ما كان عليه قبل الزموا بالثلاث عقوبة لهم، ونظير هذا كله تتغير فيه الفتوى بتغير الأحوال والأزمان والأمكنة كالعقوبة في الخمر، والتفريق بين الذين خلفوا ونسائهم، وقتال علي لبعض أهل القبلة متأولا، ولم يكن الإمضاء شرعا مستمرا إنما كان رهن ظروفه (1) .
وأجيب ثانيا: بتأويل حديث طاوس عن ابن عباس بأن الطلاق الذي كان الناس يوقعونه واحدة في عهده - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر اعتادوا إيقاعه بعد ذلك ثلاثا، ويشهد لهذا قول عمر - رضي الله عنه -: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. الخ.
ونوقش بأنه تأويل يخالف الواقع في العهود الثلاثة الأولى، فإن الطلاق ثلاثا جملة قد وقع فيها من الصحابة كما تقدم في حديث محمود بن لبيد، وحديث اللعان، وكما يأتي في حديث ركانة، وأيضا يمنع منه ما ورد في بعض روايات الحديث من أنها جعلت واحدة أو ردت إلى الواحدة (2) .
وأجيب ثالثا: بحمل الحديث على غير المدخول بها بدليل ذكر ذلك في الرواية الأخرى، فإن الزوج إذا قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، بانت بالأولى، فكانت الثلاث واحدة، ونوقش هذا ولم يزل ماضيا، ولم يتقيد بعهد ولا زمان، وما نحن فيه تغير حكمه في أيام عمر - رضي الله عنه - عما كان عليه قبل، وقد وجه بعضهم الجواب بتوجيه آخر، وهو أن زوجها إذا قال لها: أنت طالق ثلاثا بانت بقوله أنت طالق، ولغي قوله: ثلاثا، ونوقش بأنه كلام متصل، فكيف يفصل بعضه من بعض ويحكم لكل بحكم؟
ونوقش أصل الجواب بأن حديث طاوس نفسه عن ابن عباس مطلق ليس فيه ذكر لغير المدخول بها، وجواب ابن عباس في الرواية الأخرى وارد على سؤال أبي الصهباء عن تطليق غير المدخول بها ثلاثا، فخص ابن عباس غير المدخول بها ليطابق الجواب السؤال، ومثل هذا ليس له مفهوم مخالفة (3) .
وأجيب رابعا: بأن جعل الثلاث واحدة لم يكن عن علم منه - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أمره وإلا ما استحل ابن عباس أن يفي بخلافه.
ونوقش بأن جماهير المحدثين على أن ما أسنده الصحابي إلى عهده - صلى الله عليه وسلم - له حكم، فإنه على تقدير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحكم بذلك يستبعد أن يفعله الصحابة وهم خير الخلق، ولا يعلمه - صلى الله عليه وسلم - والوحي ينزل، ثم كيف يستمر العمل من الأمة على خطأ في عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر، والأمة معصومة من إجماعها على الخطأ (4) .
وأجيب خامسا: يحمل الحديث على صورة تكرير لفظ الطلاق، فإنه يعتبر واحدة مع قصد التوكيد،
__________
(1) ص - من البحث.
(2) ص - من البحث.
(3) ص - من البحث.
(4) ص - من البحث.(3/156)
وثلاثا مع قصد الإيقاع، وكان الصحابة خيارا أمناء فصدقوا فيما قصدوا، فلما تغيرت الأحوال وفشا إيقاع الثالث جملة بلفظ واحد ألزمهم عمر الثلاث في صورة التكرار إذ صار الغالب عليهم قصدها.
ونوقش بأن حمل الحديث على ذلك خلاف الظاهر، فإن الحكم لم يتغير في صورة التكرار فيما بعد عما كان عليه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر، بل الأمر لم يزل على اعتباره واحدة في هذه الصورة عند قصد التوكيد، ومن ينويه لا يفرق بين بر وفاجر، وصادق وكاذب، ومن لا ينويه في الحكم لا يقبل منه مطلقا برا أم فاجرا، وأيضا قول عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة - إلخ يرد حمل الحديث على هذه الصورة، فإن معناه أن الناس استعجلوا فيما شرعه الله لهم متراخيا بعضه عن بعض رحمة منهم بهم، فأوقعوه بلفظ واحد، فهذا يدل على أن لفظ الثلاث في الحديث مراد به جمع الثلاث دفعة، وإن كان في نفسه محتملا (1) .
وأجيب سادسا: بمخالفة فتوى ابن عباس لروايته، فإنه لم يكن ليروي حديثا ثم يخالفه إلى رأي نفسه؛ ولذلك لما سئل أحمد بأي شيء تدفع حديث ابن عباس قال برواية الناس عنه من وجوه خلافه، ونوقش بأن الصواب من القولين في مخالفة الراوي لروايته أن الحديث الصحيح المعصوم لا يترك لمخالفة رواية، وهو غير معصوم، إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث أو أنه لا يحضره الحديث وقت الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على المسألة التي خالفه فيها أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا، أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا له في الواقع، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه، لثقته به واعتقاده أنه إنما خالفه لدليل أقوى منه، وعلى هذا الأصل بنى المالكية والشافعية والحنابلة فروعا كثيرة حيث قدموا العمل برواية الراوي على فتواه، وأيضا كما نقل عن ابن عباس إمضاء الثلاث، وروى عنه اعتبار الثلاث مجموعة طلقة واحدة، وإذا تعارضت الروايتان عدل عنهما إلى الحديث، لكن هذه المناقشة مردودة بأمرين: الأول أن رواية الراوي إنما تقدم على قوله إذا كانت صريحة أو ظاهرة في معنى قال بخلافه، وإلا قدم قوله؛ لأنه يدل على أن الاحتمال الذي خالفه قوله غير مراد من الحديث، وحديث ابن عباس هنا محتمل أن يكون في الطلاق ثلاثا بلفظ واحد، وأن يكون مفرقا كما في الصورة التي في الجواب الخامس عن الحديث، فدلت فتواه على إرادة صورة التفريق لا صورة الاجتماع، الثاني: أن ما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة أن ابن عباس قال: إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة، معارض بما رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة أن ذلك من قول عكرمة لا من قول ابن عباس، ورواية إسماعيل مقدمة لموافقته الثقاة في أن ابن عباس يجعلها ثلاثا لا واحدة (2) .
وقد يقال في الأمر الأول: إن لفظ الطلاق الثلاث في الحديث ظاهر فيها مجموعة، وإلا لم يقل عمر - رضي الله عنه - إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، إلخ - اعتذارا منه في الحكم على خلاف ظاهره، وبه اعتذر ابن عباس وغيره في إمضاء الثلاث، وقد سبق الكلام في هذا عند مناقشة الجواب عن الحديث
__________
(1) ص - من البحث.
(2) ص - من البحث.(3/157)
بالنسخ.
ويقول في الأمر الثاني: أنه لا مانع من ثبوت القول بجعل الثلاث، بلفظ واحد عن كل من ابن عباس وعكرمة، وعلى تقدير تعارض الروايتين بالنفي والإثبات، فالمثبت مقدم على النافي، على أن حماد بن زيد أثبت في أيوب من كل من روى عن أيوب كما قال يحيى بن معين، فيقدم على إسماعيل بن إبراهيم (1) .
وأجيب سابعا: بأن المراد بالطلاق الثلاث في الحديث لفظ ألبتة لاشتهارها في الثلاث عند أهل المدينة، فرواه بعض رواته بالمعنى فعبر بالثلاث بدلا من ألبتة، وفي هذا جمع بين الروايات، وكان يراد بها واحدة كما أراد بها ركانة، فلما تتابع الناس في إرادة الثلاث بها ألزمهم إياها عمر - رضي الله عنه - ونظيره زيادته الضرب في شرب الخمر حين تتابع الناس فيه (2) .
وقد يقال: إن هذا تأويل على خلاف الظاهر بلا دليل، وأيضا تقدم في كلام الشافعي أن كلمة ألبتة مستحدثة (3) .
وعلى ذلك لا يجوز حمل لفظ الطلاق الثلاث في الحديث عليها.
وأجيب ثامنا: بأنه حديث شاذ؛ لانفراد طاوس به عن ابن عباس، وانفراد الراوي بالحديث - وإن كان ثقة - علة توجب التوقف فيه إذ لم يرو معناه من وجه يصح (4) .
ونوقش بأن مجرد انفراد الثقة برواية الحديث ليس علة توجب رده أو التوقف، ولا يسمى هذا شذوذا عند علماء الحديث إنما الشذوذ يكون علة في رد الحديث، هو أن يخالف الثقة الثقاة مخالفة لا يمكن معها الجمع ولم يخالف طاوس في رواية هذا الحديث أحدا من الرواة الثقاة، عن ابن عباس في هذا الموضوع، وإنما وقعت المخالفة بين ما رواه وما أفتى به، وقد مضى الكلام في ذلك (5) ، لكن لقائل أن يقول: إن استمرار العمل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر بجعل الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة وتغيير عمر، لذلك على علم من الصحابة مما تتوفر الدواعي على نقله، فنقله آحادا يوجب رده، اللهم إلا أن يحمل الحديث على ما تقدم من أن الطلاق كان على وجه التكرار مع قصد التأكيد، أو قد كان بلفظ ألبتة فاختلف الحكم فيه باختلاف النية (6) .
وقد يناقش ألا يراد بمنع أن يكون ما ذكره مما تتوفر الدواعي على نقله، وأنه على تقدير أن يكون من
__________
(1) تهذيب التهذيب.
(2) ص - من البحث.
(3) ص - من البحث.
(4) ص - من البحث.
(5) ص - من البحث.
(6) ص - من البحث.(3/158)
ذلك، فللمستدل أن يقول: إن الحديث قد اشتهر نقله وصح سنده ولم يجرؤ أحد على تكذيبه أو تضعيفه بوجه يعتبر مثله كما اشتهر نقل مخالفة فتوى عمر وابن عباس لظاهره، ويشهد لهذا اشتغال العلماء سلفا وخلفا بالأمرين، فبعضهم يؤول الحديث ليتفق مع الفتاوى، وبعضهم يذهب إلى بيان وجه مخالفة الفتاوى له ويبقيه على ظاهره، ويعتذر عن الفتوى بخلافه، وبعضهم يعارضه بفتوى ابن عباس ويقدم العمل بها عليه، إلى غير هذا مما يدل على شهرة النقل للأمرين، وعلى تقدير عدم الشهرة فكم من أمر تتوفر الدواعي على نقله قد نقل آحادا وعمل به جمع من أئمة الفقهاء ورده آخرون بهذه الدعوى.
وأجيب تاسعا: بأن الحديث مضطرب سندا ومتنا، أما اضطراب سنده فلروايته تارة عن طاوس عن ابن عباس، وتارة عن طاوس عن أبي الصهباء عن ابن عباس، وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس، وأما اضطراب متنه فإن أبا الصهباء تارة يقول: ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة؟ وتارة يقول: ألم تعلم أن الطلاق الثلاث كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدر من خلافة عمر واحدة.
ونوقش بأن الاضطراب إنما يحكم به على الحديث إذا لم يمكن الجمع ولا الترجيح وكلاهما ممكن فيما نحن فيه، فإن الرواية عن أبي الجوزاء وهم فيها عبد الله بن المؤمل، حيث انتقل في روايته الحديث عن ابن أبي مليكة من أبي الصهباء إلى أبي الجوزاء، وقد كان سيء الحفظ فلا تعارض بها رواية الثقاة عن أبي الصهباء، وأما روايته عن طاوس عن ابن عباس وعن طاوس عن أبي الصهباء وعن ابن عباس فكلاهما ممكن فلا تعارض ولا اضطراب، وأما اختلاف المتن فتقدم بيان الجمع بين الروايتين فلا اضطراب (1) .
وأجيب عاشرا: بمعارضته بالإجماع والإجماع معصوم فيقدم، وقد تقدمت مناقشة ذلك (2) ومن السنة أيضا ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن سعد بن إبراهيم، حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: «طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كيف طلقتها "؟ قال طلقتها ثلاثا، قال فقال: " في مجلس واحد " قال: نعم، قال: " فإنما تلك واحدة فأرجعهما إن شئت " قال: فراجعها (3) » فكان ابن عباس يرى الطلاق عند كل طهر، وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد، واستدل بما روي به في رد ابنته - صلى الله عليه وسلم - على زوجها ابن أبي العاص بالنكاح الأول وقدمه على ما يخالفه فهو حجة ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، فكيف إذا عضده نظيره أو ما هو أقوى منه، ودلالة متنه ظاهرة في اعتبار الطلاق ثلاثا في مجلس واحد واحدة.
ونوقش بأن المراد بالطلاق الثلاث في الحديث لفظ ألبتة لاشتهارها في الثلاث عند أهل المدينة فرواه بعض
__________
(1) ص - من البحث.
(2) ص - من البحث.
(3) سنن أبو داود الطلاق (2196) ، مسند أحمد بن حنبل (1/265) .(3/159)
رواته بالمعنى فعبر بالثلاث بدلا من ألبتة، وفي هذا جمع بين الروايات وكانت يراد بها واحدة أولا، فلما تتابع الناس في إرادة الثلاث ألزمهم إياها عمر - رضي الله عنه -، ونظيره زيادة الضرب في شرب الخمر ونحوه، مما تغير فيه الحكم لتغير أحوال الناس، وقد تقدم هذا في الجواب السابع عند الاستدلال بحديث طاوس عن ابن عباس في جعل الثالث المجموعة واحدة مع مناقشته.
ونوقش أيضا: بأن لفظ طلقتها ثلاثا يحتمل أن يكون بلفظ واحد، وأن يكون مفرقا وأجيب بأن احتمال تفريقه خلاف الظاهر، لقوله في الحديث في مجلس واحد، والغالب فيما كان كذلك أن يكون بلفظ واحد.
ونوقش أيضا بمعارضته للإجماع، وقد تقدم مناقشة الإجماع عند الكلام على الاستدلال به على إمضاء الثلاث.
ونوقش أيضا بمعارضته لحديث نافع بن عجير في إمضاء ثلاثا، وأجيب بترجيح هذه الرواية على رواية نافع بن عجير لسلامتها وضعف نافع، وقد سبق شرح ذلك إلى غير هذا من المناقشات التي سبقت عند الإجابة عن الاستدلال بحديث ابن عباس في اعتبار الثلاث واحدة.
ومن السنة أيضا حديث بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس «أن يزيدا أبا ركانة وإخوته طلق أم ركانة وتزوج امرأة أخرى فشكت ضعفه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمره بطلاقها فطلقها، وقال له " راجع أم ركانة " فقال: إني طلقتها ثلاثا، فقال: " قد علمت راجعها (1) » ، وقد سبق نص الحديث مع مناقشته.
ومن السنة أيضا حديث ابن عمر وفيه أنه طلق امرأته ثلاثا وهي حائض فردها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السنة، ورد أولا: بأن رواة هذا الحديث شيعة، وثانيا: بأن في سنده ظريف بن ناصح وهو شيعي لا يكاد يعرف، وثالثا: مع ما ذكر مخالف لما رواه الثقات الأثبات: أن ابن عمر طلق امرأته في الحيض تطليقه واحدة، فهو حديث منكر (2) .
واستدلوا بالإجماع، قالوا: إن الأمر لم يزل على اعتبار الثلاث بلفظ واحد واحدة، إلى ثلاث سنين من خلافة عمر.
ويمكن أن يجاب بما ورد من الآثار عن بعض الصحابة من أن الثلاث بلفظ واحد تمضي ثلاثا (3) وقد سبق ذكرها في استدلال من يقول بإمضاء الثلاث لكن للمستدل أن يقول: إن الآثار التي وردت فيها الفتوى بخلاف هذا الدليل بدأت في عهد عمر بضرب من التأويل، يدل على تأخير بدئها ظاهر حديث طاوس
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2196) .
(2) ص - من البحث.
(3) ص - من البحث.(3/160)
عن ابن عباس، وقد تقدم مع المناقشة.
واستدلوا بالقياس، قالوا: كما لا يعتبر قول الملاعن، وقول الملاعنة: أشهد بالله أربع شهادات - بكذا، أربع شهادات، لا يعتبر قول الزوج لامرأته: أنت طالق ثلاثا بلفظ واحد ثلاث تطليقات، وكذا كل ما يعتبر فيه تكرار القول أو الفعل من تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل وإقرار.
ونوقش بأنه قياس مع الفارق، للإجماع على اعتبار الطلقة المفردة في الطلاق، وبينونة المعتدة منها بانتهاء العدة، وعدم اعتبار الشهادة الواحدة من الأربع في اللعان (1) .
وللمستدل أن يقول: هذا الفارق مسلم، ومعه فوارق أخرى بينهما، انفرد كل من الطلاق واللعان بشيء منها، لكنها ليست في مورد قياس المستدل هنا، فإنه وارد فيما يعتبر فيه تكرار الفعل أو القول، ولا يعتد فيها بالاكتفاء بذكر اسم العدد، وليس من شرط سلامة القياس اشتراك المقيس والمقيس عليه في جميع صفاتها، بل إن اعتبار هذا لا يتأتى معه قياس؛ لأن كل شيئين لا بد أن ينفرد كل منهما عن الآخر بخاصة أو خواص، وإلا كان عينه.
واستدلوا بما روي من الآثار في الإفتاء بذلك عن ابن عباس وعلي وابن مسعود والزبير وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة ومن بعدهم (2) .
ونوقش بأن ما روي من ذلك عن طاوس عن ابن عباس مردود؛ فإن لطاوس عن ابن عباس مناكير منها روايته هذه الفتوى عن ابن عباس، وأجيب بأن طاوس بن كيسان قد وثقه ابن معين، وسئل أيهما أحب إليك طاوس أم سعيد بن جبير؟ فلم يخير بينهما، وقال قيس بن سعد: كان طاوس فينا مثل ابن سيرين بالبصرة، وقال الزهري: لو رأيت طاوسا علمت أنه لا يكذب، وروى له أصحاب الكتب الستة في أصولهم (3) .
فعلى من ادعى روايته للمناكير عن ابن عباس أن يثبت ذلك بشواهد من رواياته عنه في غير هذه المسألة، أما فيما رواه في هذه المسألة فهو مجرد دعوى في محل النزاع، وما ذكر من مخالفة غيره له في هذه المسألة، فغايته أن يكون لابن عباس فيها قولان، روى كل من الفريقين عنه قولا منهما، ولذلك قد تم رجوعه عنها على تقدير صحة روايتها، ثم أن عكرمة تابع في روايته هذا الأثر عن ابن عباس، وهو من رجال السنة.
ونوقش بأن رواية حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس معارضة برواية إسماعيل بن إبراهيم
__________
(1) ص - من البحث.
(2) ص - من البحث.
(3) تهذيب التهذيب.(3/161)
عن أيوب أن هذا الأثر من قول عكرمة، وأجيب أولا: بأنه لا معارضة لجواز أن يكون روي عن كل منهما، وثانيا: أنه على تقدير المعارضة، فرواية حماد بن زيد مقدمة على رواية إسماعيل بن إبراهيم، فإن حمادا أثبت في الرواية عن أيوب من كل من روى عنه (1) .
__________
(1) تهذيب التهذيب(3/162)
المذهب الثالث
أن الطلاق الثلاث يمضي ثلاثا في المدخول بها وواحدة في غير المدخول بها، واستدلوا لمذهبهم في المدخول بها بما استدل به الجمهور، وقد تقدم مع مناقشته، واستدلوا لمذهبهم في غير المدخول بها «بحديث أبي الصهباء الذي قال فيه لابن عباس: أما علمت أن الرجل، كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من إمارة عمر، قال: بلى (1) » ، وقد تقدم الحديث قالوا: إن التفصيل بين المدخول بها وغير المدخول فيه جمع بين الروايات، وإثبات حكم كل منهما في حال، وقد سبقت مناقشة هذا الدليل (2) .
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2199) .
(2) ص - من البحث.(3/162)
المذهب الرابع:
أنه لا يعتد به مطلقا؛ لأن إيقاعه ثلاثا بلفظ واحد بدعة محرمة، فكان غير معتبر شرعا، لحديث «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » ، ورد بأنه لا يعرف القول به عن أحد من السلف، وأن أهل العلم في جميع الأمصار مجمعون على اعتباره والاعتداد به، وإن اختلفوا فيما يمضي منه، ولم يخالف فيه إلا ناس من أهل البدع ممن لا يعتد بهم في انعقاد الإجماع.
وقد يستدل لهم أيضا بأنه كالظهار، فإنه لما كان محرما لم يعتبر طلاقا مع قصد المظاهر الطلاق فكذا الطلاق ثلاثا مجموعة، وأجيب بالفرق، فإن الظهار محرم في نفسه على كل حال، فكان باطلا ولزمته فيه العقوبة على كل حال، وبخلاف الطلاق فإن جنسه مشروع كالنكاح والبيع، ولذا امتنع في حال دون حال، وانقسم إلى صحيح وباطل أو فاسد ص - من البحث. .
هذا ما تيسر إعداده، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
حرر في 19 \ 9 \ 1393هـ
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(3/162)
مصادر بحث الطلاق الثلاث بلفظ واحد:
1 - تفسير القرطبي طبع مطبعة دار الكتب المصرية عام 1354هـ.
2 - أحكام القرآن لأحمد بن علي الرازي " الجصاص " طبع بمطبعة البهية المصرية سنة 1347هـ.
3 - أضواء البيان.
4 - صحيح البخاري ومعه فتح الباري طبع المطبعة السلفية، بترقيم عبد الباقي وإشراف محي الدين الخطيب.
5 - عمدة القاري للعيني طبع المطبعة المنيرية.
6 - صحيح مسلم وعليه النووي الطبعة الأولى طبع بالمطبعة الأزهرية سنة 1347هـ.
7 - مختصر سنن أبي داود ومعها المعالم للخطابي وتهذيبها لابن القيم طبع مطبعة أنصار السنة المحمدية. عام 1367هـ.
8 - جامع الترمذي.
9 - عارضة الأحوذي على الترمذي لابن العربي.
10 - شرح الزرقاني على الموطأ طبع بمطبعة الاستقامة بالقاهرة سنة 1373هـ.
11 - مسند الإمام أحمد بتعليق أحمد شاكر طبع دار المعارف سنة 1369هـ.
12 - مستدرك الحاكم وعليه تلخيصه للذهبي الطبعة الأولى سنة 1340هـ طبع بمطبعة حيدرآباد.
13 - نيل الأوطار طبعة حلبية الطبعة الثانية عام 1371هـ.
14 - جامع العلوم والحكم طبعة حلبية عام 1382هـ، الطبعة الثالثة.
15 - سنن ابن ماجه الطبعة الأولى بالمطبعة النازية.
16 - سنن سعيد بن منصور.
17 - سنن الدارقطني طبع دار المحاسن للطباعة طبع عام 1386هـ.
18 - السنن الكبرى للبيهقي الطبعة الأولى بمطبعة حيدرآباد.
19 - المصنف لعبد الرزاق الطبعة الأولى.
20 - شرح المذاهب اللدنية للزرقاني المالكي الطبعة الأولى بالمطبعة الأزهرية سنة 1325هـ.
21 - شرح معاني الآثار طبع مطبعة الأنوار المحمدية.
22 - المنتقى للباجي طبع مطبعة السعادة الطبعة الأولى عام 1332هـ.
23 - الجرح والتعديل الطبعة الأولى بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد الدكن عام 1371هـ.
24 - تهذيب التهذيب الطبعة الأولى بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد الدكن عام 1327هـ.(3/163)
25 - خلاصة تهذيب تهذيب الكمال الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية عام 1323هـ.
26 - الإصابة ومعها الاستيعاب طبع بمطبعة مصطفى محمد.
27 - المستفاد من جهاد المتن والإسناد طبع مطابع الرياض.
28 - بدائع الصنائع للكاساني طبع بمطبعة الجمالية بمصر الطبعة الأولى عام 1328هـ.
29 - المبسوط للسرخسي طبع بمطبعة السعادة بجوار محافظة مصر الطبعة الأولى.
30 - فتح القدير لابن الهمام الطبعة الأولى بالمطبعة الكبرى الأميرية عام 1315هـ.
31 - المدونة الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية سنة 1324هـ ومعها المقدمات.
32 - المقدمات لابن رشد ومعها المدونة.
33 - مواهب الجليل للحطاب ملتزم الطبع مكتبة النجاح، ليبيا.
34 - الأم الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية عام 1331هـ.
35 - المذهب الطبعة الحلبية.
36 - المغني والشرح الكبير الطبعة الأولى بمطبعة المنار سنة 1346هـ.
37 - الكافي الطبعة الأولى سنة 1382هـ طبع المكتب الإسلامي.
38 - الإنصاف طبع بمطبعة السنة المحمدية عام 1377هـ.
39 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام.
40 - زاد المعاد طبع مطبعة أنصار السنة المحمدية.
41 - أعلام الموقعين الطبعة المنيرية.
42 - إغاثة اللهفان طبعة حلبية عام 1357هـ.
43 - مسودة آل تيمية.
44 - سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث ليوسف بن حسن بن عبد الرحمن بن عبد الهادي طبعة محمد نصيف ضمن مجموعة رأس الحسين.
45 - المحلى لابن حزم الطبعة الأولى.
46 - التجريد في أسماء الصحابة للذهبي الطبعة الأولى في مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدرآباد الدكن.
47 - الناسخ والمنسوخ لابن النحاس الطبعة الأولى.(3/164)
القرار
بعد الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء والمعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في موضوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد.
وبعد دراسة المسألة وتداول الرأي واستعراض الأقوال التي قيلت فيها ومناقشة ما على كل قول من إيراد توصل المجلس بأكثريته إلى اختيار القول بوقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثا، وذلك لأمور أهمها ما يلي:
أولا: لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) إلى قوله تعالى {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (2) فإن الطلاق الذي شرعه الله هو ما يتعقبه عدة وما كان صاحبه مخيرا بين الإمساك بمعروف - والتسريح بإحسان، وهذا منتف في إيقاع الثلاث في العدة قبل الرجعة فلم يكن طلاقا للعدة، وفي فحوى هذه الآية دلالة على وقوع الطلاق لغير العدة إذا لو لم يقع لم يكن ظالما لنفسه بإيقاعه لغير العدة
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 1(3/165)
ولم ينسد الباب أمامه حتى يحتاج إلى المخرج الذي أشارت إليه الآية الكريمة {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) ، وهو الرجعة حسبما تأوله ابن عباس - رضي الله عنه - حين قال للسائل الذي سأله وقد طلق ثلاثا. أن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا عصيت ربك، وبانت منك امرأتك.
ولا خلاف في أن من لم يطلق للعدة بأن طلق ثلاثا مثلا فقد ظلم نفسه، فعلى القول بأنه إذا طلق ثلاثا فلا يقع من طلاقه إلا واحدة، فما هي التقوى التي بالتزامها يكون المخرج واليسر، وما هي عقوبة هذا الظالم نفسه المتعدي لحدود الله حيث طلق بغير العدة، فلقد جعل الشارع على من قال قولا منكرا لا يترتب عليه مقتضى، قوله المنكر عقوبة له على ذلك كعقوبة المظاهر من امرأته بكفارة الظهار، فظهر - والله أعلم - أن الله تعالى عاقب من طلق ثلاثا بإنقاذها عليه وسد المخرج أمامه، حيث لم يتق الله، فظلم نفسه وتعدى حدود الله.
ثانيا: ما في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - «أن رجلا طلق امرأته ثلاثا؛ فتزوجت فطلقت، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أتحل للأول؟ قال: " لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول (3) » ، فقد ذكره البخاري - رحمه الله - تحت ترجمة " باب من أجاز الطلاق ثلاثا "، واعترض على الاستدلال به بأنه مختصر من قصة رفاعة بنت وهب التي جاء في بعض رواياتها عند مسلم أنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، ورد الحافظ ابن حجر - رحمه الله - الاعتراض بأنه غير رفاعة قد وقع له مع امرأته نظير ما وقع لرفاعة فلا مانع من التعدد. فإن كلا من رفاعة القرظي ورفاعة النضري وقع له مع زوجة له طلاق فتزوج كلا منهما عبد الرحمن بن الزبير فطلقها قبل أن يمسها ثم قال: وبهذا يتبين خطأ من وحد بينهما ظنا منه أن رفاعة بن سموأل هو رفاعة بن وهب. أهـ.
وعند مقابلة هذا الحديث بحديث ابن عباس الذي رواه عنه طاوس «كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة (4) » إلخ، فإن الحال لا تخلو من أمرين: إما أن يكون معنى الثلاث في حديث عائشة وحديث طاوس أنها مجتمعة أو متفرقة، فإن كانت مجتمعة فحديث عائشة متفق عليه، فهو أولى بالتقديم، وفيه التصريح بأن تلك الثلاث تحرمها ولا تحل إلا بعد زوج، وإن كانت متفرقة فلا حجة في حديث طاوس على محل النزاع في وقوع الثلاث بلفظ واحد واحدة. وأما اعتبار الثلاث في حديث عائشة مفرقة وفي حديث طاوس مجتمعة فلا وجه له ولا دليل عليه.
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) صحيح البخاري الطلاق (5261) ، صحيح مسلم النكاح (1433) .
(4) صحيح مسلم الطلاق (1472) .(3/166)
ثالثا: لما وجه به بعض أهل العلم كابن قدامة - رحمه الله - حيث يقول: ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقا فصح مجتمعا كسائر الأملاك. والقرطبي - رحمه الله - حيث يقول: وحجة الجمهور من جهة اللزوم من حيث النظر ظاهرة جدا، وهو أن المطلقة ثلاثا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعا وما يتخيل من الفرق صورى ألغاه الشارع اتفاقا في النكاح والعتق والأقارير، فلو قال المولى أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد كما لو قال أنكحتك هذه وهذه وهذه، وكذلك في العتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام. أهـ، وغاية ما يمكن أن يتجه على المطلق بالثلاث لومه على الإسراف يرفع نفاذ تصرفه.
رابعا: لما أجمع عليه أهل العلم إلا من شذ في إيقاع الطلاق من الهازل استنادا إلى حديث أبي هريرة وغيره مما تلقته الأمة بالقبول. من أن «ثلاثا جدهن جد، وهزلهن جد. الطلاق والنكاح والرجعة (1) » ؛ ولأن قلب الهازل بالطلاق عمد ذكره، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في تعليله القول بوقوع الطلاق من الهازل، حيث قال: ومن قال لا لغو في الطلاق فلا حجة معه بل عليه؛ لأنه لو سبق لسانه بذكر الطلاق من غير عمد القلب لم يقع به وفاقا، وأما إذا قصد اللفظ به هازلا فقد عمد قلبه ذكره، أهـ. فإن ما زاد على الواحدة لا يخرج عن مسمى الطلاق، بل هو من صريحه، واعتبار الثلاث واحدة إعمال لبعض عدده دون باقية دون مسوغ، اللهم إلا أن يكون المستند في ذلك حديث ابن عباس، ويأتي الجواب عنه - إن شاء الله.
خامسا: إن القول بوقوع الثلاث ثلاثا قول أكثر أهل العلم فلقد أخذ به عمر وعثمان وعلي والعبادلة: ابن عباس وابن عمر وابن عمرو وابن مسعود وغيرهم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال به الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وابن أبي ليلى والأوزاعي وذكر ابن عبد الهادي عن ابن رجب - رحمه الله - بقوله: اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة إذا سبق بلفظ واحد. اهـ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض بحثه الأقوال في ذلك: الثاني - أنه طلاق محرم ولازم، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في الرواية المتأخرة عنه، اختارها أكثر أصحابه وهذا القول منقول من كثير من السلف من الصحابة والتابعين. أهـ وقال ابن القيم: واختلف الناس فيها، أي في وقوع الثلاث بكلمة واحدة - على أربعة مذاهب أحدها: أنه يقع وهذا قول الأئمة الأربعة وجمهور التابعين وكثير من الصحابة. أهـ، وقال القرطبي: قال علماؤنا - واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول جمهور السلف.
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1184) ، سنن أبو داود الطلاق (2194) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2039) .(3/167)
وقال ابن العربي في كتابه الناسخ والمنسوخ ونقله عنه ابن القيم - رحمه الله - في تهذيب السنن: قال تعالى {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (1) زل قوم في آخر الزمان فقالوا إن الطلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يلزم وجعلوه واحدة ونسبوه إلى السلف الأول فحكوه عن علي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس وعزوه إلى الحجاج ابن أرطاة الضعيف المنزلة والمغموز المرتبة ورووا في ذلك حديثا ليس له أصل - إلى أن قال: وما نسبوه إلى الصحابة كذب بحت لا أصل له في كتاب ولا رواية له عن أحد - إلى أن قال: وأما حديث الحجاج بن أرطاة فغير مقبول في الملة ولا عند أحد من الأئمة. اهـ.
سادسا: لتوجه الإيرادات على حديث ابن عباس - رضي الله عنه - «كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة (2) » إلى آخر الحديث مما يضعف الأخذ به والاحتجاج بما يدل عليه، فإنه يمكن أن يجاب عنه بما يلي:
أ - ما قيل من أن الحديث مضطرب سندا ومتنا أما اضطراب سنده فلروايته تارة عن طاوس عن ابن عباس وتارة عن طاوس عن أبي الصهباء عن ابن عباس وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس وأما اضطراب متنه فإن أبا الصهباء تارة يقول: ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوه واحدة. وتارة يقول: ألم تعلم أن الطلاق الثلاث كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة.
ب - قد تفرد به عن ابن عباس طاوس وطاوس متكلم فيه من حيث روايته المناكير عن ابن عباس قال القاضي إسماعيل في كتابه (أحكام القرآن) طاوس مع فضله وصلاحه يروي أشياء منكرة منها هذا الحديث. وعن أيوب أنه كان يعجب من كثرة خطأ طاوس. وقال ابن عبد البر شذ طاوس في هذا الحديث. وقال ابن رجب وكان علماء أهل مكة ينكرون على طاوس ما ينفرد به من شواذ الأقاويل. ونقل القرطبي عن ابن عبد البر أنه قال: رواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والمغرب.
جـ - ما ذكره بعض أهل العلم من الحديث شاذ من طريقتين: أحدهما تفرد طاوس بروايته وأنه لم يتابع عليه، قال الإمام أحمد في رواية ابن منصور: كل أصحاب ابن عباس
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) .(3/168)
رووا عنه خلاف ما روى طاوس: وقال الجوزجاني هو حديث شاذ: وقال ابن رجب ونقله عنه ابن عبد الهادي: وقد عنيت بهذا الحديث في قديم الدهر فلم أجد له أصلا.
الثاني ما ذكره البيهقي فإنه ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم الثلاث ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ويفتي بخلافه، وقال ابن التركماني وطاوس يقول إن أبا الصهباء مولاه سأله عن ذلك ولا يصح ذلك عن ابن عباس لرواية الثقات عنه خلافه، ولو صح عنه ما كان قوله حجة على من هو من الصحابة أجل وأعلم منه وهم عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وغيرهم. اهـ
فلما في هذا الحديث من الشذوذ فقد أعرض عنه الشيخان الجليلان أبو عبد الله أحمد بن حنبل فقد قال للأثرم وابن منصور بأنه رفض حديث ابن عباس قصدا لأنه يرى عدم الاحتجاج به في لزوم الثلاث بلفظ واحد لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك. والإمام محمد بن إسماعيل البخاري ذكر عنه البيهقي أنه ترك الحديث عمدا لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد ولا شك أنهما لم يتركاه إلا لموجب يقتضي ذلك.
ر - إن حديث ابن عباس يتحدث عن حالة اجتماعية مفروض فيها أن تكون معلومة لدى جمهور معاصريها، وتوفر الدواعي لنقلها بطرق متعددة مما لا ينبغي أن يكون موضع خلاف، ومع هذا لم تنقل إلا بطريق آحادي عن ابن عباس فقط ولم يروها عن ابن عباس غير طاوس الذي قيل عنه بأنه يروي المناكير. ولا يخفى ما عليه جماهير علماء الأصول من أن خبر الآحاد إذا كانت الدواعي لنقله متوفرة ولم ينقله إلا واحد ونحوه أن ذلك يدل على عدم صحته، فقد قال صاحب جمع الجوامع عطفا على ما يجزم فيه بعدم صحة الخبر: والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي إلى نقله خلافا للرافضة. اهـ وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي: إذا انفرد واحد فيما تتوفر الدواعي إلى نقله وقد شاركه خلق كثير كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة فهو كاذب قطعا خلافا للشيعة. اهـ.
فلا شك أن الدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون بعده في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر من أن الطلاق الثلاث كانت تجعل واحدة متوفرة توافرا لا يمكن إنكاره، ولا شك أن سكوت جميع الصحابة عنه حيث لم ينقل عنهم حرف واحد في ذلك غير ابن عباس يدل دلالة واضحة على أحد أمرين إما أن المقصود بحديث ابن عباس ليس معناه بلفظ واحد، بل بثلاثة ألفاظ في وقت واحد، وإما أن الحديث غير صحيح لنقله آحادا مع توفر الدواعي لنقله.
هـ - ما عليه ابن عباس - رضي الله عنه - من التقى والصلاح والعلم والاستقامة والتقيد بالاقتداء(3/169)
والقوة في الصدع بكلمة الحق التي يراها يمنع القول بانقياده إلى ما أمر به عمر - رضي الله عنه - من إمضاء الثلاث والحال أنه يعرف حكم الطلاق الثلاث في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر خلافة عمر من أنه يجعل واحدة.
فلا يخفى خلافه مع عمر رضي الله عنهما في متعة الحج وبيع الدينار بالدينارين وفي بيع أمهات الأولاد وغيرها من مسائل الخلاف فكيف يوافقه في شيء يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه خلافه، وإلى قوته - رضي الله عنه - في الصدع بكلمة الحق التي يراها، تشير كلمته المشهورة في مخالفته عمر في متعة الحج وهي قوله: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وعمر.
وعلى فرض صحة حديث ابن عباس فإن ما عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التقى والصلاح والاستقامة وتمام الاقتداء بما عليه الحال المعتبرة شرعا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر يمنع القول بانقيادهم إلى أمر عمر - رضي الله عنه - في إمضاء الثلاث، والحال أنهم يعرفون ما كان عليه أمر الطلاق الثلاث في ذلك العهد. ومع هذا فلم يثبت بسند صحيح أن أحدا منهم أفتى بمقتضى ما عليه الأمر في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر حسبما ذكره ابن عباس في حديثه.
ز - ما في حديث ابن عباس من الدلالة على أن عمر أمضى الثلاث عقوبة للناس لأنهم قد استعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة، وهذا مشكل ووجه الإشكال كيف يقرر عمر - رضي الله عنه - وهو هو تقى وصلاحا وعلما وفقها - بمثل هذه العقوبة التي لا تقتصر آثارها على من استحقها وإنما تتجاوزه إلى طرف آخر ليس له نصيب في الإجرام وتعني بالطرف الآخر الزوجات حيث يترتب عليها إحلال فرج حرام على طرف ثالث، وتحريم فرج حلال بمقتضى عقد الزواج، وحقوق الرجعة، مما يدل على أن حديث طاوس عن ابن عباس فيه نظر، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(3/170)
وجهة نظر المخالفين
نرى أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة. وقد سبقنا إلى القول بهذا ابن عباس في رواية صحيحة ثابتة عنه، وأفتى به الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود من الصحابة في رواية عنهم وأفتى به عكرمة وطاوس وغيرهما من التابعين وأفتى به ممن بعدهم محمد بن إسحاق وخلاس بن عمرو والحارث العكلي، والمجد بن تيمية، وشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، وتلميذه شمس الدين ابن القيم وغيرهم. . وقد استدل على ذلك بما يأتي:
الدليل الأول: قوله تعالى {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) وبيانه: أن الطلاق الذي شرع للزوج فيه الخيار بين أن يسترجع زوجته أو يتركها بلا رجعة حتى تنقضي عدتها فتبين منه - مرتان مرة بعد مرة، سواء طلق في كل مرة منهما طلقة أو ثلاثا مجموعة، لأن الله تعالى قال {مَرَّتَانِ} (2) ولم يقل طلقتان ثم قال تعالى في الآية التي تليها {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (3) فحكم بأن زوجته تحرم عليه بتطليقه إياها المرة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره سواء نطق في المرة الثالثة بطلقة واحدة أم بثلاث مجموعة، فدل على أن الطلاق شرعا مفرقا على ثلاث مرات، فإذا نطق بثلاث في لفظ واحد كان مرة واعتبر واحده.
الدليل الثاني: ما رواه مسلم في صحيحه من طريق طاوس عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم (4) » وفي صحيح مسلم أيضا عن طاوس عن ابن عباس «أن أبا الصهباء قال لابن عباس هات من هناتك ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر واحدة، قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم (5) » . فهذا الحديث واضح الدلالة على اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة وعلى أنه لم ينسخ لاستمرار العمل به في عهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، ولأن عمر علل إمضاءه ثلاثا بقوله: "إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة" ولم يدع النسخ ولم يعلل الإمضاء به، ولا بظهوره بعد خفائه، ولأن عمر استشار الصحابة في إمضائه ثلاثا، وما كان عمر ليستشير أصحابه في العدول عن العمل بحديث علم أو ظهر له أنه منسوخ. . وما أجيب به عن حديث ابن عباس فهو إما تأويل متكلف، وحمل للفظه على
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 230
(4) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) .
(5) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .(3/171)
خلاف ظاهره بلا دليل وإما طعن فيه بالشذوذ والاضطراب وضعف طاوس وهذا مردود بأن مسلما رواه في صحيحه وقد اشترط ألا يروي في كتابه إلا الصحيح من الأحاديث. ثم إن الطاعنين فيه قد احتجوا بقول عمر في آخره " إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم " فكيف يكون آخره حجة مقبولة ويكون صدره مردودا لاضطرابه وضعف راويه وأبعد من هذا ما ادعاه بعضهم من أن العمل كان جاريا على عهد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - يجعل الطلاق الثلاث واحده لكنه صلى الله عليه وسلم - لم يعلم بذلك، إذ كيف تصح هذه الدعوى والقرآن ينزل والوحي مستمر، وكيف تستمر الأمة على العمل بالخطأ في عهده وعهد أبي بكر وسنتين أو ثلاث من خلافة عمر، وكيف يعتذر عمر في عدوله عن ذلك إلى إمضائه عليهم بما ذكر في الحديث من استعجال الناس في أمر كانت لهم فيه أناة ومن الأمور الواهية التي حاولوا بها رد الحديث معارضته بفتوى ابن عباس على خلافه، ومن المعلوم عند علماء الحديث وجمهور الفقهاء أن العبرة بما رواه الراوي متى صحت الرواية لا برأيه وفتواه بخلافه لأمور كثيرة استندوا إليها في ذلك، وجمهور من يقول بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يعتبر ثلاثا يقولون بهذه القاعدة، ويبنون عليها الكثير من الفروع الفقهية وقد عارضوا الحديث أيضا بما ادعوه من الإجماع على خلافه بعد سنتين من خلافة عمر - رضي الله عنه - مع العلم بأنه قد ثبت الخلاف في اعتبار الثلاث بلفظ واحد ثلاثا واعتباره واحدة بين السلف والخلف، واستمر إلى يومنا، ولا يصح الاستدلال على اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثا بحديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - في تحريم الرسول - صلى الله عليه وسلم - زوجة رفاعة القرظي عليه حتى تنكح زوجا غيره لتطليقه إياها ثلاثا، لأنه ثبت أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات كما رواه مسلم في صحيحه فكان الطلاق مفرقا ولم يثبت أن رفاعة بن وهب النضري جرى له مع زوجته مثل ما جرى لرفاعة القرظي حتى يقال بتعدد القصة، وأن إحداهما كان الطلاق فيها ثلاثة مجموعة ولم يحكم ابن حجر بتعدد القصة بل قال: إن كان محفوظا - يعني حديث رفاعة النضري - فالواضح تعدد القصة، واستشكل ابن حجر تعدد القصة في كتابه الإصابة حيث قال: لكن المشكل اتحاد اسم الزوج الثاني عبد الرحمن بن الزبير.
الدليل الثالث: ما رواه الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا سعد بن إبراهيم حدثنا، أبي عن محمد بن إسحاق، قال حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: «طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف طلقتها"، قال: طلقتها ثلاثا قال: فقال: "في مجلس واحد" قال: نعم، فقال: "فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت"، قال: فراجعها، (1) » قال: فكان ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طهر قال ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين: " وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه "، وضعف أحمد وأبو عبيد والبخاري ما روي من أن ركانة طلق زوجته بلفظ - البتة.
الدليل الرابع: بالإجماع وبينة ابن تيمية وابن القيم وغيرهما بأن الأمر لم يزل على اعتبار الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة في عهد أبي بكر وسنتين أو ثلاث من خلافة عمر، وأن ما روي عن الصحابة من الفتوى بخلاف ذلك فإنما كان من بعضهم بعدما أمضاه عمر ثلاثا تعزيزا وعقوبة، لما استعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة، ولم يرد عمر بإمضاء الثلاث أن يجعل ذلك شرعا كليا مستمرا وإنما أراد أن يلزم به ما
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2196) ، مسند أحمد بن حنبل (1/265) .(3/172)
دامت الدواعي التي دعت إليه قائمة كما هو الشأن في الفتاوى التي تتغير بتغير الظروف والأحوال وللإمام أن يعزر الرعية عند إساءة التصرف في الأمور التي لهم فيها الخيار بين الفعل والترك بقصرهم على بعضها ومنعهم من غيره كما منع النبي - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة الذين خلفوا من زوجاتهم مدة من الزمن عقوبة لهم على تخلفهم عن غزوة تبوك مع أن زوجاتهم لم يسئن، وكالزيادة في عقوبة شرب الخمر، وتحديد الأسعار عند استغلال التجار مثلا للظروف وتواطئهم على رفع الأسعار دون مسوغ شرعي إقامة للعدل، وفي معنى هذا تنظيم المرور فإن فيه منع الناس من المرور في طرق قد كان مباحا لهم السير فيها من قبل محافظة على النفوس والأموال وتيسيرا للسير مع آمن وسلام.
الدليل الخامس: قياس الطلاق الثلاث على شهادات اللعان، قالوا كما لا يعتبر قول الزوج في اللعان أشهد بالله أربع شهادات أني رأيتها تزني إلا شهادة واحدة لا أربعا، فكذا لو قال لزوجته: أنت طالق ثلاثا لا يعتبر إلا طلقة واحدة لا ثلاثا، ولو قال: أقر بالزنا أربعا مكتفيا بذكر اسم العدد عن تكرار الإقرار لم يعتبر إلا واحدة عند من اعتبر التكرار في الإقرار. فكذا لو قال لزوجته: أنت طالق ثلاثا مكتفيا باسم العدد عن تكرار الطلاق لم يعتبر إلا واحدة، وهكذا كل ما يعتبر فيه تكرار القول لا يكفي فيه عن التكرار ذكر اسم العدد كالتسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلوات المكتوبة، والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم. . .
حرر في 12 \ 11 \ 93 هـ(3/173)
مجلة
البحوث الإسلامية
مجلة
البحوث الإسلامية
هيئة كبار العلماء
حكم النشوز والخلع
هيئة كبار العلماء(3/174)
صفحة فارغة(3/175)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد وآله وصحبه وبعد:
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخامسة مسألة النشوز والخلع - وقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع للمجلس وهذا نصه:
الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فبناء على ما تقرر من أن تبحث مسألة النشوز والخلع في الدورة الخامسة، وأن يدرج موضوعها في جدول أعمال تلك الدورة، أعدت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء بحثا في ذلك مشتملا على ما يأتي:
1 - معنى النشوز والخلع في اللغة وفي الاصطلاح الشرعي.
2 - الحكم فيما إذا كان النشوز من الزوج.
3 - الحكم فيما إذا كان النشوز من الزوجة.
4 - حكم أخذ العوض على الخلع عند تحقق النشوز أو توقعه.
5 - الحكم فيما إذا كان النشوز منهما جميعا أو ادعاه كل واحد منهما على الآخر.
وختمت ذلك بخلاصة لما تضمنه البحث. . . وبالله التوفيق
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(3/176)
حكم النشوز والخلع
النشوز في اللغة وفي عرف الفقهاء
قال ابن منظور: نشز: النشز، والنشز: المتن المرتفع من الأرض، وهو أيضا ما ارتفع عن الوادي إلى الأرض، وليس بالغليظ، والجمع أنشاز ونشوز، وقال بعضهم جمع النشز: نشوز، وجمع النشز: أنشاز ونشاز، مثل جبل وأجبال وجبال. والنشاز بالفتح كالنشز.
ونشز ينشز نشوزا: أشرف على نشز من الأرض وهو ما ارتفع وظهر يقال: أقعد على ذلك النشاز وفي الحديث: "إنه كان إذا أوفى على نشز كبر". أي ارتفع على رابية في سفر قال: وقد تسكن الشين، ومنه الحديث في خاتم النبوة " بضعة ناشزة " أي قطعة لحم مرتفعة على الجسم، ومنه الحديث " أتاه رجل ناشز الجبهة " أي مرتفعها، ونشز الشيء ينشز نشوزا: ارتفع. وتل ناشز: مرتفع. وجمعه نواشز. وقلب ناشز إذا ارتفع عن(3/177)
مكانه من الرعب وأنشزت الشيء إذا رفعته عن مكانه، ونشز في مجلسه ينشز وينشز بالكسر والضم: ارتفع قليلا. وفي التنزيل العزيز {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} (1) قال الفراء: قرأها الناس بكسر الشين وأهل الحجاز يرفعونها. قال وهما لغتان. قال أبو إسحاق معناه: إذا قيل انهضوا فانهضوا وقوموا كما قال تعالى {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} (2) وقيل في قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا} (3) أي قوموا إلى الصلاة أو قضاء حق أو شهادة فانشزوا. ونشز الرجل ينشز إذا كان قاعدا فقام. وركب ناشز: ناتئ مرتفع. وعرق ناشز منتبر ناشز، لا يزال يضرب من داء أو غيره وقوله: وأنشده ابن الأعرابي:
فما ليلى بناشزة القصيرى ... ولا وقصاء لبستها اعتجار
فسره فقال: ناشزة القصيرى أي ليست بضخمة الجنين مشرفة القصيرى بما عليها من اللحم وأنشز الشيء: رفعه عن مكانه. وإنشاز عظام الميت: رفعها إلى مواضعها وتركيب بعضها على بعض. وفي التنزيل العزيز: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} (4) أي نرفع بعضها على بعض قال الفراء: قرأ زيد بن ثابت ننشزها بالزاي، قال: والإنشاز نقلها إلى مواضعها، قال وبالراء قرأها الكوفيون.
قال ثعلب: والمختار الزاي لأن الإنشاز تركيب العظام بعضها على بعض. . وفي الحديث «" لا رضاع إلا ما أنشز العظم (5) » أي رفعه وأعلاه وأكبر حجمه وهو من النشز المرتفع من الأرض.
قال أبو إسحاق النشوز يكون بين الزوجين. وهو كراهة كل واحد منهما صاحبه، واشتقاقه من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض، ونشزت المرأة بزوجها وعلى زوجها تنشز وتنشز نشوزا وهي ناشز: ارتفعت عليه واستعصت عليه وأبغضته وخرجت عن طاعته وفركته. وقال: -
سرت تحت إقطاع من الليل حتى ... لخمان بيت فهي لا شك ناشز
قال الله تعالى {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} (6) نشوز المرأة استعصاؤها على زوجها ونشز هو عليها نشوزا كذلك، وضربها وجفاها وأضر بها، وفي التنزيل العزيز: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} (7) وقد تكرر ذكر النشوز بين الزوجين في الحديث، والنشوز كراهية كل واحد منهما صاحبه وسوء عشرته له. ورجل نشز: غليظ عيل، قال الأعشى:
وتركب مني إن بلوت نكيثتي ... على نشز قد شاب ليس بتوئم
أي غلظ ذهب إلى تكبيره وتعظيمه فلذلك جعله أشيب. ونشز بالقوم في الخصومة نشوزا: نهض بهم للخصومة.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 11
(2) سورة الأحزاب الآية 53
(3) سورة المجادلة الآية 11
(4) سورة البقرة الآية 259
(5) سنن أبو داود النكاح (2059) ، مسند أحمد بن حنبل (1/432) .
(6) سورة النساء الآية 34
(7) سورة النساء الآية 128(3/178)
ونشز بقرنه ينشز به نشوزا: احتمله فصرعه. قال شمر: وهذا كأنه مقلوب (1) مثل جذب وجبذ، ويقال للرجل إذا أسن ولم ينقص: إنه لنشز من الرجال، وصم إذا انتهى سنه وقوته وشبابه. قال أبو عبيد: النشز والنشز الغليظ الشديد ودابة نشيزة إذا لم يكد يستقر الراكب عليها والسرج على ظهرها. ويقال للدابة إذا لم يكد يستقر السرج والراكب على ظهرها: إنها لنشزة. اهـ (2) .
وقال أبو بكر أحمد بن علي الجصاص في تعريف النشوز:
وأصل النشوز: الترفع على الزوج بمخالفته. مأخوذ من نشز الأرض وهو الموضع المرتفع منها. اهـ (3) . . وقال القرطبي: والنشوز: العصيان، مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض. يقال: نشز الرجل ينشز وينشز إذا كان قاعدا فنهض قائما ومنه قوله هز وجل {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} (4) أي ارتفعوا وانهضوا إلى حرب أو أمر من أمور الله تعالى. فالمعنى: أي تخافون عصيانهن وتعاليهن عما أوجب الله عليهن من طاعة الأزواج.
قال أبو منصور اللغوي: النشوز كراهية كل واحد من الزوجين صاحبه، يقال نشزت تنشز فهي ناشز بغير هاء. ونشصت تنشص وهي السيئة للعشرة. . قال ابن فارس ونشزت المرأة استعصت على بعلها ونشز بعلها عليها إذا ضربها وجفاها. قال ابن دريد نشزت المرأة ونشست ونشصت بمعنى واحد. اهـ وقال منصور البهوتي (فصل في النشوز) وهو كراهة كل من الزوجين صاحبه وسوء عشرته. يقال نشزت المرأة على زوجها فهي ناشزة وناشز، ونشز عليها زوجها جفاها وأضر بها. قاله في المبدع وغيره (وهو معصيتها إياه فيما يجب عليها) مأخوذ من النشز وهو ما ارتفع من الأرض. فكأنها ارتفعت عما فرض الله عليها من المعاشرة بالمعروف. ويقال نشصت بالشين المعجمة والصاد المهملة. اهـ المقصود (5) .
__________
(1) قوله: (وهذا كأنه مقلوب إلخ) أي من شزن كفرح نشط، ونشزت من صاحبه نشزنا صرعة كما في القاموس.
(2) لسان العرب جـ (5) ص (417 - 418) .
(3) أحكام القرآن جـ \ 2 ص (230) المطبعة البهية المصرية سنة 1347هـ.
(4) سورة المجادلة الآية 11
(5) كشاف القناع جـ \ 5ص 164 - 165.(3/179)
النشوز قد يكون من الرجل وقد يكون من المرأة
وقد يدعيه كل منهما على صاحبه
أما نشوز الزوج على امرأته فقد قال الله تعالى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (1) قال ابن
__________
(1) سورة النساء الآية 128(3/179)
جرير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن خافت امرأة من بعلها يقول: علمت من زوجها نشوزا يعني استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها أثرة عليها وارتفاعا عنها، إما لبغضه وإما لكراهة منه بعض أسبابها: إما دمامتها وإما سنها وكبرها أو غير ذلك من أمورها {أَوْ إِعْرَاضًا} (1) يعني انصرافا عنها بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} (2) يقول: فلا حرج عليهما يعني على المرأة الخائفة نشوز بعلها أو إعراضه عنها {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} (3) وهو أن تترك له يومها أو تضع عنه بعض الواجب لها من حق عليه، تستعطفه بذلك وتستديم المقام في حباله والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح. يقول: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (4) يعني والصلح بترك بعض الحق استدامة للحرمة وتماسكا بعقد النكاح خير من طلب الفرقة والنكاح - ثم قال - وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل ثم ذكر - رحمه الله - مجموعة آثار بأسانيدها إلى عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعائشة وابن عباس، ورافع بن خديج، وعبيدة وإبراهيم، وقتاده ومجاهد، والسدي، والضحاك وابن زيد (5) .
__________
(1) سورة النساء الآية 128
(2) سورة النساء الآية 128
(3) سورة النساء الآية 128
(4) سورة النساء الآية 128
(5) انظر جامع البيان جـ9 ص 267 - 278.(3/180)
قال الجصاص: باب مصالحة المرأة زوجها
قال الله تعالى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} (1) قيل في معنى النشوز: إنه الترفع عليها لبغضه إياها مأخوذ من نشز الأرض وهي المرتفعة، وقوله {أَوْ إِعْرَاضًا} (2) يعني لموجدة أو أثرة فأباح الله لهما الصلح.
فروي عن علي وابن عباس أنه أجاز لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها أو بعض أيامها بأن تجعله لغيرها. وقال عمر: ما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز، وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: «خشيت سودة أن يطلقها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله لا تطلقني وامسكني واجعل يومي لعائشة ففعل، فنزلت هذه الآية: (4) » الآية فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.
وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد طلاقها ويتزوج غيرها، فتقول أمسكني ولا تطلقني ثم تزوج وأنت في حل من النفقة والقسمة لي فذلك قوله تعالى {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (5) إلى قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (6) .
__________
(1) سورة النساء الآية 128
(2) سورة النساء الآية 128
(3) سنن الترمذي تفسير القرآن (3040) .
(4) سورة النساء الآية 128 (3) {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}
(5) سورة النساء الآية 128
(6) سورة النساء الآية 128(3/180)
وعن عائشة من طرق كثيرة أن سودة وهبت يومها لعائشة فكان النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقسم به لها قال أبو بكر: فهذه الآية دالة على وجوب القسم بين النساء إذا كان تحته جماعة على وجوب الكون عندها إذا لم تكن عنده إلا واحدة.
وقضى كعب بن سور بأن لها يوما من أربعة أيام بحضرة عمر فاستحسنه عمر وولاه قضاء البصرة وأباح الله أن تترك حقها من القسم وأن تجعله لغيرها من نسائه، وعموم الآية يقتضي جواز اصطلاحهما على ترك المهر والنفقة والقسم وسائر ما يجب لها بحق الزوجية. إلا أنه إنما يجوز لها إسقاط ما وجب من النفقة للماضي فأما المستقبل فلا تصح البراءة منه، وكذلك لو أبرأت من الوطء لم يصح إبراؤها وكان لها المطالبة بحقها منه، وإنما يجوز بطيب نفسها بترك المطالبة بالنفقة وبالكون عندها.
فأما أن تسقط ذلك في المستقبل بالبراءة منه فلا. ولا يجوز أيضا أن يعطيها عوضا على ترك حقها من القسم أو الوطء لأن ذلك أكل مال بالباطل، أو ذلك حق لا يجوز أخذ العوض عنه، لأنه لا يسقط مع وجود السبب الموجب له وهو عقد النكاح. وهو مثل أن تبرئ الرجل من تسليم العبد المهر، فلا يصح لوجود ما يوجبه وهو العقد.
فإن قيل فقد أجاز أصحابنا أن يخلعها على نفقة عدتها، فقد أجازوا البراءة من نفقة لم تجب بعد مع وجود السبب الموجب لها وهي العدة. قيل له: لم يجيزوا البراءة من النفقة ولا فرق بين المختلعة والزوجة في امتناع وقوع البراءة من نفقة لم تجب بعد، ولكنه إذا خالعها على نفقة العدة فإنما جعل الجعل مقدار نفقة العدة والجعل في الخلع يجوز فيه هذا القدر من الجهالة فصار ذلك في ضمانها بعقد الخلع، ثم ما يجب لها بعد من نفقة العدة في المستقبل يصير قصاصا بماله عليها.
وقد دلت الآية على جواز اصطلاحهما من المهر على ترك جميعه، أو بعضه أو على الزيادة عليه، لأن الآية لم تفرق بين شيء من ذلك وأجازت الصلح في سائر الوجوه. وقوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (1) قال بعض أهل العلم: يعني خير من الإعراض والنشوز وقال آخرون: من الفرقة وجائز أن يكون عموما في جواز الصلح في سائر الأشياء إلا ما خصه الدليل. . اهـ (2) .
وقال القرطبي قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (3) .
وقال القرطبي قوله تعالى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (4) .
__________
(1) سورة النساء الآية 128
(2) أحكام القرآن جـ \ 2 ص (345 - 346) المطبعة البهية بمصر.
(3) سورة النساء الآية 128
(4) سورة النساء الآية 128(3/181)
فيه مسائل: الأولى قوله تعالى وإن امرأة رفع بإضمار فعل يفسره ما بعده وخافت بمعنى توقعت وقول من قال خافت تيقنت خطأ. قال الزجاج: المعنى وإن امرأة خافت من بعلها دوام النشوز. قال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز التباعد. والإعراض أن لا يكلمها ولا يأنس بها.
ونزلت الآية بسبب سودة بنت زمعه. روى الترمذي عن ابن عباس قال: «خشيت سودة أن يطلقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي منك لعائشة ففعل فنزلت (2) » فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب.
وروى ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رافع بن خديج كانت تحته خولة ابنة محمد بن مسلمة فكره من أمرها إما كبرا وإما غيره. فأراد أن يطلقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما شئت فجرت السنة بذلك ونزلت {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (3) .
وروى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} (4) قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول: أجعلك من شأني في حل، فنزلت هذه الآية وقراءة العامة (أن يصالحا) وقرأ أكثر الكوفيين (أن يصلحا) وقرأ الجحدري وعثمان البتي (أن يصلحا) والمعنى يصطلحا ثم أدغم.
الثانية: في هذه الآية من الفقه الرد على الرعن الجهال الذين يرون أن الرجل إذا أخذ شباب المرأة وأسنت لا ينبغي أن يتبدل بها.
قال ابن أبي مليكة: إن سودة بنت زمعة لما أسنت أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطلقها، فآثرت الكون معه، فقالت له: أمسكني واجعل يومي لعائشة، ففعل - صلى الله عليه وسلم - وماتت وهي من أزواجه.
قلت: وكذلك فعلت بنت محمد بن مسلمة، روى مالك عن ابن شهاب عن رافع بن خديج أنه تزوج بنت محمد بن مسلمة الأنصارية، فكانت عنده حتى كبرت، فتزوج عليها فتاة شابة، فآثر الشابة عليها، فناشدته الطلاق فطلقها واحدة، ثم أهملها حتى إذا كانت تحل راجعها ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها واحدة، ثم راجعها فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فقال: ما شئت: إنما بقيت واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة وإن شئت فارقتك. قالت: بل أستقر على الأثرة. فأمسكها على ذلك، ولم ير رافع عليه إثما حين قرت على الأثرة. رواه معمر عن الزهري بلفظه ومعناه وزاد: فذلك الصلح الذي بلغنا أنه نزل فيه {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (5) .
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3040) .
(2) سورة النساء الآية 128 (1) {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}
(3) سورة النساء الآية 128
(4) سورة النساء الآية 128
(5) سورة النساء الآية 128(3/182)
قال أبو عمر بن عبد البر: قوله والله أعلم (فآثر الشابة عليها) يريد في الميل بنفسه إليها والنشاط لها لا أنه آثرها عليها في مطعم وملبس ومبيت، لأن هذا لا ينبغي أن يظن بمثل رافع والله تعالى أعلم. . وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه 0 أن رجلا سأله عن هذه الآية فقال: هي المرأة تكون عند الرجل فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها وتكره فراقه فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له (أن يأخذ) وإن جعلت له من أيامها فلا حرج.
وقال الضحاك: لا بأس أن ينقصها من حقها إذا تزوج من هي أشب منها وأعجب إليه. وقال مقاتل بن حيان: هو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة، فيقول لهذه الكبيرة أعطيك من مالي على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار فترضى الأخرى بما اصطلحا عليه، وإن أبت ألا ترضى فعليه أن يعدل بينهما في القسم.
الثالثة: قال علماؤنا: وفي هذا أن أنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة بأن يعطي الزوج على أن تصبر هي، أو تعطى هي على أن يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة أو يقع الصلح على الصبر والأثرة من غير عطاء فهذا كله مباح، وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشيء تعطيها، كما فعل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - «كان غضب على صفية، فقالت لعائشة: أصلحي بيني وبين رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وقد وهبت يومي لك (1) » .
ذكره ابن خويز منداد عن عائشة. اهـ (2) .
فإذا كان النشوز من الزوج ولم يتم اصطلاح بين الزوجين فلا يحل له أن يستمر في نشوزه عليها والعضل لها ليضطرها أن تفتدي نفسها ببذلها ما آتاها أو بعضه ليطلقها بل عليه أن يمسكها بمعروف أو يسرحها بإحسان إلا أن يخافا ألا يقيما حدود ال، له فلا جناح عليهما فيما افتدت به، أو أن تأتي الزوجة بفاحشة مبينة فيباح له حينئذ عضلها ليأخذ ما آتاها أو بعضه ليطلقها. قال تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (3) .
قال ابن جرير يعني تعالى ذكره بقوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} (4) ولا يحل لكم أيها الرجال أن تأخذوا من نسائكم إذا أنتم أردتم طلاقهن - لطلاقكم وفراقكم إياهن - شيئا مما أعطيتموهن من الصداق وسقتم إليهن بل الواجب عليكم تسريحهن بإحسان وذلك إيفاؤهن حقوقهن في الصداق والمتعة وغير ذلك مما يجب لهن عليكم {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (5) - إلى أن قال - فإن قال قائل: وأية حال الحال التي يخاف عليهما ألا يقيما حدود الله حتى يجوز للرجل أن يأخذ حينئذ منها ما آتاها؟
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4602) ، مسند أحمد بن حنبل (6/338) .
(2) تفسير القرطبي جـ5 ص403 وما بعده.
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة البقرة الآية 229
(5) سورة البقرة الآية 229(3/183)
قيل: حال نشوزها وإظهارها له بغضه حتى يخاف عليها ترك طاعة الله فيما لزمها لزوجها من الحق ويخاف عليها بتقصيرها في أداء حقوقه التي ألزمها الله له تركه أداء الواجب له، عليها، فذلك حين الخوف عليهما ألا يقيما حدود الله فيطيعاه فيما ألزم كل واحد منهما لصاحبه، والحال التي أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - لثابت بن قيس بن شماس أخذ ما كان أتى زوجته إذ نشزت عليه بغضا منها له - ثم ذكر مجموعة أحاديث بأسانيدها تؤيد ما ذهب إليه من تعيين الحال التي يخاف على الزوجين ألا يقيما حدود الله فيباح للزوجة الافتداء من زوجها ويباح للزوج أخذ العوض على طلاقها، ومن ذلك قوله: حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: «نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة قال وكانت اشتكته إلى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم " تردين عليه حديقته؟ " فقالت: نعم. فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فقال: ويطيب لي ذلك؟ قال: "نعم" قال ثابت قد فعلت فنزلت (2) » اهـ (3) .
وقال تعالى {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (4) .
ذكر ابن جرير - رحمه الله - أقوالا لأهل العلم في المخاطب بالنهي عن العضل منها: أن المخاطبين بذلك ورثة الأزواج. ومنها: أن المخاطبين بذلك أولياء المرأة. ومنها أن المخاطبين بذلك أولياء المرأة. ومنها: أن المخاطبين بذلك الأزواج الذين طلقوا زوجاتهم ومنعوهن أن يتزوجن بعدهم إلا بإذنهم. ومنها: أن المخاطبين بذلك الأزواج الذين كرهوا زوجاتهم وأمسكوهن ضرارا ليفتدين. ثم قال: وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (5) قول من قال نهى الله جل ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق. وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة لأنه لا سبيل لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة إلا لأحد رجلين إما لزوجها بالتضييق عليها وحبسها وهو لها كاره، مضارة منه لها بذلك ليأخذ منها ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك. أو لوليها الذي إليه إنكاحها. وإذا كان لا سبيل إلى عضلها لأحد غيرهما وكان الوالي معلوما أنه ليس ممن آتاها شيئا فيقال إن عضلها عن النكاح عضلها ليذهب ببعض ما آتاها، كان معلوما أن الذي عنى الله تبارك وتعالى بنهيه عن عضلها هو زوجها الذي له السبيل إلى عضلها ضرارا لتفتدي منه. - إلى أن قال - قوله {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (6) يعني بذلك جل ثناؤه لا يحل لكم أيها المؤمنون أن تعضلوا نساءكم ضرارا منكم لهن وأنتم لصحبتهن كارهون وهن لكم طائعات لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتهن {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (7) فيحل لكم حينئذ الضرار بهن ليفتدين منكم، ثم ذكر - رحمه الله - أقوال أهل التأويل في معنى الفاحشة. فذكر آثارا بأسانيدها
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .
(2) سورة البقرة الآية 229 (1) {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا}
(3) جامع البيان جـ 4ص 549 وما بعدها.
(4) سورة النساء الآية 19
(5) سورة النساء الآية 19
(6) سورة النساء الآية 19
(7) سورة النساء الآية 19(3/184)
إلى الحسن البصري وعطاء الخراساني والسدي أن المقصود بالفاحشة الزنا. وذكر آثارا أخرى بأسانيدها إلى ابن عباس ومقسم، والضحاك بن مزاحم، وقتادة وعطاء بن أبي رباح، أن المقصود بالفاحشة النشوز ثم قال: وأولى ما قيل في تأويل قوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1) أنه معني به كل فاحشة من بذاء باللسان على زوجها، وأذى له، وزنا بفرجها. وذلك أن الله جل ثناؤه عم بقوله {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2) كل فاحشة متبينة ظاهرة، فكل زوج امرأة أتت بفاحشة من الفواحش التي هي زنا أو نشوز فله عضلها على ما بين الله في كتابه، والتضييق عليها حتى تفتدي منه بأي معاني الفواحش أتت، بعد أن تكون ظاهرة مبينة بظاهر كتاب الله تبارك وتعالى وصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالذي:
حدثني يونس بن سليمان البصري قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: «" اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، إن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف (3) » .
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال: حدثنا زيد بن الحباب قال حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال: حدثني صدقة بن يسار، عن ابن عمر: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم: قال" أيها الناس، إن النساء عندكم عوان، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن حق، ولهن عليكم حق. ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا، ولا يعصينكم في المعروف، وإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف" (4) » .
فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن من حق الزوج على المرأة أن لا توطئ فراشه أحدا وأن لا تعصيه في معروف، وأن الذي يجب لها من الرزق والكسوة عليه، إنما هو واجب عليه إذا أدت هي إليه ما يجب عليها من الحق، بتركها إيطاء فراشه غيره، وتركها معصيته في معروف.
ومعلوم أن معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «" من حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا (5) » إنما هو أن لا يمكن من أنفسهن أحدا سواكم.
وإذا ما روينا في ذلك صحيحا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبين أن لزوج المرأة إذا وطأت امرأته نفسها غيره وأمكنت من جماعها سواه، أن له من منعها الكسوة والرزق بالمعروف مثل الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته في المعروف. وإذا كان ذلك له، فمعلوم أنه غير مانع لها - بمنعه إياها ماله منعها - حقا لها واجبا عليه. وإذا كان ذلك كذلك، فبين أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها، فأخذ منها
__________
(1) سورة النساء الآية 19
(2) سورة النساء الآية 19
(3) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (5/73) .
(5) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .(3/185)
زوجها ما أعطته، أنه لم يأخذ ذلك عن عضل منهي عنه، بل هو أخذ ما أخذ منها عن عضل له مباح، وإذا كان ذلك كذلك، كان بينا أنه داخل في استثناء الله تبارك وتعالى الذي استثناه من العاضلين بقوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1) . وإذا صح ذلك فبين فساد قول من قال: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2) . منسوخ بالحدود لأن الحد حق الله جل ثناؤه على من أتى بفاحشة التي هي الزنا، وأما العضل لتفتدي المرأة من الزوج بما آتاها أو ببعضه، فحق لزوجها كما أن عضله إياها وتضييقه عليها إذا هي نشزت عليه لتفتدي منه، حق له. وليس حكم أحدهما يبطل حكم الآخر.
قال أبو جعفر: فمعنى الآية: لا يحل لكم، أيها الذين آمنوا أن تعضلوا نسائكم فتضيقوا عليهن وتمنعوهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتكم إلا أن يأتين بفاحشة من زنا أو بذاء عليكم، وخلاف لكم فيما يجب عليهن لكم - مبينة ظاهرة، فيحل لكم حينئذ عضلهن والتضييق عليهن، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق إن هن افتدين منكم به. اهـ (3) .
وذكر أبو بكر الجصاص (4) وأبو بكر بن العربي (5) والقرطبي (6) . نحوا مما ذكره ابن جرير في الموضوع.
وقال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (7) . قال ابن جرير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: وإن أردتم أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة لكم تطلقونها وآتيتم إحداهن قنطارا يقول: وقد أعطيتم التي تريدون طلاقها من المهر قنطارا. . {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (8) يقول فلا تضروا بهن إذا أردتم طلاقهن ليفتدين منكم بما آتيتتوهن. . أتأخذون ما آتيتموهم من مهورهن بهتانا يقول ظلما بغير حق وإثما مبينا يعني وإنما قد أبان أمر أخذه أنه يأخذه إياه لمن أخذه منه ظالم. . وكيف تأخذونه وعلى أي وجه تأخذون من نسائكم ما آتيتموهن من صدقاتهن إذا أرتم طلاقهن واستبدال غيرهن بهن أزواجا {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (9) فتباشرتم وتلامستم وهذا الكلام وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام فإنه في معنى النكير والتغليظ كما يقول الرجل لآخر: كيف تفعل كذا وكذا وأنا غير راض به؟ على معنى التهديد والوعيد. ثم قال بعد ذلك - واختلف في حكم هذه الآية أمحكم أم منسوخ؟
__________
(1) سورة النساء الآية 19
(2) سورة النساء الآية 19
(3) تفسير ابن جرير الطبري جـ 8 ص 110 وما بعدها.
(4) أحكام القرآن للجصاص جـ1 ص 109 - 111.
(5) أحكام القرآن لابن العربي ج1 ص 151 - 154.
(6) أحكام القرآن جـ 5 ص 99 - 101.
(7) سورة النساء الآية 20
(8) سورة النساء الآية 20
(9) سورة النساء الآية 21(3/186)
فقال بعضهم محكم وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها إذا أراد طلاقها، إلا أن تكون هي المريدة للطلاق.
وقال آخرون: هي محكمة، وغير جائز له أخذ شئ مما آتاها منها بحال، كانت هي المريدة للطلاق أو هو. وممن حكي عنه هذا القول بكر بن عبد الله المزني.
حدثنا مجاهد بن موسى قال: حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا عقبة بن أبي الصهباء. قال: سألت بكرا عن المختلعة، أيأخذ منها شيئا؟ قال: لا، {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (1) .
وقال آخرون: بل هي منسوخة، نسخها قوله تعالى {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (2) ذكر من قال ذلك.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} (3) إلى قوله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (4) . قال: ثم رخص بعد فقال {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (5) : قال: فنسخت هذه تلك.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: إنها محكمة غير منسوخة وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها، إذا أراد طلاقها من غير نشوز كان منها، ولا ريبة أتت بها. وذلك أن الناسخ من الأحكام ما نفي خلافه من الأحكام على ما قد بينا في سائر كتبنا. وليس في قوله تعالى {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} (6) نفي حكم قوله تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (7) لأن الذي حرم الله على الرجل بقوله تعالى {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (8) أخذ ما آتاها منها إذا كان هو المريد طلاقها. . وأما الذي أباح له أخذه منها بقوله تعالى {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (9) فهو إذا كانت هي المريدة طلاقه وهو له كاره، ببعض المعاني التي قد ذكرنا في غير هذا الموضع.
__________
(1) سورة النساء الآية 21
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة النساء الآية 20
(4) سورة النساء الآية 21
(5) سورة البقرة الآية 229
(6) سورة النساء الآية 20
(7) سورة البقرة الآية 229
(8) سورة النساء الآية 20
(9) سورة البقرة الآية 229(3/187)
وليس في حكم إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى، وإذا كان ذلك كذلك، لم يجز أن يحكم لإحداهما بأنها ناسخة. وللأخرى بأنها منسوخة إلا بحجة يجب التسليم لها. وأما قول بكر بن عبد الله المزني من أنه ليس لزوج المختلعة أخذ ما أعطته على فراقه إياها إذا كانت هي الطالبة الفرقة وهو الكاره - فليس بصواب، لصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه أمر ثابت بن قيس بن شماس بأخذ ما ساق إلى زوجته وفراقها إذا طلبت فراقه، إذا طلبت فراقه، وكان النشوز من قبلها. اه (1) .
وذكر أبو بكر الجصاص وأبو بكر بن العربي والقرطبي نحوا مما ذكره ابن جرير في تفسير هذه الآية (2) وقال السمرقندي: إن كان النشوز من جهة الزوج فلا يحل له أن يأخذ شيئا منها بل له أن يطلقها بلا عوض لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (3) (4)
__________
(1) تفسير ابن جرير الطبري ج8 ص110 -132 تحقيق محمود وأحمد شاكر.
(2) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص109 -111 وأحكام القرآن لابن العربي ج1 ص151 -154 وتفسير القرطبي ج5 ص99 -100.
(3) سورة النساء الآية 20
(4) تحفة الفقهاء ج2 ص301.(3/188)
وقال محمد بن رشد في معرض الكلام عن الخلع
وإن في معرض الكلام على الخلع:
كرها فارقها، ولا يحل له إذا كرهها أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه وإن أتت بفاحشة من زنا أو نشوز أو بذاء، لقول الله عز وجل وإن {أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (1) {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (2) وهذا مذهب مالك - رحمه الله - وجميع أصحابه لا اختلاف بينهم فيه. ومن أهل العلم من أباح للرجل إذا اطلع على زوجته بزنا أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه لقول الله عز وجل {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (3) وتأول أن الفاحشة المبينة هو الزنا هنا، وجعل الاستثناء متصلا، ومنهم من تأول أن الفاحشة المبينة: البغض والنشوز والبذاء باللسان، فأباح للزوج إذا أبغضته زوجته ونشزت عنه وبذت بلسانها عليه أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه. ومنهم من حمل الفاحشة على العموم فأباح ذلك للزوج سواء كانت الفاحشة التي أتت بها زنا أو نشوزا أو بذاء باللسان أو ما كانت.
__________
(1) سورة النساء الآية 20
(2) سورة النساء الآية 21
(3) سورة النساء الآية 19(3/188)
والصحيح ما ذهب إليه مالك - رحمه الله تعالى - لأنه إذا ضيق عليها حتى تفتدي منه، فقد أخذ مالها بغير طيب نفس، ولم يبح الله ذلك إلا عن طيب نفسها فقال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (1) والآية التي احتجوا بها لا حجة لهم فيها، لأن الفاحشة المبينة من جهة النطق أن تبذو عليه وتشتم عرضه وتخالف أمره لأن كل فاحشة أتت في القرآن منعوتة بمبينة فهي وكل فاحشة أتت فيه مطلقة فهي الزنا. والاستثناء المذكور فيها منفصل فمعني الآية: لكن إن نشزت عليكم وخالفت أمركم حل لكم ما ذهبتم به من أموالهن. معناه: إذا كان ذلك عن طيب أنفسهن. ولا يكون ذلك عن طيب أنفسهن إلا إذا لم يكن منهم إليهن ضرر ولا تضييق. فعلى هذا التأويل تتفق أي القرآن ولا تتعارض وقد قيل في تأويل الآية غير هذا. وهذا أحسن وذهب إسماعيل القاضي إلى أن الخلع يجوز، ويسوغ للزوج ما أخذ منه على الطلاق إذا كان النشوز والكراهية منها.
