجامع القلوب. إذا تكلم خشعت القلوب من جلال العظة، وإذا خطب انقطعت الشبه لبلاغة الحجة، وامتلأت النفوس اقتناعا بالحقيقة، ورضا برأيه، وامتثالا لأمره.
يقول الأستاذ مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله -: لقد رأينا هذه البلاغة النبوية قائمة على أن كل لفظ هو لفظ الحقيقة لا لفظ اللغة، فالعناية فيها بالحقائق، ثم هي تختار ألفاظها اللغوية على منازلها، وبذلك يأتي الكلام كأنه نطق للحقيقة المعبر عنها. ومعلوم أنه- صلى الله عليه وسلم- لا يتكلف. ولا يتعمل. . ومع هذا لا تجد في بلاغته موضعا يقبل التنقيح، أو تعرف له رقة من الشأن، كأنما بين الألفاظ ومعانيها في كل بلاغته مقياس وميزان.(5/150)
ومن هنا نرى أن بلاغة الرسول الكريم وأسلوبه وقوة بيانه وشدة إتقانه وعلو شأنه في اللغة، هي المنح التي يهبها خالق الإنسانية لمن يختاره للسفارة إلى الإنسانية.
وكما عصمه الله من لدن طفولته من الرجس والدنس، وحفظه من شرور الجاهلية وآثامها، كذلك عدل لسانه، وقوم بيانه، وأرهف منطقه، وأفاض عليه من لدنه قوة بيان يستطيع بها أن يناضل عن دعوته، وينافح دون رسالته.
وبعد فهذه صورة رائعة مشرقة من صور بلاغة الهدى النبوي، تمثل لنا ما منحه الله لرسوله من فصاحة القول، وإعجاز البيان، وإصابة الرأي، وقوة الحجة، وبراعة الحجاج، والقدرة القادرة على النفاذ إلى القلوب، والإحاطة بدخائل النفوس، لاستلال ما يخامرها من ريب، أو يداخلها من خوف، حتى يعود لها صفاء الإيمان، وسكينة الرضا، وبرد اليقين:
خطب النبي- صلى الله عليه وسلم- في الأنصار عقب غزوة حنين، حينما بلغه أنهم ساخطون على قلة نصيبهم من الغنائم، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه.
«يا معشر الأنصار: ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم؟
قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل،
ثم قال: " ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟
قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل.
قال صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصدقتم، أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟
__________
(1) الحظ المراد به النصيب
(2) قالة: مقالة يعني كلاما (1)
(3) جدة بكسر الجيم من الموجدة يعني السخط والغضب (2)
(4) يعني الفقراء (3)
(5) بلى: جواب بمعنى نعم في جوانب الاستفهام المنفي (4)
(6) أمن: من المن وهو إظهار الفضل فهو صاحب النعم وله أن يمن بها وكذلك رسوله (5)
(7) عائلا: فقيرا محتاجا، آسيناك بمعنى ساعدناك (6)
(8) اللعاعة بضم اللام النبات الضعيف الصغير والمراد الشيء اليسير، وفي لعاعة أي بسبب لعاعة (7)(5/151)
ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار ".
فبكى الأنصار حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا (4) » .
كان الأنصار من أهم أسباب نصر المسلمين يوم حنين، فقد انهزم المسلمون في بداية الموقعة، ولكن شجاعة الأنصار وسرعة التفافهم حول النبي - صلى الله عليه وسلم- أعادت إلى المسلمين تماسكهم وإقدامهم فتحقق النصر الكامل لهم. وبعد انتهاء المعركة قسم النبي الغنائم بين المسلمين، فإذا الأنصار أقل الناس نصيبا في حين أنهم كانوا يتوقعون أن يكونوا أعظم المسلمين حظا لما أبلوه وما حققوه من نصر، وعندئذ أخذت تسري همهمة قوية من الفتن والإشاعات بين الأنصار، كان مصدرها ثلاثة أمور:
1 - شباب الأنصار الذين لا يعرفون حكمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأهدافه على حقيقتها فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان في كل الغنائم والهبات، يراعي أن المال ليس هدفا لذاته، وإنما هو وسيلة يستميل بها النفوس، ويتألف بها القلوب التي لم تعمر بالإيمان بعد، فكان يفيض من العطاء على ضعاف الإيمان، وعلى الذين دخلوا في الإسلام حديثا ليزيد قلوبهم ارتباطا بالدين، أما من يثق بإيمانهم فلم يكن يهتم بعطائهم قل أو كثر.
فراح هؤلاء الشباب يرددون فيما بينهم أنهم لم يأخذوا حقهم من الغنائم.
2 - كان الأنصار يفزعون لمجرد تصورهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم- سيترك الإقامة في المدينة، وينتقل إلى موطنه الأصلي في مكة حينما يفتحها، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- حينئذ قد فتح مكة، واتجه إلى الطائف حيث دارت معركة حنين، والمفروض أنه سيعود إلى مكة، فكان الأنصار يخشون كل الخشية أن يقيم فيها ولا يعود إلى المدينة، فحينما وجدوا نصيبهم من الغنائم قليلا قوي هذا الخوف في نفوسهم.
__________
(1) وكلتكم: تركتكم (8)
(2) الشعب بكسر الشين الطريق في الجبل (1)
(3) أخضلوا يعني بللوا بالدموع (2)
(4) القسم بفتح القاف وسكون السين العطاء ولا جمع له (3)(5/152)
3 - كان بين المسلمين منافقون يندسون في خفاء، ومن مصلحتهم دائما إثارة الفتن بين المسلمين، والأوقات العصبية كالحروب هي أنسب الأوقات لنشر الفتن، وبث الإشاعات، حيث تكون النفوس قلقة غير مستقرة، يسهل أن تتقبل أي شيء فانتهز المنافقون هذه الفرصة، وأخذوا يشيعون بين الأنصار هذه الوساوس من تفضيل النبي لقبائل كثيرة محدثة في الإسلام على الأنصار، ومن أنه سيترك المدينة ويقيم بين أهله في مكة، ونحو ذلك مما ملأ نفوس كثير من الأنصار بالمخاوف والوساوس، وعندما أحس النبي - صلى الله عليه وسلم- بهذه الفتنة أمر أن يجتمع الأنصار فاجتمعوا وألقى فيهم هذه الخطبة.
من الواضح في الخطبة أنها مقسمة إلى عناصر محددة متميزة، وهذه العناصر تتدرج إلى الغرض المنشود في ترتيب وتنسيق واضحين، ونستطيع الإلمام السريع بهذه العناصر كما يلي:
1 - في المستوىالعالي من الخطابة لا بد للخطيب من (مقدمة) يجعلها منطلقا ومدخلا إلى موضوعه، وتختلف هذه المقدمة من خطبة إلى خطبة باختلاف الموضوع والمناسبة والظروف، ولكن لا بد من أن تكون مثيرة للانتباه، وموضع تسليم السامعين، بحيث يترتب على ذلك أن تكون أساسا لمتابعة موضوع الخطبة حتى النهاية. ومقدرة الخطيب وبلاغته هي التي تحدد طابع هذا التمهيد ونوعه، ولكن التمهيد يكون في أغلب الأحيان مقياسا أو سببا أساسيا لمدى نجاح الخطبة أو فشلها.
والنبي- صلى الله عليه وسلم- بدأ خطبته بهذا التمهيد الموجز المركز، الذي يملأ نفوس السامعين اقتناعا وتسليما، فهو يذكرهم في صورة سؤال «ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ (1) » وليس أحد من الأنصار أو غير الأنصار من المسلمين يشك في أن الرسول هو سبب هدايتهم إلى الله، ولولاه لم يكونوا مسلمين. فهذه حقيقة لا نزاع فيها بين أحد منهم. وكذلك كونهم فقراء فأصبحوا بالغنائم وموارد الإسلام أغنياء، حقيقة أخرى لا ينازعون فيها، وكذلك كونهم كانوا أعداء دائمي التصارع والتقاتل أمر لا يتنازعون فيه لأنه كان واضحا ومعروفا لهم ولغيرهم وكون الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان سببا في تآلفهم وتآخيهم أمر واضح ومسلم من الجميع.
وإذن فهذه حقائق مسلمة، يذكرهم بها الرسول، ليلفت نظرهم مقدما إلى أنهم مهما كان من جهدهم وتضحيتهم في سبيل الإسلام، فإن فضله عليهم أعظم وأسبق، وحيث كانوا يسلمون بذلك ولا ينازعون فيه، فإن نفوسهم تكون بهذا التمهيد قد بدأت النظر للموضوع نظرة تختلف عن نظرتها قبله، وبهذا يكون من أهم العوامل في تغيير مجرى تفكيرهم، وفي جذبهم إلى موضوع الخطبة بعقل مقتنع مقدما بأن الذي يخاطبهم صاحب أفضال بالغة العظم، ولا يقلل من عظم هذه الأفضال ما يقدمونه له وللإسلام.
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4330) ، صحيح مسلم الزكاة (1061) ، مسند أحمد بن حنبل (4/42) .(5/153)
فهذا التمهيد ليس من باب المن والتفضل، وإنما هو سرد حقائق واضحة دعت إليها ضرورة التخاصم أو التجادل، وبدون هذا التمهيد يصعب الوصول إلى إقناع بعض السامعين، خاصة في هذا الوقت المضطرب الذي يموج بالفتنة، ومعظمهم حينئذ كان يربط بين نصيبه من الغنيمة ومنزلته في الإسلام وفي نفس الرسول.
2 - وحتى يقتلع النبي - صلى الله عليه وسلم- كل جذور الفتنة، وحتى يسد كل منابع الوساوس والهواجس في نفوس الأنصار فقد آثر أن ينهج معهم من حيث الشكل المظهري منهج الخصومة. فقد صورهم في صورة الخصم الذي يدافع عن حقه وعن وجهة نظره، ولكن حكمة الرسول البالغة السمو تجعله ينوب عنهم في هذه الخصومة، مدافعا عنهم، وعارضا وجهة نظرهم كاملة، مع أن المفروض أنها خصومة ضده هو. وذلك ليقتلع من نفوسهم كل الوساوس والشكوك. فصورهم في صورة الخصم الذي يشحذ كل فكره ليستجمع حججه وأسلحته في الخصومة وأخذ هو يعرض هذه الحجج على طريقة العرب في المفاخرة والمنافرة.
وقد آثر النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يخاطبهم بالمألوف والمتداول في المجتمع، حتى يعطيهم حقهم كاملا في الخصومة، وحتى يشعروا بأنهم أدلوا بكل ما لديهم من حجج.
وهذا الوضع هو الذي يريح نفوسهم، ويستل كل ما فيها. ولذلك بعد أن عرض النبي فضله عليهم فيما ساقه من التمهيد، كأنه انتظر أن ينوب عنهم شخص يوضح موقفهم في الخصومة، بأن يعرض فضلهم على الرسول وعلى الإسلام. ولما لم يتقدم أحد، قال - صلى الله عليه وسلم: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار (1) » يعني ألا تردون علي كما يرد الخصم على خصمه؟ ولكن الأنصار أبوا أن يقفوا من النبي موقف الخصم، وإذا كل ردهم «بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل (2) » ولكن حكمة الرسول ونفاذ بصيرته تعلم أن هذه إجابة الإيمان، وإجابة العقل والمنطق، ثم تبقى بعد ذلك في النفس الأمارة بالسوء وساوسها. فلا بد أن يبرز هذه الوساوس على السطح، وذلك بإبراز العوامل أو الأسباب التي تستند إليها.
ولذلك ناب هو عنهم بأبلغ ما كان يمكن أن يتمثلوا به هم، فقال لهم ما مضمونه: إنكم تستطيعون أن تقولوا وأنتم صادقون: إن أهلك وقومك وأقرب الناس منك كذبوك فصدقناك نحن، وأتيتنا مستضعفا مغلوبا فنصرناك، وأتيتنا طريدا فآويناك وأسبغنا عليك الأمن والقوة، وجئتنا فقيرا محتاجا فساعدناك ومسحنا عنك الفقر والفاقة.
ولنا أن نتصور الأنصار وقد أخذت منهم الدهشة، وبلغ منهم الذهول، فهم لو وقفوا من الرسول موقف الخصومة، ومهما حشدوا من حجة، فلن يأتوا بمثل هذه الحجج أو لن يزيدوا عليها في أقصى الفروض.
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4330) ، صحيح مسلم الزكاة (1061) ، مسند أحمد بن حنبل (4/42) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/77) .(5/154)
وهناك فوق ذلك أمر يملأ نفوسهم عجبا، ويأخذ على قلوبهم وعقولهم كل أقطارها إعجابا بخلق الرسول وحبا له، وهو أن الرسول يشعر بأن الأنصار لهم كل هذه الأفضال والأنعم عليه، فأقصى ما قد يشعر به الأنصار أنهم أحسنوا إلى الرسول وإلى الإسلام، أما هذا الفيض العظيم الذي يعدده الرسول من أفضالهم عليه فهذا ما لم تتحدث به ألسنتهم وإن كان أقصى أمانيهم أن يكون في نفس الرسول شعور بأن لهم هذا الفضل. ومن الواضح حينئذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- بهذا العنصر قد جعل نفوس الأنصار وقلوبهم في أقصى حالات التهيؤ والانشراح لكل ما يقول، فقد أذهب كل ما فيها من موجدة. وإذا كان هناك بقية من وساوس فإن أي قول يصدر منه بعد ذلك في معالجة هذه الوساوس سيكون مقبولا. وهذا هو عنصر (التهيؤ) .
3 - وتأتي بعد ذلك مناقشة الموضوع الأساسي للخطبة، وقد أصبحت نفوسهم بالعنصر السابق مستعدة كل الاستعداد لكل ما يقوله الرسول حول هذا الموضوع وأما النبي - صلى الله عليه وسلم- فقد جعل المناقشة شاملة على إيجازها، ومستوعبة للموضوع من كل جوانبه كما يلي:
أ- غضب الأنصار لقلة نصيبهم من الغنائم، وتوهمهم أن ذلك قد يصغر من شأنهم بين الناس، وقد ناقش النبي هذا الجانب بعرضه في صورة أدبية تجسده في النفوس، حيث شبه كل هذه الغنائم والأموال التي يتزاحمون عليها بشيء من النبات الضعيف الصغير وهو اللعاعة بضم اللام، مشيرا إلى أن متاع الدنيا كله تافه يسير لا ينبغي أن يكون موضع التزاحم والتخاصم. ثم بين الحكمة في إيثار بعض القبائل الأخرى على الأنصار في أنصبة الغنائم، وهي " تألفت بها قوما ليسلموا " أما الأنصار فهو واثق من إسلامهم، ولذلك لم يكونوا في حاجة إلى أن يعطيهم ما يستميلهم به، ولذلك يقول لهم: " ووكلتكم إلى إسلامكم " فقد ساق لهم النبي في هذه الفقرة ثلاثة معان: أحدها تفاهة متاع الدنيا مهما كثر، والثاني أن كثرة العطاء ليست دليلا على علو الشأن، بل على العكس دليل على عدم الثقة في إيمان معطاها. الثالث أن النبي مطمئن إلى إسلام الأنصار، ولذلك لم يكن في حاجة إلى أن يتألف قلوبهم.
ب- خوف الأنصار من أن يتركهم النبي ويقيم في مكة موطنه الأصلي. فقد سرى الهمس، وتزايدت وساوس الأنصار ومخاوفهم من أن النبي وقد فتح مكة قد يترك المدينة ويعود إليها حيث منبته وأهله ومرتع صباه وشبابه. وهذا المعنى جانب أساسي من الموضوع الذي تعالجه الخطبة.
وهي تحسم هذا المعنى بأسلوب لا تعرف الخطابة أشد منه وقعا في النفوس وأبلغ منه تغلغلا في(5/155)
المشاعر، فالنبي - صلى الله عليه وسلم- لا يكتفي بأن يقول لهم: إنه سيرجع معهم إلى المدينة، وإنما يقارن كسب الأنصار في رجوعه معهم بكسب غيرهم من شياه الغنائم وإبلها، حيث يقول في صورة السؤال الذي يجسد هذا المعنى في نفوسهم: «ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ (1) » .
وبهذا تكون الخطبة قد حسمت الموضوع بصورة تقلب كيان تفكير الأنصار كله، حيث بينت لهم من حيث الغنائم أن أنصبة الغنائم لعاعة تسخر لخدمة الإسلام، فلا ينبغي للمؤمن أن يجعلها هدفا وغاية لجهاده في سبيل الله ومن حيث الإقامة بينت لهم الخطبة عظم نصيبهم إذا قارنوا استئثارهم بشخص النبي في إقامته بينهم بنصيب غيرهم من الإبل والغنم.
ج- وهو لا يكتفي باقتناعهم بأنهم كانوا مخطئين في ظنونهم وهواجسهم، وأنهم من تلقاء أنفسهم سيعودون إلى ما كانوا عليه من حبهم للنبي وتفانيهم في هذا الحب بل يخشى أن يظن الأنصار أن موقفهم هذا قد يغير قليلا أو كثيرا من حب النبي وإيثاره لهم فيؤكد لهم بأكثر من صورة أنه لم يغير رأيه فيهم، ولا موقفه منهم، بل يكشف لهم عن جوانب من حبه لهم لعله لم يكشفها لهم قبل اليوم بهذه الصورة أو بهذه الدرجة من الوضوح، فيقول لهم: «فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا، وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار (2) » فماذا يتمنى الأنصار أبعد من هذا، وأي حلم يراود أمانيهم أعظم من أن الرسول يتمنى أن يكون واحدا منهم لولا أن الهجرة في سبيل الله منزلة رفعها الله وهو فيها، فلا يملك خفض شيء رفعه الله. وأي خيال في الأماني والأحلام راود نفوسهم أعظم من أنهم لو كانوا في طريق والناس جميعا في طريق آخر، فالنبي يترك طريق الناس جميعا ويختار طريقهم؟
د- بل إن الخطبة تراعي أبعد جوانب الموقف واحتمالاته فقد يتوهم بعضهم أن هذا الرضا من جانب النبي منصب على الرجال الكبار من الأنصار الذين تربطهم بالنبي صلة مباشرة وثيقة، وأن الشباب والصغار قد لا يكونون في حسبان النبي أو فيمن يعنيهم بهذه الخطبة، فيبين لهم النبي ضمنا أنهم أيضا في حسبانه وفيمن يعنيهم، بل تذهب الخطبة إلى أبعد الاحتمالات في كسب القلوب، حيث تراعي جيلا قادما من الأنصار لم يوجد بعد. هذا الجيل سينقل إليه هذا الموقف من أجداده الأنصار، وقد يقولون أو يقال لهم لعل النبي وجد في نفسه شيئا من موقف آبائكم أو أن موقف أجدادكم كان كذا وكذا، فالخطبة قد تشير إلى مراعاة هذا المدى البعيد بالإضافة إلى كسب قلوب الأنصار أنفسهم بالدعاء لأبنائهم وأبناء أبنائهم، فيقول لهم - صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار (3) » .
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4333) ، صحيح مسلم الزكاة (1059) ، مسند أحمد بن حنبل (3/246) .
(2) صحيح البخاري التمني (7244) ، مسند أحمد بن حنبل (2/419) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (3/77) .(5/156)
هـ - ولهذا كان أبلغ ما أجاب به الأنصار النبي هو دموعهم الغزيرة التي تدفقت من قلوب ملأها الحب والإيمان، وهزها الندم والتأثر، وإذا هذه الدموع تظل تنسكب حتى تبلل اللحى، ثم يقولون: (رضينا برسول الله قسما وحظا) .(5/157)
لاحظ أن الخطبة اشتملت على سمات يحتاجها الأسلوب الخطابي، ويمتاز به من غيره من الأساليب، وقد بلغت الخطبة من هذه السمات الخطابية ذروة واضحة وإذا ذهبنا نتبين أبرز هذه السمات، نجدها كما يلي: 1 - تخصيص الخطاب: ومما تعتمد عليه الخطبة اعتمادا أساسيا التخصيص في الخطاب، فليس الكلام موجها إلى كل سامع، وإنما هو موجه إلى الأنصار بالذات، بحيث يشعرون أن هذا الكلام خاص بهم، وموجه إليهم، وهذا أساس هام من الأسس التي يمتاز بها أسلوب الخطابة عن غيره من أساليب الأدب، فالأسلوب العادي يكفي فيه أن يكون الكلام موجها إلى أي سامع؛ أما الخطابة فلكي تكون مؤثرة ينبغي أن يشعر السامع أنه معني بهذا الكلام بصفة خاصة، وأن ما يقال موجه إليه دون غيره، أو قبل غيره على الأقل فهذا الشعور يملأ نفس السامع اهتماما وإصغاء. والخطبة تحفل بتذكير الأنصار بأنهم هم المخاطبون فابتدأت بعبارة " يا معشر الأنصار " ثم تكرر هذا التعبير. وتكرر ذكر الأنصار مرات عديدة، وكأن الخطبة تراعي أنهم كلما استغرقوا في تعميق المعاني ومتابعة الخطبة، أعادهم هذا النداء " يا معشر الأنصار " إلى التنبه والتيقظ، فضلا عن إشعارهم بأنهم المخاطبون والمعنيون.
2 - الأسئلة: ومما تعتمد عليه الخطبة أيضا تكرار توجيه السؤال إلى المخاطبين فإن توجيه الأسئلة إلى السامعين يحقق للخطيب عدة أهداف، منها أن المسئول دائما في موقف أضعف من موقف السائل، من حيث إن السؤال يتطلب جوابا، وليس من المؤكد أن يحسن المسئول كل الإحسان في الإجابة، وإذا أحسن في بعضها فقد يسيء أو يقصر في بعض آخر، وضعف موقف المسئول في ظروف الخطابة يهيئ نفسه للاستجابة، بل إلى الانقياد إذا أحسن الخطيب القياد، ومما تحققه الأسئلة من أهداف أنها توقظ عقول السامعين، وتثير حماسهم واهتمامهم للبحث عن إجابة فيما بينهم وبين أنفسهم، وهذه اليقظة يحتاجها الخطيب ليعوا كلامه وأهدافه، والواقع أن الخطيب لا ينتظر من السامعين الإجابة ولا يتوقعها بل هو الذي سيجيب عن أسئلته، لأنها أسئلة هادفة، صاغها بطريقة معينة في تسلسل وترتيب يؤدي بها عادة إلى إجابة تلقائية يريدها الخطيب.
والخطبة حافلة بالأسئلة العديدة المتنوعة، بل تكاد الأسئلة تكون أبرز ما فيها فقد استهلها النبي - صلى(5/157)
الله عليه وسلم -: «ما قالة بلغتني عنكم؟ (1) » ثم يواصل الأسئلة: «ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ " ثم: " ألا تجيبونني يا معشر الأنصار (2) » ؟ " وهكذا.
3 - التفريغ النفسي: ومما تعتمد عليه الخطبة تفريغ نفوس المخاطبين مما يثقلها فيما يتعلق بالموقف والموضوع، وذلك بموافقة المخاطبين في أهم ما يثير نفوسهم، فالخطبة لا تعارض المخاطبين ولا تخالفهم على طول الخط، فضلا عن أن تخطئهم من كل وجه أو تسفه موقفهم، ولو عمدت أي خطبة إلى هذا المسلك، لما وجدت طريقا واحدا مفتوحا إلى قلوب السامعين. فليس من الحكمة أن يلتزم أي خطيب أسلوب التعارض أو العداء مع المخاطبين، وإلا لأوصد قلوبهم وعقولهم دون كلامه، وإنما الحكمة أن يكتسب عواطفهم أولا بأي صورة، ثم يقودهم إلى الفكرة أو الاتجاه الذي يريد وقد يصل كسب عواطفهم إلى درجة مجاراة السامعين ولو في الخطأ، من باب الافتراض أو الجدل ثم يدور بهم الخطيب المحاور إلى الطريق المنشود، بل إن إبراهيم - عليه السلام- بلغ من الحكمة إلى درجة أن جارى سامعيه في الكفر شوطا، ليعود بهم إلى طريق الإيمان، لأنه لو عارضهم بادئ ذي بدء فسينفرون منه أما مجاراتهم هذا الشوط فإنها تؤلف بينه وبينهم حيث أصبحوا جميعا في طريق واحد، هو طريق الكفر في بدايته، وقد صور القرآن الكريم هذا الموقف من إبراهيم فيما ساقته سورة الأنعام من قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (3) .
حيث يوافقهم أولا على أن هذا الكوكب هو الإله، ليمضي بهم من هذه النقطة الكافرة إلى طريق الإيمان وهكذا.
وهذه الخطبة التي معنا تمتص كل ما في نفوس المخاطبين من غضب وموجدة، وتفرغ هذه النفوس من كل ما تضيق به بالنسبة لهذا الموقف، حتى لا يبقى جانب أو هاجس يوسوس فيها مع الخطبة أو بعدها، فيسلم لهم النبي - صلى الله عليه وسلم- بأنهم أصحاب فضل عليه وعلى المسلمين ويعدد لهم كل ما في نفوسهم أو أكثر مما في نفوسهم من هذا الفضل، ويسلم لهم ضمنا بأنه أعطى أكثر مما أعطاهم لمن هم دونهم إسلاما وفضلا، ويسلم لهم ضمنا بغير هذا أيضا، وهذه الأمور التي يسلم لهم بها ويوافقهم عليها هي ما تشغل نفوسهم، وتثير مشاعرهم، ولكن هذا التسليم يطفئ كل ما في نفوسهم من حرارة وتوتر، ويجرهم إلى قياده، ولو بقي أمر ذو أهمية يقتنعون به ويخالفهم فيه الخطيب من أساسه دون إقناعهم لظلت نفوسهم في هواجسها، ولكن الخطبة تفرغ كل ما في النفوس، مسلمة به من حيث المبدأ ولكنها تقودهم مع ذلك إلى الطريق المنشود، وكأنه بقوله لهم: أنا مسلم بما تقولون فلست مكذبا لكم، ولا منكرا عليكم هذا، وإنما أنكر
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/77) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/77) .
(3) سورة الأنعام الآية 76(5/158)
عليكم ألا تحاولوا فهم الحكمة من وراء ما أفعل.
4 - الشمول: ومما يعتمد عليه نجاح أي خطبة شمولها واستيعابها لجوانب الموضوع، وموقف كموقف الأنصار الذي تعددت فيه العوامل والهواجس، يحتاج فيه السامعون إلى إجابة عن عدة أسئلة ماثلة في النفوس ولو بقي سؤال واحد لم تعالجه الخطبة لبقيت في النفوس بعض الهواجس والوساوس.
ومن هذه الأسئلة الماثلة في نفوس الأنصار أو نفوس كثير منهم:
لماذا أعطى الرسول أغلبية الناس من الغنائم أكثر مما أعطى الأنصار؟
وهل سيعود الرسول مع الأنصار إلى المدينة أم يستقر في مكة؟
وهل هناك علاقة بين الأنصبة والإيمان، بمعنى أن كثرة النصيب تدل على الإيمان والعكس بالعكس، أم لا توجد بينهما علاقة؟
وهل غضب الأنصار من أجل الغنائم سيترك أثرا في نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم- أم سيظل راضيا عنهم، محبا لهم؟
وقد رأينا فيما سبق كيف أن الخطبة استوعبت كل هذه الجوانب، فأجابت عنها إجابة شاملة مقنعة، ملأت نفوس الأنصار راحة واطمئنانا ورضا، حتى بلغوا من تأثرهم أن تبللت لحاهم بالدموع، ولو بقي شيء من هذه التساؤلات دون أن تناقشه الخطبة أو تجيب عنه لبقيت نفوسهم مهومة بعض التهويم في آفاق التردد والتساؤل.
5 - الإقناع: ومما يعتمد عليه نجاح الخطبة الإقناع، بمعنى أن يكون منطق الخطيب مقنعا، قوي الحجة، فمن الواضح أن عدم اقتناعهم يفقد الخطبة تأثيرها وقيمتها، حيث لا يتحقق للخطيب ما يهدف إليه من استجابة السامعين.
وفي هذه الخطبة نجد الإقناع يبلغ قمة ما يرجى منه، حيث لا يترك مجالا للتردد أو التساؤل، فضلا عن الخلاف والمعارضة، ويمكن أن نلتمس أبرز جوانب الإقناع فيما يأتي.
1 - اعتمدت الخطبة على المعاني والجوانب العامة التي يسلم بها الأنصار جميعا مهما تفاوتوا في التفكير أو السن أو حتى درجة التدين، دون الدخول في التفاصيل التي تحتمل الجدل والنقاش.(5/159)
2 - أغلق النبي - صلى الله عليه وسلم- باب الجدل والخلاف حين سلم للأنصار تسليما كاملا، بأهم نقطة اعتمد عليها موقفهم كله، وهي فضلهم في الإسلام، وأياديهم الطولى على المسلمين، فقد كان هذا الشعور في نفوس الأنصار هو مثار الفتنة، حيث حسبوا أن أفضليتهم في الإسلام تقتضي زيادة أنصبتهم من الغنائم، فاعترف لهم النبي بأفضليتهم في صورة لعلها أكبر بكثير مما راود نفوسهم، ولكنه علمهم أن الإيمان شيء، ومتاع الدنيا شيء آخر.(5/160)
ومع أن كثيرا مما سبق يعتبر في حقيقته مزايا أدبية، إلا أننا نشير هنا إلى الطابع الأدبي الواضح في أسلوب الخطبة من حيث إنه كلام أدبي بصرف النظر عن كونه خطبة أو غير خطبة. ومن هذه المزايا الأدبية:
1 - الإيجاز: فمن الواضح في الخطبة هذا الإيجاز المستوعب، فإننا لو تأملنا لوجدناها تعرض مجملا لتاريخ الإسلام في مكة، وفي المدينة خلال حياة النبي - صلى الله عليه وسلم- ثم جوانب من الخلق العظيم الذي تحلى به صلوات الله عليه، ومن آثاره هذا الوفاء العظيم الذي يحمله للأنصار، وكل ذلك تعرضه الخطبة واضحا مفصلا في هذا الإيجاز البليغ.
2 - تحديد العناصر: ومن الواضح في الخطبة تحديد عناصرها، وعدم تداخل هذه العناصر أو تكرار شيء منها، وهذا التمايز بين العناصر يعين السامع على حسن الاستيعاب، ويجعل المعاني واضحة بارزة مؤثرة.
3 - تجسيد المعاني: ومن أهم ما يتميز به الطابع الأدبي للخطبة تصويرها للمعاني في قوالب تجعلها مجسدة في ذهن السامع، وكأنها حينئذ ليست معاني فحسب، وإنما هي شخوص ماثلة أو مناظر محددة مرئية، ومن ذلك حديثه عن الغنائم التي أثارت الموجدة في نفوسهم فلم يذكرها قط حينئذ بأنها غنائم أو مال أو نحو ذلك، وإنما كان كل حديثه عنها بأنها «لعاعة من الدنيا (1) » والسامعون يعرفون أن اللعاعة بضم اللام نبات ضعيف صغير، فتمحى من أذهانهم صورة الغنائم ببريقها وإغرائها، ولا يبقى فيها إلا صورة هذا النبات الضعيف الذي لا يستحق التنافس عليه.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/77) .(5/160)
ومن تجسيد المعاني في الخطبة هذه المقارنة بين نصيب الأنصار وغيرهم من سائر الناس، والمقارنة حقيقية وواقعية، ولكن الطريف المثير هو تصويرها، فقد صور النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار في جانب والناس في جانب، وقد أخذوا جميعا نصيبهم فأما الأنصار فكان نصيبهم شخص النبي نفسه. فأخذوه ورجعوا به إلى رحالهم، وأما أنصبة الناس فكانت شياها وبعرانا، هذا يعود إلى رحله بشاة، وذلك يعود ببعير، ولنتأمل أي روعة بيانية، وأي تأثير عاطفي، تثيره هذه المقارنة في نفوس الأنصار حين يتصورون مجرد تصوير، هذه المقابلة بين نصيبهم العظيم، وتفاهة أي نصيب آخر حينئذ مهما عظم.
ومن هذا التجسيد للمعاني تعبيره - صلى الله عليه وسلم- عن ميله للأنصار وإيثاره لصحبتهم على صحبة سائر الناس، فقد جسدت الخطبة صورة أخرى من صور المقارنة بين الأنصار وغيرهم افتراضا. فالأنصار وحدهم في طريق، والناس جميعا يسلكون طريقا آخر، وإذا النبي يؤثر طريق الأنصار على كل طريق آخر وهذه مقابلة أخرى ترتسم مجسمة في نفوس الأنصار، حين يتمثلون أنفسهم في طريق خاصة بهم، وقد انحاز إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم- والناس جميعا محرومون مما حظي به الأنصار.
والخطبة بعد ذلك مليئة بالأساليب البلاغية والصور الفنية الرائعة.
لاحظ الاستفهام في " ألم آتكم ضلالا إلخ " وغرضه التقريري:
ولاحظ التوافق الموسيقي في تقسيم الجمل، وما فيها من مقابلات «ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله (1) » . . إلخ.
وكيف أسند الهداية والغنى وتأليف القلوب إلى الله، مع أنه يبين موقفه منهم: إنه يشير بهذا إلى أن ذلك فضل الله، وأنه بشر مثلهم، ولكنه يتصرف بإلهام منه، واستهداف لرضاه.
وفي الخطبة من أساليب التأكيد اللازمة للإقناع مثل " أما والله- فوالذي نفس محمد بيده. . إلخ ". وفي التعبير بلفظ " معشر " في " يا معشر الأنصار " استمالة لهم وإشعار بأنهم معشره وهو منهم.
وفي " والذي نفس محمد بيده " كناية عن الله سبحانه.
هكذا نرى الهدي النبوي في أروع صوره، ونتمثل بلاغته في قمة إعجازها، ونستجلي حكمته البالغة في المثل الصائب، والحجة المقنعة، والكياسة الرشيدة، والقيادة الحكيمة لأزمة النفوس الشاردة، وأعنة القلوب الجامحة. . . صلى الله عليك يا خاتم الأنبياء، وأفصح الفصحاء.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/77) .(5/161)
عن أنس -رضي الله عنه- «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفا يوم أحد فقال: " من يأخذ مني هذا" فبسطوا أيديهم. كل إنسان منهم يقول: أنا أنا فقال: " فمن يأخذه بحقه؟ " فأحجم القوم. فقال أبو دجانة رضي الله عنه: أنا آخذه بحقه. فأخذه ففلق به هام المشركين (1) »
رواه مسلم
اسم أبي دجانة: سماك بن خرشة. قوله أحجم القوم":
أي توقفوا. وفلق به": أي شق " هام المشركين" أي رءوسهم.
__________
(1) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2470) ، مسند أحمد بن حنبل (3/123) .(5/162)
أقباس من العسكرية الإسلامية في القرآن الكريم
محمود شيت خطاب (1) .
أردت أن أتحدث في الندوة العالمية عن موضوع لا يزال بكرا هو: العسكرية الإسلامية في القرآن الكريم.
ولكن لم يكن في الندوة متسع من الوقت فقد خصصت ساعتين لمعالجة قضيتين هامتين حيويتين هما: القرآن الكريم أولا، ومشكلة القدس وفلسطين ثانيا. . .
وكل قضية من هاتين القضيتين بحاجة إلى أمسيات أربعة أيام من أيام الندوة، لإشباعهما بحثا وتمحيصا.
وكان البحث عن: العسكرية الإسلامية في القرآن الكريم، جزءا من ساعة واحدة خصصت للقرآن الكريم لذلك لم أستطع أن أتحدث في الوقت المخصص لي في الندوة، وهي عشرون دقيقة (فقط) ، إلا عن رؤوس المواضيع لهذا البحث المستفيض.
ولست أريد هنا أن أوفي الموضوع حقه، حسبي أن أدل على الكنوز العسكرية في القرآن الكريم ولئن جعل الله في العمر بقية، وأمدني بعون من عنده، فسأنهض بإذن الله بمهمة عرض هذا الموضوع في كتاب خاص؛ بعد
__________
(1) اللواء ركن محمود شيت خطاب: من كبار العسكريين العاملين في حقل الدعوة الإسلامية(5/163)
أن عالجت الجانب اللغوي من العسكرية الإسلامية في الكتاب العزيز بكتابي المصطلحات العسكرية في القرآن الكريم، في جزأين كبيرين.(5/164)
التدريب الفردي
التدريب الفردي للمسلم عسكريا، هو غرس الخصال العسكرية في خلق الجندي المسلم وسلوكه غرسا يجعل منه مقاتلا من الطراز الأول.
وقد جاء في كتاب الخدمة السفرية، وهو أوثق المصادر العسكرية: أن الجندي لا بد أن يتمتع بالطاعة والصبر والشجاعة والثبات، وأن يضحي بماله ونفسه في سبيل تحقيق أهداف أمته ومصلحتها العليا.
حث الإسلام على (الطاعة) وهي الضبط والنظام كما نطلق عليها في التعابير العسكرية الحديثة.
وقد وردت (طاع) ومشتقاتها في تسع وعشرين ومائة آية من آيات الذكر الحكيم.
قال تعالى: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (1) .
وأشاع الإسلام معاني الخلق الكريم، ومنه الصبر الجميل، قال تعالى: {ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ، وقال تعالى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} (3) وقال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} (4) .
وغرس الإسلام روح الشجاعة والإقدام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} (5) {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (6) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 285
(2) سورة النحل الآية 110
(3) سورة آل عمران الآية 200
(4) سورة البقرة الآية 177
(5) سورة الأنفال الآية 15
(6) سورة الأنفال الآية 16(5/164)
والتولي يوم الزحف من الكبائر، كما نص على ذلك حديث رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام) . . .
وأمر الإسلام بالثبات في ميدان القتال، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (1) .
ودعا الإسلام إلى الجهاد بالأموال والأنفس لإعلاء كلمة الله، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (2) .
وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (3) وفي هذه الآية سبق المسلمون العالم إلى مفهوم الحرب الإجماعية التي تنص على: إعداد الأمة بطاقاتها المعنوية والمادية للحرب.
وبين الإسلام أن المصلحة العليا لا بد أن تكون لها الأسبقية على كل شيء في الدنيا، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (4) .
وجعل الإسلام مقام الشهداء من أعظم المقامات، وقال تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} (5) . وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} (6) ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (7) .
ولا أعلم عقيدة عسكرية في العالم، جعلت الحياة المستمرة الدائمة للشهيد غير العقيدة العسكرية الإسلامية.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 45
(2) سورة الحجرات الآية 15
(3) سورة التوبة الآية 41
(4) سورة التوبة الآية 24
(5) سورة النساء الآية 69
(6) سورة البقرة الآية 154
(7) سورة النساء الآية 74(5/165)
الحوافز المادية
ولكن القول بأن الحوافز الروحية وحدها هي التي تؤجج في المؤمن الحق روح القتال قول غير كاف بل الواقع أن في الإسلام حوافز (مادية) لا تقل أهمية عن الحوافز (الروحية) تعمل جنبا لجنب لترصين تكوين الجندي المسلم الذي لا يهزم أبدا.
ومن أهم الحوافز المادية: عدم الاستهانة بالعدو أولا، والإعداد الحربي تدريبا وتسليحا وتنظيما وتجهيزا وقيادة ثانيا.
لقد استهان المسلمون بعدوهم يوم (حنين) فغلبوا على أمرهم في الصفحة الأولى من صفحات ذلك اليوم العصيب. قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (1) .
والحذر واليقظة من مظاهر عدم الاستهانة بالعدو، قال تعالى: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (2) ، وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} (3) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (4) وقال تعالى: {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (5) .
إن الاستهانة بالعدو، تؤدي حتما إلى الاندحار، وما أصدق المثل العربي القائل: " إذا كان عدوك نملة، فلا تنم له".
والإعداد الحربي إعدادا متكاملا، يرفع المعنويات، ويقوي الثقة بالنفس، ويلهب مزايا الجندي الحق قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (6) .
وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (7) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 25
(2) سورة التوبة الآية 122
(3) سورة المائدة الآية 92
(4) سورة النساء الآية 71
(5) سورة النساء الآية 102
(6) سورة الأنفال الآية 60
(7) سورة الحديد الآية 25(5/166)
معادلة الحرب النفسية
إن الهدف الحيوي من الحرب، هو تحطيم الطاقات المادية والمعنوية للعدو، فإذا انتصر عليه في ميدان الحرب، واستطاع أن يحطم طاقاته المادية، فلا بد من جهود أخرى لتحطيم طاقاته المعنوية ليكون النصر كاملا يؤدي إلى الاستسلام.
وهنا يبدأ دور الحرب النفسية، التي تستهدف الطاقات المعنوية بالدرجة الأولى. وفي تاريخ الحروب أمثلة لا تعد ولا تحصى عن انتصارات استطاعت القضاء على الطاقات المادية، ولكنها لم تستطع القضاء على الطاقات المعنوية، فكانت انتصارات ناقصة استمرت مدة من الزمن - ثم أصبح المهزوم منتصرا وأصبح المنتصر مهزوما.
فكيف يصاول القرآن الكريم الحرب النفسية، ليصون معنويات المسلمين من الانهيار؟ كيف يحافظ القرآن الكريم على المعنويات العالية للمسلمين في أيام الحرب والسلام على حد سواء.
ولعل من أهم أهداف الحرب النفسية هي: التخويف من الموت والفقر ومن القوة الضاربة للمنتصر ومحاولة جعل النصر حاسما، والدعوة إلى الاستسلام وبث الإشاعات والأراجيف، وإشاعة الاستعمار الفكري بالغزو الحضاري، وإشاعة اليأس والقنوط.
المؤمن حقا لا يخشى الموت، قال تعالى: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} (1) وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} (2) وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} (3) ، وقال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (4) وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} (5) .
إن المؤمن حقا، يعتقد اعتقادا راسخا؛ بأن الآجال بيد الله سبحانه وتعالى، وما أصدق قولة خالد بن الوليد رضي الله عنه: " ما في جسمي شبر إلا وفيه طعنة رمح أو سيف، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء".
__________
(1) سورة يونس الآية 49
(2) سورة الأعراف الآية 34
(3) سورة آل عمران الآية 145
(4) سورة النساء الآية 78
(5) سورة آل عمران الآية 154(5/167)
والمؤمن حقا لا يخاف الفقر لأنه يعتقد اعتقادا راسخا بأن الأرزاق بيد الله سبحانه وتعالى، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1) ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (3) ، وقال تعالى: {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (4) .
والمؤمن حقا لا يخشى قوات العدو الضاربة، فما انتصر المسلمون في أيام الرسول القائد -عليه أفضل الصلاة والسلام- وفي أيام الفتح الإسلامي العظيم بعدة أو عدد، بل كان انتصارهم انتصار عقيدة لا مراء. . قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (5) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} (6) ، وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (7) {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (8) .
والمؤمن حقا لا يقر بانتصار أحد عليه ما دام في حماية عقيدته، لذلك فهو موقن بأن الانتصار في معركة قد يدوم ساعة، ولكنه لا يدوم إلى قيام الساعة، قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (9) .
والمؤمن حقا لا يستسلم بعد هزيمته، لأنه يعلم بأن بعد العسر يسرا، وأن العزة لله ولرسوله والمؤمنين، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} (10) ، وقال تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (11) .
والمؤمن حقا لا يصدق الإشاعات والأراجيف، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (12)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 37
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 3
(4) سورة الأنفال الآية 26
(5) سورة البقرة الآية 249
(6) سورة الأنفال الآية 65
(7) سورة آل عمران الآية 173
(8) سورة آل عمران الآية 174
(9) سورة آل عمران الآية 140
(10) سورة المنافقون الآية 8
(11) سورة يونس الآية 65
(12) سورة الحجرات الآية 6(5/168)
وقال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} (1) ، وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (2) .
والمؤمن حقا يقاوم الاستعمار الفكري ويصاول الغزو الحضاري، لأن له من مقومات دينه وتراث حضارته ما يصونه من تيارات المبادئ الوافدة التي تذيب شخصيته وتمحو آثاره من الوجود.
والمؤمن حقا لا يقنط ولا ييأس من نصر الله ورحمته، قال تعالى: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (3) وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ} (4) ، وقال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (5) وقال تعالى: {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} (6) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 60
(2) سورة النساء الآية 83
(3) سورة الزمر الآية 53
(4) سورة الحجر الآية 56
(5) سورة الروم الآية 36
(6) سورة فصلت الآية 49(5/169)
حرب عادلة
فإذا تذكرنا أن الجهاد في الإسلام، يهدف إلى حماية حرية نشر الدعوة الإسلامية، وإلى نشر السلام، وإلى الدفاع عن دار السلام.
وإذا تذكرنا أن تعاليم القتال في القرآن الكريم، تنص على الوفاء بالعهود، واحترام المواثيق، والترفع عن الظلم والعدوان، وإقرار السلام.
إذا علمنا أهداف القتال في الإسلام وتعاليمه، علمنا بأن المسلم يؤمن إيمانا عميقا بأنه يخوض (حربا عادلة) وهذه الحرب حافز جديد تجعل من المؤمن مقاتلا رهيبا كما يعبر عنه العسكريون المحدثون.(5/169)
تلك هي تعاليم القرآن الكريم التي تجعل من المؤمن الحق، مطيعا لا يعصي، صابرا لا يتخاذل شجاعا لا يجبن، مقداما لا يتردد، مقبلا لا يفر، ثابتا لا يتزعزع، مجاهدا لا يتخلف، مؤمنا بمثل عليا مضحيا من أجلها بالمال والروح، يخوض حربا عادلة لإحقاق الحق وإزهاق الباطل.
لا يخاف الموت، ولا يخشى الفقر، ولا يهاب قوة في الأرض، يسالم ولا يستسلم، ولا تضعف عزيمته الأراجيف والإشاعات، لا يستكين للاستعمار الفكري، ويقاوم الغزو الحضاري، ولا يقنط أبدا ولا ييأس من رحمة الله.
هذا المسلم الحق، يقظ أشد ما تكون اليقظة، حذر أعظم ما يكون الحذر، يتأهب لعدوه ويعد العدة للقائه، ولا يستهين به في السلم أو الحرب.
وهذا ما يفسر لنا سر الفتح الإسلامي العظيم الذي امتد خلال ثمانين عاما من الصين شرقا إلى فرنسا غربا ومن سيبيريا شمالا إلى المحيط الهندي جنوبا. ذلك لأن شعار المسلمين كان: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} (1) النصر أو الشهادة.
وذلك لأن المسلمين كانوا يحرصون على الموت حرص غيرهم على الحياة.
ذلك فيض من فيض ما جاء في القرآن الكريم عن: العسكرية الإسلامية وهناك بحوث فذة في القرآن الكريم في: التولي يوم الزحف، السلام في الإسلام، عقاب المتخلفين في الإسلام، الشهيد في الإسلام، وغيرها من البحوث، لعل الله يعينني على استيفائها بكتاب خاص.
تلك هي عظة القرآن الكريم حتى في المجالات العسكرية، ولكن يا ليت قومي يعلمون.
__________
(1) سورة التوبة الآية 52(5/170)
علي عبد الله الدفاع (1)
مبتكر علم الجبر
محمد بن موسى الخوارزمي
عاش محمد بن موسى الخوارزمي في بغداد فيما بين سنة 164 وسنة 235 هجرية (الموافق 780-850 ميلادية) وتوفي هناك، وقد برز في زمن خلافة المأمون، ولمع في علم الرياضيات والفلك حتى عينه المأمون رئيسا لبيت الحكمة.
طور الخوارزمي علم الجبر كعلم مستقل عن الحساب ولذا ينسب إليه هذا العلم في جميع أنحاء المعمورة. والجدير بالذكر أن الجزيرة العربية كانت مركز النشاط العلمي بين القرنين الثاني والسابع الهجريين (الثامن إلى الثالث عشر الميلادي) ولقد كان لبلاط الخليفة المأمون في بغداد تأثير كبير على النشاطات العلمية في العالم. إذ ابتكر الخوارزمي في بيت الحكمة الفكر الرياضي بإيجاد نظام لتحليل كل معادلات الدرجة الأولى والثانية ذات المجهول الواحد بطرق جبرية وهندسية.
__________
(1) الدكتور علي عبد الله الدفاع: عميد كلية العلوم وأستاذ الرياضيات بجامعة البترول والمعادن - الظهران.(5/171)
ولذا ميز الأستاذ جورج سارتون النصف الأول من القرن التاسع بعصر الخوارزمي في كتابه مقدمة من تاريخ العلوم " لأن الخوارزمي كان أعظم رياضي في ذلك العصر كما يقول سارتون ويستطرد سارتون " وإذا أخذنا جميع الحالات بعين الاعتبار فإن الخوارزمي أحد أعظم الرياضيين في كل العصور ". وأكد الدكتور أي وايدمان أن أعمال الخوارزمي تتميز بالأصالة والأهمية العظمى وفيها تظهر عبقريته. وقال الدكتور ديفيد بوجين سمث ولويس شارلز كاربينسكي في كتابهما الأعداد الهندية والعربية" بأن الخوارزمي هو الأستاذ الكبير في عصر بغداد الذهبي إذ إنه أحد الكتاب المسلمين الأوائل الذين جمعوا الرياضيات الكلاسيكية من الشرق والغرب، محتفظين بها حتى استفادت منها أوروبا المتيقظة آنذاك. إن لهذا الرجل معرفة كبيرة ويدين له العالم بمعرفتنا الحالية لعلمي الجبر والحساب ".
في بداية الأمر ابتكر الخوارزمي علم حساب " اللوغاريتمات" وعمل لها جداول تعرف باسمه محولا عند الغربيين إلى " اللوغاريتمات" وقد حدثت تغييرات عديدة في اسمه عند الغربيين بعد وفاته حيث ترجم اسمه " الخوارزمي " إلى اللاتينية كـ (alchwarizmi) و (al-karismi) و (algoritmi) و (algorismi) و (algorism) و (algorism) وفي عام 1857 ميلادية عثر على كتاب بعنوان (algoritmi de numero indorum) في مكتبة جامعة كمبردج البريطانية، فأجمع علماء الرياضيات في العالم بأن هذا الكتاب هو كتاب الخوارزمي في علم الحساب وقد ترجم إلى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي. وقد علق المؤلف" محمد خان في كتابه نظرة مختصرة لمآثر المسلمين في العلوم والثقافة" أن الخوارزمي يقف في الصف الأول من صفوف الرياضيين في جميع العصور، وكانت مؤلفاته هي المصدر الرئيسي للمعرفة الرياضية لعدة قرون في الشرق والغرب ".
ولقد عرف عمل الخوارزمي عند أوروبا عندما ابتكر علم حساب اللوغاريتمات (algorism) . كما كان عمله في علم الجبر لم يعط اسما لهذا الفرع الهام من فروع الرياضيات لأوروبا وإنما أضاف إليه الحلول التحليلية والهندسية للمعادلات - ذات الدرجة الأولى والثانية.
إن الرياضيات التي ورثها المسلمون عن اليونان تجعل حساب التقسيم الشرعي للممتلكات بين الأبناء معقدة للغاية، إن لم يكن مستحيلا، وهذا قاد الخوارزمي للبحث عن طرق أدق وأشمل وأكثر قابلية للتكيف فابتدع علم الجبر، وقد وجد الخوارزمي متسعا من الوقت لكتابة علم الجبر الذي جعله مشهورا حينما كان منهمكا في الأعمال الفلكية في بغداد. ويختص كتابه " الجبر والمقابلة" في إيجاد حلول لمسائل عملية واجهها المسلمون في حياتهم اليومية. وقد ذكرنا في كتابنا " إسهام علماء المسلمين في علم الرياضيات" أن الجبر يقصد بها إضافة حثدود موجبة تساوي في كميتها الحدود السالبة إلى طرفي المعادلة. أما المقابلة فتعني جمع الحدود المتشابهة. ولإيضاح(5/172)
معنى الجبر والمقابلة يجب أن نتأمل المثال التالي:
س2+5س+4= 4-2س+5س3
الجبر (أي النقل) تصبح المعادلة س2+7س+4=4+5س3
المقابلة (الحذف والاختزال) تصبح المعادلة س2+7س=5س3.
كان الأوروبيون يستعملون مصطلحا آخر للجبر مثل "كوسيكا" (cossica) أو مصطلح " قاعدة الشيء" (rules of the cosa) وفي بعض مؤلفات إنجليزية قديمة استخدموا المصطلح (cossic art) وقد أدخل هذا المصطلح العالم الرياضي المشهور " اكسلاندر " (xylander) في القرن الخامس عشر الميلادي وهذا المصطلح يعني شيئا في اللغة الإيطالية. ويقول الدكتور ديفيد يوجين سمث في كتابه تاريخ الرياضيات المجلد الثاني " أن الجبر عرف في اللغة الإنجليزية في القرن السادس عشر الميلادي بالجبر والمقابلة، ولكن هذا الاسم اختصر في النهاية من مخطوطة محمد بن موسى الخوارزمي الذي نال الشهرة العظيمة عام 825 ميلادية، وذلك في بيت الحكمة في بغداد حيث ألف هناك كتابه القيم " الجبر والمقابلة" وفيه حل الكثير من المعادلات ذات الدرجة الأولى والثانية من ذات المجهول الواحد. ولقد ترجم من اللغة العربية إلى اللاتينية بواسطة العالم الرياضي الأوروبي جرارد قرمونة (Gerard of cremona) بكلمة الجبر. ولقد ضاع الأصل المكتوب باللغة العربية لكتاب الخوارزمي " الجبر والمقابلة" ولكن جيرارد قرمونة (grard of cremona) قد ترجم النص الأصلي من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي وعرفت بالاسم اللاتيني (lulus algebrae et almucqrbalae que) عند أوروبا ثم اختصر العنوان أخيرا إلى كلمة (algebra) . وهو الاسم المعترف به في جميع لغات العالم في المعمورة". وظل كتاب الخوارزمي في الجبر معروفا في أوروبا باللغة اللاتينية إلى أن سخر الله تبارك وتعالى الباحثين الغربيين إلى العثور على أحد نصوص الكتاب باللغة العربية في مخطوطة محفوظة في أكسفورد (مكتبة بودلين) ، وصدرت نشرة عربية بالحروف المطبعية عام 1831 ميلادية.
واعترف المؤلف المعروف رام لاندو في كتابه مآثر العرب في الحضارة " بأن الخوارزمي ابتكر علم الجبر ونقل العدد من صفة البدائية الحسابية لكمية محدودة إلى عنصر ذي علاقة وحدود " لا نهاية لها" من الاحتمالات. ويمكننا القول بأن الخطوة من الحساب إلى الجبر هي في جوهرها الخطوة من الكينونة إلى الملائمة أو من العالم الإغريقي الساكن إلى العالم الإسلامي المتحرك الأبدي الرباني ".(5/173)
والذي دفع عالمنا المسلم الخوارزمي إلى تأليف كتابه " الجبر والمقابلة " هو سد الاحتياجات العملية للناس التي تتعلق بالميراث وتقسيم الممتلكات والتجارة. ولقد درس علم الفرائض وهو علم الحصص الشرعية للورثاء الطبعيين. كما ذكر المؤلف فاندز في كتابه مصدر جبر الخوارزمي " أن جبر الخوارزمي يعتبر القاعدة وحجر الأساس لكل العلوم. ومن ناحية أخرى فإن الخوارزمي أحق من ديوفانتوس بأن يلقب بأبي الجبر لأن الخوارزمي هو أول من درس الجبر في صورة بدائية، أما ديوفانتوس فكان مهتما بصورة رئيسية بنظرية الأعداد ". وقد بين الخوارزمي في مقدمة كتابه " الجبر والمقابلة" أن الخليفة المأمون هو الذي طلب منه أن يؤلف كتاب الجبر والمقابلة كي يسهل الانتفاع به في كل ما يحتاج إليه الناس". وهنا نورد نص مقدمة كتاب الجبر والمقابلة" وقد شجعنا ما فضل الله به الإمام" المأمون " أمير المؤمنين مع الخلافة التي حاز له إرثها وأكرمه بلباسها وحلاه بزينتها، من الرغبة في الأدب وتقريب أهله وإدنائهم وبسط كنفه لهم، ومعونته إياهم على إيضاح ما كان مشتبها وتسهيل ما كان مستوعرا، على أني ألفت من كتاب الجبر والمقابلة كتابا مختصرا، حاصرا للطيف الحساب وجليله، لما يلزم الناس من الحاجة إليه في مواريثهم ووصاياهم، وفي مقاسماتهم وأحكامهم وتجاراتهم، وفي جميع ما يتعاملون به بينهم من مساحة الأراضي وكري الأنهار والهندسة، وغير ذلك من وجوهه وفنونه، مقدما لحسن النية فيه، راجيا لأن ينزله أهل الأدب بفضل ما استودعوا من نعم الله تبارك وتعالى وجليل آلائه وجميل بلائه عندهم منزلته، وبالله توفيقي في هذا وغيره، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ".(5/174)
الجذور عند الخوارزمي
إن مصطلح جذر في الجبر يعود أصله إلى اللغة العربية. وقد احتوت الترجمات اللاتينية على كلمة (radix) وهي تعني أساسا كمصطلح عام، بينما ما ورث عن الحضارة الرومانية كلمة (latus) ، فكلمة (radix) تعود إلى جذر في اللغة العربية بينما تعود (latus) إلى ضلع مربع هندسي. وقسم الخوارزمي الكميات الجبرية إلى ثلاثة أنواع: جذر ويقصد بذلك الجذور عند الخوارزمي ولقد وضح جليا الدكتور أرك بل في كتابه الرياضيات وتطوراتها " أن الخوارزمي اعتبر الجذر للمجهول (س في الجبر الحديث) . ومال لمربع المجهول (أي س2) ، والعدد المفرد وهو الخالي من المجهول، والكعب لمضروب المال× الجذر (أس س3) ويتفرع من ذلك " مال المال" (أي س4) ، ومال الكعب (أي س5) ، وكعب الكعب (أي س6) ، ويتفرع من الخوارزمي كلمة جذر لتعني الحد ذا الدرجة الأولى من المعادلة ذات الدرجة الثانية ".(5/174)
من مخطوطة كتاب الجبر والمقابلة لمحمد بن موسى الخوارزمي في مكتبة بودلين - أكسفورد بريطانيا.(5/175)
المعادلات ذا الدرجة الأولى والثانية(5/176)
البرهان(5/177)
الشكل الهندسي لحل محمد بن موسى الخوارزمي لمعادلات الدرجة الثانية ذات المجهول الواحد مثل س2+21=10س وذلك من المخطوطة التي عثر عليها عام 1831 ميلادية في أكسفورد (مكتبة بودلين) بإنجلترا.(5/179)
طريقة التقريب لجذر المعادلة(5/180)
ويجدر بنا هنا أن نذكر أن أول من طور المحدودة التي ابتكرها الخوارزمي هو العالم الياباني سيكي كاو (seki kowa) الذي عاش فيما بين (1642-1708 ميلادية) وكان قد اشتهر بأستاذيته في علم الرياضيات، وأقام ملك اليابان حفلا كبيرا عام 1907 ميلادية على شرفه وزاد عليه العالم الألماني قوتفريد ويلهم ليبتز (gottfred wihelm Leibniz) الذي عاش بين (1646-1716 ميلادية) والذي أنتج في التفاضل والتكامل، وعلم المنطق، ونظرية ذات الحدين وغيرها وطور عام 1693 ميلادية نظريات المحدودة (determinant) ، والكثير من علماء الرياضيات يسمونه خطأ مبتكر المحدودة رغم أن الخوارزمي هو الذي أوحى بها والعالم الياباني سيكي كاوهو الذي طورها إلى ما هي عليه الآن وذلك عام 1683 ميلادية.(5/181)
وعرفها بأنها عبارة عن جملة كميات مرتبة في صفوف وأعمدة بحيث يكون عدد الصفوف مساويا عدد الأعمدة وتحصر هذه الصفوف والأعمدة بين خطين رأسيين. أما العالم الفرنسي أوغستين لويس كوشي (augustin- louis) الذي عاش بين (1789-1857 ميلادية) فقد عمم المحدودة وطبقها على الحياة العلمية، وتظهر شهرته في نظريات التحليل المركب ونظريات الاحتمال، والمتسلسلة المتقاربة والمتسلسلة المتباعدة والرياضيات التطبيقية بوجه عام.(5/182)
الطريقة البيانية لإيجاد جذر المعادلة كان الخوارزمي يستعمل بنجاح الطريقة البيانية لإيجاد الجذر الحقيقي لصورة تقريبية، كما استعملها وطورها من جاء بعده من زملائه علماء المسلمين في الرياضيات. أكد الدكتور هورد ايفز في كتابه تاريخ الرياضيات بأن الخوارزمي قد اشتهر بابتكاره واستعماله لطريقة الخطأ بين موضعين والتي تعرف باللغة اللاتينية عبر التاريخ باسم (regula durum falsorum) كما هي مشهورة في كتب التحليل العددي باسم (regular falsi) أو باسم (false positions) وتتلخص الطريقة البيانية بالآتي:(5/182)
إيجاد المساحة عرف الخوارزمي الوحدة المستعملة في المساحات، كما تطرق إلى إيجاد مساحات بعض السطوح المستقيمة الأضلاع والأقسام والدائرة والقطعة، والهرم الثلاثي والرباعي، والمخروط والكرة كما استعمل النسبة التقريبية وقيمتها ط = 22 \ 7 أو 10 أو 62832 \ 20000، وأثارت أبحاث هيرون في علم الرياضيات انتباه الخوارزمي حيث إنها تمثل الاتجاه الحديث في الرياضيات اليونانية. فاهتم عالمنا المسلم بمسألة هيرون المشهورة وهي: اعتبر مثلث متساوي الساقين قاعدته 12 وارتفاعه 8 المطلوب رسم مربع داخل المثلث وإيجاد طول ضلعه.(5/183)
ومن دراسة الخوارزمي لطريقة هيرون لإيجاد مساحة المثلث المتساوى الساقين، توصل إلي طريقة جديدة لإيجاد مساحة أي مثلث إذا عرفت طول أضلاعه الثلاثة. فعلى سبيل المثال: افرض أن هناك مثلثا طول أضلاعه (13، 14، 15) كما في الشكل المطلوب إيجاد مساحته.(5/184)
مؤلفاته
اهتم الخوارزمي في بداية الأمر بالاكتشافات في علم الرياضيات والفلك، ثم بعدها بدأ التأليف فصنضف كتبا كثيرة ويجدر بنا أن نورد لائحة منها على سبيل المثال لا الحصر: -
1 - كتاب في الحساب بسط فيه معارفه مبسطة جدا واستخدم فيه الأرقام العربية والنظام العشري، فساعد بذلك على تعرف الناس بها. وقد ترجم أديلارد باث هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية. وبقي حقبة من الزمن مرجع العلماء، والجدير بالذكر أن فن الحساب بقي حتى الآن يدعى في البلاد الأوروبية الغوريثمي (algorithmy) وهم اسم الخوارزمي عند نقله إلى اللغات الأوروبية المختلفة.
2 - كتاب في الجغرافيا شرح فيه آراء بطليموس.
3 - كتاب جمع فيه بين الحساب والهندسة والموسيقى والفلك، ويقول البروفيسور جورج سارتون في كتابه المدخل إلى تاريخ العلوم أن هذا الكتاب " يشتمل على خلاصة دراساته لا على ابتكاراته العظيمة".
4 - كتاب جداول للنجوم وحركاتها من مجلدين.
5 - كتاب شرح فيه طريقة معرفة الوقت بواسطة الشمس.
6 - كتاب العمل بالإصطرلاب.
7 - كتاب صنع بالإصطرلاب.
8 - كتاب وضح فيه طريقة الجمع والطرح.
9 - كتاب الجبر والمقابلة وكان مصدرا أساسيا اعتمد عليه العلماء في مشارق الأرض ومغاربها. في المجالات الرياضية. معظم ما ألفه من خلفه في علم الجبر كان مستندا عليه، وقد نقله من اللغة العربية إلى اللاتينية روبرت أوف شستر (Robert of chester) فاستنارت به علماء أوروبا.
10 - كتاب صورة الأرض وجغرافيتها.
11 - كتاب تاريخ.
12 - كتاب صورة الأرض في المدن، والجبال، والجزر، والأنهار.
13 - كتاب المعرفة - يبحث في علم النجوم.
14 - نقل وعلق على المجسطى لبطليموس إلى اللغة العربية.
15 - كتاب الوصايا.
16 - كتاب زيج الخوارزمي الأول.
17 - كتاب زيج الخوارزمي الثاني وهو جداول فلكية سماه (السند هند) جمع فيه بين مذهب الهند والفرس.
18 - رسالة عن النسبة التقريبية وقيمتها الرياضية.
19 - رسالة وضح فيها معنى الوحدة المستعملة في المساحات والحجوم.
20 - رسالة ذكر فيها برهانا آخر لنظرية فيثاغورث مستخدما مثلثا قائم الزاوية ومتساوي الساقين.(5/186)
21 - رسالة مفصلة وضح فيها قوانين لجمع المقادير الجبرية وطرحها وضربها وقسمها.
22 - رسالة شرح فيها طريقة إجراء العمليات الحسابية الأربع على الكميات الصم.
23 - كتاب الرخامة (الرخامة قطعة من الرخام مخططة تساعد على معرفة الوقت عن طريق الشمس) .
24 - كتاب رسم الربع المعمور.
25 - كتاب الجمع والتفريق.
26 - كتاب هيئة الأرض.
27 - كتاب المعاملات ويتضمن المعاملات التي يقوم بها الناس من بيع وشراء.
كان الخوارزمي يعرف أن هناك حالات يستحيل فيها إيجاد قيمة للمجهول (الكميات التخيلية) وسماها الحالة المستحيلة، وبقيت معروفة بهذا الاسم بين علماء الرياضيات حتى بدأ العالم السويسري المعروف ليونارد أويلر (leonhard euler) الذي عاش بين 1707- 1783 ميلادية. وعرف أويلر الكميات التخيلية بأنها الكمية التي إذا ضربت بنفسها كان الناتج مقدارا سالبا وأعطى كثيرا من الأمثلة على هذا. ثم ركز العالم الألماني المعروف كارل قاوس الذي عاش بين (1777-1855 ميلادية) على دراسة الكميات التخيلية وخواصها، وبرهن في عام 1799م على أن كل معادلة جبرية لها جذر على هيئة أ + ب ت. واعتبر العالم الفرنسي جان روبرت أرجان (jean Robert argand) الذي عاش فيما بين (1768 - 1822 ميلادية) ، أن الجذر التربيعي -أ = ت واستعملها في جميع أمثلته، وذلك عام 1806. وابتكر العالم الألماني كومر (e. e kummer) الذي عاش بين 1810-1893 ميلادية الكثير من نظريات الأعداد المركبة. ولا يخفى على القارئ المختص أن نظريات التحليل المركب لا تزال قابلة للتطور.
ولم يكتشف الخوارزمي علم الجبر ونظرية الخطأين فحسب (وهما أداة أساسية في التحليل العلمي الرياضي) وإنما وضع كذلك أسس البحث التجريبي الحديث باستخدام النماذج الرياضية.
وقد لعبت أعمال الخوارزمي في علم الرياضيات في الماضي والحاضر دورا مهما في تقدم الرياضيات، لأنها إحدى المصادر الرئيسية التي انتقل خلالها الجبر والأعداد العربية إلى أوروبا ويجدر بنا أن نفخر نحن المسلمين بأن علم الجبر من أعظم ما اخترعه العقل البشري من علوم لما فيه من دقة وأحكام قياسية عامة، ولا يكفي العرب والمسلمين فخرا بأن أحدهم هو أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي هو الذي وضع قواعده الأساسية وأصوله الابتدائية كما نعرفها اليوم. بل يجب أن يتبعوا منواله في الجد والكد والبحث والعمل على اكتشاف القوانين الكونية التي خلقها الله عز وجل حتى يقوى إيماننا على علم وبصيرة.(5/187)
تداعت الأمم على شعب الإسلام في كل أرضه
بين تمزيق وإبادة وطعن في القلب فسوف يأتي الله بقوم يحبهم. . ويحبونه.
يرفعون كل الأعلام التي نكست يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.(5/188)
اختلاف ربا الدين في الإسلام
عن
ربا اليهود
حسين توفيق رضا
اختلاف ربا الدين في الإسلام
عن
ربا اليهود
بعث الله تعالى صلى الله عليه وسلم خاتما للمرسلين، ونزل عليه القرآن مصدقا لما أنزل من قبل في التوراة والإنجيل ومهيمنا عليه، وعهد بقوله جل ثناؤه {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) إلى رسوله -عليه الصلاة والسلام-، أن يفصل ما أجمله القرآن من الأحكام التي أكمل بها الإسلام، واستقر بوحيها التطور في الشرائع، الذي اقتضته حال الإنسانية في مختلف عصورها حتى بلغت الغاية من رشدها، وأكد أصل الدين الواحد من التوحيد ومكارم الأخلاق ومصالح الناس، مما لا تغاير فيه بين العقائد (2) .
وإذا كان الانتفاع بالأموال من ضرورات الحياة في المجتمع البشري، وتفاوت الناس فيما يملكون من المال وفيما يحسنون من إصلاح شأنه حقيقتين تطبقان على الأمم كافة، فثم أوساط يجدون ما ينفقون وما يستثمرون، وآخرون
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) تفسير القرطبي، ج16 ص164.(5/191)
أغنياء منهم من لا يستطيعون تثمير ما يملكون، وبجانبهم كثيرون يعوزهم ما ينفقون أو يستثمرون، وإذا جعل الله تعالى لكل أمة شرعة ومنهاجا، فقد بينت التوراة من أحكام المال وتداوله ما يناسب حال بني إسرائيل من الهدى عند إنزالها، ونهت عن أخذ الربا من اليهودي. أما المقترض الأجنبي فثم نص على أخذ الربا منه، ثم جاء القرآن فبين أن اليهود خالفوا عن تحريم الربا، وأنهم انتحلوا كذبا أحكاما نسبوها إلى كتابهم يستبيحون بها أن يبخسوا غيرهم من الأميين أماناتهم، ثم فصل الإسلام شريعته الخالدة في المال، وأكملها وأظهر منها ما لم يبلغه علم اليهود أو غيرهم من كتابهم، فوردت نصوص الإسلام صريحة قطعية تحرم على الدائن أخذ الربا وعلى المدين إيتاءه، ولكنه قصر هذا التحريم على القروض ونحوها، وأخرج منه البيوع الآجلة فلا يعتبر فرق الثمن فيها من ربا الدين، وإنما أطلقت السنة اسم الربا على ما حظرته من بعض أنواع البيوع الخاصة، التي تخلو من خصائص الربا المعهود في القروض، مما يجعل للربا في شأنها معنى الحرمة والمخالفة عن حدود الشريعة في تنظيم التجارة، ويذر الربا لفظا مشتركا في الفقه يطلق على أنواع من المحظورات المختلفة، لكل نوع مصطلحه الخاص وأحكامه المتميزة، التي يجب التحرز من خلطها بغيرها، لتتبين حقيقة التنظيم الإسلامي لما يقابل أبواب الربا من الجوانب الاقتصادية.(5/192)
2 - مزاعم المستشرقين
ولكن نجد الباحثين من أهل الكتاب الذين يضيقون بالإسلام، ينكر بعضهم وجود نظام اقتصادي فيه ولا يرون في تعاليمه إلا وصايا خلقية بالتعاطف والمواساة بين المسلمين (1) ، ويجحد هؤلاء قيام دولة الإسلام باقتصادها المكين قرونا كثيرة ولا يحيطون بشيء من نظم هذا الاقتصاد في تميزها وعلوها في شأن الربا وغيره.
ويعرض بعضهم ما شرع الإسلام من أحكام الربا، ولكنهم لا يدركون الفرق بينها وبين ما يعرفون من رباهم، فتجد في بعض معاجمهم (2) أن الربا في الشريعة الإسلامية هو زيادة في كيل أو وزن أحد العوضين المتماثلين في عقد مبادلة تكون الزيادة مشروطة فيه بغير مقابل، ويصدق هذا التعريف على نوع واحد من ربا البيوع، هو ربا الفضل، الذي يحرم زيادة المقدار في بعض عقود الصرف والمقايضة، ويضيق هذا التعريف عن ربا النسيئة الذي يحرم التأجيل في عقود الصرف والمقايضة بصفة عامة، ومع أن هذا التعريف لا ينطبق أيضا على ربا القروض، الذي يحرم
__________
(1) الإسلام والرأسمالية، مكسيم رودنسون، تعريب نزيه الحكيم، ص5
(2) dictionary of islam. T. p. Hughes ondon.1935.p.544.(5/192)
زيادة الدين مقابل تأجيله، إلا أن صاحب المعجم ذهب إلى أن معنى الربا الذي أثبته للشريعة، هو المعنى ذاته للربا من قرض النقود الذي حرمته التوراة.
وتفرقت بهم سبل الظن من بعد ذلك اللبس.
فذهب فريق إلى أن تحريم الربا في الإسلام ما جاء إلا على التدريج، وأن آيات التحريم المدنية، ومنها آيات سورة البقرة التي قيل: إنها آخر ما نزل من آيات القرآن وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قبض من قبل أن يبين أحكامها، تدل هذه الآيات على قلة تأثرها بما كانت عليه حال الربا في مكة قبل الهجرة، وأنها جاءت أكثر تأثرا بفقه اليهود المقيمين بالمدينة، بعد إذ توثقت إحاطة النبي صلى الله عليه وسلم به، ويزعم هؤلاء أن التأثير اليهودي في التكملة الأخيرة لأحكام الربا يبدو غير منكور (1) ويريدون بكل أولئك أن يوهموا من يتولاهم بأن أحكام الإسلام ليست وحيا من عند الله الذي وسع كل شيء علما، وإنما اشترعها محمد صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه، فاستلهم بيئته بمكة شيئا يسيرا، ثم استوحى موفور علم اليهود بالربا، وهم يحاورونه بالمدينة، ويجاوز هؤلاء ما سجله الإسلام على اليهود من حرصهم على كتمان التوراة وكذب بعضهم عليها فيما تردوا فيه من خطيئات الزنى والربا وبخس الأميين أماناتهم، ويفترضون ما لم تشهد به الآثار، من أن النبي صلى الله عليه وسلم عكف على دراسة شيء من فقه اليهود في الربا. وإنما يبهتهم أن يعلموا اختلاف ما جاء به الإسلام عما يعلمه أحبارهم، وسبقه في تكامل أحكامه في الربا لم تعرفه سائر الشرائع.
وكذلك قال قائل من الفرنسيين: إن تحريم الإسلام للربا إنما يبرره ما جبل عليه المستقرضون في الشرق من عدم التحوط، الذي جعل من نظام الربا أداة استغلال لهم وسبب إملاق (2) ويصدر هذا القول بدوره عن إيهام بأن الإسلام لم يشرعه الله تعالى هدى للناس كافة، وإنما وضعه النبي -عليه الصلاة والسلام- بقدر ما يصلح شؤون الشرق وحده الذي عاش فيه، ولو أحاط ذلك القائل بما جاء به الإسلام من أحكام هذا الربا على حقيقتها ومدى تطورها بالنسبة إلى ما عليه اليهود والنصارى في الربا وتبين كيف طفق عاهلان كبيران من مشترعي قومه يضعان القوانين التي تحظر الربا في بلادهم وتختص اليهود بتدابير مشددة تكفهم عن أخذه، وما سنت تلك التشريعات إلا من بعد أن شخص واضعاها بحميتهما إلى الشرق وقدر لهما المكث سنين بين المسلمين فيه وتاريخ ما ذاقه أهل الغرب ببلاد أوروبا، سواء في عصور وثنيتهم ومن بعد نصرانيتهم، شاهد على ما هو أفدح مما أصاب الشرق من بلايا الربا، ولا يزال مشترعوهم وأحبارهم يجهدون في مكافحة الربا، ولا يجدون في الناس ما يغمره قوله من التحوط، الذي يعوز الشرقيين عنده، ليخلص معه الربا من مساوئ الاستغلال والإملاق.
__________
(1) shorter encyclopaedis of islam h. gibb. J. kramers. eiden. ondon 1961 p. 43
(2) droit musulman Raymond charles paris. P.86(5/193)
وذهب آخر إلى أن تحريم الربا بكافة أشكاله هو من العقبات التي تعوق الإسلام عن الأخذ بمقتضيات العمران الحديث، وأهاب بالفقهاء المحدثين، أن يبذلوا الجهود الطائلة لابتكار التفريعات الدقيقة، التي تعينهم على إباحة الفائدة غير الربوية ونحوها من النظم الجديدة، أسوة بما صدر في زعمه من فتاوى، بأن ليس في التأمين على الحياة، وفي أرباح صناديق التوفير أو الادخار ما ينافي الشرع، وبأن الحكومة العثمانية كان مباحا لها أن تعقد قروضا في صورة سندات تدفع لحاملها أرباحا سنوية عنها.
ويتحرر المسلمون من إسار المبادئ المتشددة التي اقتضت المراكشيين أن ينكروا على سلطانهم أمره بتأسيس بنك يعطي فوائد مالية، باعتباره من كبائر ما حظره الإسلام (1) ويوهم هذا القول بأن المسلمين بحاجة إلى التطور الذي سلكه غيرهم إلى قصر الربا على ما فحش من الفائدة، وإباحة العادل منها ليمكث رأس المال في أسواق التمويل الاقتصادي (2) ولكن ما شرعه الإسلام من أحكام الائتمان التجاري التي ما عرفها اليهود، تجعل للمسلمين أن يأخذوا بأحسنها فليس بهم. . إلخ أدنى حاجة إلى ما استباحه غيرهم من الربا، وأسفار التاريخ شاهدة بأن اقتصاد الأمم الإسلامية لم يأته التخلف من تطبيق تلك الأحكام، وإنما أصابه الوهن من تعامل المسلمين، دولا وأفرادا بربا الديون المحرم عليهم.
وجادل القوم في ربا " البيوع" (3) مع أنه ليس كمثل أبوابه من شيء يعلمه اليهود، ويأتي بيان بطلان زعمهم هذا، في محله من دراسة تلك الأنواع من الربا.
__________
(1) العقيدة والشريعة، جولدتسيير، الترجمة العربية، ص 230، 229 وص 360 (12) .
(2) evangelisches sozialleexikon von fharcenberg s. 547 l. de bellefonds
(3) traite de droit musulman compare. Paris 1965 liver 1 p. 221(5/194)
3 - القول بوحدة الربا والاختلاف في أصله
وقد تصدى علماء المسلمين لتلك المزاعم وبينوا أوجه البهتان فيما ادعته من أخذ عن اليهود فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من أبواب الربا، بيد أن جدال أصحابها لفت الباحثين عن التفكر في حقيقة ما جاء به الإسلام متميزا عما في صحف اليهود، ومتطورا عما بلغوه في تفسيرات أحبارهم وأعراف أسواقهم، ووجدوا أكثر مفسري القرآن لم يعرضوا لبيان الربا، الذي نهي عنه بنو إسرائيل في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} (1) {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (2) وإنما قالوا:
__________
(1) سورة النساء الآية 160
(2) سورة النساء الآية 161(5/194)
إن الآية تدل على أن الربا كان محرما على اليهود كما هو محرم علينا، وأن النهي يدل على حرمة الربا المنهي عنه وإلا لما توعد سبحانه وتعالى بالعذاب على مخالفته.
ورأى بعض الفقهاء عبارات التوراة في النهي عن الربا تشبه في معانيها ومؤداها عبارات القرآن، وأن الحكمة في نهي اليهود عن الربا هي دفع الظلم والاستغلال عن المحتاج، وهي الحكمة عينها التي صرح بها القرآن في قوله تعالى لمن أربوا: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} (1) يعني لا تظلمون في أخذ الربا، فإن ما يقبضه المرابي من الربا هو بمثابة الأموال التي تصل إليه بالغصب والسلب، وتوبة المرابي سبيلها أن يرد الربا على من أربى عليه، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه وخلصوا من ذلك إلى أن الربا الذي حرم على اليهود، هو نفسه الذي حرم على المسلمين، والشرائع يصدق بعضها بعضا، إذ كل في الأصل من عند الله تعالى (2) .
وكان للقول بوحدة الربا في الإسلام آثاره في دراسة أصول أحكامه وتحديد نظريته لدى كل من رجال الفقه الإسلامي والقانون المدني جميعا، فقد جعل فريق ربا البيوع راجعا إلى ربا الدين، وجهدوا في إثبات خصائص ربا الدين في ربا الفضل وربا النسيئة معا، فترخصوا في تكييف الفضل في البيوع الربوية، وهو زيادة مقدار، ورأوه يشبه زيادة القيمة في ربا القروض، وحاولوا في جهد غير يسير أن يضعوا تعريفا موحدا يجمع جميع أنواع الربا، وأدى كل أولئك إلى الخلط في الأحكام وإلى المشقة في ردها إلى أصولها والوقوف على حكمة كل منها. ولم يستقم لفقهاء القانون أن يضعوا أنواع الربا موضعها الصحيح في إطار عرضها المقارن بالقوانين، فجاء ربا البيوع في كتابتهم حدا شرعيا مانعا للغبن، وأقاموا على ذلك أصلا عاما نسبوه إلى الشريعة، يوجب تعادل التزامات الطرفين في العقود، وإذا وجدوا عقد العرض ليس من البيوع التي يقتصر عليها الربا، قالوا: إن ربا القرض، وهو أصل الربا كما تعرفه الشرائع والقوانين، يدخل في ربا البيوع شرعا من باب القياس.
ولكن هذا المجال الذي تتغاير فيه فروع الشرائع، يقتضي أن نحذر الفتنة عن بعض ما جاء به الإسلام وأن نحيط بأحكامه كما فصلت في القرآن والسنة تفصيلا، وعندها يستبين ما فيها من الأحكام الذي يميز كل نوع من (الربوات) من غيره، ومن التطور الذي لم يقتصر على ما استحدث من الربا في البيوع مختلفا عن الغبن، بل أضاف إلى ربا الدين من الخصائص ما عدل من طبيعته وحكمته جميعا. ويشرق من كل أولئك نور الإعجاز الذي يشهد بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بلغ من تلك الأحكام الاقتصادية التي أوحاها اللطيف الخبير، ودقة حكمة بعض منها على أفهام المخاطبين من المسلمين حين شرعها وعلى كثير منهم ومن غيرهم حتى اليوم.
وتفرغ في هذا البحث لربا الدين، الذي مهر اليهود في أخذه وعرفته على غرارهم القوانين الوضعية، ونقارنه بما جاء في الإسلام في شأنه، حتى يتبين الفرق بين الربوين في الأحكام وأثر هذا الفرق في اختلاف الحكمة في حظرهما وأثرها في التنظيم الاقتصادي والبنيان الاجتماعي والسياسي.
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، للدكتور سامي حسن حمود(5/195)
4 - نصوص تحريم الربا عند اليهود
جاء ذكر الربا في مواضع متعددة من التوراة، فقصت في سفر الخروج، بالإصحاح 22 في العدد 25: إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك، فلا تكن له كالمرابي، لا تضعوا عليه ربا "
وفي سفر اللاويين، بالإصحاح 25 في الأعداد 35 حتى 37: " وإذا افتقر أخوك وقصرت يده عندك فاعضده. . لا تأخذ منه ربا ولا مرابحة فضتك لا تعطه بالربا وطعامك لا تعطه بالمرابحة.
ثم جاء في سفر التثنية، بالإصحاح 23 في العدد 19: " لا تقرض أخاك بربا، ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء ما مما يقرض بربا ".
وينص العدد 20 الذي يليه في نسخة التوراة التي يتداولها يهود اليوم، على أن: " للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا، لكي يباركك الرب إلهك في كل ما تمتد إليه يدك في الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها "
وجاء على لسان نحميا، بالإصحاح" في العددين 10و11: " وأنا أيضا وإخوتي وغلماني أقرضناهم فضة وقمحا فلنترك هذا الربا. ردوا لهم هذا اليوم حقولهم وكرومهم وزيتونهم والجزء من مائة الفضة والقمح والخمر والزيت الذي تأخذونه منهم ربا ".
ويعقب في العدد 13 بقوله: " ثم نفضت حجري وقلت هكذا ينفض الله كل إنسان لا يقيم هذا الكلام من بيته ومن عقبه. . ".
وبين سفر حزقيال بالإصحاح 18 سمات النفس التي تخطئ، فهي تموت بإثم الرجاسات والمعاصي، وذكر منها العددان 12 و13 من ظلم الفقير والمسكين واغتصب اغتصابا ولم يرد الرهن وقد رفع يمينه إلى الأصنام وفعل الرجس. وأعطى بالربا وأخذ المرابحة. . ".
وحفلت النصوص برعاية المدينين، ومنعت مضارتهم في الرهون المقبوضة منهم، وفرضت إبراء المعسر مما عليه من القرض كل سبع سنين، وكل ذلك عندهم ما لم يكن المدين أجنبيا (1) .
ويذهب بعض المفسرين من أهل الكتاب إلى أن نصوص سفري الخروج واللاويين التي سلفت، إنما حرمت الربا الفاحش، وأن تحريم مطلق الفائدة لم يشرع إلا من بعد ذلك بما جاء في سفر التثنية (2) وقيل إن
__________
(1) اليهودي، للأستاذ مراد فرح، ص 20 ن71، سفر التثنية، الإصحاح 15: 1-4.
(2) dictionary of the bible، جيمس هاستنجس وآخرين، ج 1ص 579 مادة usivuy debt. وج 4 ص 841 مادة.(5/196)
صحف موسى حرمت على اليهود أخذ الربا من الفقراء ولو كانوا من الأجانب، ثم انحصر التحريم في إقراض اليهود، وإن كان المقترض موسرا (1) .
وما كان اليهود يعملون بالتجارة حين أنزلت التوراة، فلم تشر نصوصها إلى الديون التجارية، ولم يبدأ عهد اليهود بنظام الائتمان التجاري، إلا بالذي وضعوه (وهم أسارى ببابل وطبق الأحبار الذين دونوا كتاب المشنا من سنة 200ق م حتى سنة 200م) تحريم أخذ الربا على الديون التجارية، وإن رخصوا في الوقت ذاته فيما يؤدي إلى التهرب من هذا التحريم، من طريق الحيلة القانونية، بأن يعتبر المقرض بالربا بمثابة شريك مستحق لأرباح المشروع التجاري الذي أمده برأس ماله (2) .
__________
(1) دائرة معارف البستاني، ج8 ص 509 مادة '' ربا'' أوردها زكي الدين بدوي، ص3
(2) studies in monetary economics by don potenkin 1972 p. 122(5/197)
5 - خصائص الربا عند اليهود
ونستعرض أحكام الربا التي يقرها علماء اليهود في كتبهم، ونستخلص منها خصائص الربا عندهم كي يستبين أوجه الاختلاف أو الشبه بينه وبين الذي جاء به الإسلام.
وخصائص هذا الربا هي:
1 - الربا في القرض والبيع.
2 - الربا مقابل الأجل.
3 - الربا ظلم للمدين.
4 - الحظر القضائي للربا مختلف فيه.
5 - قصر التحريم على اليهودي دون الأجنبي.
الخاصية الأولى
الربا في القرض والبيع
ينطبق الربا على البيع الذي يدخله التأجيل، ولا يقتصر على القرض، فإذا كان الربا هو ما يؤديه المقترض زيادة على مقدار ما اقترض، وذلك هو التحديد الذي يجده اليهود في نص الكتاب، ويسمونه لذلك ربا الناموس، فإن الأحبار قد ألحقوا به كل ما يمنع التهرب من تحريمه، فحرموا أبوابا من الربا الاعتباري، وجعلوا منه زيادة ثمن بيع الشيء نسيئة على سعره بالأسواق حاضرا، فالأرض(5/197)
التي ثمنها الحال 1000 دينار، لا يجوز بيعها بثمن مؤجل إلى سنة مقداره 1200 دينار. ولكننا نجد نص التوراة ينهى عن أخذ المرابحة من الفقير بعد النهي عن أخذ الربا منه، مما يفرق بين ربح النسيئة في شأنه والربا، ويذر حظر المرابحة ناموسيا ومتميزا من الربا، وكذلك منعوا أن يبيع الشخص شيئا ليس عنده إلى أجل بدين مستحق عليه، ومن صور ذلك، أن يشتري يوعز من أخيه أشير كيل قمح بثمن مقداره 25 دينارا مساو لسعر السوق ثم غلا السعر فصار ثمن القمح 30 دينارا، ولما طلب يوعز قبض قمحه ليبيعه ويشتري بثمنه خمرا، قال له أخوه بعني القمح بـ 30 دينارا، أبيعك بها خمرا إلى أجل بسعره الحاضر في السوق ولم يكن الخمر عنده وقتئذ، فإن شراء أشير القمح بأكثر مما باعه وقبل قبضه لا يعتبر من الربا عند الأحبار، ويلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى من اشترى طعاما عن أن يبيعه قبل قبضه وسمى الصحابة مثل هذا البيع ربا، ويكون بيع يوعز القمح لأخيه من قبل أن يقبضه منه بعد شرائه محظورا في الإسلام على خلاف ما عند اليهود. وإنما يجد الأحبار الربا في بيع أشير الخمر الذي ليس عنده، حيث تحمل خطر الزيادة في ثمن الخمر حين يشتريه مقابل حصوله على تأجيل الدين الذي استحق عليه. ويحرم بذلك بيع الأشياء المستقبلة من قبل أن يكون سعرها بالسوق قد تحدد. وكذلك اعتبروا من الربا شراء القمح قبل أن تظهر سنابله والعنب قبل أن تبدو عناقيده، خوفا من أن يكون البيع بثمن أقل من قيمته حين نضجه، فتكون ثم زيادة محتملة للمشتري (1) وطبقوا ذلك حينا على القرض ذاته، إذ رأوا لجوازه أن يكون غير مؤجل كمن يقترض كيل قمح حتى يجد مفتاح مخزنه أو يعود ابنه إلى البيت، ولا يجوز أن يقترضه ليرده في موسم درسه، لاحتمال أن يرتفع سعر القمح، فيفيد المقرض من زيادة تشابهت عليهم مع الربا، ولكن التلمود ألغى هذا الخطر والتزم حد الربا الناموسي، الذي يقصر التحريم في القرض على رد كمية أكبر مما اقترض المدين، وجعلت المشنا أجرة العمل كرأس مال المقرض، إذ حظرت مبادلة العمل في الحرث والعزق بين الجيران، إذا كان العمل اللاحق أشق من العمل السابق.
ولكنهم لم يجعلوا إجارة العقار كبيعه في شأن الربا، فأباحوا لمؤجره إذا أجل قبض الأجرة إلى آخر العام بدلا من استيفائها مشاهرة، أن يتقاضى من مستأجر العقار زيادة على مجموع ما كان يعجله من أجرة كل شهر.
ولا يزال لتلك الخاصية التي تجمع في تحريم الربا بين القرض والبيع تأثيرها في القوانين الأوروبية الغربية، كما أثرت في الكنائس المصلحة من قبل، ولا ينفك مشرعو تلك البلاد يرون بائعي النسيئة في مرابحتهم كالمقرضين في رباهم، ويسلكون الطائفتين جميعا في نصوص مكافحة الربا، ويفرضون ألا تجاوز الزيادة في الأثمان المؤجلة الحد الأقصى لما أجازته قوانينهم من الربا.
ويجادل المشتغلون ببيوع النسيئة في اعتبارهم كالمرابين، باستدلال اقتصادي يظاهر الفرق القانوني بين القرض والبيع، ويستند إلى ما يتحمله بائع النسيئة من نفقة وما يتعرض له مخاطر هلاك ضمانه من السلعة المبيعة، مما لا يتعرض لمثلها المقرض بالربا (2)
__________
(1) الربا عند اليهود، للأستاذ عاشور: ص45
(2) a vente a credit Robert sommade paris 1959. p.p.29-32(5/198)
الخاصية الثانية
الربا مقابل الأجل
فاستحقاق الربا سببه تأجيل القرض أو الدين، فلا يكون الربا إلا في الديون المؤجلة، ويستوي أن يتفق على الزيادة ابتداء عند أخذ القرض أو عقد البيع المؤجل وأن تعرض عند المطالبة، فينظر المدين بارتضاء الزيادة إلى محل ميسرته كما يستوي أن تكون الزيادة محددة جملة واحدة، وأن يجري تقديرها بنسبة من رأس المال بإزاء طول الأجل، وتتضاعف الزيادة أضعافا مضاعفة كلما امتدت الآجال.
وقد عرف أحبار المشنا ما لتأجيل الدين من أثر ينقص من قيمته نقصا محددا، فقالوا فيمن شهدا زورا على دين مقداره 1000 زوزيم، بأنه مؤجل لعشر سنين، وثبت تواطؤهما على الكذب، وأن الدين واجب الدفع خلال ثلاثين يوما، فإنه يحكم عليهما بأن يدفعا الزيادة في قيمة الدين الحاضرة على قيمته المؤجلة (1) ومثل هذه الزيادة المقابلة للتأجيل التي يجوز أخذها في الإتلاف تعادل الربا الذي لا يجوز أخذه في القرض، وهي التي استند الأحبار إلى احتمال وجودها في بيع الثمر قبل ظهوره للقول بتحريمه، وهذا البيع محرم في الإسلام، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: " إن من الربا بيع الثمر وهي معصفة قبل أن تطيب" والربا في هذا القول يقصد به البيع المحرم من باب التوسع في إطلاق الربا، ولا يقصد به الربا الاصطلاحي في الفقه الإسلامي الذي يقتصر على ربا الدين وربوي الفضل والنسيئة في البيوع (2) كما أن سبب تحريم هذا البيع يختلف عما عند اليهود، فالإسلام لا يحظر الزيادة في قيمة المبيع المؤجل في السلم على الثمن، وإنما يحرم هذا البيع بسبب الغرر، وينظر إلى الخطر الذي يحيط بوجود المبيع، ويمنع أن يضيع الثمن على المشتري إذا لم يوجد الثمر الذي ابتاعه.
الربا عند اليهود لا يسري في شيء من البيوع الحاضرة، ولا يعرف فقههم ما جاء به الإسلام في تنظيم هذه البيوع من محظورات يسميها فريق من مفسري المسلمين وفقهائهم ربا النقد يقابلونه بربا الديون الذي يسمونه ربا النسيئة لما فيه من التأجيل.
__________
(1) 20 the jewish encyclopaedia 1905 voi x11 p. 388 \ 8.
(2) نظرية الربا المحرم، المرجع السابق، ص27.(5/199)
الخاصية الثالثة الربا ظلم للمدين
الحكمة في تحريم أخذ الربا هي منع استنزاف مال المدين ظلما. وإذا كانت بعض أسفار التوراة تعبر عن الربا بلفظ الزيادة، ومن مادته ربيت أو تربيت، ومربيت في النصوص العبرية والكلدانية والآرامية، إلا أن أكثر ما يطلق على الربا اللفظية العبرية نشخ (بكسر النون والشين المعجمة وسكون الخاء المعجمة) وتعني في أصل مادتها اللغوية العض، وتومئ بذلك إلى أن المرابي يأكل لحم أخيه الذي يداينه بالربا كما ينهشه الثعبان، ويجعل حزقيال في الإصحاح 18 بأعداده 10-13 أخذ الربا والمرابحة من سمات سفاكي الدماء. فأخذ الربا أشبه عند اليهود بالقتل، ويقول قائلهم: إن من أراد أن يقتل عدوه بالتي لا تثبت عليه لدى القضاء، فليقرضه بالربا.
ويترتب على هذه الخاصة توجه حظر الربا إلى الدائن الذي يأخذه، حيث يعد المقترض مظلوما تغتصب منه الزيادة على أصل ما اقترض، ولذلك عرف الربا عند اليهود بأنه أخذ الزيادة على الدين غصبا وقهرا (1) ، ونجد نصوص سفري الخروج واللاويين تصف المستقرض بأنه فقير، مما يدل على اضطراره. وإنما جاء المقترض مطلقا من الافتقار بعد ذلك في سفر التثنية. واستندوا إلى نصه على فعل الربا في صيغة تشمل الدائن والمدين، فقالوا: إن إثم الربا لا يقع على الدائن وحده، بل يلحق المدين أيضا، كما يأثم من قدم رهنا لضمان دين الربا وشهود عقده، واختلفوا في الكتاب، فقال فريق يأثم بكتابة الربا، وقيل: لا إثم عليه. ويردون تأثيم الضامن وشاهد الربا وكاتبه، إلى أنهم قد أعانوا على المعصية، وخالفوا الذي في سفر اللاويين في الإصحاح 19 بالعدد 14، من النهي عن وضع حجر عثرة أمام الأعمى (2) .
وفي هذا الاجتهاد ما يشبه حكم الإسلام الذي نصت السنة المطهرة فيه صراحة على لعن مؤكل الربا وشاهده وكاتبه، ولكن القول باعتبار المدين آثما يبدو غير متفق وما جرت به نصوص أسفارهم من استغلال الدائن حاجته وظلمه له.
ونلاحظ أن عسرة المقترضين التي كانت سائدة حين أنزلت التوراة على موسى عليه السلام لازمت اليهود من بعده، وتدل الأسفار التالية لصحفه على أنهم يستقرضون للإنفاق في الزواج وحاجات الزراعة وأداء خراج الملك في سني القحط (3) .
وبقي اقتصادهم معتمدا على الزراعة.
وإذا كان الإنجيل قد أشار إلى مزاولة اليهود
__________
(1) encyclopaedia Britannica 1964 vol xx11 p.908 la doctrine sociale de leglise، p. bigo، 1966 p. 331
(2) دائرة المعارف اليهودية، م12 ص390.
(3) سفر نحميا، الإصحاح، العددان 4و10.(5/200)
تجارة الصرف وإقراض الفضة بالربا عند مبعث المسيح عيسى عليه السلام إليهم.
إلا أن التجارة في الربا لم تكن قد بلغت التطور الذي أصابته من زيادة الودائع لدى الصيارف، بعد أن اتخذوا شكل المصارف الحديثة ومن توسعهم في استغلال تلك الودائع فيما يقرضون بالربا، وصار الصيرفي حين يؤدي الربا إلى المودعين ليغريهم على إبقاء أموالهم بين يديه يختلف في سعته تماما عن إملاق المستقرض اليهودي في الأولين، بما لا يذر من وجه للقول بظلم يحيق بأصحاب المصارف من صغار المودعين، ولم تعد الحكمة في تحريم أخذ الربا هي مجرد ظلم المدين كما كانت من قبل أن تنسخ شرعة التوراة بشريعة القرآن.(5/201)
الخاصية الرابعة
الحظر القضائي للربا مختلف فيه
الربا محظور ديانة، ومختلف في حظره قضاء، ففي كتاب " شولحان عروخ " جاء الربا بين المحرمات الدينية والخلقية، ولم يعرض في باب الالتزامات القضائية، ويذهب بعض فقهائهم إلى أن ما أخذ من الربا لا يجوز طلب استرداده لدى المحاكم، ولو كان من ربا القرض الذي يحظره الناموس ذاته، واحتجوا بأن الجزاء الذي نص عليه الكتاب هو غضب الله تعالى الموجب للموت، فلا يجوز أن يلزم المرابي بالرد مدنيا، حتى لا يزاد جزاء على الذي اقتصر النص عليه. ولكن أكثرهم يفرقون بين ربا الناموس وربا الأحبار، ولا يجيزون المطالبة باسترداد ربا الأحبار، ويجيزونها إذا كان ما أخذه الدائن من ربا الناموس، فيكون للمدين أن يلجأ إلى المحكمة الربانية، فتحكم على المرابي بالرد، ولكن لا ينفذ الحكم باستيفاء الربا جبرا من أموال الدائن، وإنما يقتصر على إكراهه بدنيا حتى يقوم بنفسه بالرد. ويستثنون من ذلك اليتيم، فإنه إذا أخذ ربا الناموس وأنفقه، فإن لا يسترد منه، كما لا يطالب برد ربا الأحبار، بل هم أجازوا له أخذه. وكذلك إذا مات المقرض بعد أخذه الربا، فإن ورثته لا يلتزمون قضاء ولا ديانة برده (1) . ويبقى من آثار حظر الربا في القضاء، أنه لا يجوز للدائن أن يطالب المدين بأداء ما حظره الناموس أو الأحبار من الربا، ويكون الربا الاعتباري مختلفا في أحكامه عن ربا الناموس، على خلاف ما تقتضيه حقيقة القياس من مساواة الفرع فيه بأصله.
__________
(1) دائرة المعارف اليهودية، م12 ص 389و390.(5/201)
الخاصية الخامسة
قصر التحريم على اليهود دون الأجنبي
عصمة المدين من الربا ليست حقا لكل إنسان، بل هي رعاية لا يسبغها اليهود إلا على بني إسرائيل، أما الأجانب عنهم فلا حق لهم في قرض حسن لديهم مهما كانت حاجتهم، ولا يضع اليهود عنهم ربا، ولا يبرئون معدما منهم كما يبرئون المعسر من اليهود، ومع ما استيقنته أنفسهم من مضار الربا في الإضرار بالمدين، فقد تواصى أكثرهم بإقراض الأجنبي بالربا، ليحلوا به من البوار ما يعدل قتله، الذي لا يزالون يرونه واجبا عليهم، ويفسرون ما يقتضيه ذلك الشبه بين جريمة أخذ الربا وجناية القتل من تراث تورثها الجريمة في صدور من تجني عليهم، وتقتضي اليهود أن ينتهوا من ظلم غيرهم بالربا، فيتاح للمسلم أن تسود بينهم وبين أهل سائر الأديان، وقد صار اليهود منتشرين بينهم في دول لا تفرق بين اليهود وسائر رعاياها في شيء من الربا، ويكون لليهود من الاستقرار الاجتماعي والسياسي بما يقدمون من رعاية لنظم العصر ومواثيقه التي تكفل حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية على اختلاف ديانته.
وقد عرض النصارى في تفسيرهم نصوص التوراة، التي لم تنسخ شريعتها في حقهم، لما عليه اليهود من استباحة أخذ الربا من الأجنبي، وذهب أحد آباء الكنيسة الأولين إلى أن أخذ الربا ما كان جائزا إلا من الشعوب السبعة المغضوب عليها التي كان الناموس يأمر بإبادتها، فكانت إباحة أخذ الربا منها من باب الأولى، وانتهت هذه الإباحة مذ دالت تلك الشعوب البائدة وصارت حرمة الربا مطلقة، ولكن الرأي الراجح عندهم أن نصوص التوراة والتلمود حين تدرس في مجموعها بدقة ترد تلك التفرقة بين اليهودي والأجنبي، وتفرض على اليهود الامتناع عن أخذ الربا من الأجانب.
وترى الكنيسة في هذه التفرقة ما ينفي عن الربا عند اليهود وصف الجريمة في القانون الطبيعي بجوهره من العدالة.
وأشار بعض علماء المسلمين إلى ما نعاه القرآن على اليهود في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (2) باعتباره ردا على استحلال اليهود أخذ الربا من الأجنبي (3) .
ويقوم الاستدلال بالنص القرآني في شأن الربا، وإن اختصت عبارته بأكل اليهود أصل أموال غيرهم، على أساس من طبيعة الربا اليهودي، باعتباره اغتصابا لمال المدين وسلبا له. وقيل في سبب وجود عبارة
__________
(1) سورة آل عمران الآية 75
(2) سورة آل عمران الآية 76
(3) الربا في نظر القانون الإسلامي، للأستاذ الشيخ محمد عبد الله دراز- مجلة الأزهر المحرم 1371 ص6.(5/202)
" للأجنبي تقرض بربا" أن التوراة الأصلية فقدت، وأن نسختها الراهنة كتبت بعد السبي، ويبدو أن كاتبها أخذ تلك العبارة من دلالة المفهوم المخالف للنص الوارد بالعبارة السابقة عليها، وهذا المفهوم لا حجة فيه عند جمهور الأصوليين إذا كان مفهوم لقب، كما أن بعض أنبيائهم قد أطلقوا ذم الربا، في مثل النصوص التي تقدمت.