وإذا خافا أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به. وليس قوله مخالفا لما حكيناه عن مالك وأصحابه: من أن الخلع لا يجوز للزوج وإن كرهته المرأة ونشزت عليه وأضرت به إذا قارضها على بعض ذلك لأنه إنما حمل المخالفة على بابها فأباح الفدية قبل وقوع ما خافاه أن يقع ما ذكر وخاف كل واحد منهما صاحبه، هو إن أمسكها أن لا يقيم حدود الله فيها من أجل كراهته إياها. وخافت هي أن لا تقوم بما يلزمها من حقه فخالفته مخالفة الإثم والحرج فقد أعطته مالها على الطلاق طيبة به نفسها إذا لم يضطرها إلى ذلك بإضرار كان منه إليها.
وأما ابن بكير فإنما حمل الخوف المذكور في الآية على العلم إلا أنه ذهب إلى أن الخطاب فيها إنما هو للولاة كآية التحكيم سواء، فقال: تقدير الكلام فإن خفتم يا ولاة أن لا يقيم الزوجان حدود الله فيما بينهما فلا جناح عليكم فيما أخذتم من مالها وفرقتم بينهما، فالاختلاف بينه وبين أبي بكير إنما هو في تأويل الآية لا في الموضع الذي يجوز فيه الخلع من الذي لا يجوز فيه، ولا اختلاف في المذهب أن الزوج يجوز له أن يأخذ من زوجته شيئا على طلاقها إذا كان النشوز من قبلها ولم يكن منه في ذلك ضرر إليها، إذ ليس له أن يقارضها على نشوزها عليه بالإضرار لها والتضييق عليها حتى تفتدي منه لقول الله عز وجل {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (2) وإنما له أن يعظها فإن اتعظت وإلا هجرها في المضاجع فإن اتعظت وإلا ضربها ضربا غير مبرح فإن أطاعته فلا يبغي عليها سبيلا لقول الله عز وجل {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} (3) فإن هي بذلت له على ألف، حل له أن يقبله إذا لم يتعد أمر الله فيها (4) اه المقصود (5) .
__________
(1) سورة النساء الآية 4
(2) سورة النساء الآية 19
(3) سورة النساء الآية 34
(4) الموجود في المطبوع المنقول عنه (إذا لم يتعد أمر فيها الله) وهو ظاهر الخطأ.
(5) المقدمات لابن رشد ج2 ص252 -254.(3/189)
وقال الشيرازي وإن ظهرت من الرجل أمارات النشوز لمرض بها أو كبر سن ورأت أن تصالحه بترك بعض حقوقها من قسم وغيره جاز لقوله عز وجل: {امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} (1) قالت عائشة - رضي الله تعالى عنها -: أنزل الله عز وجل هذه الآية في المرأة إذا دخلت في السن فتجعل يومها لامرأة أخرى (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمه الله -:
ولا يحل للرجل أن يعضل المرأة ويضيق عليها حتى تعطيه الصداق أو بضعه، لكن إذا أتت بفاحشة مبينة كان له أن يعضلها حتى تفتدي نفسها منه. اه (3) .
أما إذا كان النشوز من الزوجة فإن لزوجها حق وعظها فإن لم يجد الوعظ كان له حق هجرها، فإن لم يفد الهجر كان له ضربها ضربا غير مبرح، فإن لم يجد ذلك كان له عضلها حتى تفتدي نفسها منه ببذلها ما آتاها أو بعضه لقاء تطليقه إياها لأنها باستمرارها على النشوز أتت فاحشة مبينة تبيح للزوج عضلها ليأخذ منها ما آتاها أو بعضه قال تعالى {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} (4) وقال تعالى {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (5) .
قال ابن العربي من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية قول سعيد بن جبير قال: يعظها فإن هي قبلت وإلا هجرها، فإن هي قبلت وإلا ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث حكما من أهله وحكما من أهلها فينظران ممن الضرر وعند ذلك يكون الخلع. اهـ (6) .
وقد سبق بعض الكلام على الحال التي تجيز للزوج أن يعضل امرأته لتفتدي نفسها منه وذلك عند الاستدلال بقوله تعالى {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (7) وبقوله تعالى {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (8) على تحريم عضل الزوج امرأته لتفتدي منه.
__________
(1) سورة النساء الآية 128
(2) المهذب ج2 ص70 مطبعة الحلبي.
(3) مختصر الفتاوى المصرية ص446.
(4) سورة النساء الآية 34
(5) سورة النساء الآية 19
(6) أحكام القرآن جـ 1 ص 175 - 176 الطبعة الأولى.
(7) سورة النساء الآية 19
(8) سورة البقرة الآية 229(3/190)
وقد ذكر ابن جرير - رحمه الله - أقوالا لأهل التأويل في معني الخوف ألا يقيما حدود الله.
الأول أن المراد بذلك أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة لزوجها، فإذا ظهر منها حل له أن يأخذ ما أعطته من فدية على فراقها. وذكر جملة آثار في ذلك بأسانيدها إلى ابن عباس وعروة وجابر بن زيد وهشام بن عروة وغيرهم.
الثاني أن المراد بالخوف من ذلك ألا تبر له قسما ولا تطيع له أمرا وتقول: لا أغتسل لك من جنابة ولا أطيع لك أمرا فحينئذ يحل له عندهم أخذ ما آتاها على فراقه إياها ثم ذكر جملة آثار في ذلك بأسانيدها إلى الحسن والشعبي وإبراهيم والسدي ومجاهد. .
الثالث أن المراد بالخوف من ذلك أن تبتدئ له بلسانها قولا أنها له كارهة، ثم ذكر ذلك بإسناده إلى عطاء بن أبي رباح.
الرابع أن الذي يبيح له أخذ الفدية أن يكون خوف ألا يقيما حدود الله منهما جميعا لكراهة كل واحد منهما صاحبه الآخر وذكر جملة آثار في ذلك بأسانيدها إلى الشعبي وطاوس والحسن. ثم اختار هذا القول وذكر توجيه اختياره إياه (1) .
وقال الكاساني
فصل ومنها التأديب للزوج إذا لم تطعه فيما يلزم طاعته بأن كانت ناشزة فله أن يؤدبها لكن على الترتيب، فيعظها أولا على الرفق واللين بأن يقول لها: كوني من الصالحات القانتات الحافظات للغيب، ولا تكوني من كذا وكذا، فلعلها تقبل الموعظة فتترك النشوز. فإن نجحت فيها الموعظة ورجعت إلى الفراش وإلا هجرها، وقيل يخوفها بالهجر أولا والاعتزال عنها وترك الجماع والمضاجعة، فإن تركت وإلا هجرها لعل نفسها لا تحتمل الهجر، ثم اختلف في كيفية الهجر.
قيل يهجرها بأن يجامعها ولا يضاجعها على فراشه، وقيل يهجرها بأن لا يكلمها في حال مضاجعته إياها لا أن يترك جماعها ومضاجعتها لأن ذلك حق مشترك بينهما فيكون في ذلك عليه من الضرر ما عليها فلا يؤدبها بما يضر نفسه ويبطل حقه، وقيل يهجرها بأن يفارقها في المضجع وضاجع أخرى في حقها وقسمها لأن حقها عليه في القسم في حال الموافقة وحفظ حدود الله تعالى لا في حال التضييع وخوف النشوز والتنازع، وقيل يهجرها بترك مضاجعتها وجماعها لوقت غلبة شهوتها وحاجتها لا في وقت حاجته إليها، لأن هذا للتأديب والزجر، فينبغي أن يؤدبها لا أن يؤدب نفسه بامتناعه عن المضاجعة في حال حاجته إليه.
__________
(1) تفسير ابن جرير الطبري ج4 ص549 وما بعدها.(3/191)
فإذا هجرها، فإن تركت النشوز وإلا ضربها ضربا غير مبرح ولا شائن، والأصل فيه قوله عز وجل {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} (1) .
وإن كان بحرف الواو الموضوعة للجمع المطلق لكن المراد منه الجمع على سبيل الترتيب، والواو تحتمل فإن نفع الضرب وإلا رفع الأمر إلى القاضي ليوجه إليهما حكمين، حكما من أهله وحكما من أهلها كما قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (2) وسبيل هذا الأمر سبيل بالمعروف والنهي عن المنكر في حق سائر الناس، أن الأمر يبدأ بالموعظة على الرفق واللين دون التغليظ في القول، فإن قبلت وإلا غلظ القول به، فإن قبلت وإلا بسط يده فيه، وكذلك إذا ارتكبت محظورا سوى النشوز ليس فيه حد مقدر، فللزوج أن يؤدبها تعزيرا لأن للزوج أن يعزر زوجته كما للولي أن يعزر مملوكه. اهـ (3) .
وقال الشافعي وأشبه ما سمعت - والله أعلم - في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} (4) أن لخوف النشوز دلائل، فإذا كانت {فَعِظُوهُنَّ} (5) لأن العظة مباحة فإن لججن فأظهرن نشوزا بقول أو فعل {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} (6) فإن أقمن بذلك على ذلك فاضربوهن وذلك بين أنه لا يجوز هجرة في المضجع وهو منهي عنه ولا ضرب إلا بقول أو فعل أو هما. قال: ويحتمل في {تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} (7) إذا نشزن فأبن النشوز فكن عاصيات به أن تجمعوا عليهن العظة والهجرة والضرب.
قال: ولا يبلغ في الضرب حدا ولا يكون مبرحا ولا مدميا ويتوقى فيه الوجه قال: ويهجرها في المضجع، حتى ترجع عن النشوز ولا يجاوز بها في هجرة الكلام ثلاثا لأن الله عز وجل إنما أباح الهجرة في المضجع، والهجرة في المضجع تكون بغير هجرة الكلام، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجاوز بالهجرة في الكلام ثلاثا قال: ولا يجوز لأحد أن يضرب ولا يهجر مضجعا بغير بيان نشوزها.
قال: وأصل ما ذهبنا إليه من أن لا قسم للممتنعة من زوجها ولا نفقة ما كانت ممتنعة، لأن الله تبارك وتعالى أباح هجرة مضجعها وضربها في النشوز، والامتناع نشوز. قال: ومتى تركت النشوز لم تحل هجرتها ولا ضربها، وصارت على حقها كما كانت قبل النشوز. اهـ (8) .
وقال ابن قدامة بعد تعريف النشوز:
فمتى ظهرت منها أمارات النشوز مثل أن تتثاقل وتدافع إذا دعاها، ولا تصير إليه إلا بتكره ودمدمة فإنه يعظها، فيخوفها الله سبحانه ويذكر ما أوجب الله له عليها من الحق والطاعة، وما يلحقها من الإثم بالمخالفة
__________
(1) سورة النساء الآية 34
(2) سورة النساء الآية 35
(3) بدائع الصنائع جـ \ 2 ص 334.
(4) سورة النساء الآية 34
(5) سورة النساء الآية 34
(6) سورة النساء الآية 34
(7) سورة النساء الآية 34
(8) الأم جـ 5 ص 194 الطبعة الأولى.(3/192)
والمعصية وما يسقط بذلك من حقوقها من النفقة والكسوة، وما يباح له من ضربها وهجرها لقول الله تعالى {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} (1) فإن أظهرت النشوز وهو أن تعصيه وتمتنع من فراشه أو تخرج من منزله بغير إذنه فله أن يهجرها في المضجع لقول الله تعالى {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} (2) .
قال ابن عباس: لا تضاجعها في فراشك، فأما الهجران في الكلام فلا يجوز أكثر من ثلاثة أيام، لما روى أبو هريرة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام (3) » وظاهر كلام الخرقي أنه ليس له ضربها في النشوز في أول مرة.
وقد روي عن أحمد: إذا عصت المرأة زوجها فله ضربها ضربا غير مبرح، فظاهر هذا إباحة ضربها كما لو أصرت، ولأن عقوبات المعاصي لا تختلف بالتكرار وعدمه كالحدود، ووجه قول الخرقي المقصود زجرها عن المعصية في المستقبل وما هذا سبيله يبدأ فيه بالأسهل فالأسهل كمن هجم منزله فأراد إخراجه، وأما قوله تعالى {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} (4) الآية ففيها إضمار تقديره واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن فإن نشزن فاهجروهن في المضاجع فإن أصررن فاضربوهن كما قال تعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (5) والذي يدل على هذا أنه رتب هذه العقوبات على خوف النشوز ولا خلاف أنه لا يضربها لخوف النشوز قبل إظهاره، وللشافعي قولان كهذين.
فإن لم ترتدع بالوعظ والهجر فله ضربها لقوله تعالى: واضربوهن وقال - صلى الله عليه وسلم - «إن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح (6) » " رواه مسلم. معنى غير مبرح غير موجع ولا شديد.
وقال الخلال سألت أحمد بن يحيى عن قوله " غير مبرح " قال: غير شديد، وعليه أن يجتنب الوجه والمواضع المخوفة لأن المقصود التأديب لا الإتلاف، وقد روى أبو داود عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه «قال: قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: " أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت (7) » وروى عبد الله بن زمعة «عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال " لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها في آخر اليوم (8) » ولا يزيد في ضربها على عشرة أسواط لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم - « (لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله) (9) » متفق عليه اهـ (10) .
__________
(1) سورة النساء الآية 34
(2) سورة النساء الآية 34
(3) صحيح البخاري الأدب (6065) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2559) ، سنن الترمذي البر والصلة (1935) ، سنن أبو داود الأدب (4910) ، مسند أحمد بن حنبل (3/199) ، موطأ مالك الجامع (1683) .
(4) سورة النساء الآية 34
(5) سورة المائدة الآية 33
(6) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(7) سنن أبو داود النكاح (2142) ، سنن ابن ماجه النكاح (1850) .
(8) صحيح البخاري النكاح (5204) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2855) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3343) ، سنن ابن ماجه النكاح (1983) ، مسند أحمد بن حنبل (4/17) ، سنن الدارمي النكاح (2220) .
(9) صحيح البخاري الحدود (6850) ، صحيح مسلم الحدود (1708) ، سنن الترمذي الحدود (1463) ، سنن أبو داود الحدود (4491) ، سنن ابن ماجه الحدود (2601) ، مسند أحمد بن حنبل (4/45) ، سنن الدارمي الحدود (2314) .
(10) المغني والشرح الكبير جـ \ 8 ص (162 - 163) الطبعة الأولى.(3/193)
وقال ابن قدامة أيضا (مسألة) قال " والمرأة إذا كانت مبغضة للرجل وتكره أن تمنعه ما تكون عاصية بمنعه فلا بأس أن تفتدي نفسها منه " وجملة الأمر أن المرأة إذا كرهت زوجها لخلقه أو خلقه أو دينه أو كبره أو ضعفه أو نحو ذلك، وخشيت أن لا تؤدي حق الله في طاعته جاز لها أن تخالعه بعوض تفتدي به نفسها منه لقول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (1) .
«وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما شأنك؟ " قالت: لا أنا ولا ثابت لزوجها فلما جاء ثابت قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكره " وقالت حبيبة: يا رسول الله كل ما أعطاني عندي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لثابت بن قيس: " خذ منها " فأخذ منها وجلست في أهلها (2) » وهذا حديث صحيح ثابت الإسناد رواه الأئمة مالك وأحمد وغيرهما وفي رواية البخاري «قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق إلا أني أخاف الكفر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أتردين عليه حديقته؟ " فقالت: نعم، فردتها عليه وأمره ففارقها (3) » .
وفي رواية فقال «" اقبل الحديقة وطلقها تطليقة (4) » وبهذا قال جميع الفقهاء بالحجاز والشام قال ابن عبد البر: ولا نعلم أحدا خالفه إلا بكر بن عبد الله المزني فإنه لم يجزه، وزعم أن آية الخلع منسوخة بقوله تعالى {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} (5) الآية.
وروي عن ابن سيرين، وأبي قلابة أنه لا يحل الخلع حتى يجد على بطنها رجلا لقول الله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (6) .
ولنا الآية التي تلوناها والخبر وأنه قول عمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم من الصحابة لم نعرف لهم في عصرهم مخالفا فكان إجماعا. ودعوى النسخ لا تسمع حتى يثبت تعذر الجمع وأن الآية الناسخة متأخرة ولم يثبت شيء من ذلك. إذا ثبت هذا فإن هذا يسمى خلعا لأن المرأة تنخلع من لباس زوجها قال الله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (7) ويسمى افتداء لأنها تفتدي نفسها بمال تبذله قال الله تعالى {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (8) اهـ (9) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سنن النسائي الطلاق (3462) ، سنن أبو داود كتاب الطلاق (2227) ، مسند أحمد بن حنبل (6/434) ، موطأ مالك كتاب الطلاق (1198) ، سنن الدارمي الطلاق (2271) .
(3) صحيح البخاري الطلاق (5277) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .
(4) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .
(5) سورة النساء الآية 20
(6) سورة النساء الآية 19
(7) سورة البقرة الآية 187
(8) سورة البقرة الآية 229
(9) المغني والشرح الكبير جـ 6 ص 173 - 174 الطبعة الأولى.(3/194)
وإذا كان النشوز من المرأة وتعذرت أوبتها منه لبغضها إياه وكراهتها له وعرضت عليه افتدائها منه فقد أجمع أهل العلم على أنه ينبغي إجابتها واختلفوا هل يجبر الزوج على ذلك؟
قال ابن مفلح يباح لسوء عشرة بين الزوجين وتستحب الإجابة إليه واختلف كلام شيخنا في وجوبه وألزم به بعض حكام الشام المقادسه الفضلاء فقال أبو طالب: إذا كرهته حل أن يأخذ منها ما أعطاها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «" أتردين عليه حديقته (1) » اهـ (2) .
وسئل الشيخ حسين ابن الشيخ محمد: إذا كرهت زوجها هل يجبر على الخلع فأجاب إذا كرهت زوجها فالذي نفتي به أنه مستحب ولا يجبر الزوج على الخلع (3) .
وقال الشوكاني - رحمه الله:
قوله «اقبل الحديقة (4) » قال في الفتح: هو أمر إرشاد وإصلاح لا إيجاب، ولم يذكر ما يدل على صرف الأمر عن حقيقته. اه (5) .
وقال في حاشية المقنع على قوله: وإذا كانت المرأة مبغضة للرجل وتخشى ألا يقيم حدود الله فلا بأس أن تفتدي نفسها منه، أي فيباح للزوجة والحالة هذه على الصحيح من المذهب وأما الزوج فالصحيح من المذهب أنه يستحب له الإجابة إليه وعليه الأصحاب، واختلف كلام الشيخ في وجوب الإجابة إليه والأصل فيه قوله تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (6) ولقول ابن عباس - رضي الله عنهما - «جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله: ثابت بن قيس لا أعيب عليه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أتردين عليه حديقته " قالت: نعم فأمرها بردها وأمره ففارقها (7) » رواه البخاري. وبه قال جميع الفقهاء في الأمصار إلا بكر بن عبد الله المزني لم يجزه. اه
وقال الجصاص ذكر اختلاف السلف وسائر علماء الأمصار فيما يحل أخذه بالخلع.
روى عن علي - رضي الله تعالى عنه - أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، وهو قول سعيد بن
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .
(2) الفروع جـ 5 ص 343.
(3) الدار السنية جـ 6 ص 367.
(4) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .
(5) نيل الأوطار جـ6 ص 263.
(6) سورة البقرة الآية 229
(7) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .(3/195)
المسيب والحسن وطاوس وسعيد بن جبير، وروى عن عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس ومجاهد وإبراهيم والحسن رواية أخرى أنه جائز له أن يخلعها على أكثر مما أعطاها ولو بعقاصها.
وقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد: إذا كان النشوز من قبلها حل له أن يأخذ منها ما أعطاها ولا يزداد، وإن كان النشوز من قبله لم يحل له أن يأخذ منها شيئا فإن فعل جاز في القضاء، وقال ابن شبرمة تجوز المبارأة إذا كانت من غير إضرار منه، وإن كانت على إضرار منه لم تجز، وقال ابن وهب عن مالك: إذا علم أن زوجها أضر بها وضيق عليها وأنه ظالم لها قضى عليها الطلاق ورد عليها مالها، وذكر ابن القاسم عن مالك أنه جائز للرجل أن يأخذ منها في الخلع أكثر مما أعطاها ويحل له، وإن كان النشوز من قبل الزوج حل له أن يأخذ ما أعطته على الخلع إذا رضيت بذلك ولم يكن في ذلك ضرر منه لها وعن الليث نحو ذلك.
وقال الثوري: إذا كان الخلع من قبلها فلا بأس أن يأخذ منها شيئا، وإذا كان من قبله فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا. . وقال الأوزاعي في رجل خالع امرأته وهي مريضة، إن كانت ناشزة كان في ثلثها وإن لم تكن ناشزة رد عليها الرجعة، وإن خالعها قبل أن يدخل بها على جميع ما أصدقها ولم يتبين منها نشوز إذا اجتمعا على فسخ النكاح قبل أن يدخل بها فلا أرى بذلك بأسا.
وقال الحسن بن حيي: إذا كانت الإساءة من قبلها والتعطيل لحقه كان له أن يخالعها على ما تراضيا عليه، وكذلك قول عثمان، وقال الشافعي: إذا كانت المرأة مانعة ما يجب عليها لزوجها حلت الفدية للزوج، وإذا حل له أن يأكل ما طابت به نفسا على غير فراق حل له أن يأكل ما طابت به نفسا وتأخذ الفراق به.
قال أبو بكر قد أنزل الله تعالى في الخلع آيات منها قوله تعالى {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (1) فهذا يمنع أخذ شيء منها إذا كان النشوز من قبله، فلذلك قال أصحابنا: لا يحل له أن يأخذ منها في هذه الحال شيئا. وقال تعالى في آية أخرى {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (2) فأباح في هذه الآية الأخذ عند خوفهما ترك إقامة حدود الله وذلك على ما قدمنا من بغض المرأة لزوجها وسوء خلقها أو كان ذلك منهما فيباح له أخذ ما أعطاها ولا يزداد والظاهر يقتضي جواز أخذ الجميع ولكن ما زاد مخصوص بالسنة. وقال تعالى في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (3) .
قيل فيه: إنه خطاب للزوج وحظر به أخذ شيء مما أعطاها إلا أن تأتي بفاحشة مبينة. قيل فيها: إنها هي الزنا، وقيل إنها النشوز من قبلها، وهذه نظير قوله تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (4) وقال تعالى في آية أخرى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (5)
__________
(1) سورة النساء الآية 20
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة النساء الآية 19
(4) سورة البقرة الآية 229
(5) سورة النساء الآية 35(3/196)
وسنذكر حكمها في مواضعها إن شاء الله تعالى، وذكر تعالى إباحة أخذ المهر في غير هذه الآية إلا أنه لم يذكر حال الخلع في قوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (1) وقال تعالى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (2) وهذه الآيات كلها مستعملة على مقتضى أحكامها.
فقلنا: إذا كان النشوز من قبله لم يحل له أخذ شيء منها لقوله تعالى: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (3) وقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (4) وإذا كان النشوز من قبلها أو خافا لسوء خلقها أو بغض كل واحد منهما لصاحبه أن لا يقيما. جاز له أن يأخذ ما أعطاها لا يزداد، وكذلك {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (5) وقد قيل فيه: إلا أن تنشز فيجوز له عند ذلك أخذ ما أعطاها.
وأما قوله تعالى {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (6) فهذا في غير حال الخلع بل في حال الرضا بترك المهر بطيبة من نفسها به، وقول من قال: إنه لما جاز أخذ مالها بغير خلع فهو جائز في الخلع خطأ، لأن الله تعالى قد نص على الموضعين، في أحدهما بالحظر وهو قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} (7) وقوله تعالى {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (8) وفي الآخر بالإباحة وهو قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (9) فقول القائل: لما جاز أن يأخذ مالها بطيبة من نفسها من غير خلع جاز في الخلع قول مخالف لنص الكتاب وقد روى عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - في الخلع ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن حبيبة بنت سهل الأنصارية، «أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن الشماس وأن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من هذه؟ " قالت: أنا حبيبة بنت سهل، قال " ما شأنك؟ " قالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها. فلما جاءه ثابت بن قيس قال له: " هذه حبيبة بنت سهل فذكرت ما شاء الله أن تذكره " فقالت حبيبة يا رسول الله كل ما أعطاني عندي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لثابت " خذ منها " فأخذ منها وجلست في أهلها (10) » .
__________
(1) سورة النساء الآية 4
(2) سورة البقرة الآية 237
(3) سورة النساء الآية 20
(4) سورة النساء الآية 19
(5) سورة النساء الآية 19
(6) سورة النساء الآية 4
(7) سورة النساء الآية 20
(8) سورة البقرة الآية 229
(9) سورة النساء الآية 4
(10) سنن النسائي الطلاق (3462) ، سنن أبو داود كتاب الطلاق (2227) ، مسند أحمد بن حنبل (6/434) ، موطأ مالك كتاب الطلاق (1198) ، سنن الدارمي الطلاق (2271) .(3/197)
وروي فيه ألفاظ مختلفة في بعضها: " خل سبيلها ". وفي بعضها: " فارقها ".
وإنما قالوا: إنه لا يسعه أن يأخذ منها أكثر ما أعطاها لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال حدثنا محمد بن يحيى بن أبي سمينة: قال حدثنا الوليد بن مسلم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس «أن رجلا خاصم امرأته إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - "تردين إليه ما أخذت منه؟ " قالت نعم وزيادة فقال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - "أما الزيادة فلا"» وقال أصحابنا: لا يأخذ منها الزيادة لهذا الخبر وخصوا به ظاهر الآية، وإنما جاز تخصيص هذا الظاهر بخبر الواحد من قبل أن قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (1) لفظ محتمل لمعان، والاجتهاد سائغ فيه وقد روي عن السلف فيه وجوه مختلفة، وكذلك قوله تعالى {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2) محتمل لمعان على ما وصفنا فجاز تخصيصه بخبر الواحد وهو كقوله تعالى {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (3) وقوله تعالى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (4) لما كان محتملا للوجوه واختلف السلف في المراد به جاز قبول خبر الواحد في معناه المراد به. وإنما قال أصحابنا: إذا خلعها على أكثر مما أعطاها، أو خلعها على مال والنشوز من قبله أن ذلك جائز في الحكم وإن لم يسعه فيما بينه وبين الله تعالى من قبل أنها أعطته بطيبة من نفسها غير مجبرة عليه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه (5) » وأيضا فإن النهي لم يتعلق بمعنى في نفس العقد وإنما تعلق بمعنى في غيره وهو أنه لم يعطها مثل ما أخذ منها ولو كان قد أعطاها مثل ذلك لما كان ذلك مكروها. فلما تعلق النهي بمعنى في غير العقد لم يمنع ذلك جواز العقد كالبيع عند أذان الجمعة وبيع حاضر لباد وتلقي الركبان ونحو ذلك. وأيضا لما جاز العتق على قليل المال وكثيره، وكذلك الصلح عن دم العمد. كان كذلك الطلاق وكذلك النكاح لما جاز على أكثر من مهر المثل وهو بدل البضع، كذلك جاز أن تضمنه المرأة بأكثر من مهر مثلها لأنه بدل من البضع في الحالين. . فإن قيل: لما كان الخلع فسخا لعقد النكاح لم يجز بأكثر مما وقع عليه العقد كما لا يجوز الإقالة بأكثر من الثمن.
قيل له: قولك: إن الخلع فسخ للعقد. خطأ. وإنما هو طلاق مبتدأ كهو لو لم يشترط فيه بدل، ومع ذلك فلا خلاف أنه ليس بمنزلة الإقالة لأنه لو خلعها على أقل مما أعطاها جاز بالاتفاق، والإقالة غير جائزة بأقل من الثمن ولا خلاف أيضا في جواز الخلع بغير شيء وقد اختلف السلف في الخلع دون السلطان، فروي عن الحسن وابن سيرين أن الخلع لا يجوز إلا عند السلطان، وقال سعيد بن جبير لا يكون الخلع حتى يعظها فإن اتعظت وإلا هجرها فإن اتعظت وإلا ضربها فإن اتعظت وإلا ارتفعا إلى السلطان فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها فيردان ما يسمعان إلى السلطان فإن رأى بعد ذلك أن يفرق فرق وإن رأى أن يجمع جمع.
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة النساء الآية 19
(3) سورة النساء الآية 43
(4) سورة البقرة الآية 237
(5) مسند أحمد بن حنبل (5/73) .(3/198)
وروي عن علي، وعمر، وعثمان، وابن عمر، وشريح، وطاوس، والزهري في آخرين أن الخلع جائز دون السلطان وروى سعيد عن قتادة قال: كان زياد من رد الخلع دون السلطان. ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في جوازه دون السلطان.
وكتاب الله يوجب جوازه وهو قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (1) وقال تعالى {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2) . فأباح الأخذ منها بتراضيهما من غير سلطان. . وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لامرأة ثابت بن قيس «أتردين عليه حديقته" قالت: نعم فقال للزوج "خذها وفارقها (3) » يدل على ذلك أيضا لأنه لو كان الخلع إلى السلطان شاء الزوجان أو أبيا إذا علم أنهما لا يقيمان حدود الله لم يسألهم النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن ذلك ولا خاطب الزوج بقوله: "اخلعها" بل كان يخلعها منه ويرد عليه حديقته وإن أبيا أو واحد منهما. كما لما كانت فرقة المتلاعنين إلى الحاكم لم يقل للملاعن خل سبيلها. بل فرق بينهما، كما روى سهل بن سعد أن «النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فرق بين المتلاعنين (4) » . كما قال في حديث آخر: «لا سبيل لك عليها (5) » . ولم يرجع ذلك إلى الزوج. فثبت بذلك جواز الخلع دون السلطان ويدل عليه أيضا قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: «لا يحل مال امرئ إلا بطيبة من نفسه (6) » اهـ. المقصود (7) .
وقال ابن حجر - رحمه الله - على قول البخاري في صحيحه وقول الله عز وجل: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (8) . وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها. العقاص بكسر المهملة وتخفيف القاف وآخره صاد مهملة: جمع عقصة وهو ما يربط به شعر الرأس بعد جمعه.
وأثر عثمان هذا رويناه موصولا في أمالي أبي القاسم بن بشران من طريق شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ قالت: اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك عثمان، وأخرجه البيهقي من طريق روح بن القاسم عن ابن عقيل مطولا وقال في آخره: فدفعت إليه كل شيء حتى أجفت الباب بيني وبينه.
وهذا يدل على أن معنى دون: سوى، أي أجاز للرجل أن يأخذ من المرأة في الخلع ما سوى عقاص رأسها، وقال سعيد بن منصور، حدثنا هشام عن مغيرة عن إبراهيم كان يقال: الخلع ما دون عقاص رأسها.
وعن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد يأخذ من المختلعة حتى عقاصها، ومن طريق قبيصة بن ذؤيب إذا خلعها جاز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ثم تلا: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (9) وسنده صحيح.
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة النساء الآية 19
(3) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .
(4) صحيح البخاري الطلاق (5309) ، سنن أبو داود الطلاق (2251) .
(5) صحيح البخاري الطلاق (5312) ، صحيح مسلم اللعان (1493) ، سنن أبو داود الطلاق (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (2/11) .
(6) مسند أحمد بن حنبل (5/73) .
(7) أحكام القرآن جـ (1) ص 462 - 468 المطبعة البهية.
(8) سورة البقرة الآية 229
(9) سورة البقرة الآية 229(3/199)
ووجدت أثر عثمان بلفظ آخر أخرجه ابن سعد في ترجمة الربيع بنت معوذ من طبقات النساء قال: أنبأنا يحيى بن عباد حدثنا فليح بن سليمان حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ قالت - كان بيني وبين ابن عمي كلام - وكان زوجها - قالت - فقلت له: لك كل شيء وفارقني، قال قد فعلت فأخذ كل شيء حتى فراشي فجئت عثمان وهو محصور فقال: الشرط أملك خذ كل شيء حتى عقاص رأسها.
قال ابن بطال ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للرجل أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها، وقال مالك: لم أر أحدا ممن يقتدى به يمنع ذلك، لكنه ليس من مكارم الأخلاق. ثم ساق شرح باقي الحديث، وقال بعد ذلك: -
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم: أن الشقاق إذا حصل من قبل المرأة فقط جاز الخلع والفدية، ولا يتقيد ذلك بوجوده منهما جميعا، وأن ذلك يشرع إذا كرهت المرأة عشرة الرجل ولو لم يكرهها ولم ير منها ما يقتضي فراقها.
وقال أبو قلابة ومحمد بن سيرين لا يجوز له أخذ الفدية منها إلا أن يرى على بطنها رجلا. أخرجه ابن أبي شيبة. وكأنهما لم يبلغهما الحديث، واستدل ابن سيرين بظاهر قوله تعالى {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1) وتعقب بأن آية البقرة فسرت المراد بذلك مع ما دل عليه الحديث ثم ظهر لي لما قاله ابن سيرين توجيه وهو تخصيصه بما إذا كان ذلك من قبل الرجل بأن يكرهها وهي لا تكرهه فيضاجرها لتفتدي منه فوقع النهي عن ذلك إلا أن يراها على فاحشة ولا يجد بينة، ولا يحب أن يفضحها فيجوز حينئذ أن يفتدي منها ويأخذ منها ما تراضيا عليه ويطلقها فليس في ذلك مخالفة للحديث لأن الحديث ورد فيما إذا كانت الكراهة من قبلها.
واختار ابن المنذر أنه لا يجوز حتى يقع الشقاق بينهما جميعا، وإن وقع من أحدهما لا يندفع الإثم، وهو قوي موافق لظاهر الآيتين، ولا يخالف ما ورد فيه وبه قال طاوس، والشعبى وجماعة من التابعين وأجاب الطبري وغيره عن ظاهر الآية بأن المرأة إذا لم تقم بحقوق الزوج التي أمرت بها كان ذلك منفرا للزوج عنها غالبا، ومقتضيا لبغضه لها فنسبت المخالفة إليها لذلك، وعن الحديث بأنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - لم يستفسر ثابتا هل أنت كارهها كما كرهتك أم لا. اهـ المقصود (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 19
(2) فتح الباري جـ \ 9 ص (230 - 331) .(3/200)
وقال محمود العيني أي هذا باب في بيان الخلع - بضم الخاء المعجمة وسكون اللام - مأخوذ من خلع الثوب والنعل ونحوهما وذلك لأن المرأة لباس للرجل كما قال الله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (1) وإنما جاء مصدره بضم الخاء تفرقة بين الأجرام والمعاني، يقال: خلع ثوبه ونعله خلعا بفتح الخاء وخلع امرأته خلعا وخلعة بالضم.
وأما حقيقته الشرعية فهو فراق الرجل امرأته على عوض يحصل له، وهكذا قاله شيخنا في شرح الترمذي وقال هو الصواب، وقال كثير من الفقهاء: هو مفارقة الرجل امرأته على مال وليس بجيد، فإنه لا يشترط كون عوض الخلع مالا، فإنه لو خالعها عليه من دين أو خالعها على قصاص لها عليه فإنه صحيح وإن لم يأخذ الزوج منها شيئا، فلذلك عبرت بالحصول لا بالأخد.
قلت قال أصحابنا: الخلع إزالة الزوجية بما يعطيه من المال، وقال النسفي: الخلع الفصل من النكاح بأخذ المال بلفظ الخلع وشرطه شرط الطلاق وحكمه وقوع الطلاق البائن وهو من جهته يمين ومن جهتها معاوضة، وأجمع العلماء على مشروعية الخلع إلا بكر بن عبد الله المزني التابعي المشهور حكاه ابن عبد البر في التمهيد، وقال عقبة بن أبي الصهباء سألت بكر بن عبد الله المزني عن الرجل يريد أن يخالع امرأته فقال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئا، قلت: فأين قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (2) قال هي منسوخة قلت: وما نسخها؟ قال ما في سورة النساء، قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (3) الآية.
قال ابن عبد البر قول بكر بن عبد الله هذا خلاف السنة الثابتة في قصة ثابت بن قيس وحبيبة بنت سهل وخالف جماعة الفقهاء والعلماء بالحجاز والعراق والشام انتهى. وخصص ابن سيرين وأبو قلابة جوازه بوقوع الفاحشة فكانا يقولان: لا يحل للزوج الخلع حتى يجد على بطنها رجلا لأن الله تعالى يقول {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (4) .
قال أبو قلابة فإذا كان ذلك فقد جاز له أن يضارها ويشق عليها حتى تختلع منه، قال أبو عمر: ليس هذا بشيء لأن له أن يطلقها، أو يلاعنها. وأما أن يضارها ليأخذ مالها فليس له ذلك. اهـ (5) .
وقال في حاشية المقنع على قوله (ولا يستحب أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها فإن فعل كره وصح) إذا تراضيا على الخلع بشيء صح وإن كان أكثر من الصداق وهذا قول أكثر أهل العلم، روى ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عباس وعكرمة ومجاهد وقبيصة والنخعي ومالك والشافعى وأصحاب الرأي. وروي عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: لو اختلعت امرأة من زوجها بميراثها وعقاص رأسها كان ذلك جائزا. وقال عطاء وطاوس والزهري وعمرو بن شعيب: لا يأخذ أكثر مما أعطاها وروي ذلك عن علي بإسناد
__________
(1) سورة البقرة الآية 187
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة النساء الآية 20
(4) سورة النساء الآية 19
(5) عمد القارئ جـ 20 ص 260 وما بعدها.(3/201)
منقطع واختاره أبو بكر، فإن فعل رد الزيادة. واحتجوا بما روي «أن جميلة بنت سلول أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: والله ما أعيب على ثابت في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضا فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أتردين عليه حديقته " قالت: نعم فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد. رواه ابن ماجه (1) » . ولنا قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (2) ولأنه قول من سمينا من الصحابة.
وقالت الربيع بنت معوذ اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك علي، ولكن لا يستحب أن يأخذ أكثر مما أعطاها. وهذا المذهب وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والشعبي والحكم وحماد وإسحاق وأبو عبيد ولم يكرهه أبو حنيفة ومالك والشافعي. اهـ (3)
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) قال المنذري (3: 144 حديث 2137) وذكر أنه روي مرسلا وأخرجه الترمذي مسندا، وقال: حسن غريب.(3/202)
حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلع
في صحيح البخاري عن ابن عباس «أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله، ثابت بن قيس، ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - " تردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة واحدة (1) » ، وفي سنن النسائي عن الربيع بنت معوذ «أن ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها - وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي سلول - فأتى أخوها يشتكيه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليه فقال: " خذ الذي لها عليك وخل سبيلها "، قال: نعم. فأمرها رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أن تتربص حيضة واحدة، وتلحق بأهلها (2) » .
وفي سنن أبي داود عن ابن عباس «أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس اختلعت من زوجها، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعتد بحيضة (3) » ، وقال: حسن غريب. وفي سنن الدارقطني في هذه القصة: فقال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - «أتردين عليه حديقته التي أعطاك؟ " قالت: نعم، وزيادة. فقال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -: " أما الزيادة فلا، ولكن حديقته "، قالت: نعم. فأخذ ماله، وخلى سبيلها. فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال: قد قبلت قضاء رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم (4) » - قال الدارقطني: إسناده صحيح.
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .
(2) سنن النسائي الطلاق (3497) .
(3) سنن الترمذي الطلاق (1185) ، سنن أبو داود الطلاق (2229) .
(4) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .(3/202)
فتضمن هذا الحكم النبوي عدة أحكام، أحدها: جواز الخلع كما دل عليه القرآن قال تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (1) ومنع الخلع طائفة شاذة من الناس، خالفت النص والإجماع، وفي الآية دليل على جوازه مطلقا بإذن السلطان وغيره، ومنعه طائفة بدون إذنه، والأئمة الأربعة، والجمهور: على خلافه، وفي الآية دليل على حصول البينونة. لأنه سبحانه وتعالى سماه " فدية " ولو كان رجعيا - كما قال بعض الناس - لم يحصل للمرأة الافتداء من الزوج بما بذلته له. ودل قوله سبحانه وتعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (2) على جوازه بما قل أو كثر، وأن له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها.
وقد ذكر عبد الرازق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أن الربيع بنت معوذ بن عفراء حدثته: أنها اختلعت من زوجها بكل شيء تملكه، فخوصم في ذلك إلى عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - فأجازه، وأمره أن يأخذ عقاص رأسها فما دونه.
وذكر أيضا عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع أن ابن عمر جائته مولاة لامرأته اختلعت من كل شيء لها، وكل ثوب لها حتى نقبتها. ورفعت إلى عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - امرأة نشزت عن زوجها فقال: " اخلعها ولو من قرطها " ذكره حماد بن سلمة عن أيوب عن كثير بن أبي كثير عنه. وذكر عبد الرازق عن عمر عن ليث عن الحكم بن عتبة عن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - " لا يأخذ منها فوق ما أعطاها ".
وقال طاوس: " لا يحل أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها " وقال عطاء: " إن أخذ زيادة على صداقها فالزيادة مردودة إليها " وقال الزهري: " لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها " وقال ميمون بن مهران: " إن أخذ منها أكثر مما أعطاها لم يسرح بإحسان " وقال الأوزاعي: " كانت القضاة لا تجيز أن يأخذ منها شيئا إلا ما ساق إليها ". .
والذين جوزوه: احتجوا بظاهر القرآن وآثار الصحابة، والذين منعوه: احتجوا بحديث أبي الزبير «أن ثابت بن قيس بن شماس لما أراد خلع امرأته. قال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - " أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم، وزيادة، فقال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -: " أما الزيادة فلا» قال الدارقطني: سمعه أبو الزبير من غير واحد وإسناده صحيح. قالوا: والآثار من الصحابة مختلفة. فمنهم من روي عنه تحريم الزيادة، ومنهم من روي عنه إباحتها، ومنهم من روي عنه كراهتها.
كما روي عن وكيع عن أبي حنيفة عن عمار بن عمران الهمداني عن أبيه عن علي " أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها " والإمام أحمد أخذ بهذا القول، ونص على الكراهة. وأبو بكر من أصحابه حرم الزيادة
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 229(3/203)
وقال: ترد عليها. . وقد ذكر عبد الرازق عن ابن جريج قال: قال لي عطاء: «أتت امرأة رسول الله - صلى الله تعال عليه وسلم - فقالت يا رسول الله، إني أبغض زوجي، وأحب فراقه قال: " أفتردين عليه حديقته التي أصدقك؟ " قالت: نعم وزيادة من مالي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما الزيادة من مالك فلا، ولكن الحديقة " قالت: نعم، فقضى بذلك على الزوج (1) » (وهذا - وإن كان مرسلا - فحديث أبي الزبير مقو له، وقد رواه ابن جريج عنهما. . . اهـ (2) .
4 - أما إذا ادعى كل من الزوجين نشوز صاحبه عليه وخيف الشقاق بينهما كما في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (3) وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في المراد من الآية فيمن يبعث الحكمين وما صفتهما وهل هما حاكمان لهما الفصل في الخصومة بين الزوجين، أو أنهما وكيلان ينفذ تصرفهما في حدود وكالتهما، أم أنهما جهة نظر يرفعان ما يريانه إثر التحقيق مع الزوجين إلى الحاكم ليتولى نفسه الفصل في خصومتهما؟
وقال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية:
يعنى بقوله جل ثناؤه {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (4) وشاقته بقول: عادته، ثم ذكر اختلاف أهل التأويل في المراد بالمخاطبين في هذه الآية ببعث الحكمين فذكر أثرين بسنديهما إلى سعيد بن جبير والضحاك بأن المأمور بذلك السلطان الذي يرفع ذلك إليه. وذكر أثرا بسنده إلى السدي أن المأمور بذلك الرجل والمرأة. وذكر جملة آثار بأسانيدها إلى علي وابن عباس والحسن وقتاده أن المأمور بذلك السلطان غير أنه إنما يبعثهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليحملهما على الواجب لكل واحد منهما قبل صاحبه لا التفريق بينهما. ثم ذكر - رحمه الله - اختلاف أهل التأويل فيما يبعث له الحكمان، وما الذي يجوز للحكمين من الحكم بينهما، وكيف وجه بعثهما بينهما؟ فقال بعضهم: يبعثهم الزوجان بتوكيل منهما إياهما بالنظر بينهما وليس لهما أن يعملا شيئا في أمرهما إلا ما وكلاهما به أو وكله كل واحد منهما بما إليه، فيعملان بما وكلهما به من وكلهما من الرجل والمرأة فيما يجوز توكيلهما فيه أو توكيل من وكل منهما في ذلك. وذكر مجموعة آثار بأسانيدها إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وإلى السدي تؤيد القول بأن الحكمين ليس لهما أن يعملا شيئا في أمرهما إلا في حدود ما وكلا به. وقال آخرون: إن الذي يبعث الحكمين السلطان غير أنه يبعثهما ليعرفا الظالم من المظلوم
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .
(2) زاد المعاد جـ4 ص (63 - 67) مطبعة السنة المحمدية.
(3) سورة النساء الآية 35
(4) سورة النساء الآية 35(3/204)
منهما ليحملهما على الواجب لكل واحد منهما قبل صاحبه لا التفريق بينهما. ثم ذكر مجموعة آثار بأسانيدها إلى الحسن وقتاده وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن زيد تدل على ذلك. وذكر رأيا ثالثا في أن الذي يبعث الحكمين السلطان على أن حكمهما ماض على الزوجين في الجمع والتفريق وذكر مجموعة آثار بأسانيدها إلى ابن عباس ومعاوية وابن سيرين وسعيد بن جبير وعامر وإبراهيم وأبي سلمة بن عبد الرحمن والضحاك. ثم قال بعد ذلك: وأولى الأقوال بالصواب في قوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (1) . أن الله سبحانه خاطب المسلمين بذلك وأمرهم ببعثة الحكمين عند خوف الشقاق بين الزوجين للنظر في أمرهما ولم يخصص بالأمر بذلك بعضهم دون بعض وقد أجمع الجميع على أن البعثة في ذلك ليست لغير الزوجين وغير السلطان الذي هو سائس أمر المسلمين أو من أقامه في ذلك مقام نفسه. واختلفوا في الزوجين والسلطان ومن المأمور بالبعثة في ذلك: الزوجان أو السلطان؟ ولا دلالة في الآية تدل على أن الأمر بذلك مخصوص به أحد الزوجين ولا أثر به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمة فيه مختلفة.
وإذا كان الأمر على ما وصفنا فأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يكون مخصوصا من الآية ما أجمع الجميع على أنه مخصوص منها وإذا كان ذلك كذلك فالواجب أن يكون الزوجان والسلطان ممن شمله حكم الآية والأمر بقوله: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (2) إذ كان مختلفا بينهما هل هما معنيان بالأمر بذلك أم لا؟ - وكان ظاهر الآية قد عمهما - فالواجب من القول إذ كان صحيحا ما وصفنا أن يقال: إن بعث الزوجان كل واحد منهما حكما من قبله لينظر في أمرهما وكان كل واحد منهما قد بعثه من قبله في ذلك لما له على صاحبه ولصاحبه عليه فتوكيله بذلك من وكل جائز له وعليه. وإن وكله ببعض ولم يوكله بالجميع كان ما فعله الحكم مما وكل به صاحبه ماضيا جائزا على ما وكله. وذلك أن يوكله أحدهما بماله دون ما عليه. وإن لم يوكل كل واحد من الزوجين بما له وعليه أو بما له أو بما عليه لا الحكمين كليهما لم يجز إلا ما اجتمعا عليه دون ما انفرد به أحدهما. وإن لم يوكلهما واحد منهما بشيء وإنما بعثاهما للنظر بينهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليشهدا عليهما عند السلطان إن احتاجا إلى شهادتهما - لم يكن لهما أن يحدثا بينهما شيئا غير ذلك من طلاق، أو أخذ مال أو غير ذلك، ولم يلزم الزوجين ولا واحدا منهما شيء من ذلك. اهـ المقصود (3) .
وذكر أبو بكر الجصاص أن الحكمين وكيلان ليس لهما إلا ما وكلا فيه وأن أمر الجمع بين الزوجين أو التفريق خاص بالحاكم وإن الخطاب في قوله تعالى: وإن خفتم للحاكم
__________
(1) سورة النساء الآية 35
(2) سورة النساء الآية 35
(3) جامع البيان لأحكام القرآن جـ 8 ص 318 - 330.(3/205)
الناظر بين الخصمين لأن الله قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر ثم بضربها إن قامت على نشوزها ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما. فقال:(3/206)
باب: الحكمين كيف يعملان
قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (1) وقد اختلف في المخاطبين بهذه الآية من هم؟ فروى عن سعيد بن جبير والضحاك: أنه السلطان الذي يترافعان إليه. وقال السدي: الرجل والمرأة. قال أبو بكر: قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} (2) هو خطاب للأزواج لما في نسق الآية من الدلالة عليه وهو قوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} (3) وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (4) الأولى أن يكون خطابا للحاكم الناظر بين الخصمين والمانع من التعدي والظلم وذلك لأنه قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر، ثم بضربها إن أقامت على نشوزها. ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما، وروى شعبة عن عمرو بن مرة قال: سألت سعيد بن جبير عن الحكمين فغضب وقال: ما ولدت إذ ذاك فقلت إنما أعني حكمي شقاق قال: إذا كان بين الرجل وامرأته درء وتدارؤ (5) بعثوا حكمين فأقبلا على من جاء التدارؤ من قبله فوعظاه فإن أطاعهما وإلا أقبلا على الآخر فإن سمع منهما وأقبل إلى الذي يريدان وإلا حكما بينهما فما حكما من شيء فهو جائز.
وروى عبد الوهاب: قال حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير في المختلعة يعظها، فإن انتهت وإلا هجرها فإن انتهت وإلا ضربها، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان فيبعث حكما من أهلها وحكما من أهله فيقول الحكم الذي من أهلها: يفعل كذا ويفعل كذا، ويقول الحكم الذي من أهله: تفعل به كذا وتفعل به كذا. فأيهما كان أظلم رده إلى السلطان وأخذ فوق يده وإن كانت ناشزا أمروه أن يخلع.
قال أبو بكر: وهذا نظير العنين والمجبوب والإيلاء، في باب أن الحاكم هو الذي يتولى النظر في ذلك والفصل بينهما بما يوجبه حكم الله. فإذا اختلفا وادعى النشوز وادعت هي عليه ظلمه وتقصيره في حقوقها حينئذ بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها ليتوليا النظر فيما بينهما ويردا إلى الحاكم ما يقفان عليه من أمرهما.
__________
(1) سورة النساء الآية 35
(2) سورة النساء الآية 34
(3) سورة النساء الآية 34
(4) سورة النساء الآية 35
(5) قوله درء الخ. الدرؤ الاعوجاج والاختلاف ومثله التدارؤ (المصححة) .(3/206)
وإنما أمر الله تعالى بأن يكون أحد الحكمين من أهلها والآخر من أهله لئلا تسبق الظنة إذا كانا أجنبيين بالميل إلى أحدهما. فإذا كان أحدهما من قبله والآخر من قبلها زالت الظنة وتكلم كل واحد منهما عمن هو من قبله.
ويدل أيضا قوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (1) على أن الذي من أهله وكيل له والذي من أهلها وكيل لها كأنه قال: فابعثوا رجلا من قبله ورجلا من قبلها. فهذا يدل على بطلان قول من يقول: إن للحكمين أن يجمعا إن شاءا وإن شاءا فرقا بغير أمرهما، وزعم إسماعيل بن إسحاق أنه حكى عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم لم يعرفوا أمر الحكمين.
قال أبو بكر: هذا تكذب عليهم وما أولى بالإنسان حفظ لسانه لا سيما فيما يحكيه عن العلماء قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (2) ومن علم أنه مؤاخذ بكلامه قل كلامه فيما لا يعنيه وأمر الحكمين في الشقاق بين الزوجين منصوص عليه في الكتاب فكيف يجوز أن يخفى عليهم مع محلهم من العلم والدين والشريعة ولكن عندهم أن الحكمين ينبغي أن يكونا وكيلين لهما. أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج.
وكذا روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - وروى ابن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال: أتي عليا رجل وامرأته مع كل واحد منهما فئام من الناس فقال علي: ما شأن هذين، قالوا بينهما شقاق، قال: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (3) فقال علي: هل تدريان ما عليكما؟ عليكما عن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا. فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله، فقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال علي: كذبت والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت. فأخبر علي أن قول الحكمين إنما يكون برضا الزوجين فقال أصحابنا: ليس للحكمين أن يفرقا إلا أن يرضى الزوج وذلك أنه لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين، وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع ولا على رد مهرها.
فإذا كان كذلك حكمهما قبل بعث الحكمين فكذلك بعد بعثهما لا يجوز إيقاع الطلاق من جهتهما من غير رضى الزوج وتوكيله، ولا إخراج المهر عن ملكها من غير رضاها. . فلذلك قال أصحابنا إنهما لا يجوز خلعهما إلا برضى الزوجين.
فقال أصحابنا: ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضى الزوجين. لأن الحاكم لا يملك ذلك فكيف يملكه الحكمان، وإنما الحكمان وكيلان لهما. أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج في الخلع أو في التفريق بغير جعل إن كان الزوج قد جعل ذلك إليه.
قال إسماعيل الوكيل ليس بحكم ولا يكون حكما إلا ويجوز أمره عليه وإن أبى. وهذا غلط منه لأن ما ذكر لا ينفي معنى الوكالة لأنه لا يكون وكيلا أيضا إلا ويجوز أمره عليه وفيما وكل به فجواز أمر
__________
(1) سورة النساء الآية 35
(2) سورة ق الآية 18
(3) سورة النساء الآية 35(3/207)
الحكمين عليهما لا يخرجهما عن حد الوكالة. وقد يحكم الرجلان حكما في خصومة بينهما ويكون بمنزلة الوكيل لهما فيما يتصرف به عليهما، فإذا حكم بشيء لزمهما بمنزلة اصطلاحهما على أن الحكمين في شقاق الزوجين ليس يغادر أمرهما من معنى الوكالة شيئا.
وتحكيم الحكم في الخصومة بين رجلين يشبه حكم الحاكم من وجه ويشبه الوكالة من الوجه الذي بينا، والحكمان في الشقاق إنما يتصرفان بوكالة محضة كسائر الوكالات. . قال إسماعيل: والوكيل لا يسمى حكما وليس ذلك كما ظن. لأنه إنما سمى الوكيل ههنا حكما تأكيدا للوكالة التي فوضت إليه.
وأما قوله: إن الحكمين يجوز أمرهما على الزوجين وإن أبيا. فليس كذلك ولا يجوز أمرهما عليهما إذا أبيا لأنهما وكيلان، وإنما يحتاج الحاكم أن يأمرهما بالنظر في أمرهما، ويعرف أمور المانع من الحق منهما حتى ينقلا إلى الحاكم ما عرفاه من أمرهما فيكون قولهما مقبولا في ذلك إذا اجتمعا، وينهي الظالم منهما عن ظلمه، فجائز أن يكونا سميا حكمين لقبول قولهما عليهما، وجائز أن يكونا سميا بذلك لأنهما إذا خلعا بتوكيل منهما وكان ذلك موكولا إلى رأيهما وتحريهما للصلاح، سميا حكمين لأن اسم الحكم يفيد تحري الصلاح فيما جعل إليه وإنفاذ القضاء بالحق والعدل، فلما كان ذلك موكولا على رأيهما وأنفذا على الزوجين حكما من جمع أو تفريق مضى ما أنفذاه. فسميا حكمين من هذا الوجه.
فلما أشبه فعلهما فعل الحاكم في القضاء عليهما بما وكلا به على جهة تحري الخير والصلاح سميا حكمين، ويكونان مع ذلك وكيلين لهما. إذ غير جائز أن تكون لأحد ولاية على الزوجين مع خلع أو طلاق إلا بأمرهما. وزعم أن عليا إنما ظهر منه النكير على الزوج لأنه لم يرض بكتاب الله. قال: ولم يأخذ بالتوكيل وإنما أخذه بعدم الرضى بكتاب الله.
وليس هذا على ما ذكر. لأن الرجل لما قال: أما الفرقة فلا. قال علي: كذبت أما والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت. فإنما أنكر على الزوج ترك التوكيل بالفرقة، وأمره بأن يوكل بالفرقة، وما قال الرجل لا أرضى بكتاب الله حتى ينكر عليه، وإنما قال لا أرضى بالفرقة بعد رضى المرأة بالتحكيم، وفي هذا دليل على أن الفرقة عليه غير نافذة إلا بعد توكيله بها. قال: ولما قال: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (1) علمنا أن الحكمين يمضيان أمرهما وأنهما إن قصدا الحق وفقهما الله للصواب من الحكم. قال وهذا لا يقال للوكيلين لأنه لا يجوز لواحد منهما أن يتعدى ما أمر به، والذي ذكره لا ينفي معنى الوكالة: لأن الوكيلين إذا كانا موكلين بما رأيا من جمع أو تفريق على جهة تحري الصلاح والخير فعليهما الاجتهاد فيما يمضيانه من ذلك.
وأخبر الله تعالى أنه يوفقهما للصلاح إن صلحت نياتهما، فلا فرق بين الوكيل والحكم إذ كل من فوض إليه أمر يمضيه على جهة تحري الخير والصلاح فهذه الصفة التي وصفه الله بها لاحقة به.
__________
(1) سورة النساء الآية 35(3/208)
قال: وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وأبي سلمة وطاوس وإبراهيم قالوا: ما قضى به الحكمان من شيء فهو جائز، وهذا عندنا كذلك أيضا ولا دلالة فيه على موافقة قوله لأنهم لم يقولوا إن فعل الحكمين في التفريق والخلع جائز بغير رضى الزوجين بل جائز أن يكون مذهبهم أن الحكمين لا يملكان التفريق إلا برضى الزوجين بالتوكيل ولا يكونان حكمين إلا بذلك، ثم ما حكما بعد ذلك من شيء فهو جائز. وكيف يجوز للحكمين أن يخلعا بغير رضاه، ويخرجا المال عن ملكها، وقد قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (1) وقال تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (2) .
وهذا الخوف المذكور ههنا هو المعنى بقوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (3) وحظر الله على الزوج أخذ شيء مما أعطاها إلا على شريطة الخوف منهما ألا يقيما حدود الله، فأباح حينئذ أن تفتدي بما شاءت وأحل للزوج أخذه، فكيف يجوز للحكمين أن يوقعا خلعا أو طلاقا من غير رضاهما وقد نص الله تعالى على أنه لا يحل له أخذ شيء مما أعطي إلا بطيبة من نفسها ولا أن تفتدي به، فالقائل بأن للحكمين أن يخلعا بغير توكيل من الزوج مخالف لنص الكتاب، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (4) فمنع كل أحد أن يأكل مال غيره إلا برضاه، وقال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (5) فأخبر تعالى أن الحاكم وغيره سواء في أنه لا يملك أخذ مال أحد ودفعه إلى غيره. وقال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه (6) » وقال - صلى الله تعالى عليه وسلم -: «فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار (7) » فثبت بذلك: أن الحاكم لا يملك أخذ مالها ودفعه إلى زوجها ولا يملك إيقاع طلاق على الزوج بغير توكيله ولا رضاه وهذا حكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في أنه لا يجوز للحاكم في غير ذلك من الحقوق إسقاطه ونقله عنه إلى غيره من غير رضى من هو له. فالحكمان إنما يبعثان للصلح بينهما وليشهدا على الظالم منهما، كما روى سعيد عن قتادة في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ} (8) الآية. قال إنما يبعث الحكمان ليصلحا، فإن أعياهما أن يصلحا شهدا على الظالم بظلمه وليس بأيديهما الفرقة ولا يملكان ذلك وكذلك روى عن عطاء.
__________
(1) سورة النساء الآية 4
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة النساء الآية 35
(4) سورة النساء الآية 29
(5) سورة البقرة الآية 188
(6) مسند أحمد بن حنبل (5/73) .
(7) صحيح البخاري الحيل (6967) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن النسائي آداب القضاة (5401) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، موطأ مالك الأقضية (1424) .
(8) سورة النساء الآية 35(3/209)
قال أبو بكر: في فحوى الآية ما يدل على أنه ليس للحكمين أن يفرقا، وهو قوله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (1) ولم يقل إن يريدا فرقة، وإنما يوجه الحكمان ليعظا الظالم منهما وينكرا عليه ظلمه وإعلام الحاكم بذلك ليأخذ هو على يده. فإن كان الزوج هو الظالم أنكرا عليه ظلمه، وقالا له: لا يحل لك أن تؤذيها لتخلع منك، وإن كانت هي الظالمة قالا لها: قد حلت لك الفدية وكان في أخذها معذورا لما يظهر للحكمين من نشوزها، فإذا جعل كل واحد منهما إلى الحكم الذي من قبله ما له من التفريق والخلع كانا مع ما ذكرنا من أمرهما وكيلين جائز لهما أن يخلعا إن رأيا وأن يجمعا إن رأيا ذلك صلاحا، فهما في حال شاهدان وفي حال مصلحان وفي حال آمران بمعروف وناهيان عن منكر، ووكيلان في حال إذا فوض إليهما الجمع والتفريق، وأما قول من قال: إنهما يفرقان ويخلعان من غير توكيل الزوجين فهو تعسف خارج عن الكتاب والسنة، والله تعالى أعلم بالصواب. اهـ (2) .
وذكر أبو بكر العربي بأن الحكمين قاضيان لا وكيلان وذكر نصا عن الشافعي بأنهما وكيلان وناقشه ثم ذكر توجيه قول المالكية بأنهما قاضيان فقال: قال الشافعي ما نصه:
الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالهما، وذلك أنى وجدت الله سبحانه وتعالى أذن في نشوز الزوج بأن يصالحا، وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك وبين في نشوز المرأة بالضرب. وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة.
وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئا إن أراد استبدال زوج مكان زوج. فلما أمر فيما خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج. فإذا كان كذلك بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما للحكمين بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك ووجدنا حديثا بإسناد يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين.
قال القاضي أبو بكر: هذا منتهى كلام الشافعي، وأصحابه يفرحون به وليس فيه ما يلتفت إليه ولا يشبه نصا به في العلم. وقد تولى القاضي أبو إسحاق الرد عليه ولم ينصفه في الأكثر. والذي يقتضي الرد عليه بالإنصاف والتحقيق أن نقول: أما قوله الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين فليس بصحيح بل هو نصه وهي من أبين آيات القرآن وأوضحها جلاء فإن الله تعالى قال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (3) ومن خاف من امرأته نشوزا وعظها فإن أنابت وإلا هجرها في المضجع، فإن ارعوت وإلا ضربها، فإن استمرت في غلوائها مشى الحكمان إليهما، وهذا إن لم يكن نصا وإلا فليس في القرآن بيان. ودعه لا يكون نصا. يكون ظاهرا. فأما أن يقول الشافعي: يشبه الظاهر فلا ندري ما الذي يشبه الظاهر. وكيف يقول الله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (4) فنص عليهما جميعا ويقول هو: يشبه أن يكون فيما
__________
(1) سورة النساء الآية 35
(2) أحكام القرآن جـ2 ص (230 - 235) المطبعة البهية عام 1347 هـ.
(3) سورة النساء الآية 34
(4) سورة النساء الآية 35(3/210)
عمهما وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع. وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة بل يجب أن يكون كذلك وهو نصه ثم قال: فلما أمر بالحكمين علمنا أن حكمهما غير حكم الأزواج ويجب أن يكون غيره بأن ينفذ عليهما بغير اختيارهما فيتحقق الغيرية. وأما قوله: لا يبعث الحكمين إلا مأمونين. فصحيح وأما قوله برضا الزوجين بتوكيلهما فخطأ صراح. فإن الله تعالى خاطب غير الزوجين إذا خافا الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين.
وإذا كان المخاطب غيرهما فكيف يكون ذلك بتوكيلهما ولا يصح لهما حكم إلا بما اجتمعا عليه، والتوكيل من كل واحد لا يكون إلا فيما يخالف الآخر وذلك لا يمكن ههنا.(3/211)
المسألة الأولى قوله وإن خفتم قال السدي: يخاطب الرجل والمرأة إذا ضربها فشاقته تقول المرأة لحكمها: قد وليتك أمري وحالي كذا. ويبعث الرجل حكما من أهله ويقول له حالي كذا قال ابن عباس. ومال إليه الشافعي. وقال سعيد بن جبير المخاطب السلطان ولم ينته رفع أمرهما إلى السلطان فأرسل الحكمين، وقال مالك قد يكون السلطان وقد يكون الوليين إذا كان الزوجان محجورين. فأما من قال إن المخاطب الزوجان فلا يفهم كتاب الله كما قدمنا، وأما من قال إنه السلطان فهو الحق.
وأما قول مالك: إنه قد يكون الوليين فصحيح ويفيده لفظ الجمع فيفعله السلطان تارة ويفعله الوصي أخرى، وإذا أنفذ الوصيان حكمين فهما نائبان عنهما فما أنفذاه نفذ كما لو أنفذه الوصيان. وقد روى محمد بن سيرين وأيوب عن عبيدة عن علي قال: جاء إليه رجل وامرأة ومعهما فئام من الناس فأمرهم فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ثم قال للحكمين أتدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت المرأة: رضيت بما في كتاب الله لي وعلي. وقال الزوج: أما الفرقة فلا. فقال: لا تنقلب حتى تقر بمثل الذي أقرت.
قال القاضي أبو إسحاق فبين علي أن الأمر إلى الحكمين الذين بعثا من غير أن يكون للزوج أمر في ذلك ولا نهي. فقالت المرأة بعد ما مضيا من عند علي: رضيت بما في كتاب الله تعالى لي وعلي. وقال الزوج: لا أرضى فرد عليه علي تركه الرضا بما في كتاب الله تعالى وأمره أن يرجع عليه كما يجب على كل مسلم أو أن ينفذ بما فيه بما يجب من الأدب. فلو كانا وكيلين لم يقل لهما أتدريان ما عليكما. إنما كان يقول: أتدريان بما وكلتما ويسأل الزوجين: ما قالا لهما.(3/211)
المسألة الثانية قوله تعالى: {حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (1) هذا نص من الله سبحانه وتعالى في أنهما قاضيان لا وكيلان، وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى، فإذا بين الله سبحانه وتعالى كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ فكيف لعالم أن يركب معنى أحدهما على الآخر. فذلك تلبيس وإفساد للأحكام وإنما يسيران بإذن الله ويخلصان النية لوجه الله تعالى وينظران فيما عند الزوجين بالتثبت، فإن رأيا للجمع وجها جمعا وإن وجداهما قد أنابا تركاهما. كما روي أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت: اصبر لي وأنفق عليك، وكان إذا دخل عليها قالت يا بني هاشم لا يحبكم قلبي أبدا. أين الذين أعناقهم كأباريق الفضة ترد أنوفهم قبل شفاههم، أين عتبة بن ربيعة أين شيبة بن ربيعة؟ فيسكت، حتى دخل عليها يوما وهو برم فقالت له: أين عتبة بن ربيعة فقال: على يسارك في النار إذا دخلت. فنشرت عليها ثيابها فجاءت عثمان فذكرت له ذلك، فأرسل ابن عباس ومعاوية فقال ابن عباس: لأفرقن بينهما، وقال معاوية: ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف فأتياهما فوجداهما قد سدا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما.
وفي رواية أنهما لما أتيا اشتما رائحة طيبة وهدوءا من الصوت، فقال له معاوية: ارجع فإني أرجو أن يكونا قد اصطلحا، وقال ابن عباس: أفلا نمضي فننظر أمرهما، فقال معاوية: فتفعل ماذا؟ فقال ابن عباس: أقسم بالله لئن دخلت عليهما فرأيت الذي أخاف عليهما منه لأحكمن عليهما ثم لأفرقن بينهما.
فإن وجداهما قد اختلفا سعيا في الألفة وذكرا بالله تعالى وبالصحبة، فإن أنابا وخافا أن يتمادى ذلك في المستقبل بما ظهر في الماضي، فإن يكن ما اطلعا عليه في الماضي يخاف منه التمادي في المستقبل فرقا بينهما، وقاله جماعة: منهم علي وابن عباس والشعبي ومالك،.
__________
(1) سورة النساء الآية 35(3/212)
المسألة الثالثة وقال الحسن وابن زيد هما شاهدان يرفعان الأمر إلى السلطان ويشهدان بما ظهر إليهما وروى ذلك عن ابن عباس وبه قال أبو حنيفة والشافعي والذي صح عن ابن عباس ما قدمنا من أنهما حكمان لا شاهدان فإذا فرقا بينهما.
المسألة الرابعة تكون الفرقة كما قال علماؤنا لوقوع الخلل في مقصود النكاح من الألفة وحسن العشرة. فإن قيل إذا ظهر الظلم من الزوج أو الزوجة فظهور الظلم لا ينافي النكاح بل يؤخذ من الظالم حق المظلوم ويبقى العقد. قلنا هذا نظر قاصر يتصور في عقود الأموال.
فأما عقود الأبدان فلا يتم إلا بالاتفاق والتآلف وحسن التعاشر، فإذا فقد ذلك لم يكن لبقاء العقد وجه وكانت المصلحة في الفرقة وبأي وجه رأياها من المشاركة أو أخذ شيء من الزوج أو الزوجة.
المسألة الخامسة جاز ونفذ عند علمائنا وقال الطبري والشافعي لا يؤخذ من مال المحكوم عليه شيء إلا برضاه، وبه قال كل من جعلهما شاهدين، وقد بينا أنهما حكمان لا شاهدان وأن فعلهما ينفذ فعل الحاكم في الأقضية كما ينفذ فعل الحكمين في جزاء الصيد وهي أختها، اهـ (1)
__________
(1) أحكام القرآن جـ1 ص 176 وما بعدها.(3/213)
قال ابن رشد: باب في بعث الحكمين
اتفق العلماء على جواز بعث الحكمين إذا وقع التشاجر بين الزوجين وجهلت أحوالهما في التشاجر أعني المحق من المبطل لقوله تعالى:(3/213)
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (1) الآية. وأجمعوا على أن الحكمين لا يكونان إلا من أهل الزوجين، أحدهما من قبل الزوج، والآخر من قبل المرأة، إلا أن لا يوجد في أهلها من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما. . . وأجمعوا على أن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما، وأجمعوا على أن قولهما في الجمع بينهما نافذ بغير توكيل واختلفوا في تفريق الحكمين بينهما إذا اتفقا على ذلك هل يحتاج إلى إذن من الزوج أو لا يحتاج إلى ذلك.؟
فقال مالك وأصحابه: يجوز قولهما في الفرقة والاجتماع بغير توكيل الزوجين والإذن منهما في ذلك وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما: ليس لهما أن يفرقا إلا أن يجعل الزوج إليهما التفريق، وحجة مالك ما رواه عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال في الحكمين: إليهما التفرقة بين الزوجين والجمع. وحجة الشافعي وأبي حنيفة أن الأصل أن الطلاق ليس بيد أحد سوى الزوج أو من يوكله الزوج. واختلف أصحاب مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا، فقال ابن القاسم: تكون واحدة، وقال أشهب والمغيرة تكون ثلاثا إن طلقاها ثلاثا.
والأصل أن الطلاق بيد الرجل إلا أن يقوم دليل على غير ذلك. وقد احتج الشافعي وأبو حنيفة بما روى في حديث علي هذا أنه قال للحكمين: هل تدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله وبما فيه لي وعلي، فقال الرجل أما الفرقة فلا، فقال علي: لا والله لا تنقلب حتى تقر بمثل ما أقرت به المرأة، قال فاعتبر في ذلك إذنه. ومالك يشبه الحكمين بالسلطان، والسلطان يطلق بالضرر عند مالك إذا تبين. اهـ (2) .
وذهب الشافعي إلى أن الحكمين وكيلان وأنه ليس لهما إلا ما وكلا فيه ففي كتاب الأم للشافعي ما نصه: قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (3) الآية، قال: الله أعلم بمعنى ما أراد من خوف الشقاق الذي إذا بلغاه أمره أن يبعث حكما من أهله وحكما من أهلها والذي يشبه (4) ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما وذلك أني وجدت الله عز وجل أذن في نشوز الزوج أن يصطلحا، وسن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ذلك.
وأذن في نشوز المرأة بالضرب، وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع ودلت السنة أن ذلك برضا من المرأة وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئا إذا أراد استبدال زوج مكان زوج، فلما أمر فيمن خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج غيرهما وكان يعرفهما بإباية الأزواج أن يشتبه حالاهما في الشقاق فلا يفعل الرجل الصفح ولا الفرقة ولا المرأة تأدية الحق ولا الفدية أو تكون الفدية لا تجوز من قبل مجاوزة الرجل ماله من أدب المرأة وتباين حالهما في الشقاق.
__________
(1) سورة النساء الآية 35
(2) بداية المجتهد جـ2 ص98 \ 99 الطبعة الثالثة 1379 هـ \ 1960م.
(3) سورة النساء الآية 35
(4) قوله والذي يشبه إلى قوله: والتباين. كذا في الأصل، وانظر. كتبه مصححة.(3/214)
والتباين هو ما يصيران فيه من القول والفعل إلى ما لا يحل لهما ولا يحسن ويمتنعان كل واحد منهما من الرجعة ويتماديان فيما ليس لهما، لا يعطيان حقا ولا يتطوعان ولا واحد منهما بأمر يصيران به في معنى الأزواج غيرهما، فإذا كان هكذا بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ولا يبعث الحكمان إلا مأمونين وبرضا الزوجين ويوكلهما الزوجان بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك.
أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي - رحمه الله تعالى - قال أخبرنا الثقفي عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي في هذه الآية {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (1) ثم قال للحكمين هل تدريان ما عليكما؟ إذا رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا. قالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي، وقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال علي - رضي الله تعالى عنه -: كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به. قال فقول علي - رضي الله تعالى عنه - يدل على ما وصفت من أن ليس للحاكم أن يبعث حكمين دون رضا المرأة والرجل بحكمهما وعلى أن الحكمين إنما هما وكيلان للرجل والمرأة بالنظر بينهما في الجمع والفرقة.
فإن قال قائل: ما دل على ذلك؟ قلنا: لو كان الحكم إلى علي - رضي الله تعالى عنه - دون الرجل والمرأة بعث هو حكمين، ولم يقل: ابعثوا حكمين، فإن قال قائل: فقد يحتمل أن يقول ابعثوا حكمين فيجوز حكمهما بتسمية الله إياهما حكمين. كما يجوز حكم الحاكم الذي يصيره الإمام فمن سماه الله تبارك وتعالى حاكما أكثر معنى، أو يكونا كالشاهدين إذا رفعا شيئا إلى الإمام أنفذه عليهما، أو يقول: ابعثوا حكمين أي دلوني منكم على حكمين صالحين كما تدلوني على تعديل الشهود. قلنا: الظاهر ما وصفنا، والذي يمنعنا من أن نحيله عنه مع ظهوره أن قول علي - رضي الله عنه - للزوج: كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به. يدل على أنه ليس للحكمين أن يحكما إلا بأن يفوض الزوجان ذلك إليهما، وذلك أن المرأة فوضت، وامتنع الزوج من تفويض الطلاق فقال علي - رضي الله عنه -: كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به. يذهب إلى أنه إن لم يقر لم يلزمه الطلاق وإن رأياه: ولو كان يلزمه طلاق بأمر الحاكم أو تفويض المرأة لقال له: لا أبالي أقررت أم سكت. وأمر الحكمين أن يحكما بما رأياه. اه (2) وذكر الشيرازي قولين في المذهب أحدهما: أنهما وكيلان والثاني: أنهما حاكمان، فقال: فإن ادعى كل واحد منهما النشوز على الآخر أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ليعرف الظالم منهما فيمنع من الظلم، فإن بلغا إلى الشتم والضرب بعث الحاكم حكمين للإصلاح أو التفريق لقوله عز وجل {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (3) واختلف قوله في الحكمين، فقال في أحد القولين: هما وكيلان فلا يملكان التفريق إلا بإذنهما لأن الطلاق إلى الزوج وبذل المال إلى الزوجة فلا يجوز إلا بإذنهما، وقال في القول الآخر: هما حاكمان فلهما أن يفعلا ما يريان من الجمع والتفريق بعوض وغير عوض لقوله عز وجل {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (4) فسماهما حكمين ولم يعتبر رضا الزوجين.
__________
(1) سورة النساء الآية 35
(2) الأم ص115 -117.
(3) سورة النساء الآية 35
(4) سورة النساء الآية 35(3/215)
وروى أبو عبيدة أن عليا - رضي الله عنه - بعث رجلين فقال لهما: أتدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقال الرجل: أما هذا فلا، فقال: كذبت لا والله ولا تبرح حتى ترضى بكتاب الله عز وجل لك وعليك. فقالت المرأة رضيت بكتاب الله لي وعلي.
ولأنه وقع الشقاق واشتبه الظالم منهما فجاز التفريق بينهما من غير رضاهما كما لو قذفها وتلاعنا. والمتسحب أن يكون حكما من أهله وحكما من أهلها للآية، لأنه روى أنه وقع بين عقيل بن أبي طالب وبين زوجته شقاق وكانت من بني أمية فبعث عثمان - رضي الله تعالى عنه - حكما من أهله وهو ابن عباس - رضي الله تعالى عنه -، وحكما من أهلها وهو معاوية - رضي الله تعالى عنه - ولأن الحكمين من أهلهما أعرف بالحال. وإن كان من غير أهلهما جاز لأنهما في أحد القولين حاكمان، وفي الآخر وكيلان، إلا أنه يحتاج فيه إلى الرأي والنظر في الجمع والتفريق، ولا يكمل لذلك إلا ذكران عدلان. فإن قلنا: إنهما حاكمان لم يجز أن يكونا إلا فقيهين، وإن قلنا: إنهما وكيلان جاز أن يكونا من العامة. اه (1) .
والمشهور لدى الحنابلة أنهما وكيلان لا حاكمان قال المرداوي:
اعلم أن الصحيح من المذهب: أن الحكمين وكيلان عن الزوجين لا يرسلان برضاهما وتوكيلهما فإن امتنعا من التوكيل لم يجبرا عليه. قال الزركشي هذا هو المشهور عند الأصحاب، حتى أن القاضي في الجامع الصغير - والشريف أبا جعفر، وابن البنا لم يذكروا فيه خلافا. ورضيه أبو الخطاب. قال في تجريد العناية: هذه أشهر. وقطع به في الوجيز، والمنور ومنتخب الأزجي وغيرهم. . وقدمه في الهداية، والمذهب ومسبوك الذهب، والمستوعب، والخلاصة، والهادي، والمحرر، والرعايتين، والحاوي الصغير، والنظم، والفروع، وغيرهم.
وعنه: أن الزوج إن وكل في الطلاق بعوض أو غيره أو كلت المرأة في بذل العوض برضاها، وإلا جعل الحاكم إليهما ذلك - فهذا يدل على أنهما حكمان يفعلان ما يريان من جمع أو تفريق بعوض أو غيره من غير رضا الزوجين.
قال الزركشي: وهو ظاهر الآية الكريمة. . انتهى. .
واختاره ابن هبيرة والشيخ تقي الدين رحمهما الله. . وهو ظاهر كلام الخرقي قال في الفروع، وأطلقهما في الكافي، والشرح. اهـ (2) .
__________
(1) المهذب ج2 ص70.
(2) الإنصاف ج8 ص380 -381 الطبعة الأولى.(3/216)
وقال ابن القيم
حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الزوجين يقع الشقاق بينهما.
روى أبو داود في سننه من حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - «" أن حبيبة بنت سهل كانت عند ثابت بن قيس بن شماس. فضربها فكسر بعضها، فأتت النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بعد الصبح. فدعا النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ثابتا فقال " خذ بعض مالها وفارقها " فقال: ويصلح ذلك يا رسول الله؟ قال: " نعم " قال: فإني أصدقتها حديقتين وهما بيدها، فقال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم: " خذهما وفارقها " ففعل (1) » .
وقد حكم الله بين الزوجين يقع الشقاق بينهما بقوله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (2) وقد اختلف السلف والخلف في الحكمين: هل هما حاكمان أو وكيلان؟ على قولين:
أحدهما أنهما وكيلان وهو قول أبي حنيفة والشافعي في قول وأحمد في رواية.
الثاني أنهما حاكمان. وهذا قول أهل المدينة، ومالك، وأحمد في الرواية الأخرى والشافعي في القول الآخر. وهذا هو الصحيح.
والعجب كل العجب ممن يقول: هما وكيلان، لا حاكمان، والله تعالى قد نصبهما حكمين، وجعل نصبهما إلى غير الزوجين. ولو كانا وكيلين لقال فليبعث وكيلا من أهله ولتبعث وكيلا من أهلها، وأيضا: فلو كانا وكيلين لم يختصا بأن يكونا من الأهل. وأيضا: فإنه جعل الحكم إليهما، فقال تعالى {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (3) والوكيلان لا إرادة لهما إنما يتصرفان بإرادة موكليهما، وأيضا: فإن الوكيل لا يسمى حكما في لغة القرآن، ولا في لسان الشارع، ولا في العرف العام ولا الخاص وأيضا: فالحكم من له ولاية الحكم والإلزام، وليس للوكيل شيء من ذلك. وأيضا: فإن الحكم أبلغ من حاكم لأنه صفة مشبهة باسم الفاعل دالة على الثبوت. ولا خلاف بين أهل العربية في ذلك.
فإذا كان الحاكم لا يصدق على الوكيل المحض فكيف بما هو أبلغ منه؟ وأيضا: فإنه سبحانه وتعالى خاطب بذلك غير الزوجين، وكيف يصح أن يوكل على الرجل والمرأة غيرهما؟ وهذا يحوج إلى تقدير الآية هكذا: وإن خفتم شقاق بينهما: فمروهما أن يوكلا وكيلين: وكيلا من أهله ووكيلا من أهلها. ومعلوم
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2228) .
(2) سورة النساء الآية 35
(3) سورة النساء الآية 35(3/217)
بعد لفظ الآية ومعناها عن هذا التقدير، وأنها لا تدل عليه بوجه، بل هي دالة على خلافه، وهذا بحمد الله واضح.
- وبعث عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - عبد الله بن عباس ومعاوية حكمين بين عقيل بن أبي طالب وامرأته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة، فقيل لهما " إن رأيتما أن تفرقا فرقتما " وصح عن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - أنه قال للحكمين بين الزوجين " عليكما أن رأيتما أن تفرقا فرقتما وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما " فهذا عثمان، وعلي وابن عباس ومعاوية جعلوا الحكم إلى الحكمين ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف، وإنما يعرف الخلاف بين التابعين فمن بعدهم. والله أعلم.
وإذا قلنا: إنهما وكيلان فهل يجبر الزوجان على توكيل الزوج في الفرقة بعوض وغيره وتوكيل الزوجة في بذل العوض، أو لا يجبران؟ على روايتين:
فإن قلنا: يجبران، فلم يوكلا، جعل الحاكم ذلك إلى الحكمين بغير رضا الزوجين.
وإن قلنا: إنهما حكمان لم يحتج إلى رضا الزوجين، وعلى هذا النزاع: ينبني ما لو غاب الزوجان أو أحدهما، فإن قيل إنهما وكيلان: لم ينقطع نظر الحكمين، وإن قيل: حكمان انقطع نظرهما لعدم الحكم على الغائب، وقيل يبقى نظرهما على قولين، لأنهما يتصرفان بحظهما، فهما كالناظرين، وإن جن الزوجان انقطع نظر الحكمين، وإن قيل: إنهما وكيلان، لأنهما فرع الموكلين، ولم ينقطع إن قيل: إنهما حكمان لأن الحاكم يلي على المجنون وقيل: ينقطع أيضا لأنهما منصوبان عنهما، فكأنما وكيلان ولا ريب أنهما حكمان، فيهما شائبة الوكالة، ووكيلان منصوبان للحكم، فمن العلماء من رجح جانب الوكالة، ومنهم من اعتبر الأمرين. اهـ (1)
__________
(1) زاد المعاد ج4 ص63 وما بعدها(3/218)
الخلاصة
معنى كل من النشوز والخلع لغة وشرعا
أولا (أ) النشوز مصدر نشز ينشز بضم الشين وكسرها في المضارع، معناه ارتفع، وهو مأخوذ من النشز بسكون الشين وفتحها، وهو ما ارتفع من الأرض، ويطلق أيضا على ما ارتفع عن الوادي إلى الأرض، وليس بالغليظ، وقال أبو عبيد: النشز الغليظ الشديد، ويجمع النشز مطلقا عن أنشاز ونشوز، وقيل يجمع ساكن الشين على نشوز ومفتوحها عن أنشاز ونشاز بكسر النون ويتعدى بالهمزة فيقال: أنشز عظام الميت إنشازا إذا رفعها إلى مواضعها، وركب بعضها على بعض، ومنه قوله تعالى {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} (1) ويطلق النشوز على النهوض إلى الشيء بقوة ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} (2) ويقال للدابة نشزة إذا لم يكد يستقر الراكب عليها ولا السرج على ظهرها. ونشوز الزوجين كراهية كل منهما الآخر، وسوء عشرته له، يقال: نشزت الزوجة بزوجها وعلى زوجها فهي ناشز أبغضته، وترفعت عليه وخرجت عن طاعته واستعصت عليه، ونشز الزوج على امرأته جفاها، وترفع عليها لبغضه إياها، وقد يقضي هذا إلى طلاقها، أو منعها حقها في المبيت أو النفقة مثلا.
(ب) الخلع مصدر خلع يخلع على وزن منع يمنع، ويطلق لغة على معان، منها: فصل القبيلة لرجل منها لسوء حاله حتى لا تتحمل جريرته، وهو خليع ومخلوع، ويطلق على التواء العرقوب وانتقاله عن محله، ويطلق على خلع الملابس، ويطلق بمعنى النزع إلا أنه أقل منه شدة، ويطلق على فصم عروة النكاح وإنهاء الحياة الزوجية، وكلها تدور على معنى الفصل، وخص في الشرع بفصم عقدة النكاح ومفارقة الرجل زوجته بعوض منها أو من غيرها.
ثانيا: إذا لم يعاشر الرجل زوجته بالمعروف بأن جفاها أو ترفع عليها، أو قصر فيما وجب لها عليه من نفقة أو بيت مثلا، أو توقع من نفسه حصول ما يسوؤها فإن لم يكن ذلك عن إساءة منها إليه، فعليه أن يمسك عن ذلك، ويعاشرها بمعروف أو يفارقها بإحسان، ولا يجوز له أن يعضلها أو يضارها ليأخذ منها شيئا أو لتتنازل له عن بعض حقوقها، لقوله تعالى {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (3) وقوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (4)
__________
(1) سورة البقرة الآية 259
(2) سورة المجادلة الآية 11
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة النساء الآية 19(3/219)
وللزوجة إذا تحققت من زوجها النشوز أو الإعراض عنها، أو توقعت ذلك منه، ورغبت في البقاء معه لمصلحة تراها، أن تصالح زوجها على التنازل عن بعض حقوقها عليه، أو على مال تدفعه إليه ليبقيها في عصمته، لقوله تعالى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (1) ولقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (2) ولأن سودة تنازلت عن ليلتها لعائشة لتبقى زوجة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأقر ذلك، ولا حرج على الزوج فيما تصالحا عليه إلا أن يكون عن مضارة منه لها.
ثالثا: إذا نشزت المرأة فتركت الحقوق التي ألزمها الله بها لزوجها دون أن يكون منه إليها ما يسوؤها وعظها ثم هجرها ثم أدبها، فإن أطاعته عاشرها بالمعروف، وإلا جاز له أن يضارها حتى تفتدي نفسها منه فيطلقها أو يخالعها على عوض، سواء كان نشوزها ترفعا عليه أم امتناعها من فراشه أم قولها له: لا اغتسل لك من جنابة، ولا أطأ لك فراشا، ولا أبر لك قسما، أم كان خروجا من بيته بغير إذنه أم تمكينا لأحد من فراشه، أم زناها إلى غير هذا مما يدل على سوء العشرة، وقال أبو قلابة وابن سيرين لا يحل الخلع حتى يجد على بطنها رجلا.
ومنشأ الخلاف بينهما وبين الجمهور، الخلاف في المراد بالفاحشة في قوله تعالى {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (3) هل المراد بها خصوص الزنا أو كل ما يدل على سوء العشرة وترك الحقوق التي ألزمها الله لزوجها. وقال بكر بن عبد الله وعطاء والمالكية: لا يحل له أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه وإن أتت بفاحشة من زنا أو بذاء أو نشوز لعموم قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (4) الآيتين وقوله {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (5) وادعوا أن الإذن في العضل إذا أتت بفاحشة منسوخ بهذه النصوص، وأجاب الجمهور عن ذلك بمنع النسخ، لا مكان الجمع بحمل الإذن في العضل والمضارة على ما إذا أتت بفاحشة، وحمل النهي عن المضارة وأخذ العوض على ما إذا لم يحصل منها نشوز.
وقيل: لا يجوز أخذ الزوج العوض منها إلا إذا خافا جميعا ألا يقيما حدود الله، لكراهية كل منهما الآخر لقوله تعالى {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (6) واختيار ابن جرير، واعترض عليه بأنه يلزمه ألا يحل للزوج أخذ الفدية إذا كان سوء العشرة
__________
(1) سورة النساء الآية 128
(2) سورة النساء الآية 4
(3) سورة النساء الآية 19
(4) سورة النساء الآية 20
(5) سورة النساء الآية 4
(6) سورة البقرة الآية 229(3/220)
من قبلها فقط، وأجاب عنه بأن الأمر ليس كما ظن، فإن سوء عشرتها يقتضي كراهيته إياها وذلك يقتضي الخوف ألا يقيما حدود الله.
رابعا: اتفق العلماء على بعث حكمين إذا وقع الشقاق بين الزوجين ولم يعلم الناشز منهما أو كان كل منهما ناشزا فأبى الزوج أن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان وأبت الزوجة أن تؤدي الحقوق التي ألزمها الله عز وجل بها لزوجها، واتفقوا على أن أحد الحكمين يكون من أهل الزوج والآخر من أهلها إن أمكن وإلا فمن غيرهما حسب ما تقتضيه المصلحة، واتفقوا على أن الحكمين ينفذ ما رأياه في الصلح بينهما وعلى أنهما إذا اختلفا لم ينفذ قولهما، واختلفوا بعد ذلك في مسائل:
الأولى: اختلافهم في المخاطب ببعث الحكمين في قوله تعالى {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (1) فقيل السلطان أو نائبه لأنه هو الذي إليه الفصل في الخصومات والأخذ على يد الظالم، وقيل المخطاب بذلك الزوجان، لأن الشأن شأنهما، وكل منهما أدرى بمن يحرص على استيفاء حقه والدفاع عنه، وقيل أولياء الزوجين، ويمكن أن يقال: إن الأمر ببعث الحكمين مطلق فإن قام به الزوجان فبها، وإلا بعث أولياؤهما من يقوم بالواجب، فإن لم يتم البعث من قبل أوليائهما تعين على السلطان أو نائبه بعثهما.
الثانية: اختلافهم في الحكمين، هل هما وكيلان أو بمنزلة القضاة. فقيل: هما وكيلان ينفذ قولهما فيما وكلا فيه فقط، لأن الطلاق بيد الزوج لا يملكه غيره إلا بتوكيل منه ولأن التعويض عن الطلاق لا يكون إلا برضا الزوجة وطيب نفسها، ولحديث علي، وفيه " فقال الرجل: أما الفرقة فلا فقال علي: والله لا تنقلب حتى تقر بمثل ما أقرت به المرأة " فاعتبر بذلك إذنه كما أذنت، وقيل هما حاكمان فينفذ قولهما إذ هما بمنزلة السلطان، والسلطان يطلق بالضرر إذا تبين كما في مسالة العنين، ولحديث علي فإنه قال للحكمين: هل تدريان ما عليكما، إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما. ولتسمية الله المبعوثين حكمين، والحكم كالقاضي ينفذ ما حكم به من جمع أو تفريق بعوض أو بغير عوض رضي الزوجان بذلك أم كرها.
وقال بعض العلماء إذا بعث السلطان أو نائبه حكمين فليس لهما إلا النظر لمعرفة المسيء منهما والنصح لهما والإصلاح بينهما، فإن تم الصلح فبها، وإلا رفعا الأمر للسلطان أو نائبه، وكانا بمنزلة الشاهدين، أما الحكم فإلى السلطان أو نائبه دونهما.
الثالثة: هل الخلع طلاق أو فسخ، وهل ينفذ طلاق الحكمين إذا طلقا ثلاثا دون تفويض في ذلك من الزوج، وهل للزوج الرجعة بعد الخلع ما دامت المخالعة في العدة، وهل يجوز الخلع دون السلطان أو لا يكون إلا عن طريقه، وهل الخلع خاص بين الزوجين أو عام فيها وفي غيرها؟ في كل هذه المسائل خلاف.
خامسا: اختلف العلماء في مقدار ما يؤخذ من العوض في الخلع فقيل: لا يأخذ الزوج أكثر مما أعطاها لقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن أرادت فراق زوجها " تردين
__________
(1) سورة النساء الآية 35(3/221)
إليه ما أخذت منه " قالت نعم وزيادة، فقال - صلى الله عليه وسلم - " أما الزيادة فلا " ويمكن أن يخصص عموم نصوص الافتداء بهذا الحديث، لما فيها من الاحتمال. وقيل: يجوز بأكثر مما أعطاها لعموم قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (1) ولما رواه الدارقطني عن أبي سعيد الخدري في مخالعة الأنصاري لأخته «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: " تردين عليه حديقته ويطلقك "، قالت نعم وأزيده، قال: " ردي عليه حديقته وزيديه (2) » .
ويمكن أن يقال إن هذا الحديث مقابل لحديث منع الزيادة على ما أعطاها، وعلى هذا يتم الاستدلال بعموم الآية على جواز أخذه ما تراضيا عليه أو حكم به حاكم ولو كان أزيد مما دفع لها أو يقال: في كل من الحديثين مقال، فيتم الاستدلال بعموم الآية على ما ذكر.
سادسا: لم نقف على تحديد مدة تضرب للناشز، عقوبة لها وتأديبا أو زجرا لها عن النشوز عسى أن ترجع عن تقصريها في حقوق زوجها وتطيعه في أداء ما وجب عليها له شرعا، ويظهر أن ضرب مدة للنشوز وتحديدها من باب التعزير، وهو مما يختلف باختلاف الظروف والأحوال، وما يترتب عليه من أضرار قد تربو على سوء عشرتها للزوج وقد تنقص عنه، وما يرجى من جدوى التعزير وصلاح الأحوال به، وما يخشى من سوء عاقبة الزيادة في التعزير من توتر العلاقات بين أسر المجتمع، وما قد يحدث عن شدته للنواشز من الانحدار إلى ما لا تحمد مغبته.
سابعا: ذهب بعض العلماء إلى أن حكم ولي الأمر أو نائبه بما يراه من جمع أو تفريق بعوض أو بغير عوض نافذ سواء رضي الزوج بالطلاق أم أبى، ورضيت الزوجة بدفع العوض أم كرهت رعاية لمصلحة الأسرة خاصة ومصلحة المجتمع الإسلامي عامة، ورأوا أن هذا نظير التفريق بالعنة والإيلاء والعسر بالنفقة وطول الغيبة، وغير ذلك مما يلجأ فيه إلى التفريق لدفع المضرة والقضاء على مادة الفساد وذرائعه.
وذهب آخرون على أنه لا يجوز التفريق إلا برضا الزوج، لأن الطلاق جعل بيده شرعا فلا يكون إلا منه أو بتوكيله، ولا يجوز أخذ عوض من الزوجة عن الفراق إلا برضاها وعن طيب نفس منها، لعموم قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (3) ولحديث: " إن «أموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا (4) » ولحديث «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه (5) » .
ويمكن أن يقال: إن هذه النصوص عامة دخلها التخصيص والاستثناء منها بالأدلة التفصيلية فليكن التفريق بالطلاق أو الفسخ من غير رضا الزوج، وكذا أخذ العوض من الزوجة مستثنى من عموم هذه
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .
(3) سورة البقرة الآية 188
(4) صحيح البخاري الفتن (7078) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، مسند أحمد بن حنبل (5/39) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (5/73) .(3/222)
النصوص كذلك بما ذكر من أدلة الرأي الأول، جمعا بين الأدلة بدلا من ضرب بعضها ببعض ومن وقوف المسلمين منها موقف الحيرة أو الاختلاف.
هذا ما تيسر إيراده، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. . .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو اللجنة ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(3/223)
ملخص قرار هيئة كبار العلماء المتعلق بمسالة النشوز والخلع
بعد: اطلاع المجلس على ما أعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء من أقوال أهل العلم وأدلتهم ومناقشتها وبعد تداول الرأي في ذلك قرر المجلس بالإجماع ما يلي: أن يبدأ القاضي بنصح الزوجة وترغيبها في الانقياد لزوجها وطاعته وتخويفها من إثم النشوز وعقوبته وأنها إن أصرت فلا نفقة لها عليه ولا كسوة ولا سكنى، ونحو ذلك من الأمور التي يرى أنها تكون دافعة الزوجة إلى العودة لزوجها، ورادعة لها من الاستمرار في نشوزها، فإن استمرت على نفرتها وعدم الاستجابة عرض عليهما الصلح، فإن لم يقبلا ذلك نصح الزوج بمفارقتها وبين له أن عودتها إليه أمر بعيد، ولعل الخير في غيرها ونحو ذلك مما يدفع الزوج إلى مفارقتها، فإن أصر على إمساكها وامتنع من مفارقتها واستمر الشقاق بينهما بعث القاضي حكمين عدلين ممن يعرف حالة الزوجين من أهلهما حيث أمكن ذلك، فإن لم يتيسر فمن غير أهلهما ممن يصلح لهذا الشأن، فإن تيسر الصلح بين الزوجين على أيديهما فبها وإلا أفهم القاضي الزوج أنه يجب عليه مخالعتها على أن تسلمه الزوجة ما أصدقها، فإن أبى أن يطلق حكم القاضي بما رآه الحكمان من التفريق بعوض أو بغير عوض، فإن لم يتفق الحكمان أو لم يوجدا وتعذرت العشرة بالمعروف بين الزوجين نظر القاضي في أمرهما وفسخ النكاح حسبما يراه شرعا بعوض أو بغير عوض، والأصل في ذلك الكتاب والسنة والأثر والمعنى.
أما الكتاب فقوله تعالى {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (1) ويدخل في هذا العموم الزوجان في حالة النشوز والقاضي إذا تولى النظر في دعواهما، وقوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} (2) الآية، والوعظ كما يكون من الزوج لزوجته الناشز يكون من القاضي لما فيه من تحقيق المصلحة.
وقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (3) فكما أن الإصلاح مشروع إذا كان النشوز من الزوج فهو
__________
(1) سورة النساء الآية 114
(2) سورة النساء الآية 34
(3) سورة النساء الآية 128(3/224)
مشروع إذا كان من الزوجة أو منهما.
وقوله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (1) الآية وهذه الآية عامة في مشروعية الأخذ بما يريانه من جمع أو تفريق بعوض أو بغير عوض.
وقوله تعالى {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (2) .
وأما السنة فما روى البخاري في الصحيح عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - «قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق إلا أني أخاف الكفر في الإسلام فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أفتردين عليه حديقته؟ " قالت نعم، فردت عليه فأمره ففارقها (3) » .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا ضرر ولا ضرار (4) » فهذا يدل بعمومه على مشروعية الخلع عند عدم الوئام بين الزوجين وخشية الضرر.
وأما الأثر فما رواه عبد الرازق عن معمر عن ابن طاوس عن عكرمة بن خالد عن ابن عباس قال بعثت أنا ومعاوية حكمين قال معمر بلغني أن عثمان بعثهما وقال إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا. ورواه النسائي أيضا.
وما رواه الدارقطني من حديث محمد بن سيرين عن عبيدة قال جاء رجل وامرأة إلى علي مع كل واحد منهما فئام من الناس فأمرهم فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها وقال للحكمين هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما فقالت المرأة رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي، وقال الزوج: أما الفرقة فلا. فقال علي: كذبت والله لا تبرح حتى تقر بمثل الذي أقرت به.
ورواه النسائي في السنن الكبرى ورواه الشافعي والبيهقي وقال ابن حجر: إسناده صحيح، وما أخرجه الطبري في تفسيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في الحكمين أنه قال: فإن اجتمع أمرهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز.
وأما المعنى: فإن بقاءها ناشزا مع طول المدة أمر غير محمود شرعا لأنه ينافي المودة والإخاء وما أمر الله من الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان مع ما يترتب على الإمساك من المضار والمفاسد والظلم والإثم وما ينشأ عنه من القطيعة بين الأسر وتوليد العداوة والبغضاء، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه. . .
__________
(1) سورة النساء الآية 35
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) صحيح البخاري الطلاق (5277) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .
(4) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .(3/225)
مجلة البحوث الإسلامية
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
حكم
الشفعة بالمرافق الخاصة
هيئة كبار العلماء(3/227)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وآله وصحبه وبعد:
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثامنة مسألة " الشفعة بالمرافق الخاصة " وقد قدمت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع للمجلس هذا نصه:
الحمد لله: وحده، وبعد: فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الأول من شهر شعبان عام 1395 هـ من إدراج موضوع الشفعة بالمرافق الخاصة في جدول أعمال الدورة الثامنة المتقرر انعقادها في أول ربيع الثاني عام 1396 هـ وحيث إن دراسة أي موضوع يستلزم إعداد بحث فيه، فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع يشتمل على تعريف الشفعة في اللغة وفي الاصطلاح الشرعي، وعلى مستند مشروعيتها وحكمة ذلك، وعلى مجموعة من مسائل الشفعة مما هي موضع خلاف بين أهل العلم وفي مقدمة ذلك الشفعة بالمرافق الخاصة، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. . .(3/228)
حكم
الشفعة بالمرافق الخاصة
الشفعة في اللغة
الشفعة: من شفع يشفع شفعا كمنع بمعنى الضم والزيادة، وتطلق أيضا فيراد بها المال المشفوع فيه وتطلق ويراد بها تملك ذلك المال، قال في المصباح المنير: شفعت الشيء شفعا من باب نفع ضممته إلى الفرد وشفعت الركعة جعلتها ثنتين، ومن هنا اشتقت الشفعة وهي مثال غرفة لأن صاحبها يشفع ماله بها، وهي اسم للملك المشفوع مثل اللقمة اسم للشيء الملقوم، وتستعمل بمعنى التملك لذلك الملك ومنه قولهم: من ثبت له شفعة فأخر الطلب بغير عذر بطلت شفعته، ففي هذا المثال جمع بين المعنيين فإن الأولى للمال والثانية للتملك. اهـ.
وفي لسان العرب: الشفع من الأعداد ما كان زوجا تقول كان وترا فشفعته بآخر، وشفعة الضحى: ركعتا الضحى - إلى أن قال: - وسئل أبو العباس عن اشتقاقها في اللغة قال: الشفعة الزيادة، وهو أن يشفعك فيما تطلب حتى تضمه إلى ما عندك فتزيده، وتشفعه بها أي أن تزيده بها أي إنه كان وترا واحدا فضم إليه ما زاده وشفعه به. اهـ.(3/229)
الشفعة في الاصطلاح الشرعي
اختلف الفقهاء - رحمهم الله تعالى - في تعريف الشفعة تبعا لاختلافهم في موجباتها وشروطها وفيمن لهم حق الشفعة، فذهب الحنفية إلى أن الشفعة حق تملك المرء ما بيع من عقار أو ما هو في حكم العقار مما هو متصل بعقاره من شركة أو جوار بمثل الثمن الذي قام عليه المشتري، وذلك لدفع ضرر الشراكة أو الجوار.
وذهب المالكية إلى أن الشفعة استحقاق شريك أخذ مبيع شريكه بثمنه. قوله: شريك قيد أخرج به الجار والشريك في حق المبيع. وقوله: مبيع قيد أخرج الموهوب بلا عوض وكذا الموروث (1) وذهب الشافعية إلى أن الشفعة استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقل عنه من يد من انتقلت إليه بمثل العوض المسمى (2) .
وذهب الحنابلة: إلى أن الشفعة استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه من يد من انتقلت إليه إن كان مثله أو دونه بعوض مالي بثمنه الذي استقر عليه العقد، فقوله: الشريك قيد خرج به الجار والشريك في حق المبيع. وقوله: إن كان مثله أو دونه قيد خرج به الكافر فلا شفعة له على مسلم، وقوله: بثمنه الذي استقر عليه العقد خرج به الموهوب والموروث وما كان صداقا أو عوض خلع أو نحوهما (3) .
مما تقدم تتضح العلاقة بين المعنيين اللغوي والشرعي، فإذا كانت الشفعة لغة بمعنى الضم والزيادة فإن الشفيع بانتزاعه حصة شريكه من يد من انتقلت إليه بضم تلك الحصة إلى ما عنده فيزيد بها تملكه، فالضم والزيادة موجودان في المعنيين اللغوي والشرعي، غير أن الشفعة في عرف الشرع اعتبر فيها قيود جعلتها أخص من معناها في اللغة.
__________
(1) مواهب الجليل شرح مختصر خليل ج3 ص377.
(2) مغني المحتاج ج2 ص296. .
(3) المغني ج5 ص255 حاشية المقنع ج2 ص256.(3/230)
مشروعية الشفعة
الشفعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) وقد
__________
(1) سورة الحشر الآية 7(3/230)
ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «قضى بالشفعة فيما لم يقسم (1) » .
وأما السنة فقد ورد بمشروعيتها جملة أحاديث وآثار نذكر منها ما يلي:
1 - روى البخاري في صحيحه وأبو داود والترمذي في سننهما بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (2) » ولمسلم بسنده إلى جابر قال «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة ما لم تقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك وإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به (3) » وفي رواية أخرى لمسلم قال «الشفعة في كل شرك من أرض أو ريع أو حائط لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه فيأخذ أو يدع فإن أبى فشريكه أحق به حتى يؤذنه (4) » وفي رواية للترمذي: «من كان له شريك في حائط فلا يبيع نصيبه من ذلك حتى يعرضه على شريكه (5) » .
2 - ولأبي داود بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قسمت الدار وحددت فلا شفعة فيها (6) » قال الشوكاني في النيل: ورجال إسناده ثقات ورواه ابن ماجه بمعناه.
3 - وللترمذي بإسناده إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «الشريك شفيع والشفعة في كل شيء (7) » ورجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال كما قال الترمذي. وفي رواية للطحاوي بإسناده إلى جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " قضى بالشفعة في كل شيء (8) » قال الشوكاني في النيل إسناد حديث جابر لا بأس برواته كما قاله الحافظ.
4 - وللبخاري وأبي داود والنسائي واللفظ للبخاري بإسناده إلى عمرو بن الشريد قال: «وقفت على سعد ابن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي إذ جاء أبو رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا سعد ابتع مني بيتي في دارك، فقال سعد: والله ابتاعهما، فقال المسور والله لتبتاعنهما، فقال سعد والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة، فقال أبو رافع: لقد أعطيت بها خمسمائة دينار ولولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " والجار أحق بسقبه " ما أعطيتكها بأربعة آلاف وأن أعطي بها خمسمائة دينار فأعطاه إياها (9) » .
5 - ولأحمد والأربعة بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا (10) » قال في البلوغ ورجاله ثقات. قال الصنعاني في شرحه: أحسن المصنف بتوثيق رجاله وعدم
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2214) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(3) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(4) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(5) صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي البيوع (1312) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، مسند أحمد بن حنبل (3/357) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(6) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) .
(7) سنن الترمذي الأحكام (1371) .
(8) صحيح البخاري الشركة (2496) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(9) صحيح البخاري الشفعة (2258) ، سنن النسائي البيوع (4702) ، سنن أبو داود البيوع (3516) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2495) ، مسند أحمد بن حنبل (6/10) .
(10) سنن أبو داود البيوع (3518) .(3/231)
إعلاله وإلا فإنهم قد تكلموا في هذه الرواية بأنه انفرد بزيادة قوله: " إذا كان طريقهما واحدا " عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي. قلت: وعبد الملك ثقة مأمون لا يضر انفراده كما عرف في الأصول وعلوم الحديث.
6 - وفي الموطأ أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة فيها ولا شفعة في بئر ولا في فحل النخل. قال مالك وعلى هذا الأمر عندنا.
7 - ولابن ماجه بسند ضعيف إلى ابن عمر - رضي الله عنهما - الشفعة كحل العقال ورواه ابن حزم وزاد: فإن قيدها مكانة ثبت حقه وإلا فاللوم عليه. وأخرج عبد الرازق عن شريح: إنما الشفعة لمن واثبها.
وأما الإجماع، فقد أجمع أهل العلم على القول بها ولم يعرف فيها مخالف إلا ما نقل عن أبي بكر بن الأصم من إنكارها بحجة أن في إثباتها إضرارا بأرباب الأملاك حيث إن المشتري يحجم عن الشراء إذا علم أن ما يشتريه سينتزع منه فيتضرر الملاك بذلك.
وقد رد ابن قدامة - رحمه الله - شبهته في معرض بحثه إجماع الأمة على القول بالشفعة فقال: وأما الإجماع فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم فيما بيع من أرض أو دار أو حائط والمعنى في ذلك أن أحد الشريكين إذا أراد أن يبيع نصيبه وتمكن من بيعه لشريكه وتخليصه مما كان بصدده من توقع الخلاص والاستخلاص فالذي يقتضيه حسن العشرة أن يبيعه منه ليصل إلى غرضه من بيع نصيبه وتخليص شريكه من الضرر فإذا لم يفعل ذلك وباعه لأجنبي سلط الشرع الشريك على صرف ذلك إلى نفسه. ولا نعلم أحدا خالف هذا إلا الأصم فإنه قال: لا تثبت الشفعة لأن في ذلك إضرارا بأرباب الأملاك، فإن المشتري إذا علم أنه يؤخذ منه إذا ابتاعه لم يبتعه ويتقاعد الشريك عن الشراء فيستضر المالك. وهذا ليس بشيء لمخالفته الآثار الثابتة والإجماع المنعقد قبله. والجواب عما ذكره من وجهين:
أحدهما أنا نشاهد الشركاء يبيعون ولا يعدم من يشتري منهم غير شركائهم ولم يمنعهم استحقاق الشفعة من الشراء.
الثاني: أنه يمكنه إذا لحقته بذلك مشقة أن يقاسم فيسقط استحقاق الشفعة. اهـ (1)
__________
(1) المغني ج5 ص255.(3/232)
دفع شبه القول بمنافاتها للقياس
لقد تكلم بعض أهل العلم في الشفعة من حيث زعم بعضهم منافاتها لبعض الأصول والمبادئ الشرعية فقال السرخسي: وزعم بعض أصحابنا - رحمهم الله - أن القياس يأبى ثبوت حق الشفعة لأنه يتملك على المشتري ملكا صحيحا له بغير رضاه وذلك لا يجوز فإنه من نوع الأكل بالباطل وتأيد هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه (1) » ولأنه بالأخذ يدفع الضرر عن نفسه على وجه يلحق الضرر بالمشتري في إبطال ملكه عليه، وليس لأحد أن يدفع الضرر عن نفسه بالإضرار بغيره. اه (2) .
وأورد ابن القيم - رحمه الله - شبهة لنفاة الحكم والتعليل والقياس فقال: وحرم أخذ مال الغير إلا بطيب نفس منه ثم سلطه على أخذ عقاره وأرضه بالشفعة. وقد رد - رحمه الله - على هذه الشبهة وعلى دعوى منافاة مشروعية الشفعة لأصول الشريعة ومبادئها فقال: من محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد ورودها بالشفعة ولا يليق به غير ذلك فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن فإن لم يكن رفعه إلا بضرر أعظم منه بقاه على حاله، وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به.
ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب فإن الخلطاء يكثر فيهم بغي بعضهم على بعض: شرع الله سبحانه رفع هذا الضرر بالقسمة تارة وانفراد كل من الشريكين بنصيبه، وبالشفعة تارة وانفراد أحد الشريكين بالجملة إذا لم يكن على الآخر ضرر في ذلك فإن أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه كان شريكه أحق به من الأجنبي وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيهما كان، فكان الشريك أحق بدفع العوض من الأجنبي ويزول عنه ضرر الشركة ولا يتضرر البائع لأنه يصل إلى حقه من الثمن، وكان هذا من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد. اهـ (3)
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/73) .
(2) المبسوط ج14 ص90.
(3) أعلام الموقعين ج2 ص111.(3/233)
الحكمة في مشروعية الشفعة
لا شك أن الشريعة الإسلامية تهدف بتشريعاتها إلى تحقيق العدل وتعميم الرخاء وتحصيل المصالح ودرء المفاسد فهي عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه، والشفعة شرع الله شرعها تعالى بلسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا شك أن لمشروعيتها حكمة اقتضاها عدله تعالى بين عباده ورحمته بين خلقه، ولا شك أن من الحكمة في مشروعيتها إزالة الضرر بين الشركاء أو الضرر مطلقا، فإن الشركات في الغالب تعتبر موطنا للخصومات ومحلا للتضرر والتعديات قال تعالى {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} (1) .
قال ابن القيم - رحمه الله - ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب فإن الخلطاء يكثر فيهم بغي بعضهم على بعض، شرع الله سبحانه رفع هذا الضرر بالقسمة وانفراد كل من الشريكين بنصيبه، وبالشفعة تارة وانفراد أحد الشريكين بالجملة. اهـ (2) . .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الشفعة: فإنها شرعت لتكميل الملك للشفيع لما في الشركة من التضرر. اهـ (3) .
ونقل علي حيدر عن مجمع الأنهر: أن الحكمة في مشروعيتها دفع ما ينشأ من سوء الجوار من الضرر على وجه التأييد كإيقاد النار، وإعلاء الجدار، وإثارة الغبار، ومنع ضوء النهار، وإقامة الدواب والصغار. اهـ (4) .
__________
(1) سورة ص الآية 24
(2) أعلام الموقعين ج2 ص111
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية ج29 ص178.
(4) درر الأحكام شرح مجلة الأحكام ج4 ص672.(3/234)
وباستعراض ما تقدم من تعاريف الشفعة لدى أهل العلم وحكمة مشروعيتها يتضح ما يلي:
1 - اتفاقهم على القول بالشفعة على وجه الإجمال.
2 - اتفاقهم على ثبوت الشفعة للشريك المسلم بشرطه.
3 - اتفاقهم على عدم اعتبار رضا الشريك والمشفوع عليه في انتزاع الشفيع حصة شريكه من يد من انتقلت إليه.
4 - اتفاقهم في الجملة على ثبوت الشفعة في العقار.
5 - اختلافهم في سبب الشفعة حيث اتفق الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد على أن الشفعة خاصة للشريك فلا شفعة بجوار ولا بمرفق خاص مشترك كطريق وبئر ومسيل، وخالف في ذلك الإمام أبو حنيفة حيث أثبت الشفعة بالجوار وبالمرافق الخاصة ووافقه في ذلك الإمام أحمد في رواية عنه في الشفعة بالمرافق الخاصة.
6 - اختلافهم في الشركة فيما لا يقبل القسمة من العقار كالحمام الصغير والحانوت.
7 - اختلافهم في الشركة في المنقولات هل فيها شفعة؟
8 - اختلافهم في الكافر هل له حق الشفعة على المسلم، حيث اتفق الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي على إثبات الشفعة له على المسلم، وخالفهم في ذلك الإمام أحمد حيث منعها عنه بحجة أنه ليس له مثل حق المسلم.
9 - اختلافهم فيما إذا انتقلت الحصة إلى الغير بعوض غير مسمى.
10 - اختلافهم في الوقف هل تثبت فيه وبه الشفعة؟
11 - اختلافهم في شفعة غير المكلف كالصبي والمجنون.
12 - اختلافهم في شفعة الغائب.
13 - اختلافهم في إرث الحق في الشفعة.
وفيما يلي ذكر بعض من أقوال أهل العلم فيما اختلفوا فيه مما ذكر.(3/235)
الاشتراك فيما لا يقبل
القسمة من العقار
اختلف أهل العلم في ثبوت الشفعة بالشركة فيما لا يقبل القسمة من العقار كالحمام الصغير والحانوت، فذهب جمهور الشافعية والحنابلة إلى أن الشركة في ذلك لا تعتبر سببا للأخذ بالشفعة: لأن الشفعة مشروعة لدفع ضرر مؤونة القسمة واستحداث المرافق وهذا غير موجود فيما لا يقبل القسمة،(3/235)
فانتفت الشفعة، قال في المنهاج: وكل ما لو قسم منفعته المقصودة كحمام ورحى لا شفعة فيه على الأصح. اهـ (1) .
وقال في المجموع: ولا تجب إلا فيما تجب قسمته عند الطلب، فأما ما لا تجب قسمته كالرحى والبئر الصغيرة والدار الصغيرة فلا تثبت فيه الشفعة، وقال أبو العباس: تثبت فيه الشفعة لأنه عقار فتثبت فيه الشفعة قياسا على ما تجب قسمته، والمذهب الأول لما روى عن أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - أنه قال: لا شفعة في بئر والأرف تقطع كل شفعة ولأن الشفعة إنما تثبت للضرر الذي يلحقه بالمقاسمة وذلك لا يوجد فيما لا يقسم. اهـ (2) .
وذكر الشربيني: وجه الخلاف في المذهب في ذلك فقال: هذا الخلاف مبني على ما مر من أن علة ثبوت الشفعة دفع ضرر مؤونة القسمة واستحداث المرافق الخ. . والثاني مبني على أن العلة دفع ضرر الشركة فيما يدوم وكل من الضررين حاصل قبل البيع، ومن حق الراغب فيه من الشريكين أن يخلص صاحبه منهما بالبيع له فإذا باع لغيره سلطه الشرع على أخذه منه لما روى مسلم عن جابر: «قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شركة ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به (3) » اه" (4) .
وقال ابن قدامة - رحمه الله -: الشرط الثالث أن يكون المبيع مما يمكن قسمته فأما ما لا يمكن قسمته من العقار كالحمام الصغير والرحى الصغيرة والعضادة والطريق الضيقة والعراص الضيقة فعن أحمد روايتان، إحداهما: لا شفعة فيه وبه قال يحيى بن سعيد وربيعة والشافعي. . والثانية فيها الشفعة - إلى أن قال - والأول ظاهر المذهب لما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة» والمنقبة الطريق الضيقة، رواه أبو الخطاب في رؤوس المسائل، وروي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه قال: لا شفعة في بئر ولا فحل. ولأن إثبات الشفعة في هذا يضر بالبائع لأنه لا يمكنه أن يتخلص من إثبات الشفعة في نصيبه بالقسمة، وقد يمنع المشتري لأجل الشفيع فيتضرر البائع وقد يمتنع البيع فتسقط الشفعة فيؤدي إثباتها إلى نفيها، ويمكن أن يقال: إن الشفعة إنما تثبت لدفع الضرر الذي يلحقه بالمقاسمة لما يحتاج إليه من إحداث المرافق الخاصة ولا يوجد هذا فيما لا ينقسم.
وقولهم: إن الضرر ههنا أكثر لتأبده، قلنا إلا أن الضرر في محل الوفاق من غير جنس هذا الضرر وهو ضرر الحاجة إلى إحداث المرافق الخاصة فلا يمكن التعدية، وفي الشفعة ههنا ضرر غير موجود في محل الوفاق وهو ما ذكرناه فتعذر الإلحاق. اه (5) .
وقد اختلفت الرواية عن الإمام مالك - رحمه الله - في ذلك قال أبو عبد الله المواق: قال ابن رشد الشفعة إنما تكون فيما ينقسم من الأصول دون ما لا ينقسم وهذا أمر اختلف فيه أصحاب مالك في المدونة
__________
(1) المنهاج ومعه شرحه المغني ج2 ص297.
(2) المجموع ج14 ص132 والأرف جمع أرفة كغرفة وهي الحد بين الشيئين.
(3) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/310) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(4) مغني المحتاج ج2 ص297.
(5) المغني ج5 ص259 -260.(3/236)
قال مالك: إذا كانت نخلة بين رجلين فباع أحدهما حصته فلا شفعة لصاحبه فيها، وفي المدونة أيضا قال مالك: في الحمام الشفعة، وهو أحق أن تكون فيه الشفعة من الأرض لما في قسم ذلك من الضرر، وقاله مالك وأصحابه أجمع. اهـ (1) .
وذهب الحنفية ومن وافقهم من الشافعية والمالكية والحنابلة إلى ثبوت الشفعة في العقار مطلقا سواء أمكن قسمته أم لم تمكن، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وغيره من أصحابه كما اختاره بعض أصحاب الشافعي كأبي العباس بن سريج وهو رواية المهذب عن الإمام مالك - رحمه الله -.
قال السرخسي: واستحقاق الشفعة في الحمام والرحى قولنا - وذكر توجيه ذلك - بأنه لدفع ضرر البادئ بسوء المجاورة على الدوام وذلك فيما لا يحتمل القسمة موجود لاتصال أحد المالكين بالآخر على وجه التأبيد، والقرار وحجتنا في ذلك ما رويناه من حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «الشفعة في كل شيء ربع أو حائط (2) » ولأن الحمام لو كان مهدوما فباع أحد الشريكين نصيبه كان للشريك الشفعة وما يستحق بالشفعة مهدوما يستحق بالشفعة مثبتا كالشقص من الجدار ثم أجاب عن القول بأن علة الشفعة دفع ضرر مؤونة القسمة وأنه لا قسمة فيما لا يقبلها فقال: وبهذا يتبين أن مؤونة المقاسمة إن كانت لا تلحقه في الحال فقد تلحقه في الثاني وهو ما بعد الانهدام إذا طلب أحدهما قسمة الأرض بينهما. اهـ (3) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: اتفق الأئمة على ثبوت الشفعة في العقار الذي يقبل القسمة قسمة الإجبار كالقرية والبستان ونحو ذلك، وتنازعوا فيما لا يقبل قسمة الإجبار وإنما يقسم بضرر أو رد عوض فيحتاج إلى التراضي، هل تثبت فيه الشفعة؟ على قولين:
أحدهما: تثبت وهو مذهب أبي حنيفة واختاره بعض أصحاب الشافعي كابن سريج وطائفة من أصحاب أحمد كأبي الوفاء بن عقيل وهي رواية المهذب عن مالك وهذا القول هو الصواب كما سنبينه إن شاء الله.
والثاني: لا تثبت فيه الشفعة - ثم قال - والقول الأول أصح فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كان له شريك في أرض أو ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به (4) » ، ولم يشترط النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأرض والربعة والحائط أن يكون مما يقبل القسمة فلا يجوز تقييد كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير دلالة من كلامه لا سيما وقد ذكر هذا في باب تأسيس إثبات الشفعة وليس عنه لفظ صحيح صريح في الشفعة أثبت من هذا ففي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (5) » فلم يمنع الشفعة إلا مع إقامة الحدود وصرف الطرق وهذا الحديث في الصحيح عن جابر وفي السنن عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن
__________
(1) التاج والإكليل على شرح مختصر خليل ج5 ص315.
(2) سنن الترمذي الأحكام (1371) .
(3) المبسوط ج14 ص135.
(4) صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي البيوع (1312) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، مسند أحمد بن حنبل (3/357) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(5) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) .(3/237)
كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا (1) » فإذا قضى بها للاشتراك في الطريق فلأن يقضى بها للاشتراك في رقبة الملك أولى وأحرى - إلى أن قال - وأيضا فمن المعلوم أنه إذا أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - الشفعة فيما يقبل القسمة فما لا يقبل القسمة أولى بثبوت الشفعة فيه، فإن الضرر فيما يقبل القسمة يمكن رفعه بالمقاسمة وما لا يمكن فيه القسمة يكون ضرر المشاركة فيه أشد، وظن من ظن أنها تثبت لرفع ضرر المقاسمة لا لضرر المشاركة كلام ظاهر البطلان فإنه قد ثبت بالنص والإجماع أنه إذا طلب أحد الشريكين القسمة فيما يقبلها وجبت إجابته إلى المقاسمة. ولو كان ضرر المشاركة (2) أقوى لم يرفع أدنى الضررين بالتزام أعلاهما ولم يوجب الله ورسوله الدخول في الشيء الكثير لرفع الشيء القليل فإن شريعة الله منزهة عن مثل هذا.
وأما قولهم هذا يستلزم ضرر الشريك البائع، فجوابه: أنه إذ طلب المقاسمة ولم يمكن قسمة العين فإن العين تباع ويجبر الممتنع على البيع ويقسم الثمن بينهما، وهذا مذهب جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد. اهـ (3) .
وقال ابن قدامة - رحمه الله - في معرض توجيه القول بثبوت الشفعة فيما لا تمكن قسمته بعد أن ذكر أنه رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - ووجه هذا عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الشفعة فيما لم تقسم (4) » وسائر الألفاظ العامة ولأن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر المشاركة والضرر في هذا النوع أكثر لأنه يتأبد ضرره. اهـ (5) .
وسئل الشيخ حمد بن ناصر والشيخ عبد الله بن الشيخ محمد - رحمهما الله - عن الشفعة في أرض لا تمكن قسمتها إجبارا فأجابا: هذه المسألة اختلف الفقهاء فيها وفيها قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد.
الأولى: أن الشفعة لا تثبت إلا في المبيع الذي تمكن قسمته فأما مالا تمكن قسمته من العقار كالحمام الصغير والعضادة والطريق الضيقة فلا شفعة فيه وبه قال يحيى بن سعيد والشافعي، وهذا هو المذهب عند المتأخرين من الحنابلة، قال الموفق في المغني: وهو ظاهر المذهب لما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا شفعة في فناء ولا في طريق في منقبة» والمنقبة الطريق الضيق رواه أبو الخطاب في رؤوس المسائل.
والرواية الثانية: تثبت الشفعة فيه وهو قول أبي حنيفة والثوري وابن سريج ورواية عن مالك واختاره ابن عقيل وأبو محمد الجوزي والشيخ تقي الدين، قال الحارثي وهو الحق لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الشفعة فيما لم يقسم (6) » وسائر الألفاظ ولأن الشفعة تثبت لإزالة الضرر بالمشاركة والضرر في هذا النوع أكثر لأنه يتأبد ضرره وهذا هو المفتى به عندنا وهو الراجح. اه (7) .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - إجابة لسؤال وجه إليه عن رأيه في اشتراط أن تكون الشفعة في أرض تجب قسمتها ما نصه: وأما المسألة الثانية وهي أنهم رحمهم الله لم يثبتوا الشفعة إلا في العقار الذي يمكن قسمته دون ما لا تمكن قسمته فهذا ضعيف أيضا لأن حديث جابر المرفوع «قضى صلى الله عليه
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3518) ، مسند أحمد بن حنبل (3/310) .
(2) هكذا في المطبوع ولعل الصواب: ضرر المقاسمة.
(3) المجموع ج30 ص (381 -384) .
(4) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/372) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(5) المغني ج5 ص259.
(6) سنن النسائي البيوع (4704) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) ، موطأ مالك الشفعة (1420) .
(7) الدرر السنية ج5 ص226.(3/238)
وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم (1) » - وهو في الصحيح - صريح في عموم الشفعة في كل عقار لم يقسم سواء أمكنت قسمته بلا ضرر أم لا.
ومن جهة المعنى الذي أثبت الشارع الشفعة فيه للشريك لإزالة ضرر الشركة وهذا المعنى موجود في الأرض التي لا يمكن قسمتها أكثر من غيرها لتمكنه في غيرها بإزالة ضرر الشركة في القسمة فيما يقسم بلا ضرر وأما ما لا يمكن قسمته إلا بضرر فهو أعظم ضررا من غيره فكيف لا تثبت به وهذا هو الصحيح وهو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد. اهـ (2)
__________
(1) صحيح البخاري الشفعة (2257) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/399) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(2) الفتاوى السعدية ص437.(3/239)
الاشتراك في المنقولات
لا يخلو أمر المنقول من حالين: إما أن يكون متصلا بالأرض كالبناء والغراس مما يباع مع الأرض فهذا يؤخذ بالشفعة تبعا لأصله قال ابن قدامة - رحمه الله - بعد أن حكاه قولا واحدا في المذهب بغير خلاف: ولا نعرف فيه بين من أثبت الشفعة خلافا. اه (1) .
وإما أن يكون منفصلا عنه: كالزرع والثمرة وغيرهما من المنقولات، فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الشفعة لا تثبت فيه تبعا ولا منفردا لأن الشفعة بيع في الحقيقة وما كان منفصلا لا يدخل في البيع تبعا.
قال الشربيني في شرحه قول صاحب المنهاج: لا تثبت في منقول. ما نصه: لا تثبت الشفعة في منقول كالحيوان والثياب سواء أبيعت وحدها أم مضمومة إلى أرض للحديث المار فإنه يخصها بما تدخله القسمة والحدود والطرق وهذا لا يكون في المنقولات، ولأن المنقول لا يدوم بخلاف العقار فيتأبد فيه ضرر المشاركة والشفعة تملك بالقهر فناسب مشروعيتها عند شدة الضرر، والمراد بالمنقول ابتداء لتخرج الدار إذا انهدمت بعد ثبوت الشفعة فإن نقضها يؤخذ بالشفعة. اهـ.
وقال أيضا في شرحه قول صاحب المنهاج: وكذا ثمر لم يؤبر في الأصح. ما نصه: ويأخذ الشفيع الشجر بثمرة حدثت بعد البيع ولم تؤبر عند الأخذ لأنها قد تبعت الأصل في البيع فتبعته في الأخذ بخلاف ما إذا أبرت عنده فلا يأخذها لانتقاء التبعية. أما المؤبرة عند البيع إذا دخلت بالشرط فلا تؤخذ لما سبق من انتفاء التبعية فتخرج بحصتها من الثمن. اه (2) .
وقال ابن قدامة - رحمه الله - القسم الثاني ما لا تثبت فيه الشفعة تبعا ولا مفردا وهو الزرع والثمرة الظاهرة تباع مع الأرض فإنه لا يؤخذ بالشفعة مع الأصل، ثم ذكر توجيه ذلك بقوله: لأنه لا يدخل في البيع
__________
(1) المغني ج5 ص258.
(2) مغني المحتاج ج2 ص296 -297.(3/239)
تبعا فلا يؤخذ بالشفعة كقماش الدار وعكسه البناء والغراس وتحقيقه أن الشفعة بيع في الحقيقة لكن الشارع جعل له سلطان الأخذ بغير رضا المشتري فإن بيع الشجر وفيه ثمرة غير ظاهرة كالطلع غير المؤبر دخل في الشفعة لأنها تتبع في البيع فأشبهت الغراس في الأرض، وأما ما بيع مفردا من الأرض فلا شفعة فيه سواء كان مما ينقل كالحيوان والثياب والسفن والحجارة والزرع والثمار أو لا ينقل كالبناء والغراس إذا بيع مفردا وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي. اهـ (1) .
وذهب الحنفية إلى أن الثمرة في الأرض تابعة للأرض في استحقاق الشفعة استحسانا إذا شرطها المبتاع، وأما القياس فإن الشفيع لا يأخذها لأنها في حكم المنفصل أشبه المتاع في الدار قال في الهداية: ومن ابتاع أرضا وعلى نخلها ثمر أخذها الشفيع بثمرها، ومعناها إذا ذكر الثمر في البيع لأنه لا يدخل من غير ذكر وهذا الذي ذكره استحسان، وفي القياس لا يأخذه لأنه ليس يتبع، ألا يرى أنه لا يدخل في البيع من غير ذكر فأشبه المتاع في الدار، وجه الاستحسان أنه باعتبار الاتصال صار تبعا للعقار كالبناء في الدار وما كان مركبا فيه فيأخذه الشفيع. اه (2) . وأما ما كان منفصلا عن الأرض كأثاث الدار والعروض والسفن والحيوانات وغير ذلك من المنقولات فلا شفعة فيها لأن الشفعة إنما وجبت لدفع ضرر سوء الجوار على الدوام والملك في المنقول لا يدوم مثل دوامة في العقار فلا تلحق به (3) .
واختلفت الروايات عن الإمام مالك - رحمه الله - في الثمرة على الأرض هل تؤخذ بالشفعة أم لا؟ قال ابن رشد: فتحصيل مذهب مالك أنها في ثلاثة أنواع: أحدها مقصود وهو العقار من الدور والحوانيت والبساتين. . والثاني ما يعلق بالعقار مما هو ثابت لا ينقل ولا يحول كالبئر. . والثالث ما تعلق بهذه كالثمار وفيها عنه خلاف. اه (4) .
وقد ذكر ابن رشد: في مقدماته أن النخل يوم الابتياع لا تخلو من ثلاثة أوجه، الأول: ألا يكون فيها ثمرة أصلا أو يكون فيها ثمرة إلا أنها لم تؤبر، وهذه الحال لا خلاف في أن الشفيع يأخذ النخل بثمرته، الثاني أن يكون فيها يوم الابتياع ثمرة مؤبرة وقد ذكر الخلاف في استحقاق الثمرة تبعا للأصل فذكر أن قول المدنيين في المدونة وهو قول أشهب وأكثر الرواة أنه لا حق للشفيع في الثمرة إذا لم يدركها حتى أبرت وأصل الخلاف في ذلك هل الأخذ بالشفعة كالأخذ بالبيع أو أن الثمرة تصير غلة بالإبار، الثالث أن يكون في النخل يوم الابتياع ثمرة قد أزهت وهذا الوجه كالوجه الثاني فيه الخلاف بين أصحاب مالك وقد قال ابن القاسم في المدونة: أن الشفيع أحق بها ما لم تجد ويأخذها الشفيع بحكم الاستحقاق لا بحكم الشفعة (5) . .
__________
(1) المغني ج5 ص258.
(2) الهداية ج4 ص34.
(3) فتح القدير لابن الهمام ج7 ص434.
(4) بداية المجتهد ج2 ص254
(5) مقدمات ابن رشد ج2 ص586 -589(3/240)
وأما المنقولات المنفصلة كالسفن والحيوانات والأثاث وغيرها فلا شفعة فيها. قال في المدونة: قلت ولا شفعة في دين ولا حيوان ولا سفن ولا بر ولا طعام ولا في شيء من العروض ولا سارية ولا حجر ولا في شيء من الأشياء سوى ما ذكرت لي كان مما يقسم أو لا يقسم في قول مالك؟ قال: نعم لا شفعة في ذلك ولا شفعة فيما ذكرت لك. اه (1) .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الشفعة ثابتة في كل شيء حتى في الثوب لما روى الترمذي بسند جيد عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس مرفوعا: «الشريك شفيع والشفعة في كل شيء (2) » ورواه مرسلا وصحح المرسل. قال الحافظ: ورواه الطحاوي بلفظ: «قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شيء» ورجاله ثقات (3) . ولأن الشفعة شرعت لدفع ضرر المشاركة. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد. قال ابن قدامة - رحمه الله - في معرض كلامه على الشفعة في المنقولات ما نصه: واختلف عن مالك وعطاء فقالا مرة كذلك ومرة قالا الشفعة في كل شيء حتى في الثوب، قال ابن أبي موسى وقد روى عن أبي عبد الله رواية أخرى أن الشفعة واجبة فيما لا ينقسم كالحجارة والسيف والحيوان وما في معنى ذلك. اه (4) .
وقال في حاشية الروض المربع للشيخ عبد الله العنقري على قول الشارح فلا شفعة في منقول كسيف ونحوه ما نصه:
قوله فلا شفعة في منقول إلى قوله ونحوها. قال في الإنصاف: والرواية الثانية فيه الشفعة اختاره ابن عقيل وأبو محمد الجوزي والشيخ تقي الدين قال الحارثي: وهو الحق، وعنه يجب في كل مال حاشا منقولا ينقسم. اه (5) .
وممن قال بذلك ابن حزم ففي المحلى ما نصه: الشفعة واجبة في كل جزء بيع مشاعا غير مقسوم بين اثنين فصاعدا من أي شيء كان مما ينقسم ومما لا ينقسم من أرض أو شجرة واحدة فأكثر أو عبد أو ثوب أو أمة أو من سيف أو من طعام أو من حيوان أو من أي شيء بيع. اه (6) .
__________
(1) المدونة ج5 ص402
(2) سنن الترمذي الأحكام (1371) .
(3) بلوغ المرام ومعه شرحه السبل ج3 ص62.
(4) المغني ج5 ص258.
(5) الروض المربع ج2 ص402.
(6) المحلى ج9 ص101.(3/241)
3 - الجوار
لا يخلو أمر الجار من حالين: إما أن يكون شريكا لجاره في مرافق خاصة كشرب ومسيل وطريق غير نافذ ونحو ذلك وإما ألا يشاركه في شيء من ذلك فإن كان شريكا لجاره في المرافق(3/241)
الخاصة فقد ذهب جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة إلى القول بعدم الشفعة في ذلك لما في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال " إنما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - «الشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (1) » ولما روى مسلم في صحيحه عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «الشفعة في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط (2) » حيث دل الحديثان على حصر الشفعة فيما هو مشترك ولم يقسم فإذا قسم فلا شفعة ولأن الشفعة مشروعة لرفع ضرر الاشتراك والمقاسمة ولما في المقاسمة من احتمال نقص قيمة حصة الشريك بعد المقاسمة لما تستلزمه المقاسمة في الغالب من إحداث مرافق خاصة لما يقتسم.
قال في المدونة: قلت لابن القاسم أرأيت لو أن قوما اقتسموا دارا بينهم فعرف كل رجل منهم بيوته ومقاصيره إلا أن المساحة بينهم لم يقتسموها أتكون الشفعة بينهم أم لا في قول مالك؟ قال قال مالك: لا شفعة بينهم إذا اقتسموا، قلت وإن لم يقتسموا المساحة وقد اقتسموا البيوت فلا شفعة بينهم في قول مالك؟ قال: نعم. . . قلت أرأيت السكة غير النافذة تكون فيها دار لقوم فباع بعضهم داره أيكون لأصحاب السكة الشفعة أم لا في قول مالك؟ قال لا شفعة لهم عند مالك. قلت ولا تكون الشفعة في قول مالك بالشركة في الطريق؟ قال نعم لا شفعة بينهم إذا كانوا شركاء في طريق. ألا ترى أن مالكا قال لا شفعة بينهم إذا اقتسموا الدار. اه (3) .
وقال ابن رشد في معرض تعداد ما لا شفعة فيه: وكذلك لا شفعة عنده في الطريق ولا في عرصة الدار. اه (4) .
وقال الشربيني على قول صاحب المنهاج: ولا شفعة إلا لشريك. ما نصه: ولا شفعة إلا لشريك في رقبة العقار فلا تثبت للجار لخبر البخاري المار ولا للشريك في غير رقبة العقار كالشريك في المنفعة فقط. . ولو باع دارا وله شريك في ممرها فقط التابع لها فإن كان دربا غير نافذ فلا شفعة له فيها لانتفاء الشركة فيها. اهـ (5) .
وقال النووي: وأما المقسوم فهل تثبت فيه الشفعة بالجوار، فيه خلاف. فذهب الشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء لا تثبت بالجوار وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، ويحيى الأنصاري، وأبي الزناد، وربيعة، ومالك، والأوزاعي، والمغيرة بن عبد الرحمن، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، اه (6) .
- وذكر ابن قدامة - رحمه الله - أن الشفعة لا تثبت إلا بشروط أربعة أحدها: أن يكون الملك مشاعا غير مقسوم فأما الجار فلا شفعة له ثم ذكر من اختار هذا القول من أهل العلم ومن خالفه كأبي حنيفة وغيره ثم
__________
(1) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/399) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(2) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/310) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(3) المدونة ج5 ص402.
(4) بداية المجتهد ج2 ص255.
(5) مغني المحتاج ج2 ص298.
(6) شرح النووي لصحيح مسلم ج11 ص46.(3/242)
وجه القول بحصر الشفعة في الملك غير المقسوم فقال: ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (1) » وروى ابن جريج عن الزهري، عن سعيد بن المسيب أو عن أبي سلمة أو عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا قسمت الأرض وحددت فلا شفعة (2) » رواه أبو داود.
ولأن الشفعة تثبت في موضع الوفاق على خلاف الأصل لمعنى معدوم في محل النزاع فلا تثبت فيه، وبيان انتفاء المعنى هو أن الشريك ربما دخل عليه شريك فيتأذى به فتدعوه الحاجة إلى مقاسمته أو يطلب الداخل المقاسمة فيدخل الضرر على الشريك بنقص قيمة ملكه وما يحتاج إلى إحداثه من المرافق وهذا لا يوجد في المقسوم - إلى أن قال - إذا ثبت هذا فلا فرق بين كون الطريق مفرده أو مشتركة. قال أحمد في رواية ابن القاسم في رجل له أرض تشرب هي وأرض غيره من نهر واحد فلا شفعة له من أجل الشرب إذا وقعت الحدود فلا شفعة. اهـ (3) .
وقال البهوتي - رحمه الله -: ومن أرضه بجوار أرض لآخر ويشربان من نهر أو بئر واحدة فلا شفعة بذلك. اهـ (4) .
وذهب الحنفية: ومن وافقهم من أهل العلم إلى أن الشفعة تثبت للخليط في حق المبيع إذا لم يكن ثم من يحجبه عنه كوجود خليط في المبيع نفسه وذلك لما روى الحسن عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «جار الدار أحق بالدار (5) » رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «الجار أحق بداره ينتظر به إذا كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا (6) » رواه الترمذي وقال حديث حسن. وقال الحافظ في البلوغ رواه أحمد والأربعة ورجاله ثقات. ولأن اتصال ملكه به يدوم ويتأبد فهو مظنة التضرر بالاختلاط في حقوق المبيع كالشركة. قال في الهداية في معرض توجيهه القول بثبوت الشفعة للخليط في حق المبيع ثم للجار ما نصه: ولنا ما روينا ولأن ملكه متصل بملك الدخيل اتصال تأبيد وقرار فيثبت له حق الشفعة عند وجود المعاوضة بالمال اعتبارا بمورد الشرع. وهذا لأن الاتصال على هذه الصفة إنما انتصب سببا فيه لدفع ضرر الجوار إذ هو مادة المضار على ما عرف وقطع هذه المادة بتملك الأصل أولى. اهـ (7) .
- وقد قال بثبوت الشفعة بالشركة في مصالح العقار بعض الحنابلة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وصاحب الفائق وهو اختيار الحارثي. قال أبو الحسن المرداوي: وهو ظاهر كلام الإمام أحمد - رحمه الله - في رواية أبي طالب وقد سأله عن الشفعة. فقال إذا كان طريقهما واحدا لم يقتسموا فإذا صرفت الطرق وعرفت الحدود فلا شفعة وهذا هو الذي اختاره الحارثي. . . وذكر ظاهر كلام الإمام أحمد المتقدم
__________
(1) سنن النسائي البيوع (4704) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) ، موطأ مالك الشفعة (1420) .
(2) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) .
(3) المغني ج5 ص256 -257.
(4) شرح المنتهى ج2 ص434 -435.
(5) سنن الترمذي الأحكام (1368) ، سنن أبو داود البيوع (3517) ، مسند أحمد بن حنبل (5/8) .
(6) سنن الترمذي الأحكام (1369) ، سنن أبو داود البيوع (3518) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2494) ، مسند أحمد بن حنبل (3/303) ، سنن الدارمي البيوع (2627) .
(7) الهداية ج4 ص24 -25.(3/243)
ثم قال وهذا الصحيح الذي يتعين المصير إليه ثم ذكر أدلته وقال في هذا المذهب جمعا بين الأخبار دون غيره فيكون أولى بالصواب. اهـ (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد تناوع الناس في شفعة الجار على ثلاثة أقوال، أعدلها هذا القول إنه إن كان شريكا في حقوق الملك ثبتت له الشفعة وإلا فلا. اهـ (2) .
وقال ابن القيم - رحمه الله -: والصواب القول الوسط الجامع بين الأدلة الذي لا يحتمل سواه وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء الحديث أنه إن كان بين الجارين حق مشترك من حقوق الأملاك من طريق أو ماء أو نحو ذلك ثبتت الشفعة، وإن لم يكن بينهما حق مشترك البتة بل كان واحد منهما متميزا ملكه وحقوق ملكه فلا شفعة وهذا الذي نص عليه أحمد في رواية أبي طالب فإنه سأله عن الشفعة لمن هي؟ فقال: إذا كان طريقهما واحدا، فإذا صرفت الطرق وعرفت الحدود فلا شفعة، وهو قول عمر بن عبد العزيز وقول القاضيين: سوار بن عبيد الله، وعبيد الله بن الحسن العنبري - إلى أن قال - والقياس الصحيح يقتضي هذا القول فإن الاشتراك في حقوق الملك شقيق الاشتراك في الملك، والضرر الحاصل بالشركة فيها كالضرر الحاصل بالشركة في الملك أو أقرب إليه، ورفعه مصلحة للشريك من غير مضرة على البائع ولا على المشتري، فالمعنى الذي وجبت لأجله شفعة الخلطة في الملك موجود في الخلطة في حقوقه، فهذا المذهب أوسط المذاهب وأجمعها للأدلة وأقربها إلى العدل وعليه يحمل الاختلاف عن عمر - رضي الله عنه - حيث قال: لا شفعة فيما إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، وحيث أثبتها فيما إذا لم تصرف الطرق، فإنه قد روى عنه هذا وهذا. وكذلك ما روى عن علي - رضي اله عنه - فإنه قال: إذا حدت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة، ومن تأمل أحاديث شفعة الجار رآها صريحة في ذلك وتبين له بطلان حملها على الشريك وعلى حق الجوار غير الشفعة وأجاب - رحمه الله - عن حديث أبي هريرة: «فإذا وقعت الحدود فلا شفعة (3) » بأن تصريف الطرق داخل في وقوع الحدود، فإن الطريق إذا كانت مشتركة لم تكن الحدود كلها واقعة بل بعضها حاصل وبعضها منتف فوقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق (4) .
وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - هل تثبت الشفعة بالشركة في الطريق والبئر والشركة في السيل فأجاب: تثبت للجار إذا كان شريكا في الطريق والبئر ولا تثبت الشفعة بالشركة بالجدار ولا بالشركة في السيل. وأجاب ابنه عبد الله بما نصه: قولك هل تثبت الشفعة بالشركة في البئر والطريق ومسيل الماء فالمفتى به عندنا أنها تثبت بذلك كما هو اختيار الشيخ تقي الدين وغيره من العلماء. اه وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - عن ثبوت الشفعة بالشركة بالسيل فأجاب: المذهب عدم ثبوت الشفعة بالطريق والسيل مثله واختيار الشيخ التشفيع بمرافق الأملاك من الطرق والبئر والسيل وهو الذي
__________
(1) الإنصاف ج6 ص255.
(2) مجموع الفتاوى ص383 ج30.
(3) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) .
(4) أعلام الموقعين ج2 ص126 -130.(3/244)
عليه الفتوى عند أئمة الدعوة لحديث «الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا (1) » ولمفهوم حديث «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (2) » وهو الذي نفتي به. اهـ (3) .
وقال ابن حزم: والشفعة واجبة وإن كانت الأجزاء مقسومة إذا كان الطريق إليها واحدا متملكا نافذا أو غير نافذ لهم، فإن قسم الطريق أو كان نافذا غير متملك لهم فلا شفعة حينئذ كان ملاصقا أو لم يكن. برهان ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (4) » . . فلم يقطعها عليه السلام إلا باجتماع الأمرين وقوع الحدود وصرف الطرق لا بأحدهما دون الآخر. اهـ (5) .
وأما الجار غير الشريك فقد ذهب الحنفية إلى القول بحقه في الأخذ بالشفعة على شرط انتقاء من هو أحق منه بها، كالخليط في المبيع أو في حقه، وذهب إلى القول بذلك ابن شبرمة والثوري وابن أبي ليلى. قال في الهداية: الشفعة واجبة للخليط في حق المبيع ثم للخليط في حق المبيع كالشرب والطريق ثم للجار. أفاد هذا اللفظ ثبوت حق الشفعة لكل واحد من هؤلاء وأفاد الترتيب. أما الثبوت فلقوله - عليه الصلاة والسلام - «الشفعة لشريك لم يقاسم» ولقوله - عليه الصلاة والسلام - «جار الدار أحق بالدار ينتظر له وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا (6) » ولقوله - عليه الصلاة والسلام - «الجار أحق بسقبه " قيل يا رسول الله ما سقبه؟ قال " شفعته (7) » ويروى «الجار أحق بشفعته (8) » - إلى أن قال - وأما الترتيب فلقوله - عليه الصلاة والسلام - «الشريك أحق من الخليط والخليط أحق من الشفيع» فالشريك في نفس المبيع والخليط في حقوق المبيع والشفيع هو الجار. اه (9) .
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3518) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2213) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) .
(3) الدرر السنية ج5 ص224 -225.
(4) صحيح البخاري البيوع (2213) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) .
(5) المحلى ج9 ص121.
(6) سنن الترمذي الأحكام (1368) ، سنن أبو داود البيوع (3517) ، مسند أحمد بن حنبل (5/8) .
(7) صحيح البخاري الشفعة (2258) ، سنن النسائي البيوع (4702) ، سنن أبو داود البيوع (3516) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2495) ، مسند أحمد بن حنبل (6/10) .
(8) سنن الترمذي الأحكام (1369) ، سنن أبو داود البيوع (3518) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2494) ، مسند أحمد بن حنبل (3/303) .
(9) الهداية ج2 ص24.(3/245)
أدلة القائلين بقصر الشفعة على الشريك في المبيع
دون الجار. . . أو الشريك في حق المبيع ومناقشتها
استدل القائلون بقصر الشفعة على الشريك في المبيع دون الشريك في حق المبيع أو الجار بما يأتي:
1 - ما في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال «قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (1) » وفي لفظ «إنما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الشفعة في كل ما لم يقسم (2) » الخ.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2214) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(2) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .(3/245)
2 - ما في صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر قال «قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط ولا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه (1) » إلى آخر الحديث.
3 - ما روى الشافعي بإسناده إلى أبي الزبير عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة (2) » .
4 - ما في سنن أبي داود بإسناده إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها (3) » .
5 - ما في الموطأ بإسناده إلى أبي هريرة - رضي الله عنه قال «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم فإذا صرفت الطرق ووقعت الحدود فلا شفعة (4) » .
6 - ما ذكره سعيد بن منصور بإسناده إلى عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - قال: إذا صرفت الحدود وعرف الناس حدودهم فلا شفعة بينهم.
فهذه الأحاديث والآثار تدل على أن الشفعة مشروعة فيما هو مشاع غير مقسوم، ولأن الضرر اللاحق بالشركة هو ما توجبه من التزاحم في المرافق والحقوق والأحداث والتغيير والإفضاء إلى التقاسم الموجب لنقص قيمة الملك بالقسمة. أما إذا قسمت الأرض فوقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة حينئذ لانتفاء الضرر بذلك. ووجه القائلون بذلك القول حصر الشفعة للشريك دون غيره، وأجابوا عن الأحاديث الواردة بالشفعة للجار فقال ابن القيم رحمه الله:
قالوا: وقد فرق الله بين الشريك والجار شرعا وقدرا ففي الشركة حقوق لا توجد في الجوار فإن الملك في الشركة مختلط وفي الجوار متميز ولكل من الشريكين على صاحبه مطالبة شرعية ومنع شرعي أما المطالبة ففي القسمة وأما المنع فمن التصرف، فلما كانت الشركة محلا للطلب ومحلا للمنع كانت محلا للاستحقاق بخلاف الجوار فلم يجز إلحاق الجار بالشريك وبينهما هذا الاختلاف، والمعنى الذي وجبت به الشفعة رفع مؤونة المقاسمة وهي مؤونة كثيرة، والشريك لما باع حصته من غير شريكه فهذا الدخيل قد عرضه لمؤونة عظيمة فمكنه الشارع من التخلص منها بانتزاع الشقص على وجه لا يضر بالبائع ولا بالمشتري، ولم يمكنه الشارع من الانتزاع قبل البيع لأن شريكه مثله ومساو له في الدرجة فلا يستحق عليه شيئا إلا ولصاحبه مثل ذلك الحق عليه فإذا باع صار المشتري دخيلا والشريك أصيل فرجح جانبه وثبت له الاستحقاق، قالوا: وكما أن الشارع يقصد رفع الضرر عن الجار فهو أيضا رفع الضرر عن المشتري ولا يزيل ضرر الجار بإدخال الضرر على المشتري فإنه محتاج إلى دار يسكنها هو وعياله، فإذا سلط الجار على إخراجه وانتزع داره منه أضرارا بينا. وأي دار اشتراها وله جار فحاله معه هكذا وتطلبه دارا لا جوار لها كالمتعذر عليه أو كالمتعسر فكان من تمام حكمة الشارع أن أسقط الشفعة بوقوع الحدود وتصريف الطرق لئلا يضر
__________
(1) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/310) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(2) سنن النسائي البيوع (4704) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) ، موطأ مالك الشفعة (1420) .
(3) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) .
(4) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) .(3/246)
الناس بعضهم بعضا، ويتعذر على من أراد شراء دار لها جار أن يتم له مقصوده، وهذا بخلاف الشريك وأن المشتري لا يمكنه الانتفاع بالحصة التي اشتراها والشريك يمكنه ذلك بانضمامها إلى ملكه فليس على المشتري ضرر في انتزاعها منه وإعطائه ما اشتراها به. قالوا: وحينئذ تعين حمل أحاديث شفعة الجوار على مثل ما دلت عليه أحاديث شفعة الشركة فيكون لفظ الجار فيها مرادا به الشريك. ووجه هذا الإطلاق المعنى والاستعمال. أما المعنى فإن كل جزء من ملك الشريك مجاور لملك صاحبه فهما جاران حقيقة، وأما الاستعمال فإنهما خليطان متجاوران ولذا سميت الزوجة جاره كما قال الأعشي:
أجارتنا بيني فإنك طالقة ... . . . . . . . .
فتسمية الشريك جارا أولى وأحرى. وقال حمل بن مالك: كنت بين جارتين لي. . هذا إن لم يحتمل إلا إثبات الشفعة فأما إن كان المراد بالحق فيها حق الجار على جاره فلا حجة فيها على إثبات الشفعة وأيضا فإنه إنما أثبت له على البائع حق العرض عليه إذا أراد البيع، فأين ثبوت حق الانتزاع. اهـ (1) .
وقد ناقش القائلون بثبوت الشفعة للجار هذه الأدلة بما يأتي:
1 - بالنسبة لحديث جابر فإن قوله: «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (2) » . . فقد ذكر أبو حاتم بأنه مدرج من قول جابر، قالوا ويؤيد ذلك أن مسلما لم يخرج هذه الزيادة، وأجيب عن ذلك بأن الأصل أن كل ما ذكره في الحديث فهو منه حتى يثبت الإدراج بدليل، فضلا عن أن هذه الزيادة قد وردت في حديث آخر كحديث أبي هريرة.
2 - وأما القول بأن العقار إذا كان مقسوما معروف الحدود مصرفة طرقه فلا ضرر على مالكه بتداول الأيدي لمجاورة فغير صحيح. ذلك أن في الضرر الذي قصد الشارع رفعه ضرر سوء الجوار فإن الجار قد يسيء الجوار غالبا فيعلى الجدار ويتتبع العثار ويمنع الضوء ويشرف على العورة ويطلع على العثرة ويؤذي جاره بأنواع الأذى وقد أجمعت الأدلة على ثبوت الشفعة للشريك لدفع الضرر الناشيء عنه اشتراك في الغالب فإذا ثبتت الشفعة في الشركة في العقار لإفضائها إلى المجاورة فحقيقة المجاورة أولى بالثبوت فيها.
3 - وأما الاحتجاج بما في صحيح البخاري: «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (3) » فعلى فرض انتفاء الإدراج من جابر فإن الجار المشترك مع غيره في مرفق خاص ما، مثل أن يكون طريقهما واحدا أو أن يشتركا في شرب أو مسيل أو نحو ذلك من المرافق الخاصة لا يعتبر مقاسما مقاسمة كلية بل هو شريك لجاره في بعض حقوق ملكه، وإذا كان طريقهما واحدا لم تكن الحدود كلها واقعة بل
__________
(1) أعلام الموقعين ج2 ص (122 -124) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2213) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2213) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) .(3/247)
بعضها حاصل وبعضها منتف إذ وقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق (1) .
4 - وأما القول بأن الشفعة شرعت للشريك لدفع ضرر المقاسمة فغير مسلم به، فمشروعيتها لرفع الضرر مطلقا سواء كان الضرر ناتجا عن المقاسمة أم عن الاشتراك. وتخصيص الشفعة برفع ضرر معين دون غيره من الأضرار تخصيص يحتاج إلى ما يسنده شرعا، وأيضا فلو كانت الشفعة مشروعة لدفع ضرر المقاسمة فقط لثبتت مشروعيتها في المنقولات المشتركة لرفع ضرر المقاسمة فيها.
__________
(1) انظر أعلام الموقعين ج2 ص (116 -126) ونيل الأوطار ج5 ص352 -353.(3/248)
أدلة القائلين بثبوت الشفعة
بحق المبيع والجوار ومناقشتها
استدل القائلون بثبوت الشفعة بالمرافق الخاصة وبالجوار بما يأتي:
1 - ما روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن الشريد قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي إذ جاء أبو رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا سعد ابتع مني بيتي في دراك، فقال سعد والله ما ابتاعها فقال المسور والله لتبتاعنها فقال سعد والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة فقال أبو رافع: لقد أعطيت بها خمسمائة دينار ولولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الجار أحق بسقبه (1) » ما أعطيتكها بأربعة وأنا أعطي بها خمسمائة دينار فأعطاه إياها.
وجه الدلالة من ذلك قوله: الجار أحق بسقبه أي بقربه أي إن الجار أحق بالدار من غيره لقربه ويدل على أن المقصود بأحقية الجار شفعته الأحاديث الآتية:
2 - روى أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي بإسناده إلى جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا (2) » وقد حسنه الترمذي.
3 - روى أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «جار الدار أحق بالدار من غيره (3) »
__________
(1) صحيح البخاري الشفعة (2258) ، سنن النسائي البيوع (4702) ، سنن أبو داود البيوع (3516) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2495) ، مسند أحمد بن حنبل (6/10) .
(2) سنن أبو داود البيوع (3518) .
(3) سنن الترمذي الأحكام (1368) ، سنن أبو داود البيوع (3517) ، مسند أحمد بن حنبل (5/8) .(3/248)
4 - روى أحمد والنسائي وابن ماجه عن الشريد بن سويد قال: «قلت يا رسول الله أرضي ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا الجوار فقال " الجار أحق بسقبه ما كان (1) » .