ويبرر فريق من علماء اليهود أخذ الربا من الأجنبي على أساس المعاملة بالمثل، إذ كان السائد قديما أن الأجانب لا يقرضون اليهود إلا بالربا، فوجب على اليهودي أن يأخذ الربا عندما يقرض للأجنبي، وأن يعطي الربا للأجنبي الذي يقترض منه (1) . وإذا صح هذا السبب، فإنه لا يباح لليهود أن يأخذوا الربا من المسلمين، وكذلك من كل من يدين بحرمة الربا من ملل النصارى وغيرهم.
ولا يقتصر أثر هذه الخاصية في ربا اليهود على شيوع أخذهم له من غيرهم وجعل إيتاءه هينا على كثير ممن يدينون بحرمة ذلك من غير اليهود، حتى استشرى الربا في مختلف (الأمم) ، بل باءت هذه الخصيصة على اليهود أنفسهم بالفساد، إذ طفقوا يحتالون بها على أخذ الربا من إخوانهم، بأن اتخذوا من الأجنبي حاجزا بين طرفي القرض منهم، فيقرض المرابي اليهودي أجنبيا يقرض بدوره المستقرض اليهودي ويتقاضاه الربا ليأخذه المرابي من يد أجنبي بظاهر من الأمر يتفق وتلك الخاصية، ويستر حقيقة العصيان في أخذ الربا من اليهودي (2) .
وران ذلك على قلوبهم فقست وألفت ذلك العصيان، ولم يعودوا يتكلفون ستره. وتسجل التوراة عليهم في سفر نحميا، بإصحاحه الخامس، أنهم كانوا يأخذون الربا كل واحد من أخيه فيما أقرضوا من فضة وقمح، وفي العدد 10 أنهم تركوا هذا الربا تائبين، ولكن لا تجد في النصوص من بعد ذلك ما يدل على رعايتهم ما نهوا عنه، وقد جاء القرآن الكريم، في الآية 161 من سورة النساء، مصدقا لما سجلته أسفارهم عليه من ذلك العصيان. وبذلك أدت هذه الخصيصة، التي يقصد بها اليهود ألا يذروا ظلما للأجانب، إلى إضاعة ما اختصوا به المدينين منهم من رعاية تنجيهم من ظلم أكلة الربا، وخالفوا من باب هذه التفرقة الظالمة عن التكليف، في أصله كما يؤمنون به.
وذهب بعض فقهائهم ممن تفيأ خلال الإسلام علما وسماحة، إلى القول بألا يتوسع في إقراض الأجنبي بالربا حتى لا يعتاده اليهودي ويذهب ورعه عن أخذ الربا المحظور من أخيه. فبنى التقييد على ما يرى فيه نفعا لليهودي وحده، ولم يقمه على ما ينبغي من كف ظلم اليهودي للمسلمين الذين يعلم أنهم سلم عليه لا يخفرون ذمة له ولا يظلمونه شيئا.
__________
(1) دائرة المعارف اليهودية، م12 ص290
(2) الربا عند اليهود، للأستاذ عاشور ص137 عن كتاب شولحان عروخ، ود. حمود ص 218.(5/203)
أنواع الربا في القرآن
وأول ما ورد ذكر الربا في القرآن الكريم بسورة الروم المكية (الآية 40) في قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (1)
وقيل: إن الربا في هذه الآية ليس ما عهد حظره من زيادة الديون المؤجلة، وإنما هو ربا حلال، يعني من يهدي مبتغيا أن يعوضه المهدي إليه بخير من هديته، وقيل: إن الآية تقصد ربا الديون، وتهيئ لتحريمه بالإيماء إلى محقه وبمقابلته بالزكاة التي يتضاعف ثوابها.
وجاء النهي عن الربا في الآيتين 131، 130 من سورة آل عمران بالمدينة المنورة، حيث قال جل ثناؤه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (3) ويتفق المفسرون على أن هذه الآية نزلت في الربا الذي كانت تجري به معاملات الجاهلية في تأجيل الديون، وكان الربا يتزايد أضعافا كلما تضاعف امتداد آجال الدين، وما كانوا يعرفون التفرقة التي استحدثتها القوانين الوضعية بين الربا الفاحش والربا اليسير، فلم يرد قوله تعالى: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (4) لتقييد الربا المنهي عنه بما زاد سعره وفحش مقداره، بل تعبيرا عما كان عليه أمرهم في المداينات الربوية، وينصرف النهي في الآية إلى الربا قليله وكثيره، ولا بكون ثم نهي جزئي عن الربا الفاحش، ثم جاء من بعده التحريم الكلي للربا في سورة البقرة، كالذي ظنه المستشرقون من التدرج الذي قالوا بمثله في نصوص التوراة وخلافا لما ينادي به بعض المحدثين من المسلمين في محاولتهم تبرير إنشاء بنك وطني بمصر من القول بأن الربا المجمع على حظره، إنما هو الربا المضاعف الذي يبلغ رأس المال أو يزيد عليه. ويقول الله تعالى في سورة البقرة بالآيات 275-281: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (5) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (6) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (7) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (8) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} (9) {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (10) {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (11)
وقد جاءت هذه الآيات بعد الآيات
__________
(1) سورة الروم الآية 39
(2) سورة آل عمران الآية 130
(3) سورة آل عمران الآية 131
(4) سورة آل عمران الآية 130
(5) سورة البقرة الآية 275
(6) سورة البقرة الآية 276
(7) سورة البقرة الآية 277
(8) سورة البقرة الآية 278
(9) سورة البقرة الآية 279
(10) سورة البقرة الآية 280
(11) سورة البقرة الآية 281(5/204)
الكثيرة التي تحث على الصدقات وتكرم الذين (يؤتونها) الفقراء وتعد المنفقين ثوابا مضاعفا (الآيات 261-274) ، وتلت آيات الربا الآيتان 283، 282 في الدين المؤجل وتوثيقه بالكتابة أو بالرهن {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} (1) وظاهر أن الربا الذي نصت عليه الآيات هو ربا الديون، الذي يأخذه الدائنون مقابل تأجيلها، وكثيرا ما يطلق عليه ربا الجاهلية، إذ عرفته أسواق المال العربية قبل الإسلام، كما كان شائعا في سائر الأمم، وهو الذي قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في حجة الوداع: «ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس (2) » . وكان يتفق عليه، إما بإيجاب من المدين يقول لدائنه: " أنظرني أزدك" أو بسؤال من الدائن: " أتقضي أم تربي" فتشترط الزيادة على الدين كلما تأجل وفاؤه.
ويذهب فريق من المفسرين والفقهاء إلى أن لفظ الربا في آيات القرآن ورد عاما أو مجملا، وقد تولت السنة تخصيصه أو تفصيله، فبينت إلى جانب الربا الديون أنواعا أخرى من الربا في البيوت وغيرها. ولا يترتب على هذا الخلاف أثر في التفرقة بين ربا الدين وسائر الربوات التي وردت بالسنة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/73) ، سنن الدارمي البيوع (2534) .(5/205)
أنواع الربا في السنة
أشارت السنة الشريفة إلى ربا الديون في حديثه عليه الصلاة والسلام: «كل قرض جر نفعا فهو ربا» ولكن لم يتقيد في إطلاق لفظ الربا بهذا المعنى الاصطلاحي في سائر الأحاديث والآثار، بل أطلق الربا على محظورات شتى من بعض البيوع ومن الأفعال المقترنة بالتصرفات المالية، ومن أفعال لا تمس المال بشيء.
فقد روى الأئمة المحدثون عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء (1) » كما روى أبو داود عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها، والبر بالبر مدا بمد. . فمن زاد أو استزاد فقد أربى (2) » ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرهما، يدا بيد، وأما نسيئة فلا، وأخرج مالك في الموطأ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالذهب، أحدهما غائب والآخر ناجز، إني أخاف عليكم الرماء، والرماء هو الربا (3) » . وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2176) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4565) ، مسند أحمد بن حنبل (3/97) ، موطأ مالك البيوع (1324) .
(2) سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) .
(3) تفسير القرطبي، ج3 ص349، 348، والموطأ، طبع دار الشعب، ص 392-393(5/205)
الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاءهم بتمر جنيب، فقال: " أكل تمر خيبر هكذا؟ " قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة". فقال: " لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا (1) » . وقيل فيما يقترن بالبيع " الناجش آكل الربا" وهو الذي لا يريد شراء السلعة، ولكنه يتظاهر بالرغبة فيها ليرفع السعر على من يسوم شراءها.
وكذلك روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا (2) » كما قال: «إن من أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم (3) » وروي عن الصحابة رضوان الله عليهم قولهم: إن من اشترى طعاما فباعه قبل أن يقبضه مخالفا نهي السنة، فبيعه عندهم ربا"، كما قال أحدهم: " إن الرهن في السلم هو الربا المضمون"، وقال آخر: " السلم بما يقوم به السعر ربا، ولكن السلم في كيل معلوم إلى أجل" (4) . ويجيء على هذا الإطلاق قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " إن من الربا بيع التمر وهي معصفة قبل أن تطيب" فقد بين معنى الربا الذي يقصده أمير المؤمنين من البيوع المحرمة، ولا ينصرف إلى ربا الديون الذي يعلم عمر ماهيته وحرمته بالدليل القطعي في القرآن، ولا يجوز أن يعرض بأمر أو نهي في شأنه يغير ما فرض الله.
ويتضح بتحديد الربا المقصود وجه قول عمر: " ثلاث وددت لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من الربا" وكذلك ما نسب إليه من قوله رضي الله عنه: " إني لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم، وآمركم بأشياء لا تصلح لكم، وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا، وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم".
كما روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه «لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس ثم حرم التجارة في الخمر (5) » ،.
فأبواب الربا التي كان عمر يود بيانها هي كتحريم تجارة الخمر كلها من محظورات البيوع ونحوها، التي بينت السنة أحكام كثير منها. وبقيت أحكام سائرها يستنبطها المجتهدون على هدي الكتاب والسنة، وما يستظهرونه من حقيقة كل معاملة منها وما تحققه من المصالح المشروعة، وفي ذلك ما يحفظ المرونة اللازمة في التشريعات الاقتصادية والتجارية الإسلامية، لتواجه ما يستحدث من التصرفات في مختلف العصور والأمصار.
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الربا تسعة وتسعون بابا، أدناها كإتيان الرجل بأمه» يعني الزنا بأمه، وفي حديث رواه أحمد أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لدرهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله تعالى من ستة وثلاثين زنية في الخطيئة (6) » وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا (7) » . . . ومعنى الموبقات المهلكات.
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني، ج5 ص166، والحديث رواه البخاري ومسلم
(2) سنن أبو داود البيوع (3541) ، مسند أحمد بن حنبل (5/261) .
(3) سنن أبو داود الأدب (4876) ، مسند أحمد بن حنبل (1/190) .
(4) نيل الأوطار للشوكاني، ج5 ص191 و192 و194، وزكي الدين بدوي، ص 27 هـ 1
(5) صحيح البخاري تفسير القرآن (4540) ، صحيح مسلم المساقاة (1580) ، سنن النسائي البيوع (4665) ، سنن أبو داود البيوع (3490) ، مسند أحمد بن حنبل (6/127) ، سنن الدارمي البيوع (2569) .
(6) مسند أحمد بن حنبل (5/225) .
(7) صحيح البخاري الوصايا (2767) ، صحيح مسلم الإيمان (89) ، سنن النسائي الوصايا (3671) ، سنن أبو داود الوصايا (2874) .(5/206)
وروى الأئمة أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه (1) » .
ويحرم هذا الحديث الصحيح على المدين إيتاء ربا الدين كما يحرم كتابته والشهادة عليه، أما ربا البيع فيفسد العقد ذاته، ونجد في حديث ربا الفضل أن طرفي البيع يستويان في اعتبارهما يأكلان الربا بما يصيب كل منهما من العقد المحرم.
فالربا، باستعماله العام في السنة، يعني تعدي محظورات هي من كبائر الإثم، تختلف أنواعها وتتعدد، لتحمي من المصالح الضرورية مثل ما يحميه حظر الربا المعهود في الديون المؤجلة، ونجد الربا بهذا المعنى كالإسراف كما أطلقه القرآن الكريم، ففي مادة اللفظين معنى الزيادة على المعروف، فناسب إطلاقها على ما جاوز أمر الشريعة من عظيم الخطيئات، وقد فسر الإسراف في قوله تعالى مخاطبا الأوصياء في شأن أموال اليتامى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} (2) بأنه أكل مال اليتيم بغير سبب مباح (3) . وهو يشبه الربا حين يراد به أكل المال بسبب غير مباح شرعا، وتقصد كل تلك الأحكام، أن تتم رعاية المال في تداوله واستثماره، وتتكامل مع ما شرعه الإسلام لحفظ المال من حدود بيئية تذود عنه السارقين والمحاربين، وتعزير لمن يغصبه أو يماطل في أدائه، ومن تدابير الولاية على من تعوزه أهلية التصرف فيه، حتى يتحقق للمعاملات صحة الإرادة والسلامة من الغش والجهالة وغيرها مما تتوقف عليه المصلحة الشرعية المرجوة للأفراد والأمة جميعا من المعاوضات المالية.
وكما توعد القرآن الذين يأكلون الربا بالنار التي أعدت للكافرين، نصت آياته على أن المسرفين هم أصحاب النار.
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني، ج5 ص161، وتفسير القرطبي، ج3 ص364 و365.
(2) سورة النساء الآية 6
(3) تفسير القرطبي، ج5 ص40(5/207)
استقلال ربا الدين عن ربوي الفضل والنسيئة
واختلاف ربا الدين عن أكثر أنواع الربا التي جاءت بالسنة ظاهر، وإنما يتشابه ربا الدين وربا الفضل، ويتجوز بعض العلماء، ويرون ربا القرض من ربا الفضل، كما شاعت تسمية ربا الدين بربا النسيئة عند آخرين من المفسرين والفقهاء، ويرجع التشابه بين ربا الدين وربا الفضل، إلى ما في الديون من الزيادة المحظورة، كم ترجع تسمية ربا النسيئة إلى التأجيل الذي يؤخذ عنه الربا (1) .
__________
(1) انظر تعريف ربوي الفضل والنسيئة في حاشية ابن عابدين، ج4 ص194.(5/207)
ويختلف ربا الفضل عن ربا الدين في الماهية ونطاق التطبيق والأثر الشرعي في العقد جميعا.
فحقيقة ربا الفضل، كما يدل صريح الأحاديث، هي أنه حظر الزيادة في مقدار أحد البدلين في بعض البيوع الخاصة، ونجد له الخصائص الآتية: أ- لا يكون إلا في بيع الذهب بالذهب أو التمر بالتمر وغيرهما من الأصناف التي يشتملها النص، مما يقتصر على صور خاصة من عقدي الصرف والمقايضة، ولا يسري على سائر صورهما التي يختلف جنس البدلين فيها، كصرف الذهب بالفضة، أو مقايضة التمر بالشعير، ولا يكون ربا الفضل مطلقا في عقد البيع بمعناه الدقيق، حيث تشتري السلعة بالنقود، وهو الذي تجري به أكثر المعاوضات التي يطلق عليها في الفقه الإسلامي اسم البيوع، وإليه ينسب ربا الفضل.
ب- لا يكون ربا الفضل إلا في البيوع الحاضرة، فهو لا ينفك، في نص الحديث عن ربا النسيئة، فحيث يحظر التفاضل بين البدلين يحرم تأجيل شيء منهما، وتجد بعض العلماء لذلك يسمون ربا الفضل بربا النقد، يقابلونه بربا الدين الذي لا يقع إلا في التأجيل والنسيئة.
ج- التفاضل المحظور هو زيادة في مقدار أحد البدلين في تلك البيوع الخاصة، وليس زيادة في قيمة أي من البدلين؛ ويبين ذلك من حديث التمر الذي جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم من ربا الفضل مقايضة كيل من تمر جيد من الجنيب بكيلين من الجمع وهو تمر رديء، وإن كان سعر الجنيب في الأسواق يساوي مثلي سعر التمر مما لا يذر زيادة في قيمة أي من البدلين، كالتي يقوم بها الربا في الدين، وحيث يوجد فرق يعتد به بين قيمة البدلين، فان السبيل لتلافي الغبن في مبادلتهما، يكون، كما أشارت به السنة في حديث التمر الذي تقدم، بالعدول عن مقايضتهما مقايضة مباشرة تخضع لربا الفضل، إلى بيع كل من البدلين بالنقود، ويشتري كل من البائعين ما يحتاجه من الصنف الذي يريد.
وإذ فرض الشرع إهدار التفاوت في قيم البدلين المتماثلين جنسا، إذا تمت مبادلتهما عن طريق الصرف أو المقايضة، فإن هذا الطريق يوصد في البيوع التي لا يجوز فيها الغبن رعاية لحقوق العباد، التي لا يستوي فيها جيد المال ورديئه، فلا يجوز للوصي أن يبيع قفيز حنطة جيدة من مال اليتيم بقفيز رديء، ويتعين على الوصي البيع بالنقد أو بشيء خلاف جنس الحنطة مراعاة لحق اليتيم وحق الشرع. وفي قول الله تعالى في حفظ أموال اليتامى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} (1) نهي للأوصياء عن مثل تلك المقايضة التي يحيق الغبن فيها باليتيم.
ويكون ربا الفضل بعيدا عن تحقيق التعادل بين المالين المتبادلين بما يمنع الغبن في العقد، خلافا لما قال به بعض الفقهاء واعتنقه المستشرقون وفريق من رجال القانون.
كما لم يشرع هذا الربا ليسد ذريعة إلى ربا (2)
__________
(1) سورة النساء الآية 2
(2) إعلام الموقعين عن رب العالمين للإمام ابن قيم الجوزية ج1 ص200-204، وزكي بدوي، ص130-134.(5/208)
القرض الذي لا يقف التماثل فيه عند تساوي المقادير، بل يشمل جودة المال ومقداره جميعا.
د- ولا ينتفي ربا الفضل إلا بتحقيق المتعاقدين من تساوي البدلين وزنا، إن كانا من النقدين، أو كيلا، إن كانا من مواد الطعام، فإن وجدت زيادة، أو احتمل وجودها، لعدم وزن أحد البدلين أو كليهما، كان ربا فضل، يستوي في أمره صاحب البدل الأكبر الذي زاد ومن قدم البدل الأصغر الذي ازداد، فكل منهما كما جاء بالنص، قد أربى، ولا يجوز لمن زاد إبراء صاحبه من الزيادة، لأن الحظر هو لمحض حق الله تعالى، يكفل به مصالح الجماعة، وليس الحظر متعلقا بشيء من حق المتعاقد.
كما لا يلتزم من أخذ زيادة الوزن أو الكيل أن يردها، ويصح الصرف أو المقايضة، خلافا للقرض إن اشترط فيه الربا، إذ يبطل شرط الربا لفساده ويبقى القرض صحيحا، وليس كذلك الصرف والمقايضة الربويان، فإن فساد العقد في أصل محله، وليس فيه شرط خارج عنه، فلا ينتهي الحظر إلا بنقض العاقد ذاته. ثم نجد القرض، وإن حظر شرط الزيادة فيه أو جر المنفعة منه خلال تأجيله، لا يحظر على المقترض، إذا شاء أن يزيد فيما يرده إلى من أقرضه من باب حسن القضاء، كما جاء الحديث القدسي بفضل الدائن السمح الذي يتجوز عن الموسر بقبول ما فيه نقص يسير من الوفاء، وفي معجم الفقه الحنبلي أنه يجوز وفاء القرض بخير منه في القدر أو الصفة، أو بما هو دونه بتراضي طرفي العقد.
هـ - وفي ربا الفضل، بما يفرضه من تساوي المقادير وإهدار التفاوت بين قيمها، ما يوصد بعضا من أبواب المقايضة، وهي وسيلة بدائية للتداول، ويفتح بها أبوابا من البيع بالنقود، وهي أضبط في تقويم الأشياء وأخفها حملا وأيسرها ادخارا، وفي فرض البيع بها تكثير التجار وازدهار الأسواق، بما يدفع التداول في اقتصاد الأمة الإسلامية على طريق التقدم. أما ربا الدين فيدور في صعيد الائتمان، الذي لا يتصل ببيع يعقد أو تجارة حاضرة تدار، وتختلف لذلك حكمة حظره عن الحكمة في حظر التفاضل في تلك البيوع.(5/209)
الفرق بين ربا الدين والنسيئة
وكذلك يختلف ربا النسيئة، أو ما يسمى ربا النساء أو ربا اليد، عن ربا الدين. فربا النسيئة حظرت به السنة التأجيل في بعض البيوع الخاصة، أو التأخير في تنفيذها، فيجب لصحة العقد أن يكون كل من البدلين فيه حاضرا، وتسليمها ناجزا، ولا يجوز أن يدخل الائتمان في تلك العقود، في جانب أحد من المتعاقدين، أو كليهما. ونجد لهذا الربا الخصائص الآتية: 1- يسري ربا النسيئة حيث يطبق ربا الفضل دائما، ففي بيع الذهب بالذهب، كما تحرم الزيادة في وزن أحد(5/209)
البدلين، يحرم أن يكون أحدهما غائبا عن مجلس العقد، وكذلك في مقايضة التمر بالتمر، لا يصح العقد، إذا اشترط تأجيل أحد البدلين، أو لم يتم أداؤه في مجلس التعاقد.
ويتسع ربا النسيئة عن ربا الفضل، فيطبق على صرف الذهب بالفضة، وعلى مقايضة القمح بالتمر، ويجب تسليم البدلين عند التعاقد، ما داما من مجموعة واحدة من مجموعتي الأصناف الربوية، وهما النقدان والمطعومات، فلا ينطبق ربا النسيئة على بيع قمح آجل بفضة معجلة، بينما يحظر بيع مصوغات الذهب نسيئة ولو بثمن من فضة.
ت- ربا النسيئة، فيما حظر من تأجيل أنواع من الصرف والمقايضة، هو استثناء مما أباحته الشريعة الغراء من التجارة المؤجلة والقروض، وبينت أحكام توثيقها بالكتابة والشهادة أطول آية في القرآن، في سورة البقرة، (رقم 282) ، التي استهلت بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} (1) وفرضت الآية 283 من بعدها أداء الدين المؤجل، وإن لم يوثق بكتابة ولا برهن، وألزمت التقوى في شأنه، بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} (2) وقد فرق الإسلام بين القرض، حيث يتأجل الدين رفقا بالمدين وتصدقا بمنفعته عليه، والبيع المؤجل، حيث يستثمر التاجر ماله في النسيئة أو السلم، ويصيب من يحتاج السلعة في بيع النسيئة، أو رأس المال في السلم، حاجته العاجلة، بعوض يؤديه مؤجلا.
وانماز القرض ونحوه من الإرفاق بتحريم الربا، ولم يحظر الإسلام الزيادة في الثمن المؤجل للمبيع نسيئة كما لم يحرم النقص في الثمن إذ يعجل للمبيع سلما. وقد بين القرآن الكريم اعتراض الذين يأكلون الربا على ما شرع الإسلام من إباحة بيع النسيئة وتحريم الربا، في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) وثم وجه لتأويل الآية بأن هذا القول صادر من المشركين الذين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع كما جاء به القرآن (4) .
وكأنهم قالوا: إن البيع والربا متماثلان عقلا، ولا توجد علة ظاهرة للتفرقة بين ربح التأجيل في كل منهما، ليحل البيع ويبقى الربا محرما مما يقتضي عندهم أن يحل الربا كما أحل ربح النسيئة.
وهذا القول أشبه بما قد يحتج به اليهود حين يخاطبون بحكم القرآن وقد أحل بعض ما حرم عليهم من المرابحة ولم يحل الربا في الدين، وإن كان جمهور المفسرين على أن القائلين بالشبهة يعتقدون حل بيع النسيئة ويقيسون عليه ربا الدين، ويقولون: كما أنه يجوز أن يبيع الثوب الذي يساوي عشرة دراهم في الحال، بأحد عشر إلى شهر، فكذلك إذا أقرض العشرة دراهم بأحد عشر إلى شهر، يجب أن يجوز (5) .
وما دامت الزيادة في الأثمان المؤجلة الأصل فيها الإباحة، فلا يكون القصد من تحريم التأجيل في الصرف والمقايضة هو سد الذريعة إلى ربا الدين، الذي يحظر الاعتياض عن التأجيل (6) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 283
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) تفسير ابن كثير، ج1 ص327
(5) مفاتيح الغيب، للفخر الرازي ج2 ص354 وسائر المفسرين في زكي بدوي ص61 هـ1
(6) قارن إعلام الموقعين، لابن القيم، ج1 ص200-204 وزكي بدوي، ص 130-134(5/210)
ج- وفيما حرمته السنة من بيع الكالئ بالكالئ، ما يبين منه أن حظر بيع الدين المؤجل بمؤجل مثله، وإن كان الدينان متماثلين نوعا ومقدارا وأجلا، كصرف ذهب بذهب مؤجلين إلى سنة ومتساويين وزنا وقيمة، مما لا يذر زيادة من فرق بينهما في القيمة أو الحلول تصلح لربط هذا الربا بربا الدين.
د- وينبغي لكل أولئك أن يعدل عن محاولة رد أنواع الربا المختلفة إلى أصل واحد يجمعها، وأن يبحث كل نوع من الربا بأحكامه ومقاصده مستقلا عن غيره من الربوات حتى لا تبغي دراسة بعضها على بعض، ويعود ربا النسيئة بحقيقته الشرعية إلى موضعه الصحيح بعد إذ اختفى من أقسام الربا عند بعض المفسرين والفقهاء، ومن أخذ عنهم من المستشرقين في معاجمهم، (1) إذ أقحموا ربا الدين على تقسيم الفقه الإسلامي لربوي البيوع اللذين حظرتهما أحاديث الفضل والنسيئة، وجاوزوا المصطلح الشرعي فجعلوا لربا الدين اسم ربا النسيئة، فصرفوا لفظ الربا إلى معنى الزيادة بدلا من معنى الحرمة المقصودة فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتفت المقابلة في التقسيم، إذ خلطوا ربا الدين بربا الفضل، وقد بينا اختلافهما كما أخطئوا الفرق بين ربا النسيئة الذي يحرم التأجيل في عقود محدودة، وربا الدين الذي لا يعرض بتحريم لتأجيل الديون، وإنما يقتصر التحريم فيه على أخذ عوض عن الأجل زيادة على رأس مال الدين.
هـ - والذي يبين من أحكام ربا النسيئة أن الإسلام إذ أباح ربح التجارة الآجلة، قد حرص على ألا تجاوز ما تقتضيه مصالح الأفراد والأمة جميعا منها، فحظر جميع البيوع التي يتأجل فيها البدلان معا، إذ لا تظهر مصلحة قائمة لأحد من المبتاعين فيها، وهي ليست من صنيع التجار العاملين بالأسواق عادة، ولا تحقق الخدمات التي تبتغى من النشاط التجاري، بل هي كثيرا ما تضر بانتظامه، وذلك في حظر بيع الدين بالدين، وفي ربا النسيئة بمعناه الدقيق يحظر الصرف أو المقايضة إذا كان أحد البدلين غائبا أو مؤجلا تسليمه، فمنع من ليس بيده ذهب ولا فضة أن يصيب من طريق الصرف نقدا حاضرا، وإذا كان النقدان هما رءوس أموال التجارة، فإن ربا النسيئة لا يذر في حلبتها إلا المتمول من التجار، أو ذا الثقة، الذي يتيسر له أن يجد من يمده بالمال، مضاربة تبتغي المشاركة فيما يفيء من التجارة، وإما قرضا حسنا يضمن المقترض رده، كما أن في حظر بيع المصوغات من الذهب والفضة نسيئة، ما يحد من اكتناز الأفراد للمعدنين الثمينين، وإبعادهما عن مجالات الاستثمار التي تتحقق من خلالها التنمية الاقتصادية للأمة (2) . وكذلك في مقايضة مواد الطعام ونحوها بعضها ببعض، حيث يحظر ربا النسيئة تأجيل بدل منها، يقتضي المتبايعين أن يجريا التصرف من طريق بيع النسيئة أو ما يشرع من السلم، فينأى بتلك المعاملات عن المقايضة ببدائيتها التي تتعقد مع الأجل، ويحد من بقاء تلك المواد دولة بين منتجيها، ليطلقها في مجالات التداول على اتساعها بالبيوع الآجلة بالنقود التي يتحقق بها الانضباط ويتحدد فيها مقابل التأجيل، حتى إذا طرأ ما يقتضي التعجيل تيسر لمن يحط من المقابل حساب ما يخصم منه. ويكون من حكمة ربا النسيئة، دعم التنمية الاقتصادية وحفظ مقومات التجارة وتقويم سبل الائتمان فيها، بإغلاق أبواب المعاملات الآجلة التي من شأنها الإخلال بتحقيق
__________
(1) معجم هيوز، المرجع السابق ص544 IN ARABIC ENGISH AXICON BY E. W. ANE 1968 PART 3.P. 1023
(2) التنمية الاقتصادية، للدكتور محمد زكي شافعي، ص51.(5/211)
ما تتطلبه الجماعة من استقرار النشاط التجاري وازدهاره. ويتمحض تحريم النسيئة حقا لله تعالى، يلتزم السلطان إنفاذه، ولا يعتد بشيء من إرادة الأفراد في شأنه، وما ينبغي أن تقر تلك الإرادة على ابتغاء ما يتهدد مصالح الأمة، أو يحيف عليها. وتختلف الحكمة من هذا الربا عن الحكمة في تحريم ربا الدين، الذي يتميز بوقوعه في مجال الائتمان المشروع ويتعلق بتقويمه في القروض والتأجيل للإعسار، متكاملا مع تنظيم النسيئة المباحة في البيوع.(5/212)
خصائص ربا الدين في الإسلام
ويتبين مما قدمناه أن الربا الذي يعرفه اليهود لا يشبه من أنواع الربا في الإسلام إلا ربا الدين، ولكن هذا التشابه من بعض الوجوه دون بعضها الآخر، ولا يبلغ الشبه بين الربوين حد التماثل، بل تذر أوجه الاختلاف حقيقة الربا اليهودي جد متميزة عن ربا الدين كما اكتملت أحكامه في شريعة الإسلام، التي نعرض على هديها خصائص هذا الربا، كالذي قدمناه في بحث ربا اليهود، لتظهر الفروق واضحة بين الشريعتين، وينجلي الوضع الصحيح لمشكلة الربا في البلاد الإسلامية وأوجه علاجها الميسورة التي تأتي على ما يتعلل به للتعامل بالربا في إطار أحكام اليهود المخالفة عن أحكام الإسلام.
وخصائص هذا الربا هي:
1 - الربا في الدين وحده ولا ينطبق على البيع.
2 - الربا مقابل الأجل.
3 - الربا محظور على الدائن والمدين معا.
4 - للربا حكمته المتميزة عن ظلم المدين.
5 - المساواة بين المسلم وغير المسلم في الربا.(5/212)
الخاصية الأولى
الربا في الدين وحده ولا ينطبق على البيع
أحل الله تعالى البيع بزيادة في الثمن إذ يؤجل، أو ينقص فيه إذ يعجل ويؤجل المبيع، وذلك عوضا عن الأجل في بيع النسيئة، والسلم وعقد الاستصناع، وحرم الربا في القرض، إذ يؤجل تبرعا واختيارا، وفي تأجيل سائر الديون التي يثبت إعسار المدين بها حين وجب عليه أداؤها، فينظره القاضي إلى أن يوسر، توثيقا لعرى التكافل الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء من الناس.
وكما عني الإسلام بتنظيم التجارة الحاضرة فيما رأينا من أنواع الربا في البيوع، كانت عنايته أكبر بالائتمان في التجارة الآجلة وسائر الديون غير التجارية. وجمهور المفسرين على أن الدين المؤجل الذي فصلت آيات البقرة أحكام توثيقه، يشمل السلم وبيع النسيئة والقرض جميعا، وردوا قول من ذهب إلى أن القرض لا يدخل في ذلك الدين، لأن القرض لا يجوز فيه الأجل الذي يؤجل إليه الدين، وكانت حجتهم أن القرض يصح تأجيله باتفاق الفقهاء، وإنما اختلافهم في لزوم هذا التأجيل، فقال الإمام مالك بلزوم الأجل المتفق عليه في القرض، ورأى سائر الأئمة أن المقرض متبرع لا يجوز أن يجبر على الامتناع عن المطالبة بالقرض قبل الأجل (1) .
وقد كانت مصادر ربا الجاهلية، إما قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة بدلا من الأجل، وإما بيعا بالنسيئة حل ميعاد أداء ثمنه وليس عند المشتري ما يفي به، فيزيد مقداره ليؤخر البائع المطالبة به، أو سلما لا يجد المسلم إليه الشيء الذي باعه عند حلول أجله، فيؤخره المسلم إلى أجل جديد بزيادة على الشيء المبيع، وقد حظرت الزيادة على الدين في كل تلك الصور من الائتمان غير التجاري، وفرق الإسلام بين هذا الائتمان القائم على الإرفاق والائتمان التجاري في البيوع الذي أبيحت المعاوضة على الأجل فيه، التزاما لحال المال الذي يخرجه التاجر إلى الائتمان من بين ما يدير به تجارته الحاضرة ويقف ما كان يفيء له من كسب دوري إبان تأجيله.
وكذلك حال الذي ائتمن من الاتجار فيما دفع إليه وما يفيد من كسب يقدر أن يؤدي الزيادة في الثمن المؤجل منه. وبجانب هذا الائتمان في السلع التي تقوم التجارة على تداولها، ويتحدد بكل بيع يرد عليها مخاطر عقده مستقلا عما سبقه وعما يلحقه من البيوع، أقر الإسلام الائتمان الرأسمالي بعقد المضاربة أو القراض، فيأخذ التجار المضاربون رءوس الأموال من أصحابها يديرون بها التجارة، وتقسم أرباحها بين التاجر عن عمله، والممول عن رأس ماله، فإن لم تصب التجارة ربحا، أو منيت بخسر، ضاع جهد التاجر، وفات رأس المال الربح أو نقص ما خسره، تبعا لحقيقة ما أسفر
__________
(1) زكي الدين بدوي، ص 37 هـ 1، ومعجم الفقه الحنبلي، ج2 ص 771 رقم 14.(5/213)
عنه النشاط المعقود عليه، وكما يتضامن رب المال والعامل في تحمل خطر الخسارة، يفيد رأس المال من كل زيادة تتحقق في ربح المضاربة خلال الأجل الذي تنتهي عنده، وبذلك جعل للأجل في التجارة عوضه الذي يتحدد ابتداء في البيوع، أو الذي يتحقق ويتحدد انتهاء في المضاربة.
ويتميز القرض من البيع، خلافا لما يذهب إليه بعض الفقهاء والمستشرقين الذين يجعلون القرض في أصله من المعاوضات ويدخلون رباه في ربا الفضل بالبيوع خطأ، ذلك أن القرض في شريعة الإسلام من التبرعات يتصدق فيه المقرض بمنفعة المال على سبيل العارية، وإذا كان المقرض لا يسترد ماله ذاته بل يسترد مثله، فلأن هذا المال مما يهلك بالانتفاع به، انفاقا كالنقود أو استهلاكا كالطعام، وليس أخذ هذا المثل المؤجل هو مقصود المقرض من العقد، ليكون كالبائع الذي يقصد أن يأخذ من المبتاع عوضا غير الذي يبيعه منه، ولو كان القرض من البيع لوقع في نطاق ربا النسيئة الذي يحظر مقايضة العين بمثلها مؤجلا، ولذلك جعل الفقهاء رد بدل العين في القرض بمثابة رد العين ذاتها خلاف سائر الديون.
ولكن مع اتفاق الفقهاء على حل المعاوضة عن الأجل في البيوع، وحرمتها في القروض وسائر الديون، اختلفوا في الديون المؤجلة حين يعجل أداؤها، فمنع فريق من الأئمة، منهم أبو حنيفة ومالك، أن ينقص شيء من الدين، إذ رأوا في مقابلة هذا النقص بما بقي من أجل الدين ما يشبه الربا الذي يجعل الزيادة فوق الدين مقابلة لأجله، وأخذ فريق بما «روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر بجلاء يهود بني النضير، وسألوه عن ديون لهم مؤجلة، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: " حطوا وتعجلوا"» فأجازوا أن ينقص من الدين المؤجل إذا عجل وفاؤه، ما يقابل الذي بقي من أجله. وانتهى متأخرو الحنفية إلى الفتوى بذلك في المرابحة (1) .
وقد بني الاختلاف على أساس إحدى خصائص الربا التالية، وهي كونه مقابلا لزمان بقاء الدين في الذمة، ولكن لو نظر الأمر من وجه مشروعية المعاوضة عن الأجل، فإن الديون التي تحل الزيادة فيها لتأجيلها، كثمن النسيئة، لا يكون في الحط منها عند تعجيلها شيء من الربا، إذ يفترض اشتمال الثمن على عوض بمقدار الأجل كاملا، فإذا أدى الثمن، ولم ينقض إلا نصف الأجل، كان ما يقابل نصفه الآخر ولا سبب يستحق عنه. ولا يكون ربا فيما نقص من ديون بني النضير، إن كانت من المرابحة أو السلم، وقد كانوا يستحلون الزيادة فيها على الأميين وإن حرموا أخذها من اليهود، وقد أخرجها الإسلام من ربا الديون. أما إن كان الدين المؤجل من قرض، فلا يبدو وجه إنقاصه إذا عجل أداؤه، حتى عند من يرى لزوم الأجل فيه، لأن المقترض لا يرد شيئا فوق ما أخذ من المقرض في كل حين، وكما يحظر العوض من المدين عن منفعة الدين المؤجل، لا يحق له أن يقتضي المقرض عوضا عما بقي من الأجل الذي ارتضاه هذا الدائن تبرعا بالقرض للأجل كله. ويستوي القرض في ذلك كل دين تأجل أداؤه بأمر القضاء للإعسار، وتبقى الديون المؤجلة بحكم الشرع، كديات القتل الخطأ، يتنازعها الرأيان في جواز الحط عند تعجيلها أخذا بعموم الحديث الشريف، أو منع نقصها لما فيه من شبه الربا.
__________
(1) بداية المجتهد لابن رشد ج2 ص118 وحاشية ابن عابدين ج5 ص526، 525.(5/214)
الخاصية الثانية
الربا مقابل الأجل
يؤدى الربا عوضا عن تأجيل المطالبة بالقرض أو الدين، ويؤخذ في تحديده بمقدار الأجل، فيتضاعف الربا بتضاعف الآجال المتوالية.
ويتميز الربا من الزيادة في البيوع الآجلة، فهي وإن حددت على أساس مقدار الآجل، فثم أسس أخرى تدخل في تقدير المتبايعين، منها معدل الربح في السلعة، وما يتوقع من رواجها خلال الأجل، وهي اعتبارات تجارية لا يتمثلها المتعاملون بالربا، وتتحدد هذه الزيادة جملة واحدة لتندمج في الثمن، بحيث لا تتميز من أصله، ولا يكون في العقد إلا الثمن لا يبدو من عناصر تقديره مقابل التأجيل، وفي ذلك تورع من صورة الربا، ولا يحسب هذا المقابل في البيوع إلا مرة واحدة عند إبرامها، ولا تتضاعف الزيادة في النسيئة ولا في السلم، إن أعسر المدين، ويؤجل الثمن أو المبيع إلى ميسرته، في إرفاق يشبه القرض. وهذا فرق هام بين زيادة البيوع المؤجلة في الإسلام والربا الذي يتضاعف أضعافا لا حد لها، يقيم حاجزا ظاهرا بين البيع والربا.
وقد لا يشترط الربا في عقد القرض، ولكن المستقرض يعد بالزيادة فوق رأس المال أو يؤديها من جانبه، بقصد حمل الدائن على تأخير مطالبته، ثم هو يضاعفها كلما انتهى الأمد الذي قدمها عنه، فتكون تلك الزيادة من ربا الدين. ولكن لا يعتبر من الربا ما يؤديه المدين مختارا عند قضاء الدين من زيادة عليه، بعد إذ انتفت كل مظنة من جانبه في ابتغاء التأجيل، وكذلك يخرج من الربا كل ما اعتاده المدين من إهداء أو صلة للمقرض من قبل أخذ القرض، وإن قدمها خلال تأجيله لانقطاع صلتها به.
وإذا وثق القرض برهن، فلا يجوز أن يشترط للمرتهن الانتفاع بالرهن، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يغلق الرهن، ولصاحبه غنمه وعليه غرمه (1) » وإن انتفع الدائن بشيء من الرهن، صار قرضا جر منفعة وكان، فيما روي من السنة، من الربا. ويختلف القرض في ذلك عن البيع، فيجوز للبائع المرتهن أن يشترط لنفسه الانتفاع بالرهن، ويعتبر ثمن السلعة الحقيقي هو ما سمي من الثمن بالعقد مضافا إليه منافع المال المرهون مدة معلومة (2) .
والأصل في الشريعة الإسلامية أن الأموال لا تسعر على الناس في مبادلاتهم، وأن الغبن لا يؤثر في صحة المعاوضات، إذا عقدها كاملو الأهلية لأنفسهم بإرادة سلمت من التغرير، وإنما يعتد الغبن إذا وقع في بيع أو
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .
(2) وقال بذلك ابن خويز منداد عند المالكية. انظر القرطبي ج3 ص413.(5/215)
إيجار أموال من في ولاية غيرهم أو بيت المال أو الوقف، أو إذا تم العقد في حال يكون المتعاقد في غير بينة من حقيقة الأسعار بالأسواق كما في حال تلقي الركبان، ويشترط أن يكون الغبن فاحشا، غير يسير مما يتغابن المتعاملون بمثله، ويجعل هذا الغبن حقا لمن أصابه، في طلب تكملة الثمن إلى الحد الذي يقتنيه، ولا يذر مثل ذلك الغبن العقد باطلا أو محظورا، إذا لم تطلب إزالته. .
فبيع النسيئة يؤثر الغبن فيه، كما لا يؤثر في السلم، ولا يكون ثم أصل شرعي عام يقيد تقدير مقابل الأجل في البيوع أو يحظر المغالاة فيه. ونجد في ذلك الأصل الذي يذر تقدير الأموال والمنافع إلى ما يرتضيه ذووها، ولا يحظر التغابن فيها، ما قد يبين منه أن النهي في القرآن الكريم عن أكل الربا أضعافا مضاعفة، لا وجه لصرفه إلى الربا الفاحش، ليقتصر التحريم في النص على الربا المركب، الذي تؤخذ فيه فائدة على ما تجمد من الفوائد (1) .
وما كان العرب حين جاءهم الإسلام يعرفون التفرقة في الحكم بين يسير الربا وفاحشه، ولا بين بسيط الربح ومركبه، كما لم يعلق الإسلام مشروعية البيع على اعتدال الثمن، ولم يحظره لبخس بالثمن أو غلو فيه. وإنما الأقرب أن ينصرف النهي إلى طلب الكف عن الاستمرار في الاستثمار الربوي، فإن الربا لا يتضاعف بتضاعف الأجل، ولا يبلغ الربا الأضعاف المضاعفة إلا بمكث المال في حمأة الاستغلال المحظور، فكان الخطاب في سورة آل عمران، لينتهي كل مكلف عن الإخلاد إلى المداينات الربوية، ثم بينت آيات سورة البقرة، بعد النص على تحريم الربا، ما يتبع لتصفية الديون الربوية القائمة عند التنزيل، بأداء رءوس أموالها وحدها بغير أية زيادة فوقها، فكانت حرمة الربا مطلقة تحظر يسيره كما تحظر فاحشه.
__________
(1) مصادر الحق، للدكتور السنهوري ج3 ص368و269.(5/216)
الخاصية الثالثة
الربا محظور على الدائن والمدين معا
الربا محظور على الدائن أخذه وعلى المدين إيتاؤه، كما يحظر توثيقه فيأثم شاهدا عقده وكاتبه جميعا بنص الحديث الشريف.
وقد بينت السنة أن الربا أفحش إثما من الزنى، ويبدو الربا في فقه الإسلام، كالزنى، عملا مشتركا، يعصي به اللذان يعقدانه عن التكليف في إقراض المال لمحتاجه قرضا حسنا أو استثماره بما شرع الله تعالى من التجارة بالبيع أو المضاربة.
وقد رأينا السنة في ربا الفضل، تقضي بأن إثم مخالفته يقع على طرفي البيع معا، ولا يقتصر على من أخذ الزيادة في المقدار، بل إن من أعطاها قد أربى مثله. وكذلك في ربا الدين، يأثم الدائن، ولو قل مقداره عما(5/216)
يربحه رأس المال بالاستغلال المشروع في يد الدائن، ويأثم المدين، ولو زاد ما يؤديه من الربا على ما يكسب من استثمار القرض.
وإذا كان القرآن يأمر الكاتب ألا يأبى أن يكتب الديون المؤجلة، كما أمر الشهداء ألا يأبوا الشهادة حين يدعون إليها، فإن الكاتب والشهود لا يتحلل أحدهم من هذا الأمر فحسب، إذا وجد الدين مقترنا بالربا، بل يحرم على كل واحد منهم بمجرد علمه بالربا، أن يكتب العقد أو يشهد عليه. وإذ يقوم الرهن مقام الكتابة في توثيق الدين، فإن من يرهن ماله ضمانا لدين ربا استدانه غيره، وكذلك من يكفل هذا الدين، يكون كلاهما قد شارك في الإثم وأعان عليه، ويناله نصيبه من جزاء الربا، آثاما وعقوبة كالكاتب والشهيد.
وجزاء الربا في الحياة الآخرة، هو بنص الكتاب، النار التي أعدت للكافرين، وإذ لم يرد نص شرعي على عقوبة مقدرة للربا، خلافا للزنى الذي فرض فيه الحد، وللقتل الذي كتب فيه القصاص، فإن جريمة الربا تجزى بعقوبة التعزير، حيث يفوض القاضي في اختيار نوع العقوبة ومقدارها المناسبين لكل جان ردعا ونكالا.
وقد صرح القرآن بحرب من امتنع من المتعاملين بالربا عن أكله، وآذنهم بالقتال حتى يذروه، ولا يجوز للحاكم أن يقر أحدا على أكل الربا ولا إيتائه، ولو كان ذميا من اليهود الذين يدينون بجواز أخذ الربا ممن سواهم أو من النصارى المصلحين الذين يقرون الربا في غير ديون الفقراء (1) . .
وقد نص فيما صالح عليه النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران من الجزية، على ألا يأكلوا الربا، كما روي أن «رسول الله عليه الصلاة والسلام كتب إلى مجوس هجر: إما أن تذروا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله» .
ولا يخل بالتزام الحاكم هذا المنع، ما له من حق العفو عن بعض من اقترف شيئا من المعاملات الربوية، وفقا لما يقدره من ظروف التعزير لحق الله تعالى، الذي عهدت الأمة إليه النظر في إقامته، بما يكف شرور الربا وأضراره بمصالحها المختلفة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وحرمة الربا تجعل ما يشترط منه غير مستحق شرعا، فلا يجوز للدائن أن يطالب بالربا ولا أن يأخذ ما يقدمه المدين منه، وإن أصاب شيئا وجب عليه رده في كل حال، ولو كان يتيما أو قاصرا، بلا خلاف عند علماء المسلمين، كما لا يجوز للمدين أن يلتزم الربا، ويحرم عليه أداؤه، وإن أداه وجب استرداده أو خصمه من رأس المال، إن كان الدين لما يتم وفاؤه. ولا يقتصر وجوب الرد على الفتوى ديانة، بل يحكم به القضاء وينفذ الحكم في مال الدائن، وإن مات الدائن استوفي ما أخذه من الربا من تركته مع سائر ديونه، قبل أن يصيب الورثة شيئا منها (2)
__________
(1) معجم كارنبرج، المرجع السابق ص547
(2) الفتاوي المهدية، ج5 / 317 و318.(5/217)
الخاصية الرابعة
للربا حكمته المتميزة على ظلم المدين
لا تنحصر حكمة تحريم الربا في درء الظلم عن المدين من الفقراء، ولا نجد في نصوص القرآن والسنة ما يشير إلى أن الربا إنما يؤخذ من المقترض الفقير استغلالا لحاجته، وإذا كانت آيات الربا قد جاءت بعد آيات الصدقات، فقد تلتها مباشرة آيات الدين المؤجل الذي يقع في التجارة نسيئة وسلما، كما يقع في القرض، وقد نصت آيات الربا ذاتها في رد رءوس الأموال على مدين معسر فرضت نظرته إلى ميسرة، فافترضت مدينا آخر موسرا يجب عليه أداء رأس المال ناجزا، وفي قوله تعالى لأكل الربا: " {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} (1) يحتمل أن يكون المعنى لا تظلمون أنفسكم بمعصية أكل الربا، ولا تظلمون بنقص من رءوس أموالكم. وقد جرى أسلوب الذكر الحكيم في آيات كثيرة على اعتبار عصيان التكليف ظلما لنفس من عصى، ومن ذلك قوله جل ثناؤه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (2) (سورة البقرة، الآية 54) وقوله عز شأنه: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (3) (سورة الطلاق، الآية 1) ، ولا يتعين ما ذهب إليه المفسرون والفقهاء الذين قالوا: إن المرابين يظلمون المدين بأخذ الربا منه، وجعلوا الحكمة في تحريم الربا هي ما فيه من ظلم المدين (4) .
إذ لا يتفق ذلك وحقيقة الربا في الإسلام باعتبار مداينته معصية مشتركة بين طرفيها من دائن ومدين لا يرجع حظرها إلى منع استغلال المدين، لأن لتعرض منفعته التي يصيبها المدين، وإنما فرض الشرع التصدق بها عليه لحاجته. وإذا كان المستقرض محتاجا لا يبتغي استثمارا، وإنما يأخذ القرض لنفقته، فإن عليه أن يلجأ إلى الطرق المشروعة لسد خلته، بالرجوع على من تلزمه نفقته من الأقربين أو من بيت المال أو يتحرى صالح الأغنياء، ليصيب قرضا حسنا، فإن أعوزه كل أولئك وسعه باب التجارة الآجلة، يشتري حاجته بالنسيئة أو يبيع ما ينتظر رزقه سلما، وقد صح في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى شعيرا لطعام أهله بالنسيئة من يهودي. ارتهنه درعه ضمانا للثمن (5) » . وظاهر من محل البيع، وهو أبسط غذاء رئيسي، عظم الحاجة إلى شرائه، وقصد النبي صلى الله عليه وسلم في الاستدانة حتى لضرورات المعيشة. وفي ذلك ما يغني ذا الحاجة عن الاستدانة بالربا التي حظر الله تعالى، فإن جاوز إليها كان ظالما لنفسه، مثله كمثل من ادان منه، وليس مظلوما يتقاضاه الدائن الربا بغير نفع يعود عليه من القرض، فإن الشريعة لا تجاوز الواقع من الأمر، ولا تهدر منافع النقود حين تقترض ولا يعتبر المال في يد المقترض عقيما. فالقرض في الإسلام من عقود الإرفاق، بما يذر للمقترض من منفعة القرض تبرعا، ويظل المال طيلة قرضه تستحق عليه الزكاة، واستحقاقها بفرض نمائه. ويتضح الأمر إن
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 54
(3) سورة الطلاق الآية 1
(4) إعلام الموقعين، لابن القيم، ج2 ص99و100.
(5) صحيح البخاري البيوع (2096) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .(5/218)
كان المدين غير فقير، وإنما يبتغي فضلا من استثمار القرض، فيما يحسن من التجارة أو نحوها من النشاط الاقتصادي، إذ لا يبدو في خشية استغلال الدائن له، ما يصلح حكمة لتحريم الربا، فكما تحتمل الخسارة في الاستثمار، حتى لا يجد المدين ما يؤدي منه الربا، يحتمل أن يكسب أضعاف الربا، حتى يتحيف ما كان يستحقه رب المال لو كان ما بينهما عقد مضاربة بدلا من المداينة الربوية، والإسلام لا يجعل احتمال الخسارة، بل ولا تحقق الغبن أو الاستغلال- موجبا لتحريم المعاوضات، إذ جعل للأفراد سلطانا في تحديد الائتمان ينفذ مع الغبن إن كان يسيرا، ولا يذر الغبن الفاحش إلا خيارا للمغبون لا يحظر معه بقاء الغبن. كما لا يتفق وحظر يمين التصرف الربوي القول بأن الدائن، إذ يأكل الربا إثمه أعظم من إثم مؤكله، باعتبار تحريم أكل الربا لذاته، أما المقترض فيرتكب محرما لغيره، وإذ لا يباح المحرم لذاته إلا للضرورة، ولا توجد ضرورة مطلقا تبيح أكل الربا، أما المحرم لغيره فيباح للحاجة، فمن كان في حاجة ماسة للاقتراض بالفائدة، لأنه لا يجد من يقرضه إلا بالفائدة، قيل: إن الله تعالى يرفع عنه الإثم، ويبوء بالإثمين من لم يقرضه إلا بفائدة. وكأن هذا القول يعتبر أصل الحظر في الربا متعلقا بأكله من المقترضين، وبنحو ذلك قريبا مما عند اليهود، ولكن ربا الدين في الإسلام يشبه الزنى، فيستوي في حظره عمل كل من طرفيه، إذ لا تبرم عقدته إلا بالتقاء هذين العملين، إيتاء المدين يقابله أخذ الدائن، ولا ترخص لدائن أو مدين في أخذ الربا أو إيتائه إلا في حال الضرورة (1) .
فلا يباح لمكلف أن يقترض بالربا لمجرد الحاجة الماسة التي لا تبلغ حد الضرورة، وتتصور الضرورة في أكل الربا إن أطبقت أمة على أكله وأوصدت على المكلف وجوه الاستثمار المباحة لرأس ماله.
وتكون ثم حكم شتى لحظر الربا، لا تقتصر على من يأكله، بل تتعلق أيضا بمن يعطيه، وبمن يعين عليه، وبالأمة جميعا من ورائهم، في مجالات النشاط الاقتصادي والسلام الاجتماعي والسياسة المالية للدولة.
فكما يقصد تحريم الربا إلى كف أشحة الأغنياء عن أن يرهقوا الفقراء والمعسرين الذين تضطرهم حالهم إلى تأجيل قروضهم أو ديونهم، بعدم التصدق عليهم بفيئها ويشعرهم بكل تفريط في رعاية أحكام الزكاة، التي تكفل للفقير والمسكين ما يغنيه عن الاستقراض، وتتيح للمعسر الغارم أن يأخذ ما يفي بدينه ولا يضطر إلى طلب تأجيله- كذلك يتوجه التحريم إلى مترفي الأغنياء، ليتجافوا عن الدعة، وينأوا عن الفراغ، وإلى المدخرين كافة، وإن قل ما يدخرون، ليقدم كل منهم على تدبير استثمار ماله والنظر فيما يصلحه وفيما ينبغي اتقاؤه، لتجنب الخسارة فيه وزيادة الربح منه، وتنطلق تيارات النشاط وحوافز الكسب التي فطر الناس عليها في جنبات الأمة كلها، ويستوي للفرد من كل ذلك، رشد مالي يظهره على طرائق الاستثمار ويكسبه خبرة تيسر له اختيار أحسن السبل للتنمية، وتمنعه من أن يتحيفه مقترض بربا، يقل كثيرا عما يفيء به المال من واقع الاستثمار، أو يذهب بالمال ليستثمر في بلد أجنبي، تقتضى مصلحة رب المال وأمته من ورائه، أن يستثمر المال في غير هذا البلد، وفقا لما تجري عليه تجارة المصارف الربضوية، التي يقوم أصل كسبها على انتجاع مواطن الزيادة في الربا الذي تأخذه على ما تؤتيه مقرضيها من المودعين.
ويستشعر الغني كذلك مقتضيات التكافل مع من يعوزهم المال ويقدر آثار معاونتهم حق قدرها، في ترضيتهم وتوقي عواقب سخطهم، وهم الأكثرون، والحفاظ على تدفق نشاطهم
__________
(1) انظر قرارات المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية، طبع الأزهر الشريف، 1385 \ 1965(5/219)
الاقتصادي الذي تضار الأمة، من وهنه أو توقفه، أشد الضرر حيث لا يغني عنه جهد القلة من الأغنياء، أن صار النشاط دولة بينهم. وبهذا الرشد لا تقتصر قدرة الأفراد على تدبير أموالهم الخاصة، بل تقوى على المشاركة في تدبير الأموال العامة ومراقبة إنفاقها في حاجات الأمة، حتى كفاية مصالحها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
والدولة التي تعمد إلى الاقتراض من أفرادها بالربا، وإن أخفته تحت أسماء أخرى، لا تصيب رعاياها في أنفسهم بانحراف المرابين فحسب، بل هي بما تغريهم به من منافع خاصة في زيادة ربا أموالهم، تلفتهم عن الاهتمام برشد إنفاقها العام، وبجدوى مشروعاتها الاقتصادية، ويوهن الربا من هيمنة الرقابة الشعبية على مالية الأمة.
ونجد أمتنا في جهادها الكبير للمشركين، من قبل أن تفتح لها الفتوح وترث الممالك، كانت في ضائقة مالية شديدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا كثيرة لا يجد ما يحمل عليه بعض المجاهدين في سبيل الله، فكان يردهم ولا يلجأ إلى الاقتراض بالربا، وكان ميسورا في سوق المال يومئذ، وخاصة لدى اليهود. ففرض الجهاد على خطره لا يسبق حرمة الربا، ولا يبيح تجهيز الجيوش للدولة أن تأكل الربا، لأن في منعه إحياء لأهلها في أنفسهم وأموالهم بما لا تقل خطورته عما يحققه الجهاد، وليس الربا هو السبيل الوحيد لموارد الإنفاق على القتال، وما استطاع اليهود أن يتسللوا برباهم إلا من بعد أن وهنت الدولة العباسية من بذخها، على سعة أقطارها وكبر دخلها، وزين الجهابذة اليهود لخلفائها الاستدانة منهم وارتهنوا مواردها (1) .
ولم تعصمها قروضهم الربوية من الإملاق والانهيار.
وفي جانب المدين، يقصد تحريم الربا إلى أن يسلك بالمحتاج الذي لا يجد منفقا عليه، سبيل التجارة الآجلة التي يرزق منها العاملون في الأسواق، فيكثر التجار وينمو النشاط الجاد، الذي لا يذر في مجاله إلا من يقوم على أعمال الإنتاج وتداول السلع، ويضمن مخاطر عمله. وكذلك من يستدين، ابتغاء رأس مال يتاجر فيه، أو يحدث صناعة به، إذ لا يأتي الربا، ويضارب رب المال الذي رغب عن إقراضه، يجد بالمضاربة من مخاطر النشاط الذي يقدم عليه وعواقب ما يحتمل من خسره، فإن المضارب لا يحمل من الخسارة في رأس المال المستغل فوق ما يصيبه من ضياع عمله كله، ولا يكلفه هذا التأمين من الخسارة إلا مقابلا يسيرا، هو نزوله عن الحرص على الاستثمار بما يستحقه صاحب رأس المال فيما يحتمل من زيادة الأرباح المحققة على مقدار الربا المتفق عليه، والمضارب بهذا النزول لا يكسب ود رب المال فحسب، بل يستدر عونه ويجتذب حوافزه للاهتمام بالاستثمار والسعي إلى أقصى ما ينجحه، ليزيد ما يعود على المال من ثمراته وتتجلى حقيقة هذه الحكمة فيما يحدثه الربا من إملاق المدين، ولا يختص هذا الإملاق بالأفراد، إذ يحفل التاريخ بما ترك الربا من خزائن خاوية للدول التي ادانت به في مختلف العصور وأحدثها حال البلاد المتخلفة اقتصاديا التي ابتغت التنمية من اقتراض رءوس الأموال التي أعوزتها بالربا، فلم تصب تقدما تواكب به العصر ولم تستطع وفاء ما اقترضت ولا رباه، وبقيت
__________
(1) دائرة المعارف الإسلامية، مادة جهبذ، ج12 ص443(5/220)
ترزح تحت أثقال الديون الخارجية وتعاني من أعبائها المالية والسياسية تضخما واختلالا في ميزان مدفوعاتها، وتدخلا في مقدارتها من الدول الدائنة. وما كانت تلك العاقبة الخاسرة لتقع، لو شارك أصحاب رءوس الأموال في القيام على جدية استثمارها ورعوا سلامة إنفاقها.
وإملاق مدين الربا لا يقتصر أثره عليه، بل ينعكس على الدائن، فيتعذر عليه استرداد ماله واستيفاء ما اشترط من الربا، ويثور النزاع بين الدائنين المرابين والمدينين، كما لهذا الإملاق صداه في الأمة؛ إذ يتصدع بهذا النزاع تماسكها الاجتماعي، كما تضار في استقلالها إن كان الدائن دولة أجنبية تستطيع أن تبغي عليها بدينها، وتخسر في كل حال ما ينقص من رأس المال القومي بقدر ما أضاعته المعاملات الربوية بين يدي المدينين المملقين من الأموال التي دفعت إليهم إسرافا، فعجزوا عن استثمارها وبددوا من رءوسها، وما كان الربا يصلح شأنهم، مهما قل مقداره وانتفى قصد استغلال الدائن لهم وابتزازه ثمرات جهدهم، وأدام حرص الدائن على اكتساب الربا يغريه بالإكثار من الإقراض بما لا طالة للمقترضين باستثماره، ولا يثني الدائن، إزاء هذا الإغراء، ما يعلمه من عجز المقترض.
ويزيد الإغراء، إن كان القرض من دولة لها مآرب أخرى في السيطرة على الدولة المستقرضة من طريق التسلل المالي الموهن لقدراتها، وكثيرا ما أدى ذلك إلى الاستعمار وما يسبقه من حروب مدمرة، وما يتخلله من ثورات ونهب للثروات، وما يعقبه من فقر وتخلف يرينان طويلا على الأمم بعد إذ أفلتت من نيره.
وتبقى حكمة حظر إيتاء الربا ماثلة في مخالفة المدين عما كلف، بما اقترض بالربا، وما يبوء به من الخسارة يرجع في أصله إلى المدين نفسه بأكثر مما يرجع إلى استغلال الدائن له، فإن المدين هو الذي فرط وحده في الاستثمار، بعد إذ فرط في اقتراض ما لا تستوعبه قدرته على التثمير، أو ما يجاوز حاجته الملحة فبسط يده مسرفا، وكان ضياع ماله في الحالين من مخالفته عن حظر إيتاء الربا الذي أغرقه بالدين وإن كان للدائن إثم ما اكتسب من إغرائه بالاستكثار من الدين.
ويكون في تحريم الربا ما يوجه الأموال التي تبتغي الاستثمار إلى التجارة مباشرة، ويبقى للإرفاق من أموال الصالحين من الأغنياء ما يضاف إلى ما للفقراء والمساكين والغارمين من مصارف الزكاة، حتى يفي بقروض المحتاجين، ويتكامل للأمة نشاطها الاقتصادي مع تكافلها الاجتماعي في تخطيط منضبط دقيق يلزم الحاكم فيها والمحكوم.
وكما أن في تحريم الزنى دفعا إلى الزواج الذي تقوم الأسرة عليه، وتحفظ بينها الأنساب وترعى الأولاد وتتصل الأجيال، وكما أن في القصاص حياة الأنفس بكف المعتدين أفرادا كانوا أو حاكمين، فتحمي حقوق الحياة والسلامة كما تحفظ الحريات العامة، ويبرأ المجتمع من بلايا الفساد والإرهاب، كذلك يأتي حظر الربا في الإسلام إحياء لموات الأموال بحشدها في خير أبواب الاستثمار لأصحابها ولمن تمس حاجتهم إليها وللأمة جميعا.
ونجد الرشد الذي يهدي إليه تحريم الربا يقابله التخبط من المس الذي وصفت به الآية الكريمة من سورة البقرة قيام الذين يأكلون الربا، وذلك بأنهم لم يهتدوا إلى إدراك نفع البيع وإثم الربا والشعور بحقيقة الفرق بينهما، مما يذر لحكمة التحريم تعلقا برعاية الملكات العقلية التي يكتمل بنضوجها ذلك الرشد، ويصيبها أخذ الربا أو إيتاؤه بالاختلال الذي يأتي على شخص المرابي مع ما أنقص من الأموال.(5/221)
الخاصية الخامسة المساواة بين المسلم وغير المسلم في الربا
حظر ربا الدين عام ليطبق على مداينات المسلمين وغير المسلمين، فيحرم على المسلم أن يأخذ الربا من مستقرض غير مسلم، كما لا يجوز للمسلم إذا اقترض من غير المسلم أن يعطيه شيئا من الربا، ويستوي أن يكون غير المسلم ذميا أو حربيا بدار الحرب.
ويمنع الذمي من أكل الربا في دار الإسلام، ولو كان المدين ذميا مثله، أو كان ممن يدينون بحل الربا في بعض مدايناتهم، كاليهود في الديون التي يعقدونها مع سواهم، وكفريق النصارى المصلحين. وقد قدمنا ما ثبت في عهود رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الذميين من تحريم الربا عليهم.
وما يراه بعض المحدثين من الترخيص في أخذ المسلمين فوائد أموالهم التي يودعونها المصارف الأجنبية بالبلاد غير الإسلامية، لا يستند إلى دليل من الكتاب ولا السنة، ولا يسوغه أن لا يأخذ المودع الربا لنفسه وأن يدفعه إلى بيت مال المسلمين خدمة لصالحهم العام، ذلك أنهم يغفلون عن أثر الربا، في تخبط آكليه وما يوهنه من رشدهم بعزلهم عن مجالات تثمير ما يرزقون، وفي فقد دار الإسلام ثمرات الأموال الخارجة منها إلى البلاد الأجنبية ابتغاء هذا الاستغلال المحرم، الذي لا يبلغ ما يفيء منه قدر تلك الثمرات، وإلا ما تهافتت تلك المصارف على اجتذاب المسلمين بشتى وسائل الإغراء إلى دفع أموالهم إليها.
ولا حجة لهؤلاء القائلين فيما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة من جواز الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب، ولا فيما عند الشيعة الإمامية من أن الربا لا يقع بين المسلم والحربي، سواء في دار الحرب أو في دار السلام، إذا أخذ المسلم الفضل، وإنما يكون حراما إذا أعطى المسلم الفضل؛ فقد رد الشافعي بأن ما احتج به أبو حنيفة من الحديث عن مكحول رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب» "أو" «لا ربا بين أهل الحرب وأهل الإسلام» ، ليس هذا الحديث بثابت، ولا حجة فيه، فإنه لو صح لتأولناه على أنه لا يباح الربا في دار الحرب جمعا بين الأدلة.
وما استند إليه بعض الحنفية من أن مال الحربي ليس بمعصوم ولا مضمون حقا لصاحبه، بل هو مباح بنفسه، فإذا بذله باختياره عن تراض فقد صح أخذه، والحربي ليس مخاطبا بفروع شريعة الإسلام- رده الشافعية بأنه لا يلزم من كون أموال الحربيين تباح بالاغتنام أنها تستباح بالعقد الفاسد، وإذا كان الحربي غير مخاطب بفروع الشريعة في تصرفه فالمسلم مخاطب بها فيه، وقيل حديثا: إن رأي الحنفية إنما يكون واردا إذا كان المسلم هو الذي يأخذ الفضل، كما اشترط الإمامية، ولا يصح إذا أعطى المسلم الفضل.
ونجد في كل ذلك خلطا بين زيادة القيمة التي يقع بها الغبن ويصيب بها المتعاقد خيرا مما أعطى، وبين ربا الفضل، وهو كما بينا زيادة مقدار فحسب، لا تقتضي زيادة في قيمة أحد البدلين، ليصح اشتراط أن يأخذها المسلم، وقد يضاربها. فقد يكون البدل الأكبر(5/222)
مقدارا أقل قيمة لشدة رداءته من البدل الأصغر وزنا أو كيلا لبالغ جودته. وإذ يدور هذا الخلاف على ربا الفضل في البيوع، فالحنفية يتحدثون عن جواز بيع الدرهم بدرهمين، ولا نجد من قول لديهم في ربا الدين يبيح للمسلم أن يأكل هذا الربا من دين يقترضه حربي منه بدار الحرب، وإذ لا يحل للمسلمين أن يتصدقوا على أهل دار الحرب، وفي إخوانهم بأرجاء دار الإسلام محاويج، وإذ كان القرض في النوع هو من قبيل الصدقات؛ فإنه لا يجوز لمسلم أن يذر أمواله بمصارف البلاد غير الإسلامية ولا أن يوظف شيئا من هذه الأموال في السندات ونحوها مما تقترض به حكومات تلك البلاد ديونها العامة. ولا تتم توبة من يفعل ذلك من المسلمين إلا باسترداد رءوس أموالهم من الخارج، لتفيد أمتهم من تثميرها بين أهلها بالطرق الإسلامية المشروعة، وينتهي اقتراض بعض البلاد الإسلامية من تلك المصارف الأجنبية التي تتقاضاها من الربا ما يزيد مقداره كثيرا على ما تدفعه هذ5 المصارف من يسير الربا إلى أرباب الودائع المسلمين، ويخلص ذلك الكسب الطائل للمرابي الأجنبي من مجرد الوساطة بين أخوين مسلمين خالفا عن حكم الله تعالى في تحريم الربا أكلا وإيتاء، فحاقت بكليهما شروره، ولم تذر شيئا من فضل حقيقي فيما يأكله المودع المسلم من ربا عن قرضه للحربي يسوغ الترخيص للمسلم في ذلك.
وحظر أكل ربا الدين على المسلم من غير المسلمين بالخارج لا يرجع فيما نرى إلى أن الإسلام ينهى عن التعصب، يقول تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (1) (سورة المائدة، 9) ولا إلى ما فرضه الإسلام من أداء الأمانات إلى أهلها ولو كانوا غير مسلمين، ونعيه على اليهود ما استحصلوا من بخس الأميين حقوقهم. ولكنا نجد، مما قدمنا من خصائص الربا وحكمه، أن ربا الدين لا يتعلق بالعدل بين طرفي المداينة ولا بأداء الدين ذاته، بل يبتغي الرشد المالي والاجتماعي والسياسي للفرد دائنا كان أو مدينا، ويرقى بالأمة إلى خير تنظيم في تلك المجالات المتكاملة كلها، ويكون التعامل بربا الدين في ذاته من قبيل إلقاء النفس إلى التهلكة والعدوان على رشدها ومالها، ويتعين على المسلم ألا يقرب الربا، لا إيتاء ولا أخذا، ولو من حربي في خارج بلاد الإسلام ليحفظ على المسلم رشده ويحفظ أمته ما تستحقه من تنمية بأمواله.
__________
(1) سورة المائدة الآية 8(5/223)
من نتائج اختلاف الربوين الإسلامي واليهودي
أما وقد تبين الاختلاف بين أحكام الربا التي شرعها الإسلام اختلافا كبيرا عن أحكام الربا عند اليهود الذين يرون الربا في كل دين مؤجل من قرض أو بيع تكون زيادة فيه بسبب التأجيل، بينما جاء الإسلام بأحكام للربا كثيرة تنظم البيوع الحاضرة، مما لا عهد لليهود به، وفي ربا الديون الذي يعرفون أهله، قصر التحريم على شطر مما عندهم، هو ربا القرض، وأحل شطرا مما يحرمون، فأباح عوض التأجيل في البيوع، وأحكم توثيق الائتمان سواء التجاري وغير التجاري، وكفل للأفراد في أموال الأغنياء(5/223)
من أهليهم وفي خزانة الدولة نفقاتهم التي تسد حاجات معيشتهم وعزز موارد الائتمان غير التجاري من الزكاة والصدقات، بما ييسر نفاذ تحريم الربا فيه. فإن من شأن من يحيط علما بكل أولئك أن يشهد بنتائج شتى من أهمها: أولا: أن ما تضمنته الشريعة الإسلامية من نسخ بعض ما يعلمه اليهود وتفصيل ما لم ينسخ وإكماله بوجه لا يسعه فقههم- يدحض كل تشكيك في وحي الإسلام، ويفند كل زعم بأخذه شيئا من اليهود، ويقطع بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويظهر ما أتى به من الأحكام على ما اقتضت حكمة الله تعالى نسخه من فروع شريعة اليهود.
ثانيا: وجوب دراسة الأحكام الإسلامية الاقتصادية في مصادرها الأولى بالقرآن والسنة دراسة مستقلة متعمقة تحصى فيها أحكام الإسلام على حقيقتها المتميزة، ثم يأتي من بعد الإحاطة بها دور البحث المقارن بينها وبين سائر الشرائع، فيفقه الدارسون الفروق بين أحكامها وما في غيرها، ولا يقعون في خلط يجره التجوز في إطلاق مصطلحات لا يعرفها فقه الشريعة ولا تصدق على مسمياتها، ولا يبلغ بها الباحث الغاية من تفهم دقائق أحكامها.
ثالثا: المبادرة في إلغاء القوانين الوضعية التي تنظم ربا الدين في البلاد الإسلامية وتبيح غير الفاحش منه وتعاقب الدائن وحده على أخذ الربا الفاحش وبعقوبات (جد يسيرة) ، متأثرة في ذلك كله بأحكام اليهود التي بينا ما اعتراها من نسخ وما يشوبها إزاء التطور من قصور. ويجب أن تصدر التشريعات التي تأخذ بصحيح أحكام الإسلام، فيبطل القانون المدني كل شرط ربوي في القروض وتأجيلات الديون، وإن قل مقدار الفائدة أو العائد أو نحوها مما يتضمنه هذا الشرط، وأيا كانت حال الدائن أو المدين القانونية، يستوي الفرد ولو كان يتيما والشخص الاعتباري، مصرفا كان أو شركة أو مؤسسة أو هيئة أو حكومة، ويفرض التشريع الجنائي من العقوبات الرادعة عن الربا ما يجزي به الدائن والمدين وكل من شارك في جريمتها أو أعان على ارتكابها، وفقا لما تقتضيه حال البلاد من تقنين لأنواع التعزير ومقدارها، يتفق واعتبارات السياسة التشريعية الجزائية.
رابعا: بحث متطلبات قيام أسواق المال الإسلامية وتنظيم تداول الأسهم والحصص في شركات المضاربة، وتفصيل أحكام بيوع النسيئة والسلم، ولا تستضاع للعودة إلى الأخذ بنظم الائتمان الإسلامية واستكمال الإطار العام لتطبيقها في مجالات التجارة والإرفاق الاجتماعي، ومتابعة هذا التطبيق ومواءمته مع معطيات العلوم الاقتصادية الحديثة وتوفير مقومات السوق الحرة وموارد التمويل الاجتماعي حتى لا يكون ثم محتاج إلى الاقتراض بالربا، ولا يكون غلو في أسعار البيوع الآجلة يثقل المحتاجين إليها.(5/224)
خامسا: وتنبغي الإفادة من التنظيمات السابقة التي أخذت بها دولة الخلافة العثمانية في شأن تلك البيوع وفرض حد أقصى للزيادة في المرابحة، ولتلافي الثغرات التي تكشفت في تطبيق نظام السلم (1) . .
وجود أسواق إسلامية للمال الآجل يستثمر فيها استثمارا رأسماليا من طريق المضاربة أو متداولا بالبيوع الآجلة نسيئة وسلما، بغير أن يتوسط بين المدخر أو المنتج أو التاجر وبين المنظم العامل أو المستهلك مراب لا يقوم بشيء من أعمال التجارة ولا يتعرض لمخاطرها. وتسلم سوق المال الإسلامية من أضرار المنافسة بين الاستغلال الربوي في السندات والقروض وما يسمى بالأوعية الادخارية وبين الاستثمار غير الربوي في الشركات والبيوع. وهي المنافسة التي تعاني منها أسواق المال في الاقتصاديات الربوية، وتعيق تقدم مشروعات التنمية من طريق التمويل المباشر.
ولا يعرض لمن يحكم بما أنزل في الإسلام ما يتذرع به غير المسلمين من ضرورة الربا لقيام أسواق المال بدعوى أن تحريمه يذر رأس المال الآجل ولا كسب له في تلك الأسواق يغريه بالبقاء فيها مما يؤدي إلى اختفائه وينضب معين التمويل للمشروعات الاقتصادية؛ إذ يجد رأس المال في بلاد الإسلام أسواقا متسعة تفيء بالأرباح المشروعة عليه، وذلك يوجب على المسلمين ألا يخدعوا بتلك الحجة الداحضة، وأن يفروا إلى حكم الله تعالى، وقد ظلوا قرونا طويلة مزهرة لا يقربون فيها الربا، وينهون عن أكله وعما أخذت به طائفة منهم من إنشاء المصارف الربوية التي تضاهي مصارف اليهود، وعندها يستشعر المسلمون رحمة الله التي اختصهم بها والله ولي التوفيق.
__________
(1) حاشية ابن عابدين جزء 4 ص 114(5/225)
جهاز تعيين اتجاه القبلة
من
أي مكان على سطح الأرض
تصميم نماذج جديدة من الجهاز لتبسيط الصناعة، وتنفيذ هذه النماذج في ورش كلية الهندسة بجامعة الرياض
حسين كمال الدين (1)
استعمال الجهاز
عند وجود الإنسان في أي بلد ما أو مكان على سطح الكرة الأرضية يمكنه باستعمال هذا الجهاز تحديد اتجاه مكة المكرمة بالنسبة إلى المكان الذي يوجد فيه، وبذلك يتيسر له تعيين اتجاه القبلة للصلاة. وتدور الفكرة العامة في تصميم هذا الجهاز نحو الإدماج بين الخريطة المرسومة بطريقة خاصة، وبين الاستعانة بالإبرة المغناطيسية، وبين مؤشر اتجاه القبلة، الذي يدور دائما حول مدينة مكة المكرمة، والتي تكون عادة عند مركز الخريطة، ومركز علبة الجهاز، ومركز الإبرة المغناطيسية.
وتوجد هذه الأشياء الثلاثة الأساسية ضمن علبة صغيرة مستديرة لها سطح زجاجي، ومصنوعة من النحاس أو الألمونيوم أو البلاستيك.
__________
(1) الدكتور حسين كمال الدين الأستاذ بكلية الهندسة جامعة الرياض المملكة العربية السعودية(5/227)
نظرية الجهاز
لتبسيط معرفة نظرية الجهاز، نفرض أن شخصا ما يقيم في مدينة الرياض ويريد تعيين اتجاه القبلة بالنسبة إليه، كما نفرض أنه يريد استعمال الإبرة المغناطيسية لذلك. فإذا رجعنا إلى الشكل رقم (1) نجد أن الاتجاه الدائري الذي تعينه الإبرة المغناطيسية من الرياض إلى مكة المكرمة هو الزاوية " هـ1 " وهذه الزاوية تقاس دائما من الشمال وفي اتجاه دوران عقرب الساعة، أي إلى ناحية اليمين. بينما يظهر الرسم كذلك أن زاوية الانحراف من مكة المكرمة إلى الرياض تساوي المقدار " هـ2 " ونلاحظ أن العلاقة بين هذين الانحرافين هي: هـ1 ± هـ2 = 180? دائما.
الشكل رقم (1)(5/228)
ولما كانت أم القرى موضوعة في مركز الخريطة، بينما جعلت جميع بلدان العالم من حولها، وكان المؤشر الذي يعين اتجاه القبلة في الجهاز يدور حول مكة المكرمة، ثم يتجه إلى أي بلد آخر حسب الرغبة في ذلك، أي أن الاتجاه الذي يعينه المؤشر في الجهاز هو الاتجاه الدائري من مكة المكرمة إلى البلد الذي يمر به المؤشر، انظر الشكل رقم (2) ، بينما المقصود تعينه هو عكس الاتجاه تماما وهو الاتجاه من البلد الذي نقيم فيه إلى موضع القبلة في مكة المكرمة. وقد سبق أن علمنا أن الفرق بين هذين الاتجاهين مقداره 180? دائما، انظر الشكل رقم (1) .
شكل رقم (2)
وعلى ذلك لكي نجعل مؤشر اتجاه الصلاة في الجهاز يتجه نحو القبلة تماما، يجب علينا أن نغير زاوية الانحراف الدائري بمقدار 180? سواء بالإضافة أم بالحذف، وهذا يعني إدارة الخريطة بمقدار 180? حول مدينة مكة المكرمة، وعندئذ نجد أن الإبرة المغناطيسية تتجه إلى الزوال الجنوبي لمدينة مكة المكرمة بدلا من اتجاهها السابق إلى الزوال الشمالي لها، انظر الشكل رقم (3) . وفي هذه الحالة يكون اتجاه مؤشر الصلاة إلى مدينة الرياض، هو الاتجاه الصحيح للقبلة في هذا البلد الذي نقيم فيه مع الجهاز.(5/229)
شكل رقم (3)
ومثل هذا الوضع الذي ينطبق على مدينة الرياض بالنسبة إلى مدينة مكة المكرمة، ينطبق كذلك على جميع بلدان العالم المبينة على الخريطة الموضحة بالجهاز بالنسبة إلى مدينة مكة المكرمة، حيث إنها سبق أن وضعت مركزا للعالم في هذه الخريطة. ولقد روعي في تصميم هذا الجهاز تحقيق الشروط السابق ذكرها، كما أنه روعي في رسم الخرائط المرفقة مع الجهاز تحقيق شرط المحافظة على صحة الاتجاهات بين جميع بلدان العالم، بمعنى أن زاوية الانحراف الدائري بين أي مكانين عند قياسها من الخريطة، نجد أنها تساوي تماما الانحراف الدائري بين هذين المكانين على الطبيعة.
وقد وضعت مع الجهاز مجموعة من الخرائط المختلفة من حيث مقياس الرسم، وذلك لأنه كلما اقتربنا من مدينة مكة المكرمة كانت الحاجة إلى تدقيق الاتجاه أكثر بالنسبة إلى كل بلد. أما في الأماكن البعيدة جدا عن(5/230)
مدينة مكة المكرمة مثل الأمريكتين أو أستراليا فإننا نجد أن منطقة واسعة من الأرض تشترك مع بعضها في اتجاه واحد تقريبا نحو القبلة. والخرائط المرسومة على الجهاز هي على التوالي، بالنسبة إلى مقياس الرسم كالآتي: 1 - منطقة الحرم حول مدينة مكة المكرمة شكل رقم (4) 2 - المملكة العربية السعودية شكل رقم (5) 3 - بلدان الشرق الأوسط شكل رقم (6) 4 - بلدان الأمة العربية ووسط آسيا شكل رقم (7) 5 - بلدان الأمة الإسلامية شكل رقم (8) والشكل رقم (9) الذي يمثل خريطة الدنيا، المستعملة في هذا الجهاز مرسوم بهذا الإسقاط المذكور أعلاه، مع إدخال تعديل جديد عليها لصالح هذا الجهاز. وهذا التعديل عبارة عن إعادة إسقاط الأمريكتين إسقاطا مركزيا بالنسبة إلى مدينة مكة المكرمة، بحيث تصيران قريبتين منها مع عدم المساس بصحة الانحرافات الدائرية بين هذه الأمكنة وبين مدينة مكة المكرمة، وعندئذ يمكن رسم خريطة الدنيا جميعها بمقياس رسم أكبر داخل حدود الجهاز الصغيرة، وهذا التعديل على حساب المحيط الأطلنطي فقط، وهو يكاد يكون خاليا من السكان.
وعند استعمال الجهاز نضع الخريطة المناسبة فوق مجموعة الخرائط الأخرى، ويتم ذلك بسهولة بعد فتح غطاء علبة الجهاز. وإعادة ترتيب هذه الخرائط حسب الرغبة، وحسب قربنا من مدينة مكة المكرمة.(5/231)
وقد صنع من هذا الجهاز ثلاثة أنواع، تشترك جميعها في النظرية، بينما تختلف جزئيا من ناحية التصميم، وسنذكر باختصار وصفا موجزا لكل منها مع طريقة الاستعمال.
* * *(5/235)
النموذج "م1"
وصف الجهاز
يتكون الجهاز من علبة من الألمونيوم أو النحاس قطرها حوالي عشرة سنتيمترات وسطحها العلوي من الزجاج. ويمثل الشكل رقم (10) المسقط الأفقي للجهاز. وبداخل العلبة توجد إبرة مغناطيسية تتحرك أفقيا على محور رأسي مثبت في مركز العلبة. ويمكن توجيه علبة الجهاز بواسطة هذه الإبرة بحيث يكون وضع الجهاز في الفضاء على اتجاه واحد دائما في كل مكان يوضع فيه، وهذا الاتجاه هو اتجاه الزوال.
ومثبت بجدار العلبة من الداخل مؤشر صغير يتم بواسطته توجيه علبة الجهاز نحو الزوال وذلك بدورانها حول مركزها حتى يتقابل سن المؤشر الصغير مع السن الشمالي للإبرة المغناطيسية. ويشاهد تحت الإبرة المغناطيسية خريطة الدنيا موضوعة فوق قرص أفقي مثبت بغلاف العلبة. وعند مركز القرص بالضبط توجد مدينة مكة المكرمة، كما يلاحظ أن خط الزوال (خط الطول) المار بمكة يمر تماما تحت سن المؤشر الصغير الباحث عن الشمال.
ويوجد فوق خريطة الدنيا مؤشر كبير في وسطه شعرة مشدودة وهذا المؤشر يتصل بعجلة مسننة موضوعة تحت القرص. ويمكن إدارة هذه العجلة بواسطة ترس صغير يتصل بمسمار موضوع خارج علبة الجهاز، كما يظهر في الشكل رقم (11) الذي يبين قطاعا رأسيا مارا بمركز علبة الجهاز.
وعند دوران مسمار التوجيه يلف المؤشر الكبير فوق القرص، وبذلك يمكن وضعه عند أي مكان على خريطة الدنيا المرسومة على القرص.
شكل رقم (11) قطاع طولي للجهاز(5/235)
طريقة الاستعمال
طريقة استعمال الجهاز بسيطة ويمكن لأي شخص عادي متوسط التعليم والمعرفة أن يؤديها بنجاح، وتتلخص في العمليتين الآتيتين: 1 - يدار مسمار التوجيه الموضوع خارج علبة الجهاز حتى تنطبق الشعرة المشدودة في المؤشر الكبير فوق البلد التي يوجد بها الجهاز.
2 - يوضع الجهاز على أي سطح أفقي (بعيدا عن الأشياء المعدنية) وتدار العلبة حتى يصير المؤشر الصغير الباحث عن الشمال أمام الطرف الشمالي أمام الطرف الشمالي للإبرة المغناطيسية.
فيكون الاتجاه الذي يشير إليه المؤشر الكبير هو اتجاه القبلة المطلوب تعيينه، ولذلك يعرف بالمؤشر الموجه إلى القبلة، أو مؤشر اتجاه الصلاة.
وعند نقل الجهاز من بلد إلى بلد آخر، يلزم إدارة هذا المؤشر حتى تقع الشعرة على البلد الجديد وهكذا.
ولهذا نجد أن الجهاز يصلح للاستعمال في أي مكان على سطح الكرة الأرضية، ولا يحتاج إلى علم خاص أو لغة خاصة عند استعماله.
* * *(5/236)
النموذج "م2"
وصف الجهاز
إن النظرية العامة المستعملة في تصميم جميع النماذج واحدة، ولكن طريقة تصميم الجهاز لتطبيق هذه النظرية تختلف من نموذج إلى آخر، وهي تتدرج عادة إلى الأبسط في هذه النماذج، والغرض من ذلك تسهيل صناعة الجهاز، وبالتالي قلة التكاليف ورخص الثمن، وبذلك يصبح الجهاز شعبيا وفي متناول كل يد.
ويتكون هذا الجهاز من علبة من الألمونيوم قطرها حوالي 7 سم، وارتفاعها حوالي سنتيمترين، وتتكون من جزءين فوق بعضهما، ويمكن أن يدور أحدهما حول الآخر انظر الشكل رقم (13) .
والنصف السفلي من العلبة بداخله إبرة مغناطيسية يمر بوسطها محور رأسي يرتكز عند مركز العلبة من أسفل ومن(5/236)
أعلى، وبذلك يسمح للإبرة بالدوران الحر داخل العلبة. والغطاء العلوي به ثقب قطره سنتيمتر تقريبا، ويمكن خلاله رؤية طرف الإبرة المغناطيسية، وذلك لتوجيه علبة الجهاز مع اتجاه الشمال المغناطيسي.
أما الجزء العلوي من الجهاز فتوضع فيه الخرائط فوق بعضها، وفي كل خريطة ثقب عند طرفها قطره سنتيمتر كذلك، ويلاحظ عند وضع الخرائط بالجهاز أن نجعل هذه الثقوب فوق بعضها تماما، وكذلك فوق الثقب الموجود في غطاء الجزء السفلي من هذا الجهاز، والسبب في ذلك هو توجيه الخرائط توجيها صحيحا، مع إمكان رؤية الإبرة المغناطيسية عند توجيه الجهاز نحو الشمال. والجزء العلوي من الجهاز به غطاء من الزجاج مرسوم عليه مؤشر اتجاه الصلاة. وهذا الجزء يمكن أن يدور حول الجزء الأسفل من الجهاز بحيث نجعل مؤشر الصلاة يمر فوق البلد الذي نريد معرفة اتجاه القبلة فيه.
طريقة الاستعمال
لمعرفة اتجاه القبلة في أي بلد ما نتبع الآتي:
1 - نلف الجزء العلوي من الجهاز حول الجزء السفلي منه، حتى يمر مؤشر اتجاه القبلة فوق البلد الذي نقيم فيه.
2 - ندير الجهاز جميعه حتى يظهر طرف الإبرة المغناطيسية من الثقب الموجود في الخريطة، وعندئذ يكون اتجاه مؤشر الصلاة هو اتجاه القبلة المطلوب في هذا المكان.(5/238)
النموذج "م3"
وصف الجهاز
يتكون الجهاز من علبة من الألمونيوم قطرها حوالي 7 سنتيمترات، وهو قريب الشبه من النموذج رقم (2) ، ويتكون كذلك من جزءين يمكن أن يدور أحدهما حول الآخر والفارق بين هذين النموذجين هو أن الخرائط في هذه الحالة توضع فوق الإبرة المغناطيسية مباشرة وتدور معها حول محور رأسي ثابت في مركز علبة الجهاز.
انظر الشكل رقم (13) وبذلك تصير الخريطة موجهة دائما نحو الاتجاه الصحيح المطلوب.
وهذا هو الاختلاف الرئيسي بين النموذجين م2، م3.(5/238)
طريقة الاستعمال
طريقة الاستعمال لهذا النموذج أبسط كذلك، حيث إن الخريطة توجه ذاتيا نحو الاتجاه الصحيح، وعلى ذلك ينبغي فقط توجيه المؤشر فوق البلد الذي يوجد فيه الجهاز - أي أننا نضع الجهاز فوق سطح ثابت، ثم ندير الجزء العلوي حتى يمر مؤشر الصلاة فوق البلد الذي نقيم فيه، فيكون اتجاه المؤشر هو اتجاه القبلة المطلوب.
تمت بحمد الله تعالى(5/240)
المؤتمرات
ترجمة
محمد لقمان السلفي
المؤتمر العالمي بلندن
عن
حياة المسيح عليه السلام
يبدو أن القاديانيين قرروا أن ينقلوا مركز نشاطاتهم إلى لندن بعد أن غلبوا على أمرهم في باكستان؛ ففي يونيو 1978م ذهب المرزانا مرامن خليفة المتنبئ القادياني إلى لندن مع حوالي مائتين من أتباعه وعقد فيها مؤتمرا عن وفاة المسيح.
وقد بلغنا أنهم أعادوا فيه أقاويلهم الزائفة البالية عن وفاة المسيح وكونه مدفونا في كشمير والتي ردت على وجوههم من قبل علماء المسلمين قديما، وقد دونت تلك الردود في الكتب التي نقل بعضها إلى الإنجليزية وطبع ووزع قديما بين المسلمين، فالقاديانيون ليس لديهم الآن إلا ترديد ما قاله آباؤهم الأولون، وقد ردت عليهم كل تلك الأقاويل مرارا وتكرارا.
ولكن الجديد في الأمر أن الذين خاطبوهم من المسلمين في ذلك المؤتمر كانوا جيلا جديدا لا يعرف عن هذا الزيغ إلا القليل، ولا يدري عن تلك الردود التي قام بها علماء الإسلام على مزاعم المرزا غلام المتنبئ مستنيرين بكتاب الله وأحاديث رسوله وأقوال السلف الصالح. فظن القاديانيون أن الوقت موات للغارة الجديدة على رسالة الله الأخيرة؛ لذلك وجب على المسلمين أن ينهضوا مرة أخرى لمقاومة الفتنة ورد كيد الكافرين في ضوء الكتاب والسنة وأقوال الأئمة الكرام.
ولما بلغ الشيخ منظور أحمد شينيوتي الباكستاني أخبار المؤتمر المشئوم ونشر الدعايات الواسعة عنه في بريطانيا وغيرها من البلدان، اضطرب له اضطرابا شديدا، وقرر متوكلا على الله أن يقيم مؤتمرا مماثلا في لندن، وأن يدعو إليه علماء الإسلام للرد على مزاعم القاديانيين، فسافر فضيلته مع وفد من العلماء إلى لندن في اليوم السادس من شهر(5/241)
يونيو واستقبل في مطار لندن من قبل لفيف من العلماء في تلك البلاد. وبعد استراحة قليلة واصل السفر إلى مدينة مانشستر للاشتراك في اجتماع الأكاديمية الإسلامية فيها الذي كان المقرر عقده في يومي الثامن والتاسع من شهر يوليو. وفيه قدم فضيلته الاقتراح عن عقد مؤتمر عن حياة المسيح الذي وافق عليه المشتركون بالإجماع وكونت لجنة في الحال لإعداد اللازم لهذا الغرض.
وقد رأى فضيلة الشيخ منظور أحمد بعد هذا القرار أن يتصل بمسلمي إنجلترا لمعرفة مرئياتهم في هذا الأمر فقام بأسفار طارئة إلى عدد من مدن إنجلترا الهامة، واتصل بالمسلمين المقيمين فيها، وشرح لهم أهداف المؤتمر وأهميته، كما اتصل بفضيلة الشيخ إنعام الحسن وفضيلة الشيخ مسبح الله اللذين أيدا فكرته ودعوا له بالتوفيق وللمؤتمر بالنجاح.
وبعد هذه الإجراءات الأولية أعلن فضيلته عن انعقاد المؤتمر في المسجد الجامع المركزي الكائن في حديقة ريجنت بلندن من يومي التاسع والعشرين والثلاثين من شهر يوليو. وقد صدر هذا الإعلان في جريدتي جنك وملت الصادرتين بالأردية، كما وضعت لافتات بارزة كثيرة في المساجد والجامعات والمصانع التي يعمل بها المسلمون. ووزعت كذلك بطاقات دعوة بالأردية والإنجليزية على ما يقارب ألف شخص من المسلمين البارزين. وقد أثمرت هذه الجهود المكثفة لإنجاح المؤتمر إذ حضر عدد كبير جدا من المستمعين من سائر مدن إنجلترا.
وقد أبدت رابطة العالم الإسلامي اهتمامها بالمؤتمر فتلقى فضيلة الشيخ منظور أحمد برقية من معالي أمينها العام الشيخ محمد علي الحركان تمنى فيها النجاح للمؤتمر، كما عين معاليه ممثل الرابطة في باريس للاشتراك في المؤتمر. وقد اشترك في المؤتمر فضيلة الشيخ مسبح الله الأمين العام لدار العلوم في جلال آباد بالهند، وهو خليفة الشيخ أشرف علي تهانوي العالم الهندي الحنفي المعروف رحمه الله. ومن الذين أيدوا اهتمامهم الخاص بالمؤتمر سماحة الشيخ عبد الله علي المحمود رئيس شئون الدعوة الإسلامية في الإمارات العربية المتحدة، فقد عين سماحته فضيلة الشيخ عبد الله عبد العزيز المصلح عميد كلية الشريعة بأبها بالمملكة العربية السعودية ليمثل سماحته في المؤتمر. وقد دعا لنجاحه فضيلة الشيخ إنعام الحسن ووعد بأنه سوف يدعو لنجاحه في الاجتماع الذي يعقد في باريس أيام انعقاد المؤتمر.
وكما علمتم أن الداعي إلى المؤتمر هو فضيلة الشيخ منظور أحمد شينيوتي رئيس الجامعة العربية في شينيوت، والأمين العام لإدارة الدعوة المركزية فيها. وتولى الإشراف على شئون المؤتمر الأكاديمية الإسلامية في مانشستر، وترأس جلساته الأستاذ الكبير دكتور زكي البدوي مدير مركز الثقافة الإسلامية في لندن، والشيخ عبيد الرحمن خليفة الشيخ عبد الرحمن كيملبوري رحمه الله. كما أن الشيخ محمد موسى أمين جمعية العلماء في بريطانيا والشيخ القاري بشير أحمد الخطيب بمسجد شاه جهان بمدينة ووكنج - توليا شئون أمانة المؤتمر وعاونهما الشيخ عبد الرشيد أرشد مدير مجلة " الرشيد " في باكستان.
ومن الذين خطبوا في المؤتمر: الشيخ تقي عثماني عضو المجلس الاستشاري الإسلامي في باكستان، والشيخ عبد الله عبد العزيز المصلح والدكتور خالد محمود، والشيخ المناظر منظور أحمد شينيوتي، وبروفيسور إبراهيم تركي، والدكتور سعيد الروس، والشيخ منير هاشم، والشيخ أبو المحمود نشتر، والمفتي عبد الباقي، والشيخ محمد بشير، والشيخ إمداد حسين. وقد صرح فضيلة الشيخ عبد الله المصلح في خطابه بأهمية المؤتمر وضرورته القصوى وطلب من مسلمي إنجلترا أن ينشروا تفاصيله داخل إنجلترا وخارجها.(5/242)
وقد شوهد المدعو طفيل إمام الجماعة اللاهورية، وكذلك مندوب القاديانيين، يسجلان وقائع المؤتمر. وقد تحدث العلامة خالد محمود لمدة ساعتين، وألقى الضوء الكافي على مشكلة القاديانية، وفند مزاعمها الباطلة. ثم قام في الأخير فضيلة الشيخ منظور أحمد شينيوتي ودعا مرة أخرى الخليفة القادياني إلى المباهلة وقال: ولكنه لن يجرؤ لها أبدا. ثم استمر في حديثه فقال: إن صنيع الإنجليز عائد إلى أهله. فقد تأكد لدى القاديانيين أنهم لا يستطيعون إقامة مثل مؤتمرهم المشئوم في أي بلد إسلامي، لذلك اضطروا أن يعقدوه في إنجلترا.
وفي نهاية المؤتمر أعلن أن مؤتمرا مماثلا سوف يعقد في مسجد شاه جهان بمدينة ووكنج في يومي الخامس والسادس من شهر أغسطس، المسجد الذي كان لمدة ستين سنة تحت سيطرة القاديانيين. وقد انتهى بالدعاء والشكر لله على إنجاح المؤتمر ثم للعلماء والحضور الذين جاءوا من ديار بعيدة وتحملوا المشاق والمصاريف المالية الضخمة جهادا في سبيل الله ومشاركة في القضاء على هذه الفتنة.
ترتيب عبد الرشيد أرشد(5/243)
عن أبي إبراهيم عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف (1) » ثم قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم (2) »
متفق عليه
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2966) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1742) ، سنن أبو داود الجهاد (2631) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2966) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1742) ، سنن الترمذي الجهاد (1678) ، سنن أبو داود الجهاد (2631) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2796) ، مسند أحمد بن حنبل (4/381) .(5/244)
الحوار الإسلامي المسيحي
ووجهة نظر
إسلامية
السيد متولي الدرش
(1) .
بسم الله الرحمن الرحيم
السادة الفضلاء ممثلي الديانتين الإسلامية والمسيحية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
1 - فيسعدني أن أحمل لكم من المركز الثقافي الإسلامي والعاملين به ومن الجماعة الإسلامية المقيمة في هذه الديار أطيب تحياتهم وتمنياتهم المخلصة أن يبارك الله في جهودكم هذه التي تبذلونها من أجل خدمة قضية الإيمان التي بدأت منذ بدأ التقدم العلمي والتقني تتعرض للنقد والتجريح، حتى بلغ مد هذه الحملة العاتية أن وجد أطفال أبرياء في السابعة والثامنة في المدارس الإنجليزية ينكرون فكرة إله خالق قادر حكيم مدير ويجادل هؤلاء الأطفال الذين نعني آباءهم استجابة لصوت ضميرهم المستمد من نور الإيمان في قلوبهم، في أن يورثوهم هذا النور، يجادلونهم في هذه الحقيقة الإيمانية التي بدونها تفقد البشرية الهدف السامي من وجودها على هذه البسيطة.
__________
(1) الدكتور السيد متولي الدرش: إمام المسجد الجامع بلندن(5/245)
2 - الإيمان
إن قضية الإيمان هي الأساس والمنطلق. وهي القاعدة التي ينبني عليها غيرها من القضايا الاجتماعية والأخلاقية والتربوية، ومتى تمكن مجتمع من المجتمعات من إرسائها صلبة قوية، استطاع أن يرد بها موجات التحلل والانهيار التي تنتاب الكثير من المجتمعات البشرية، إن في ماضيها العتيق، وإن في حاضرها الراهن الذي يمثل في أذهان الجماهير العديدة التي شاهدت هذا التفكك قمة ما وصلت إليه البشرية، مجردة من الإيمان، من عدوان الإنسان على الإنسان بطريقة اتصفت بالتنكيل والإبادة والهمجية حتى أصبح وصفها بأنها وحشية سخرية بالدوافع الفطرية الطبيعية التي تدفع الوحش للدفاع عن نفسه.
3 - الحوار كظاهرة عامة
السادة الأفاضل إن موجة الحوار أيا كانت طبيعته بدأت تنتشر في كل المجالات من دينية واجتماعية وسياسية على جميع المستويات، الفردي منها والقومي والدولي. ولا شك أنها بادرة طيبة، لأنها تقوم على الإدراك الواعي المستنير بأن الانغلاق والتقوقع في أي مظهر من مظاهره لا يخدم قضية التعايش السلمي، ولا يخدم الرفاهية والإخاء الإنساني، وهما الأسس الضرورية لبقاء النوع الإنساني بقاء قائما على المودة والإخاء والتعارف الذي نادت به رسالات السماء، ونادى به الإسلام منذ اللحظة الأولى التي أشرقت فيها شمس النبوة الإسلامية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (1) آية 13 سورة الحجرات. . وهكذا يضع الإسلام المعيار الإنساني العام القائم على أخوة الخلق ووحدة الرب دون تفرقة بين دين أو جنس، فإن النداء في هذه الآية الكريمة نداء للإنسانية جمعاء. . . وصدق رسول الإسلام - صلوات الله وسلامه عليه- إذ يقول «لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى، كلكم لآدم وآدم من تراب (2) » .