كما استدلوا من جهة المعنى بقولهم:
واللفظ لابن القيم رحمه الله إن حق الأصيل وهو الجار أسبق من حق الدخيل، وكل معنى اقتضى ثبوت الشفعة للشريك فمثله في حق الجار، فإن الناس يتفاوتون في الجوار تفاوتا فاحشا ويتأذى بعضهم ببعض ويقع بينهم من العداوة ما هو معهود والضرر بذلك دائم متأبد ولا يندفع ذلك إلا برضا الجار إن شاء أقر الدخيل على جواره وإن شاء انتزع الملك بثمنه واستراح من مؤونة المجاورة ومفسدتها، وإذا كان الجار يخاف التأذي على وجه اللزوم كان كالشريك يخاف التأذي بشريكه على وجه اللزوم. . . فوجب بحكم عناية الشارع ورعايته لمصالح العباد إزالة الضررين جميعا على وجه لا يضر البائع. اه (2) .
__________
(1) سنن النسائي البيوع (4703) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2496) ، مسند أحمد بن حنبل (4/389) .
(2) أعلام الموقعين ج2 ص120 -121.(3/249)
المناقشة
أجاب القائلون بحصر الشفعة في الشريك دون غيره بما يأتي:
1 - بالنسبة لحديث أبي رافع - رضي الله عنه - فقد ذكر الحافظ ابن حجر في معرض شرحه هذا الحديث وإيراده وجه استدلال الحنفية به على ثبوت الشفعة للجار حقيقة في المجاورة مجازا في الشريك قال ما نصه: إن محل ذلك عند التجرد وقد قامت القرينة هنا على المجاز فاعتبر للجمع بين حديثي جابر وأبي رافع، فحديث جابر صريح في اختصاص الشفعة بالشريك، وحديث أبي رافع مصروف الظاهر اتفاقا، لأنه يقتضي أن يكون الجار أحق من كل أحد حتى من الشريك. والذين قالوا بشفعة الجار قدموا الشريك مطلقا، ثم المشارك في الطريق، ثم الجار على من ليس بمجاور، فعلى هذا يتعين تأويل قوله (أحق) بالحمل على الفضل أو التعهد ونحو ذلك. اه (1) .
2 - بالنسبة لحديث جابر «الجار أحق بشفعة جاره (2) »
الخ، فقال الترمذي: لا نعلم أحدا روى هذا الحديث غير عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر، وقد تكلم شعبة في عبد الملك من أجل هذا الحديث - ثم قال - سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: لا أعلم أحدا رواه عن عطاء غير عبد الملك تفرد به ويروى عن جابر خلاف هذا. اهـ. . . قال شعبة سها فيه عبد الملك، فإن روى
__________
(1) فتح الباري ج4 ص438.
(2) سنن أبو داود البيوع (3518) .(3/249)
حديثا مثله طرحت حديثه، ثم ترك شعبة التحديث عنه. وقال أحمد: هذا الحديث منكر. وقال ابن معين: لم يروه غير عبد الملك وقد أنكروه عليه. اه (1) .
وقد أجاب ابن القيم - رحمه الله - عن الطعن في حديث جابر فقال:
إن عبد الملك هذا حافظ ثقة صدوق ولم يتعرض له أحد بجرح البتة، وأثنى عليه أئمة زمانه ومن بعدهم، وإنما أنكر عليه من أنكر هذا الحديث ظنا منهم أنه مخالف لرواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (2) » .
ولا تحتمل مخالفة العرزمي لمثل الزهري وقد صح هذا من رواية جابر عن الزهري عن أبي سلمه عنه ومن رواية ابن جريج عن أبي الزبير عنه. ومن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه، فخالفهم العرزمي، ولهذا شهد الأئمة بإنكار حديثه ولم يقدموه على حديث هؤلاء - إلى أن قال - وحديث جابر الذي أنكره من أنكره على عبد الملك صريح فيه، فإنه قال: «الجار أحق بسقبه ينتظر به وإن كان غائبا طريقهما واحدا (3) » فأثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق ونفاها به مع اختلاف الطريق بقوله: «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (4) » فمفهوم حديث عبد الملك هو بعنيه منطوق حديث أبي سلمة فأحدهما يصدق الآخر ويوافقه لا يعارضه ويناقضه، وجابر روى اللفظين - إلى أن قال - وحديث أبي رافع الذي رواه البخاري يدل على مثل ما دل عليه حديث عبد الملك فإنه دل على الأخذ بالجوار حالة الشركة في الطريق فإن البيتين كانا في نفس دار سعد والطريق واحد بلا ريب. اه (5) .
3 - وأما حديث الشريد بن سويد فقال الخطابي: قد تكلم أهل الحديث في إسناده واضطراب الرواة عنه فقال بعضهم عن عمرو بن الشريد عن أبي رافع، وقال بعضهم عن أبيه عن أبي رافع وأرسله بعضهم. وذكر ابن قدامة - رحمه الله - عن ابن المنذر قوله: الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث جابر الذي رويناه وما عداه من الأحاديث فيها مقال (6) .
وأجيب عن ذلك بما ذكره ابن القيم - رحمه الله - عن البخاري بخصوص حديث الشريد بن سويد أو عمرو بن الشريد قال: قال البخاري هو أصح عندي من رواية عمرو عن أبي رافع - يعني حديث أبي رافع مع سعد ابن أبي وقاص - وقال أيضا. كلا الحديثين عندي صحيح (7) .
__________
(1) نيل الأوطار ج5 ص355.
(2) سنن النسائي البيوع (4704) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) ، موطأ مالك الشفعة (1420) .
(3) سنن الترمذي الأحكام (1369) ، سنن أبو داود البيوع (3518) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2494) ، مسند أحمد بن حنبل (3/303) ، سنن الدارمي البيوع (2627) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2213) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) .
(5) أعلام الموقعين ج2 ص119 وص125.
(6) المغني ج5 ص257.
(7) أعلام الموقعين ج2 ص117.(3/250)
وقال ابن حزم في معرض مناقشته الأحاديث والآثار التي استدل بها أهل هذا القول ما نصه: ثم نظرنا في حديث عمرو بن الشريد عن أبي رافع عن أبيه فوجدناه لا متعلق لهم به لأنه ليس فيه إلا الجار أحق بصقبه وليس فيه للشفعة ذكر ولا أثر، وقد حدثنا همام، حدثنا عباس بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب الثقفي قال: سمعت عمرو بن الشريد يحدث عن الشريد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المرء أحق وأولى بصقبه (1) » قلت لعمرو: ما صقبه؟ قال الشفعة، قلت: زعم الناس أنها الجوار قال: الناس يقولون ذلك، فهذا راوي الحديث عمرو بن الشريد لا يرى الشفعة بالجوار ولا يرى لفظ ما روى يقتضي ذلك، فبطل كل ما موهوا به. ثم لو صحت هذه الأحاديث ببيان واضح أن الشفعة للجار لكان حكمه - عليه الصلاة والسلام - وقوله وقضاؤه «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (2) » يقضي على ذلك كله ويرفع فكيف ولا بيان في شيء منها. اهـ (3) .
4 - وأما حديث سمرة ففي سماع الحسن من سمرة مقال معروف لدى علماء الحديث. قال يحيى بن معين لم يسمع الحسن من سمرة وإنما هي صحيفة وقعت إليه، وقال غيره: لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة، وقد أجاب عن ذلك ابن القيم - رحمه الله - حيث قال: قد صح سماع الحسن من سمرة وغاية هذا أنه كتاب ولم تزل الأمة تعمل بالكتب قديما وحديثا، وأجمع الصحابة على العمل بالكتب وكذلك الخلفاء بعدهم وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتب، فإن لم يعمل بما فيها تعطلت الشريعة وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكتب كتبه إلى الآفاق والنواحي فيعمل بها من تصل إليه ولا يقول هذا كتاب، وكذلك خلفاؤه من بعده والناس على اليوم. فرد السنن بهذا الخيال البارد الفاسد من أبطل الباطل والحفظ يخون والكتاب لا يخون. اهـ (4) .
ويمكن أن يجاب عن قول ابن القيم - رحمه الله - بأن الغالب على طالب العلم أن يسجل كل ما عن له من صحيح وضعيف وما له وجه وما لا وجه له، على أمل أن يتم له النظر لأبعاد ما لا وجه له ولا صحة، ويحتمل أن يعجله الأجل قبل ذلك بخلاف ما يؤلفه طالب العلم وينشره بين الناس فإنه بنشره يعتبر في حكم المقتنع بوجاهته وصحة ما فيه مما يراه، وكذا ما يكتبه الوالي إلى عماله أو غيرهم فإنه يكتب ما يكتب عن اقتناع بوجاهة ما كتبه.
5 - وأما الاحتجاج على مشروعية الشفعة للجار بالمعنى فقد أجاب على ذلك ابن القيم - رحمه الله - وسبق نقل ذلك عنه (5)
__________
(1) سنن النسائي البيوع (4703) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2496) ، مسند أحمد بن حنبل (4/389) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2213) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) .
(3) المحلى جـ 9 ص 127.
(4) أعلام الموقعين جـ 2 ص 117.
(5) انظر أعلام الموقعين جـ 2 ص 122 - 124.(3/251)
4 - الشفعة فيما انتقل إلى الغير بعوض غير مسمى
إذا انتقل ما يجب فيه الشفعة للغير بعوض غير مسمى فقد ذهب الحنفية إلى نفي الشفعة فيه قال في الهداية: ولا شفعة في الدار التي يتزوج الرجل عليها أو يخالع المرأة بها أو يستأجر بها دارا أو غيرها أو يصالح بها عن دم عمد أو يعتق عليها عبدا لأن الشفعة عندنا إنما تجب في مبادلة المال بالمال لما بينا. وهذه الأعواض ليست بأموال فإيجاب الشفعة فيها خلاف المشروع وقلب الموضوع - إلى أن قال - أو يصالح عنها بإنكاره. . . لأنه يحتمل أنه بذل المال افتداء ليمينه وقطعا لشغب خصمه كما إذا أنكر صريحا. أهـ (1) .
وذهب المالكية إلى اثباتها قال في المدونة: قلت أرأيت إن تزوجت على شقص من دار أو خالعت امرأتي على شقص من دار أيكون في ذلك الشفعة في قول مالك؟ قال: نعم، مثل النكاح والخلع. قلت فبماذا يأخذ الشفيع في الخلع والنكاح والصلح في دم العمد الشقص؟ قال: أما في النكاح والخلع فقال لي مالك يأخذ الشفيع الشقص بقيمته وأرى الدم العمد مثله يأخذه بقيمته أهـ (2) .
وذهب الشافعية إلى ثبوت الشفعة فيما أخذ بعوض غير مالي قال الشربيني على قول صاحب المنهاج: وإنما تثبت في ملك بمعاوضه ملكا لازما متأخرا عن ملك الشفيع كمبيع ومهر وعوض خلع وصلح دم ونجوم وأجرة ورأس مال مسلم. قال: بمعاوضة محضة كالبيع أو غير محضة كالمهر، أما البيع فبالنص والباقي بالقياس عليه بجامع الاشتراك في المعاوضة مع لحوق الضرر أهـ (3) .
وأما الحنابلة فالصحيح من المذهب أنه لا شفعة فيه لأنه مملوك بلا مال أشبه الموهوب والموروث ولأنه يمتنع أخذه بمهر المثل وبقيمته لأنها ليست عوض الشقص.
قال المرداوي: قوله ولا شفعة فيما عوضه غير المال كالصداق وعوض الخلع والصلح عن دم العمد في أحد الوجهين، وأطلقهما في الهداية والمذهب والمستوعب والتلخيص والمحرر والرعاية الكبرى والفروع والفائق وظاهر الشرح الإطلاق، أحدهما: لا شفعة في ذلك وهو الصحيح من المذهب، قال في الكافي: لا شفعة فيه في ظاهر المذهب. قال الزركشي: هذا أشهر الوجهين عن القاضي وأكثر أصحابه، قال ابن منجا: هذا أولى.
قال الحارثي: أكثر الأصحاب قال بانتفاء الشفعة منهم أبو بكر وابن أبي موسى وأبو علي بن شهاب والقاضي وأبو الخطاب في رؤوس المسائل وابن عقيل والقاضي يعقوب والشريفان أبو جعفر وأبو القاسم الزبدي والعكبري وابن بكروس والمصنف وهذا هو المذهب ولذلك قدمه في السنن. أهـ وهو ظاهر كلام الخرقي وصححه في التصحيح والنظم وجزم به في العمدة والوجيز والمنور والحاوي الصغير وغيرهم وقدمه في المغني والشرح
__________
(1) الهداية جـ 4 ص 35 - 36.
(2) المدونة جـ 5 ص 441.
(3) مغني المحتاج جـ 2 ص 298.(3/252)
وشرح الحارثي وغيرهم. والوجه الثاني فيه الشفعة، اختاره ابن حامد وأبو الخطاب في الانتصار وابن حمدان في الرعاية الصغرى وقدمه ابن رزين في شرحه. فعلى هذا القول يأخذه بقيمته على الصحيح. أهـ (1) .
__________
(1) الإنصاف جـ 6 ص 252 - 253.(3/253)
الشفعة بشركة الوقف
اختلف العلماء - رحمهم الله - في جواز الشفعة في الوقف. فذهب الحنفية إلى أن لا شفعة للوقف ولا في الوقف لأنه لا مالك له معين قال في الدر المختار ما نصه: ولا شفعة في الوقف ولا له نوازل ولا بجواره. قال المصنف: قلت وحمل شيخنا الرملي الأول على الأخذ به والثاني على أخذه بنفسه إذا بيع، وأما إذا بيع بجواره أو كان بعض المبيع ملكا وبعضه وقفا وبيع الملك فلا شفعة للوقف. وقال في الحاشية: قوله أو كان بعض المبيع ملكا إلخ. حاصله أنه لا شفعة له بجوار ولا بشركة فهو صريح بالقسمين كما أشار إليه الشارح بنقل عبارة النوازل ونبهنا عليه. قوله فلا شفعة للوقف إذ لا مالك له. أهـ (1) . .
وقال الكاساني في معرض تعداده شروط الأخذ بالشفعة ما نصه:
ومنها ملك الشفيع وقت الشراء في الدار التي يأخذها بالشفعة، لأن سبب الاستحقاق جوار الملك والسبب إنما ينعقد سببا عن وجود الشرط، والانعقاد أمر زائد على الوجود فإذا لم يوجد عند البيع كيف ينعقد سببا فلا شفعة له بدار يسكنها بالإيجار والإعارة ولا بدار باعها قبل الشراء ولا بدار جعلها مسجدا ولا بدار جعلها وقفا وقضى القاضي بجوازه أو لم يقض على قول من يجيز الوقف لأنه زال ملكه عنها لا إلى أحد. أهـ (2) .
وذهب المالكية إلا أنه لا شفعة بالوقف إلا للواقف نفسه بشرط أن يضيف ما يأخذ بالشفعة إلا ما أوقفه أو أن يجعل ذلك للناظر بأن ينص في ولايته على الأخذ بالشفعة ليضاف إلى الوقف أو أن يؤول الوقف إلى الموقوف عليهم فلهم حق الأخذ بالشفعة ولو لم يوقفوا أو أن يؤول النظر أو الاستحقاق إلى بيت المال فللسلطان الأخذ له بالشفعة.
قال أبو البركات أحمد الدردير في معرض تعداد من يجوز لهم الأخذ بالشفعة ما نصه:
أو كان الشفيع محبسا لحصته قبل بيع شريكه فله الأخذ بالشفعة ليحبس الشقص المأخوذ أيضا قال منها دار بين رجلين حبس أحدهما نصيبه على رجل وولده وولد ولده فباع شريكه في الدار نصيبه فليس للذي
__________
(1) حاشية ابن عابدين جـ 6 ص223
(2) بدائع الصنائع جـ 6 ص2704.(3/253)
حبس ولا للمحبس عليه أخذ بالشفعة إلا أن يأخذ المحبس فيجعله في مثل ما جعل نصيبه الأول. انتهى. وهذا إذا لم يكن مرجعها له وإلا فله الأخذ ولو لم يحبس، كأن يوقف على عشرة مدة حياتهم أو يوقف مدة معينة فله الأخذ مطلقا، كسلطان له الأخذ بالشفعة لبيت المال، قال سحنون في المرتد: يقتل وقد وجبت له شفعة أن للسلطان أن يأخذها إن شاء لبيت المال. أهـ (1) .
وذهب الشافعية إلى أن الوقف إن كان عاما كالوقف على الفقراء والمساكين ونحو ذلك فلا شفعة به وإن كان خاصا فلا شفعة لواقفه لزوال ملكه عنه، وقد اختلف علماء الشافعية في ثبوت الموقوف عليه العين لاختلاف ما نقل عن الشافعي - رحمه الله - هل يملك الموقوف عليه رقبة الوقف أم لا؟
قال في المجموع:
وأما إذا كانت حصة الخليط وقفا لنظر في الوقف فإن كان عاما كالوقف على الفقراء والمساكين أو كان خاصا لا يملك كالوقف على جامع فلا يستحق به شفعة في المبيع، وإن كان خاصا على مالك الوقف على رجل بعينه أو على جماعة بأعيانهم فلا يملك به الواقف شفعة لزوال ملكه من الوقف، فأما الموقف عليه فقد اختلف عليه قول الشافعي هل يكون مالكا لرقبة الوقف أم لا؟ على قولين، أحدهما: يستحق به الشفعة لثبوت ملكه واستضراره بسوء المشاركة، والوجه الثاني: لا شفعة له لأنه ليس بتام الملك ولا مطلق التصرف أهـ (2) .
وذهب جمهور الحنابلة إلى القول بنفي الشفعة عن الخلطة بالوقف لأن من شروط الأخذ بالشفعة أن يكون الشفيع مالكا لما يشفع به والوقف لا يعتبر ملكا تماما لمن هو بيده سواء كان ناظرا أو موقوفا عليه لأنه ليس مطلق التصرف فيه.
قال ابن قدامة - رحمه الله -:
ولا شفعة لشركة الوقف. ذكر القاضيان ابن أبي موسى وأبو يعلى وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه لا يأخذ بالشفعة فلا تجب فيه كالمجاور وغير المنقسم، ولأننا إن قلنا هو غير مملوك فالموقوف عليه غير مالك وإن قلنا هو مملوك فملكه غير تام لأنه لا يفيد إباحة التصرف في الرقبة فلا يملك به ملكا تاما. وقال أبو الخطاب إن قلنا هو مملوك وجبت به الشفعة لأنه مملوك بيع في شركة شقص فوجبت الشفعة كالطلق ولأن الضرر يندفع عنه بالشفعة كالطلق فوجبت فيه كوجوبها في الطلق. وإنما لم يستحق بالشفعة لأن الأخذ بها بيع وهو ما لا يجوز بيعه. أهـ (3) .
وللشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - رأي في ثبوت الشفعة به فقد قال ما نصه:
__________
(1) الشرح الكبير ومعه حاشية الدسوقي في جـ 3 ص 425.
(2) المجموع جـ 14 ص 141.
(3) المغني جـ 5 ص 284.(3/254)
فلو باع الشريك الذي ملكه طلق فلشريكه الذي نصيبه وقف الشفعة لعموم الحديث المذكور ووجود لمعنى. بل صاحب الوقف إذا لم يثبت له شفعة يكون أعظم ضررا من صاحب الطلق لتمكن المالك من البيع بخلاف مستحق الوقف فإنه يضطر إلى بقاء الشركة. وأما استدلال الأصحاب بقولهم: إن ملكه ناقص فالحديث لم يفرق بين الذي ملكه ناقص أو كامل. ومنعنا إياه من البيع لتعلق حقوق من بعده به. فالصواب إثبات الشفعة إذا باع الشريك سواء كان شريكه صاحب ملك طلق أو مستحقا للوقف. أهـ (1) .
وقال المنقور نقلا عن جمع الجوامع:
للوقف ثلاث صور، الأولى: إذا كان البعض وقفا والبعض ملكا فبيع الملك هل يأخذ رب الوقف بالشفعة؟ على وجهين. والثانية: إذا كان كذلك وبيع الوقف حيث جاز بيعه هل يأخذ الشريك بالملك؟ على وجهين. المختار نعم. الثالثة: إذا كان الكل وقفا وبيع البعض حيث جاز بيعه فهل يجوز لرب الوقف الآخر الأخذ بها؟ على وجهين، الصحيح لا يجوز. اهـ (2) .
ولعل مصدر الاختلاف في ذلك الخلاف، هل لجهات الوقف شخصية اعتبارية تكون أهلا للإلزام والالتزام كالحال في جماعة المسلمين حيث يتكافؤون ويسعى بذمتهم أدناهم فيكون الوقف ملكا لهم، فإذا تصرف بعضهم أو النائب عنهم وهو الناظر تصرفا فيه مصلحة للوقف وغبطة لجهاته كان كتصرفهم جميعا، أم أن الوقف لا مالك له في الحقيقة وأن الشخصية الاعتبارية وهم وخيال لا مجال لها في واقع الأمر وحقيقته؟
__________
(1) الفتاوى السعدية ص 438.
(2) الفواكه العديدة في المسائل المفيدة جـ 1 ص 397.(3/255)
شفعة غير المسلم
اتفق الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي على القول بجواز شفعة غير المسلم على المسلم.
قال السرخسي: والذكر والأنثى والحر والمملوك والمسلم والكافر في حق الشفعة سواء لأنه من المعاملات وإنما ينبني الاستحقاق على سبب متصور في حق هؤلاء وثبوت الحكم بثبوت سببه. أهـ (1) .
وفي المدونة ما نصه:
قيل لابن القاسم هل لأهل الذمة شفعة في قول مالك؟ فقال: سألت مالكا عن المسلم والنصراني تكون الدار
__________
(1) المبسوط جـ 14 ص 99.(3/255)
بينهما فيبيع المسلم نصيبه هل للنصراني فيه شفعة؟ قال نعم، أرى ذلك له مثل ما لو كان شريكه مسلما. أهـ (1) .
وقال النووي: وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - فمن كان له شريك فهو عام يتناول المسلم والكافر والذمي فتثبت للذمي الشفعة على المسلم كما تثبت للمسلم على الذمي هذا قول الشافعي ومالك وأبي حنيفة والجمهور. أهـ (2) .
وانفرد الإمام أحمد - رحمه الله - عنهم بمنع شفعة الكافر على المسلم لأن تسليط الكافر على المسلم يعتبر سبيلا إليه قال تعالى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (3) قال ابن قدامة - رحمه الله - على قول الخرقي " ولا شفعة لكافر على مسلم ":
وجملة ذلك أن الذمي إذا باع شريكه شقصا لمسلم فلا شفعة له عليه، روي ذلك عن الحسن والشعبي وروي عن شريح وعمر بن عبد العزيز أن له الشفعة وبه قال النخعي وإياس بن معاوية وحماد بن أبي سليمان والثوري ومالك والشافعي والعنبري وأصحاب الرأي لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم «لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه وإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به (4) » ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر بالشراء فاستوى فيه المسلم والكافر كالرد بالعيب.
ولما روى الدارقطني في كتاب العلل بإسناده عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم قال: «لا شفعة لنصراني» وهذا يخص عموم ما احتجوا به ولأنه معنى يتملك به يترتب على وجود ملك مخصوص فلم يجب للذمي على المسلم كالزكاة ولأنه معنى يختص العقار فأشبه الاستعلاء في البنيان بحقيقة أن الشفعة إنما تثبت للمسلم دفعا للضرر عن ملكه فقدم دفع ضرره على دفع ضرر المشتري، ولا يلزم من تقديم دفع ضرر المسلم على المسلم تقديم دفع ضرر الذمي فإن حق المسلم أرجح ورعايته أولى ولأن ثبوت الشفعة في محل الإجماع على خلاف الأصل رعاية لحق الشريك المسلم وليس الذمي في معنى المسلم فيبقى فيه على مقتضى الأصل. أهـ (5) .
وقال نصر ابن القيم - رحمه الله - القول بنفي شفعة الكافر على المسلم وناقش القائلين بثبوتها ورد عليهم قولهم فقال ما نصه: ولهذا لم يثبت عن واحد من السلف لهم حق شفعة على مسلم وأخذ بذلك الإمام أحمد وهي من مفرداته التي برز بها على الثلاثة، لأن الشقص يملكه المسلم إذا أوجبنا فيه شفعة لذمي كنا قد أوجبنا على مسلم أن ينقل الملك في عقاره إلى كافر بطريق القهر للمسلم وهذا خلاف الأصول، والشفعة في الأصل إنما هي من حقوق أحد الشريكين على الآخر بمنزلة الحقوق والتي تجب للمسلم على المسلم كإجابة الدعوة وعيادة المريض وكمنعه أن يبيع على بيع أخيه أو يخطب على خطبته. قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن الذمي اليهودي والنصراني ألهم شفعة؟ قال: لا، وكذلك نقل أبو طالب وصالح وأبو الحارث والأثرم كلهم عنه: ليس للذمي
__________
(1) المدونة جـ 5 ص 399.
(2) شرح صحيح مسلم جـ 11 ص 46.
(3) سورة النساء الآية 141
(4) صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، مسند أحمد بن حنبل (3/310) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(5) المغني جـ 5 ص 320 - 321.(3/256)
شفعة. زاد أبو الحارث: مع المسلم. قال الأثرم قيل له: لم؟ قال لأنه ليس له مثل حق المسلم.
واحتج فيه قال الأثرم: حدثنا الطباع حدثنا هشيم أخبرنا الشيباني عن الشعبي أنه كان يقول ليس لذمي شفعة. وقال سفيان عن حميد عن أبيه إنما الشفعة لمسلم. ولا شفعة لذمي. وقال أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن ليث عن مجاهد أنه قال: ليس ليهودي ولا لنصراني شفعة. قال الخلال أخبرني محمد بن الحسن بن هارون قال: سئل أبو عبد الله وأنا أسمع عن الشفعة للذمي قال: ليس لذمي شفعة. ليس له حق المسلم. أخبرني عصمة بن عصام حدثنا حنبل قال سمعت أبا عبد الله قال ليس ليهودي ولا لنصراني شفعة قيل: ولم؟ قال: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب (1) » وهذا مذهب شريح والحسن والشعبي واحتج الإمام أحمد بثلاث حجج.
إحداهما: أن الشفعة من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، فلا حق للذمي فيها. ونكتة هذا الاستدلال أن الشفعة من حق المالك لا من حق الملك.
الحجة الثانية: قول النبي - صلى الله عليه وسلم «لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه (2) » وتقرير الاستدلال من هذا أنه لم يجعل لهم حقا في الطريق المشترك عند تزاحمهم مع المسلمين فكيف يجعل لهم حقا إلى انتزاع ملك المسلم منه قهرا بل هذا تنبيه على المنع من انتزاع الأرض من يد المسلم وإخراجه منها لحق الكافر لنفي ضرر الشركة عنه، وضرر الشركة على الكافر أهون عند الله من تسليطه على إزالة ملك المسلم عنه قهرا.
الدليل الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب (3) » ووجه الاستدلال من هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بإخراجهم من أرضهم ونقلها إلى المسلمين لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله فكيف نسلطهم على انتزاع أراضي المسلمين منهم قهرا وإخراجهم منها! ؟ وأيضا فالشفعة حق يختص العقار فلا يساوي الذمي فيه المسلم كالاستعلاء في البنيان. يوضحه أن الاستعلاء تصرف في هواء ملكه المختص به فإذا منع منه فكيف يسلط على انتزاع ملك المسلم منه قهرا وهو ممنوع من التصرف في هوائه تصرفا يستعلي فيه على المسلم. فأين هذا الاستعلاء من استعلائه عليه لإخراجه من ملكه قهرا. وأيضا فالشفعة وجبت لإزالة الضرر عن الشفيع وإن كان فيها ضرر بالمشتري فإذا كان المشتري مسلما فسلط الذمي على انتزاع ملكه منه قهرا كان فيه تقديم حق الذمي على حق المسلم وهذا ممتنع وأيضا فإنه يتضمن مع إضراره بالمسلم إضراره بالدين وتملك دار المسلمين منهم قهرا وشغلها بما يسخط الله بدل ما يرضيه وهذا خلاف قواعد الشرع. ولذلك حرم عليهم نكاح المسلمات إذ كان فيه نوع استعلاء عليهن ولذلك لم يجز القصاص بينهم وبين المسلمين، ولا حد القذف ولا يمكنون من تملك الرقيق المسلم قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (4) ومن أعظم السبيل تسليط الكافر على انتزاع أملاك المسلمين منهم وإخراجهم منها قهرا وقد قال تعالى
__________
(1) موطأ مالك الجامع (1651) .
(2) صحيح مسلم السلام (2167) ، سنن الترمذي السير (1602) ، سنن أبو داود الأدب (5205) ، مسند أحمد بن حنبل (2/444) .
(3) موطأ مالك الجامع (1651) .
(4) سورة النساء الآية 141(3/257)
{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (1) - إلى أن قال - وأيضا فلو كانوا مالكين حقيقة، لما أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخراجهم من جزيرة العرب وقال: «لئن عشت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب (2) » هذا مع بقائهم على عهدهم وعدم نقضهم له فلو كانوا مالكين لدورهم حقيقة لما أخرجهم منها ولم ينقضوا عهدا، ولهذا احتج الإمام أحمد بذلك على أنه لا شفعة لهم على مسلم - إلى أن قال - وليس مع الموجبين للشفعة نص من كتاب الله ولا من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم ولا إجماع من الأمة، وغاية ما معهم إطلاقات وعمومات كقوله: «قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة فيما لم يقسم (3) » وقوله «من كان له شريك في ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه (4) » . ونحو ذلك مما لا يعرض فيه للمستحق وإنما سبقت الأحكام الأملاك لا لعموم الأملاك (5) من أهل الذمة وغيرهم وليس معهم قياس استوى فيه الأصل والفرع في المقتضى للحكم فإن قياس الكافر على المسلم من أفسد القياس وكذلك قياس بعضهم من تجب له الشفعة بمن تجب عليه من أفسد القياس أيضا، ثم ذكر مجموعة من الأحكام يختلف فيها المسلم عن الكافر ثم قال: وكذلك قياس بعضهم الأخذ بالشفعة على الرد بالعيب من هذا النمط فإن الرد بالعيب من باب استدراك الظلام وأخذ الجزء الفائت الذي يترك على الثمن في مقابلته، فأين ذلك من تسليطه على انتزاع ملك المسلم منه قهرا واستيلائه عليه إلى آخر ما ذكره (6) .
__________
(1) سورة الحشر الآية 20
(2) صحيح مسلم الجهاد والسير (1767) ، سنن الترمذي السير (1607) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3030) ، مسند أحمد بن حنبل (1/32) .
(3) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(5) كذا في المطبوع ولعل الصواب: الملاك.
(6) أحكام أهل الذمة جـ 1 ص 291 - 299.(3/258)
شفعة غير المكلف من صبي أو مجنون
ذهب جمهور أهل العلم منهم الحسن وعطاء وأبو حنيفة ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وسوار والعنبري إلى القول بثبوت الشفعة للصبي والمجنون يتولاها وليه إن رأى له في ذلك مصلحة وغبطة. قال السرخسي: والصغير كالكبير في استحقاق الشفعة - ثم ذكر توجيه ذلك فقال: ولكنا نقول سبب الاستحقاق متحقق في حق الصغير وهو الشركة أو الجوار من حيث اتصال حق ملكه بالمبيع على وجه التأبيد فيكون مساويا للكبير في الاستحقاق به - ثم قال: ثبت له حق الشفعة ثم يقوم بالطلب من يقوم مقامه شرعا في استيفاء حقوقه. . . فإن لم يكن له أحد من هؤلاء فهو على شفعته إذ أدرك لأن الحق قد ثبت له ولا يتمكن من استيفائه قبل الإدراك أهـ (1) .
وفي المدونة: قلت أرأيت لو أن صبيا وجبت له الشفعة من يأخذ له بشفعته؟ قال الوالد قيل فإن لم يكن
__________
(1) المبسوط جـ 14 ص 98 - 99.(3/258)
له والد قال فالوصي، قيل فإن لم يكن له وصي قال فالسلطان، قلت: فإن كان في موضع لا سلطان فيه ولا أب له ولا وصي قال فهو على شفعته إذا بلغ، قال وهذا كله قول مالك. أهـ.
وقال ابن قدامة - رحمه الله - على قول الخرقي: وللصغير إذا كبر المطالبة بالشفعة ما نصه:
وجملة ذلك أنه إذا بيع في شركة الصغير شقص ثبتت له الشفعة في قول عامة الفقهاء، منهم الحسن وعطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وسوار والعنبري وأصحاب الرأي، ثم قال بعد مناقشة القائلين بمنع شفعة الصبي: إذا ثبت هذا فإن ظاهر قول الخرقي أن للصغير إذا كبر الأخذ بها سواء عفا عنها الولي أو لم يعف وسواء كان الحظ في الأخذ بها أو في تركها، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور، له الشفعة إذا بلغ فاختار ولم يفرق وهذا قول الأوزاعي وزفر ومحمد ابن الحسن وحكاه بعض أصحاب الشافعي عنه، لأن المستحق للشفعة يملك الأخذ بها سواء كان الحظ فيها أو لم يكن فلم يسقط بترك غيره كالغائب إذا ترك وكيله الأخذ بها - إلى أن قال - والحكم في المجنون المطبق كالحكم في الصغير سواء، لأنه محجور عليه لحظه، وكذلك السفيه لذلك.
وأما المغمى عليه فلا ولاية عليه وحكمه حكم الغائب والمجنون، ينتظر إفاقته. أهـ (1) .
وذهب بعض أهل العلم إلى القول بمنع الصغير من الشفعة حيث لا يمكنه أخذها في الحال ولا يمكن الانتظار بها حتى يبلغ لما في ذلك من الإضرار بالمشتري، وليس لوليه أخذها لأنه لا يملك العفو عنها فهو لا يملك الأخذ بها. ويروى هذا القول عن النخعي والحارث العكلي وابن أبي ليلى.
وقد رد ابن قدامة - رحمه الله - على أهل هذا القول فقال ما نصه:
قولهم لا يمكن الأخذ غير صحيح، فإن الولي يأخذ بها كما يرد المعيب، وقولهم لا يمكنه العفو يبطل بالوكيل فيها وبالرد بالعيب، فإن ولي الصبي لا يمكنه العفو ويمكنه الرد، ولأن في الأخذ تحصيلا للملك للصبي ونظرا له وفي العفو تضييع وتفريط في حقه، ولا يلزم من ملك ما فيه الحظ ملك ما فيه التضييع ولأن العفو إسقاط لحقه والأخذ استيفاء له - إلى أن قال -: وما ذكروه من الضرر في الانتظار يبطل بالغائب. أهـ (2)
__________
(1) المغني جـ 5 ص 280 - 283.
(2) المغني جـ 5 ص 281.(3/259)
شفعة الغائب
ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الغائب على حقه في الشفعة وإن طالت غيبته، روي ذلك عن شريح والحسن وعطاء وبه قال الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والليث والثوري والأوزاعي والعنبري لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الشفعة فيما لم يقسم (1) » قال ابن رشد:
__________
(1) سنن النسائي البيوع (4704) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) ، موطأ مالك الشفعة (1420) .(3/259)
فإن الذي له الشفعة رجلان: حاضر أو غائب، فأما الغائب فأجمع العلماء على أن الغائب على شفعته ما لم يعلم ببيع شريكه، واختلفوا إذا علم وهو غائب، فقال قوم: تسقط شفعته، وقال قوم: لا تسقط وهو مذهب مالك والحجة له ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث جابر أنه قال: «الجار أحق بصقبه أو قال: بشفعته ينتظر بها إذا كان غائبا (1) » وأيضا فإن الغائب في الأكثر معوق عن الأخذ بالشفعة فوجب عذره. وعمدة الفريق الثاني أن سكوته مع العلم قرينة تدل على رضاه بإسقاطها. أهـ (2) .
وفي المدونة: قلت أرأيت الغائب إذا علم بالشراء وهو شفيع ولم يقدم يطلب الشفعة حتى متى تكون له الشفعة؟ قال قال مالك: لا تقطع عن الغائب الشفعة بغيبته. قلت علم أو لم يعلم؟ قال: ليس ذلك عندي إلا فيما علم وأما فيما لم يعلم فليس فيه كلام ولو كان حاضرا. أهـ (3) .
وقال ابن قدامة - رحمه الله - على قول الخرقي: ومن كان غائبا وعلم بالبيع وقت قدومه فله الشفعة وإن طالت غيبته. ما نصه:
وجملة ذلك أن الغائب له شفعة في قول أكثر أهل العلم. وذكر توجيه القول بذلك فقال: ولنا عموم قوله عليه السلام: «الشفعة فيما لم يقسم (4) » سائر الأحاديث ولأن الشفعة حق مالي وجد سببه بالنسبة إلى الغائب فتثبت له كالإرث ولأنه الشريك لم يعلم بالبيع فتثبت له الشفعة عند علمه كالحاضر إذا كتم عنه البيع والغائب غيبة قريبة. أهـ (5) .
وذهب بعض أهل العلم إلى القول بمنع الغائب من الشفعة لما فيه من الإضرار بالمشتري بامتناعه عن التصرف في ملكه حسب اختياره خشية انتزاعه منه، وهذا القول مروي عن النخعي والحارث العكلي والبتي.
ورد ابن قدامة القول بتضرر المشتري بأن ضرره يندفع بإيجاب القيمة له.
وقد يرد على ذلك بأن غيبته ما دامت غير محددة بحيث تصل إلى عشر سنين أو أكثر فإن تضرر المشتري ببقاء مشتراه معلقا حتى يحضر فيقرر رغبته في الشفعة من عدمها لا يقابل برد القيمة إليه لما في ذلك من تعطل هذه القيمة عن الإدارة، فضلا عما في ذلك من تعطيل هذا العقار عن التعمير لتكون منفعته العامة والخاصة أكثر.
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1369) ، سنن أبو داود البيوع (3518) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2494) ، مسند أحمد بن حنبل (3/303) ، سنن الدارمي البيوع (2627) .
(2) بداية المجتهد جـ 2 ص 259.
(3) المدونة جـ 5 ص 418.
(4) سنن النسائي البيوع (4704) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) ، موطأ مالك الشفعة (1420) .
(5) المغني جـ 5 ص 274.(3/260)
شفعة الوارث
اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى- في جواز شفعة الوارث من عدمه تبعا لاختلافهم في متعلق حق الشفعة هل هو متعلق بالملك فيورث أم بالمالك فيمتنع إرثه لموت صاحبه وقد تحصل من اختلافهم في المسألة ثلاثة أقوال.
أحدها: إذا لم يأخذها الشفيع قبل موته فلا يجوز لوارثه أخذها مطلقا سواء طالب بها مورثه أم لم يطالب بها. لأن سبب أخذه الشفعة زال بموته وهو الملك، وقيام السبب إلى وقت الأخذ شرط لثبوت الحق في ذلك وقد قال بهذا القول جمهور أهل الرأي.
قال السرخسي: وإذا مات الشفيع بعد البيع وقبل أن يأخذ بالشفعة لم يكن لوارثه حق الأخذ بالشفعة عندنا - ثم علل ذلك بقوله -: ونحن نقول مجرد الرأي والمشيئة لا يتصور فيه الإرث لأنه لا يبقى بعد موته ليخلفه الوارث فيه والثابت له بالشفعة مجرد المشيئة بين أن يأخذ أو يترك ثم السبب الذي به كان يأخذ بالشفعة يزول بموته وهو ملكه وقيام السبب إلى وقت الأخذ شرط لثبوت حق الأخذ له. أهـ (1) .
وقال في الدر المختار: ويبطلها موت الشفيع قبل الأخذ بعد الطلب أو قبله ولا تورث خلافا للشافعي. قال في الحاشية: قوله ويبطلها موت الشفيع إلخ. لأنها مجرد حق التملك وهو لا يبقى بعد موت صاحب الحق فكيف يورث. اهـ (2) .
أحدهما أن حق الشفعة لا يورث إلا إذا طالب بها الشفيع قبل موته لأن الحق متعلق بالمالك دون الملك فحيث مات قبل طلب حقه في الشفعة فإن موته مسقط لذلك الحق، وهذا قول جمهور العلماء من الحنابلة وغيرهم. . قال ابن قدامة - رحمه الله - في كلامه على قول الخرقي: والشفعة لا تورث إلا أن يكون الميت طالب بها ما نصه:
وجملة ذلك أن الشفيع إذا مات قبل الأخذ بها لم يخل من حالين:
الثاني أن يموت قبل الطلب بها فتسقط ولا تنتقل إلى الورثة. وقال أحمد الموت يبطل ثلاثة أشياء: الشفعة، والحد إذا مات المقذوف، والخيار إذا مات الذي اشترط الخيار، لم يكن للورثة هذه الثلاثة الأشياء إنما هي بالطلب فإذا لم يطلب فليس تجب إلا أن يشهد أني على حقي من كذا وكذا وأني قد طلبته فإذا مات بعده كان لوارثه الطلب به. وروي بسقوطه بالموت عن الحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي وبه قال الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي - ثم ذكر المستند لذلك فقال: ولنا أنه حق فسخ ثبت لا لفوات جزء فلم يورث كالرجوع في الهبة ولأنه نوع خيار جعل للتمليك أشبه خيار القبول.
__________
(1) المبسوط جـ 14 ص 116.
(2) حاشية ابن عابدين جـ 6 ص 241.(3/261)
الحال الثاني إذا طالب بالشفعة ثم مات فإن حق الشفعة ينتقل إلى الورثة قولا واحدا، ذكره أبو الخطاب وقد ذكرنا نص أحمد عليه، لأن الحق يتقرر بالطلب ولذلك لا يسقط بتأخير الأخذ بعده وقبله يسقط.
وقال القاضي يصير الشقص ملكا للشفيع بنفس المطالبة، وقد ذكرنا أن الصحيح غير هذا فإنه لو صار ملكا للشفيع لم يصح العفو عن الشفعة بعد طلبها كما لا يصح العفو عنها بعد الأخذ بها. فإذا ثبت هذا فإن الحق ينتقل إلى جميع الورثة على حسب مواريثهم، لأنه حق مالي موروث فينتقل إلى جميعهم كسائر الحقوق المالية. أهـ (1) .
القول الثالث ثبوت الشفعة للورثة إذا مات مورثهم قبل العفو والأخذ لكون الشفعة حقا متعلقا بالملك الموروث فهي حق من حقوقه، وقد قال بهذا القول مالك والشافعي والعنبري وغيرهم وذكر أبو الخطاب من الحنابلة أن هذا القول يمكن تخريجه لأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فيورث كخيار الرد بالعيب قال الشيرازي:
وإذا مات الشفيع قبل الأخذ والعفو انتقل حقه من الشفعة إلى ورثته لأنه قبض استحقه بعقد البيع فانتقل إلى الورثة كقبض المشتري في البيع ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فورث كالرد بالعيب (2) .
وقال ابن رشد في معرض ذكره جملة من أحكام الشفعة هي موضع خلاف بين أهل العلم ما نصه:
فمن ذلك اختلافهم في ميراث حق الشفعة فذهب الكوفيون إلى أنه لا يورث كما أنه لا يباع، وذهب مالك والشافعي وأهل الحجاز إلى أنها موروثة قياسا على الأموال (3) .
وقد رد ابن قدامة - رحمه الله - على أبي الخطاب في قياسه الشفعة على خيار الرد بالعيب فقال: ولنا أنه حق فسخ ثبت لا لفوات جزء فلم يورث كالرجع في الهبة ولأنه نوع خيار جعل للتمليك أشبه خيار القبول، فأما خيار الرد بالعيب فإنه لاستدراك جزء فات من المبيع. أهـ (4) .
هذا ما تيسر ذكره، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) المغني جـ 5 ص 310 - 311.
(2) المجموع ومعه المهذب جـ 14 ص 176.
(3) المدونة جـ 2 ص 260.
(4) المغني جـ 5 ص 310.(3/262)
ملخص
قرار هيئة كبار العلماء
المتعلق
بمسألة الشفعة فيما لا يمكن قسمته من العقار
الحمد لله بعد الإطلاع على البحث المعد في (مسألة الشفعة فيما لا تمكن قسمته من العقار) من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وبعد تداول الرأي والمناقشة من الأعضاء وتبادل وجهات النظر قرر المجلس بالأكثرية: أن الشفعة تثبت بالشركة في المرافق الخاصة، كالبئر والطريق والمسيل ونحوها. كما تثبت الشفعة فيما لا تمكن قسمته من العقار كالبيت والحانوت الصغيرين ونحوهما لعموم الأدلة في ذلك، ولدخول ذلك تحت مناط الأخذ بالشفعة وهو دفع الضرر عن الشريك في المبيع وفي حق المبيع ولأن النصوص الشرعية في مشروعية الشفعة تتناول ذلك. ومن ذلك ما رواه الترمذي بإسناده إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الشريك شفيع والشفعة في كل شيء (1) » وفي رواية الطحاوي بإسناده إلى جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «قضى بالشفعة في كل شيء (2) » قال الحافظ: حديث جابر لا بأس برواته. ولما روى الإمام أحمد والأربعة بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا (3) » قال في البلوغ ورجاله ثقات. ولما روى البخاري في صحيحه وأبو داود والترمذي في سننهما بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (4) » ووجه الاستدلال بذلك ما ذكره ابن القيم - رحمه الله - في كتابه أعلام الموقعين: أن الجار المشترك مع غيره في مرفق خاص ما مثل أن يكون طريقهما واحدا أو أن يشتركا في شرب أو مسيل أو نحو ذلك من المرافق الخاصة لا يعتبر مقاسما كلية، بل هو شريك لجاره في بعض حقوق ملكه، وإذا كان طريقهما واحد لم تكن الحدود كلها واقعة بل بعضها حاصل وبعضها منتف إذ وقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق. أهـ.
وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. . .
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1371) .
(2) سنن ابن ماجه الأحكام (2497) .
(3) سنن أبو داود البيوع (3518) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2214) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .(3/263)
وجهة نظر المخالفين
بالنسبة إلى الشفعة بالشركة في المرافق هو أن الشفعة لا تثبت إلا في العقار المشترك شركة مشاعة، ولا تثبت بالاشتراك في المرافق كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - وبالله التوفيق.(3/264)
محمد المعتصم
الدعوة الإصلاحية في
الجزيرة العربية
وحركة الجامعة الإسلامية
في منتصف القرن الثاني عشر الهجري. . ظهرت في الجزيرة العربية الدعوة الإصلاحية الكبيرة التي تزعمها الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، أي على مدى قرنين من الزمان تقريبا، والكتابات تتوالى في الشرق والغرب حول هذا الموضوع: مشيرة إلى الأثر الذي أحدثته وتحدثه هذه الدعوة الإصلاحية السلفية في العالم الإسلامي. ويعتمد معظم الباحثين في هذا الميدان على المصادر التاريخية الأصلية مثل الوثائق وغيرها من الأصول التاريخية.
وفي هذا المجال نعرض لأمر جديد بالنسبة لهذه الدعوة. . وهو مدى الصلة بينها وبين قيام السلطان العثماني عبد الحميد بالدعوة لفكرة " الجامعة الإسلامية " في أواخر القرن الثالث عشر الهجري.(3/265)
ففي السنوات الأخيرة من القرن الثالث عشر الهجري. . فكر السلطان عبد الحميد في قيام الجامعة الإسلامية، يدفعه إلى ذلك أسباب من أهمها: أن دولة الخلافة العثمانية كانت تمر في ذلك الوقت بأسوأ مراحل تاريخها. . ولم تعد تعرف باسم " الرجل المريض " فحسب. . بل وصلت إلى مرحلة " الرجل المحتضر ".
فتلك دول أوربا تقتطع أجزاء من أملاكها في آسيا وأوربا. . وهذه ثورات وفتن تجتاح البلاد والشعوب التابعة للدولة العثمانية. . ثم بعد هذا. . فإن نفوذها على العالم الإسلامي بدأ ينكمش، ودورها القيادي أخذ يتقلص.
ووسط هذه الدوامة من الأحداث التي هزت كيان الدولة العثمانية. . رأى السلطان عبد الحميد أن يلعب دورا؛ ربما يؤدي إلى إقالة دولته من عثرتها. . وإحياء نفوذها مرة أخرى على البلاد الإسلامية التابعة لها.
وقد رأى استغلال الوازع الديني في هذه البلاد ليقيم عليه مشروعا يحيي به الخلافة الإسلامية في الأستانة مرة أخرى (1) . من هنا كانت دعوة السلطان عبد الحميد لقيام فكرة " الجامعة الإسلامية " كرابطة دينية تجمع المسلمين في شتى العالم بعامة وفي المشرق الإسلامي بخاصة في جبهة واحدة. وهذه الجبهة تعمل تحت قيادة الخلافة في الأستانة " لتستظل بظلها، ولتعتصم بأمنها " (2) .
وكان السلطان عبد الحميد وهو يخطط لفكرة الجامعة الإسلامية، يأمل في نجاحها لتعود له السيطرة على العالم الإسلامي وليكسب من وراء ذلك مكاسب سياسية على حساب الدين. ولماذا لا تنجح دعوته في تجميع المسلمين؟ لقد نجحت دعوات أخرى مماثلة قامت في مناطق تدين بالطاعة والولاء للخلافة العثمانية، ومع ذلك انتشرت وتوسعت وتجمع الناس حولها (3) .
__________
(1) لوثورب ستودارد: حاضر العالم الإسلامي جـ 1 ص 270 وما بعدها.
(2) لوثورب ستودارد: حاضر العالم الإسلامي جـ 1 ص 270 وما بعدها.
(3) Mahmoud، S. F. O؛ Study in contemporary Islam p. 73(3/266)
وحين أخذ السلطان عبد الحميد يعقد تلك المقارنة، كانت تجول في خاطره نجاح دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية. لقد وصلت إلى ما وصلت إليه بفضل الأساس الذي قامت عليه وهو الدعوة إلى الإصلاح الديني. وانتشرت دعوته انتشارا هائلا لأنها تمسكت بمبادئ السلف. وهي رغم القضاء على دولتها سياسيا بقوة الجيوش ومناورات السياسة (1) ؛ فإنها ظلت صامدة. ولم يقتصر أمرها على أهل الجزيرة العربية فحسب، بل امتدت إلى خارجها.
ففي المساحة الواسعة الممتدة من المحيط الهادي شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا؛ نجحت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أن تجد لها أنصارا. وانتشرت في الملايو وأندونيسيا والهند (باكستان والهند وبنجلاديش حاليا) ووادي النيل وشرق أفريقية والشمال الأفريقي وغربي أفريقية. بل ذهب الأمر إلى أكثر من ذلك حينما قامت في تلك الآونة دول إسلامية في أفريقية على أساس " الدعوة الإصلاحية " التي نادى بها الشيخ (2) .
وحقيقة هامة يجب ألا تغيب عن أذهاننا، وهي أن العداء الذي قام في يوم من الأيام بين الدول العثمانية والدعوة الإصلاحية في مبدأ ظهورها. . قد امتد إلى سنوات عديدة بعد ذلك (3) . . وأصبح ذلك العداء التقليدي بالنسبة لهذه الدولة يتوارثه آل عثمان على امتداد تاريخهم وحتى زوال عهدهم بنهاية الحرب العظمى الأولى في عام 1923 م.
وعلى هذا النحو. . نجد السلطان عبد الحميد بعد حوالي نيف ومائة عام من قيام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدعوته الإصلاحية. . يأتي ليحارب الدعوة بدوره ويحاول تصفية وجودها. فإن كانت الحملات الحربية والمناورات السياسية وأساليب الدس لم تنجح في وقف تيارها. . فليستعمل لها الأسلوب الذي يناسبها - وهو القيام بدعوة دينية إصلاحية، يستقطب إليها جماهير المسلمين في أنحاء العالم.
ولعل الأثر العميق الذي تركته دعوة الشيخ في نفوس السلاطين العثمانيين، هو أنها استطاعت مع الدولة السعودية الأولى أن تقف في وجه الدولة العثمانية وجها لوجه. . وتحرر قسما هاما من الإمبراطورية العثمانية وهو شبه جزيرة العرب. ثم دعوتها الشعوب العربية كي تتحرر هي الأخرى من سيطرة الباب العالي. وكانت هذه السياسة سببا في إثارة العداء والحقد اللذين توارثهما آل عثمان تجاه الدولة السعودية.
وكان قيام السلطان العثماني بدعوته إلى قيام الجامعة الإسلامية لمنافسة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية يعني أنها كانت لا تزال تشكل خطورة كبيرة على زعامة الدولة العثمانية الروحية على العالم
__________
(1) الدولة السعودية الأولى (1157 - 1234 هـ) .
(2) دولة عثمان دان فوديو في غرب أفريقيا '' شمال نيجيريا ''.
(3) Mahmoud: Ibid p. 137.(3/267)
الإسلامي. فإنه رغم مرور أكثر من قرن على قيام هذه الدعوة الإصلاحية إلا أنها كانت تنتزع قسما كبيرا من نفوذ آل عثمان الديني، وتضم إلى جانبها قطاعا هاما من المسلمين الخاضعين لدولتهم.
ومن هنا قرر السلطان عبد الحميد القيام بعمل إيجابي في مواجهة نشاط هذه الدعوة ووقفها عند حدها. وتحقيقا لهذا الهدف. . تعددت اجتماعات السلطان عبد الحميد منذ عام 1277 هـ 1860 م - لبحث ما يمكن اتخاذه من إجراءات لوقف تيار دعوة الشيخ. . ومنعه من الوصول إلى المسلمين في أنحاء العالم. وفي نفس الوقت إقناعهم بفكرة الجامعة الإسلامية كبديل لهذه الدعوة.
وفي اجتماع سري عقده في الأستانة في أول صفر 1277 هـ 19 أغسطس 1860 م توصل الحاضرون إلى قرارات فيما يتعلق بهذا الأمر وهي:
1 - دعوة عدد من كبار الشخصيات في العالم الإسلامي، والتي تتمتع بمركز أدبي ونفوذ روحي في بلادها لزيارة الأستانة بدعوة من السلطان عبد الحميد. وهناك يعرض السلطان عليهم فكرة الجامعة الإسلامية - بوصفهم رعايا للدولة العثمانية - ويطلب إليهم استعمال نفوذهم في التأثير على مواطنيهم لينضووا تحت لواء الفكرة الجديدة، ويحاربوا أي اتجاه ديني آخر يستأثر باهتمامهم.
2 - إرسال دعاة من قبل الخلافة العثمانية إلى سائر البلاد الإسلامية، وخاصة في تلك التي وصلت إليها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومحاولة فض المسلمين من حولها.
3 - حشد العلماء والكتاب للكتابة ضد دعوة الشيخ، واتهامها بتهم جسيمة تنافي الدين فيكون ذلك سببا في بغض المسلمين لها.
وقد تم تنفيذ ما انتهى إليه أمر ذلك الاجتماع. . ووصل بالفعل إلى الأستانة عدد من الشخصيات المعروفة في العالم الإسلامي آنذاك، ومن ذوي التأثير والفاعلية أمثال جمال الدين الأفغاني وأبو الهدى الصيادي وغيرهما. وهناك قربهم السلطان عبد الحميد إليه، وأغدق عليهم، وعرض عليهم مشروع الجامعة الإسلامية (1) .
وفي نفس الوقت، قامت الدولة العثمانية بإرسال عدد من الدعاة من قبلها إلى سائر البلاد الإسلامية
__________
(1) لوثورب ستودارد: حاضر العالم الإسلامي جـ 1 ص 270 وما بعدها.(3/268)
لإقناع المسلمين بفكرة الجامعة الإسلامية على نطاق واسع، فوصل هؤلاء المبعوثون إلى مصر والسودان والمغرب والهند (الهند وباكستان وبنجلاديش حاليا) وأفغانستان والملايو للقيام برسالتهم التي تم الاتفاق على أهدافها في اجتماع السلطان عبد الحميد برجاله. هذه الأهداف تقضي بإقناع المسلمين في تلك الأقطار بأن السبيل الوحيد إلى إصلاح حالهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي هو إصلاح دينهم. وأن الجامعة الإسلامية قامت لهذا الغرض لتعيد إلى المسلمين قوتهم وحمايتهم من خطر الوقوع في قبضة الدول الغربية. وفي نفس الوقت يحذرون المسلمين مغبة " التردي في دعوة الوهابيين " وإلصاق التهم والمفتريات ضدها حتى يدللوا على صحة مفترياتهم واتهاماتهم.
وتحقيقا لأسباب دعوة السلطان عبد الحميد ونجاحها. . بادر السلطان في تنفيذ عدد من المشروعات الإصلاحية في العالم الإسلامي لإشعار المسلمين بجديته في أمر إصلاحه لأمور المسلمين. فكان أن نفذ مشروع سكة حديد الحجاز، والإغداق بلا حساب على إصلاح المسجد الحرام، وإدخال التحسينات عليه.
وقد وجدت الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، وهي على ذلك النحو من الاتجاه الديني تقبلا في أول الأمر من الشعوب الإسلامية لشعورها بالحاجة الفعلية إلى التضامن لمواجهة ما كان يمر بالعالم الإسلامي من أحداث. واستجابت تلك الشعوب لدعوة السلطان عبد الحميد التي استغل فيها مشاعر المسلمين بوصفه حامي حمى الإسلام وخليفة المسلمين، وخادم الحرمين الشريفين.
وفي اتجاه آخر نشطت الدولة العثمانية في تكتيل دعاتها وكتابها وعدد من الشخصيات الإسلامية والسائرين في ركابها لتأليف الكتب ونشر الرسائل على نفقتها ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته. فظهر عدد كبير من تلك الكتابات التي رصد لها مبالغ طائلة، تلصق الاتهامات بالشيخ، لتشوه بقدر الإمكان أمر الدعوة الإصلاحية التي نادى بها. وكان التركيز في تلك الحملة العدائية يتلخص في القول بأن دعوة الشيخ ما هي إلا دعوة إلى دين جديد. . وأن القائمين عليها قد أبطلوا الحج إلى بيت الله الحرام (1) .
واستمرت الحملة على ذلك النحو - وهي تجد من السلطان عبد الحميد العون والمساعدة والتشجيع. وكانت المؤلفات والرسائل التي تصدر في هذا الموضوع توزع في شتى أنحاء العالم الإسلامي. والقصد من ذلك غزوه فكريا على نطاق واسع في محاولة لتحطيم دعوة الشيخ وإزالة مكانتها من نفوس المسلمين.
__________
(1) Winder: Saudi Arabia in the 19 th century p. 73.(3/269)
لكن المسلمين شعروا بعد قليل بالهدف الحقيقي من وراء فكرة الجامعة الإسلامية. وهو أن السلطان عبد الحميد قد اتخذ من مشروعه هذا وسيلة لتحقيق أغراض سياسية ومصلحة ذاتية. فلم يكن أمر الجامعة هذه إلا لتأكيد ملك السلطان وتثبيت عرشه وحكمه المطلق. . ولوقف نشاط الدعوات الإصلاحية الحقيقية التي قامت داخل الإمبراطورية العثمانية. وأن السلطان استغل الوازع الديني في نفوس المسلمين ليفرض سيطرته عليهم، ويعيد تشديد قبضة الأتراك على بلادهم (1) .
وكان الفرق ظاهرا بين فكرة " الجامعة الإسلامية " والدعوة التي خاصمتها وهي دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. فحركة الجامعة الإسلامية تفرق بين المسلمين عنصريا ليسود عنصر على عنصر، ودعوة الشيخ الإصلاحية تدعو إلى خلق وعي إسلامي حقيقي في المجتمعات الإسلامية لتنهض من كبوتها، ولتطهر الدين من البدع (2) .
حتى الكتاب والدعاة الذين سخرهم السلطان عبد الحميد لمهاجمة دعوة الشيخ. . هؤلاء ما لبث أن كشف بعضهم الآخر. . وأوضح زيف ما يزعمه الآخرون بخصوص هذه الدعوة الإصلاحية. من ذلك ما كتبه المؤرخ التركي أحمد جودت؛ وهو من خصوم دعوة الشيخ؛ كتب معلقا على كتابات من زاملوه في الحملة على الشيخ ودعوته يقول:
(إن الرد على الوهابيين يستوجب من الذين يتصدون لهم ثقافة واسعة ومعرفة بأحوال البلاد العربية، الدينية والسياسية والاجتماعية، ووقوفا على علوم الدين، واطلاعا واسعا على الحركات الفلسفية، ومقدرة على الجدل والإقناع، وأسلوبا بارعا في الكتابة. وكل أولئك مفقود عند العلماء الذين قاموا يردون على الوهابية ردودا مشحونة بالسخف والهراء ويقدمون إليها بأيديهم الوسيلة إلى السخر منهم ومحاربتهم بسلاحهم) (3) .
وكان طبيعيا ألا تستمر فكرة الجامعة الإسلامية وهي على ذلك النحو من الاستغلال للدين وللمسلمين. فما لبث أن احتضرت بعد سنوات قليلة من قيامها. ثم كانت نهايتها مع الحرب العالمية الأولى.
واستمرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب باقية، قائمة على خدمة الإسلام، تحقق فكرة ابن خلدون القائلة: (بأن العرب البدو يستطيعون أن يؤلفوا قوة لها نشاطها ولها شأنها متى انقادوا إلى الدين. فمن يقارن بين مراحل ظهور الدين الإسلامي وانتشاره وبين مراحل ظهور الحركة الوهابية وانتشارها، وما سبق ظهورهما من جاهلية. . يجد أوجه الشبه واضحة) (4) .
__________
(1) Mahmoud: A Study in contemporary Islam p. 208.
(2) منير العجلاني: تاريخ المملكة العربية السعودية ص 350 - 360.
(3) أحمد جودت: تاريخ جودت ص 75.
(4) Winder، R. B.: Saudi Arabia in the 19 th century p. 167.(3/270)
إن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي جعل وحدانية الله فوق كل شيء. . وحررت الدين من البدع. . قد تجاوبت أصداؤها في كل العالم الإسلامي من الهند شرقا إلى إفريقية الغربية وساحل الأطلسي غربا.
وهي كحركة إسلامية تصحيحية لما انتشر من البدع والخرافات التي شوهت الإسلام وجرحت جماله قد أصبح لها أثر فعال في الحركات الإسلامية التي نشأت في المنطقة في أواخر القرن التاسع عشر والعشرين.(3/271)
عبد العزيز المسند
الحرب والصلح في
الإسلام
يفضل الإسلام دائما السلم، ويميل إلى الصلح ما دام ممكنا، يدعو إليه، ويقبله حين التفاوض، ولو لم تكن الشروط والبنود كلها في صف المسلمين.
وذلك لما في الحرب من ويلات وما تخلفه من آثار مؤلمة، ولكن إذا دعا الداعي فالمسلمون أسود، أركان حرب، صبر في اللقاء، صدق في العمل، يرون أن القتال جهاد في سبيل الله، نتيجته لهم فإما النصر وإما الشهادة. . . عن ذلك يقدمون على الحرب ولسان حالهم يقول:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا ... فما حيلة المضطر إلا ركوبها
وقد حفل التاريخ بالأمثلة والشواهد على ذلك و (صلح الحديبية) حدث مهم في تلك الفترة من تاريخ المسلمين، وسنستعرض جوانب منه في هذا البحث.(3/272)
الوضع العام
المسلمون الذين يحترمون المشاعر المقدسة، ويقدرونها حق قدرها ويعبدون الله عندها بعيدون عن (مكة) ومحرومون من الاقتراب منها وهم في دارهم الجديدة (المدينة المنورة) . . وقريش في (مكة) يدعون أنهم حماتها، وسادات المقدسات، وهم لا يعرفون التعبد حولها، بل يعصون الله عندها، ويصدون عنها أحق الناس بها. . .
والمسلمون ينتظرون الفرج ويستبطئون الإذن لهم بالاعتمار إلى البيت الحرام والطواف حول الكعبة، ولكن انتظارهم يطول. وتعلن قريش أن البيت مفتوح لكل أحد فيسارع المسلمون إلى الاستجابة ويقولون: نحن أولى الناس بالبيت فيقررون السفر إلى مكة بقصد العمرة واحترام البيت ورب البيت، وطبقا للشروط والترتيبات التي وضعها القرشيون لمن يريد أن يعتمر.(3/273)
مفاجأة محزنة
توجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة سائقا معه الهدي احتراما للبيت وتأكيدا لهدفه وصدق نيته، وليس معه سوى ألف ونيف ليس معهم سلاح. . . لكنه عندما قرب من مكة جاءته الأخبار بأن قريشا قررت صده عن البيت، وأنهم جمعوا له الجموع واستعدوا للحرب. . فلم يصدق ما سمع حتى رأى بنفسه الدليل على ما بيت له حينما لقيه خالد بن الوليد بمائتي فارس مقدمة لجيش القرشيين. . عند(3/273)
ذلك سارع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتغيير خط سيره ومال بمن معه ذات اليمين، ثم أمر بالنزول فجمع أصحابه. . فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال.
«أما بعد: فإنه بلغني أن قريشا قد جمعت جموعها تريد أن تصدنا عن البيت فأشيروا علي بما ترون. .! أترون أن نعمد إلى الرأس - يريد أهل مكة - أو نعمد إلى الذين أعانوهم فنخالفهم إلى منازلهم فإن جلسوا جلسوا موتورين مهزومين وإن طلبونا طلبوا طلبا مدانيا ضعيفا فأخزاهم الله (1) » .
فقام أبو بكر وقال: نرى يا رسول الله أن نعمد إلى الرأس فإن الله - جل ثناؤه - ناصرك وإن الله معينك ومظهرك.
__________
(1) صحيح البخاري الشروط (2734) ، سنن أبو داود الجهاد (2765) ، مسند أحمد بن حنبل (4/332) .(3/274)
احترام البيت
أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرحيل وتوجه إلى البيت وعندما اقترب من حدود الحرم بركت ناقته فقال الناس: خلأت. . - يعني حرنت وامتنعت - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
«ما خلأت وما الخلاء بعادتها ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة. . لا تدعوني قريش إلى تعظيم المحارم فيسبقوني إليه. . .! هلموا ها هنا (1) » . . .
فتأخر عن حدود الحرم وأخذ ذات اليمين حتى نزل في الحديبية على مقربة من الحرم وصار إذا حضر وقت الصلاة يأتي هو وأصحابه راجلين فيدخلون الحرم ويصلون ثم يعودون إلى منازلهم. . .
__________
(1) صحيح البخاري الشروط (2734) ، سنن أبو داود الجهاد (2765) .(3/274)
بدء المفاوضات
عندما علمت قريش بما فعل محمد. . اختارت رجلا من عقلائها هو حليس بن علقمة فبعثته لمقابلة محمد ومعرفة ما لديه. . فلما أخبر باسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «هذا رجل من قوم يعظمون الهدي فابعثوا له الهدي حتى يراه (1) » فسيقت الإبل في وجهه عليها علامات قلائد تدل على أنها مهداة للبيت. . فوقف مكانه يستعرضها فلم يكلم أصحاب رسول الله كلمة واحدة بل عاد أدراجه إلى مكة فقالت له قريش: ما وراءك؟ قال: أتى القوم بالهدي والقلائد. . وأقبلوا قاصدين البيت معظمين لحرماته ليس معهم سلاح فلا أراهم يصدون عن قصدهم.
فشتمه قريش وقالوا له: إنما أنت أعرابي لا علم لك بهذه الأمور ولقد أخطأنا ببعثك أنت إليهم.
ثم اختاروا عروة بن مسعود الثقفي الذي اشتهر بينهم بالعدالة والرأي وقالوا له: انطلق إلى محمد ولا نؤتى من قبل رأيك. . . فسار إليه عروة وقابله وقال له: يا محمد. .! جمعت أوباش الناس ثم سرت بهم إلى عترتك وبيضتك التي تفلقت عنك لتبيد خضراءهم. . تعلم أنني جئتك من عند كعب بن لؤي وعامر ابن لؤي قد لبسوا جلود النمور عند العوذ المطافيل يقسمون لا تعرض لهم خطة إلا عرضوا لك أمر منها.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنا لم نأت لقتال. ولكن أردنا أن نقضي عمرتنا وننحر هدينا فهل لك أن تأتي قومك فإنهم أهلي وإن الحرب قد أخافتهم، وإنه لا خير لهم أن تأكل الحرب منهم إلا ما قد أكلت فيجعلون بيني وبينهم مدة يزيد فيها نسلهم ويؤمن فيها شرهم ويخلوا بيني وبين البيت فنقضي عمرتنا وننحر هدينا ويخلوا بيني وبين الناس فإن أصابوني فذلك الذي يريدون. .! وإن أظهرني الله عليهم اختاروا لأنفسهم إما قاتلوا معدين وإما دخلوا في السلم وافرين. . فإني والله لأقاتلن على هذا الأمر الأحمر والأسود حتى يمضي أمر الله أو تنفرد سالفتي. . . - رقبتي - (2) » . . . فلما سمع عروة مقالته رجع إلى قريش فقال: (تعلمن أنكم أخوالي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولقد استنفرت لكم الناس في المجامع فلما لم ينصروكم أتيتكم بأهلي حتى سكنت بين
__________
(1) صحيح البخاري الشروط (2734) ، مسند أحمد بن حنبل (4/326) .
(2) صحيح البخاري الشروط (2734) ، سنن أبو داود الجهاد (2765) ، مسند أحمد بن حنبل (4/332) .(3/275)
أظهركم إرادة أن أواسيكم، ولقد تعلمن أني أحب الحياة بعدكم، وتعلمن أني قد رأيت العظماء، وقدمت على الملوك، فأقسم بالله أني ما رأيت ملكا ولا عظيما أعظم في أصحابه من محمد. إن منهم رجل يتكلم حتى يستأذنه في الكلام فإن أذن له تكلم، وإن لم يأذن له سكت. ثم إنه ليتوضأ فيبتدرون وضوءه يصبونه على رؤوسهم يتخذونه حنانا) . فلما سمعوا مقالة عروة داخلهم الرعب وفكروا في الأمر، وتراجعوا. . . وتشاوروا واجتمعوا الرجل والرجلين والجماعة والرهط.
لقد شكوا في خبر الرسول الأول ولكن أنى لهم أن يشكوا في خبر عروة الرجل المخلص لهم العاقل المجرب. إذا في الأمر جديد، والمسألة تستحق التفكير. . وقد يتغير الرأي وتتحول القوة إلى ضعف. . والعنجهية إلى تودد. . والكبرياء إلى هوان. .(3/276)
ساعة الصفر
أما في الجانب الآخر وفي جيش المسلمين فإنهم بعد سماعهم لحديث عروة، وموقفه المتصلب، وإدلاله بقوة قريش وتأكيده لتصميمهم بدأوا يتأكدون أن قريشا ستبيتهم وستبدأ القتال. . لكن قائدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأذن لهم بالقتال ولا باقتحام الحرم ولا بالمجابهة.
وحتى يبلغ الأمر غايته يأتي خبر طائر من مكة ينبئ بأن عثمان بن عفان قد قتل، وقد غدر به أهل مكة. - وكان بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليطمئن المستضعفين من المسلمين المتخلفين بمكة ويتفقد أحوالهم ويزور أهلا له هناك - عند ذلك ثارت ثائرة المسلمين واجتمعوا حول قائدهم يطلبون منه الإذن لهم بالقتال، ويؤكدون له خبر الغدر بعثمان، ويؤيد ذلك أن قريشا بعثت بخمسين فارسا يطوفون بجيش المسلمين ويعتدون على من شذ منهم. . . فوافق رسول الله على رد الاعتداء واستخلاص عثمان، والأخذ بدمه إن يكن قتل. . وهناك في الحديبية وعلى مقربة من حدود الحرم وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة يبايعه أصحابه على الجهاد حتى الموت. . فيتقدم الرجل ويتلفظ بالمبايعة وهو يصافح رسول الله. . ولما انتهت المبايعة بآخر مصافح من الجند وضع رسول الله يده اليسرى على اليمنى وقال: هذه عن عثمان. . لقد كانت القلوب مخلصة حقا وكانت العزيمة صادقة والرغبة في الاستشهاد جامحة. . فأنزل الله في ذلك الموقف قرآنا يتلى على مدى الدهر حيث يقول:(3/276)
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (1) {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (2) {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (3) {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} (4) .
وهكذا تنزل الوحي من الله جزاء للصدق والإخلاص، لأنه يعلم أن المؤمنين إنما جاءوا احتراما للبيت والحرم وقد تجنبوا الإثارة ورغبوا في السلم لكن أعداءهم اضطروهم للحرب فلما لم يجدوا بدا منها استعدوا لها استعدادا نفسيا عقيديا يغلب كل تجهيز مادي مهما بلغ من الفتك والإبادة. ويمضي الزمن وتبقى هذه الحقيقة حتى اليوم فالناس بحاجة إلى القوة النفسية قبل القوة المادية.
__________
(1) سورة الفتح الآية 18
(2) سورة الفتح الآية 19
(3) سورة الفتح الآية 20
(4) سورة الفتح الآية 21(3/277)
بوادر السلم تلوح في الأفق
في غمار الحماس وفي معمعة الاستعداد للحرب يأتي من مكة خبر يدل على أن عثمان ما زال حيا وأنه موقوف لدى قريش. . فتهدأ النفوس قليلا. . ويزداد الأمل في انفراج الأزمة فيتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعة يخبرونه بأن رجلا من قريش يدعى (سهيل بن عمرو) يستأذن في مقابلة رسول الله بصفته رسولا لقريش ونائبا عنهم. . فيقول رسول الله: «إذا سهل الأمر، ائذنوا له» . . فيدخل على رسول الله ومعه عرض من قريش يقول: نطلب من محمد أن يرجع عنا عامه هذا ولا يخلص إلى البيت فإذا كان العام القابل قدم إلى العمرة ودخل مكة ليس معه فرس ولا سلاح. . . فقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبدأ ونادى علي بن أبي طالب. . وأمره أن يكتب عقد الصلح.
بعد التفاوض على الشروط. . قال لعلي. . اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا. . لا نكتب هذا أبدا. . فقال رسول الله: (فكيف نكتب؟) قال: اكتب: باسمك اللهم. .! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وهذه حسنة اكتبوها. .) ثم قال: (اكتب: هذا ما تقاضى عليه رسول الله. .) فقال سهيل: والله ما نختلف إلا في هذا. .! قال رسول الله: (كيف. .؟ !) قال: لو كنا نعتقد بأنك(3/277)
رسول لصدقناك. ولكن اكتب اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله. قال: (وهذه حسنة اكتبها. .) فكتب علي العقد وكان من بين الشروط التي تم الاتفاق عليها: (أن بيننا العيبة مكفوفة، وأنه لا أغلال ولا أسلال وأنه من أتى من قريش إلى المدينة يرد إلى مكة. . ومن أتى من المدينة لا يرد إليها. وأن من رغب من القبائل الدخول في شرط الفريقين فله مثل شرطه.) ثم ختم الكتاب ووقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جانب المسلمين وسهيل بن عمرو عن جانب قريش.(3/278)
تنفيذ العقد يبدأ
بمفاجأة غريبة
عندما رفع الموقعان أيديهما موقعين عقد الصلح بشروطه دخل إلى المكان أبو جندل بن سهيل ابن عمرو موثقا بالحديد ربطته قريش عندما أسلم وقد أفلت من أيديهم والتجأ إلى المسلمين هاربا فلما رآه المسلمون قالوا: اللهم أبو جندل. .! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هو لي وقال أبوه سهيل: لقد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا فهو لي. . فانظروا في الكتاب. . فنظروا فوجدوا الشروط تنص على أنه لسهيل فأمر رسول الله برده إليه - فأخذ أبو جندل ينادي: يا رسول الله. .! يا معاشر المسلمين أتردونني إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ ! فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا جندل: قد لجت القضية بيننا وبينهم ولا يصلح لنا الغدر، والله جعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا (1) » فتأثر أبو جندل تأثرا عظيما لما يعلم ما سيلقاه من التعذيب - فقال رسول الله لوالده: (هبه لي) ! قال سهيل: لا. قال: (فأجره لي.) ! قال: لا. وكان مع سهيل في وفادته زميل له يقال له: مكرز بن حفص. . فقال له: أجرته لك يا محمد. . قال سهيل: لن أمض إجارتك.
وهكذا يتميز المسلمون بالوفاء حتى في الساعات الحرجة فلقد تأثر المسلمون كثيرا بهذا الموقف المحرج الذي حصل لأبي جندل. . والمسلمون لا يرضون الدنية في دينهم. . ولكنه الوفاء. . ولكنه رسول الله يعلم عن الله ما لا يعلمه صحابته وهم في طاعة رسول الله وفي متابعته يضربون المثل الأعلى لأنهم يعلمون أنه يصدر عن وحي من السماء. .!
ويقوم وفد قريش حاملا معه عقدا موقعا من محمد. . ويتفرق من شهد الصلح من المسلمين إلى خيامهم
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/326) .(3/278)
قد شردوا في تفكير عميق ولولا إيمانهم بمحمد وما جاء به لكان لهم ولقريش شأن عظيم.
فهل يصدق عاقل أن قوما جاءوا مكبرين محرمين ساقوا معهم الهدي يصدون عن البيت. .؟ ! وهل يتصور أن تقبل شروط الأعداء بما فيها من جيف وتحامل. .! ؟
إن كل ذلك بتدبير العزيز الحكيم. .! فرغم قسوة شروط الصلح إلا أن النتيجة للمسلمين. وسيحقق الله أملهم بالنصر والفتح وسيدخلون مكة مهللين ملبين قريبا. . وقد كان ذلك فدخلوها في العام القابل. . .!(3/279)
عبد العزيز المسند
الاسم: عبد العزيز بن عبد الرحمن المسند.
ولد في بريدة، وتلقى القرآن ومبادئ العلوم على مشائخها.
ثم كان من الدفعات الأولى - في دار التوحيد بالطائف وهناك حصل على الشهادة الابتدائية والمتوسطة والثانوية.
التحق بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة وحصل على الشهادة العالية منها. .
عمل مديرا لأحد المعاهد العلمية. . ثم عميدا لكلية الشريعة، وكلية اللغة العربية بالرياض. ثم عين مساعدا لمدير عام المعاهد العلمية والكليات. ثم مديرا عاما ثم نائبا لرئيس الكليات والمعاهد العلمية.
ويعمل الآن مديرا للمعاهد العلمية.
له نشاط في الدعوة إلى الإسلام في العالم الخارجي.
له نشاط ملموس في المحاضرات في مواضيع مختلفة.
له نشاط في برامج توجيهية هادفة في الإذاعة والتلفاز.
عضو في مؤسسة الجزيرة ومجلس إدارتها.
وعضو في جمعية البر بالرياض.(3/280)
محمد رجب البيومي
افتراء مغرض
حول
سعد بن معاذ
ليس من الغريب أن يندفع غلاة المستشرقين في تجريح سيد الأوس سعد بن معاذ حين أصدر حكمه العادل باستئصال بني قريظة إذ خانوا الله ورسوله وتآمروا بالمسلمين فحالفوا قريشا على حرب محمد ناقضين عهودهم الوثيقة، ومعلنين دفائن أحقادهم الثائرة. ثم صدق الله وعده فرد الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وحان أوان القصاص فارتضوا سعد بن معاذ حكما فجزاهم بما افتروا من العقوق والغدر أعدل الجزاء.