4 - دور الفكر الديني
ورجال الدين والفكر الديني، والقيم المستمدة من وحي السماء هي الدعامة الحقيقية لكل حوار إنساني؛ ذلك لأن الدين يستمد مصدره من السماء فهو منزه عن الغرض والشهوة والقومية، وتقف الإنسانية بالنسبة إليه موقف المساواة التامة دون تحيز أو تمييز. ولأن رجال الدين متى قاموا برسالتهم حق القيام فإن خلق الرحمة والمحبة والعدل والإخاء وهي قواعد أصيلة في كل دين حق تستلزم استلزاما ضروريا أن يكون الدعاة إليها أول من يتحلى بها؛ حتى يضربوا بمثلهم الكريمة النماذج الحية لمن يتبعونهم في إظهار هذه الصفات الطيبة فيما بينهم أولا، وبالذات مما يؤكد عراقة هذه الأخلاق في النفس فتفيض على من حولها ممن لا يتمذهب ولا يدين بنفس الدين ولكنه أخ من أخوة الإنسانية بمفهومها الواسع الذي لا يقف عند الحواجز الدينية. والدين فكرا ودعاة أحق الناس بها لأنهم اتهموا على
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/411) .(5/246)
مدى التاريخ - إن حقا وإن باطلا - بأنهم كانوا وراء كل عدوان وقع على جماعة من الجماعات، فقد تناسى المتهمون الأسباب السياسية والاجتماعية والمطامع القومية وحب التوسع، وتذكروا الدين ورجاله فاتهموهم بالوقوف وراء هذه الحروب التى اجتاحت كثيرا من بلدان العالم. ولهذا فإن التسامح والتواصل ووحدة الصف ألزم ما تكون للدعاة الدينيين الذين يريدون أن تعود كلمة الله العليا، الصادقة العادلة إلى السيادة والاحتكام ليبرهنوا لهؤلاء المتشككين المشككين أن الدين في صدق الدلالة وإخلاص الكلمة وشدة الحرص على تحقق العدل والإخاء الإنساني أبعد ما يكون عن التعصب والتقاطع والتدابر، وأنه متى فهم حق فهمه وطبق حق تطبيقه أسعد الإنسانية وأخرجها مما تتردى فيه من تناحر وتنابز.
إن الفكر الديني ورجاله مدعوون لمقابلة هذا التحدي الذي تواجههم به الفلسفات المادية الملحدة والفلسفات التي تنبع من الفكر البشري في حدوده الضيقة، ومن واجبهم أن يبينوا للناس ولا ينكرونه أن الدين هو الأساس، ولا أساس غيره لبشرية متفاهمة متوادة متعاطفة ترتبط فيما بينها بهذا الرباط المقدس الذي بدوره يربطها بمنبع وجودها.
5 - الموقف التاريخي للإسلام والمسلمين
أولا: القرآن:
وقد كان هذا الفهم العميق للدين ورسالته في إسعاد البشرية في هذه الحياة والحياة الأخرى هو منطلق القرآن الكريم كلمة الله الخالدة التي أوحى الله بها إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم - فقال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (1) تأسيسا لقواعد أصيلة، وتقريرا لواقع شاء الله أن يمتحن به عباده. فهناك شرائع شرعها الله هي التي يجب أن تكون المرجع في حياة من أوحى إليهم بها، وتقريرا لواقع اختلاف المناهج ورد ذلك إلى مشيئة الخالق، فلا حق لأحد أن يكره الآخر أن يدين بما يدين به {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (2) الآية 99 من سورة يونس. . {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (3) الآية 256 من سورة البقرة. . {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} (4) الآية 118 من سورة هود. . هذا الاختلاف والتعدد الذي شاءه الله وأراد أن يقع في سلطانه ومملكته لا يصح أن يكون سببا للبغي والعدوان، ولكن هناك القاعدة الأساسية التي تبنى عليها أخلاقيات الدين {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (5) تسارعوا في العمل الخير وإسعاد البشرية وتقريبها خطوة أخرى نحو خالقها، هذا هو مجال التنافس والتسابق.
__________
(1) سورة المائدة الآية 48
(2) سورة يونس الآية 99
(3) سورة البقرة الآية 256
(4) سورة هود الآية 118
(5) سورة البقرة الآية 148(5/247)
ثانيا: حياة الرسول: وقد انعكس هذا الفهم على رسول الإسلام - صلوات الله وسلامه عليه - فكان يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادل بالتي هي أحسن، فإما اقتناع قائم على الفهم والتقبل والرضا، وإما إخاء إنساني قائم على التعاهد والتناصر ورد البغي.(5/247)
ثالثا: الحكم والفكر الإسلامي: وتجلى هذا التيار الإنساني القائم على التوجيه الرباني في الحكم الإسلامي على مدى العصور، كما تجلى في الدراسات الإسلامية الموضوعية التي قام بها رجال الدين من مفكري الإسلام. وهل هناك دراسة أكثر موضوعية من الدراسات الدينية التي قام بها الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) أو البيروني في كتابه عن الهند.
6 - الغرب والإسلام
ولم يتغير هذا التيار الديني من التفاهم والتواصل حتى حدثت الغارة على العالم الإسلامي في شكل حروب تشنها وتحرض عليها الكنيسة، لما لم تحرز شيئا مما كانت تستهدفه، وانعكست الثقافة والحضارة الإسلامية على هؤلاء الذين وطئت أقدامهم أرض الإسلام انحسر التيار المادي العسكري وتحول النزاع إلى المجال الفكري فبدأت أقسام الدراسات الشرقية تخرج العديد من الكتب والمجلات والحوليات كلها عداء صريح ومقاومة فكرية للأسس الإسلامية كدين ثم للحضارة المنبعثة عنه ولا يزال هذا التيار الفكري سائدا في مجال الدراسات الإسلامية على الرغم مما نسمعه من حيدة وأمانة علمية.
7 - ما نراه أساسا للحوار
ليس معنى هذا أننا نحن المسلمين نغلق بأيدينا أبواب الحوار والتفاهم، فهذا ليس من شأننا ولا من طبيعة ديننا، وقيام هذا المؤتمر وما سبقه دليل على هذا، ولكن نحب أن يكون التفاهم والحوار في هذا المؤتمر وما يمكن أن ينبثق عنه من مقررات، وما يتلوه من مؤتمرات، قائما على الفهم والإدراك وتقدير الإسلام في ذاته كدين، والاعتراف بالمكانة الصحيحة التي يتبوأها محمد (صلى الله عليه وسلم) كرسول أتى برسالة أدت إلى قيام مجتمع تنبثق قيمه وتعاليمه ونظم حياته وأخلاقياته كلها من الرسالة، ومن شخصية الرسول الذي كان القدوة العملية والتطبيق الفعلي له. نريد اعترافا وتقريرا للمصادر الإسلامية الصحيحة كما يفهمها المسلم الحق، لا كما يتصورها المستشرق الذي تحيز لوجهة نظر معينة مسبقة ثم أخذ بعد ذلك يشرح الإسلام على ضوئها، فإن هذا الموقف الذي ساد في مجال الدراسات الإسلامية هو الذي يبعث المخاوف في نفوسنا نحن المسلمين ويدفعنا دائما للتساؤل عن الدوافع من هذه اللقاءات.
وإذا كنت هنا أقصر مخاوفي على الدراسات الإسلامية؛ ذلك لأن المجال فيها دائما يلبس ثوب النزاهة العلمية والموضوعية في الدرس والتقييم، ومن هنا كان سوء الفهم له آثاره البعيدة المدى. وهي في الوقت نفسه الدائرة التي تؤخذ على أنها تمثل وجهة النظر الرسمية في الغرب فيما يختص بالإسلام وبلاده، وهي الجهة التي تخطط الحكومات الغربية سياستها تجاه الإسلام والمسلمين على أساس من توجيهها.
بقي هناك طرفان آخران في هذا المجال هما: الكتابات التي تنبعث عن روح التبشير المحضة، وهذه لا مجال للحديث عنها لأنها تفتح جراحا نحاول أن نعمل جميعا على التئامها، وهي لا تخدم قضية التفاهم في قليل أو كثير، ولعل إخواننا رجال الدين المسيحي(5/248)
يستفيدون من درس التاريخ ومن النقد الذاتي الذي بدأوا هم أنفسهم بممارسته إزاء المحاولات الجافية والتصورات المستفزة، والآراء الخاطئة والتشويه المتعمد الذي ملئوا به كتاباتهم في الماضي، لعلهم يستفيدون من كل هذا في اتخاذ مواقف إيجابية تعمل على تلافي هذه المساوئ والتخلي عن الأفكار العتيقة البالية التي كان يبثها زعماء التبشير في القديم جلبا للتأييد المادي لرسالتهم المشبوهة. فليس كافيا أن يعلنوا أسفهم على مساوئ الماضي دون أن يصححوا هذه المساوئ.
أما الطرف الأخير، فهو الإنسان العادي الذي تربى في الحضارة الغربية ولم تتح له فرصة كافية للتعرف على الإسلام والمسلمين تعرفا كاملا قائما على التصور الصحيح، وهذا هو السند الكبير في قضية الفهم المتبادل؛ فإن اللقاءات العديدة التي تحدث بين العاملين في مجال الدعوة الإسلامية في الغرب وبين هؤلاء الناس لا أقول إنها لقاءات بقصد التبشير بالإسلام، ولكنها لقاءات بقصد التعريف بالمسلم وطريقة حياته ومنطلق تفكيره وإيضاح بعض التصرفات التي تبدو غريبة لهذا الإنسان العادي، هذه اللقاءات تقوم على التفاهم والطرف الآخر فيها غالبا لا يحمل معه حزازات أو سوء نية أو تعصب ما. ومن هنا يكون التفاهم ويكون التعاطف والإدراك.
وإن الاستجابة التي يلمسها الداعية المسلم من هذا الجمهور مدهشة حقا، إنهم يكتشفون- لشدة دهشتهم وعجبهم- أن هذا الدين يمثل منطلقا فكريا حضاريا يضمن للإنسانية السعادة والطمأنينة والسلام.(5/249)
8 - عثرات يجب تجنبها
قلنا: إن الإسلام يرحب بهذه اللقاءات ويفتح صدره لها، لأنه لا يخشى منها على كيانه ولا على جماعته، ولكن تجربة المسلمين المريرة في الماضي القريب وفي الحاضر الراهن تجعلنا نفتح أعيننا وأعين الإخوة الذين نتفاهم معهم إلى بعض المزالق التي يجب أن نتجنبها حتى يكون الحوار مثمرا وقائما على المفاتحة والمصارحة، وبعيدا عن جو المجاملة. ومن هذه المزالق التي ننبه عليها: أولا: الدعوات التي تنادي بفصل الدين عن واقع الحياة:
لقد مر العالم الغربي بفترة كان فيها الصراع على أشده بين المؤسسات الدينية المسيحية وغيرها من المؤسسات الأخرى، سياسية كانت أو اجتماعية أو تعليمية. وبدون دخول في الأسباب والبواعث لهذا التطاحن، فإنه قد أدى في النهاية إلى أن يكون الدين ذا دور معين في الحياة، مع استقلال المنظمات الأخرى عن السيطرة المباشرة للتصورات الدينية. وقد قبلت السلطات الدينية المسيحية هذا الوضع، بل رحب به بعض زعمائها باعتباره مزيجا لأعباء ثقيلة كانت الكنيسة ترزح تحتها، وأنها أصبحت حرة لممارسة نشاطها الذي تأهلت له. وقد يتساءل بعض القائمين على النشاط الديني - وهذا التساؤل كثيرا ما نتعرض له في الحوار الذي يجري بيننا وبين الإخوة من رجال(5/249)
الكنيسة في إنجلترا - أليس من مصلحة الإسلام أن يحذو حذو الكنيسة فيتفرغ للدعوة الدينية في مجالها المحدود؟ بل إن بعض الكتاب قد أوصى بطرق عديدة أن هذا هو الطريق المفتوح أمام الإسلام في عالم اليوم، ويريد بذلك أن يغرس هذه الفكرة في أذهان الكتاب المسلمين.
وهنا نقول: إننا نحن المسلمين الذين يعتزون بإسلامهم كما يعتز المسيحيون بدينهم - لا نقبل هذا التصور ولا نوافق عليه. لأن طبيعة الدين الإسلامي الذي هو في نفس الوقت نظام متكامل لكل شئون الحياة، لا تقبل هذا المفهوم ولا تجد له مكانا في تصوراتها.
إننا ننظر لكل من يدعون إلى هذه الدعوة بعين الريبة والشك والحذر؛ لأنها تمثل اعتداء على التوجيهات والتنظيمات الإسلامية الخاصة بهذا المجال من حياة المسلم والذي لا يكمل إيمانه إلا بتحقيقها. ومن هنا فإنا نأمل من كل حوار أن يتجنب الإشارة من قريب أو بعيد إلى هذه القضية، قضية فصل الدين عن السياسة لأنها تمثل في ذهن كل مسلم - خاصة في ظروفه الراهنة التي يمر بها مجتمعه - اغتصابا لحق أساسي من حقوقه كمسلم يؤمن برسالة الإسلام أساسا لتنظيم جميع شئون حياته الاجتماعية والتعليمية والإدارية. وما المجتمع وما الحكم وما السياسة إلا هذه، فمتى خرجت عن التصور الإسلامي فقد المجتمع المسلم أساس وجوده.
ثانيا: التجديد
كثيرا ما يجد بعض من يريد الانسلاخ من الدين أن الفصل بينه وبين الحياة في المجتمع الإسلامي أمر صعب، فيلجأ إلى الدعوة إلى التجديد في مجالات معينة، نظام الأسرة مثلا، النظام الاقتصادي، وهلم جرا. ونجد كثيرا من الموجهين للدراسات الإسلامية يوحون بشئ كهذا للكتاب في العالم الإسلامي، وهنا - مرة أخرى - يجد التيار الإسلامي نفسه في صراع مع هذا النوع من التفكير. فالإسلام بقيمه ومثله وتصوراته مستمد من قواعد معينة، وهي مع مرونتها وقدرتها على التواؤم مع احتياجات المجتمع لا يمكن التغاضي عنها أو التخلص منها، هناك عادات وأعراف تصلح للتغير ولكن القواعد الأساسية للتصور الاجتماعي أو الاقتصادي يجب أن يحافظ عليها المجتمع الإسلامي في كل تغيير تتطلبه ظروف معينة؛ ومن هنا فإن المطالبة بالتجديد في مثل هذه المجالات ودعوة العالم الإسلامي للأخذ بهذا التجديد أمر لا يريح المفكر المسلم ولا يطمئنه.
وعلى سبيل المثال: المطالبة بالمساواة بين الذكر والأنثى، وإتاحة الفرصة التعليمية والوظيفية لهما. وهذه من النقاط الحساسة والتى تثار من وقت لآخر، وقد وردت في إحدى مذكرات مجلس الكنائس العالمي في الحوار الإسلامي المسيحي في غانا.
فخروج الحوار عن الإطار العام الذي يقصد به أولا خلق جو الثقة والاطمئنان إلى جزئيات معينة كمساواة المرأة وحقوقها، واعتبار هذه المساواة ومنح المرأة حق شغل المناصب الدينية، وأن هذا من المسائل التي تستحق العناية السريعة- يجعلنا نتساءل عن الباعث لهذا، فالإسلام قد منح المرأة الحق الكامل في التعليم وأعطاها شخصية(5/250)
كاملة مستقلة لا تتميع في شخصية الرجل، ولم يفرق في الأجر ولا في الوظيفة متى كانت متناسبة مع طبيعتها، ولم يمنعها أن تكون مدرسة للعلوم الدينية، وقول هذه المذكرة بضرورة تسجيل السيدات في المؤسسات الدينية التعليمية بقصد أن يشغلن مناصب دينية- دعوة غير مقبولة، حتى في العالم المسيحي فإن القانون الإنجليزي الأخير الذي صدر في ديسمبر سنة 1975 وأعطى المرأة المساواة في الأجر والعمل استثنى من ذلك المناصب الدينية ومناجم الفحم.
ومن هنا كانت مثل هذه الدعوة من الأمور التى يجب أن يتجنبها أي حوار بيننا.
وأخيرا فإني أرى أن يتم الحوار بين المتدينين من رجال الديانتين وليس بين مسيحي أيا كان ولا مسلم أيا كان، فإن الحوار متى بدأ على مستوىذوي الدين والخلق والشخصية المستقيمة كان كل منهما معبرا بإخلاص وأمانة وصدق عما يدور في نفسه، وليس متزلفا، أو متدينا اسميا، يريد أن يبين مدى نظرته التقدميه بالتفريط في نواح أساسية في دينه إرضاء لهذا أو لذاك. إن أمثال هؤلاء يجب أن يقصوا عن مجال الحوار لأنهم يسيئون إليه ويبعثون إلى الشك في جديته وصدق هدفه.
وختاما فإني أهيب بالإخوة المجتمعين أن يتخذوا من القرارات ما هو أقرب إلى التحقيق على المستوىالمتخصص والمستوىالعام.
ولهذا أقترح:
1 - أن تنشأ سكرتارية شبه دائمة تعمل على الاتصال المستمر بين الأعضاء المشاركين بجهودهم في هذا المجال للوقوف على مدى ما حققوه من نتائج ناشئة عن الحوار.
2 - الدعوة إلى التخفيف من حملات التجريح والتشويه في المؤسسات الدينية تجاه الدين الآخر.
3 - الكف عن تشجيع العناصر المعادية للتفكير الديني، وعدم تشجيع المنشقين في تراث ديني أو تأييد الشخصيات التي لا تحظى بالاحترام والتقدير بين أبناء الدين الذي تنتمي إليه هذه الشخصيات.
4 - تشجيع التفاهم بين الجاليات الإسلامية المهاجرة وبين البيئات التي هاجروا إليها ومساعدتهم على ممارسة حقوقهم وشعائرهم الدينية. .
وأخيرا أختم بقول الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
__________
(1) سورة التوبة الآية 105(5/251)
عن ابن مسعود رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: " تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم (1) » .
متفق عليه.
" الأثرة ": الانفراد بالشيء عمن له فيه حق.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3603) ، صحيح مسلم الإمارة (1843) ، سنن الترمذي الفتن (2190) ، مسند أحمد بن حنبل (1/433) .(5/252)
إيضاحات وتنبيهات
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(5/253)
اعتقاد فاسد في آيات تجلب الخير وتمنع الضر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أما بعد: فقد اطلعت على نشرة يوزعها الكثير من الناس عن جهل أو قصد سيئ، قد بدأها صاحبها بقول الله تعالى {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (1) وذكر بعدها آيات، ثم قال ما نصه: اهتم بإرسال هذه الآيات لتكون مجلبة خير ويمن ومال وفلاح، ثم ذكر بعد ذلك أنه تم توزيعها حول العالم، وأن من اعتنى بها ربح ربحا كثيرا، ومن أغفلها أصيب بأنواع من الحوادث، وذكر أنها تمنع المضرات، وتجلب الفلاح والخير بعد أربعة أيام. . .
ونظرا إلى أن هذه النشرة لا أساس لها من الصحة بل هي كذب وافتراء وقول بغير علم، واعتقاد أنها تجلب الخيرات وتدفع المضرات، وأن من اعتنى بها ربح، ومن أهملها أصيب بالحوادث- اعتقاد باطل يخل بالعقيدة ويدعو إلى تعلق القلوب بهذه النشرة وانصرافها عن الله عز وجل.
فلهذا رأيت تحذير المسلمين منها، ووصيتهم بإتلافها أينما وجدت، وتنبيه إخوانهم على بطلانها، وأن اعتقاد ما فيها يخالف شريعة الله، ويقدح في العقيدة؛ لأنه اعتقاد فاسد ليس له أساس من الصحة، بل هو من الكذب على الله
__________
(1) سورة الزمر الآية 66(5/254)
ودعوى باطلة، وهي من جنس الوصية المنسوبة إلى خادم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق أن نبهنا على بطلانها وأنها كذب لا أساس لها من الصحة ولا لما ادعاه صاحبها، فهاتان النشرتان كلتاهما من أبطل الباطل، فالواجب على كل مسلم أن يحذرهما، وأن يحذر منهما غيره، عملا بقول الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وقوله سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) الآية. . .
ولا شك أن هاتين النشرتين من المنكر الذي يجب النهي عنه، ويجب على ولاة الأمور البحث عن مروجهما وعقابه يما يردعه وأمثاله. . . ونسأل الله أن يوفقنا والمسلمين للفقه في الدين، والثبات عليه، وإنكار ما خالفه، وأن يعيدنا جميعا من مضلات الفتن ونزعات الشيطان، كما نسأله سبحانه أن يكبت أعداء الإسلام أينما كانوا، ويبطل كيدهم إنه سميع قريب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. . . .
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة التوبة الآية 71(5/255)
حكم الاحتفال بالموالد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه أما بعد: - فإنه قد طرأ على صفاء هذا الدين ووضوح أحكامه في عصور انحطاط المسلمين كثير من البدع والمحدثات التي زادت انحطاطهم انحطاطا، وشغلتهم عن العودة إلى العقيدة الصافية والتمسك بها والرجوع إلى الحق بتتبع المظاهر الفارغة والتقاليد العمياء التي سنها من ضل وأضل، فحادت بهم عن طريق الحق، وسلكت بهم مسالك الضلال، ولبست على المسلمين في عقيدتهم، وأخمدت فيهم جذوة الإيمان وجمال الاتباع، وامتصت طاقاتهم المتعددة المتقدة قوة وحماسا بمظاهر فارغة وأعمال خاوية، فانتشرت بينهم أعمال الاحتفالات المبتدعة، واتجه رجاؤهم وتعلقهم بالله إلى التعلق بالقبور والأضرحة، والتماس الشفاعة منها، وطلب الحاجات إليها، فعاد أكثر المسلمين بهذه الضلالات إلى مظاهر الوثنية وتقديس الأشخاص، فاستخفهم أعداؤهم وازداد تدهورهم، وتحولت قوتهم إلى ضعف.
وبحلول التاريخ الموافق لمولد رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم تحل مناسبة ابتدع كثير من الناس فيها إقامة الاحتفالات بالمولد، وزعموا أن ذلك مما يحقق المراد من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وموالاته، ويغفلون الواجب في أن محبة الرسول إنما تكون باتباعه وطاعته، أما هذه الاحتفالات الشائعة فهي غير جائزة، بل هي من البدع المحدثة في الدين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا خلفاؤه الراشدون ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله على الجميع(5/256)
ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، وهم أعلم الناس بالسنة وأكمل حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومتابعة لشرعه ممن بعدهم.
وأول من ابتدعها فيما بلغنا هم الفاطميون في القرن الرابع الهجري، وهم معروفون بالعقيدة الفاسدة وإظهار التشيع لأهل البيت والغلو فيهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » . أي، مردود عليه. وقال في حديث آخر: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (2) » .
ففي هذين الحدثين تحذير شديد من إحداث البدع والعمل بها وقد قال الله سبحانه في كتابه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) وقال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (5) وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (6) وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (7) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به، حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به زاعمين أن ذلك مما يقرب إلى الله، وهذا بلا شك فيه خطر عظيم، واعتراض على الله سبحانه، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النعمة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين ولم يترك طريقا يوصل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه للأمة. . كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم (8) » رواه مسلم في صحيحه. ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم وأكملهم بلاغا ونصحا، فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة، أو فعله في حياته، أو فعله أصحابه رضي الله عنهم. فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شيء بل هو من المحدثات في الدين التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها أمته، كما تقدم ذكر ذلك في الحديثين السابقين.
وقد جاء في معناهما أحاديث أخر مثل قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (9) » . . " رواه الإمام مسلم في صحيحه. والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وقد صرح جماعة من
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(3) سورة الحشر الآية 7
(4) سورة النور الآية 63
(5) سورة الأحزاب الآية 21
(6) سورة التوبة الآية 100
(7) سورة المائدة الآية 3
(8) صحيح مسلم الإمارة (1844) ، سنن النسائي البيعة (4191) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4248) ، سنن ابن ماجه الفتن (3956) ، مسند أحمد بن حنبل (2/191) .
(9) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7277) ، سنن الدارمي المقدمة (207) .(5/257)
العلماء بإنكار الموالد والتحذير منها عملا بالأدلة المذكورة وغيرها، وخالف بعض المتأخرين فأجازها إذا لم تشتمل على شيء من المنكرات، كالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاختلاط النساء بالرجال، واستعمال آلات الملاهي. . وغير ذلك مما ينكره الشرع المطهر. وظنوا أنها من البدع الحسنة، والقاعدة الشرعية: رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (1) وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) .
وقد رددنا هذه المسألة وهي الاحتفال بالموالد إلى كتاب الله سبحانه فوجدناه يأمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ويحذرنا عما نهى عنه، ويخبرنا بأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها، وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله لنا وأمرنا باتباع الرسول فيه. .
وقد رددنا ذلك أيضا إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم نجد فيها أنه فعله ولا أمر به ولا فعله أصحابه رضي الله عنهم؛ فعلمنا بذلك أنه ليس من الدين، بل هو من البدع المحدثة، ومن التشبه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى في أعيادهم، وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق وإنصاف في طلبه أن الاحتفال بالموالد ليس من دين الإسلام، بل هو من البدع المحدثات التي أمر الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم بتركها والحذر منها، ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار، فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين، وإنما يعرف بالأدلة الشرعية، كما قال تعالى عن اليهود والنصارى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (3) وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (4) الآية.
ثم إن غالب هذه الاحتفالات بالموالد مع كونها بدعة لا تخلو من اشتمالها على منكرات أخرى: كاختلاط النساء بالرجال، واستعمال الأغاني والمعازف وشرب المسكرات والمخدرات وغير ذلك من الشرور، وقد يقع فيها ما هو أعظم من ذلك، وهو الشرك الأكبر، وذلك بالغلو في رسول الله أو غيره من الأولياء، ودعائه والاستعانة به، وطلب المدد واعتقاد أنه يعلم الغيب، ونحو ذلك من الأمور الكفرية التي يتعاطاها الكثير من الناس حين احتفالهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ممن يسمونهم بالأولياء، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (5) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله (6) » أخرجه البخاري في صحيحه من حديث عمر رضي الله عنه.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) سورة البقرة الآية 111
(4) سورة الأنعام الآية 116
(5) سنن ابن ماجه المناسك (3029) ، مسند أحمد بن حنبل (1/215) .
(6) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/24) .(5/258)
ومن العجائب والغرائب أن الكثير من الناس ينشط ويجتهد في حضور هذه الاحتفالات المبتدعة ويدافع عنها، ويتخلف عما أوجب الله عليه من حضور الجمع والجماعات، ولا يرفع بذلك رأسا، ولا يرى أنه أتى منكرا عظيما. ولا شك أن ذلك من ضعف الإيمان وقلة البصيرة، وكثرة ما ران على القلوب من صنوف المعاصي والذنوب، نسأل الله العافية لنا ولسائر المسلمين. .
ومن ذلك أن بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر الموالد؛ ولهذا يقومون له محيين ومرحبين، وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، ولا يتصل بأحد من الناس، ولا يحضر اجتماعاتهم، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة، كما قال تعالى في سورة المؤمنون: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (1) {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة وأنا أول مشفع (3) » . . " عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.
فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة، وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين ليس فيه نزاع بينهم، فينبغي لكل مسلم التنبه لهذه الأمور والحذر مما أحدثه الجهال وأشباههم من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به.
أما الصلاة والسلام على رسول الله فهي من أفضل القربات، ومن الأعمال الصالحات، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا (5) » . . " وهي مشروعة في جميع الأوقات، ومتأكدة في آخر كل صلاة، بل واجبة عند جمع من أهل العلم في التشهد الأخير، وسنة مؤكدة في مواضع كثيرة، منها ما بعد الآذان، وعند ذكره عليه الصلاة والسلام، وفي يوم الجمعة وليلتها، كما دلت على ذلك أحاديث كثيرة.
والله المسئول أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، وأن يمن على الجميع بلزوم السنة، والحذر من البدع، إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. . . .
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 15
(2) سورة المؤمنون الآية 16
(3) صحيح مسلم الفضائل (2278) ، مسند أحمد بن حنبل (2/540) .
(4) سورة الأحزاب الآية 56
(5) صحيح مسلم الصلاة (384) ، سنن الترمذي المناقب (3614) ، سنن النسائي الأذان (678) ، سنن أبو داود الصلاة (523) ، مسند أحمد بن حنبل (2/168) .(5/259)
وجوب إنكار المعاملات الربوية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد. .
فمن الظواهر السيئة التي برزت في صحفنا الدعوة إلى الربا، ومن ذلك ما نشر بجريدة الجزيرة عدد 2263 وتاريخ 11 شوال عام 1398هـ تحت عنوان "خطتنا للضمان الممتاز" وكذلك ما جاء من الدعوة إلى الربا في الصحف والمجلات المحلية. وهذه المعاملات من الربا المحرم بالكتاب والسنة والإجماع، وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على أن أكل الربا من كبائر الذنوب، ومن الجرائم المتوعد عليها بالنار واللعنة، قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (2) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} (4)
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 279(5/260)
ففي هذه الآيات الدلالة الصريحة على غلظ تحريم الربا، وأنه من الكبائر الموجبة للنار، كما أن فيها الدلالة على أن الله سبحانه يمحق كسب المرابي ويربي الصدقات، أي يربيها لأهلها وينميها حتى يكون القليل كثيرا إذا كان من كسب طيب. وفي الآية الأخيرة التصريح بأن المرابي محارب لله ورسوله وأن الواجب عليه التوبة إلى الله سبحانه وأخذ رأس ماله من غير زيادة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء ".
وهذه المسألة التي كثرت الدعاية لها في الصحف والمجلات من المسائل التي بحثها مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وهذا مضمون ما قرره: وضع الأموال في البنوك لأخذ فائدة ربوية بنسبة معينة يحصل عليها صاحب المال من البنك ونحوه ويدفعها له إما بعد مضي الأجل الذي يتفق عليه وإما عند سحب المال، فيدفع له ما اتفق عليه من الربا الذي سمي ربحا أو فائدة. وهذا ربا صريح حرمه الله ورسوله وأجمع سلف الأمة الإسلامية على تحريمه، وتسميته وديعة، أو باسم غير ذلك لا يغير من حكم الربا المحرم فيه شيئا، فقد جمع ربا الفضل وربا النسيئة؛ لأنه بيع نقود بنقود نسيئة بزيادة ربح ربوي إلى أجل انتهى. . .
والواجب على ولاة الأمور وعلى علماء الإسلام في كل مكان إنكار مثل هذه المعاملات الربوية والتحذير منها، كما أن الواجب على وزارة الإعلام منع نشر مثل هذه المعاملات الربوية والدعاية إليها في جميع وسائل الإعلام، عملا بقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) وقوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) وقوله عز وجل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (3) {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (4) وقوله سبحانه: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ} (5) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (6) {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (7) .
وبالله التوفيق - وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. .
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة آل عمران الآية 104
(3) سورة المائدة الآية 78
(4) سورة المائدة الآية 79
(5) سورة العصر الآية 1
(6) سورة العصر الآية 2
(7) سورة العصر الآية 3(5/261)
بيان من الرئاسة العامة للمجلس الأعلى العالمي للمساجد حول ما دار مع العقيد معمر القذافي
حول إنكاره للسنة النبوية كمصدر للتشريع كما تناقلتها الصحف والأنباء
قام وفد من الأمانة العامة للمجلس المذكور برئاسة فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان عضو مجلس القضاء الأعلى بالمملكة العربية السعودية، وعضوية كل من فضيلة الشيخ أبي بكر محمود جومي كبير قضاة نيجيريا وعضو الرابطة ومجلس المساجد، وفضيلة الشيخ أحمد الحماني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر وعضو الرابطة ومجلس المساجد، وفضيلة الشيخ علي محتار الأمين العام المساعد للمجلس الأعلى العالمي للمساجد- بزيارة الجماهيرية العربية الليبية بناء على ما دار بين الأمانة والجماهيرية للبحث مع فخامة العقيد معمر القذافي حول ما تناقلته الصحف والأنباء من إنكاره للسنة النبوية أن تكون مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي.
وقد تم بالفعل اجتماع الوفد بفخامته في الساعة السابعة والنصف من مساء يوم الأربعاء الثاني عشر من شهر صفر 1399 هـ في مدينة بني غازي بليبيا، وتبادل الجميع وجهات النظر، وبين الوفد لفخامته الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على عظيم منزلة السنة في الإسلام، وأنها الأصل الثاني في إثبات الأحكام، وأن العلماء قد عنوا بها وعرفوا صحيحها من سقيمها، ووضعوا لذلك قواعد وأوصولا يعرف بها صحيح الأحاديث من ضعيفها، وأجمعوا على اعتماد ما صحت به الأحاديث؛ فأظهر اقتناعه بأكثر ما قاله الوفد، وأوضح فخامته للوفد موقفه من الكتاب والسنة والحديث، وأنكر بشدة ما نسب إليه من أنه حذف كلمة (قل) من {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) أو أنه صلى العصر ركعتين حضرا، كما أوضح للوفد بأنه يعترف بالسنة الفعلية فقط كالصلاة والحج، أما الأحاديث القولية فإن ما يصح عنده منها يعمل به، ووعد بأنه سيعلن ذلك على الملأ.
هذا ملخص قرار الوفد وقد سرنا كثيرا رجوع فخامة العقيد إلى الصواب في الأخذ بالسنة الصحيحة، وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة واجتماع أهل العلم على أن السنة الصحيحة القولية والفعلية والتقريرية أصل
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1(5/262)
عظيم من أصول الإسلام، وهي الأصل الثاني في إثبات الأحكام الشرعية وبيان الحلال والحرام، وهي الوحي الثاني، كما أجمع العلماء أيضا على أن من جحد كون السنة أصلا معتبرا يرجع إليه في الأحكام وزعم أنه يكتفي بالقرآن عنها فهو كافر مرتد عن الإسلام، وقد صنف في ذلك الحافظ السيوطي رسالة سماها "مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة" ذكر فيها الأدلة من الكتاب والسنة والآثار على وجوب تعظيم السنة والأخذ بها، وأنها الأصل الثاني من أصول الإسلام، كما ذكر فيها إجماع العلماء على كفر من أنكر السنة وزعم أنه لا يحتج إلا بالقرآن، ولا شك أن من أنكر السنة فقد أنكر القرآن وكذبه؛ لأن القرآن الكريم قد أمر في مواضع كثيرة بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه، وعلق الرحمة والهداية ودخول الجنة والنجاة من النار على ذلك. . وقد كتبنا في هذا المقام مقالا أبسط من هذا البيان ننشره قريبا إن شاء الله.
فالواجب على فخامة العقيد أن يعلن توبته إلى الله سبحانه من إنكاره ما أنكر من السنة وأن يعلن التزامه بما صح منها عند أهل العلم، كأحاديث الصحيحين وغيرها مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا أو تقريرا، وهنا أمر عظيم يهم القراء المسلمين يتعلق بفخامة العقيد، ويجب علينا التنبيه عليه وبيان حكمه، وهو أن الكاتبة الإيطالية (ميريلا بيانكو) قد ذكرت في كتابها (القذافي رسول الصحراء) ص 241 عن فخامة العقيد ما يدل على أنه يدعي أنه رسول من رسل الله، وقد خاطبته في الصفحة المذكورة بقولها له: يا رسول الله، أكنت راعي غنم؟ فأجابها بقوله: بلى، فلم يكن هناك نبي لم يفعل ذلك. وهذا الجواب يقتضي إقراره لها على أنه رسول الله، لأنه لم ينكر عليها ولم يقل: لست برسول، ومعلوم أن دعوى الرسالة أو النبوة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كفر أكبر، وضلال عظيم، وردة عن الإسلام بإجماع المسلمين؛ لأن ذلك تكذيب لقول الله عز وجل {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1) وتكذيب لما تواترت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدالة على أنه خاتم النبيين والمرسلين، لا نبي بعده ولا رسول، وقد قاتل الصحابة رضي الله عنهم من ادعى النبوة بعده، واعتبروه كافرا حلال الدم والمال؛ كالأسود العنسي، ومسيلمة الكذاب، والمختار بن أبي عبيد الثقفي، وقد أجمع علماء الأمة إجماعا قطعيا على أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين والمرسلين لا نبي بعده ولا رسول، وقد كفر العلماء في عصرنا وقبل عصرنا مرزا غلام القادياني لما ادعى النبوة، وكفروا من صدقه في ذلك. .
فالواجب على فخامة العقيد أن يعلن في وسائل الإعلام تكذيبه لما زعمته هذه الإيطالية، وأنه يبرأ إلى الله من ذلك إن كان ذلك لم يقع منه، فإن كان قد وقع منه فالواجب عليه إعلان التوبة النصوح من ذلك، ومن تاب تاب الله عليه كما دل على ذلك كتاب الله المجيد وسنة رسوله الكريم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، ومن قول الله سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} (2) {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (3) فبين سبحانه أنه لا بد من إعلان التوبة وبيان ما كتم من الحق، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «التوبة تهدم ما كان قبلها» . والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، ونسأل الله أن يهدينا وإياه سواء السبيل، وأن يمن علينا وعليه وعلى سائر المسلمين بالتوبة النصوح من جميع الذنوب، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 40
(2) سورة البقرة الآية 159
(3) سورة البقرة الآية 160(5/263)
لا: لهذه الرحلات
الحمد لله وحده وبعد: فقد نشرت جريدة الجزيرة في عددها رقم 2508 وتاريخ 1 \ 7 \ 1399هـ الصفحة (8) إعلانا من مؤسسة أمريكية يتضمن دعوة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين سن 10 - 18 سنة إلى الاشتراك في رحلة صيفية لمدة ستة وستين يوما لزيارة كل من إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك.
وأداء لواجب المسئولية، وقياما بواجب النصح للأمة نوضح لأخواننا المسلمين وكافة المواطنين ما تنطوي عليه مثل هذه الرحلات من الخطر العظيم على أخلاق أبنائهم ودينهم؛ فإن القائمين على هذه الرحلات هم من الكفار الذين لا يراعون خلقا ولا دينا إلا الكسب المادي، هذا إذا خلوا من أهداف تبشيرية أو أغراض سيئة أخرى، كما أن هذه الرحلات إلى بلاد انتشرت فيها كل أنواع الرذائل والأخلاق السافلة والدعوات الهدامة. والذين وجهت إليهم الدعوة للاشتراك هم أطفال وشباب في سن المراهقة ومرحلة التأثر بالتوجيه والقدوة والانبهار بالمظاهر مع قلة العلم وضعف التمييز بين الخير والشر، إن دلوا على الخير سلكوا طريقه، وإن دلوا على الشر أسرعوا إليه إلا من شاء الله.
والناتج عن ذلك من الأضرار لا يحصى فمنها ابتعاد الابن عن إشراف أبيه وتوجيهه في سن هو في أمس الحاجة إلى الرعاية والتأديب فيه، ومنها ما يخشى من هجره لفرائض الدين وتركه لأدائها وفي مقدمتها الصلاة والصيام؛ إذ أن موعد الرحلة يصادف شهر رمضان الذي يجب على كل مسلم بالغ صيامه، وكيف يصوم هذا الفتى وهو يجر إلى(5/264)
الملاهي والشهوات. ومنها التأثر بالأخلاق الفاسدة التي يعايشها ويشاهدها مما يضعف في نفسه الالتزام بالأخلاق الإسلامية، ويؤدي به إلى الاستهانة بها وعدم احترامها، ومنها وقوعه تحت توجيه الكفار وإشرافهم وولايتهم.
والحكم في هذه الحالة أنه لا يجوز للمسلم السفر إلى بلاد المشركين أو الإقامة بين ظهرانيهم من غير ضرورة إلا لعارف بدينه بأدلته الشرعية يستطيع الدعوة إليه والذب عن الشبه التي ترد عليه ويقوم بأداء واجباته. وعموم الأدلة يؤيد ذلك. ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (2) {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (3) وقوله (صلى الله عليه وسلم) : «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين (4) » وقوله «لا يقبل الله من مشرك عملا بعدما أسلم أو يزايل المشركين (5) » . .) ولأن في ذلك وسيلة إلى ارتكاب المحرم وترك الواجب وما أفضى إليهما فحكمه التحريم. والخلاصة أن هذه الرحلة لا تجوز من شبابنا وأوليائهم الاستجابة إليها، بل يجب على ولاة الأمور وعلى الآباء بذل جميع الوسائل الممكنة لعدم اشتراك الشباب في مثل هذه الرحلات وإحباطها وعدم إنفاذها، حماية لشباب المسلمين مما يهدد عقيدتهم وأخلاقهم.
ولا يفوتنا هنا أن ننبه إخواننا المسلمين إلى ما يحيكه لهم أعداؤهم من الدسائس والمؤامرات لفتنهم عن دينهم وإبعادهم عنه وإضعاف التزامهم به التي تبينها خطط التبشير التي كشفها الكثير من علماء المسلمين ومفكريهم وفي حملات التشكيك المستمرة. . ويغلط غلطا عظيما من ينفي ذلك ويحسن الظن بهم، فأمامنا من البراهين الجلية ما لا ينكره إلا مغفل أو فاسق أو مكابر، وما الغزوات والحملات التبشيرية المركزة على بلاد المسلمين في أندونيسيا والفلبين وبنغلادش وأوغندا والسودان وغيرها من البلاد إلا براهين على ذلك، ومن الوسائل التي يسلكها أعداء الإسلام إلى ذلك إنشاء المستشفيات والمدارس والملاجئ، وإقامة الاجتماعات الترفيهية والجمعيات الإنسانية، وغايتهم في ذلك تدمير أخلاق المسلمين وعقولهم، وقطع صلتهم بالله وإطلاق شهواتهم، وهل هناك أنجح من حضنهم للمراهقين في مثل هذه الرحلات وغسل أدمغتهم بما يلقونه عليهم من توجيه. . فتيقظوا أيها الإخوان لهذه الخطط الخبيثة، ولا تسلموا أولادكم لأعدائكم فتلقوا بهم إلى التهلكة وتدفعوهم إلى طرق الضلال، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (6) .
كما نذكر إخواننا بواجبهم تجاه أبنائهم من تربيتهم التربية الصالحة، وأمرهم بأداء الشعائر والتحلي بالآداب الإسلامية، ونهيهم عن المحرمات وعن الرذائل ووسائلها، وغرس الأخلاق الفاضلة في نفوسهم، وصيانتهم عن رفقاء السوء وعن المجتمعات الفاسدة.
__________
(1) سورة النساء الآية 97
(2) سورة النساء الآية 98
(3) سورة النساء الآية 99
(4) سنن الترمذي السير (1604) ، سنن أبو داود الجهاد (2645) .
(5) سنن ابن ماجه الحدود (2536) ، مسند أحمد بن حنبل (5/4) .
(6) سورة التحريم الآية 6(5/265)
وننبه القائمين على الصحف المحلية إلى المزيد من التيقظ والغيرة على الدين والمجتمع وعدم نشر مثل هذه الإعلانات الضارة التي تخدم أعداء الدين، وتعود بالضرر على المجتمع وأبنائه في دينهم وعقيدتهم وأخلاقهم، بل الواجب عليهم أن يكونوا وسائل مساعدة في الإصلاح والتوجيه إلى الخير والحق.
رزق الله الجميع السلامة في الدين والدنيا وأرانا الحق حقا ورزقنا اتباعه، وأرانا الباطل باطلا ورزقنا اجتنابه، وأصلح ولاة أمر المسلمين ونصر بهم الحق، وكتب لجميع المسلمين في كل مكان أسباب الخير والعزة، إنه سميع مجيب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. . .(5/266)
حرمة تأخير تزويج البنات والأخوات
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يبلغه هذا الكتاب من المسلمين سلك الله بي وبهم صراطه المستقيم وجعلنا جميعا من حزبه المفلحين آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . . أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى قد أوجب على المسلمين التعاون على البر والتقوى والتناصح في الله والتواصي بالحق والصبر عليه، ورتب على ذلك خير الدنيا والآخرة وصلاح الفرد والمجتمع والأمة، وقد بلغني أن كثيرا من الناس قد يؤخرون تزويج مولياتهم من البنات والأخوات وغيرهن لأغراض غير شرعية كخدمة أهلها في رعي أو غيره، وكطلب الأكثر مالا، أو لترضى بمن لا يناسبها من بني عمها وغيرهم، وكذلك من يؤخر زواجها من أجل أن يأخذ بها زوجة له، وتأخير تزويج المولية لهذه الأسباب ونحوها من الأمور المحرمة، ومن الظلم للموليات من البنات وغيرهن قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (1) والأيامى جمع أيم، يقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها، وللرجل الذي لا زوجة له، يقال امرأة أيم ورجل أيم، قال ابن عباس: رغبهم الله في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد ووعدهم عليه الغنى، فقال {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (2) وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال
__________
(1) سورة النور الآية 32
(2) سورة النور الآية 32(5/267)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض (1) » وروى الترمذي أيضا عن أبي حاتم المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد " قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه؟ قال " إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات (2) » . وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين لما فيه رضاه وصلاح عباده، وأن يعيذنا جميعا من شر أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سنن الترمذي النكاح (1084) ، سنن ابن ماجه النكاح (1967) .
(2) سنن الترمذي النكاح (1085) .(5/268)
تهنئة لحكومة الباكستان لإعلانها تطبيق
الشريعة الإسلامية
فخامة رئيس حكومة باكستان الإسلامية محمد ضياء الحق
نصر الله به دينه - سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لقد سمعنا ما تناقلته الإذاعات والصحف من إعلان فخامتكم تحكيم الشريعة الإسلامية في باكستان فسرنا ذلك كثيرا كما سر كل مسلم على وجه الأرض وإنه ليسرني أن أعرب لفخامتكم عن شكري وعظيم تقديري لهذا العمل الجليل الذي يرضاه الله ورسوله ويرضاه كل مسلم وهو الواجب عليكم وعلى جميع حكام المسلمين فجزاكم الله خيرا وأمدكم بتوفيقه ونصركم بالحق ونصر الحق بكم.
وإنا وجميع المسلمين نشارك الشعب الباكستاني بالفرحة العظيمة والسرور البالغ بهذا النبأ العظيم الذي أنشئت من أجله الباكستان ولم يزل أبناؤها المخلصون ينتظرون ذلك ويبذلون في تحقيقه كل ما أمكنهم من الوسائل حتى يسره الله على يد فخامتكم مهنئا لكم بهذه المنحة العظيمة والنعمة الكبرى ويحق لنا جميعا أن نفرح بذلك ونسر به ونشكر الله عليه عملا بقوله سبحانه {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (1) فسيروا على بركة الله والله ناصركم ومؤيدكم ما دمتم تنصرون دينه وتحكمون شريعته كما قال الله
__________
(1) سورة يونس الآية 58(5/269)
سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وقال عز وجل {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (3) ولا شيء أحسن من حكم الله العالم بأحوال عباده ومصالحهم في العاجل والآجل كما قال الله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (4) وفقكم الله وثبتكم على الحق وأكثر أعوانكم فيه إنه سميع قريب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،.
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الحج الآية 40
(3) سورة الحج الآية 41
(4) سورة المائدة الآية 50(5/270)
التنبيه على خبر باطل في أخبار مكة
حمود التويجري
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، فقد ذكر الأزرقي في أخبار مكة في باب ما جاء في ذكر بناء قريش الكعبة في الجاهلية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بمحو الصور التي في الكعبة سوى صورة مريم وعيسى عليهما السلام. وروى الأزرقي ذلك بأربعة أسانيد كلها ضعيفة فلا يغتر بها ولا يعتمد على شيء منها.
الإسناد الأول
قال حدثني جدي قال حدثنا مسلم بن خالد الزنجي عن ابن أبي نجيح عن أبيه قال جلس رجال من قريش في المسجد الحرام - فذكر خبرا طويلا في بناء الكعبة وقال في آخره - وجعلوا في دعائمها صور الأنبياء وصور الشجر وصور الملائكة فكان فيها صورة إبراهيم خليل الرحمن شيخ يستقسم بالأزلام وصورة عيسى ابن مريم وأمه وصور الملائكة عليهم السلام أجمعين «فلما كان يوم فتح مكة دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت فأرسل الفضل بن العباس بن عبد المطلب فجاء بماء زمزم ثم أمر بثوب مبتل بالماء وأمر بطمس تلك الصور فطمست. قال ووضع كفيه على صورة عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام وقال: " امحوا جميع الصور إلا ما كانت تحت يدي " فرفع يديه عن عيسى ابن مريم وأمه» .(5/271)
الإسناد الثاني: قال وحدثني جدي قال حدثنا داود بن عبد الرحمن قال أخبرني بعض الحجبة عن مسافع بن شيبة بن عثمان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «يا شيبة امح كل صورة فيه إلا ما تحت يدي، قال فرفع يده عن عيسى ابن مريم وأمه» .
الإسناد الثالث: قال حدثني جدي عن سعيد بن سالم قال حدثنا يزيد بن عياض بن جعدبة عن ابن شهاب «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة يوم الفتح وفيها صور الملائكة وغيرها فرأى صورة إبراهيم فقال قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام ثم رأى صورة مريم فوضع يده عليها وقال امحوا ما فيها من الصور إلا صورة مريم (1) » .
الإسناد الرابع: قال أخبرني محمد بن يحيى عن الثقة عنده عن ابن إسحاق عن حكيم بن عباد بن حنيف وغيره من أهل العلم أن قريشا كانت قد جعلت في الكعبة صورا فيها عيسى ابن مريم ومريم عليهما السلام قال ابن شهاب قالت أسماء بنت شقران امرأة من غسان حجت في حاج العرب فلما رأت صورة مريم في الكعبة قالت بأبي وأمي إنك لعربية «فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمحو تلك الصور إلا ما كان من صورة عيسى ومريم» .
وهذه الأخبار مردودة من وجوه: الأول ضعف أسانيدها.
* أما الخبر الأول فإنه منقطع لأن أبا نجيح لم يدرك زمن الجاهلية ولا زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما أدرك آخر زمن الصحابة رضي الله عنهم، والمنقطع لا يثبت به شيء، وأيضا ففي إسناده مسلم بن خالد الزنجي وقد وثقه ابن معين وضعفه أبو داود وقال أبو حاتم: إمام في الفقه تعرف وتنكر ليس بذاك القوي يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال النسائي: ليس بالقوي. وهذا مما يزيد الخبر وهنا على وهنه.
* وأما الخبر الثاني فإنه أضعف مما قبله لأمرين أحدهما أنه مرسل والمرسل ليس بحجة، الثاني أن في إسناده رجلا لم يسم ومثل هذا لا يثبت به شيء. وقد ذكره البخاري في التاريخ الكبير بدون ذكر الزيادة الباطلة فقال في ترجمة مسافع بن عبد الله عن شيبة بن عثمان قال قال رسول - صلى الله عليه وسلم - «" يا شيبة امح كل صورة في البيت» .
* وأما الخبر الثالث فإنه أضعف مما قبله لأمرين أحدهما أنه مرسل، والثاني أن في إسناده يزيد بن عياض بن جعدبة بضم الجيم والدال بينهما مهملة ساكنة، قال الذهبي في الميزان قال البخاري وغيره: منكر الحديث، وقال يحيى، ليس بثقة، وقال علي: ضعيف، ورماه مالك بالكذب، وقال النسائي وغيره: متروك، وقال الدارقطني: ضعيف، وروى عباس عن يحيى: ليس بثقة ضعيف، وروى يزيد بن الهيثم عن ابن معين: كان يكذب، وروى أحمد بن أبي مريم عن ابن معين: ليس بشيء لا يكتب حديثه.
* وأما الخبر الرابع: فإنه ضعيف جدا لأمرين أحدهما أنه منقطع، والثاني أن فيه رجلا لم يسم، ومثل هذا لا يثبت به شيء.
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3351) ، سنن أبو داود المناسك (2027) .(5/272)
الوجه الثاني:
أنه يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يمحو الصور التي في الكعبة وأنه - صلى الله عليه وسلم - دخلها وما فيها شيء من الصور، قال الإمام أحمد حدثنا روح - وهو ابن عبادة القيسي - حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عمر بن الخطاب يوم الفتح وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها ولم يدخل البيت حتى محيت كل صورة فيه (1) » إسناده صحيح على شرط الشيخين.
* وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا عبد الله بن الحارث - وهو ابن عبد الملك المخزومي - عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يزعم «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصور في البيت ونهى الرجل أن يصنع ذلك (2) » وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمن الفتح وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها ولم يدخل البيت حتى محيت كل صورة فيه (3) » إسناده صحيح على شرط مسلم، وقد رواه الإمام أحمد أيضا بإسنادين أحدهما صحيح والآخر حسن، ورواه أبو داود في سننه والبيهقي من طريقه وإسناده حسن، وفي هذا الحديث رد لما جاء في الأخبار الأربعة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بمحو الصور التي في الكعبة ولم يستثن شيئا منها وفي هذا أبلغ رد على من زعم أنه - صلى الله عليه وسلم - وضع كفيه على صورة مريم وعيسى وأمر بإبقائها ومحو ما سواها.
* وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها وفي هذا رد على ما جاء في خبر أبي نجيح أنه - صلى الله عليه وسلم - أرسل الفضل بن العباس فجاء بماء زمزم.
__________
(1) سنن الترمذي اللباس (1749) ، سنن أبو داود اللباس (4156) ، مسند أحمد بن حنبل (3/383) .
(2) سنن الترمذي اللباس (1749) ، سنن أبو داود اللباس (4156) ، مسند أحمد بن حنبل (3/335) .
(3) سنن الترمذي اللباس (1749) ، سنن أبو داود اللباس (4156) ، مسند أحمد بن حنبل (3/335) .(5/273)
الوجه الثالث:
ما ذكره الزرقاني على المواهب أنه وقع عند الواقدي في حديث جابر وكان عمر قد ترك صورة إبراهيم فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رآها فقال: «" يا عمر ألم آمرك أن لا تدع فيها صورة قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام "، ثم رأى صورة مريم فقال: " امحوا ما فيها من الصور قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون» ، وهذا ظاهر في شدة إنكاره - صلى الله عليه وسلم - للصور التي رآها في الكعبة ومنها صورة مريم. ويدل على تشديده في الإنكار ثلاثة أمور: أحدها إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على عمر رضي الله عنه حين ترك بعض الصور فلم يمحها، والثاني أمره بمحو الصور بدون استشناء، والثالث دعاؤه على المصورين.
وفي معنى قوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} (1) أقوال أحدها: لعنهم الله قاله ابن عباس رضي الله عنهما واختاره البخاري، والثاني قتلهم الله قاله ابن جريج، والثالث أنه ليس على تحقيق المقاتلة ولكنه بمعنى التعجب حكاه البغوي في تفسيره.
__________
(1) سورة التوبة الآية 30(5/273)
قال الراغب الأصفهاني والصحيح أن ذلك هو المفاعلة والمعنى صار بحيث يتصدى لمحاربة الله فإن من قاتل الله فمقتول ومن غالبه فهو مغلوب انتهى.
الوجه الرابع:
أن تصوير الصور واتخاذها من أعظم المنكرات، وتغيير المنكر واجب بحسب القدرة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » رواه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم، وأهل السنن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي رواية للنسائي: «" من رأى منكرا فغيره بيده فقد برئ ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ وذلك أضعف الإيمان (2) » .
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس غيرة على انتهاك المحرمات وأشدهم في إنكار المنكرات وتغييرها، ومن المحال أن يرى المنكر وهو قادر على تغييره فلا يغيره فضلا عن أن يأمر بإبقائه، ومن ظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإبقاء شيء من الصور التي في الكعبة ونهى أن يمحى فقد ظن به ظن السوء.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/53) .(5/274)
الوجه الخامس:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التصوير كما في المسند وجامع الترمذي عن جابر رضي الله عنه قال: «" نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصور في البيت ونهى الرجل أن يصنع ذلك (1) » قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وروى الإمام أحمد أيضا والبخاري في تاريخه بأسانيد جيدة عن معاوية رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التصاوير (2) » وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لينهى عن التصوير ثم يقر بعضه ويأمر بإبقائه، هذا من أبطل الباطل.
الوجه السادس:.
«أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل على عائشة رضي الله عنها ورأى القرام الذي فيه التصاوير هتكه وتلون وجهه قالت عائشة رضي الله عنها دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما رآه هتكه وتلون وجهه وقال: " يا عائشة أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة
__________
(1) سنن الترمذي اللباس (1749) ، سنن أبو داود اللباس (4156) ، مسند أحمد بن حنبل (3/335) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/320) .(5/274)
الذين يضاهون بخلق الله (1) » رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه وهذا لفظ مسلم. وفي رواية النسائي «بقرام فيه تصاوير (2) » . وفي رواية ابن ماجه: «بستر فيه تصاوير، (3) » وفي رواية لمسلم: «قالت دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - علي وقد سترت غطاء فيه تصاوير فنحاه فاتخذت منه وسادتين (4) » .
وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد هتك الستر الذي في بيت عائشة رضي الله عنها من أجل التصاوير فكيف يظن به أنه يقر التصاوير في بيت الله تعالى ويأمر بإبقائها.
الوجه السابع:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن المصورين وأخبر أنهم من أشد الناس عذابا يوم القيامة كما في حديث أبي جحيفة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " لعن المصورين (5) » رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «" أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله (6) » متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «" كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس فتعذبه في جهنم (7) » رواه مسلم والأحاديث في الوعيد الشديد للمصورين كثيرة جدا. وقد ذكرتها في " إعلان النكير على المفتونين بالتصوير " فلتراجع هناك.
وإذا تأمل طالب العلم ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من لعن المصورين وما ثبت عنه أيضا من الوعيد الشديد لهم لم يشك في كذب ما جاء في الأخبار الأربعة التي ذكرها الأزرقي في تاريخه وتقدم ذكرها فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخالف قوله بفعله ولا يقر المنكر الذي هو من أظلم الظلم ومن كبائر الإثم.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2105) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2468) ، سنن ابن ماجه اللباس (3653) ، مسند أحمد بن حنبل (6/246) ، موطأ مالك الجامع (1803) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2105) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2468) ، سنن النسائي الزينة (5356) ، سنن ابن ماجه اللباس (3653) ، مسند أحمد بن حنبل (6/103) ، موطأ مالك الجامع (1803) ، سنن الدارمي الاستئذان (2662) .
(3) صحيح البخاري اللباس (5954) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2468) ، سنن النسائي الزينة (5357) ، سنن ابن ماجه اللباس (3653) ، مسند أحمد بن حنبل (6/247) ، سنن الدارمي الاستئذان (2662) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2105) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2468) ، سنن ابن ماجه اللباس (3653) ، مسند أحمد بن حنبل (6/246) ، موطأ مالك الجامع (1803) .
(5) صحيح البخاري الطلاق (5347) ، مسند أحمد بن حنبل (4/308) .
(6) صحيح البخاري اللباس (5954) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) .
(7) صحيح مسلم اللباس والزينة (2110) ، مسند أحمد بن حنبل (1/308) .(5/275)
الوجه الثامن:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر في عدة أحاديث صحيحة أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، وروى الإمام أحمد والبخاري والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم فقال - صلى الله عليه وسلم -: " أما لهم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة هذا إبراهيم مصور فما له يستقسم (1) » وهذا الحديث ظاهر في إنكاره - صلى الله عليه وسلم - لصورة إبراهيم ومريم حين رآهما في الكعبة. وهذا يرد قول من زعم أنه - صلى الله عليه وسلم - وضع كفيه على صورة مريم وعيسى وأمر بإبقائها ومحو ما سواها، وإذا كانت الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه الصور فكيف
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3351) ، سنن أبو داود المناسك (2027) .(5/275)
يظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقر صورة مريم وعيسى في بيت الله الذي هو أشرف البيوت وأعظمها حرمة ويأمر بإبقائها ومحو ما سواها. هذا من أسوأ الظن وأبطل الباطل.
الوجه التاسع:
ما رواه أبو داود الطيالسي في سنده بإسناد جيد عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال «دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة ورأى صورا قال فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول: " قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون» وهذا الحديث ظاهر في إنكاره - صلى الله عليه وسلم - لما رآه من الصور في الكعبة وأنه لم يستثن منها. وفي هذا رد على من زعم أنه - صلى الله عليه وسلم - وضع كفيه على صورة مريم وعيسى وأمر بإبقائها ومحو ما سواها.
الوجه العاشر:
ما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن علي رضي الله عنه قال «صنعت طعاما فدعوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء فرأى في البيت تصاوير فرجع (1) » ، ورواه النسائي ولفظه: «قال صنعت طعاما فدعوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء فدخل فرأى سترا فيه تصاوير فخرج وقال: " إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تصاوير (2) » ، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خرج من بيت علي وفاطمة رضي الله عنهما وامتنع عن أكل طعامهما من أجل الستر الذي فيه التصاوير فكيف يظن به أن يقر صورة مريم وعيسى في الكعبة. لا شك أن هذا مكذوب على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) سنن النسائي الزينة (5351) ، سنن أبو داود اللباس (4152) ، سنن ابن ماجه اللباس (3650) ، مسند أحمد بن حنبل (1/107) ، سنن الدارمي الاستئذان (2663) .
(2) سنن النسائي الزينة (5351) ، سنن أبو داود اللباس (4152) ، سنن ابن ماجه اللباس (3650) ، مسند أحمد بن حنبل (1/107) ، سنن الدارمي الاستئذان (2663) .(5/276)
الوجه الحادي عشر:
ما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا إلا سويته (1) » هذا لفظ إحدى روايات مسلم.
وهذا الحديث الصحيح يدل على أنه يجب طمس الصور أينما وجدت وفي أي شيء كانت، وفيه أبلغ رد على من زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع كفيه على صورة مريم وعيسى وأمر بإبقائها ومحو ما سواها.
وأما ما رواه الأزرقي عن جده قال حدثنا داود بن عبد الرحمن عن ابن جريج قال سأل سليمان بن موسى
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/139) .(5/276)
الشامي عطاء بن أبي رباح وأنا أسمع أدركت في البيت تمثال مريم وعيسى قال نعم أدركت فيها تمثال مريم مزوقا في حجرها عيسى ابنها قاعدا مزوقا. قال وكانت في البيت أعمدة ست سواري وكان تمثال عيسى ومريم في العمود الذي يلي الباب، قال ابن جريج فقلت لعطاء متى هلك قال في الحريق في عصر ابن الزبير. قلت أعلى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قال لا أدري وإني لأظنه قد كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال له سليمان: أفرأيت تماثيل صور كانت في البيت من طمسها؟ قال: لا أدري غير أني أدركت من تلك الصور اثنتين درستا وأراهما والطمس عليهما. قال ابن جريج ثم عاودت عطاء بعد حين فخط لي ست سواري ثم قال: تمثال عيسى وأمه عليهما السلام في الوسطى من اللاتي تلين الباب الذي يلينا إذا دخلنا.
ثم قال الأزرقي حدثني جدي قال حدثنا داود بن عبد الرحمن عن عمرو بن دينار قال: أدركت في بطن الكعبة قبل أن تهدم تمثال عيسى ابن مريم وأمه.
فجوابه أن يقال قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها ولم يستثن شيئا من الصور، وثبت أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال «دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم فقال - صلى الله عليه وسلم -: " أما لهم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة هذا إبراهيم مصور فما له يستقسم (1) » وثبت أيضا عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال «دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة ورأى صورا قال فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول: قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون» وقد تقدم ذكر هذه الأحاديث الثلاثة قريبا. وتقدم أيضا ما ذكره الزرقاني على المواهب أنه وقع عند الواقدي في حديث جابر «وكان عمر قد ترك صورة إبراهيم فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رآها فقال: " يا عمر ألم آمرك أن لا تدع فيها صورة قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام ثم رأى صورة مريم فقال امحوا ما فيها من الصور قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون» ، وعلى هذا فيحتمل أن تكون صورة مريم وعيسى محفورة في عمود البيت بحيث لا يذهبها الغسيل بالماء فلهذا بقيت إلى أن احترق البيت في عهد ابن الزبير. ويحتمل أن تكون مصبوغة بصبغ ثابت لا يذهبه الماء أو أنه قد ذهب بعض الصبغ حيث محيت بالماء في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبقي منه بقية تظهر منه الصورة، وقد تقدم عن عطاء أنه أدرك أيضا صورتين من الصور التي كانت في الكعبة وأنهما قد درستا وأنه رأى الطمس عليهما. فلعل صورة مريم وعيسى كانت كذلك. ويحتمل أن يكون قد أزلق عليها ما يمنع من رؤيتها فخفيت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى الخلفاء الراشدين وعلى غيرهم من الصحابة ورآها عطاء وعمرو بن دينار بعدما أزيل عنها ما يمنع من رؤيتها.
ويحتمل أن يكون بعض النصارى وضعها بعد زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد زمن الخلفاء الراشدين ولا سيما في زمن الفتنة التي كانت في زمن يزيد بن معاوية فقد يتسمى بعض النصارى بالإسلام بحيث لا يرد عن دخول مكة ودخول الكعبة فيصور صورة مريم وعيسى ليفتن المسلمين بذلك ويوهمهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3351) ، سنن أبو داود المناسك (2027) .(5/277)
قد أقر صورتهما. ويحتمل أن يكون ذلك من عمل بعض من أسلم من النصارى بعد زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم والله أعلم.
وليس في بقاء صورة مريم وعيسى في الكعبة بعد زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أقر ذلك فإنه - صلى الله عليه وسلم - لا يقر المنكر ولا يرضى به. وقد قال الله تعالى في صفته {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) .
والمقصود هنا أنه لا يجوز أن يظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقر شيئا من الصور أو يأمر بإبقائها، ومن ظن ذلك فقد ظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ما لا يليق به والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157(5/278)
حمود التويجري
حول ما سمي بمسجد الخندق بالمدينة المنورة
اطلعت على مقال لأبي هاشم نشر في الصفحة الخامسة من جريدة الندوة الصادرة في يوم السبت 14 محرم 1398 هـ عنوانه (مسجد الخندق بالمدينة المنورة) .
قال الكاتب ما نصه (سمي هذا المسجد بمسجد الأحزاب لأن غزوة الأحزاب وقعت عنده كما سمي أيضا باسم مسجد الخندق لأن الخندق كان يمر بجانب المسجد وهو الخندق الذي اقترحه سلمان الفارسي رضي الله عنه على الرسول عليه الصلاة والسلام فكان أن حفره المسلمون بدءا من أسفل جبل ذباب أو ذوباب والذي أطلق عليه بعد ذلك جبل الراية لأن راية الرسول - صلى الله عليه وسلم - نصبت عليه. ويسمى هذا المسجد أيضا بمسجد الفتح وهو الاسم الخالد في كتب السيرة والتاريخ الإسلامي لأن الآية الكريمة {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} (1) نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في موضع عليه. ويقع المسجد على قطعة صغيرة من حبل سلع الكبير والذي كان يسمى من قبل جبل ثواب، وإلى جانب المسجد تقوم خمسة مساجد أخرى. فالمسجد الذي تحته رأسا هو مسجد الصديق ومن وراء مسجد الصديق مسجد الفاروق وبجانبه من جهة الغرب مسجد عثمان. ثم مسجد صغير هو مسجد علي بن أبي طالب. ثم مسجد سلمان الفارسي. والمساجد الستة هذه
__________
(1) سورة الأنفال الآية 19(5/279)
تقع وسط وادي بطحان الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إنه من أودية الجنة» وهذه المساجد هي مصلى الصحابة الخمسة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسلمان الفارسي رضي الله عنهم بالليل حيث كانوا يتهجدون في مواضعها طول الليل. انتهى كلام الكاتب.
وأقول لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسس في المدينة مسجدا سوى مسجده ومسجد قباء. ومن زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنى في المدينة مسجدا غير هذين المسجدين فقول بعيد من الصحة وكذلك لم يثبت عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسلمان رضي الله عنهم أنهم بنوا مساجد عند الخندق أو أنهم كان يتهجدون في مواضعها طول الليل ومن زعم ذلك فقوله بعيد عن الصحة.
والذي يظهر والله أعلم أن هذه المساجد كانت من إنشاء المفتونين بالآثار ونسبتها إلى الأكابر ليكون لذلك موقع عند الجهال.
وأما قول الكاتب ويسمى هذا المسجد مسجد الفتح وهو الاسم الخالد في كتب السيرة والتاريخ الإسلامي لأن الآية الكريمة {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} (1) نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في موضع عليه.
فجوابه أن يقال إن الفتح المذكور في الآية من سورة الأنفال لم يكن بالمدينة كما توهم ذلك كاتب المقال. وإنما كان ببدر حين التقى الجمعان كما ذكر ذلك المفسرون وأهل السير والأخبار. قال محمد بن إسحاق حدثني الزهري عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم أينا كان أقطع للرحم وأتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة وكان استفتاحا منه فنزلت {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} (2) إلى آخر الآية. وقد رواه الإمام أحمد والنسائي وابن جرير والحاكم في مستدركه من طريق محمد بن إسحاق وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه وفي رواية لابن جرير عن ابن شهاب الزهري قال أخبرني عبد الله بن ثعلبة بن صعير العدوي حليف بني زهرة أن المستفتح يومئذ أبو جهل وأنه قال حين التقى القوم: أينا أقطع للرحم وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة، فكان ذلك استفتاحه فأنزل الله في ذلك {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} (3) الآية قال ابن كثير وروى نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة ويزيد بن رومان وغير واحد وأما قول الكاتب إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال في وادي بطحان إنه من أودية الجنة.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 19
(2) سورة الأنفال الآية 19
(3) سورة الأنفال الآية 19(5/280)
فجوابه أن يقال هذا الحديث لا أصل له فلا يغتر به. وقد ورد في حديث ضعيف جدا «أن بطحان على بركة من برك الجنة» . رواه البزار من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه راو لم يسم وما كان كذلك فلا يعتمد عليه ولا يثبت به شيء. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(5/281)
عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه قال:.
«سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (1) »
متفق عليه
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7458) ، صحيح مسلم الإمارة (1904) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1646) ، سنن النسائي الجهاد (3136) ، سنن أبو داود الجهاد (2517) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2783) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .(5/282)
أهداف معهد اللغة العربية - جامعة الرياض
المملكة العربية السعودية
لمعهد اللغة العربية التابع لجامعة الرياض أهداف عدة في مجال البحث والتعليم، ويمكننا تلخيصها في النقاط التالية:
أولا: مجال التعليم العملي:
1) الناحية الدينية:
أ) فيما يخص المسلمين من غير العرب:
خدمة المسلمين من غير العرب في التعرف على لغة قرآنهم ودينهم ليتمكنوا من تذوق لغة الإعجاز القرآني وفهمه ليسهل عليهم استقاء المعلومات الدينية الإسلامية من منابعها الأصلية من قرآن وحديث ومؤلفات دينية فمما لا شك فيه أنه لا يمكن لأحد أن يتذوق جمال البيان القرآني البليغ ما لم يتيسر له الإلمام الكافي باللغة العربية، فتراجم المعاني القرآنية لا تستطيع مهما كانت لغاتها أو أساليب القائمين بها أن تعطي القارئ ذلك الإحساس الرائع الذي ينقله النص الأصلي، فشتان ما بين كلام الخالق وكلام المخلوقين، ومن ناحية الفهم للآيات القرآنية فإن الترجمات مهما بلغت من دقة فهي ولا شك عاجزة عن أداء المطلوب نظرا لما يتميز به الأسلوب القرآني من إيجاز بليغ ولما تؤديه حتى الوقفات المختلفة في القرآن(5/283)
الكريم من معان كثيرة لا يستطيع المترجم سوى أن ينقل طرفا صغيرا منها ومن ثم نجد أن المعرفة باللغة العربية الفصحى ضرورة لا بد منها لكل مسلم تهمه أمور دينه وعلى العرب تقع مسئولية تعليم هذه اللغة لغيرهم من المسلمين.
ب) فيما يخص غير المسلمين:
اللغة هي ولا شك مفتاح الثقافة ووعاء الحضارة، والعربية هي المفتاح إلى الحضارة الإسلامية ولذلك كان تعليم اللغة العربية خير وسيلة للدعوة غير المباشرة إلى الدين الإسلامي وإلى التعريف بالحضارة الإسلامية، ومن ثم يكون تعلمينا الأجانب اللغة العربية جزءا أساسيا من واجبنا نحو ديننا من ناحية ونحو الإنسانية من ناحية أخرى لكي يعلم غير المسلمين أن في الثقافة الإسلامية الكثير من الكنوز الثمينة وأن في الأدب الشرقي أشياء كثيرة غير الليالي العربية (ألف ليلة وليلة) لا تقارن قصص ألف ليلة وليلة بأدناها.
2) الناحية الوطنية:
من المعروف أن جل الملتحقين بالدراسة المسائية هم من الموظفين والخبراء العاملين في المملكة العربية السعودية في مجالات التدريس والطب والهندسة وما إلى ذلك، وبتعليم اللغة العربية لهؤلاء نكون قد حققنا هدفين هما زيادة كفاءة وفاعلية هؤلاء العاملين في خدمة هذا الوطن من جهة وتيسير الإقامة والعمل لهم من جهة أخرى مما قد يساعد على خلق جو يشجعهم على الاستمرار في العمل بالمملكة.
3) الناحية التعليمية:
تمشيا مع مفهوم التضامن الإسلامي والتعاون بين الدول الإسلامية وتجاوبا مع مسئولية المملكة العربية السعوية في مجال الدعوة الإسلامية بدأت جامعة الرياض تفتح أبوابها للطلبة غير العرب وذلك بإعطائهم منحا للدراسة في كليات الجامعة المختلفة، ونظرا لجهل الغالبية العظمى من هؤلاء الطلاب باللغة العربية (لغة الدراسة بالجامعة) ولضعف بعضهم فيها، فكان لزاما علينا أن نهيئ لهؤلاء الطلاب الفرصة المناسبة ليتعلموا اللغة العربية بأسلوب مبني على منهج علمي مدروس بدلا من الخطوات العشوائية التي تتبعها بعض المؤسسات الإسلامية في العالم العربي حتى يتسنى لهؤلاء الطلاب دراسة اللغة العربية في أقصر وقت ممكن وبأيسر الطرق.(5/284)
ثانيا: مجال التدريب:
سيسعى المعهد إلى تنظيم دورات خاصة لتدريب المدرسين في ميدان طرق تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها بما في ذلك إعداد المواد الدراسية واستخدام الوسائل التعليمية المختلفة سمعية كانت أو بصرية.
ثالثا: مجال البحث العلمي:
بالإضافة إلى الأهداف العلمية المحضة، هناك هدف أساسي لا يقل عنها أهمية بل يجب أن يكون في مقدمة الأهداف التي يسعى المعهد لتحقيقها وذلك هو تنظيم البحوث الخاصة بأساليب تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها وذلك عن طريق البحث النظري والتجارب العملية (حيث إن الميدان لا يزال بكرا وفي أمس الحاجة إلى العمل الكثير) ومن هذه البحوث نأمل أن يقوم المعهد بتطوير المناهج والطرق العلمية المختلفة وإعداد المواد الدراسية والوسائل السمعية والبصرية المطلوبة لتدريس اللغة العربية بأساليب متطورة لا تقل عن تلك التي تتبعها المنظمات الأوروبية كمعهد جوته الألماني والمجلس البريطاني والمراكز الفرنسية والمراكز الأمريكية في تعليم لغات بلادها ونشر ثقافتهم في ربوع العالم، فقد آن الأوان للعالم العربي أن يتنبه لهذه المسئولية العظمى التي شرفه الله بها.(5/285)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «بادروا بالأعمال، سبعا: هل تنتظرون إلا: فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر (1) »
رواه الترمذي
وقال حديث حسن
__________
(1) سنن الترمذي الزهد (2306) ، مسند أحمد بن حنبل (2/324) .(5/286)
من ملفات الإفتاء
هيئة
كبار العلماء
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(5/287)
أسئلة في
الصلاة
فتوى رقم 36 وتاريخ 2 - 3 - 1392 هـ
وردت إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الأسئلة التالية:
س1 نرى كثيرا من الناس يدخلون المسجد والإمام راكع ركوع الهواء حال الصلاة فمع تكبيرته قال الإمام سمع الله لمن حمده فلم يمكن هذا الرجل أن يأتي بتسبيحه في ركوعه فهل يعتد بهذه الركعة التي لم يلحق التسبيح في ركوعها أو يأتي بركعة غيرها بعد تسليم الإمام؟ ج1 من كبر تكبيرة الإحرام حال رفع الإمام من الركوع لا يعتد بهذه الركعة وكذا من كبر تكبيرة الإحرام ثم كبر تكبيرة الركوع وركع حال رفع الإمام من الركوع لا يعتد بهذه الركعة لأنه فاته الاشتراك مع الإمام في الركوع بقدر يكفي للاعتداد بهذه الركعة وعليه أن يأتي بركعة بدلها بعد سلام الإمام. ومن كبر تكبيرة الإحرام ثم أدرك الإمام وهو راكع فركع معه قدرا يحقق الطمأنينة اعتد بهذه الركعة عند جمهور العلماء لحديث «إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة (1) » رواه أبو داود وابن خزيمة والحاكم في المستدرك، ولحديث «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة (2) » رواه الشيخان.
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (893) .
(2) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (580) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (607) ، سنن أبو داود الصلاة (1121) ، مسند أحمد بن حنبل (2/271) ، موطأ مالك وقوت الصلاة (15) .(5/288)
س2 نرى كثيرا من الناس يسابقون الإمام في الركوع وفي القيام وفي السجود وحركتهم مع حركة الإمام أو يسبقونه. هل صلاتهم هذه جائزة أم لا؟ ج2 يجب على المأموم أن يتابع إمامه في الركوع والسجود والقيام وفي الرفع منهما فلا يركع ولا يسجد ولا يرفع منهما إلا بعد إمامه لأمره - صلى الله عليه وسلم - بذلك ونهيه عن سبق الإمام أو مصاحبته في شيء من ذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا (1) » . . ". الحديث متفق عليه. فأمر المأموم أن يأتي بهذه الأفعال بعد إتيان الإمام بها لأن الفاء للترتيب، قال: «أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله صورته صورة حمار (2) » . متفق عليه - فمن ركع أو سجد أو رفع منهما قبل الإمام أو معه فقد خالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرض نفسه للعقاب والحرمان من الثواب إن كان ذاكرا عالما بالحكم وبطلت صلاته ووجب عليه إعادتها كما روي عن ابن عمر وقال به الإمام أحمد بن حنبل وإن سبق إمامه ساهيا أو كان جاهلا بالحكم صحت صلاته وعلم الجاهل ورجع الساهي إلى إمامه عند تذكره مراعاة لواجب اقتدائه به.
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الأذان (805) ، صحيح مسلم الصلاة (411) ، سنن الترمذي الصلاة (361) ، سنن النسائي الإمامة (832) ، سنن أبو داود الصلاة (601) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1238) ، مسند أحمد بن حنبل (3/200) ، موطأ مالك النداء للصلاة (306) ، سنن الدارمي الصلاة (1256) .
(2) صحيح البخاري الأذان (691) ، صحيح مسلم الصلاة (427) ، سنن الترمذي الجمعة (582) ، سنن النسائي الإمامة (828) ، سنن أبو داود الصلاة (623) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (961) ، مسند أحمد بن حنبل (2/456) ، سنن الدارمي الصلاة (1316) .(5/289)
س3 رجل يشرب الدخان ونصحته فقال لي إن شرب الدخان ليس بحرام فما حكم شرب الدخان وهل يجوز أن نصلي وراء شارب الدخان؟
ج3 شرب الدخان حرام لأنه ثبت أن يضر بالصحة ولأنه من الخبائث ولأنه إسراف وقد قال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (1) أما حكم الصلاة خلفه فإن كان يترتب على ترك الصلاة وراءه فوات صلاة الجمعة أو الجماعة أو حدوث فتنة وجبت الصلاة وراءه تقديما لأخف الضررين على أشدهما وإن كان ترك بعض الناس للصلاة خلفه لا يخشى منه فوات جمعة ولا جماعة ولا ضرر وإنما يترتب على عدم الصلاة خلفه زجره وكفه عن شرب الدخان وجب ترك الصلاة خلفه ردعا له وحملا له على ترك ما حرم عليه وذلك من باب إنكار المنكر وإن كان لا يترتب على ترك الصلاة خلفه مضرة ولا فوات جمعه ولا جماعة ولا يزدجر بترك الصلاة وراءه فيتحرى المسلم أن يصلي وراء من ليس مثله في الفسق والمعصية فذلك أتم لصلاته وأحفظ لدينه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. . . ".
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157(5/289)
الصلاة في الطائرة. . وإمامة الصلاة في الجمعة. . وزكاة الحلي
فتوى رقم 145 وتاريخ 3 - 5 -1392هـ
السؤال الأول: إذا كنت مسافرا في طائرة وحان وقت الصلاة هل يجوز أن نصلي في الطائرة أم لا؟
والجواب: الحمد لله: إذا حان وقت الصلاة والطائرة مستمرة في طيرانها ويخشى فوات وقت الصلاة قبل هبوطها في أحد المطارات فقد أجمع أهل العلم على وجوب أدائها بقدر الاستطاعة ركوعا وسجودا واستقبالا للقبلة لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (2) » . . " أما إذا علم أنها ستهبط قبل خروج وقت الصلاة بقدر يكفي لأدائها أو أن الصلاة مما يجمع مع غيره كصلاة الظهر مع العصر وصلاة المغرب مع العشاء أو علم أنها ستهبط قبل خروج وقت الثانية بقدر يكفي لأدائها فقد ذهب جمهور أهل العلم إلى جواز أدائها في الطائرة لوجود الأمر بأدائها بدخول وقتها وذهب المالكية إلى عدم صحتها في الطائرة لأن من شروط صحتها أن تكون الصلاة على الأرض أو على ما هو متصل بها كالراحلة أو السفينة مثلا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (3) » وبالله التوفيق.
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .
(3) سنن الترمذي الصلاة (317) ، سنن أبو داود الصلاة (492) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (745) .(5/290)
السؤال الثاني: هل يجوز أن يتولى الخطبة في الجمعة رجل ويتولى الإمامة فيها رجل آخر؟ والجواب: الحمد لله ذهب جمهور أهل العلم إلى عدم اشتراط أن يكون خطيب الجمعة هو إمام صلاتها لعدم ورود شيء يلزم بذلك وخالف في ذلك المالكية فذهبوا إلى اشتراط أن يكون خطيب الجمعة هو الإمام في صلاتها معللين ذلك بأن الخطبة منضمة إلى الصلاة فلا يجوز أن تفرقا على إمامين بالقصد إلا لعذر وبالله التوفيق.(5/291)
السؤال الثالث: يسأل سائل هل في الحلي زكاة واجبة أم لا؟
والجواب: الحمد لله: أجمع أهل العلم على وجوب الزكاة في حلي الذهب والفضة إذا كان حليا محرم الاستعمال أو كان معدا للتجارة ونحوها أما إذا كان حليا مباحا معدا للاستعمال أو الإعارة كخاتم الفضة وحلية النساء وما أبيح من حلية السلاح فقد اختلف أهل العلم في وجوب زكاته فذهب بعضهم إلى وجوب زكاته لدخوله في عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) الآية قال القرطبي في تفسيره ما نصه: وقد بين ابن عمر في صحيح البخاري هذا المعنى قال له أعرابي: أخبرني عن قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (2) قال ابن عمر: من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال. اهـ. ولورود أحاديث تقضي بذلك ومنها ما روى أبو داود والنسائي والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار، فخلعتهما فألقتهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت: هما لله ولرسوله (3) » ، وما روى أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه والدارقطني والبيهقي في سننهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى في يدي فتخات من ورق فقال ما هذا يا عائشة؟ فقالت: صغتهن أتزين لك يا رسول الله؟ قال: الله أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا، أو ما شاء الله قال: هو حسبك من النار (4) » وما رووا «عن أم سلمة قالت: " كنت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت: يا رسول الله، أكنز هو؟ فقال: ما بلغ أن يؤدي زكاته فزكي فليس بكنز (5) » وذهب بعضهم إلى أنه لا زكاة فيه لأنه صار بالاستعمال المباح من جنس الثياب والسلع لا من جنس الأثمان وأجابوا عن عموم الآية الكريمة بأنه مخصص بما جرى عليه الصحابة رضوان الله عنهم فقد ثبت بإسناد صحيح أن عائشة رضي الله عنها كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلى فلا تخرج منه الزكاة وروى الدارقطني بإسناده عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها كانت تحلي بناتها بالذهب ولا
__________
(1) سورة التوبة الآية 34
(2) سورة التوبة الآية 34
(3) سنن النسائي الزكاة (2479) ، سنن أبو داود الزكاة (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (2/204) .
(4) سنن أبو داود الزكاة (1565) .
(5) سنن أبو داود الزكاة (1564) .(5/291)
تزكيه نحوا من خمسين ألفا وقال أبو عبيد في كتابه الأموال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه كان يزوج المرأة من بناته على عشرة آلاف فيجعل حليها من ذلك أربعة آلاف قال فكانوا لا يعطون عنه يعني الزكاة وقال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عمرو بن دينار قال سئل جابر بن عبد الله: أفي الحلي زكاة؟ قال: لا، قيل: وإن بلغ عشرة آلاف؟ قال: كثير، وأجابوا عن الأحاديث الواردة نصا في وجوب الزكاة تفيد بأن في أسانيدها ما يضعف الاحتجاج بها فقد وصفها ابن حزم في المحلى بأنها آثار واهية لا وجه للاشتغال بها، وقال الترمذي بعد روايته حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: لا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء وقال ابن بدر الموصلي في كتابه المغني عن الحفظ والكتاب فيما لم يصح فيه شيء من الأحاديث في الباب باب زكاة الحلي قال المصنف لا يصح في هذا الباب شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاء عن الشوكاني في السيل الجرار تعليقا على كتاب المغني عن الحفظ والكتاب لم يرد في زكاة الحلي حديث صحيح وقال بعضهم زكاته عاريته، وبالله التوفيق.(5/292)
السؤال الرابع: ما سبب اختلاف ألوان عباد الله من أحمر إلى أبيض إلى أسود إلى غير ذلك؟
والجواب: اختلاف ألوان عباد الله من أبيض إلى أسود إلى أصفر إلى غير ذلك من الألوان آية من آيات الله تبارك وتعالى - قال تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} (1) فهذا الاختلاف في الألوان من البياض والسواد والحمرة والشكل في الخلق مما لا يكاد يوجد إلا ومعه فارق وليس هذا الاختلاف من فعل النطفة ولا من فعل الأبوين فلا بد من فاعل ينسب له هذا التدبير فعلم أنه هو الله تبارك وتعالى، وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة الروم الآية 22(5/292)
حكم الصلاة على السجاد المحلى بالصور(5/292)
فتوى رقم 75 وتاريخ 22 - 4 - 1392 هـ
ما حكم الصلاة على السجادة التي فيها صور المساجد والقباب التي على القبور والمنارات وأمثالها؟ فأجابت اللجنة بما يلي:
إن تصوير ما ليس فيه روح جائز والصلاة على السجادة التي فيها صور ما لا روح فيه لا تجوز لما في ذلك من شغل المصلي في صلاته لكنها صحيحة لما رواه أحمد وأبو داود من طريق «عثمان بن طلحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاه بعد دخلوه الكعبة فقال إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في قبلة البيت شيء يلهي المصلي (1) » . وروى أحمد والبخاري من طريق أنس قال: «كان قرام لعائشة قد سترت به جانب بيتها فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - أميطي عني قرامك هذا فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي (2) » فأمر بتخمير القرنين وإماطة القرام وبين أن ذلك مما يشغل المصلي ولم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع صلاته. وروى البخاري ومسلم «من طريق عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيمة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال: (اذهبوا بخيمتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بانجبانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي (3) » وفي هذا تحذير منه - صلى الله عليه وسلم - عما يلهي المصلي في صلاته ولكنه لم يقطع صلاته فدل ذلك على النهي عما يلهي في الصلاة وعلى صحة الصلاة مع ذلك وصلى الله على نبينا محمد وآله،،،.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/68) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (374) ، مسند أحمد بن حنبل (3/151) .
(3) صحيح البخاري الصلاة (373) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (556) ، سنن النسائي القبلة (771) ، سنن أبو داود الصلاة (914) ، مسند أحمد بن حنبل (6/177) ، موطأ مالك كتاب النداء للصلاة (220) .(5/293)
في الصلاة
فتوى رقم 93 وتاريخ 23 - 4- 1392 هـ
والسؤال: مأموم جاء متأخرا فأدرك الإمام في الركوع وكبر وركع مع الإمام قبل أن يرفع الإمام من الركوع فهل على ذلك المأموم أن يقضي تلك الركعة بعد سلام الإمام. انتهى؟
وبعد دراسة اللجنة لهذا الاستفتاء كتبت الجواب التالي: إذا كبر المأموم تكبيرة الإحرام قائما ثم ركع وأدرك الإمام في الركوع اجزأته تلك الركعة لحديث «أبي بكر رضي الله عنه أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - زادك الله حرصا ولا تعد (1) » رواه البخاري وزاد أبو داود فيه وركع دون الصف ثم مشى إلى الصف ولما رواه أبو داود عنه - صلى الله عليه وسلم - «من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة (2) » ، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه،،،.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (783) ، سنن النسائي الإمامة (871) ، سنن أبو داود الصلاة (684) ، مسند أحمد بن حنبل (5/42) .
(2) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (580) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (608) ، سنن الترمذي الصلاة (186) ، سنن النسائي المواقيت (517) ، سنن أبو داود الصلاة (412) ، سنن ابن ماجه الصلاة (699) ، مسند أحمد بن حنبل (2/459) ، موطأ مالك وقوت الصلاة (5) ، سنن الدارمي الصلاة (1222) .(5/294)
ما حكم تارك الصلاة
فتوى رقم 141 وتاريخ 29 - 5 -1392 هـ
السؤال: ما حكم تارك الصلاة؟ وما حكم فعلها مع الجماعة؟
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء كتبت الجواب التالي: الصلاة آكد الأركان الخمسة بعد الشهادتين فمن تركها جاحدا لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين ومن تركها تهاونا وكسلا فالصحيح من أقوال العلماء أنه يكفر والأصل في ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة (1) » وما رواه الإمام أحمد في المسند والترمذي في الجامع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (2) » ، وأما فعلها جماعة فواجب وجوب عين والأصل في ذلك الكتاب والسنة فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} (3) الآية فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بإقامة الصلاة جماعة في حال الخوف يدل على أنها في غيره أولى، وأما السنة فما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل أعمى فقال يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرخص له فرخص له فلما ولى دعاه، فقال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب (4) » وفي رواية لأحمد: «لا أجد لك رخصة (5) » ووجه الدلالة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرخص لهذا الأعمى فإذا كان هذا الأعمى لم يجد له النبي - صلى الله عليه وسلم - رخصة فالبصير أولى بألا تكون له رخصة ويؤيد هذا ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من همه بالتحريق بالنار لأقوام تخلفوا عن الصلاة جماعة في المسجد إذ غير جائز أن يهدد من تخلف عن ندب أو فرض كفاية. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،،،.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/370) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(3) سورة النساء الآية 102
(4) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (653) ، سنن النسائي الإمامة (850) .
(5) سنن النسائي الإمامة (851) ، سنن أبو داود الصلاة (552) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (792) ، مسند أحمد بن حنبل (3/423) .(5/295)
الشرط - قضاء الفريضة
فتوى رقم 245 وتاريخ 12 - 9 - 1392 هـ
السؤال الأول: يسأل سائل عن تعريف الشرط في الأصول؟
والجواب: الشرط هو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، أي هو الذي يلزم من فقده الشيء المشروط به كالصلاة مثلا فمن شروطها الإسلام فمتى انتفت صفة الإسلام في العبد لم تصح صلاته وإن صلى فهذا الشرط حينما عدم عدم المشروط وهو الصلاة، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم بمعنى أن الشرط إذا كان موجودا فلا يستلزم وجوده المشروط ولا عدمه فقد يوجد الشرط ولا يوجد المشروط وقد يوجد الشرط ويوجد المشروط، فالصلاة مثلا من شروط صحتها دخول الوقت فإذا دخل وقت الصلاة في ذلك تعين على من كان أهلا لوجوبها أداؤها ولكن قد لا يؤديها إما لتعذر أدائها أو أنه ليس أهلا لوجوبها وبهذا يتضح معنى ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم. والله أعلم.(5/296)
السؤال الثاني: من كان عليه قضاء فريضة وحضرت الفريضة الثانية فهل يجوز أن يصلي الثانية قبل الأولى؟
والجواب: من فاتته صلاة لزمه قضاؤها على الفور مرتبة قلت أو كثرت لما روى جابر بن عبد الله «أن عمر جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش وقال: يا رسول الله، ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما صليتها فتوضأ وتوضأنا فصلى العصر بعدما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب (1) » متفق عليه. فإن خشي فوات الحاضرة بخروج وقتها أو بفوات جماعة إقامتها أو نسي الترتيب سقط وجوبه أما بالنسبة لخشية فوات الحاضرة فيسقط الترتيب لئلا يترتب على الأخذ به فواتها وأما بالنسبة لنسيان الترتيب فلعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (2) » ، وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم،،،.
__________
(1) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (596) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (631) ، سنن الترمذي الصلاة (180) ، سنن النسائي السهو (1366) .
(2) سنن ابن ماجه الطلاق (2043) .(5/297)
في
الوضوء - الصلاة - الإمامة - الطواف
فتوى رقم 296 وتاريخ 22 - 11 - 1392 هـ
الأول - لو توضأ إنسان وبيده جرح لا يصله الماء وكان يتيمم عنه ونسي وصلى بدون تيمم فذكر وهو في صلاته فتيمم دون أن يقطع الصلاة واستمر بصلاته فما حكم هذه الصلاة هل هي باطلة أو صحيحة؟
والجواب: إذا كان في موضع من مواضع الوضوء جرح ولا يمكن غسله ولا مسحه لأن ذلك يؤدي إلى أن هذا الجرح يزداد أو يتأخر برؤه فالواجب على هذا الشخص هو التيمم فمن توضأ تاركا موضع الجرح ودخل في الصلاة وذكر في أثنائها أنه لم يتيمم فإنه يتيمم ويستأنف الصلاة لأن ما مضى من صلاته قبل التيمم غير صحيح ومنه تكبيرة الإحرام فلم يصح دخوله في الصلاة أصلا لأن الطهارة شرط من شروط صحة الصلاة وترك موضع من مواضع الوضوء أو ترك جزء منه لا يكون الوضوء معه صحيحا، ولما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا في قدمه قدر الدرهم لم يصبه الماء أمره بإعادة الوضوء وهذا الشخص المسؤول عنه لما تعذر الغسل والمسح في حقه وجب الانتقال إلى البدل الذي هو التيمم لعموم قوله تعالى:(5/298)
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (1) ولقصة صاحب الشجة ففي رواية ابن عباس عن ابن ماجه قال - صلى الله عليه وسلم - «لو غسل جسده وترك رأسه حيث أصاب الجرح (2) » وفي رواية أبي داود عن جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما كان يكفيه أن يتيمم (3) » ، الحديث فإذا كان هذا الشخص الذي سئل عنه لم يعد تلك الصلاة فإنه يعيدها.
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) سنن أبو داود الطهارة (337) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (572) ، مسند أحمد بن حنبل (1/330) ، سنن الدارمي الطهارة (752) .
(3) سنن أبو داود الطهارة (336) .(5/299)
الثاني: لو أن أناسا ذهبوا مسافرين وأرادوا الصلاة لوقتي المغرب والعشاء وهو معلوم أنه يجمع صلاتي المغرب والعشاء فجاء رجل منهم وقد فاتته الصلاة الأولى وهم يصلون الثانية ولا يعلم ما هم فيه من الصلاتين فما الحكم هل يصلي أم ينتظر حتى تقضى الصلاة ويسأل أم يكبر ويصلي أم ماذا يفعل؟
والجواب: حيث ذكر السائل أن هؤلاء السفر لو دخلوا في صلاة المغرب والعشاء وجاء هذا الشخص ووجدهم يصلون ويدري أنها الثانية أو لا يدري فماذا يفعل فإن كان يدري أنهم يصلون الثانية ويخشى خروج الوقت فإنه يدخل معهم على أنها الثانية محافظة على أدائها في وقتها ثم بعد فراغه منها يصلي الأولى وهو بهذا قد اتقى الله ما استطاع وإن دخل معهم على نية الأولى فتبين له أنها الثانية فصلاته تقع عن الأولى فإن كانوا قد أتوا بركعة يأتي مع الإمام بالركعة الثانية ويجلس معه في التشهد من باب المتابعة فإذا سلم الإمام يقوم هذا الشخص ويأتي بركعة ثم يجلس للتشهد الأول ثم بعد ذلك يأتي بالركعة الثالثة ثم يتشهد ويسلم ثم يصلي صلاة العشاء، وإن أدرك الركعة الأولى أتى بالثالثة بعد سلام الإمام ثم تشهد وسلم ثم يأتي بصلاة العشاء.(5/299)
الثالث: لو أن إنسانا بدأ الطواف بالبيت العتيق ثم طاف ثلاثة أشواط أو أربعة وما تيسر ثم أقيمت الصلاة فماذا يفعل هل يقطع الطواف أم يكمل وإذا قطعه فهل يبني على ما طاف أولا أم يبدأ من جديد؟
والجواب: إذا أقيمت الصلاة وهو في أثناء الطواف فإنه يصلي وبعد فراغه من صلاته يكمل ما بقي من طوافه ولكن لا يعتد بالشوط الأخير من الأشواط التي قبل الصلاة إذا كان هذا الشوط غير كامل والشوط الكامل هو ما كان من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود فإذا لم يكن كاملا بدأ من الحجر الأسود وهذا فيه فيه احتياط وخروج من الخلاف.(5/299)
الرابع: ما حكم قراءة الإمام بسورة أو آيات فيها سجدة بصلاة سرية كصلاة الظهر أو العصر؟
والجواب: يكره للإمام قراءة سجدة في صلاة سرية لأنه لا يخلو حينئذ إما أن يسجد لها أو لا فإن لم يسجد لها كان تاركا للسنة وإن سجد لها أدخل الإبهام والتخليط على المأمومين فكان ترك السبب المفضي إلى ذلك أولى فإن قرأ فلا يسجد لأنه يخلط على المأمومين.(5/300)
الخامس: ما حكم إمامة متنفل لمفترض أي لو أن إنسانا صلى النافلة ثم جاء إنسان آخر يظنه يصلي الفريضة فصلى معه فلما تبين له أخيرا أنه على غير صواب أعاد الصلاة فهل تجزئه صلاته الأولى أم الثانية؟
والجواب: يجوز اقتداء مفترض بمتنفل لقصة «معاذ كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بطائفة من أصحابه في صلاة الخوف ركعتين ثم سلم بهم ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعتين ثم سلم بهم (1) » رواه أبو داود وهو في الثانية متنفل.
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4137) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (843) ، مسند أحمد بن حنبل (3/390) .(5/300)
السادس: ما حكم الصلاة خلف من يحلق ذقنه أو يشرب الدخان أو جاهل أو سفيه لا يعلم القرآن؟
والجواب: أما إمامة شارب الدخان ومن يحلق ذقنه فإن كان هذا الإمام راتبا أو غير راتب ويمكن الصلاة خلف غيره - تعين صلاته خلف غيره وإذا كان لا يمكن الصلاة خلف غيره فإنه يصلي خلفه لإدراك فضيلة الجماعة لكن هذا الإمام إذا كان راتبا وأمكن أن يتبدل بغيره ممن هو أولى منه تعين ذلك وإذا كان لا يمكن للعدم أو لما يترتب على تنحيته عن الإمامة من المفاسد العظيمة فإنه يبقى تفويتا لأدنى المصلحتين من أجل حصول أعلاهما وارتكاب أخف المفسدتين لتفويت أعلاهما وأما إمامة الجاهل والسفيه فقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا (1) » ، وفي رواية سلمان «ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه (2) » إذا علم ذلك فلا يصح إمامة الجاهل إلا بمن هو مثله مع عدم وجود من يصلح للإمامة.
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (673) ، سنن الترمذي الصلاة (235) ، سنن النسائي الإمامة (780) ، سنن أبو داود الصلاة (582) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (980) ، مسند أحمد بن حنبل (4/121) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (673) ، سنن الترمذي الصلاة (235) ، سنن النسائي الإمامة (780) ، سنن أبو داود الصلاة (582) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (980) ، مسند أحمد بن حنبل (4/121) .(5/300)
السابع: ما الحكم لو دخل إنسان المسجد ووجدهم يصلون على جنازة في وقت ضيق كوقت المغرب وقد فاتته الصلاة فهل يصلي على الجنازة أم يصلي الفريضة؟
والجواب: يجوز له تقديم الصلاة على الجنازة إذا كان لا يخشى خروج وقت الفريضة لأن الصلاة على الجنازة تفوت وصلاة الفريضة لا تفوت ففيه جمع بين فضيلتين فإن خشي خروج الوقت فإنه يبدأ بصلاة الفريضة ويترك الصلاة على الجنازة لأن صلاة الجنازة فرض كفاية وقد تؤدى بمن صلى عليها والوقت شرط للصلاة ولكنه موسع إلى أن يبقى ما يكفي لفعلها فيكون مضيقا فيتعين عليه فعل الصلاة المفروضة حينئذ، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم،،،.(5/301)
كيفية تحديد مواقيت الصلاة
فتوى رقم 1668 وتاريخ 24 - 9 - 1397 هـ
يسأل سائل عن كيفية تحديد مواقيت الصلاة؟
وأجابت اللجنة بما يلي: أوقات الصلوات الخمس معروفة من دين الإسلام بالضرورة تناقلها خلف هذه الأمة عن سلفها ممن تلقوها عن صاحب الرسالة العظمى صلوات الله وسلامه عليه فقد أجمع المسلمون على أن الصلوات الخمس مؤقتة بمواقيت معلومة محددة وورد في بيانها أحاديث صحاح أبانت مجموعها أن وقت الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل الشيء مثله بعد الفيء الذي زالت عليه الشمس ووقت العصر حين يصير ظل الشيء مثله بعد فيء الزوال إلى أن يصير مثليه أو إلى اصفرار الشمس وهذا هو وقت الاختيار لها ووقت الاضطرار من ذلك إلى غروب الشمس ووقت المغرب من غروب الشمس إلى أن يغيب الشفق الأحمر ووقت العشاء من غيبوبة الشفق الأحمر إلى نصف الليل وهذا وقت الاختيار لها ووقت الاضطرار من نصف الليل إلى طلوع الفجر ومن الأحاديث الواردة في ذلك:
1 - كما جاء في الصحيحين «أن عمر بن عبد العزيز أخر العصر شيئا فقال له عروة بن الزبير: أما إن جبريل قد نزل فصلى أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له عمر أعلم ما تقول يا عروة فقال(5/302)
سمعت بشير بن مسعود يقول سمعنا أبا مسعود يقول سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول نزل جبريل فأمني فصليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه يحسب بأصابعه خمس صلوات (1) » . لفظ مسلم.
2 - حديث تفاصيل إمامة جبريل عليه السلام للنبي - صلى الله عليه وسلم - رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم ولفظ النسائي.
عن جابر بن عبد الله «أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه مواقيت الصلاة فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس وأتاه حين كان الظل مثل شخصه فصنع كما صنع فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العصر ثم أتاه حين وجبت الشمس فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى المغرب ثم أتاه حين غاب الشفق فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العشاء ثم أتاه حين انشق الفجر فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الغداة ثم أتاه اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه فصنع مثل ما صنع بالأمس فصلى الظهر ثم أتاه حين كان ظل الرجل مثل شخصيه فصنع كما صنع بالأمس فصلى العصر ثم أتاه حين وجبت الشمس فصنع كما صنع بالأمس فصلى المغرب فنمنا ثم قمنا ثم نمنا ثم قمنا فأتاه فصنع كما صنع بالأمس فصلى العشاء ثم أتاه حين امتد الفجر وأصبح والنجوم بادية مشتبكة فصنع كما صنع بالأمس فصلى الغداة ثم قال ما بين هاتين الصلاتين وقت (2) » .
3 - روى مسلم رحمه الله عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس (3) » .
4 - روى البخاري ومسلم رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر (4) » .
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3221) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (610) ، سنن أبو داود الصلاة (394) ، مسند أحمد بن حنبل (5/274) ، موطأ مالك كتاب وقوت الصلاة (2) ، سنن الدارمي الصلاة (1185) .
(2) سنن النسائي المواقيت (513) ، مسند أحمد بن حنبل (3/331) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (612) ، سنن النسائي المواقيت (522) ، سنن أبو داود الصلاة (396) ، مسند أحمد بن حنبل (2/210) .
(4) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (579) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (608) ، سنن الترمذي الصلاة (186) ، سنن النسائي المواقيت (517) ، سنن أبو داود الصلاة (412) ، سنن ابن ماجه الصلاة (699) ، مسند أحمد بن حنبل (2/459) ، موطأ مالك وقوت الصلاة (5) ، سنن الدارمي الصلاة (1222) .(5/303)
وهذه المواقيت المبينة عامة لجميع أقطار الأرض ولكل بلد حكمها حسب زوال الشمس بها وغروبها بها وطلوع فجرها سواء تقارب ما بين أوقاتها المبينة أو تباعد بشكل دائم أو في بعض الأوقات.
والله ولي التوفيق وصلى الله على محمد وآله.(5/304)
في الصلاة
فتوى رقم 1689 وتاريخ 11 - 11 - 1397 هـ
يسأل سائل إذا حصل الرجل الإمام خاضعا في ركوع الهواء ولم يبق غير قول سمع الله لمن حمده فهل تجب علي قراءة الفاتحة أم أتابع الإمام؟
وبعد دراسة اللجنة للسؤال أجابت بما يلي:
من دخل والإمام راكع ثم ركع معه قبل أن يرفع فقد أدرك الركعة والأصل في ذلك «حديث أبي بكر الثقفي رضي الله عنه أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال زادك الله حرصا ولا تعد (1) » رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وابن حبان وهذا الحديث واضح في اعتبار الركعة إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بقضائها مع أن أبا بكر رضي الله عنه لم يقرأ الفاتحة ولو كان هذا من خصوصياته لنبه عليه - صلى الله عليه وسلم - والأصل في التشريع هو العموم وبهذا قال الأئمة الأربعة وجمهور أهل العلم وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (783) ، سنن النسائي الإمامة (871) ، سنن أبو داود الصلاة (684) ، مسند أحمد بن حنبل (5/42) .(5/305)
ترك الصلاة طيلة وجوده في الجامعة
فتوى رقم 1700 وتاريخ 11 - 11 - 1397 هـ
شاب مسلم عاقل كان يصلي قبل دخوله الجامعة ثم ترك الصلاة طيلة وجوده في الجامعة وهي أربع سنوات ثم تاب وعاد للصلاة بعد تخرجه من الجامعة ما حكم السنوات الأربع التي ترك فيها الصلاة مع العلم أن الشاب لم ينكر فرضية الصلاة هل يقضي صلاة الأربع سنوات الفائتة أم أن التوبة كافية ما حكم الإسلام في ذلك وإذا كان هناك اختلاف في المذاهب فنرجو توضيح ذلك.؟
وبعد دراسة اللجنة للسؤال أجابت بما يلي:
الصحيح من أقوال العلماء - فيما نعلم - أن من ترك الصلاة عمدا لا يقضي ما فات وقته منها لقوله تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (1) فذكر سبحانه أن الصلاة المفروضة موقوته
__________
(1) سورة النساء الآية 103(5/306)
بأوقات وبينها جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام عقب ليلة المعراج وحددها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته عملا وقولا فلا تشرع صلاتها في غير أوقاتها ولا تصح. ولأن الصحيح من أقوال العلماء - فيما نعلم - أن تاركها كافر فإذا تاب لم يقض ما مضى أيام كفره من العبادات الموقوتة وإذا كان صادقا في توبته فإنه يرجى له الخير وليكثر من أفعال البر ونوافل الخير ويؤيد ذلك مفهوم الخطاب من قوله - صلى الله عليه وسلم - «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها (1) » ومفهومه أن العامد ليس كذلك.
ولا يصح قياس العامد على النائم والناسي لأن العامد غير معذور فلم يجعل له وقت آخر يستدرك فيه ما فاته والنائم والناسي معذوران فجعل لهما وقت آخر يستدركان فيه ما فاتهما.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (597) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (684) ، سنن الترمذي الصلاة (178) ، سنن النسائي المواقيت (613) ، سنن أبو داود الصلاة (442) ، سنن ابن ماجه الصلاة (696) ، مسند أحمد بن حنبل (3/269) ، سنن الدارمي الصلاة (1229) .(5/307)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الله تعالى قال: من عاد لي وليا. فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلى مما افترضت عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه (1) »
رواه البخاري
" آذنته " أعلمته بأني محارب له " استعاذني " روي بالنون وبالباء.
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6502) .(5/308)
حادث المسجد الحرام
وأمر
المهدي المنتظر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فإن الحادثة النكراء والجريمة الشنعاء التي قام بها جماعة من المسلحين بعد صلاة الفجر من يوم الثلاثاء الموافق 1 \ 1 من عام 1400 هجرية باقتحامهم المسجد الحرام وإطلاقهم النار بين الطائفين والقائمين والركع السجود في بيت الله الحرام أقدس بقعة وآمنها قد أقضت مضاجع العالم الإسلامي وألهبت مشاعره وقابلها بالاستنكار الشديد وما ذاك إلا لأنها عدوان على البيت الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا وانتهاك لحرمته وحرمات البلد الأمين والشهر الحرام وترويع للمسلمين وإشعال لنار الفتنة وخروج على ولي أمر البلاد بغير حق.
ولا شك أن هذا الإجرام يعتبر من الإلحاد في حرم الله الذي قال الله فيه {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) ويعتبر ترويعا للمسلمين وإيذاء لهم وظلما وعدوانا وقد قال الله عز وجل {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (2) وقال سبحانه {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} (3) وقال عز وجل {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} (4) يضاف إلى ذلك
__________
(1) سورة الحج الآية 25
(2) سورة الأحزاب الآية 58
(3) سورة الفرقان الآية 19
(4) سورة الشورى الآية 8(5/309)
حملهم السلاح وإطلاقهم النار على رجال الأمن الذين أرادوا إطفاء فتنتهم وحماية المسلمين من شرهم وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من حمل علينا السلاح فليس منا (1) » ونهى عن حمل السلاح في الحرم وقال عليه الصلاة والسلام: «إن هذا البلد حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يسفك فيه دم ولا يعضد فيه شجره (2) » وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «إن هذا البلد لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي وإنما أحل لي ساعة من نهار وقد عادت حرمته اليوم كحرمته بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب (3) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وقد تعدى شر هذه الفتنة وضررها إلى كثير من الحجاج وغيرهم يضاف إلى ذلك إغلاقهم أبواب المسجد الحرام ومنعهم بذلك الداخلين والخارجين، وبذلك تدخل هذه الطائفة تحت قوله عز وجل {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (4) وبالجملة فقد حصل بهذه الحادثة الشنيعة ظلم كثير وفساد عظيم وبلاء كبير ولا نعلم أنه مر بالمسجد الحرام مثل هذه الحادثة لا في الجاهلية ولا في الإسلام. أما تبريرهم لظلمهم وعدوانهم وفسادهم الكبير بأنهم أرادوا إعلان البيعة لمن زعموه المهدي فهذا تبرير فاسد وخطأ ظاهر وزعم لا دليل عليه ولا يجوز أن يستحلوا به حرمة المسجد الحرام وحرمة المسلمين الموجودين فيه ولا يبيح لهم حمل السلاح وإطلاق النار على رجال الأمن ولا غيرهم لأن المهدي المنتظر من الأمور الغيبية التي لا يجوز لأي مسلم أن يجزم بأن فلان ابن فلان هو المهدي المنتظر لأن ذلك تقول على الله وعلى رسوله بغير علم ودعوى لأمر قد استأثر الله به حتى تتوافر العلامات والأمارات التي أوضحها النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أنها وصف المهدي وأهمها وأوضحها أن تستقيم ولايته على الشريعة وأن يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا مع توافر العلامات الأخرى وهي كونه من بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكونه أجلى الجبهة أقنى الأنف وكون اسمه واسم أبيه يوافق اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - واسم أبيه وبعد توافر هذه الأمور كلها يمكن المسلم أن يقول أن من هذه صفته هو المهدي. .
أما اعتماد المنامات في إثبات كون فلان هو المهدي فهو مخالف للأدلة الشرعية ولإجماع أهل العلم، والإيمان لأن المرائي مهما كثرت لا يجوز الاعتماد عليها في خلاف ما ثبت به الشرع المطهر لأن الله سبحانه أكمل لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولأمته الدين وأتم عليهم النعمة قبل وفاته علية الصلاة والسلام فلا يجوز لأحد أن يعتمد شيئا من الأحلام في مخالفة شرعه عليه الصلاة والسلام، ثم إن المهدي قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يحكم بالشرع المطهر فكيف يجوز له ولأتباعه انتهاك حرمة المسجد الحرام وحرمة المسلمين وحمل السلاح عليهم بغير حق وكيف يجوز له الخروج على دولة قائمة قد اجتمعت على رجل واحد وأعطته البيعة الشرعية فيشق عصاها ويفرق جمعها وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: «من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه كائنا من كان (5) »
__________
(1) صحيح البخاري الديات (6874) ، صحيح مسلم الإيمان (98) ، سنن النسائي تحريم الدم (4100) ، سنن ابن ماجه الحدود (2576) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) .
(2) صحيح البخاري الجزية (3189) ، صحيح مسلم الحج (1353) ، سنن النسائي مناسك الحج (2875) ، سنن أبو داود المناسك (2017) ، مسند أحمد بن حنبل (1/316) .
(3) صحيح البخاري الحج (1832) ، صحيح مسلم الحج (1354) ، سنن الترمذي كتاب الحج (809) ، سنن النسائي مناسك الحج (2876) ، مسند أحمد بن حنبل (4/31) .
(4) سورة البقرة الآية 114
(5) صحيح مسلم الإمارة (1852) ، سنن النسائي تحريم الدم (4021) ، سنن أبو داود السنة (4762) ، مسند أحمد بن حنبل (4/261) .(5/310)
خرجه مسلم في صحيحه «ولما بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بايعهم أن لا ينازعوا الأمر أهله وقال: " إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان (1) » وهذه الدولة بحمد الله لم يصدر منها ما يوجب الخروج عليها وإنما الذي يستبيح الخروج على الدولة بالمعاصي هم الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالذنوب ويقاتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان وقد قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية (2) » ، قال: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة (3) » متفق عليه. والأحاديث في شأنهم كثيرة معلومة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «من رأى من أميره شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة فإن من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية (4) » وقال عليه الصلاة والسلام في حديث الأشعري ": «وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن الجهاد. والسمع والطاعة. والهجرة. والجماعة، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع (5) »
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وقد صدر من علماء المملكة فتوى في هذه الحادثة والقائمين بها وأنا من جملتهم وقد نشرت في الصحف المحلية وأذيعت بواسطة الإذاعة المرئية والمسموعة وفيها الكفاية إن شاء الله والاقتناع لطالب الحق وإنما أردت بكلمتي هذه مزيد الإيضاح والبيان لخطأ هذه الطائفة وظلمها وعدوانها فيما فعلت وغلطها فيمن زعمت أنه المهدي أما إنكار المهدي المنتظر بالكلية كما زعم ذلك بعض المتأخرين فهو قول باطل لأن أحاديث خروجه في آخر الزمان وأنه يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا قد تواترت تواترا معنويا وكثرت جدا واستفاضت كما صرح بذلك جماعة العلماء بينهم أبو الحسن الآبري السجستاني من علماء القرن الرابع والعلامة السفاريني والعلامة الشوكاني وغيرهم وهو كالإجماع من أهل العلم، ولكن لا يجوز الجزم بأن فلانا هو المهدي إلا بعد توافر العلامات التي بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الثابتة وأعظمها وأوضحها كونه يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما كما سبق بيان ذلك. ونسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين ويمنحهم الفقه في الدين وأن يوفق ولاة أمرهم للحكم بشريعته والتحاكم إليها والحذر من كل ما خالفها وأن يحسن العاقبة للمسلمين إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. .
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الفتن (7056) ، صحيح مسلم الإمارة (1709) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2866) ، موطأ مالك الجهاد (977) .
(2) صحيح البخاري كتاب المناقب (3611) ، صحيح مسلم الزكاة (1066) ، سنن النسائي تحريم الدم (4102) ، سنن أبو داود السنة (4767) ، مسند أحمد بن حنبل (1/88) .
(3) صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6930) ، صحيح مسلم الزكاة (1066) ، سنن النسائي تحريم الدم (4102) ، سنن أبو داود السنة (4767) ، مسند أحمد بن حنبل (1/131) .
(4) صحيح البخاري الفتن (7053) ، صحيح مسلم الإمارة (1849) ، مسند أحمد بن حنبل (1/310) ، سنن الدارمي السير (2519) .
(5) سنن الترمذي الأمثال (2863) ، مسند أحمد بن حنبل (4/130) .(5/311)
عن أنس رضي الله عنه قال «إنكم لتعملون أعمالا هي، أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من " الموبقات (1) »
رواه البخاري
" الموبقات " المهلكات
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6492) ، مسند أحمد بن حنبل (3/157) .(5/312)
وجوب العمل
بسنة الرسول
- صلى الله عليه وسلم - وكفر من أنكرها
تأليف الفقير إلى عفو ربه: عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد المرسل رحمة للعالمين وحجة على العباد أجمعين وعلى آله وأصحابه الذين حملوا كتاب ربهم سبحانه وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - إلى من بعدهم بغاية الأمان والإتقان والحفظ التام للمعاني والألفاظ رضي الله عنهم وأرضاهم وجعلنا من أتباعهم بإحسان.
أما بعد:
فقد أجمع العلماء قديما وحديثا على أن الأصول المعتبرة في إثبات الأحكام، وبيان الحلال والحرام في كتاب الله العزيز الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. ثم إجماع علماء الأمة. واختلف العلماء في أصول أخرى أهمها القياس وجمهور أهل العلم على أنه حجة إذا استوفى شروطه المعتبرة، والأدلة على هذه الأصول أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر: -(5/313)
أما الأصل الأول: فهو كتاب الله العزيز وقد دل كلام ربنا عز وجل في مواضع من كتابه على وجوب اتباع هذا الكتاب والتمسك به والوقوف عند حدوده قال تعالى {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (1) وقال تعالى {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) وقال تعالى {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (3) {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (4) وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} (5) {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (6) وقال تعالى {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (7) وقال تعالى {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} (8) والآيات في هذا المعنى كثيرة وقد جاءت الأحاديث الصحاح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمرة بالتمسك بالقرآن والاعتصام به دالة على أن من تمسك به كان على الهدى ومن تركه كان على الضلال ومن ذلك ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: في خطبته في حجة الوداع: «إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به كتاب الله (9) » ، رواه مسلم في صحيحه وفي صحيح مسلم أيضا عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به (10) » فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي (11) » ، وفي لفظ قال في القرآن: «هو حبل الله من تمسك به كان على الهدى ومن تركه كان على الضلال (12) » .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وفي إجماع أهل العلم والإيمان من الصحابة ومن بعدهم على وجوب التمسك بكتاب الله والحكم به والتحاكم إليه مع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يكفي ويشفي عن الإطالة في ذكر الأدلة الواردة في هذا الشأن.
أما الأصل الثاني: من الأصول الثلاثة المجمع عليها فهو ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله وتقريره ولم يزل أهل العلم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم يؤمنون بهذا الأصل الأصيل ويحتجون به ويعلمونه الأمة وقد ألفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة وأوضحوا
__________
(1) سورة الأعراف الآية 3
(2) سورة الأنعام الآية 155
(3) سورة المائدة الآية 15
(4) سورة المائدة الآية 16
(5) سورة فصلت الآية 41
(6) سورة فصلت الآية 42
(7) سورة الأنعام الآية 19
(8) سورة إبراهيم الآية 52
(9) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن الترمذي المناقب (3786) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) .
(10) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2408) ، مسند أحمد بن حنبل (4/367) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3316) .
(11) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2408) ، مسند أحمد بن حنبل (4/367) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3316) .
(12) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2408) ، مسند أحمد بن حنبل (4/367) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3316) .(5/314)
ذلك في كتاب أصول الفقه والمصطلح والأدلة على ذلك لا تحصى كثرة فمن ذلك ما جاء في كتاب الله العزيز من الأمر باتباعه وطاعته وذلك موجه إلى أهل عصره ومن بعدهم لأنه رسول الله إلى الجميع ولأنهم مأمورون باتباعه وطاعته حتى تقوم الساعة ولأنه عليه الصلاة والسلام هو المفسر لكتاب الله والمبين لما أجمل فيه بأقواله وأفعاله وتقريره، ولولا السنة لم يعرف المسلمون عدد ركعات الصلوات وصفاتها وما يجب فيها ولم يعرفوا تفاصيل أحكام الصيام والزكاة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يعرفوا تفاصيل أحكام المعاملات والمحرمات وما أوجب الله به من حدود وعقوبات.
ومما ورد في ذلك من الآيات قوله تعالى في سورة آل عمران {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) وقوله تعالى في سورة النساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (2) .
وقال تعالى في سورة النساء أيضا {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (3) وكيف تمكن طاعته ورد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله إذا كانت سنته لا يحتج بها أو كانت كلها غير محفوظة وعلى هذا القول يكون الله قد أحال عباده إلى شيء لا وجود له وهذا من أبطل الباطل ومن أعظم الكفر بالله وسوء الظن، وقال عز وجل في سورة النحل {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (4) . وقال فيها أيضا آية {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (5) . فكيف يكل الله سبحانه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - تبيين المنزل إليهم وسنته لا وجود لها أو لا حجة فيها ومثل ذلك قوله تعالى في سورة النور آية {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (6) .
وقال تعالى في السورة نفسها {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (7) .
وقال في سورة الأعراف آية (158) {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (8) وفي هذه الآيات الدلالة الواضحة على أن الهداية والرحمة في اتباعه عليه الصلاة والسلام، وكيف يمكن ذلك مع عدم العمل بسنته أو القول بأنه لا صحة لها أو لا يعتمد عليها،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 132
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة النساء الآية 80
(4) سورة النحل الآية 44
(5) سورة النحل الآية 64
(6) سورة النور الآية 54
(7) سورة النور الآية 56
(8) سورة الأعراف الآية 158(5/315)
وقال عز وجل في سورة النور {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) وقال في سورة الحشر {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة وكلها تدل على وجوب طاعته عليه الصلاة والسلام واتباع ما جاء به كما سبقت الأدلة على وجوب اتباع كتاب الله والتمسك به وطاعة أوامره ونواهيه وهما أصلان متلازمان من جحد واحدا منهما فقد جحد الآخر وكذب به وذلك كفر وضلال وخروج عن دائرة الإسلام بإجماع أهل العلم والإيمان وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجوب طاعته واتباع ما جاء به وتحريم معصيته وذلك في حق من كان في عصره وفي حق من يأتي بعده إلى يوم القيامة ومن ذلك ما ثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله (3) » وفي صحيح البخاري عنه رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (4) » . وخرج أحمد وأبو داود والحاكم بإسناد صحيح عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه (5) »
وخرج أبو داود وابن ماجه بسند صحيح: عن ابن أبي رافع عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه (6) » .
وعن الحسن بن جابر قال: سمعت المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه يقول: «حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر أشياء ثم قال: يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ يحدث بحديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله (7) » أخرجه الحاكم والترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح. وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان يوصي أصحابه في خطبته أن يبلغ شاهدهم غائبهم ويقول لهم: رب مبلغ أوعى من سامع ومن ذلك ما في الصحيحين «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خطب الناس في حجة الوداع في يوم عرفة وفي يوم النحر قال لهم: فليبلغ الشاهد الغائب فرب من يبلغه أوعى له ممن سمعه (8) » ، فلولا أن سنته حجة على من سمعها وعلى من بلغته، ولولا أنها باقية إلى يوم القيامة لم يأمرهم بتبليغها، فعلم بذلك أن الحجة بالسنة قائمة على من سمعها من فيه عليه الصلاة والسلام وعلى من نقلت إليه بالأسانيد الصحيحة.
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2957) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، سنن النسائي الاستعاذة (5510) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2859) ، مسند أحمد بن حنبل (2/387) .
(4) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .
(5) سنن الترمذي العلم (2664) ، سنن أبو داود السنة (4604) ، سنن ابن ماجه المقدمة (12) .
(6) سنن الترمذي العلم (2663) ، سنن أبو داود السنة (4605) ، سنن ابن ماجه المقدمة (13) ، مسند أحمد بن حنبل (6/8) .
(7) سنن الترمذي العلم (2664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (12) ، سنن الدارمي المقدمة (586) .
(8) صحيح البخاري الحج (1741) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .(5/316)
وقد حفظ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنته القولية والفعلية وبلغوها من بعدهم من التابعين ثم بلغها التابعون من بعدهم، وهكذا نقلها العلماء الثقات جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن، وجمعوها في كتبهم وأوضحوا صحيحها من سقيمها، ووضعوا لمعرفة ذلك قوانين وضوابط ملعومة بينهم يعلم بها صحيح السنة من ضعيفها وقد تداول أهل العلم كتب السنة من الصحيحين وغيرهما وحفظوها حفظا تاما كما حفظ الله كتابه العزيز من عبث العابثين وإلحاد الملحدين وتحريف المبطلين تحقيقا لما دل عليه قوله سبحانه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) ولا شك أن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحي منزل فقد حفظها الله كما حفظ كتابه وقيض الله لها علماء نقادا، ينفون عنها تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين ويذبون عنها كل ما ألصقه بها الجاهلون والكذابون والملحدون لأن الله سبحانه جعلها تفسيرا لكتابه الكريم وبيانا لما أجمل فيه من الأحكام وضمنها أحكاما أخرى لم ينص عليها الكتاب العزيز، كتفصيل أحكام الرضاع وبعض أحكام المواريث وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها إلى غير ذلك من الأحكام التي جاءت بها السنة الصحيحة ولم تذكر في كتاب الله العزيز.
" ذكر بعض ما ورد عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم في تعظيم السنة ووجوب العمل بها ": في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتد من ارتد من العرب قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فقال له عمر رضي الله عنه كيف تقاتلهم وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "، فقال أبو بكر الصديق: أليست الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها فقال عمر رضي الله عنه: فما هو إلا أن عرفت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق (2) » ، وقد تابعة الصحابة رضي الله عنهم على ذلك فقاتلوا أهل الردة حتى ردوهم إلى الإسلام وقتلوا من أصر على ردته وفي هذه القصة أوضح دليل على تعظيم السنة ووجوب العمل بها «وجاءت الجدة إلى الصديق رضي الله عنه تسأله عن ميراثها فقال لها: ليس لك في كتاب الله شيء ولا أعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى لك بشيء وسأسأل الناس ثم سأل رضي الله عنه الصحابة فشهد عنده بعضهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى الجدة السدس فقضى لها بذلك (3) » وكان عمر رضي الله عنه يوصي عماله أن يقضوا بين الناس بكتاب الله فإن لم يجدوا القضية في كتاب الله فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولما أشكل عليه حكم إملاص المرأة وهو إسقاطها جنينا ميتا بسبب تعدي أحد عليها سأل الصحابة رضي الله عنهم عن ذلك فشهد عنده محمد بن سلمة والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في ذلك بغرة عبد أو أمة فقضى بذلك رضي الله عنه. ولما أشكل على عثمان رضي الله عنه حكم اعتداد المرأة في بيتها بعد وفاة زوجها وأخبرته فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بعد وفاة زوجها أن تمكث في بيته حتى يبلغ الكتاب أجله قضى
__________
(1) سورة الحجر الآية 9
(2) صحيح البخاري الزكاة (1400) ، صحيح مسلم الإيمان (20) ، سنن الترمذي الإيمان (2607) ، سنن النسائي الجهاد (3092) ، سنن أبو داود الزكاة (1556) ، مسند أحمد بن حنبل (1/19) .
(3) سنن الترمذي الفرائض (2101) ، سنن أبو داود الفرائض (2894) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2724) ، موطأ مالك الفرائض (1098) .(5/317)
بذلك رضي الله عنه وهكذا قضى بالسنة في إقامة حد الشرب على الوليد بن عقبة ولما بلغ رضي الله عنه أن عثمان رضي الله عنه ينهى عن متعة الحج أهل علي رضي الله عنه بالحج والعمرة جميعا وقال: لا أدع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد من الناس ولما احتج بعض الناس على ابن عباس رضي الله عنهما في متعة الحج بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في تحبيذ إفراد الحج قال ابن عباس: يوشك أن تنزل حجارة من السماء أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون: قال أبو بكر وعمر، فإذا كان من خالف السنة لقول أبي بكر وعمر تخشى عليه العقوبة فكيف بحال من خالفها لقول من دونهما أو لمجرد رأيه واجتهاده، ولما نازع بعض الناس عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في بعض السنة قال له عبد الله: هل نحن مأمورون باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - أم باتباع عمر ولما قال رجل لعمر: إن ابن حصين رضي الله عنهما حدثنا عن كتاب الله وهو يحدثهم عن السنة غضب رضي الله عنه وقال: إن السنة هي تفسير كتاب الله ولولا السنة لم نعرف أن الظهر أربع والمغرب ثلاث والفجر ركعتان ولم نعرف تفصيل أحكام الزكاة إلى غير ذلك مما جاءت به السنة من تفصيل الأحكام، والقضايا عن الصحابة رضي الله عنهم في تعظيم السنة ووجوب العمل بها والتحذير من مخالفتها كثيرا جدا، ومن ذلك أيضا أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما حدث بقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله (1) » ، قال بعض أبنائه: والله لنمنعهن فغضب عليه عبد الله وسبه سبا شديدا وقال: أقول قال رسول الله وتقول والله لنمنعهن، ولما رأى عبد الله بن المغفل المزني رضي الله عنه وهو من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض أقاربه يحذف نهاه عن ذلك وقال له: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الحذف وقال إنه يصيب صيدا ولا ينكأ عدوا ولكنه يكسر السن ويفقأ العين (2) » ثم رآه بعد ذلك يحذف فقال والله لا كلمتك أبدا أخبرك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الحذف ثم تعود، وأخرج البيهقي عن أيوب السختياني التابعي الجليل أنه قال: إذا حدثت الرجل بسنة فقال: دعنا من هذا، وأنبئنا عن القرآن فاعلم أنه ضال، وقال الأوزاعي رحمه الله: السنة قاضية على الكتاب ولم يجئ الكتاب قاضيا على السنة ومعنى ذلك: أن السنة جاءت لبيان ما أجمل في الكتاب أو تقييد ما أطلقه أو بأحكام لم تذكر في الكتاب كما في قول الله سبحانه {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (3) وسبق قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه (4) » وأخرج البيهقي عن عامر الشعبي رحمه الله أنه قال لبعض الناس: " إنما هلكتم في حين تركتم الآثار " يعني بذلك الأحاديث الصحيحة وأخرج البيهقي أيضا عن الأوزاعي رحمه الله أنه قال لبعض أصحابه: إذا بلغك عن رسول الله حديث فإياك أن تقول بغيره فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مبلغا عن الله تعالى وأخرج البيهقي عن الإمام الجليل سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله أنه قال: إنما العلم كله بالآثار، وقال مالك رحمه الله: ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر وأشار إلى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا جاء الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلى الرأس والعين وقال الشافعي رحمه الله: متى رويت عن
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (900) ، صحيح مسلم الصلاة (442) ، سنن الترمذي الجمعة (570) ، سنن النسائي المساجد (706) ، سنن أبو داود الصلاة (568) ، سنن ابن ماجه المقدمة (16) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، سنن الدارمي المقدمة (442) .
(2) صحيح البخاري الأدب (6220) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1954) ، سنن النسائي القسامة (4815) ، سنن ابن ماجه الصيد (3227) ، مسند أحمد بن حنبل (5/56) ، سنن الدارمي المقدمة (440) .
(3) سورة النحل الآية 44
(4) سنن أبو داود السنة (4604) .(5/318)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا صحيحا فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب، وقال أيضا رحمه الله: إذا قلت قولا وجاء الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلافه فأضربوا بقولي الحائط، وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لبعض أصحابه: لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي وخذ من حيث أخذنا - وقال رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذهبون إلى رأي سفيان والله سبحانه يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) ثم قال: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله عليه الصلاة والسلام أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك وأخرج البيهقي عن مجاهد بن جبر التابعي الجليل أنه قال في قوله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (2) قال: الرد إلى الله الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول الرد إلى السنة وأخرج البيهقي عن الزهري رحمه الله أنه قال: كان من مضى من علمائنا يقول: الاعتصام بالسنة نجاة وقال موفق الدين بن قدامة رحمه الله في كتابه روضة الناظر: في بيان أصول الأحكام ما نصه، والأصل الثاني من الأدلة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة لدلالة المعجزة على صدقه وأمر الله بطاعته وتحذيره من مخالفة أمره انتهى المقصود، وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) أي عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائنا من كان كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (4) » أي فليخشى وليحذر من خالف شريعة الرسول باطنا وظاهرا: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} (5) أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (6) أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك: كما روى الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمون فيها قال فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار فتغلبوني وتقتحمون فيها (7) » أخرجاه من حديث عبد الرزاق وقال السيوطي رحمه الله في رسالته المسماة مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة ما نصه:
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة النور الآية 63
(4) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(5) سورة النور الآية 63
(6) سورة النور الآية 63
(7) صحيح البخاري الرقاق (6483) ، صحيح مسلم الفضائل (2284) ، مسند أحمد بن حنبل (2/540) .(5/319)
" اعلموا رحمكم الله أن من أنكر أن كون حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف في الأصول حجة كفر وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة " انتهى المقصود. والآثار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم في تعظيم السنة ووجوب العمل بها والتحذير من مخالفتها كثيرة جدا وأرجو أن يكون في ما ذكرنا من الآيات والأحاديث والآثار كفاية ومقنع لطالب الحق ونسأل الله لنا ولجميع المسلمين التوفيق لما يرضيه والسلامة من أسباب غضبه، وأن يهدينا جميعا صراطه المستقيم إنه سميع قريب.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه باحسان،،،،
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
في المملكة العربية السعودية(5/320)
بيان من هيئة كبار العلماء
بشأن الاعتداء على
المسجد الحرام
الحمد لله وحده وصلى وسلم على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد: -
فبمناسبة انعقاد مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخامسة عشرة في مدينة الرياض في النصف الأول من شهر صفر عام 1400 هـ. للنظر في الأعمال المدرجة في جدول أعمال هذه الدورة رأت الهيئة أن من واجبها إصدار بيان بشأن الاعتداء على المسجد الحرام من قبل الفئة المعتدية الضالة التي كفى الله المؤمنين شر عدوانها فتم القضاء عليها بفضل الله وكرمه فإن هيئة كبار العلماء بهذه المناسبة تستنكر من هذه الفئة الظالمة فعلها الآثم وعدوانها الغادر وتعتبرها بذلك قد ارتكبت عدة جرائم أهمها ما يلي: -
1) انتهاك حرم الله وجعله ميدانا للقتل والقتال وتحويله من حرم آمن إلى ساحة حرب تسوده الفوضى والفزع والاضطرابات والقتل والقتال متجاهلين ما في ذلك من الوعيد الشديد والإجرام البالغ.(5/321)
قال الله تعالى {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) . وفي صحيح البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرا فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقالوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب (2) » .
2) سفك دماء المسلمين في بلد الله الحرام مكة المكرمة وفي حرمه الآمن حيث قتل فيه على أيديهم وبسبب فتنتهم العشرات من المسلمين معصومي الدم والمال.
3) الإقدام على القتال في البلد الحرام وفي الشهر الحرام قال تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} (3) الآية.
4) الخروج على إمام المسلمين وولي أمرهم وهم مع إمامهم وتحت ولايته وسلطانه في حال من الاستقرار والتكاتف والتآلف والتناصح واجتماع الكلمة يحسدهم عليها كثير من شعوب العالم ودوله مستهينين بجريمة الخروج على ولي أمر المسلمين وخلع ما في أعناقهم له من بيعة نافذة جاهلين أو متجاهلين ما في ذلك من النصوص الشرعية من الكتاب والسنة قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (4) وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا تنازع الأمر أهله - قال - إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان (5) » .
__________
(1) سورة الحج الآية 25
(2) صحيح البخاري العلم (104) ، صحيح مسلم الحج (1354) ، سنن الترمذي كتاب الحج (809) ، سنن النسائي مناسك الحج (2876) ، مسند أحمد بن حنبل (4/31) .
(3) سورة البقرة الآية 217
(4) سورة النساء الآية 59
(5) صحيح البخاري الفتن (7056) ، سنن النسائي البيعة (4154) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2866) ، مسند أحمد بن حنبل (5/325) ، موطأ مالك الجهاد (977) .(5/322)
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية (1) » . ".
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه كائنا من كان (2) » .
5) التسبب في تعطيل حرم الله مدة اعتدائهم عليه من الشعائر الدينية من صلاة وذكر وطواف وتلاوة لكتاب الله وغير ذلك من أنواع العبادات حتى أنه مضى عليه جمعتان لم تصليا فيه ولم ترفع من مآذنه نداءات الصلاة جمعة وجماعة قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} (3) الآية.
6) التغرير بمجموعة من الأغرار والنساء والسذج وغيرهم بزجهم في حظيرة هذا الطغيان الآثم وتعريضهم لكثير من المآسي وصنوف المشقة والتسبب في قتل بعضهم.
7) الانقياد لداعي الهوى والضلال حيث قام من تولى كبر هذه الفتنة بالإشارة إلى أحدهم بأنه هو المهدي المنتظر وأعلن المطالبة بمبايعته مع انتفاء ما يدل على ذلك ووجود ما يكذبه.
وبناء على ما تقدم فإن هيئة كبار العلماء تعتبر هذه الفئة فئة ضالة آثمة لاعتدائها على حرم الله وعلى مسجده الحرام وسفكها الدم الحرام وقيامها بما يسبب فرقة المسلمين وشق عصاهم وبذلك دخلت تحت قوله سبحانه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (4) وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} (5) الآية (6) .
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1851) ، مسند أحمد بن حنبل (2/154) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1852) ، سنن النسائي تحريم الدم (4021) ، سنن أبو داود السنة (4762) ، مسند أحمد بن حنبل (4/261) .
(3) سورة البقرة الآية 114
(4) سورة الحج الآية 25
(5) سورة البقرة الآية 114
(6) تقدم ذكرها.(5/323)
والهيئة إذ ترى في هذه الفئة الظالمة هذا الرأي ترى أن في منشوراتها من الشبه الآثمة والتأويلات الباطلة والاتجاهات الضالة ما يعتبر بذور شر وفتنة وضلال وطريقا إلى الفوضى والاضطرابات والتلاعب بمصالح البلاد والعباد بدعاوى قد يغتر بعض السذج بظاهرها وفي بواطنها الشر المستطير وإذ تبين الهيئة ذلك وتستنكره فإنها تحذر المسلمين جميعا مما في تلك المنشورات من الشبه الآثمة والتأويلات الباطلة والاتجاهات السيئة كما أن الهيئة بهذه المناسبة وبمناسبة القضاء على فتنتهم من حكومة جلالة الملك خالد بن عبد العزيز حفظه الله ووفقه وأعانه على كل خير تشكر الله سبحانه وتعالى أن يسر أسباب القضاء عليها وتسأله تعالى أن يحمي هذه البلاد وبلاد المسلمين عامة من كل سوء وأن يجمع شملها على الحق ويعين ولاتها ويعزهم بالإسلام ويعز الإسلام بهم ويجعل لهم من البطانة الصالحة من إذا هموا بالخير أعانوهم عليه وإذا جهلوه أرشدوهم إليه وإذا نسوا ذكروهم إياه وأن يحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون من ظالم وحاقد وماكر وحاسد، وتقدر الهيئة الجهود العظيمة التي بذلتها الحكومة في القضاء على هذه الفتنة بطريقة اتسمت بالقوة والحكمة والبصيرة وتشكر كل من ساهم في القضاء عليها بيده أو لسانه أو قلمه وفي مقدمة هؤلاء جلالة الملك وولي عهده وأعوانه المخلصين والقوات العسكرية بمختلف مسمياتها ورتب أفرادها ونسأل الله سبحانه وتعالى لقتلاهم المغفرة والرحمة وجزيل الثواب ولأحيائهم الأجر العظيم والثبات على الحق والهدى والله حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الخامسة عشرة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد الله خياط ... محمد بن علي الحركان ... عبد الله بن محمد بن حميد
سليمان بن عبيد ... عبد العزيز بن صالح ... عبد الرزاق عفيفي
راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان(5/324)
حديث شريف
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر وقلوبهم قلوب ذئاب يقول الله عز وجل: أبي يغترون؟ أم علي يجترئون؟ فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيران (2) »
__________
(1) سنن الترمذي الزهد (2404) .
(2) أي يطلبون عمل الدنيا بعمل الآخرة. (1)(5/325)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1)
الآية 40 سورة الحج
__________
(1) سورة الحج الآية 40(6/1)
لجنة الإشراف سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الشيخ إبراهيم بن صالح آل الشيخ
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الفالح
الدكتور محمد بن سعد الشويعر
أشرف على التحرير جمال النهري
عبد الله البعادي
أحمد أبو شلباية
المراسلات: رئيس التحرير
مجلة البحوث الإسلامية
المملكة العربية السعودية - شارع الرياض
جنوب شارع عسير
تليفون: 4359712 - 4596062(6/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض
رئيس التحرير
محمد بن سعد الشويعر
الإشراف الفني
جمال النهري
البحوث الإسلامية مجلة فصلية اسلامية تعنى بالبحوث الإسلامية
العدد السادس 1402 هـ ربيع الثاني وجمادى الأولى والثانية(6/3)
المحتويات
1 الافتتاحية سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
أبحاث هيئة كبار العلماء
2 كتابة المصحف اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 11
3 حكم التسعير اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 51
4 حكم الذبائح المستوردة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 97
5 بطلان نكاح المتعة بمقتضى الكتاب والسنة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن زيد آل محمود 187(6/4)
6 بين فقيهين د. محمد رواس قلعجي 203
7 علامة الكيمياء الجلدكي د. علي عبد الله الدفاع 217
8 الإسقاط المكي للعالم د. حسين كمال الدين أحمد 225
9 من ملفات الإفتاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 245
10 إيضاحات وتنبيهات سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 281(6/5)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1)
الآية 54 سورة الحج
__________
(1) سورة الحج الآية 54(6/6)
الافتتاحية
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله رب العالمين. . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه وعلى آله وصحبه ومن نهج نهجه وسار على هديه إلى يوم الدين أما بعد.
فإن العلم بأحكام الله أمر ضروري ليسير العبد المسلم في عبادته لربه على هدى وبصيرة، ولا يمكن للإنسان المسلم أن يفهم دينه ويعمل به إلا إذا عرف أحكام هذا الدين وأولاها اهتمامه وعنايته وبذل جهده وطاقته للإلمام بها؛ لتكون لربه مبنية على أساس صحيح ومتين، ومن وفقه الله لمعرفة أحكام هذا الدين والأخذ بها فقد هدى إلى صراط مستقيم، وحصل على خير كثير، يقول سبحانه {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} (1) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} (2) يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله، وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا: «الحكمة القرآن» - يعني تفسيره قال ابن عباس: فإنه
__________
(1) سورة البقرة الآية 269
(2) سورة البقرة الآية 269(6/7)
قد قرأه البر والفاجر. رواه ابن مردويه وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد يعني بالحكمة الإصابة في القول، وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} (1) ليست بالنبوة ولكنه العلم والفقه والقرآن، وقال أبو العاليه: الحكمة خشية الله فإن خشية الله رأس كل حكمة، وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن عثمان بن زفر الجهني عن أبي عمار الأسدي عن ابن مسعود مرفوعا «رأس الحكمة مخافة الله» وقال أبو العالية في رواية عنه الحكمة الكتاب والفهم، وقال إبراهيم النخعي: الحكمة الفهم، وقال أبو مالك: الحكمة السنة، وقال وهب عن مالك قال زيد بن أسلم: الحكمة العقل، قال مالك: (إنه ليقع في قلبي أن الحكمة هي الفقه في دين الله وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله، ومما يبين ذلك أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا إذا نظر فيها وتجد آخر ضعيفا في أمر دنياه عالما بأمر دينه بصيرا به يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا فالحكمة الفقه في دين الله) اهـ. . . ولكي ندرك أهمية الفقه في دين الله وأنه نور لحامله والعامل به في الدنيا والآخرة ولكي ندرك أهميته وجدواه نجد النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » متفق عليه، ويقول عليه الصلاة والسلام: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (3) » رواه البخاري ومسلم. . ويقول - صلى الله عليه وسلم - «لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها (4) » رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه من طرق متعددة عن إسماعيل بن أبي خالد به.
ولقد برز حبر الأمة وترجمان القرآن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - في معرفة الدين فقها وتفسيرا، وتوسع بعلوم الشريعة ووعاها ببركة دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل (5) » إنها دعوة مباركة من رجل مبارك تقبلها الله من نبيه، ونعمة أنعم الله بها على ابن عباس - رضي الله عنه وأرضاه - وبرز في عهده وبعده أئمة أفذاذ في أصول
__________
(1) سورة البقرة الآية 269
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(3) صحيح البخاري العلم (79) ، صحيح مسلم الفضائل (2282) ، مسند أحمد بن حنبل (4/399) .
(4) صحيح البخاري العلم (73) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (816) ، سنن ابن ماجه الزهد (4208) ، مسند أحمد بن حنبل (1/432) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (1/266) .(6/8)
الدين وفروعه، يحملون أمانة التبليغ والدعوة ويؤدونها أحسن ما يكون الأداء، ويبصرون الناس بدين الإسلام سواء في حلقات الدرس والمذاكرة والإرشاد المنتشرة في بيوت الله أو فيما خلفوه من تراث علمي ومؤلفات قيمة في شتى فروع العلم الشرعي وغيره من العلوم الأخرى التي تخدم الشريعة وتربط بها، وهيأ الله ولاة صالحين يبذلون بسخاء في سبيل نشر العلم وتشجيع العلماء وطلاب العلم.
إن التفقه في الإسلام وما اشتمل عليه من أحكام يقتضي البحث والاطلاع لمعرفة حكم الله في كل قضية تعرض للمسلم في حياته فلا يتجاوز هذه القضية دون بحث واستقصاء ليصل إلى الحكم بالدليل من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والإجماع والقياس الجلي، والدين الإسلامي بحمد الله واضح لا غموض فيه ولا التباس في أحكامه وتشريعاته قد بينها الله في كتابه المبين وسنة رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - وحمل لواء هذه السنة وبينها ونافح عنها صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون وسلف الأمة وأئمة الشريعة وعلماؤها جيلا بعد جيل ثم تقاعس الكثير من الناس عن البحث والطلب والتحصيل واكتفوا بالتقليد لغيرهم فوقعوا في أغلاط كثيرة في العقيدة والأحكام، ولقد أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى الصراط المستقيم وهو طريق المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء - والصالحين الذين علموا فعملوا، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم وهم الذين عرفوا الحق واتبعوا أهواءهم وهم اليهود ومن على شاكلتهم، وأن يجنبنا طريق الضالين وهم الذين جهلوا الحق وهم النصارى ومن على شاكلتهم.
أيها الإخوة المسلمون كيف نعرف أن هذا الماء طاهر أو نجس أو أن هذا الشراب أو الطعام أو الإناء أو الصيد أو السوار أو اللباس مباح أو حرام أو مكروه أو مستحب كيف نعرف أن اقتناء هذا المال أو إنفاقه حلال أو حرام كيف نهتدي إلى العبادات نعرف أوقاتها وطريقة أدائها كيف نعرف قسمة المواريث والفرائض كيف تقام الحدود وكيف نقيم المعاملات فيما بيننا إلى غير ذلك من تفاصيل العبادات والمعاملات وما يسمى اليوم بالأحوال الشخصية كالنكاح والطلاق وغيرهما(6/9)
وقد استوعبت ذلك كله - شريعتنا المطهرة ولله الحمد. . إن دين الإسلام الحنيف قد أكمله الله وما من شأن من شئون الدنيا والآخرة إلا وفي هذا الدين له حكم وبيان واضح جلي، فهو دين كامل شامل ليس قاصرا على النواحي التعبدية ولا شأن له بالنواحي المعاشية كما يرميه بذلك أعداؤه ومن نهج نهجهم.
إن دين الإسلام يربط المخلوق بخالقه برباط متين كما يقيم أفضل علاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان قائمة على المحبة والترابط والتسامح والتعاون على البر والتقوى. . . أوضح كيف تعامل الحيوان الأعجم بالرفق والرحمة والإحسان قبل أن تتظاهر أوربا بالرفق بالحيوان من خلال جمعيات أنشأتها لهذا الغرض وهي لم ترفق بعد بالإنسان ولم ترع حقوقه. . فالواجب على المسلمين التفقه في دينهم وأن لا يتجاوزوا حدود ما أنزل الله، وأن يحرصوا على فهم أحكام دينهم قبل أي شيء، فإن بعض الناس هداهم الله ووفقهم قد يحيط بعلوم كثيرة من علوم الحياة ويبرز فيها ولكنه لا يعلم شيئا من أحكام دينه وأسرار شريعته، وهذا هو الجهل الفاضح والمصيبة العظمى؛ فإن العلم بأحكام الله يجب أن يكون مقدما على المعارف الأخرى، ولا مانع من التزود بالعلوم والمعارف الأخرى، ولكن لا بد من تقديم الأصل الأصيل والركيزة الأساسية للعلوم كلها وهو معرفة الدين عقيدة وسلوكا وعبادة وأحكاما مما لا يسع المسلم جهله. كما أن الواجب على المسلمين أن يتمسكوا بدينهم بصدق ويتقبلوا ما يأمرهم به فيعملوا به ويطبقوه في شئون حياتهم كلها دون تمييز وليعلموا أنهم إن فعلوا ذلك سيسعدون ويفلحون في الدنيا والآخرة، وهذه الأمة شرفها الله بهذا الدين وأعزها به فإذا تخاذلت عن ذلك فلا قيمة لها ولا عزة ولا سعادة.
فنسأل الله أن يوفقنا والمسلمين جميعا لما فيه رضاه، وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن ومن شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.،،،(6/10)
كتابة المصحف(6/11)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: ففي الدورة الاستثنائية الثالثة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض من غرة صفر إلى السابع منه عام 1399 هـ اطلع المجلس على المعاملة المتعلقة بكتابة المصحف حسب قواعد الإملاء وإن خالف ذلك الرسم العثماني واقترح إعداد بحث في ذلك، وبناء عليه أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في هذا الموضوع مشتملا على ما يأتي: -
1 - تمهيد يشتمل على أمرين:
أ - بيان نوع الكتابة التي كانت عند العرب وقت نزول القرآن.
ذكر أمثلة يتبين منها مدى التغيير الذي يحدث عند كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء.
2 - نقول عن العلماء والأولين يتبين منها رأيهم في ذلك مع ما استدلوا أو عللوا به.
3 - الضرورة أو الحاجة التي دعت إلى العدول بالمصحف عن الرسم العثماني إلى كتابته حسب قواعد الإملاء ومناقشة ذلك.
4 - الموانع التي تمنع من ذلك، وبيان ما قد يترتب عليه من تحريف ونحوه.
وفيما يلي تفصيل ذلك. . . والله الموفق.(6/12)
كتابة المصحف أولا التمهيد ويشتمل على أمرين:
بيان نوع الكتابة التي كانت معهودة عند العرب وقت نزول القرآن الكريم
إن الكتابة في العرب كانت قليلة جدا، وقد تعلموها من أهل الأنبار، وكان الذي يغلب على زمان السلف الكتابة المتكوفة إلى أن هذبها أبو علي بن مقله، ثم قربها علي بن هلال البغدادي،(6/13)
وسلك الناس طريقته، ولم تكن محكمة جدا في ذلك الزمان، ولهذا وقع اختلاف في كتابة المصاحف من جهة الصناعة لا من جهة المعنى، وألف العلماء في ذلك واعتنوا به.
قال ابن كثير وقد كانت الكتابة في العرب قليلة جدا، وإنما أول ما تعلموا ذلك ما ذكره هشام بن محمد بن السائب الكلبي وغيره أن بشر بن عبد الملك أخا أكيدر دومة تعلم الخط من الأنبار، ثم قدم مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية وتعلمه حرب بن أمية وابنه سفيان وتعلمه عمر بن الخطاب من حرب بن أمية وتعلمه معاوية من عمه سفيان بن حرب، وقيل: إن أول من تعلمه من الأنبار قوم من طيء من قرية هناك يقال لها بقة ثم هذبوه ونشروه في جزيرة العرب فتعلمه الناس، ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود: ثنا عبد الله بن محمد الزهري ثنا سفيان عن مجاهد عن الشعبي قال: سألنا المهاجرين من أين تعلمتم الكتابة، قالوا من أهل الأنبار.
قال ابن كثير (1) : والذي كان يغلب على زمان السلف الكتابة المتكوفة، ثم هذبها أبو علي بن مقلة الوزير وصار له في ذلك نهج وأسلوب في الكتابة، ثم قربها علي ابن هلال البغدادي المعروف بابن البواب، وسلك الناس وراءه وطريقته في ذلك واضحة جيدة، والغرض أن الكتابة لما كانت في ذلك لم تحكم جيدا وقع في كتابة المصاحف اختلاف في وضع الكلمات من حيث صناعة الكتابة لا من حيث المعنى، وصنف الناس في ذلك، واعتنى بذلك الإمام الكبير القاسم بن سلام - رحمه الله - في كتابه فضائل القرآن، والحافظ أبو بكر بن أبي داود وذكرا قطعة صالحة هي من صناعة القرآن ليست مقصدنا هنا ولهذا الغرض نص الإمام مالك على أنه لا توضع المصاحف إلا على وضع كتابة الإمام، ورخص غيره في ذلك. واختلفوا في الشكل والنقط فمن مرخص ومن مانع.
وذكر ابن كثير (2) أن عثمان - رضي الله عنه - عهد إلى زيد بن ثابت الأنصاري وعبد الله بن الزبير بن العوام القرشي وسعيد بن العاص بن أمية القرشي وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام
__________
(1) ص15 من كتاب فضائل القرآن المطبوع مع الجزء الرابع من تفسيره
(2) من كتاب فضائل القرآن المطبوع مع الجزء الرابع من تفسيره(6/14)
القرشي أن يكتبوا القرآن حينما اختلف الناس في القراءة بالحروف التي بها نزل القرآن، وتنازعوا فيما بينهم، فأمر هؤلاء أن يكتبوا القرآن على حرف واحد من الحروف التي بها نزل القرآن منعا للاختلاف، فجلس هؤلاء الأربعة يكتبون القرآن نسخا وإذا اختلفوا في موضع الكتابة على أي لغة رجعوا إلى عثمان - رضي الله عنهم - كما اختلفوا في التابوت أيكتبونه بالتاء أم بالهاء، فقال زيد بن ثابت: إنما هو التابوه، وقال الثلاثة القرشيون: إنما هو التابوت، فرجعوا إلى عثمان، فقال: اكتبوه بلغة قريش، فإن القرآن نزل بلغتهم ". اهـ.
والذي يعنينا هنا أن الكتابة كانت معروفة عند العرب قبل رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وعند نزول الوحي وإن كان ذلك قليلا، وأنها كانت تختلف من حيث الصناعة وأنها كتب بها القرآن عند نزوله، وأن عثمان - رضي الله عنه - أمر الذين أسند إليهم جمع القرآن إذا اختلفوا في صناعة الكتابة أن يكتبوه بلغة قريش، لأن القرآن بها نزل، وقد علم الله ذلك من كتبة الوحي، ولم ينكر على رسوله ولا على كتبته، وعلم الصحابة صنيع عثمان ومن جمع القرآن بأمره ولم ينكروا عليه ولا عليهم - رضي الله عنهم - أجمعين -، فكانت كتابته على هذا النحو دون غيره سنة متبعة.(6/15)
ب- أمثلة يتبين منها مدى التغيير الذي يحدث من كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء
... الرسم العثماني ... موضع التغيير ... الرسم الإملائي ... وضع التغيير ... السورة
1 ... الصلوة: ... كتبت بالواو بعد اللام ... الصلاة ... كتبت بالألف بعد اللام ... في سور كثيرة
2 ... الزكوة: ... كتبت بالواو بعد الكاف ... الزكاة ... كتبت بالألف بعد الكاف ... " "
3 ... الحيوة: ... كتبت بالواو بعد الياء ... الحياة ... كتبت بالألف بعد الياء ... " "
4 ... شفعؤنا: ... كتبت بلا ألف بعد العين ... شفعاؤنا ... كتبت بالألف بعد العين ... "يونس"
5 ... أم لهم شركؤا: ... كتبت بلا ألف بعد الكاف وبهمزة على واو بعدها ألف ... أم لهم شركاء ... كتبت بالألف بعد الكاف ثم همزة مفردة فقط ... "الشورى"
6 ... يبدؤا الخلق: ... همزة على واو بعدها ألف ... يبدأ الخلق ... همزة على ألف ... "يونس"
7 ... ويدرؤا عنها: ... همزة على واو بعدها ألف (بلا ألف بعد اللام) ... ويدرأ ... همزة على ألف ... "النور"
8 ... لهوا لبلؤا: ... وزيادة واو بعد الهمزة (وزيادة ألف بعد الواو) ... البلاء ... بألف بعد اللام وهمزة مفردة ... "الصافات"
9 ... نبؤا الخصم: ... بزيادة واو بعدها ألف ... نبأ ... بهمزة على الألف فقط ... "
10 ... الربوا: ... بواو بعد الياء بعدها ألف ... الربا ... بألف بعد الياء فقط ... "البقرة وغيرها"
11 ... لا أذبحنه ... بزيادة ألف قبل الذال ... لأذبحنه ... بلا زيادة ألف ... "النمل"
12 ... وتمت كلمة ربك ... بتاء مفتوحة ... كلمة ربك ... بتاء مربوطة ... "الأنعام"
13 ... إن رحمت الله ... " " ... رحمة الله ... " " ... "الأعراف"
14 ... لعنت: ... " " ... لعنة ... " " ... "النور"
15 ... ورحمت ربك ... " " ... ورحمة ربك ... " " ... "الزخرف"
16 ... الكتب: ... بلا ألف بعد التاء ... الكتاب ... بألف بعد التاء ... في سور كثيرة
17 ... الإنسن: ... بلا ألف بعد السين ... الإنسان ... بألف بعد السين ... " "
18 ... لا يهدي من هو كذب ... بلا ألف بعد الكاف ... كاذب ... بألف بعد الكاف ... "الزمر"(6/16)
. الرسم العثماني ... موضع التغيير ... الرسم الإملائي ... وضع التغيير ... السورة
19 ... الجهلين ... بلا ألف بعد الجيم ... الجاهلين ... بألف بعد الجيم ... "الأنعام وغيرها"
20 ... اتيهم ... بلا ألف بعد التاء ... اتاهم ... بألف بعد التاء ... "الأحزاب"
21 ... السبيلا ... بألف بعد اللام ... السيل ... بلا ألف بعد اللام ... "الأحزاب"
22 ... سلسلا ... بألف بعد اللام الثانية وبدونها بعد الأولى ... سلاسل ... بلا ألف بعد اللام الثانية وبألف بعد الأولى ... "الدهر"
23 ... قواريرا ... بألف بعد الراء الثانية ... قوارير ... بلا ألف بعد الراء ... " "
24 ... الشيطن ... بلا ألف بعد الطاء ... الشيطان ... بألف بعد الطاء ... في سور كثيرة
25 ... وأغللا ... بلا ألف بعد اللام الأولى ... أغلالا ... بألف بعد اللام الأولى ... "الدهر"
26 ... من نبأي المرسلين ... بياء بعد الهمزة ... من نبأ المرسلين ... بلا ياء بعد الهمزة ... "الأنعام"
27 ... بأييد ... بياءين قبل الدال ... بأيد ... بياء فقط قبل الدال ... "الذاريات"
وسيأتي كثير من الأمثلة في النقل عن المقنع لأبي عمرو الداني، والنقل عن كتاب الإتقان للسيوطي إن شاء الله.(6/17)
ثانيا: نقول من العلماء يتبين منها رأيهم في كتابة المصحف بغير الرسم العثماني:
إن الحديث عن كتابة المصحف بغير الرسم العثماني قديم فقد بحثه أئمة السلف قبل أكثر من ألف سنة وألف فيه علماء القراءة والرسم كتبا وحكموا فيه بما ظهر لهم من الكراهة أو التحريم، وقد جمع الجلال السيوطي نقولا عنهم في الموضوع يتبين منها ما حكموا به في ذلك فرأينا إثباتها فيما يلي:
قال الجلال السيوطي: (فصل) القاعدة العربية أن اللفظ يكتب بحروف هجائية مع مراعاة الابتداء به والوقوف عليه وما مهد له النحاة أصولا وقواعد، وقد خالفها في بعض الحروف خط المصحف الإمام، وقال أشهب سئل مالك: هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟
فقال: لا. إلا على الكتبة الأولى. رواه الداني في المقنع ثم قال ولا مخالف له من علماء الأمة.
وقال في موضع آخر: سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو والألف أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه كذلك قال لا قال أبو عمرو يعني الواو والألف المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ نحو أولو.
وقال الإمام أحمد يحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك.
وقال البيهقي في شعب الإيمان من يكتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف ولا يخالفهم فيه ولا يغير مما كتبوا شيئا فإنهم كانوا أكثر علما وأصدق قلبا ولسانا وأعظم أمانة فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم.
قلت وينحصر أمر الرسم في ست قواعد الحذف والزيادة والهمز والبدل والوصل والفصل وما فيه قراءتان فكتب على إحداهما.(6/18)
القاعدة الأولى:
في الحذف تحذف الألف من ياء النداء نحو يا أيها الناس وهاء التنبيه نحو هؤلاء هأنتم ومن ذلك(6/18)
وأولئك ولكن وتبارك وفروع الأربعة والله وإله كيف وقع والرحمن وسبحان كيف وقع إلا قل سبحان ربي.
وتحذف الياء من كل منقوص منون رفعا وجرا نحو باغ ولا عاد والمضاف لها إذا نودي إلا يا عبادي الذين أسرفوا يا عبادي الذين آمنوا في العنكبوت أولم يناد. إلا قل لعبادي أسر بعبادي في "طه" وحم فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ومع مثلها نحوان ولي والحوارين.
وتحذف الواو مع أخرى نحو لا يستون وإذا المؤدة (يؤسا) وتحذف اللام مدغمة في مثلها نحو الليل والذي إلا الله واللهم واللعنة وفروعه واللهو واللغو واللؤلؤ واللات واللهم واللعب واللطيف واللوامة. . وساق كثيرا من الأمثلة للحذف.(6/19)
القاعدة الثانية:
في الزيادة زيدت ألف بعد الواو آخر اسم مجموع نحو بنو إسرائيل، ملاقوا ربهم أولو الألباب بخلاف المفرد لذو علم إلا الربا وإن امرؤ هلك. . . . . وساق أمثلة كثيرة في الهمزة.(6/19)
القاعدة الثالثة:
في الهمزة يكتب الساكن بحرف حركة ما قبله أولا ووسطا وآخرا نحو ايذن واوتمن والبأساء واقرأ وجيناك وهىء والموتون وتسؤهم إلا فأدارأتم ورئيا والرياء وشطئه فحذف فيها وكذا أول الأمر بعد فاء نحو فأتوا أو واو نحو واشربوا والمتحرك إن كان أولا أو اتصل به حرف زائد بألف مطلقا أي سواء كان فتحا أو ضما أو كسرا نحو أيوب إذا أولو سأصرف فبأي سأنزل إلا مواضع أئنكم لتكفرون أئنا لمخرجون في النمل أئنا لتاركوا آلهتنا أئن لنا في الشعراء أئذا متنا أئن ذكرتم أئنا أئمة لئلا لئن يومئذ يفرح فيكتب فيها بالياء قل أؤنبئكم وهؤلاء فكتب بالواو وإن كان وسطا فبحرف حركته نحو سأل سئل نقرؤه إلا جزاؤه الثلاثة يوسف. . . وساق أمثلة كثيرة للهمزة.(6/19)
القاعدة الرابعة:
في البدل تكتب بالواو للتفخيم ألف الصلاة والزكاة والحياة والربا غير مضافات والغاء ومشكاة والنجاة ومناة (وبالياء) كل ألف منقلبة عنها نحو يتوفيكم في اسم أو فعل اتصل به ضمير أم لا بقي ساكنا أم لا ومنه يا حسرتا يا أسفا ألا تترى وكلتا وهداني وعصاني والأقصى (وأقصى المدينة وطغا الماء وسيماهم وإلا ما قبلها ياء كالدنيا والحوايا إلا يحيى اسما وفعلا ويكتب بها إلى وعلى وأنى بمعنى(6/19)
كيف ومتى ويلى وحتى ولدى إلا لدا الباب (ويكتب) بالألف الثلاثي الواوي اسما (أو فعلا نحو الصفا وشفا وعفا الأضحى كيف وقع وما زكى منكم ودحاها وتلاها وطحاها وسجا. . .) وساق أمثلة كثيرة للبدل.(6/20)
القاعدة الخامسة:
في الوصل والفصل توصل ألا بالفتح إلا عشرة أن لا أقول أن لا يقولوا في الأعراف أن لا ملجأ وفي هود أن لا إله أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف أن لا تشرك في الحج أن لا تعبدوا في يس أن لا تعلوا في الدخان أن لا يشركن في الممتحنة أن لا يدخلنها في ن (ومما) إلا من ما ملكت في النساء والروم ومن ما رزقناكم في المنافقين (وممن) مطلقا وعما إلا عن ما نهوا عنه وإما بالكسر إلا وإما نرينك في الرعد وأما بالفتح مطلقا وعمن إلا ويصرفه عن من يشاء في النور عن من تولى في النجم (وأمن) إلا أم من يكون في النساء أم من أسس أم من خلقنا في الصافات أم من يأتي آمنا (وإلم) بالكسرة إلا فإن لم يستجيبوا لك في القصص وفيما إلا أحد عشر في ما فعلن الثاني في البقرة ليبلوكم في ما في المائدة والأنعام قل لا أجد في ما أوحي في ما اشتهت في الأنبياء في ما أفضتم في ما ههنا في الشعراء في ما رزقناكم في الروم في ما هم فيه في ما كانوا فيه كلاهما في الزمر وننشئكم في ما لا تعلمون (وإنما) إلا إن ما توعدون لآت في الأنعام وأنما بالفتح إلا إن ما يوعدون في الحج ولقمان (وكلما) إلا كل ما ردوا إلى الفتنة من كل ما سألتموه وبئسما إلا مع اللام ونعما ومهما وربما وكأنما ويكأن وتقطع حيثما وإن لم بالفتح وإن لن إلا في الكهف والقيامة وأين ما إلا فأينما تولوا أينما يوجهه واختلف في أينما تكونوا يدرككم أينما كنتم تعبدون في الشعراء أينما تقفوا في الأحزاب ولكي لا إلا في آل عمران والحج والحديد والثاني في الأحزاب ويوم هم ونحو فمال ولات حين وابن أم إلا في طه فكتبت الهمزة حينئذ واوا وحذفت همزة ابن فصارت هكذا يبنؤم. .) وساق أمثلة كثيرة للوصل وللفصل.(6/20)
القاعدة السادسة:
فيما فيه قراءتان فكتبت على إحداهما ومرادنا غير الشاذ من ذلك مالك يوم الدين يخادعون واعدنا والصاعقة والرياح وتفادوهم وتظاهرون ولا تقاتلوهم ونحوها ولولا دفاع فرهان طائرا في آل عمران والمائدة مضاعفة ونحوه عاقدت أيمانكم الأوليان لامستم. . . . (فائدة) كتبت فواتح السور على صورة الحروف أنفسها لا على صورة النطق بها اكتفاء بشهرتها وقطعت حم عسق دون المص وكهيعص طردا للأولى بأخواتها الستة) . . . إلى أن قال وأخرج ابن اشتة عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أعماله(6/20)
إذا كتب أحدكم بسم الله الرحمن الرحيم فليمد الرحمن (وأخرج) عن زيد بن ثابت أنه كان يكره أن تكتب بسم الله الرحمن الرحيم ليس لها سين "وأخرج" عن يزيد بن أبي حبيب أن كاتب عمرو بن العاص كتب إلى عمر فكتب بسم الله ولم يكتب لها سينا فضربه عمر فقيل له فيم ضربك أمير المؤمنين قال ضربني في سين " وأخرج" عن ابن سيرين أنه يكره أن تمد الياء إلى الميم حتى تكتب السين "وأخرج" ابن أبي داود في المصاحف عن ابن سيرين أنه كره أن يكتب المصحف مشقا قيل لم قال لأن فيه نقصا) . . إلى أن قال " وأخرج أبو عبيدة عن عمر بن عبد العزيز قال لا تكتبوا القرآن حيث يوطأ وهل تجوز كتابته بقلم غير العربي قال الزركشي لم أر فيه كلاما لأحد من العلماء قال ويحتمل الجواز لأنه قد يحسنه من يقرأ بالعربية والأقرب المنع كما تحرم قراءته بغير لسان العرب ولقولهم القلم أحد اللسانين والعرب لا تعرف قلما غير العربي وقد قال تعالى بلسان عربي مبين اهـ.
(فائدة) أخرج ابن أبي داود عن إبراهيم التيمي قال قال عبد الله لا يكتب المصاحف إلا مضري قال ابن أبي داود هذا من أجل اللغات.(6/21)
(مسألة) اختلف في نقط المصحف وشكله ويقال أول من فعل ذلك أبو الأسود الدؤلي بأمر عبد الملك بن مروان وقيل الحسن البصري ويحيى بن يعمر وقيل نصر بن عاصم الليثي وأول من وضع الهمزة والتشديد والروم والإشمام الخليل وقال قتادة بدءوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا وقال غيره أول ما أحدثوا النقط عند آخر الآي ثم الفواتح والخواتم وقال يحيى بن أبي كثير ما كانوا يعرفون شيئا مما أحدث في المصاحف إلا النقط الثلاث على رءوس الآي أخرجه ابن أبي دواد وقد أخرج أبو عبيد وغيره عن ابن مسعود قال جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء (وأخرج) عن النخعي أنه كره نقط المصاحف وعن ابن سيرين أنه كره النقط والفواتح والخواتم وعن ابن مسعود ومجاهد أنهما كرها التعشير (وأخرج) ابن أبي داود عن النخمي أنه كان يكره العواشر والفواتح وتصغير المصحف وأن يكتب فيه سورة كذا وكذا (وأخرج) عنه أنه أتى بمصحف مكتوب فيه سورة كذا وكذا آية فقال امح هذا فإن ابن مسعود كان يكرهه (وأخرج) عن أبي العالية أنه كان يكره الجمل في المصحف وفاتحة سورة كذا وخاتمة سورة كذا وقال مالك لا بأس بالنقط في المصاحف التي تتعلم فيها العلماء أما الأمهات فلا، وقال الحليمي تكره كتابة الأعشار والأخماس وأسماء السور وعدد الآيات فيه لقوله جردوا القرآن وأما النقط فيجوز لأنه ليس له صورة فيتوهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنا وإنما هي دلالات على هيئة المقروء فلا يظهر إثباتها لمن يحتاج إليها.
قال البيهقي: من آداب القرآن أن يفخم فيكتب مفرجا بأحسن خط فلا يصغر ولا يقرمط حروفه ولا يخط به ما ليس منه كعدد الآيات والسجدات والعشرات والوقوف واختلاف(6/21)
القراءات ومعاني الآيات وقد أخرج ابن أبي داود عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا لا بأس بنقط المصاحف (وأخرج) عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال لا بأس بشكله.
وقال النووي نقط المصحف وشكله مستحب لأنه صيانة له من اللحن والتحريف، وقال ابن مجاهد ينبغي أن لا يشكل إلا ما يشكل وقال إلا أني لا أستجيز النقط بالسواد لما فيه من التغيير لصورة الرسم ولا أستحيز جمع قراءات شتى في مصحف واحد بألوان مختلفة لأنه من أعظم التخليط والتغيير المرسوم وأرى أن تكون الحركات والتنوين والتشديد والسكون والمد بالحمرة والهمزات بالصفرة، وقال الجرجاني من أصحابنا في الشافي " من المذموم كتابة تفسير كلمات القرآن بين أسطره ".
(فائدة) كان الشكل في الصدر الأول نقطا فالفتحة نقطة على أول الحرف والضمة على آخره والكسرة تحت أوله وعليه مشى الداني والذي اشتهر الآن الضبط بالحركات المأخوذة من الحروف وهو الذي أخرجه الخليل وهو أكثر وأوضح وعليه العمل فالفتح شكله مستطيلة فوق الحرف والكسر كذلك تحته والضم واو صغرى فوقه والتنوين زيادة مثلها فإن كان مظهرا وذلك قبل حرف حلق ركبت فوقها وإلا جعلت بينهما وتكتب الألف المحذوفة والبدل منها في محلها حمراء والهمزة المحذوفة تكتب همزة بلا حرف حمراء أيضا وعلى النون والتنوين قبل الباء علامة الإقلاب حمراء وقبل الحلق سكون وتعرى عند الإدغام والإخفاء ويسكن كل مسكن ويعرى المدغم ويشدد ما بعده إلا الطاء قبل التاء فيكتب عليها السكون نحو فرطت ومطة الممدود لا تجاوزه.
(فائدة) قال الحربي في غريب الحديث قول ابن مسعود جردوا القرآن يحتمل وجهين أحدهما جردوه في التلاوة ولا تخلطوا به غيره.
(والثاني) جردوه في الخط من النقط والتعشير، وقال البيهقي الأبين أنه أراد لا تخلطوا به غيره من الكتب لأن ما خلا القرآن من كتب الله إنما يؤخذ عن اليهود والنصارى وليسوا بمأمونين عليها) اهـ. من الإتقان.
وسئل أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله - عمن يقول عن الإمام مالك - رحمه الله - أنه قال: من كتب مصحفا على غير رسم المصحف العثماني فقد أثم، أو قال: كفر فهل هذا صحيح، وأكثر المصاحف اليوم على غير المصحف العثماني، فهل يحل لأحد كتابته على غير المصحف العثماني بشرط ألا يبدل لفظا ولا يغير معنى أو لا (1) .
فأجاب أما هذا النقل عن مالك في تكفير من فعل ذلك فهو كذب على مالك سواء أريد منه رسم الخط أم رسم اللفظ، فإن مالكا كان يقول عن أهل الشورى: إن لكل منهم مصحفا يخالف رسم مصحف عثمان، وهم أجل من أن يقال فيهم مثل هذا الكلام، وهم علي بن أبي طالب
__________
(1) ص420 ج13 من مجموع الفتاوى(6/22)
والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن بن عوف وعثمان - رضي الله عنهم -، وأيضا فلو قرأ رجل بحرف من حروفهم التي تخرج عن مصحف عثمان ففيه روايتان عن مالك وأحمد وأكثر العلماء يحتجون بما ثبت من ذلك عنهم، فكيف يكفر فاعل ذلك. وأما اتباع رسم الخط بحيث يكتبه بالكوفي فلا يجب عند أحد من المسلمين وكذلك اتباعه فيما كتبه بالواو والألف هو حسن لفظ رسم خط الصحابة (1) .
وأما تكفير من كتب ألفاظ المصحف بالخط الذي اعتاده فلا أعلم أحدا قال بتكفير من فعل ذلك، لكن متابعة خطهم أحسن هكذا نقل عن مالك وغيره. . . والله أعلم.
وسئل أبو العباس بن تيمية أيضا - رحمه الله - عمن يقول: إن الشكل والنقط من كلام الله تعالى هل ذلك حق أو باطل. . الخ (2) .
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، المصاحف التي كتبها الصحابة لم يشكلوا حروفها ولم ينقطوها فإنهم كانوا عربا لا يلحنون، ثم بعد ذلك في آخر عصر الصحابة لما نشأ اللحن صاروا ينقطون المصاحف ويشكلونها وذلك جائز عند أكثر العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وكرهه بعضهم، والصحيح أنه لا يكره، لأن الحاجة داعية إلى ذلك ولا نزاع بين العلماء أن حكم الشكل والنقط حكم الحروف المكتوبة فإن النقط تميز بين الحروف كما أن الشكل يبين الإعراب لأنه كلام من تمام الكلام ويروى عن أبي بكر وعمر أنهما قالا: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه، فإذا قرأ القارئ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) كانت الضمة والفتحة والكسرة من تمام لفظ القرآن. . . " اهـ المقصود.
يتبين مما ذكر ما يأتي:
(1) ضابط ما يحذف مما يزاد في رسم المصحف العثماني من الحروف وما يتسثنى من ذلك وما يبدل من غيره وما يرسم ألفا من ذلك وما يرسم ياء، ومنع التغيير فيما ثبت من الرسم العثماني.
__________
(1) هكذا بالأصل المطبوع
(2) ص 100-101-102-576 وغيرها
(3) سورة الفاتحة الآية 2(6/23)
(2) نقط المصحف وشكله وكيفيته، وكراهة العلماء ذلك مطلقا أو جوازه في غير الأمهات، ثم ثبوت الإجماع على جوازه واستمرار العمل عليه إلى عصرنا.
(3) تخميس القرآن وتعشيره وكتابة أسماء السور وعدد الآيات ورسم علامة بين كل آية وما بعدها وعلامات الوقف وخلاف العلماء في كراهة ذلك وجوازه ثم ثبوت الإجماع على جوازه بعد استمرار العمل به إلى عصرنا.
(4) تحريم كتابته بغير اللغة العربية كما يحرم قراءته بغير لسان العرب ولقولهم القلم أحد اللسانين، والعرب لا تعرف قلما غير العربي، (1) وقد قال تعالى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (2) ".
__________
(1) من كلام الزركشي في ص 7 من الاعداد
(2) سورة الشعراء الآية 195(6/24)
وكتب رئيس اللجنة المتشكلة لتفتيش رسم المصاحف المطبوعة ببلدة قزان ملا صادق الايمانقولي القزاني إلى الشيخ محمد رشيد رضا ما يأتي:
(بسم الله الرحمن الرحيم. حضرة الأستاذ الفاضل السيد رشيد رضا حفظه الله ومتعنا وسائر المسلمين بعلومه الشريفة.
أما بعد، فإن من المسائل التي تدور بيننا الآن مسألة رسم المصاحف المطبوعة في بلدة قزان حيث إن العلماء صرحوا بأن رسم المصاحف يجب فيه الاتباع لرسم المصاحف التي كتبت بأمر سيدنا عثمان - رضي الله عنه -، وفي رسم المصاحف القزانية مخالفة كثيرة لرسم تلك المصاحف. فتشكلت بقزان لجنة من العلماء والقراء لتفتيش رسم هذه المصاحف ونصوص العلماء فيه وتكلموا في وجوب الاتباع وعدمه فذهب كثير منهم إلى أنه ينبغي اتباع رسم المصاحف العثمانية وأن الرسم سنة متبعة، على ما نص عليه أبو عمرو الداني والشاطبي وابن الجزري والسيوطي والزمخشري وغيرهم. وبعضهم قالوا إنه لا يجب اتباع الرسم محتجين بقول شيخ الإسلام العز بن عبد السلام حيث قال: " أما الآن فلا يجوز كتابة المصحف على المرسوم الأول خشية الالتباس ولئلا يوقع في تغيير من الجهال،
ويجيب الفريق الأول عن هذا بأن المواضع التي يتوهم فيها الالتباس يمكن التخلص منها بالنقط والأشكال. ثم فتشوا المصاحف المطبوعة في الديار الإسلامية من الأستانة ومصر والهند وغيرها فوجدوا فيها أيضا مخالفة كثيرة لرسم المصاحف العثمانية فما ندري ما سبب عدم اعتنائهم في هذا الباب؟
أأهملوا في رسم كتابنا المقدس، أم لا يقولون بلزوم الاتباع؟ .
وإذا كان الاتباع واجبا كما يقول به أكثر الأئمة فما ينبغي أن نصنع لنقرأ برواية حفص المعروفة في بلادنا في مثل كلمة آتان في سورة النمل آية 36، فإنه كتب في مصاحف سيدنا عثمان - رضي الله عنه - كلها بغير "ياء" بعد "النون" في مثل هذه المواضع تخلصا من الالتباس والتلفيق في القراءة.
وهل يجوز مخالفة الرسم لأجل الضرورة في مثل تلك الضرورة؟
وما نصنع في الكلمات التي حذفت فيها الألفات في بعض المصاحف المطبوعة والمكتوبة القديمة مثل كلمة الأعلام والأحلام والأقلام والأزلام والأولاد، وتلك الكلمات كتبت في بعض المصاحف " الأعلم والأحلم والأقلم، بحذف "الألف" بعد "اللام" والحال أن قاعدة الخط العربي تقتضي إثبات الألف في مثلها: وليس فيها نص صريح من علماء الرسم في حق الحذف أو الإثبات هل ينبغي فيها اتباع قاعدة رسم الخط العربي وإثبات الألفات أم نقول: " كانوا يعتبرون الظهور وعدم الالتباس ولهذا كانوا يحذفون الألفات فيما ظهر المراد (منه) مثل الكلمات المذكورة " فنحذف الألفات فيهن. ورسم المصاحف المطبوعة هنا ليس على نسق واحد، وفي بعضها يحذف الألفات. وأن المصحف الذي(6/25)
يحفظ في بلدة بترسبورغ عاصمة الروسية في المكتبة الإمبراطورية ويظن كونه واحدا من مصاحف سيدنا عثمان - رضي الله عنه - قد حذف فيه الألفات في مثل هذه المواضع. والعلامة شهاب الدين المرجاني القزاني الذي أفنى عمره في خدمة العلم، وصنف كتابا مفيدا في رسم المصحف وكان مأمورا بتصحيح المصاحف المطبوعة من جهة الحكومة قد حذف الألفات قصدا في مثل هذه الكلمات ولزيادة الاطمئنان ولكون المسألة عامة مهمة ومتعلقة بعموم أهل الإسلام اتفقنا على المراجعة إلى جنابكم المحترم بالاستفسار في تلك المسألة رجاء أن تتفضلوا بإبداء ملاحظاتكم العالية في صفحات المنار. والسلام والإكرام. .
فأجاب: إن ديننا يمتاز على جميع الأديان بحفظ أصله منذ الصدر الأول، فالذين تلقوا القرآن عمن جاء به من عند الله - صلى الله عليه وسلم - حفظوه وكتبوه وتلقاه عنهم الألوف من المؤمنين، وتسلسل ذلك جيلا بعد جيل. وقد أحسن التابعون وتابعوهم وأئمة العلم في اتباع الصحابة في رسم المصحف وعدم تجويز كتابته بما استحدث الناس من فن الرسم، وإن كان أرقى مما كان عليه الصحابة - رضوان الله عليهم -، لأنه صنعة ترتقي بارتقاء المدنية، إذ لو فعلوا لجاز أن يحدث اشتباه في بعض الكلمات باختلاف رسمها وجهل أصلها. فالاتباع في رسم المصحف يفيد مزيد ثقة واطمئنان في حفظه كما هو يبعد الشبهات أن تحوم حوله، وفيه فائدة أخرى وهي حفظ شئ من تاريخ الملة وسلف الأمة كما هو.
نعم إن تغير الرسم واختلاف الإملاء يجعل قراءة المصحف على وجه الصواب خاصة بمن تلقاه عن القراء ولذلك أحدثوا فيه النقط والشكل وهي زيادة لا تمنع معرفة الأصل على ما كان عليه في عهد الصحابة. ثم إنه يجعل تعليم الصغار عسرا ولذلك أفتى الإمام مالك بجواز كتابة الألواح ومصاحف التعليم بالرسم المعتاد كما نقل.
قال علم الدين السخاوي في شرحه لعقيلة الشاطبي: قال أشهب - رحمه الله -: سئل مالك - رضي الله عنه - أرأيت من استكتبته مصحفا أترى أن يكتب على ما أحدث الناس من الهجاء اليوم؟
فقال: لا أرى ذلك ولكن يكتب على الكتبة الأولى. قال مالك: ولا يزال الإنسان يسألني عن نقط القرآن، فأقول له: أما الإمام من المصاحف فلا أرى أن ينقط ولا يزاد في المصاحف ما لم يكن فيها، وأما المصاحف الصغار التي يتعلم فيها الصبيان والألواح فلا أرى بأسا. ثم قال: " أشهب " والذي ذهب إليه مالك هو الحق إذ فيه بقاء الحال الأولى إلى أن يعلمها الآخر، وفي خلاف ذلك تجهيل(6/26)
الناس بأوليتهم.
وقال أبو عمرو الداني (في كتابه المسمى الحكم في النقط) عقيب قول مالك هذا: ولا مخالف لمالك في ذلك من علماء الأمة، ا. هـ.
فالذي أراه هو أن تطبع المصاحف التي تتخذ لأجل التلاوة برسم المصحف الإمام الذي كتبه الصحابة عليهم الرضوان حفظا لهذا الأثر التاريخي العظيم الذي هو أصل ديننا كما هو، لكن مع النقط والشكل للضبط. ولو كان لمثل الأمة الإنكليزية هذا الأثر، لما استبدلت به ملك كسرى وقيصر، ولا أسطول الألمان الجديد الذي هو شغلها الشاغل اليوم. وأما الألواح والأجزاء وكذا المصاحف التي تطبع لأجل تعليم الصغار بها في الكتاتيب، فلتطبع بالرسم المصطلح عليه اليوم من كل وجه تسهيلا للتعليم، ومتى كبر الصغير وكان متعلما للقرآن بالرسم المشهور لا يغلط إذا هو قرأ في المصاحف المطبوعة برسم الصحابة مع زيادة النقط والشكل. وكذلك يكتب القرآن في أثناء كتب التفسير وغيرها بالرسم الاصطلاحي ليقرأه كل أحد على وجه الصواب. وبهذا تجمع بين حفظ أهم شيء في تاريخ ديننا، وبين تسهيل التعليم وعدم اشتباه القارئين.
أما ما احتج به العز بن عبد السلام على رأيه فليس بشيء، لأن الاتباع إذا لم يكن واجبا من الأصل، فإن فرق بين الآن الذي قال فيه ما قال، وبين ما قبله وما بعده، بل يكتب الناس القرآن في كل زمن بما يتعارفون عليه من الرسم، وإذا كان واجبا في الأصل وهو ما لا ينكره فترك الناس له لا يجعله حراما أو غير جائز، لما ذكره من الالتباس بل لا يزال هذا الالتباس في أنه لا يسلم له.
وأما ما طبعه المسلمون من المصاحف في الأستانة وقزان ومصر وغيرها من البلاد غير متبعين فيه رسم المصحف الإمام في كل الكلمات، فسببه التهاون والجهل والاعتماد على بعض المصاحف الخطية التي كتبت قبل عهد الطباعة، فرسم فيها بالرسم المعتاد الكلمات التي يظن أنه يقع الاشتباه فيها إذا هم كتبوها كما كتبها الصحابة كلفظ " الكتاب" بالألف بعد التاء، وهو في المصحف الإمام بغير ألف ليوافق في بعض الآيات قراءة الجمع فكتبوه بالألف. ولم أر مصحفا كتب أو طبع كله بالرسم المعتاد.
ونحمد الله تعالى أن وفق بعض الناس إلى طبع ألوف من المصاحف برسم الصحابة المتبع، وأحسن المصاحف التي طبعت في أيامنا هذه ضبطا وموافقة للمصحف الإمام المتبع هو المصحف المطبوع في مطبعة محمد أبي زيد بمصر سنة 1308 إذ وقف على تصحيحه وضبطه الشيخ رضوان بن محمد المخللاتي أحد علماء هذا الشأن وصاحب المصنفات فيه. وقد وضع له مقدمة بين فيها ما يحتاج إليه في ذلك. فالذي أراه أنه ينبغي للجنة القرآنية أن تراجع هذا المصحف، فإنها تجد فيه حل(6/27)
عقد المشكلات كلها إن شاء الله تعالى ككلمة الأقلام وأمثالها وهي بغير ألف وكلمة آتاني التي رسمت في المصحف الإمام آتن فيرون أن هذا المصحف وضع فوق "النون" "ياء" صغيرة مفتوحة هي من قبيل الشكل، لتوافق قراءة حفص فهي فيه هكذا آتن.
وجملة القول أننا نرى أن الصواب الذي ينبغي أن يتبع ولا يعدل عنه، هو أن تطبع الأجزاء والمصاحف التي يعلم فيها المبتدئون بالرسم الاصطلاحي لتسهيل التعليم، وهو ما جرت عليه الجمعية الخيرية الإسلامية هنا بإذن الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى -، فهي تطبع أجزاء القرآن كل جزء على حدته بالرسم الاصطلاحي وتوزعها على التلاميذ في مدارسها. وأما سائر المصاحف فيتبع في طبعها رسم المصحف الإمام كالمصحف الذي ذكرناه آنفا. وإذا جرى المسلمون على هذا في الأستانة ومصر وقزان والقريم وسائر البلاد الإسلامية، فلا يمضي جيل أو جيلان إلا وتنقرض المصاحف التي طبع بعض كلماتها بالرسم الاصطلاحي وبعضها برسم الصحابة. ولا ضرر من وجودها الآن إذ هي مضبوطة بالشكل كغيرها، فالاشتباه والخطأ مأمونان في جميع المصاحف ولله الحمد. (1)
__________
(1) ص 2514 من المجلد 6(6/28)
وسئل أيضا: هل هناك مانع شرعا من طبع المصحف الشريف بالكيفية الآتية:
1 - أن يكون بالهجاء الحديث المتبع بالأزهر الشريف وفروعه وجميع معاهد العلم بالديار المصرية وبغيرها من البلاد العربية وغير العربية.
2 - أن توضع علامات الترقيم الحديثة بين الكلمات، بدلا من وضعها فوق الكتابة بحروف وكلمات غير مفهومة لكثير من البعيدين عن تعليم الأزهر وملحقاته وكثير ما هم.
3 - أن يوجد بهامش هذا المصحف تفسير عصري مختصر مفيد بمعرفة لجنة من كبار العلماء وكل هذا يراد به فائدة من يطلع على هذا المصحف من عامة الناس وخاصتهم. ومنعهم من الخطأ في التلاوة بسبب تعقيد الكتابة طبقا لقواعد مضى عليها كثير من القرون، وأصبحت غير معمول بها في جميع الأحوال. ولصون الناس عامة من الفهم الخطأ لما يتلونه من آيات الذكر الحكيم.
وذلك تنفيذا لقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (1) } .
__________
(1) سورة القمر الآية 17(6/28)
هذا ولا يخفى على فضيلتكم أن هذا القرآن إنما هو رسالة الله إلى الناس كافة.
ونرجو نشر الرد بمجلتكم الغراء والإفادة ولكم الشكر من المخلص.
فأجاب بقوله: - من المسائل المتفق عليها بين العلماء أو الإجماعية أن خط المصحف الشريف (أي رسمه) سماعي توقيفي يجب فيه اتباع الكتبة الأولى (بالكسر أي هيئة الكتابة) التي أجمع عليها الصحابة - رضي الله عنهم - ونشروها بالمصاحف الرسمية التي يعبر عن أصلها (بالمصحف الإمام) ، ولهذا الاتباع فوائد ودلائل مبسوطة في محلها أولها أن كتاب الله عندنا منقول بالتواتر بلفظه وقراءاته ولهجاته ورسم خطه، وأنه بهذا كله حفظ من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان. حتى إن حروفه قد عدت بهذا الرسم ودون عددها في الكتب ومن فروع ذلك أن لأكثر ما خالف به رسمه الرسم العرفي أسبابا تتعلق بقراءاته ويدخل في هذا ترك نقطه، وشرح ذلك كله يطول.
وكان المسلمون يعتمدون في تعلم القرآن وتلاوته على التلقين والرواية والحفظ من الألواح التي يكتبونها ثم يمحونها بعد حفظ ما فيها ليكتبوا غيره فيها، ثم رأوا أن التلاوة في المصاحف غير المنقوطة يكثر فيها الخطأ لغير الحافظ فاستحدثوا النقط لمنع ذلك، ثم استحدثوا الشكل لضبط الإعراب وصحة النقط، ثم وضعوا علامات وقف للحاجة إليها وكون معرفة ما يحسن الوقف عليه منوطا بالفهم، وما كل قارئ يفهم، وجعلوا لهذه العلامات أشكالا بحسب درجاتها، ثم وضعوا لضبط التلاوة وتجويدها فنا وللوقف والابتداء فنا أفردوا كلا منهما بالتدوين، وجروا عليهما في التلقين وفي كتابة المصاحف، فالغرض من كل هذه المستحدثات ضبط تلاوة القرآن واتقاء الخطأ فيها.
ولكن لا يزال فيه كلام كثير يخطئ في النطق به من لم يلقنه بالحفظ من زيادة حروف ونقص أخرى، وقد صرنا في زمان يقل فيه من القارئين من يتلقى التجويد وعلامات الوقف على حفاظ المقرئين، فكثر الخطأ في القراءة وفي الوقف والابتداء، واشتهر في الخط وصناعة الطبع ترقيم جديد فيه علامات للوقف وللاستفهام والتعجب ألفها الناس بدون حاجة إلى التلقين، فاستغنى بها عن علامات الوقف الكثيرة في المصاحف من الحروف المفردة والمركبة التي صارت منتقدة لعدم فهم الجمهور لها، ولاستغناء الحفاظ عنها، ولأن منها كلمات قد يظن الجاهلون بالقرآن أنها منه ككلمتي صلى وقلى فإنني أستنكر وضعهما في المصاحف أشد الاستنكار.(6/29)
ويرى السائل وغيره أنني جريت في تفسيري للقرآن الحكيم المعروف بتفسير المنار ظهر على التزام رسم الإمام في الآيات المضبوطة بالشكل التام مع علامات الترقيم العصرية، ثم رسم الآيات في أثناء تفسيرها بالرسم العرفي الذي يعرفه جميع المتعلمين مع الترقيم فيها وفي تفسيرها، وأخالف الطريق المتبعة في وزارة المعارف والأزهر في الياء المتطرفة فألتزم نقط ما ينطق بها ياء دون ما كانت ألفا منقلبة عنها لكثرة ما يقع من الاشتباه فيهما كالفعل الماضي من الرواية في بنائه للمعلوم والمجهول.
فعلم بهذا أنني لا أرى مانعا شرعيا يمنع مما سأل عنه السائل، بل أرى أنه واجب، ولهذا جريت عليه بالفعل منذ أكثر من ثلث قرن، فإن الخط والطبع صناعتان يقصد بهما أداء الكلام أداء صحيحا. وتصحيح أداء القرآن واجب شرعا، وتحريفه بالنطق محرم شرعا. وقد جرى جميع علماء المسلمين في تفاسيرهم على كتابة القرآن بالرسم العرفي، وهم آمنون على حفظ رسمه الأصلي الذي كتبه به أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر الخلفاء الراشدين لكثرة المصاحف فيه، بل خالفوا رسم المصحف الإمام في كثير من الكلمات التي يشتبه في قراءتها الجمهور منذ قرون ولم أقف على تاريخها، وهذا ليس بحجة وإنما الحجة وجوب صيانة القرآن من الخطأ في قراءته، وهي مقدمة على حفظ رسم السلف لو تعذر الجمع بينهما ولا تعذر.
وأما تيسير فهمه على الناس كافة بتفسير سهل العبارة مناسب لحاجة العصر فهو واجب لا معارض له وقد طبع بعض الناس تفسير البيضاوي على حواشي المصحف، وهو تفسير دقيق وجيز وضع لتذكير العلماء بخلاصة ما في أشهر التفاسير، وبعضهم طبع الجلالين وهو مختصر مخل قلما يستفيد منه الدهماء وقد تحريت السهولة واجتناب الاصطلاحات الفنية والعلمية في تفسير المنار ولكنه مطول، وقد كثر اقتراح الناس علي أن أختصره أو أكتب تفسيرا مختصرا فشرعت وعلى الله توكلت.(6/30)
ثالثا: الضرورة أو الحاجة التي دعت إلى العدول عن كتابة المصحف بالرسم العثماني إلى كتابته حسب قواعد الإملاء:
(أ) إن القرآن هو الأصل الذي يرجع إليه المسلمون في معرفة عقائدهم وعباداتهم وقد حث الله على تلاوته وتدبر آياته واستنباط الأحكام منه، وتحكيمه في جميع الشئون والأحوال، وبينت السنة النبوية فضائله، وحثت على تعلمه وتعليمه والتعبد بتلاوته والعمل(6/30)
بما فيه من أحكام وقد كان السلف رحمهم الله يعرفون الرسم العثماني، فيسهل عليهم قراءة القرآن بذلك الرسم وقاموا بما وجب عليهم من تدبره وأخذ الأحكام منه وتحكيمه فيما شجر بينهم خير قيام.
ولما طال الأمد، ووضعت قواعد جديدة للإملاء وسار عليها الكتاب، وألفها القراء بكثرة استعمالها كتابة وقراءة شق عليهم أن يقرءوا القرآن بالرسم الذي كتبت به المصاحف العثمانية، فتيسيرا عليهم ودفعا للحرج عنهم يجوز أن يكتب القرآن بالمصاحف وغيرها حسب قواعد الإملاء ليتمكن الجمهور من تلاوته بسهولة تلاوة صحيحة، ويتعبدوا بقراءته دون تحريف، ويتحفظوه على طريق مستقيم فإن الشريعة سمحة سهلة جاءت بالتيسير ورفع الحرج، قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) ومن القواعد الثابتة في الشريعة أن المشقة تجلب التيسير.
ب - في عهد بني أمية كثر دخول الأعاجم في الإسلام، واختلط بهم مسلمو العرب، وكثر اللحن، وخيف على كثير من المسلمين أن يلحنوا في قراءة القرآن، فأمر الخليفة عبد الملك بن مروان بنقط المصحف وشكله، صيانة له من اللحن والتحريف في القراءة، وتصدى لذلك الحجاج بن يوسف الثقفي، فأمر الحسن البصري ويحيى بن يعمر فقاما بنقطه وشكله، ولم يكن ذلك بدعا من القول ولا ابتداعا في الدين، لبنائه على مقاصد الشريعة في حفظ القرآن وتيسير تعلمه وتعليمه وإبلاغه للناس، هداية لهم وإقامة للحجة عليهم، ثم ثبت إجماع الأمة على نقط المصحف وشكله، واستمر العمل على ذلك إلى عصرنا فلم يعرف من أنكر ذلك مع طول العهد.
وقد أجمع الصحابة والتابعون ومن بعدهم على أن جمع أبي بكر الصديق القرآن أولا وجمع عثمان بن عفان له ثانيا من محامدهما - رضي الله عنهما -.
ولا شك أن كتابة المصحف حسب القواعد الإملائية من جنس جمع القرآن أولا وثانيا ومن جنس نقطه وشكله، من جهة البناء على مقاصد الشريعة والاعتماد على
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) سورة الحج الآية 78(6/31)
المصالح العامة، إذ كل منها يرجع في حكمه إلى المصالح العامة التي شهدت لها أدلة الشريعة جملة وإن لم يدل عليها بخصوصها دليل معين. فكانت كتابته حسب القواعد الإملائية مشروعة.
إن القرآن لم ينزل مكتوبا، وإنما نزل وحيا متلوا، فأملاه النبي - صلى الله عليه وسلم - على كتبته وكان أميا، فكتبوه بالرسم المعهود عندهم، وكانوا ضعافا في صناعة الكتابة، ولذا حصل بعض الاختلاف في رسم كتابتهم بل في رسم بعض الكلمات في مصاحف الأمصار المنتسخة من المصحف العثماني، فيجوز أن يكتب أيضا بالرسم الإملائي.
وقد ذكر ذلك الاختلاف الشيخ أبو عمرو الداني في كتابه المقنع وبين سبب هذا الاختلاف فقال:(6/32)
باب ذكر ما اختلفت فيه مصاحف أهل الأمصار بالإثبات والحذف
أخبرني الخاقاني قال حدثنا الأصبهاني قال حدثنا الكسائي عن ابن الصباح قال قال محمد بن عيسى عن نصير وهذا ما اختلف فيه أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل المدينة وأهل مدينة السلام وأهل الشام في كتاب المصاحف.(6/32)
كتبوا في سورة "البقرة" إلى آخرها في بعض المصاحف " إبرهم" بغير ياء وفي بعضها بالياء قال أبو عمرو وبغير ياء وجدت أنا ذلك في مصاحف أهل العراق في البقرة خاصة وكذلك رسم في مصاحف أهل الشام وقال معلى بن عيسى الوراق عن عاصم الجحدري "إبرهم" في "البقرة" بغير ياء كذلك وجد في الإمام وحدثنا الخاقاني شيخنا قال حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا أبو عبيد قال تتبعت رسمه في المصاحف فوجدته كتب في البقرة خاصة "إبرهم" بغير ياء قال نصير وفي بعضها فيضاعفه (245) بالألف وفي بعضها بغير ألف وفي بعضها قل بئس ما يأمركم به (92) مقطوع وفي بعضها بئسما موصولة وفي بعضها ملئكته وكتابه (285) بالألف وفي بعضها وكتبه بغير ألف.
وفي آل عمران في بعض المصاحف ويقاتلون الذين (21) بالألف وفي بعضها ويقتلون بغير ألف.
وفي " المائدة" في بعض المصاحف نحن ابنؤا الله (18) بالواو والألف وفي بعضها أبناء الله بغير واو وفي بعضها نخشا أن تصيبنا دائرة (52) بالألف وفي بعضها بالياء وفي بعضها فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا ساحر مبين (110) بالألف وفي بعضها سحر بغير ألف، وفي بعضها أو (كفارة) طعام مساكين (95) بالألف وفي بعضها مسكين بغير ألف.
وفي الأنعام في بعض المصاحف فالق الحب (95) بالألف وفي بعضها فلق بغير ألف وفي بعض المصاحف وجعل الليل سكنا (96) بغير ألف وفي بعضها وجاعل بالألف وفي بعضها لئن أنجيتنا (63) بالياء والتاء والنون وفي بعضها أنجينا بالياء والنون.
وفي "الأعراف" في بعض المصاحف كل ما دخلت أمة (38) مقطوعة وفي بعضها كلما موصولة وفي بعضها يأتوك بكل سحار عليم (112) الألف بعد الحاء وفي بعضها ساحر الألف قبل الحاء وفي بعضها إذا مسهم طيف (201) بغير ألف وفي بعضها طائف بألف وفي بعضها وريشا ولباس التقوى (26) بغير ألف وفي بعضها ورياشا بالألف قال أبو عمرو ولم يقرأ بذلك أحد من أئمة العامة إلا ما رويناه عن المفضل بن محمد الضبي عن عاصم وبذلك قرأنا من طريقه.
وفي "براءة" كتبوا في بعض المصاحف ولأوضعوا (47) بغير ألف وفي بعضها ولا أوضعوا بالألف.
وفي "يونس" في بعض المصاحف إن هذا لساحر (76) بالألف وفي بعضها لسحر مبين بغير ألف وفي بعضها وقال فرعون ائتوني بكل سحار (79) الألف بعد الحاء وفي بعضها(6/33)
سحر بغير ألف.
وفي "إبراهيم" في بعض المصاحف وذكرهم بأيم الله (5) قال أبو عمرو يعني بياء من غير ألف وقد رأيته أنا في بعض مصاحف أهل المدينة والعراق وكذلك ذكره الغازي بن قيس في كتابه بياءين من غير ألف قال نصير وفي بعضها بأيام الله بألف وياء واحدة.
وفي "الحجر" في بعض المصاحف وأرسلنا الرياح لواقح (22) بألف على الإجماع وفي بعضها الريح بغير ألف على واحدة.
وفي بني إسرائيل في بعض المصاحف أو كلهما (23) بغير ألف وفي بعضها أو كلاهما بألف وليس في شيء من المصاحف فيها ياء وفي بعضها سبحان ربي (93) بالألف وفي بعضها سبحن بغير ألف ولا يكتب في جميع القرآن بألف غير هذا الحرف اختلفوا فيه.
وفي "الكهف" في بعض المصاحف فله جزاء الحسنى بغير واو وفي بعضها جزؤا "بالواو" وفي بعض المصاحف فهل نجعل لك خراجا (94) بألف وفي بعضها "خرجا" بغير ألف وفي بعض المصاحف تذروه الريح (45) بغير ألف وفي بعضها الرياح بألف.
وفي طه في بعض المصاحف لا تخف دركا (77) بغير ألف وفي بعضها لا تخاف بألف.
وفي "الأنبياء" كتبوا في بعض المصاحف قال ربي (4) بالألف وفي بعضها قل ربي بغير ألف وفي بعضها أن لا إله إلا أنت (87) وفي بعضها بغير نون وفي بعضها في ما اشتهت أنفسهم (102) مقطوع وفي بعضها موصول.
وفي "الحج" في بعض المصاحف إن الله يدافع (38) بالألف وفي بعضها بغير ألف.
وفي المؤمنون في بعض المصاحف قال كم لبثتم (112) بألف وفي بعضها قل بغير ألف وفي بعضها قل إن لبثتم إلا قليلا (114) بغير ألف وفي بعضها قال بالألف وفي بعضها سيقولون لله لله لله (89، 87، 85) ثلاثتها بغير ألف وفي بعضها الأول (لله "بغير ألف والاثنان بعده "الله الله" وفي بعض المصاحف كل ما جاء أمة رسولها (44) مقطوع وفي بعضها كلما موصولة وفي بعضها أم تسئلهم خراجا (72) بألف وفي بعضها خرجا بغير ألف وكتبوا فخراج ربك 72) في جميع المصاحف بالألف.
وفي "الفرقان" في بعض المصاحف فيها سرجا (61) بغير ألف وفي بعضها سراجا بالألف.
وفي "الشعراء" في بعض المصاحف أتتركون فيما ههنا آمنين (146) موصولة وفي بعضها(6/34)
في ما مقطوعة وفي بعضها فارهين (149) بألف وفي بعضها فرهين بغير ألف وكذلك حاذرون (56) وحذرون.
وفي "النمل" في بعض المصاحف تهدى العمي (81) بالتاء بغير ألف وفي بعضها بهادي بألف وياء بعد الدال وفي بعضها فناظرة (35) بالألف وفي بعضها فنظرة بغير ألف.
وفي "القصص" في بعض المصاحف قالوا ساحران تظاهرا (48) بألف وفي بعضها سحران بغير ألف بعد السنين.
وفي "الروم" في بعض المصاحف وما أنت تهد العمي (53) بغير ألف ولم يثبتوا فيها ياء وفي بعضها بهاد بألف وليس فيها ياء. التي في "الروم" ليس فيها في شئ من المصاحف ياء والتي في النمل (81) فيها ياء في جميع المصاحف وفي بعضها وما آتيتم من ربا (39) بالألف بغير واو وفي بعضها ربوا بالواو.
وفي "الأحزاب" في بعض المصاحف يسئلون عن أنبائكم (20) بغير ألف وفي بعضها يسألون بالألف قال أبو عمرو ولم يقرأ بذلك أحد من أئمة القراء إلا ما رويناه من طريق محمد بن المتوكل رويس عن يعقوب الحضرمي وبذلك قرأنا في مذهبه وحدثنا أحمد بن عمر قال حدثنا ابن منير قال حدثنا عبد الله بن عيسى قال حدثنا ابن مينا قالون عن نافع أن ذلك في الكتاب بغير ألف.