ليس من الغريب أن يندفع غلاة المستشرقين في ذلك عن غرض جائر وهوى مريض إنما الغريب حقا أن يستمع إليهم بعض عقلائنا المسلمين من كبار رجال القانون، فيروا في حكم سعد مغالاة كبيرة ولكنهم يحاولون تهوينها في نظرهم بعض الشيء حين يقولون: إن زمان سعد غير زماننا، وما يعد الآن(3/281)
مغالاة خطيرة في القرن العشرين لم يكن ليوصف بذلك في القرن السادس الميلادي، حين صدر هذا الحكم، فلكل عصر قوانينه وملابساته. . ولا أدري كيف يقولون ذلك وقد درسوا القوانين المعاصرة دراسة نافذة، وكان في مقدرتهم أن يطبقوها على قضية بني قريظة ليروا أن قوانين القرن العشرين لا تختلف في شيء عما أصدره سعد بن معاذ، ولكن أقوال ذوي الغرض من المستشرقين قد خدعت رجالنا عن عقولهم، فنسوا ما يحفظون، وتجاهلوا ما يعلمون، وسنضطر هنا إلى مخاطبتهم بلغتهم القانونية فنقول:
لقد كان بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين يهود بني قريظة معاهدة تحفظ حقوق الفريقين، وتقضي على كل فريق أن ينصر الآخر إذا واجه خطرا في حرب ولكنهم تآمروا به فانضموا إلى أعدائه، وأوقعوه بين شقي الرحى في المدينة مصطليا بنيران أعدائه المشركين من جهة، واعتداء حلفائه اليهود في ساعة العسرة من جهة ثانية فاقترفوا بذاك الغدر الشنيع ثلاث جرائم:
أ - رفع السلاح ضد سلطان المدينة مع الأجنبي المعتدي.
ب - دس الدسائس لدى العدو ضد المسلمين.
ج - تسهيل دخول العدو للبلاد.
وقانون العقوبات المصري، وهو أقرب قانون يعرفه من يؤاخذون سعدا من رجالنا القانونيين، يجعل الإعدام عقوبة كل جريمة من الجرائم الثلاث، وينص على ذلك في المواد 77، 78، 79 عقوبات. وهذه هي نصوصه على الترتيب:
م77 - يعاقب بالإعدام كل مصري رفع السلاح على مصر أو التحق على وجه يعمل في القوات المسلحة لدولة تحارب مصر.
م78 - كل من ألقى الدسائس إلى دولة أجنبية أو إلى أحد مأموريها أو إلى أي شخص يعمل لمصلحتها أو تخابر معها أو معه بقصد استعدائها على مصر أو تمكينها من العدوان عليها يعاقب بالإعدام سواء تحقق الغرض أم لم يتحقق.
م79 - يعاقب بالإعدام كل من سهل دخول العدو إلى البلاد أو سلمه مدنا أو حصونا أو منشآت أو مواقع(3/282)
أو موانئ أو سفنا أو طائرات مما يستعمل في الدفاع عن البلاد مما عد لذلك، أو نقل إليه أخبارا أو أرشده أو حرض الجنود على الانضمام إليه أو أثار الفتن والشائعات أو نحو ذلك.
فقانون القرن العشرين صريح في إدانة بني قريظة حيث ارتكبوا جميع ما تستحق جريمة واحدة منه الإعدام وسنعرض لخيانتهم بالتفصيل، حين نوجز سيرة سعد ليعلم القارئ المنصف كم تجنى عليه أعداء الإسلام إذ وصفوه بالوحشية والقسوة والغدر، وكم تنكب بعض رجالنا من القانونيين سبيل الإنصاف حين زعموا أن حكمه القضائي لا يوائم أحكام القرن العشرين، وقد فاتهم أن يحيطوا بالقضية من أطرافها ليروا شططهم البعيد، أما الرجل فبطل صادق ومسلم صريح. . وسنكتفي من تاريخه الرائع بما كان منه بعد أن أشرق في قلبه نور الإسلام، فبلغ به الخطوة السعيدة ودخل منه أبهاء التاريخ.
لم يعتنق سعد الإسلام عفوا ولكنه فكر وقدر، وحاور وجادل وقد عارض في اعتناقه قبل أن يدرك حقيقته، مثله في ذلك مثل الفاروق عمر سواء بسواء - وحين أشرق الإيمان على روحه شعر كأنه انتقل إلى أوج زاهر مشرق ينأى به عن ظلمات الوثنية وحنادس الشرك، وقاد قومه إلى المجد التالد والعز الأبدي، فأصبح الأوس في المدينة يسالمون إخوانهم الخزرج، وكلهم فرح بالقرآن مبتهج بمحمد مؤاخ للمهاجرين، معاهد ربه على أن يحمي الدعوة الجديدة بروحه ودمه، قد صدق الأنصار ما عاهدوا الله عليه، فكانوا درع الإسلام وحصنه الركين.
وجاء الامتحان الأول في بدر، فقد خرجت قريش بجموعها الكثيفة لتدرك طائفة تظنها مستضعفة ذليلة وقد نفخ الغرور أوداج المشركين فتساقوا الخمور ودقوا الطبول وشرعوا الأسنة، وإن الثقة لتملأ نفوسهم فتريهم مصارع المسلمين قبل أن يبرحوا أمكنتهم وتقللهم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وقد أخذ رسول الله الأهبة وجمع أنصاره حوله يتشاورون فيما يواجهون به القوم من قوة وعتاد، وقد شع الإيمان القوي على لسان سعد حين أعلن للرسول استعداد الأنصار للجهاد في سبيل الله دون تباطؤ أو تخاذل وأرسل كلمة مؤمنة لا تزال تجلجل في أذن التاريخ فتعرض بطولة هذا الفدائي المؤمن الذي تهتف جوارحه من أعماقه (امض بنا يا رسول الله حيث تريد فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء) (1) وكانت هذه الصيحة الخالدة كفيلة بتوجيه الأنصار إلى الجهاد وإذكاء الحمية المؤمنة في القلوب وواضح أن معاهدتهم مع رسول الله حين قدم إلى المدينة لم تكن تحتم عليهم أن يحاربوا معه أعداءه خارج يثرب ولكنها توجب الدفاع عنه في نطاقها إذا تعرض لمن يغزوه بين ديارهم، فجاءت كلمة سعد شرطا آخر يجيز لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أن يلقى خصومه في أي ميدان يريد. ولو كان الأنصار وعلى رأسهم سعد ممن يترددون في الإيمان لحظة واحدة لأقصروا عن متابعة الرسول متعللين بما أخذوا به أنفسهم من شروط، ولكن الإخلاص للمبدأ والتفاني في
__________
(1) السيرة النبوية للحافظ ابن كثير جـ 2 ص 392 ط 1965 م.(3/283)
العقيدة، كلاهما ينبذ النصوص الضيقة فلا يتعلل في التخاذل عن الحق، بحروف وكلمات.
ولم يكن سعد يجاهد في بدر ببأسه وحده، ولكن عقله من فوقه يرسم الخطة ويدير المعركة، وقد اقترح على الرسول أن يبني له عريشا خاصا به كي لا يتعرض إلى سهم غادر أو رمية آثمة، وعضد رأيه بأن القيادة محتاجة إلى سياج خاص لتتمكن من إدارة المعركة بعيدة عن الزعازع في ظرف عاصف تغشاه النذر وتتهدده الخطوب. وقد أجاب محمد ما اقترح عليه ووقف سعد أمام العريش يدفع عنه بنفسه ويقول لرسول الله مطمئنا لو دارت الدائرة على الأنصار ففي المدينة من إخوانهم من يأخذون مكانهم ذيادا على الإسلام. . وقد صدق الله وعده وانكسر الشرك انكسارا فطأطأت له الرقاب ونكست من أجله الحياة، ونظر سعد فرأى كتائب الأسر تتلاحق وعفو رسول الله يفيض، فعرف الغضب في وجهه إذ كان على رأي عمر ممن يودون أن يقوم السيف بدوره في رقاب ظالمة معتدية، لم يكفها أن فر المسلمون من مكة حتى دفع الغرور أصحابها إلى مهاجمتهم بالمدينة واستئصالهم في غير ديارهم ولكن الرسول يطمئن سعدا فيعود إلى صفائه معتقدا أن هناك من يرجحه في النظر والتدبير.
توالت الوقائع بعد بدر في أحد والخندق فأما أحد فقد قام في حلبتها يعد بواجبه فناضل وجالد وتلقى الهزيمة في النهاية بعزيمة ماضية وإيمان حصين، وأما غزوة الخندق فقد كان سيد الأوس بها بطلا مرموقا تتوقف النتائج الحاسمة على كفاحه وجلاده، وقد راعه أن يغدر حلفاؤه اليهود من بني قريظة بعهودهم فيخونوا الإسلام في مأزق ضائق وينضموا إلى المشركين ليوقعوا المسلمين بين المطرقة والسندان. . وكانت هذه الخيانة الرهيبة محنة قاسية تصب ويلاتها المحرقة على الجيش الإسلامي فابتلي المسلمون وزلزلوا زلزالا شديدا، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وقد أظهر الذين في قلوبهم مرض من المنافقين ضغائنهم السوداء فارتابوا في الإسلام وقالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ثم استأذنوا في الانسحاب متمسكين بأوهى الخيوط ومعتذرين بأفضح التعلات، في هذه الغمرة الغاشية ثبت سعد ثبات الصناديد واستشعر مددا حافلا من السماء يباركه ويؤازره دون أن تميل به الظنون إلى يأس وقنوط بل زادته الرهبة إيمانا بالحق ويقينا بنصرة الإسلام، فحين عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غطفان أن تأخذ ثلث ثمار المدينة وتنفض يدها من الحرب راجعة أدراجها ثانية فتتفرق كلمة المشركين ويدرأ الإسلام بعض الخطر عن كيانه، حين عرض ذلك لم يقبل سعد بن معاذ أن يذيق أعداءه خير بلاده، وقال: (يا رسول الله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطعمون منا ثمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام نعطيهم أموالنا ونهديهم خيرنا؟ ! والله ما لنا بهذا من حاجة ووالله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم) (1) وهذا قول يصدر عن حمية وأنفة، وقد أدرك الرسول صدق صاحبه وإخلاصه، فنزل على رأيه ورفض الصلح مع غطفان، وفي استماع محمد إلى رأي سعد تقدير
__________
(1) السيرة النبوية للحافظ ابن كثير جـ 2 ص 202 ط 1965 م.(3/284)
للجندي المخلص وإعزاز لمن يتمسكون بالحق من الأباة المناضلين، ثم هو في الوقت نفسه مثل رفيع للقادة الذين يتطلعون إلى النصر في أحرج أوقاتهم إذ عليهم أن يتدبروا الأمور فلا ينفردوا بأمر دون استشارة وتمحيص فتتحد الكلمة وتتجمع القلوب.
وقد انجلت الغواشي الحالكة عن المسلمين بسلام، وعادوا إلى المدينة ظافرين بعد أن أظهر الله نعمته على عباده بالظفر والانتصار، وقد أصيب سعد أثناء المعركة بسهم حاد هز من كيانه وزعزع بأسه فحمل إلى خيمة قريبة ليسعف بالعلاج وكان إذا ضعضعه الألم يصيح داعيا: اللهم لا تمتني حتى أشتفي من بني قريظة، إذ أن هؤلاء الغادرين قد آسفوه بخيانتهم الأثيمة، فما راعوا إلا ولا ذمة، وكان سعد مع قومه من الأوس قد شفع لديهم بادئ ذي بدء ليرجعوا عن غدرهم الفاضح، فما راقبوا الله في حلف أو ميثاق، حتى إذا انكشفت الغمة قبعوا في حصونهم يترقبون ما تتمخض عنه الحوادث، وطبيعي أن يعجل المسلمون بعقاب هؤلاء الخونة عقابا رادعا، فاتجهوا إليهم على الفور وحاصروهم في ديارهم خمسا وعشرين ليلة أججت القلق والحسرة في ضلوعهم فعرضوا شروطا للجلاء كما فعل بنو قينقاع، وأملوا أن يتقبلها الرسول بقبول حسن، وقد اتجهت أنظارهم إلى حلفائهم من الأوس ليكونوا شفعاءهم لدى محمد ورسول الله يدرك نفسيات قومه فيضع الشيء في موضعه إذ يختار سعد بن معاذ ليكون فيصلا قاطعا ينزل الفريقان على رأيه وسعد من هو شدة حمية وقوة إيمان، وقد قدر الموقف تقدير من شاهد كروبه ومآزقه وعرف النذر المستطيرة التي تراءت في الأفق فأوشكت أن تطيح بالعصبة المؤمنة لولا عناية الله بالرياح الثائرة، وقد هم بعض أصحابه يزينون له الإحسان في مواليه ويجنحون به إلى السلام والفداء فماذا فعل عند ذاك؟ لقد حكم بأن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء، وأمر الرسول بتنفيذ الحكم، فخندق الخنادق لدى سوق المدينة ثم أخرج اليهود أرسالا إليها طائفة بعد طائفة فضربت أعناقهم ولاقوا أسوأ مصير على أفظع خيانة توجه إلى معاهد مسالم يأمن حلفاءه فيأتيه الروع في مأمنه الحصين.
وقد كانت صرامة هذه العقوبة مدعاة للتقول على الإسلام دون عدالة وإنصاف فالمسلمون لم يتجنوا على بني قريظة باستئصالهم المبيد.
لأنهم متهمون بالخيانة العظمى.
وقد ثبتت تهمتهم ثبوتا قامت دلائله وفدحت نتائجه، وهذه الخيانة الخطيرة ليس لها في جميع الشرائع غير الإعدام السريع ولم يكن اليهود أسرى حرب فيميل بهم إلى الشفقة، ولكنهم شر من الأعداء إذ بيتوا الغدر لأناس يأمنونهم ويخصونهم بحقوق الجار، وواجبات الذمام. وموقفهم هنا يختلف اختلافا واضحا عن موقف بني قينقاع وبني النضير فالأولون قد أبدوا البغضاء(3/285)
من أفواههم وأشاعوا الريب والشكوك ورأوا في الدعاية المغرضة سلاحا لا يفل، والآخرون قد ائتمروا على قتل الرسول وتحالفوا مع بعض المنافقين على المناجزة دون أن تتيح لهم الفرص طريقا يصلون منه إلى التنفيذ، وهؤلاء وأولئك أهون خطبا من الذين سلوا السيوف ووقفوا في صفوف العدو وأوقعوا الهلع في قلوب يحيط بها الروع من كل ناحية.
فتعادل الكفتين بينهما طيش لا يقره إنصاف. وقد جلا بنو قينقاع وبنو النضير عن المدينة فكانوا مثار القلق والفتنة، ومبعث الضيق للمسلمين فهم الذين ألبوا الأحزاب وجمعوا القبائل مع المشركين ليوم الخندق فأعطوا بمؤامراتهم المزعجة محمدا درسا حاسما يحتم استئصال شأفتهم، وتتبع أفاعيهم في كل مكمن ليطفئ لهبا يستعر إذا هبت عليه الريح وقد تحقق الدرس مبدئيا في يهود بني قريظة، وظهرت نتائجه الحاسمة في خيبر حيث تعرض اليهود على يد محمد لزلزال رهيب.
والذين يستهولون حكم سعد على حلفائه يجهلون أن التوراة التي يدين بها هؤلاء اليهود توجبه وتفرضه، فهو حكم يعلمونه من نصوصهم ويشيدون بعدالته في أطوائهم وما على المسلمين ملامة إذا قضوا بحكم يعترف به أعداؤهم دون أن يجدوا وجها للنقض والاستئناف فقد جاء بالإصحاح العشرين في سفر التثنية (وإن لم تسالمك أي قرية بل حاربتك فحاصرها وإذا دفعها الرب إلهك إلى يديك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف) .
ويقول الزعيم الهندي الكبير مولاي محمد علي تعليقا على هذا النص في كتابه " محمد رسول الله ": (لقد كان القاضي من اختيارهم وكان الحكم مطابقا كل المطابقة لشريعتهم فماذا يمكن أن يعاب في ذلك على النبي)
وهذا تعليق نؤيده ونستشهد به لكننا نخالف المؤلف الكبير حين ذكر أن يهود بني قريظة لو تركوا أمرهم للنبي دون سعد لقضى عليهم بما قضى به على يهود بني قينقاع وبني النضير، نخالفه في ذلك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسوي في الحكم بين جريمتين متباعدتين تقف إحداهما عند الهم، وتتجاوزه الأخرى إلى التنفيذ والمناجزة، وما لنا نبعد وأمامنا قول الرسول لسعد: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات (1) » وإذا كانت الموازنة الدقيقة تكشف عن معادن الرجال وتبين الفروق الواضحة بين الطيب والخبيث فإن موقف سعد من أحلافه يهود بني قريظة يبرز مدى إيمانه الراسخ إذا قورن بموقف عبد الله بن أبي من أحلافه يهود بني قينقاع حين اضطربت عليهم الأمور، وتكشفت للرسول ضغائنهم السود فقد جاء رأس النفاق إلى رسول الله وهو يصيح (أحسن إلي في موالي، أحسن إلي في موالي) فأبطأ عنه الرسول فلجأ إلى التشهير ورفع صوته متشنجا كأنه يدافع عن حق صريح ودفعه سوء الأدب فوضع يده في جيب محمد في صخب مفتعل وهو يقول: (لا
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3043) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1768) ، سنن أبو داود الأدب (5215) ، مسند أحمد بن حنبل (3/22) .(3/286)
أرسلك حتى تحسن إلي في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دراع تحصدهم في ليلة واحدة. وقد منعوني من الأحمر والأسود، إني والله لأخشى الدوائر (1) .
والدوائر التي كان يخشاها رأس النفاق ليست بالتي تصيب محمدا بأذى كما أراد عبد الله بن أبي أي يفهم عنه الرسول ولكنه كان يعتقد أن اليهود شوكة أليمة في جنب المسلمين، فإذا خلص الجو من نتنهم الوبيئ دارت على النفاق دوائره ورجحت كفة الإسلام، وذلك ما يؤرق ابن أبي ويضنيه، ولو صدقت نواياه نحو المسلمين لأظهر من الغيرة على الحق بعض ما أظهره سعد بن معاذ فيا طول ما بين الرجلين من أبعاد! وما عتم سيد الأوس أن انفجر جرحه فلقي الشهادة مستبشرا فائزا وكان لنعيه دوي عاصف في قلوب المسلمين، فهم يتحسرون على ابن سبع وثلاثين قد اكتملت له أسباب السيادة في ريق العمر وربيع الشباب فرفع قومه وحمى عقيدته وأخلص لدينه وقد وقف الرسول صلى الله عليه وسلم على قبره فتغير وجهه الكريم أسفا ثم كبر ثلاثا فكبر خلفه المسلمون حتى ارتج البقيع، فسئل عن ذلك فقيل يا رسول الله: (رأينا لوجهك تغيرا ثم سبحت) ، فقال: «تضايق على صاحبكم قبره وضمه ضمة لو نجا منها أحد لنجا سعد (2) » ثم قال: «هنيئا لك أبا عمر، جزاك الله خيرا من سيد قوم فقد أنجزت ما وعدت ولينجز الله وعده فيك (3) » وذهب محمد إلى بيته وإذا جبريل ينتظره ليسأله: «من رجل من أمتك (4) مات الليلة فاستبشر بموته أهل السماء» لقد كان سيد الأوس والزعيم الشاب سعد بن معاذ.
__________
(1) السيرة النبوية للحافظ ابن كثير جـ 3 ص 7 ط 1965 م.
(2) السيرة النبوية للحافظ ابن كثير جـ 3 عن رواية الإمام أحمد في المسند.
(3) السيرة النبوية للحافظ ابن كثير جـ 3 عن رواية الإمام أحمد في المسند.
(4) السيرة النبوية للحافظ ابن كثير جـ 3 ص 245 عن الشيخين والترمذي.(3/287)
محمد رجب البيومي
1 - الدكتور محمد رجب البيومي.
* أستاذ النقد والبلاغة بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر.
* الحائز على الجوائز الأدبية الأولى لمجمع اللغة العربية في الشعر والمسرحية والبحث الأدبي والتراجم الذاتية.
* من مؤلفاته:
1 - ابن حنبل.
2 - علماء في وجه الطغيان.
3 - البيان القرآني.
4 - خطوات التفسير البياني.
5 - البيان النبوي.
6 - مع الأبطال.
7 - موقف النقد الأدبي من الشعر الجاهلي.
8 - نظرات أدبية 4 أجزاء.
9 - الأدب الأندلسي بين التأثر والتأثير.
10 - محمد توفيق البكري في الميزان.
مسرحيات: ملك غسان - فوق الأبوة - بأي ذنب - انتصار.
يكتب منذ ربع قرن في كبريات المجلات الأدبية والعلمية في الوطن العربي.(3/288)
محمد أحمد العزب
الأمومة
في حياة النبي ووصاياه
ونظرة على دورها في البناء والتوجيه
وحين نودع القرآن لنسير - بعد. . في ظلاله المديد. . متلفتين في منادح المجتمع الإسلامي العريض في محاولة الوقوف على مكانة (الأم) في مثل هذا المجتمع. . لا نستطيع إلا أن نقف لحظات في خشوع وإطراق، أمام الأمومة الشاهقة العظيمة التي أنجبت (محمدا) والتي استطاعت رغم انعتاقها الوامض من رحلة الزمن، أن تغرس فيه كل حوافز التصعيد والسموق. . وأن تهبه في لحظات زمنية خاطفة، كل ما يمكن أن تهبه الأمومة الحالية لوليدها من عطف. . ومن حب. . ومن روعة حنان.
ولسنا ندري بعد - ماذا كان يمكن أن يكون. . لو أن محمدا لم يذق في حياته - ولو لفترة زمنية مضغوطة - الحنان في صدر أمه الدافئ؟ أم أن السماء كانت معه على موعد، حين حرمته هذا الصدر النابض الحنون، حتى تذكى في أعماقه(3/289)
المضيئة قبس الحب لهذه الإنسانة (الأم) فيخلدها في كل طور من أطوار الزمن. . وفي كل جيل من أجيال التاريخ؟ إن المتصفح لتاريخ النبوة. . وما كان عليه الرسول في هذه المجالات لا يستطيع أمام هذا الطوفان الزاخر من اهتماماته الرائعة بالأمومة إلا أن يرجع بآصرة النسب بينهما إلى وشائج أقوى من وشائج اللحم والدم. . لأن محمدا لم يرتفع بالحديث عن كائن بشري كما ارتفع به عن الأمومة. . وكأنما كان يمنح فيه من معين لا ينضب، أو يقتبس فيه من جذوة لا تخبو مع الأيام!
وفي ظلال من رحلة تلمسنا فيها جذور هذه العاطفة، وأغوار هذا الوجدان، لا نستطيع أن ننفصل عن حتمية العودة إلى طفولة محمد، لنرى كيف كانت أمه آمنة بنت وهب إلى جواره؟ هل كانت نبع عطف، وغدير إيمان، فغمرت وليدها البازغ في بهاء ذلك العطف، وصفاء هذا الإيمان، حتى استحال كيانه كله، إلى نبضات خافقة بحب الأمومة، وخلجات هامسة بما لها على الإنسانية من فضل تتضاءل حياله الأفضال؟ أم ماذا؟
ها نحن مع مطالع بزوغ هذا الفجر. . مع محمد جنينا في بطن أمه. . مع إحساساتها الطافرة نحو هذا الجنين الذي ما زال يغالب التيار في ظلمة المجهول. مع حديثها الوامض عن هذه المرحلة من مراحل حملها بالنبي. . قالت لحليمة السعدية ذات يوم: والله ما للشيطان عليه يا حليمة من سبيل وإن لابني هذا لشأنا. . أفلا أخبرك خبره. .؟
فهتفت حليمة: أجل. . قولي يا آمنة. .
فانهمرت أم النبي تقول: والله ما رأيت من حمل قط كان أخف من حمله ولا أيسر منه. .
إذا فالصداقة معقودة بين محمد وأمه حتى قبل أن يعانق محمد أضواء الوجود. .
وحين ولدته يا حليمة وقع وإنه لواضع يديه على الأرض، رافع رأسه إلى السماء. . أرأيت؟
إن أم النبي كانت ترى في الطفل صورة الرسول. . إن إحساسها العارم بتفوق الوليد الجديد قد أثرى إحساسها النابض بالحب. . وأذكى مشاعرها الأمومية البيضاء. . إلا أننا نجرم في جانب الحقيقة حينما نحصر(3/290)
الحديث عن أم النبي في هذا الإطار. . إطار المشاعر الحلوة، والعواطف الدافئة، والأحاسيس المنهمرة الثرة. . فما أكثر ما تنساب كل هذه الطاقات الهائلة بين الطفل الصاعد وأمه الرائمة. .
فلنثب بالحديث إلى عالم آخر فنتساءل: هل كان لأم النبي دور في تربيته وصقله، وإعداده لما ينتظره من دور على مسرح الوجود؟
الذي أعرفه أن آمنة أم النبي كانت مثلا رائعا للأمومة الحية النابضة. . تعهدت الطفل النبي منذ غضارته، فحدثته عن أبيه وعن روعة حياته. . كيف كان أملا مرجى. . وأسطورة فذة للرجولة، والمجد، والجمال. . حدثته عن قصة الفداء المذهلة، وكيف أن عيون قريش كلها كانت تقطر دما. . وهي تنظر من بعيد إلى شبح الموت القادم في ضوء النهار ليطوي تحت جناحيه الداكنين شباب عبد الله. . وكيف أن هذه العيون الدامعة احتشدت من بعد بالفرحة، وتألقت بأغاريد الخلاص. .
وما زالت به هكذا حتى السادسة، تصب في أذنيه ملاحم القوة، وأناشيد البطولة وذكريات الفداء. . حتى استوت للطفل الواعد شخصية تنبئ عن غد رجولي باسل. . وفريد. . وحين شارف هذه السن، ورأت فيه بوادر النضوج والاكتمال. . أصرت - لأن الدور هكذا يحتم عليها - أن تزور به قبر أبيه. . وتألقت دمعات الفرح على وجنتي الصبي أنه سيرى القبر الذي يرقد فيه الحنان الأعظم. . سيرى قبر أبيه الذي لم يره. . والذي طالما حدثته عن أيامه ولياليه أمه الساهرة على كلاءته. . سيرى أخواله هناك، في يثرب ستتوشج أواصر جديدة بينه وبين طفولات كثيرة. . فليذهب إذا. . وذهبا. .
وأخذت الأم وليدها لتريه البيت الذي مرض فيه أبوه. . والقبر الذي دفن فيه. وهي بين الفينة والفينة تختلس نظرات نافذة إلى طفلها الساهم، لعلها تريد أن تقرأ ما يجيش في داخله من خيالات. . وما تركته تلك الرحلة في أعماقه من انطباعات كل ذلك والفتى ساهم. . واجم. . كأنه يعايش بنظراته الذهلى من ثوى خلف هذا الركام. . أو كأنه يطالع في صمت روعة المعجزة التي فجرت من هذا الحفير الدارس المتواضع تاريخا سيحول التاريخ.
وعادت بمحمد أمه. . وانطلقت القافلة الصغيرة تضرب في بطون الأودية وشعاب الجبال. . ولكن الأم ما تزال صامتة. . كأنها خرساء. . إنها تعانق الأفق البعيد بنظرة ولهى. . بينما يذبل الربيع في وجهها الغارب شعاعا من وراء شعاع! ! وحين تخاذلت ذراعاها عن صدر الفتى المبهور. . تلفت إليها فيما يشبه الروع. . فضمته إليها في حنان راعش راعب مقرور. ثم انطلقت في خفوت واهن تتمتم: (كل حي(3/291)
ميت. . وكل جديد بال. . وكل كبير يفنى. . وأنا ميتة. . وذكري باق. . فقد تركت خيرا. . وولدت طهرا) ثم طواها بعد ذلك صمت أبدي رهيب. .!
وحفرت هذه اللحظات الحزينة المتألمة في أعماق النبي صورة لا تبهت، وانطباعا شاخصا لا يريم. . فعاش حياته كلها في إطار من هذه اللحظات الغائمة، ترتجف أعماقه كلما خايلته الذكرى، أو تخالجه ذهول الموقف المحموم. (1) .
وما زال محمد يردد في كلماته صدى ما عاش في ضميره من عذابات. . فحين يرى دار بني عدي بن النجار بعد الهجرة ينساب في ألم يقول: هاهنا نزلت بي أمي. . وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله. . وحين يمر بالأبواء في عمرة الحديبية يقول: «إن الله أذن لمحمد في زيارة قبر أمه (2) » فأتاه فأصلحه، وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكائه، فقيل له في ذلك فقال: (أدركتني رحمتها فبكيت. .) .
ويروي عبد الله بن مسعود: «خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما وخرجنا معه، حتى انتهينا إلى المقابر، فأمرنا فجلسنا، ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها، فجلس إليه فناجاه طويلا، ثم ارتفع صوته ينتحب باكيا! فبكينا لبكاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أن رسول الله أقبل إلينا فتلقاه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: ما الذي أبكاك يا رسول الله فقد أبكانا وأفزعنا؟ فأخذ بيد عمر، ثم أومأ إلينا فأتيناه، فقال: (أفزعكم بكائي؟ ؟ قلنا: نعم يا رسول الله. . فقال ذلك مرتين أو ثلاثا. . ثم قال: إن القبر الذي رأيتموني أناجيه قبر أمي آمنة بنت وهب. . وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي» . .! .
وكما كان محمد يقدس الأمومة في أمه. . فكذلك كان في موقفه من كل الأمومات لقد انعكس حبه الغامر لأمه الراحلة. . على كل أم في هذا الوجود. . فدأب على توعية الملايين بما للأمومة من حرمة، وما لمكانتها من جلال. . يتألق ذلك في تكريمه الموصول لمرضعته (ثويبة) مولاة أبي لهب. . فكان يصلها وهو بمكة. . فلما هاجر إلى المدينة كان يبعث إليها بصلة وكسوة. . إلى أن ماتت، فلما دخل مكة ظافرا لم تنسه نشوة النصر أن يسأل ما فعل ابنها مسروح؟
وكذلك كان تكريمه لحاضنته (أم أيمن) التي رافقته وأمه إلى يثرب. . وكان إذا رآها قال: «هي أمي. . بعد أمي» . . .
ولما ماتت فاطمة. . أم علي بن أبي طالب. . ألبسها قميصه واضطجع معها في قبرها فقال له أصحابه: ما رأيناك صنعت بأحد ما صنعت بها؟ فقال: «إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبر بي منها. . إني إنما ألبستها قميصي لتكسى حلل الجنة. . واضطجعت معها في قبرها ليهون عليها» . . .
__________
(1) راجع كتاب (أم النبي) للدكتورة بنت الشاطئ، وتاريخ مكة للأزرقي والسيرة الحلبية وصحيح مسلم.
(2) سنن الترمذي الجنائز (1054) .(3/292)
وكان حين يرى (حليمة) المرضعة. . يتلقاها هاتفا: " أمي أمي ". . ويفرش لها رداءه ويمس ثدييها بيديه. كأنه يتذكر فيها غضارة العمر، وبواكير الحياة. .
وحين تجيش في صدره الذكرى يجمجم: «لو أدركت والدي أو أحدهما وأنا في صلاة العشاء وقد قرأت فاتحة الكتاب. . تنادي يا محمد. . لأجبتها: لبيك» . .) .
سأله صحابي: «من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: " أمك ". . قال: ثم من؟ قال: " أمك ". . قال: ثم من؟ قال: " أمك ". . قال: ثم من؟ قال: " أبوك (1) »
وجاءه رجل يقول: «يا رسول الله، إن لي أما عجوزا أحملها على عاتقي كل يوم وأطوف بها حول البيت. أفأكون بذلك وفيتها حقها؟ فيقول له النبي: " لا. . ولا بزفرة واحدة. . إنها حملتك وهي ترجو حياتك. . وأنت حملتها. . وتنتظر رحيلها» ! .
«وحين يستأذنه رجل في الجهاد يسأله النبي: " أحية أمك؟ " فيقول الرجل: نعم. . فيقول له: " اذهب فجاهد في برها ". . فيعاود الرجل الإلحاح فيقول له النبي: " ويحك. . الزم رجلها فثم الجنة (2) » .
وتروي لنا أسماء بنت أبي بكر فتقول: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيته قلت: «قدمت على أمي وهي راغبة. أفأصلها؟ قال: نعم. . صلي أمك يا أسماء (3) »
ويحذر النبي من تعريض الأمومة للون من ألوان الهوان. . أو المهاترة. . أو السباب. . فيقول: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه " قيل: وهل يلعن الرجل والديه يا رسول الله؟ قال: " نعم. . يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه (4) » ! ".
وهكذا نجد أن الأمومة قد استوعبت في حديث النبي كل هذه الأبعاد المترامية، مما يؤكد لنا أن لها في أعماقه. . وتعاليمه جميعا. . مكانا يشبه الواحة الخضراء. . تتموج فيه الظلال المرهفة. . وتتناغى على حوافيها الزهور الوادعة. . وتأتلق في كل أرجائها روح الربيع الأخضر الجذلان.
وهكذا يسلمنا النبي مفاتيح البر بهذه الأمومة البرة. . حتى لا نستحيل في حياتنا الصاخبة إلى قطيع ذاهل منكود. . لا تربطه إلى أعماق حياته الواثبة وشيجة من عاطفة ولا سبب من أسباب البنوة البيضاء. . ولكن. . إذا كانت هذه مضامين الهتافات العالية الجريئة التي أطلقها محمد رسول الله في طريقه إلى دعم مكانة الأمومة، وتكريم دورها الخطير. . فما هي رسالة الأمومة في الحياة؟
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5971) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2548) ، مسند أحمد بن حنبل (2/391) .
(2) سنن النسائي الجهاد (3104) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2781) .
(3) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2620) ، صحيح مسلم الزكاة (1003) ، سنن أبو داود الزكاة (1668) ، مسند أحمد بن حنبل (6/355) .
(4) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .(3/293)
هل هي مجرد وعاء لحمى يستوعب بذور الخلق ليقذفها بعد آماد محدودة إلى عالم الوجود؟ أم هي مخلوق عاجز مشلول استقر كل هذا الحنان الصيب من قلب الرسول فجاش حيا نابضا في كلماته؟ أم تراها مصدر إشعاع روحي خطير إلى جوار كونها مصدر إشعاع وجودي أصيل؟
الذي أعرفه. . أن الأمومة لو كانت مجرد وعاء لحمي، أو مجرد قوة مشلولة تستأهل العطف. . لكانت في موازين الحياة أخف وزنا مما هي الآن. . فما أكثر ما نشاهد من حشرات. . أو دواب. . أهلتها طبيعتها المؤنثة لكي تصير أما تهب الوجود خلقا جديدا.
إن الأمومة قد تبوأت هذه القمة لأن لها دورا. . إنها صاحبة دور من أخطر أدوار البناء والتوجيه في حياة المجتمع. . فعلى قدر ما تبذل. . وتبني. . وتسدد. . نجل فيها مصدر العطاء وسبب الوجود. . وبمقدار ما تتخلى عن هذا الدور أو تنتكس. . ننغض إليها الرأس احتقارا ونشيج عنها بالأعين ازورارا.
ألست معي في أن أما كأسماء بنت أبي بكر. . تعدل ملايين الأمهات ممن يقبعن داخل جدران بيوتهن. . يغزلن في قطن خائر رخو. . أو يجدفن في أمواج متلاطمة من دماء الأعراض والحرمات؟ إن هذه أم. . وتلك أم. . بحتمية التقائهما في إطار الإنجاب. . ولكن ما أوسع البون بينهما في مجالات الموازنة أو المقارنة، أو المضاهاة. . إن أسماء بنت أبي بكر. . أم عرفت حقيقة دورها في الحياة. . فدفعت بابنها الباسل عبد الله بن الزبير على خشبة الصلب، غير عابئة بثكل يقترب. . أو خطب يدمدم، أو إعسار أسى ينوح! ! وحين تلمح بوادر التردد تزحف على جبين عبد الله من خلال كلماته: يا أمي. . إني خائف أن يمثلوا بي بعد القتل! تنتفض في أمومة فدائية بطلة، تعتصر جراحها بيديها وهي تقول: امض على بركة الله يا بني. . فإن الشاة لا يضرها بعد الذبح أن تسلخ، فتحضأ بكلماتها نار الإقدام في أعماق الفارس المصلوب فيمضي إلى القتل. . كأنه ماض إلى موعد بسام.
وحين تطول بابنها ضراوة الصلب. . لا تقعي. . ولا تتهالك. . وإنما تمضي على طريقها الباسل بخطوات فيها تحد. . وفيها كبرياء. . ولا تزيد حين تنظر إليه على أن تغلف كلماتها بالسخرية ممن صلبوه فتقول: ها. . قولوا للحجاج. . أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟ !
لبيك من كل أعماقنا يا أسماء. . إننا أبناؤك وإن عز البديل عن عبد الله. . إننا أبناء كلماتك الشجاعة الفذة. . أبناء أمومتك الفدائية البطلة. . التي تتحرق إلى أمثالها شوقا أعماق الوجود! !
ومن هنا. . ومن نقطة انطلاقنا هذه. . نستطيع أن نلمح في إضاءة كاشفة نظرة الإسلام إلى الأمومة. . إنه يكرم في الأمومة قلبها النابض بالحب. . وعقلها الخافق بالمعرفة. . وجسدها المتأبي على نداءات الحضيض. . إنه يكرم فيها الأم. . والمدرسة. . والكيان المستعلي في كبرياء ذاتي نبيل.
وحين تتحقق للأمومة هذه الأقانيم. . أعني قلبها النابض. . وعقلها الخافق. . وجسدها الكبريائي. .(3/294)
فإنها لا محالة مؤدية دورها على أكمل وجه. . وأبدع الأنساق.
إنها ستنشر من حولها ظلال الحب الوارفة فتنشأ الطفولة في حصنها أليفة متعادلة لا تلوي بها عقد النقص. . ولا يعصف بكيانها شعور لاهب بالحرمان.
إنها ستضيء عقول أبنائها بمشاعل النور والمعرفة. فلا يتخبطون في أغوار الجهالة ولا يزحفون على بطونهم في سفوح الفراغ.
إنها ستلقنهم - في أسلوب عملي - قضية نظافة الجسد. . فلا يدمرونه في وهدة القاع، ولا يمزقونه على مذبح اشتهاء جنسي رخيص.
وهل تستطيع الأمومة أن تؤدي هذا الدور. . أو تنهض بهذه الأعباء. . ما لم يكن لها من دينها. . وبيئتها. . ومجتمعها. . وأنماط السلوك في عالمها. . حافز. . وموجه. . ومنير؟
الذي أعرفه. . أن الإسلام كدين. . وكطراز حياة. . عني في تعاطف جم بهذه الأبعاد المضيئة في حياة الأمومة. . إنه علمها كيف تحب أبناءها. . براعيم الحياة. . في قصد معتدل. . وفي غير إسراف. . إن الحب المسرف قاتل من غير شك. . تماما كالدواء المسرف، إنه يقتل الأحياء. . ومن هنا فقد حرص الإسلام على تعميق هذه الفكرة. . وإثراء هذا الاتجاه في وجدان الأمهات. . حتى لا ينقلب الحب إلى لون حاطم من ألوان التدليل الوبيل.
لقد أباح أن تضرب الأم طفلها إذا انحرف. . واستعصى انحرافه على التوجيه الهادئ. . واللوم الخفيف.
فقسا ليزدجروا. . ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم
ثم ماذا تستطيع الأمومة الجاهلة أن تفعله؟ هل تستطيع أن تربي جيلا من الأجيال ظامئا إلى المعرفة. . متشوقا إلى آفاق الحرية والتطلع. . والنور. .؟ إن فاقد الشيء لا يستطيع أن يهبه. . ومن هنا فقد أطلق الإسلام للمرأة جناحيها تحلق بهما في فضاء المعرفة اللانهائي. . حتى تؤهلها طبيعتها المتعلمة الواعية لتؤدي دورها كأم. . وكأم مثقفة. . ناضجة. . مكتملة النضوج تزرع في أعماق أطفالها روح النزوع الواثب الفاهم العملاق.
ثم. . من هي الأم التي فقدت جسدها كأنثى. . وعرضته سلعة رخيصة في سوق النخاسات؟ هل تستطيع مثل هذه الأم أن تنبت جيلا يؤمن بعزته. . وبوطنيته. . وبأنه منحدر من أصلاب مجتمع نظيف؟ أبدا. .(3/295)
فالتي فقدت نفسها لا تستطيع أن تعثر على أنفس الغير. . والتي تهون في مخادع الليل المريضة الصفراء. . لا يمكن أن تضيء كفها شعلة ولا أن تدفئ أنفاسها رعشة. . ولا أن ترعرع أحضانها طفلا يريد أن يعانق على الطهر أحضان الحياة!
ومن هنا كان الإسلام ثورة عاتية. . وعارمة. . على كل أنماط الأمومات الرخيصة التي تبيع الهوى. . وتنجر في بضاعة الأعراض. . إنه يؤمن بالنظافة الجسدية إيمانه بالنظافة الروحية. . حتى تستحيل الأم - في مفهوم أطفالها إلى مثل أعلى وإلى نموذج كريم. . فيشبون على خلق الطهر. . وتستقيم خطواتهم على طريق النبالة.
وهكذا. . نجد أن الأمومة هي المدرسة الأولى التي تتلقف أحضانها البراعم الخضراء. . فتشكلها على نحو أو آخر. . ولذلك. . فإن عناية الإسلام بها من هذه الزاوية. . هي في الواقع عناية بحقيقة الدور الذي تؤديه. . مما يؤكد لنا أن الأمومة رسالة قبل أن تكون وعاء لحميا. . ودور قبل أن تكون كيانا مستوجب الرحمة. . وحركة بناءة قبل أن تكون شيئا يفيض بمجرد الحنان.
ولكني في غمار الحديث عن الأمومة في الإسلام كدت أنسى أن البحث ليس محصورا في هذا الصدد. . وليس عائشا فحسب في هذا الإطار.
إن الحديث عن الطفولة يشكل جانبا من جوانب هذا البحث. . فلأترك الأمومة الآن - على كره مني - لأتحدث عن الطفولة في الإسلام.(3/296)
إسماعيل الأنصاري (1)
نشيد الفرح
بمقدم
النبي صلى الله عليه وسلم
إن خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد استقبل بنشيد يحمل الفرح العظيم بمقدمه هو:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
وقد رأيت سؤالا عن هذا النشيد هل كان حينما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة مهاجرا إليها أم كان بمناسبة لقاء أهل مكة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، أم عند عودته من غزوة تبوك؟ فكان ذلك مما حملني على البحث عن هذه الناحية فتحصلت على ما أسرده مع بيان مستند كل قول وتعقيب ما يحتاج إلى التعقيب فيما يلي:
__________
(1) الشيخ إسماعيل الأنصاري باحث برئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.(3/297)
إن هذا النشيد كان عند مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة مهاجرا إليها، روى ذلك البيهقي في " دلائل النبوة " وابن المقري في " الشمائل " وأبو سعد في " شرف المصطفى " والخلعي في " فوائده " ولفظ البيهقي: أخبرنا أبو عمرو الأديب أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي سمعت أبا خليفة يقول سمعت ابن عائشة يقول: «لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة جعل النساء والصبيان يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
» وقال أيضا: أخبرنا أبو نصر بن قتادة أخبرنا أبو عمرو بن مطر سمعت أبا خليفة يقول: سمعت ابن عائشة يقول: «لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
» ثم قال البيهقي: " وهذا يذكره علماؤنا عند مقدمه المدينة من مكة وقد ذكرناه إلا أنه إنما قدم المدينة من ثنيات الوداع عند مقدمه من تبوك والله أعلم " أ. هـ. كلام البيهقي وممن مال إلى هذا القول الإمام أبو عمر ابن عبد البر قال في كلامه على ثنية الوداع " أظنها على طريق مكة ومنها بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وظهر إلى المدينة في حين إقباله من مكة " فقال شاعرهم:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
نقل ذلك عن ابن عبد البر الحافظ ولي الدين أبو زرعة العراقي في " طرح التثريب " ج 7ص 229.
لكن رواية عبد الله بن محمد المعروف بابن عائشة هذه أعلت بالإعضال وبعبارة أخرى بالانقطاع، فقد قال الحافظ أبو زرعة العراقي في " طرح التثريب في شرح التقريب " ج 7ص 240 - 241 " هذا الذي ذكروه(3/298)
أي ابن عبد البر من إنشادهم هذا الشعر عند قدومه - عليه الصلاة والسلام - المدينة رواه البيهقي في دلائل النبوة وأبو الحسن المقري في كتاب الشمائل له عن ابن عائشة " ثم نقل عن والده الحافظ زين الدين العراقي أنه قال في شرح الترمذي " كلام ابن عائشة - أي المذكور - معضل لا تقوم به حجة " أ. هـ. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في " فتح الباري " ج 7 ص 209 شرح باب مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المدينة قال " أخرج أبو سعد في شرف المصطفى ورويناه في فوائد الخلعي عن طريق عبيد الله بن عائشة منقطعا «لما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة جعل الولائد يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
» وهو سند معضل ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك " أ. هـ. ثم قال الحافظ في شرح قول السائب بن يزيد " أذكر أني خرجت مع الغلمان إلى ثنية الوداع نتلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر " قال في فتح الباري " ج 8 ص 105 بمناسبة إيراد البخاري قول السائب المذكور (قد روينا بسند منقطع في الخلعيات قول النسوة «لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
» فقيل ذلك عند قدومه في الهجرة - وقيل عند قدومه من غزوة تبوك " أ. هـ.
هذا ما قرره الحافظان زين الدين العراقي وابن حجر العسقلاني حول رواية ابن عائشة هذه وهو الصواب ما وقع للمحب الطبري في " الرياض النضرة في مناقب العشرة " ج 1 ص106 - حيث قال: " عن ابن الفضل بن الحباب الجمحي قال سمعت ابن عائشة يقول أراه عن أبيه قال: «لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة جعل الصبيان والنساء والولائد يقولون:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
»(3/299)
خرجه الحلواني على شرط الشيخين " أ. هـ. نص الرياض النضرة. فقد تعقب الزرقاني في شرح المواهب اللدنية للقسطلاني ج 1 ص 359 قول المحب الطبري أن سند هذه الرواية على شرط الشيخين تعقبه قوله: " وفيه مغمز فالشيخان لم يخرجا لابن عائشة فلا يكون على شرطهما ولو صح الإسناد إليه " أ. هـ.
الثاني من أقوال العلماء في وقت إنشاد هذا النشيد " طلع البدر علينا " أن إماء أهل مكة قلنه في رجوعهم عند لقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح وأن الوداع مراد بمكة، نقل ذلك القاضي عياض في " مشارق الأنوار على صحاح الآثار ج 1 ص 136 عن كتاب ابن المظفر وتعقبه القاضي عياض بأنه خلاف ما قاله غيره من أن نساء المدينة قلنه عند دخوله المدينة وقال: والأول أصح لذكر نساء الأنصار ذلك عند مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فدل أنه اسم قديم لها، وقال بينها وبين الحفياء ستة أميال أو سبعة عند ابن عقبة وخمسة أو ستة عند سفيان " أ. هـ. كلام القاضي عياض ونقله عنه نور الدين علي بن أحمد السمهودي في " وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى " ج 2 ص 1170 - 1171.
الثالث من الأقوال في تاريخ هذا النشيد " طلع البدر علينا " أنه عند مقدم خير الخلق - صلى الله عليه وسلم - المدينة من غزوة تبوك، وتقدم ما يدل على اختيار البيهقي هذا القول، وهو أنه قال بعد ذكر القول بأن هذا النشيد عند مقدمه - صلى الله عليه وسلم - المدينة مهاجرا قال: " هذا يذكره علماؤنا عند مقدمه المدينة وقد ذكرناه عنده إلا أنه إنما قدم المدينة من ثنيات الوداع عند مقدمه من تبوك والله أعلم ". أ. هـ. وإلى هذا القول قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " قال: " «فلما دنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة راجعا من تبوك خرج الناس لتلقيه وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
» وبعض الرواة يهم في هذا ويقول إنما كان ذلك عند مقدمه المدينة من مكة وهو وهم ظاهر لأن ثنيات الوداع إنما هي من جهة الشام لا يراها القادم من مكة إلى المدينة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام " أ. هـ. كلام ابن القيم.(3/300)
وأيد الحافظ أبو زرعة العراقي في " طرح التثريب " ج 7 ص240 هذا القول في صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي عن السائب بن يزيد قال: «لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك خرج الناس يتلقونه إلى ثنية الوداع (1) » .
قال أبو زرعة وهذا صريح في أنها من جهة الشام قال: " ولهذا لما نقل والدي - رحمه الله - في شرح الترمذي كلام ابن بطال رأى في ذلك قال: إنه وهم قال: وكلام ابن عائشة معضل لا تقوم به حجة " أ. هـ.
قلت - القائل إسماعيل الأنصاري -: مما جاء بصدد كون هذا النشيد إثر قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعض غزواته رواه بن حبان في صحيحه قال كما في " موارد الظمآن " وزوائد ابن حبان " ص 493 - 494 أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة حدثنا زياد بن أيوب حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح حدثني الحسين بن واقد حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: «رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بعض مغازيه فجاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب على رأسك بالدف. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن نذرت فافعلي وإلا فلا فقالت: إني كنت نذرت. فقعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضربت بالدف وقالت:
أشرق البدر علينا ... من ثنيات الوداع (2)
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
» وقد سلك المؤيدون للقول الأول في الإجابة عما أورده الإمام ابن القيم والحافظ ولي الدين العراقي المسالك التالية:
1 - ما ذكره العلامة الشيخ حسين محمد بن حسين الديار بكري في الجزء الأول من تاريخ " الخميس في أحوال أنفس نفيس " فقد قال إثر كلامهما ص 342 (لكن قال زين الدين العراقي - أي والد ولي الدين -: يحتمل أن تكون التثنية التي من كل جهة يصل إليها المشيعون يسمونها ثنية الوداع. انتهى. قال مؤلف الكتاب - يعني الديار نفسه -: يشبه أن يكون هذا هو الحق ويؤيده جمع الثنيات إذ لو كان المراد بها الموضع الذي هو من جهة الشام لم يجمع ولا مانع من تعدد وقوع هذا الشعر عند قدومه - عليه الصلاة والسلام - من مكة ومرة عند قدومه من تبوك، فلا ينافي ما في صحيح البخاري وغيره - أي الذي استدل به العراقي وقد تقدم - ولا ما قاله " ابن القيم " أ. هـ. وقد نقله عنه الزرقاني في شرح المواهب اللدنية ج 1 ص300 وصرح في
__________
(1) سنن الترمذي الجهاد (1718) ، سنن أبو داود الجهاد (2779) ، مسند أحمد بن حنبل (3/449) .
(2) سنن الترمذي المناقب (3690) ، مسند أحمد بن حنبل (5/356) .(3/301)
الجزء الثالث ص 82 بما نصه " لا مانع من تعدد وقوع هذا الشعر مرة عند الهجرة ومرة عند قدومه من تبوك فلا يحكم بغلط ابن عائشة لأنه ثقة " أ. هـ.
2 - أن كون ثنية الوداع شمال المدينة لا يمنع كون ذلك النشيد عند مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها للهجرة لأنه - صلى الله عليه وسلم - ركب ناقته وأرخى لها زمامها وقال: «دعوها فإنها مأمورة» ومر بدور الأنصار حتى مر ببني ساعدة ودارهم في شمال المدينة قرب ثنية الوداع فلم يدخل باطن المدينة إلا من تلك الناحية حتى أتى منزله بها، وقد عرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في رجوعه من بدر إلى ثنية الوداع كما في مغازي ابن عقبة أنه - صلى الله عليه وسلم - سلك حين خرج إلى بدر حتى ثقب بني دينار ورجع حين رجع من ثنية الوداع. وهذا جواب نور الدين علي بن أحمد السمهودي في " وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى " ج 4 ص 1170 عن كلام ابن القيم في زاد المعاد المتقدم واستحسنه الزرقاني في شرح المواهب اللدنية ج 1 ص 360 واعتمد عليه في نفي الوهم عن ابن عائشة الذي عناه ابن القيم في عبارة " زاد المعاد " ببعض الرواة، قال الزرقاني: " هو جواب حسن وإن كان شيخنا البابلي - رحمه الله - يستبعده بأنه يلزم عليه أن يمر ويرجع على قباء ثانيا فلا بعد فيه ولو لزم ذلك لإرخائه زمام الناقة وكونها مأمورة ".
3 - مسلك المجد الفيروزابادي فإنه قال بعد أن نقل عن أهل السير والتاريخ وأصحاب المسالك ثنية الوداع من جهة مكة قال: " وأهل المدينة اليوم يظنونها من جهة الشام ". وكأنهم اعتمدوا قول ابن قيم الجوزية في هديه فإنه قال: " من جهة الشام ثنيات الوداع ولا يطأها القادم من مكة البتة، ووجه الجمع أن كلتا الثنيتين تسمين بثنية الوداع " أ. هـ. كلام المجد وقد تعقبه السمهودي في " وفاء الوفاء " ج 4 ص 1172 بقوله: " والظاهر أن مستند من جعلها من جهة مكة ما سبق من قول النسوة وأن ذلك عند القدوم من الهجرة مع الغفلة عما قدمناه من توجيهه وهو في الحقيقة حجة لمن ذكرها في جهة الشام، ولم أر لثنية الوداع ذكرا في سفر من الأسفار التي بجهة مكة " ثم قال السمهودي: " وإن سلم الجمع الذي ذكره المجد من الثنيتين يسمى بذلك، فالمراد من الأخبار المتقدمة كلها الموضع المتقدم بيانه في شمال المدينة، وكذلك من حديث السباق في أمد الخيل المضمرة أنه من الغامة أو الحفيا إلى ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق لانطباق المسافة المذكورة في ذلك على الموضع المتقدم كما سبق في مسجد بني زريق كما سيأتي في الحفيا، مع أن ما بين بني زريق وثنية المدرج لا يصلح للسباق أصلا وهو على نحو ضعفي ما ذكروه في المسافة " أ. هـ. كلام السمهودي.
هذه مسالك العلماء في وقت إنشاد ذلك النشيد العظيم أضعها بين يدي القارئ مقرونا كل مسلك منها بما يحتاج إليه من البحث، وأرجو أن يكون في ذلك ما يمكنه من ترجيح ما يرى ترجيحه حسب الأدلة، والله ولي التوفيق وهو حسبي ونعم الوكيل.(3/302)
تعيين مواقيت الصلاة في أي زمان ومكان على سطح الأرض
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن حاجة الإنسان إلى معرفة أوقات الصلاة (مواقيت الصلاة) أي ابتداء وقت الصلاة وكذلك نهاية هذا الوقت من الأمور الأساسية في حياة الإنسان المسلم، وعادة يعتمد الإنسان على سماع الآذان، إذا كان قريبا من المسجد، أو أنه يعتمد على التقويم إذا لم يستطع سماع الآذان.
وإذا علمنا أن الأوقات المذكورة في التقاويم تخص قليلا جدا من البلدان الرئيسية مثل عواصم الأقاليم وبعض المدن الكبيرة، بينما الغالبية العظمى من المدن والقرى يحتاج تعيين وقت الصلاة بها إلى تعديل المواقيت المذكورة في التقاويم، بما يتناسب مع فروق خطوط الطول والعرض، وهذا مما لا يتيسر إلا للمختصين في دراسة علم الفلك، وكذلك فإن هنالك مناطق عديدة أخرى لا توجد لها نتائج إطلاقا. . لذلك رأيت عمل هذا البحث خدمة للأمة الإسلامية وللمسلمين المقيمين في بلدان غير إسلامية، حتى يتيسر لهم معرفة وتعيين مواقيت الصلاة بطرق سهلة ومضبوطة.
وإنني أسال الله تعالى دوام التوفيق إلى الخير وإلى ما فيه صلاح المسلمين، وأن يتقبل منا هذا العمل الصغير، ويجزينا عليه من فضله الكبير، بجوده وإحسانه، والحمد لله رب العالمين.(3/304)
وإنني أتقدم بالشكر الجزيل لكل من عاون من الزملاء الأفاضل في إخراج هذا البحث إلى حيز الوجود.
تحديد الشرع الإسلامي لمواقيت
الصلاة
من المعلوم بالبديهة أن دخول الوقت شرط من شروط صحة الصلاة، وأن الصلاة كذلك يجب أن تؤدى في وقتها شرعا. وسوف نورد فيما بعد تحديد هذه المواقيت كما هو متفق عليه بين أئمة المسلمين.
وقد أشار إلى هذه الأوقات الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي، والنسائي عن جابر بن عبد الله، قال: «جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حين زالت الشمس، فقال: قم يا محمد فصل الظهر، حين مالت الشمس، ثم مكث حتى إذا كان فيء الرجل مثله جاءه للعصر، فقال: قم يا محمد فصل العصر، ثم مكث حتى إذا غابت الشمس جاءه فقال: قم فصل المغرب، فقام فصلاها حين غابت الشمس سواء، ثم مكث حتى إذا غاب الشفق جاءه فقال: قم فصل العشاء، فقام فصلاها، ثم جاءه حين سطع الفجر في الصبح، فقال: قم يا محمد فصل الصبح (1) » .
وإلى هنا قد بين هذا الحديث أول كل وقت، وله بقية اشتملت على بيان نهاية الوقت ومعناها أنه جاءه في اليوم التالي «وأمره بصلاة الظهر حين بلغ ظل كل شيء مثله، وأمره بصلاة المغرب في وقتها الأول، وأمره بصلاة العشاء حين ذهب ثلث الليل الأول، وأمره بصلاة الصبح حين أسفر جدا، ثم قال له ما بين هذين وقت كله (2) » .
فهذا الحديث وأمثاله يبين لنا مواقيت الصلاة بالعلامات الطبيعية التي هي أساس التقويم الفلكي، والساعات الفلكية (المزاول) ، ونحو ذلك، وسنذكر فيما يلي آراء الأئمة الأربعة في تحديد مواقيت الصلاة تفصيلا، بصرف النظر عن تقسيم الوقت إلى ضروري واختياري عند بعضهم، لأن المقصود في هذا البحث هو تحديد أوائل ونهايات مواقيت الصلاة.
__________
(1) سنن النسائي كتاب المواقيت (526) ، مسند أحمد بن حنبل (3/331) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (149) ، سنن أبو داود الصلاة (393) ، مسند أحمد بن حنبل (1/333) .(3/305)
وقت الظهر
يدخل وقت الظهر عقب زوال الشمس، فمتى انحرفت الشمس عن وسط السماء، فإن وقت الظهر يبتدئ ويستمر إلى أن يبلغ ظل كل شيء مثله، وذلك بالإضافة إلى الظل الذي كان موجودا لهذا الشيء عند الزوال، وقد خالف في ذلك المالكية، فقالوا: إن هذا هو وقت الظهر الاختياري، أما وقته الضروري فهو من دخول وقت العصر الاختياري، ويستمر إلى وقت الغروب.(3/306)
وقت العصر
يبتدئ وقت العصر من زيادة ظل الشيء عن مثله بدون أن يدخل في ذلك الظل الذي كان موجودا عند الزوال، وينتهي عند غروب الشمس، أما المالكية فقالوا: إن للعصر وقتان ضروري واختياري، فأما الضروري فإنه يبتدئ باصفرار الشمس في الأرض والجدران لا باصفرار عينها، لأنها لا تصفر حتى تغرب ويستمر إلى الغروب، وأما وقته الاختياري فهو من زيادة الظل عن مثله، ويستمر لاصفرار الشمس، والمشهور أن بين الظهر والعصر - عند المالكية - اشتراكا في الوقت بقدر صلاة أربع ركعات في الحضر، واثنتين في السفر.(3/306)
وقت المغرب
يبتدئ وقت المغرب بعد مغيب جميع قرص الشمس تحت الأفق، وينتهي وقت المغرب بانتهاء الشفق الأحمر.(3/306)
وقال الحنفية: إن الأفق الغربي يعتريه بعد الغروب أحوال ثلاثة متعاقبة، احمرار، فبياض، فسواد. وإن الشفق المقصود هنا هو الشفق الأبيض بظهور السواد، فمتى ظهر السواد انتهى وقت المغرب.
وقال المالكية: إنه لا امتداد لوقت المغرب الاختياري، وأن وقت المغرب هو فقط بقدر الزمن الذي يحتاج إليه الإنسان لأداء الأذان والإقامة والطهارة ثم الصلاة، وبذلك ينتهي وقت المغرب، أما وقتها الضروري فهو من عقب الوقت الاختياري، ويستمر إلى طلوع الفجر.(3/307)
وقت العشاء
يبتدئ وقت العشاء من مغيب الشفق الأحمر، ويستمر حتى طلوع الفجر الصادق. وقال الحنابلة: إن للعشاء وقتين، الأول الوقت الاختياري، وهو من مغيب الشفق إلى مضي ثلث الليل الأول. والثاني وهو وقت الضرورة يبتدئ من أول الثلث الثاني من الليل ويستمر إلى طلوع الفجر الصادق. وقال المالكية مثل ذلك.(3/307)
وقت الصبح
يبدأ وقت الصبح من طلوع الفجر الصادق، وهو أول ظهور ضوء الشمس - الغير مباشر - السابق عليها والذي يظهر من جهة المشرق، ثم ينتشر حتى يعم الأفق جميعه، ويصعد إلى السماء منتشرا. أما الفجر الكاذب، فلا عبرة به، وهو الضوء الذي لا ينتشر، ويظهر مستطيلا دقيقا يتجه إلى السماء وعلى جانبيه ظلمة.
ويمتد وقت الصبح (الفجر) إلى طلوع الشمس. وقال المالكية: إن للصبح وقتين، الأول اختياري وهو من طلوع الفجر الصادق ويستمر حتى الإسفار المبين - أي ظهور الضوء الذي تبدو به الوجوه بالبصر المتوسط(3/307)
في المكان المكشوف ظهورا بينا، وكذلك تختفي فيه النجوم، والثاني ضروري، وهو الوقت الذي يلي ذلك الوقت الاختياري ويستمر إلى طلوع الشمس.
ونستخلص مما سبق أن البدايات الشرعية لمواقيت الصلاة الخمسة هي: يبدأ دخول وقت الظهر بعد زوال الشمس، ويبدأ دخول وقت العصر عندما يصير ظل الواقف رأسيا مثل طوله زائدا عليه طول ظله وقت الزوال، ويبدأ وقت المغرب بعد مغيب قرص الشمس تماما تحت الأفق، ويبدأ دخول وقت العشاء بعد زوال الشفق الأبيض ودخول ظلمة الليل، كما يبدأ وقت الصبح (الفجر) عند بداية ظهور الضوء الأبيض - أي الفجر الصادق.
وإذا جمعنا بين الوقت الاختياري والوقت الضروري على رأي بعض الأئمة الفقهاء فإن النهايات الشرعية لمواقيت الصلاة تكون كالآتي:
ينتهي وقت صلاة الصبح عند أول ظهور لقرص الشمس من تحت الأفق، وينتهي وقت الظهر عندما يصير ظل الجسم الرأسي مثل ارتفاعه مضافا إليه ظل الجسم وقت الزوال، وينتهي وقت العصر باختفاء قرص الشمس تحت الأفق، ثم ينتهي وقت المغرب بانتهاء الشفق الأبيض، كما ينتهي وقت العشاء بظهور الضوء الأبيض في المشرق - أي طلوع الفجر الصادق.
ومن ذلك نجد أنه يمكن الوصل بين بدايات الصلوات المفروضة وبين نهايات البعض الآخر منها. فإن ابتداء دخول وقت العصر يعني انتهاء وقت الظهر، وأن دخول وقت المغرب هو انتهاء وقت العصر، وأن ابتداء وقت العشاء هو انتهاء وقت المغرب، وكذلك فإن ابتداء وقت الصبح هو انتهاء وقت العشاء، وأما انتهاء وقت الصبح فيكون بأول بزوغ قرص الشمس من تحت الأفق.
وعلى ذلك نجد أن المواقيت المطلوب تعيينها لتحديد البدايات والنهايات لمواقيت الصلوات الخمسة هي ستة أوقات في كل يوم من الأيام وهي أوقات الشروق والزوال والغروب وانتهاء الشفق وطلوع الفجر الصادق، وعندما يبلغ ظل الجسم الرأسي مثل طوله مع إضافة ظل الزوال إليه.(3/308)
الربط بين تحديد الشرع والفلك والحساب
لتبين مواقيت الصلاة
مما سبق علمنا رأي الشريعة الإسلامية الغراء في تحديد مواقيت الصلوات الخمسة، وعلينا الآن أن نربط بين رأي الشريعة والظواهر الفلكية للشمس والضوء والحساب حتى نستطيع التعبير عن مواقيت الصلاة بالساعات الزمنية المستعملة الآن.
يتضح مما سبق أن حركة الشمس الظاهرية في السماء هي المعول عليها في بيان مواقيت الصلاة، ولما كانت الشمس تبدو لنا قرصا متسعا، وليست نقطة ضوئية مثل النجوم، وأن الشمس عند غروبها يجب اختفاء سطحها الأعلى تحت الأفق أي أنه يجب اختفاؤها تماما. بينما عند شروقها يكفي بزوغ أعلى جزء منها فقط بينما يكون أغلب القرص تحت الأفق، وعند الزوال تكون العبرة بعبور مركز الشمس لدائرة الزوال، إذا اعتبارنا أن الشمس نقطة ضوئية، والتعبير عنها بمركزها فقط في جميع هذه الحالات المذكورة - أي الشروق والغروب والزوال - فيه شيء من التجاوز، وهذا التجاوز صغير جدا ويمكن إهماله عند حساب المعادلات الرياضية للتسهيل. وأما إذا أريد التدقيق بعد ذلك فيمكن إضافته على وقت المغرب وطرحه من وقت الشروق، وهذا المقدار يساوي من دقيقة واحدة إلى ثلاث دقائق في أكثر الحالات.
وعلى ذلك يمكن تمييز الظهر رياضيا بعبور مركز الشمس لدائرة الزوال، وتمييز المغرب بوصول مركز الشمس إلى الأفق الغربي والتعبير عن الشروق بمرور مركز الشمس بالأفق الشرقي، وأما وقت العصر فيكون تمييزه بتعيين ارتفاع ما للشمس يسمح بجعل ظل الجسم الرأسي يساوي ارتفاع هذا الجسم بعد استبعاد ظل الجسم عند الزوال، ويبقى بعد ذلك تمييز وقت العشاء ووقت الفجر، وللوصول إلى ذلك، نلاحظ أن كلاهما يرتبط بانتشار الضوء الأبيض في ظلام الليل أو اختفائه كلية، نتيجة انعكاس ضوء الشمس الغير مباشر مع طبقات الغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية، ولقد وجد بالاستقراء أن وقت الشفق ووقت الفجر يتساويان في المكان الواحد تقريبا، وأنهما يرتبطان بحركة الشمس تحت الأفق، وأن ضوء الشمس الغير مباشر والمنعكس على الغلاف الهوائي الأرضي ينتهي أو يبدأ عندما تصل درجة ميل الشمس تحت الأفق 18 كما هو مبين بالشكل رقم (1) ، ويظهر من الشكل أن الشعاع الضوئي عندما يقابل الغلاف الجوي الأرضي بزاوية أكبر من هـ، وهي الزاوية الحرجة فإنه يسير إلى الفضاء الخارجي ولا يصل إلى سطح الأرض ويستمر هكذا حتى تصل هذه الزاوية إلى المقدار هـ = 18، عند ذلك ينعكس الشعاع الشمسي على الطبقة الهوائية(3/309)
شكل رقم 1-أ
الزاوية هـ أكبر من 18 درجة
شكل رقم 1-ب
الزاوية هـ تساوي أو أصغر من 18(3/310)
ويتجه إلى سطح الأرض حيث يبدأ ظهور الفجر الصادق، ومثل ذلك يحدث عند انتهاء وقت الشفق، أي أنه من الممكن اعتبار وجود الشمس تحت الأفق الشرقي بمقدار 18 بداية لوقت الفجر، كما يمكن كذلك اعتبار وجود الشمس تحت الأفق الغربي بمقدار 18 هو نهاية وقت الشفق الأبيض، وعلى ذلك يمكن الربط بين وقتي الفجر والعشاء وبين حركة الشمس الظاهرية، أي أن مواقيت الصلاة بالنسبة إلى دوران الشمس حول الأرض تكون كالآتي:
بداية الفجر = وجود الشمس تحت الأفق الشرقي بمقدار 18.
نهاية الفجر = وصول الحافة العليا للشمس إلى الأفق الشرقي.
بداية الظهر = عبور مركز الشمس لمستوى الزوال.
بداية العصر = وجود الشمس على ارتفاع يسمح بوجود ظل للجسم الرأسي يساوي ارتفاعه بعد استبعاد الظل الزوالي له.
بداية المغرب = وصول الحافة العليا للشمس إلى الأفق الغربي.
بداية العشاء = وجود الشمس تحت الأفق الغربي بمقدار 18.
وبعد الربط بين مواقيت الصلاة الشرعية وبين الظاهرة الفلكية لدوران الشمس حول الأرض، يمكن تحويل هذه الحركة إلى وقت زمني بالعمليات الحسابية كما سيأتي بيانه فيم يلي:(3/311)
المعادلات الرياضية لحساب مواقيت الصلاة
إن الحركة الظاهرية اليومية لدوران الشمس حول الأرض، لا تختلف في شيء ما عن الحركة الحقيقية لدوران الأرض حول نفسها في كل يوم مرة، من وجهة النظر في حسابات الفلك الكروي، وعلى ذلك فإننا سوف نتبع في بيان المعادلات الخاصة بحساب مواقيت الصلاة، قواعد الحركة الظاهرية اليومية لدوران الشمس حول الأرض، والشكل رقم (2) يمثل الهيئة العامة للكرة السماوية - حسب قواعد الفلك الكروي - مبينا عليها الشمس والأرض والأقطاب والدوائر الأساسية. والشكل رقم (2 - أ) يمثل الإسقاط التوضيحي لتسهيل المراجعة، أما الشكل رقم (2 - ب) فيمثل الإسقاط الحقيقي الصحيح للكرة السماوية.(3/311)
شكل رقم 2-أ
الإسقاط التوضيحي للكرة السماوية(3/312)
شكل رقم 2-ب
الإسقاط التوضيحي للكرة السماوية(3/313)
بيان المصطلحات الفلكية والرموز الخاصة
بالشكل رقم " 2 "
1 - الأقطاب والنقط الأساسية
ق = القطب السماوي الشمالي ... = ...
P = North Pole
ق = القطب السماوي الجنوبي ... = ...
P = South Pol'
س = السمت الشمالي لمكان الراصد ... = ...
Z = North Zenith
س = السمت الجنوبي لمكان الراصد ... = ...
Z = South Zenith'
ع = العبور العلوي ... = ...
T = Upper Meridian Point
ع = العبور السفلي ... = ...
T = LOWER Meridian 'Point
ش = الشمال ... = ...
N = North
جـ = الجنوب ... = ...
S = South
ق = الشرق ... = ...
E = East
غ = الغرب ... = ...
W = West
ق = نقطة شروق الشمس فوق الأفق ... = ...
E = Sunrise ' Point
غ = نقطة شروق الشمس تحت الأفق ... = ...
W = Sunset Point
ع = نقطة عبور الشمس لدائرة الزوال عبورا علويا. ... = ...
T = Sun Meridian' Point
***(3/314)
الدوائر العظمى
دائرة الزوال ... = ...
Meridian Circle
دائرة الأفق ... = ...
Horizon Circle
دائرة الاستواء السماوي ... = ...
Celestial Equator Circle
دائرة زمنية ... = ...
Time Circle
دائرة رأسية ... = ...
Vertical Circle
مدار الشمس اليومي ... = ...
Daily Path of Sun
(هذا المدار ليس دائرة عظمى في أغلب أيام السنة) . ...
***(3/315)
الزوايا الرئيسية
ت = الزاوية الزمنية ... = ...
T = Hour Angle
تع = زاوية الارتفاع ... = ...
H = Height Angle (Altitude)
90 - تع = زاوية بعد السمت ... = ...
= Zenith Distance
م = زاوية الميل الاستوائي ... = ...
D = Declination
90 - م = زاوية البعد القطبي ... = ...
= Polar Distance
ح = زاوية الانحراف ... = ...
A = Azimuth Angle
ض = زاوية خط العرض ... = ...
Q = Latitude
ل = زاوية خط الطول ... = ...
- L = Longitude
عند مراجعة الشكل رقم (2) نجد أن مدار الشمس تمثله الدائرة ق ع غ وهذا هو الجزء الظاهر من مدار الشمس فوق الأفق، حيث إن النقطة ق تمثل شروق الشمس - أي نهاية وقت الفجر، والنقطة ع تمثل العبور العلوي للشمس لدائرة الزوال - أي بداية وقت الظهر، بينما النقطة غ تمثل غروب الشمس - أي بداية وقت المغرب. وأما وقت العشاء وكذلك بداية وقت الفجر فإن الشمس في هذه الآونة تكون تحت الأفق(3/315)
بمقدار 18 درجة. وعلى ذلك فإن لحساب مواقيت الصلاة بالساعات المستعملة الآن علينا أن نربط بين الزمن الفلكي (1) وبين مواضع وجود الشمس في مدارها التي تعين هذه المواقيت، وعادة يكون هذا الربط عن طريق المثلث الفلكي.
***
__________
(1) المقصود بالزمن الفلكي، الوقت الحقيقي للشمس، أي الزاوية الزمنية للشمس.(3/316)
المثلث الفلكي
المثلث الفلكي هو مثلث كروي، رؤوسه الثلاثة هي:
1 - القطب السماوي الشمالي ... (ق)
2 - السمت الشمالي لمكان الراصد ... (س)
3 - الشمس ... (ش)(3/316)
شكل رقم 3
شكل رقم 4(3/317)
والشكل رقم (3) يمثل هذا المثلث.
أما زواياه فهي:
1 - زاوية الانحراف (ح) .
2 - الزاوية الزمنية (ت) .
3 - زاوية النجم (ي) .
وكذلك فإن أقواسه الثلاثة تمثل:
1 - بعد السمت (90 - تع) .
2 - متمم خط العرض (90 - ض) .
3 - البعد القطبي (90 - م) .
ويتضح من ذلك أن المثلث الفلكي يحدد موقع الشمس بالنسبة إلى السمت والقطب، ثم يربط بين هذا الموقع وبين الزمن، انظر الشكل رقم (2) .
ولما كان المثلث الفلكي يمثل جزءا من الكرة السماوية، فهو حينئذ مثلث كروي، وتنطبق عليه قوانين المثلث الكروي، شكل رقم (4) .
ومن قوانين المثلثات الكروية نجد أن:
جتا ا = جتا ب. جتا جـ _ جا ب. جا جـ. جتا ا.
حيث إن ا، ب، جـ هي زوايا أضلاع المثلث
ا، ب، جـ، هي زوايا رؤوس المثلث
أي أن جتا ا = جتا ا – جتا ب. جتا جـ / جا ب. جا جـ
وبالمقارنة بين المثلث الفكري والمثلث الكروي في كل من الشكلين 3، 4 نجد أن:
جتا ت = جتا (90 – تع) – جتا (90 – م) . جتا ر (90 – ض) / جا (90 – م) . جا (90 – ض)
أي أن جتا ت = جا تع – جا م. جا ض / جتا م. جتا ض(3/318)
تعيين المعادلات الرياضية لحساب مواقيت الصلاة لكل واحدة من الفروض الخمسة
أولا وقت الظهر سبق أن علمنا أن تحديد وقت الظهر يكون بعبور قرص الشمس لدائرة الزوال عبورا علويا، أي وجود النقطة (ش) من رؤوس المثلث الفلكي على دائرة الزوال. ولما كانت النقطة (س) تقع دائما على دائرة الزوال وكذلك النقطة (ق) ، إذا في هذه الحالة يصير المثلث الفلكي قوسا من دائرة الزوال، وتصير الزاوية الزمنية (ت) تساوي صفرا.
ولما كان الوقت الحقيقي يقاس فلكيا من العبور السفلي للشمس، لذلك فإن العبور العلوي يساوي 12 ساعة وقتا حقيقيا أي أن وقت الظهر عند الابتداء يساوي 12 ساعة بالوقت الشمسي الحقيقي في كل مكان وزمان على سطح الأرض. فمثلا لو فرضنا أننا موجودون عند خط عرض قدره (ض) ، وأن الميل الاستوائي للشمس في هذا اليوم يساوي (م) فإن ارتفاع الشمس في هذه اللحظة، أي المقدار (تع) يساوي (90 - (ض - م)) ، وعلى ذلك تكون قيمة الزاوية الزمنية (ت) من القانون السابق تساوي:
جتا ت = جتا (ض – م) – جا م. جا ض / جتا م. جتا ض
= جتا. جتا م + جا ض. جا م – جا ض. جا م / جتا ض. جتا م
جتا ت = 1
أي أن ت = صفر
ولما كان المعتمد في الحياة المدنية، هو استعمال الوقت المدني لسهولة التعامل بين بلد وآخر في إقليم واحد، وكذلك لسهولة التعامل في المجال الدولي العام بين ممالك العالم ودوله. لذلك وجب علينا بيان حساب الوقت المدني من الوقت الشمسي الحقيقي.
إن الحركة الظاهرية لدوران الشمس حول الأرض، ناشئة عن الحركة الحقيقية لدوران الأرض حول نفسها أمام الشمس، وكذلك فإن الأرض ليست ثابتة في محلها بالنسبة إلى الشمس بل أنها تدور حولها في فلك بيضاوي تحتل الشمس إحدى بؤرتيه. ونشأ عن ذلك أن طول اليوم على مدار السنة ليس متساويا، وأن الحركة الظاهرية للشمس ليست منتظمة في السرعة. ولذلك لجأ علماء الفلك إلى فرض وجود شمس أخرى(3/319)
تسير على فلك الشمس الحقيقية بسرعة منتظمة، وتحتفظ معها بنفس الزمن السنوي، وتسمى هذه الشمس بالشمس المتوسطة الحركة، ويسمى الوقت الذي تعينه بالوقت المتوسط، وهذا الفرض يعطينا طولا ثابتا لليوم المتوسط مقداره 24 ساعة زمنية متوسطة وهي التي تشير إليها الساعات الآلية التي نستعملها الآن.
والفرق بين الوقت المتوسط والوقت الحقيقي يسمى بمعادلة الزمن:
معادلة الزمن = الوقت المتوسط - الوقت الحقيقي.
وهذا الوقت المتوسط، يسمى بالوقت المتوسط المحلي لأنه في كل مكان يختلف فيه خط الطول عن مكان آخر لا بد أن يختلف كذلك الوقت المتوسط المحلي الثاني. وعلى ذلك وجد أنه لتوحيد الزمن في دولة ما، بحيث يسهل التعارف الزمني بين البلدان المختلفة لهذه الدولة، أن يتفق الجميع على زمن واحد لهم، ويعرف هذا الزمن بالوقت المدني أو الوقت الإقليمي.
كما وجد أنه للتعارف الدولي كذلك على الزمن المدني، أن يتغير هذا الزمن عند خطوط الطول التي تقبل القسمة على 15 أي أن الوقت المدني يتغير عند خط طول صفر، 15، 30، 45 وهكذا حتى 180 شرقا أو غربا، ومقدار الفرق لكل 15 يساوي ساعة واحدة.
أي أن وقت الظهر في أي مكان على سطح الأرض وفي أي يوم من أيام السنة، مقدرا بالوقت المدني الزوالي، أو الوقت الإقليمي يساوي = 12 + معادلة الزمن + فرق خط الطول. . . .
وقت الظهر = 12 + مز + قط
***(3/320)
ثانيا وقت الشروق والغروب
سبق أن علمنا أن وقت الشروق يمثل نهاية وقت الفجر، وأن وقت الغروب يمثل بداية وقت المغرب، وأن الشمس في كلتي الوقتين تكون حافتها العليا على دائرة الأفق، أي أن ارتفاعها تحت الأفق يساوي نصف قطر الشمس الظاهري، وهذا يكافئ ستة عشر دقيقة تقريبا.
تع = - 16(3/320)
وبفرض أننا عند خط عرض (ض) ، وأن ميل الشمس في هذا اليوم عن الاستواء السماوي = (م)
جتا ت = جا (- 16) - جا م. جا ض / جتا م. جتا ض
ومن ذلك القانون يمكن حساب الوقت الحالي لكل من الشروق والغروب.
وإذا أهملنا نصف قطر الشمس، نجد أن:
جتا ت = جا (صفر) - جا م. جا ض / جتا م - جتا ض
= - ظا م × ظا ض
* * *(3/321)
ملاحظات
1 - إذا كان المكان عند خط الاستواء، وهو خط عرض صفر، فإنه في هذه الحالة تكون:
ظا ض = صفر
جتا ت = صفر
بصرف النظر عن اختلاف مقدار الميل الاستوائي للشمس أثناء السنة.
إذا ت = 90 = 6 ساعات
أي أنه عند خط الاستواء تماما يكون الشروق والغروب قبل العبور وبعده بمقدار ستة ساعات، في طيلة أيام السنة، بالوقت الحقيقي.
2 - إذا كان خط العرض 90، وعندئذ يكون المحل هو القطب الأرضي، فإن المثلث الفلكي يفقد وجوده، حيث ينطبق القطب مع السمت، ويكون:
ظا ض = ما لا نهاية
وتكون جتا ت= ظا م × oc
وعلى ذلك لا يمكن تعيين قيمة المقدار (جتا ت) ، ما لم تكن (م) تساوي صفرا وفي هذه الحالة يمكن اعتبار (جتا ت) = صفرا، وأن (ت) تساوي 90، ولكن من الناحية العملية، فإنه بالرغم من أن الزاوية = 90 إلا أنه لا يمكن تحديد وقت للشروق أو الغروب حيث إن الشمس في هذه الحالة تتحرك على دائرة الأفق،(3/321)
وتختفي الجهات الأصلية الأربعة، وفيما عدا ذلك يكون دوران الشمس في مستوى يوازي دائرة الأفق كذلك، وهذا المستوى يتحرك في مدى ± 23. 5 عن مستوى الأفق أثناء السنة. وتصبح الشمس ظاهرة ستة أشهر ومختفية ستة أشهر.
3 - إذا كان المحل في المنطقة المدارية القطبية، وهذه المنطقة تبدأ من خط عرض 67. 5 إلى خط عرض 90، فإنه يأتي بعض الوقت أثناء السنة التي تصير الشمس فيه دائمة الظهور أو دائمة الاختفاء، ولا يحدث الشروق أو الغروب اليومي المعتاد، وفي هذه الحالة الأخيرة والحالة السابقة لها، يكون تقدير مواقيت الصلاة مختلفا عن النظام المعتاد المرتبط بحركة الدوران اليومية للشمس. مما سبق نجد أن وقت الشروق أو الغروب يمكن حسابه من المعادلة.
جتا ت = - ظا م. ظا ض (عند إهمال نصف قطر الشمس) .
بالإضافة أو الطرح من وقت العبور العلوي للشمس، وعلى ذلك فإن حساب وقت المغرب يساوي:
= وقت الظهر + جتا -1 (- ظا م. ظا ض) .
= 12 + مز + فط + جتا -1 (- ظام. ظا ض) .
ولما كانت الساعات المدنية المستعملة تقرأ اثني عشر ساعة فقط، ثم تعود بعد ذلك إلى الدورة التالية، لذلك يمكن حذف 12 من المعادلة السابقة، وتصير المعادلة كالآتي:
وقت المغرب = مز + فط + جتا -1 (- ظا م. ظا ض) .
وبالمثل يمكن حساب وقت الشروق من المعادلة الآتية:
وقت الشروق = (12 + مز + فط) – جتا -1 (- ظا م. ظا ض) .(3/322)
ثالثا وقت الفجر والعشاء
سبق أن علمنا أن بداية وقت الفجر - وهو صلاة الصبح - يبدأ عندما تكون الشمس تحت الأفق الشرقي بمقدار 18، وأن وقت العشاء يبدأ عندما تصير الشمس تحت الأفق الغربي بمقدار 18 كذلك، وعلى ذلك إذا رجعنا إلى القانون العام:(3/322)
جتا ت = جا تع – جا م. جا ض / جتا م. جتا ض
نجد أن (تع) في هذه الحالة تكون إشارتها سالبة حيث إن الشمس تقع تحت الأفق، راجع الشكل رقم (2) ، ××× وأن مقدارها = - 18.
وبالتعويض في القانون العام نجد أن:
جتا ت = - جا 18 – جا م. جا ض / جتام. جتا ض
= ك – جا م. جا ض / جتا م. جتا ض
حيث إن (ك) مقدار ثابت = جا 18 = -0.3090
وعلى ذلك فإن وقت العشاء محسوبا بالوقت الإقليمي في أي مكان على سطح الأرض:
= (12 + مز + فط) + جتا -1 (ك – جا م. جا ض) / (جتا م. جتا ض)
أي أنه على حساب الساعة المدنية المستعملة تكون:
ت= (مز + فط) + جتا -1 (ك – جا م. جا ض) / (جتا م. جتا ض) .
أما وقت الفجر فإنه يكون:
ت = (12 + مز + فط) – جتا -1 (ك – جا م. جا ض) / (جتا م. جتا ض) .(3/323)
رابعا وقت العصر
سبق أن علمنا أن وقت العصر يبدأ عندما يكون ظل الشيء مثل ارتفاعه مضافا إليه ظل هذا الشيء عند الزوال، فإذا كان ارتفاع الشمس عند الزوال يساوي:
تع = 90 - (ض - م) ، انظر شكل رقم (5) .(3/323)
شكل رقم 5
شكل رقم 6(3/324)
فيكون بعد السمت في هذه الحالة = 90 – (90 – (ض – م)) = ض – م
فإذا فرضنا أن ارتفاع الجسم = ل
طول ظل الجسم عند الزوال = ل × ظا (ض – م) = ظل
ويكون طول ظل الجسم عند ابتداء العصر = ل + ل ظا (ض – م)
= ل (1 + ظا (ض – م))
وعندئذ تكون زاوية بعد السمت (90 – تع)
= ظا -1 (ل (1 + ظا (ض – م)) / (ل)
= ظا -1 (1 + ظا (ض – م)
أما زاوية ارتفاع الشمس عند العصر فإنها تساوي (تع) حيث أن،
ظا تع = ل / ل + ظل أنظر شكل رقم «6»
= ل / ل + ل. ظا (ض – م)
= 1 / 1 + ظا (ض – م)
أي أن ظتا تع = 1 + ظا (ض – م)
وعلى ذلك تكون زاوية ارتفاع الشمس عند العصر،
تع = ظتا -1 (1 + ظا (ض-م))
وبالتعويض في القانون العام للمثلث الفلكي:
جتا ت = جا تع – جا م. جا ض / جتا م. جتا ض
ينتج أن:
جتا ت= جا (ظتا -1 (1 + ظا (ض- م)) – جا م. جا ض / جتا م. جتا ض
وعلى ذلك فإن وقت العصر محسوبا بالوقت الإقليمي في أي مكان على سطح الأرض،
= (12 + مز + فط) + جتا -1 (جا (ظتا -1 (1 + ظا (ض – م)) – جا م. جا ض / (جتا م. جتا ض)
وعند استعمال الساعات المدنية نحذف العدد 12 من المعادلة السابقة.
ويستفاد مما سبق أن مواقيت الصلاة يمكن تعيينها في أي مكان على سطح الكرة الأرضية، بحساب الوقت(3/325)
المدني (الإقليمي) المستعمل في الحياة المدنية في الآونة الحاضرة، بتطبيق المعادلات السابقة، والتعويض فيها بالمعلومات الآتية:
1 - خط عرض البلد.
2 - خط طول البلد.
3 - الميل الاستوائي للشمس (يوميا) .
4 - مقدار معادلة الزمن (يوميا) .
وعلى ذلك فإنه في البلد الواحد، يكون كل من خطي الطول والعرض ثابتين، ويصير المتغير فقط هو الميل الاستوائي للشمس وكذلك معادلة الزمن لكل يوم من أيام السنة، وهذه المعادلات هي:
1- وقت الظهر = 12 + مز + فط = ك 1
2- وقت العصر = ك1 + 1 / 15 جتا -1 (جا (ظتا -1 (1 + ظا (ض-م)) ) – جا م. جا ض) / (جتام. جتا ض)
3- وقت المغرب = ك1 + 1 / 15 جتا -1 (جا (-16) – جا م. جا ض) / (جتا م. جتا ض)
4- وقت العشاء = ك1 + 1 / 15 جتا -1 (ك – جا م. جا ض) / (ج جتا م. جتا ض)
5- وقت الفجر ك1 – 1 / 15 جتا -1 (ك – جا م. جا ض) / جتا م. جتا ض)
6- وقت الشروق = ك1 – 1 / 15 جتا -1 (جا (-16) – جا م. جا ض) / (جتا م. جتا ض)
حيث إن كل = جا (تع) = جا – 18(3/326)
ملاحظات
1 - يجب ملاحظة الإشارة الجبرية لكل من الميل الاستوائي (± م) ، وكذلك ارتفاع الشمس عن الأفق (± تع) .(3/326)
2 - ضربت المعادلات في 1 \ 15 لتحويل الزاوية الزمنية (ت) من درجات إلى ساعات.
3 - لحساب جميع الأوقات نبدأ بحساب وقت الظهر المدني أولا، أي حساب المقدار ك1.
4 - حساب وقت الظهر يحتاج إلى تعيين مقدار معادلة الزمن (مز) ، وفرق خط طول البلد عن أساس الوقت الإقليمي (فط) . وسبق أن علمنا أن أساس الوقت الإقليمي المستعمل الآن وهو وقت خطوط الطول التي تقبل القسمة على 15. أي أنه يمكن اعتبار أن المقدار (فط) يتراوح بين ± 10 درجات تقريبا.
5 - باقي الأوقات إما أن تضاف أو تطرح من وقت الظهر المدني.
6 - المقادير المتغيرة في جميع المعادلات بعد ذلك هي:
أ - مقدار خط عرض المكان (ض) وهو يتراوح من صفر إلى 90 درجة شمالا أو جنوبا.
ب - مقدار الميل الاستوائي للشمس (م) وهو يتراوح بين ± 23. 5 درجة.
7 - إذا كان المكان في نصف الكرة الجنوبي، فإن المعادلات السابقة تصلح كما هي، نظرا لوجود التماثل بين نصفي الكرة الأرضية الشمالي والجنوبي، وحيث إن الوقت يقاس في كل مكان من زوال هذا المكان نفسه. ولكن يجب ملاحظة أن الإشارة الجبرية للميل الاستوائي للشمس تنعكس في هذه الحالة.
ومثال ذلك لو أننا رغبنا في تعيين مواقيت الصلاة في مدينة الرياض في يوم الخميس 13 فبراير عام 1975 مثلا، فإننا نبحث عن إحداثيات مدينة الرياض فنجد أنها تساوي:
خط طول الرياض = + 46.7 درجات.
خط عرض الرياض = + 24.6 درجات.
ويكفي معرفة هذا المقدار لأقرب واحد من عشرة من الدرجات، وهذان المقداران ثابتان لكل بلد، ثم نبحث عن الميل الاستوائي للشمس ومعادلة الزمن في هذا اليوم، وهذان المقداران يتغيران في كل يوم من أيام السنة، ولكنهما لا يرتبطان بمكان ما من سطح الأرض.
الميل الاستوائي للشمس في 13 فبراير = - 13.6 درجات
معادلات الزمن في 13 فبراير = + 14. 3 دقيقة(3/327)
ملاحظات يوجد اختلاف صغير في مقدار الميل الاستوائي للشمس في نفس اليوم بين سنة وأخرى، نتيجة لحدوث سنة كبيسة في كل أربع سنوات، وهذا المقدار صغير ويمكن إهماله لأننا نكتفي برقم عشري واحد من الدرجات.
ولما كان أساس الوقت الإقليمي في المملكة العربية السعودية هو خط طول 45 درجة شرقا، إذا يكون فرق الطول (فط)
= 45 - 46، 7 = - 1، 7 درجة.
ولما كانت كل درجة تساوي أربع دقائق، إذا:
فط = -1.7 × 4 = 6.8 دقائق
وبالتعويض في المعادلات السابقة نجد أن:
1- وقت الظهر = 12 + مز + فط
= 12س + 14.3 ق – 6.8 ق
= 7.5 ق 12س = ك1
2- وقت المغرب = ك1 + 1 / 15 جتا -1) – ظا م. ظا س)
= ك1 + 1 / 15 جتا -1 (ظا 13.6. ظا 24.6)
= 7.5 ق + 12 س+ 34.5 ق 5س
= 42ق 5س بعد الظهر
3- وقت الشروق = ك1 – 34.5 ق 5س
= 33ق 6س صباحا
4- وقت العشاء = ك1 + 1 / 15 جتا -1 (ك – جا م. جا ض) / (جتام. جتا ض)
= ك1 + 1 / 15 جتا -1 (- جا 18 + جا 13.6 × جا 24.6) / (جتا 13.6 × جتا 24.6)
= 7.5 ق 12 س + 55.5 ق 6س
= 3ق 7س بعد الظهر
5- وقت الفجر = ك1 – 55.5ق 6س
= 12ق 5س صباحا
6- وقت العصر = ك1 + 1 / 15 جتا -1 (جا (ظتا -1 (1 + ظا (ض – م)) ) – جا م. جا ض) / (جتا م. جتا ض)
= ك 1 + 1 / 15 جتا -1 (جا (ظتا -1 (1 + ظا (24.6 + 13.6)) ) + جا 13.6 × 24.6) / (جتا 13.6 × جتا 23.6)
= 7.5 ق 12س + 13.7ق 3س
= 21ق 3س بعد الظهر(3/328)
ملاحظات
1 - إن حساب كل من وقت المغرب والشروق، قد حسب على أساس وصول مركز قرص الشمس إلى دائرة الأفق، وسبق أن علمنا أن نصف قطر الشمس يستغرق من دقيقة إلى ثلاثة دقائق تقريبا لإتمام هبوطه تحت الأفق، ولذلك جرت العادة في بعض النتائج عند حساب هذين الوقتين إلى إضافة خمس دقائق عند حساب وقت المغرب، وطرح خمس دقائق من حساب وقت الشروق، ويعتبر ذلك للتمكين للوقت.
2 - عند حساب كل من وقت الفجر والشفق، نأخذ الثابت ك يساوي (جا - 18) ، ولكن المعتاد في حساب النتائج المصرية، اعتبارا أن ك = (جا - 17.5) لحساب وقت الشفق، وأن ك = (جا - 19) عند حساب وقت الفجر، ويلاحظ أن كلا من هذين الوقتين ليس ثابتا على مدار السنة، ولكنه يطول ويقصر بين الصيف والشتاء، وأما الحساب السعودي فإنه يعتبر هذين الوقتين ثابتين، وأن وقت الفجر =(3/329)
25 ق 1 س، بينما وقت الشفق = 30 ق 1 س، ويزداد وقت الشفق في خلال شهر رمضان إلى ساعتين، وهذا خلاف للواقع الفلكي.
وفيما يلي نجد في الصحيفة التالية معادلة الزمن مدونة في صورة جدول لكل تغير مقداره دقيقة واحدة مع أيام السنة المقابلة لذلك.
وأما في الصحيفتين اللتين بعدها نجد جدولا لبيان مقدار الميل الاستوائي للشمس مع إشارته الجبرية لكل تغير قدره نصف درجة، مع أيام السنة المقابلة لذلك.(3/330)
معادلة الزمن = مز = الوقت المتوسط - الوقت الحقيقي(3/331)
جدول الميل الاستوائي للشمس = م(3/332)
الميل الاستوائي للشمس = م(3/333)
استعمال الحاسب الإليكتروني 45 (H. P)
في حل المعادلات المذكورة
سنذكر فيما يلي في هذا الباب البرنامج المقترح لحل كل من المعادلات الخاصة بحساب مواقيت الصلاة السابق ذكرها، وذلك باستعمال الحاسب الإليكتروني (HP. 45) ، تبعا لإمكانيات هذا الجهاز، وتمشيا مع التصميم الخاص به، ولسهولة تتبع البرنامج سنأخذ المثال السابق ذكره عند حساب مواقيت الصلاة في يوم 13 فبراير في مدينة الرياض.
1- خ طول الرياض = 46.7 درجة شرقا
2- خط عرض الرياض = 24.6 درجة شمالا
3- الميل الاستوائي للشمس = -13.6 درجة
4- معادلة الزمن = مز + 14.3 دقيقة = 0.2383 ساعة
فط = 6، 8 دقيقة = - 0، 1133 ساعة.
أولا وقت الظهر
نتبع البرنامج كما يلي:
Display ... program
12.0 ... 12 ... press
12.00 ... Enter
0.2383 ... 0.2283 ... press
12.2383 ... (+)
0.1133 ... 0.1133 ... press
12.1250 ... (-)
أي وقت الظهر = 12.125 ساعة
= 7.5 ق 12 س(3/334)
سنعيد كتابة المعادلات السابقة بالإنجليزية تمشيا مع البيانات المدونة على جهاز الحاسب الإلكتروني، حتى يسهل متابعة البرنامج المقترح مع ما هو مدون على هذا الجهاز من اصطلاحات.
ثانيا: وقت المغرب
T = c1 + 1 / 15 cos-1 (-tan D × tan Q) = c1 + c2
حيث إن الميل الاستوائي للشمس = م = D
وخط عرض المكان = ض = Q
والزمن = ت = T
وقت الظهر = (12 + مز + فط) = c1
T = 12.125 + 1 / 15 cos -1 (tan 13.6 × tan 24.6)
Display ... program
13.6 ... 13.6 ... press
0.2419 ... (tan)
24.6 ... 24.6 ... press
0.4578 ... (tan)
0.1108 ... (×)
83.6407 ... (cos -1)
15.0 ... 15 ... Press
5.5760 = c2 ... (÷)
12.125 = c1 ... 12.125 ... press
17.7010 ... (+)
وبعد حذف 23 ساعة يصير وقت المغرب المحسوب = 5.7 ساعة
أي يساوي = 42ق 5س / بعد الظهر(3/335)
ثالثا وقت الشروق
T = c1 – c2 = 12.125 – 5.576
display ... program
12.125 ... 12.125 ... press
12.125 ... Enter
5.576 ... 5.576 ... press
6.549 ... (-)
أي أن وقت الشروق = 6.55 ساعة
= 33ق 6س صباحا
رابعا: وقت العشاء
T = c1 + 1 / 15 cos-1 c-sin D × Sin Q / cos D × cos Q = c1 + c3 = 12.125 + 1 / 15 cos-1 –sin 18 + sin 13.6 × sin 24.6 / cos 13.6 × cos 24.6
Display ... program
13.6 ... 13.6 ... press
0.2351 ... sin
24.6 ... 24.6 ... Press
0.4163 ... sin
0.0979 ... (×)
18.0 ... Press 18
display ... program
0.3090 ... (sin)
-2.111 ... (-)
13.6 ... 13.6 ... Press
0.9720 ... (cos)
-0.2172 ... (÷)
24.6 ... 24.6 ... press
0.9092 ... Cos
-0.2389 ... (÷)
103.8220 ... Cos-1
15.0 ... 15 ... press
6.9215 = c3 ... (÷)
12.125 ... 12.125 ... press
19.0465 ... (+)
وبعد حذف 12 ساعة يصير وقت العشاء المحسوب = 7.05 ساعة
أي يساوي = 3 ق 7س بعد الظهر(3/336)
خامسا: وقت الفجر
T = C1 – C3 = 12.125 – 6.9215
display ... program
12.125 ... 12.125 ... press
12.125 ... Enter
6.921 ... 6.9215 ... press
5.20 ... (-)
أي أن وقت الفجر = 5.2 ساعة
= 12 ق 5 س صباحا(3/337)
سادسا- وقت العصر
T= C + 1 / 15 Cos-1 sin (cos-1 (1 + tan (Q – D)) – sin D × sin Q / cos D × cos Q T = 12.125 +1 / 15 + 1 / 15 cos-1 (sin (cos-1 (1+tan (24.6 + 13.6)) sin 13.6 × sin 24.6 / cos 13.6 × cos 24.6
Display ... Program
24.6 ... 24.6 ... press
24.6 ... Enter
13.6 ... 13.6 ... press
38.2 ... (+)
0.7869 ... (tan)
1.0 ... 1 ... press
1.7869 ... (+)
0.5596 ... (1 /X)
29.2323 ... (tan -1)
0.4884 ... sin
13.6 ... 13.6 ... Press
0.2351 ... (sin)
24.6 ... 24.6 ... press
0.4163 ... sin
0.09720 ... (×)
0.5862 ... (+)
13.5 ... 13.6 ... press
0.9720 ... (cos)
0.6031 ... (÷)
24.6 ... 24.6 ... Press
0.9092 ... cos
0.6634 ... (÷)
48.4436 ... (cos -1)
15.0 ... 15 ... press
3.2296 ... (÷)
12.12 ... 12.125 ... press
15.3546 ... (+)
وبعد حذف 12 ساعة يصير وقت العصر المحسوب = 3، 35 ساعة
أي يساوي = 21 ق 3 س بعد العصر.(3/338)
ملاحظة البرامج التي ذكرت سابقا لحساب مواقيت الصلاة مرتبطة بالجهاز الحاسب (11p. 45) ، وهذا الجهاز يمكنه إجراء العمليات الرياضية في جميع صورها، كما هو مبين في البرامج المقترحة سابقا، ولكن الجهاز لا يستطيع تخزين برنامج معين، ولذلك فإن هذا الباب لم يستكمل بحثه بعد، وعندما نحصل على جهاز آخر يستطيع الاحتفاظ بالبرامج المسجلة عليه، سنعيد البحث مرة أخرى على ضوء الجهاز الجديد، ونضع برامج جديدة ثابتة نحتفظ بها على الجهاز، ولا يخفى أنه في هذه الحالة يصير الحصول على مواقيت الصلاة يسيرا جدا، حتى أنه يمكن للإنسان العادي المتوسط التعليم، أن يقوم بإجراء هذه العمليات وتعيين مواقيت الصلاة. وإننا نرجو بعد ذلك عمل جهاز حاسب إلكتروني خاص. . به مفاتيح لإعطاء مواقيت الصلاة بمجرد الضغط على المفتاح المكتوب عليه اسم الميقات، والتصور العام لهذا الجهاز موجود عندنا.
***(3/339)
استعمال الرسم البياني لتعيين
لمواقيت الصلاة
إن استعمال الرسم البياني في حل المعادلات الرياضية الخاصة ببيان مواقيت الصلاة، يعطينا النتائج المطلوبة بطريقة أيسر وأسرع، كما أنه يسهل على الشخص المتوسط التعليم استعمالها، ولكن هذه النتائج في نفس الوقت تكون أقل في الدقة من الحساب الرياضي، ونظرا؛ لأن الحصول على مواقيت الصلاة مقربا إلى أقرب دقيقة، وأنه من المستحسن كذلك تمكين وقت الصلاة بمقدار خمس دقائق، لذلك نرى أنه لا مانع إطلاقا من استعمال المنحنيات البيانية في تعيين هذه المواقيت.
وفي هذا الباب سنبين مجموعة من الرسومات البيانية ونشرح طريقة استعمالها، وفي الصفحة التالية نجد منحنى معادلة الزمن مرسوما مع أيام السنة على أساس أن الساعة 12 تمثل الإحداثي الأفقي في هذا المنحنى ويلاحظ أن أكبر مقدار لمعادلة الزمن = + 14. 3 دقيقة وأن أقل مقدار له يساوي - 16. 4 دقيقة، ولقد ظهر على الرسم بيان معادلة الزمن في يوم 13 فبراير ومقداره 14، 3 دقيقة انظر الشكل رقم (7) .(3/339)
والرسم الذي يليه يمثل منحنى الميل الاستوائي للشمس مبينا مع أيام السنة جميعها، ونلاحظ أن الميل الاستوائي يساوي صفرا عند 21 مارس - وهو الاعتدال الربيعي، وكذلك عند 22 سبتمبر وهو الاعتدال الخريفي، كما أنه يساوي + 23. 5 عند 21 يونية - وهو الانقلاب الصيفي، وكذلك - 23. 5 عند 23 ديسمبر - وهو الانقلاب الشتوي. انظر الشكل رقم (8) .
وأما الرسومات البيانية المتعلقة بحل المعادلات الرياضية فقد روعي فيها أن يمثل المحور الأفقي خط عرض المكان، بينما يمثل المحور الرأسي الزمن. وأما الميل الاستوائي للشمس فإنه مبين على الرسم بمنحنيات.
وفي الشكل رقم (9) نجد الرسم البياني الخاص بحساب كل من وقت المغرب ووقت الشروق، ونلاحظ في هذا الرسم أن المنحنيات الخاصة بالميل الاستوائي الموجب هي نفسها المنحنيات الخاصة بالميل الاستوائي السالب، ولذلك جعلنا للزمن إحداثين رأسيين الأول منهما يستعمل عندما تكون (م) سالبة والثاني عندما تكون (م) موجبة، كما نلاحظ كذلك في جميع الرسومات أننا لا نضيف وقت الظهر، بل نكتفي فقط بالجزء الثاني من المعادلة وهو المعبر عنه في المعادلات السابقة بالمقادير (ك2، ك3، ك4) أو (C2 C3 C4) . وأما وقت الظهر فيحسب عاديا ولا يحتاج إلى رسم بياني خاص به، ثم بعد ذلك يضاف إليه، أو يطرح منه المقدار الزمني المستخرج من الرسم البياني.
ولقد أخذنا مثالا على هذه المنحنيات، وهو حساب زمن المواقيت في مدينة الرياض في 13 فبراير كذلك حتى يتضح كيفية استعمال المنحنى والاستفادة منه.
وأما الرسم البياني الموجود في الشكل رقم (10) فهو خاص بحساب وقتي العشاء والفجر، ونظرا؛ لأن المنحنيات تتقارب كثيرا عند خطوط العرض بين صفر وعشرين، رسمنا هذا الجزء مرة أخرى مكبرا في الشكل رقم (11) .
وأما حساب وقت العصر فيستعمل له الرسم البياني، الموقع في الشكل رقم (12) وفي هذا الرسم استعمل خط العرض من 30 إلى 60 فقط، وفي الشكل رقم (13) نجد الرسم البياني المكمل لحساب وقت العصر من خط العرض صفر إلى خط العرض 30 عندما يكون الميل الاستوائي للشمس سالبا، ولقد ظهر على هذا الرسم حساب وقت العصر يوم 13 فبراير في مدينة الرياض، وأما عندما يكون الميل الاستوائي للشمس موجبا، فنستعمل الرسم البياني الموجود بالشكل رقم (14) .(3/342)
إن المنحنيات البيانية السابق ذكرها، تمكنا من الحصول على مواقيت الصلاة المطلوبة جميعها، وذلك بالاستعانة بالجداول الخاصة بمعادلة الزمن والميل الاستوائي للشمس، أو باستعمال المنحنيين البيانيين الخاصين بهما.
ولقد رسمت المنحنيات بطريقة أخرى تجعلنا نستغني عن استعمال الجداول السابقة، وكذلك يمكن للإنسان المتوسط التعليم فهمها بسهولة واستخراج مواقيت الصلاة المطلوبة منها بدون عناء، وفي هذه المنحنيات الجديدة نستعمل الإحداثي الأفقي لبيان أشهر السنة مرتبة من اليسار إلى اليمين، كما نستعمل الإحداثي الرأسي لبيان مواقيت الصلاة المطلوبة مباشرة مقابل كل يوم من أيام السنة، كما هو مبين بالمثال الخاص بمواقيت الصلاة في يوم 13 فبراير بمدينة الرياض.
ونلاحظ في هذه المنحنيات أننا نبدأ أولا على الإحداثي الأفقي من عند اليوم المطلوب ثم نتجه رأسيا حتى نصل إلى المنحنى الذي يمثل خط عرض البلد الذي نقيم فيه، ثم نتجه أفقيا لتعيين الوقت المسجل على المحور الرأسي.
ونلاحظ أن هذه الأوقات خالية من تأثير خط طول المكان، ولذلك يجب إضافة هذا الفرق للمقادير المستخرجة من الرسم البياني، ومن المعلوم أن هذا المقدار ثابت في كل بلد على مدار السنة، وكذلك يحسب مرة واحدة لجميع الأوقات وعلى طول السنة، والمنحنى الأول في الشكل رقم (15) خاص بوقت المغرب، كما أن المنحنى الثاني في الشكل رقم (16) خاص بوقت العشاء والمنحنى الثالث في الشكل رقم (17) خاص بوقت العصر.
وهذه المنحنيات تعتبر نموذجا لهذا النوع الجديد من المنحنيات، ونظرا للعدد الكثير المطلوب منها، فإننا اكتفينا في هذا البحث بوضع هذه النماذج الثلاثة فقط، أما جميع المنحنيات الباقية، فيلزم طباعة كتاب خاص بها، والله ولي التوفيق.
كما أنه من الممكن استعمال منحنى وقت المغرب لحساب وقت الشروق، وكذلك يمكن استعمال منحنى وقت العشاء لحساب وقت الفجر، كما سبق بيانه.(3/350)
وهناك نوع آخر من المنحنيات يمكن اعتباره من الأنواع الخاصة، وذلك أن المنحنيات الخاصة بمواقيت الصلاة في هذه الحالة تعطينا هذه المواقيت لبلد واحد فقط، ولا تصلح لبلد غيره وفي هذه الحالة فإننا نضيف فرق خط الطول إلى الحساب عند توقيع هذا النوع من المنحنيات ورسمها.
وهذا النوع يظهر في الشكل رقم (18) ، وهو سهل الاستعمال جدا، ولا يحتاج لأي علم خاص سوى معرفة الرسم البياني، فنأخذ اليوم على الإحداثي الأفقي للمنحنى، ثم نقرأ الزمن على الإحداثي الرأسي له. والرسم يمثل منحنيات مواقيت العصر والمغرب والعشاء على التوالي في مدينة القاهرة فقط.
والنوع الأخير الذي استعملناه من هذه المنحنيات، هو نوع عام وسهل الاستعمال كذلك، ولقد عملت هذه المنحنيات لجميع سطح الكرة الأرضية ونشرت في البحث (ب ب - 2 \ 95) الخاص بتعيين مواقيت الصلاة الصادر عن مركز البحوث بكلية الهندسة في ربيع الثاني 1395 هـ.
ولقد استقل كل خط عرض بورقة واحدة من هذه الأوراق كما استقل كل وقت من المواقيت بمنحنى خاص به. وكذلك أدخلت معادلة الزمن في هذه المنحنيات بحيث إنه يتبقى فقط تعديل الزمن بمقدار فرق خط الطول الخاص بالبلد عن خط طول الوقت الإقليمي، وهو مقدار ثابت لجميع المواقيت وجميع الأيام كما سبق بيانه ومقداره أربعة دقائق لكل خط طول، أي أن هذه المنحنيات تعين الوقت المحلي وليس الوقت الإقليمي.
والإحداثي الأفقي لجميع المنحنيات يمثل أشهر السنة الاثنى عشر ابتداء من شهر يناير في يسار الورقة إلى شهر ديسمبر عند يمين الورقة، الأشهر مرقمة من 1 إلى 12.
أما الإحداثي الرأسي عند يسار الورقة فإنه يبين الزمن بعد الظهر ابتداء من الساعة 12 ظهرا عند أسفل الورقة إلى الساعة 12 مساء عند أعلاها. ويستعمل هذا الإحداثي لبيان مواقيت العصر والمغرب والعشاء.
وأما الإحداثي الرأسي الثاني عند يمين الورقة فإنه يبين الزمن قبل الظهر ابتداء من الساعة 12 في منتصف الليل عند أسفل الورقة إلى الساعة 12 ظهرا عند أعلاها ويستعمل هذا الإحداثي لبيان مواقيت الفجر والشروق فقط ومرسوم باللون الأحمر.
***(3/355)
كيفية استعمال المنحنى لتعيين
الوقت المطلوب
أولا عن الورقة الخاصة بخط عرض البلد المطلوب تعيين مواقيت الصلاة فيه، وخطوط العرض هذه مأخوذة إلى أقرب درجة، ولنفرض مثلا أننا نريد معرفة مواقيت الصلاة في مدينة الرياض في اليوم الأول من جمادى الثاني عام 1395 الموافق العاشر من يونيه (حزيران) عام 1975، علما بأن خط عرض الرياض يساوي 24.6 درجة شمالا.
لذلك نبحث في الورقة الخاصة بخط عرض 25 درجة عن يوم العاشر من يونيه، ونرسم خطا رأسيا يقطع جميع المنحنيات الخاصة بمواقيت الصلاة. وعند تقاطع هذا الخط الرأسي مع كل منحنيات العشاء والمغرب والعصر نرسم خطوطا أفقية تمتد إلى المحور الرأسي الأيسر الخاص بقراءة الزمن بعد الظهر، وبذلك ق س ق س ق س نحصل على الوقت المحلي لهذه المواقيت وهي على التوالي: 22 8، 50 6، 22 3 بعد الظهر، كما هو مبين بالشكل رقم (19) الذي يعتبر نموذجا لهذا النوع من المنحنيات، ثم نرسم من نقطتي تقاطع الخط الرأسي السابق تعيينه مع كل من منحنى الشروق والفجر خطين أفقيين إلى ناحية اليمين حتى يتقابلا مع المحور الرأسي الأيمن الخاص بتعيين الزمن قبل الظهر فنحصل على الوقت المحلي لكل من وقتي الشروق والفجر وهما في المثال السابق 12 ق 5 س للشروق 40 ق 3 س للفجر.
ومما يجدر ذكره هنا أن جميع المواقيت الخمسة، على مدى أيام السنة الشمسية، كلها لخط عرض 25 درجة شمالا، موجودة على هذه الورقة.
أما فيما يتعلق بوقت الظهر، فإن المنحنى الخاص به رسم في ورقة خاصة، وذلك؛ لأن هذا المنحنى لا يتغير مع اختلاف درجات خطوط العرض.
وبعد الحصول على الأوقات المحلية من هذه المنحنيات يمكن تحويلها إلى أوقات مدنية (إقليمية) بإضافة فرق خط الطول (فط) إليها. وفي المثال المذكور نجد أن خط طول مدينة الرياض 46.7 درجة شرقا، وأن أساس الوقت الإقليمي (المدني) للمملكة السعودية هو خط طول 45 درجة شرقا.
وعلى ذلك يكون الفرق الزمني المطلوب إضافته للحصول على الوقت الإقليمي من الوقت المحلي هو:
(45 - 46.7) × 4 = - 6.8 دقيقة.
وهذا المقدار يضاف جبريا مع إشارته، لجميع المواقيت السابقة.
أي أنه بعد الإضافة تكون مواقيت الصلاة في يوم العاشر من يونيه في مدينة الرياض هي كالآتي:(3/356)
ق س ق س العشاء 15 8 الظهر 52 11 المغرب 43 6 العصر 05 5 العصر 15 3 الفجر 33 3 ونسأل الله سبحانه وتعالى دوام التوفيق إلى ما فيه خير الأمة الإسلامية وصلاحها والحمد لله رب العالمين.
***(3/357)
تحويل
الوقت الزوالي
وقت غروبي
المعروف أن الوقت الزوالي هو الوقت الذي يبدأ من زوال الشمس عند أي مكان ما، وفي هذه اللحظة تقرأ الساعة 12. 00 تماما وقتا حقيقيا، وأما الوقت الغروبي فإنه يبدأ من غروب الشمس تحت أفق أي مكان ما، وفي هذه الحالة تقرأ الساعة 00. 12 تماما من كل يوم من الأيام.
ولحساب الوقت الغروبي من وقت الزوالي نتبع الخطوات التالية:
1 - نطرح وقت المغرب من - 12 - فلو فرضنا أن وقت المغرب = 55ق 4س
12-55ق = 50ق 7س
2- نجمع المقدار المحسوب من البند السابق على جميع المواقيت، في هذا اليوم، فنحصل على الزمن العربي لهذه المواقيت في اليوم نفسه.
مثال ذلك: نفرض أن مواقيت الصلاة في يوم 11 ديسمبر، في مدينة القاهرة كانت بالوقت الزوالي كالآتي:
الفجر ... الشروق ... الظهر ... العصر ... المغرب ... العشاء
80ق 5س ... 40ق 6س ... 47ق 11س ... 37ق 2س ... 55ق 4س ... 18ق 6س
والمطلوب تعيين هذه المواقيت بالوقت الغروبي. . . .
الوقت الغروبي =
الفجر ... الشروق ... الظهر ... العصر ... المغرب ... العشاء
80ق 5س
05ق 7س ... 40ق 6س
05ق 7س ... 47ق 11س
05ق 7س ... 37ق 2س
05ق 7س ... 55ق 4س
05ق 7س ... 18ق 6س
05ق 7س
= 13 12
12 13 ... 45 13
45 1 ... 52 18
52 6 ... 42 9
42 9 ... 00 12
00 12 ... 23 13
23 1
ملاحظة: إذا زاد المجموع عن 13 نحذف منه 12 ساعة.(3/358)
مجلة
البحوث الإسلامية
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
باب الفتاوى
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(3/359)
في أوقاف المساجد
فتوى رقم 1158 بتاريخ 13 \ 1 \ 1396
الحمد لله وحده وبعد: - فقد ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي: -
س - يوجد بقرية الحناكية في وادي فتام مسجد قديم له أكثر من مائة سنة وهو خرب وتالف ولا تؤدى فيه الصلاة، ويرغب السائل نقل حجارته لمسجد جديد بالقرية لتوسعته.؟
وقد أجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بما يلي:(3/360)
ذكر أهل العلم أن الوقف إذا تعطلت منافعه فإنه ينقل إلى نظيره مما فيه مصلحة للوقف وغبطة لجهته سواء كان ذلك عن طريق البيع أو غيره حسبما يقتضيه النظر الشرعي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وإذا خرب مكان موقوف فتعطل نفعه بيع وصرف ثمنه في نظيره أو نقلت إلى نظيره، وكذلك إذا خرب بعض الأماكن الموقوفة عليها كمسجد ونحوه على وجه يتعذر عمارته فإنه يصرف ريع الوقف عليه إلى غيره، وما يفضل من ريع وقف عن مصلحته صرف في نظيره أو مصلحة المسلمين من أهل ناحيته ولم يحبس المال دائما بلا فائدة، ثم ذكر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمر بتحويل مسجد الكوفة من مكان إلى مكان حتى صار موضع الأول سوقا، وقال - رحمه الله - في معرض إجابته عن صرف ما فضل من ريع الوقف إلى نظيره: فلو قدر أن المسجد الأول خرب ولم ينتفع به أحد صرف ريعه في مسجد آخر فكذلك إذا فضل عن مصلحته شيء، فإن هذا الفاضل لا سبيل إلى صرفه إليه ولا إلى تعطيله فصرفه في جنس المقصود الأول اهـ. وقال ابن قدامة - رحمه الله - في " المغني ": وما فضل من حصر المسجد وزيته ولم يحتج إليه جاز أن يجعل في مسجد آخر - إلى أن قال: قال أحمد في مسجد بني فبقي من خشبه أو قصبه أو شيء من نقضه قال يعان به في مسجد آخر. اهـ.
ومما تقدم يتضح أنه يجوز في الوقف المتعطل من مسجد أو غيره أن ينقل إلى جهة نظيره ببيع أو غيره حسبما يقتضيه النظر الشرعي وكذلك الأمر بالنسبة لفاضل غلال الأوقاف العامة وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(3/361)
في النذر
فتوى رقم 1213 تاريخ 13 \ 3 \ 1396
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد هذا السؤال:
س - " نذرت امرأة أن تصوم سنة إن ولدت سليمة وسلم الحمل لمدة سنة وقد ولدت بالفعل وسلم الحمل لأكثر من سنة وتذكر المرأة أنها عاجزة عن الصوم؟
وبدراسة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية لهذا الاستفتاء أجابت بما يلي:(3/362)
لا شك أن نذر الطاعة عبادة من العبادات وقد مدح الله تعالى الموفين به فقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} (1) وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (2) » «ونذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأل صلى الله عليه وسلم: " هل فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ " فقيل له: لا. فقال: " وهل فيها عيد من أعيادهم؟ " قيل: لا. فقال: " أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم (3) » .
وحيث إن المستفتية ذكرت أنها نذرت أن تصوم سنة، وصيام سنة متواصل من قبيل صيام الدهر وصيام الدهر مكروه لما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من صام الدهر فلا صام ولا أفطر (4) » . ولا شك أن العبادة المكروهة معصية لله فلا وفاء بالنذر بها، قال شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمه الله -: لو نذر عبادة مكروهة مثل قيام الليل كله وصيام النهار كله لم يجب الوفاء بهذا النذر. اهـ.
وعليه فيلزم السائلة كفارة يمين إطعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من تمر أو غيره من غالب قوت البلد فإن لم تستطع فصيام ثلاثة أيام متتابعة.
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة الإنسان الآية 7
(2) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي كتاب الأيمان والنذور (3806) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .
(3) سنن أبو داود الأيمان والنذور (3313) .
(4) سنن الترمذي الصوم (767) ، مسند أحمد بن حنبل (5/311) .(3/363)
في الصيام
فتوى رقم 1240 بتاريخ 26 \ 4 \ 1396
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد سؤال هذا نصه " يوجد دواء مع المرضى بمرض الربو يأخذونه بطريق الاستنشاق هل يفطر أو لا "؟
ج - وقد أجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على هذا السؤال بما يلي: -(3/364)
دواء الربو الذي يستعمله المريض استنشاقا يصل إلى الرئتين عن طريق القصبة الهوائية: لا إلى المعدة فليس أكلا ولا شربا ولا شبيها بهما، وإنما هو شبيه بما يقطر في الإحليل وما تداوى به المأمومة والجائفة وبالكحل والحقنة الشرجية ونحوها من كل ما يصل إلى الدماغ أو البدن من غير الفم أو الأنف، وهذه الأمور اختلف العلماء في تفطير الصائم باستعمالها. فمنهم من لم يفطر الصائم باستعمال شيء منها، ومنهم من فطره باستعمال بعض دون بعض، مع اتفاقهم جميعا على أنه لا يسمى استعمال شيء منها أكلا ولا شربا، لكن من فطر باستعمالها أو شيء منها جعله في حكمهما بجامع أن كلا من ذلك يصل إلى الجوف باختيار، ولما ثبت من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما (1) » فاستثنى الصائم من ذلك مخافة أن يصل الماء إلى حلقه أو معدته بالمبالغة في الاستنشاق فيفسد الصوم فدل على أن كل ما وصل إلى الجوف اختيارا يفطر الصائم.
ومن لم يحكم بفساد الصوم بذلك كشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ومن وافقه: لم ير قياس هذه الأمور على الأكل والشرب صحيحا، فإنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر هو كل ما كان واصلا إلى الدماغ أو البدن، أو ما كان داخلا من منفذ أو واصلا إلى الجوف وحيث لم يقم دليل شرعي على جعل وصف من هذه الأوصاف مناطا للحكم بفطر الصائم يصح تعليق الحكم به شرعا، وجعل ذلك في معنى ما يصل إلى الحلق أو المعدة من الماء بسبب المبالغة في استنشاقه غير صحيح أيضا لوجود الفارق، فإن الماء يغذي فإذا وصل إلى الحلق أو المعدة أفسد الصوم سواء كان دخوله من الفم أو الأنف إذ كل منهما طريق فقط، ولذا لم يفسد الصوم بمجرد المضمضة أو الاستنشاق دون مبالغة ولم ينه عن ذلك، فكون الفم طريقا وصف طردي لا تأثير له، فإذا وصل الماء ونحوه من الأنف كان له حكم وصوله من الفم، ثم هو يستعمل طريقا للتغذية في بعض الأحيان، فكان هو والفم سواء. والذي يظهر عدم الفطر باستعمال هذا الدواء استنشاقا لما تقدم من أنه ليس في حكم الأكل والشرب بوجه من الوجوه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (788) ، سنن النسائي الطهارة (87) ، سنن أبو داود الطهارة (142) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (407) .(3/365)
في الأضحية وصلاة العيد
فتوى رقم 1149 13 \ 1 \ 1396
كما ورد إلى الرئاسة العامة مجموعة أسئلة في خطاب واحد. وقد أجابت عليها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء متبعة كل سؤال بجوابه:
س1 - أيهما أفضل في الأضحية الكبش أو البقر؟
ج1 - أفضل الأضاحي البدنة ثم البقرة ثم الشاة ثم شرك في بدنة ناقة أو بقرة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الجمعة: «من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (881) ، صحيح مسلم الجمعة (850) ، سنن الترمذي الجمعة (499) ، سنن النسائي الجمعة (1388) ، سنن أبو داود الطهارة (351) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1092) ، مسند أحمد بن حنبل (2/460) ، موطأ مالك النداء للصلاة (227) ، سنن الدارمي الصلاة (1543) .(3/366)
ووجه الدلالة من ذلك وجود المفاضلة في التقرب إلى الله بين الإبل والبقر والغنم ولا شك أن الأضحية من أعظم القرب إلى الله تعالى، والبدنة أكثر ثمنا ولحما ونفعا وبهذا قال الأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد وقال مالك: الأفضل الجذع من الضأن ثم البقرة ثم البدنة؛ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين (1) » وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل إلا الأفضل. والجواب عن ذلك أن يقال: إنه - صلى الله عليه وسلم - قد يختار الأولى رفقا بالأمة لأنهم يتأسون به ولا يحب - صلى الله عليه وسلم - أن يشق عليهم وقد بين فضل البدنة على البقر والغنم كما سبق والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري الأضاحي (5558) ، صحيح مسلم الأضاحي (1966) ، سنن الترمذي الأضاحي (1494) ، سنن النسائي الضحايا (4415) ، سنن أبو داود الضحايا (2794) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3120) ، مسند أحمد بن حنبل (3/268) ، سنن الدارمي الأضاحي (1945) .(3/367)
س2 - أيجوز للمضحي أن يعطي الكافر من لحم أضحيته؟ .
ج2 - يستحب في الأضحية تجزئة لحمها أثلاثا: ثلث لصاحبها، وثلث لصديقه، وثلث للمساكين. ويجوز أن يعطى الكافر منها لفقره أو قرابته أو جواره أو تأليف قلبه.(3/367)
س3 - هل للمضحي أن يفطر من لحم أضحيته؟
ج2 - يستحب لمن له أضحية ألا يأكل شيئا حتى يصلي صلاة العيد، ثم يذبح أضحيته فيأكل أول ما يأكل منها إذا تيسر له ذلك وهذا قول أكثر أهل العلم منهم: علي وابن عباس ومالك والشافعي وغيرهم.
وروى الترمذي والأثر عن بريدة قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي (1) » .
وفي رواية الأثرم حتى يضحي. وقال الإمام أحمد: لا يأكل فيه حتى يرجع إذا كان له ذبح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من ذبيحته. وإذا لم يكن له لم يبال أن يأكل ولا حرج عليه في الأكل قبل الصلاة وبعدها من غير أضحيته والله أعلم.
__________
(1) سنن الترمذي الجمعة (542) ، سنن ابن ماجه الصيام (1756) ، مسند أحمد بن حنبل (5/360) ، سنن الدارمي الصلاة (1600) .(3/367)
س 4 - هل في خطبة العيدين جلوس بين الخطبتين؟
ج 4 - خطبتا العيدين سنة وهي بعد صلاة العيد وذلك لما روى النسائي وابن ماجه وأبو داود عن عطاء عن عبد الله بن السائب - رضي الله عنهما - قال شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما قضى الصلاة قال: «إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب (1) » . قال الشوكاني - رحمه الله - في النيل: قال المصنف - رحمه الله تعالى - وفيه بيان أن الخطبة سنة إذ لو وجبت وجب الجلوس لها. اهـ ويشرع لمن خطب خطبتين في العيد أن يفصل بينهما بجلوس خفيف قياسا على خطبتي الجمعة، ولما روى الشافعي - رحمه الله - عن عبيد بن عبد الله بن عتبة - رضي الله عنه - قال: السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين يفصل بينهما بجلوس. وذهب بعض أهل العلم إلى أنه ليس لصلاة العيد إلا خطبة واحدة؛ لأن الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس فيها إلا خطبة واحدة، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) سنن النسائي صلاة العيدين (1571) ، سنن أبو داود الصلاة (1155) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1290) .(3/368)
في اللحم المذبوح ببلاد الكفار
وأهل الكتاب
فتوى رقم 1216 بتاريخ 20 \ 3 \ 1396
وورد إلى الرئاسة العامة استفتاء يشتمل على أربعة أسئلة.
وقد أجابت عليه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء متبعة كل سؤال بجوابه: -
س1 - إذا مرضت امرأة واحتاجت إلى دم وأخذ لها من شخص أجنبي لها دم، ثم عافاها الله تعالى ثم رغب ذلك الشخص في التزوج بها، هل يجوز أو لا؟(3/369)
ج1 - ما ذكر من أخذ الدم من الرجل للمرأة وحقنها به للتقوية لا تنتشر به الحرمة ولو كثر كما تنتشر بالرضاع وكذا الحكم لو حقن الرجل بدم امرأة وعليه فيجوز لكل منهما أن يتزوج بالآخر.(3/370)
س2 - إذا توفرت أركان النكاح وشروطه إلا أن الولي والزوج كل منهما في بلد، فهل يجوز العقد تلفونيا أو لا؟
ج2 - نظرا إلى ما كثر في هذه الأيام من التغرير والخداع والمهارة في تقليد بعض الناس بعضا في الكلام وإحكام محاكاة غيرهم في الأصوات حتى أن أحدهم يقوى على أن يمثل جماعة من الذكور والإناث صغارا وكبارا ويحاكيهم في أصواتهم وفي لغاتهم المختلفة محاكاة تلقي في نفس السامع أن المتكلمين أشخاص وما هو إلا شخص واحد. ونظرا إلى عناية الشريعة الإسلامية بحفظ الفروج والأعراض والاحتياط لذلك أكثر من الاحتياط لغيره من عقود المعاملات - رأت اللجنة أنه ينبغي ألا يعتمد في عقود النكاح في الإيجاب والقبول والتوكيل على المحادثات التليفونية تحقيقا لمقاصد الشريعة ومزيد عناية في حفظ الفروج والأعراض حتى لا يعبث أهل الأهواء، ومن تحدثهم أنفسهم بالغش والخداع.(3/370)
س3 - ما حكم اللحم الذي يوجد في الأسواق وقد ذبح في الخارج هل يجوز الأكل منه أو لا؟
ج3 - إن كان مذكي الأنعام أو الطيور غير كتابي ككفار روسيا وبلغاريا وما شابههما، في الإلحاد ونبذ الديانات فلا تؤكل ذبيحته سواء ذكر اسم الله عليها أم لا؛ لأن الأصل حل ذبائح المسلمين فقط. واستثني ذبائح أهل الكتاب بالنص وإن كان من ذكاها من أهل الكتاب اليهود والنصارى، فإن كانت تذكيته إياها بذبح رقبتها أو نحر في لبتها وهي حية وذكر اسم الله عليها أكلت اتفاقا، لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) وإن لم يذكر اسم الله عليها عمدا ولا اسم غيره ففي جواز أكلها خلاف، وإن ذكر اسم غير الله عليها لم تؤكل وهي ميتة لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (2) وإن ضربها في رأسها بمسدس أو سلط عليها تيارا كهربائيا مثلا فماتت من ذلك فهي موقوذة ولو قطع
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة الأنعام الآية 121(3/370)
رقبتها بعد ذلك، وقد حرمها الله في قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} (1) إلا إذا أدركت حية بعد ضرب رأسها قبلا وذكيت فتؤكل؛ لقوله تعالى في آخر هذه الآية: {وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (2) فاستثنى سبحانه من المحرمات ما ذكي منها إذا أدرك حيا؛ لأن التذكية لا تأثير لها في الميتة.
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة المائدة الآية 3(3/371)
س4 - أين ميقات المكي للعمرة؟
ج4 - ميقات العمرة لمن بمكة الحل؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - لما ألحت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعتمر عمرة منفردة بعد أن حجت معه قارنة أمر أخيها عبد الرحمن أن يذهب معها إلى التنعيم لتحرم منه بالعمرة، وهو أقرب ما يكون من الحل إلى مكة، وكان ذلك ليلا، ولو كان الإحرام بالعمرة من مكة أو أي مكان من الحرم جائزا لما شق النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه وعلى عائشة وأخيها بأمره أخاها أن يذهب معها إلى التنعيم لتحرم منه بالعمرة، وقد كان ذلك ليلا وهم على سفر ويحوجه ذلك انتظارهما، والإذن لها أن تحرم من منزلها معه ببطحاء مكة. عملا بسماحة الشريعة ويسرها ولأنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإذا كان إثما كان أبعد الناس منه، وحيث لم يأذن لها في الإحرام بالعمرة من بطحاء مكة دل ذلك على أن الحرم ليس ميقاتا للإحرام بالعمرة وكان مخصصا لحديث «وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم وقال: " هن لهم ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة ومن كان دون ذلك فمهله من أهله حتى أهل مكة من مكة (1) » وبالله التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1524) ، صحيح مسلم الحج (1181) ، سنن النسائي مناسك الحج (2654) ، مسند أحمد بن حنبل (1/238) ، سنن الدارمي المناسك (1792) .(3/371)
حكم الحلف بغير الله
حكم لبس الباروكة للزوج
حكم حلق المرأة رأسها وحواجبها
فتوى رقم 1332 بتاريخ 29 \ 7 \ 1396
وكذلك ورد إلى الرئاسة العامة استفتاء تضمن ثلاثة أسئلة. وقد أجابت عليها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء متبعة كل سؤال بجوابه: -
س1 - ما حكم الحلف بغير الله، هل هو شرك أو لا؟
؟ ج1 - الحلف بغير الله من ملك أو نبي أو ولي أو مخلوق ما من المخلوقات محرم لما ثبت عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه فناداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ألا إن الله - عز وجل - ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (1) » . وفي رواية أخرى عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6108) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .(3/372)
قال: «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله "، وكانت قريش تحلف بآبائها فقال: " لا تحلفوا بآبائكم (1) » . .
رواهما مسلم وغيره، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحلف بغير الله، والأصل في النهي التحريم، بل ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سماه شركا، روى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (2) » . رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم، وقد حمل العلماء ذلك على الشرك الأصغر، وقالوا: إنه كفر دون الكفر الأكبر المخرج من والعياذ بالله، فهو من أكبر الكبائر، ولهذا قال ابن مسعود - رضي الله عنه -:؛ لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا " ويؤيد ذلك ما رواه أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من حلف منكم فقال في حلفه باللات فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لأخيه: تعال أقامرك فليتصدق (3) » رواه مسلم وغيره، فأمر - صلى الله عليه وسلم - من حلف من المسلمين باللات أن يقول بعد ذلك: لا إله إلا الله لمنافاة الحلف بغير الله كمال التوحيد الواجب، وذلك لما فيه من إعظام غير الله بما هو مختص بالله، وهو الحلف به وما ورد في بعض الأحاديث من الحلف بالآباء فهو قبل النهي عن ذلك جريا على ما كان معتادا في قريش في الجاهلية.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3836) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(2) سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) .
(3) صحيح البخاري الاستئذان (6301) ، صحيح مسلم الأيمان (1647) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1545) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3775) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3247) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2096) ، مسند أحمد بن حنبل (2/309) .(3/373)
س2 - ما حكم لبس المرأة ما يسمى بالباروكة لتتزين بها لزوجها؟
ج2 - ينبغي لكل من الزوجين أن يتجمل للآخر بما يحببه فيه ويقوي العلاقة بينهما، لكن في حدود ما أباحته شريعة الإسلام دون حرمته، ولبس ما يسمى بالباروكة بدأ في غير المسلمات، واشتهرن بلبسه والتزين به حتى صار من سيمتهن، فلبس المرأة المسلمة إياها وتزينها بها ولو لزوجها فيه تشبه بالكافرات وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك بقوله: «من تشبه بقوم فهو منهم (1) » ولأنه في حكم وصل الشعر بل أشد منه، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ولعن فاعله.
__________
(1) سنن أبو داود اللباس (4031) .(3/373)
س3 - ما حكم حلق المرأة رأسها وحواجبها؟
ج3 - لا يجوز للمرأة أن تحلق رأسها إلا من ضرورة، لما روى الترمذي والنسائي عن علي - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تحلق المرأة رأسها (1) » . ولما رواه الخلال بإسناده عن قتادة عن
__________
(1) سنن الترمذي الحج (914) ، سنن النسائي الزينة (5049) .(3/373)
عكرمة قال: «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها (1) » . وقال الحسن: هي مثلة، وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن المرأة تعجز عن شعرها وعن معالجته، أتأخذ على حديث ميمونة، قال: " لأي شيء تأخذه "، قيل له: لا تقدر على الدهن وما يصلحه، وتقع فيه الدواب، قال إن كان لضرورة فأرجو ألا يكون به بأس ". اهـ.
أما قص شعر الحواجب أو تحديده بقص جوانبه أو حلقه أو نتفه للزينة كما يفعله بعض النساء اليوم فحرام لما فيه من تغيير خلق الله، ومتابعة الشيطان في تغريره بالإنسان وأمره بتغيير خلق الله، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (2) {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} (3) {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} (4) {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} (5) وفي الصحيح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: «لعن الله الواشمات والموستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات المغيرات لخلق الله (6) » ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله - عز وجل - يعني قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (7) وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) سنن الترمذي الحج (914) ، سنن النسائي الزينة (5049) .
(2) سورة النساء الآية 116
(3) سورة النساء الآية 117
(4) سورة النساء الآية 118
(5) سورة النساء الآية 119
(6) صحيح البخاري تفسير القرآن (4886) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2125) ، سنن الترمذي الأدب (2782) ، سنن النسائي الزينة (5099) ، سنن أبو داود الترجل (4169) ، سنن ابن ماجه النكاح (1989) ، مسند أحمد بن حنبل (1/434) ، سنن الدارمي الاستئذان (2647) .
(7) سورة الحشر الآية 7(3/374)
السفر وإفطار رمضان
حكم التوسل إلى الله بالأنبياء والصالحين
فتوى رقم 1328 بتاريخ 9 \ 7 \ 1396
وورد إلى اللرئاسة العامة استفتاء يشتمل على سؤالين وقد أجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عليهما متبعة كل سؤال بجوابه: -
س1 - هل يشترط لترخص المسافر في سفره بالفطر في رمضان أن يكون سفره على الرجل أو على الدابة أو ليس هناك فرق بين الراجل وراكب الدابة وراكب السيارة أو الطائرة؟ وهل يشترط أن يكون في السفر تعب لا يستطيع الصائم تحمله؟ وهل الأحسن أن يصوم المسافر إذا استطاع أو الأحسن له الفطر؟(3/375)
ج1 - يجوز للمسافر سفر قصر أن يفطر في سفره سواء كان ماشيا أو راكبا وسواء كان ركوبه بالسيارة أو الطائرة أو غيرهما وسواء تعب في سفره تعبا لا يتحمل معه الصوم أو لو يتعب، اعتراه جوع وعطش أو لم يصبه شيء من ذلك؛ لأن الشرع أطلق الرخصة للمسافر سفر قصر في الفطر وقصر الصلاة ونحوهما من رخص السفر ولم يقيد ذلك بنوع من المركب، ولا بخشية التعب أو الجوع أو العطش، وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسافرون معه في غزوه في شهر رمضان فمنهم من يصوم ومنهم من يفطر ولم يعب بعضهم على بعض لكن يتأكد على المسافر الفطر في شهر رمضان إذا شق عليه الصوم لشدة حر أو وعورة مسلك أو بعد شقة وتتابع سير مثلا، فعن أنس كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فصام بعض وأفطر بعض فتحزم المفطرون وعملوا وضعف الصائمون عن بعض العمل، فقال: " ذهب المفطرون اليوم بالأجر " وقد يجب الفطر في السفر لأمر طارئ يوجب ذلك كما في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ونحن صيام قال: فنزلنا منزلا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم (1) » . فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من افطر، ثم نزلنا منزلا آخر، فقال: «إنكم مصبحوا عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا " وكانت عزمة، فأفطرنا، ثم قال: لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك في السفر (2) » . رواه مسلم. وكما في حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فرأى رجلا قد اجتمع الناس عليه، وقد ظلل عليه فقال: " ماله؟ " قالوا: رجل صائم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس البر أن تصوموا في السفر (3) » . رواه مسلم.
__________
(1) صحيح مسلم الصيام (1120) ، سنن أبو داود الصوم (2406) .
(2) صحيح مسلم الصيام (1120) ، سنن أبو داود الصوم (2406) .
(3) صحيح البخاري الصوم (1946) ، صحيح مسلم الصيام (1115) ، سنن النسائي الصيام (2258) ، سنن أبو داود الصوم (2407) ، مسند أحمد بن حنبل (3/317) ، سنن الدارمي الصوم (1709) .(3/376)
س2 - هل يجوز للمسلم أن يتوسل على الله بالأنبياء والصالحين، فقد وقفت على قول بعض العلماء أن التوسل بالأولياء لا بأس به؛ لأن الدعاء فيه موجه إلى الله، ورأيت لبعضهم خلاف ما قال هذا، فما حكم الشريعة في هذه المسألة؟
ج2 - الولي كل من آمن بالله واتقاه ففعل ما أمره الله سبحانه به قال تعالى {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (2) وانتهى عما نهاه عنه، والتوسل إلى الله بأوليائه أنواع: -
الأول: أن يطلب إنسان من الولي الحي أن يدعو الله له بسعة رزق أو شفاء من مرض أو هداية وتوفيق ونحو ذلك فهذا جائز، ومنه طلب بعض الصحابة من النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما تأخر عنهم المطر أن يستسقي لهم. فسأل - صلى الله عليه وسلم - ربه أن ينزل المطر فاستجاب دعاءه وأنزل عليهم المطر، ومنه
__________
(1) سورة يونس الآية 62
(2) سورة يونس الآية 63(3/376)
استسقاء الصحابة بالعباس في خلافة عمر - رضي الله عنهم - وطلبهم منه أن يدعو الله بنزول المطر فدعا العباس ربه وأمن الصحابة على دعائه، إلى غير هذا مما حصل زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طلب مسلم من أخيه المسلم أن يدعو له ربه بجلب نفع أو كشف ضر.
الثاني: أن ينادي الله متوسلا إليه بحب نبيه واتباعه إياه وبحبه لأولياء الله بأن يقول: اللهم إني أسألك بحبي لنبيك واتباعي له وبحبي لأوليائك أن تعطيني كذا، فهذا جائز لأنه توسل من العبد إلى ربه بعمله الصالح ومن هذا ما ثبت من توسل أصحاب الغار الثلاثة بأعمالهم الصالحة.
الثالث: أن يسأل الله بجاه أنبيائه أو ولي من أوليائه بأن يقول اللهم إني أسألك بجاه نبيك أو بجاه الحسين مثلا فهذا لا يجوز؛ لأن جاه أولياء الله وإن كان وجيها عند الله وخاصة حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - غير أنه ليس سببا شرعيا ولا عاديا لاستجابة الدعاء، ولهذا عدل الصحابة حينما أجدبوا عن التوسل بجاهه - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الاستسقاء إلى التوسل بدعاء عمه العباس مع أن جاهه - عليه الصلاة والسلام - فوق كل جاه، ولم يعرف عن الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم توسلوا به - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته وهم خير القرون وأعرف الناس بحقه وأحبهم له.
الرابع: أن يسأل العبد ربه حاجته مقسما بوليه أو بنبيه أو بحق نبيه أو أوليائه بأن يقول: اللهم إني أسألك كذا بوليك أو بحق نبيك فلان فهذا لا يجوز، فإن القسم بالمخلوق على المخلوق ممنوع وهو على الله الخالق أشد منعا ثم لا حق لمخلوق على الخالق بمجرد طاعته له سبحانه حتى يقسم به على الله.
هذا هو الذي تشهد له الأدلة وهو الذي تصان به العقيدة الإسلامية وتسد به ذرائع الشرك. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(3/377)
في قراءة القرآن من أجل التكسب
فتوى رقم 1268 بتاريخ 10 \ 5 \ 1396
وورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الاستفتاء الآتي بعد، المشتمل على سؤالين وقد أجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عليها متبعة كل سؤال بجوابه.
س1 - " إن حملة القرآن عندنا في المغرب يقرأونه من أجل التكسب على ما يظهر وكلما أعدت لهم وليمة يأتون ويقرءونه من غير تمعن في ألفاظه واحترام لتلاوته لعدم التجويد، وهناك عندما يقرأ قارئ تراهم أي الآخرين كل منهم يهمس في أذن صاحبه ويتكلمون في أمور خارج الموضوع وهناك بعض القراءة التي يستعملونها يقال لها (تحزانات) عندنا أي يحدثون اعوجاجات في ألفاظه، ويحدثون صداعا لا تكاد الأذن تحمله عندما يريدون الوقوف عند فاصل أو غيره، ومما يظهر عليهم أيضا أنهم قد حفظوا القرآن لكن مع(3/378)
الأسف الشديد لا يفقهونه ولا يفهمونه ولا يرشدونك ولا يعطونك أي دليل للإرشاد إلا أنهم استغنوا بحفظه فقط.
وإن أول ما يظهر عليهم أثناء حضورهم في هذه الوليمة هو التماس الأجرة وجمع الصدقات من الناس ليتبركوا بهم ثم يعقدون في الدعاء لهم ولأبنائهم المتوفين ثم الدعاء للمتصدق عليهم بالنجاح والعون وغير ذلك. وبعد جمعهم لتلك الصدقات يقسمونها بينهم ولا ينال منها أي فقير أو مسكين فما حكم الشريعة الإسلامية في الصدقات التي يجمعونها، ويفرقونها بينهم وتلك القراءة التي يستعملونها؟
ولقد عثرت في كتاب على حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من استعمل القرآن من أجل التكسب سيأتي يوم القيامة ووجهه عظم» .
1 - أي خال من اللحم، فهل هذا الحديث صحيح أم لا؟ وما معنى الآية الكريمة: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} (1)
ج - أولا: تلاوة القرآن عبادة محضة، وقربة يتقرب بها العبد إلى ربه والأصل فيها وفي أمثالها من العبادات المحضة أن يفعلها المسلم ابتغاء مرضاة الله وطلبا للمثوبة عنده، فلا يبتغي بها من المخلوق جزاء ولا شكورا ولهذا لم يعرف عن السلف الصالح استئجار قوم يقرءون القرآن في حفلات أو ولائم ولم يؤثر عن أحد من أئمة الدين أنه أمر بذلك أو رخص فيه ولم يعرف أيضا عن أحد منهم أنه أخذ أجرا على تلاوة القرآن لا في الأفراح ولا في المآتم بل كانوا يتلون كتاب الله رغبة فيما عنده سبحانه. وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من قرأ القرآن أن يسأل الله به وحذر من سؤال الناس روى الترمذي في سننه عن عمران بن حصين أنه مر على قاض يقرأ ثم سأل فاسترجع ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به الناس (2) » ، وأما أخذ الأجرة على تعليمه أو الرقية به ونحو ذلك مما نفعه متعد لغير القارئ فقد دلت الأحاديث الصحيحة على جوازه في حديث أبي سعيد في أخذه قطيعا من الغنم جعلا على شفاء من رقاه بسورة الفاتحة، وحديث سهل في تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة لرجل بتعليمه إياها ما معه من القرآن، فمن أخذ أجرا على نفس التلاوة أو استأجر جماعة لتلاوة القرآن فهو مخالف لما أجمع عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم.
ثانيا: القرآن كلام الله تعالى وفضله على كلام الخلق كفضل الله على عباه، وهو خير الأذكار وأفضلها وينبغي لقارئه أن يكون مؤدبا في تلاوته خاشعا مخلصا قلبه لله، محكما لتلاوته، متدبرا لمعانيه حسب قدرته وألا يتشاغل عنها ولا يغيرها ولا يتكلف ولا يتقعر فيها ولا يرفع صوته فوق الحاجة، وينبغي لمن حضر مجلسا يقرأ فيه القرآن أن ينصت ويستمع للقراءة ويتدبر معانيها، فلا يلغوا ولا يتشاغل عنها بالحديث مع غيره ولا يشوش على القارئ ولا على الحاضرين قال الله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (3) وقال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (5)
__________
(1) سورة الفرقان الآية 57
(2) سنن الترمذي فضائل القرآن (2917) ، مسند أحمد بن حنبل (4/433) .
(3) سورة المزمل الآية 4
(4) سورة الأعراف الآية 204
(5) سورة الأعراف الآية 205(3/379)
ثالثا: الناس متفاوتون في أفهامهم وأفكارهم، وكل مكلف أن يعرف من الدين وأحكام الشريعة قدر ما أتاه الله من الفهم وسعة الوقت، ليعمل به في نفسه ويرشد به غيره، ومن أول ما ينبغي له أن يتفهمه ويلقي إليه باله ويحضر له قلبه كتاب الله - سبحانه - وما عجز عن فهمه بنفسه استعان فيه بالله ثم بالعلماء حسب طاقته وقدرته، ثم لا حرج عليه بعد ذلك فإن الله سبحانه لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولا يمنعه من تلاوة القرآن عجزه عن فهمه بعد أن بذل وسعه، ولا يعاب بذلك لما ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق فله أجران (1) » .
رابعا: يجوز للفقير أن يأخذ من الصدقات ما يسد حاجته وحاجة من يعول، ويسن له أن يدعو بالخير لمن تصدق عليه، أما أخذ المال على أنه أجرة لتلاوة القرآن أو لكونه وعظهم وذكرهم أو إعطاؤه لشخص رجاء بركته أو جمعه لأشخاص رجاء بركتهم واستجداء لدعائهم فهو غير جائز، ولم يكن ذلك من هدي المسلمين في القرون الثلاثة الأولى التي شهد لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها خير القرون.
خامسا: معنى قوله تعالى {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} (2) أن الله تعالى أمر رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر قومه بأنه لا يطلب منهم أجرا على تبليغهم ما أنزل إليه من ربه ودعوته إياهم إلى التوحيد الخالص وسائر أحكام الإسلام إنما يقوم بالبلاغ والبيان للأمة تنفيذا لأمر الله وطاعة له ابتغاء مرضاته وحده ورجاء المثوبة والأجر الكريم منه سبحانه دون سواه، وذلك ليزيل ما قد يكون في نفوس المشركين من ظنون وأوهام كاذبة من أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعاهم إلى اتباعه فيما شرع الله لهم ليتكسب في ذلك، أو ينال رئاسة في قومه فبين لهم أن دعوته إياهم إلى الحق خالصة لوجه الله الكريم وهكذا جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يسألون الناس أجرا على دعوتهم إياهم وقد تقدم في حديث عمران بن حصين التحذير من التكسب بالقرآن وسؤال الناس به، أما السؤال عن عقوبته يوم القيامة بتساقط لحم وجهه فذلك وعيد لكل من سأل الناس وهو في غير حاجة تضطره إلى المسألة سواء كان لقراءة القرآن أم بدون قراءته فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم (3) » وفي رواية عنه «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم (4) » متفق عليهما. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو يستكثر (5) » رواه مسلم. فمن سأل الناس بالقرآن صدق فيه الحديث إن كان فقيرا أما إن كان غنيا فقد صدقت فيه هذه الأحاديث كلها أما لفظ الحديث الذي ذكرته في السؤال فلا نعلم صحته بهذا اللفظ الذي ذكرته. والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4937) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (798) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2904) ، سنن أبو داود الصلاة (1454) ، سنن ابن ماجه الأدب (3779) ، مسند أحمد بن حنبل (6/98) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3368) .
(2) سورة الفرقان الآية 57
(3) صحيح البخاري الزكاة (1475) ، صحيح مسلم الزكاة (1040) ، سنن النسائي الزكاة (2585) ، مسند أحمد بن حنبل (2/15) .
(4) صحيح البخاري الزكاة (1475) ، صحيح مسلم الزكاة (1040) ، سنن النسائي الزكاة (2585) ، مسند أحمد بن حنبل (2/15) .
(5) صحيح مسلم الزكاة (1041) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1838) ، مسند أحمد بن حنبل (2/231) .(3/380)
س2 - ما الحكم الشرعي فيمن أتى امرأته أي زوجته الشرعية ونكحها من الدبر من غير أن يعلم؟
ج2 - يحرم على الرجل أن يطأ زوجته في دبرها ومن حصل منه ذلك وهو لا يعلم لأمر ما فهو معذور معفو عنه إذا كف عن ذلك بعد علمه حرمته، والدليل على تحريم وطء الزوجة في دبرها ما رواه أحمد والبخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله أن اليهود كانت تقول: " إذا أتيت المرأة من دبرها في قبلها ثم حملت كان ولدها أحول، قال: فنزلت {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (1) وزاد مسلم إن شاء الله مجبية وإن شاء غير مجبية غير أن ذلك في صمام واحد. فكذب الله اليهود في قولهم: إن الرجل إذا أتى زوجته في قبلها من جهة دبرها وهي مجبية أي مكبة على وجهها جاء الولد أحول، وبين بالآية أنه يجوز للرجل أن يأتي زوجته على أي كيفية شاء مستلقية على ظهرها أو مكبة على وجهها ما دام وطؤه إياها في قبلها بدليل فهم الصحابة ذلك وهم عرب، وتسمية الله النساء حرثا ترجى منه الذرية ولا ترجى الذرية من الوطء في الدبر، وما ذكر في سبب النزول من ذكر الحمل ومجيء الولد أحول، والحمل والولد لا يكون من الوطء في الدبر أصلا لا أحول ولا غير أحول، وروى أحمد والترمذي «عن أم سلمة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى يعني في صمام واحد (3) » ، وقال حديث حسن، هذا وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن وطء الرجل زوجته في الدبر، منها ما رواه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ملعون من أتى امرأة في دبرها (4) » وفي لفظ: «لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها (5) » رواه أحمد وابن ماجه. ومنها ما رواه أحمد عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تأتوا النساء في أعجازهن " أو قال: " في أدبارهن (6) » . ومنها ما رواه أحمد والترمذي عن علي بن أبي طالب قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تأتوا النساء في استاههن، فإن الله لا يستحي من الحق (7) »
وقال الترمذي حديث حسن، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
__________
(1) سورة البقرة الآية 223
(2) سنن الترمذي تفسير القرآن (2979) ، مسند أحمد بن حنبل (6/318) ، سنن الدارمي الطهارة (1119) .
(3) سورة البقرة الآية 223 (2) {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}
(4) سنن أبو داود النكاح (2162) .
(5) سنن ابن ماجه النكاح (1923) ، مسند أحمد بن حنبل (2/344) ، سنن الدارمي الطهارة (1140) .
(6) سنن الترمذي الرضاع (1164) ، مسند أحمد بن حنبل (1/86) .
(7) سنن الترمذي الرضاع (1164) ، سنن الدارمي الطهارة (1141) .(3/381)
من المؤتمر السادس لجمعية التعليم لعموم الهند لفضيلة نائب رئيس الإفتاء الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
" الخطاب الذي ألقاه عن الوفد السعودي لحضور المؤتمر السادس لجمعية التعليم لعموم الهند في حيدر آباد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع ".
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
لقد تعددت المؤتمرات الإسلامية في الآونة الأخيرة، وتعددت المناسبات الموجبة لانعقادها، وانتهى ما تم انعقاده منها بقرارات ونداءات وتوصيات، على أن الشريعة الإسلامية أصل أساسي لإسعاد الإنسان وإحلال التعايش الاجتماعي بين طبقات الإنسان مهما كانت الفوارق الطبيعية بينهم، ومهما كان تباعدهم في اللون والجنس والمكان، وصار من يحضر مثل هذه المؤتمرات ممن ليس مسلما وله عناية بدراسة أمن الإنسانية ورخائها أكثر قناعة وأقرب إلى التسليم والقبول بانفراد الشريعة الإسلامية بتشريعات مدنية وجنائية وأخلاقية لها آثار جليلة وإيجابية في الأخذ بيد الإنسان إلى أسمى مراقي السعادة والهناء وانفرادها دون غيرها من الشرائع الأخرى بالنظرة إلى الإنسان مهما كانت لونه وجنسه ووطنه كوليد له في نفس والده بالغ العطف والحنان ومن جهده في تنشئته النشأة الصالحة.
إننا نطمع من تعدد هذه المؤتمرات وما تنتجه هذه المؤتمرات في الشيء الكثير في سبيل التعريف بالإسلام وإظهار جوانب الإشراق فيما يدعو إليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونسبه الحمد والثناء إلى مسدي الفضل والعطاء والأهل بالمن بالرخاء، ربنا الله الرحمن الرحيم، ذلكم الرب الكريم الذي خلق لنا معشر بني الإنسان ما في الأرض جميعا وقال تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (1) كما نطمع من هذه المؤتمرات أن تعبئ المشاعر الإنسانية بصدق القول في أن الإنسانية لم تسعد ولن تسعد بغير الإسلام، وأنها أحوج ما تكون إليه الآن فهو دين العقل ودين العلم ودين الحضارة ودين التعايش العام وفضلا عن ذلك كله فهو الرابطة المتينة الفذة بين الإنسان وربه قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (2) وبين الإنسان وأخيه الإنسان قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (3) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) (4) » وقال - صلى الله عليه وسلم -: «" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (5) » .
__________
(1) سورة طه الآية 81
(2) سورة آل عمران الآية 85
(3) سورة الحجرات الآية 10
(4) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(5) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .(3/382)
إن الإنسانية قد ابتليت بمادية تجاهلت قيمة الإنسان واعتباره كإنسان يحمل بين جنبيه قطعة ذات قيمة نادرة، حتى أصبح الإنسان بحكم إيغاله في المادية وانغماسه في مقتضياتها لا يشكل فارقا كبيرا بينه وبين حيوانات أخرى لا تحمل بين جنباتها ما يحمله الإنسان من قلب هو ميزته عن سائرها فصار لا يفرق بين طعام وطعام، ولا بين شراب وشراب ولا بين خلق وخلق من حيث الإباحة والتحريم إلا كما يفرق الحيوان بين ذلك، كما ابتليت الإنسانية بمذاهب عقيدية أنكرت على الإنسان قيمته كإنسان فحرمت عليه ما أحل الله من طعام وشراب ولباس وغير ذلك من زينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق فعطلت تلك المذاهب في الإنسان وظيفته في هذه الحياة، قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (1)
إن الإسلام يأخذ في اعتباره عند التشريع أن الإنسان روح وجسد وأن العناية بأحد التركيبين لا ينبغي أن تقل عن العناية بالتركيب الآخر، فهو حينما يعني بالروح تربية وتهذيبا يعني بالجسد تنمية ورعاية قال تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} (2) وقال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (3) ويروى أن رجالا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرادوا التبتل تدينا فنهاهم - صلى الله عليه وسلم - وقال: «" إنما أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني (4) » . ويروى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قوله: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعلم لأخرتك كأنك تموت غدا.
لقد تخرج من المدرسة الإسلامية رجال قادوا الإنسانية إلى أسمى مثال وأعز اعتبار وأعلى منال فظهرت جوانب الإشراق في التشريع الإسلامي في مجالات العبادة والثقافة والولاية والتقنين والاقتصاد وسائر المعارف العقلية والنقلية مما شهد به الأعداء وهم أبعد ما يكونون من الشهادة بالحق والاتصاف بالإنصاف فلقد قال بعضهم: إننا لا نبالغ إذا قلنا إن أوربا مدينة للمسلمين بخدمتهم العلمية، تلك الخدمة التي كانت العامل الأكبر في النهضة العلمية الأوروبية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. وقال آخرون: إنه لولا أعمال ابن الهيثم والبيروني وابن سيناء والخوارزمي والكندي والطوسي والبوزجاني وغيرهم لاضطر علماء النهضة الأوروبية أن يبنوا من حيث بدأ هؤلاء ولتأخر سير المدنية عدة قرون. اهـ.