وفي "يس" في بعض المصاحف وما عملت أيديهم (35) بالتاء من غير هاء وفي بعضها وما عملته بالهاء وفي بعضها في شغل فاكهون (55) بالألف وفي بعضها فكهون بغير ألف.
وفي "المؤمن" في بعض المصاحف وكذلك حقت كلمت ربك (6) بالتاء وفي بعضها كلمة بالهاء وفي بعضها إذ القلوب لدا الحناجر (18) بالألف وفي بعضها لدى بالياء.
وفي "الدخان" في بعض المصاحف فيها فاكهين (27) بالألف وفي بعضها فكهين بغير ألف.
وفي "الأحقاف" في بعض المصاحف ووصينا الإنسن بوالديه إحسنا (15) يجعلون أمام الحاء ألفا كذا قال وصوابه قبل الحاء وفي بعضها حسنا بغير ألف.
وفي الطور في بعض المصاحف فاكهين (18) بالألف وفي بعضها فكهين بغير ألف.
وفي اقتربت في بعض المصاحف خاشعا (7) بالألف وفي بعضها خشعا بغير ألف.
وفي الرحمن كتبوا في بعض المصاحف فبأي ءالاء ربكما تكذبان بالألف وفي بعضها(6/35)
تكذبن بغير ألف من أول السورة إلى آخرها وفي بعض المصاحف وجنا الجنتين دان (54) بالألف وفي بعضها وجنى بالياء.
وفي الواقعة في بعض المصاحف فلا أقسم بموقع النجوم (75) بغير ألف وفي بعضها بمواقع بالألف.
وفي الحديد في بعض المصاحف فيضعفه (11) بغير ألف وفي بعضها فيضاعفه بالألف وفي بعضها يضاعف لهم (18) بالألف وفي بعضها يضعف بغير ألف.
وفي المنافقون في بعض المصاحف وأنفقوا من ما رزقنكم (10) مقطوع وفي بعضها مما موصول، وفي الملك في بعض المصاحف كل ما ألقي فيها فوج (8) مقطوع وفي بعضها كلما موصول.
وفي قل أوحي في بعض المصاحف قل إنما أدعوا ربي (20) بغير ألف وقال أبو عمر وقال الكسائي قال الجحدري هو في الإمام قل قاف لام، وفي المرسلات في بعض المصاحف جمالت (33) بألف بعد الميم وفي بعضها جملت بغير ألف قال أبو عمرو وليس في شيء منها ألف قبل التاء وفي المطففين في بعض المصاحف فكهين (31) بغير ألف وفي بعضها فاكهين بالألف وفي أرأيت في بعض المصاحف أريت (1) بغير ألف وفي بعضها أرأيت بالألف وفي بعض المصاحف أرأيتم بالألف وفي بعضها أريتم بغير ألف في جميع القرآن.
قال أبو عمرو ورأيت أبا حاتم قد حكى عن أيوب بن المتوكل أنه رأى في مصاحف أهل المدينة إنا لنصر رسلنا في غافر بنون واحدة ولم نجد ذلك كذلك في شيء من المصاحف وبالله التوفيق. . ".(6/36)
باب ذكر ما اختلفت فيه مصاحف أهل الحجاز والعراق والشام المنتسخة من الإمام بالزيادة والنقصان
وهذا الباب سمعناه من غير واحد من شيوخنا من ذلك في البقرة في مصاحف أهل الشام قالوا اتخذ الله ولدا (116) بغير واو قبل قالوا وفي سائر المصاحف وقالوا بالواو،(6/36)
وفي مصاحف أهل المدينة والشام وأوصى بها (132) بألف بين الواوين قال أبو عبيد وكذلك رأيتها في الإمام مصحف عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وفي سائر المصاحف ووصى بغير ألف وفي آل عمران في مصاحف أهل المدينة والشام سارعوا إلى مغفرة (133) بغير واو قبل السين في سائر المصاحف وسارعوا بالواو وفيها في مصاحف أهل الشام وبالزبر وبالكتب (184) بزيادة باء في الكلمتين كذا رواه لي خلف بن إبراهيم عن أحمد بن محمد عن علي عن أبي عبيد عن هشام بن عمار عن أيوب بن تميم عن يحيى بن الحرث عن ابن عامر، وعن هشام عن سويد بن عبد العزيز عن الحسن بن عمران عن عطية بن قيس عن أم الدرداء عن أبي الدرداء عن مصاحف أهل الشام وكذلك حكى أبو حاتم أنهما مرسومان بالباء في مصحف أهل حمص الذي بعث عثمان به إلى الشام وقال هرون ابن موسى الأخفش الدمشقي إن الباء زيدت في الإمام يعني الذي وجه به إلى الشام في وبالزبر وحدها وروى الكسائي عن أبي حيوه شريح بن يزيد أن ذلك كذلك في المصحف الذي بعث به عثمان إلى الشام والأول أعلى إسنادا وهما في سائر المصاحف بغير باء وفي النساء قال الكسائي والفراء في بعض مصاحف أهل الكوفة والجار ذا القربى (36) بألف ولم نجد ذلك كذلك في شيء من مصاحفهم ولا قرأ به أحد منهم وفي مصاحف أهل الشام ما فعلوه إلا قليلا منهم (66) بالنصب وفي سائر المصاحف إلا قليل بالرفع وفي المائدة في مصاحف أهل المدينة ومكة والشام يقول الذين آمنوا (53) بغير واو قبل يقول وفي مصاحف أهل الكوفة والبصرة وسائر العراق ويقول بالواو وفيها في مصاحف أهل المدينة والشام من يرتدد منكم (54) بدالين قال أبو عبيد وكذا رأيتها في الإمام بدالين وفي سائر المصاحف يرتد بدال واحدة وفي الأنعام في مصاحف أهل الشام ولدار الآخرة (32) بلام واحدة وفي سائر المصاحف بلامين وفيها في مصاحف أهل الكوفة لئن أنجينا من هذه 63) بياء من غير تاء وفي سائر المصاحف لئن أنجيتنا بالياء والتاء وليس في شيء منها ألف بعد الجيم وفيها في مصاحف أهل الشام وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولدهم شركائهم (137) بالياء وفي سائر المصاحف شركاؤهم بالواو وفي الأعراف في مصاحف أهل الشام قليلا ما يتذكرون (3) بالياء والتاء وفي سائر المصاحف تذكرون بالتاء من غير ياء وفيها في مصاحف أهل الشام ما كنا لنهتدي (43) بغير واو قبل ما وفي سائر المصاحف وما بالواو وفيها في مصاحف أهل الشام في قصة صالح وقال الملأ الذين استكبروا (75) بزيادة واو قبل قال وفي سائر المصاحف قال بغير واو وفيها في مصاحف أهل الشام وإذ أنجاكم من آل فرعون (141) بألف من غير ياء ولا نون وفي سائر المصاحف أنجينكم بالياء والنون من غير ألف وفي براءة في مصاحف أهل المدينة والشام الذين اتخذوا مسجدا ضرارا (107) بغير(6/37)
واو قبل الذين وفي سائر المصاحف والذين بالواو وفيها في مصاحف أهل مكة تجري من تحتها الأنهر بزيادة " من" وفي سائر المصاحف بغير "من" وفي يونس في مصاحف أهل الشام هو الذي ينشركم في البر والبحر (22) بالنون والشين وفي سائر المصاحف يسيركم بالسين والياء وفي سبحان في مصاحف أهل مكة والشام قال سبحان ربي هل كنت (93) بألف وفي سائر المصاحف قل بغير ألف وفي الكهف في مصاحف أهل المدينة ومكة والشام خيرا منهما منقلبا (36) بزيادة ميم بعد الهاء على التثنية وفي سائر مصاحف أهل العراق منها بغير ميم على التوحيدة وفيها في مصاحف أهل مكة ما مكني فيه ربي (95) بنونين وفي سائر المصاحف مكني بنون واحدة، وفي الأنبياء في مصاحف أهل الكوفة قال ربي يعلم القول (4) بألف وفي سائر المصاحف قل ربي بغير ألف وفيها في مصاحف أهل مكة ألم ير الذين كفروا (30) بغير واو بين الهمزة واللام وفي سائر المصاحف أولم ير الذين بالواو وفي المؤمنون في مصاحف أهل البصرة سيقولون الله قل أفلا تتقون (87) سيقولون الله قل فأنى تسحرون (89) بالألف في الاسمين الأخيرين وفي سائر المصاحف ("لله" فيهما قال أبو عبيد وكذلك رأيت ذلك في الإمام، وقال هرون الأعور عن عاصم الجحدري كانت في الإمام "لله "لله" وأول من ألحق هاتين الألفين نصر بن عاصم الليثي، وقال أبو عمرو كان الحسن يقول الفاسق عبيد الله بن زياد زاد فيهما ألفا وقال يعقوب الحضرمي أمر عبيد الله بن زياد أن يزاد فيها ألف.
قال أبو عمرو وهذه الأخبار عندنا لا تصح لضعف نقلتها واضطرابها وخروجها عن العادة إذ غير جائز أن يقدم نصر وعبيد الله هذا الإقدام من الزيادة في المصاحف مع علمهما بأن الأمة لا تسوغ لهما ذلك بل تنكره وترده وتحذر منه ولا تعمل عليه وإذا كان ذلك بطل إضافة زيادة هاتين الألفين إليهما وصح أن إثباتهما من قبل عثمان والجماعة رضوان الله عليهم على حسب ما نزل به من عند الله تعالى وما أقرأه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واجتمعت المصاحف على أن الحرف الأول سيقولون لله (58) بغير ألف قبل اللام وفيها في مصاحف أهل الكوفة قل كم لبثتم (112) ووقل إن لبثتم (114) بغير ألف في الحرفين وفي سائر المصاحف (قال) بالألف في الحرفين وينبغي أن يكون الحرف الأول في مصاحف أهل مكة بغير ألف والثاني بالألف لأن قراءتهم فيهما كذلك ولا خبر عندنا في ذلك عن مصاحفهم إلا ما رويناه عن أبي عبيد أنه قال ولا أعلم مصاحف أهل مكة إلا عليها يعني على إثبات الألف في الحرفين وفي الفرقان في مصاحف أهل مكة وننزل الملائكة تنزيلا (25) بنونين وفي سائر المصاحف ونزل بنون واحدة وفي الشعراء في مصاحف أهل المدينة والشام فتوكل على العزيز الرحيم (217)(6/38)
بالفاء وفي سائر المصاحف وتوكل بالواو وفي النمل في مصاحف أهل مكة وليأتينني بسلطن مبين (21) بنونين وفي سائر المصاحف بنون واحدة وفي القصص في مصاحف أهل مكة قال موسى ربي أعلم (37) بغير واو قبل قال وفي سائر المصاحف وقال بالواو وفي يس في مصاحف أهل الكوفة وما عملت أيديهم (35) بغير هاء بعد التاء وفي سائر المصاحف وما عملته بالهاء وفي الزمر في مصاحف أهل الشام تأمرونني أعبد (64) بنونين وفي سائر المصاحف تأمروني أعبد بنون واحدة وفي المؤمن في مصاحف أهل الشام كانوا هم أشد منكم (21) بالكاف وفي سائر المصاحف أشد منهم بالهاء وفيها في مصاحف أهل الكوفة أو أن يظهر في الأرض الفساد بزيادة الألف قبل الواو وروى هرون عن صخر بن جويرية وبشار الناقط عن أسيد أن ذلك كذلك في الإمام مصحف عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وفي سائر المصاحف وأن يظهر بغير ألف وفي الشورى في مصاحف أهل المدينة والشام بما كسبت أيديكم (39) بغير فاء قبل الباء وفي سائر المصاحف فبما كسبت بزيادة فاء وفي الزخرف في مصاحف أهل المدينة والشام يعبادي لا خوف عليكم (68) بالياء وفي مصاحف أهل العراق يعباد بغير الياء وكذا ينبغي أن يكون في مصاحف أهل مكة لأن قراءتهم فيه كذلك ولا نص عندنا في ذلك في مصاحفهم إلا ما حكاه ابن مجاهد أن ذلك في مصاحفهم بغير ياء ورأيت بعض شيوخنا يقول إن ذلك في مصاحفهم بالياء وأحسبه أخذ ذلك من قول أبي عمرو إذ حكى أنه رأى الياء في ذلك ثابتة في مصاحف أهل الحجاز ومكة من الحجاز والله أعلم.
وحدثنا محمد بن علي قال حدثنا محمد بن قطن قال حدثنا سليمان بن خلاد قال حدثنا اليزيدي قال أبو عمرو يعبادي رأيتها في مصاحف أهل المدينة والحجاز بالياء وفيها في مصاحف أهل المدينة والشام ما تشتهيه الأنفس (71) بهائين ورأيت في بعض شيوخنا يقول إن ذلك كذلك في مصاحف أهل الكوفة وهو غلط قال أبو عبيد وبهاءين رأيته في الإمام وفي سائر المصاحف تشتهي بهاء واحدة وفي الأحقاف في مصاحف أهل الكوفة بولديه إحسانا (15) بزيادة ألف قبل الحاء وبعد السين وفي سائر المصاحف حسنا بغير ألف وفي القتال قال خلف بن هشام البزار في مصاحف أهل مكة والكوفيين فهل ينظرون إلا الساعة إن تأتيهم (18) بالكسر مع الجزم وفي الرحمن في مصاحف أهل الشام والحب ذا العصف والريحان (12) بالألف والنصب وفي سائر المصاحف ذو العصف بالواو والرفع قال أبو عبيد وكذلك رأيتها في الذي يقال له الإمام مصحف عثمان - رضي الله عنه -، وفيها في مصاحف أهل الشام ذو الجلل والإكرام (78) آخر السورة بالواو وفي سائر المصاحف ذي الجلل والاكرام بالياء والحرف الأول (27) في كل المصاحف بالواو وفي(6/39)
الحديد في مصاحف أهل الشام وكل وعد الله الحسنى (10) بالرفع وفي سائر المصاحف وكلا بالنصب وفيها في مصاحف أهل المدينة والشام فإن الله الغني الحميد بغير "هو" وفي سائر المصاحف هو الغني بزيادة "هو" وفي الشمس في مصاحف أهل المدينة والشام فلا يخاف عقبها (15) بالفاء وفي سائر المصاحف ولا يخاف بالواو حدثنا ابن خاقان قال حدثنا أحمد المكي قال حدثنا علي قال حدثنا أبو عبيد قال هذه الحروف التي اختلفت في مصاحف الأمصار مثبتة بين اللوحين وهي كلها منسوخة من الإمام الذي كتبه عثمان ثم بعث إلى كل أفق مما نسخ بمصحف وهي كلها كلام الله عز وجل.
حدثنا خلف بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا القسم بن سلام قال حدثنا إسمعيل بن جعفر المدني أن أهل الحجاز وأهل العراق اختلفت مصاحفهم في هذه الحروف قال القسم وهي اثنا عشر حرفا: كتب أهل المدينة في سورة البقرة وأوصى بها إبراهيم بنيه (132) بألف وكتب أهل العراق ووصى بغير ألف وفي آل عمران كتب أهل المدينة سارعو إلى مغفرة (133) بغير واو وأهل العراق وسارعوا بالواو وفي المائدة كتب أهل المدينة يقول الذين آمنوا (53) بغير واو وأهل العراق ويقول بالواو وفيها أيضا كتب أهل المدينة من يرتدد منكم (54) بدالين وأهل العراق من يرتد بدال واحدة وفي براءة أهل المدينة الذين اتخذوا مسجدا (107) بغير واو وأهل العراق والذين بالواو وفي الكهف أهل المدينة خيرا منهما منقلبا (36) على اثنين وأهل العراق خيرا منها على واحدة وفي الشعراء أهل المدينة فتوكل على العزيز الرحيم (217) بالفاء وأهل العراق وتوكل بالواو وفي المؤمن أهل المدينة وأن يظهر في الأرض الفساد (26) بغير ألف وأهل العراق أو أن بألف وفي عسق أهل المدينة بما كسبت أيديكم (30) بغير فاء وأهل العراق فبما بالفاء وفي الزخرف أهل المدينة تشتهيه الأنفس (71) بهاءين وأهل العراق تشتهي بهاء واحدة وفي الحديد أهل المدينة فإن الله الغني الحميد (24) بغير "هو" وفي الشمس وضحيها أهل المدينة فلا يخاف عقبها (15) بالفاء وأهل العراق ولا يخاف بالواو حدثنا أحمد بن عمر قال حدثنا محمد بن أحمد قال حدثنا عبد الله بن عيسى قال حدثنا قالون عن نافع أن الحروف المذكورة في مصاحف أهل المدينة على ما ذكر إسماعيل سواء.
حدثنا محمد بن علي قال حدثنا ابن مجاهد قال في مصاحف أهل مكة في التوبة تجري من تحتها الأنهر بزيادة "من" وفي سبحان قال سبحان ربي (93) بألف وفي الكهف ما مكنني فيه (95) بنونين وفي الأنبياء ألم ير الذين كفروا (30) بغير واو وفي الفرقان وننزل الملئكة(6/40)
(25) بنونين وفي النمل أو ليأتينني (21) بنونين وفي القصص قال موسى ربي أعلم (37) بغير واو.
وحدثنا ابن غلبون قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثنا أحمد بن أنس قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا سويد بن عبد العزيز وأيوب بن تميم عن يحيى بن الحرث عن عبد الله بن عامر (ح) وحدثنا الخاقاني قال حدثنا أحمد قال حدثنا علي قال حدثنا أبو عبيد واللفظ له قال هشام (ح) وحدثنا سويد بن عبد العزيز أيضا عن الحسن بن عمران عن عطية بن قيس عن أم الدرداء عن أبي الدرداء أن هذه الحروف في مصاحف أهل الشام وهي ثمانية وعشرون حرفا في مصاحف أهل الشام: في البقرة قالوا اتخذ الله ولدا (116) بغير واو وفي آل عمران سارعوا (133) بغير واو وفيها بالبينات وبالزبر وبالكتب (84) ثلاثتهن بالباء وفي النساء إلا قليلا منهم (66) بالنصب وفي المائدة يقول الذين آمنوا (53) بغير واو وفيها من يرتدد منكم عن دينه (54) بدالين وفي الأنعام والدار الآخرة (32) بلام واحدة وفيها قتل أولادهم شركائهم (137) بنصب "الأولاد" وخفض "الشركاء" وفي الأعراف قليلا ما يتذكرون (3) وفيها ما كنا لنهتدي (43) بغير واو وفيها في قصة صالح وقال الملأ (75) بالواو وفيها وإذ أنجكم (141) بغير نون وفي براءة الذين اتخذوا (107) بغير واو وفي يونس هو الذي ينشركم (22) بالنون والشين وفيها إن الذين حقت عليهم كلمت ربك (96) على الجمع وفي بني إسرائيل قال سبحان ربي (93) على الخبر وفي الكهف خيرا منهما (36) على اثنين وفي المؤمنون سيقولون لله (85 و87 و89) ، ثلثتهن بغير ألف وفي الشعراء فتوكل على العزيز (217) بالفاء وفي النمل إننا لمخرجون (67) على نونين وفي المؤمن أشد منكم (21) بالكاف وفيها وأن يظهر في الأرض (26) بغير ألف وفي عيسق بما كبست أيديكم (30) بغير فاء وفي الرحمن والحب ذا العصف والريحان (12) بالنصب وفيها تبرك اسم ربك ذو الجلل والإكرام (87) بالرفع وفي الحديد فإن الله الغني الحميد (24) بغير "هو" وفي والشمس فلا يخاف عقبها (15) بالفاء.
حدثنا الخاقاني قال حدثنا أحمد قال حدثنا علي قال قال أبو عبيد اختلفت مصاحف أهل العراق والكوفة والبصرة في خمسة أحرف: كتب الكوفيون في الأنعام لئن أنجينا (63) بغير تاء وفي الأنبياء قال ربي يعلم (4) بالألف وفي المؤمنون قل كم لبثتم (112) قل إن لبثتم (114) بغير ألف فيهما وفي الأحقاف بولديه إحسانا (15) بألف قبل الحاء وأخرى بعد السين وكتبها المصريون لئن أنجيتنا بالتاء قل ربي يعلم بغير ألف قال كم لبثتم قال إن لبثتم " بالألف"(6/41)
بولديه حسنا بغير ألف.
قال أبو عمرو وروي لنا عن ابن القسم وأشهب وابن وهب أنهم رأوا في مصحف جد مالك ابن أنس الذي كتبه حين كتب عثمان بن عفان - رضي الله عنه - المصاحف أخرجه إليهم مالك في حم عسق فبما كسبت (30) بالفاء وفي الزخرف ما تشتهي الأنفس (71) وفي الحديد فإن الله هو الغني الحميد (24) بزيادة "هو" وفي الشمس ولا يخاف (15) بالواو وسائر الحروف على ما رواه إسماعيل عن مصاحف أهل المدينة وروى خارجة بن مصعب عن نافع أنه قال في الإمام في الحديد هو الغني بزيادة "هو" وفي الشمس ولا يخاف بالواو وقد ذكرنا حكاية أبي عبيد عن الإمام في رسم هذه الحروف وغيرها فأغنى ذلك عن الإعادة.
وقال أبو حاتم في مصحف أهل المدينة في يوسف وقال الملك اتون (54) بنقصان ياء وفي مصحف أهل مكة في آخر النساء فآمنوا بالله ورسوله (171) وفي مصحف أهل حمص الذي بعث به في المصحف الذي بعث به عثمان إلى الشام ثم كيدوني بالياء وما كان للنبي بلامين وفي الكهف للتخذت عليه.
قال أبو عمرو فهذا جميع ما انتهى إلينا بالروايات من الاختلاف بين مصاحف أهل الأمصار وقد مضى من ذلك حروف كثيرة في الأبواب المتقدمة والقطع عندنا على كيفية ذلك في مصاحف أهل الأمصار على قراءة أيمتهم غير جائز إلا برواية صحيحة عن مصاحفهم بذلك إذ قراءتهم في كثير من ذلك قد تكون على غير مرسوم مصحفهم ألا ترى أن أبا عمرو قرأ يعبادي لا خوف عليكم (168) في الزخرف بالياء وهو في مصاحف أهل البصرة بغير ياء فسئل عن ذلك فقال إني رأيته في مصاحف أهل المدينة بالياء فترك ما في مصحف أهل بلده واتبع في ذلك مصاحف أهل المدينة وكذلك قراءته في الحجرات لا يألتكم من أعملكم شيئا (14) بالهمزة التي صورتها ألف وذلك مرسوم في جميع المصاحف بغير ألف وكذلك قراءته أيضا في المنافقون وأكون من الصلحين (10) بالواو والنصب وذلك في كل المصاحف بغير واو مع الجزم قال أبو عبيد وكذا رأيته في الإمام قال واتفقت على ذلك المصاحف وكذلك أيضا قراءته في المرسلات وإذا الرسل وقتت (11) بالواو من الوقت وذلك في الإمام وفي كل المصاحف بالألف وكذلك قراءته وقراءة ابن كثير في البقرة أو ننسأها (106) بهمزة ساكنة بين السين والهاء وصورتها ألف وليست كذلك في مصاحف أهل مكة ولا في غيرها وكذلك قراءة ابن عامر وعاصم من رواية حفص بن سليمان في الزخرف قال أولو جئتكم (24) بالألف ولا خبر عندنا إن ذلك كذلك مرسوم في مصاحف أهل الشام ولا في غيرها وكذلك أيضا قراءة عاصم من الطريق المذكور في الأنبياء قال رب احكم بالحق (112) بالألف(6/42)
ولا رواية عندنا أن ذلك كذلك مرسوم في شيء من المصاحف في نظائر لذلك كثيرة ترد عن أئمة القراءة بخلاف مرسوم مصحفهم وإنما بينت هذا الفصل ونبهت عليه لأني رأيت بعض من أشار إلى جمع شيء من هجاء المصاحف من منتحلي القراءة من أهل عصرنا قد قصد هذا المعنى وجعله أصلا فأضاف بذلك ما قرأ به كل واحد من الأئمة من الزيادة والنقصان في الحروف المتقدمة وغيرها إلى مصاحف أهل بلده وذلك من الخطأ الذي يقود إليه إهمال الرواية وإفراط الغباوة وقلة التحصيل إذ غير جائز القطع على كيفية ذلك إلا بخبر منقول عن الأئمة السالفين رواية صحيحة عن العلماء المختصين بعلم ذلك المؤتمنين على نقله وإيراده لما بيناه من الدلالة وبالله التوفيق.
قال أبو عمرو فإن سأل سائل عن السبب الموجب لاختلاف مرسوم هذه الحروف الزوائد في المصاحف قلت السبب في ذلك عندنا أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - لما جمع القرآن في المصاحف ونسخها على صورة واحدة وآثر في رسمها لغة قريش دون غيرها مما لا يصح ولا يثبت نظرا للأمة واحتياطا على أهل الملة وثبت عنده أن هذه الحروف من عند الله عز وجل كذلك منزلة ومن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسموعة وعلم أن جمعها في مصحف واحد على تلك الحال غير ممكن إلا بإعادة الكلمة مرتين وفي رسم ذلك كذلك من التخليط والتغيير للمرسوم ما لا خفاء به ففرقها في المصاحف لذلك فجاءت مثبتة في بعضها ومحذوفة في بعضها لكي تحفظها الأمة كما نزلت من عند الله عز وجل وعلى ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا سبب اختلاف مرسومها في مصاحف أهل الأمصار.
فإن قال قائل فما تقول في الخبر الذي رويتموه عن يحيى بن يعمر وعكرمة مولى ابن عباس عن عثمان - رضي الله عنه - أن المصاحف لما نسخت عرضت عليه فوجد فيها حروفا من اللحن فقال اتركوها فإن العرب ستقيمها أو ستعربها بلسانها إذ ظاهره يدل على خطأ في الرسم قلت هذا الخبر عندنا لا يقوم بمثله حجة ولا يصح به دليل من جهتين إحداهما أنه مع تخليط في إسناده واضطراب في ألفاظه مرسل لأن ابن يعمر وعكرمة لم يسمعا من عثمان شيئا ولا رأياه وأيضا فإن ظاهر ألفاظه ينفي وروده عن عثمان - رضي الله عنه - لما فيه من الطعن عليه مع محله من الدين ومكانه من الإسلام وشدة اجتهاده في بذل النصيحة واهتمامه بما فيه الصلاح للأمة فغير ممكن أن يتولى لهم جمع المصحف مع سائر الصحابة الأخيار الأتقياء الأبرار نظرا لهم ليرتفع الاختلاف في القرآن بينهم ثم يترك لهم فيه مع ذلك لحنا وخطأ يتولى تغييره من يأتي بعده ممن لا شك أنه لا يدرك مداه ولا يبلغ غايته ولا غاية من شاهده، هذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله ولا يحل لأحد أن يعتقده.
فإن قال فما وجه ذلك عندك لو صح عن عثمان - رضي الله عنه - قلت وجهه أن يكون(6/43)
عثمان - رضي الله عنه - أراد باللحن المذكور فيه التلاوة دون الرسم إذ كان كثير منه لو تلي على حال رسمه لانقلب بذلك معنى التلاوة وتغيرت ألفاظها ألا ترى قوله أولأ اذبحنه ولا أوضعوا ومن نباءى المرسلين وسأوريكم والربوا وشبهه مما زيدت الألف والياء والواو في رسمه لو تلاه تال لا معرفة له بحقيقة الرسم على حال صورته في الخط لصير الإيجاب نفيا ولزاد في اللفظ ما ليس فيه ولا من أصله فأتى من اللحن بما لا خفاء به على من سمعه مع كون رسم ذلك كذلك جائزا مستعملا فأعلم عثمان - رضي الله عنه - إذ وقف على ذلك أن من فاته تمييز ذلك وعزبت معرفته عنه ممن يأتي بعده سيأخذ ذلك عن العرب إذ هم الذين نزل القرآن بلغتهم فيعرفونه بحقيقة تلاوته ويدلونه على صواب رسمه فهذا وجهه عندي والله أعلم.
فإن قيل فما معنى قول عثمان - رضي الله عنه - في آخر هذا الخبر لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف قلت معناه أي لم توجد فيه مرسومة بتلك الصور المبنية على المعاني دون الألفاظ المخالفة لذلك إذ كانت قريش ومن ولي نسخ المصاحف من غيرها قد استعملوا ذلك في كثير من الكتابة ولسلكوا فيها تلك الطريقة ولم تكن ثقيف وهذيل مع فصاحتهما يستعملان ذلك فلو أنهما وليتا من أمر المصاحف ما وليه من تقدم من المهاجرين والأنصار لرسمتا جميع تلك الحروف على حال استقرارها في اللفظ ووجودها في المنطق دون المعاني والوجوه إذ ذلك هو المعهود عندهما والذي جرى عليه استعمالها هذا تأويل قول عثمان عندي لو ثبت وجاء مجيء الحجة وبالله التوفيق.
حدثنا خلف بن إبراهيم المقرئ قال حدثنا أحمد بن محمد المكي قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا القسم بن سلام قال حدثنا حجاج عن هرون قال أخبرني الزبير بن الخريت عن عكرمة قال لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان - رضي الله عنه - فوجد فيها حروفا من اللحن فقال لا تغيروها فإن العرب ستغيرها أو قال ستعربها بألسنتها لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف.
حدثنا عبد الرحمن بن عثمان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا عمرو بن مرزوق قال حدثنا عمران القطان عن قتادة عن نصير بن عاصم عن عبد الله بن أبي فطيمة عن يحيى بن يعمر قال قال عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في القرآن لحن تقيمه العرب بألسنتها.
قال قيل فما تأويل الخبر الذي رويتموه أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه أنه سأل عائشة - رضي الله عنها - عن لحن القرآن عن قوله إن هذان لساحران (20-63) وعن والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة (4-162) وعن إن الذين آمنوا والذين هادوا. . والصبئون (5-63)(6/44)
فقالت ياابن أختي هذا عمل الكتاب أخطئوا في الكتابة. قلت تأويله ظاهر وذلك أن عروة لم يسأل عائشة فيه عن حروف الرسم التي تزاد فيها لمعنى وتنقص منها لآخر تأكيدا للبيان وطلبا للخفة وإنما سألها فيه عن حروف من القراءة المختلفة الألفاظ المحتملة الوجوه على اختلاف اللغات التي أذن الله - عز وجل - لنبيه - عليه السلام - ولأمته في القراءة بها واللزوم على ما شاءت منها تيسيرا لها وتوسعة عليها وما هذا سبيله وتلك حاله فعن اللحن والخطأ والوهم والزلل بمعزل لفشوه في اللغة ووضوحه في قياس العربية وإذا كان الأمر في ذلك كذلك فليس ما قصدته فيه بداخل في معنى المرسوم ولا هو من سببه في شيء وإنما سمى عروة ذلك لحنا وأطلقت عائشة على مرسومه كذلك الخطأ على جهة الاتساع في الأخبار وطريق المجاز في العبارة إذا كان ذلك مخالفا لمذهبهما وخارجا عن اختيارهما وكان الأوجه والأولى عندهما والأكثر والأفشى لديهما لا على وجه الحقيقة والتحصيل والقطع لما بيناه قبل من جواز ذلك وفشوه في اللغة واستعمال مثله في قياس العربية مع انعقاد الإجماع على تلاوته كذلك دون ما ذهبا إليه إلا ما كان من شذوذ أبي عمرو بن العلاء في إن هذين (20-63) خاصة هذا الذي يحمل عليه هذا الخبر ويتأول فيه دون أن يقطع به على أن أم المؤمنين - رضي الله عنها - مع عظيم محلها وجليل قدرها واتساع علمها ومعرفتها بلغة قومها لحنت الصحابة وخطأت الكتبة وموضعهم من الفصاحة والعلم باللغة موضعهم الذي لا يجهل ولا ينكر هذا ما لا يسوغ ولا يجوز قد تأول بعض علمائنا قول أم المؤمنين أخطئوا في الكتاب أي أخطئوا في اختيار الأولى من الأحرف السبعة يجمع الناس عليه لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز لأن ما لا يجوز مردود بإجماع وإن طالت مدة وقوعه وعظم قدر موقعه وتأول اللحن إنه القراءة واللغة كقول عمر - رضي الله عنه - أبي أقرؤنا وإنا لندع بعض لحنه أي قراءته ولغته فهذا بين وبالله التوفيق.
حدثنا الخاقاني قال حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه قال سألت عائشة - رضي الله عنها - عن لحن القرآن عن قول الله عز وجل إن هذان لسحران وعن قوله والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة وعن قوله تبارك وتعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا. . والصبئون فقالت يا ابن أختي هذا عمل الكتاب أخطئوا في الكتاب.
فإن قال قائل: فإذ قد أوضحت ما سئلت عنه من تأويل هذين الخبرين فعرفنا بالسبب الذي دعا عثمان - رضي الله عنه - إلى جمع القرآن في المصاحف وقد كان مجموعا في الصحف على ما رويته لنا في حديث زيد بن ثابت المتقدم قلت: السبب في ذلك بين فذلك الخبر على قول بعض العلماء وهو أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان قد جمعه أولا على السبعة الأحرف التي أذن الله - عز وجل - للأمة في التلاوة بها(6/45)
ولم يخص حرفا بعينه فلما كان زمان عثمان ووقع الاختلاف بين أهل العراق وأهل الشام في القراءة وأعمله حذيفة بذلك رأى هو ومن بالحضرة من الصحابة أن يجمع الناس على حرف واحد من تلك الأحرف وأن يسقط ما سواه فيكون ذلك مما يرتفع به الاختلاف ويوجب الاتفاق إذا كانت الأمة لم تؤمر بحفظ الأحرف السبعة وإنما خيرت في أيها شاءت لزمته وأجزأها كتخييرها في كفارة اليمين بالله بين الإطعام والكسوة والعتق لا أن يجمع ذلك كله فكذلك السبعة الأحرف.
وقيل إنما جمع المصحف في مصحف واحد لما في ذلك من حياطة القرآن وصيانته وجعل المصاحف المختلفة مصحفا واحدا متفقا عليه وأسقط ما لا يصح من القراءات ولا يثبت من اللغات وذلك من مناقبه وفضائله - رضي الله عنه -) . اهـ. وإذا ثبت ذلك فلم لا يجوز أن يكتب المصحف بالرسم الإملائي بعد إحكامه وضبط قواعده، بل هو أولى منه وأدق وأحسن نظاما وأوضح قراءة وأسهل تلاوة.
ونوقش ذلك بما يأتي:
أ - وقد يقال: لا حرج في قراءة القرآن بالرسم العثماني، فإن سهولة القراءة تدور على معرفة الرسم والتمرين على القراءة به أيا كان، فإذا عني الإنسان بالرسم العثماني وتعهده بالقراءة سهلت عليه القراءة به كالقراءة حسب قواعد الإملاء، فإنها سهلت بمعرفة الرسم الإملائي وتطبيقه كتابة وقراءة، وهذا أمر عام في جميع اللغات، فإن مبناها المعرفة والمحاكاة والتلقي.
ويشهد لذلك سهولة القراءة في المصحف بالرسم العثماني على من تعلموا طوال القرون الماضية في الكتاتيب إلى العصر الحاضر مع انتشار قواعد الإملاء والعمل بها تأليفا وقراءة، فالسهولة والصعوبة والوضوح والاشتباه ليس ذاتيا لهذا أو ذاك، وإنما يرجع ذلك إلى التعهد والعناية، والإهمال والإعراض.
ب - على أن هناك كلمات تكتب في الرسم الإملائي على طريقة الرسم العثماني مستثناة من القواعد الإملائية ولم يعق ذلك العصريين عن قراءتها أو كتابتها ولم يشق عليهم متابعة الرسم العثماني فيها مثل حذف الألف من ذلك، وهذا، وهؤلاء، ولكن، وأولئك. . . الخ ومثل زيادة الواو في أولئك، وأولو الألباب، وأولي أجنحة، وزيادة الألف في مائة.
ت - إن المشقة التي يعانيها من لم يعرف الرسم العثماني في تلاوة القرآن ليست من جنس الضرورة إلى جمع القرآن ولا من جنس الحاجة إلى نقطه وشكله، فإنه يمكن القضاء على تلك المشقة بمعرفة الرسم العثماني والتمرس بالقراءة على مقتضاه كما تقدم بيانه، بخلاف الضرورة إلى جمع القرآن أولا وثانيا فإنها لا ترتفع إلا بجمعه ولا يقضى عليها إلا به، وكذا الحال في الحاجة إلى نقطه وشكله، فإنها لا تزول إلا بذلك ولا تندفع إلا به، إذ العجمة تتزايد بدخول الأعاجم في الإسلام، وضعف اللسان(6/46)
العربي، وكثرة اللحن تتزايد أيضا مع طول الزمن وكثرة الاختلاط بالأعاجم، فلم يكن هناك مناص من الجمع والنقط والشكل، لعدم وجود بديل يقوم مقام ذلك.
د- نعم إن القرآن نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مكتوب، ولكن نوعا من الكتابة كان معهودا عند العرب وكتب به القرآن حين نزوله، ولم ينكر الله على رسوله ولا على كتبته تقييده بهذا النوع من الكتابة بل تحرى عثمان - رضي الله عنه - أن يكتب في الجمع الثاني بلغة قريش خاصة لكونه نزل بلغتهم واستمر العمل على ذلك قبل وضع قواعد الإملاء وبعد وضعها، فكان ذلك تقريرا لأمر عثمان وطبقه كتبة المصحف حينما كتبوه في عهده، وإجماع عصور من الأمة على ذلك وصار بذلك سنة متبعة.(6/47)
رابعا: بيان ما يوجب بقاء كتابة المصاحف بالرسم العثماني، وما قد يترتب على العدول عنه من تحريف ونحوه.
أولا: ثبت أن كتابة المصحف بالرسم العثماني كانت في خلافة عثمان - رضي الله عنه - بأمره، وأنه أمر كتبة المصحف أن يكتبوا ما اختلفوا فيه بلغة قريش وذلك مما يدل على القصد إلى رسم معين ووافقه على ذلك الصحابة - رضي الله عنهم -، وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا رغم وضع قواعد الإملاء، والعمل بمقتضاها في التأليف والقراءة وكتابة الرسائل، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، فكانت المحافظة على كتابة المصحف بهذا الرسم واجبة: أو سنة متبعة، اقتداء بعثمان وعلي وسائر الصحابة - رضي الله عنهم - وعملا بالإجماع.(6/48)
ثانيا: إن الرسم الإملائي نوع من الاصطلاح في الخط فهو قابل للتغيير والتبديل باصطلاح آخر مرة بعد أخرى كسائر رسوم الخطوط في اللغة العربية وغيرها، فإذا عدلنا عن الرسم العثماني إلى الرسم الإملائي الموجود حاليا تسهيلا للقراءة فقد يفضي ذلك إلى التغيير كلما تغير الاصطلاح في الكتابة لنفس العلة وقد يؤدي ذلك إلى تحريف القرآن، بتبديل بعض الحروف من بعض، والزيادة فيها والنقص فيها، ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك ويقع فيها التخليط على مر الأيام والسنين. ويجد عدو الإسلام مدخلا للطعن في القرآن بالاختلاف والاضطراب بين نسخه، وهذا من جنس البلاء الذي أصيبت به الكتب الأولى حينما عبثت بها الأيدي والأفكار وقد جاءت شريعة الإسلام بسد الذرائع والقضاء عليها، محافظة على الدين ومنعا للشر والفساد.(6/48)
ثالثا: يخشى إذا وقع ذلك أن يصير كتاب الله - القرآن- ألعوبة بأيدي الناس، كلما عن لإنسان فكرة في كتابة القرآن اقترح تطبيقها فيه، فيقترح بعضهم كتابته باللاتينية وآخرون كتابته بالعبرية. . وهكذا مستندين في ذلك إلى ما استند إليه من اقترح كتابته حسب قواعد الإملاء من التيسير ورفع الحرج والتوسع في الاطلاع وإقامة الحجة وفي هذا ما فيه من الخطر وقد نصح مالك بن أنس الرشيد أو جده المنصور ألا يهدم الكعبة ليعيدها إلى بنائها الذي قام به عبد الله بن الزبير حيث بناها على قواعد إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - خشية أن تصير الكعبة ألعوبة بين أيدي الولاة.(6/48)
قال تقي الدين الفاسي في كتابه شفاء الغرام ويروي (1) أن الخليفة الرشيد أو جده المنصور أراد أن يغير ما صنعه الحجاج بالكعبة وأن يردها إلى ما صنعه ابن الزبير فنهاه عن ذلك الإمام مالك بن أنس - رحمه الله -، وقال له: نشدتك الله لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره، فتذهب هيبته من قلوب الناس انتهى بالمعنى ثم قال: وكان مالك لحظ في ذلك أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح وهي قاعدة مشهورة معتمدة. اهـ.
وخلاصة القول أن لكل من القول بجواز كتابة المصحف - القرآن - على مقتضى قواعد الإملاء والمنع من ذلك وحرمته وجهة نظر، غير أن مبررات الجواز فيها مآخذ ومناقشات تقدم بيانها، وقد لا تنهض معها لدعم القول بالجواز، ومع ذلك قد عارضها ما تقدم ذكره من الموانع، وجريا على القاعدة المعروفة من تقديم الحظر على الإباحة.
وترجيح جانب درء المفاسد على جلب المصالح عند التعادل أو رجحان جانب المفسدة قد يقال: إن البقاء على ما كان عليه المصحف من الرسم العثماني أولى وأحوط على الأقل، وعلى كل حال فالمسألة محل نظر واجتهاد والخير في اتباع ما كان عليه الصحابة وأئمة السلف - رضي الله عنهم -. . والله الموفق - وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه -.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) ص 100 من ج 1 من شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام(6/49)
عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمرا عليه فيه مقالا ثم لا يقوله فيقول الله: ما منعك أن تقول فيه؟
فيقول: رب خشيت الناس!!
فيقول: وأنا أحق أن يخشى؟ (1) »
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/30) .(6/50)
حكم التسعير(6/51)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده،
وبعد: بناء على ما تقرر في الدورة الثامنة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الرياض في النصف الثاني من ربيع الأول عام 1396هـ. من إعداد بحث في التسعير أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك يشتمل على:
* تعريف التسعير: وهل يحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه ومن أراد أن يزيد عن سعر الناس أو ينقص هل يلزم بأن يبيع كما يبيع الناس.
* وبيان من يختص به التسعير من البائعين، وما يدخله التسعير من المبيعات.
* وهل يجوز إلزام الناس بسعر محدد في تأجير عقاراتهم.(6/52)
لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - على هذا الموضوع كلام عرض فيه حكم التسعير إذا كان يتضمن العدل، وحكمه إذا كان يتضمن جورا، وذكر نظائر لهذه المسألة ثم تكلم على مسألتين:
الأولى: إذا كان للناس سعر غالب فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك.
الثانية: هل يحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب. وكذلك لابن القيم كلام في ذلك يتفق من حيث الجملة مع كلام شيخ الإسلام، ثم لسماحة مفتي الديار السعودية - رحمه الله - كتابة في الموضوع رأت اللجنة ذكر جميع ذلك وبالله التوفيق.(6/53)
معنى التسعير
نذكر فيما يلي معنى التسعير، ثم نذكر المسائل الخمس ثم الكلام المذكور:
معنى التسعير لغة واصطلاحا
أما معناه لغة: فقد قال فيه ابن منظور: التسعير الذي يقوم عليه الثمن وجمعه أسعار وقد سعروا ومسعروا بمعنى واحد اتفقوا على سعر. . . . والتسعير التقدير (1) .
وأما معناه اصطلاحا فقد قال فيه الشوكاني هو أن يأمر السلطان ونوابه أو كل من ولي من
__________
(1) لسان العرب \ 6 \ 30(6/53)
أمور المسلمين أمرا أهل السوق أن لا يبيعوا أمتعتهم إلا بسعر كذا فيمنعوا من الزيادة عليه أو النقصان لمصلحة (1) .
__________
(1) نيل الأوطار \ 5 \ 233(6/54)
المسألة الأولى
أن يحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه
اختلف أهل العلم في ذلك فمنعه قوم وجوزه آخرون، وفيه من قال بجوازه إذا تعدى أرباب الطعام، ومن أهل العلم من قال بجوازه عام الغلاء.
أما المانعون فبعض الحنفية وقال به مالك ومن وافقه من أصحابه، وهو أحد الأقوال في مذهب الشافعية وهو المقدم عند الحنابلة.
جاء في بداية المبتدي: ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس (1) .
وقال محمد بن الحسن الشيباني بعد سياقه لأثر عمر مع حاطب بن أبي بلتعه قال: وبهذا نأخذ لا ينبغي أن يسعر على المسلمين، فيقال لهم بيعوا كذا وكذا بكذا أو يجبرون على ذلك وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا (2) .
وجاء في المنتقى شرح الموطأ بعد ذكره لصورة المسألة قال: فهذا منع منه مالك وبه قال ابن عمر وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد (3) .
وجاء في المهذب: لا يحل للسلطان التسعير (4) .
وقال عبد الرحمن بن قدامة: وهذا مذهب الشافعي (5) .
وقال الرملي ويحرم على الإمام أو نائبه ولو قاضيا التسعير في قوت أو غيره انتهى (6) .
وقال النووي ومنها - أي المناهي- التسعير وهو حرام في كل وقت على الصحيح (7) .
__________
(1) البداية ومعها الهداية \ 4 \ 93
(2) الموطأ رواية محمد بن الحسن \ 341 \ طبعة هندية
(3) المنتقى شرح الموطأ \ 5 \ 18
(4) المهذب وشرحه \ 13 \ 29
(5) الشرح الكبير ومعه المغني \ 4 \ 44
(6) نهاية المحتاج \ 3 \ 473
(7) روضة الطالبين \ 411-412(6/54)
وقال عبد الرحمن بن قدامة: وليس للإمام أن يسعر على الناس بل يبيع الناس أموالهم بما يختارون (1) .
وقال في الإنصاف: ويحرم التسعير ويكره الشراء به على الصحيح من المذهب (2) .
وقال محمد بن الحسن الفراء: ولا يجوز أن يسعر على الناس بالأقوات ولا غيرها في رخص ولا غلاء \ انتهى (3) .
واستدل لهذا القول بالسنة والمعنى.
أما السنة فما رواه الإمام أحمد والبزار وأبو يعلى في مسانيدهم وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه في سننهم عن أنس - رضي الله عنه - قال: «قال الناس يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا فقال إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحدكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال (4) » .
قال ابن حجر وإسناده على شرط مسلم وصححه أيضا ابن حبان وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد وأبي داود قال: «جاء رجل فقال يا رسول الله سعر فقال بل ادعو الله ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله سعر فقل: بل الله يخفض ويرفع (5) »
قال الحافظ وإسناده حسن وعن أبي سعيد عن ابن ماجه والبزار والطبراني نحو حديث أنس ورجاله رجال الصحيح وحسنه الحافظ وعن علي - رضي الله عنه - عند البزار نحوه وعن ابن عباس عند الطبراني في الصغير وعن أبي جحيفة عنده في الكبير انتهى.
__________
(1) الشرح الكبير ومعه المغني 4 \ 51
(2) الأحكام السلطانية
(3) نيل الأوطار \ 5 \ 232-233 ويرجع أيضا إلى الدراية في تخريج أحاديث الهداية \ 2 / 224-225
(4) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .
(5) سنن أبو داود البيوع (3450) ، مسند أحمد بن حنبل (2/337) .(6/55)
وجه الدلالة: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسعر وقد سألوه ذلك ولو جاز لأجابهم إليه. وأنه علل ذلك بكونه مظلمة والظلم حرام ذكره عبد الرحمن بن قدامة (1) وبسط الشوكاني هذا الوجه الثاني فقال الناس مسلطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم والإمام برعاية مصلحة المسلمين وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقوله تعالى {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (2) (3) .
وقال الشوكاني أيضا وظاهر الأحاديث أنه لا فرق بين حالة الغلاء وحالة الرخص ولا فرق بين المجلوب وغيره وإلى ذلك مال الجمهور. . وظاهر الأحاديث عدم الفرق بين ما كان قوتا للآدمي ولغيره من الحيوانات وبين ما كان من غير ذلك من الإدامات وسائر الأمتعة (4) .
ويمكن أن يجيب المجيزون عن الاستدلال بهذه الأحاديث بوجهين: -
الأول: يحتمل أن يكون هذا من تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى الأمانة وأنه - عليه الصلاة والسلام - راعى المصلحة التي كانت تدعو إليها تلك الظروف ويمكن أن يدفع ذلك بأن القاعدة العامة في الشريعة أن النصوص عامة في التشريع من حيث الزمان والمكان والأشخاص والأحوال وأنها وحي من الله عز وجل وحملها على صورة معينة يكون بها الدليل خاصا بزمان ومكان وشخص وحال خلاف الأصل فيحتاج إلى دليل وكذلك حمل الأحاديث على أنها من تصرفاته الاجتهادية عليه الصلاة والسلام.
وثانيا: قوله - صلى الله عليه وسلم - «إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال (5) » - دليل صريح على أن علة ما قرره في أمر التسعير هو مراعاة أن لا يظلم أحدا من الناس سواء كان بائعا أو مشتريا وهو يكون بالمحافظة على ميزان العدالة بينهم وذلك كما يكون بحماية البائع من إلزام المشتري إياه بسعر دون الذي يريد كذلك يكون بحماية المشتري من إلزام البائع إياه بالغبن الفاحش واستغلال ضرورته لإيقاع المظلمة به ولا ريب أنه - صلى الله عليه وسلم - لو رأى من الباعة ميلا إلى هذا الظلم لأخذ على أيديهم وألزمهم بحد لا يتجاوزونه وذلك بمقتضى قوله «إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال (6) » وبمقتضى حديث «لا ضرر ولا ضرار (7) » .
وأما المعنى فإنه مال فلم يجز منعه من بيعه بما تراضى عليه المتبايعان كما لو اتفق الجماعة عليه
__________
(1) الشرح الكبير 4 \ 44
(2) سورة النساء الآية 29
(3) نيل الأوطار \ 5 \ 233
(4) نيل الأوطار \ 5 \ 233 ويرجع إلى فتح العلام \ 2 \ 20
(5) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .
(6) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .
(7) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .(6/56)
والظاهر أنه سبب الغلاء لأن الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعتهم على بلد يكرهون على بيعها فيه بغير ما يريدون. ومن عنده البضاعة يمتنع من بيعها ويكتمها ويطلبها المحتاج ولا يجدها إلا قليلا فيرفع في ثمنها ليحصلها فتغلو الأسعار ويحصل الإضرار بالجانبين جانب الملاك في منعهم من بيع أملاكهم وجانب المشتري في منعه من الوصول إلى غرضه فيكون حراما انتهى ذكر ذلك ابن قدامة (1) .
القول الثاني: أنه يجوز التسعير وهذا القول رواه أشهب عن مالك. قال الباجي: وروى أشهب عن مالك في العتبية في صاحب السوق يسعر على الجزارين لحم الضأن ثلث رطل ولحم الإبل نصف رطل وإلا أخرجوا من السوق قال إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به ولكن أخاف أن يقوموا من السوق (2) .
ووجه هذا القول ما يجب من النظر في مصالح العامة والمنع من إغلاء السعر عليهم والإفساد عليهم وليس يجبر الناس على البيع وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحده الإمام على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمبتاع ولا يمنع البائع ربحا ولا يسوغ له منه ما يضر بالناس انتهى (3) .
القول الثالث: إنه يجوز إذا تعدى أرباب الطعام تعديا فاحشا وبهذا قال بعض الحنفية ومن وافقهم من أهل العلم جاء في كنز الدقائق وشرحه تبيين الحقائق: ولا يسعر السلطان إلا أن يتعدى أرباب الطعام عن القيمة تعديا فاحشا انتهى (4) وفي إتحاف ذوي الأبصار والبصائر: بتبويب كتاب الأشباه والنظائر: وقال في التنبيه يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام وعليه فروع: منها التسعير عند تعدي أرباب الطعام في بيعه بغبن فاحش (5) .
وجاء في توجيه ذلك أن الثمن حق البائع فكان إليه تقديره فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا كان أرباب الطعام يتحكمون على المسلمين ويتعدون تعديا فاحشا وعجز السلطان عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير فلا بأس به بمشورة أهل الرأي والنظر (6) . انتهى.
ويمكن أن يستدل لذلك أيضا بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الاحتكار وعلة النهي ظلم الناس بمنعهم عن الوصول إلى ما يحتاجونه من أقوات وشبهها وهل علة منصوصة في هذا الباب فيقاس التسعير على الاحتكار بجامع هذه العلة وهي رفع الأسعار دون موجب.
__________
(1) الشرح الكبير 4 \ 44
(2) المنتقى شرح الموطأ \ 5 \ 18
(3) المنتقى شرح الموطأ \ 5 \ 18
(4) كنز الدقائق وشرحه \ 1 \ 28 ويرجع إلى الدار المنتقى \ 2 \ 48.
(5) الاتحاف \ 466
(6) كنز الدقائق وشرحه تبيين الحقائق \ 6 \ 28(6/57)
القول الرابع: أنه يجوز في وقت الغلاء دون الرخص وهذا قول في مذهب مالك والشافعي جاء في الدر المنتقى شرح الملتقى: وقال مالك على الموالي التسعير عام الغلاء (1) وقال النووي: والثاني يجوز في وقت الغلاء دون الرخص (2) .
__________
(1) الدر المنتقى \ 2 \ 548
(2) نفس المرجع(6/58)
المسألة الثانية: من أراد أن يزيد عن سعر الناس أو ينقص هل يلزم بأن يبيع كالناس؟
في المسألة خلاف - فقوم قالوا إنه يلزم بأن يبيع كالناس وآخرون قالوا إنه لا يلزم وممن قال بأنه يلزم مالك ووجه في مذهب أحمد قال الباجي تحت ترجمة: الباب الأول في تبيين السعر الذي يؤمر من حط عنه أن يلحق به".
قال: أي يختص به في ذلك من السعر هو الذي عليه جمهور الناس فإذا انفرد عنهم الواحد أو العدد بحط السعر أمر من حطه باللحاق بسعر الناس أو ترك البيع.
مسألة: فإن زاد في السعر أو عدد يسير لم يؤمر الجمهور باللحاق بسعره أو الامتناع من البيع لأن من باع به من الزيادة ليس بالسعر المتفق عليه ولا بما تقام به المبيعات وإنما يراعى في ذلك حال الجمهور ومعظم الناس وفي المدونة من رواية ابن القاسم عن مالك لا يقام لخمسة قال القاضي أبو الوليد وعندي أنه يجب النظر في ذلك إلى قدر الأسواق (1) .
وقال ابن العربي وإذا كان السعر فأراد أحد أن يزيد فإن كان جالبا فله أن يبيع كيف شاء وإن كان بلديا قيل له بع بسعر الناس أو تخرج من السوق [وكان الخليفة ببغداد إذا غلا السعر أمر بفتح مخازنه وأن يباع بأقل مما يبيع الناس حتى يرجع الناس إلى ما رسم من الثمن، ثم يأمر أيضا أن يباع بأقل من ذلك حتى يرجع السعر إلى أوله أو إلى القدر الذي يصلح بالناس ويغلب الجالبين والمحتكرين بهذا الفعل وكان ذلك من حسن نظره (2) .
__________
(1) المنتقى \ 5 \ 17
(2) لأبي على مسلم \ 4 \ 304(6/58)
وقال عبد الرحمن بن قدامة: وكان مالك يقول لمن يريد أن يبيع أقل مما يبيع الناس بع كالناس وإلا فاخرج عنا (1) وقال في الإنصاف وفي وجه لا يحرم (2) وقال أيضا وأوجب الشيخ تقي الدين إلزامهم المعاوضة بمثل الثمن وقال لا نزاع فيه لأنها مصلحة عامة لحق الله تعالى (3) .
واستدل لهذا القول بما روى الشافعي وسعيد بن منصور عن داود بن صالح الثمار عن القاسم بن محمد عن عمر - رضي الله عنه - أنه أمر بحاطب بن أبي بلتعه في سوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب فسأله عن سعرهما فسعر له مدين بكل درهم فقال له عمر: قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم يعتبرون سعرك فإما أن ترفع السعر وإما أن تدخل زبيبك فتبيعه كيف شئت.
ويجاب عن هذا بثلاثة أجوبة:
الأول: أن هذا الاجتهاد من عمر - رضي الله عنه - في مقابل نص وهو ما يدل على امتناعه - صلى الله عليه وسلم - عن التسعير ولا اجتهاد مع النص.
الثاني: أن عمر - رضي الله عنه - رجع عن قوله هذا قال ابن قدامة فأما حديث عمر فقد روى فيه سعيد والشافعي أن عمر لما رجع حاسب نفسه ثم أتى حاطبا في داره فقال إن الذي قلت لك ليس بعزيمة مني ولا قضاء، وإنما هو شئ أردت به الخير لأهل البلد فحيث شئت فبع كيف شئت وهذا رجوع إلى ما قلنا أي القول بعدم التسعير انتهى (4) .
الثالث: أن هذا السند عن عمر ضعيف لانقطاعه فإن القاسم لم يدرك عمر - رضي الله عنه - واستدل لذلك من جهة المعنى بأن في ذلك إضرارا إذا زاد وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع.
وأجاب ابن قدامة عن ذلك فقال: وما ذكره عن الضرر موجود فيما إذا باع في بيته ولا يمنع منه.
القول الثاني: إنه لا يلزم بأن يبيع كالناس وهذا هو المقدم عند الحنابلة قال في الإنصاف ويحرم قوله بع كالناس على الصحيح من المذاهب (5) وقال أيضا وكره الإمام أحمد البيع والشراء من مكان ألزم الناس بهما فيه لا الشراء ممن اشترى منه (6) .
ويستدل لذلك بالأدلة على منع التسعير وقد سبقت مع مناقشتها.
__________
(1) الشرح الكبير ومعه المغني \ 4 \ 51
(2) الانصاف \ 4 \ 338
(3) الانصاف \ 4 \ 338
(4) الشرح الكبير ومعه المغني 4 \ 45
(5) الانصاف \ 4 \ 338
(6) المرجع السابق 4 \ 45(6/59)
المسألة الثالثة: في بيان ما يختص به ذلك من البائعين عند القائلين بالتسعير
سبق الخلاف في التسعير وهذه المسألة مبنية على قول القائلين بالتسعير وقد بسط الكلام عليها الباجي - رحمه الله - فقال: لا خلاف في أن ذلك حكم أهل السوق والباعة وأما الجالب ففي كتاب محمد لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق دون بيع الناس وقال ابن حبيب لا يبيعون ما عدا القمح والشعير إلا بمثل سعر الناس وإلا رفعوا كأهل الأسواق وجه ما في كتاب محمد أن الجالب يسامح ويستدام أمره ليكثر ما يجلبه مع أن ما يجلب ليس من أقوات البلد وهو يدخل الرفق عليهم بما يجلب فربما أدى التحجير عليه إلى قطع الميرة والبائع بالبلد إنما يبيع أقواتهم المختصة بهم ولا يقدر على العدول بها عنهم في الأغلب ولهذا فرقنا بينهما في الحكرة وقت الضرورة ووجه ما قاله ابن حبيب أن هذا البائع في السوق فلم يكن له أن يحط عن سعره لأن ذلك مفسد لسعر الناس كأهل البلد قال فأما جالب القمح والشعير فقال ابن حبيب يبيع كيف شاء إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق وإن أرخص بعضهم تركوا إن قل من حط السعر وإن كثر المرخصون قيل لمن بقي إما أن تبيع كبيعهم وإما أن ترفع.
(مسألة) إذا ثبت ذلك فإن كان البائع للطعام من أهل السوق هل يمنع من بيعه في داره بسعر السوق وقال ابن حبيب وينبغي في الطعام أن يخرج إلى السوق كما جاء الحديث ووجه ذلك أن بيعه في الدور إعزاز له وسبب إلى غلائه وتطرق لبيع البائع كيف شاء بدون سعر أهل السوق إذا لم يعرف له ذلك في السوق فإن كان جالبا فليبعه في السوق أو في الدار إن شاء على يده (1) .
__________
(1) المنتقى \ 5 \ 18(6/60)
المسألة الرابعة: بيان ما يدخله التسعير من المبيعات وهل يجوز تحديد أجور العقارات اختلف في تحديد ذلك فالحنفية يقولون بالتعميم في كل ما أضر بالعامة، والمالكية يخصونه بالمكيل والموزون ويرى الشافعية أنه في الأقوات خاصة سواء كانت للآدميين أو للبهائم.(6/60)
القول الأول: أن التسعير يجري في كل ما أضر بالعامة: -
جاء في الدر المنتقى شرح الملتقى بعد كلام سبق: إلا إذا تعدى أرباب الطعام وغيره في القيمة للقوتين - ومضى إلى أن قال - وأفاد أن التسعير في القوتين فقط لا غير وبه صرح العتابي والحسامي وغيرهما لكنه إذا تعدى أرباب غير القوتين وظلموا على العادة فيسعر عليهم الحاكم بناء على ما قال أبو يوسف ينبغي أن يجوز ذكره القسهتاني، قلت وقد قدمنا أن أبا يوسف يعتبر حقيقة الضرر فتدبر (1) .
وجاء أيضا في رد المختار على قوله " في القوتين" أي قوت البشر وقوت البهائم لأنه ذكر التسعير في بحث الاحتكار تأمل.
وقال أيضا بناء على قوله: " بناء على ما قال أبو يوسف " [أي من أن كل ما أضر بالعامة حبسه فهو احتكار ولو ذهبا أو فضة أو ثوبا] قال "ط" وفيه أن هذا في الاحتكار لا في التسعير اهـ. قلت نعم ولكنه يؤخذ منه قياسا واستنباطا بطريق المفهوم ولذا قال بناء على ما قال أبو يوسف ولم يجعله قوله. تأمله على أن ما تقدم أن الإمام يرى الحجر إذا عم الضرر كما في المغني الماجن والمكاري المفلس والطيب الجاهل وهذه قضية عامة فتدخل مسألتنا فيها لأن التسعير حجر معنى لأنه منع عن البيع بزيادة فاحشة وعليه فلا يكون مبنيا على قول أبي يوسف فقط كذا ظهر لي فتأمل (2) .
__________
(1) المنتقى \ 2 \ 548
(2) رد المختار \ 5 \ 265(6/61)
القول الثاني أنه خاص بالمكيل والموزون وبه قال المالكية: -
قال الباجي: قال ابن حبيب إن ذلك في المكيل والموزون مأكولا كان أو غير مأكول دون غيره من المبيعات التي لا تكال ولا توزن.
ووجه ذلك أن المكيل والموزون مما يرجع فيه إلى المثل فلذلك وجب أن يحمل الناس فيه على سعر واحد وغير المكيل والموزون لا يرجع فيه إلى المثل وإنما يرجع فيه إلى القيمة ويكثر اختلاف الأغراض في أعيانه فلما لم يكن متماثلا لم يصح أن يحمل الناس فيه على سعر واحد وهذا إذا كان المكيل والموزون متساويين في الجودة فإذا اختلف صنفه لم يؤمر من باع الجيد أن يبيع بمثل سعر ما هو أدون لأن الجودة لها حصة من الثمن كالمقدار.(6/61)
القول الثالث: أنه خاص بالأقوات قال النووي وحيث جوز التسعير فذلك في الأطعمة ويلحق بها علف الدواب - ذكر ذلك في الروضه.(6/61)
تحديد أجور العقارات
يتضح من كلام الحنفية جوازه عند الحاجة إليه إذا رأى ولي الأمر ذلك لأنهم عمموا التسعير بالأطعمة وغيرها مما يدفع الضرر عن المسلمين.
وأما عند من يخص التسعير بالأقوات أو بالمكيل والموزون فإنه يلزم على قوله تحريم تسعير أجور العقارات - من البيوت وغيرها وسيأتي التصريح بحكم ذلك فيما كتبه سماحة الشيخ \ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله -. وفيما يلي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم كلام ابن القيم، ثم كتابة سماحة المفتي - رحمه الله -.(6/62)
قال شيخ الإسلام
ابن تيمية
- رحمه الله -
ومثل ذلك الاحتكار لما يحتاج الناس إليه، روى مسلم في صحيحه عن معمر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحتكر إلا خاطئ (1) » فإن المتحكر هو الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام فيحبسه عنهم ويريد إغلاءه عليهم وهو ظالم للخلق المشترين، ولهذا كان لولي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في مخمصة، فإنه يجبر على بيعه للناس بقيمة المثل، ولهذا قال الفقهاء من اضطر إلى طعام الغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة مثله، ولو امتنع من بيعه إلا بأكثر من سعره لم يستحق إلا سعره.
ومن هنا يتبين أن التسعير منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1605) ، سنن الترمذي البيوع (1267) ، سنن أبو داود البيوع (3447) ، سنن ابن ماجه التجارات (2154) ، مسند أحمد بن حنبل (6/400) ، سنن الدارمي البيوع (2543) .(6/62)
وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباحه الله لهم، فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل فهو جائز، بل واجب.
فأما الأول فمثل ما روى أنس قال: «غلا السعر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله، لو سعرت؟
فقال: إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال (1) » رواه أبو داود والترمذي وصححه.
فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر إما لقلة الشيء، وإما لكثرة الخلق، فهذا إلى الله، فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق.
وأما الثاني فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم الله به.
وأبلغ من هذا أن يكون الناس قد التزموا أن لا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون لا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم، فلو باع غيرهم ذلك منع، إما ظلما لوظيفة تؤخذ من البائع، أو غير ظلم لما في ذلك من الفساد، فهاهنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء؛ لأنه إذا كان قد منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما اختاروا أو اشتروا بما اختاروا كان ذلك ظلما للخلق من وجهين: ظلما للبائعين الذين يريدون بيع تلك الأموال، وظلما للمشترين منهم، والواجب إذا لم يكن دفع جميع الظلم أن يدفع الممكن منه، فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع، وحقيقته: إلزامهم أن لا يبيعوا أو لا يشتروا إلا بثمن المثل.
وهذا واجب في مواضع كثيرة من الشريعة، فإنه كما أن الإكراه على البيع لا يجوز إلا بحق، يجوز الإكراه على البيع بحق في مواضع مثل بيع المال لقضاء الدين الواجب والنفقة الواجبة، ومثل الغراس والبناء الذي في ملك الغير، فإن لرب الأرض أن يأخذه بقيمة المثل لا بأكثر، ونظائره كثيرة.
وكذلك السراية في العتق كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: من أعتق شركا له في عبد وكان له من
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/156) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .(6/63)
المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق.
وكذلك من وجب عليه شراء شيء للعبادات، كآلة الحج، ورقبة العتق، وماء الطهارة؛ فعليه أن يشتريه بقيمة المثل، ليس له أن يمتنع عن الشراء إلا بما يختار. وكذلك فيما يجب عليه من طعام أو كسوة لمن عليه نفقته إذا وجد الطعام، أو اللباس الذي يصلح له في العرف بثمن المثل، لم يكن له أن ينتقل إلى ما هو دونه حتى يبذل له ذلك بثمن يختاره، ونظائره كثيرة؛ ولهذا منع غير واحد من العلماء كأبي حنيفة وأصحابه القسام الذين يقسمون العقار وغيره بالأجر أن يشتركوا لأنهم إذا اشتركوا والناس محتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجر، فمنع البائعين الذين تواطئوا على أن لا يبيعوا إلا بثمن قدروه أولى، وكذلك منع المشترين إذا تواطئوا على أن يشتركوا، فإنهم إذا اشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا سلع الناس أولى أيضا.
فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعا من السلع أو تبيعها قد تواطأت على أن يهضموا ما يشترونه فيشترونه بدون ثمن المثل المعروف، ويزيدون ما يبيعونه بأكثر من الثمن المعروف، وينموا ما يشترونه، كان هذا أعظم عدوانا من تلقي السلع، ومن بيع الحاضر للبادي، ومن النجش، ويكونون قد اتفقوا على ظلم الناس حتى يضطروا إلى بيع سلعهم وشرائها بأكثر من ثمن المثل، والناس يحتاجون إلى ذلك وشرائه، وما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس، فإنه يجب أن لا يباع إلا بثمن المثل، إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة.
ومن ذلك أن يحتاج الناس إلى صناعة ناس، مثل حاجة الناس إلى الفلاحة، والنساجة، والبناية؛ فإن الناس لا بد لهم من طعام يأكلونه، وثياب يلبسونها، ومساكن يسكنونها، فإذا لم يجلب لهم من الثياب ما يكفيهم كما كان يجلب إلى الحجاز على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كانت الثياب تجلب إليهم من اليمن ومصر والشام وأهلها كفار وكانوا يلبسون ما نسجه الكفار ولا يغسلونه، فإذا لم يجلب إلى ناس البلد ما يكفيهم احتاجوا إلى من ينسج لهم الثياب، ولا بد لهم من طعام إما مجلوب من غير بلدهم، وإما من زرع بلدهم، وهذا هو الغالب وكذلك لا بد لهم من مساكن يسكنونها، فيحتاجون إلى البناء، فلهذا قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم كأبي حامد الغزالي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم: إن هذه الصناعات فرض على الكفاية، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها، كما أن الجهاد فرض على الكفاية، إلا أن يتعين فيكون فرضا على الأعيان، مثل أن يقصد العدو بلدا، أو مثل أن يستنفر الإمام أحدا.
وطلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين، مثل طلب كل واحد علم ما أمره الله(6/64)
به وما نهاه عنه، فإن هذا فرض على الأعيان كما أخرجاه في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » ، وكل من أراد الله به خيرا لا بد أن يفقهه في الدين، فمن لم يفقهه في الدين لم يرد الله به خيرا، والدين ما بعث الله به رسوله، وهو ما يجب على المرء التصديق به والعمل به، وعلى كل أحد أن يصدق محمدا -صلى الله عليه وسلم- فيما أخبر به، ويطيعه فيما أمر تصديقا عاما وطاعة عامة، ثم إذا ثبت عنه خبر كان عليه أن يصدق به مفصلا، وإذا كان مأمورا من جهة بأمر معين كان عليه أن يطيعه طاعة مفصلة، وكذلك غسل الموتى، وتكفينهم، والصلاة عليهم، ودفنهم؛ فرض على الكفاية.
وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية، والولايات كلها: الدينية، مثل إمرة المؤمنين وما دونها من ملك، ووزارة، وديوانية، سواء كانت كتابة خطاب أو كتابة حساب لمستخرج، أو مصروف في أرزاق المقاتلة أو غيرهم، ومثل إمارة حرب، وقضاء، وحسبة، وفروع هذه الولايات، إنما شرعت للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وكان رسول -صلى الله عليه وسلم- في مدينته النبوية يتولى جميع ما يتعلق بولاة الأمور، ويولي في الأماكن البعيدة عنه، كما ولى على مكة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى قرى عرينة خالد بن سعيد بن العاص، وبعث عليا ومعاذا وأبا موسى إلى اليمن، وكذلك كان يؤمر على السرايا، ويبعث على الأموال الزكوية السعاة فيأخذونها ممن هي عليه ويدفعونها إلى مستحقيها الذين سماهم الله في القرآن، فيرجع الساعي إلى المدينة وليس معه إلا السوط، لا يأتي إلى -النبي صلى الله عليه وسلم- بشيء إذا وجد لها موضعا يضعها فيه. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستوفي الحساب على العمال، يحاسبهم على المستخرج والمصروف، كما في الصحيحين عن أبي حميد الساعدي «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استعمل رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقات، فلما رجع حاسبه. فقال: هذا لكم وهذا أهدي إلي. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما بال الرجل نستعمله على العمل بما ولانا الله فيقول: هذا لكم وهذا أهدى إلي؟ ، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ ، والذي نفسي بيده لا نستعمل رجلا على العمل مما ولانا الله فيغل منه شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته؛ إن كان بعيرا له رغاء، وإن كانت بقرة لها خوار، وإن كانت شاة تيعر، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم هل بلغت؟ ، اللهم هل بلغت؟ . قالها مرتين أو ثلاثا (2) » .
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(2) صحيح البخاري الحيل (6979) ، صحيح مسلم الإمارة (1832) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2946) ، مسند أحمد بن حنبل (5/424) ، سنن الدارمي الزكاة (1669) .(6/65)
والمقصود هنا: أن هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه، لا سيما إن كان غيره عاجزا عنها، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم، أو نساجتهم، أو بنائهم؛ صار هذا العمل واجبا يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل، ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم، كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم ألزم من صناعته الفلاحة بأن يصنعها لهم، فإن الجند يلزمون بأن لا يظلموا الفلاح كما ألزم الفلاح أن يفلح للجند.
والمزارعة جائزة في أصح قولي العلماء، وهي عمل المسلمين على عهد نبيهم، وعهد خلفائه الراشدين، وعليها عمل آل أبي بكر، وآل عمر، وآل عثمان، وآل علي، وغيرهم من بيوت المهاجرين، وهي قول أكابر الصحابة، كابن مسعود، وهي مذهب فقهاء الحديث، كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وداود بن علي، والبخاري، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي بكر بن المنذر، وغيرهم، ومذهب الليث بن سعد، وابن أبي ليلى، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وغيرهم من فقهاء المسلمين، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع حتى مات، ولم تزل تلك المعاملة حتى أجلاهم عمر من خيبر، وكان قد شارطهم أن يعمروها من أموالهم، وكان البذر منهم لا من النبي -صلى الله عليه وسلم- ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء أن البذر يجوز أن يكون من العامل، بل طائفة من الصحابة قالوا لا يكون البذر إلا من العامل.
والذي نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- من المخابرة، وكراء الأرض، قد جاء مفسرا بأنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة معينة، ومثل هذا الشرط باطل بالنص وإجماع العلماء، وهو كما لو شرط في المضاربة لرب المال دراهم معينة، فإن هذا لا يجوز بالاتفاق، لأن المعاملة مبناها على العدل، وهذه المعاملات من جنس المشاركات، والمشاركة إنما تكون إذا كان لكل من الشريكين جزء شائع كالثلث والنصف، فإذا جعل لأحدهما شيء مقدر لم يكن ذلك عدلا، بل كان ظلما.
وقد ظن طائفة من العلماء أن هذه المشاركات من باب الإجارات بعوض مجهول، فقالوا: القياس يقتضي تحريمها، ثم منهم من حرم المساقاة، والمزارعة، وأباح المضاربة استحبابا للحاجة، لأن الدراهم لا يمكن إجارتها كما يقول أبو حنيفة، ومنهم من أرباح المساقاة إما مطلقا كقول مالك والقديم للشافعي، أو على النخل والعنب كالجديد للشافعي، لأن الشجر لا يمكن إجارتها بخلاف الأرض، وأباحوا ما يحتاج إليه من المزارعة تبعا للمساقاة، فأباحوا المزارعة تبعا للمساقاة كقول الشافعي إذا كانت الأرض أغلب، أو قدروا ذلك بالثلث كقول مالك، وأما جمهور السلف وفقهاء الأمصار فقالوا: هذا من باب المشاركة لا من باب الإجارة التي يقصد فيها العمل، فإن مقصود كل منهما ما يحصل من الثمر والزرع، وهما(6/66)
متشاركان، وهذا ببدنه، وهذا ببدنه، وهذا بماله، كالمضاربة.
ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء: أن هذه المشاركات إذا فسدت وجب نصيب المثل لا أجرة المثل، فيجب من الربح أو النماء إما ثلثه وإما نصفه، كما جرت العادة في مثل ذلك، ولا يجب أجرة مقدرة، فإن ذلك قد يستغرق المال وأضعافه، وإنما يجب في الفاسد من العقود نظير ما يجب في الصحيح، والواجب في الصحيح ليس هو أجرة مسماة، بل جزء شائع من الربح مسمى فيجب في الفاسدة نظير ذلك، والمزارعة آصل من المؤاجرة، وأقرب إلى العدل والأصول، فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم، بخلاف المؤاجرة فإن صاحب الأرض تسلم له الأجرة والمستأجر قد يحصل له زرع وقد لا يحصل، والعلماء مختلفون في جواز هذا، وجواز هذا، والصحيح جوازهما.
وسواء كانت الأرض مقطعة أو لم تكن مقطعة، وما علمت أحدا من علماء المسلمين- لا أهل المذاهب الأربعة ولا غيرهم- قال: إن إجارة الإقطاع لا تجوز، وما زال المسلمون يؤجرون الأرض المقطعة من زمن الصحابة إلى زمننا هذا، لكن بعض أهل زماننا ابتدعوا هذا القول، قالوا: لأن المقطع لا يملك المنفعة، فيصير كالمستعير إذا أكرى الأرض المستعارة، وهذا القياس خطأ لوجهين:
أحدهما: أن المستعير لم تكن المنفعة حقا له، وإنما تبرع له المعير بها، وأما أراضي المسلمين فمنفعتها حق للمسلمين، وولي الأمر قاسم يقسم بينهم حقوقهم ليس متبرعا لهم كالمعير، والمقطع يستوفي المنفعة بحكم الاستحقاق كما يستوفي الموقوف عليه منافع الوقف وأولى، وإذا جاز للموقوف عليه أن يؤجر الوقف وإن أمكن أن يموت فتنفسخ الإجارة بموته على أصح قولي العلماء، فلأن يجوز للمقطع أن يؤجر الإقطاع وإن انفسخت الإجارة بموته أو غير ذلك بطريق الأولى والأحرى.
الثاني: أن المعير لو أذن في الإجارة جازت الإجارة مثل الإجارة في الاقطاع، وولي الأمر يأذن للمقطعين في الإجارة، وإنما أقطعهم لينتفعوا بها، إما بالمزارعة وإما بالإجارة، ومن حرم الانتفاع بها بالمؤاجرة والمزارعة فقد أفسد على المسلمين دينهم ودنياهم، فإن المساكن كالحوانيت والدور ونحو ذلك لا ينتفع بها المقطع إلا بالإجارة، وأما المزارع والبساتين فينتفع بها بالإجارة وبالمزارعة والمساقاة في الأمر العام، والمرابعة نوع من المزارعة، ولا تخرج عن ذلك إلا إذا استكرى بإجارة مقدرة من يعمل له فيها، وهذا لا يكاد يفعله إلا قليل من الناس، لأنه قد يخسر ماله ولا يحصل له شيء، بخلاف المشاركة فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم، فهو أقرب إلى العدل، فلهذا تختاره الفطر السليمة، وهذه المسائل لبسطها موضع آخر.
والمقصود هنا أن ولي الأمر إن أجبر أهل الصناعات على ما تحتاج إليه الناس من صناعاتهم كالفلاحة والحياكة والبناية فإنه يقدر أجرة المثل، فلا يمكن المستعمل من نقص أجرة الصانع عن(6/67)
ذلك، ولا يمكن الصانع من المطالبة بأكثر من ذلك حيث تعين عليه العمل، وهذا من التسعير الواجب، وكذلك إذا احتاج الناس إلى من يصنع لهم آلات الجهاد من سلاح وجسر للحرب وغير ذلك فيستعمل بأجرة المثل، لا يمكن المستعملون من ظلهم ولا العمال من مطالبتهم بزيادة على حقهم مع الحاجة إليهم، فهذا تسعير في الأعمال.
وأما في الأموال فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد فعلى أهل السلاح أن يبيعوه بعوض المثل، ولا يمكنون من أن يحبسوا السلاح حتى يتسلط العدو أو يبذل لهم من الأموال ما يختارون، والإمام لو عين أهل الجهاد للجهاد تعين عليهم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وإذا استنفرتم فانفروا (1) » أخرجاه في الصحيحين، وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وأثرة عليه (2) » .
فإذا وجب عليه أن يجاهد بنفسه وماله، فكيف لا يجب عليه أن يبيع ما يحتاج إليه في الجهاد بعوض المثل؟ والعاجز عن الجهاد بنفسه يجب عليه الجهاد بماله في أصح قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، فإن الله أمر بالجهاد بالمال والنفس في غير موضع من القرآن، وقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3)
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (4) » أخرجاه في الصحيحين، فمن عجز عن الجهاد بالبدن لم يسقط عنه الجهاد بالمال، كما أن من عجز عن الجهاد بالمال لم يسقط عنه الجهاد بالبدن، ومن أوجب على المعضوب أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه ولم يوجب الجهاد على المستطيع بماله فقوله ظاهر التناقض.
ومن ذلك إذا كان الناس محتاجين إلى من يطحن لهم ومن يخبز لهم؛ لعجزهم عن الطحن والخبز في البيوت، كما كان أهل المدينة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء ولا من يبيع طحينا ولا خبزا، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم، فلم يكونوا يحتاجون إلى التسعير، وكان من قدم بالحب باعه فيشتريه الناس من الجالبين، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون (5) » وقال: «لا يحتكر إلا خاطئ (6) » رواه مسلم في صحيحه، وما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنه نهى عن قفيز الطحان» فحديث ضعيف بل باطل، فإن المدينة لم يكن فيها طحان ولا خباز لعدم حاجتهم إلى ذلك، كما أن المسلمين لما فتحوا البلاد كان الفلاحون كلهم كفارا، لأن المسلمين كانوا مشتغلين بالجهاد.
ولهذا لما فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- خيبر أعطاها لليهود يعملونها فلاحة، لعجز الصحابة عن فلاحتها،
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1834) ، صحيح مسلم الحج (1353) ، سنن الترمذي السير (1590) ، سنن النسائي البيعة (4170) ، سنن أبو داود الجهاد (2480) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2773) ، مسند أحمد بن حنبل (1/316) ، سنن الدارمي السير (2512) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2955) ، صحيح مسلم الإمارة (1839) ، سنن الترمذي الجهاد (1707) ، سنن أبو داود الجهاد (2626) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2864) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) .
(3) سورة التغابن الآية 16
(4) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .
(5) سنن ابن ماجه التجارات (2153) ، سنن الدارمي البيوع (2544) .
(6) صحيح مسلم المساقاة (1605) ، سنن الترمذي البيوع (1267) ، سنن أبو داود البيوع (3447) ، سنن ابن ماجه التجارات (2154) ، مسند أحمد بن حنبل (6/400) ، سنن الدارمي البيوع (2543) .(6/68)
لأن ذلك يحتاج إلى سكناها، وكان الذين فتحوها أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا نحو ألف وأربعمائة، وانضم إليهم أهل سفينة جعفر، فهؤلاء هم الذين قسم النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهم أرض خيبر، فلو أقام طائفة من هؤلاء فيها لفلاحتها تعطلت مصالح الدين التي لا يقوم بها غيرهم، فلما كان في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وفتحت البلاد وكثر المسلمون استغنوا عن اليهود فأجلوهم، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال: «نقركم فيها ما شئنا (1) » - وفي رواية - ما أقركم الله وأمر بإجلائهم منها عند موته -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب (2) » .
ولهذا ذهب طائفة من العلماء كمحمد بن جرير الطبري إلى أن الكفار لا يقرون في بلاد المسلمين بالجزية إلا إذا كان المسلمون محتاجين إليهم، فإذا استغنوا عنهم أجلوهم كأهل خيبر، وفي هذه المسألة نزاع ليس هذا موضعه.
والمقصود هنا أن الناس إذا احتاجوا إلى الطحانين والخبازين فهذا على وجهين:
أحدهما: أن يحتاجوا إلى صناعتهم، كالذين يطحنون ويخبزون لأهل البيوت، فهؤلاء يستحقون الأجرة وليس لهم عند الحاجة إليهم أن يطالبوا إلا بأجرة المثل كغيرهم من الصناع.
والثاني: أن يحتاجوا إلى الصنعة والبيع، فيحتاجوا إلى من يشتري الحنطة ويطحنها وإلى من يخبزها ويبيعها خبزا، لحاجة الناس إلى شراء الخبز من الأسواق، فهؤلاء لو مكنوا أن يشتروا حنطة الناس المجلوبة ويبيعوا الدقيق والخبز بما شاءوا مع حاجة الناس إلى تلك الحنطة لكان ذلك ضررا عظيما، فإن هؤلاء تجار تجب عليهم زكاة التجارة عند الأئمة الأربعة وجمهور علماء المسلمين، كما يجب على كل من اشترى شيئا يقصد أن يبيعه بربح، سواء عمل فيه عملا أو لم يعمل، وسواء اشترى طعاما أو ثيابا أوحيوانا، وسواء كان مسافرا ينقل ذلك من بلد إلى بلد، أو كان متربصا به يحبسه إلى وقت النفاق، أو كان مديرا يبيع دائما ويشتري كأهل الحوانيت فهؤلاء كلهم تجب عليهم زكاة التجارة، وإذا وجب عليهم أن يصنعوا الدقيق والخبز لحاجة الناس إلى ذلك ألزموا كما تقدم، أو دخلوا طوعا فيما يحتاج إليه الناس من غير إلزام لواحد منهم بعينه، فعلى التقديرين يسعر عليهم الدقيق والحنطة فلا يبيعوا الحنطة والدقيق إلا بثمن المثل بحيث يربحون الربح بالمعروف من غير إضرار بهم ولا بالناس.
__________
(1) صحيح البخاري المزارعة (2338) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3008) .
(2) صحيح مسلم الجهاد والسير (1767) ، سنن الترمذي السير (1607) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3030) ، مسند أحمد بن حنبل (1/29) .(6/69)
وقد تنازع العلماء في التسعير في مسألتين:
إحداهما: إذا كان للناس سعر غالب فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك فإنه يمنع منه في السوق في مذهب مالك.
وهل يمنع النقصان؟
على قولين لهم. وأما الشافعي وأصحاب أحمد كأبي حفص العكبري، والقاضي أبي يعلي،(6/69)
والشريف أبي جعفر وأبي الخطاب، وابن عقيل وغيرهم فمنعوا من ذلك.
واحتج مالك بما رواه في موطئه عن يونس بن سيف، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبا له بالسوق، فقال له عمر: إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا.
وأجاب الشافعي وموافقوه بما رواه فقال: حدثنا الدراوردي، عن داود بن صالح التمار، عن القاسم بن محمد، عن عمر: أنه مر بحاطب بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما؟ فسعر له مدين لكل درهم.
فقال له عمر: قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم يعتبرون سعرك.
فإما أن ترفع السعر وإما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت.
فلما رجع عمر حاسب نفسه، ثم أتى حاطبا في داره فقال: إن الذي قلت لك ليس بمعرفة منى ولا قضاء، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع.
قال الشافعي: هذا الحديث مقتضاه ليس بخلاف ما رواه مالك، ولكنه روى بعض الحديث أو رواه عنه من رواه، وهذا أتى بأول الحديث وآخره، وبه أقول، لأن الناس مسلطون على أموالهم ليس لحد أن يأخذها أو شيئا منها بغير طيب أنفسهم، إلا في المواضع التي تلزمهم، وهذا ليس منها قلت: وعلى قول مالك قال أبو الوليد الباجي: الذي يؤمر من حط عنه أن يلحق به هو السعر الذي عليه جمهور الناس، فإذا انفرد منهم الواحد والعدد اليسير بحط السعر أمروا باللحاق بسعر الجمهور، لأن المراعى حال الجمهور، وبه تقوم المبيعات.
وروى ابن القاسم عن مالك لا يقام الناس لخمسة. قال: وعندي أنه يجب أن ينظر في ذلك إلى قدر الأسواق، وهل يقام من زاد في السوق- أي في قدر المبيع- بالدرهم مثلا كما يقام من نقص منه؟ قال أبو الحسن بن القصار المالكي: اختلف أصحابنا في قول مالك، ولكن من حط سعرا، فقال البغداديون: أراد من باع خمسة بدرهم والناس يبيعون ثمانية، وقال قوم من المصريين: أراد من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة. قال: وعندي أن الأمرين جميعا ممنوعان، لأن من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة أفسد على أهل السوق بيعهم، فربما أدى إلى الشغب والخصومة ففي منع الجميع مصلحة، قال أبو الوليد: ولا خلاف أن ذلك حكم أهل السوق.
وأما الجالب ففي كتاب محمد: لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق دون الناس، وقال ابن حبيب: ما عدا القمح والشعير إلا بسعر الناس وإلا رفعوا، قال: وأما جالب القمح والشعير فيبيع كيف شاء إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق، إن أرخص بعضهم تركوا، وإن كثر المرخص قيل لمن(6/70)
بقي: إما أن تبيعوا كبيعهم وإما أن ترفعوا.
قال ابن حبيب: وهذا في المكيل والموزون مأكولا أو غير مأكول، دون ما لا يكال ولا يوزن لأن غيره لا يمكن تسعيره؛ لعدم التماثل فيه. قال أبو الوليد: يريد إذا كان المكيل والموزون متساويا، فإذا اختلف لم يؤمر بائع الجيد أن يبيعه بسعر الدون.(6/71)
قلت: والمسألة الثانية التي تنازع فيها العلماء في التسعير: أن يحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه مع قيام الناس بالواجب.
فهذا منع منه جمهور العلماء، حتى مالك نفسه في المشهور عنه، ونقل المنع أيضا عن ابن عمر وسالم والقاسم بن محمد، وذكر أبو الوليد عن سعيد بن المسيب وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وعن يحيى بن سعيد أنهم أرخصوا فيه، ولم يذكر ألفاظهم.
وروى أشهب بن مالك، في صاحب السوق يسعر على الجزارين، لحم الضأن ثلث رطل، ولحم الإبل نصف رطل، وإلا خرجوا من السوق. قال: إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق.
واحتج أصحاب هذا القول بأن هذا مصلحة للناس بالمنع من إغلاء السعر عليهم ولا فساد عليهم، قالوا: ولا يجبر الناس على البيع، إنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحده ولي الأمر على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري، ولا يمنع البائع ربحا ولا يسوغ له منه ما يضر بالناس.
وأما الجمهور فاحتجوا بما تقدم من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد رواه أيضا أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أنه قال: «جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له يا رسول الله، سعر لنا فقال: بل ادع الله ثم جاء رجل فقال رسول الله سعر لنا فقال: بل الله يرفع ويخفض، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة (1) » .
قالوا: ولأن إجبار الناس على بيع لا يجب، أو منعهم مما يباح شرعا: ظلم لهم، والظلم حرام.
وأما صفة ذلك عند من جوزه، فقال ابن حبيب: ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء ويحضر غيرهم استظهارا على صدقهم، فيسألهم: كيف يشترون؟ وكيف يبيعون؟
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3450) ، مسند أحمد بن حنبل (2/337) .(6/71)
فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد حتى يرضوا، ولا يجبرون على التسعير، ولكن عن رضا. قال وعلى هذا أجازه من أجازه. قال أبو الوليد: ووجه ذلك أنه بهذا يتوصل إلى معرفة مصالح الباعة والمشترين، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم، ولا يكون فيه إجحاف بالناس وإذا سعر عليهم من غير رضا بما لا ربح لهم فيه أدى ذلك إلى فساد الأسعار وإخفاء الأقوات وإتلاف أموال الناس.
قلت: فهذا الذي تنازع فيه العلماء.
وأما إذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم بيعه فهنا يؤمرون بالواجب ويعاقبون على تركه، وكذلك من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع أن يبيع إلا بأكثر منه، فهنا يؤمر بما يجب عليه، ويعاقب على تركه بلا ريب.
ومن منع التسعير مطلقا محتجا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله هو المسعر القابض الباسط، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال (1) » فقد غلط فإن هذه قضية معينة ليست لفظا عاما، وليس فيها أن أحدا امتنع من بيع يجب عليه أو عمل يجب عليه، أو طلب في ذلك أكثر من عوض المثل.
ومعلوم أن الشيء إذا رغب الناس في المزايدة فيه، فإذا كان صاحبه قد بذله كما جرت به العادة ولكن الناس تزايدوا فيه فهنا لا يسعر عليهم، والمدينة كما ذكرنا إنما كان الطعام الذي يباع فيها غالبا من الجلب، وقد يباع فيها شيء يزرع فيها، وإنما كان يزرع فيها الشعير، فلم يكن البائعون ولا المشترون ناسا معينين، ولم يكن هناك أحد يحتاج الناس إلى عينه أو إلى ماله ليجبر على عمل أو على بيع، بل المسلمون كلهم من جنس واحد، كلهم يجاهدون في سبيل الله ولم يكن من المسلمين البالغين القادرين على الجهاد إلا من يخرج في الغزو، وكل منهم يغزو بنفسه وماله، أو بما يعطاه من الصدقات أو الفيء، أو ما يجهزه به غيره، وكان إكراه البائعين على أن لا يبيعوا سلعهم إلا بثمن معين إكراها بغير حق، وإذا لم يكن يجوز إكراههم على أصل البيع فإكراههم على تقدير الثمن كذلك لا يجوز.
وأما من تعين عليه أن يبيع فكالذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قدر له الثمن الذي يبيع به ويسعر عليه، كما في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط، (2) » فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد فهذا لما وجب عليه أن يملك شريكه عتق نصيبه الذي لم يعتقه ليكمل الحرية في العبد قدر عوضه بأن يقوم جميع العبد قيمة عدل لا وكس ولا شطط، ويعطي قسطه من القسمة، فإن حق الشريك في نصف القيمة لا في قيمة النصف عند جماهير العلماء، كمالك وأبي حنيفة وأحمد، ولهذا قال هؤلاء: كل ما لا يمكن قسمه فإنه يباع ويقسم ثمنه إذا طلب أحد الشركاء ذلك ويجبر الممتنع على
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .
(2) صحيح البخاري العتق (2522) ، صحيح مسلم الأيمان (1501) ، سنن الترمذي الأحكام (1346) ، سنن النسائي البيوع (4699) ، سنن أبو داود العتق (3940) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2528) ، مسند أحمد بن حنبل (2/11) ، موطأ مالك العتق والولاء (1504) .(6/72)
البيع، وحكى بعض المالكية ذلك إجماعا، لأن حق الشريك في نصف القيمة كما دل عليه هذا الحديث الصحيح، ولا يمكن إعطاؤه ذلك إلا ببيع الجميع، فإذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء من ملك مالكه بعوض المثل لحاجة الشريك إلى إعتاق ذلك، وليس للمالك المطالبة بالزيادة على نصف القيمة، فكيف بمن كانت حاجته أعظم من الحاجة إلى إعتاق ذلك النصيب؟ مثل حاجة المضطر إلى الطعام واللباس وغير ذلك.
وهذا الذي أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- من تقويم الجميع بقيمة المثل هو حقيقة التسعير، وكذلك يجوز للشريك أن ينزع النصف المشفوع من يد المشتري بمثل الثمن الذي اشتراه به، لا بزيادة للتخلص من ضرر المشاركة والمقاسمة، وهذا ثابت بالسنة المستفيضة وإجماع العلماء، وهذا إلزام له بأن يعطيه ذلك الثمن لا بزيادة، لأجل تحصيل مصلحة التكميل لواحد، فكيف بما هو أعظم من ذلك ولم يكن له أن يبيعه للشريك بما شاء، بل ليس له أن يطلب من الشريك زيادة على الثمن الذي حصل له به، وهذا في الحقيقة من نوع التولية، فإن التولية أن يعطي المشترى السلعة لغيره بمثل الثمن الذي اشتراها به وهذا أبلغ من البيع بثمن المثل، ومع ها فلا يجبر المشتري على أن يبيعه لأجنبي غير الشريك إلا بما شاء إذ لا حاجة بذلك إلى شرائه كحاجة الشريك.
فأما إذا قدر أن قوما اضطروا إلى سكنى في بيت إنسان إذا لم يجدوا مكانا يأوون إليه إلا ذلك البيت فعليه أن يسكنهم، وكذلك لو احتاجوا إلى أن يعيرهم ثيابا يستدفئون بها من البرد، أو إلى آلات يطبخون بها، أو يبنون أو يسقون: يبذل هذا مجانا، وإذا احتاجوا إلى أن يعيرهم دلوا يستقون به، أو قدرا يطبخون فيها، أو فأسا يحفرون به، فهل عليه بذله بأجرة المثل لا بزيادة؟ .
فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد وغيره، والصحيح وجوب بذل ذلك مجانا إذا كان صاحبها مستغنيا عن تلك المنفعة وعوضها، كما دل عليه الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (1) {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (2) {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} (3) {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (4) وفي السنن عن ابن مسعود قال: كنا نعد " الماعون" عارية الدلو والقدر والفأس.
وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لما ذكر الخيل قال: «هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر؛ فأما الذي هي له ستر فرجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها (5) » وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من حق الإبل إعارة دلوها وأضراب فحلها (6) » وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه «نهى عن عسب الفحل (7) » وفي الصحيحين عنه أنه قال: «لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره (8) » وإيجاب بذل هذه المنفعة مذهب أحمد وغيره.
__________
(1) سورة الماعون الآية 4
(2) سورة الماعون الآية 5
(3) سورة الماعون الآية 6
(4) سورة الماعون الآية 7
(5) صحيح البخاري المساقاة (2371) ، صحيح مسلم الزكاة (987) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1636) ، سنن النسائي الخيل (3563) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2788) ، مسند أحمد بن حنبل (2/384) ، موطأ مالك كتاب الجهاد (975) .
(6) صحيح مسلم الزكاة (988) ، سنن النسائي الزكاة (2454) ، سنن الدارمي الزكاة (1616) .
(7) صحيح البخاري الإجارة (2284) ، سنن الترمذي البيوع (1273) ، سنن النسائي البيوع (4671) ، سنن أبو داود البيوع (3429) ، مسند أحمد بن حنبل (2/14) .
(8) سنن ابن ماجه الأحكام (2336) ، مسند أحمد بن حنبل (3/480) .(6/73)
ولو احتاج إلى إجراء ماء في أرض غيره من غير ضرر بصاحب الأرض، فهل يجبر؟ ، على قولين للعلماء، هما روايتان عن أحمد، والأخبار بذلك مأثورة عن عمر بن الخطاب قال للممتنع: والله لتجرينها ولو على بطنك. ومذهب غير واحد من الصحابة والتابعين: أن زكاة الحلي عاريته، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره.
والمنافع التي يجب بذلها نوعان: منها ما هو حق المال، كما ذكره في الخيل والإبل وعارية الحلي، ومنها ما يجب لحاجة الناس.
وأيضا فإن بذل منافع البدن يجب عند الحاجة كما يجب تعليم العلم، وإفتاء الناس وأداء الشهادة والحكم بينهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد وغير ذلك من منافع الأبدان فلا يمنع وجوب بذل منافع الأموال للمحتاج، وقد قال تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (1) وقال: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} (2) من وللفقهاء في أخذ الجعل على الشهادة أربعة أقوال، هي أربعة أوجه في مذهب أحمد وغيره.
أحدها: أنه لا يجوز مطلقا.
والثاني: لا يجوز إلا عند الحاجة.
والثالث: يجوز إلا أن يتعين عليه.
والرابع: يجوز، فإن أخذ أجرا عند العمل لم يأخذ عند الأداء، وهذه المسائل لبسطها مواضع أخر.
والمقصود هنا: أنه إذا كانت السنة قد مضت في مواضع بأن على المالك أن يبيع ماله بثمن مقدر، إما بثمن المثل، وإما بالثمن الذي اشتراه به، لم يحرم مطلقا تقدير الثمن، ثم إن ما قدر به النبي -صلى الله عليه وسلم- في شراء نصيب شريك المعتق هو لأجل تكميل الحرية وذلك حق الله، وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله، ولهذا يجعل العلماء هذه حقوقا لله تعالى، وحدودا لله، بخلاف حقوق الآدميين وحدودهم، وذلك مثل حقوق المساجد ومال الفيء، والصدقات، والوقف على أهل الحاجات، والمنافع العامة ونحو ذلك، ومثل حد المحاربة والسرقة والزنا وشرب الخمر، فإن الذي يقتل شخصا لأجل المال يقتل حتما باتفاق العلماء، وليس لورثة المقتول العفو عنه، بخلاف من يقتل شخصا لغرض خاص، مثل خصومة بينهما، فإن هذا حق لأولياء المقتول، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا، باتفاق المسلمين وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة، ليس الحق فيها لواحد بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية، لكن
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 282(6/74)
تكميل الحرية وجب على الشريك المعتق، فلو لم يقدر فيها الثمن لتضرر بطلب الشريك الآخر ما شاء، وهنا عموم الناس عليهم شراء الطعام والثياب لأنفسهم، فلو مكن من يحتاج إلى سلعته أن لا يبيع إلا بما شاء لكان ضرر الناس أعظم.
ولهذا قال الفقهاء: إذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير كان عليه بذله له بثمن المثل فيجب الفرق بين من عليه أن يبيع وبين من ليس عليه أن يبيع، وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو الشافعي، ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن يعطيه بثمن المثل.
وتنازع أصحابه في جواز التسعير للناس إذا كان بالناس حاجة، ولهم فيه وجهان.
وقال أصحاب أبي حنيفة: لا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس إلا إذا تعلق به حق ضرر العامة، فإذا رفع إلى القاضي أمر المحتكر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله على اعتبار السعر في ذلك فنهاه عن الاحتكار، فإن رفع التاجر فيه إليه ثانيا حبسه وعزره على مقتضى رأيه، زجرا له أو دفعا للضرر عن الناس، فإن كان أرباب الطعام يتعدون ويتجاوزون القيمة تعديا فاحشا وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير: سعر حينئذ بمشورة أهل الرأي والبصيرة وإذا تعدى أحد بعدما فعل ذلك أجبره القاضي، وهذا على قول أبي حنيفة ظاهر، حيث لا يرى الحجر على الحر، وكذا عندهما، أي عند أبي يوسف ومحمد، إلا أن يكون الحجر على قوم معينين، ومن باع منهم بما قدره الإمام صح، لأنه غير مكره عليه.
وهل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه؟ ، قيل: هو على الاختلاف المعروف في مال المديون، وقيل: يبيع هاهنا بالاتفاق، لأن أبا حنيفة يرى الحجر لدفع الضرر العام. والسعر لما غلا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وطلبوا منه التسعير فامتنع، لم يذكر أنه كان هناك من عنده طعام امتنع من بيعه، بل عامة من كانوا يبيعون الطعام إنما هم جالبون يبيعونه إذا هبطوا السوق، لكن نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبيع حاضر لباد، نهاه أن يكون له سمسارا وقال: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض (1) » وهذا ثابت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير وجه، فنهى الحاضر العالم بالسعر أن يتوكل للبادي الجالب للسلعة، لأنه إذا توكل له مع خبرته بحاجة الناس إليه أغلى الثمن على المشتري، فنهاه عن التوكل له -مع أن جنس الوكالة مباح- لما في ذلك من زيادة السعر على الناس.
«ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تلقي الجلب، (2) » وهذا أيضا ثابت في الصحيح من غير وجه، وجعل للبائع إذا هبط إلى السوق الخيار، ولهذا كان أكثر الفقهاء على أنه نهى عن ذلك لما فيه من ضرر البائع بدون ثمن المثل وغبنه، فأثبت النبي -صلى الله عليه وسلم- الخيار لهذا البائع، وهل هذا الخيار فيه ثابت مطلقا أو إذا غبن؟ ، قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد، أظهرها أنه إنما يثبت له الخيار إذا غبن، والثاني يثبت له الخيار
__________
(1) صحيح مسلم البيوع (1522) ، سنن الترمذي البيوع (1223) ، سنن أبو داود البيوع (3442) ، سنن ابن ماجه التجارات (2176) ، مسند أحمد بن حنبل (3/392) .
(2) سنن النسائي البيوع (4499) .(6/75)
مطلقا، وهو ظاهر مذهب الشافعي.
وقال طائفة: بل نهى عن ذلك لما فيه من ضرر المشترى إذا تلقاه المتلقي فاشتراه ثم باعه، وفي الجملة فقد نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن البيع والشراء الذي جنسه حلال حتى يعلم البائع بالسعر وهو ثمن المثل، ويعلم المشتري بالسلعة وصاحب القياس الفاسد يقول: للمشتري أن يشتري حيث شاء وقد اشترى من البائع كما يقول، وللبادي أن يوكل الحاضر.
ولكن الشارع رأى المصلحة العامة، فإن الجالب إذا لم يعرف السعر كان جاهلا بثمن المثل فيكون المشتري غارا له، ولهذا ألحق مالك وأحمد بذلك كل مسترسل، والمسترسل: الذي لا يماكس الجاهل بقيمة المبيع، فإنه بمنزلة الجالبين الجاهلين بالسعر، فتبين أنه يجب على الإنسان أن لا يبيع مثل هؤلاء إلا بالسعر المعروف، وهو ثمن المثل، وإن لم يكن هؤلاء محتاجين إلى الابتياع من ذلك البائع، لكن لكونهم جاهلين بالقيمة أو مسلمين إلى البائع غير مماكسين له، والبيع يعتبر فيه الرضا، والرضا يتبع العلم، ومن لم يعلم أنه غبن فقد يرضى وقد لا يرضى، فإذا علم أنه غبن ورضي فلا بأس بذلك، وإذا لم يرض بثمن المثل لم يلتفت إلى سخطه.
ولهذا أثبت الشارع الخيار لمن لم يعلم بالعيب أو التدليس، فإن الأصل في البيع الصحة وأن يكون الباطن كالظاهر، فإذا اشترى على ذلك فما عرف رضاه إلا بذلك، فإذا تبين أن في السلعة غشا أو عيبا فهو كما لو وصفها بصفة وتبينت بخلافها فقد يرضى وقد لا يرضى، فإن رضي وإلا فسخ البيع وفي الصحيحين عن حكيم بن حزام عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما (1) » ، وفي السنن «أن رجلا كانت له شجرة في أرض غيره، وكان صاحب الأرض يتضرر بدخول صاحب الشجرة فشكا ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأمره أن يقبل منه بدلها أو يتبرع له بها فلم يفعل، فأذن لصاحب الأرض في قلعها، وقال لصاحب الشجرة: إنما أنت مضار» فهنا أوجب عليه إذا لم يتبرع بها أن يبيعها، فدل على وجوب البيع عند حاجة المشتري.
وأين حاجة هذا من حاجة عموم الناس إلى الطعام؟ .
ونظير هؤلاء الذين يتجرون في الطعام بالطحن والخبز، ونظير هؤلاء صاحب الخان والقيسارية والحمام إذا احتاج الناس إلى الانتفاع بذلك، وهو إنما ضمنها ليتجر فيها، فلو امتنع من إدخال الناس إلا بما شاء وهم يحتاجون لم يمكن من ذلك، وألزم ببذل ذلك بأجرة المثل، كما يلزم الذي يشتري الحنطة ويطحنها ليتجر فيها، والذي يشتري الدقيق ويخبزه ليتجر فيه مع حاجة الناس إلى ما عنده، بل إلزامه ببيع ذلك بثمن المثل أولى وأحرى، بل إذا امتنع من صنعة الخبز والطحن حتى يتضرر
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2110) ، صحيح مسلم البيوع (1532) ، سنن الترمذي البيوع (1246) ، سنن النسائي البيوع (4464) ، سنن أبو داود البيوع (3459) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) ، سنن الدارمي البيوع (2547) .(6/76)
الناس بذلك ألزم بصنعتها كما تقدم، وإذا كانت حاجة الناس تندفع إذا عملوا ما يكفي الناس بحيث يشتري إذ ذاك بالثمن المعروف لم يحتج إلى تسعير، وإما إذا كانت حاجة الناس لا تندفع إلا بالتسعير العادل سعر عليهم تسعير عدل، لا وكس، ولا شطط (1) . انتهى كلام شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى -.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام \ 28 \ 75 وما بعدها(6/77)
وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: (1) .
وأما التسعير: فمنه ما هو ظلم محرم. ومنه ما هو عدل جائز.
فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم. فهو حرام. وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل. فهو جائز، بل واجب.
فأما القسم الأول: فمثل ما روى أنس قال: «غلا السعر على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله، لو سعرت لنا؟ .
فقال: إن الله هو القابض الرازق، الباسط المسعر. وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطالبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال (2) » رواه أبو داود والترمذي وصححه.
فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر - إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق - فهذا إلى الله. فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها: إكراه بغير حق.
وأما الثاني: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها، مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل. ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل. والتسعير هاهنا إلزام - بالعدل الذي ألزمهم الله به.
فصل: ومن أقبح الظلم: إيجار الحانوت على الطريق، أو في القرية، بأجرة معينة على أن لا يبيع أحد غيره- فهذا ظلم حرام على المؤجر والمستأجر. وهو نوع من أخذ أموال الناس قهرا، وأكلها بالباطل. وفاعله قد تحجر واسعا. فيخاف عليه أن يحجر الله عنه رحمته. كما حجر على الناس فضله ورزقه.
فصل:
ومن ذلك: أن يلزم الناس أن لا يبيع الطعام أو غيره من الأصناف إلا ناس معروفون فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون. فلو باع غيرهم ذلك منع وعوقب. فهذا من البغي في الأرض والفساد، والظلم الذي يحبس به قطر السماء. وهؤلاء يجب التسعير عليهم، وأن لا
__________
(1) هامش ص 244 من الطرق الحكمية
(2) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .(6/77)
يبيعوا إلا بقيمة المثل، ولا يشتروا إلا بقيمة المثل، بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء. لأنه إذا منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما شاءوا أو يشتروا بما شاءوا: كان ذلك ظلما للناس: ظلما للبائعين الذين يريدون بيع تلك السلع، وظلما للمشترين منهم.
فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع. وحقيقته: إلزامهم بالعدل، ومنعهم من الظلم. وهذا كما أنه لا يجوز الإكراه على البيع بغير حق، فيجوز أو يجب الإكراه عليه بحق، مثل بيع المال لقضاء الدين الواجب والنفقة الواجبة، ومثل البيع للمضطر إلى طعام أو لباس، ومثل الغراس والبناء الذي في ملك الغير. فإن لرب الأرض أن يأخذه بقيمة المثل. ومثل الأخذ بالشفعة. فإن للشفيع أن يتملك الشقص بثمنه قهرا.
وكذلك السراية في العتق. فإنها تخرج الشقص من ملك الشريك قهرا. وتوجب على المعتق المعاوضة عليها قهرا. وكل من وجب عليه شيء من الطعام واللباس والرقيق والمركوب- بحج أو كفارة أو نفقه- فمتى وجده بثمن المثل وجب عليه شراؤه، وأجبر على ذلك. ولم يكن له أن يمتنع حتى يبذل له مجانا، أو بدون ثمن المثل.
فصل: ومن هاهنا: منع غير واحد من العلماء- كأبي حنيفة وأصحابه- القسامين الذين يقسمون العقار وغيره بالأجره: أن يشتركوا. فإنهم إذا اشتركوا- والناس يحتاجون إليهم- أغلوا عليهم الأجرة.
قلت: كذلك ينبغي لوالي الحسبة: أن يمنع مغسلي الموتى والحمالين لهم من الاشتراك، لما في ذلك من إغلاء الأجرة عليهم. وكذلك اشتراك كل طائفة يحتاج الناس إلى منافعهم، كالشهود والدلالين وغيرهم، على أن في شركة الشهود مبطلا آخر. فإن عمل كل واحد منهم متميز عن عمل الآخر، لا يمكن الاشتراك فيه. فإن الكتابة متميزة، والتحمل متميز، والأداء متميز، لا يقع في ذلك اشتراك ولا تعاون فبأي وجه يستحق أحدهما أجرة عمل صاحبه؟ وهذا بخلاف الاشتراك في سائر الصنائع. فإنه يمكن أحد الشريكين أن يعمل بعض العمل والآخر بعضه. ولهذا إذا اختلفت الصنائع: لم تصح الشركة على أحد الوجهين لتعذر اشتراكهما في العمل. ومن صححها نظر إلى أنهما يشتركان فيما تتم به صناعة كل واحد منهما من الحفظ والنظر إذا خرج لحاجة. فيقع الاشتراك فيما يتم به عمل كل صاحب السلعة في بيعها. فإذا شارك غيره في بيعها كان توكيلا له فيما وكل فيه. فإن قلنا: ليس للوكيل أن يوكل: لم تصح الشركة. وإن قلنا: له أن يوكل: صحت. فعلى والي الحسبة: أن يعرف هذه الأمور، ويراعيها، ويراعي مصالح الناس وهيهات هيهات ذهب ما هنالك.(6/78)
والمقصود: أنه إذا منع القسامون ونحوهم من الشركة، لما فيها من التواطؤ على إغلاء الجرة، فمنع البائعين الذين تواطئوا على أن لا يبيعوا إلا بثمن قدره أولى وأحرى.
وكذلك يمنع والي الحسبة المشترين من الاشتراك في شيء لا يشتريه غيرهم. لما في ذلك من ظلم البائع.
وأيضا: فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعا من السلع أو تبيعها: قد تواطئوا على أن يهضموا ما يشترونه فيشترونه بدون ثمن المثل، ويبيعون ما يبيعونه بأكثر من ثمن المثل، ويقتسمون ما يشتركون فيه من الزيادة كان إقرارهم على ذلك معاونة لهم على الظلم والعدوان. وقد قال تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) ولا ريب أن هذا أعظم إثما وعدوانا من تلقي السلع، وبيع الحاضر للبادي، ومن النجش.
فصل: ومن ذلك أن يحتاج الناس إلى صناعة طائفة - كالفلاحة والنساجة والبناء وغير ذلك - فلولي الأمر: أن يلزمهم بذلك بأجرة مثلهم، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك.
ولهذا قالت طائفة من أصحاب أحمد والشافعي: إن تعلم هذه الصناعات فرض على الكفاية، لحاجة الناس إليها. وكذلك تجهيز الموتى ودفنهم، وكذلك أنواع الولايات العامة والخاصة التي لا تقوم مصلحة الأمة إلا بها. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتولى أمر ما يليه بنفسه. ويولي فيما بعد عنه، كما ولى على مكة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص الثقفي، وعلى قرى عرينة خالد بن سعيد بن العاص. وبعث عليا ومعاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن. وكذلك كان يؤمر على السرايا، ويبعث السعاة على الأموال الزكوية، فيأخذونها ممن هي عليه، ويدفعونها إلى مستحقيها. فيرجع الساعي على المدينة وليس معه إلا سوطه، ولا يأتي بشيء من الأموال إذا وجد لها موضعا يضعها فيه.
فصل: وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستوفي الحساب على عماله، يحاسبهم على المستخرج والمصروف كما في الصحيحين عن أبي حميد الساعدي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استعمل رجلا من الأزد، يقال له: ابن اللتبية، على الصدقات فلما رجع حاسبه.
فقال: هذا لكم. وهذا أهدى إلي.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله، فيقول: هذا لكم وهذا أهدى إلي؟ ، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه، فينظر: أيهدي إليه أم لا؟
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(6/79)
والذي نفسي بيده لا نستعمل رجلا على العمل مما ولانا الله فيغل منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء. وأن كانت بقرة لها خوار. وإن كانت شاة تيعر. ثم رفع يديه إلى السماء.
وقال: اللهم هل بلغت؟ . قالها مرتين، أو ثلاثا (1) » .
والمقصود: أن هذه الأعمال متى لم يقم بها إلا شخص واحد صارت فرض عين عليه. فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم، أو نساجتهم، أو بنائهم؛ صارت هذه الأعمال مستحقة عليهم، يجبرهم ولي الأمر عليها بعوض المثل. ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل. ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم، كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم وألزم من صناعته الفلاحة أن يقوم بها: ألزم الجند بأن لا يظلموا الفلاح، كما يلزم الفلاح بأن يفلح.
ولو اعتمد الجند والأمراء مع الفلاحين: ما شرعه الله ورسوله، وجاءت به السنة وفعله الخلفاء الراشدون؛ لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض. وكان الذي يحصل لهم من المغل أضعاف ما يحصلونه بالظلم والعدوان. ولكن يأبى لهم جهلهم وظلمهم إلا أن يركبوا الظلم والإثم. فيمنعوا البركة وسعة الرزق. فيجمع لهم عقوبة الآخرة، ونزع البركة في الدنيا.
فإن قيل: وما الذي شرعه الله ورسوله، وفعله الصحابة، حتى يفعله من وفقه الله؟ .
قيل: المزارعة العادلة، التي يكون المقطع والفلاح فيها على حد سواء من العدل، لا يختص أحدهما عن الآخر بشيء من هذه الرسوم التي ما أنزل الله بها من سلطان. وهي التي خربت البلاد وأفسدت العباد ومنعت الغيث، وأزالت البركات، وعرضت أكثر الجند والأمراء لأكل الحرام. وإذا نبت الجسد على الحرام فالنار أولى به.
وهذه المزارعة العادلة: هي عمل المسلمين على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعهد خلفائه الراشدين، وهي عمل آل أبي بكر، وآل عمر، وآل عثمان، وآل علي، وغيرهم من بيوت المهاجرين. وهي قول أكابر الصحابة، كابن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وغيرهم. وهي مذهب فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وداود بن علي، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي بكر بن المنذر، ومحمد بن نصر المروزي. وهي مذهب عامة أئمة المسلمين كالليث بن سعد، وابن أبي ليلى، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن وغيرهم.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع حتى مات. ولم تزل
__________
(1) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6636) ، صحيح مسلم الإمارة (1832) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2946) ، مسند أحمد بن حنبل (5/424) ، سنن الدارمي الزكاة (1669) .(6/80)
تلك المعاملة حتى أجلاهم عمر عن خيبر. وكان قد شارطهم أن يعمروها من أموالهم، وكان البذر منهم، لا من النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء: أن البذر يجوز أن يكون من العامل كما مضت به السنة، بل قد قالت طائفة من الصحابة: لا يكون البذر إلا من العامل، لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-. ولأنهم أجروا البذر مجرى النفع والماء.
والصحيح: أنه يجوز أن يكون من رب الأرض، وأن يكون من العامل، وأن يكون منهما. وقد ذكر البخاري في صحيحه: (أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عامل الناس على: إن جاء عمر بالبذر من عنده: فله الشطر. وإن جاءوا بالبذر: فلهم كذا) .
والذين منعوا المزارعة: منهم من احتج بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- «نهى عن المخابرة (1) » ولكن الذي نهى عنه هو الظلم؛ فإنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها. ويشترطون ما على الماذيانات وإقبال الجداول، وشيئا من التبن يختص به صاحب الأرض. ويقتسمان الباقي.
وهذا الشرط باطل بالنص والإجماع، فإن المعاملة مبناها على العدل من الجانبين وهذه المعاملات من جنس المشاركات، لا من باب المعاوضات. والمشاركة العادلة: هي أن يكون لكل واحد من الشريكين جزء شائع فإذا جعل لأحدهما شيء مقدر كان ظلما.
فهذا هو الذي نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما قال الليث بن سعد: الذي نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك: أمر إذا نظر ذو البصيرة بالحلال والحرام فيه: علم أنه لا يجوز. وأما ما فعله هو وفعله خلفاؤه الراشدون والصحابة: فهو العدل المحض الذي لا ريب في جوازه.
فصل: وقد ظن طائفة من الناس: أن هذه المشاركات من باب الإجارة بعوض مجهول. فقالوا: القياس- يقتضي تحريمها.
ثم منهم من حرم المساقاة والمزارعة، وأباح المضاربة استحسانا للحاجة. لأن الدراهم لا تؤجر كما يقول أبو حنيفة.
ومنهم من أباح المساقاة: إما مطلقا، كقول مالك والشافعي في القديم، أو على النخل والعنب خاصة، كالجديد له. لأن الشجر لا يمكن إجارته، بخلاف الأرض. وأباح ما يحتاج إليه من المزارعة تبعا للمساقاة. ثم منهم من قدر ذلك بالثلث، كقول مالك. ومنهم من اعتبر كون الأرض أغلب كقول
__________
(1) صحيح البخاري المساقاة (2381) ، صحيح مسلم كتاب البيوع (1536) ، سنن النسائي البيوع (4523) ، سنن أبو داود البيوع (3404) ، مسند أحمد بن حنبل (3/392) .(6/81)
الشافعي. وأما جمهور السلف والفقهاء، فقالوا: ليس ذلك من باب الإجارة في شيء بل هو من باب المشاركات التي مقصود كل منهما مثل مقصود صاحبه، بخلاف الإجارة. فإن هذا مقصوده العمل، وهذا مقصوده الأجرة. ولهذا كان الصحيح أن هذه المشاركات إذا فسدت وجب فيها نصيب المثل، لا أجرة المثل. فيجب من الربح والنماء في فاسدها نظير ما يجب في صحيحها، لا أجرة مقدرة. فإن لم يكن ربح ولا نماء: لم يجب شيء. فإن أجرة المثل قد تستغرق رأس المال وأضعافه وهذا ممتنع. فإن قاعدة الشرع: أنه يجب في الفاسد من العقود نظير ما يجب في الصحيح منها. كما يجب في النكاح الفاسد مهر المثل. وهو نظير ما يجب في الصحيح. وفي البيع الفاسد إذا فات: ثمن المثل. وفي الإجارة الفاسدة. أجرة المثل. فكذلك يجب في المضاربة الفاسدة ربح المثل وفي المساقاة والمزارعة الفاسدة: نصيب المثل. فإن الواجب في صحيحها ليس هو أجرة مسماة. فيجب في فاسدها أجرة المثل، بل هو جزء شائع من الربح. فيجب في الفاسدة نظيره. قال شيخ الإسلام وغيره من الفقهاء والمزارعة أحل من المؤاجرة. وأقرب إلى العدل. فإنهما يشتركان في المغرم والمغنم بخلاف المؤاجرة فإن صاحب الأرض تسلم له الأجرة. والمستأجر قد يحصل له زرع، وقد لا يحصل.
والعلماء مختلفون في جواز هذا وهذا. والصحيح: جوازهما، سواء كانت الأرض إقطاعا أو غيره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وما علمت أحدا من علماء الإسلام- من الأئمة الأربعة ولا غيرهم- قال: إجارة الإقطاع لا تجوز. وما زال المسلمون يؤجرون إقطاعاتهم قرنا بعد قرن، من زمن الصحابة إلى زمننا هذا، حتى حدث بعض أهل زمننا فابتدع القول ببطلان إجارة الإقطاع.
وشبهته: أن المقطع لا يملك المنفعة. فيصير كالمستعير. لا يجوز أن يكرى الأرض المعارة. وهذا قياس خطأ من وجهين.
أحدهما: أن المستعير لم تكن المنفعة حقا له. إنما تبرع المعير بها. وأما أراضي المسلمين فمنفعتها حق للمسلمين، وولي الأمر قاسم بينهم حقوقهم. ليس متبرعا لهم كالمعير. والمقطع يستوفي المنفعة بحكم الاستحقاق، كما يستوفي الموقوف عليه منافع الموقوف وأولى. وإذا جاز للموقوف عليه أن يؤجر الوقف وإن أمكن أن يموت فتنفسخ الإجارة بموته على الصحيح- فلأن يجوز للمقطع أن يؤجر الإقطاع وإن انفسخت الإجارة بموته أولى.
الثاني أن المعير لو أذن في الإجارة جازت الإجارة، وولي الأمر يأذن للمقطع في الإجارة. فإنه إنما أقطعهم لينتفعوا بها: إما بالمزارعة، وإما بالإجارة. ومن منع الانتفاع بها بالإجارة والمزارعة فقد أفسد على المسلمين دينهم ودنياهم. وألزم الجند والأمراء أن يكونوا هم الفلاحين. وفي ذلك من الفساد ما فيه.
وأيضا: فإن الإقطاع قد يكون دورا وحوانيت، لا ينتفع بها المقطع إلا بالإجارة. فإذا لم تصح(6/82)
إجارة الإقطاع تعطلت منافع ذلك بالكلية، وكون الإقطاع معرضا لرجوع الإمام فيه. مثل كون الموهوب للولد معرضا لرجوع الوالد فيه وكون الصداق قبل الدخول معرضا نصفه أو كله إلى الزوج، وذلك لا يمنع صحة الإجارة بالاتفاق. فليس مع المبطل نص ولا قياس، ولا مصلحة، ولا نظر.
وإذا أبطلوا المزارعة والإجارة ولم يبق بيد الجند إلا أن يستأجروا من أموالهم من يزرع الأرض ويقوم عليها. وهذا لا يكاد يفعله إلا قليل من الناس. لأنه قد يخسر ماله ولا يحصل له شيء بخلاف المشاركة فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم. فهي أقرب إلى العدل.
وهذه المسألة ذكرت استطرادا. وإلا فالمقصود: أن الناس إذا احتاجوا إلى أرباب الصناعات- كالفلاحين وغيرهم - أجبروا على ذلك بأجرة المثل. وهذا من التسعير الواجب. فهذا تسعير في الأعمال.
وأما التسعير في الأموال: فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد وآلات. فعلى أربابه أن يبيعوه بعوض المثل، ولا يمكنوا من حبسه إلا بما يريدونه من الثمن. والله تعالى قد أوجب الجهاد بالنفس والمال فكيف لا يجب على أرباب السلاح بذله بقيمته؟ ومن أوجب على العاجز ببدنه أن يخرج ماله ما يحج به الغير عنه ولم يوجب على المستطيع بماله أن يخرج ما يجاهد به الغير: فقوله ظاهر التناقض. وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد. وهو الصواب.
فصل: وإنما لم يقع التسعير في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة. لأنهم لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء ولا من يبيع طحينا وخبزا. بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم. وكان من قدم بالحب لا يتلقاه أحد، بل يشتريه الناس من الجلابين. ولهذا جاء في الحديث: «الجالب مرزوق. والمحتكر ملعون (1) » .
وكذلك لم يكن في المدينة حائك. بل كان يقدم عليهم بالثياب من الشام واليمن وغيرهما. فيشترونها ويلبسونها.
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2153) ، سنن الدارمي البيوع (2544) .(6/83)
فصل: وقد تنازع العلماء في التسعير في مسألتين:
إحداهما: إذا كان للناس سعر غالب، فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك. فإنه يمنع من ذلك عند مالك وهل يمنع من النقصان؟ على قولين لهم.
واحتج مالك -رحمه الله- بما رواه في موطئه عن يونس بن سيف عن سعيد بن المسيب: (أن عمر(6/83)
ابن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة، وهو يبيع زبيبا له بالسوق.
فقال له عمر: إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا) .
قال مالك: لو أن رجلا أراد فساد السوق فحط عن سعر الناس: لرأيت أن يقال له: إما لحقت بسعر الناس، وإما رفعت. وإما أن يقول للناس كلهم- يعني: لا تبيعوا إلا بسعر كذا- فليس ذلك بالصواب. وذكر حديث عمر بن عبد العزيز في أهل الأبلة، حين حط سعرهم لمنع البحر. فكتب (خل بينهم وبين ذلك. فإنما السعر بيد الله) .
قال ابن رشد في كتاب البيان: أما الجالبون فلا خلاف أنه لا يسعر عليهم شيء مما جلبوه للبيع وإنما يقال لمن شذ منهم، فباع بأغلى مما يبيع به العامة: إما أن تبيع بما تبيع به العامة، وإما أن ترفع من السوق كما فعل عمر بن الخطاب بحاطب بن أبي بلتعة، إذ مر به وهو يبيع زبيبا له في السوق فقال له: (إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا) ، لأنه كان يبيع بالدرهم الواحد أقل مما كان يبيع به أهل السوق.
وأما أهل الحوانيت والأسواق الذين يشترون من الجلابين وغيرهم جملة، ويبيعون ذلك على أيديهم مقطعا، مثل اللحم والأدم، والفواكه- فقيل: إنهم كالجلابين، لا يسعر لهم شيء من بياعاتهم. وإنما يقال لمن شذ منهم وخرج عن الجمهور: إما أن تبيع كما يبيع الناس، وإما أن ترفع من السوق وهو قول مالك في هذه الرواية.
وممن روى عنه ذلك من السلف: عبد الله بن عمر، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله.
قيل: إنهم في هذا بخلاف الجالبين، لا يتركون على البيع باختيارهم إذا أغلوا على الناس، ولم يقتنعوا من الربح بما يشبهه. وعلى صاحب السوق الموكل بمصلحته أن يعرف ما يشترون به. فيجعل لهم من الربح ما يشبهه وينهاهم أن يزيدوا على ذلك. ويتفقد السوق أبدا، فيمنعهم من الزيادة على الربح الذي جعل لهم فمن خالف أمره عاقبه وأخرجه من السوق وهذا قول مالك في رواية أشهب، وإليه ذهب ابن حبيب. وقال به ابن المسيب، ويحيى بن سعيد، والليث بن سعد، وربيعة.
ولا يجوز عند أحد العلماء أن يقول لهم: لا تبيعوا إلا بكذا وكذا، ربحتم أو خسرتم، من غير أن ينظر إلى ما يشترون به، ولا أن يقول لهم فيما قد اشتروه: لا تبيعوا إلا بكذا وكذا، مما هو مثل الثمن أو أقل.
وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون: لم يتركهم أن يغلوا في الشراء، وإن لم يزيدوا في الربح على القدر الذي حد لهم. فإنهم قد يتساهلون في الشراء إذا علموا أن الربح لا يفوتهم.
وأما الشافعي: فإنه عارض في ذلك بما رواه عن الدراوردي عن داود بن صالح التمار عن(6/84)
القاسم بن محمد عن عمر -رضي الله عنه- (أنه مر بحاطب بن أبي بلتعة بسوق المصلى، وبين يديه غرارتان فيهما زبيب فسأله عن سعرهما) .
فقال له: مدين لكل درهم.
فقال عمر: قد حدثت بعير جاءت من الطائف تحمل زبيبا وهم يغترون بسعرك. فإما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل زبيبك البيت، فتبيعه كيف شئت، فلما رجع عمر حاسب نفسه. ثم أتى حاطبا في داره فقال: إن الذي قلت لك ليس عزمة مني، ولا قضاء، إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد. فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع) .
قال الشافعي: وهذا الحديث مستفيض. وليس بخلاف لما رواه مالك. ولكنه روى بعض الحديث، أو رواه عنه من رواه. وهذا أتى بأول الحديث وآخره. وبه أقول. لأن الناس مسلطون على أموالهم، ليس لأحد أن يأخذها أو شيئا منها بغير طيب أنفسهم إلا في المواضع التي تلزمهم الأخذ فيها. وهذا ليس منها.
وعلى قول مالك: فقال أبو الوليد الباجي: الذي يؤمر به من حط عنه أن يلحق به: هو السعر الذي عليه جمهور الناس. فإذا انفرد منهم الواحد والعدد اليسير بحط السعر. أمروا باللحاق بسعر الناس، أو ترك البيع. فإن زاد في السعر واحد، أو عدد يسير: لم يؤمر الجمهور باللحاق بسعره. لأن المراعى حال الجمهور. وبه تقوم المبيعات.
وهل يقام من زاد في السوق - أي في قدر المبيع بالدراهم- كما يقام من نقص منه؟ .
قال ابن القصار المالكي: اختلف أصحابنا في قول مالك (ولكن من حط سعرا) فقال البغداديون: أراد من باع خمسة بدرهم، والناس يبيعون ثمانية. وقال قوم من البصريين: أراد من باع ثمانية، والناس يبيعون خمسة. فيفسد على أهل السوق بيعهم. وقال قوم من البصريين: أراد من باع ثمانية، والناس يبيعون خمسة. فيفسد على أهل السوق بيعهم. وربما أدى إلى الشغب والخصومه.
قال: وعندي أن الأمرين جميعا ممنوعان. لأن من باع ثمانية - والناس يبيعون خمسة- أفسد على أهل السوق بيعهم. وربما أدى إلى الشغب والخصومة. فمنع الجميع مصلحة.
قال أبو الوليد: ولا خلاف أن ذلك حكم أهل السوق.
وأما الجالب: ففي كتاب محمد: لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق دون بيع الناس. وقال ابن حبيب: ما عدا القمح والشعير بسعر الناس، وإلا رفعوا. وأما جالب القمح والشعير فيبيع كيف شاء، إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق، إن أرخص بعضهم تركوا، وإن أرخص أكثرهم، قيل لمن بقي إما أن تبيعوا كبيعهم وإما أن ترفعوا.(6/85)
قال ابن حبيب: وهذا في المكيل والموزون، مأكولا كان أو غيره، دون ما لا يكال ولا يوزن. لأنه لا يمكن تسعيره، لعدم التماثل فيه.
قال أبو الوليد: هذا إذا كان المكيل والموزون متساويين. أما إذا اختلفا، لم يؤمر صاحب الجيد. أن يبيعه بسعر الدون.(6/86)
فصل: وأما المسألة الثانية - التي تنازعوا فيها من التسعير: فهي أن يحد لأهل السوق حدا لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب. فهذا منع منه الجمهور، حتى مالك نفسه في المشهور عنه. ونقل المنع أيضا عن ابن عمر وسالم، والقاسم بن محمد. وروى أشهب عن مالك - في صاحب السوق يسعر على الجزارين: لحم الضأن بكذا، ولحم الإبل بكذا، وإلا أخرجوا من السوق - قال: إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم، فلا بأس به ولكن لا يأمرهم أن يقوموا من السوق.
واحتج أصحاب هذا القول بأن في هذا مصلحة للناس بالمنع من إغلاء السعر عليهم. ولا يجبر الناس على البيع وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحده ولي الأمر، على حساب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري. وأما الجمهور: فاحتجوا بما رواه أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، سعر لنا. فقال: بل ادعوا الله. ثم جاء رجل فقال: يا رسول الله، سعر لنا. فقال: بل الله يرفع ويخفض. وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة (1) » .
قالوا: ولأن إجبار الناس على ذلك ظلم لهم.
فصل: وأما صفة ذلك عند من جوزه، فقال ابن حبيب: ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء ويحضر غيرهم، استظهارا على صدقهم، فيسألهم: كيف يشترون؟ وكيف يبيعون؟ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد، حتى يرضوا به. ولا يجبرهم على التسعير، ولكن عن رضى.
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3450) ، مسند أحمد بن حنبل (2/337) .(6/86)
قال أبو الوليد: ووجه هذا أن به يتوصل إلى معرفة مصالح البائعين والمشترين. ويجعل الباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم. ولا يكون فيه إجحاف بالناس. وإذا سعر عليهم من غير رضى، بما لا ربح لهم فيه: أدى ذلك إلى فساد الأسعار، وإخفاء الأقوات، وإتلاف أموال الناس.
قال شيخنا: فهذا الذي تنازعوا فيه. وأما إذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم بيعه: فهنا يؤمرون بالواجب، ويعاقبون على تركه. وكذلك كل من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع.
ومن احتج على منع التسعير مطلقا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- «إن الله هو المسعر القابض الباسط، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال (1) » قيل له: هذه قضية معينة. وليست لفظا عاما. وليس فيها أن أحدا امتنع من بيع ما الناس يحتاجون إليه. ومعلوم أن الشيء إذا قل رغب الناس في المزايدة فيه. فإذا بذله صاحبه- كما جرت العادة، ولكن الناس تزايدوا فيه- فهنا لا يسعر عليهم. وقد ثبت في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- منع من الزيادة على ثمن المثل في عتق الحصة من العبد المشترك، فقال: «من أعتق شركا به في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل، لا وكس ولا شطط (2) » . فأعطى شركاءه حصصهم. وعتق عليه العبد فلم يكن المالك أن يساوم المعتق بالذي يريد. فإنه لما وجب عليه أن يملك شريكه المعتق نصيبه الذي لم يعتقه لتكميل الحرية في العبد: قدر عوضه بأن يقوم جميع العبد قيمة عدل، ويعطيه قسطه من القيمة. فإن حق الشريك في نصف القيمة، لا في قيمة النصف عند الجمهور.
وصار هذا الحديث أصلا في أن ما لا يمكن قسمة عينه، فإنه يباع ويقسم ثمنه، إذا طلب أحد الشركاء ذلك. ويجبر الممتنع على البيع. وحكى بعض المالكية ذلك إجماعا.
وصار أصلا في أن من وجبت عليه المعاوضة أجبر على أن يعاوض بثمن المثل، لا بما يزيد عن الثمن.
وصار أصلا في جواز إخراج الشيء من ملك صاحبه قهرا بثمنه، للمصلحة الراجحة، كما في الشفعة. وصار أصلا في وجوب تكميل العتق بالسراية مهما أمكن.
والمقصود: أنه إذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء من ملك مالكه بعوض المثل، لمصلحة تكميل العتق ولم يمكن المالك من المطالبة بالزيادة على القيمة فكيف إذا كانت الحاجة بالناس إلى التملك أعظم، وهم إليها أضر؟ مثل حاجة المضطر إلى الطعام والشراب واللباس وغيره.
وهذا الذي أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- من تقويم الجميع قيمة المثل: هو حقيقة التسعير. وكذلك سلط الشريك على انتزاع الشقص المشفوع فيه من يد المشتري بثمنه الذي ابتاعه به لا بزيادة عليه، لأجل مصلحة التكميل لواحد. فكيف بما هو أعظم من ذلك؟ فإذا جوز له انتزاعه منه بالثمن الذي
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .
(2) صحيح البخاري العتق (2522) ، صحيح مسلم الأيمان (1501) ، سنن الترمذي الأحكام (1346) ، سنن النسائي البيوع (4699) ، سنن أبو داود العتق (3940) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2528) ، مسند أحمد بن حنبل (2/11) ، موطأ مالك العتق والولاء (1504) .(6/87)
وقع عليه العقد لا بما شاء المشتري من الثمن، لأجل هذه المصلحة الجزئية. فكيف إذا اضطر إلى ما عنده من طعام وشراب ولباس وآلة حرب؟ وكذلك إذا اضطر الحاج إلى ما عند الناس من آلات السفر وغيرها. فعلى ولي الأمر أن يجبرهم على ذلك بثمن المثل، لا بما يريدونه من الثمن. وحديث العتق أصل في ذلك كله.
فصل: فإذا قدر أن قوما اضطروا إلى السكنى في بيت إنسان، لا يجدون سواه، أو النزول في خان مملوك أو استعارة ثياب يستدفئون بها، أو رحى للطحن، أو دلو لنزع الماء، أو قدر، أو فأس، أو غير ذلك: وجب على صاحبه بذله بلا نزاع.
لكن هل له أن يأخذ عليه أجرا؟ فيه قولان للعلماء. وهما وجهان لأصحاب أحمد. ومن جوز له أخذ الأجرة حرم عليه أن يطلب زيادة على أجرة المثل قال شيخنا: والصحيح أنه يجب عليه بذل ذلك مجانا، كما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (1) {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (2) {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} (3) {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (4) قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة (وهو إعارة القدر والدلو والفأس ونحوها) وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- - وذكر الخيل- «قال هي لرجل أجر. ولرجل ستر. وعلى رجل وزر. فأما الذي هي له أجر: فرجل ربطها في سبيل الله. وأما الذي هي له ستر فرجل ربطها تغنيا وتعففا. ولم ينس حق الله في رقابها ولا في ظهورها (5) » .
وفي الصحيحين عنه أيضا «من حق الإبل إعارة دلوها، وإطراق فحلها (6) » وفي الصحيحين عنه أنه «نهى عن عسب الفحل (7) » أي عن أخذ الأجرة عليه، والناس يحتاجون إليه. فأوجب بذله مجانا. ومنع من أخذ الأجرة عليه. وفي الصحيحين عنه أنه قال: «لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره (8) » .
ولو احتاج إلى إجراء مائه في أرض غيره، من غير ضرر لصاحب الأرض فهل يجبر على ذلك؟ روايتان عن أحمد والإجبار: قول عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة -رضي الله عنهم-.
وقد قال جماعة من الصحابة والتابعين (أن زكاة الحلي عاريته. فإذا لم يعره فلا بد من زكاته) .
وهذا وجه في مذهب أحمد.
قلت: وهو الراجح، وأنه لا يخلو الحلى من زكاة أو عارية والمنافع التي يجب بذلها نوعان منها:
__________
(1) سورة الماعون الآية 4
(2) سورة الماعون الآية 5
(3) سورة الماعون الآية 6
(4) سورة الماعون الآية 7
(5) صحيح البخاري تفسير القرآن (4962) ، صحيح مسلم الزكاة (987) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1636) ، سنن النسائي الخيل (3563) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2788) ، مسند أحمد بن حنبل (2/262) ، موطأ مالك كتاب الجهاد (975) .
(6) صحيح مسلم الزكاة (988) ، سنن النسائي الزكاة (2454) ، سنن الدارمي الزكاة (1616) .
(7) صحيح البخاري الإجارة (2284) ، سنن الترمذي البيوع (1273) ، سنن النسائي البيوع (4671) ، سنن أبو داود البيوع (3429) ، مسند أحمد بن حنبل (2/14) .
(8) سنن ابن ماجه الأحكام (2336) ، مسند أحمد بن حنبل (3/480) .(6/88)
ما هو حق المال، كما ذكرنا في الخيل، والإبل، والحلي. ومنها: ما يجب لحاجة الناس.
وأيضا: فإن بذل منافع البدن تجب عند الحاجة، كتعليم العلم، وإفتاء الناس، والحكم بينهم، وأداء الشهادة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من منافع الأبدان.
وكذلك من أمكنه إنجاء إنسان من مهلكة وجب عليه أن يخلصه. فإن ترك ذلك- مع قدرته عليه- أثم وضمنه. فلا يمتنع وجوب بذل منافع الأموال للمحتاج. وقد قال تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (1) وقال: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} (2) .
وللفقهاء في أخذ الجعل على الشهادة أربعة أقوال: وهي أربعة أوجه في مذهب أحمد أحدها: أنه لا يجوز مطلقا. والثاني: أنه يجوز عند الحاجة.
والثالث: أنه لا يجوز إلا أن يتعين عليه. والرابع: أنه يجوز. فإن أخذه عند التحمل لم يأخذه عند الأداء. والمقصود: أن ما قدره النبي -صلى الله عليه وسلم- من الثمن في سراية العتق: هو لأجل تكميل الحرية وهو حق الله وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله. وذلك في الحقوق والحدود. فأما الحقوق: فمثل حقوق المساجد، ومال الفيء، والوقف على أهل الحاجات، وأموال الصدقات، والمنافع العامة.
وأما الحدود: فمثل حد المحاربة، والسرقة، والزنا، وشرب الخمر المسكر. وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك: مصلحة عامة، ليس الحق فيها لواحد بعينه فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع: أولى من تقديره لتكميل الحرية، لكن تكميل الحرية وجب على الشريك المعتق، ولو لم يقدر فيها الثمن لتضرر بطلب الشريك الآخر. فإنه يطلب ما شاء. وهنا عموم الناس يشترون الطعام والثياب لأنفسهم وغيرهم. فلو مكن من عنده سلع يحتاج الناس إليها أن يبيع بما شاء: كان ضرر الناس أعظم. ولهذا قال الفقهاء: إذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير: وجب عليه بذله له بثمن المثل.
وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها: هو الشافعي. ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه: أن يبذله له بثمن المثل. وتنازع أصحابه في جواز تسعير الطعام، إذا كان بالناس إليه حاجة ولهم فيه وجهان. وقال أصحاب أبي حنيفه: لا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس، إلا إذا تعلق به حق ضرر العامة فإذا رفع إلى القاضي: أمر المحتكر ببيع ما فضل من قوته وقوت أهله، على اعتبار السعر في ذلك، ونهاه عن الاحتكار. فإن أبى: حبسه وعزره على مقتضى رأيه، زجرا له، ودفعا للضرر عن الناس.
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 282(6/89)
قالوا: فإن تعدى أرباب الطعام، وتجاوزوا القيمة تعديا فاحشا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير: سعره حينئذ بمشورة أهل الرأي والبصيرة وهذا على أصل أبي حنيفة ظاهر، حيث لا يرى الحجر على الحر. ومن باع منهم بما قدره الإمام: صح. لأنه غير مكره عليه.
قالوا: وهل يبيع القاضي على المتحكر طعامه من غير رضاه؟ فعلى الخلاف المعروف في بيع مال المدين. وقيل: يبيع هاهنا بالاتفاق. لأن أبا حنيفه يرى الحجر لدفع الضرر العام، والسعر لما غلا على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وطلبوا منه التسعير فامتنع، لم يذكر: أنه كان هناك من عنده طعام امتنع عن بيعه، بل عامة من كان يبيع الطعام إنما هم جالبون يبيعونه إذا هبطوا السوق. ولكن نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبيع حاضر لباد، أي أن يكون سمسارا. وقال: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض (1) » فنهى الحاضر العالم بالسعر أن يتوكل للبادي الجالب للسلعة لأنه إذا توكل له - مع خبرته بحاجة الناس- أغلى الثمن على المشترى فنهاه عن التوكل له، مع أن جنس الوكالة مباح، لما في ذلك من زيادة السعر على الناس. ونهى عن تلقي الجلب، وجعل للبائع إذا هبط السوق الخيار. ولهذا كان أكثر الفقهاء على أنه نهى عن ذلك لما فيه من ضرر البائع هنا. فإذا لم يكن قد عرف السعر، وتلقاه المتلقى قبل إتيانه إلى السوق: اشتراه المشتري بدون ثمن المثل فغبنه. فأثبت النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا البائع الخيار.
ثم فيه عن أحمد روايتان كما تقدم. إحداهما: أن الخيار يثبت له مطلقا، سواء غبن أو لم يغبن وهو ظاهر مذهب الشافعي.
والثانية: أنه إنما يثبت له عند الغبن. وهي ظاهر المذهب.
وقالت طائفة: بل نهى عن ذلك لما فيه من ضرر المشترى إذا تلقاه المتلقي، فاشترى متاعه في الجملة. فقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن البيع والشراء الذي جنسه حلال، حتى يعلم البائع السعر وهو ثمن المثل، ويعلم المشترى بالسلعة.
وصاحب القياس الفاسد يقول: للمشترى أن يشترى حيث شاء. وقد اشترى من البائع، كما يقول: له أن يتوكل للبائع الحاضر وغير الحاضر، ولكن الشارع راعى المصلحة العامة. فإن الجالب إذا لم يعرف السعر كان جاهلا بثمن المثل. فيكون المشتري غارا له.
وألحق مالك وأحمد بذلك كل مسترسل. فإنه بمنزلة الجاهل بالسعر. فتبين أنه يجب على الإنسان: أن لا يبيع مثل هؤلاء إلا بالسعر المعروف. وهو ثمن المثل، وإن لم يكونوا محتاجين إلى الابتياع منه، لكن لكونهم جاهلين بالقيمة، أو غير مماكسين. والبيع يعتبر فيه الرضا. والرضا يتبع العلم. ومن لم يعلم أنه غبن فقد يرضى، وقد لا يرضى. فإذا علم أنه غبن ورضى، فلا بأس بذلك.
وفي السنن «أن رجلا كانت له شجرة في أرض غيره، وكان صاحب الأرض يتضرر
__________
(1) صحيح مسلم البيوع (1522) ، سنن الترمذي البيوع (1223) ، سنن أبو داود البيوع (3442) ، سنن ابن ماجه التجارات (2176) ، مسند أحمد بن حنبل (3/392) .(6/90)
بدخول صاحب الشجرة، فشكا ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأمره أن يقبل بدلها، أو يتبرع له بها، فلم يفعل، فأذن لصاحب الأرض. أن يقلعها، وقال لصاحب الشجرة. إنما أنت مضار» .
وصاحب القياس الفاسد يقول: لا يجب عليه أن يبيع شجرته، ولا يتبرع بها. ولا يجوز لصاحب الأرض أن يقلعها. لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وإجبار على المعاوضة عليه. وصاحب الشرع أوجب عليه إذا لم يتبرع بها أن يقلعها لما في ذلك من مصلحة صاحب الأرض (بخلاصه من تأذيه) بدخول صاحب الشجرة ومصلحة صاحب الشجرة بأخذ القيمة، وإن كان عليه في ذلك ضرر يسير، فضرر صاحب الأرض ببقائها في بستانه أعظم. فإن الشارع الحكيم يدفع أعظم الضررين بأيسرهما. فهذا هو الفقه والقياس والمصلحة وإن أباه من أباه.
والمقصود: أن هذا دليل على وجوب البيع لحاجة المشتري، وأين حاجة هذا من حاجة عموم الناس إلى الطعام وغيره؟ .
والحكم في المعارضة على المنافع إذا احتاج الناس إليها- كمنافع الدور، والطحن، والخبز، وغير ذلك- حكم المعاوضة على الأعيان.
وجماع الأمر: أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير: سعر عليهم تسعير عدل، ولا وكس ولا شطط وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه: لم يفعل، وبالله التوفيق. انتهى كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى-.(6/91)
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى-:
الحمد لله وحده وبعد:
فقد جرى بيننا وبين بعض إخواننا طلبة العلم بحث في مسألة التسعير وحكمه ورغب إلى الكتابة فيه فاستعنت الله تعالى وأمليت فيها ما يلي: -
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد فغير خاف أن التسعير من المسائل التي اختلف في حكمها العلماء. فذهب جمهورهم إلى منعه مطلقا مستدلين على ذلك بما روي أبو داود وغيره عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أنه قال: «جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له يا رسول الله سعر لنا، فقال: بل ادعوا الله، ثم جاء رجل فقال: يا رسول الله سعر لنا، فقال: بل الله يرفع ويخفص وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة (1) » . وبما روى أبو
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3450) ، مسند أحمد بن حنبل (2/337) .(6/91)
داود والترمذي وصححه عن أنس قال: «غلا السعر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله لو سعرت فقال: إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة (1) » . وهذا قول الشافعي وهو قول أصحاب الإمام أحمد كأبي حفص العكبري والقاضي أبي يعلي والشريف أبي جعفر وأبي الخطاب وابن عقيل وغيرهم قال في الشرح الكبير: وليس للإمام أن يسعر على الناس بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون وهذا مذهب الشافعي وكان مالك يقول: يقال لمن يريد أن يبيع أقل مما يبيع الناس بع كما يبيع الناس وإلا فاخرج عنا احتج بما روى الشافعي وسعيد بن منصور عن داود بن صالح عن القاسم بن محمد عن عمر أنه مر بحاطب في سوق المعلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب فسأله عن سعرهما فسعر له مدين بكل درهم فقال له عمر قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم يعتبرون سعرك فإما أن ترفع في السعر وإما أن تدخل زبيبك فتبيعه كيف شئت لأن في ذلك إضرارا بالناس إذا زاد وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع ولنا ما روى أبو داود والترمذي وابن ماجه أنه «غلا السعر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا.
فقال إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم (2) » قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وعن أبي سعيد مثله. فوجه الدلالة من وجهين أحدهما إنه لم يسعر وقد سألوه ذلك ولو جاز لأجابهم إليه، الثاني أنه علل بكونه مظلمة والظلم حراما إلى آخر ما ذكره. وأجابوا عن منع عمر -رضي الله عنه- حاطب بن أبي بلتعة أن يبيع زبيبه بأقل من سعر السوق بأن في الأثر أن عمر لما رجع حاسب نفسه ثم أتى حاطبا في داره فقال إن الذي قلت لك ليس بمعرفة مني ولا قضاء وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد فحيث شئت فبع وكيف شئت فبع. وقالوا بعد ذلك في توجه المنع بأن الناس مسلطون على أموالهم فإجبارهم على بيع لا يجب أو منعهم مما يباح شرعا ظلم لهم والظلم حرام فالتسعير بمثابة الحجر عليهم والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن وإذا تقابل الأمران وجب تمكن الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقوله تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) .
وذهب بعضهم إلى جواز التسعير إذا كان للناس سعر غالب فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك أو بأنقص واحتجوا بما رواه مالك في موطئه عن يونس بن سيف عن سعيد بن المسيب
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/156) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .
(3) سورة النساء الآية 29(6/92)
أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبا له بالسوق فقال له عمر إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا. قال مالك: لو أن رجلا أراد فساد السوق فحط عن سعر الناس لرأيت أن يقال له إما لحقت بسعر الناس وإما رفعت. وإما أن يقول للناس كلهم يعني لا تبيعوا إلا بسعر كذا فليس ذلك بالصواب كما ذهب بعضهم إلى أن للإمام أن يحد لأهل السوق حدا لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب روى أشهب عن مالك في صاحب السوق يسعر على الجزارين لحم الضأن بكذا ولحم الإبل بكذا وإلا أخرجوا من السوق قال إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به ولكن لا يأمرهم أن يقوموا من السوق واحتجوا على جواز ذلك بأن فيه مصلحة للناس بالمنع من غلاء السعر عليهم ولا يجبر الناس على البيع وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي حده ولي الأمر على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري. وردوا على المانعين منه مطلقا أن الاستدلال بقوله -صلى الله عليه وسلم- «إن الله هو المسعر القابض الباسط (1) » إلى آخره قضية معينة وليست لفظا عاما وليس فيها أن أحدا امتنع من بيع ما الناس يحتاجون إليه بل جاء في حديث أنس التصريح بداعي طلب التسعير وهو ارتفاع السعر في ذلك وقد ثبت في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- منع من الزيادة على ثمن المثل في عتق الحصة من العبد المشترك فقال: «من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط (2) » فأعطى شركاءه حصتهم وعتق عليه العبد.
قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه الطرق الحكمية فلم يكن المالك أن يساوم المعتق بالذي يريد فإنه لما وجب عليه أن يملك شريكه المعتق نصيبه الذي لم يعتقه لتكميل الحرية في العبد قدر عوضه بأن يقوم جميع العبد قيمة عدل ويعطيه قسطا من القيمة فإن حق الشريك في نصف القيمة لا في قيمة النصف عند الجمهور. وصار هذا الحديث أصلا في أن ما لا يمكن قسمة عينه فإنه يباع ويقسم ثمنه إذا طلب أحد الشركاء ذلك ويجبر الممتنع على البيع وحكى بعض المالكيين ذلك إجماعا. وصار ذلك أصلا في أن من وجبت عليه المعاوضة أجبر على أن يعاوض بثمن المثل لا بما يزيد عن الثمن. وصار أصلا في جواز إخراج الشيء عن ملك صاحبه قهرا بثمنه للمصلحة الراجحة كما في الشفعة وصار أصلا في وجوب تكميل العتق بالسراية مهما أمكن. والمقصود أنه إذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء عن ملك مالكه بعوض المثل لمصلحة تكميل العتق ولم يمكن المالك من المطالبة بالزيادة على القيمة فكيف إذا كانت الحاجة بالناس إلى التملك أعظم وهم إليها أضر مثل حاجة المضطر إلى الطعام والشراب واللباس وغيره وهذا الذي أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- من تقويم الجميع قيمة المثل هو حقيقة التسعير. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في معرض كلامه على التسعير في الجزء الثامن والعشرين من فتاواه الكبرى والمقصود هنا أنه إذا كانت السنة قد مضت في مواضع بأن على المالك أن
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .
(2) صحيح البخاري العتق (2522) ، صحيح مسلم الأيمان (1501) ، سنن الترمذي الأحكام (1346) ، سنن النسائي البيوع (4699) ، سنن أبو داود العتق (3940) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2528) ، مسند أحمد بن حنبل (2/11) ، موطأ مالك العتق والولاء (1504) .(6/93)
يبيع ما له بثمن مقدر إما بثمن المثل وإما بالثمن الذي اشتراه به لم يحرم مطلقا تقدير الثمن. ثم إن ما قدر به النبي -صلى الله عليه وسلم- في شراء نصيب المعتق هو لأجل تكميل الحرية وذلك حق الله وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله- إلى أن قال- وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة وليس الحق فيها لواحد بعينه فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية (إلى أن قال وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو الشافعي ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن يعطيه بثمن المثل. وتنازع أصحابه في جواز التسعير للناس إذا كان بالناس حاجة ولهم فيه وجهان. وقال أصحاب أبي حنيفة: لا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس إلا إذا تعلق به حق ضرر العامة فإن كان أرباب الطعام يتعدون ويتجاوزون القيمة تعديا فاحشا وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير سعر حينئذ بمشورة أهل الرأي والبصيرة وإذا تعدى أحد بعد ما فعل ذلك أجبره القاضي. أ- هـ كلامه -رحمه الله-،،،.
والذي يظهر لنا وتطمئن إليه نفوسنا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من التسعير ما هو ظلم ومنه ما هو عدل جائز فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير الحق على البيع بثمن لا يرضون أو منعهم مما أباحه الله لهم فهو حرام وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل فهو جائز بل واجب. فما قدره النبي -صلى الله عليه وسلم- من الثمن في سراية العتق هو لأجل تكميل الحرية وهو حق الله وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله فحاجة المسلمين إلى الطعام والشراب واللباس ونحو هذه الأمور مصلحة عامة ليس فيها الحق لواحد بعينه فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية.
فالتسعير جائز بشرطين أحدهما أن يكون التسعير فيما حاجته عامة لجميع الناس، والثاني ألا يكون سببا لغلاء قلة العرض أو كثرة الطلب فمتى تحقق فيه الشرطان كان عدلا وضربا من ضروب الرعاية العامة للأمر كتسعيرة اللحوم والأخباز والأدوية ونحو هذه الأمور مما هي مجال للتلاعب بأسعارها وظلم الناس في بيعها وإن تخلفا أو أحدهما كان ذلك ظلما وداخلا فيما نص عليه حديثا أنس وأبي(6/94)
هريرة المتقدمان وهو عين ما نهى عنه عمر بن عبد العزيز عامله على الأبلة حين حط سعرهم لمنع البحر فكتب إليه: خل بينهم وبين ذلك فإنما السعر بيد الله.
والخلاصة أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير فعلى ولي الأمر أن يسعر عليهم فيما تحقق فيه الشرطان المتقدمان تسعير عدل لا وكس ولا شطط فإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل.
بقيت الإشارة إلى: حكم التسعير في أجور العقار وهل هو داخل في حكم الممنوع أم الجائز. تقدم فيما سبق أن التسعير لا يجوز إلا بتحقيق شرطي، أحدهما: أن يكون فيها حاجة عامة لجميع الناس، الثاني: أن لا يكون سببا لغلاء قلة العرض أو كثرة الطلب. والمساكن المعدة للكراء ليست فيها حاجة عامة لجميع الأمة بل الغالب من الناس يسكنون في مساكن يملكونها وإذا كان هناك غلاء في أجرة المساكن المعدة للكراء في مدن المملكة فليست نتيجة اتفاق أصحابها على رفع إجار سكناها ولا الامتناع من تأجيرها وإنما سببه في الغالب قلة العقار المعد للكراء والكثرة الكاثرة من طالبي الاستئجار أو هما جميعا. فتسعير إجار العقار ضرب من الظلم والعدوان فضلا على أنه يحد من نشاط الحركة العمرانية في البلاد وذلك لا يتفق مع مصلحة البلاد وما تتطلبه عوامل نموها وتطورها. وبالله التوفيق قال ذلك وأملاه الفقير إلى ربه محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف مصليا على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا ما تيسر إيراده وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه،،،،، حرر في 21 \ 7 \ 96 اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء.
عضو - عبد الله بن سليمان بن منيع عضو - عبد الله بن عبد الرحمن الغديان نائب الرئيس - عبد الرزاق عفيفي الرئيس - عبد العزيز بن عبد الله بن باز(6/95)
عن عبد الله بن مسعود: قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم (1) » .
قال يزيد: أحسبه قال «وأسواقهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (2) » .
«وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متكئا فجلس فقال: والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا (3) » .
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3047) ، سنن أبو داود الملاحم (4336) ، سنن ابن ماجه الفتن (4006) .
(2) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3048) ، سنن أبو داود الملاحم (4336) ، سنن ابن ماجه الفتن (4006) ، مسند أحمد بن حنبل (1/391) .
(3) سنن الترمذي تفسير القرآن (3047) ، سنن ابن ماجه الفتن (4006) .(6/96)
حكم الذبائح المستوردة(6/97)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد. . . ففي الدورة الاستثنائية الثالثة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض ابتداء من يوم السبت الموافق 1 من شهر صفر إلى السابع منه عام 1399 هـ اقترح المجلس إعداد بحث في حكم الذبائح التي تستورد إلى المملكة العربية السعودية من بلاد الكفار، فأعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته ما يأتي:
1 - تمهيد يعتبر مدخلا للموضوع.
2 - ذكر طريقة الذبح الشرعية وما صدر من فتاوى في تلك الذبائح.
3 - ذكر ما ورد إلى هذه الرئاسة عن كيفية الذبح في تلك البلاد.
4 - تطبيق القواعد الشرعية على هذه الذبائح على ضوء ما عرف عنها من المشاهدات ونحوها.
5 - حل المشكلة وطريق الخلاص منها.
وفيما يلي تفصيل ذلك بحول الله وتوفيقه. . .(6/98)
حكم الذبائح المستوردة
أولا: تمهيد يعتبر مدخلا إلى بحث الموضوع:
إن الحكم على ما يقع في الكون من جزئيات يتوقف على تشخيصها وشرح حالاتها ثم تطبيق القواعد الكلية التي تناسبها عليها ثم إبداء الحكم عليها وصدروه ممن نظر فيها، فالحكم على الذبائح المستوردة من دول كافرة بحل أو حرمة يتوقف:
أولا:
* على معرفة الذبائح.
* كيفية الذبح ونوع الآلة التي بها ذبحت.
* ذكر اسم الله أو غيره عليها أو عدم ذكر شيء من ذلك.
* والغرض الذي من أجله حصل الذبح.
* إلى غير ذلك مما له صلة بحل الذبيحة أوحرمتها.(6/99)
ثانيا:
* معرفة ضوابط الذبح الشرعي وما يشترط فيه من شروط.
* بتطبيق ذلك على ما عرف من واقع الذبائح يمكن الحكم عليها بحل أو حرمة.
لذا كان الحديث على هذه الأمور لزاما ليصدر الحكم عليها عن بينة وبصيرة.
ثانيا: ذكر طريقة الذبح الشرعية وما صدر من فتاوى في تلك الذبائح من علماء العصر.
صدر في ذلك بيان عن طريقة الذبح وفتاوى من علماء العصر مستقاة من فقه الشريعة الإسلامية فيما يحل وما يحرم من الذبائح المستوردة من بلاد الكفار نثبتها فيما يلي: -(6/100)
الصفة المشروعة في الذبح والنحر
بين سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية سابقا صفة الذكاة الشرعية فقال:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الناصح الأمين وعلى آله وأصحابه الغر المحجلين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. . أما بعد:(6/100)
فإنه ورد إلى هذه الديار أسئلة عن الصفة المشروعة في الذبح والنحر ويذكر من سأل عن ذلك أنه شاهد وعلم ما لا يتفق مع كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ونظرا إلى أن هذا يشترك فيه الخاص والعام رأينا أن تكون الإجابة خارجة مخرج التبليغ للعموم أداء للأمانة ونصحا للأمة فنقول:
اعلم وفقنا الله وإياك أن الذكاة المشروعة لها شروط وسنن ونقدم لذلك حديثا عاما ثم نذكر بعده الشروط ثم السنن.
أما الحديث فروى مسلم وأصحاب السنن عن شداد بن أوس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته (1) » .
__________
(1) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4414) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .(6/101)
وأما الشروط فأربعة:
الأول: أهلية المذكي بأن يكون عاقلا ولو مميزا مسلما أو كتابيا أبواه كتابيان والأصل في هذا ما ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (1) » الحديث وما ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع (2) » فكل من البالغ والمميز يوصف بالعقل ولهذا يصح من المميز قصد العبادة وقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (3) وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه فسر طعامهم بذبحائهم.
الثاني: الآلة فتباح بكل ما أنهر الدم بحده إلا السن والظفر والأصل في هذا ما أخرجه البخاري في صحيحه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(2) سنن أبو داود الصلاة (495) ، مسند أحمد بن حنبل (2/187) .
(3) سورة المائدة الآية 5(6/101)
عليه فكل ليس السن والظفر (1) » .
الثالث: قطع الحلقوم وهو مجرى النفس والمريء وهو مجرى الطعام والودجين، والأصل في هذا ما ثبت في سنن أبي داود عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن شرطة الشيطان وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا تفري الأوداج (2) » ومعلوم أن نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأصل يقتضي التحريم وفي سنن سعيد بن منصور عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «إذا أهريق الدم وقطع الودج فكل» إسناده حسن. ومحل قطع ما ذكر الحلق واللبة وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر ولا يجوز في غير ذلك بالإجماع، قال عمر النحر في اللبة والحلق وثبت في سنن الدارقطني عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال «بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- بديل بن ورقاء يصيح في فجاج منى ألا إن الذكاة في الحلق واللبة» .
الرابع: التسمية فيقول الذابح عند حركة يده بالذبح بسم الله الأصل في هذا قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (3) .
وقال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (4) فالله جل وعلا غاير بين الحالتين وفرق بين الحكمين لكن إن ترك التسمية نسيانا حلت ذبيحته لما رواه سعيد بن منصور في سننه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم إذا لم يتعمد» . فإن اختل شرط من هذه الشروط فإن الذبيحة لا تحل.
__________
(1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5509) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1491) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) ، سنن الدارمي الأضاحي (1977) .
(2) سنن أبو داود الضحايا (2826) ، مسند أحمد بن حنبل (1/289) .
(3) سورة الأنعام الآية 121
(4) سورة الأنعام الآية 118(6/102)
وأما السنن فهي ما يلي: 2، 1: أن تكون الآلة حادة وأن يحمل عليها بقوة لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته (1) » .
4، 3: حد الآلة والحيوان الذي يراد ذبحه لا يبصره، ومواراة الذبيحة عن البهائم وقت الذبح لما ثبت في مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- «أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تحد الشفار وأن توارى عن البهائم (2) » وما ثبت في معجمي الطبراني الكبير والأوسط ورجاله رجال
__________
(1) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4411) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .
(2) سنن ابن ماجه الذبائح (3172) ، مسند أحمد بن حنبل (2/108) .(6/102)
الصحيح عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: «مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها.
قال: أفلا قبل هذا أو تريد أن تميتها موتتين» .
5: توجيهها إلى القبلة لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما ذبح ذبيحة أو نحر هديا إلا وجهه إلى القبلة وتكون الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، والغنم والبقر على جنبها الأيسر.
6: تأخير كسر عنقه وسلخه حتى يبرد أي بعد خروج روحه لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- «بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى بكلمات منها لا تعجلوا الأنفاس قبل أن تزهق» . رواه الدارقطني.
هذا ونسأل الله أن يرزق المسلمين التمسك بدينهم على الوجه الذي يرضاه حتى يلقوه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. .
وقال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره آية {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) .
بعد ذكر مناسبتها لما قبلها: وفسر الجمهور الطعام هنا بالذبائح أو اللحوم لأن غيرها حلال بقاعدة أصل الحل ولم تحرم من المشركين وإلا فالظاهر أنه عام يشملها ومذهب الشيعة أن المراد بالطعام الحبوب أو البر لأنه الغالب فيه، وقد سئلت عن هذا في مجلس كان أكثره منهم وذكرت الآية، فقلت: ليس هذا هو الغالب في لغة القرآن فقد قال الله تعالى في هذه السورة أي المائدة: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (2) ولا يقول أحد إن الطعام من صيد البحر هو البر أو الحبوب.
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة المائدة الآية 96(6/103)
وقال: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} (1) من الآية 93 آل عمران ولم يقل أحد إن المراد بالطعام هنا البر أو الحب مطلقا إذ لم يحرم شيء منه على بني إسرائيل لا قبل التوراة ولا بعدها. فالطعام في الأصل كل ما يطعم، أي يذاق أو يؤكل قال تعالى في ماء النهر حكاية عن طالوت: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} (2) وقال: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} (3) أي أكلتم وليس الحب مظنة التحليل والتحريم وإنما اللحم هو الذي يعرض له ذلك لوصف حسي كموت الحيوان حتف أنفه وما في معناه أو معنوي كالتقريب إلى غير الله عليه، ولذلك قال تعالى: {لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} (4) ، وكله يتعلق بالحيوان، وهو نص في حصر التحريم فيما ذكر فتحريم ما عداه يحتاج إلى نص. وقد شدد الله فيما كان عليه مشركو العرب من أكل الميتة بأنواعها المتقدمة والذبح للأصنام لئلا يتساهل به المسلمون الأولون تبعا للعادة. وكان أهل الكتاب أبعد منهم عن أكل الميتة والذبح لغير الله، ولأنه كان من سياسة الدين التشديد في معاملة مشركي العرب حتى لا يبقى في الجزيرة منهم أحد إلا ويدخل في الإسلام. وخفف في معاملة أهل الكتاب استمالة لهم، حتى إن ابن جرير روى عن أبي الدرداء وابن زيد أنهما سئلا عما ذبحوه للكنائس فأفتيا بأكله قال ابن زيد: أحل الله طعامهم ولم يستثن منه شيئا، وأما أبو الدرداء فقد سئل عن كبش ذبح للكنيسة يقال لها جرجس أهدوه لها أنأكل منه؟ فقال أبو الدرداء للسائل: اللهم عفوا إنما هم أهل كتاب طعامهم حل لما وطعامنا حل لهم وأمره بأكله. وروى ابن جرير أيضا وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (5) قال: ذبائحهم وروى مثله عبد بن حميد عن مجاهد وعبد الرزاق عن إبراهيم النخعي. وقد أجمع الصحابة والتابعون على هذا وأكل النبي -صلى الله عليه وسلم- من الشاة التي أهدتها إليه اليهودية ووضعت له السم في ذراعها. وكان الصحابة يأكلون من طعام النصارى في الشام بغير نكير ولم ينقل عن أحد منهم خلاف إلا في بني تغلب وهو بطن من العرب انتسبوا إلى النصارى ولم يعرفوا من دينهم شيئا فنقل عن علي -كرم الله وجهه- أنه لم يجز أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم معللا بأنهم لم يأخذوا من النصارى إلا شرب الخمر، يعني أنهم على شركهم لم يصيروا أهل الكتاب، واكتفى جمهور الصحابة بانتمائهم إلى النصرانية. روى ابن جرير عن
__________
(1) سورة آل عمران الآية 93
(2) سورة البقرة الآية 249
(3) سورة الأحزاب الآية 53
(4) سورة الأنعام الآية 145
(5) سورة المائدة الآية 5(6/104)
عكرمة قال: سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى بني تغلب فقرأ هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (1) وفي رواية له عنه أنه قال: كلوا من ذبائح بني تغلب وتزوجوا من نسائهم فإن الله تعالى قال وقرأ الآية - فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم، أي يكفي في كونهم منهم نصرهم لهم وتوليهم إياهم في الحرب.
ولما كان من شأن كثير من الناس التعمق في الأشياء وحب التشديد مع المخالفين استنبط بعض الفقهاء في هذا المقام مسألة جعلوها محل النظر والاجتهاد، وهي هل العبرة في حل طعام أهل الكتاب والتزوج منهم بمن كانوا يدينون بالكتاب (كالتوراة والإنجيل) كيفما كان كتابهم وكانت أحوالهم وأنسابهم، أم العبرة باتباع الكتاب قبل التحريف والتبديل وبأهله الأصليين كالإسرائيليين من اليهود. المتبادر من نص القرآن ومن السنة وعمل الصحابة أنه لا وجه لهذه المسألة ولا محل فالله تعالى قد أحل أكل طعام أهل الكتاب ونكاح نسائهم على الحال التي كانوا عليها في زمن التنزيل، وكان هذا من آخر ما نزل من القرآن، وكان أهل الكتاب من شعوب شتى وقد وصفهم بأنهم حرفوا كتبهم {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (2) في هذه السورة نفسها كما وصفهم بمثل ذلك فيما نزل قبلها، ولم يتغير يوم استنبط الفقهاء تلك المسألة شيء من ذلك. وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (3) أن سبب نزولها محاولة بعض الأنصار إكراه أولاد لهم كانوا تهودوا على الرجوع إلى الإسلام فلما نزلت أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بتخييرهم، ولا شك أنه كان في يهود المدينة وغيرهم كثير من العرب الخلص ولم يفرق النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا الخلفاء الراشدين بينهم في حكم من الأحكام.
واستنبط بعضهم علة أخرى لتحريم طعام أهل الكتاب والتزوج منهم وهي إسناد الشرك إليهم في سورة التوبة بقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (4) مع قوله في سورة البقرة: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (5) وهذا هو عمدة الشيعة في هذه المسألة، وأجيب عنه (أولا) بأن الشرك المطلق في القرآن إذا كان وصفا أو عد أهله صنفا من أصناف الناس لا يدخل فيه أهل الكتاب بل يعدون صنفا آخر مغايرا لهذا الصنف كما قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (6)
__________
(1) سورة المائدة الآية 51
(2) سورة المائدة الآية 13
(3) سورة البقرة الآية 256
(4) سورة التوبة الآية 31
(5) سورة البقرة الآية 221
(6) سورة البينة الآية 1(6/105)
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (1) الآية. (وثانيا) بأننا إذا فرضنا أن المشركين في آية البقرة عام، فلا مندوحة لنا عن القول بأن هذه الآية قد خصصته أو نسخته لتأخرها بالاتفاق ولجريان العمل عليها، ومنه أن حذيفة بن اليمان من أكبر علماء الصحابة قد تزوج بيهودية ولم ينكر عليه أحد من الصحابة.
ثم قال: مجمل معنى الآية: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (2) من الطعام فلا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (3) بمقتضى الأصل لم يحرمه الله عليكم قط، وطعامكم حل لهم كذلك أيضا، فلكم أن تأكلوا من اللحوم التي ذكوا حيوانها أو صادوه كيفما كانت تذكيته وصيده عندهم، وأن تطعموهم مما تذكون وتصطادون، ويدخل في ذلك لحم الأضحية خلافا لمن منعه، ولا يخرج منه إلا ما كان خاصا بقوم لا يشملهم وصفهم كالمنذور على أناس معينين بالذاوت أو بالوصف. والمحصنات من المؤمنات ومن الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، حل لكم كذلك بمقتضى الأصل وما قرره في آية النساء {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (4) لم يحرمهن الله عليكم إذا أعطيتموهن مهورهن التي تفرضونها لهن عند العقد- وإلا وجب لهن مهر المثل- بشرط أن تكونوا قاصدين بالزواج إحصان أنفسكم وأنفسهن لا الفجور المراد به سفح الماء جهرا ولا سرا وسيأتي بيان ما هو الاحتياط وبحث اختلاف الزمان في المسألة، والتعبير بقوله {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (5) إنشاء لحلها العام الدائم كما تقدم، ولكنه لم يقل مثل ذلك فيما بعده بل قال: {حِلٌّ لَكُمْ} (6) وهو خبر مقرر للأصل في المسألتين - مسألة مؤاكلة أهل الكتاب، ومسألة نكاح نسائهم - فلم يكن شيء منها محرما من قبل وأحل في ذلك اليوم لا بتحريم من الله ولا بتحريم من الناس على أنفسهم كما حرموا بعض الطيبات فهذا ما ظهر لنا من نكتة اختلاف التعبير وسكت عنه الباحثون في نكت البلاغة الذين اطلعنا على كلامهم.
وحكمة النص على هذا الحل قطع الطريق على الغلاة أن يحرموا باجتهادهم أو أهوائهم، على أن منهم من حرمه مع النص الصريح ونص على أن طعامنا حل لهم دون نسائنا فليس لنا أن نزوجهم منا، لأن كمال الإسلام وسماحته لا يظهران من المرأة لسلطان الرجل عليها، هذا هو المتبادر لمن يفهم العبارة مجردا من تقاليد المذاهب، فمن فهم مثل فهمنا ففهمه حاكم عليه ولا نجيز لأحد أن يقلدنا فيه تقليدا.
__________
(1) سورة الحج الآية 17
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) سورة المائدة الآية 5
(4) سورة النساء الآية 24
(5) سورة المائدة الآية 5
(6) سورة المائدة الآية 5(6/106)
فصل في طعام الوثنيين ونكاح نسائهم
أخذ الجماهير من مفهوم أهل الكتاب أن طعام الوثنيين لا يحل للمسلمين وكذا نكاح نسائهم سواء منهم من يحتج بمفهوم المخالفة في اللقب كالدقاق وبعض الشافعية ومن لا يحتج به وهم الجمهور، والقرآن لم يحرم طعام الوثنيين ولا طعام مشركي العرب مطلقا كما حرم نكاح نسائهم بل حرم ما أهل به لغير الله في ذبائحهم كما حرم ما كان يأكله بعضهم من الميتة والدم والمسفوح وحرم لحم الخنزير واختلف الفقهاء في المجوس والصابئين، فالصابئون عند أبي حنيفة كأهل الكتاب والمجوس كذلك عند أبي ثور خلافا للجمهور الذين يقولون إنهم يعاملون معاملة أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط، ويروون في ذلك حديثا «سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نسائهم (1) » ، ولا يصح هذا الاستثناء كما صرح به المحدثون ولكنه اشتهر عند الفقهاء ويقال إن الفريقين كانا أهل كتاب فقدوه بطول الأمد.
وهذا ما كنت أعتقده قبل أن أرى فيه نقلا عن أحد من سلفنا وعلماء الملل والتاريخ منا وذكرته في المنار غير مرة. ثم رأيت في كتاب (الفرق بين الفرق) لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي (المتوفى سنة 429) في سياق الكلام على الباطنية " أن المجوس يدعون نبوة (زرادشت) ونزول الوحي عليه من عند الله تعالى، والصائبين يدعون نبوة (هرمس) و (اليس) و (دوريتوس) و (أفلاطون) وجماعة من الفلاسفة، وسائر أصحاب الشرائع كل صنف منهم مقرون بنزول الوحي من السماء على الذين أقروا بنبوتهم ويقولون إن ذلك الوحي شامل للأمر والنهي والخبر عن عاقبة الموت وعن ثواب وعقاب وجنة ونار يكون فيهما الجزاء عن الأعمال السالفة ثم ذكر أن الباطنية ينكرون ذلك.
ثم قال: ومن المعلوم أن القرآن صرح بقبول الجزية من أهل الكتاب ولم يذكر أنها تؤخذ من غيرهم، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء -رضي الله عنهم- لا يقبلونها من مشركي العرب وقبلوها من المجوس في البحرين وهجر وبلاد فارس كما في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث. وقد روى أخذ النبي الجزية من مجوس هجر أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه
__________
(1) موطأ مالك الزكاة (617) .(6/107)
شهد لعمر بذلك عندما استشار الصحابة فيه، وروى مالك والشافعي عنه «أنه قال: أشهد لسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: سنوا بهم سنة أهل الكتاب (1) » وفي سنده انقطاع، واستدل به صاحب المنتقى وغيره على أنهم لا يعدون أهل كتاب، وليس بقوى فإن إطلاق كلمة أهل الكتاب على الطائفتين من الناس لتحقق أصل كتبهما وزيادة خصائصهما لا يقتضي أنه ليس في العالم أهل كتاب غيرهم مع العلم بأن الله بعث في كل أمة رسلا مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، كما أن إطلاق لقب " العلماء" على طائفة معينة من الناس لها مزايا مخصوصة لا يقتضي انحصار العلم فيهم وسلبه عن غيرهم.
وقد ورد في روايات أخرى التصريح بأنهم كانوا أهل كتاب، قال في نيل الأوطار عند قول صاحب المنتقى واستدل بقوله سنة أهل الكتاب على أنهم ليسوا أهل كتاب ما نصه: لكن روى الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد حسن عن علي " كان المجوس أهل كتاب يدرسونه وعلم يقرءونه فشرب أميرهم الخمر فوقع على أخته فلما أصبح دعا أهل الطمع فأعطاهم وقال إن آدم كان ينكح أولاده بناته فأطاعوه وقتل من خالفه فأسرى على كتابهم وعلى ما في قلوبهم منه فلم يبق عندهم منه شيء. وروى عبد بن حميد في تفسير سورة البروج بإسناد صحيح عن ابن أبرى لما هزم المسلمون أهل فارس قال عمر: اجتمعوا (أي قال للصحابة اجتمعوا للمشاورة كما هي السنة المتبعة والفريضة اللازمة) فقال إن المجوس ليسوا أهل كتاب فنضع عليهم الجزية ولا من عبدة الأوثان فنجرى عليهم أحكامهم. فقال علي: بل هم أهل كتاب فذكره نحوه لكن قال: فوقع على ابنته وقال في آخره فوضع الأخدود لمن خالفه فهذه حجة من قال كان لهم كتاب، وأما قول ابن بطال: لو كان لهم كتاب ورفع لرفع حكمه ولما استثنى حل ذبائحهم ونكاح نسائهم، فالجواب أن الاستثناء وقع تبعا للأمر الوارد لأن في ذلك شبهة تقتضي حقن الدم بخلاف النكاح فإنه يحتاط له وقال ابن المنذر: ليس تحريم نكاحهم وذبائحهم متفقا عليه ولكن الأكثر من أهل العلم عليه. أهـ.
إذا علمت هذا تبين لك أن العلماء لم يجمعوا على أن لفظ (المشركين) و (الذين أشركوا) يتناول جميع الذين كفروا بنبينا ولم يدخلوا في ديننا ولا جميع من عدا اليهود والنصارى منهم، فهذا نقل صحيح في المجوس ومنه تعلم أن للاجتهاد مجالا لجعل لفظ المشركات والمشركين في القرآن خاصا بوثنيي العرب. وأن يقاس عليهم من ليس لهم كتاب ولا شبهة كتاب يقربهم من الإسلام كما أن أهل الكتاب فيه خاص باليهود والنصارى، ويقاس عليهم من عندهم كتب لا يعرف أصلها ولكنها تقربهم من الإسلام بما فيها من الآداب والشرائع كالمجوس وغيرهم ممن على شاكلتهم، وقد صرح قتادة من مفسري السلف بأن المراد بالمشركين والمشركات في الآية العرب كما سيأتي.
__________
(1) موطأ مالك الزكاة (617) .(6/108)
" مذهب الحنفية في ذبائح أهل الكتاب ومناكحتهم "
ثم ذكر آراء الفقهاء في الموضوع فقال: جاء في (ص97 من الجزء الثاني من العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية) لابن عابدين الشهير صاحب الحاشية الشهيرة على الدر المختار ما نصه:
وسئل في ذبيحة العربي الكتابي هل تحل مطلقا أولا؟ .
(الجواب) تحل ذبيحة الكتابي لأن شرطها كون الذابح صاحب ملة التوحيد حقيقة كالمسلم أو دعوة كالكتابي ولأنه مؤمن بكتاب من كتب الله تعالى وتحل مناكحته فصار كالمسلم في ذلك ولا فرق في الكتابي بين أن يكون ذميا يهوديا، حربيا أو عربيا أو تغلبيا لإطلاق قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (1) والمراد بطعامهم مذكاهم.
قال البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "طعامهم ذبائحهم" ولأن مطلق الطعام غير المذكى يحل من أي كافر كان بالإجماع، فوجب تخصيصه بالمذكى، وهذا إذا لم يسمع من الكتابي أنه سمى غير الله كالمسيح والعزير وأما لو سمع فلا تحل ذبيحته لقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (2) وهو كالمسلم في ذلك.
وهل يشترط في اليهودي أن يكون إسرائيليا وفي النصراني أنه لا يعتقد أن المسيح إله؟ له مقتضى إطلاق الهداية وغيرها وعدم الاشتراط وبه أفتى الجد في الإسرائيلي وشرط في المستصفى لحل مناكحهم عدم اعتقاد النصراني ذلك وكذلك في المبسوط فإنه قال: ويجب أن لا يأكلوا ذبائح أهل الكتاب إن اعتقدوا أن المسيح إله وأن عزيرا إله ولا يتزوجوا نساءهم، لكن في مبسوط شمس الأئمة: وتحل ذبيحة النصراني مطلقا سواء قال ثالث ثلاثة أو لا، ومقتضى إطلاق الآية الجواز كما ذكره التمرتاشي في فتاواه. والأولى أن لا تؤكل ذبيحتهم ولا يتزوج منهم إلا للضرورة كما حققه الكمال بن الهمام، والله ولي الإنعام، والحمد لله علي دين الإسلام، والصلاة والسلام على محمد سيد الأنام.
وقال العلامة قاسم في رسائله: قال الإمام ومن دان دين اليهود والنصارى من الصابئة
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة المائدة الآية 3(6/109)
والسامرة أكل ذبيحته وحل نساؤه، وحكى عن عمر -رضي الله عنه- أنه كتب إليهم فيهم أو في أحدهم، فكتب مثل ما قلنا، فإذا كانوا يعترفون باليهودية والنصرانية فقد علمنا أن النصارى فرق، فلا يجوز إذا جمعت النصرانية بينهم أن تزعم أن بعضهم تحل ذبيحته ونساؤه وبعضهم يحرم إلا بخبر ملزم، ولا نعلم في هذا خبرا، فمن جمعته اليهودية والنصرانية فحكمه واحد، اهـ بحروفه، اهـ ما في تنقيح الفتاوى الحامدية بحروفه، وبهذه الفتوى أيد بعض علماء الأزهر الفتوى الترنسفالية للأستاذ الإمام.(6/110)
حكم ما خنقه أهل الكتاب عند الحنفية
ذكر الشيخ محمد بيرم الخامس الفقيه الحنفي في كتابه صفوة الاعتبار مبحثا طويلا في ذبائح أهل أوربة ونقل عن علماء مذهبه أن ذبائح أهل الكتاب حلال مطلقا وجاء بتفصيل أنواع المأكول في أوربة ثم قال ما نصه:
" وأما مسألة الخنق فإن كان لمجرد الشك فلا تأثير له كما تقدم، وإن كان لتحقق فلم أر حكم المسألة مصرحا به عندنا، وقياسها على تحقيق تسمية غير الله أنها محرمة عند الحنفية، وأما عند من يرى الحل في مسألة التسمية كما هو مذهب جمع عظيم من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، فالقياس عليها يفيد الحلية حيث خصصوا بآية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) وآية: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (2) الآية {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (3) وكذلك تكون مخصصة لآية المنخنقة، ويكون حكم الآيتين خاصا بفعل المسلمين، والإباحة عامة في طعام أهل الكتاب إذ لا فرق بين ما أهل لغير الله وما خنق فإذا أبيح الأول فيما يفعله أهل الكتاب كذلك الثاني. وقد كنت رأيت رسالة لأحد أفاضل المالكية نص فيها على الحل وجلب النصوص من مذهبه بما يثلج به الصدر السليم سيما إذا كان عمل الخنق عندهم من قبيل الذكاة كما أخبر كثير من علمائهم وأن المقصود التوصل إلى قتل الحيوان بأسهل قتلة للتوصل إلى أكله بدون فرق بين طاهر ونجس، مستندين في ذلك لقول الإنجيل على زعمهم فلا مرية في الحلية على هاته المذاهب.
فإن قلت كيف يسوغ تقليد الحنفي لغير مذهبه؟ قلت: أما إن كان المقلد من أهل النظر وقلد الحنفي عن ترجيح برهان فهذا ربما يقال: إنه لا يسوغ له ذلك (أي إلا أن يظهر له ترجيح دليل
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة الأنعام الآية 121
(3) سورة المائدة الآية 3(6/110)
الحل ثانيا) وأما إن كان من أهل التقليد البحت كما هو في أهل زماننا فقد نصوا على أن جميع الأئمة بالنسبة إليه سواء، والعامي لا مذهب له وإنما مذهبه مذهب مفتيه، وقوله أنا حنفي أو مالكي كقول الجاهل أنا نحوي، لا يحصل منه سوى مجرد الاسم فبأي العلماء اقتدى فهو ناج على أن الكلام وراء ذلك فقد نصوا على الجواز والوقوع بالفعل في تقليد المجتهد لغيره والكلام مبسوط في ذلك في كثير من كتب الفقه، وقد حرر البحث أبو السعود في شرح الأربعين حديثا النووية وألف في ذلك رسالة عبد الرحيم المكي فليراجعها من أراد الوقوف على التفصيل.
فإن قيل: قد ذكرت أن الخنزير محرم وهو من طعامهم فلماذا لا يجعل مخصصا بالحلية بهذه الآية أي آية طعامهم وإذا جعلت آية تحريمه محكمة غير منسوخة فكذلك تكون المنخنقة، ولماذا تقيسها على مسألة التسمية ولا تقيسها على مسألة الخنزير وأي مرجح لذلك؟ .
فالجواب أن المأكولات منها ما حرم لعينه ومنها ما حرم لغيره، فالخنزير وما شاكله من الحيوانات محرمة لعينها ولهذا تبقى على تحريمها في جميع أطوارها وحالاتها. وأما متروك التسمية أو ما أهل به لغير الله والمنخنقة فإن التحريم أتى فيه لعارض وهو ذلك الفعل ثم أتى نص آخر عام في طعام أهل الكتاب وأنه حلال فأخرج منه محرم العين ضرورة وبالإجماع أيضا وبقى المحرم لغيره.
وهو مسألتان: إحداهما مسألة التسمية.
والثانية مسألة المنخنقة.
فبقينا في محل الشك لتجاذب كل من نص التحريم والإباحة لهما، فوجدنا إحداهما وهي مسألة التسمية وقع الخلاف فيها بين المجتهدين من الصحابة وغيرهم وذهب جمع عظيم منهم إلى الإباحة وبقيت مسألة المنخنقة التي يتخذها أهل الكتاب طعاما لهم مسكوتا عنها فكان قياسها على مسألة التسمية هو المتعين لاتحاد العلة. وأما قياسها على مسألة الخنزير فهو قياس مع الفارق؛ فلا يصح إذ شرط القياس المساواة وإنما أطلنا الكلام في هذا المجال لأنه مهم في هذا الزمان وكلام الناس فيه كثير، والله يؤيد الحق وهو يهدي السبيل أ. هـ.(6/111)
مذهب المالكية في طعام أهل الكتاب
جاء في كتاب " الذبائح " من (المدونة) ما نصه:
قلت: أفتحل لنا ذبائح نساء أهل الكتاب وصبيانهم؟ .
قال: ما سمعت من مالك فيه شيئا ولكن إذا حل ذبائح رجالهم فلا بأس بذبائح نسائهم وصبيانهم إذا أطاقوا الذبح.
قلت: أرأيت ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم أيؤكل؟ .
قال: قال مالك: أكرهه ولا أحرمه. وتأول مالك فيه {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (1) وكان يكرهه من غير أن يحرمه.
قلت: أرأيت ما ذبحت اليهود من الغنم فأصابوه فاسدا عندهم لا يستحلونه لأجل الرئة وما أشبهها التي يحرمونها في دينهم أيحل أكله للمسلمين؟ .
قال: كان مالك يجيزه فيما بلغني أ. هـ.
(والمدونة) عند المالكية أصل المذهب فهي كالأم عند الشافعية.
وجاء في كتاب أحكام القرآن للإمام عبد المنعم بن الفرس الخرزجي الأندلسي المتوفى سنة 599 ما نصه: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2) اتفق على أن ذبائحهم داخلة تحت عموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (3) فلا خلاف في أنها حلال لنا وأما سائر أطعمتهم مما يمكن استعمال النجاسات فيه كالخمر والخنزير. فاختلف فيه فذهب الأكثرون إلى أن ذلك من أطعمتهم. وذهب ابن عباس إلى أن الطعام الذي أحل لنا ذبائحهم، فأما ما خيف منهم استعمال النجاسة فيه فيجب اجتنابه.
وإذا قلنا إن الطعام يتناول ذبائحهم باتفاق فهل يحمل لفظه على عمومه أم لا؟ .
فالأكثر إلى أن حمل لفظ الطعام على عمومه في كل ما ذبحوه مما أحل الله لهم أو حرم الله عليهم أو حرموه على أنفسهم وإلى نحو هذا ذهب ابن وهب وابن عبد الحكم.
وذهب قوم إلى أن المراد من ذبائحهم ما أحل الله خاصة، وأما ما حرم الله عليهم بأي وجه
__________
(1) سورة الأنعام الآية 145
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) سورة المائدة الآية 5(6/112)
كان فلا يجوز لنا وهذا هو المشهور من مذهب ابن القاسم.
وذهب قوم إلى أن المراد بلفظ الطعام ذبائحهم جميعا إلا ما حرم الله عليهم خاصة لا ما حرموه على أنفسهم وعلى نحو هذا ذهب أشهب والذين قالوا إن الله يجوز لنا أكل ما لا يجوز لهم أكله اختلفوا هل ذلك على جهة المنع أو الكراهة وهذا الخلاف كله موجود في المذهب.
واختلف أيضا فيما ذبحوه لأعيادهم وكنائسهم أو سموا عليه اسم المسيح هل هو داخل تحت الإباحة أم لا؟ فذهب أشهب إلى أن الآية متضمنة تحليله وأن أكله جائز وكرهه مالك -رحمه الله- وتأول قوله تعالى {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (1) على ذلك.
والذين أوتوا الكتاب اختلف العلماء في الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى من هم؟ وقد اختلف في المجوس والصابئة والسامرة هل هم ممن أوتي كتابا أم لا. وعلى هذا يختلف في ذبائحهم ومناكحتهم أ. هـ ملخصا، وفي كتاب أحكام القرآن للقاضي أبي بكر ابن العربي المالكي في تفسير هذه الآية أيضا ما نصه: هذا دليل قاطع على أن الصيد {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (2) من الطيبات التي أباحها الله وهو الحلال المطلق وإنما كرره الله تعالى ليرفع به الشكوك ويزيل الاعتراضات عن الخواطر الفاسدة التي توجب الاعتراضات وتخرج إلى تطويل القول. ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها هل تؤكل معه أم تؤخذ منه طعاما- وهي المسألة الثامنة - فقلت: تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا. ولكن أباح لنا طعامهم مطلقا وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه، ولقد قال علماؤنا: إنهم يعطوننا نساءهم أزواجا فيحل لنا وطؤهن فكيف لا تؤكل ذبائحهم والأكل دون الوطء في الحل والحرمة أ. هـ. وفيما قاله القاضي نوع من التقييد والتشديد إذا اعتبر في طعامهم ما يأكله أحبارهم ورهبانهم، وهذا ما اعتمده الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتي مصر في فتواه الترنسفاليه.
وقد أفتى المهدي الوزاني من علماء فاس بمثل ما أفتى به مفتي مصر، ولما علم بمشاغبة أهل الأهواء في فتوى مفتي مصر كتب رسالة في تأييد الفتوى بنصوص كتب المالكية المعتبرة نشرناها في آخر جزء من مجلد المنار السادس ومنها قوله ج.
والدليل على صحة ما قاله الإمام ابن العربي ما ذكره العلماء فيما ذبحه أهل الكتاب للصنم فإنه حرام مع المنخنقة وما عطف عليها وقيدوه بما لم يأكلوه وإلا كان حلالا لنا. قال الشيخ بناني على قول المختصر " وذبح لصنم" ما نصه: الظاهر أن المراد بالصنم كل ما عبدوه من دون الله -سبحانه وتعالى- بحيث يشمل الصنم والصليب وغيرهما، وأن هذا شرط في أكل ذبيحة الكتابي كما في التتائي والزرقاني
__________
(1) سورة الأنعام الآية 145
(2) سورة المائدة الآية 5(6/113)
وهو الذي ذكره أبو الحسن -رحمه الله- في شرح المدونة وصرح به ابن رشد في سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح ونصه: كره مالك -رحمه الله- ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم وأعيادهم لأنه رآه مضاهيا لقوله عز وجل: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (1) ولم يحرمه إذ لم ير الآية متناولة له وإنما رآها مضاهية له لأن الآية عنده إنما معناها فيما ذبحوا لآلهتهم مما لا يأكلون. قال وقد مضى هذا المعنى في سماع عبد الملك ا. هـ.
وقال في سماع عبد الملك عن أشهب وسألته عما ذبح للكنائس قال لا بأس بأكله. ابن رشد: كره مالك في المدونة أكل ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم، ووجه قول أشهب ما ذبحوا لكنائسهم لما يأكلونه وجب أن تكون حلالا لنا لأن الله -تبارك وتعالى- يقول: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2) وإنما تأول قول الله عز وجل: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (3) فيما ذبحوه لآلهتهم مما يتقربون به إليها ولا يأكلونه، فهذا حرام علينا بدليل الآيتين جميعا أ. هـ.
فتبين أن ذبح أهل الكتاب إذا قصدوا به التقرب لآلهتهم فلا يؤكل لأنهم لا يأكلونه، فهو ليس طعامهم ولم يقصدوا بالذكاة إباحته، وهذا هو المراد هنا. وأما ما يأتي من الكراهة في ذبح الصليب فالمراد به ما ذبحوه لأنفسهم لكن سموا عليه اسم آلهتهم فهذا يؤكل بكره لأنه من طعامهم: هذا الغرض من كلام بناني وسلمة الرهوني بسكوته عنه فهذا شاهد لابن العربي قطعا لأنه علق جواز الأكل على كونه من طعامهم والمنع منه على ضد ذلك، وأيضا ليس كل ما يحرم في ذكاتنا يحرم أكله في ذكاتهم، كمتروك التذكية عمدا؛ فإنها لا تؤكل بذبيحتنا وتؤكل بذبيحتهم حسبما تقدم، فإذا المدار على كونها من طعامهم لا غير والله أعلم " أ. هـ المراد مما كتبه المفتي الوزاني.
وقد أطال علماء الأزهر في (إرشاد الأمة الإسلامية، إلى أقوال الأئمة في الفتوى الترنسفالية) القول في مذهب المالكية في طعام أهل الكتاب وفصلوه في بضع فصول، الفصل السابع منها في بيان أن ما أفتى به ابن العربي (أي من حل ما خنقه أهل الكتاب يقصد التذكية لأكله) هو مذهب المالكية قاطبة. والفصل الثامن في رد الرهوني برأيه عليه، والتاسع في تفنيد كلام الرهوني وبيان بطلانه، قالوا في أول الفصل السابع ما نصه:
"اعلم أنه أقر ابن العربي على ما أفتى به الوزاني وصاحب المعيار وأحمد بابا وابن عبد السلام وابن عرفه وغيرهم من محققي المالكية كالزياتي وقال: وكفى بهم حجة، وإن رده الرهوني بالأقيسة وما توهمه ابن عبد السلام من التناقض بين كلامي ابن العربي في أحكام القرآن من قوله: " ما أكلوه على غير
__________
(1) سورة الأنعام الآية 145
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) سورة الأنعام الآية 145(6/114)
وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس ميتة حرام- وقوله- أفتيت بأن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه. وإن لم تكن ذكاة عندنا؛ لأن الله أباح طعامهم مطلقا وكل ما يرونه في دينهم فهو حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه دفعه ابن عرفة بما حاصله أن ما يرونه مذكى عندهم حل لنا أكله وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة وما لا يرونه مذكى لا يحل ويرجع إلى قصد تذكيته لتحليله وعدمه، كما يعلم ذلك من التتائي على المختصر عند قول المصنف: أو مجوسيا تنصر وذبح لنفسه إلخ ولم يفهم من عبارة أحد من هؤلاء المحققين أن ما أفتى به ابن العربي مذهب له وحده بل كل واحد وافقه على أنه مذهب المالكية، وبيان ذلك أن مبنى مذهب المالكية جميعا العمل بعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) فكل ما كان من طعامهم فهو حل لنا سواء كان يحل لنا باعتبار شريعتنا أو لا، فالمعتبر في حل طعامهم ما هو حلال لهم في شريعتهم ولا يعتبر ذلك بشريعتنا ويدل لذلك النصوص والتعاليل الآتية، وهو ما جرى عليه مالك وأصحابه فيما ذبحوه للصليب أو لعيسى أو لكنائسهم.
قال الزياتي في شرح القصيدة: الرابع لما ذبح للصليب أو لعيسى أو لكنائسهم يكره أكله. بهرام عن ابن القاسم: وما ذبحوه وسموا عليه باسم المسيح فهو بمنزلة ما ذبحوه لكنائسهم وكذلك ما ذبحوه للصليب. وقال سحنون وابن لبابه هو حرام لأنه مما أهل لغير الله به. وذهب ابن وهب للجواز من غير كراهة أ. هـ.
" وفي القلشاني أن أشهب يرى أيضا الكراهة فيما ذبح للمسيح كابن القاسم وقال يباح أكله وقد أباح الله ذبائحهم لنا وقد علم ما يفعلونه. وذكر القلشاني أيضا فيما ذبحوه لكنائسهم ثلاثة أقوال: التحريم، والكراهة، والإباحة، وأن مذهب المدونة الكراهة. ونقل المواق عن مالك كراهة ما ذبح لجبريل عليه السلام أ. هـ. وفي منح الجليل عن الرماصي أجاز مالك -رضي الله عنه- في المدونة أكل ما ذكر عليه اسم المسيح مع الكراهة والإباحة لابن حارث عن رواية ابن القاسم مع رواية أشهب وعنه أباح الله لنا ذبائحهم وعلم ما يفعلونه أ. هـ. وسيقول المصنف فيما ذكره: وذبح لصليب أو عيسى وليس تحريم المذبوح للصنم لكونه ذكر عليه اسمه بل لكونه لم تقصد ذكاته وإلا فلا فرق بينه وبين الصليب. قال التونسي وقال ابن عطية في قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (2) ذبائح أهل الكتاب عند جمهور العلماء في حكم ما ذكر اسم الله عليه من حيث لهم دين وشرع، وقال قوم نسخ من هذه الآية حل ذبائح أهل الكتاب، قاله عكرمة والحسن بن أبي الحسن وقال في قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (3) قال ابن عباس وغيره: فالمراد ما ذبح للأصنام والأوثان "وأهل" معناه صيحح، وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة وغلب في استعماله حتى عبر به عن النية التي هي علة
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة الأنعام الآية 121
(3) سورة المائدة الآية 3(6/115)
التحريم. ثم قال: والحاصل أن ذكر اسم غير الله لا يوجب التحريم عند مالك وفيه عن البناني وصرح ابن رشد في سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح ما نصه: كره مالك ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم وأعيادهم لأنه رآه مضاهيا لقول الله، أو فسقا أهل لغير الله به، ولم يحرمه إذ لم ير الآية متناولة له وإنما رآها مضاهية له؛ لأنها عنده إنما معناها فيما ذبحوه لآلهتهم مما لا يأكلونه، قال وقد مضى هذا المعنى في سماع عبد الملك من كتاب الضحايا، وقال في سماع عبد الملك من أشهب وسألته عما ذبح للكنائس قال لا بأس بأكله. ابن رشد: كره مالك في المدونة أكل ما ذبحوه لأعيادهم وكنائسهم ووجه قول أشهب أن ما ذبحوه لكنائسهم لما كانوا يأكلونه وجب أن يكون حلالا لأن الله قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) وإنما تأول قوله عز وجل: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (2) فيما ذبحوه لآلهتهم مما يتقربون به إليها ولا يأكلونه فهذا حرام علينا بدليل الآيتين جميعا أ. هـ فتبين أن ذبح أهل الكتاب إن قصدوا به التقرب لآلهتهم فلا يؤكل؛ لأنهم لا يأكلونه، فهو ليس من طعامهم ولم يقصدوا بذكاته إباحته وهذا هو المراد هنا، وأما ما يأتي من المكروه في: وذبح الصليب إلخ، فالمراد به ما ذبحوه لأنفسهم وسموا عليه باسم آلهتهم فهذا يؤكل بكره لأنه من طعامهم أ. هـ.
وذكر العلامة التتائي عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي أمامة جواز أكل ما ذبح للصنم أ. هـ. وأنت لا يذهب عليك أن ما ذبح للصنم مما أهل به لغير الله، وإنما جوزه هؤلاء الصحابة الأجلاء لكونه من طعام أهل الكتاب تأمله، وقال العلامة التتائي عند قول المصنف: " وذبح لصليب أو لعيسى " أي يكره أكل مذبوح لأجله. محمد وابن حبيب: هو مما أهل به لغير الله وما ترك مالك العزيمة بتحريمه فيما ظننا إلا للآية الأخرى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (3) فأحل الله تعالى لنا طعامهم وهو يعلم ما يفعلونه، وترك ذلك أفضل. وقال محمد أيضا كره مالك ما ذبحوه للكنائس أو لعيسى أو للصليب، أو ما مضى من أحبارهم، أو لجبريل، أو لأعيادهم، من غير تحريم أ. هـ. ووجه الكراهة قصدهم به تعظيم شركهم مع قصد الذكاة أ. هـ. منه بلفظه وفي بهرام: وذهب ابن وهب إلى جواز أكل ما ذبح للصليب أو غيره من غير كراهة نظرا إلى أنه من طعامهم أ. هـ.
وقال في منح الجليل عند ذكر كراهة شحم اليهودي عن البناني ثلاثة أقوال: في شحم اليهود الإجازة والكراهة والمنع، وأنها ترجع إلى الإجازة والمنع لأن الكراهة من قبيل الإجازة، والأصل في هذا اختلافهم في تأويل قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (4) هل المراد بذلك ذبائحهم أو ما يأكلون؟ فمن ذهب إلى أن المراد به ذبائحهم أجاز أكل شحومهم لأنها من ذبائحهم، ومحال أن تقع الذكاة على بعض الشاة دون بعض، ومن قال المراد ما يأكلون لم يجز أكل شحومهم لأنها محرمة عليهم في التوارة على ما أخبر به القرآن فليست مما يأكلون.
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة الأنعام الآية 145
(3) سورة المائدة الآية 5
(4) سورة المائدة الآية 5(6/116)
وفي منح الجليل أيضا بعد الكلام على التسمية ما نصه:
وقال في البيان والتبيين: ليست التسمية شرطا في صحة الذكاة لأن قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (1) معناه لا تأكلوا الميتة التي لم يقصد إلى ذكاتها لأنها فسق، ومعنى قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (2) كلوا مما قصدتم إلى ذكاته، فكنى عن التذكية بالتسمية كما كنى عن رمي الجمار بذكر اسمه تعالى حيث قال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (3) أ. هـ. المقصود منه.
وقال في كبير الخرشي ودخل في قول المؤلف " يناكح" أي يحل لنا وطء نسائه في الجملة - المسلم والكتابي معاهدا أو حربيا حرا أو عبدا ذكرا أو أنثى ولا فرق بين الكتابي الآن ومن تقدم خلافا للطرطوشي في اختصاصه بمن تقدم فإن هؤلاء قد بدلوا فلا نأمن أن تكون الذكاة مما بدلوا. ورد بأن ذلك لا يعلم إلا منهم فهم مصدقون فيه أ. هـ. ومثله في التتائي بلا فرق.