وممن أنصف علماء المسلمين وأشاد بفضلهم على الإنسانية وعلى الحضارة الحديثة الأستاذ برنال فهو يقول: إن الفضل أعظم الفضل للعلماء العرب في الحفاظ على هذا التراث وتدوينه ونقله والتأليف فيه، وإن العلماء العرب قد بلغوا في ذلك وإنهم تفوقوا على الأغريق وجعلوا العلم سهلا مستساغا، فأقبل الناس على النهل منه
__________
(1) سورة البقرة الآية 30
(2) سورة البقرة الآية 201
(3) سورة القصص الآية 77
(4) صحيح البخاري النكاح (5063) ، صحيح مسلم النكاح (1401) ، سنن النسائي النكاح (3217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/241) .(3/383)
وكانت ميزة تفرد بها العلم العربي. أهـ.
ويقول كاريسنكي: إن الخدمات التي أداها العرب للعلوم غير مقدرة حق قدرها من المؤرخين، وإن البحوث الحديثة قد دلت على عظم ديننا للعلماء المسلمين الذين نشروا نور العلم بينما كانت أوروبا غارقة في ظلمات القرون الوسطى، وإن العرب لم يقتصروا على نقل علوم الإغريق بل زادوا عليها وقاموا بإضافات هامة في ميادين مختلفة أهـ.
وجاء في مقدمة أحد كتب الكيمياء لأحد علماء الغرب ما نصه:
إنكم يا معشر اللاتينيين لا تعرفون بعد ما هي الكيمياء ولا ما تراكيبها وأصولها وسترون ذلك مشروحا في هذا الكتاب الذي ننقله عن العربية أهـ.
وقال كاليجوري: إن العقل ليرتعش دهشا عندما يرى ما عمله العلماء العرب في الجبر، وهم أول من أطلق لفظ الجبر على العلم المعروف، وهم أول من ألف فيه بطريقة علمية منظمة أهـ.
ويقول المستشرق سخاو عن البيروني أحد علماء الإسلام إنه أكبر عقلية علمية في التاريخ، وإنه من أضخم العقول التي ظهرت في العالم، وإنه أعظم علماء عصره، ومن أعظم العلماء في كل العصور أهـ.
ويقول المستشرق الأمريكي أبو يوبوب:
إن أي قائمة تحوي أسماء أكابر علماء يجب أن يكون اسم البيروني في مكانه الرفيع ومن المستحيل أن يكتمل أي بحث في الرياضيات أو الفلك أو الجغرافيا أو علم الإنسان أو المعادن دون الإقرار بمساهمته العظيمة في كل علم من تلك العلوم أهـ.
إننا لسنا في شك في الشريعة الإسلامية وموقفها الإيجابي المشرف من المعارف والعلوم الإنسانية والطبيعية ومدى مقدرتها العظيمة في سبيل احتضان العلم والأخذ بأهله إلى أمكنتهم الرفيعة في طبقات المجتمع، إننا لسنا في شك فيها حتى نطلب الشهادة لها بذلك فلقد اختارها الله تعالى لعباده شريعة ورضيها لهم دينا وأسقط من الاعتبار ما عداها من الأديان فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (2)
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة آل عمران الآية 85(3/384)
إن المكتبة الإسلامية مليئة بكنوز العلم والمعرفة في شتى مجالات العقيدة والعلم والحياة وإن التجارب الناجحة لاعتقاد أن الشريعة الإسلامية وحدة متكاملة قادرة بمختلف الإمكانيات على قيادة المجتمع الإنساني إلى أسمى خلق وأرفع قدر وأقوى شكيمة وأشمل هيبة وأنفذ سلطان، وعلى إعطاء الفرد في أي مجتمع يدين بها حقوقا تعجز عن تحقيقها له أدنى التشريعات الأخرى. إن التجارب الناجحة لتؤكد ذلك وإن التاريخ الإنساني ليسجل للإسلام أنصع صفحات العز والرفعة وسعة السلطان حينما كانت كلمة الفصل للإسلام والرجوع عند الاختلاف إلى الإسلام والاعتزاز والافتخار في مجالات التفاخر والتفاضل بالإسلام والاستهانة بالمال والنفس والولد في سبيل إعلاء كلمة الإسلام.
إن المسلمين الآن أحوج ما يكونون إلى الإسلام فلقد تفرقوا عن الإسلام فاستعبدتهم المدنية وأذلتهم المادية فهانت نفوسهم وضعفت عزائمهم وتشتت كلمتهم وانقسموا إلى فرق وطوائف سهلت لعدوهم الطمع فيهم فاغتصبوا حقوقهم، وألبوا عليهم شرارهم ليسهل لهم الارتماء في أحضانهم فأصبح اعتماد المسلمين اليوم على الشرق أو الغرب لا على رب المشرقين والمغربين، فأذلوهم وخذلوهم وصدق رسول رب العالمين فيما يبلغه عن ربه: «من عصاني وهو يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني» .
فإذا لم يرجع المسلمون إلى ربهم ويعملوا بمقتضى الشهادة لوحدانيته تعالى وبرسالة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وينيبوا إلى الله ويسلموا له، فيسلكون سبيل ما صلح به أسلافهم فليس لسنة الله تحويلا قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (1) وقال: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (2) وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (3)
إن الدين الإسلامي ليس كغيره من المذاهب العقائدية أو السياسية أو الاجتماعية يرتكز على نعرات طائفية أو صفات عنصرية أو قوميات جنسية وإنما هو دين حنيف يدعو إلى عبادة الله وحده خالق الكون ذي الجلال والإكرام ذي المنع والعطاء والنفع والضر، ويقرر في أنصع عبارة وأوضح بيان كرامة الإنسان على ربه وكرامته على بني جنسه قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (4)
__________
(1) سورة محمد الآية 38
(2) سورة هود الآية 102
(3) سورة الإسراء الآية 16
(4) سورة الإسراء الآية 70(3/385)
إن الإسلام سياج الإنسان مهما كان الإنسان وفي أي مكان كان الإنسان وفي أي زمان يعيش فيه الإنسان، إنه يحمي الإنسان من الذل والخضوع لغير الله، ويحمي الإنسان ممن يعتدي على نفسه بغيا وعدوانا، ويحمي عقل الإنسان من أسباب التغير والزوال، ويحمي الإنسان من الاعتداء على عرضه بما يدنسه ويخدش كرامته، ويحمي مال الإنسان من أخذه عليه بغير حق ظلما وعدوانا، ولهذا فغالب تشريعاته تدور حول هذه الأمور الضرورية الخمسة لحياة الإنسان وفي حياة الإنسان - الدين، النفس، العقل، العرض، المال، فإذا قلنا: إن الإسلام سياج الإنسان فإنا نعني بذلك أن الإنسان مهما كان إنسانا فهو يحترم من يحترم له هذه الضروريات الخمس ويدافع معه في سبيلها وهذا بكل تأكيد يفسر لنا وجه الإقبال على اعتناق الإسلام ويؤكد علينا معشر المسلمين مسئوليتنا في سبيل الدعوة إلى الله والأخذ بأسباب قبول الدعوة بإصلاح المجتمعات الإسلامية لتكون صورا مشرفة للإسلام ولأهل الإسلام بالعناية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تكون الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وأن يكون الداعي على مستوى من العلم والخلق والاستقامة يغري بقبول دعوته، واعتباره قدوة يحتذى حذوه ويسلك طريقه، وأن يبذل النفيس من مال وجهد في سبيل الدعوة إلى الله تعالى والترغيب فيها وإليها فهي طريق أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين.
إن غالب المجتمعات الإسلامية ومع كل أسف وامتعاض لتسيء إلى الإسلام وتعطي صورا سيئة عن الإسلام، فالإسلام يعتبر الزنا فاحشة ومقتا وساء سبيلا، ويعتبر السرقة عدوانا أثيما ويعتبر الخمر رجسا من عمل الشيطان، ويعتبر الربا محاربة لله ولرسوله وأكلا لأموال الناس بالباطل، ويعتبر الغش والخيانة والغدر ونقض العهود والمواثيق بغير حق صفات ذميمة لا ينبغي لمسلم أن يتصف بها ولا بواحدة منها، ويعتبر التفرق عن جماعة المسلمين شذوذا وفشلا تذهب به الريح، ومع هذا كله فمجتمعات المسلمين في الغالب خاربة بهذه المسالك الملتوية وبتلك القاذورات المسيئة إلى الإسلام وإلى الدعاة إلى الإسلام فعلينا معشر الدعاة إلى الإسلام أن نأخذ في الاعتبار في سبيل الدعوة إلى الإسلام هذا الوضع المؤلم وأن نصلحه حتى لا نكون في عداد من قال الله تعالى بشأنهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} (1) {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2)
إننا نشكر جمعية الثقافة الإسلامية لعموم الهند على إتاحة هذه الفرصة المباركة ونتمنى لها ولمؤتمرها
__________
(1) سورة البقرة الآية 44
(2) سورة الصف الآية 3(3/386)
العزيز التوفيق والنتائج الحميدة للتعريف بهذا الدين الكريم والدعوة إليه، ففي التاريخ الإسلامي صفحات ناصعة تسجل ما للأمة الإسلامية من أرض الهند وفي أرض الهند من جهود عظيمة ومساع مشكورة في سبيل نشر الإسلام والدعوة إلى الإسلام وما لها من آثار علمية في مجالات مختلفة من علوم الشريعة الإسلامية ومعارفها.
ولهذه المدينة العريقة في مجال الطبع والنشر - حيدر آباد - دور كبير في التعريف بالإسلام ونشر ذخائره وكنوزه يعرفه لها علماء الإسلام في كل مكان، ولعل اختيارها لتكون مقرا لانعقاد هذا المؤتمر جزء من الاعتراف والتسليم لها بالجميل.
وقبل أن ننهي كلمتنا في هذه المناسبة الفريدة يجمل بنا أن نغتنم فرصتها للإشارة إلى بعض من ملامح العلاقات بين الهند والبلاد العربية.
لئن كانت العلاقات بين الهند والبلاد العربية بعد الإسلام موجودة وبشكل واسع وفي مجالات مختلفة فإن لهذه العلاقات امتدادا تاريخيا قبل الإسلام، فقد كان العرب يستوردون السيوف الصقيلة الجيدة من الهند، وسموا السيف بالمهند، كما كانوا يستوردون البخور ويسمونه العود الهندي، ومن أسماء نساء العرب هند، ولعل ذلك كان استلطافا لما كان يأتيهم من الهند ولهم مع الهند علاقات ثقافية توجد آثارها في مراكز الحضارة في البلاد العربية مثل العراق وأطراف الجزيرة وغيرها.
وعندما دخل الإسلام إلى الهند لأول مرة في تاريخه ونجاحه في جنوب الهند رحب به أهل الهند ووجدوا فيه دينا من أهم مقوماته وحدة المسلمين والتساوي بين جميع أفراد أهله، ونقتبس نصا مما قاله الرئيس الراحل جواهر لال نهرو عن الإسلام.
" إن دخول الإسلام له أهمية كبرى في تاريخ الهند إذ أنه قد فضح الفساد الذي كان قد انتشر في المجتمع الهندوكي الذين كانوا قد أظهروا فروق الطبقات واختفاء المنبوذين وحب الاعتزال عن العالم الذي كان تعيش فيه الهند، إن نظرية الأخوة الإسلامية والمساواة التي كان يؤمن بها المسلمون أثرت في أذهان الهندوس تأثيرا عميقا وكان أكثر خضوعا لهذا التأثير البؤساء الذين حرمهم المجتمع الهندي من المساواة والتمتع بالحقوق الإنسانية " اهـ (1) .
ثم توالت الصلاة الثقافية والتجارية وغيرها وقويت متانة ونموا بين الشعبين الهندي والعربي عندما قويت التجارة بينهم من جهة وعندما وفد إلى البلاد الإسلامية عدد كبير من أهل الهند وساهموا مساهمة جادة ونشطة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة، فكان منهم قواد مثل السندي بن شاهين، وعلماء مبرزون مثل الأوزاعي.
إننا لو أردنا أن نستعرض العلاقات العربية الهندية في مجالات الحياة المختلفة لاحتجنا الوقت الكثير
__________
(1) اكتشاف الهند ص 235 - 526.(3/387)
لاستعراضها وأنى لنا ذلك؟
مرة أخرى نكرر شكرنا وتقديرنا لجمعية الثقافة الإسلامية لعموم الهند ونتمنى للمؤتمر ثمارا طيبة ونتائج حميدة تخدم الإسلام والمسلمين، كما نكرر شكرنا للقائمين على شؤون المؤتمر لما لقيناه منهم من كرم الضيافة وحرارة الاستقبال وصدق المشاعر والله ولي التوفيق.(3/388)
محمد صالح العثيمين
في الطلاق
الفائدة الأولى: إذ قال لزوجته أنت طالق أو نحوه من الصريح فله ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن ينوي به الطلاق فيقع الطلاق بشرط أن يكون عارفا بمعناه.
الحال الثانية: أن ينوي به غير الطلاق مثل أن ينوي طاهرا فيغلط فيقول: طالق فلا يقع به الطلاق لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (1) » لكن هل يقبل منه دعوى ذلك في الحكم عند الترافع إلى الحاكم؟ فيه روايتان إحداهما: لا يقبل لأنه خلاف ما يقتضيه ظاهر لفظه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما أقضي بنحو ما أسمع (2) » وهو المذهب عند المتأخرين وظاهره، لو مع وجود قرينة تدل على صدق دعواه مثل أن تقول له: أريد أن أصلي، فيقول: أنت طالق، ويدعي أنه يريد أنت طاهر وفيه نظر؛ لأنهم ذكروا في بعض المسائل أنه إذا ادعى
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(2) صحيح البخاري المظالم والغصب (2458) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن الترمذي الأحكام (1339) ، سنن النسائي كتاب آداب القضاة (5422) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، مسند أحمد بن حنبل (6/320) ، موطأ مالك الأقضية (1424) .(3/389)
ما يخالف الظاهر مع وجود قرينة تدل على صدق قبل منه حكما، فينبغي أن يطرد ذلك هنا وفي جميع المواضع.
والرواية الثانية: في أصل المسألة يقبل منه دعوى ذلك في الحكم إلا أن توجد قرينة على كذبه مثل: أن يكون قوله: أنت طالق، جوابا لسؤالها الطلاق أو قاله حال غضب، قال في الإنصاف: وهو المذهب صححه في التصحيح وجزم به في الوجيز ومنتخب الآدمي، وقدمه في المغني والشرح والكافي. . . الخ.
وخلاصة هذه الحالة أنه إذا قال: أنت طالق، وادعى أنه أراد أنت طاهر ونحوه فغلط قبلت دعواه فيما بينه وبين الله، ولم يقع الطلاق وأما عند المحاكمة: فإما أن توجد قرينة على كذب دعواه فلا تقبل رواية واحدة، أو توجد قرينة على صدق دعواه فلا تقبل أيضا في ظاهر كلامهم وفيه نظر كما سبق، والصحيح قبولها ولا ينافي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما أقضي بنحو ما أسمع (1) » ؛ لأن المراد ما يسمع من الدعوى وقرائنها وعلى هذا فلا يقع الطلاق أو لا توجد قرينة على صدق دعواه ولا كذبها ففيه روايتان: القبول، وعدمه.
الحال الثالثة: أن لا ينوي بقوله أنت طالق لا طلاقا ولا غيره فيقع الطلاق، نص عليه أحمد وعليه الأصحاب؛ لأنه لفظ صريح فيه موضوع له فوجد الحكم بوجوده، وعنه لا يقع إلا بقرينة كغضب أو سؤالها الطلاق ونحوه. قال ابن القيم في رسالة له سماها (إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان) ومنهم أي العلماء من اشترط مع ذلك أن يكون مريدا لمعناه أي الطلاق ناويا له، فإن لم ينو معناه ولم يرده لم يلزمه حكمه، وهذا قول من يشترط لصريح الطلاق النية وقول من لا يوقع طلاق الهازل وهو قول في مذهب أحمد ومالك في المسألتين أهـ.
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2458) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن الترمذي الأحكام (1339) ، سنن النسائي كتاب آداب القضاة (5422) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، مسند أحمد بن حنبل (6/320) ، موطأ مالك الأقضية (1424) .(3/390)
الفائدة الثانية: إذا وقع به الطلاق فكم طلقة تقع به؟
هذا على أقسام:
القسم الأول: أن يأتي بصريح العدد فيقع ما صرح به ولا يقبل منه إرادة خلافه سواء، كان ما أراد أخف(3/390)
أو أغلظ، مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثا فتقع الثلاث ولو أراد واحدة، أو يقول: أنت طالق طلقة واحدة فتقع الواحدة ولو أراد أكثر؛ لأن النية لا تغير الصريح ولا يثبت بها وحدها حكم الطلاق.
القسم الثاني: أن يقول: أنت طالق ولا يأتي بصريح العدد ولا بالتكرار، فإن نوى واحدة فواحدة لاتفاق دلالة اللفظ والنية، وإن لم ينو شيئا فواحدة أيضا؛ لأن دلالة اسم الفاعل على معنى المصدر دلالة مطلقة تصدق بالواحدة، وظاهر كلامهم يكون واحدة ولو مع قرينة كما لو قالت طلقني ثلاثا فقال: أنت طالق، وإن نوى ثلاثا طلقت ثلاثا على المذهب، قال في الإنصاف: وهو المذهب على ما اصطلحناه. والرواية الثانية: تطلق واحدة فقط، قال في الإنصاف: وهي المذهب عند أكثر المتقدمين.
القسم الثالث: أن يقول أنت طالق ويكرر لفظ الطلاق دون لفظ الجملة مثل أن يقول: أنت طالق طالق طالق، فإن نوى الثلاث طلقت ثلاثا، وإن نوى واحدة، أو لم ينو شيئا طلقت واحدة، قال في المنتهى: وأنت طالق طالق طالق واحدة ما لم ينو أكثر قال في الفروع، وظاهر ما جزم به في الترغيب أنه إذا أطلق (يعني لم ينو عددا) تكرر فإنه قال أي صاحب الترغيب لو قال أنت طالق طالق طالق قبل قصد التأكيد أيضا. أهـ.
القسم الرابع: أن يقول أنت طالق ويكرر لفظ الجملة بدون حرف عطف مثل أن يقول: أنت طالق أنت طالق أنت طالق وله ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن ينوي تكرار الطلاق فيقع بقدر ما كرر فإن كرره مرتين فطلقتان أو ثلاثا فثلاث لاتفاق دلالة اللفظ والنية.
الحال الثانية: أن ينوي التأكيد أو الإفهام فلا يقع ما نوى به ذلك سواء أراد تأكيد الأولى بما بعدها أو الثانية بالثالثة.
ويشترط في التأكيد أن يكون متصلا بالمؤكد حقيقة أو حكما، فلو انفصل بكلام أو سكوت اختياري لم يصح.
فلو قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، ونوى تأكيد الأولى بالثالثة لم يصح لفصله بالثانية فتطلق ثلاثا، وإن نوى تأكيد الأولى بالثانية والثالثة صح وطلقت واحدة، وإن نوى تأكيد الثانية بالثالثة صح وطلقت طلقتين.(3/391)
ولو قال: أنت طالق وسكت سكوتا يمكنه الكلام فيه ثم قال: أنت طالق ونوى التأكيد لم يصح للفصل بالسكوت فتطلق طلقتين.
وتقبل نية التأكيد ولو مع اختلاف لفظ الطلاق مثل أن يقول: أنت مطلقة أنت مسرحة أنت مفارقة وينوي تأكيد الأولى بما بعدها فيصح وتطلق واحدة.
وظاهر كلام الأصحاب أنه لا يشترط في صحة نية الإفهام أن يكون متصلا فعبارة الزاد وشرحه: إلا أن ينوي تأكيدا يصح بأن يكون متصلا أو إفهاما. وعبارة المنتهى: إلا أن ينوي بتكراره تأكيدا متصلا أو إفهاما، وعبارة الإنصاف والإقناع: ويشترط في التأكيد أن يكون متصلا، إلا أنه في شرح الإقناع قال: ويشترط في التأكيد والإفهام فزاد والإفهام وعلله بأن الإفهام نوع من التأكيد اللفظي.
واشتراط الاتصال في الإفهام خلاف ظاهر كلام من سبقه من الأصحاب وعدم اشتراطه أظهر؛ لأن الحاجة قد تدعو إليه مع الفصل مثل: أن يخاطب زوجته في حال غلفتها أو غضبها ثم تنتبه فيعيد الجملة عليها فإن قصد الإفهام هنا ظاهر مع الفصل، نعم ينبغي أن يشترط في دعوى نية الإفهام أن يكون محتاجا إليه لغفلة أو غضب أو طرش أو أصوات كثيرة ونحو ذلك، فإن لم يكن محتاجا إليه لم يقبل منه حكما دعوى ذلك والله أعلم.
الحال الثالثة: أن لا ينوي التأكيد ولا التكرار فيقع العدد فإن كرره مرتين فطلقتان أو ثلاثا، فثلاث: ونقل أبو داود عن أحمد في قوله: اعتدى اعتدى وأراد الطلاق هي طلقة قال في القواعد الأصولية:
وظاهر هذا النص أنه لا يتكرر الطلاق إذا لم ينو التكرار، وقال في الفروع: يتوجه مع الإطلاق وجه كالإقرار يعني أنه لا يتكرر.
القسم الخامس: أن يقول: أنت طالق ويكرر لفظ الطلاق أو الجملة كلها مع أحد حروف العطف وله حالان:
الحال الأولى: أن تكون حروف العطف متغايرة فلا تقبل نية التوكيد؛ لأن العطف بحرف مغاير يقتضي أن الثاني غير الأول فلو قال: أنت طالق وأنت طالق، ثم أنت طالق. أو أنت طالق وطالق ثم طالق طلقت ثلاثا ولا يقبل منه إرادة التوكيد.
الحال الثانية: أن يكون العطف بحرف واحد مثل أن يقول: أنت طالق، ثم أنت طالق، ثم أنت طالق. أو أنت طالق، ثم طالق فتطلق ثلاثا، فإن نوى تأكيد الثانية بالثالثة قبل إن كان متصلا وطلقت طلقتين، وإن نوى تأكيد الأول بالثانية لم يقبل؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، وإن نوى تأكيدها بالثالثة لم يقبل لذلك وللفصل وتطلق ثلاثا فيهما.(3/392)
ويستثنى من ذلك مسألتان:
الأولى: إذا كان العطف ببل مثل: أنت طالق بل طالق، أو أنت طالق طلقة بل طلقة، فإن فيها رواية عن أحمد أنها تطلق واحدة فقط والمذهب أنها طلقتان كما سبق.
المسألة الثانية: إذا تغير لفظ الطلاق إلى معناه مثل: أنت مطلقة ومسرحه ومفارقة فتطلق ثلاثا ولا تقبل منه نية التأكيد هكذا أطلق الأصحاب، وينبغي أن يقبل منه نية تأكيد الثانية بالثالثة؛ لأنها بمعناها والحرف فيهما واحد، وقد سبق أن تقبل نية التوكيد في أنت مطلقة أنت مسرحة أنت مفارقة وعلى هذا فإذا قال: أنت مطلقة وأنت مسرحة وأنت مفارقة ونوى تأكيد الثانية بالثالثة طلقت طلقتين فقط.
وفي أصل المسألة احتمال بقبول نية التأكيد فلا تطلق إلا واحدة وهما احتمالان مطلقان في المغني وغيره، وإنما صح نية التأكيد مع العطف على هذا الاحتمال لاختلاف اللفظين بخلاف أنت مطلقة ومطلقة ومطلقة فلا يصح نية التأكيد فيها إلا تأكيد الثانية بالثالثة لعدم اختلاف اللفظين، فلا يحسن عطف لفظ على مساويه للتأكيد؛ لأنه ليس بينهما تغاير يحسن من أجله العطف.
القسم السادس: أن يقول أنت طالق ويصف الطلاق بما يقتضي البينونة مثل أن يقول: أنت طالق بائن أو بلا رجعة أو تملكين نفسك ونحو ذلك فله حالان:
الحال الأولى: أن يصف الطلاق بوصف يناقض البينونة مثل: أنت طالق واحدة بائنة أو لا رجعة فيها ونحوه فلا تطلق إلا واحدة ولو نوى أكثر؛ لأنه صرح بلفظ العدد الذي لا بينونة فيه والتصريح لا تغيره النية وعنه تطلق طلقة واحدة بائنة لا رجعة فيها إلا بعقد وعنه تطلق ثلاثا.
الحال الثانية: أن لا يصف الطلاق بوصف يناقض البينونة مثل: أنت طالق بائن ونحوه فتطلق ثلاثا وعنه واحدة بائنة لا رجعة فيها إلا بعقد، وعنه واحدة رجعية وهو الصحيح؛ لأن المطلق إنما يملك سبب الفرقة وهو الطلاق وأما حكمه فإلى الله ورسوله، فإذا أتى بما جعله الشارع سببا للبينونة حصلت به، وإن أتى بغيره لم تحصل به، وإن حكم بها عليه.
قال ابن القيم في زاد المعاد: والجمهور قالوا لا يملك إبانتها بدون الثلاث إلا بالخلع.
(تنبيه) يستثنى من وقوع الطلاق بعدد التكرار في جميع ما سبق إذا كانت الزوجة غير مدخول بها فإنها تبين بالأولى ولا يلزمه ما بعدها فإذا قال لها: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، طلقت بالأولى واحدة ولم يقع عليها ما بعدها لأنه صادفها بعد البينونة، إلا إذا كان التكرار بما يفيد المعية دون الترتيب فتطلق بعدد مثل أن(3/393)
يقول: أنت طالق وطالق وطالق فتطلق ثلاثا، أو أنت طالق طلقة مع طلقة أو معها طلقة فتطلق طلقتين.
(تنبيه آخر) جميع ما سبق من وقوع عدد الطلاق بتكرار صيغته مبني على القول بأن الطلاق الثلاث يقع ثلاثا والثنتين يقع طلقتين، أما على القول الراجح بأن الطلاق المكررة صيغته لا يقع إلا واحدة سواء كان بحرف عطف أو بدونه فالأمر ظاهر أننا لا نحتاج إلى التقاسيم والأحوال السابقة. فإذا قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق فطلقة واحدة رجعية، سواء كانت مدخولا بها أم غير مدخول بها، وسواء نوى التأكيد أو التأسيس وسواء كان بحرف عطف أم بدونه، لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «كان الطلاق الثلاث على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فلما كان عمر قال: " أرى الناس قد تتابعوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم (1) » رواه مسلم. وفي المسند عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «طلق ركانة امرأته في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا قال: فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كيف طلقتها؟ " قال: طلقتها ثلاثا، قال: " في مجلس واحد؟ " قال: نعم. قال: " فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت " قال: فأرجعها (2) » .
وهذا القول اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذكرها قال شيخنا عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - في كتابه (المختارات الجلية) ص68: ورجح الشيخ تقي الدين أن الطلاق لا يقع إلا واحدة بجميع ألفاظ الطلاق ولو صرح بلفظ الثلاث أو البينونة أو البتة أو غيرها، وأنه لا تقع الثانية إلا بعد رجعة صحيحة، ونصر هذا القول بوجوه كثيرة جدا من وقف على كلامه فيها لم يسعه مخالفة هذا القول لقوته ورجحانه وكثرة أدلته وضعف ما قابله. اهـ.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .
(2) سنن أبو داود الطلاق (2196) .(3/394)
كتب تصدر قريبا
أحمد بن عبد العزيز اللهيب
أساليب القسم والشرط في القرآن
سوف يصدر إن شاء الله - تعالى - كتاب أساليب القسم والشرط في القرآن:
وهي رسالة مقدمة من الأستاذ أحمد بن عبد العزيز اللهيب والتي نال بها درجة العالمية " الدكتوراه " بإشراف الأستاذ الدكتور أحمد كحيل 1395 هـ.
فهي دراسة موضوعية لأساليب القسم والشرط، أفرغ الدكتور طاقته وجهده وبذل وسعه حتى ظهر بحثه بحثا متناسقا يأخذ بعضه برقاب بعض في أسلوب مشرق وعبارة واضحة.
وبدأ بمقدمة ذكر فيها أهمية البحث ومدى اهتمامه به، وذكر بعض من ألف في هذا الموضوع من المتقدمين والمتأخرين وأشاد بهم ككتاب " أقسام القرآن وأجوبتها " لأبي عمرو عبد الله بن ذكوان " 173هـ 242هـ " وذكر أن هذا الكتاب لم يصلنا إلى الآن، ومن المتأخرين الإمام ابن القيم " 751هـ " وكتابه " التبيان في أقسام القرآن " وهذا الكتاب طبع عدة مرات. وممن ألف في العصر الحاضر المعلم حميد الدين عبد الحميد الأنصاري الهندي المتوفي " 1349هـ " وكتابه " إمعان في أقسام القرآن " ومع هذه الكتب المؤلفة فإن الدكتور يذكر بأن الذي حفزه لتأليف هذا الكتاب عدم شمول الكتب المتقدمة وعدم إحاطتها بالموضوع وهذا ما جعل الدكتور(3/395)
يختار موضوعا قرآنيا يجمع بين أسلوبي القسم والشرط ولقد عكف على كثير من المخطوطات وصحبها صحبة الراغب الذي يطمع في الوقوف على قول العالم من مصدره الأساسي مهما استنفد من وقت ولقي من عناء حتى وصل بفضل الله إلى نتيجة إيجابية، ونسب كثيرا من المذاهب إلى مصادرها الأصلة، فآراه الأخفش سعيد من كتابه " معاني القرآن " والزجاج من كتابه " معاني القرآن " وأبو جعفر النحاس من كتابه " إعراب القرآن " وابن السراج من كتابه " الأصول " وابن الدهان من كتابه " الغرة " والفرخاني من كتابه " المستوفي ") إلى غير ذلك مما يتبين للقارئ.
والحق يقال أن جهود الدكتور ظاهرة جلية لمن قرأ الرسالة وتتبعها، وهو في رسالته ينقل عن ستة وعشرين وثلاثمائة كتاب منها المخطوط والمطبوع.
وسار في رسالته على المنهج التالي وقسمها إلى أبواب ستة:
فجعل الباب الأول عن القسم في كلام العرب وجعله في ستة فصول: الفصل الأول في التعريف وتكلم فيه عن حالة القسم إذ نقله المتكلم عن غيره وذكر الفرق بين العهد والميثاق فقال:
إن العهد إلزام والتزام سواء كان فيه يمين أو لم يكن نحو: عهد الله لأفعلن وعلي عهد الله، فهو ملتزم بهذا العهد. والميثاق: هو العهد المؤكد باليمين.
والفصل الثاني: تكلم فيه عن أدوات القسم وخصائص هذه الأدوات وذكر بأن لهجات العرب في " أيمن " عشرون لهجة وتكلم عن إعرابها وما قيل فيها والخلاف في ذلك وفي آخر الفصل خرج بخلاصة هي: من النصوص السابقة يتبين أن حروف القسم إذا حذفت دون تعويض - فالشائع في كلام العرب نصب المقسم به فيقال: الله لأفعلن بنصب لفظ الجلالة والأصل، أحلف بالله لأفعلن، فحذف حرف الجر فنصب المقسم به بالفعل ثم حذف الفعل، قال ابن يعيش: " ولا يكادون يحذفون هذا الحرف في القسم مع الفعل " أي مع ذكر الفعل، ولا يقولون: " أحلف بالله ولا أقسم بالله، لكنهم يحذفون الفعل والحرف جميعا، والقياس يقتضي حذف الحرف أولا فيفضي الفعل إلى الاسم فينصبه ثم حذف الفعل توسعا ".
وإذا كان القسم به لفظ " يمين " أو " عهد " أو " أمانة " نصب أيضا بفعل القسم المقدر تقديره: أحلف أو أقسم، وقيل: يضمر فعل متعد نحو أذكر أو أشهد أو ألزم، قال ابن يعيش: والوجه الأول لأنك لو أضمرت فعلا متعديا لا يكون من هذا الباب، ويجوز رفعه على أن المرفوع مبتدأ محذوف الخبر أي قسمي. وحكي سيبويه: أن بعض العرب يبقى القسم به مجرورا على نية حرف الجر لكثرته في كلامهم ولكن المبرد(3/396)
نكر ذلك، وقال: إنه لم يصح في كلامهم؛ لأن حرف الجر لا يعمل محذوفا دون عوض.
والفصل الثالث تكلم فيه عن أدوات الشرط إذا حذفت، والفصل الرابع تحدث فيه عن ما يقوم مقام القسم ويؤدي معناه. . إلخ.
الباب الثاني: فكان عن الشرط وجعله خمسة فصول مستوفاة، وفي معرض كلامه عن أدوات الشرط تحدث عن جمع العرب بين " لم " وهو حرف جازم وبين " إن " وهو حرف جازم، فقال: جاء في أساليب العرب الجمع بين إن الشرطية الجازمة وبين حرف الجزم والنفي " لم " فقالوا: إن لم تذهب لم أذهب ولم تجمع أن مع " لن " التي هي للنفي. وعلل بعض النحويين أن إن الشرطية تدخل على موجب " لم " وهو الماضي؛ لأن نحو: لم أفعل موجبة: فقلت وتدخل عليه فيقال: إن فعلت فعلت.
الفصل الثاني: وتكلم فيه عن الأدوات غير الجازمة وفي حديثه عن " لو " وهل هي موضوعة للامتناع وإذا لم تكن كذلك فمن أين جاءت دلالتها على الإمتناع؟ ومنشأ الاختلاف في ذلك.
قال أبو حيان في الارتشاف: ". . . قال الأستاذ أبو علي: لو " ليست موضوعة للدلالة على الامتناع بل مدلولها ما نص عليه سيبويه من أنها تقتضي لزوم جوابها الشرط فقط ". . . الخ.
والباب الثالث: وهو مختص باجتماع الشرط والقسم وفيه فصلان.
الباب الرابع: وهو عن القسم في القرآن الكريم وفيه ستة فصول:
الفصل الأول: عن التصريح بفعل القسم والآيات التي صرح فيها بفعل القسم على سبيل الإنشاء.
والفصل الثاني: يتحدث فيه عن فعل القسم والاكتفاء بحرف القسم والمقسم به أو المقسم به فقط. . الخ. .
والفصل الثالث: وتحدث فيه عن حذف الفعل والاكتفاء بواو القسم والمقسم به. . وتكلم عن إقسام الله تعالى في كتابه. . وتكلم عن قسم الله تعالى بمخلوقاته.
الفصل الرابع: وتكلم فيه عن مسائل كثيرة منها القول في جواب القسم في {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ} (1)
الفصل الخامس: تحدث فيه الدكتور عن الألفاظ التي جرت مجرى القسم وأجيبت بجوابه وذكر أنواعها.
الفصل السادس: وبحث فيه عن حذف الجملة القسمية والاكتفاء بجواب القسم.
__________
(1) سورة يوسف الآية 73(3/397)
الباب الخامس: وفيه أربعة فصول: الفصل الأول عن الأدوات الجازمة، والفصل الثاني عن الأدوات غير الجازمة، والفصل الثالث اعتراض الشرط على الشرط، الفصل الرابع الجزم في جواب الطلب.
الباب السادس: ناقش فيه اجتماع القسم والشرط في القرآن الكريم.
هذا وبعد أن استعرضنا فهارس الكتاب لا شك أنه جهد عظيم بذل فيه صاحبه طاقته ووقته وبحث ونقب عن كل ما يتعلق ببحثه في المراجع الكثيرة المخطوط منها والمطبوع حيث إن الكتاب بلغ إحدى وثلاثين وألف صفحة بدون الفهارس، فعلى كل محب للتوسع في بحث القسم والشرط فالحق يقال أنه سيجد بغيته في هذا السفر الجليل.
ونسأل الله تعالى أن يخرج قريبا في طباعة جيدة وثوب قشيب.(3/398)
الولايات المتحدة
إنه لمما يسعدني ويشرفني كرئيس لمنظمة الخدمة الإسلامية بولاية نيوجيرزي، ونائب رئيس الجمعيات الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا. . أن أتقدم بالشكر لرئيس وأعضاء الرابطة الإسلامية في مكة المكرمة على دعوتهم هذه التي أتاحت لي اللقاء بكم وعرض أوضاع المسلمين ومشاكلهم في ديار المهجر الأمريكي على مسامعكم الكريمة، للوقوف على تلك الأوضاع والمشاكل التي آمل من مجلسكم الكريم المساهمة في حل تلك المشاكل حتى تتقوى أواصر الإسلام والمسلمين في تلك البلاد ويبقى الإسلام عزيزا كريما في كل آن وزمان.(3/399)
وقبل أن أعرض على مسامعكم الكريمة أوضاعنا ومشاكلنا أود أن أنقل إليكم أصالة عن نفسي ونيابة عن منظمة الخدمة الإسلامية في ديار المهجر تحيات المسلمين الحارة وتمنياتهم الطيبة آملين على الله أن يحقق هذا المؤتمر ما فيه صالح الإسلام والمسلمين، وأن يحقق على يديكم وأنتم قادة الإسلام في هذا الزمان ما يصبو إليه ديننا الحنيف من عز وسؤدد ومجد امتثالا لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (1) صدق الله العظيم.
وإنني إذ أستعرض أحوال المسلمين في ديار المهجر الأمريكي أود أن أنقل لمسامعكم الكريمة المعلومات التالية:
1 - يزيد عدد المسلمين في ديار المهجر عن مليوني نسمة منتشرين في مختلف الولايات المتحدة ويزيد هذا العدد عاما بعد عام، ويتركز معظم المسلمين في الجهات الشمالية الشرقية من الولايات المتحدة وأخصها: ولاية نيوجيرزي، ونيويورك، وأوهايو، ومتشغان، وشيكاغو، وكذلك في الجهة الجنوبية الغربية منها مثل: كاليفورنيا، وتكساس، وسان فرانسيسكو، ولويزيانا، وفلوريدا، ويعمل معظمهم في التجارة الحرة وفي المصانع.
إن هؤلاء المهاجرين قدامى. . هاجر طلبا للعمل وبعضهم طلبا للعلم، وبعضهم حديثو الهجرة، والظروف التي أجبرتهم على النزوح لا بد وأنها معروفة لديكم أيها الأخوة الكرام، ولكن بسبب الظروف والأوضاع السائدة في وطننا الحبيب فلسطين وعلى أثر الاحتلال الإسرائيلي البغيض لبيت المقدس الشريف. . أجبر عدد كبير على النزوح هربا من التسلط اليهودي للشباب العربي المسلم، وخلال السنوات الثمان الماضية وعلى الأخص بعد حرب حزيران عام 1967 ازداد عدد المهاجرين من ديار المقدس الشريف ومن مختلف الأقطار العربية: كمصر، وسوريا، ولبنان، واليمن، والعراق بالإضافة إلى المسلمين الآخرين النازحين من مختلف الأقطار الإسلامية الأخرى: كتركيا، والباكستان والقارة الهندية، وجنوب شرق آسيا، والقوقاز، والدول الإفريقية وغيرها من بقية الأقطار التي يرزح المسلمون فيها تحت وطأة الظلم والطغيان وأخص ذلك دول شرق أوروبا: كيوغوسلافيا، وجنوب روسيا، والفلبين.
__________
(1) سورة المنافقون الآية 8(3/400)
أغلب المسلمين في ديار المهجر ضائعون في متاهة. . إذ لا رابطة تجمعهم ولا مركز يأويهم بسبب البيئة والمجتمع الذي يحيط بهم، مما جعل الكثيرين منهم ينخرطون في هذا المجتمع الغريب عن عاداتهم وتقاليدهم وعقيدتهم ودينهم حتى عهد قريب، عندما تنادي الرجال المثقفون منهم لعمل رابطة تجمع بينهم وتثبت في نفوسهم أواصر عقيدتهم ودينهم، فنشأت بعض المراكز الصغيرة انتشرت هنا وهناك يتخذها هؤلاء المسلمون كمجتمع للتعارف والتباحث في مختلف المجالات والشئون وتقوية الروابط وأواصر الدين الحنيف في نفوسهم، ومن خلال هذه المراكز ازداد الشعور لإيجاد رابطة أقوى تجمع بين هذه المراكز لزيادة الاتصال وتقوية الروابط بين مختلف الجاليات الإسلامية في الولايات المتحدة وكندا.
ويسرني أن أعلن على مسامعكم الكريمة أنه تم والحمد لله تكوين مجلس أعلى للتنسيق بين المنظمات الإسلامية الكبرى في أمريكا الشمالية ويعرف باسم " المجلس الإسلامي للتنسيق بين المنظمات الإسلامية " وفي تلك البلاد يعرف بـ " I. C. C. N. A " ولأول مرة التقت جميع المنظمات الإسلامية في تلك البلاد في هذا المجلس الإسلامي الأعلى لخدمة الإسلام
هذا عن أوضاع المسلمين في ديار المهجر، أما عن مشاكلهم فأود أن أعرض على مسامعكم أيها الأخوة الكرام أهم المشاكل التي نتعرض لها والتي تواجهنا ونعمل جاهدين على تذليلها بالرغم من المصاعب التي نتعرض لها.
1 - المشاكل التي تواجهنا في إقامة الشعائر الدينية والصلاة الجامعة في مختلف المناسبات مثل: أيام الجمع والأعياد والوفيات.
2 - مشاكل التعليم لأبناء المهاجرين الناشئين.
3 - مشاكل الزواج والوفيات.
فبالنسبة للمشكلتين الأولى والثانية: أود أن أعرض على مسامعكم الكريمة أن المسجد في نشأته الأولى منذ قيام الإسلام كان مركز عبادة مثلما كان مركزا للتعليم، فكان المسلمون الأوائل يتخذون من المسجد مدرسة يتلقون فيها مبادئ الدين الحنيف واللغة والفقه الإسلامي على يد أئمة المسلمين العظام.
وما من أحد ينكر أثر المسجد في إحياء اللغة والدين وتخريج الأئمة والمتعلمين من المسلمين، والمسلمون(3/401)
في أميركا بحاجة ماسة إلى إقامة المساجد هناك لاتخاذها مراكز عبادة ومراكز للتعليم.
وإنني أقترح إقامة مسجدين في أمريكا، وثالث في كندا، وذلك في الأماكن التي يزدحم ويكثر عدد المسلمين فيها ليكونوا قريبين من المسلمين وتحقيقا للغاية المنشودة من إقامة هذه المساجد أقترح أن يلحق بها بناء خاص لاتخاذه مدرسة لتعليم الناشئة من أبناء المسلمين أمور دينهم الحنيف ولغتهم العربية الفصحى مع ما يتطلب من إيجاد مكتبة عربية إسلامية خاصة تابعة للمسجد والمدرسة تضم مختلف المراجع والمصادر والكتب العلمية والأدبية الإسلامية؛ لتكون مرجعا لطلاب العلم وليكون الطالب على اطلاع تام بمختلف العلوم الدينية والآداب الإسلامية.
وأقترح أن يكون في المدرسة جناح خاص داخلي لهؤلاء الطلاب المسلمين، تذليلا للمصاعب التي قد تواجه المسلمين الذين يبعدون عن هذه المدارس أو المساجد وأن تبدأ المدرسة بصفوف أولية منظمة يتدرج الطالب فيها سنة بعد سنة من صف إلى صف حتى تكون مدرسة تامة ينال فيها الطالب من العلم ما يناله أخوه في وطننا الأم وحتى أن مستوى هذه المدارس لن يكون أقل من مستوى مثيلاتها في تلك البلاد المهجرية، وأقترح أن تدعهم المدرسة بمدرسين أكفاء مؤهلين لكل مادة من مواد الدراسة في هذه النقطة يتوفر مثل هؤلاء المعلمين والحمد لله ولذلك لا بد من المساهمة في توفير الأموال اللازمة ورصدها لهذه الغاية النبيلة.
أما بالنسبة للمشكلة الثالثة وهي الزواج والوفيات:
فبالنسبة للزواج: إن أهم ما يتعلق بهذه المشكلة هو اجتذاب الكتابيات لأبناء المسلمين في تلك البلاد أو هؤلاء الناشئة يتطلعون إلى تلك الكتابيات للزواج منهن: بحكم اختلاط البيئة والمجتمع أولا، وعدم توفر المرشدين الدينيين الذين يرشدونهم إلى الصراط السوي، فما من شك أن المدارس الأميريكية منذ الصفوف الأولى الابتدائية حتى الثانوية وفي الجامعات يكون الطلاب والطالبات فيها خليطا لذلك تنشأ عادات التعارف بما فيها من مساوئ بين هؤلاء الطلاب والطالبات بغض النظر عن دينهم وعقيدتهم، ولذلك ينجذب هؤلاء الطلاب المسلمين إلى التطلع للأجنبيات للزواج منهن، وفي هذه الحالة فإن المسلم عندما يتزوج من غير مسلمة كنصرانية أو يهودية أو ملحدة ويرتبط بها يبتعد ابتعادا كليا عن دينه ومجتمعه وعقيدته، ونكون بذلك قد خسرنا أبناءنا ونكون مسئولين أمام الله ورسوله والمؤمنين عن فسادهم وعن تحويلهم عن دينهم، بالإضافة إلى الجمعيات التبشيرية والدينية العلمانية التي تسلط أضواءها عليهم لاجتذابهم حيث تعرض عليهم بسخاء تام وتستدرجهم إلى الانضمام وراء تلك الجمعيات التي تهدف إلى القضاء على الإسلام والمسلمين.(3/402)
وفي هذه المنطقة الهامة أحملكم المسئولية التامة أمام الله لإنقاذ هذا الجيل المسلم من براثن الفساد والطغيان التي يتعرضون لها في تلك البلاد فإذا ما ساهمتم في القضاء عليها بإتاحة الفرص المناسبة لهم. . نكون قد تحملنا جميعا المسئولية التامة ولا بد أنكم على علم تام بالعواقب الوخيمة المتربصة لديننا الحنيف إذا لم نعمل على إيقافها قبل فوات الأوان، وأحثكم أيها الإخوة الكرام على التجاوب معي في هذه النقطة لإنقاذ أبنائنا وإرشادهم إلى الصراط المستقيم قبل فوات الأوان، وأحثكم أيها الأخوة الكرام على التجاوب معي في هذه النقطة لإنقاذ أبنائنا وإرشادهم إلى الصراط المستقيم وأكرر على مسامعكم قوله تعالى {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (1) صدق الله العظيم، لذلك لا بد من إرشاد الشباب المسلم وهدايته إلى أمور دينه ودنياه في كل ما يتعرض له حتى يتطلع أولئك الشباب المسلم إلى الزواج من المسلمات حسب تقاليدنا وشريعتنا السمحاء فنكون بذلك قد حققنا الغاية الكبرى من الحفاظ على ديننا وإسلامنا ونسلنا في المستقبل.
وأما بالنسبة للوفيات:
وحين ينتقل المسلم إلى جوار ربه في تلك البلاد تجري له المراسم للدفن حسب الطريقة المتبعة في تلك البلاد وهي الطريقة غير الإسلامية بسبب افتقار المسلمين لإيجاد الأماكن الإسلامية لتجهيز الميت ودفنه على الطريقة الإسلامية الشرعية، ولذلك أقترح إيجاد غرفة خاصة ضمن أبنية المسجد المقترح لهذه الغاية.
إنني إذ أعرض على مسامعكم هذه الأوضاع والمشاكل والمقترحات أنقلها إليكم بأمانة وإخلاص تأمين حسب معرفتي ومشاهدتي وخبرتي الطويلة حيث إنني موجود في تلك البلاد ما ينوف عن ربع قرن، وما زلت في تلك البلاد متحملا بشرف كبير الإشراف على الأوضاع وحل مشاكل المسلمين هناك أود أن أجزم القول على مسامعكم الكريمة أنه إذا أردنا حل مشاكل المسلمين المعروضة هذه. . لا بد وأن نعمل جاهدين على تذليلها حسب ما اقترحته عليكم وإذا ساهمتم معي بشرف وإخلاص تامين نكون قد حققنا الغاية المنشودة لإعلاء صرح الإسلام والمسلمين في تلك البلاد المهجرية، وتكونوا قد عملتم على ما أوجبه ديننا الحنيف وما أمر به رسولنا الكريم بأن المسلم للمسلم وأن المسلم أخ المسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، وإنني واثق من تجاوبكم الكريم ومساهمتكم الفعالة، وقبل أن أختم رسالتي هذه أود من صميم قلبي أن أشكر كل فرد فيكم وأحييكم تحية إسلامية حارة كما أكرر شكري العميق لسكرتير عام الرابطة وصاحب المعالي الشيخ محمد صالح القزاز ومساعديه وأعضاء الرابطة الإسلامية في مكة المكرمة الذين أتاحوا لي هذه الفرصة الكريمة للالتقاء بكم في هذا الاجتماع العتيد، وأعاهدكم أنني سوف أعمل جاهدا على إعلاء كلمة الله، وإشادة صرح الإسلام
__________
(1) سورة التوبة الآية 105(3/403)
والمسلمين في تلك البلاد ما وسعني من قوة وجهد، معتمدا على الله وعلى مساهمتكم الفعالة لنصرة ديننا الحنيف والله يحفظكم ويرعاكم سندا للإسلام وذخرا للمسلمين، {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1)
كما أنني قد حملت أن أنقل سلامات وتحيات مسلمي مدينة باترسون في ولاية نيوجرسي الأمريكية لصاحب الجلالة الملك خالد بن عبد العزيز المعظم على دعمه ومساعدته في إنشاء المركز الإسلامي فيها، ويتجهون بكل الامتنان لصاحب المعالي الشيخ الجليل محمد صالح القزاز الأمين العام للرابطة على المساعدات التي تقدمها الرابطة للمسلمين هنا وفي جميع أمريكا والعالم، كما أنهم يطلبون الغفران والرحمة للملك المسلم الشهيد فيصل بن عبد العزيز طيب الله ثراه وأدخله فسيح جناته، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
(1) سورة محمد الآية 7(3/404)
إنجلترا
الحديث عن المساجد في إنجلترا واحتياجاتها ومشاكلها، يقتضينا أن نتحدث عن المسلمين في إنجلترا والظروف التي يعيشون فيها، ذلك لأنهم هم الذين أقاموا المساجد، والمشاكل التي تعترضهم هي إلى حد ما مشاكل المساجد وقدرتها على أداء رسالتها.
يبلغ عدد المسلمين في إنجلترا بين ثلاثة أرباع المليون والمليون، أغلبهم نزح من دول الكومنولث البريطاني وخاصة من شبه القارة الهندية، باكستان وبنجلادش والهند، ومسلمو إنجلترا النازحون من شبه القارة الهندية يشكلون تسعين في المائة من المسلمين بها والعشرة في المائة الباقية موزعة بين الجنسيات الأخرى، ولا يوجد جاليات مسلمة من أصل عربي مستقرة هناك. . إلا جماعات من اليمن بقسميه(3/405)
نزحوا أساسا جريا وراء الرزق والعمل على السفن الإنجليزية التي كانت تمر بعدن، ولهذا تجد هذه الجماعات اليمنية تستوطن المدن الساحلية والصناعية مثل: كارديف عاصمة مقاطعة ويلز، وليفربول وساوث شيلد وجلاسجو وشيفيلد وبرمنجهام، وقد لوحظ أن كل جماعة يمنية تستقر في مدينة ما من مدن إنجلترا يجاورها جماعة صومالية تتناول نفس الأعمال التي يقوم بها اليمنيون إلا أن عددهم أقل، وبعد أن أصبحت الصومال عضوا في الجامعة العربية يمكن أن نقول إجمالا: إن البلاد العربية التي يوجد منها جاليات مستقرة بإنجلترا هي اليمن والصومال
ونستطيع أن نقول بغير استثناء: إن المسلمين النازحين إلى إنجلترا سواء كانوا من شبه القارة الهندية أو من غيرها من البلدان الإسلامية. . هم من الطبقة العاملة المحدودي الثقافة: أو إن أردت الدقة فإن هذه هي السمة الغالبة عليهم لما هاجروا إلى إنجلترا في أول الأمر، إلا أنه بعد أن استقرت هذه الجاليات سنوات ووفد عدد من أهليهم للدراسة، رأوا أن يستقروا في إنجلترا بعد أن أتموا دراساتهم وأصبح يوجد حاليا الطبيب المسلم، والمحاسب المسلم، والمهندس المسلم، والمعلم المسلم، ورجل الأعمال المسلم، وقد لوحظ في السنوات السبع الأخيرة أن عددا من الأطباء العرب وخاصة من مصر هاجروا إلى هذه البلاد بقصد الدراسة ثم مددوا إقامتهم لعدة سنوات أغراهم بذلك توفر الآلات الحديثة وتوفر الرعاية الصحية والاجتماعية، إذ توفر لهم المستشفيات التي يعملون بها مساكن مريحة كاملة الاستعداد بأجور رمزية. . وفي الوقت نفسه يتقاضون مرتبات سخية بالنسبة لما يتقاضونه في بلادهم.
وقد ترتب على استقرار هذه الجاليات الإسلامية في تلك البلاد أن وجدت محلات إسلامية تبيع لهم اللحوم والأشياء التي ألفوها في بلادهم، ويدخل في ذلك المطاعم الهندية والباكستانية التي تقدم لهم اللون الذي يحبونه.
كانت الهجرة من البلاد الإسلامية إلى إنجلترا مع مطلع هذا القرن إلا أنها لم تتخذ طابع الاستقرار والإقامة، ونمت قليلا أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، وفي خلال وعقب الحرب العالمية الثانية اتسع نطاق هذه الهجرة بشكل ملحوظ وخاصة بعد أن نالت دول الكومنولث استقلالها وأصبح من حق(3/406)
مواطني دول الكومنولث أن يعيشوا بين الإنجليز في بلادهم وأن يكون لهم من الحقوق ما لهم على الأقل من وجهة النظر القانونية، وإن كان الواقع الممارس يفرق بين أهل البلاد الأصليين وبين الوافدين إليها من الخارج
واتسع نطاق هذه الهجرة أكثر وأكثر في السنوات العشر الأخيرة، وقد وضعت بعض القيود في العامين الأخيرين كمحاولة لصد تيار الهجرة الجارف، وتعالت أصوات كثير من الإنجليز بالدعوة إلى إعادة هؤلاء المهاجرين إلى بلادهم وسواء وجدت هذه الدعوة استجابة أو لم تجد. . فإن الجماعات الإسلامية قد استقرت هناك إلى ما شاء الله وأصبح لها وضعها وكيانها، وأخذت من يوم لآخر تتقدم بطلباتها إلى المسئولين باعتبارهم مواطنين يحق لهم أن يمارسوا نشاطهم الديني حسب عقيدتهم ودينهم، وأن يكون لهم من العادات والتقاليد ما تقبله عقيدتهم حتى وإن اختلف مع تقاليد وعادات المجتمع الذي يعيشون فيه.
ولا شك أن عددا كبيرا من المسلمين قد تأثر بما هو سائر في المجتمع الإنجليزي وتابعه ونسي تقاليده وعقيدته وأخلاقه، إلا أن الحقيقة الواقعة أنه بجانب ذلك قد أقبلت مجموعات من الإنجليز الأصلاء على اعتناق الإسلام، وتطبيق منهجه في الحياة والسير على هداه سواء وافق ذلك تقاليد المجتمع الإنجليزي أو لم يوافق.
حدث في السنوات الأخيرة إقبال عدد من الإنجليز على اعتناق الإسلام، ولهذه الظاهرة عدة أسباب أولها: أن الإنجليزي والأوروبي بوجه عام لم يجد في تعاليم الكنيسة ما يلبي حاجاته الروحية ويحقق له الأمن والاطمئنان النفسي الذي يتطلع إليه صاحب النفس المؤمنة، فهو وإن تحقق له من وسائل الحياة المادية ما يلبي رغبات حياته ويجعلها إلى حد ما هادئة مستقرة إلا أنه مع ذلك كله شعر بخواء روحي شديد جعل حياته يستبد بها القلق، ويعكر صفوها عدم الاطمئنان، فإذا ذهب إلى الكنيسة يتلمس فيها مخرجا من الحيرة التي تنتابه لم يجد عندها إلا رسوما وطقوسا وكلمات ميتة لم تمس قلبه ولم تحرك أشواق نفسه فانصرف عن الكنيسة يائسا حزينا ولم يعد يربطه بها إلا أمور ثلاثة: التعمير والزواج والموت، وكانت النتيجة أن انصرف أغلب الناس عن الكنيسة وأخذوا يتطلعون إلى شيء جديد يملأ الفراغ الذي يشعرون به وساعد على ذلك روح الحرية التي كفلتها لهم القوانين، فانصرف بعضهم إلى القراءة والبحث، وبعضهم إلى الملاحظة والاستقراء، وتهيأ لبعضهم أن يخالط المسلمين، إما في بلادهم وإما في قاعات الدرس في ساحة الجامعات، كل ذلك أعطاهم فرصة للبحث والدراسة والمقارنة وكثير منهم يرى وسائل الحياة المادية ميسرة له محيطة به، ولكنه لا يحس طعم السعادة التي يرى المسلم العادي الفقير المحروم من أغلب وسائل الحياة المدنية يشعر بها، وتضفي الأمن والرضى على نفسه، فجعله ذلك يفكر ويبحث، وبذلك اهتدى عدد لا بأس به إلى الإسلام وأقبلوا عليه لأنهم وجدوا(3/407)
فيه السلام النفسي والذي ينشدونه، وأصبح من المألوف الآن إذا ترددت على المسجد في لندن أو أحد المساجد الأخرى أن ترى شخصا أو أشخاصا من الإنجليز يقفون لله خاشعين وكثير منهم يتسابق على أداء الأذان في أوقات الصلوات حتى يملأ بكلمات الله سمعه وبصره وقلبه وجوارحه.
وقد لوحظ أيضا أن المقبلين على الإسلام من الإنجليز يمثلون كل المستويات الفكرية والاجتماعية فمنهم الأستاذ في الجامعة، ومنهم الطالب ومنهم رجل الأعمال، ومنهم الكاتب وصاحب الحرفة، والرجل والمرأة والشاب والفتاة
وما يتصل بهذه الظاهرة أن القائمين على أمر الثقافة والتوجيه الديني لم يجدوا، مفرا من أن ينظموا دراسات ومحاضرات في مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم وكنائسهم تتحدث عن الإسلام وتعرض مثله وعقائده يحضرها عدد كبير كلهم من الشباب، وقد رأوا أن من الخير لهم أن تنظم هذه الدعوات تحت إشرافهم حتى لا يفلت الزمام من أيديهم.
ومن المألوف الآن أن تجد في كل مدرسة ثانوية قسما للدراسات الدينية يقوم عليه أحد الأساتذة بالمدرسة أو المعهد ويقدم لهم دراسات عن كل دين ثم يدعون متحدثا من أهل الدين ذاته يحدثهم عن الإسلام إن كان مسلما وعن غيره إن كان غير مسلم، وعادة ما يعقب هذه المحاضرات أسئلة تعكس رغبة الشباب في المعرفة وتطلعهم إلى الوقوف على ما يدور من حولهم من مبادئ وعقائد وفلسفات، وبالطبع فإن ما يعقب هذه المحاضرات. . يكشف عن مدى الأثر الذي أحدثته إذ يتلقى المركز الإسلامي عددا من الرسائل تسأل عن كتب تتحدث عن الإسلام وعقيدته.
وقد لوحظ أيضا أن جانب العقيدة في الإسلام هو الذي يتطلع السائلون إلى معرفته وأن الجانب الروحي فيه هو الذي يحظى بالاهتمام والدراسة أكثر من غيره.
والذي أحب أن أنبه عليه هنا أنه على الرغم من وجود هذه الظاهرة بين الإنجليز وجذب الإسلام لعدد منهم، فإن كثيرا من المسلمين الوافدين الذين اتخذوا من بلاد الإنجليز لهم دارا، قد ذهبت صلتهم بالإسلام وشغلتهم الحياة فانساقوا يقلدون الإنجليز في أسلوب حياتهم وانعكس ذلك الأثر السيئ على أولادهم فلم يبق لهم من الإسلام إلا أسماؤهم، وهذا ما يدعونا إلى العمل الجاد للبحث عن وسيلة نحمي بها أمثال هؤلاء من الضياع الذي يتهددهم، ويحفظ على الأجيال الناشئة منهم دينهم وعقيدتهم بربطهم بثقافتهم ومثلهم وأخلاقهم وهذا يدعونا أن نتحدث عن المشاكل التي تواجه المسلمين في إنجلترا.(3/408)
إننا نجد المسلم في هذه البلاد يواجه بلون من الحياة تختلف كل الاختلاف عما عهده في بلاده ويضطر إلى الحياة في مجتمع له من المثل والأخلاق والتقاليد والعقائد ما يقف على طرف النقيض من مثله وأخلاقه وعقائده ويصاب لهذا بنوع من الضيق والحيرة ويحاول البحث عن مخرج من هذه الصعوبات وبعضهم لا يلبث أن يتغلب على ما يواجه من عقبات ويشق طريقه ويحتفظ بدينه ومثله وأخلاقه، إلا أن كثيرا منهم تأخذ بلبه المغريات، ويؤثر الحياة السهلة على المشقة في تحقيق نموذج يتفق مع عقيدته ويستنيم إلى الراحة، فيجرفه التيار ويخوض مع الناس فيما يخوضون فيه ويشاركهم في تفكيرهم وطعامهم وشرابهم ومنهج حياتهم، ولا فرق بينه وبينهم إلا في لون بشرته واسمه إن آثر الاحتفاظ به
والصعوبات التي تعترض المسلم ويمكن أن نسميها مشاكل هي: الطعام والشراب. . التعليم والتربية. . المساجد والوسائل التي تعين على القيام بواجباته الدينية
والصعوبة الأولى هي أقلها إذ تلبث الجماعات الإسلامية أن أنشأت لنفسها أماكن تشتري منها ما تحتاجه من طعام وشراب لا يحرمه الإسلام فأنشئت المتاجر والمجازر والمطاعم للإيفاء بهذا الغرض وساعد على سهولة التغلب على هذه الصعوبة أن العمل فيها يدر على القائمين به ربحا وفيرا، إلا أن كثيرين منهم نسي الهدف الديني من عمله واهتم بجانب المنفعة المادية، وحرصا منه على زيادة الربح استباح لنفسه أن يقدم في مطعمه المشروبات المحرمة، فإذا ما لفت نظره إلى ذلك العمل الذي لا يتفق مع الإسلام انتحل لنفسه المعاذير بأنه يعيش في مجتمع غير إسلامي ويأتيه أناس غير مسلمين يرغبون في هذا الشراب، وواضح أنها مجرد معاذير يقدمها لك حتى تكف عنه - وهذه ولا شك ظاهرة مؤسفة.
التعليم هو مشكلة المشاكل التي تواجه النشء الجديد في إنجلترا حيث يذهب الطفل إلى المدرسة من سن الخامسة ويتلقى منذ البداية فيما يتلقى التعاليم المسيحية وتراثها مع مجموعة الأطفال الآخرين والمدرسة تقدم للأطفال هذه التراتيل تلقائيا لأنه جزء من منهاجها، وتزيد المدارس التابعة للكنيسة أن تأخذ الأطفال إلى الكنيسة مباشرة ولا تتسامح مدارس الكنيسة في الإعفاء من الذهاب إلى الكنيسة، والأب السعيد هو الذي يتنبه إلى الأمر منذ البداية فيستطيع أن يحول بين طفله وبين الانتساب إلى مدارس الكنيسة، ويقدم لطفله منذ اللحظة الأولى المعلومات التي تشعره أنه مسلم وأن ما يقوله الإنجليز لأبنائهم غير ما نقوله نحن لأبنائنا، ومن حق الأب المسلم في مدارس(3/409)
الحكومة أن يمنع طفله من المشاركة في درس التراتيل الدينية، إلا أن قليلا منهم هو الذي يتنبه إلى هذا الأمر منذ البداية
وإحساسا بالخطر الذي يترتب على الذهاب إلى المدرسة وهو أمر لا مفر منه. . بدأ التفكير في إنشاء فصول لتعليم أولاد المسلمين مبادئ دينهم وتلقينهم آيات من القرآن الكريم، وتدريبهم على الصلوات. . إلى جانب الأمور الأخرى اللازم معرفتها، وقد قامت عدة من المؤسسات الإسلامية بمباشرة هذا اللون من التعليم حماية للنشء من التعرض لزلزلة العقيدة الذي يترتب على ترك الطفل بدون توجيه منذ البداية.
ويدير المركز الإسلامي مجموعة من الفصول الدراسية في أحياء لندن المختلفة وضواحيها بالتعاون مع الجمعيات الإسلامية المحلية، واستطاعت بعض المنظمات الإسلامية أن تبعث ببعض المدرسين إلى عدد من المدارس لتعليم أبناء المسلمين إلا أن قصر الوقت المسموح به لا يعطي النتيجة المرجوة من هذا العمل، وسواء كانت الدراسة في آخر الأسبوع أو في آخر النهار بعد انتهاء اليوم الدراسي، أو قبيل وبعد وقت الدراسة في المدارس. . فإن هذه الدراسة لا تفي بالغرض المرجو، وإنما هي خطوة حتى نتمكن من إدارة وإنشاء مدارس إسلامية خالصة.
وتحقيق هذا ممكن إداريا وفنيا إذا تضافرت جهود الهيئات الإسلامية في العالم العربي على إبرازه للوجود وتقديم خدمة لأبناء المسلمين في إنجلترا وفيما سواها من البلاد التي بها أقليات إسلامية وتواجه ظروفا مماثلة، وحسبنا أن نعلم أن القانون البريطاني يسمح بإقامة مدارس خاصة للجاليات، وإذا ما استطاعت الجالية أن تقدم المكان المناسب ليكون مدرسة فإن وزارة التربية تتحمل ثمانين في المائة من النفقات التي يحتاجها البناء والموظفون والأدوات، ولو رأت الرابطة أن تتبنى مثل هذا المشروع وتدعو المؤسسات الإسلامية الأخرى في العالم العربي والإسلامي إلى المشاركة فيه. . فإنها وإياهم سيحمون الجيل الجديد في بلد مثل إنجلترا من الابتعاد عن دينه وأخلاقه، والأمر سهل بالنسبة للتنفيذ إذا ما أمكن أن توجد الأماكن الصالحة، فإن المدرسة تقدم المنهج الذي تقدمه مدارس الحكومة الإنجليزية مضافا إليه اللغة العربية والدين الإسلامي عقيدته وعبادته وأخلاقه وتاريخه وحضارته، وتحت يدي منهج معد قدم لمجلس سفراء الدول الإسلامية في لندن سنة 1970 وقدمت نسخة منه للأمانة العامة لوزراء خارجية الدول الإسلامية بجدة ويمكن تقديم نسخة منه عند الطلب، وإذا استطعنا أن نفعل شيئا جديا في هذا الحقل فإنا سنحفظ على الأجيال المسلمة القادمة في هذه البلاد دينها وعقيدتها
ما أن استقر المسلمون في المناطق التي يعيشون فيها اندفعوا بوحي من الإحساس بالخطر في تأليف جمعيات إسلامية تمثل المسلمين في المنطقة وكان الهدف الرئيسي من تأليف هذه الجمعيات أن(3/410)
تتعاون على تحقيق هدفين: الأول إيجاد مكان للصلاة يتخذ مسجدا بصورة من الصور ويلحق به الاستعدادات الخاصة بالوضوء وما يلزم المسلم عمله إذا تعرض لحدث سعيد أو مؤلم كالزواج والموت، وهما من طبيعة الحياة. . ولهذا تألف عدد من الجمعيات بعدد الأحياء التي يعيش فيها مسلمون وكثيرا ما تحمل هذه الجمعيات أسماء البلاد التي وفد منها الأعضاء المؤسسون لها، وأخذت تستأجر بعض الأماكن أو تشتريها إن أمكنتها ظروفها المالية، وتباشر فيها الصلوات وتعلم فيها الأطفال، ومن المؤسف أن هذه الأماكن لم يتوفر فيها ما يجب توفره في المسجد من النظافة وحسن الاستعداد، ولا تلبث الجمعية أن تبحث عن شخص يؤم الصلاة ويعلم الأطفال والمحفوظ منهم هو الذي يعثر على شخص يحفظ القرآن وإن لم يفهم ما يعني، ولم يكن له دراية بالفقه وأمور التشريع وأهداف الإسلام ومناهجه، فما دام يحفظ القرآن ويطلق لحيته فهو إمام المسجد، وعلى هذا الأساس قام بالإمامة في عدد من المساجد جماعة كبيرة، ولا يلبث الخلاف أن ينشب بين أعضاء الجمعية تنازعا على الرئاسة وقد يأخذ الإمام جانبا دون جانب، ثم يضطر إلى ترك المكان، وقد يجدون شخصا آخر يؤم الصلاة وقد لا يجدون، وقد تنضب موارد الجمعية فتعجز عن أداء راتب الإمام فيضطر للبحث عن مكان آخر وهكذا دواليك. . ليس هناك تخطيط ولا إعداد، وإنما هو شيء خير من لا شيء.
ونظرا لضعف الموارد المالية وعدم الفهم الصحيح نشأت مجموعة من الناس تحترف الإمامة بالمساجد وتعيش عليها، وحسبها أن تؤم الصلاة وتقرأ القرآن أما شرح الإسلام للمسلمين وبيان مثله وآدابه وسلوكه فليس هناك ما يعين على تقديمه، وبالطبع فالعجز بالنسبة لتقديم الإسلام لغير المسلمين أو الإجابة على الاستفسارات التي تقدم أكثر وضوحا ويمكن أن يقال بوجه عام: إن المساجد في انجلترا تعاني من عدم الكفاءات الدينية التي تتولى الإمامة، وتعاني من الضعف المالي الذي يعجز القائمين عليها عن الوفاء بالتزامات المسجد، وقد يكون هذا سببا في النقص الأول أيضا، والمسجد في بلد مثل إنجلترا مطالب بأداء وظائف كثيرة إلى جانب وظيفته التقليدية، ولا يمكن أن يقوم بذلك إلا بوجود الإمام المستنير وهذا يدفعنا إلى أن نفكر جديا في وسيلة إعداد الدعاة إعدادا يتفق مع متطلبات العصر، ويجب أن ينطلق هذا التفكير من القائمين على التوجيه الديني في العالم الإسلامي، وإعداد تخطيط جديد لتخريج أفواج من الدعاة مزودين بزاد كاف من المعرفة ورحابة الأفق والقدرة على مواجهة الأحداث الجديدة بعقل مستنير ودين متين وخلق قويم وقلب متفتح نقي وإدراك واع لظروف الحياة من حولهم ويا حبذا لو اتخذت الخطوة الأولى في مؤتمرنا هذا.
هذا من ناحية الإمام وهو حجر الزاوية في نجاح المسجد، أما من ناحية الإدارة فإن الشعور بالمسئولية يدعونا أن نضع لها من الترتيبات والضمانات ما يحميها من الأهواء الشخصية ويرتفع بها فوق رغبات النفس وحب الرياسة(3/411)
إنني وأنا أكتب هذا المعنى ويتمثل في خاطري الحالة المحزنة لمسجد نور الإسلام بكاديق وهو مسجد بناه المسلمون اليمنيون هناك منذ عام 1947 بأموالهم الخاصة وأقاموا من حوله خمسة منازل ينفق من ريعها على احتياجات المسجد، وظل الأمر مستقيما حتى دب الخلاف بين أفراد الجالية وتأثر المسجد وآلت المنازل للسقوط وصار المسجد مبنى متواضعا بين مجموعة من الخرائب تصد النفس عنه وتؤذي إحساس ذوي الخلق والدين، ولو كان هناك مؤسسة عامة ترعى شئون المساجد في إنجلترا لأمكن أن يتفادى مثل هذه الحالة المحزنة وهي مثل ينطبق على كثير غيره
وتفاديا لوقوع مثل هذه الأمور أقترح أن تنشأ لجنة ترعى شئون المساجد في إنجلترا يكون مقرها المركز الإسلامي بلندن، تتكون من مدير المركز وأعضاء من السفارات التي تقدم تبرعات للمساجد، وتقدم الدول المتبرعة الأموال إلى هذه اللجنة وتحال عليها الطلبات المقدمة للمساعدة، أو تقترح هي ما تراه، ويوكل إلى هذه اللجنة اتخاذ ما تراه من وسائل لحماية المساجد واختيار الأئمة الصالحين للقيام بمهمة الإمامة، وأعتقد أن هذا سيساعد كثيرا على تحسين أوضاع المساجد في إنجلترا ومساعدتها على تأدية رسالتها.
وتقوم اللجنة أيضا بالإشراف على النشاط الثقافي وتقديم التوصيات بما يصح أن يطبع ويوزع ولا بأس أن ينضم إلى اللجنة بعض الأفراد المعروفين بالاستنارة والنشاط والإخلاص والفهم من أعضاء الجالية.
هناك نقطة أخيرة ترتبط بحياة المسلمين في بلد كإنجلترا ويكون للإمام المستنير أثر فعال إذا ما استطاع أن يضمن معاونة بعض المؤسسات الإسلامية في تنفيذها: ذلك أن المسلمين الذين يعيشون في إنجلترا بحكم التزاماتهم الأسرية يبحثون كغيرهم في إقامة مساكن لهم ولأسرهم ويرغبون في شراء بعض المنازل، وليس أماهم إلا أن يتقدموا لشركات البناء كغيرهم من المواطنين لمعاونتهم، وبتقديمهم لشركة البناء فإنهم يقبلون شروطها التي تعني أن يقبلوا التعامل بالربا، وصورة التعامل هكذا: أن يذهب الراغب في الشراء إلى الجمعية ويبدي رغبته في شراء بيت معين يملك جزءا من ثمنه وتدفع له الشركة الباقي وتتقاضى منه شهريا مبلغا محددا لعدد من السنوات ويصل ما تسترده الشركة أضعاف ما دفعته، وهو مضطر أن يقبل وفي قبوله موافقة على التعامل بالربا ونستطيع أن نحمي المسلم من التعامل بالربا ونحقق لأصحاب رءوس الأموال منا ربحا حلالا، وذلك بأن ننشئ جمعية إسلامية للمباني تساعد المسلمين الذين يريدون شراء منازل على أن تكون الشركة شريكة للمشتري بنسبة ما تدفعه وما يسدد شهريا يعتبر جزء منه إيجارا لنصيبها والجزء الآخر يحتسب من الثمن، ويتفق على أن تؤول ملكية البيت كله إلى المشتري بعد فترة يتفق عليها وبذلك ينجو المسلم من التعامل بالربا وينمو مال صاحب الأموال نموا حلالا.(3/412)
ومثل هذه الصورة: رجل الأعمال المسلم الذي يتعامل مع غيره ويحتاج أن يشتري صفقة قد يلجأ إلى البنك ليدفع عنه نظير ربح معين، فلو أنشأنا شركة أو بنكا إسلاميا يتعامل مع رجال الأعمال المسلمين على أن يكون التعامل على أساس الشركات التي اعترف بها الإسلام لأنشأنا مجالا للتعامل الإسلامي يشجع الكثيرين على العمل والكسب الحلال.
وصورة ذلك في الإسلام مأخوذة من أن يقدم صاحب المال ماله لصاحب الخبرة يعمل له فيه ويتقاسمان الربح حسب اتفاقهما.
نسأل الله أن يلهمنا الصواب والسداد والعمل بما يقتضيه الإسلام. . .(3/413)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} (1) {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} (2) {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (3) {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} (4) {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} (5)
صدق الله العظيم
(الآيات 19 - 23) سورة الحجر
__________
(1) سورة الحجر الآية 19
(2) سورة الحجر الآية 20
(3) سورة الحجر الآية 21
(4) سورة الحجر الآية 22
(5) سورة الحجر الآية 23(3/414)
بسم الله الرحمن الرحيم
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} (1)
__________
(1) سورة الرعد الآية 17(4/1)
لجنة الإشراف سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز
فضيلة الشيخ: إبراهيم بن صالح آل الشيخ
فضيلة الشيخ: سعد بن محمد بن فريان
فضيلة الشيخ: عثمان الصالح
أشرف على التحرير الأساتذة: جمال النهري
عبد الله البغادي
أحمد أبو شلباية
المراسلات: رئيس التحرير
مجلة البحوث الإسلامية
المملكة العربية السعودية - الرياض
جنوب شارع عسير
تليفون: 4359712 - 4596062(4/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض
رئيس التحرير
عثمان الصالح
الإشراف الفني
جمال النهري
مجلة فصلية تصدر كل ثلاثة أشهر
المحرم صفر ربيع الأول
ربيع الثاني جمادى الأولى جمادى الثانية(4/3)
المحتويات
1 الدعوة إلى الله وأخلاق العباد سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 6
2 وعد بطائفة ناجية فضيلة الشيخ عثمان الصالح
رئيس التحرير 26
أبحاث هيئة كبار العلماء
3 حكم تشريح جثة المسلم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 35
4 القسامة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 83
5 هدي التمتع والقران اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 183
كتاب العدد
6 التسعير في نظر الشريعة الإسلامية الدكتور محمد بن أحمد الصالح 233(4/4)
7 الإسراء وفلسطين ودولة اليهود الشيخ أسعد بيوض التميمي 277
8 المرسل عند الإمام الشافعي الدكتور خليل إبراهيم ملا خاطر 289
9 إيجاد المعادلة بطريقة التوسط لابن الهيثم الدكتور علي عبد الله الدفاع 303
10 الواحد الصمد الأستاذ مصطفى الحديدي الطير 317
11 من ملفات الإفتاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 325
12 بريد المجلة التحرير 347
13 المسلمون في العالم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 372(4/5)
الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة. .
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه، أرسله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على طريقته في الدعوة إلى سبيله، وصبروا على ذلك، وجاهدوا فيه حتى أظهر الله بهم دينه، وأعلى كلمته ولو كره المشركون، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الجن والإنس ليعبد وحده لا شريك له، وليعظم أمره ونهيه، وليعرف بأسمائه وصفاته، كما قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وقال عز وجل:
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 21(4/6)
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (1) فبين سبحانه أنه خلق الخلق ليعبد، ويعظم، ويطاع أمره ونهيه؛ لأن العبادة هي توحيده وطاعته مع تعظيم أوامره ونواهيه، وبين عز وجل أيضا أنه خلق السماوات والأرض، وما بينهما ليعلم أنه على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علما.
فعلم بذلك أن من الحكمة في إيجاد الخليقة: أن يعرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأنه على كل شيء قدير، وأنه العالم بكل شيء جل وعلا، كما أن من الحكمة في خلقهم وإيجادهم أن يعبدوه ويعظموه ويقدسوه ويخضعوا لعظمته؛ إذ العبادة هي الخضوع لله جل وعلا والتذلل له، وسميت الوظائف التي أمر الله بها المكلفين من أوامر وترك نواه عبادة؛ لأنها تؤدى بالخضوع والتذلل لله عز وجل.