وقال في شرح اللمع عند قول المصنف: وأما من يذكي فمن اجتمعت فيه أربعة شروط أن يكون مسلما أو كتابيا إلخ: واعلم أن المؤلف قد أطلق الكلام على صحة ذكاة الكتابي، ولا بد من التفصيل في ذلك ليصير كلامه موافقا للمشهور من المذهب، وتلخيص القول في ذلك أن الكافر إن كان غير كتابي لم تصح ذكاته، وإن كان كتابيا كاليهودي والنصراني سواء كان بالغا أو مميزا ذكرا أو أنثى ذميا كان أو حربيا فإن كان ما ذكاه مما يستحل أكله فذكاته له صحيحة ويجوز لنا الأكل منها وإن كان مالك قد كره الشراء من ذبائحهم. والأصل في ذلك أن الله تعالى قد أباح لنا أكل طعامهم ومن جملة طعامهم ما يذكونه، وإن كان ما ذكاه مما لا يستحله بل مما يقول إنه حرام عليه فإن ثبت تحريمه عليه بنص شريعتنا كذي الظفر في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} (4) الأنعام فالمشهور عدم جواز أكله وقيل يجوز وقيل يكره وإن لم يثبت تحريمه عليهم بشرعنا بل لم يعرف ذلك إلا من قولهم كالتي يسمونها بالطريقة (بالطاء المهملة) ففي جواز أكلنا منه وكراهته قولان وهما لمالك في المدونة. قال اللخمي: وثبت على الكراهة ولم يحرمه واقتصر الشيخ خليل في مختصره على القول بالكراهة ووجهه ابن بشير باحتمال صدق قولهم. وهذا كله إذا كان الكتابي لا يستبيح أكل الميتة، وأما إن كان ممن يستحل أكلها فقال ابن بشير: فإن غاب الكتابي على ذبيحته فإن علمنا أنهم يستحلون الميتة كبعض النصارى أو شككنا في ذلك لن نأكل ما غابوا عليه، وإن علمنا أنهم يذكون أكلناه أ. هـ. وأما ما يذبحه الكتابي لعيده أو للصليب أو لعيسى أو للكنيسة أو لجبريل أو نحو ذلك فقد كرهه مالك مخافة أن يكون داخلا تحت قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (5) ولم يحرمه لعموم قوله تعالى
__________
(1) سورة الأنعام الآية 121
(2) سورة الأنعام الآية 118
(3) سورة البقرة الآية 203
(4) سورة الأنعام الآية 146
(5) سورة المائدة الآية 3(6/117)
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) وهذا من طعامهم. قال ابن يونس واستخفه غير واحد من الصحابة والتابعين وقالوا قد أحل لنا ذلك وهو عالم بما يفعلونه أ. هـ. وأما ما ذبحوه للأصنام فلا يجوز أكله. قال ابن عبد السلام باتفاق لأنه مما أهل به لغير الله. قال اللخمي في تبصرته فيما ذبحه أهل الكتاب لعيدهم وكنائسهم وصلبانهم وما أشبه ذلك الصحيح أنه حلال، والمراد بما أهل لغير الله به ما ذبح على النصب والأصنام وهي ذبائح المشركين. قال أصبغ في ثمانية أبي زيد وما ذبح على النصب هي الأصنام التي كانوا يعبدون في الجاهلية، قال وأهل الكتاب ليسوا أصحاب أصنام. وفي البخاري قال زيد بن عمرو بن نفيل: إنا لا نأكل مما تذبحون لأنصابكم يعني الأصنام. وأما ما ذبحه أهل الكتاب فلا يراعى ذلك فيهم وقد جعل الله سبحانه لهم حرمة فأجاز مناكحتهم وذبائحهم لتعلقهم بشيء من الحق وهو الكتاب الذي أنزل عليهم وإن كانوا كافرين، ولو كان يحرم ما ذبح باسم المسيح لم يجز أن يؤكل شيء من ذبائحهم إلا أن يسأل هل سمي عليه المسيح أو ذبح للكنيسة بل لا يجوز. وإن أخبر أنه لم يسم المسيح لأنه غير صادق وإذا لم يجب ذلك حلت ذبائحهم كيف كانت أ. هـ.
فانظر كيف تضافرت كل هذه النصوص كباقي نصوص جميع المالكية على إناطة الحل والحرمة بكونه حلالا عندهم، أي يأكلونه وعدمه، وهذا بعينه هو ما قصد إليه ابن العربي والحفار وقال أهل المذهب كلهم يقولون ويفتون بحل طعام أهل الكتاب ومن جهة أخرى تعلم أن الذبح للصليب لم يكن من الشريعة المسيحية الحقة لأنه حادث بعدها إذ منشؤه حادثة الصلب المشهورة، فكل هذا يفيد أن المعتبر عند المالكية هو حلال عند أهل الكتاب في شريعتهم التي هم عليها، ومنه يعلم أيضا ما هو المراد من الميتة في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (2) وأنها التي لم يقصد ذكاتها كما يعلم أنه يجب تقييد المنخنقة وما معها بما لم تقصد ذكاته ويكون هذا في المنخنقة وما معها بدليل {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} (3) كما سبق، ومنه يتضح أن المراد بالميتة في قولهم: إن كان الكتابي يأكل الميتة فلا تأكل ما غاب إلخ إنها لم تقصد ذكاتها لأن القصد إلى الذكاة لا بد منه من مسلم أو كتابي حتى لو قطع رقبة الحيوان بقصد تجريب السيف أو اللعب لا يحل كما تقدم، ومنه يعلم أن الميتة المذكورة بالنسبة للكتابي هي الميتة عنده، وهي التي لم يقصد ذكاتها لا الميتة عندنا، ويتبين منه أيضا أن الشروط المذكورة للفقهاء في الذبائح والذكاة إنما هي بيان ما يلزم في الإسلام بالنسبة للمسلم لا لغيره ا. هـ.
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سورة المائدة الآية 3(6/118)
" مذهب الشافعي في طعام أهل الكتاب "
قال الشافعي -رحمه الله تعالى- في كتاب الصيد والذبائح من الأم ما نصه:
(1) أحل الله طعام أهل الكتاب وكان طعامهم عند بعض من حفظت عنه أهل التفسير ذبائحهم. وكانت الآثار تدل على إحلال ذبائحهم فإن كانت ذبائحهم يسمونها بالله تعالى فهي حلال، وإن كان لهم ذبح آخر يسمون عليه غير اسم الله مثل: اسم المسيح، أو يذبحونه باسم دون الله تعالى؛ لم يحل هذا من ذبائحهم. ولا أثبت أن ذبائحهم هكذا.
فإن قال قائل: وكيف زعمت أن ذبائحهم صنفان وقد أبيحت مطلقة.
قيل: قد يباح الشيء مطلقا وإنما يراد بعضه دون بعض فإذا زعم زاعم أن المسلم إذا نسي اسم الله أكلت ذبيحته، وإن تركه استخفافا لم تؤكل ذبيحته وهو لا يدعه للشرك كان من يدعه على الشرك أولى أن تترك ذبيحته- وقد أحل الله -عز وجل- لحوم البدن (الإبل) مطلقة فقال: {فَإِذَا وَجَبَتْ} (1) أي سقطت {جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} (2) ووجدنا بعض المسلمين يذهب إلى أنه لا يؤكل من البدنة التي هي نذر ولا جزاء صيد ولا فدية، فلما احتملت هذه الآية ذهبنا إليه وتركنا الجملة لا أنها خلاف للقرآن ولكنها محتملة، ومعقول أن من وجب عليه شيء في ماله لم يكن له أن يأخذ منه شيئا لأنا إذا جعلنا له أن يأخذ منه شيئا فلم نجعل عليه الكل إنما جعلنا عليه البعض الذي أعطى فهكذا ذبائح أهل الكتاب بالدلالة على شبيه ما قلناه، أ. هـ. بحروفه (ص196 ج2 من الأم) .
أقول: إنه -رحمه الله تعالى- حرم ما ذكروا اسم غير الله عليه بأقيسة على مسائل خلافية جعلها نظيرا للمسألة وقيد بها إطلاق القرآن، ومخالفوه في ذلك كمالك وغيره لا يجيزون تخصيص الآية بمثل هذه الأقيسة التي غاية ما تدل عليه أن تخصيص القرآن جائز بالدليل، ولهم أن يقولوا لنا لا نسلم أن المسلم الذي يترك التسمية تهاونا واستخفافا لا تحل ذبيحته، وإذا سلمناه جدلا تمنع قياس الكتابي عليه فيما ذكره، ولا محل هنا لبيان المنع بالتفصيل في هذا القياس وفيما بعده وهو أبعد منه، والظاهر ما تقدم من نصوص المالكية من أن ما ذبحوه لغير الله إن كانوا لا يأكلونه فهو غير حل للمسلم وإن كانوا
__________
(1) سورة الحج الآية 36
(2) سورة الحج الآية 36(6/119)
يأكلونه فهو من طعامهم الذي أطلق الله تعالى حله وهو يعلم ما يقولون وما يفعلون، وهذا القول يظهر لنا نكتة التعبير بالطعام دون المذبوح أو المذكى، لأن من المذكى ما هو عبادة محضة لا يذكونه لأجل أكله.
(2) ذهب الشافعي إلى أن ذبائح نصارى العرب لا تؤكل، واحتج بأثر رواه عن عمر -رضي الله عنه- قال: " ما نصارى العرب بأهل كتاب، وما تحل لنا ذبائحهم، وما أنا بتاركهم حتى يسلموا، أو أضرب أعناقهم" وبقول علي المشهور في بني تغلب. فأما أثر علي -كرم الله وجهه- وقد تقدم، فهو حجة على الشافعي لا له، لأنه خاص ببعض العرب مصرح فيه بأنهم ليسوا نصارى، وأما أثر عمر -رضي الله عنه- فرواه في الأم عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى وقد ضعفه الجمهور وصرح بعضهم بكذبه وممن طعن فيه مالك وأحمد، ومما قيل فيه أنه جمع أصول البدع فكان قدريا جهميا معتزليا رافضيا، وقد سئل الربيع حين نقل عن الشافعي أنه كان قدريا: ما حمل الشافعي على أن روى عنه؟ فأجاب بأنه كان يبرئه من الكذب ويرى أنه ثقة في الحديث. أي والعبرة في الحديث بالصدق لا بالمذهب. وقال ابن حبان بعد أن وصفه بالبدعة وبالكذب في الحديث: وأما الشافعي فإنه كان يجالس إبراهيم في حداثته ويحفظ عنه؛ فلما دخل مصر في آخر عمره وأخذ يصنف الكتب احتاج إلى الأخبار ولم تكن كتبه معه فأكثر ما أودع الكتب من حفظه وربما كنى عن اسمه، وقال إسحاق بن راهويه: ما رأيت أحدا يحتج بإبراهيم بن أبي يحيى مثل الشافعي، قلت للشافعي: وفي الدنيا أحد يحتج بإبراهيم بن أبي يحيى؟ أ. هـ. ملخصا من تهذيب التهذيب. ومما يدل على عدم صحة الأثر عدم العمل به، على أنه رأي صحابي خالفه فيه الجمهور فلا يحتج به وإن صح.
(3) قال الشافعي في (باب الذبيحة وفيه من يجوز ذبحه) من الأم (205 و206ج2) : وذبح كل من أطاق الذبح من امرأة حائض وصبي من المسلمين أحب إلي من ذبح اليهودي والنصراني، وكل حلال الذبيحة غير أني أحب للمرء أن يتولى ذبح نسكه (أي كالأضحية والهدي) فإنه يروي «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لامرأة من أهله فاطمة أو غيرها أحضري ذبح نسيكتك فإنه يغفر لك عند أول قطرة منها» . قال الشافعي: وإن ذبح النسيكة غير مالكها أجزأت لأن النبي نحر بعض هديه، ونحر بعضه غيره. وأهدى هديا فإنما نحره من أهداه معه، غير أني أكره أن يذبح شيئا من النسائك مشرك لأن يكون ما تقرب به إلى الله على أيدي المسلمين، فإن ذبحها مشرك تحل ذبيحته أجزأت مع كراهتي لما وصفت.
"ونساء أهل الكتاب إذا أطقن الذبح كرجالهم، وما ذبح اليهود والنصارى لأنفسهم مما يحل للمسلمين أكله من الصيد أو بهيمة الأنعام، وكانوا يحرمون منه شحما أو حوايا (أي ما يحوى الطعام(6/120)
كالأمعاء) أو ما اختلط بعظم أو غيره إن كانوا يحرمونه فلا بأس على المسلمين في أكله لأن الله -عز وجل- إذا أحل طعامهم، فكان ذلك عند أهل التفسير ذبائحهم فكل ما ذبحوا لنا ففيه شيء مما يحرمونه فلو كان يحرم علينا إذا ذبحوه لأنفسهم من أصل دينهم بتحريمهم لحرم علينا إذا ذبحوه لنا، ولو كان يحرم علينا بأنه ليس من طعامهم وإنما أحل لنا طعامهم وكان ذلك على ما يستحلون كانوا قد يستحلون محرما علينا يعدونه لهم طعاما، فكان يلزمنا لو ذهبنا هذا المذهب أن نأكله لأنه من طعامهم الحلال لهم عندهم، ولكن ليس هذا معنى الآية، معناها ما وصفنا والله أعلم ".
هذا نص الشافعية فمذهبه أن المراد بطعامهم في الآية ذبائحهم خاصة لا عموم الطعام فما ذبحوه مما هو حلال لنا كذبائحنا لا فرق بين ما حرم عليهم منه وما حل لهم، وما حرم علينا لا يحل إذا كان من طعامهم، وهو مخالف في هذا للمذاهب الأخرى التي أخذت بعموم لفظ الآية وعدتها كالاستثناء مما حرم علينا إلا الميتة ولحم الخنزير فإنهما محرمان لذاتهما لا لمعنى يتعلق بالتذكية أو بما يذكر عليها، وقد تقدم ذلك. وقد شرح كون ما أحل لنا مما حرم عليهم لا يحرم من ذبائحهم في موضع آخر (209 و210 منه) وبين هنا أنه يجب على كل عاقل بلغته دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يتبعه في أصول شرعه وفروعه وحلاله وحرامه فما كان حراما عليهم صار حلا لهم بشرعه، وحلا لنا بالأولى.(6/121)
مذهب أحمد وأصحابه في طعام أهل الكتاب والتسمية على الذبيحة
قال الشيخ الموفق عبد الله بن قدامة (المقنع- 531 ج2) ما نصه:
" ويشترط للذكاة شروط أربعة: أحدها أهلية الذابح، وهو أن يكون عاقلا مسلما أو كتابيا فتباح ذبيحته ذكرا كان أو أنثى، وعنه لا تباح ذبيحة نصارى بني تغلب ولا من أحد أبويه غير كتابي ".
وذكر في حاشيته أن الصحيح من المذهب إباحة ذبيحة بني تغلب. قال: " وأما من أحد أبويه غير كتابي فقدم المصنف أنها تباح وبه قال مالك وأبو ثور واختاره الشيخ تقي الدين وابن القيم. والثانية لا تباح وهو المذهب وبه قال الشافعي لأنه وجد ما يقتضي الإباحة والتحريم فغلب التحريم كما لو جرحه(6/121)
(أي الصيد) مسلم ومجوسي" أهـ أقول وللشافعي قول آخر: هو أن العبرة بالأب وكان اللائق بقول الشافعية أن الولد يتبع أشرف الأبوين في الدين أن يجعلوا ذبح الصغير كذبح أشرف والديه، وأما البالغ فلا وجه للبحث عن أبويه فإنه إذا كان كتابيا كان داخلا في عموم الآية.
ثم قال (في ص537 منه) : " وإذا ذبح الكتابي ما يحرم عليه كذي الظفر (أي عند اليهود) لم يحرم علينا وإن ذبح حيوانا غيره لم تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم وهو شحم الثرب (أي الكرش) والكليتين في ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- واختاره ابن حامد وحكاه عن الخرقي في كلام مفرد. واختار أبو الحسن التميمي والقاضي تحريمه. وإن ذبح لعيده أو ليتقرب به إلى شيء مما يعظمونه لم يحرم نص عليه " اهـ أي نص عليه الإمام أحمد وهو المذهب وإن روى عنه التحريم وهو موافق فيه لمذهب مالك -رحمهم الله تعالى-.
وقال: (في ص535منه) " الرابع (أي من شروط التذكية) أن يذكر اسم الله عند الذبح وهو أن يقول باسم الله لا يقوم مقامها غيرها إلا الأخرس فإنه يومي إلى السماء. فإن ترك التسمية عمدا لم تبح وإن تركها ساهيا أبيحت وعنه تباح في الحالتين وعنه لا تباح فيهما ".
قال في حاشيته: " قوله فإن ترك التسمية عمدا إلخ هذا هو المذهب فيهما وذكره ابن جرير إجماعا في سقوطها سهوا، وروى ذلك عن ابن عباس وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة وإسحاق. وممن أباح ما نسيت التسمية عليه عطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد، وعن أحمد تباح في الحالين وبه قال الشافعي واختاره أبو بكر لحديث البراء مرفوعا: «المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسم» وحديث أبي هريرة أنه سئل فقيل: أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله؟ فقال: اسم الله في قلب كل مسلم. رواه ابن عدي والدارقطني والبيهقي وضعفه، ولنا ما روى الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد مرفوعا: «ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم ما لم يتعمد» لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (1) وجوابه أنها محمولة على ما إذا ترك اسم التسمية عمدا بدليل قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (2) والأكل مما نسيت التسمية عليه ليس بفسق لقوله عليه السلام: «عفى لأمتي عن الخطأ والنسيان (3) » اهـ.
أقول من عجائب انتصار الإنسان لما يختاره جعل الفسق هنا بمعنى ترك التسمية عمدا، والظاهر فيه ما قاله الشافعي من أنه ما أهل لغير الله به أخذا من قوله تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (4) وقد تقدم. وفي الباب من كتاب بلوغ المرام للحافظ ابن حجر ما نصه: وعن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «والمسلم يكفيه اسمه فإن نسي أن يسمى الله حين يذبح فليسم ثم ليأكل» أخرجه
__________
(1) سورة الأنعام الآية 121
(2) سورة الأنعام الآية 121
(3) سنن ابن ماجه الطلاق (2043) .
(4) سورة الأنعام الآية 145(6/122)
الدارقطني، وفيه راو في حفظه ضعف وفي إسناده محمد بن يزيد بن سنان وهو صدوق ضعيف الحفظ وأخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح إلى ابن عباس موقوفا عليه وله شاهد عند أبي داود في مراسيله بلفظ: «ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله عليها أم لم يذكر» ورجاله موثوقون اهـ. وتقدم حديث عائشة عند البخاري قالت: «إن قوما يؤتون باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال -صلى الله عليه وسلم- سموا الله عليه أنتم وكلوه (1) » اهـ.
وقد جعل علماء الأزهر الفصل الأول من كتاب (إرشاد الأمة الإسلامية) الذي تقدم ذكره في بيان مذهب الحنابلة في الذبيحة التي أفتى بها مفتي مصر قالوا:
"ذهب الحنابلة إلى أن المعتبر في حل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع أن تذكى وفيها حياة وإن قلت كالمريض، وهو قول علي وابن عباس والحسن وقتادة والسيدين الباقر والصادق وإبراهيم وطاوس والضحاك وابن زيد. والتسمية عندهم ليست بشرط فيحل متروك التسمية عمدا أو سهوا من مسلم أو كتابي على رواية. وفي رواية عن أحمد تشترط من مسلم لا من كتابي وعنه عكسها. ثم أيدوا هذه الخلاصة بنقل من كتاب (دقائق أولى النهى على متن المنتهى) ومن غيره.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .(6/123)
صفوة الخلاف بين الفقهاء والمختار منه في طعام أهل الكتاب
من تأمل ما نقلناه من كتب المذاهب الأربعة المشهورة، وما تخلله وسبقه من كلام غيرهم من أئمة السلف يظهر له أن المتفق عليه أن يحرم علينا من طعام أهل الكتاب ما حرم علينا في ديننا لذاته وهو الميتة ولحم الخنزير كذا الدم المسفوح قطعا وإن لم يذكر فيما تقدم من النقل ولا نعلم أن أحدا منهم يأكله أو يشربه وكذلك الميتة كلهم يحرمونها" ولحم الخنزير محرم بنص التوراة إلى اليوم، وقد استباحه النصارى بإباحة مقدسهم بولس. وقد اختلف الفقهاء فيما عدا ذلك كما علمت فكل ما أكلناه مما عدا ذلك من طعامهم نكون موافقين فيه لقول بعض فقهائنا الذين شدد بعضهم فخفف بعض من هذه المسائل، وأشد الفقهاء تشديدا في ذلك وفي أكثر الأحكام الشافعية. ومن تأمل أدلة الجميع رأى أن أظهرها قول الذين أخذوا بعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) ولم يخصصوه بذبحائهم فضلا عن تخصيصه بحبوبهم كالشيعة. ولا يشترط في حل طعامهم أن
__________
(1) سورة المائدة الآية 5(6/123)
يأكل منه أحبارهم ورهبانهم كما قال ابن العربي. واختاره شيخنا الأستاذ مفتي مصر في الفتوى الترنسفالية فهو تشديد لا مستند له- وفي غير ما أهل به لغير الله- إلا الثقة بأن يكون ما يأكلونه غير محرم عليهم في كتبهم، وقد نسخت شريعتنا كتبهم كما قال الشافعي وغيره فلا عبرة بما حرم عليهم فيها وقد قال الله تعالى في صفات خاتم النبيين: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (1) ولا يشترط أيضا أن يكون طعامهم موافقا لشريعتنا سواء كانوا مخاطبين بفروعها قبل الإيمان كما يقول الشافعي، أو غير مخاطبين بها إلا بعد الإيمان كما يقول الجمهور، إذ لو كان هذا شرطا لما كان لإباحة طعامهم فائدة.
قال ابن رشد في بداية المجتهد ما نصه: ومن فرق بين ما حرم عليهم من ذلك في أصل شرعهم، وبين ما حرموا على أنفسهم قال ما حرم عليهم هو أمر حق فلا تعمل فيه الذكاة، وما حرموا على أنفسهم أمر باطل فتعمل فيه التذكية. قال القاضي: والحق أن ما حرم عليهم أو حرموه على أنفسهم هو في وقت شريعة الإسلام أمر باطل إذ كانت ناسخة لجميع الشرائع فيجب أن لا يراعى اعتقادهم في ذلك ولا يشترط أيضا أن يكون اعتقادهم في تحليل الذبائح اعتقاد المسلمين ولا اعتقاد شريعتهم لأنه لو اشترط ذلك لما جاز أكل ذبحائهم بوجه من الوجوه لكون اعتقاد شريعتهم في ذلك منسوخا واعتقاد شريعتنا لا يصح منهم، وإنما هذا حكم خصهم الله تعالى به فذبائحهم - والله أعلم- جائزة على الإطلاق وإلا ارتفع حكم آية التحليل جملة. فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم. أهـ.
والأمر كما قال القاضي -رحمه الله تعالى- ومراده بذبحائهم مذكاهم كيفما كانت تذكيته عندهم. وقد تقدم تحقيق معنى التذكية وأنها عبارة عن قتل الحيوان بقصد أكله، وأقوال علماء السلف ومحققي المالكية في ذلك، فلله در مالك والمالكية، إن كلامهم في هذه المسألة أظهر من كلام مخالفهم دليلا وأليق بيسر الحنيفية السمحة. ومن العجائب أن كثيرا من الناس يحبون أن تكون الشريعة عسرا لا يسرا. وحرجا لا سعة، وإن هم لم يلتزموها إلا فيما يوافق أهواءهم، فمن شدد على نفسه فذاك ذنب عقابه فيه، ومن شدد على الأمة حثونا التراب في فيه، والله أعلم وأحكم.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157(6/124)
ورد إلى فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي مصر سابقا أسئلة من شاب مسلم مقيم بالولايات المتحدة عن حكم أكل الدم وذبائح أهل الكتاب.
1 - نصها: (1) أنه يجد في لحوم البقر التي تقدم إليه للغذاء شيئا من الدم فهل يحل أكلها مع ذلك؟ .
2 - ثم هو لا يدري أذكر على الذبيحة اسم الله أم لا، والقوم في تلك البلاد أهل كتاب، فهل يحل
__________
(1) من 113 إلى 120 من ج 2 من كتاب فتاوى شرعية(6/124)
أكل ذبائحهم مع ذلك؟ .
3 - وقد يكون الذبح عندهم ببتر الرأس مرة واحدة بآلات حادة دون مراعاة طريقة الذبح المعروفة عندنا بمصر، فهل يحل أكل الذبيحة مع ذلك؟ .
(الجواب) نقصر الكلام في هذه الفتيا على ما أباح الله تعالى أكله من الحيوان البري المقدور عليه فنقول:
1 - تحريم الدم:
1 قد جعل الله تعالى الذكاة شرطا لحل الأكل من هذا الحيوان كالإبل والبقر والغنم والأوز والبط ونحوها. والذكاة الاختيارية إنما تكون بالذبح فيما يذبح من الغنم والبقر ونحوهما، وبالنحر فيما ينحر وهو الإبل، وبها يطيب اللحم ويحل لخروج الدم بها من الحيوان، وهو مادة مستقذرة بالطبع حرمها الله تعالى في آيات كثيرة من القرآن الكريم، فقال تعالى في سورة البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (1) . وفي سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (2) . وفي سورة النحل: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (3) .
وقال في سورة الأنعام: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (4) فنفى سبحانه في هذه الآية حرمة سائر الدماء إلا ما كان مسفوحا، هو المصبوب السائل الذي يخرج بالذبح أو النحر ونحوه.
وكان العرب في الجاهلية يضعونه في أمعاء الحيوان ويشوونه ثم يأكلونه، فحرم الله أكله والانتفاع به.
روى عن قتادة أنه قال: حرم الله من الدم ما كان مسفوحا، وأما اللحم يخالطه الدم فلا بأس به.
وعن عكرمة أنه قال: لولا آية الأنعام لاتبع المسلمون من العروق ما اتبع اليهود. وسئلت عائشة عن
__________
(1) سورة البقرة الآية 173
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سورة النحل الآية 115
(4) سورة الأنعام الآية 145(6/125)
الدم يكون في اللحم والمذبح فقالت: إنما نهى الله عن الدم المسفوح. وسئلت عن الدم في أعلى القدر فلم تر به بأسا وقرأت آية الأنعام حتى بلغت {مَسْفُوحًا} (1)
ولتخصيص التحريم بالمسفوح أحل الله دمين غير مسفوحين وهما الكبد والطحال كما في الحديث المشهور، وأحل أكل اللحم مع بقاء أجزاء من الدم في العروق لأنه غير مسفوح. وقال الإمام الجصاص: لا خلاف بين الفقهاء في جوازه ا. هـ.
وإلى هذا ذهب جمهور الأئمة فقالوا: إن الدم المحرم هو الدم المسفوح لا مطلق الدم، فيحمل الدم المطلق في الآيات السابقة على المقيد في آية الأنعام.
وذهب ابن حزم إلى أن جملة الدم محرم مسفوحا وغير مسفوح، وأن الله تعالى حرم المسفوح منه في مكة بآية الأنعام، ثم حرم بالمدينة الدم جملة بآية المائدة وهي آخر سور القرآن نزولا. ومع هذا وافق الجمهور في أن ما يبقى من الدم في الحيوان المذكى في عروقه وفي خلال لحمه ليس من الدم المحرم، وقال: إنه حلال ا. هـ.
ولولا ذلك لوجب تتبعه في العروق واللحم لاستئصاله، وفي ذلك عسر يأباه يسر الشريعة السمحة.
فلا جناح في أكل اللحم المذكى مع وجود بقايا الدم فيه، لأن ذلك معفو عنه شرعا. والله أعلم.
2 - التسمية على الذبيحة:
وحرم الله تعالى من الذبائح في الآيات السابقة {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (2) وهو ما ذكر عليه غير اسمه تعالى. وأصل الإهلال رفع الصوت، وكل رافع صوته فهو مهل. وكان العرب في الجاهلية يرفعون أصواتهم عند الذبح بأسماء أصنامهم وأوثانهم. فذلك هو الإهلال. والمراد من الغير في الآية الصنم والوثن وغيرهما كالعزير والمسيح والصليب والكعبة، فلا يحل شيء من الذبائح التي أهل لغير الله تعالى. ومنه {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (3) وهي أحجار كانت لهم منصوبة حول الكعبة يذبحون عليها، ولعل ذبحهم عليها كان علامة لكونه للأصنام ونحوها. وقيل هي الأصنام تنصب فتعبد من دون الله تعالى.
وقد روي عن عمر وابنه وعلي وعائشة كراهة ما أهل به لغير الله (والمراد حرمته) وعن النخعي
__________
(1) سورة الأنعام الآية 145
(2) سورة البقرة الآية 173
(3) سورة المائدة الآية 3(6/126)
والحسن والثوري مثله. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يؤكل ما سمي المسيح عليه. وقال الشافعي وأحمد: لا يحل ما ذبح لغير الله، ولا ما ذبح للأصنام أ. هـ.
وقد سمى الله ذلك (فسقا) أي خروجا من الحلال إلى الحرام، قال الله تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (1)
وكما حرم الله ما أهل به لغير الله، حرم ما لم يذكر اسم الله عليه وجعل ذكر اسمه تعالى وحده على الذبيحة شرطا في حل أكلها، سواء كان الذابح مسلما أو كتابيا، وإليه ذهب الحنفية وأحمد والثوري والحسن بن صالح لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (2) فنهي عن الأكل من متروك التسمية وعن تركها، وأخبر بأنه فسق، وهو ظاهر في حالة ترك التسمية عمدا لا سهوا؛ لأن الناس لا تلحقه سمة الفسق كما ذكره الجصاص وغيره.
وذهب داود والشعبي وهو مروي عن مالك وأبي ثور إلى أن التسمية شرط مطلق؛ لعدم فصل الأدلة بين حالتي العمد والسهو، وإليه ذهب ابن حزم في المحلى.
وذهب ابن عباس وأبو هريرة وطاوس والشافعي وهو مروي أيضا عن مالك وأحمد إلى أن التسمية ليست شرطا لحل الأكل بل هي سنة. فمن تركها عمدا أو سهوا لم يقدح ذلك في حل أكل ذبيحته لحديث عائشة: «أن قوما قالوا يا رسول الله: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوا وكانوا حديثي عهد بكفر (3) » . - رواه البخاري والنسائي وابن ماجه -كما في المنتقى، وذلك لأن التسمية على الأكل سنة، فلو كانت التسمية على الذبيحة فرضا لم تنب السنة عن الفرض؛ لأن السنة لا تنوب عن الفرض كما في الشوكاني.
ولعل حكمة تحريم ما أهل به لغير الله، وما لم يذكر اسم الله عليه أن الحيوان مملوك لله تعالى كسائر المخلوقات. وليس للعبد أن يتصرف في ملك سيده بغير إذنه وإباحته. وإذ قد أذن الله تعالى للإنسان أن يقتات ببعض الحيوان، أوجب عليه إذا أراد الانتفاع به على الوجه الأكمل أن يذكيه؛ ليكون له منه قوت طيب خالص من شوائب القذر والدنس، وتلك نعمة يجب عليه أن يشكر المنعم المتفضل بها، وهو إنما يكون بتمجيد الله تعالى وذكر اسمه وحده عند الذبح، والإعلام بأنه إنما أقدم عليه بإذن الله وإباحته.
وروى عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي أمامة الترخيص في ذبائح أهل الكتاب إذا ذكروا عليها اسم غير الله. وإليه ذهب عطاء والشعبي والليث وفقهاء الشام؛ الأوزاعي ومكحول وسعيد بن عبد العزيز، وقالوا: إن التحريم في قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (4) مقصور على ذبائح عبدة الأوثان الذين يهلون عند الذبح بأوثانهم، كما كان يفعله العرب.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 145
(2) سورة الأنعام الآية 121
(3) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5507) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .
(4) سورة البقرة الآية 173(6/127)
أما أهل الكتاب فإن الله سبحانه أحل ذبائحهم بقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) والمراد ذبائحهم كم ذهب إليه ابن عباس وجمهور المفسرين، مع علمه تعالى بأنهم يهلون على ذبائحهم باسم المسيح، وأنهم لا يزالون يقولون ذلك.
فعلى هذا القول تحل ذبيحة الكتابي سواء سمى المسيح أو الصليب، ذبحها لعيد أو كنيسة؛ لأنه كتابي قد ذبح لدينه، وكانت هذه ذبائحهم قبل نزول القرآن وأحلها في كتابه أ. هـ. من العمدة للعيني، وأحكام القرآن للجصاص، والمغني لابن قدامة، والمحلى لابن حزم، وروح المعاني للألوسي المفسر وغيرهم.
وقد رجح مذهب الجمهور بأن حل ذبائح أهل الكتاب في آية المائدة مشروط بالإهلال عليه باسم الله وحده جمعا بين الآيتين، فإذا أهل باسمه تعالى حلت ذبيحته كالمسلم سواء، وإذا أهل بغيره تعالى حرمت كالمسلم سواء، وإذا لم يعلم هل سمى الله وحده أو سمى الله مع غيره أو سمى غير الله فقط حلت ذبيحته، ففي الألوسي قال الحسن: إذا ذبح اليهودي أو النصراني فذكر غير الله تعالى وأنت تسمع فلا تأكل فإذا غاب عنك فكل، فقد أحل الله ذلك أ. هـ أي بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2)
وفي صحيح البخاري عن الزهري قال: " لا بأس بذبيحة نصارى العرب وإن سمعته يسمى غير الله فلا تأكل، وإن لم تسمعه فقد أحله الله وعلم كفرهم" أهـ. رواه مالك في الموطأ مرفوعا. وعن النخعي: إذا توارى عنك فكل. وعن حماد: كل ما لم تسمعه أهل به لغير الله.
وفي البدائع للكاساني من أئمة الحنفية: وتؤكل ذبيحة الكتابي؛ لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (3) والمراد ذبائحهم وإنما تؤكل ذبيحته إذا لم يشهد ذبحه ولم يسمع منه شيء، أو سمع وشهد تسمية الله تعالى وحده؛ لأنه إذا لم يسمع منه شيء يحمل على أنه سمى الله تعالى وجرد التسمية تحسينا للظن به كما بالمسلم، فأما إذا سمع منه أنه سمى المسيح وحده أو مع الله فإنه لا تؤكل ذبيحته لقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (4) أ. هـ. ملخصا.
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) سورة المائدة الآية 5
(4) سورة البقرة الآية 173(6/128)
وفي المغني لابن قدامة: فإن لم يعلم أسمى الذابح أم لا، أو ذكر اسم غير الله أم لا، فذبيحته حلال؛ لأن الله تعالى أباح لنا أكل ذبيحة المسلم والكتابي وقد علم أننا لا نقف على كل ذابح. أ. هـ.
وفي المحلى لابن حزم: وكل ما غاب عنا مما ذكاه مسلم فاسق أو جاهل أو كتابي فحلال أكله؛ لما أخرجه البخاري عن عائشة: «أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: سموا الله أنتم وكلوا. قالت عائشة: وكانوا حديثي عهد بكفر (1) » أ. هـ. حيث أباح لهم أكله بدون اهتمام بالسؤال عنه، والتحقق من حصول التسمية وندبهم إلى التسمية عند الأكل إقامة للسنة كما أشار إليه الطيبي.
وجملة القول في ذبيحة الكتابي أنها تحل، ولو علم أنه سمى عليها غير الله فيما ذهب إليه بعض الأئمة، وتحل عند الجمهور إذا لم يسمع وهو يهل بها لغير الله، بخلاف ما إذا سمع فإنها تحرم، فما يذبحه إذا لم يعلم أنه ذكر اسم الله عليه أو لم يذكره حلال باتفاق، والله اعلم.
3 - كيفية الذبح:
وقد اختلفت أقوال الأئمة والفقهاء في كيفية الذبح وآلته اختلافا كثيرا، وللإمام ابن حزم في ذلك قول حقيق بالقبول مؤيد بالدليل القوي من السنة الصحيحة.
قال: إن كمال الذبح باتفاق هو أن يقطع الودجان (عرقان في جانبي ثغرة النحر) والحلقوم والمريء (مجرى الطعام والشراب من الحلق) (2) فإن قطع بعض من هذه الاراب، فاسرع الموت كما يسرع في قطع كلها فأكلها حلال، فإن لم يسرع الموت فليعد القطع ولا يضره ذلك شيئا، وأكله حلال سواء ذبح من الحلق أعلاه وأسفله، وسواء رميت العقدة إلى فوق أو أسفل، أو قطع كل ذلك من العنق وسواء أبين الرأس أم لم يبن، كل ذلك حلال، وممن ذهب إلى حل الذبيحة إذا أبين رأسها: ابن عمر وعلي
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .
(2) أما إزهاق روح الحيوان بغير الذبح كالوقذ وتسليط تيار كهربائي عليه فيحرم أكله باتفاق.(6/129)
وعمران بن الحصين وأنس وابن عباس وعطاء ومجاهد وطاوس والحسن والنخعي والشعبي والزهري والضحاك، وبعضهم أكل ما لم يقطع أوداجه وما ذبح من قفاه.
وأما آلة التذكية فهي كل شيء يقطع قطع السكين، أو ينفذ نفاذ الرمح. سواء في ذلك كله العود المحدد والحجر الحاد والقصب الحاد، وكل شيء سوى السن والظفر، وما عمل منها إلى آخر ما ذكره في المحلى جـ7.
فالذبح بآلة حادة تقطع العنق وتفصل الرأس ولو كان من القفا جائز شرعا عنده، والله أعلم.(6/130)
وسئل سماحة رئيس المجلس الأعلى للقضاء في المملكة العربية السعودية: الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد عن حكم اللحوم المستوردة من الخارج معلبة وغير معلبة والتي كثر انتشارها في المدن والقرى وعمت البلوى بها فلا يكاد بيت يسلم منها- هل الأصل فيها الإباحة أم الحظر نرجو بيان ذلك مفصلا ولكم الأجر.
فأجاب حفظه الله: الأصل في الأبضاع والحيوانات التحريم فلا يحل البضع إلا بعقد صحيح مستجمع لأركانه وشروطه كما لا يباح أكل لحوم الحيوانات إلا بعد تحقق تذكيتها من أهل للتذكية فإن الله سبحانه وتعالى حرم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وحرم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع إلا ما ذكي. فهذا يدل على أن الأصل في الحيوان التحريم إلا ما ذكاه المسلمون أو أهل الكتاب بقطع الحلقوم وهو مجرى النفس. والمريء وهو مجرى الطعام والماء مع قطع الودجين في قول طائفة من أهل العلم. فما يرد من اللحوم المعلبة إن كان استيرادها من بلاد إسلامية أو من بلاد أهل الكتاب أو معظمهم وأكثرهم أهل كتاب وعادتهم يذبحون بالطريقة الشرعية فلا شك في حله.
وإن كانت تلك اللحوم المستوردة تستورد من بلاد جرت عادتهم أو أكثرهم أنهم يذبحون بالخنق أو بضرب الرأس أو بالصاعقة الكهربائية ونحو ذلك فلا شك في تحريمها وكذلك ما يذبحه غير المسلمين وغير أهل الكتاب من وثني أو مجوسي أو قادياني أو شيوعي ونحوهم فلا يباح ما(6/130)
ذكوه؛ لأن التذكية المبيحة لأكل ما ذكى لا بد أن تكون من مسلم أو كتابي عاقل له قصد وإرادة. وغير هؤلاء لا يباح تذكيتهم أما إذا جهل الأمر في تلك اللحوم ولم يعلم عن حالة أهل البلد التي وردت منها تلك اللحوم، هل يذبحون بالطريقة الشرعية أم بغيرها؟ ولم يعلم حالة المذكين وجهل الأمر فلا شك في تحريم ما يرد من تلك البلاد المجهول أمر عادتهم في الذبح تغليبا لجانب الحظر وهو أنه إذا اجتمع مبيح وحاظر فيغلب جانب الحظر سواء أكان في الذبائح أو الصيد ومثله النكاح كما قرره أهل العلم- منهم شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والحافظ ابن رجب وغيرهم من الحنابلة وكذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام النووي وغيرهم كثير- مستدلين بما في الصحيحين وغيرهما من حديث عدي بن حاتم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل. فإن وجدت معه كلبا آخر فلا تأكل (1) » .
فالحديث يدل على أنه إذا وجد مع كلبه المعلم كلبا آخر أنه لا يأكله تغليبا لجانب الحظر.
فقد اجتمع في هذا الصيد مبيح وهو إرسال الكلب المعلم وغير مبيح وهو اشتراك الكلب الآخر.
لهذا منع الرسول صلى الله عليه وسلم من أكله وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: «إذا أصبته بسهمك فوقع في الماء فلا تأكل (2) » . متفق عليه. وفي رواية عند الترمذي: «إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع فكل (3) » . وقال: حسن صحيح عن عدي بن حاتم.
قال ابن حجر في الصيد: إن الأثر الذي يوجد فيه من غير سهم الرامي أعم من أن يكون أثر سهم رام آخر أو غير ذلك من الأسباب القاتلة فلا يحل أكله مع التردد. وقال أيضا عند قوله: «وإن وقع في الماء فلا تأكل (4) » لأنه حينئذ يقع التردد هل قتله السهم أو الغرق في الماء. فلو تحقق أن السهم أصابه فمات فلم يقع في الماء إلا بعد أن قتله السهم فهذا يحل أكله، قال النووي في شرح مسلم: إذا وجد الصيد في الماء غريقا حرم بالاتفاق- أ. هـ. وقد صرح الرافعي بأن محله ما لم ينته الصيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح فإن انتهى إليها بقطع الحلقوم مثلا فقد تمت ذكاته. ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك (5) » . فدل على أنه إذا علم أن سهمه هو الذي قتله أنه يحل- انتهى ملخصا من فتح الباري.
وقال الخطابي: إنما نهاه عن أكله إذا وجده في الماء لإمكان أن يكون الماء قد غرقه فيكون هلاكه من الماء لا من قبل الكلب الذي هو آلة الذكاة. وكذلك إذا وجد فيه أثرا لغير سهمه.
والأصل أن الرخص تراعى شرائطها التي بها وقعت الإباحة فمهما أخل بشيء منها عاد الأمر إلى التحريم الأصلي أ. هـ.
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (175) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن الترمذي الصيد (1470) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4263) ، سنن أبو داود الصيد (2847) ، سنن ابن ماجه الصيد (3208) ، مسند أحمد بن حنبل (4/256) ، سنن الدارمي الصيد (2002) .
(2) صحيح البخاري كتاب الذبائح والصيد (5485) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن الترمذي الصيد (1469) ، مسند أحمد بن حنبل (4/378) .
(3) سنن الترمذي الصيد (1468) .
(4) صحيح البخاري كتاب الذبائح والصيد (5485) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، مسند أحمد بن حنبل (4/378) .
(5) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن الترمذي الصيد (1469) .(6/131)
مما تقدم يتضح تحريم اللحوم المستوردة من الخارج على الصفة التي سبق بيانها وأن مقتضى قواعد الشرع يدل على تحريمها كما في حديث عدي وغيره في اشتراك الكلب المعلم مع غيره. وفيما رماه الصائد بسهمه فوقع في الماء لاحتمال أن الماء قتله. وفيما رواه الترمذي وصححه: «إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع (1) » . فدل على أنه لو رأى فيه أثر سبع أنه لا يأكله. فإنك ترى من هذا أنه إذا تردد الأمر بين شيئين مبيح وحاظر فيغلب جانب الحظر. وليس في حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما: «أن قوما حديثي عهد بإسلام يأتوننا باللحوم فلا ندري أذكروا اسم الله عليه أو لا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سموا الله أنتم وكلوا- لأن الحديث في قوم مسلمين- إلا أنهم حديثوا عهد بكفر (2) » بخلاف تلك اللحوم المستوردة من الخارج فإن الذابح لها ليس بمسلم ولا كتابي بل مجهول الحال.
كما بينا فيما تقدم من أهل البلد إذا كانت حالتهم أو معظمهم يذبحون بالطريقة الشرعية وهم مسلمون أو أهل كتاب فيباح لنا ما ذبحوه وإن كانوا يذبحون بغير الطريقة الشرعية بل بخنق أو بضرب رأس أو بصاعقة كهربائية فهو محرم. وإن جهل أمرهم ولم تعلم حالتهم بما يذبحونه فلا يحل ما ذبحوه تغليبا لجانب الحظر. ولا عبرة بما عليه أكثر الناس اليوم من أكلهم لتلك اللحوم من غير مبالاة بتذكيتها من عدمها- والله المستعان.
__________
(1) سنن الترمذي الصيد (1468) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .(6/132)
ولفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز فتوى تحت عنوان:
حكم ذبائح أهل الكتاب وغيرهم من الكفار
نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المحترم
سلمه الله وتولاه آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . .
أما بعد فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ 5 \ 3 \ 1386 وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من السؤال عن حكم اللحوم التي تباع في أسواق الدول غير الإسلامية وما يعانيه موظفو(6/132)
السفارات الإسلامية والطلبة المسلمون من المشقة في هذا الباب (وما تضمنه من السؤال) كان معلوما.
والجواب: قد أجمع علماء الإسلام على تحريم ذبائح المشركين من عباد الأوثان ومنكري الأديان ونحوهم من جميع أصناف الكفار غير اليهود والنصارى والمجوس.
وأجمعوا على إباحة ذبيحة أهل الكتاب من اليهود والنصارى واختلفوا في ذبيحة المجوس عباد النار.
فذهب الأئمة الأربعة والأكثرون إلى تحريمها إلحاقا للمجوس بعباد الأوثان وسائر صنوف الكفار من غير أهل الكتاب.
وذهب بعض أهل العلم إلى حل ذبيحتهم إلحاقا لهم بأهل الكتاب، وهذا قول ضعيف جدا بل باطل والصواب ما عليه جمهور أهل العلم من تحريم ذبيحة المجوس كذبيحة سائر المشركين لأنهم من جنسهم فيما عدا الجزية وإنما شابه المجوس أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم فقط، والحجة في ذلك قول الله سبحانه في كتابه الكريم من سورة المائدة {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (1) الآية فصرح سبحانه بأن طعام أهل الكتاب حل لنا وطعامهم ذبحائهم كما قال ابن عباس وغيره من أهل العلم ومفهوم الآية أن طعام غير أهل الكتاب من الكفار حرام علينا وبذلك قال أهل العلم قاطبة إلا ما عرفت من الخلاف الشاذ الضعيف في ذبيحة المجوس.
إذا علم هذا فاللحوم التي تباع في أسواق الدول غير الإسلامية إن علم أنها من ذبائح أهل الكتاب فهي حل للمسلمين إذا لم يعلم أنها ذبحت على غير الوجه الشرعي إذ الأصل حلها بالنص القرآني فلا يعدل عن ذلك إلا بأمر متحقق يقتضي تحريمها أما إن كانت اللحوم من ذبائح بقية الكفار فهي حرام على المسلمين ولا يجوز لهم أكلها بالنص والإجماع ولا تكفي التسمية عليها عند غسلها ولا عند أكلها، وأما ما يتعلق به من قال ذلك فهو وارد في شأن أناس من المسلمين كانوا حديثي عهد بالكفر فسأل بعض الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا: «يا رسول الله إن قوما حديثي عهد بالكفر يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سموا الله عليه أنتم وكلوا (2) » . رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها وبذلك يعلم أنه لا شبهة لمن استباح اللحوم التي تجلب في الأسواق من ذبح الكفار غير أهل الكتاب بالتسمية عليها؛ لأن حديث عائشة المذكور وارد في المسلمين لا في الكفار فزالت الشبهة لأن أمر المسلم يحمل على السداد
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) صحيح البخاري التوحيد (7398) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .(6/133)
والاستقامة ما لم يعلم منه خلاف ذلك ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أمر هؤلاء الذين سألوه بالتسمية عند الأكل من باب الحيطة وقصد إبطال وساوس الشيطان، لا لأن ذلك يبيح ما كان محرما من ذبحائهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما كون المسلم في تلك الدول غير الإسلامية يشق عليه تحصيل اللحم المذبوح على الوجه الشرعي ويمل أكل لحم الدجاج ونحوه فهذا ونحوه لا يسوغ له أكل اللحوم المحرمة، ولا يجعله في حكم المضطر بإجماع المسلمين فينبغي التنبه لهذا الأمر والحذر من التساهل الذي لا وجه له.
هذا ما ظهر لي في هذه المسألة التي قد عمت بها البلوى، وأسأل الله أن يوفق المسلمين لما فيه صلاح دينهم ودنياهم وأن يعمر قلوبهم بخشيته وتعظيم حرماته والحذر مما يخالف شرعه إنه على كل شيء قدير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(6/134)
ولفضيلته فتوى أخرى في الموضوع نصها: -
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم الشيخ فؤاد توفيق زاده الله من العلم النافع والإيمان آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . أما بعد فقد وصلني كتابكم في 15 \ 11 \ 87هـ وصلكم الله بهداه وما تضمنه من السؤال كان معلوما.
وقد تضمن خطابكم المذكور السؤال عن مسألتين إحداهما عما يتعلق بذبح الغنم والدجاج ونحوهما في المجازر المسيحية في معظم البلاد الأوروبية والأمريكية وقد ذكرتم أنها درجت في ذبح الخرفان بواسطة الصرع الكهربائي وعلى ذبح الدجاج بواسطة قصف الرقبة.
والثانية عن حكم شحم الخنزير وذكرتم أنه بلغكم عن بعض علماء العصر حل ذلك.
والجواب عن المسألة الأولى أن يقال قد دل كتاب الله العزيز وإجماع المسلمين على حل طعام أهل الكتاب بقول الله سبحانه: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 5(6/134)
الآية من سورة المائدة. هذه الآية الكريمة قد دلت على حل طعام أهل الكتاب والمراد من ذلك ذبائحهم وهم بذلك ليسوا أعلى من المسلمين بل هم في هذا الباب كالمسلمين فإذا علم أنهم يذبحون ذبحا يجعل البهيمة في حكم الميتة حرمت كما لو فعل ذلك المسلم لقول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} (1) الآية.
فكل ذبح من مسلم أو كتابي يجعل الذبيحة في حكم المنخنقة والموقوذة أو المتردية أو النطيحة فهو ذبح يحرم البهيمة ويجعلها في عداد الميتات لهذه الآية الكريمة، وهذه الآية يخص بها عموم قوله سبحانه: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2) كما يخص بها الأدلة الدالة على حل ذبيحة المسلم إذا وقع منه الذبح على وجه يجعل ذبيحته في حكم الميتة، أما قولكم إن المجازر المسيحية درجت على ذبح الخرفان بواسطة الصرع الكهربائي وفي ذبح الدجاج بواسطة قصف الرقبة فقد سألت بعض أهل الخبرة عن معنى الصرع والقصف لأنكم لم توضحوا معناهما فأجابنا المسئول بأن الصرع هو إزهاق الروح بواسطة الكهرباء من غير ذبح شرعي وأما القصف فهو قطع الرقبة مرة واحدة فإن كان هذا هو المراد من الصرع والقصف فالذبيحة بالصرع ميتة لكونها لم تذبح الذبح الشرعي الذي يتضمن قطع الحلقوم والمريء وإسالة الدم وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر (3) » .
وأما القصف بالمعنى المتقدم فهو يحل الذبيحة لأنه مشتمل على الذبح الشرعي وهو قطع الحلقوم والمريء والودجين وفي ذلك إنهار الدم مع قطع ما ينبغي أما إن كان المراد بالصرع والقصف لديكم غير ما ذكرنا فنرجو الإفادة عنه حتى يكون الجواب على ضوء ذلك وفق الله الجميع لإصابة الحق.
المسألة الثانية وهي شحم الخنزير فالجواب عن ذلك أن الذي عليه الأئمة الأربعة وعامة أهل العلم هو تحريم شحمه تبعا للحمه وحكاه الإمام القرطبي والعلامة الشوكاني إجماع الأمة الإسلامية لأنه إذا نص على تحريم الأشرف فالأدنى أولى بالتحريم ولأن الشحم تابع للحم عند الإطلاق فيعمه النهي
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5509) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1491) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) ، سنن الدارمي الأضاحي (1977) .(6/135)
والتحريم ولأنه متصل به اتصال خلقة فيحصل به الضرر ما يحصل بملاصقه وهو اللحم ولأنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على تحريم الخنزير بجميع أجزائه والسنة تفسر القرآن وتوضح معناه، ولم يخالف في هذا أحد فيما نعلم ولو فرضنا وجود خلاف لبعض الناس فهو خلاف شاذ مخالف للأدلة والإجماع الذي قبله فلا يلتفت إليه. ومما ورد من السنة في ذلك ما رواه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «خطب الناس يوم الفتح فقال: إن الله ورسوله حرم عليكم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (1) » . الحديث فجعل الخنزير قرين الخمر والميتة لم يستثن شحمه بل أطلق تحريم بيعه كما أطلق تحريم بيع الخمر والميتة وذلك نص ظاهر في تحريمه كله والأحاديث في ذلك كثيرة. وقد كتبنا جوابا في حكمة تحريم الخنزير نرسل لكم نسخة منه مع نسختين من كتابين آخرين في الموضوع للاطلاع عليها والله المسئول أن يوفقنا جميعا للفقه في دينه والنصح له ولعباده والدعوة إليه على بصيرة إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2236) ، صحيح مسلم المساقاة (1581) ، سنن الترمذي البيوع (1297) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4256) ، سنن أبو داود البيوع (3486) ، سنن ابن ماجه التجارات (2167) .(6/136)
جاء إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الاستفتاء الآتي:
ما حكم اللحم الذي يوجد في الأسواق وقد ذبح في الخارج هل يجوز الأكل منه أو لا؟
فأجابت عنه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بما نصه في الفتوى رقم 1216 وتاريخ 1396هـ:
إن كان مذكي الأنعام أو الطيور غير كتابي ككفار روسيا وبلغاريا وما شابهها في الإلحاد ونبذ الديانات فلا تؤكل ذبيحته سواء ذكر اسم الله عليها أم لا. لأن الأصل حل ذبائح المسلمين فقط(6/136)
واستثنى ذبائح أهل الكتاب بالنص وإن كان من ذكاها من أهل الكتاب اليهود أو النصارى فإن كانت تذكيته إياها بذبح في رقبتها أو نحر في لبتها وهي حية وذكر اسم الله عليها أكلت اتفاقا، لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) وإن لم يذكر اسم الله عليها عمدا ولا اسم غيره ففي جواز أكلها خلاف. وإن ذكر اسم غير الله عليها لم تؤكل. وهي ميتة لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (2) وإن ضربها في رأسها بمسدس أو سلط عليها تيارا كهربائيا مثلا فماتت من ذلك فهي موقوذة ولو قطع رقبتها بعد ذلك وقد حرمها الله في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} (3) إلا إذا أدركت حية بعد ضرب رأسها مثلا وذكيت فتؤكل. لقوله تعالى في آخر هذه الآية: {وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} (4) فاستثنى سبحانه من المحرمات ما ذكى منها إذا أدرك حيا. لأن التذكية لا تأثير لها في الميتة أما ما خنق منها حتى مات أو سلط عليه تيار كهربائي حتى مات فلا يؤكل بالاتفاق وإن ذكر اسم الله عليه حين خنقه أو تسليط الكهرباء عليه أو عند أكله أما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سموا الله وكلوا (5) » . فإنه كان من ذبائح ذبحها قوم أسلموا لكنهم حديثوا عهد بجاهلية ولم يعلم أذكروا اسم الله عليها أم لا فأمر المسلمين الذين شكوا في تسمية هؤلاء الذابحين بالبناء على الأصل وهو ما عهد في المسلمين من التسمية عند الذبح وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وجاء أيضا في استفسار آخر مضمونه: أن جماعة من طلبة العلم يزعمون حل ذبائح من يستغيث بغير الله ويدعو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله إذا ذكروا عليها اسم الله مستدلين بعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (6) الآية وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} (7) ويرون من يحرم ذلك من المعتدين الذين يضلون بأهوائهم بغير علم، ويقولون إن الله فصل لنا ما حرم علينا في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (8) الآية وقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (9) الآية إلى أمثال ذلك من الآيات التي فصلت ما حرم من الذبائح ولم يذكر فيها تحريم شيء مما ذكر اسم الله عليه ولو كان الذابح وثنيا أو مجوسيا ويزعمون أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان يأكل من
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة الأنعام الآية 121
(3) سورة المائدة الآية 3
(4) سورة المائدة الآية 3
(5) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .
(6) سورة الأنعام الآية 118
(7) سورة الأنعام الآية 119
(8) سورة المائدة الآية 3
(9) سورة النحل الآية 115(6/137)
ذبائح الذين يدعون زيد بن الخطاب إذا ذكروا اسم الله. فهل قولهم هذا صحيح، وما نجيب عما استدلوا به إن كانوا مخطئين وما هو الحق في ذلك مع الدليل.
وقد أجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية بالفتوى رقم 1423 وتاريخ 28 \ 12 \ 96 بما يلي:
يختلف حكم الذبائح حلا وحرمة باختلاف حال الذابحين فإن كان الذابح مسلما ولم يعلم عنه أنه أتى بما ينقض أصل إسلامه وذكر اسم الله على ذبيحته أو لم يعلم أذكر اسم الله عليه أم لا فذبيحته حلال بإجماع المسلمين ولعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} (1) {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (2) الآية.
وإن كان الذابح كتابيا يهوديا أو نصرانيا وذكر اسم الله على ذبيحته فهي حلال بإجماع ولقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (3) وإن لم يذكر اسم الله ولا اسم غيره ففي حل ذبيحته خلاف فمن أحلها استدل بعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (4) ومن حرمها استدل بعموم أدلة وجوب التسمية على الذبيحة والصيد والنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (5) الآية وهذا هو الظاهر وإن ذكر الكتابي اسم غير الله عليها كأن يقول باسم العزير أو باسم المسيح أو الصليب لم يحل الأكل منها، لدخولها في عموم قوله تعالى في آية ما حرم من الطعام: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (6) إذ هي مخصصة لعموم قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (7)
وإن كان الذابح مجوسيا لم تؤكل سواء ذكر اسم الله عليها أم لا بلا خلاف فيما نعلم إلا ما نقل عن أبي ثور من إباحته صيده وذبيحته، لما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب (8) » ولأنهم يقرون على دينهم بالجزية كأهل الكتاب فيباح صيدهم وذبائحهم وقد أنكر عليه العلماء ذلك واعتبروه خلافا لإجماع من سبقه من السلف قال ابن قدامة في المغني قال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع قال أحمد: هاهنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأسا ما أعجب هذا - يعرف بأبي ثور. وممن رويت عنه كراهية ذبائحهم ابن مسعود وابن عباس وعلي وجابر وأبو برزة وسعيد بن المسيب وعكرمة والحسن بن محمد وعطاء ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن
__________
(1) سورة الأنعام الآية 118
(2) سورة الأنعام الآية 119
(3) سورة المائدة الآية 5
(4) سورة المائدة الآية 5
(5) سورة الأنعام الآية 121
(6) سورة المائدة الآية 3
(7) سورة المائدة الآية 5
(8) موطأ مالك الزكاة (617) .(6/138)
جبير ومرة الهمداني والزهري ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي قال أحمد " ولا أعلم أحدا قال بخلافه إلا أن يكون صاحب بدعة ولأن الله تعالى قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) فمفهومه تحريم طعام غيرهم من الكفار ولأنهم لا كتاب لهم فلا تحل ذبائحهم كأهل الأوثان. . ثم قال وإنما أخذت منهم الجزية لأن شبهة الكتاب تقتضي تحريم دمائهم فلما غلبت في تحريم دمائهم وجب أن يغلب عدم الكتاب في تحريم ذبائحهم ونسائهم احتياطا للتحريم في الموضعين وأنه إجماع فإنه قول من سمينا ولا مخالف لهم في عصرهم ولا فيمن بعدهم إلا رواية عن سعيد روي عنه خلافها) انتهى من المغني.
وإن كان الذابح من المشركين عباد الأوثان ومن في حكمهم ممن سوى المجوس وأهل الكتاب فقد أجمع المسلمون على تحريم ذبائحهم سواء ذكروا اسم الله عليها أو لا ودل قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2) بمفهومه على تحريم ذبائح غيرهم من الكفار وإلا لما كان لتخصيصهم بالذكر في سياق الحكم بالحل فائدة.
وكذا من انتسب إلى الإسلام وهو يدعو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، ويستغيث بغير الله فذبائحهم كذبائح الكفار والوثنيين والزنادقة فلا تحل ذبائحهم ولأدلة مفهوم الآية على ذلك كلاهما مخصص لعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (3) قوله: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (4) الآية. فلا يصح الاستدلال بهاتين الآيتين وما في معناهما على حل ذبائح عباد الأوثان ومن في حكمهم ممن ارتد عن الإسلام بإصراره على استغاثته بغير الله ودعائه إياه من الأموات ونحوهم بعد البيان له وإقامة الدليل عليه بأن ذلك شرك كشرك الجاهلية الأولى. كما أنه لا يصح الاعتماد في حل ذبائح من استغاث بغير الله من الأموات ونحوهم واستنجد بغيره فيما هو من اختصاص الله إذا ذكر اسم الله عليها بعدم ذكر ذبائحهم صراحة في آية {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (5) وما في معناها من الآيات التي ذكر الله فيها ما حرم على عباده من الأطعمة فإن ذبائح هؤلاء وإن لم تذكر صراحة في نصوص الأطعمة المحرمة فهي داخلة في عموم الميتة لارتدادهم عن الإسلام من أجل ارتكابهم ما ينافي أصل إيمانهم وإصرارهم على ذلك بعد البيان.
ومن زعم أن إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان يأكل من ذبائح أهل نجد وهم يدعون زيد بن الخطاب فزعمه خرص وتخمين ومجرد دعوى لا يشهد لها نقل عنه رحمه الله بل هي مخالفة لما تشهد به كتبه ومؤلفاته من الحكم على من يدعو غير الله من ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد لله صالح فيما لا يقدر عليه إلا الله بأنه مشرك مرتد عن الإسلام بل شركه أشد من شرك أهل الجاهلية فالحكم فيه وفي ذبائحه كالحكم فيهم أو أشد وقد أجمع المسلمون
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) سورة الأنعام الآية 118
(4) سورة الأنعام الآية 119
(5) سورة البقرة الآية 173(6/139)
على تحريم ذبائح الكفار غير أهل الكتاب وإن ذكروا عليها اسم الله لأن التسمية على الذبيحة نوع من العبادة فلا تصح إلا مع إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى لقوله سبحانه {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم.
ونشرت مجلة الدعوة في عددها رقم 697 يوم الاثنين الموافق 26 من جمادى الأولى عام 1399 هـ مقالا حول (اللحوم المستوردة) بقلم فضيلة الشيخ عبد العزيز الناصر الرشيد - رئيس هيئة التمييز.
نصه: (الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه. .
أما بعد: فقد وردت عدة أسئلة عن اللحوم التي ترد في علب ونحوها من الخارج، فأقدمت على الإجابة وإن كنت لست أهلا لذلك لقصر باعي وقلة اطلاعي فأقول وبالله التوفيق:
قال الله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) وهذه الآية العظيمة من آخر ما نزل. . تدل على إحاطة الشريعة وكمالها فلم تحدث حادثة ولن تحدث إلا والشريعة المحمدية قد أوضحت حكمها وبينته ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بين البيان المبين، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك (3) » . . وقال أبو ذر: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائر يقلب جناحيه في الهواء إلا ذكر لنا منه علما. . وقال العباس: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترك السبيل نهجا.
فهذه اللحوم المستوردة من الخارج والمحفوظة في علب أو نحوها قد بينت الشريعة الإسلامية حكمها غاية البيان.
فإن هذه اللحوم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يتحقق أنها من ذبائح أهل الكتاب، فهذه حلال بنص الكتاب والسنة والإجماع
__________
(1) سورة الأنعام الآية 88
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سنن ابن ماجه المقدمة (44) .(6/140)
ولم يقل بتحريمها أحد يعتد بخلافه قال الله سبحانه: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) . قال ابن عباس وغيره طعامهم ذبائحهم وهذا دون باقي الكفار فإن ذبائحهم لا تحل للمسلمين لأن أهل الكتاب يتدينون بتحريم الذبح لغير الله فلذلك أبيحت ذبائحهم دون غيرهم.
وروى سعيد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال لا تأكلوا من الذبائح إلا ما ذبح المسلمون وأهل الكتاب.
وفي حديث أنس «أن يهوديا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على خبز شعير وإهالة سنخة (2) » رواه أحمد والإهالة الودك والسنخة المتغيرة.
وحديث اليهودية التي أهدت النبي صلى الله عليه وسلم الشاة المصلية وثبت في الصحيح عن عبد الله بن مغفل قال أدلي جراب شحم يوم خيبر فاحتضنته وقلت لا أعطي اليوم من هذا أحدا والتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم «توضأ من مزادة مشركة وتوضأ عمر من جرة نصرانية» .
القسم الثاني: أن تكون هذه اللحوم من ذبائح غير أهل الكتاب كالمجوس والهندوس وعبدة الأوثان ونحوهم فهذه اللحوم حرام ولم يقل بإباحتها أحد يعتد به. ولما اشتهر قول أبي ثور بإباحتها أنكره عليه العلماء فقال الإمام أحمد: أبو ثور كاسمه، وقال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع وكل قول لا يؤيده الدليل لا يعتبر:
وليس كل خلاف جاء معتبرا ... حتى يكون له حظ من النظر
قال الله سبحانه: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (3) مفهومه أن غير أهل الكتاب لا تباح ذبائحهم.
وروى أحمد بإسناده عن قيس بن السكن الأسدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم نزلتم بفارس من النبط فإذا اشتريتم لحما فإن كان من يهودي أو نصراني فكلوا وإن كان من ذبيحة مجوسي فلا تأكلوا» . ولأن أهل الكتاب يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم كما ذكره ابن كثير وغيره بخلاف غيرهم. والمجوس وإن أخذت منهم الجزية تبعا لأهل الكتاب وإلحاقا بهم فإنهم لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم. وأما ما يروى «سنوا بهم سنة أهل الكتاب (4) » فلم يثبت بهذا اللفظ على أنه لا دليل فيه إذ المراد سنوا بهم سنة أهل الكتاب فيما ذكر من أخذ الجزية منهم ولو سلم بصحة
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/211) .
(3) سورة المائدة الآية 5
(4) موطأ مالك الزكاة (617) .(6/141)
هذا الحديث فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1)
القسم الثالث: أن لا يعلم هل هي من ذبائح أهل الكتاب أو غيرهم فالقواعد الشرعية تقضي بالتحريم فإن القاعدة الشرعية أنه إذا اشتبه مباح بمحرم حرم أحدهما بالأصالة والآخر بالاشتباه والقاعدة الأخرى إذا اجتمع مبيح وحاظر قدم الحاظر لأنه أحوط وأبعد من الشبهة والأدلة دلت على البعد عن مواضع الشبهة كما في الحديث: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات لا يعرفهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه (2) » .
وفي حديث الحسن بن علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (3) » رواه النسائي والترمذي وصححه ومما استدلوا به على التحريم في موضع الاشتباه حديث عدي رضي الله عنه «وإذا أرسلت كلبك المعلم فوجدت معه كلبا آخر فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره (4) » وفي رواية «إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله فإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل فإنك لا تدري أيهما قتله (5) » . متفق عليه.
أما هذه اللحوم فإنها وإن كانت تستورد من بلاد تدعي أنها كتابية فإنها حرام وميتة ونجسة فلا يجوز بيعها ولا شراؤها وتحرم قيمتها كما في الحديث «إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه (6) » وذلك لوجوه عديدة: أولا: أن هذه الدول في الوقت الحاضر قد نبذت الأديان وخرجت عليها وكون الشخص يهوديا أو نصرانيا هو بتمسكه بأحكام ذلك الدين أما إذا تركه ونبذه وراء ظهره فلا يعد كتابيا والانتساب فقط دون العمل لا ينفع. كما أن المسلم مسلم بتمسكه بدين الإسلام فإذا تركه فليس بمسلم ولو كان أبواه مسلمين فإن مجرد الانتساب لا يفيد. وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في نصارى بني تغلب إنهم لم يأخذوا من دين النصرانية سوى شرب الخمر.
قال الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله بعد كلام: وكون الرجل كتابيا أو غير كتابي هو حكم يستفيد بنفسه لا بنسبه فكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم سواء كان أبوه أو جده دخل في دينهم أو لم يدخل وسواء كان دخوله بعد النسخ والتبديل أو قبل ذلك وهو المنصوص الصريح عن أحمد وكان بين أصحابه خلاف وهو الثابت عن الصحابة بلا نزاع بينهم وذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم.
الثاني: أن ذبائح المذكورين الآن إما موقوذة أو مختنقة والمختنقة التي تخنق فتموت والموقوذة التي تضرب فتموت.
وقد قال الله سبحانه وتعالى
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(3) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .
(4) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5486) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن الترمذي الصيد (1470) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4272) ، سنن أبو داود الصيد (2847) ، سنن ابن ماجه الصيد (3208) ، مسند أحمد بن حنبل (4/257) ، سنن الدارمي الصيد (2002) .
(5) صحيح البخاري الوضوء (175) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن الترمذي الصيد (1470) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4263) ، سنن أبو داود الصيد (2847) ، سنن ابن ماجه الصيد (3208) ، مسند أحمد بن حنبل (4/377) ، سنن الدارمي الصيد (2002) .
(6) سنن أبو داود البيوع (3488) ، مسند أحمد بن حنبل (1/247) .(6/142)
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} (1) وقد تحقق أن هذه الدول الآن تقتل البهيمة إما بواسطة تسليط الكهرباء فتموت خنقا، وإما بضربها بمطرقة في مكان معروف لديهم فتموت حالا وهذا محقق عنهم لا يمتري فيه أحد فقد كتبت عنهم عدة كتابات في هذا الصدد.
فتحقق أن ذبائحهم ما بين منخنقة وموقوذة وهذه لا يمتري أحد بتحريمها فقد حرمها الله في كتابه وقرن تحريمها بتحريم الميتة والخنزير وما أهل به لغير الله وهذا غاية في التنفير والتحريم فلا يبيحها كون خانقها أو واقذها منتسبا لدين أهل الكتاب.
وقد صرح العلماء أن من شروط صحة الذبح الآلة، وللآلة شرطان أحدهما أن تكون محددة تقطع أو تخرق بحدها لا بثقلها وفي حديث عدي قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض فقال «ما أصاب بحده فكله وما أصاب بعرضه فهو وقيذ (2) » .
والثاني أن لا تكون سنا ولا ظفرا فإذا اجتمع هذان الشرطان في شيء حل الذبح به لقوله صلى الله عليه وسلم «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر (3) » متفق عليه.
وقال في المغني وأما الحل أي محل الذبح فالحلق واللبة وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر ولا يجوز الذبح في غير هذا المحل بالإجماع.
إن الله أباح ذبائح أهل الكتاب لأنهم يذكرون اسم الله عليها كما ذكره ابن كثير وغيره أما الآن فقد تغيرت الحال فهم ما بين مهمل لذكر الله فلا يذكرون اسم الله ولا اسم غيره أو ذاكر لاسم غيره كاسم المسيح أو العزير أو مريم ولا يخفى حكم ما أهل لغير الله به وفي سياق المحرمات {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (4)
وفي حديث علي «لعن الله من ذبح لغير الله (5) » الحديث رواه مسلم والنسائي أو ذاكر عليه اسم الله واسم غيره. أو ذابح لغير الله كالذي يذبح للمسيح أو عزير أو باسمهما فهذا لا يشك مسلم بتحريمه وأنه مما أهل به لغير الله، وذكر إبراهيم المروذي أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقريبا إليه، أفتى أهل بخارى بتحريمه لأنه مما أهل به لغير الله أ. هـ- فمن ذبح للصنم أو لموسى أو لعيسى أو غيرهما فكل هذا حرام ولا تحل الذبيحة سواء كان الذابح مسلما أو كافرا وبعضهم أباح هذه الذبائح مستدلا بقوله {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (6) وهذه ذبائحهم والصحيح ما ذكرنا لما أشرنا إليه من الأدلة ولا مخالفة حتى يطلب الجمع إذ ذبيحة الكتابي مباحة فلا تباح المنخنقة والموقوذة وما أهل به لغير الله لأن خانقها وواقذها وذابحها من أهل الكتاب.
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5475) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن الترمذي الصيد (1465) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4274) ، سنن أبو داود الصيد (2847) ، سنن ابن ماجه الصيد (3208) ، مسند أحمد بن حنبل (4/377) .
(3) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5509) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1491) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) ، سنن الدارمي الأضاحي (1977) .
(4) سورة البقرة الآية 173
(5) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(6) سورة المائدة الآية 5(6/143)
وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية بعد كلام في الجمع بين قوله {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (1) وقوله {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2) قال والأشبه بالكتاب والسنة ما دل عليه كلام أحمد من الحظر وإن كان من متأخري أصحابنا من لا يذكر هذه الرواية بحال وذلك لأن قوله {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (3) {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (4) عموم محفوظ لم تخص منه صورة بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب فانه يشترط له الذكاة المبيحة فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته ولأن غاية الكتابي أن تكون ذكاته كالمسلم والمسلم لو ذبح لغير الله وذبح باسم غير الله لم يبح وإن كان يكفر بذلك فكذلك الذمي لأن قوله {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (5) سواء وهم وإن كانوا يستحلون هذا ونحن لا نستحله فليس كل ما استحلوه يحل لنا ولأنه قد تعارض دليلان حاظر ومبيح فالحاظر أولى أن يقدم ولأن الذبح لغير الله أو باسم غيره قد علمنا يقينا أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام فهو من الشرك الذي أحدثوه فالمعنى الذي لأجله حلت ذبائحهم منتف في هذا والله أعلم أ. هـ.
وأما حكم متروك التسمية فقط عمدا أو سهوا فهذه المسألة الخلاف فيها شهير والحكم ولله الحمد واضح.
الرابع: أن موضع الذبح الاختياري معروف وهو في الحلق واللبة ولا يجوز في غير ذلك إجماعا وروى سعيد والأثرم عن أبي هريرة قال «بعث النبي صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقا يصيح في فجاج مكة ألا إن الذكاة في الحلق واللبة» رواه الدارقطني بإسناد جيد وروي عن أبي هريرة قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح فتقطع الجلد ولا تفري الأوداج (6) » رواه أبو داود. وروى سعيد في سننه عن ابن عباس رضي الله عنه قال إذا أهريق الدم وقطع الودج فكل إسناده حسن والودجان عرقان بالحلقوم.
وهذا معدوم في ذبائح المذكورين كما ذكرناه سابقا فلا تحل قال في مغني ذوى الأفهام: الثالث أن يقطع الحلقوم والمريء بالآلة فإن خنقها أو عصر رأسها بيده أو ضربها بحجر أو عصا على محل الذبح لم يحل أكلها.
الخامس: لو فرضنا أنه يوجد في تلك البلدان من يذبح ذبحا شرعيا ويوجد من يذبح ذبحا آخر كالخنق والوقذ فلا تحل للاشتباه كما هي قاعدة الشرع المعروفة ولحديث عدي المتقدم قال ابن رجب بعد كلام: وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان فلا تحل إلا بيقين حله من التذكية والعقد فإن تردد في شيء من ذلك لسبب آخر رجع إلى الأصل فبنى عليه فما أصله الحرمة بني على التحريم ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثر سهم أو كلب غير كلبه هـ.
__________
(1) سورة البقرة الآية 173
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) سورة البقرة الآية 173
(4) سورة المائدة الآية 3
(5) سورة المائدة الآية 5
(6) سنن أبو داود الضحايا (2826) ، مسند أحمد بن حنبل (1/289) .(6/144)
أما حديث عائشة أن أناسا يأتوننا باللحم ولا ندري أذكروا اسم الله عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم «سموا الله أنتم وكلوا (1) » أخرجه البخاري. فالجواب أن هؤلاء مسلمون ولكنهم في الحديث حديث عهدهم بالإسلام، وإنما أشكل هل يسمونه أم لا والتسمية سهلة بالنسبة إلى غيرها فإن المذكورين في حديث عائشة مسلمون والأصل في ذبحهم الإباحة، وكذلك فيما جلب من بلاد المسلمين كما هو معروف ومصرح به في كلام أهل العلم.
وهذا آخر ما أردنا إيراده في هذه العجالة وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .(6/145)
وسئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن حكم أكل اللحم الوارد من الخارج.
فقال هذا سؤال كثر التساؤل فيه وعمت البلوى به وحكمه يتبين بتحرير ثلاث مقامات:
المقام الأول: حل ذبيحة أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى.
المقام الثاني: إجراء ما ذبحه من تحل ذبيحته على أصل الحل.
المقام الثالث: الحكم على هذا اللحم الوارد بأنه من ذبح من تحل ذبيحته.
فأما المقام الأول فإن ذبيحة أهل الكتاب (اليهود والنصارى) حلال دل على حلها الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (1)
قال ابن عباس رضي الله عنهما: طعامهم ذبائحهم وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جبير والحسن وإبراهيم النخعي. ولا يمكن أن يكون المراد بطعامهم التمر والحب ونحوهما فقط لأن قوله طعام الذين أوتوا الكتاب لفظ عام فتخصيصه بالتمر والحب ونحوهما خروج عن الظاهر بلا دليل ولأن التمر ونحوه من الطعام حلال لنا من أهل الكتاب وغيرهم فلو حملت الآية عليه لم يكن لتخصيصه بأهل الكتاب فائدة.
وأما السنة فقد ثبت في صحيح مسلم ص 14 ج7 ط صبيح عن أنس بن مالك رضي
__________
(1) سورة المائدة الآية 5(6/145)
الله عنه «أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة وأكل منها فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عن ذلك فقالت أردت قتلك فقال ما كان الله ليسلطك على ذلك (1) » وفي مسند الإمام أحمد عن أنس أيضا «أن يهوديا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه (2) » والإهالة السنخة ما أذيب من الشحم والألية وتغيرت رائحته. وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال «كنا محاصرين قصر خيبر فرمى إنسان بجراب فيه شحم فنزوت لأخذه فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه (3) » وفي رواية لمسلم عنه قال «أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمته فقلت لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسما (4) » . فهذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره في حل ذبائح أهل الكتاب.
وأما الإجماع فقد حكى إجماع المسلمين على حل ذبائح أهل الكتاب غير واحد من أهل العلم منهم صاحب المغني ص567 ج8 ط دار المنار ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية قال ص232 مج35 من مجموع الفتاوى لابن قاسم ومن المعلوم أن حل ذبائحهم ونسائهم ثبت بالكتاب والسنة والإجماع وقال ما زال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائحهم فمن خالف ذلك فقد أنكر إجماع المسلمين أهـ ونقل الإجماع أيضا ابن كثير في تفسيره ص78 ج3 المطبوع مع تفسير البغوي.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا ص223-224 من المجلد السابق: بل الصواب المقطوع به أن كون الرجل كتابيا أو غير كتابي هو حكم مستقل بنفسه لا ينسبه وكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم سواء كان أبوه أو جده داخلا في دينهم أو لم يدخل وسواء كان دخوله قبل النسخ والتبديل أو بعد ذلك وهذا مذهب جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك والمنصوص الصريح عن أحمد وإن كان بين أصحابه في ذلك نزاع معروف وهذا القول هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم ولا أعلم في ذلك بين الصحابة نزاعا وقد ذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم أهـ كلامه رحمه الله.
وبهذا تحدد المقام الأول وهو حل ذبيحة أهل الكتاب (اليهود والنصارى) بالكتاب والسنة والإجماع فأما غيرهم من المجوس والمشركين وسائر أصناف الكفار فلا تحل ذبيحتهم لمفهوم قوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (5) فإن مفهومها أن غير أهل الكتاب لا يحل لنا طعامهم أي ذبائحهم ولأن الصحابة رضي الله عنهم لما فتحوا الأمصار امتنعوا عن ذبائح المجوس. وقال في المغني ص570 من الجزء السابق أجمل أهل العلم على تحريم صيد المجوسي وذبيحته إلا ما لا ذكاة له كالسمك والجراد وقال وأبو ثور أباح صيده وذبيحته وهذا قول يخالف الإجماع فلا عبرة به ثم
__________
(1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2617) ، صحيح مسلم السلام (2190) ، سنن أبو داود الديات (4508) ، مسند أحمد بن حنبل (3/218) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/211) .
(3) صحيح البخاري فرض الخمس (3153) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1772) ، سنن النسائي الضحايا (4435) ، سنن أبو داود الجهاد (2702) ، مسند أحمد بن حنبل (4/86) ، سنن الدارمي السير (2500) .
(4) صحيح البخاري فرض الخمس (3153) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1772) ، سنن النسائي الضحايا (4435) ، سنن أبو داود الجهاد (2702) ، مسند أحمد بن حنبل (5/55) ، سنن الدارمي السير (2500) .
(5) سورة المائدة الآية 5(6/146)
نقله عن أحمد أنه قال: لا أعلم أحدا قال بخلافه أي بخلاف تحريم صيد المجوسي وذبيحته إلا أن يكون صاحب بدعة أهـ. قال: وحكم سائر الكفار من عبدة الأوثان، والزنادقة وغيرهم حكم المجوس في تحريم ذبائحهم وصيدهم. لكن ما لا يشترط لحله الذكاة كالسمك والجراد فهو حلال من المسلمين وأهل الكتاب وغيرهم.
المقام الثاني: إجراء ما ذبحه من تحل ذبيحته على أصل الحل:
وهذا المقام له ثلاث حالات:
الحال الأول: أن نعلم أن ذبحه كان على الطريقة الإسلامية بأن يكون ذبحه في محل الذبح وهو الحلق وأن ينهر الدم بمحدد غير العظم والظفر وأن يذكر اسم الله عليه فيقول الذابح عند الذبح بسم الله، ففي هذه الحال المذبوح حلال بلا شك لأنه ذبح وقع من أهله على الطريقة التي أحل النبي صلى الله عليه وسلم المذبوح بها حيث قال صلى الله عليه وسلم «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس السن والظفر (1) » وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة رواه الجماعة واللفظ للبخاري وفي رواية له غير السن والظفر فإن السن عظم والظفر مدى الحبشة.
وطريق العلم بأن ذبحه كان على الطريقة الإسلامية: أن نشاهد ذبحه أو يخبرنا عنه من يحصل العلم بخبره.
الحال الثانية: أن نعلم أن ذبحه على غير الطريقة الإسلامية مثل أن يقتل بالخنق أو بالصعق أو بالصدم أو بضرب الرأس ونحوه أو يذبح من غير أن يذكر اسم الله عليه ففي هذه الحال المذبوح حرام بلا شك لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (2) وقوله تعالى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْق} (3) ولمفهوم ما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا (4) » .
وطريق العلم بأنه ذبح على غير الطريقة الإسلامية أن نشاهد ذبحه أو يخبرنا عنه من يحصل العلم بخبره.
الحال الثالثة أن نعلم أن الذبح وقع ولكن نجهل كيف وقع بأن يأتينا ممن تحل ذبيحتهم لحم أو
__________
(1) صحيح البخاري الشركة (2507) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1491) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) .
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سورة الأنعام الآية 121
(4) صحيح البخاري الشركة (2507) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1491) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) .(6/147)
ذبيحة مقطوعة الرأس ولا نعلم على أي صفة ذبحوها ولا هل سموا الله عليها أم لا ففي هذه الحال المذبوح محل شك وتردد ولكن النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي حله وأنه لا يجب السؤال تيسيرا على العباد وبناء على أصل الحل فقد سبق «أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الشاة التي أتت بها إليه اليهودية (1) » «وأنه أجاب دعوة يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة (2) » وفي كلتا القضيتين لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية الذبح ولا هل ذكر اسم الله عليه أم لا؟ وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها «أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن قوما أتونا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا فقال سموا عليه أنتم وكلوه قالت وكانوا حديثي عهد بالكفر (3) » \ فقد أحل النبي صلى الله عليه وسلم أكل هذا اللحم مع الشك في ذكر اسم الله عليه وهو شرط لحله \ وقرينة الشك موجودة وهي كونهم حديثي عهد بالكفر فقد يجهلون أن التسمية شرط للحل لقرب نشأتهم في الإسلام \ وإحلال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك مع الشك في وجود شرط الحل (وهي التسمية) وقيام قرينة على هذا الشك وهي كونهم حديثي عهد بالكفر دليل على إجراء ما ذبحه من تحل ذبيحته على أصل الحل لأن الأصل في الأفعال والتصرفات الواقعة من أهلها الصحة قال في المنتقى بعد أن ذكر حديث عائشة السابق: وهو دليل على أن التصرفات والأفعال تحمل على حال الصحة والسلامة إلى أن يقوم دليل الفساد أ. هـ.
وما يرد إلينا مما ذبحه اليهود أو النصارى غالبه مما جهل كيف وقع ذبحه فيكون تحرير المقام فيه إجراؤه على أصل الحل وعدم وجوب السؤال عنه.
المقام الثالث: الحكم على هذا الوارد بأنه من ذبح من تحل ذبيحته.
وهذا المقام له ثلاث حالات أيضا.
الحال الأولى: أن نعلم أن من ذبحه تحل ذبيحته وهم المسلمون وأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ففي هذه الحال المذبوح حلال بلا شك لوقوع الذبح الشرعي من أهله \ وطريق العلم بذلك أن نشاهد الذابح المعلومة حاله أو يخبرنا به من يحصل العلم بخبره أو يكون مذبوحا في محل ليس فيه إلا من تحل ذبيحته. الحال الثانية: أن نعلم أن من ذبحه لا تحل ذبيحته كالمجوس وسائر الكفار غير أهل الكتاب ففي هذه الحال المذبوح حرام بلا شك لوقوع الذبح من غير أهله \ وطريق العلم بذلك: أن نشاهد الذابح المعلومة حاله أو يخبرنا به من يحصل العلم بخبره أو يكون مذبوحا في محل ليس فيه من تحل ذبيحته.
الحال الثالثة: أن لا نعلم هل ذابحه من تحل ذبيحته أولا؟ وهذا هو الغالب على اللحم الوارد من الخارج فالأصل هنا لتحريم فلا يحل الأكل منه لأننا لا نعلم صدور هذا الذبح من أهله.
__________
(1) سنن أبو داود الديات (4510) ، سنن الدارمي كتاب المقدمة (68) .
(2) صحيح البخاري الرهن (2508) ، سنن الترمذي البيوع (1215) ، سنن النسائي البيوع (4610) ، مسند أحمد بن حنبل (3/238) .
(3) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5507) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .(6/148)
ولا يناقض هذا ما سبق في الحال الثالثة من المقام الثاني حيث حكمنا هناك بالحل مع الشك لأننا هناك علمنا بصدور الفعل من أهله وشككنا في شرط حله والظاهر صدوره على وجه الصحة والسلامة حتى يوجد ما ينافي ذلك بخلاف ما هنا فإننا لم نعلم صدور الفعل من أهله والأصل التحريم لكن إن وجدت قرائن ترجح حله عمل بها.
فمن القرائن:
أولا: أن يكون مورده مسلما ظاهره العدالة ويقول: إنه مذبوح على الطريقة الإسلامية فيحكم بالحل هنا لأن حال المسلم الظاهر العدالة تمنع أن يورد إلى المسلمين ما يحرم عليهم ثم يدعي أنه مذبوح على الطريقة الإسلامية.
ثانيا: أن يرد من بلاد أكثر أهلها ممن تحل ذبيحتهم فيحكم ظاهرا بحل الذبيحة تبعا للأكثر إلا أن يعلم أن المتولي للذبح ممن لا تحل ذبيحته فلا يحكم حينئذ بالحل لوجود معارض يمنع الحكم بالظاهر.
قال في المنتهى وشرحه: ويحل حيوان مذبوح منبوذ بمحل يحل ذبح أكثر أهله بأن كان أكثرهم مسلمين أو كتابيين ولو جهلت تسمية ذابح أ. هـ.
وإذا كان الحل في هذا الحل مبنيا على القرائن فالقرائن إما أن تكون قوية فيقوى القول بالحل وإما أن تكون ضعيفة فيضعف القول بالحل وإما أن تكون بين ذلك فيكون الحكم مترددا بين الحل والتحريم.
والذي ينبغي حينئذ سلوك سبيل الاحتياط واجتناب ما يشك في حله لقول النبي صلى الله عليه وسلم «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه (2) » وفي رواية «ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان (3) » متفق عليه.
والله الموفق وصلى الله علي نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. مهره الفقير إلى الله: محمد صالح العثيمين.
__________
(1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2051) .(6/149)
ثالثا: ذكر ما ورد إلى هذه الرئاسة عن كيفية تذكية الحيوانات المستوردة من بلاد الكفار إلى المملكة السعودية.
نثبت تحت هذا العنوان ما ورد إلى هذه الرئاسة من معالي وزير التجارة والصناعة وما ورد إليها من معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في الموضوع ثم ما ورد من الدعاة المبعوثين للدعوة في تلك البلاد عن كيفية التذكية فيها، ثم ما كتبه بعض أهل الغيرة في المجلات الإسلامية عن كيفية الذبح في تلك البلاد.
أ - كتب سماحة نائب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ كتابا برقم 2029 \ 1 في 23 \ 5 \ 1393هـ إلى معالي وزير التجارة والصناعة يستفسر فيه عن كيفية ذبح اللحوم المستوردة هل هو بالصعق الكهربائي أو بالخنق.
فأجاب معالي الوزير بما نصه:
سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الموقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . نشير إلى خطابكم رقم 3745 وتاريخ 20 \ 8 \ 93هـ المعطوف على سابقه رقم 2029 \ 1 في 23 \ 5 \ 93هـ الذي تستفسرون فيه عن كيفية الذبح هل بالصعق الكهربائي أو بالخنق أو بالمقصلة وكذلك أنواع اللحوم المستوردة معلبة وغير معلبة.
نفيد سماحتكم أنه بناء على تفصي هذه الوزارة من المصادر العديدة اتضح لها أن اللحوم المستوردة إلى المملكة والتي ترد من بلدان مختلفة يتم الذبح فيها بالطرق التالية:
(1) هنغاريا: ذبح الطيور الداجنة والأبقار المصدرة للدول العربية يتم حسب التعاليم الإسلامية وأن كل إرسالية معدة للتصدير مرفقة بما يسمى (شهادة حلال) وأن هنغاريا تقوم بتصدير مسالخ كاملة معدة للعمل حسب التعاليم الإسلامية.(6/150)
(2) الدانمرك: ذبح الكميات الكبيرة من الأبقار والطيور الداجنة يتم بواسطة آلالات وذلك في مسالخ عدة ويتم الذبح حسب التعاليم الإسلامية بالنسبة للمصدر للدول الإسلامية.
(3) الولايات المتحدة الأمريكية: للذابح أربع طرق كيميائية (1) بواسطة أكسيد الكربون، (2) ميكانيكية بواسطة آلة حادة، (3) ميكانيكية بواسطة قذيفة نارية، (4) كهربائية بواسطة التيار الكهربائي - وهذه الطرق لا تتبع إلا بعد نزف دم من الحيوان.
(4) هولندا: الطيور تصعق بتيار كهربائي ثم يتم ذبحها من العنق.
(5) بلجيكا: تتعرض الحيوانات المعدة للاستهلاك لعملية فقد الوعي قبل إسالة دمائها إما عن طريق التيار الكهربائي أو عن طريق آلات حادة أو مسدسات خاصة.
(6) ألمانيا الغربية: الطيور المعدة للذبح تبقى 24 ساعة قبل ذبحها في حالة استرخاء وراحة تعطى خلالها ماء للشرب ثم تتعرض قبل إسالة الدماء منها خلال أوردتها إلى عملية إفقاد الوعي عن طريق التيار الكهربائي أو الغازات الخاصة أو الأدوات الحادة.
(7) السويد: المواشي المعدة للذبح تستريح لمدة 24 ساعة قبل الذبح ثم يتم إفقادها الوعي (لأسباب إنسانية لا علاقة لها بجودة اللحم) بواسطة آلة حادة (مسدس) فتصعق تمهيدا لعملية إخراج الدم منها بواسطة ضربها بآلة حادة (سكين) .
(8) بلغاريا: ذبح الطيور والمواشي يتم حسب الطريقة الإسلامية بموجب شهادة خاصة من السلطات الإسلامية يتم إصدارها لكل شحنة.
ونقترح إيفاد ثقات من أصحاب الفضيلة العلماء لزيارة الدول التي يوجد بها مصانع لإعداد اللحوم المستوردة بأنواعها للوقوف على حقيقة الذبح ولتقرير أيها يمكن التعامل معه وربما يرى سماحتكم أن تكون هذه الزيارة متعددة للتأكد من استمرار تلك المصانع باتباع الطريقة الإسلامية في الذبح.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وزير التجارة والصناعة
محمد العوضي(6/151)
وكتب سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز كتابا برقم 737 \ 2 في 28 \ 3 \ 98هـ إلى معالي وزير التجارة(6/151)
والصناعة بشأن اللحوم المستوردة من بلاد الكفار فأجابه معالي الوزير بما نصه:
صاحب المعالي فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . وبعد
إشارة لخطاب معاليكم رقم 737 \ 2 في 28 \ 3 \ 98 بشأن اتصالات بعض الناس بكم حول وجود كميات من اللحوم ترد البلاد من بعض الدول الاشتراكية وما ذكرتموه من أن ذبيحة الشيوعيين وغيرهم من الكفار غير أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى حرام على المسلمين، أرجو إحاطة معاليكم أن الأجهزة المختصة في هذه الوزارة وفي مصلحة الجمارك تحرص دائما على التثبت من صحة شهادات الذبح على الطريقة الإسلامية وكونها مصدقة من سفارات المملكة إن وجدت أو سفارات الدول الإسلامية الأخرى. كما أن هذه السفارات على معرفة بالجهات التي تصدر هذه الشهادات سواء كانت جمعيات إسلامية أو مؤسسات فردية معترف بها كما لا يخفاكم أن البلدان التي ذكرتموها فيها الكثيرون من أهل الكتاب ومن المسلمين على الرغم من أن نظامها السياسي نظام ماركسي بل إن المعلومات التي لدى الوزارة تدل على أن الكثير من الأتراك المسلمين يقومون بالذبح في هذه البلدان.
ولا يخفى معاليكم أن هذه البلدان عندما توفر الذبح على الطريقة الإسلامية فإنما تفعل ذلك حرصا على تصريف منتجاتها في العالم الإسلامي الواسع ولحاجتها الماسة إلى العملة الصعبة ولأنهم يدركون أن لهم منافسين من بلدان أخرى يعملون عادة على الكتابة للجهات الرسمية في البلدان الإسلامية لاستشارتهم ضد منتجاتهم عن طريق التشكيك بطريقة الذبح.
وأود بهذه المناسبة أن أؤكد لمعاليكم بأن هذه الوزارة حريصة على أن يهنأ المواطنون المقيمون بطعامهم لا عن طريق التأكد من توافر الشروط الصحية والذي تهتم به مختبرات الجودة النوعية بالتعاون مع وزارة الزراعة فقط وإنما كذلك بالحرص على توافر الشروط الشرعية في الذبح، وفي نفس الوقت يقع على عاتق هذه الوزارة تأمين أكثر ما يمكن من مصادر السوق العالمية لرجال الأعمال السعوديين لتوفير جو المنافسة ومنع حدوث نقص في المعروض من المواد الغذائية وخاصة اللحوم وهو الأمر الذي حدث قبل سنوات قليلة عندما كان اعتماد المملكة كليا تقريبا على الصومال فكانت النتيجة حدوث نقص في المعروض من الأغنام والأبقار والإبل وعندما أصيب ذلك البلد بالجفاف.
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه إنه سميع مجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وزير التجارة
سليمان السليم(6/152)
ب - وكتب معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الشيخ محمد الحركان كتابا إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء في موضوع اللحوم المستوردة نصه:
سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض - الموقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . وبعد:
فيطيب لي أن أبعث لسعادتكم بخالص التحية وأطيب الأمنيات، كما أود أن أحيطكم علما بأنه قد وردت إلينا عدة تقارير رسمية وغير رسمية تفيد بأن بعض الشركات الأسترالية التي تصدر اللحوم للأقطار الإسلامية وخاصة شركة (الحلال الصادق) التي يملكها القادياني (حلال صادق) لا تتبع الطريقة الإسلامية في ذبح المواشي (الأبقار والأغنام والطيور) وحرصا من الأمانة العامة للرابطة على تطبيق الشريعة الإسلامية في هذا الموضوع فقد قررنا التعاون مباشرة مع الاتحاد الأسترالي للجمعيات الإسلامية المدون عنوانه أدناه ليقوم بالإشراف الكامل على جميع المذابح وإعطاء شهادات معتمدة للشركات المصدرة للحوم وختمها بخاتمه الرسمي.
لهذا نأمل التكرم بالإيعاز إلى الجهات المختصة والغرف التجارية في بلادكم الشقيقة للتعاون معنا وأخذ الحيطة لعدم دخول أية لحوم مستوردة من هذا البلد إلا عن طريق وبشهادة الاتحاد المذكور ضمانا لشرعية الذبح وتفاديا لعدم الوقوع في أخطاء مع تعاليم الإسلام.
أسأل المولى أن يوفقنا جميعا لما يحب ويرضى.
والله يحفظكم،،،
الأمين العام
محمد علي الحركان(6/153)
ج- ورد إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد تقارير من المبعوثين من قبل الرئاسة للدعوة في الخارج عن اللحوم المستوردة من بلاد الكفار نورد فيما يلي نصوصها ثم تلخيصها ثم ننتقل بعد ذلك إلى الحكم عليها على ضوء ما عرف من القواعد الشرعية في تذكية الحيوانات.(6/154)
(1) تقرير من الداعية الأستاذ أحمد بن صالح محايري عن اللحوم المستوردة من البرازيل إلى المملكة السعودية نصه:
تقرير في كيفية ذبح الطيور والمواشي الواردة إلى المملكة من البرازيل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
معالي الرئيس العام العلامة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز المحترم حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . وبعد
فتنفيذا لما جاء في رسالة سماحتكم السرية رقم 3442 \ 4 وتاريخ 21 \ 6 \ 1398هـ بشأن التحري عن كيفية ذبح الطيور والمواشي الواردة إلى المملكة فيشرفني أن أرفع لمعاليكم ما يلي:
قمت في الفترة الواقعة ما بين 14 رجب (20 حزيران) 1398هـ إلى (30 من رجب 98) في جولة بطريق البر إلى سبع مدن برازيلية فيها شركات مصدرة للحوم والدواجن وهذه المدن هي:
كورتيبا - وتبعد عن لوندرينا 450 كيلومترا.
بونطاكروسا - وتبعد 210 كيلومترا.
وكامبوكراندي وتبعد 750 كيلومترا.
وكويابا وتبعد 1250 كيلومترا.
وغويانا وتبعد 110 كليومترا.
وبروذينتي برودينتي وتبعد 250 كيلومترا.
وسان جوزيف وتبعد 375 كيلومترا.
ومع أنني اتصلت بكافة الشركات المصدرة للحوم في هذه المدن واطلعت على كيفية الذبح فيها(6/154)
إلا أنني أقتصر في تقرير هذا - إن شاء الله- على الكلام عن الشركات الموردة للمملكة العربية السعودية وعن ملاحظاتي واقتراحاتي على ضوء ما وصلت إليه من معلومات خلال جولتي هذه.
شركة برنسيسا للدجاج والدواجن:
ومكانها في مدينة بونتا كروسا بولاية بارانا في البرازيل.
تقوم هذه الشركات بتربية الدواجن في مزارعها الخاصة وتذبح ما ينوف عن (150) طن في الشهر وتقوم بتغليفها وتصديرها إلى عدة بلدان عربية كمسقط وعمان والكويت والمملكة العربية السعودية وذلك عن طريق شركة بتروبراز البرازيلية وذلك ضمن أكياس نايلون وكراتين كتب عليها باللغة العربية - ذبح على الطريقة الإسلامية. (وقد أدرجت طيه أحد الأكياس للإحاطة) .
ولما طلبت وزارة التجارة في بعض الدول الإسلامية من المستوردين أن يكون مع أوراق الاستيراد ما يثبت أن اللحم المورد ذبح على الطريقة الإسلامية قامت الشركة المذكورة بالاتصال برئيس الجمعية الإسلامية في مدينة كورتيبا القريبة منها، والمدعو حسين العميري واتفقت معه أن يشهد خطيا عند كل شحنة أن الذبح جرى وتم على الطريقة الإسلامية وذلك لقاء نسبة 1% من قيمة الشحن تدفعها الشركة للمذكور لقاء شهادته هذه.
(وتجدون طيه صورة لإحدى الشهادات التي يوقعها المذكور باللغتين العربية والبرتغالية) .
في 14 رجب 1398هـ توجهت من لوندرينا لهذه الشركة مارا بمدينة كورتيبا أآصطحب معي في الزيارة حسين العميري رئيس الجمعية وفعلا وصلت إلى مقر الشركة بصحبته في مدينة بونتا كروسا فبعد أن رحب بنا المسئولون طلبت مشاهدة عملية الذبح وفعلا فقد رأيت بنفسي ما يلي:
تعلق الطيور (في هذه الشركة) من أرجلها حية منكوسة الرأس على آلة متحركة تسوقها إلى مكان فيه رجل قائم بسكينة يقطع بها وريد كل دجاجة قادمة ويبالغ في السرعة ليتمكن من قطع وريد الطير الذي يليه وهكذا. . . ونفس الآلة تسوق الطير المعلق بعد عملية الذبح إلى مكان فيه ماء ساخن لتغمسه فيه كي يتم نتفه وتنظيفه وتعبئته بالأكياس النيلون الآنفة الذكر.
والمحظور في عملية الذبح المذكورة أنه لا يتحقق في الغالب قطع الوريدين لعامل السرعة المفروضة على الذابح كما أن الدجاج المذبوح يغمس في الماء المغلي بعد مدة وجيزة من الذبح قد لا يكون الطير خلالها قد فارق الحياة كما يجب التأكد من عقيدة الذابح هل هو(6/155)
كتابي أم وثني؟
بعد خروجنا من المسلخ عقدت اجتماعا من مدير وأعضاء الشركة المذكورة وبينت لهم المحاذير الشرعية التي لاحظتها في طريقة الذبح وشرحت لهم كيفية الذبح الإسلامي وطلبت منهم تطبيقه وخاصة بالنسبة للكميات التي تصدر إلى البلاد الإسلامية.
فقال لي مدير الشركة ما يلي:
إن شركتنا على استعداد تام لتعديل عملية الذبح كي تصبح على الشريعة الإسلامية تماما كما يمكننا إجراء تعديل آلات الذبح نفسها وتوظيف رجل مسلم يقوم بعملية الذبح بنفسه ولكن لا يتحقق هذا الأمر إلا بناء على طلب مسبق يبين الكمية اللازمة للتصدير وعلى ضوئه يمكننا تعديل الأمر حسب الشريعة الإسلامية.
وبعد أن غادرنا مكتب الشركة بينت بحكمة ووضوح لرئيس الجمعية خطأه في التوقيع على أن عملية الذبح تمت على الشريعة الإسلامية وطلبت منه الإقلاع عن ذلك الأمر بالكلية ريثما يشرف بنفسه، أو يوظف من يشرف على عملية الذبح لتكون على الطريقة الإسلامية. . فوعدني خيرا والله أعلم.
سادسا: شركة أويسته للبقر والدواجن:
من أكبر الشركات العالمية للحوم والبقر والدواجن ولها ما ينوف عن عشرين فرعا في الولايات البرازيلية وتصدر إلى المملكة العربية السعودية ودول الخليج ولها مذابح حديثة في كل من سان باولو وكويابا، وبورت إليكري وكامبوكراندي، والريو دي جنيرو.
ويبلغ تصدير هذه الشركات من الطيور فقط نحو 300 طن في الشهر وتحصل على شهادات خطية أن الذبح على الشريعة الإسلامية من بعض الجمعيات الإسلامية في سان باولو وأشهرها جمعية السانتوامارو الإسلامية والجمعية الخيرية الإسلامية لقاء مساعدة مالية تدفعها الشركة للجمعيتين الموقعتين.
وتختلف طريقة ذبح الدواجن في هذه الشركة عن الشركة الآنفة الذكر أعني شركة برنسيزا أن الأولى تذبح الطير المعلق من قدمه في الآلة المتحركة بطريقة أكثر تؤدة مما يجعل قطع الوريدين قد(6/156)
يتحقق في الغالب ولكن المحظور يبقى قائما وهو أن الآلة تغمس الذبيحة في الماء الساخن المغلي في الغالب قبل أن تفارق الروح، كما ليس من المؤكد في هذه الشركة أن يكون الذابح كتابيا.
هذا فيما يتعلق بذبح الدواجن في هذه الشركة أما فيما يتعلق بذبح الأبقار وتصديره إلى المملكة بواسطة هذه الشركة ساديا فأرفع لمعاليكم ما يلي:
في يوم الأحد 20 رجب الموافق 25 حزيران 98 سافرت إلى مدينة كويابا مارا بمدينتي بريزيدنتي وكامبو كراندي وفي يوم الخميس 24 رجب 29 حزيران 98 ذهبت بصحبة رئيس الجمعية الإسلامية في مدينة كويابا الأستاذ خالد القرعاوي مع سكرتير الجمعية الأخ فيصل فارس لزيارة هذه الشركة وبعد أن عقدنا اجتماعا مع مدير الشركة المدعو إديسون جواو فرانسيكون ولفيف من المسئولين وبينت لهم في الاجتماع محاسن الذبح على الطريقة الإسلامية، فأخبرني مدير الشركة بأن الشركة كانت تصعق بالكهرباء الذبائح وتقوم بسلخها بعد ذلك دون أن يخرج الدم إلا أن الشركة اكتشفت بأن اللحوم التي تذبح بطريقة الصعق الكهربائي سريعا ما تفسد ولو كانت في الثلاجات وسريعا ما تغير لونها إلى رمادي قاتم حتى أوصى الأطباء البيطريون العاملون في الشركة بوجوب قتل الذبيحة بطريقة يخرج فيها كل الدم فقاطعته قائلا: والدم لا يخرج من الذبيحة كلية إلا إذا مر من الوريدين بقطعهما وليس من مكان آخر فقال وهكذا نفعل هنا، إذ نذبح يوميا (1500) ألف وخمسمائة رأس بقر للتصدير فطلبت منه أن أرى بنفسي طريقة الذبح فألبسونا ألبسة خاصة وأدخلونا إلى المسلخ وهو مكان فسيح جدا مقسم إلى أقسام وعند المدخل يساق الثور إلى مكان ضيق ثم يغلق عليه بطريقة لا يستطيع الخلاص ثم يقوم أحدهم بمطرقة في يده بضرب رأس الثور ضربة غير مميتة بقصد أن يغيب الثور عن وعيه ليمكن السيطرة عليه أثناء الذبح وفعلا يسقط الثور على الأرض وفي نفس الثانية واللحظة تتناول قدمه رافعة ترفعها أتوماتيكيا إلى الأعلى ورأسه منكس في الأسفل فيأتي رجل بسكين فيشق حلق الرقبة ليصل إلى الوريد ثم يبدل السكين بمدية أكبر ويقطع الوريد فينزل الدم بغزارة وكأنه ينزل من صنبور إلى أن يفارق الحياة.
والمهم في هذه الطريقة أن تثار مسألة هذه الضربة الغير مميتة قبل الذبح أتقاس في الجواز على صيد الحيوان الشارد الآبق الذي لا يمكن السيطرة عليه؟ وهل يجوز شق الرقبة قبل الذبح أعني قبل قطع الوريدين ثم إن الذي يباشر عملية الذبح كتابي أو وثني؟
ولما طلبنا من مدير الشركة أن يطلعنا على كيفية حصولهم على الشهادة الخطية التي تشهد بأن الذبح تم على الطريقة الإسلامية قال: نحصل عليها من بعض الجمعيات الإسلامية في سان باولو فقلت له: وكيف ذلك وبينكم وبين سان باولو (1800) كيلومترا.(6/157)
الشركة الأرجنتينية للأغنام:
أثناء وجودي في مدينة بوينس أيرس عاصمة الأرجنتين مع فضيلة الشيخ صالح المزروع والدكتور أحمد باحفظ أثناء جولتنا على دول أمريكا اللاتينية قمنا بزيارة الشركة الأرجنتينية للأغنام التي تصدر لحم الغنم معلبا، ومهروسا، ومقطعا إلى المملكة العربية السعودية.
وفي صباح الخميس 10 ذي القعدة 1398هـ توجهنا بصحبة وفد من المركز الإسلامي الأرجنتيني إلى مقر الشركة واطلعنا على كيفية ذبح الأغنام فوجدنا أن آلة تعلق الأغنام إلى أعلى ويقوم رجل بسكين حادة ليذبح رأس الذبيحة تماما على الشريعة الإسلامية لأنه يقطع الوريدين والمريء معا.
إلا أن الأمر لنعته ذبحا شرعيا متوقف على الذابح أكتابي هو أم لا ويقوم المركز الإسلامي الأرجنتيني بتقديم شهادة خطية على أن الذبح جرى على الطريقة الإسلامية عند كل شحنة مصدرة وطيه تجدون نموذجا من الشهادات التي يصدرها المركز المذكور أدرجها طيه للتكرم بالإحاطة.
الشركة الدانماركية للحوم:
وهذه الشركة الدانماركية بأوربا وليست في البرازيل ولكن إتماما للفائدة أدرج طيه قصاصة من مجلة (الوطن العربي) التي تصدر عن الجالية العربية في فرنسا، باريز باللغة العربية في القصاصة مقابلة أجرتها الصحيفة مع أحد العمال العرب في الدانمرك المدعو محمد الأبيض المغربي الذي يعمل في مصنع لتعليب اللحوم فيقول عن اللحوم والدواجن المصدرة إلى البلاد العربية: إنهم يكتبون عليها ذبحت على الطريقة الإسلامية وهذا غير صحيح لأن القتل يتم كهربائيا في كل الحالات.
سيدي الرئيس العام
بعد أن عرضت على معاليكم صورة من عملية الذبح في البرازيل يشرفني أن أرفع أن المركز(6/158)
الإسلامي في برازيليا الذي تم تأسيسه بعضوية السفراء العرب والمسلمين والذي ليس له حتى الآن منفذ معتمد أو مدير دائم، هذا المركز الإسلامي الذي بنى مدرسة للمسلمين في برازيليا وسرعان ما أغلقها ثم سلمها دون قيد أو شرط لبعض البرازيليين ليفتحها مدرسة برازيلية- نعم برازيلية المنهج والإدارة- وذلك لفشله في اتخاذ ولو قرار واحد فيما يتعلق بالمسلمين بالمنطقة.
هذا المركز الإسلامي قد اتخذ قرارا ليشرف بنفسه على عملية الذبح وهذه خطوة لو تحققت فإنها جيدة ولكن كيف يشرف وبينه وبين أماكن الذبح مئات الأميال وليس عنده موظفون ليستخدمهم في هذا. . .
لذا أقترح أن يصلكم عن طريق وزارة التجارة السعودية أسماء الشركات الموردة للحوم وعناوينها وأسماء المستوردين وذلك لتعميد مبعوثكم للدعوة في تلك البلاد بزيارة الشركات الموردة لدراسة إمكانية ترشيح مسلم مقيم في تلك المدينة مستعد ليذبح بنفسه أو تحت إشرافه لقاء جعل يكفيه للتفرغ لهذا على أن تدفع هذا الجعل الشركة نفسها أو المورد وفي هذه الحالة يشهد مبعوثكم وتحت مسئوليته أن الذبح قد تم بمعرفته وإشراف (فلان) الذي اعتمد للتفرغ والإقامة في مكان الذبح. وبذلك تتوحد الجهود المبذولة وتصبح الرئاسة هي المعتمدة إن شاء الله للإشراف على جميع أعمال الذبح.
علما بأن العدو الإسرائيلي يرسل دوريا مبعوثين من قبله- يهودا- إلى البلاد الموردة للحوم ليذبحوا بأنفسهم ويقيموا بصورة دائمة في أماكن الذبح بأجر يتقاضونه من الشركة الموردة.
وقد وصلت مجموعات منهم إلى سان باولو والريو دي جنيرو وكورتيبا وبعض المدن البرازيلية الأخرى لهذا الغرض. كما يوجد في الأرجنتين عناصر يهودية مقيمة لهذا الغرض تتقاضى رواتبها من الشركات الموردة.
والله أعلم. . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. . والله ولي التوفيق.
تلميذكم الداعية
أحمد صالح محايري
يتلخص التقرير فيما يلي
طريقة شركة برنسيسا في ذبح الدجاج
1 - يعلق الدجاج من أرجله بآلة تسير به إلى رجل بيده سكين يقطع به رقابها بسرعة بالغة(6/159)
وتمشي بها الآلة إلى ماء ساخن تعمس فيه لينتف ريشها وتنظف ثم تعد للتصدير.
2 - قد يقطع أحد الوريدين دون الآخر، وقد يغمس الدجاج في الماء الساخن قبل انتهاء موته لزيادة سرعة الذابح وسرعة سير الآلة.
3 - أشك في الذابح هل هو مسلم أو كتابي أو وثني أو ملحد.
4 - يكتب على الغلاف ذبح على الطريقة الإسلامية ويصدق على ذلك من لم يشاهد الذبح بنفسه ولا بنائب عنه ويأخذ على ذلك أجرة وذلك بناء على طلب وزارة التجارة من المستوردين كتابة ما يثبت أن الذبح إسلامي.
5 - طلبت من مدير الشركة تعديل طريقة الذبح حتى يكون إسلاميا فوافق على شرط أن نبين له الكمية اللازمة أولا.
طريقة الذبح في شركة ساديا أويسته 1 - طريقتها في ذبح الدجاج كطريقة الشركة السابقة في تعليقها من أرجلها وغسلها بسرعة بماء ساخن يغلي قبل انتهاء حياتها وكتابه ذبح على الطريقة الإسلامية والتصديق عليها من جمعيتين إسلاميتين بأجرة إلا إن الذبح بتؤدة بشق الجلد أولا ثم قطع الوريدين غالبا وهل الذابح كتابي أو وثني.
2 - أما الأبقار فكانت أولا تصعق بكهرباء ثم تسلخ دون أن يخرج منها دم ولما بين لهم الأطباء ما في بقاء الدم من الخطر صاروا يضربونها ضربة غير مميتة بمطرقة في رأسها فإذا سقطت علقت من أرجلها بآلة رافعة ثم يشق جلد الرقبة ثم يقطع الوريد بسكين آخر وينزل الدم بغزارة إلى أن يفارق الحياة.
أما حال الذابح والشاهد فكما مضى في ذبح الدجاج.
طريقة الشركة الأرجنتينية في ذبح الأغنام
1 - هناك آلة ترفع الأغنام إلى أعلى ويقطع رجل الوريدين والمريء بسكين على الطريقة الإسلامية.(6/160)
2 - يكتب الشهادة المركز الإسلامي الأرجنتيني.
3 - لم يعرف حال الذابح.
طريقة الشركة الدانماركية للحوم يقول محمد الأبيض الذي يعيش في الدانمارك ويعمل في مصنع لتعليب اللحوم أنهم يصعقون الأغنام بالكهرباء على كل حال يكتبون على صناديقها مذبوحة على الطريقة الشرعية.
* أقترح إرسال من يذبح ذبحا شرعيا أو يشرف على الذبح، فإن اليهود يفعلون ذلك محافظة على موافقة الذبح لما يرونه، ونحن أولى بذلك.(6/161)
تقرير من الشيخ عبد الله بن علي الغضيه مرشد الرئاسة بالقصيم عن اللحوم المستوردة من لندن وفرنسا نصه:
أما عن موضوع الدجاج المستورد وذبحه فقد حاولت في لندن التعرف على طريقة الذبح فاتصلت بمدير شركة مكائن الذبح متظاهرا إني أريد إقامة مصنع ذبح دجاج في المملكة فأعطاني كتلوجا مصورا عن المصنع الذي تنتجه شركتهم فلما قام يشرح لي كيفية العملية قلت له إن الدجاجة ظهرت لجهاز التغليف دون قطع رأسها فسألني مستفهما ولماذا قطع الرأس فقلت إننا في الشرق الأوسط لا نأكل رؤوس الطيور وأرفق لسماحتكم صورة فوتغرافية للمصنع وفيه أولا تقف السيارة عند باب المصنع كما يتضح لكم في الرسم المترجم ثم ينزل الدجاج فيعلق بأرجله ثم يمر بآلة مستديرة تنفتح مع النصف فيدخل به رأس الدجاجة ومكتوب عليه الذبح بطريقة التدويخ لأنه يضرب رأس الدجاجة هواء شديد الانفجار فتصبح الدجاجة بعد لا تسمع ولا ترى وتنتظر الموت بعد لحظات ثم تمر بجهاز آخر يقطر فيه إن ظهر منها سائل دم أو غيره بعده تمر على جهاز يعمل بالبخار أو الماء الحار جدا وفيه تموت إن كان بها حياة وتخرج منه لأجهزة النتف والتنظيف إلى أن تخرج لأكياس النايلون ثم للكرتون الذي كتب اللغة العربية ذبح على الطريقة الإسلامية وهذا المصنع صغير وينتج(6/161)
في الساعة ألفين دجاجة 2000 ويقول من سألت إن في فرنسا نفس الطريقة إلا أنهم يزيدون أن الدجاج إذا اكتمل نموه فإنهم يضعونه في مستودعات شديدة البرودة ويسحب منها حسب طلب الأسواق وبالطبع تخرج الدجاجة من هذه المستودعات ميتة ثم توضع في برك حارة استعدادا للنتف والتصدير وهذا لم أره إنما ذكره بعض من سافر لفرنسا وأمريكا وأتمنى لو انتدب أحد لغرض الاطلاع ونقل الحقيقة وباطلاع سماحتكم على صور المصنع يتضح لكم منه ما ذكرت أسأل الله أن يكفينا بحلاله عن حرامه وأن يصلح أحوال المسلمين وأن يصلحهم حكاما ومحكومين والله يحفظكم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(6/162)
ثم نشرت مجلة الدعوة السعودية مقالا في عددها676 بتاريخ 27 من ذي الحجة 1398 تحت عنوان معلومات عن الدجاج المستورد جاء فيه ما نصه.
الحمد لله الذي أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث والصلاة والسلام على هادي الخلق إلى الحق نبينا محمد وآله وصحبه الطيبين.
اطلعت على مقال الشيخ الأخ عبد الرحمن بن محمد الإسماعيلي المنشور في مجلة الدعوة عدد 668 بتاريخ 16 شوال 1398 هـ بعنوان لئلا نأكل حراما وإنني إذ أشكره لا يفوتني أن أشكر القائمين على شأن مجلة الدعوة التي تصدر بالرياض عاصمة المملكة العربية السعودية أعزها الله بطاعته.
أضم صوتي مع الشيخ عبد الرحمن ومع كل المسلمين الذين أصبحوا في حيرة من هذه اللحوم المستوردة التي ملأت أسواقنا.
فإذا ما ذهب أحدنا إلى علمائنا الأجلاء مستفتيا عن هذه الذبائح من الدجاج وغيرها كان جوابهم محيرا فتارة يقولون طعام أهل الكتاب حل لنا وهذا صحيح كما هو نص القرآن لكن يبرز سؤال آخر وهل بقي الآن أحد على كتابه من اليهود والنصارى.
فإن وجد يهودي أو نصراني فهل يحل للمسلم أن يأكل ذبيحته كيفما ذبحها إذ أنه من المعروف أن طرق الذبح قد تنوعت وأصبح بعضها لا يوافق الطريقة الشرعية للذبح من إراقة الدم وقطع الودجين وتوجيه الذبيحة إلى القبلة. . . إلخ القواعد الشرعية المنصوص عليها.(6/162)
وهناك بعض العلماء إذا سئل عن الدجاج مثلا قال سم الله وكل مستدلا بحديث عائشة رضي الله عنها جاء فيه: «إن أناسا قالوا يا رسول الله إن قوما حديثي العهد بجاهلية يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا فقال سموا أنتم وكلوه (1) » رواه البخاري وغيره (2) .
ففي هذا الحديث الشريف لم يكن هناك شك إلا هل ذكر اسم الله أم لا وإلا فالذبح شرعي لا شك في ذلك.
مع أن معظم العلماء من السلف والخلف لا يجيز أكل ما لم يذكر اسم الله عليه مستدلين بقول الله تعالى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (3) الأنعام.
وهذا مع الذكر أما إن ذبح ونسي أن يذكر الله غير عامد لذلك فقد ورد تفصيل ذلك عن بعض الأئمة رضي الله عنهم فيما يلي (4) .
يقول الإمام أبو حنيفة وأصحابه ومالك وأحمد بن حنبل في أشهر وأصح الروايات عنهم أن التسمية إذا تركت على الذبيحة عمدا لم يحل أكلها وإذا تركت نسيانا حل أكلها وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد سئل عن الذبيحة التي يتيقن أنه لم يسم عليها هل يجوز أكلها فأجاب بقوله (الحمد لله. التسمية واجبة عليها بالكتاب والسنة وهو قول جمهور العلماء لكن إذا لم يعلم الإنسان هل سمى الذابح أم لم يسم أكل منها وإن تيقن أنه لم يسم لم يأكل وكذلك الأضحية. . .
ويقصد بذلك شيخ الإسلام رحمه الله إذا كان الذابح أهلا للذبح وهو المسلم الذي يذبح على الطريقة الشرعية ويذكر اسم الله عليها. . فإن نسي ذكر اسم الله جاز الأكل كما في الحديث المشهور «سم الله وكل (5) » . . لكن إذا تركت التسمية عمدا لا تؤكل. . .
أو أن يكون الذابح كتابيا لم ينحرف عن اعتقاده باليهودية إن كان يهوديا أو نصرانيا محافظا على معتقده إذ كثرت في العالم الغربي الانحرافات وانتشرت عندهم المذاهب المعارضة لكل الديانات مثل الشيوعية الخبيثة التي تنكر وجود الله وجميع الديانات السماوية ولا يوجد في اليهود والنصارى الذين أبيح لنا طعامهم أي ذبائحهم لا يوجد فيهم من هو محافظ على معتقده إلا شرذمة قليلة يدعون برجال الدين وهم بعيدون كل البعد عن الذبائح والذبائح إذ أن لهم مناصب رفيعة ومكانة عالية فلا يتولى الذبح هناك إلا بعض صغار العمال من الشباب المنحرف الذي لا يلتزم بدين ومعظمهم دهري وثني. . .
هذا ولا يخفى على مسلم أن أي ذبيحة ذبحت على غير الطريقة الإسلامية كالغطس بالماء الحار
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .
(2) من كتاب الإسلام في مواجهة التحديات للمودودي ص141.
(3) سورة الأنعام الآية 121
(4) المصدر نفسه 140- مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ص240.
(5) صحيح البخاري الأطعمة (5376) ، صحيح مسلم الأشربة (2022) ، سنن أبو داود الأطعمة (3777) ، سنن ابن ماجه الأطعمة (3267) ، مسند أحمد بن حنبل (4/26) ، موطأ مالك الجامع (1738) ، سنن الدارمي الأطعمة (2019) .(6/163)
أو الضرب حتى تدوخ ثم تموت أو أي نوع من أنواع القتل المخالف للشرع فلا يخفى أنها حرام وإن ذكر اسم الله عليها إذ أن الله تعالى يقول {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} (1) . الآية. فبعد ما ذكر الله هذه الأنواع القاتلة للحيوان وأنها محرمة والحالة هذه قال جل وعلا {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} (2) أي إذا حصلت هذه الأنواع على حيوان مما أحل الشرع أكله ثم لم يمت ووجدت به حياة مستقرة ثم ذبح وذكر اسم الله عليه فحلال وإلا فلا.
هذا الدجاج المستورد مذبوحا هل نأكله. . . . .؟
إن من يلقي نظرة على أسواقنا وبقالاتنا يجد بها أعدادا كبيرة جدا من الدجاج المستورد والمذبوح خارج بلادنا والذي لا يصل إلينا إلا بعد مدة طويلة من ذبحه ويكتب على ظروفه ذبح على الطريقة الإسلامية. فهل يا ترى إذا كتبت هذه العبارة يحل أن نأكل بموجبها دون تحر وتقص أو أن المسلم مأمور بالابتعاد عن المتشابهات لقول الرسول عليه الصلاة والسلام «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (3) » وقوله «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه (4) » (الحديث) .
وأنا أكتب هذا المقال اطلعت على ما نشر في مجلة المجتمع بعددها 414 في 1 \ 11 \ 98 هـ صفحة 20 بعنوان حول شرعية ذبح الدجاج في الدانمرك والذي وجهته جمعية الشباب المسلم وخلاصته أن الدجاج هناك لا يذبح على الطريقة الإسلامية المشروعة ولا يحل لمسلم أن يأكله. . ولو كتب على الكرتون ذبح على الطريقة الإسلامية ومن المعلوم أن الدجاج يذبح هناك بالآلاف فأنا أقدم صورة مصنع لذبح الدجاج وهو من أصغر المصانع الأوربية وينتج في الساعة الواحدة ألفي دجاجة.
(قصة وصول صورة المصنع إلي) كنت في لندن في أول هذا العام وحرصت على أن أرى مصنعا من مصانع ذبح الدجاج فاتفقت مع شركة إنجليزية لتطلعني على ما أردت ودفعت رسم زيارة المصنع مبلغ مائة وخمسين جنيها واصطحبت المترجم وتركنا لندن إلى إحدى ضواحيها التي تبعد مسافة قطعتها السيارة بساعة فلما وصلنا هناك فوجئت بأنني خدعت إذ لم أر ما أريد لأنني متظاهر أنني تاجر سعودي لدى مؤسسة في السعودية وأرغب إقامة مشروع دواجن وأريد مصنعا أوتوماتيكيا لذبح وتغليف الدجاج ومما يظهر أنهم لا يرغبون أن يطلع على ذبحهم أحد كما حصل للشبيبة المسلمة
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .
(4) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .(6/164)
في الدانمارك فقد حاولوا عدة مرات الاطلاع على طريقة الذبح فلم يسمح لهم بذلك ولو كان موافقا على الطريقة الإسلامية كما يقولون لاطلعوا عليها. المهم أننا دخلنا محلا صغيرا به حوالي عشرة عمال من المسلمين الباكستانيين يذبحون بأيديهم بالطريقة المعروفة لدينا هنا ثم بعد الذبح على الطريقة المعتادة المعروفة لدينا هنا يضعون الدجاج في ماء حار وبعد ذلك ينتف بواسطة النتافة المعروفة والتي هي عبارة عن دائرة تدار بالكهرباء ولها أصابع من الكاوتشوك لينة تضرب الدجاج بقوة فتنزع الريش منه وهي معروفة وموجودة عندنا في المملكة فبعد ذلك عرفت أن هؤلاء يتبعون لتاجر باكستاني مسلم غيور على إسلامه التقيت به في محله وفي المركز الإسلامي بلندن وهو يذبح الدجاج والأغنام للمسلمين في لندن ويبيعها عليهم وكنا نشتري منه.
فقلت للمترجم هذا موجود عندنا الذبح باليد والنتف بالآلة فرد الإنجليزي الخبيث أنا عرفت أنه مسلم من السعودية ولا يصلح أن يقيم في بلده مصنعا يذبح الدجاج فيه كالذي عندنا في أوربا فقوانين بلاده لا تسمح بمثل هذا. . . فقلت أنا رغبتي بمشاهدة المصنع الأوتوماتيكي ولا دخل له فيما أريده فقال حسنا: إذا ترتب له زيارة ثانية لأحد مصانع الدجاجة الأوتوماتيكية وكان هذا الكلام قبل سفري راجعا إلى المملكة بيومين فقلت إني مسافر وقد انتهى وقتي حيث مضيت شهرا ولكني أرغب (بكتلوج) المصنع الأوتوماتيكي لأطلع عليه وأدرسه فسلمني كتلوجا من حقيبة كانت معه وقال هذا المصنع صغير يكفيه من الكهرباء كذا ومن الأرض كذا والعمال والماء كذا وهو ينتج بالساعة ألفي دجاجة مذبوحة مغلفة فأخذته وأرفق صورة منه للاطلاع وقد طبعت منه خمسة عشر ألف نسخة.
(نبذة عن المصنع)
1 - تحضر السيارة الدجاج من الحظائر التي ربما مات بعضه فيها قبل أن ينزل أو نتيجة للبرد أو التحميل أو التنزيل ومعروف سرعة موت الدجاج.
2 - كما يتضح من الصورة تعلق الدجاجة بأرجلها ثم يحيط بها حزام متحرك فوق الرأس فتذهب بطريقة آلية حيث تمر بجهاز كتب تحته الذبح بطريقة التدويخ.
3 - هناك حوض يستقبل السوائل من الدجاج إن خرج منها شيء.
4 - وهو بيت القصيد مغطس ضخم كتب عليه جهاز محرق جدا يعمل بالبخار أو بالماء الحار فتغطس الدجاجة المسكينة لتفقد فيه آخر رمق من حياة ثم بعد ذلك تخرج منه جثة هامدة بعد أن تعرضت للخنق والوقذ والتردي) والله تعالى قد قال {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(6/165)
وهذا الدجاج قد تعرض لشيء مما ذكر الله ثم بعد نتفه وتنظيفه من الرأس يغلف بكراتين كتب عليها (ذبح على الطريقة الإسلامية) وتلاحظ قارئي العزيز أن الدجاجة دخلت المذبح وخرجت منه ميتة منتوفة الريش منظفة الأحشاء مقطعة الأرجل إلا أن رأسها قد صحبها منذ أن خلقها الله ولا يقطع منها إلا إذا كانت سوف تصدر للشرق الأوسط وقد سألت الإنجليزي لماذا خرجت من المذبح ورأسها موجود فيها فقال لي أما رأيت أن الطيور عندنا والذبائح رؤوسها موجودة لا تقطع وفعلا رأيت الطيور والذبائح بأسواقهم رءوسها معلقة فيها وهي معروضة للبيع دون أن ترى في رقابها أثرا للذبح وهذا يشاهده كل من زار لندن أو غيرها من البلاد الأوربية. إذ أنهم يعتبرون الذكاة الشرعية الإسلامية طريقة وحشية لا يقرها القانون كما أنهم لا يتركون الحيوان ينزف دمه مدعين أنه يفقد وزنه وهذا يلاحظ في الدجاج المستورد منتفخة أما ما تذبحه أنت فتراه ينقص ويقل وزنه وهم لا يريدون ذلك بل يريدون الوزن الكبير للحصول على الربح الوفير.
وبعد فماذا يرى علماؤنا الأجلاء. .؟ أصحاب الفضيلة العلماء قد كتبت لمعنيين منكم تقريرا مفصلا إثر عودتي من لندن عن كل ما رأيت وأهم من ذلك الدجاج وقلت إنه لا ينبغي للعالم أن يسكت عن مثل هذه المواضيع الهامة كالمطعم والمشرب الذي يرد معظمه من بلاد كافرة وطلبت أن ينتدب أناس للوقوف على الحقيقة وأن لا يكتفى بقول التجار ولا الشركات الموردة بأنه ذبح على الطريقة الإسلامية ثم بعد ذلك يبين للناس هل يأكلون أم لا. . .؟
وأن لا يكتفى بقول الله {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) فالشريعة بينت معنى ذلك فالميتة والدم والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة إذا لم تدرك فيها الحياة وتذكى ويذكر اسم الله عليها فهي حرام ولو كانت عند المسلم وفي بلد إسلامي فكيف بالذبائح والدجاج يتعرض لبعض هذه الأمور في بلاد كافرة وعند أناس كفارا قد فارقوا دينهم وارتدوا عن البقية الباقية منه فبعضهم دهري والآخر علماني ومعظم شبابهم قد اعتنق الشيوعية فمع هذه المصائب كلها لا يذبحون على الطريقة الإسلامية ولا يذكرون اسم الله.
ومعلوم أن المسلم لو ذبح على غير الطريقة الإسلامية بأن خنق أو وقذ ذبيحته فهي لا تحل وإن ذكر اسم الله فذكر الله لا بد أن يقترن مع التذكية الشرعية. وقد نشرت مجلة المجتمع عن ذلك أكثر من مرة آخر ذلك ما جاء في عددها 414 في 1 ذي القعدة سنة 98 حيث نشرت نداء جمعية الشباب المسلم بالدانمرك خلاصته أن الدجاج الدانمركي يذبح على غير الشريعة الإسلامية وأنه لا يحل أكله والحالة هذه.
ما يقال عن اللحوم يقال عن الدهون أيضا.
كذلك هذه الدهون التي غزت أسواقنا ألا يحق لنا أن نسأل عنها فقد كثر الكلام عن الدهون
__________
(1) سورة المائدة الآية 5(6/166)
وأن معظمها يحتوي على شحوم الخنزير وغيره من الحيوانات المحرمة كالكلاب والحمير وقد ذكر لي أحد تجارنا المعروفين أنه ذهب إلى هولندا لغرض التعاقد مع شركة هناك لتوريد دهون منها للمملكة العربية السعودية يقول وقبل إبرام العقد اطلعت على المصنع فإذا بجواره محل كبير جدا فيه أكوام هائلة من الشحوم والعظام تصهر بمصاهر خاصة ثم تتحول إلى سمن صاف يوضع عليه علامة شوكة ومعلقة أو غير ذلك من العلامات التجارية وهذه الدهون قد استخرجت من شحوم الخنازير والكلاب والحمير والبقر والغنم الميتة وغيرها التي هي حرام وإن ذكيت مثل الخنزير والكلب وحرام لعدم وجود التذكية من البقر والغنم وقد أثارت هذا الموضوع مجلة المجتمع بالنسبة للجبن الكرافت وكذلك عن الدهون وذلك بعددها 412 في 17 \ 10 \ 98 هـ بالنسبة للدهون المستوردة وبعد. فإني أرجو من العلماء والحكام والتجار إرشاد الناس وجلب ما هو حلال نافع لهم ولأمتهم وبلادهم فإن لم نفعل فقد ضيعنا الأمانة وأهملنا قول الله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم «الدين النصيحة قالها ثلاثا قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم (2) » اللهم وفقنا لفعل الخيرات وجنبنا المنكرات وأصلحنا اللهم حكاما ومحكومين وأمراء ومأمورين واكفنا اللهم بحلالك عن حرامك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
ملخص تقرير ومقال الشيخ عبد الله الغضية
1 - هل بقي أحد الآن على كتابه من اليهود والنصارى محافظا على معتقده ولم يلحد أو يعتنق الشيوعية.
2 - معظم من يتولى الذبح هناك عمال من الشباب المنحرف الدهري والوثني.
3 - هل نأكل من الذبائح المستوردة بمجرد أن نرى على غلافها- ذبح على الطريقة الإسلامية- أو نتحرى لحديث «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (3) » وحديث التحذير من المشتبهات.
4 - خدعوه عن المذبح الأوتوماتيكي وأروه مذبحا يذبح فيه قلة من المسلمين يذبحون لمسلمين بالداخل ولم يمكنوه من الاطلاع على المذبح الأوتوماتيكي ولو كانت طريقة الذبح
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(3) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .(6/167)
شرعية لمكنوه من مشاهدته.
5 - تخرج الدجاجة من المذبح ميتة منتوفة ورأسها لم يقطع وليس في رقبتها أثر ذبح وأقر بذلك إنجليزي من جماعة المذبح ويرون أن الذكاة الإسلامية وحشية وأن بقاء الدم فيها أثقل لوزنها وأربح.
6 - كذلك الأدهان تخلط بشحم الخنزير وشحم الميتة.
7 - اقتراح إرسال من يطلع ويقف على الواقع في الذبائح والأدهان.
(1) يعلق الدجاج بأرجله ثم يمر بآلة تنفتح من النصف فيدخل في الفتحة رؤوس الدجاج ومكتوب على هذا الجهاز الذبح بطريقة التدويخ، لأنه يضرب رأس الدجاجة هواء شديد الانفجار، فتصبح الدجاجة بعده لا تسمع ولا ترى وتنتظر الموت بعد لحظات، ثم تمر بجهاز آخر يقطر منه إن ظهر منها سائل أو غيره، بعدها تمر على جهاز بخاري أو ماء حار جدا، وفيه تموت إن كان بها حياة ثم تخرج منه إلى أجهزة النتف والتنظيف والتغليف ويكتب على الغلاف ذبح بالطريقة الإسلامية.
(2) ذكر أنه سمع أن نفس الطريقة تتبع في فرنسا إلا أنهم يزيدون وضع الدجاج المراد ذبحه في مستودعات شديدة البرودة ويسحب منها حسب طلب الأسواق وبالطبع يخرج الدجاج من هذه المستودعات ميتا ثم توضع في برك حارة تمهيدا للنتف والتصدير.
(3) اقتراح إرسال من يشاهد وينقل الحقيقة.(6/168)
تقرير من مبعوث الرئاسة إلى اليونان للدعوة الأستاذ جمال بن حافظ إدريس اليوناني نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من جمال بن حافظ إدريس المبعوث في اليونان.(6/168)
إلى سماحة صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - وفقه الله في الدارين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصلتني رسالتكم الكريمة تطلبون بيان الطريقة التي تذبح بها الحيوانات - قد زرت بعض الأماكن المشهورة في اليونان فرأيت كما يلي:
الأول: فيها مكان تذبح الحيوانات فيه كما نذبح نحن المسلمين، تذبح وبعد خروج دمائها تسلخ وتقطع.
والثاني: الحيوان إذا كان كبيرا يضرب من رأسه بآلة كمسدس فيسقط ويذبح قبل مماته وهذا القبيل أو الأصول مشكوك أن روح المذبوح بهذه الطريقة تخرج قبل خروج دمه.
أما الطيور: فيتم نتف ريشها قبل ذبحها فتذبح بالآلات الأوتوماتيكية.
أخبرني أحد الأطباء أننا إذا أردنا أن نعرف ما إذا كان الذبح على الطريقة الشرعية فننظر إلى عظام ذلك الحيوان في أثناء التناول فإذا كان يميل لون العظام إلى البياض فهذا أكبر دليل على أن دم هذا الحيوان قد خرج بالكامل أي ذبح بالطريقة الشرعية.
وإذا كان يميل اللون إلى السواد فهذا دليل على أن الحيوان لم يذبح بالطريقة الشرعية.
الأماكن التي زرتها هي في اليونان فقط بناء على عدم توضيح في رسالتكم المباركة الأماكن خارج اليونان ولم أفهم هل أردتم أماكن اليونان فقط أم خارج اليونان أيضا؛ فنرجو التوضيح من سيادتكم إنني مستعد أزور أماكن كثيرة فإذا أردتم فأخبرونا بذلك أطال الله عمركم ويوفقنا لما فيه الخير للإسلام والمسلمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ---،،
ابنكم المخلص جمال بن إدريس اليوناني
خلاصته:
إن للذبح حالتين:
الأولى: إنه على الطريقة الإسلامية.(6/169)
الثانية: أن يضرب الحيوان الكبير في رأسه بمسدس فيسقط ويذبح، وفي هذه الطريقة شك في كون التذكية حصلت والحيوان حي أو بعد موته.(6/170)
ورد تقرير من الشيخ صهيب حسن عبد الغفار مبعوث الرئاسة في لندن نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
استفتاء
أرجو من مجلس أعضاء لجنة الفتوى الموقر التابعة لرياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إصدار الفتوى الشرعية في اللحوم المستوردة من الخارج وذلك بعد النظر في طريقة ذبح الحيوانات في المجازر الغربية حسبما جاء في مشاهداتي الشخصية وما ذكر في التقرير المرفق الذي نشرته مجلة "المجتمع" الكويتية في عددها رقم 414 بتاريخ أول ذي القعدة 1398 هـ وما يترتب على هذه الطريقة من آثار سيئة حسب تحقيق بعض الأطباء المسلمين في بريطانيا ".
أ- طريق الذبح في مذابح بريطانيا خاصة:
أولا: الخرفان والأبقار:
يؤتى بالخروف والبقر إلى مكان مخصوص حيث يقوم رجل بإيصاله صدمة كهربائية بواسطة آلة خاصة أشبه بالمقص توضع على مقدمة رأسه مما يجعل الحيوان يفقد حواسه ويسقط على الأرض وهناك طريقة أخرى لا تزال تتبع في كثير من الأمكنة وهي ضرب الحيوان بمطرقة حديدية على الرأس ويتم ذلك بطريق مسدس يتعلق بفوهته قطعة حديدية مثل الرصاص فإذا أصاب الرأس سقط الحيوان مغشيا عليه ثم يعلق رأسا على عقب برافعة ويدفع إلى الجزار فإذا كان الجزار مسلما- وذلك في مجازر معينة - تستأجر للجزارين المسلمين لذبح كمية محدودة للاستهلاك المحلي للسكان المسلمين فقط- قام(6/170)
بذبح الحيوان المعلق بسكين حاد على الطريقة المألوفة لدى المسلمين فيخرج منه الدم وينتقل بعد ذلك إلى المرحلة التالية من السلخ والقطع.
وأما إذا كان الجزار غير مسلم قام بغرز السكين داخل الحلق من الطرف ثم أخرجه بقوة إلى الخارج مما يقطع بعض أوداجه ليسيل منه الدم.
ثانيا: الدجاج
أما الدجاج فإنما يتم تخديره بصدمة كهربائية أيضا ولكن على قاعدة الغسيل بالماء الذي يمر به التيار الكهربائي ثم يجرح رقبته بسكين حاد أتوماتيكيا ليخرج منه الدم إلى أن تتم المراحل الباقية من النتف والتصفية ليكون جاهزا للتصدير.
ب - الآثار التي تترتب على هذه الطريقة
إن المجازر الغربية اتخذت الطرق المذكورة للذبح رحمة بالحيوانات حسب ادعاء جمعيات الرفق بالحيوانات ولكن من البديهي أن الغربيين اختاروا هذه الطرق للحصول على أكبر كمية من اللحم في مدة قصيرة أو بعبارة أخرى لأجل تحقيق مكاسب تجارية على مستوى واسع وقد قام عدد من الأطباء المسلمين بإجراء تحقيق كامل في مثل هذه اللحوم ووصلوا إلى النتائج التالية كما ورد في كتاب الدكتور غلام مصطفى خان رئيس جمعية أطباء المسلمين في بريطانيا وتقرير الدكتور محمد نسيم رئيس وقف المسجد الجامع في مدينة برمنجهام.
أولا: تخدير الحيوان قبل الذبح يسبب فتورا لدى الحيوان وانكماشا في قلبه فلا يخرج منه الدم عند الذبح بالكمية التي تخرج عادة.
ومن المشاهد أن طعم اللحم الذي خرج منه الدم كاملا غير طعم الحيوان الذي بقيت فيه كمية من الدم وأخبرني أحد المشرفين على مجزرة إسلامية كبرى في برمنجهام أن من الانجليز من يفضل الحيوان المذبوح على الطريقة الإسلامية للأكل وذلك لأجل طعمه المتميز عن بقية اللحوم.
ثانيا: أن الصدمة الكهربائية لا تؤدي مقصودها في جميع الأحوال فإذا كانت الصدمة مثلا(6/171)
خفيفة بالنسبة لضخامة الحيوان بقي مفلوجا بدون أن يفقد الحواس ويشعر بالألم مرتين الأولى بالصدمة الكهربائية أو بضربة المسدس والثانية عند الذبح أما إذا كانت الصدمة الكهربائية شديدة لا يتحملها الحيوان أدت إلى موته بتوقف القلب فيصير ميتة لا يجوز أكله بحال من الأحوال.
ثالثا: أن الطريقة المتبعة لدى المسلمين أرحم بالحيوانات حقيقة وذلك لأن الذبح يتم بسكين حاد وبسرعة فائقة ومن الثابت أن الشعور بالألم ناتج عن تأثير الأعصاب الخاصة بالألم تحت الجلد وكلما كان الذبح بالطريقة المذكورة خف الشعور بالألم أيضا ومن المعروف أن قلب الحيوان الذي لم يفقد حسه أكثر مساعدة على إخراج الدم كما مر آنفا.
خلاصته:
1 - صعق الأبقار بكهرباء أو بضرب رأسها بمطرقة.
2 - استئجار مسلم لذبح كمية منها ذبحا شرعيا لاستهلاك المسلمين المحلي.
3 - أما الجزار غير المسلم فيغرز طرف السكين في الحلق لإخراج الدم بقطع الأوداج.
4 - أما الدجاج فيخدر بتيار كهربائي، ثم تجرح رقبته بسكين حاد أوتوماتيكي ليخرج الدم.
- الآثار السيئة المترتبة على ذلك -
1 - تخدير الحيوان قبل الذبح يحدث ضعفا وانكماشا في قلبه ولذا لا تخرج كمية كبيرة من دمه وينشأ عن ذلك ضعف تغذيته والتلذذ بطعمه.
2 - الصدمة الكهربائية إن كانت خفيفة تألم منها الحيوان وتألم من الذبح وإن كانت قوية مات منها الحيوان قبل ذبحه لوقوف قلبه.
3 - دعوى أن التخدير أو الصعق فيه راحة للحيوان ليست صحيحة وإنما القصد ذبح الكثير في زمن قليل رغبة في زيادة الكسب.(6/172)
تقرير من الشيخ عبد القادر الأرناؤط المبعوث من الرئاسة إلى يوغسلافيا للدعوة نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد القادر الأرناؤط إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله من كل سوء ووقاه من كل مكروه ووفقه لما فيه خير الدنيا والآخرة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته تحية من عند الله مباركة طيبة.
وبعد فإني أرجو الله عز وجل أن تكونوا بخير وعافية يا سماحة الشيخ وإني أرسل لكم هذه الرسالة من يوغسلافيا جوابا على رسالتكم الكريمة التي أرسلت إلى يوغسلافيا من قبلكم بتاريخ 12 \ 6 \ 98هـ.
وإني قد درست موضوع اللحوم في يوغسلافيا وإني أكتب لكم خلاصة ما توصلت إليه في هذا.
أما في القرى فإنهم يذبحون الحيوانات من الغنم والبقر والماعز ذبحا شرعيا بأيديهم وفي أمكنة خاصة والذين يذبحون من المسلمين.
وأما في المدن ففي مدينة (سيراجيفو) sarajevo التي هي عاصمة البوسنة والهرسك تسمى عندهم جمهورية إسلامية فكذلك يذبح بها المسلمون لكن بطرق حديثة يأتون بالبقر ويضربون البقرة بين عينها بآلة كهربائية ضربا خفيفا كي تقع على الأرض ثم يدخلونها وهي على قيد الحياة تحت المقصلة وهي آلة حادة فيقطعون رأسها ويسيل منها الدم ثم يدخلونها ضمن آلات تخرج معبأة ضمن علب الكونسردة فهذه أيضا لا شبهة فيها ويكتب عليها صنع (سيراجيفو) .
وفي غيرها من المدن ربما يكون الذابح غير مسلم ولكن قد يكون كتابيا وقد يكون شيوعيا ولكن حسبما ظهر لي أن أكثر الذين يدعون أنهم شيوعيون إنما هم بالاسم لمصلحة خاصة أو منفعة مادية والشيوعي الحزبي لا يقوم بمثل هذه الأعمال وهم كأنهم توافقوا بأن الحيوان إذا ضرب على رأسه مثلا وقتل بهذه الضربة وبقي دمه في جسمه ولم يسفح أن اللحم يفسد ويكون ضررا على آكله إلا أنهم قد يذبحون بنفس الآلات الخنازير ثم يذبحون بعدها مثلا البقر وهذا هو المحظور في هذه المسألة وهذه لم أستطع أن أتحقق منها وقد قال لي بعضهم يذبحون الخنازير بمحلات خاصة والبقر في محلات خاصة وعند ذلك يزول الإشكال.(6/173)
وعلى كل فالأحسن أن يؤخذ من علب الكونسردة التي تصنع في سيراجيفو المسلمة أما الحيوانات التي ترسل إلى البلاد الخارجية من الغنم مثلا والبقر فإنها تذبح كما ذكرت لكم في القرى ذبحا شرعيا وبأيدي المسلمين وكذلك في مدينة سيراجيفو المسلمة بأيدي المسلمين ذبحا شرعيا وفي غيرها من المدن الذين يذبحون إما من المسلمين وإما من النصارى الكاثوليك وقليل ما هم من الشيوعيين أرباب المصالح الخاصة والأشياء المادية فشيوعيتهم ليست دينا وإنما هي مصلحة ووظيفة وكما ذكرت لكم الشيوعي المادي الملحد الحزبي على الغالب لا يقوم بمثل هذه الأعمال الخسيسة في نظرهم وعلى كل تذبح وتقطع رؤوسها ويخرج منها الدم المسفوح وترسل إلى البلاد العربية وكثيرا ما يراعون الذبح إذا كان للسفر إلى خارج بلادهم.
وأرجو دعواتكم الصالحة وإني أسأل الله تعالى أن يتولانا وإياكم وأن ينصر الحق وأهله وأن يعيننا على أداء مهمتنا على أحسن وجه إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
أخوكم
عبد القادر الأرناؤط - يوغسلافيا - أستوغ
خلاصته:
1 - يذبح أهل القرى الأغنام ذبحا شرعيا بأيديهم في أماكن خاصة - والذابح مسلم.
2 - في مدينة سيراجيفو عاصمة البوسنة والهرسك يذبح فيها المسلمون الأنعام كذلك بالطريقة الشرعية غير أنهم يضربونها بآلة كهربائية ضربا خفيفا لتقع على الأرض ثم يدخلونها وهي حية تحت المقصلة ويقطع رأسها ويسيل منها الدم، ثم تعلب ويكتب على الشحنة سيراجيفو.
3 - في غير هذه المدينة من المدن قد يكون الذابح غير مسلم كتابيا أو شيوعيا بالاسم لا بالحقيقة من أجل الوظيفة أو المصلحة.
4 - أما الحيوانات التي ترسل إلى البلاد الخارجية فإنها تذبح كما ذكرت لكم في القرى ذبحا شرعيا بأيدي المسلمين.
5 - قد يكون ذبح الأنعام بالآلة التي تذبح بها الخنازير.(6/174)
6 - النصح بالاقتصار على شراء علب اللحوم التي ذبحت في سيراجيفو لما تقدم.
ونشرت مجلة الدعوة بالرياض مقالا للدكتور محمود الطباع بأبها في عددها 673 بتاريخ 21 من ذي القعدة 1398 تحت عنوان "لئلا تأكل حراما" جاء فيه ما نصه:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
قرأت في مجلة الدعوة العدد 667 تاريخ 9 شوال 1398 هـ المقال الذي كتبه عبد الرحمن المحمد الإسماعيل جزاه الله خيرا بعنوان " لئلا نأكل حراما" وأرغب أن أوضح ما يلي: أنا الدكتور محمود الطباع طبيب بيطري درست في ألمانيا الغربية وفي بدء دراستي تعرضت مع إخوتي المسلمين لمشكلة اللحوم المذبوحة وهل يجوز الأكل منها ولنتأكد من طريقة الذبح ذهبت مع عدد من الإخوان لزيارة المسلخ في مدينة هانوفر فشاهدنا الجزارين يحضرون قطيعا من الأبقار يطلقون على رأسها من مسدس خاص وبعد أن وقعت جميعها على الأرض بدون حراك أخذ العمال استراحة يأكلون فيها ما يقارب الثلث ساعة ثم قاموا وعلقوا الأرجل الخلفية في الرافعات المتحركة وقطعوا الرأس ثم نزعوا الجلد وشقوا البقرة إلى نصفين وغسلوها بالماء بعد إخراج الأعضاء والأمعاء فكانت مياه الغسيل بلون الدم وقبل أن ينتهي العمال من فترة الاستراحة يبدءون بقطع رأس الأبقار تأكدنا أن جميع الأبقار كانت ميتة ولا يحل أكلها في ديننا الحنيف وقد نبهنا على الطلبة المسلمين وشرحنا لهم ما شاهدنا- ولكن مع الأسف الشديد فقد كان أغلبهم لا يتوانون عن أكل لحم الخنزير فكيف بلحم الميتة. .
الدكتور محمود الطباع
أبها - المديرية العامة للشئون
البلدية والقروية بالجنوب -
صحة البيئة
خلاصته:
أنه شاهد الجزارين في ألمانيا الغربية يطلقون المسدس على رأس الأبقار ثم يستريحون ثم يقطعون رءوسها بعد ألا يكون بها حراك، وتأكد أنها ما ذبحت إلا بعد أن صارت ميتة.(6/175)
ونشرت مجلة المجتمع الكويتية (1) مقالا عن جمعية الشباب المسلم بالدانمرك تحت عنوان "حول شرعية ذبح الدجاج في الدانمرك " جاء فيه ما نصه:
نظرا للاستفسارات العديدة التي وردت إلى مجتمعنا من المسلمين المقيمين في الدول العربية للتأكد من كيفية ذبح اللحوم والدجاج المصدر من الدانمرك، لذلك فقد انتهينا بعد بحث هذا الأمر والتحقق منه في دائرة الدانمرك إلى عدة نتائج نوردها فيما يلي:
لقد علمنا من مصادر رسمية أن الفئة القاديانية بالدانمرك قامت منذ تأسيسها عام 1967م بتمثيل المسلمين والإسلام في هذه البلاد فكانت تصادق على شهادات تصدير اللحوم والدجاج إلى الدول الإسلامية، وهي تتقاضى مقابل ذلك من الشركات المصدرة- رسوما- مقابل هذا التصديق وعلمنا كذلك أن السفارات الإسلامية هنا كغيرها من السفارات في العالم لا تمثل الإسلام من قريب أو بعيد- بل تمثل الحكام الذين يرفعون ويخفضون فضلا عن حرص هذه السفارات البالغ على اتباع السنن الدبلوماسية في حفلاتها وسهراتها هذا إذا استثنينا - خشية التعميم- بعض الأفراد القلائل العاملين في هذه السفارات والذين هداهم الله إلى التمسك بالدين بعيدا عن المؤثرات المهنية. . وهم قلة.
وعلمنا كذلك من خلال الأعوام الماضية أن بعض هذه الشركات يتحايل لكي تبيع الدجاج الدانمركي للدول الإسلامية ومن صور هذا التحايل تشغيل تسجيل عليه أشرطة القرآن الكريم داخل المجازر ظنا منهم أن مثل هذه الطقوس تحل لنا أكل هذه اللحوم. . كما يقوم بعضهم ذار للرماد في العيون بتعيين عامل مسلم أو أكثر في المصنع يقوم بمهام عادية ليس لها علاقة بالذبح وحتى لو قام بالذبح فلا يعقل أن يتمكن من ذبح الآلاف من الدجاج المنتج كل يوم.
بل قل كل ساعة. . وقد كانت ليبيا من أول الدول التي اكتشفت هذه المهزلة في الدانمرك وخارج الدانمرك فقررت منع استيراد اللحوم والدجاج من أوروبا بالمرة. . . والله أعلم إن كان هذا المنع ما زال ساري المفعول أم لا. . .
أما من جانب المستهلك- المسلم - فخلال الأعوام العشرة الماضية كانت مشكلة الدجاج المستوردة من أوروبا لا تكاد تشغل بال السواد الأعظم من المسلمين لصغر حجمها بالقياس إلى المصائب والمؤامرات التي كانت وما زالت تحاك ضد الإسلام والمسلمين ولكن كان من بينهم من يحاول ترويج هذه الذبائح بحجة أنها من طعام أهل الكتاب ونحن لا نقر هذا الرأي لأنه يكفي أن ننظر
__________
(1) الصادرة يوم الثلاثاء الموافق 1 من ذي القعدة سنة 1398هـ عدد 414 من السنة التاسعة.(6/176)
من حولنا لنجد الزنا والعري والخمر والميسر والشذوذ الجنسي وقطع الأرحام وعقوق الوالدين والربا. . وغيرها من الموبقات والكبائر مباحة بنص القانون في التشريعات المحلية الوضعية فلا مجال هنا لتسميتهم بأهل الكتاب بحال من الأحوال بل هم أقرب إلى الشيوعيين والوثنيين منهم إلى النصارى.
واليوم. . . كنتيجة طبيعية للغموض المكثف لهذا الأمر ولشعورنا بمسئولية التحقق من هذا الأمر قامت جمعيتنا بتوجيه خطاب إلى جميع المجازر الدانمركية التي تقوم بتصدير الدجاج إلى الخارج وعددها 35 مجزرة للدجاج والطيور.
وفيما يلي ترجمة للخطاب:
" وصلتنا في الشهور الماضية بصفتنا منظمة إسلامية ثقافية بالدانمرك عدة استفسارات من مسلمين مقيمين في داخل الدانمارك وخارجها عن الطرق المتبعة لذبح الدجاج والطيور المعدة للتصدير إلى الدول العربية عن الإجابة على هذه الاستفسارات تعتبر ذات أهمية كبيرة لنا نحن المسلمين إذ أن طريقة الذبح يجب أن تكون تبعا لما ورد في القرآن الكريم من أحكام لهذا نرجو منكم السماح لمجموعة من جمعيتنا (حوالي 3-4 اشخاص) بزيارة مجزرتكم للاطلاع على طريقة الذبح. . الخ".
كما نود مستقبلا نشر هذا التحقيق في مجلتنا الشهرية - الصراط - حتى يطلع المسلمون عليها مع مراعاة عدم التعرض لاسم شركتكم بسوء راجين أن يصلنا ردكم في أقرب فرصة. .
وعند استلامنا الردود اتضح أن بعض هذه المجازر لا يصدر إلى الدول الإسلامية بالمرة - وهذا النوع من المجازر لم يمانع من زيارتنا لأماكن الذبح- لكن الشركات التي تصدر إلى الدول الإسلامية لم توافق على الزيارة بالمرة- وبعضها أبدى صراحة عدم ترحيبه بقدومنا- وأحال البعض الآخر نظر هذه القضية إلى لجنة مهنية خاصة بتصدير الدجاج والطيور بحجة أنها الجهة الممثلة لهم والمتكفلة ببحث مشكلة الذبح الإسلامي وباتصالنا بهذه اللجنة رفضت- بعد محاولات استمرت فترة طويلة- السماح بأي نوع من المعاينة بحجة أنها لا تجد أن منظمتنا تمثل الإسلام والمسلمين في الدانمرك وأن هذه اللجنة على اتصال مع جهة إسلامية بالدانمرك. . تمثل الإسلام في نظرهم لاتصالها بعدد من السفارات العربية وأن هذه الجهة الإسلامية توافق على طريقة الذبح وتصادق على شهادات التصدير مع علمها التام بأن الدجاج المصدر لا يفترق عن غيره من الدجاج المنتج باستثناء المغلف المطبوع عليه عبارة ذبح على الطريقة الإسلامية".
وبقيامنا بمزيد من التحريات وجدنا أن الجهة الإسلامية القائمة على التصديق ليست هي الفئة القاديانية كما جرت العادة خلال العشر سنوات الماضية لكنها جهة إسلامية انتزعت من القاديانية مهمة التصديق على شهادات التصدير وما يتبعها من مهام أخرى كالدفاع عن مصالح شركات الدجاج(6/177)
ومصالح المستوردين العرب ومصالح السفارات العربية الواقفة وراءها.
وبحديث هاتفي مع مدير لجنة التصدير الدانماركية المذكورة اتضح لنا الآتي:
أولا ليس لدى المذابح الدانمركية أي فكرة عن متطلبات الذبح الإسلامي والمعلومات التي لديها لا تعدو أن تكون شائعات وردت إليهم بطريق الحديث العفوي مع فئات من المسلمين بعض هذه المعلومات متضاربة مما جعل الأمر في النهاية - في نظر المجازر الدانماركية- ليس له ضابط ديني محكم.
ثانيا: أن المستورد العربي هو الذي يطلب وضع عبارة "ذبح إسلامي" ويجهزها له والمصدر الدانماركي يوافق طالما أن البيع في ازدياد والجهات الرسمية تصادق على شهادات التصدير.
ثالثا: أن الذبح يجري بطريقة قص الرأس بعد التخدير الذي يشترطه قانون الطب البيطري وأن الذبح بغير هذه الطريقة يتطلب الحصول على تصريح خاص.
رابعا: أن الذي يهم الشركات الدانماركية في الوقت الحاضر هو موقف السفارات التي تتبع الدول المستوردة لأنها هي التي تصدق على توقيع الجهة الإسلامية التي تعاين الذبح وطالما أن هذه الجهات متفقة فليس لأحد- في نظرهم - مصلحة في التدخل.
وطلبنا من مدير اللجنة الرد كتابة على هذه النقاط فوعد بذلك ثم تأخر في الرد مدة طويلة وفي النهاية وصلنا منه - رد دبلوماسي بعيد - عن النقاط التي تحدثنا عنها هاتفيا.
مما سبق يتبين أن المسئول الأول عن هذه المهزلة ليس هو المصدر الدانمركي بل هو بالدرجة الأولى المستورد العربي ومن ورائه السفارات التي تصدق على جريمته.
وعليه فنحن جمعية الشباب المسلم بالدانمرك نعلن من هنا إلى كافة المسلمين أينما وجدوا أن الذبائح التي تصدر إليهم من الدانمرك ليست مذبوحة بطريقة خاصة ولا تختلف عن الذبائح التي تصدر إلى الدول الأخرى وأن الذبح يتم بطريقة قص الرأس بعد التخدير والفارق الوحيد هو في الأغلفة التي تحمل عبارات عربية لخداع المستهلك والمسلم.
الحل: لم يكن الهدف الأساسي من التحريات التي قمنا بها إيجاد حل إسلامي لقضية الذبائح المستوردة بل كانت الغاية المرجوة هو التأكد من طريقة الذبح وإعلانها إلى المسلمين حتى يجتهدوا بأنفسهم للتوصل إلى الحل المرضي إسلاميا. إلا أن هناك بعض الفوائد التي يمكن الاستفادة منها قبل(6/178)
البحث عن حلول القضية. فمن خلال مباحثات تمت منذ سنوات مع أحد المجازر الدانمركية رغب بعض الإخوة في الاتفاق مع الشركة على ذبائح خاصة للتصدير إلى الدول الإسلامية فوافقت هذه الشركة على ذلك بشرط أن يقوم الإخوة أنفسهم باستجلاب العمال المسلمين بمعرفتهم مع ضمان استمرارهم في العمل وحين البحث عمن يقوم بهذا العمل تبين أن هذه المجزرة تقع في قرية صغيرة بعيدة عن المدن الكبرى وهذا الأمر لا يشجع أحدا على قبول هذا العمل لتعارضه مع ميول العمال الأجانب عادة في السكني في العاصمة أو على الأقل في المدن الكبيرة لأسباب تتعلق بأوضاعهم الاجتماعية في الغربة وحرصهم على التجمع لسهولة التفاهم وتبادل الأخبار والزيارات وهذا الأمر لا يتحقق بالسكني في القرى النائية.
فالأمر إذن يتطلب إخلاصا وتفانيا من بعض المسلمين لإنجازه على الوجه المطلوب كما يتطلب إيفاد من له دراية شرعية بالقضية وتخصيص ميزانية مناسبة لإنشاء مجزرة إسلامية للتصدير للدول الإسلامية تتوفر فيها الشروط الشرعية والعصرية في آن واحد والجمعية من جانبها على استعداد للمساعدة في الاتصالات التمهيدية مع الشركات التي تصنع آلات الذبح والاتفاق مع إحدى شركات الاستشارة والتخطيط لعمل دراسة مستوفية لتكاليف المشروع واحتياجاته.
بقيت كلمة أخيرة. . لا تتعلق بالدجاج ذاته. . ولكن تتعلق بمن يأكل منه من المسلمين. . فالمعروف أن القلة من الناس هي التي تتحرى الحلال. . والأغلبية لا تفكر في ذلك. . بل تظن التحري في بعض الأحيان عسرا ومشقة. . وهي للأسف سمة العصر الذي نعيش فيه. . الاهتمام بإشباع الغرائز والميول أولا ثم بعد ذلك يساء استخدام عبارة "إن الله غفور رحيم". . كما يريد أغلبنا دخول الجنة ولقاء الله تعالى دون علم أو عمل. . أو تضحية ولو بسيطة فقد يلجأ الكثير من المسلمين إلى قطع مسافات طويلة- قد تصل إلى السفر- في سبيل الحصول على سلعة أو طعام معين بمواصفات معينة والتكبد في سبيل ذلك المشاق الكثيرة ليس إرضاءا لله وللرسول. . . ولكن إرضاءا للهوى فحسب. . فإذا تعلق الأمر بحكم شرعي تحايلوا وتهربوا بحجة أن "الدين يسر" ولم يقولوا مرة إن مع العسر يسرا" وإن دخول الجنة لن يتم إلا بتكبد الصعاب وأضرب على ذلك مثالا يتعلق بفئة (النباتيين) الذين يمنعون أنفسهم من أكل اللحوم ومشتقاتها فهؤلاء معروفون في العالم كله. . وحرصهم شديد على تحري ما يأكلون. . حتى إن منهم من يبلغ به حد الورع مبلغا فلا يأكل الكعك والمربى المطروحة في الأسواق خشية أن تكون مصنوعة من دهون الحيوانات ويسألون قبل الشراء عن مكونات الطعام ولهم حوانيت خاصة بهم في كل مكان.
فهؤلاء وضعوا قوانينهم بأنفسهم ويحترمونها ولا يعتبرون التحري والدقة ضربا من التعصب أو تضييع الوقت والجهد فما بال المسلمين ينزل عليهم كتاب من الله وتصلهم سنة نبيه فلا يهتمون(6/179)
ولا يتحرون عسى أن ينفعنا الله بما قلنا. . وأن يكون ما بلغنا إبراءا لذمتنا يوم القيامة وأن يتقبل عملنا خالصا لوجهه تعالى.
جمعية الشباب المسلم بالدانمرك
خلاصته
1 - الذين يصدقون على شهادات تصدير اللحوم والدجاج إلى الدول الإسلامية بأنها ذبحت على الطريقة الشرعية قاديانيون ويتقاضون على الشهادات أجرا ثم إن جهة أخرى إسلامية انتزعت التصديق على الشهادات من القاديانيين وقامت بذلك مع مهام أخرى كالدفاع عن مصالح شركات الدجاج ومصالح المستوردين العرب ومصالح السفارات العربية الواقفة وراءها.
2 - الذين يعملون في السفارات الإسلامية إلا القليل لا يمثلون الإسلام وإنما يحرصون على السنن الدبلوماسية.
3 - نصارى الدانمرك ومن في حكمهم خرجوا على مبادئ أهل الكتاب فلا مجال لتسميتهم أهل كتاب بل هم أقرب إلى الشيوعيين والوثنيين منهم إلى النصارى.
4 - امتناع من يقوم على المجازر المصدرة للحوم والدجاج من الدانمرك إلى الدول الإسلامية من تمكين جماعة من الشباب المسلم من مشاهدة طريقة الذبح في تلك المجازر بزعم أنهم لا يمثلون المسلمين وإنما تمثلهم السفارات الإسلامية التي تصدق على الشهادة عند التصدير. أما الذين لا يصدرون اللحوم إلى الدول الإسلامية فقد مكنوهم من مشاهدة طريقة الذبح في مجازرهم.
5 - ليس عند المذابح الدانمركية معلومات عن الذبح الإسلامي مستقاة من مصدر إسلامي معتبر وإنما لديها إشاعات عما يجب أن يكون عليه الذبح الإسلامي متضاربة لذا لم تهتم بها المجازر لعدم وجود ضابط ديني محكم.
6 - المستورد العربي هو الذي يطلب وضع عبارة - ذبح إسلامي- ويجهزها وما على المصدر الدانمركي إلا الموافقة ما دام ذلك في مصلحته.
7 - الذبح يجري بقص الرقبة بعد التخدير دون فرق بين ما يصدر إلى الدول الإسلامية وغيرها ولا يختلف إلا في كتابة العبارة على الغلاف.(6/180)
8 - الذي يهم الشركات الدانمركية المصدرة للحوم إلى الدول الإسلامية موافقة سفارات الدول الإسلامية المستوردة وتصديقها.
9 - الحل هو إيجاد مجازر إسلامية لتصدير لحوم إلى الدول الإسلامية والتعاون في إتمام ذلك بالعلم والعمل والمادة.(6/181)
قال الأستاذ عبد الله علي حسين (1) في كتابه (اللحوم - أبحاث مختلفة في الذبائح والصيد واللحوم المحفوظة) :
وأما اللحوم المحفوظة في العلب مثل (بولي بيف) ومرقة الثور وهي المسماه (كيف اكسو) وشوربة الفراخ بالشعيرية وهكذا من اللحوم المحفوظة في علب صفيح وما يشتق منها أيا كان نوعها الذي يصدر إلى مصر من أوروبا وأستراليا وأمريكا وحكمها أن يحرم استعمالها قطعا لأنها لحم حيوان موقوذ مضروب حتى مات. فإن طريقة الذبح في جميع هذه البلاد تكاد تكون واحدة وهي ضرب الحيوان في مخه فيخر صريعا بلا حركة لأنها تصيب المخ ومتى وقع حمل إلى التقطيع بعد السلخ فيعمل من هذا الحيوان كافة أنواع اللحوم المحفوظة وما يخرج عنها. . وقد أردت أن أعرف طريقة ذبحهم بطريقة رسمية لا تقبل الجدل أو الشك في تطبيق الأحكام الشرعية فكتبت كتابا دوريا أرسلته لقناصل (14) دولة 1- انجلترا 2 - فرنسا 3 - أسبانيا 4 - هولندا 5 - إيطاليا 6 - تركيا 7 - جنوب إفريقيا 8 - الولايات المتحدة 9 - البرازيل 10 - أستراليا 11 - روسيا 12 - الدانمرك 13 - سويسرا 14 - رومانيا: ويتضمن هذا الكتاب ثلاثة أسئلة:
أولا: ما هي طرق الذبح في بلادكم (أو قتل الحيوان عندكم) .
ثانيا: ما هو المكان الأول الذي يضرب فيه الحيوان من جسمه لقتله في بلادكم.
ثالثا: ما هي الصناعات المختلفة من اللحوم المحفوظة التي تصنع وتصدر من بلادكم.
ثم ذكر أن التي أجابت من تلك الدول هي تركيا واليونان وهولندا وأسبانيا والدانمرك.
والذي يبدو واضحا في المخالفة للطريقة الشرعية ما جاء في إجابة هولندا والدانمرك فلذلك نسوقها فيما يلي:
1 - طريقة هولندا كما في إجابتها:
__________
(1) من علماء الأزهر ولديه ليسانس في الحقوق.(6/181)
تقتل البهائم بعد تدويخها بأسرع ما يمكن بإسالة دمها وتحصل عملية التدويخ بواسطة آلات تغيب المخ فتفقد البهيمة وعيها في الحال (وقطع الرأس أو الرقبة ممنوع وكذلك الذبح بسكين بموجب مرسوم ملكي) إذن تقتل البهائم بواسطة خوذة بها مثقاب وهذه الآلة معمرة بالبارود الذي يشعل فيدفع مثقابا مجوفا إلى داخل المخ وهذا المثقاب المجوف يعود إلى مكانه قبل أن تسقط الرأس) .
2 - طريقة الدانمرك كما جاء في نص إجابتها:
(الخيول والثيران والعجول الكبيرة تذبح بطريقة صعقها بإطلاق الرصاصة على رأسها في موضع المخ بالمسدس برصاص خاص لهذه العملية أو بمسدس يقذف مسمارا نافذا. . . والعجول الصغيرة والأغنام تذبح بطريقة الصعق إما بالرصاص أو بالضرب الشديد على جبهتها الأمامية بمطرقة، أما الدواجن فيشترط لذبحها أن يكون ذلك بطريقة الصعق السريع بالضرب الشديد بالمطرقة على رأسها أو بقتلها قتلا سريعا بفصل رأسها. وعند ذبح الخيول والثيران والعجول الكبيرة بالطريقة المذكورة تصفى دماؤها بإدخال سكين في أسفل رقبتها في الشريان الكبير الواقع في مدخل الصدر من أعلى وتستعمل لهذا الغرض السكين العادية.
أما العجول الصغيرة والأغنام فتصفى دماؤها بتشريطها من الجانب الأسفل من رقبتها في الشريان الكبير الواقع خلف الرأس حول الرقبة فتفصل شرايينها. أهـ. ثم علق المؤلف بقوله (وكل هذه أدلة رسمية قاطعة في صدق ما ندعيه من أن ذبائحهم موقوذة مقتولة (فطيس) نجسة محرمة لا يصح لمسلم أن يتعاطاها أو يحملها أو يبيعها. . وقد كنت أكتفي بما أعمله شخصيا وأنا طالب بأوربا خمس سنوات من أن طريقة ذبح الحيوانات عندهم في المجازر هي القتل بضربها على رأسها على المخ من مقدم الرأس بين القرنين في الجبهة، وهي ضربة واحدة بآلة خصصت لذلك فيخر الحيوان صريعا لوقته. ولكن خشية ادعاء ما لا أعرف أقمت الدليل الكتابي من حكوماتهم أنفسهم وهاهو ننشره ليعلمه الناس وكفى. .)
ثم قال: (وقد أرسلت لحضرة الدكتور العلامة الأستاذ عبد الحميد مصطفى فرغلي المتخصص في وظائف أعضاء الحيوان بأمريكا (الولايات المتحدة) جامعة جونس هوبكنز بمدينة بلتمور - أسأله عن كيفية قتل حيوانات الأكل عندهم في أمريكا فورد منه جواب في 15 \ 7 سنة 1947 يقول:
سألت عن طريقة الذبح - الطريقة أن يضربوا الحيوان بمطرقة مدببة في مخه فيموت وبعد ذلك يقطعون رقبته ولكنهم لا يذبحون كما يفعل المسلمون أو اليهود وهذا الإجراء يشمل جميع الحيوانات) .(6/182)
رابعا: تطبيق القواعد الشرعية على الذبائح المستوردة على ضوء ما عرف عنها من المشاهدات ونحوها
إن مجرد البيان لطريقة الذبح الشرعية دون الحكم بها على واقع اللحوم المستوردة إلى المملكة العربية السعودية من دول أوربا وأمريكا وغيرها لا تفيد من يتحرى الحلال فيما يأكل ويجتهد في اجتناب ما حرم الله عليه من ذلك إلا إذا عرف أحوال التذكية وأحوال المذكين في تلك الشركات الغربية وغيرها التي تستورد منها اللحوم إلى المملكة، وأنى له ذلك، فإن السفر إلى تلك البلاد فيه كلفة، لبعد الشقة فلا يتيسر إلا للنزر اليسير، وأكثر من يسافر إليها يكون سفره لضرورة من علاج ونحوه، أو لإشباع رغبة وحب استطلاع ولا يعني بهذا الأمر، ولا يكلف نفسه البحث عنه والوقوف على حقيقته، ولذا كتبت الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء إلى المسئولين عن استيراد اللحوم وغيرها من المأكولات تستفسر منها عن الواقع، وتوصيها بالعناية بما تستورده من ذلك من الجهة الشرعية، محافظة على الدين، وعلى سلامة الرعية من تناول ما حرم الله عليهم من الأطعمة، وتوفير ما تحتاج إليه الأمة مما أحل الله.
وجاء منهم إجابة مجملة لا تكفي لإزالة الشك وطمأنينة النفس فكتبت إلى دعاتها في أوربا وأمريكا ليطلعوا على كيفية الذبح وديانة الذابحين هناك فأجاب منهم جماعة إجابة في بعضها إجمال وكتب جماعة من أهل الغيرة في المجلات عن صفة الذبح والذابحين جزى الله الجميع خيرا، ولكن كل ذلك لم يستوعب الشركات التي يستورد منها المسئولون عن ذلك في المملكة مع ما في بعضها من الإجمال.
ومع ذلك فاللجنة تعرض خلاصة ما جاءها من التقارير وما اطلعت عليه في المجلات على ما تقدم من طريقة الذبح الشرعية وما صدر في الموضوع من فتاوى كلية ليتبين الحكم على اللحوم المستوردة من تلك البلاد.
وعلى هذا يمكن أن يقال:
أولا: بناء على ما جاء في كتاب معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء من أنه قد وردت إلى معاليه تقارير تفيد أن بعض الشركات الأسترالية التي تصدر اللحوم للأقطار الإسلامية وخاصة شركة " الحلال الصادق" والتي يمكلها القادياني(6/183)
" حلال صادق " لا تتبع الطريقة الإسلامية في ذبح الأبقار والأغنام والطيور يحرم الأكل من ذبائح هذه الشركات، وتجب مراعاة ما قررته الرابطة وأوصت به في كتابها (1) .
ثانيا: بناء على ما جاء في تقرير الأستاذ أحمد بن صالح محايري في طريقة الذبح في شركة برينسيسا من أن الذابح لا يدرى عنه هل هو مسلم أو كتابي أو وثني أو ملحد، ومن الشك في قطع الوريدين أو أحدهما ومن أن شهادة المصدق على الشحنة لم تبن على معاينته بنفسه أو بنائبه للذبح ولا على معرفته بالذابح لا يجوز الأكل من هذه الذبائح، ويؤكد كون التذكية غير شرعية موافقة مدير الشركة على تعديل طريقة الذبح لتكون شرعية بشرط بيان الكمية اللازمة للجهة المستوردة أولا (2) .
ثالثا: وبناء على ما جاء عنه أيضا في طريقة ذبح الدجاج والبقر في شركة ساديا أو يستة من أن الذابح مشكوك في ديانته هل هو كتابي أو وثني، ومن أن الأبقار تصعق بكهرباء، فإذا سقطت رفعت من أرجلها بآلة ثم شق جلد رقبتها بسكين، ثم قطع الوريد بسكين آخر، فينزل الدم بغزارة لا يجوز الأكل من هذه الذبائح (3) .
رابعا: بناء على ما جاء في تقرير الشيخ عبد الله الغضية عن الذبح في لندن من أن الذابحين من الشباب المنحرف الوثني أو الدهري، ومن أن الدجاجة تخرج من الجهاز ميتة منتوفة ورأسها لم يقطع بل لم يظهر في رقبتها أثر للذبح، وإقرار إنجليزي من أهل المذبح بذلك، ومن خداع القائمين على المذبح من أراد الاطلاع على طريقة الذبح الأوتوماتيكي الذي يذبح فيه للتصدير واطلاعهم على مذبح يذبح فيه قلة من المسلمين بالداخل، وذلك مما يبعث في النفس ريبة في كيفية الذبح وديانة الذابح، لذلك لا يجوز الأكل من هذه الذبائح (4) .
خامسا: بناء على ما جاء في تقرير الأستاذ حافظ عن طريقة الذبح في بعض الأمكنة المشهورة في اليونان من أن ذبح الحيوان الكبير يكون بعد سقوطه من ضرب رأسه بمسدس ومن الشك في كون الذبح حصل بعد موته من المسدس، أو قبل موته لا يجوز الأكل منه، وهناك طريقة أخرى قال فيها صاحب التقرير: إن الذبح فيها على الطريقة الإسلامية ولم يبين كيفية الذبح ولا ديانة الذابح. كما أنه لم يبين أماكن الذبح ولا شركاته في اليونان (5) .
سادسا: بناء على ما جاء في تقرير الشيخ عبد القادر الأرناؤط عن طريقة الذبح في يوغسلافيا من أن الذبح في القرى وفي سيراجيفو على الطريقة الشرعية والذابح مسلم يجوز الأكل مما ذبح فيها وبناء على
__________
(1) ص44 من الأعداد.
(2) ص50، 45 من الأعداد.
(3) ص 50، 45 من الأعداد.
(4) ص 51-56 من الأعداد.
(5) ص 54 من الأعداد.(6/184)
ما جاء فيه عن الذبح في غيرها من مدن يوغوسلافيا من أن الذابح قد يكون غير مسلم كتابيا أو شيوعيا ظاهرا لا في حقيقة الأمر لا يجوز الأكل من ذبائح هذه المدن للشك في أهلية الذابح.
سابعا: بناء على ما جاء في تقرير الدكتور الطباع عن طريقة الذبح في ألمانيا الغربية من أن الأبقار تضرب بمسدس في رءوسها أولا، ثم لا تذبح إلا بعد أن تصير ميتة لا تؤكل هذه الذبائح (1) .
ثامنا: بناء على ما جاء في المقال الذي نشرته مجلة المجتمع - عدد 314 - عن طريقة الذبح بالدانمرك من أن الذابح إلى الشيوعيين والوثنيين أقرب منه إلى النصارى، ومن أن الشركة هناك ليست عندها معلومات عن طريقة الذبح الإسلامي إلا من جهة الإشاعات حتى يتأتى لها أن تراعي في ذبحها الطريقة الإسلامية وأن تكتب على الطرود ذبح على الطريقة الإسلامية وإنما تكتب هذه الصيغة الجهة المستوردة ليصدق عليها هناك من لا يؤمن مع امتناعهم من تمكين من يريد معرفة كيفية الذبح في الشركة المصدرة من الاطلاع على ذلك (2) .
وبناء على ما جاء أيضا عن الأستاذ أحمد صالح محايري عن محمد الأبيض المغربي الذي يعمل في تعليب اللحوم بالدانمرك من أنهم يكتبون عليها ذبحت على الطريقة الإسلامية وهذا غير صحيح، لأن قتل الحيوان يتم كهربائيا على كل حال- بناء على هذا وذاك لا يجوز الأكل من تلك الذبائح.
تاسعا: ما ذكر عن ابن العربي من إباحة الأكل مما ذكاه أهل الكتاب من الأنعام والطيور ونحوها مطلقا وإن لم توافق تذكيتهم التذكية عندنا، وأن كل ما يرونه حلالا في دينهم فإنه حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه مردود بما تقدم في بيان طريقة الذبح وفي الفتاوى.
عاشرا: مما تقدم في بيان كيفية الذبح وديانة الذابحين يتبين أن ما ذكر في كتب (3) وزارة التجارة والصناعة إلى الرئاسة لا يقوى على بعث الاطمئنان في النفس إلى أن الذبائح المستوردة يحل الأكل منها بل يبقى الشك على الأقل يساور النفوس في موافقة ذبحها للطريقة الإسلامية والأصل المنع، وعلى هذا لا بد من البحث عن طريق لحل المشكلة.
__________
(1) ص63-67 من الأعداد.
(2) ص50 من الأعداد.
(3) ص 42-43 من الأعداد.(6/185)
حل مشكلة اللحوم المستوردة
يتلخص ذلك فيما يأتي: -
1 - الإكثار من تربية الحيوانات، والعناية بتنميتها، واستيراد ما يحتاج إليه منها إلى المملكة حيا، وتيسير أنواع العلف لها، وتهيئة المكان المناسب لتربيتها وتذكيتها بالمملكة، وبذل المعونة لمن يعني بذلك من الأهالي شركات أو أفراد تشجيعا له وتسهيل طرق توزيعها في المملكة.
وكذا الحال بالنسبة لإنشاء مصانع الجبن وتعليب اللحوم والزيوت والسمن وسائر الأدهان.
2 - إنشاء مجازر خاصة بالمسلمين في البلاد التي يراد استيراد اللحوم منها إلى البلاد الإسلامية أو المملكة العربية السعودية، ويراعى في تذكية الحيوانات بها الطريقة الشرعية.
3 - اختيار عمال مسلمين أمناء عارفين طريقة التذكية الشرعية ليقوموا بتذكية الحيوانات تذكية شرعية في تلك الشركات بقدر ما تحتاج المملكة إلى استيراده منها.
4 - اختيار من يحصل به الكفاية من المسلمين الأمناء الخبيرين بأحكام التذكية الشرعية وأنواع الأطعمة ليشرف على تذكية الحيوانات وعلى مصانع الجبن وتعليب اللحوم ونحوها في الشركات التي تصدر ذلك إلى المملكة العربية السعودية.
وإذا كان اليهود حريصين على أن يكون الذبح متفقا مع عقيدتهم ومبادئهم فخصصوا لذلك مجازر لهم وعمالا يذبحون لهم كما يريدون، فالمسلمون أحق بذلك منهم وأولى أن يستجاب لهم لكثرة ما يستهلكون من اللحوم ومنتجات المصانع الغربية وشدة حاجة أولئك إلى تصريف ما لديهم من لحوم ومنتجات أخرى. والله الموفق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(6/186)
بطلان نكاح المتعة
بمقتضى الدلائل
من الكتاب والسنة
عبد الله بن زيد آل محمود (1)
الحمد لله ثم الصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تمسك بسنته واتبع هداه - أما بعد: فإنني رأيت مقالة صادرة عن أحد علماء الشيعة (2) . يقول فيها بإباحة متعة النساء ويحث فيها الشباب والشابات على فتح أبواب التمتع من بعضهم مع بعض بالنكاح المؤقت باليوم واليومين والأسبوع أو الشهر ليشبعوا بذلك شهوتهم بدون تكلف النكاح الشرعي الذي يشق عليهم فعله وفعل ما ترتب عليه من الصداق والنفقة. وهذه دعاية سافرة إلى فتح أبواب الزنا والتوسع فيه مما يجعل الشباب ينصرفون عن النكاح الشرعي وكانت هذه القضية هي مما عفا عليه الأثر ولم يبق عند كافة علماء المسلمين أي اهتمام بها ولا ذكر لكونها معلومة البطلان بواضح الكتاب والسنة والإجماع.
__________
(1) فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية الدينية بقطر 20 رجب سنة 1400
(2) المقالة صادرة عن عيسى الخاقاني(6/187)
ثم إنه يستدل لتأييد رأيه بالنقول الباطلة غير الصحيحة وبالأحاديث المنسوخة فتراه يقول ذكر البخاري في كتابه كذا وذكر مسلم كذا وذكر الرازي كذا بما لا حقيقة له ولم أجده ذكر في مقالته حديثا واحدا بلفظه ومعناه لكنه عندما يسوق حديثا كحديث الإمام علي رضي الله عنه «أن رسول الله رخص في المتعة في أول الإسلام ثم نهى عنها عام خيبر وقبل عام الفتح نهيا عاما دائما إلى يوم القيامة (1) » . فتراه يحتج بالمنسوخ من قوله «رخص النبي صلى الله عليه وسلم في المتعة (2) » ويترك الناسخ تغريرا وتدليسا لأسماع الناس مع العلم أنني لم أره ذكر حديثا واحدا صحيحا بلفظه مما يؤيد صحة ما ذهب إليه. إلا أن يكون منسوخا قد بطل العمل به. إن أول كلمة بدأ بها مقالته هي قوله: _ إن المتعة كانت مباحة وإن أول من قال بتحريمها هو الخليفة الثاني يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهو يحاول إلصاقها بعمر - يستبيح بذلك حرمة تحريمها وينزه الرسول عنها وهذا ليس محمولا على عدم معرفته أحاديث النسخ لها وإجماع الصحابة على تحريمها وإنما فعله تلبيسا على أسماع الناس - كما قال سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) . . ولبس الحق بالباطل هو تغطيته به بحيث يظهر الباطل في صورة الحق فيظهر للناس باطله في صورة الحق وهو في الحقيقة باطل. ومن لوازم هذا التدليس كتمان الحق وعدم بيانه لأنه لو بينه للناس لعرفوا حقيقة بطلان قوله من أوله. وإباحته في بدء الإسلام إنما نشأت عن بقاء الناس على حالتهم في الجاهلية وكان هذا نوعا من أنكحتهم في القرآن بالمتخذين أخدانا - كما في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها- ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه- فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع ونكاح آخر
__________
(1) صحيح البخاري الحيل (6961) ، صحيح مسلم النكاح (1407) ، سنن الترمذي النكاح (1121) ، سنن النسائي النكاح (3365) ، سنن ابن ماجه النكاح (1961) ، مسند أحمد بن حنبل (1/142) ، موطأ مالك النكاح (1151) ، سنن الدارمي النكاح (2197) .
(2) صحيح البخاري كتاب النكاح (5119) ، صحيح مسلم النكاح (1405) ، مسند أحمد بن حنبل (4/51) .
(3) سورة آل عمران الآية 71(6/188)
يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل - والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع من جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما. فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك.
فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله.(6/189)
أنكاح الناس اليوم
وبه يعلم أن نكاح المتعة هو من قبيل متخذات أخدان بحيث يختص بها واحد بدون مشارك في زمن محدد كما هو الواقع من فعل كثير من النساء الزواني اللاتي يراعين التستر وبذلك أنزل الله {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} (1) . من سورة النساء - فسمى الله الصداق أجرة وأجرا كما قال سبحانه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (2) . وفي قصة موسى قول شعيب {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} (3) . فتزوجها موسى برعاية غنم شعيب ثماني سنين ثم كملها عشرا فليس في الشريعة الإسلامية نكاح مباح إلا نكاح الزوجة أو إلا ملك اليمين فمن ابتغى نكاحا غيرهما فأولئك هم العادون- أي الذين يتطلبون نكاحا مؤقتا بيوم أو يومين فهم المعتدون لحدود الله والمستحلون لمحارمه.
__________
(1) سورة النساء الآية 25
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) سورة القصص الآية 27(6/189)
ثم إن صاحب المقالة رد على من قال بجواز الاستمناء باليد يعني بذلك الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه " الحلال والحرام " حيث طرق موضوع هذه القضية ثم قال بجواز الاستمناء باليد عند الضرورة وليس رأيه هذا ببدع من القول والزور لجواز ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما وهو عمل جائز في مذهب الحنابلة قال في الإقناع ولا يعزر يعني من استمنى بيده أي لقوة الخلاف وضعف القول بحرمته (1) . وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن أبناء المهاجرين والأنصار في غزواتهم الطويلة كانوا يستريحون بالاستمناء باليد وهذا الاستمناء هو كاسمه حقيقة ومعنى ولا يسمى نكاحا فإخراج هذا المني إلى التراب أو إلى الفراش أيسر من وضعه في فرج حرام- وقال شيخ الإسلام في فتاواه: إن اضطر الشخص إلى الاستمناء بيده مثل أن يخاف الزنا إن لم يستمن أو يخاف المرض فهذا فيه قولان مشهوران وقد رخص في هذه الحال طوائف من السلف والخلف (2) . .
هذا وإن أساطين الشيعة ورؤساءهم يتعففون عن هذا العمل فلا نسمع بغني ولا فقير أنه سلم ابنته لرجل باستئجاره لها يوما أو يومين أو أسبوعا أو شهرا باسم نكاح المتعة فهم يترفعون عن العمل بهذا وعدم السقوط فيه لدناءته فهو نكاح مفسدة وتنقل في اللذات وحتى إن جريمة الزنا قليلة فيما بينهم وليس فيه شيء من المصالح سوى قضاء وطر الشهوة بخلاف النكاح الدائم الشرعي فإنه يترتب عليه مصالح كثيرة منها الإحصان وكونه يحصن الزوج عن غير زوجته ويحصنها ومتى أشرك مع زوجته غيرها من الأخدان فإنه يفسد به نظام الزوجية الشرعية فيبغض زوجته وتبغضه.
ومنها أن الله سمى الزوجة سكنا فيسكن إليها الزوج وتسكن إليه ويأنس بها فقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (3) . فالزوج سكن للمرأة يسكن إليها ويطمئن بها فتجلب إليه الأنس والسرور والغبطة والحبور وتقاسمه الهموم والغموم ويكون بوجودها بمثابة الملك المخدوم والسيد المحشوم- فمسكين مسكين رجل بلا زوجة- والعزاب هم أراذل الأحياء وشرار الأموات. . . كما أن الزوج كرامة ونعمة للزوجة يرفع مستوى ضعفها وينشر جناح وحدتها ويسعى عليها بكل ما تشتهي من الحاجات والنفقات ويجعلها سيدة بيت وسعيدة عشيرة وأم بنين وبنات.
ومنها أن الله سمى الزوجة حرثا الذي هو محل لإنشاء النسل المحبوب تكثيره عند الشرع ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تزوجوا الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة (4) » ولا توجد هذه الميزات
__________
(1) انظر الإقناع- باب التعزير من كتاب الحدود- المجلد الثالث
(2) المسألة 38 ص 62 من المجلد الأول- فتاوى ابن تيمية
(3) سورة الروم الآية 21
(4) سنن النسائي النكاح (3227) ، سنن أبو داود النكاح (2050) .(6/190)
في نكاح المتعة الذي غايته قضاء وطر شهوة لا غير ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلانه واشتهاره لشرفه فقال صلى الله عليه وسلم: «أعلنوا النكاح (1) » وقال: «فرق ما بين الحلال والحرام الضرب بالدف (2) » . لكون النكاح الحرام يبالغ أهله في إخفائه وعدم بيانه فنكاح المتعة الذي غايته تفنن الذوق والتنقل في اللذات بدون رغبة منه ولا منها في اصطفاء البنين والبنات بل إنه من الأسباب التي ينقطع بها النسل؛ لأنه متى تعاقب الرجال على المرأة بحيث تكون عند أحدهم شهرا وعند الآخر الشهر الثاني فإنه بذلك يفسد نظام الحمل من أجل اختلاط المياه في الرحم إذ هي بهذه الصفة من قبيل المتخذات أخدان.
وفي مذهب الزيدية: أن النكاح مؤبد فلا يجوز عندهم نكاح المتعة أو النكاح المؤقت إلى أمد مجهول أو معلوم وغايته إلى خمسة وأربعين يوما أو أكثر من ذلك. فقد حدث زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنهم «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة عام خيبر (3) » . وأخرج البخاري ومسلم والمؤيد بالله في شرح التجريد وغيرهم من طريق مالك عن ابن شهاب عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي بن أبي طالب «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية (4) » .
وأخرج البيهقي عن طريق عبد الله بن لهيعة عن موسى بن أيوب عن إياس بن عامر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة فقال: إنما كانت لمن لم يجد فلما أنزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت» .
وأخرج البيهقي أيضا أن رجلا سأل عبد الله بن عمر عن المتعة فقال حرام. قال فإن فلانا يقول فيها. فقال والله لقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمها يوم خيبر وما كنا مسافحين وهذا يدل على تحريم المتعة.
ثم إن الشيعة تمسكوا في استدلالهم على نكاح المتعة بقوله سبحانه: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (5) . وهذا الاستدلال لا صحة له فإن هذه الآية سيقت في بيان ما يحل ويحرم من نكاح النساء كما يعلم من نظمها فيما قبلها وبعدها.
وأن يكون الغرض المقصود هو الإحصان وطلب النسل دون التمتع بسفح الماء والتنقل في اللذات. الذي يكون حظ الحيوان فيها أكثر من حظ الناس ثم إن السنة تفسر القرآن وتبين ما أشكل منه وقد فسرت السنة هذا الاستمتاع وإن المراد به النكاح الشرعي.
__________
(1) سنن الترمذي النكاح (1089) ، سنن ابن ماجه النكاح (1895) .
(2) عن محمد بن حاطب الجمحي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: '' فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدف في النكاح '' - رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه
(3) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5523) ، صحيح مسلم النكاح (1407) ، سنن الترمذي النكاح (1121) ، سنن النسائي النكاح (3365) ، سنن ابن ماجه النكاح (1961) ، مسند أحمد بن حنبل (1/142) ، سنن الدارمي النكاح (2197) .
(4) صحيح البخاري المغازي (4216) ، صحيح مسلم النكاح (1407) ، سنن الترمذي النكاح (1121) ، سنن النسائي النكاح (3366) ، سنن ابن ماجه النكاح (1961) ، مسند أحمد بن حنبل (1/142) ، سنن الدارمي النكاح (2197) .
(5) سورة النساء الآية 24(6/191)
فقد روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «استوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع أعوج وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن استمتعت بها استمتعت وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها (1) » فدل الحديث على نفس ما دلت عليه الآية وأن المراد بقوله {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} (2) أي بالنكاح الشرعي الذي يتخلله الطلاق عند عدم الوفاق كما قال: «وكسرها طلاقها (3) » ونكاح المتعة ليس فيه طلاق ولا نفقة ولا ميراث فيجوز عندهم أن يستأجرها بنكاح المتعة فهو يتمشى على طريقة السفاح بحيث إن الرجل يتفق مع المسافحة أسبوعا أو شهرا بأجر مسمى على سبيل الاختصاص بدون مشارك ثم يتفق الثاني معها كذلك إلا أنهم لا يذكرون فيه نكاح المتعة- ولهذا قال علي رضي الله عنه لا أوتي بمستمتعين إلا رجمتهما.
فقوله {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} (4) أي تمتعتم والزوجة تسمى متاعا كما روى الإمام أحمد والدرامي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة التي إذا نظر إليها الزوج سرته وإن أمرها أطاعته وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله (5) » .
ثم إن النكاح الشرعي المؤبد يخالف نكاح المتعة المقدر بيوم أو أسبوع أو شهر فإن نكاح المتعة ليس فيه سوى قضاء وطر الشهوة فقط بحيث يسفح ماءه في فرجها فهو يزيد في الولوع والشغف في التنقل في اللذات فكلما سفح ماءه في امرأة انصرف عنها إلى غيرها لكون الحب إذا نكح فسد ولكون المتمتع بنكاح المتعة لا يقصد الإحصان وإنما يقصد مجرد السفاح والتنقل في اللذات بين المشتهيات فتزداد به المرأة جنونا لا إحصانا بحيث تنصرف برغبتها عن النكاح الشرعي ومن شرط النكاح الشرعي هو أن يكون عن رغبة في استدامة بقائها لإحصانه بها وطلب النسل منها أما إذا تزوجها على عزم أن يطلقها بعد يوم أو يومين أو أسبوع أو على نية أن يبيحها لزوجها الأول فإن هذا نكاح باطل ولا ينعقد ولا تحل به المرأة لزوجها الأول ويسمى التيس المستعار وعن ابن مسعود قال «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل (6) » له رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه.
ومن صفة المؤمنين ما أخبر الله عنهم بقوله {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (7) {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (8) {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (9) . أي المتجاوزون ما أحل الله لهم إلى ما حرم عليهم.
إن متعة النساء في استئجار المرأة لوطئها يوما أو أسبوعا أو شهرا كانت من عمل الجاهلية ثم بقيت على حالة الإباحة في أول الإسلام حيث كان الناس في شدة وحاجة فلما وسع الله عليهم بالمال
__________
(1) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن ابن ماجه كتاب النكاح (1851) .
(2) سورة النساء الآية 24
(3) صحيح مسلم الرضاع (1468) .
(4) سورة النساء الآية 24
(5) سنن ابن ماجه النكاح (1857) .
(6) مسند أحمد بن حنبل (1/448) .
(7) سورة المؤمنون الآية 5
(8) سورة المؤمنون الآية 6
(9) سورة المؤمنون الآية 7(6/192)
يوم فتح خيبر أي عام ست من الهجرة فحرمها رسول الله عن الله تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة «وقال إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن عنده منهن شيئا فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا (1) » .
إنما أبيحت متعة النساء لهم في أول الإسلام كحالتهم في الجاهلية حيث كانوا مصابين بالفقر الشديد والفاقة وبالجوع والعراء حيث كانوا يتقاسمون في بعض أسفارهم التمرة الواحدة وحيث كان يوجد من بينهم سبعون رجلا ما منهم رجل عليه إزار ورداء بل إما إزار وإما رداء قد ربطوها في أعناقهم - وفي الصحيحين «أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله جئت أهب لك نفسي، فنظر إليها ثم صوب نظره فقام رجل فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال: هل عندك من شيء فقال لا والله فقال انظر ولو خاتما من حديد فقال والله ما عندي ولا خاتم من حديد ولكن هذا إزاري فلها نصفه وليس عليه سوى إزار فقال رسول الله ما تصنع بإزارك إن لبسته ولم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء ولكن هل معك شيء من القرآن فقال نعم معي سورة كذا وكذا فقال اذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن (2) » مما يدل على أن متعة النساء قد أبيحت في زمان أبيحت فيه أكل الميتة وهذا معنى الفتوى التي قيل إن ابن عباس أفتى بها على أنه ليس بمعصوم وقد زجره الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال ما أراك تاركا هنياتك أما علمت أن رسول الله قد حرمها.
وجاء سعيد بن جبير إليه فقال ما هذه الفتوى التي سمعت الناس يتحدثون بها فقال: ما يقولون؟ قال: يقولون إنك أبحت متعة النساء وقد سمعت ركاب الإبل يتغنون بها، فقال: ما يقولون؟ قلت يقولون:
أقول للشيخ لما طال مجلسه ... يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
هل لك في خصرة الأطراف آنسة ... تكون مثواك حتى مصدر الناس
فقال والله ما قلت إلا أنها محرمة كحرمة الميتة ولحم الخنزير وليس تأخير تحريم متعة الناس إلى زمن خيبر ببدع من القول للحكمة والمصلحة فإن الله يحدث من أمره ما يشاء وكانت الشرائع من الأمر والنهي والحلال والحرام تنزل على النبي شيئا بعد شيء كما كان بعضهم يكلم بعضا في نفس الصلاة فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث من أمره أن لا تتكلموا في الصلاة يقول الله سبحانه: (4) » . فقد أبيح للناس شرب الخمر في أول الإسلام فكان أول آية نزلت في التمهيد للتحريم هو قوله سبحانه {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (5) . .
__________
(1) صحيح مسلم النكاح (1406) ، سنن النسائي النكاح (3368) ، سنن أبو داود النكاح (2072) ، سنن ابن ماجه النكاح (1962) ، سنن الدارمي النكاح (2195) .
(2) صحيح البخاري النكاح (5087) ، صحيح مسلم النكاح (1425) ، سنن الترمذي النكاح (1114) ، سنن النسائي النكاح (3280) ، سنن أبو داود النكاح (2111) ، سنن ابن ماجه النكاح (1889) ، مسند أحمد بن حنبل (5/336) ، موطأ مالك النكاح (1118) ، سنن الدارمي النكاح (2201) .
(3) صحيح البخاري المناقب (3875) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (538) ، سنن النسائي السهو (1221) ، سنن أبو داود الصلاة (924) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1019) ، مسند أحمد بن حنبل (1/415) .
(4) سورة البقرة الآية 106 (3) {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}
(5) سورة البقرة الآية 219(6/193)
ثم أنزل الله بعدها {لا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (1) . ومتى كان الشيء إثمه أكبر من نفعه وجب اجتنابه ثم أنزل الله قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) . .
وهذه من سورة المائدة التي هي من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها وهذا تحريم مؤبد ويكفر مستحله حتى إن الصحابة ندموا على من قتل شهيدا وهي في بطنه فأنزل الله {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (3) . لكون الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها لقوله سبحانه {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (4) . ومثله صلاة الصحابة إلى جهة بيت المقدس وهي قبلة اليهود والنصارى حتى أنزل الله {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (5) . وأتى رجل إلى بني عبد الأشهل وهم يصلون الفجر مستقبلين بيت المقدس فقال أشهد بالله لقد أنزل الله على رسوله قرآنا وأمر أن يستقبل القبلة فاستداروا وهم في صلاتهم إلى جهة القبلة.
إن الله سبحانه لا يحرم شيئا من المحرمات كالخمر والميسر ومتعة النساء إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة ولهذا أوجب العلماء إقامة الحد على من يستحل متعة النساء لإجماع الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين على تحريمها إلى يوم القيامة ولا عبرة بشذوذ الشيعة في هذا وما نسبوه إلى أحد الصحابة كأبي وابن مسعود من أنهما فعلا المتعة زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه على فرض صحته محمول على فعله قبل تحريمه. وإلا فحاشا وكلا أن يستبيح فعلها بعد تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لها وانعقاد إجماع الصحابة على تحريمها بالنصوص الصحيحة الصريحة. ومثله ما نسبوه عن علي من قوله لولا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلا شقي فإن هذا من الكذب المفترى صريحا على علي وعلى عمر بشهادة علي ذلك فإن له في البخاري حديثين فيهما «أن رسول الله حرم المتعة والحمر الأهلية عام خيبر (6) » ولم يحرمها عمر من تلقاء نفسه كما يقول (أعداؤه) فقد أخرج البيهقي عن طريق عبد الله بن لهيعة عن موسى بن أيوب عن إياس بن عامر عن علي رضي الله عنه قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة» قال وإنما كانت لمن لم
__________
(1) سورة النساء الآية 43
(2) سورة المائدة الآية 90
(3) سورة المائدة الآية 93
(4) سورة الإسراء الآية 15
(5) سورة البقرة الآية 144
(6) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5523) ، صحيح مسلم النكاح (1407) ، سنن الترمذي النكاح (1121) ، سنن النسائي النكاح (3365) ، سنن ابن ماجه النكاح (1961) ، مسند أحمد بن حنبل (1/142) ، سنن الدارمي النكاح (2197) .(6/194)
يجد فلما أنزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت. وأما احتجاج الشيعة بما روى مسلم عن جابر بن عبد الله «كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى نهى عنها عمر (1) » فدعوى إسناد إنشاء التحريم من عمر هو باطل قطعا فما كان نهي عمر إلا بمثابة التبليغ والتنفيذ لحكم رسول الله في تحريمها إذ هو من واجبه والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «فليبلغ الشاهد منكم الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع (2) » .
ثم قوله «كنا نتمتع على عهد رسول الله وأبي بكر (3) » فإن هذا مخالف للأحاديث الصحيحة التي رواها البخاري ومسلم عن علي وعن سلمة بن الأكوع وعن ابن عمر ولا يبعد أن يكون حديث جابر مكذوبا عليه أو أنه دخل فيه شيء من زيادة بعض الرواة والصحيح هو ما رواه مسلم عن ربيع بن صبرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني كنت أذنت لكم الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده شيء منها فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا (4) » فهذا الحديث فيه ذكر الناسخ والمنسوخ وكون التحريم صدر عن رسول الله عن الله ولم يقع لعمر ابتداء إلا على سبيل التبليغ والتنفيذ عن الله ومثله الحديث الذي احتج به صاحب المقالة عن ابن مسعود وهو في الصحيحين «عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا نساء فقلنا يا رسول الله ألا نختصي فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ ابن مسعود (6) » .
إن من عادة صاحب المقالة أن يحتج بالمنسوخ الذي زال حكمه وبطل العمل به ويترك الناسخ المحكم الذي يجب العمل به والحكم بموجبه.
ونحن لا ننكر إباحة متعة النساء في أول الإسلام على حسب حالتهم في الجاهلية وكونهم يستأجرون المرأة في أسفارهم الطويلة بالثوب وبالقبضة من التمر وبالقبضة من الدقيق فابن مسعود وجابر على فرض صحة حديثيهما يتحدثان عن حالتيهما في الجاهلية قبل تحريمها كما يتحدث الصحابة عن شربهم الخمر قبل أن تحرم عليهم وكما يتحدثون عن صلاتهم إلى المشرق قبل أن يحولوا إلى جهة الكعبة وكما يتحدثون عن كون أحدهم يكلم صاحبه لحاجته وهو في صلاته زمن النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (7) أي ساكتين. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث من أمره أن لا تتكلموا في الصلاة (8) » لكون أحكام الشرائع من الفرائض والمحرمات تنزل شيئا بعد
__________
(1) صحيح مسلم النكاح (1405) .
(2) صحيح البخاري الحج (1741) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد بن حنبل (5/49) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .
(3) صحيح مسلم الحج (1217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) .
(4) صحيح مسلم النكاح (1406) ، سنن النسائي النكاح (3368) ، سنن ابن ماجه النكاح (1962) ، سنن الدارمي النكاح (2195) .
(5) صحيح البخاري النكاح (5076) ، صحيح مسلم النكاح (1404) ، مسند أحمد بن حنبل (1/420) .
(6) سورة المائدة الآية 87 (5) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
(7) سورة البقرة الآية 238
(8) صحيح البخاري المناقب (3875) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (538) ، سنن النسائي السهو (1221) ، سنن أبو داود الصلاة (924) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1019) ، مسند أحمد بن حنبل (1/415) .(6/195)