ثم لما كانت العبادة لا يمكن أن تستقل بتفاصيلها العقول، كما أنه لا يمكن أن تعرف بها الأحكام من الأوامر والنواهي على التفصيل، أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل، وأنزل الكتب لبيان الأمر الذي خلق الله من أجله الخلق، ولإيضاحه وتفصيله للناس حتى يعبدوا الله على بصيرة، وحتى ينتهوا عما نهاهم عنه على بصيرة، فالرسل عليهم الصلاة والسلام هم هداة الخلق، وهم أئمة الهدى ودعاة الثقلين جميعا إلى طاعة الله وعبادته، فالله سبحانه أكرم العباد بهم ورحمهم بإرسالهم إليهم، وأوضح على أيديهم الطريق السوي والصراط المستقيم حتى يكون الناس على بينة من أمرهم، وحتى لا يقولوا: ما ندري ما أراده الله منا، ما جاءنا من بشير ولا نذير، فقطع الله المعذرة، وأقام الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب، كما قال جل وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) ، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (3) ، وقال عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (4) الآية، وقال سبحانه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (5) الآية،
__________
(1) سورة الطلاق الآية 12
(2) سورة النحل الآية 36
(3) سورة الأنبياء الآية 25
(4) سورة الحديد الآية 25
(5) سورة البقرة الآية 213(4/7)
فبين سبحانه أنه أرسل الرسل وأنزل معهم الكتب ليحكم بين الناس بالحق والقسط، وليوضح للناس ما اختلفوا فيه من الشرائع والعقائد من توحيد الله وشريعته عز وجل، فإن قوله سبحانه وتعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (1) يعني على الحق لم يختلفوا من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى نوح. . كان الناس على الهدى كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة من السلف والخلف، ثم وقع الشرك في قوم نوح، فاختلفوا فيما بينهم، واختلفوا فيما يجب عليهم من حق الله، فلما وقع الشرك والاختلاف أرسل الله نوحا عليه الصلاة والسلام، وبعده الرسل، كما قال عز وجل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (2) وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3) فالله أنزل الكتاب ليبين حكم الله فيما اختلف فيه الناس، وليبين شرعه فيما جهله الناس، وليأمر الناس بالتزام شرع الله والوقوف عند حدوده، وينهى الناس عما يضرهم في العاجل والآجل، وقد ختم الرسل جل وعلا بأفضلهم وإمامهم وبسيدهم نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، عليه وعليهم من ربهم أفضل الصلاة والتسليم، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، ودعا إلى الله سرا وجهرا، وأوذي في الله أشد الأذى، ولكنه صبر على ذلك، كما صبر من قبله من الرسل عليهم الصلاة والسلام، صبر كما صبروا، وبلغ كما بلغوا، ولكنه أوذي أكثر، وصبر أكثر، وقام بأعباء الرسالة أكمل قيام عليه وعليهم الصلاة والسلام، مكث ثلاثا وعشرين سنة يبلغ رسالات الله ويدعو إليه، وينشر أحكامه، منها ثلاث عشرة سنة في أم القرى (مكة المكرمة) أولا بالسر، ثم بالجهر صدع بالحق، وأوذي وصبر على الدعوة وعلى أذى الناس، مع أنهم يعرفون صدقه وأمانته ويعرفون فضله ونسبه ومكانته، ولكنه الهوى والحسد والعناد من الأكابر، والجهل والتقليد من العامة، فالأكابر جحدوا واستكبروا وحسدوا، والعامة قلدوا واتبعوا وأساءوا، فأوذي بسبب ذلك أشد الأذى عليه الصلاة والسلام.
ويدلنا على أن الأكابر قد عرفوا الحق وعاندوا، قوله سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (4)
__________
(1) سورة البقرة الآية 213
(2) سورة النساء الآية 163
(3) سورة النحل الآية 64
(4) سورة الأنعام الآية 33(4/8)
فبين سبحانه أنهم لا يكذبون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل يعلمون صدقه وأمانته في الباطن، وكانوا يسمونه الأمين قبل أن يوحى إليه -عليه الصلاة والسلام- ولكنهم جحدوا الحق حسدا وبغيا عليه -عليه الصلاة والسلام- لكنه -عليه الصلاة والسلام- لم يبال بذلك ولم يكترث به، بل صبر واحتسب وسار في الطريق، ولم يزل داعيا إلى الله جل وعلا، صابرا على الأذى، مجاهدا بالدعوة، كافا عن الأذى، متحملا له، صافحا عما يصدر منهم حسب الإمكان، حتى اشتد الأمر، وعزموا على قتله عليه الصلاة والسلام، فعند ذلك أذن الله له بالخروج إلى المدينة، فهاجر إليها عليه الصلاة والسلام، وصارت عاصمة الإسلام الأولى، وظهر فيها دين الله، وصار للمسلمين بها دولة وقوة، واستمر -عليه الصلاة والسلام- في الدعوة وإيضاح الحق، وشرع في الجهاد بالسيف، وأرسل الرسل يدعون الناس إلى الخير والهدى، ويشرحون لهم دعوة نبيهم محمد -عليه الصلاة والسلام- وبعث السرايا، وغزا الغزوات المعروفة حتى أظهر الله دينه على يديه، وحتى أكمل الله به الدين، وأتم عليه وعلى أمته النعمة، ثم توفي عليه الصلاة والسلام بعدما أكمل الله به الدين، وبلغ البلاغ المبين -عليه الصلاة والسلام- فتحمل أصحابه من بعده الأمانة، وساروا على الطريق، فدعوا إلى الله عز وجل، وانتشروا في أرجاء المعمورة دعاة للحق ومجاهدين في سبيل الله عز وجل، لا يخشون في الله لومة لائم {يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} (1) جل وعلا، فانتشروا في الأرض غزاة مجاهدين، ودعاة مهتدين وصالحين مصلحين، ينشرون دين الله، ويعلمون الناس شريعته ويوضحون لهم العقيدة التي بعث الله بها الرسل، وهي إخلاص العبادة لله وحده، وترك عبادة ما سواه من الأشجار والأحجار والأصنام وغير ذلك، فلا يدعى إلا الله وحده، ولا يستغاث إلا به ولا يحكم إلا شرعه ولا يصلى إلا له، ولا ينذر إلا له، إلى غير ذلك من العبادات، وأوضحوا للناس أن العبادة حق لله، وتلوا عليهم ما ورد في ذلك من الآيات مثل قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (2) ، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (3) ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (4) ، {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (5) ، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (6) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (7) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 39
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة الإسراء الآية 23
(4) سورة الفاتحة الآية 5
(5) سورة الجن الآية 18
(6) سورة الأنعام الآية 162
(7) سورة الأنعام الآية 163(4/9)
وصبروا على ذلك صبرا عظيما، وجاهدوا في الله جهادا كبيرا رضي الله عنهم وأرضاهم، وتبعهم على ذلك أئمة الهدى من التابعين وأتباع التابعين من العرب وغير العرب، ساروا في هذه السبيل، سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، وتحملوا أعباءها، وأدوا الأمانة، مع الصدق والصبر والإخلاص في الجهاد في سبيل الله، وقتال من خرج عن دينه، وصد عن سبيله ولم يؤد الجزية التي فرضها الله إذا كان من أهلها. فهم حملة الدعوة وأئمة الهدى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا أتباع الصحابة من التابعين وأتباع التابعين وأئمة الهدى ساروا على هذا الطريق كما تقدم، وصبروا في ذلك وانتشر دين الله وعلت كلمته على أيدي الصحابة ومن تبعهم من أهل العلم والإيمان من العرب والعجم من هذه الجزيرة جنوبها وشمالها، ومن غير الجزيرة، ومن سائر أرجاء الدنيا ممن كتب الله له السعادة، ودخل في دين الله، وشارك في الدعوة والجهاد وصبر على ذلك وصارت لهم السيادة والقيادة والأمانة في الدين؛ بسبب صبرهم وإيمانهم وجهادهم في سبيل الله عز وجل، وصدق فيهم قوله سبحانه فيما ذكر في بني إسرائيل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (1) .
صدق هذا في أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفيمن سار على سبيلهم، صاروا أئمة وهداة ودعاة للحق وأعلاما يقتدى بهم بسبب صبرهم وإيقانهم، فإن بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، فأصحاب الرسول -عليه الصلاة والسلام- وأتباعه بإحسان إلى يومنا هذا هم الأئمة وهم الهداة، وهم القادة في سبيل الحق؛ وبذلك يتضح لكل طالب علم أن الدعوة إلى الله من أهم المهمات، وأن الأمة في كل زمان ومكان في أشد الحاجة إليها، بل في أشد الضرورة إلى ذلك.
ويتلخص الكلام في الدعوة إلى الله عز وجل في أمور:
الأمر الأول: حكمها وفضلها.
__________
(1) سورة السجدة الآية 24(4/10)
الأمر الثاني: كيفية أدائها وأساليبها.
الأمر الثالث: بيان الأمر الذي يدعى إليه.
الأمر الرابع: بيان الأخلاق والصفات التي ينبغي للدعاة أن يتخلقوا بها وأن يسيروا عليها. فنقول وبالله المستعان وعليه التكلان وهو المعين والموفق لعباده سبحانه وتعالى.
* * *(4/11)
الأمر الأول: بيان حكم الدعوة إلى الله عز وجل وبيان فضلها
أما حكمها، فقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الدعوة إلى الله عز وجل، وأنها من الفرائض، والأدلة في ذلك كثيرة، منها قوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) ، ومنها قوله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) ، ومنها قوله عز وجل: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) ، ومنها قوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (4) فبين - سبحانه - أن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم الدعاة إلى الله، وهم أهل البصائر، والواجب كما هو معلوم هو اتباعه، والسير على منهاجه -عليه الصلاة والسلام- كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (5) وصرح العلماء أن
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة القصص الآية 87
(4) سورة يوسف الآية 108
(5) سورة الأحزاب الآية 21(4/11)
الدعوة إلى الله عز وجل فرض كفاية بالنسبة إلى الأقطار التي يقوم فيها الدعاة، فإن كل قطر وكل إقليم يحتاج إلى الدعوة وإلى النشاط فيها، فهي فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين ذلك الواجب، وصارت الدعوة في حق الباقين سنة مؤكدة، وعملا صالحا جليلا.
وإذا لم يقم أهل الإقليم، أو أهل القطر المعين بالدعوة على التمام، صار الإثم عاما، وصار الواجب على الجميع، وعلى كل إنسان أن يقوم بالدعوة حسب طاقته وإمكانه، أما بالنظر إلى عموم البلاد، فالواجب أن يوجد طائفة منتصبة تقوم بالدعوة إلى الله جل وعلا في أرجاء المعمورة، تبلغ رسالات الله، وتبين أمر الله عز وجل بالطرق الممكنة، فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بعث الدعاة، وأرسل الكتب إلى الناس، وإلى الملوك والرؤساء ودعاهم إلى الله عز وجل.
وفي وقتنا اليوم قد يسر الله عز وجل أمر الدعوة أكثر بطرق لم تحصل لمن قبلنا، فأمور الدعوة اليوم متيسرة أكثر من طرق كثيرة، وإقامة الحجة على الناس اليوم ممكنة بطرق متنوعة عن طريق الإذاعة، وعن طريق التلفزة، وعن طريق الصحافة، من طرق شتى، فالواجب على أهل العلم والإيمان، وعلى خلفاء الرسول أن يقوموا بهذا الواجب، وأن يتكاتفوا فيه، وأن يبلغوا رسالات الله إلى عباد الله، ولا يخشوا في الله لومة لائم، ولا يحابوا في ذلك كبيرا ولا صغيرا ولا غنيا ولا فقيرا، بل يبلغون أمر الله إلى عباد الله كما أنزل الله وكما شرع الله، وقد يكون ذلك فرض عين إذا كنت في مكان ليس فيه من يؤدي ذلك سواك، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه يكون فرض عين، ويكون فرض كفاية، فإذا كنت في مكان ليس فيه من يقوى على هذا الأمر، ويبلغ أمر الله سواك، فالواجب عليك أنت أن تقوم بذلك، فأما إذا وجد من يقوم بالدعوة والتبليغ والأمر والنهي غيرك، فإنه يكون حينئذ في حقك سنة، وإذا بادرت إليه وحرصت عليه كنت بذلك منافسا في الخيرات، وسابقا إلى الطاعات، ومما احتج به على أنها فرض كفاية قوله جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} (1) الآية.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104(4/12)
قال الحافظ ابن كثير عند هذه الآية وجماعة؛ ما معناه: ولتكن منكم أمة منتصبة لهذا الأمر العظيم، تدعو إلى الله، وتنشر دينه، وتبلغ أمره سبحانه وتعالى، ومعلوم أيضا أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- دعا إلى الله، وقام بأمر الله في مكة حسب طاقته، وقام الصحابة كذلك رضي الله عنهم وأرضاهم بذلك حسب طاقتهم، ثم لما هاجروا قاموا بالدعوة أكثر وأبلغ، ولما انتشروا في البلاد بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- قاموا بذلك أيضا -رضي الله عنهم وأرضاهم- كل على قدر طاقته وعلى قدر علمه، فعند قلة الدعاة، وعند كثرة المنكرات، وعند غلبة الجهل - كحالنا اليوم - تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته، وإذا كان في محل محدود كقرية ومدينة ونحو ذلك، ووجد فيها من تولى هذا الأمر، وقام به وبلغ أمر الله كفى، وصار التبليغ في حق غيره سنة؛ لأنه قد أقيمت الحجة على يد غيره ونفذ أمر الله على يد سواه.
ولكن بالنسبة إلى بقية أرض الله، وإلى بقية الناس، يجب على العلماء حسب طاقتهم، وعلى ولاة الأمر حسب طاقتهم، أن يبلغوا أمر الله بكل ما يستطيعون، وهذا فرض عين عليه على حسب الطاقة والقدرة.
وبهذا يعلم أن كونها فرض عين، وكونها فرض كفاية أمر نسبي يختلف، فقد تكون الدعوة فرض عين بالنسبة إلى أقوام وإلى أشخاص، وسنة بالنسبة إلى أشخاص وإلى أقوام؛ لأنه وجد في محلهم وفي مكانهم من قام بالأمر وكفى عنهم.
أما بالنسبة إلى ولاة الأمور ومن لهم القدرة الواسعة، فعليهم من الواجب أكثر، وعليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار، حسب الإمكان بالطرق الممكنة، وباللغات الحية التي ينطق بها الناس، يجب أن يبلغوا أمر الله بتلك اللغات حتى يصل دين الله إلى كل أحد باللغة التي يعرفها، باللغة العربية وبغيرها، فإن الأمر الآن ممكن وميسور بالطرق التي تقدم بيانها، طرق الإذاعة والتلفزة والصحافة، وغير ذلك من الطرق التي تيسرت اليوم، ولم تتيسر في السابق، كما أنه يجب على الخطباء في الاحتفالات، وفي الجمع، وفي غير ذلك أن يبلغوا ما استطاعوا من أمر الله عز وجل، وأن ينشروا دين الله حسب طاقتهم، وحسب علمهم؛ ونظرا إلى انتشار الدعوة إلى المبادئ الهدامة وإلى الإلحاد، وإنكار رب العباد، وإنكار الرسالات، وإنكار الآخرة، وانتشار الدعوة النصرانية في الكثير من البلدان، وغير ذلك من الدعوات المضللة - نظرا إلى هذا فإن الدعوة إلى الله عز وجل اليوم أصبحت فرضا عاما، وواجبا على جميع العلماء، وعلى جميع الحكام الذين يدينون بالإسلام، فرض عليهم أن يبلغوا دين الله حسب الطاقة(4/13)
والإمكان بالكتابة والخطابة، وبالإذاعة وبكل وسيلة استطاعوا، وأن لا يتقاعسوا عن ذلك، أو يتكلوا على زيد أو عمرو، فإن الحاجة، بل الضرورة ماسة اليوم إلى التعاون والاشتراك، والتكاتف في هذا الأمر العظيم أكثر مما كان قبل ذلك؛ لأن أعداء الله قد تكاتفوا وتعاونوا بكل وسيلة للصد عن سبيل الله، والتشكيك في دينه، ودعوة الناس إلى ما يخرجهم من دين الله عز وجل، فوجب على أهل الإسلام أن يقابلوا هذا النشاط المضل، وهذا النشاط الملحد بنشاط إسلامي، وبدعوة إسلامية على شتى المستويات، وبجميع الوسائل وبجميع الطرق الممكنة، وهذا من باب أداء ما أوجب الله على عباده من الدعوة إلى سبيله.
* * *(4/14)
فضل الدعوة
وقد ورد في فضل الدعوة والدعاة آيات وأحاديث كثيرة، كما أنه ورد في إرسال النبي -صلى الله عليه وسلم- الدعاة أحاديث لا تخفى على أهل العلم، ومن ذلك قوله جل وعلا: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) .
فهذه الآية الكريمة فيها التنويه بالدعاة، والثناء عليهم، وأنه لا أحد أحسن قولا منهم، وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم أتباعهم على حسب مراتبهم في الدعوة والحلم والفضل، فأنت يا عبد الله، يكفيك شرفا أن تكون من أتباع الرسل، ومن المنتظمين في هذه الآية الكريمة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) المعنى: لا أحد أحسن قولا منه؛ لكونه دعا إلى الله، وأرشد إليه وعمل بما يدعو إليه، يعني: دعا إلى الحق وعمل به، وأنكر الباطل وحذر منه وتركه، ومع ذلك صرح بما هو عليه، لم يخجل، بل قال: إنني من المسلمين، مغتبطا وفرحا بما من الله به عليه، ليس كمن يستنكف عن ذلك
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة فصلت الآية 33(4/14)
ويكره أن ينطق بأنه مسلم، أو بأنه يدعو إلى الإسلام، لمراعاة فلان أو مجاملة فلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل المؤمن الداعي إلى الله القوي الإيمان، البصير بأمر الله يصرح بحق الله، وينشط في الدعوة إلى الله، ويعمل بما يدعو إليه، ويحذر ما ينهى عنه، فيكون من أسرع الناس إلى ما يدعو إليه، ومن أبعد الناس عن كل ما ينهى عنه، ومع ذلك يصرح بأنه مسلم، وبأنه يدعو إلى الإسلام، ويغتبط بذلك ويفرح به، كما قال عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (1) فالفرح برحمة الله وفضله فرح الاغتباط، فرح السرور، أمر مشروع، أما الفرح المنهي عنه فهو فرح الكبر، والفرح هذا هو المنهي عنه، كما قال عز وجل في قصة قارون: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (2) هذا فرح الكبر والتعالي على الناس والتعاظم، وهذا هو الذي ينهى عنه. . . أما فرح الاغتباط والسرور بدين الله، والفرح بهداية الله، والاستبشار بذلك والتصريح بذلك ليعلم، فأمر مشروع وممدوح ومحمود. فهذه الآية الكريمة من أوضح الآيات في الدلالة على فضل الدعوة، وأنها من أهم القربات، ومن أفضل الطاعات، وأن أهلها في غاية من الشرف وفي أرفع مكانة، وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأكملهم في ذلك خاتمهم وإمامهم وسيدهم نبينا محمد -عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام- ومن ذلك قوله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (3) فبين سبحانه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يدعو على بصيرة، وأن أتباعه كذلك، فهذا فيه فضل الدعوة، وأن أتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- هم الدعاة إلى سبيله على بصيرة، والبصيرة: هي العلم بما يدعو إليه وما ينهى عنه، وفي هذا شرف لهم وتفضيل، وقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (4) » رواه مسلم في الصحيح، وقال عليه الصلاة والسلام: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (5) » أخرجه مسلم أيضا. وهذا يدل على فضل الدعوة إلى الله عز وجل، وصح عنه عليه السلام أنه قال لعلي رضي الله عنه وأرضاه: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (6) » متفق على صحته. وهذا أيضا يدلنا على فضل الدعوة إلى الله وما فيها من الخير العظيم، وأن الداعي إلى الله جل وعلا يعطى مثل أجور من هداه الله على يديه، ولو كان آلاف الملايين، وتعطى أيها الداعية مثل أجورهم. فهنيئا لك أيها الداعية إلى الله بهذا الخير
__________
(1) سورة يونس الآية 58
(2) سورة القصص الآية 76
(3) سورة يوسف الآية 108
(4) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(5) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(6) صحيح البخاري المناقب (3701) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .(4/15)
العظيم، وبهذا يتضح أيضا أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- يعطى مثل أجور أتباعه، فيا لها من نعمة عظيمة يعطى نبينا -عليه الصلاة والسلام- مثل أجور أتباعه إلى يوم القيامة؛ لأنه بلغهم رسالة الله، ودلهم على الخير عليه الصلاة والسلام، وهكذا الرسل يعطون مثل أجور أتباعهم -عليهم الصلاة والسلام- وأنت كذلك أيها الداعية في كل زمان تعطى مثل أجور أتباعك والقابلين لدعوتك، فاغتنم هذا الخير العظيم وسارع إليه.(4/16)
كيفية الدعوة
أما كيفية الدعوة وأسلوبها فقد بينها الله عز وجل في كتابه الكريم، وفيما جاء في سنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- ومن أوضح ذلك قوله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) فأوضح سبحانه الكيفية التي ينبغي أن يتصف بها الداعية ويسلكها، يبدأ أولا بالحكمة، والمراد بها الأدلة المقنعة الواضحة الكاشفة للحق، والداحضة للباطل؛ ولهذا قال بعض المفسرين: المعنى: بالقرآن؛ لأنه الحكمة العظيمة؛ لأن فيه البيان والإيضاح للحق بأكمل وجه، وقال بعضهم: معناه بالأدلة من الكتاب والسنة، وبكل حال، فالحكمة كلمة عظيمة، معناها الدعوة إلى الله بالعلم والبصيرة، والأدلة الواضحة المقنعة الكاشفة للحق، والمبينة له، وهي كلمة مشتركة تطلق على معان كثيرة، تطلق على النبوة، وعلى العلم والفقه في الدين، وعلى العقل، وعلى الورع، وعلى أشياء أخرى، وهي في الأصل كما قال الشوكاني رحمه الله: الأمر الذي يمنع عن السفه، هذه هي الحكمة، والمعنى: أن كل كلمة، وكل مقالة تردعك عن السفه، وتزجرك عن الباطل فهي حكمة، وهكذا كل مقال واضح صريح صحيح في نفسه فهو حكمة، فالآيات القرآنية أولى
__________
(1) سورة النحل الآية 125(4/16)
بأن تسمى حكمة، وهكذا السنة الصحيحة أولى بأن تسمى حكمة بعد كتاب الله، وقد سماها الله حكمة في كتابه العظيم، كما في قوله جل وعلا: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (1) ، يعني: السنة، وكما في قوله سبحانه: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (2) الآية، فالأدلة الواضحة تسمى حكمة، والكلام الواضح المصيب للحق يسمى حكمة، كما تقدم، ومن ذلك الحكمة التي تكون في فم الفرس: وهي بفتح الحاء والكاف، سميت بذلك؛ لأنها تمنع الفرس من المضي في السير، إذا جذبها صاحبها بهذه الحكمة.
فالحكمة كلمة تمنع من سمعها من المضي في الباطل، وتدعوه إلى الأخذ بالحق والتأثر به، والوقوف عند الحد الذي حده الله عز وجل. فعلى الداعية إلى الله عز وجل أن يدعو بالحكمة، ويبدأ بها، ويعنى بها، فإذا كان المدعو عنده بعض الجفا والاعتراض دعوته بالموعظة الحسنة، بالآيات والأحاديث التي فيها الوعظ والترغيب، فإن كان عنده شبهة جادلته بالتي هي أحسن، ولا تغلظ عليه، بل تصبر عليه ولا تعجل، ولا تعنف، بل تجتهد في كشف الشبهة، وإيضاح الأدلة بالأسلوب الحسن، هكذا ينبغي لك أيها الداعية أن تتحمل وتصبر ولا تشدد؛ لأن هذا أقرب إلى الانتفاع بالحق وقبوله وتأثر المدعو، وصبره على المجادلة والمناقشة، وقد أمر الله جل وعلا موسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون أن يقولا له قولا لينا وهو أطغى الطغاة، قال الله جل وعلا في أمره لموسى وهارون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (3) ، وقال الله سبحانه في نبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (4) الآية، فعلم بذلك أن الأسلوب الحكيم والطريق المستقيم في الدعوة أن يكون الداعي حكيما في الدعوة، بصيرا بأسلوبها، لا يعجل ولا يعنف، بل يدعو بالحكمة، وهي المقال الواضح المصيب للحق من الآيات والأحاديث، وبالموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، هذا هو الأسلوب الذي ينبغي لك في الدعوة إلى الله عز وجل، أما الدعوة بالجهل فهذا يضر ولا ينفع، كما يأتي بيان ذلك إن شاء الله عند ذكر أخلاق الدعاة؛ لأن الدعوة مع الجهل بالأدلة قول على الله بغير علم، وهكذا الدعوة بالعنف والشدة ضررها أكثر. وإنما الواجب والمشروع هو الأخذ
__________
(1) سورة البقرة الآية 129
(2) سورة البقرة الآية 269
(3) سورة طه الآية 44
(4) سورة آل عمران الآية 159(4/17)
بما بينه الله عز وجل في سوره النحل، وهو قوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} (1) الآية. إلا إذا ظهر من المدعو العناد والظلم، فلا مانع من الإغلاظ عليه، كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (2) الآية، وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (3) .
* أما الشيء الذي يدعى إليه، ويجب على الدعاة أن يوضحوه للناس، كما أوضحه الرسل عليهم الصلاة والسلام فهو الدعوة إلى صراط الله المستقيم، وهو الإسلام، وهو دين الله الحق، هذا هو محل الدعوة، كما قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} (4) فسبيل الله جل وعلا هو الإسلام، وهو الصراط المستقيم، وهو دين الله الذي بعث به نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام، هذا هو الذي تجب الدعوة إليه، لا إلى مذهب فلان ولا إلى رأي فلان، ولكن إلى دين الله، إلى صراط الله المستقيم، الذي بعث الله به نبيه وخليله محمدا عليه الصلاة والسلام، وهو ما دل عليه القرآن العظيم، والسنة المطهرة الثابتة عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وعلى رأس ذلك الدعوة إلى العقيدة الصحيحة، إلى الإخلاص لله وتوحيده بالعبادة، والإيمان به وبرسله، والإيمان باليوم الآخر، وبكل ما أخبر الله به ورسوله، هذا هو أساس الصراط المستقيم، وهو الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ومعنى ذلك: الدعوة إلى توحيد الله والإخلاص له، والإيمان به وبرسله عليهم الصلاة والسلام، ويدخل في ذلك الدعوة إلى الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسله، مما كان وما يكون من أمر الآخرة، وأمر آخر الزمان وغير ذلك، ويدخل في ذلك أيضا الدعوة إلى ما أوجب الله من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت إلى غير ذلك، ويدخل أيضا في ذلك الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ بما شرع الله في الطهارة والصلاة والمعاملات والنكاح والطلاق والجنايات والنفقات والحرب والسلم وفي كل شيء لأن دين الله عز وجل دين شامل يشمل مصالح العباد في المعاش والمعاد ويشمل كل ما يحتاج إليه الناس في أمر دينهم ودنياهم، ويدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وينهى عن سفاسف الأخلاق وعن سيئ الأعمال، فهو عبادة وقيادة، يكون عابدا ويكون قائدا للجيش، عبادة وحكم، يكون عابدا مصليا صائما ويكون حاكما بشرع الله منفذا لأحكامه عز وجل، عبادة وجهاد، يدعو إلى الله
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة التحريم الآية 9
(3) سورة العنكبوت الآية 46
(4) سورة النحل الآية 125(4/18)
ويجاهد في سبيل الله من خرج عن دين الله، مصحف وسيف، يتأمل القرآن ويتدبره وينفذ أحكامه بالقوة ولو بالسيف إذا دعت الحاجة إليه، سياسة واجتماع، فهو يدعو إلى الأخلاق الفاضلة والأخوة الإيمانية، والجمع بين المسلمين والتأليف بينهم، كما قال جل وعلا {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) فدين الله يدعو إلى الاجتماع وإلى السياسة الصالحة الحكيمة التي تجمع ولا تفرق، تؤلف ولا تباعد، تدعو إلى صفاء القلوب واحترام الأخوة الإسلامية والتعاون على البر والتقوى والنصح لله ولعباده، وهو أيضا يدعو إلى أداء الأمانة والحكم بالشريعة وترك الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (2) وهو أيضا، سياسة واقتصاد، كما أنه سياسة وعبادة وجهاد، فهو يدعو إلى الاقتصاد الشرعي المتوسط، ليس رأسماليا غاشما ظالما لا يبالي بالحرمات، ويجمع المال بكل وسيلة وبكل طريق، وليس اقتصادا شيوعيا إلحاديا لا يحترم أموال الناس، ولا يبالي بالضغط عليهم وظلمهم والعدوان عليهم، فليس هذا ولا هذا، بل هو وسط بين الاقتصادين، ووسط بين الطريقين، وحق بين الباطلين، فالغرب عظموا المال وغلوا في حبه وفي جمعه، حتى جمعوه بكل وسيلة، وسلكوا فيه ما حرم الله عز وجل، والشرق من الملحدين من السوفييت ومن سلك سبيلهم لم يحترموا أموال العباد، بل أخذوها واستحلوها، ولم يبالوا بما فعلوا في ذلك، بل استعبدوا العباد، واضطهدوا الشعوب، وكفروا بالله، وأنكروا الأديان، وقالوا: لا إله، والحياة: مادة، فلم يبالوا بهذا المال، ولم يكترثوا بأخذه بغير حله، ولم يكترثوا بوسائل الإبادة والاستيلاء على الأموال، والحيلولة بين الناس وبين ما فطرهم الله عليه من الكسب والانتفاع، والاستفادة من قدراتهم ومن عقولهم، وما أعطاهم الله من الأدوات، فلا هذا ولا هذا. فالإسلام جاء بحفظ المال واكتسابه بالطرق الشرعية البعيدة عن الظلم والغش والربا وظلم الناس والتعدي عليهم، كما جاء باحترام الملك الفردي والجماعي، فهو وسط بين النظامين، وبين الاقتصادين، وبين الطريقين الغاشمين، فأباح المال ودعا إليه، ودعا إلى اكتسابه بالطرق الحكيمة، من غير أن يشغل كاسبه عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعن أداء ما أوجب الله عليه؛ ولهذا قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (3) وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «كل المسلم على المسلم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة النساء الآية 58
(3) سورة النساء الآية 29(4/19)
حرام دمه وماله وعرضه (1) » وقال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا (2) » وقال عليه الصلاة والسلام: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف بها وجهه خير له من سؤال الناس أعطوه أو منعوه (3) » «وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الكسب أطيب؟ فقال: عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور (4) » وقال عليه الصلاة والسلام: «ما أكل أحد طعاما أفضل من أن يأكل من عمل يده وكان نبي الله داود يأكل من عمل يده (5) » فهذا يبين لنا أن نظام الإسلام في المال نظام متوسط، لا مع رأس المال الغاشم من الغرب وأتباعه، ولا مع الشيوعيين الملحدين الذين استباحوا الأموال، وأهدروا حرمات أهلها، لم يبالوا بها، واستعبدوا الشعوب وقضوا عليها، واستحلوا ما حرم الله منها، فلك أن تكسب المال وتطلبه بالطرق الشرعية، وأنت أولى بمالك وبكسبك بالطريقة التي شرعها الله، وأباحها جل وعلا. والإسلام أيضا يدعو إلى الأخوة الإيمانية، وإلى النصح لله ولعباده، وإلى احترام المسلم لأخيه، لا غل ولا حسد ولا غش ولا خيانة، ولا غير ذلك من الأخلاق الذميمة، كما قال جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (6) وقال جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (7) وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله (8) » الحديث، فالمسلم أخو المسلم، يجب عليه احترامه وعدم احتقاره، ويجب عليه إنصافه وإعطاؤه حقه من كل الوجوه التي شرعها الله عز وجل، وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (9) » وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن مرآة أخيه المؤمن (10) » فأنت يا أخي مرآة أخيك، وأنت لبنة من البناء الذي قام عليه بنيان الأخوة الإيمانية، فاتق الله في حق أخيك، واعرف حقه، وعامله بالحق والنصح والصدق، وعليك أن تأخذ الإسلام كله ولا تأخذ جانبا دون جانب، لا تأخذ العقيدة وتدع الأحكام والأعمال، ولا تأخذ الأعمال والأحكام وتدع العقيدة، بل خذ الإسلام كله، خذه عقيدة، وعملا، وعبادة، وجهادا، واجتماعا، وسياسة، واقتصادا وغير ذلك، خذه من كل الوجوه، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (11) قال جماعة من السلف: معنى ذلك: ادخلوا في السلم جميعه، يعني: في الإسلام، يقال للإسلام سلم؛ لأنه طريق السلامة، وطريق النجاة في الدنيا والآخرة، فهو سلم وإسلام،
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، مسند أحمد بن حنبل (2/277) .
(2) صحيح البخاري الحج (1742) .
(3) صحيح البخاري الزكاة (1471) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1836) ، مسند أحمد بن حنبل (1/164) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/141) .
(5) صحيح البخاري البيوع (2072) ، مسند أحمد بن حنبل (4/132) .
(6) سورة التوبة الآية 71
(7) سورة الحجرات الآية 10
(8) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، مسند أحمد بن حنبل (2/277) .
(9) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .
(10) سنن الترمذي البر والصلة (1929) ، سنن أبو داود الأدب (4918) .
(11) سورة البقرة الآية 208(4/20)
فالإسلام يدعو إلى السلم، يدعو إلى حقن الدماء بما شرع من الحدود والقصاص والجهاد الشرعي الصادق، فهو سلم وإسلام، وأمن وإيمان؛ ولهذا قال جل وعلا: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} (1) أي: ادخلوا في جميع شعب الإيمان، لا تأخذوا بعضا وتدعوا بعضا، عليكم أن تأخذوا بالإسلام كله، {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} (2) يعني: المعاصي التي حرمها الله عز وجل فإن الشيطان يدعو إلى المعاصي وإلى ترك دين الله كله، فهو أعدى عدو؛ ولهذا يجب على المسلم أن يتمسك بالإسلام كله، وأن يدين بالإسلام كله، وأن يعتصم بحبل الله عز وجل، وأن يحذر أسباب الفرقة والاختلاف في جميع الأحوال، فعليك أن تحكم شرع الله في العبادات، وفي المعاملات، وفي النكاح والطلاق، وفي النفقات، وفي الرضاع، وفي السلم والحرب، ومع العدو والصديق، وفي الجنايات، وفي كل شيء. دين الله يجب أن يحكم في كل شيء، وإياك أن توالي أخاك لأنه وافقك في كذا، وتعادي الآخر لأنه خالفك في رأي أو في مسألة، فليس هذا من الإنصاف، فالصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل ومع ذلك لم يؤثر ذلك في الصفاء بينهم والموالاة والمحبة رضي الله عنهم وأرضاهم. فالمؤمن يعمل بشرع الله، ويدين بالحق، ويقدمه على كل أحد بالدليل، ولكن لا يحمله ذلك على ظلم أخيه وعدم إنصافه إذا خالفه في الرأي في مسائل الاجتهاد التي قد يخفى دليلها، وهكذا في المسائل التي قد يختلف في تأويل النص فيها، فإنه قد يعذر، فعليك أن تنصح له، وأن تحب له الخير، ولا يحملك ذلك على العداء والانشقاق، وتمكين العدو منك ومن أخيك، ولا حول ولا قوة إلا بالله. الإسلام دين العدالة، ودين الحكم بالحق والإحسان، دين المساواة إلا فيما استثنى الله عز وجل، ففيه الدعوة إلى كل خير، وفيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والإنصاف والعدالة والبعد عن كل خلق ذميم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (3) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (4) .
والخلاصة: أن الواجب على الداعية الإسلامي أن يدعو إلى الإسلام كله، ولا يفرق بين الناس، وأن لا يكون متعصبا لمذهب دون مذهب، أو لقبيلة دون قبيلة، أو لشيخه أو رئيسه أو غير ذلك، بل الواجب أن يكون هدفه إثبات الحق وإيضاحه، واستقامة الناس عليه، وإن خالف رأي فلان أو فلان أو فلان، ولما نشأ في الناس من يتعصب للمذاهب
__________
(1) سورة البقرة الآية 208
(2) سورة البقرة الآية 208
(3) سورة النحل الآية 90
(4) سورة الحجرات الآية 13(4/21)
ويقول: إن مذهب فلان أولى من مذهب فلان، جاءت الفرقة والاختلاف، حتى آل ببعض الناس هذا الأمر إلى ألا يصلي مع من هو على غير مذهبه، فلا يصلي الشافعي خلف الحنفي، ولا الحنفي خلف المالكي ولا خلف الحنبلي، وهكذا وقع من بعض المتطرفين المتعصبين، وهذا من البلاء ومن اتباع خطوات الشيطان، فالأئمة أئمة هدى: الشافعي، ومالك، وأحمد، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، وأشباههم كلهم أئمة هدى ودعاة حق، دعوا الناس إلى دين الله، وأرشدوهم إلى الحق، ووقع هناك مسائل بينهم، اختلفوا فيها؛ لخفاء الدليل على بعضهم، فهم بين مجتهد مصيب له أجران، وبين مجتهد أخطأ الحق فله أجر واحد، فعليك أن تعرف لهم قدرهم وفضلهم، وأن تترحم عليهم، وأن تعرف أنهم أئمة الإسلام ودعاة الهدى، ولكن لا يحملك ذلك على التعصب والتقليد الأعمى، فتقول: مذهب فلان أولى بالحق بكل حال، أو مذهب فلان أولى بالحق لكل حال لا يخطئ، لا، هذا غلط.
عليك أن تأخذ بالحق، وأن تتبع الحق إذا ظهر دليله ولو خالف فلانا أو فلانا، وعليك ألا تتعصب وتقلد تقليدا أعمى، بل تعرف للأئمة فضلهم وقدرهم، ولكن مع ذلك تحتاط لنفسك ودينك، فتأخذ بالحق وترضى به، وترشد إليه إذا طلب منك، وتخاف الله وتراقبه جل وعلا، وتنصف من نفسك، مع إيمانك بأن الحق واحد، وأن المجتهدين إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد - أعني مجتهدي أهل السنة أهل العلم والإيمان والهدى - كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *(4/22)
أما المقصود من الدعوة والهدف منها
فالمقصود والهدف إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وإرشادهم إلى الحق حتى يأخذوا به، وينجوا من النار، وينجوا من غضب الله، وإخراج الكافر من ظلمة الكفر إلى النور والهدى، وإخراج الجاهل من ظلمة الجهل(4/22)
إلى نور العلم، والعاصي من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة، هذا هو المقصود من الدعوة، كما قال جل وعلا: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (1) فالرسل بعثوا ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ودعاة الحق كذلك يقومون بالدعوة وينشطون لها؛ لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ولإنقاذهم من النار ومن طاعة الشيطان، ولإنقاذهم من طاعة الهوى إلى طاعة الله ورسوله. . أما أخلاق الدعاة وصفاتهم التي ينبغي أن يكونوا عليها فقد أوضحها الله جل وعلا في آيات كثيرة منها الإخلاص، فيجب على الداعية أن يكون مخلصا لله عز وجل لا يريد رياء ولا سمعة ولا ثناء الناس ولا حمدهم، إنما يدعو إلى الله يريد وجهه عز وجل، كما قال سبحانه {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} (2) وقال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} (3) فعليك أن تخلص لله عز وجل، هذا أهم الأخلاق، هذا أعظم الصفات أنت تكون في دعوتك تريد وجه الله والدار الآخرة.
الأمر الثاني: أن تكون على بينة في دعوتك، أي على علم، لا تكن جاهلا بما تدعو إليه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (4) فلا بد من العلم، فالعلم فريضة، فإياك أن تدعو على جهالة، وإياك أن تتكلم فيما لا تعلم، فالجاهل يهدم ولا يبني، ويفسد ولا يصلح، فاتق الله يا عبد الله، إياك أن تقول على الله بغير علم، لا تدعو إلى شيء إلا بعد العلم به والبصيرة بما قاله الله ورسوله، فلا بد من بصيرة وهي العلم، فعلى طالب العلم وعلى الداعية أن يتبصر فيما يدعو إليه، وأن ينظر فيما يدعو إليه ودليله، فإن ظهر له الحق وعرفه دعا إلى ذلك، سواء كان ذلك فعلا أو تركا، فيدعو إلى الفعل إذا كان طاعة لله ورسوله، ويدعو إلى ترك ما نهى الله عنه ورسوله على بينة وبصيرة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 257
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة فصلت الآية 33
(4) سورة يوسف الآية 108(4/23)
الأمر الثالث: من الأخلاق التي ينبغي لك أن تكون عليها أيها الداعية أن تكون حليما في دعوتك، رفيقا فيها، متحملا صبورا، كما فعل الرسل -عليهم الصلاة والسلام- إياك والعجلة، إياك والعنف والشدة، عليك بالصبر، عليك بالحلم، عليك بالرفق في دعوتك، وقد سبق لك بعض الدليل على ذلك، كقوله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) وقوله سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (2) الآية، وقوله جل وعلا في قصة موسى وهارون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (3) وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به ومن ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه (4) » فعليك يا عبد الله، أن ترفق في دعوتك، ولا تشق على الناس، ولا تنفرهم من الدين، ولا تنفرهم بغلظتك ولا بجهلك، ولا بأسلوبك العنيف المؤذي الضار، عليك أن تكون حليما صبورا، سلس القياد، لين الكلام، طيب الكلام؛ حتى تؤثر في قلب أخيك، وحتى تؤثر في قلب المدعو، وحتى يأنس لدعوتك ويلين لها، ويتأثر بها، ويثني عليك بها، ويشكرك عليها، أما العنف فهو منفر لا مقرب، ومفرق لا جامع. . . ومن الأخلاق والأوصاف التي ينبغي، بل يجب أن يكون عليها الداعية، العمل بدعوته، وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه، ليس ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه، أو ينهى عنه ثم يرتكبه، هذه حال الخاسرين، نعوذ بالله من ذلك، أما المؤمنون الرابحون فهم دعاة الحق يعملون به وينشطون فيه ويسارعون إليه، ويبتعدون عما ينهون عنه، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (5) {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (6) وقال سبحانه موبخا اليهود على أمرهم الناس بالبر ونسيان أنفسهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (7) .
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) سورة طه الآية 44
(4) صحيح مسلم الإمارة (1828) ، مسند أحمد بن حنبل (6/258) .
(5) سورة الصف الآية 2
(6) سورة الصف الآية 3
(7) سورة البقرة الآية 44(4/24)
وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون له يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه (1) » هذه حال من دعا إلى الله وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ثم خالف قوله فعله وفعله قوله، نعوذ بالله من ذلك، فمن أهم الأخلاق ومن أعظمها في حق الداعية أن يعمل بما يدعو إليه، وأن ينتهي عما ينهى عنه، وأن يكون ذا خلق فاضل، وسيرة حميدة، وصبر ومصابرة، وإخلاص في دعوته، واجتهاد فيما يوصل الخير إلى الناس، وفيما يبعدهم من الباطل، ومع ذلك يدعو لهم بالهداية، هذا من الأخلاق الفاضلة، أن يدعو لهم بالهداية ويقول للمدعو: هداك الله، وفقك الله لقبول الحق، أعانك الله على قبول الحق، تدعوه وترشده وتصبر على الأذى، ومع ذلك تدعو له بالهداية، قال النبي -عليه الصلاة والسلام- لما قيل عن دوس: إنهم عصوا، قال: «اللهم اهد دوسا وائت بهم (2) » تدعو له بالهداية والتوفيق بقبول الحق، وتصبر وتصابر في ذلك، ولا تقنط ولا تيأس، ولا تقل إلا خيرا، لا تعنف ولا تقل كلاما سيئا ينفر من الحق، ولكن من ظلم وتعدى له شأن آخر، كما قال الله جل وعلا: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (3) .
* فالظالم الذي يقابل الدعوة بالشر والعناد والأذى له حكم آخر، في الإمكان تأديبه على ذلك بالسجن أو غيره، ويكون تأديبه على ذلك على حسب مراتب الظلم، لكن ما دام كافا عن الأذى فعليك أن تصبر عليه، وتحتسب، وتجادله بالتي هي أحسن، وتصفح عما يتعلق بشخصك من بعض الأذى، كما صبر الرسل وأتباعهم بإحسان.
* وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعا لحسن الدعوة إليه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه، والثبات عليه، ويجعلنا من الهداة المهتدين، والصالحين المصلحين، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) صحيح البخاري كتاب بدء الخلق (3267) ، صحيح مسلم الزهد والرقائق (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (5/207) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2937) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2524) ، مسند أحمد بن حنبل (2/243) .
(3) سورة العنكبوت الآية 46(4/25)
وعد بطائفة ناجية
فضيلة الشيخ
عثمان الصالح
رئيس التحرير
كان عبد الرحمن بن شماسة المهري عند مسلمة بن مخلد وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص.
فقال عبد الله: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق هم شر من أهل الجاهلية لا يدعون الله بشيء إلا رده عليهم. . !
فقال له مسلمة: يا عقبة اسمع ما يقول عبد الله.
فقال عقبة: هو أعلم. وأما أنا فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم. . لا يضرهم من خالفهم. . حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك (1) » *
__________
(1) صحيح مسلم ص68 - المجلد السابع - 13 - 14.(4/26)
فقال عبد الله: أجل! ثم يبعث الله ريحا كريح المسك مسها مس الحرير فلا تترك نفسا في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا قبضته.
ثم يبقى شرار الناس. . عليهم تقوم الساعة (1) .
فهذا إذن أمل بوعد.
ممن؟؟
من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بماذا؟
بطائفة. . أو عصابة. . أو قوم.
البخاري يصفهم فيقول: هم أهل العلم. .
وأحمد بن حنبل يقول: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟
ويقول القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة.
أما النووي فيقول: يحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين. وألفت نظرك قارئي العزيز وأخي في الإسلام إلى كلمة: أنواع المؤمنين، ذلك أننا إذا عدنا للنووي رحمه الله وجدناه يصنفهم. . ويعدد أنواعهم فماذا يقول؟
إنه يقول: إنهم
1. شجعان مقاتلون.
2. فقهاء.
3. محدثون.
4. زهاد.
5. آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر.
ويستطرد فيقول: ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونوا متفرقين في أنحاء الأرض أخرجه مسلم.
__________
(1) صحيح مسلم صفحة 68 جـ 7 - 13-14.(4/27)
- ألا ترى أن أمتنا الحبيبة محتاجة أشد ما تكون الحاجة إلى هذه النوعية من المؤمنين.
- تحتاج كل نوع على حدة.
- ثم هي في أمس الحاجة لمن تتجمع فيه هذه الصفات أو بعضها.
- ألا نفتقر للفقيه مقاتلا.
- وإلى الزاهد آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر.
- وإلى الشجاع الفقيه المحدث الزاهد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
ثم إذا عدنا فنظرنا لذلك نظرة زمن نعاصره.
أفلا ترانا نحتاج للصحافي فقيها. .
والطبيب زاهدا.
وإلى الجندي في الجيش آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر. .
وإلى الموظف خلف مكتبه مخلصا لله متفانيا في خدمة جمهوره من المسلمين لا يبتغي من وراء ذلك جزاء ولا شكورا. . !! .
* * *
(4/28)
نحن موعودون إذن بقوة متصلة تقاتل على أمر الله.
وعد محقق. .
كان في الماضي. .
ويقوم في الحاضر. .
وسوف يكون في المستقبل. .
يعبر عن ذلك وعده -صلى الله عليه وسلم- المكنون في كلمة: لا تزال. .(4/28)
كما أننا من جانب آخر لدينا أمل محقق بوعد منه أيضا - صلى الله عليه وسلم - بالتجديد. .
واسمع الحديث وتذاكر معي مغزى أراده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينتقل إلينا عبر العصور. .
وماذا أراد بأن يوحي في قلوب المؤمنين به.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها (1) » وقال الخطيب في التاريخ: وقد اعتمد الأئمة في هذا الحديث، فروينا في المدخل للبيهقي بإسناده إلى الإمام أحمد أنه قال بعد ذكره إياه: فكان في المائة الأولى عمر بن عبد العزيز وفي الثانية الشافعي.
وعده -صلى الله عليه وسلم- بالتجدد على رأس كل مائة عام تحتاج لتأمل. .
فحضارتنا الإسلامية لن ينطبق عليها ما يقال عن الحضارات من طفولة يعقبها شباب فكهولة.
كلا. . وإنما هو التجدد. .
ومعنى هذا أيضا
أن هذه الأمة لا تيأس
أو أنه لا ينبغي لها أن يصيبها اليأس.
فطالما أنه لا تزال فيها طائفة أو عصابة أو فريق يقاتل على أمر الله يقهر عدونا. .
ولا يضره من خالفه. .
فكيف يتسلل إلينا اليأس؟؟
__________
(1) أخرجه أبو داود والحاكم في المستدرك وصححه والطبراني في الأوسط بإسناد صحيح وأخرجه الذهبي في التلخيص.(4/29)
والواجب الثاني. . والذي يتفرع عن وجود هذه الطائفة والتي يؤكدها حديثه -صلى الله عليه وسلم- المروي عن أبي هريرة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة (1) »
وفي رواية أخرى عند أبي داود «اثنتان وسبعون في النار. . وواحدة في الجنة وهي الجماعة (2) »
ومعنى هذا واضح. . فأمتنا ستفترق. . وستفترق على اثنتين وسبعين فرقة. . . ورغم ذلك فالوعد قائم. . بالتجديد والطائفة الناجية. .
وواجب على العلماء خاصة والمسلمين عامة أن يفتش كل منهم. . وأن يكد بحثا عن الفرقة الناجية ليجعل موقفه بجوارها. .
وأن يسخر قلبه وعقله ولسانه وماله للوقوف إلى جوار الحق حيثما كان موضعه لا يؤخره عن ذلك
ارتباط بعرق. .
أو جاه. .
أو مال. .
أو وطن. .
هذا واجب بالبحث تقف له بالمرصاد زينة الشهوات المبثوثة من الشيطان ونسله في عصرنا الحاضر. .
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (3) .
__________
(1) سنن أبي داود ج4 ص197، 198 كتاب السنة باب شرح السنة.
(2) سنن أبو داود السنة (4597) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) ، سنن الدارمي السير (2518) .
(3) سورة آل عمران الآية 14(4/30)
تلك الشهوات لم تتغير. .
ولا نظنها تتغير. .!
شهوات عصرهم. . شهوات عصرنا. .
وهم قد اجتازوها فكانوا. .
ونحن نأمل من بعدهم أن نجتازها فنكون.
هذا واجب فردي يتم بالمناجاة الخالصة بين كل منا وربه. .(4/31)
والواجب الثالث وهو مرتب على الواجب الثاني.
ألا يكتفي المسلم منا بالوقوف إلى جوار الفرقة الناجية بعد البحث والتقصي بقلبه وعقله وبمشاعره ومواقفه. . ولكن عليه أيضا أن يدعو الآخرين إلى سبيل ربه فالمسلم مرتبط ارتباطا عضويا بكل مسلم آخر، تتهاوى أمام هذا الارتباط الجبال وتعبر البحار والمحيطات. . وتلغى الحدود وتتحطم العصبيات.
وهذا واجب دعوة من جانب وتصحيح من جانب آخر يجعلنا مسئولين مسئولية مباشرة عما يحدث في البيت والشارع والمدرسة وأجهزة الإعلام من النشرة والكتاب إلى المذياع والتلفاز. .
والكلمة في هذا منطوقة أو مكتوبة أمانة ومسئولية باهظة لا نقف حيالها مكتوفي الأيدي خرس الألسن. .
والكلمة لها في ضميرنا المسلم ما لها من خطورة التأثير المتنامي في دورة حياة المجتمع كله.
واسمع هذا الحديث الشريف مصداقا لما نقول، فعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:(4/31)
«إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي بها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي بها بالا يهوي بها في جهنم (1) » .
«إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي بها بالا يرفعه الله بها درجات (2) » . . .
«وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي بها بالا يهوي بها في جهنم (3) » .
إلى هذا الحد تكون الكلمة. . تقدمه إلى طريق الجنة أو تهوي به في النار. .
أليست الكلمة تؤدي إلى القرار. . والقرار إلى القرار يشكل مصير أمة.
وهكذا يجري كل ذلك في باطن هذه الأمة، وبالحيوية التي تجري في عروقها وبروحها المتدفقة بالحب الشامل تحمل العطاء النابض بالرحمة والبر كافة للعالمين.
وكما يقول صلوات الله وسلامه عليه: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (4) » . .
وهكذا فإنه من هذه البلاد
المملكة العربية السعودية. .
قادة ودعاة للحق بأفكارهم تنطلق هذه المجلة
من هيئة كبار علمائها. .
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان.
(2) صحيح البخاري الرقاق (6478) ، مسند أحمد بن حنبل (2/334) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1849) .
(3) صحيح البخاري الرقاق (6478) ، صحيح مسلم الزهد والرقائق (2988) ، سنن الترمذي الزهد (2314) ، مسند أحمد بن حنبل (2/334) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1849) .
(4) صحيح مسلم كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق جزء 4 ص2004(4/32)
ومن الرئاسة العامة لبحوثها. .
نداء لكل مسلم في أرجاء المعمورة. . تدعوه بحق أن يقرأ ما فيها وليرى قبسا من الدين وضوءا من الحق سداه ولحمته
(لا إله إلا الله محمد رسول الله) .
هذه نفثات قلب يتأمل أحوالنا نحن معشر المسلمين. .
وهو حديث الروح للأرواح يأمل أن يسري وأن تدركه القلوب بلا عناء وأن تلتقطه آذان واعية. .
وأن تتفتح له قلوب تنعطف للإسلام روحا وليس شكلا ميتا
وهو إذ يرى ما يحتاج المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها وهو كثير لا يجفل. .!
ولا ييأس. .
لا ييأس. . لأنه يوقن أن حل كل ذلك بين أيدينا. .
وهو على الأصح في أعماق قلوبنا. .
وهو حل سهل ميسور
ذلك أن في أجسادنا مضغة. . إذا صلحت صلح الجسد كله
ألا إنها القلب. .
ألا إنها القلب. . .
ألا إنها القلب. . .
ولا يصلح القلب إلا التزام صادق صاف بعقيدتنا(4/33)
وبهذا نسترد دورنا في قيادة الإنسانية
وبذلك تشرق شمس الإسلام على عالمنا من جديد
ولنتل معا قوله سبحانه وتعالى وقوله الحق:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) .
وقوله تعالى {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2) .
__________
(1) سورة النور الآية 55
(2) سورة المجادلة الآية 21(4/34)
حكم
تشريح جثة المسلم
هيئة كبار العلماء(4/35)
الحمد لله وحده وبعد. . .
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة المنعقدة في مدينة الطائف في شهر شعبان عام 1396 هـ. موضوع (حكم تشريح جثة مسلم من أجل تحقيق مصالح وخدمات طبية) مشفوعا بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ورغبة في إطلاع قراء (مجلة البحوث الإسلامية) على هذا البحث القيم ننشره بنصه:(4/36)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وبعد:
فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الثامنة المنعقدة بالرياض في شهر ربيع الآخر عام 96 هـ من إعداد بحث في (حكم تشريح جثة مسلم من أجل تحقيق مصالح وخدمات طبية) وإدراج ذلك في جدول أعمال الدورة التاسعة - أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك وضمنته ما يلي:
أولا: بيان حرمة المسلم، ووجوب تكريمه حيا وميتا، وعصمة دمه حيا.
ثانيا: بيان أقسام التشريح، والحاجة الداعية إلى كل قسم منها، وما يترتب على ذلك من مصالح.
ثالثا: ذكر نقول عن علماء الإسلام فيها استثناء حالات دعت الضرورة فيها إلى إباحة دم المسلم، واقتضت شق جسمه أو جثته أو قطع عضو منه حيا أو ميتا.
رابعا: المقارنة بين ما أباحه علماء الإسلام من ذلك بدافع الضرورة وتحقيق المصلحة وما يجريه الأطباء على جثث الأموات لمصالح طبية أو مصالح عامة، كإثبات الحقوق وحفظ الأمن وتحقيق السلام والاطمئنان، ثم بيان ما يترتب على ذلك من منع التشريح أو إباحته.
والله الموفق.(4/37)
الموضوع الأول
بيان حرمة المسلم ووجوب تكريمه حيا أو ميتا
وعصمة دمه ووجوب حقنه حيا
ثبتت عصمة دم المسلم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، فلا يحل لأحد أن يسفك دم مسلم أو يجني على بشرته أو عضو من أعضائه إلا إذا ارتكب من الجرائم ما يبيح ذلك منه، أو يوجبه شرعا، كأن يقتل مؤمنا عمدا عدوانا، أو يزني وهو محصن، أو يترك دينه ويفارق الجماعة، أو يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادا أو نحو ذلك مما أوجبت الشريعة فيه قصاصا أو حدا أو تعزيرا، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (1) إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (2) وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (3) .
وعن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: «خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر قال: أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه.
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) سورة النساء الآية 93
(3) سورة الإسراء الآية 33(4/38)
قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى. قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى. قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليست البلدة الحرام. قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض (1) » .
وعن ابن مسعود قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين، التارك الجماعة (2) » .
كما وردت نصوص كثيرة في تكريمه ورعاية حرمته بعد موته ففي سنن أبي داود وغيره أن النبي صلى الله
__________
(1) ص453 ج3 من صحيح البخاري بشرح فتح الباري طبع عبد الرحمن محمد.
(2) صحيح البخاري الديات (6878) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676) ، سنن الترمذي الديات (1402) ، سنن النسائي تحريم الدم (4016) ، سنن أبو داود الحدود (4352) ، سنن ابن ماجه الحدود (2534) ، مسند أحمد بن حنبل (1/382) ، سنن الدارمي الحدود (2298) .(4/39)
عليه وسلم قال: «كسر عظم الميت ككسره حيا (1) » وثبت «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الجلوس على القبور (2) » ، إلى غير ذلك مما يدل على عصمة دم المسلم ووجوب تكريمه حيا أو ميتا حتى صار ذلك معلوما من الدين بالضرورة، فأغنى عن الاستدلال عليه.
ويلتحق بالمسلم في عصمة دمه وحرمته في الجملة من كان معاهدا، سواء كان عهده عن صلح أو أمان أو اتفاق على جزية، فلا يحل دمه ولا إيذاؤه ما دام في عهده، ولا تحل إهانته بعد وفاته؛ لعموم قوله تعالى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (3) {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (4) .
وقوله {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (5) ولما ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من قتل معاهدا في غير كنهه حرم الله عليه الجنة (6) »
وقال: «من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما (7) » وما ثبت في حديث علي رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثا فعلى نفسه، ومن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (8) » .
وما رواه أبو داود في سننه عن سليم بن عامر - رجل من حمير - أنه كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا فإذا هو عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء (9) » فرجع معاوية. بل جاء الإسلام بحقن دماء أولاد الكفار المحاربين ونسائهم، وتحريم التمثيل بقتلاهم في الجملة عدلا منه ورحمة، كما هو معروف في حديث بريدة بن الحصيب وغيره في ذلك، وفي سند أبي داود وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كسر عظم الميت ككسره حيا (10) » .
__________
(1) سنن أبو داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد بن حنبل (6/105) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن النسائي الجنائز (2028) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) .
(3) سورة النحل الآية 91
(4) سورة النحل الآية 92
(5) سورة الإسراء الآية 34
(6) كتاب الجهاد من سنن أبي داود.
(7) باب إثم من قتل ذميا ج12 من صحيح البخاري بشرح فتح الباري.
(8) سنن النسائي القسامة (4734) ، سنن أبو داود كتاب الديات (4530) ، سنن ابن ماجه الديات (2658) ، سنن الدارمي الديات (2356) .
(9) سنن الترمذي السير (1580) ، سنن أبو داود الجهاد (2759) ، مسند أحمد بن حنبل (4/113) .
(10) سنن أبو داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد بن حنبل (6/105) .(4/40)
الموضوع الثاني
بيان أقسام التشريح والضرورة الداعية إلى كل منها
وما يترتب على ذلك من مصالح
ينقسم التشريح من حيث الغرض منه ثلاثة أقسام:
أ - التشريح لمعرفة سبب الوفاة عند الاشتباه في جريمة، ويسمى الطب الشرعي.
ب - التشريح لمعرفة سبب الوفاة عموما، ويسمى التشريح المرضي.
ج _ التشريح لمعرفة تركيب الجسم وأعضائه وغير ذلك من أجل تعلم الطب عموما.
وليس المقصود من البحث الاستقصاء في معرفة تفاصيل ما كتب عن هذه الأقسام؛ إذ ليس الغرض تعلم أنواع التشريح أو نوع منه، وإنما المقصود معرفة الحاجة إليه ومداها، وما يترتب عليه من مصالح عامة أو خاصة تحول الحكم عليه بالمنع أو الجواز، فكان من المناسب، الوقوف بالبيان عند الحد الذي يمكن معه الحكم.
ففي القسم الأول يقوم الطبيب الشرعي بتشريح الجثة عند الاشتباه في جريمة ليعرف ما إذا كانت الوفاة بخنق أو وخز أو ضرب بمحدد أو سقي سم أو غير ذلك من ألوان الاعتداء، فتثبت الجريمة في نفسها ثم يبحث في المتهم عن أمارات قد تصله بالجريمة أو تنتهي إلى اعترافه بها، وفي هذا إثبات للحق والحد من الاعتداء وردع من تسول له نفسه أن يقتل خفية أو بوسائل يرى فيها الخلاص من ضبطه وعقوبته، وبهذا تحقن الدماء وتحفظ النفوس ويعم الأمن والاطمئنان، وقد ينتهي التشريح بإثبات الوفاة بسبب عادي لا اعتداء فيه أو باعتداء من الشخص على نفسه، ويتأكد ذلك بمعرفة أحواله والأمور الملابسة له مما قد يحدث له أزمات ومضايقات نفسية؛ وبهذا تذهب الظنون والأوهام، ويخلى سبيل المتهم، وربما يعثر على بعض الجثة، وبالبحث عن باقيها يعثر(4/41)
على أجزاء أخرى قد تكون منها، وقد تكون من غيرها، فيعرف الطبيب الشرعي بالتشريح أوصاف كل جزء ومميزاته من حيث السن والذكورة والأنوثة، وطول العظام وقصرها وخواص الجلد، وما إلى ذلك من الأوصاف المميزة، وقد يتوصل بذلك إلى أن الأجزاء من جثة واحدة أو أكثر، وربما انتهى الأمر بالبحث والاستقصاء إلى نتيجة تعود على أولياء الدم بالخير، وعلى الأمة بالأمن والاطمئنان.
وفي القسم الثاني من التشريح يعرف الطبيب المرض الذي سبب الوفاة وقد تكثر الوفاة بسبب هذا المرض ويخشى على الأمة انتشار الوباء فيها، فيبلغ الطبيب أولياء الأمور ليقوموا بما يلزم للحد من انتشار هذا المرض أو القضاء عليه.
وفي القسم الثالث يقوم الطلاب بتشريح أجسام الموتى تحت إشراف الأطباء لمعرفة تركيب الجسم وأعضائه الظاهرة ومفاصلها، ومعرفة أجهزته ومكان كل جهاز منها ووظيفته وحجمه ومقاسه صحيحا أو مريضا، وعلامة مرضه وكيفية علاجه وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته طلاب كلية الطب في مراحل الدراسة للنهوض بهم علميا وعمليا، وإعدادهم لخدمة الأمة في مختلف الجوانب الصحية، ووقاية منها، وتشخيصا وعلاجا لها.
هذه وغيرها هي الدواعي التي دعت المسئولين عامة وعلماء الطب خاصة إلى الإقدام على تشريح جثث الموتى، وترخص للمسلمين منهم في ذلك مع اعتقادهم حرمة المسلم ومن في حكمه ووجوب تكريمه، لكن هل يكفي ذلك مبررا للتشريح ومرخصا فيه أو موجبا له؟ هذا مما يتبين إن شاء الله بعد بحث الموضوعات التالية.(4/42)
الموضوع الثالث
ذكر نقول عن علماء الإسلام فيها استثناء حالات
دعت الضرورة فيها إلى إباحة دم المسلم
واقتضت شق جسمه حيا أو جثته ميتا أو قطع عضو منه حيا أو ميتا
تمهيد
نظرا إلى أن من أقدم على التشريح من علماء الطب والمسئولين في الأمم قد بنوا ذلك على ما شعروا به من الحاجة إليه، وما اعتقدوه من المصالح الخاصة والعامة المترتبة عليه، ونظرا إلى أن علماء الإسلام قد بنوا ما استثنوه من القاعدة العامة في عصمة دم المسلم ومن في حكمه ووجوب رعاية حرمته على الحاجة والمصلحة كان لزاما علينا أن نمهد بكلمة في أنواع المصلحة ومراتبها، ثم نتبع ذلك بأقوال علماء الإسلام في المسائل المستثناة، ليتبين بذلك ما ينهض من المصالح للاعتبار وبناء الأحكام عليه وما ينزل منها عن درجة الاعتبار، فلا تبنى عليه الأحكام.
فسر العلماء المصلحة بجلب المنفعة أو دفع المضرة، وقسموها من حيث شهادة نص معين لها بالاعتبار أو عليها بالإلغاء أو عدم شهادته لها أو عليها ثلاثة أقسام:
الأول: مصلحة شهد لها نص معين بالاعتبار كالحدود التي شرعت نصا لحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فهذه مصلحة معتبرة شرعا.(4/43)
والثاني: مصلحة شهد النص المعين بإلغائها كإيجاب صيام شهرين متتابعين كفارة على من جامع من الملوك ومن في حكمهم عمدا في نهار رمضان وهو صائم ولم ير العتق مجزئا لكونه غير رادع لمثله، لسهولته بالنسبة له فهذه مصلحة ملغاة.
والثالث: مصلحة لم يشهد لها نص معين باعتبارها ولا إلغائها ومثلوا لها بإلزام الولاة رعيتهم بدفع ضرائب عند شدة الحاجة إليها، ويسمى هذا القسم بالمصلحة المرسلة، وفي الاحتجاج بها خلاف مشهور بين أئمة الفقهاء فمنهم من اعتبرها ومنهم من ألغاها، ومنهم من اعتبرها إذا كانت واقعة في رتبة الضرورات دون الحاجات والتحسينات.
وذلك أنها تقسم من حيث القوة إلى ثلاث مراتب: واقعة في رتبة الضرورات وواقعة في رتبة الحاجات، وواقعة في رتبة التحسينات، فأقواها الأولى ثم الثانية ثم الثالثة.
وقد ذكر الغزالي (1) تفصيل ذلك وفيما يلي نصه:
الأصل الرابع من الأصول الموهومة: الاستصلاح
وقد اختلف العلماء في جواز اتباع المصلحة المرسلة ولا بد من كشف معنى المصلحة وأقسامها فنقول: المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام:
قسم شهد الشرع لاعتبارها.
وقسم شهد لبطلانها.
وقسم لم يشهد الشرع لا لبطلانها ولا لاعتبارها.
أما ما شهد الشرع لاعتبارها فهي حجة ويرجع حاصلها إلى القياس وهو اقتباس الحكم من معقول النص والإجماع، وسنقيم الدليل عليه في القطب الرابع فإنه نظر في كيفية استثمار الأحكام من الأصول المثمرة ومثاله حكمنا أن كل ما أسكر من مشروب أو مأكول فيحرم قياسا على الخمر؛ لأنها حرمت لحفظ العقل الذي هو مناط التكليف فتحريم الشرع الخمر دليل على ملاحظة هذه المصلحة.
__________
(1) ص139 ج1 من المستصفى(4/44)
القسم الثاني: ما شهد الشرع لبطلانها، مثاله: قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان إن عليك صوم شهرين متتابعين، فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله قال: لو أمرته بذلك لسهل عليه واستحقر إعتاق رقبة في جنب قضاء شهوته، فكانت المصلحة في إيجاب الصوم لينزجر به فهذا قول باطل، ومخالف لنص الكتاب بالمصلحة، وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها بسبب تغير الأحوال، ثم إذا عرف ذلك من صنيع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي.
القسم الثالث: ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين وهذا في محل النظر، فلنقدم على تمثيله تقسيما آخر وهو أن المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هي في رتبة الحاجات، وإلى ما يتعلق بالتحسينات والتزيينات وتتقاعد أيضا عن رتبة الحاجات، ويتعلق بأذيال كل قسم من الأقسام ما يجري منها مجرى التكملة والتتمة لها.
ولنفهم أولا معنى المصلحة، ثم أمثلة مراتبها:
أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة، ولسنا نعني به ذلك فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، وأنفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة، وإذا أطلقنا المعنى المخيل والمناسب في كتاب القياس أردنا به هذا الجنس، وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات فهي أقوى المراتب في المصالح، ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل وعقوبته المبتدع الداعي إلى بدعته، فإن هذا يفوت على الخلق دينهم، وقضاؤه بإيجاب القصاص إذ به حفظ النفوس، وإيجاب حد الشرب إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف، وإيجاب حد الزنا إذ به حفظ النسل والأنساب، وإيجاب زجر الغصاب والسراق إذ به يحصل حفظ الأموال التي هي معاش الخلق وهم مضطرون إليها، وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق، ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتل، والزنا، والسرقة، وشرب المسكر، أما ما يجري مجرى التكملة والتتمة لهذه المرتبة فكقولنا: المماثلة مرعية في استيفاء القصاص لأنه مشروع للزجر والتشفي ولا يحصل ذلك إلا بالمثل، وكقولنا: القليل من الخمر إنما حرم لأنه يدعو إلى الكثير فيقاس عليه النبيذ فهذا دون الأول، ولذلك اختلفت فيه الشرائع، أما تحريم السكر فلا تنفك عنه شريعة؛ لأن السكر يسد باب التكليف والتعبد.(4/45)
الرتبة الثانية: ما يقع في رتبة الحاجات من المصالح والمناسبات كتسليط الولي على تزويج الصغيرة والصغير، فلذلك لا ضرورة إليه، لكنه يحتاج إليه في اقتناء المصالح وتقييد الاكتفاء خيفة من الفوات واستغناما للصلاح المنتظر في المأكل، وليس هذا كتسليط الولي على تربيته وإرضاعه وشراء الملبوس والمطعوم لأجله فإن ذلك ضرورة لا يتصور فيها اختلاف المطلوب بها مصالح الخلق، أما النكاح في حال الصغر فلا يرهق إليه توقان شهوة ولا حاجة تناسل، بل يحتاج إليه لصلاح المعيشة باشتباك العشائر، والتظاهر بالأصهار وأمور من هذا الجنس لا ضرورة إليها، أما ما يجري مجرى التتمة لهذه الرتبة فهو كقولنا لا تزوج الصغيرة إلا من كفء بمهر مثل، فإنه أيضا مناسب، ولكنه دون أصل الحاجة إلى النكاح ولهذا اختلف العلماء فيه.
الرتبة الثالثة:
ما لا يرجع إلى ضرورة ولا إلى حاجة، ولكن يقع موقع التحسن والتزيين والتيسير للمزايا والمزائد ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات مثاله: سلب العبد أهلية الشهادة مع قبول فتواه وروايته، من حيث أن العبد نازل القدر والرتبة، ضعيف الحال والمنزلة باستسخار المالك إياه. فلا يليق بمنصبه التصدي للشهادة، أما سلب ولايته فهو من مرتبة الحاجات لأن ذلك مناسب للمصلحة إذ ولاية الأطفال تستدعي استغراقا وفراغا، والعبد مستغرق بالخدمة، فتفويض أمر الطفل إليه إضرار بالطفل، أما الشهادة فتتفق أحيانا كالرواية والفتوى ولكن قول القائل: سلب منصب الشهادة لخسة قدرة ليس كقوله: سلب ذلك لسقوط الجمعة عنه، فإن ذلك لا يشم منه رائحة مناسبة أصلا وهذا لا ينفك عن الانتظام لو صرح به الشرع، ولكن تنتفي مناسبته بالرواية والفتوى بل ذلك ينقص عن المناسب إلى أن يعتذر عنه، والمناسب قد يكون منقوصا فيترك أو يحترز عنه بعذر أو تقييد كتقييد النكاح بالولي لو أمكن تعليله بفتور رأيها في انتفاء الأزواج وسرعة الاغترار بالظواهر لكان واقعا في الرتبة الثانية، ولكن لا يصح ذلك في سلب عبارتها وفي نكاح الكفء، فهو في الرتبة الثالثة؛ لأن الأليق بمحاسن العادات استحياء النساء عن مباشرة العقد لأن ذلك يشعر بتوقان نفسها إلى الرجال، ولا يليق ذلك بالمروءة، ففوض الشرع ذلك إلى الولي حملا للخلق على أحسن المناهج وكذلك تقييد النكاح بالشهادة لو أمكن تعليله بالإثبات عند النزاع لكان من قبيل الحاجات، ولكن سقوط الشهادة على رضاها يضعف هذا المعنى فهو لتفخيم أمر النكاح وتمييزه عن السفاح بالإعلان والإظهار عند من له رتبة ومنزلة، وعلى الجملة فيلحق برتبة التحسينات، فإذا عرفت هذه الأقسام فنقول: الواقع في الرتبتين الأخيرتين لا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل كأن يجري مجرى الضروريات فلا يبعد أن يؤدي إلى اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد له الشرع بالرأي فهو كالاستحسان، فإن اعتضد بأصل فذاك قياس.
أما الواقع في رتبة الضرورات فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد له أصل معين ومثاله: أن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا، وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب ذنبا وهذا لا عهد به في الشرع ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم، ثم يقتلون الأسارى أيضا، فيجوز أن يقول قائل: هذا الأسير(4/46)
مقتول بكل حال، فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع، لأنا نعلم قطعا أن مقصود الشرع تقليل القتل، كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان، فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشرع، لا بدليل واحد وأصل معين، بل بأدلة خارجة عن الحصر، لكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين فهذا مثال مصلحة غير مأخوذ بطريق القياس على أصل معين، وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف كلها ضرورية قطعية كلية، وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم، إذ لا يحل رمي الترس، إذ لا ضرورة وفينا غنية عن القلعة فنعدل عنها، إذ لم نقطع بظفرنا بها؛ لأنها ليست قطعية بل ظنية، وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا منهم لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور، وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين؛ لأنه ليس يتعين واحد للإغراق إلا أن يتعين بالقرعة، ولا أصل لها، وكذلك جماعة في مخمصة لو أكلوا واحدا بالقرعة لنجوا فلا رخصة فيه؛ لأن المصلحة ليست كلية، وليس في معناها قطع اليد للأكلة حفظا للروح، فإنه تنقدح الرخصة فيه لأنه إضرار به لمصلحته، وقد شهد الشرع للإضرار بشخص في قصد صلاحه كالفصد والحجامة وغيرهما، وكذا قطع المضطر قطعة من فخذه إلى أن يجد الطعام فهو كقطع اليد، لكن ربما يكون القطع سببا ظاهرا في الهلاك فيمنع منه؛ لأنه ليس فيه يقين الخلاص، فلا تكون المصلحة قطعية، وبعد أن ذكر حكم الضرب في التهمة وقتل الزنديق ولو تاب، والساعي في الأرض بالفساد بالدعوة إلى البدعة، وإغراء الظلمة بالناس وأموالهم وحرماتهم ودمائهم وإثارة الفتن. . . قال: فإن قيل فإذا تترس الكفار بالمسلمين فلا نقطع بتسلطهم على استئصال الإسلام لو لم يقصد الترس بل يدرك ذلك بغلبة الظن (قلنا) : لا جرم، ذكر العراقيون في المذهب وجهين في تلك المسألة وعللوا بأن ذلك مظنون، ونحن إنما نجوز ذلك عند القطع أو الظن القريب من القطع (1) . والظن القريب من القطع إذا صار كليا وعظم الخطر فيه فتحتقر الأشخاص الجزئية بالإضافة إليه، (فإن قيل) : إن توقفنا عن الساعي في الأرض بالفساد ضررا كليا بتعريض أموال المسلمين ودماءهم للهلاك وغلب ذلك على الظن بما عرف من طبيعته وعادته المجربة طول عمره (قلنا) : لا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى قتله إذا كان كذلك بل هو أولى من الترس، فإنه لم يذنب ذنبا، وهذا قد ظهرت منه جرائم توجب العقوبة وإن لم توجب القتل، وكأنه التحق بالحيوانات الضارية، لما عرف من طبيعته وسجيته (فإن قيل) : كيف يجوز المصير إلى هذا في هذه المسألة وفي مسألة الترس وقد قدمتم أن المصلحة إذا خالفت النص لم تتبع كإيجاب صوم شهرين على الملوك إذا جامعوا في نهار رمضان وهذا يخالف قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} (2) وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (3) وأي ذنب لمسلم يتترس به كافر؟ فإن زعمتم أنا نخصص العموم بصورة ليس فيها حظر كلي فلنخصص العتق بصورة يحصل بها الانزجار عن الجناية حتى يخرج عنها الملوك، فإذا غاية الأمر في مسألة الترس أن يقطع باستئصال أهل الإسلام، فما
__________
(1) والظن القريب من القطع
(2) سورة النساء الآية 93
(3) سورة الإسراء الآية 33(4/47)
بالنا نقتل من لم يذنب قصدا ونجعله فداء للمسلمين، ونخالف النص في قتل النفس التي حرم الله تعالى (قلنا) لهذا نرى المسألة في محل الاجتهاد ولا يبعد المنع من ذلك، ويتأيد بمسألة السفينة وأنه يلزم منه قتل ثلث الأمة لاستصلاح ثلثيها ترجيحا للكثرة إذ لا خلاف في أن كافرا لو قصد قتل عدو محصور كعشرة مثلا وتترس بمسلم فلا يجوز لهم قتل الترس في الدفع، بل حكمهم كحكم عشرة أكرهوا على قتل أو اضطروا في مخمصة إلى أكل واحد، وإنما نشأ هذا من الكثرة، ومن كونه كليا، لكن للكلي الذي لا يحصر حكم آخر أقوى من الترجيح بكثرة العدد وكذلك لو اشتبهت أخته بنساء بلدة حل له النكاح، ولو اشتبهت بعشرة وعشرين لم يحل، ولا خلاف أنهم لو تترسوا بنسائهم وذراريهم قاتلناهم، وإن كان التحريم عاما، لكن نخصصه بغير هذه الصورة، فكذلك هاهنا التخصيص ممكن. وقول القائل: هذا سفك دم محرم معصوم يعارضه أن في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حصر لها، ونحن نعلم أن الشرع يؤثر الكلي على الجزئي، فإن حفظ أهل الإسلام عن اصطلام الكفار أهم في مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد، فهذا مقطوع به من مقصود الشرع، والمقطوع به لا يحتاج إلى شهادة أصل. اهـ
وبعد ما تقدم من التمهيد بالحديث عن المصالح، وبيان ما يصلح منها للاعتبار وبناء الأحكام عليه، وما لا يصلح لذلك نذكر مسائل فقهية لا تعدو أن تكون نظرية اجتهادية، وقد بنى الفقهاء حكمهم فيها نفيا وإثباتا على رعاية المصلحة.
ومن هذه المسائل ضرب من تترس به الكفار من أسارى المسلمين مثلا في الحرب، وشق بطن امرأة ماتت وفي بطنها ولد علم أنه حي بالأمارات، ورمي أحد ركاب سفينة خشي عليهم الغرق، فيرمى أحدهم بقرعة لينجو الباقون، وأكل مضطر من جثة إنسان ميت إنقاذا لنفسه من الهلاك، وتبييت المشركين أو رميهم بالمنجنيق ونحوه مما يعم الهلاك به وفيهم النساء والصبيان، وفيما يلي بيان أقوال فقهاء الإسلام في هذه المسائل، وما بنوه عليه من الدليل والمصلحة.(4/48)
المسألة الأولى: ضرب أو رمي من تترس به الكفار من أسارى المسلمين
سبق في التمهيد أن ذكر الغزالي هذه المسألة، وبين أنها مبنية على مصلحة واقعة في رتبة الضرورات، حيث إن رمي الكفار وقتلهم بما يستتبع قتل أسارى المسلمين أو إصابتهم فيه نصر المسلمين وحفظ دينهم وديارهم ونفوسهم وأموالهم وأعراضهم، وهذه من الضرورات التي اتفقت الشرائع على حفظها، وفيه أيضا تقديم المصلحة العامة للإسلام وللأمة على المصلحة الخاصة، وهي حفظ دماء(4/48)
المسلمين الذين تترس بهم الكفار، وهذا يتفق مع قاعدة تقديم أقوى المصلحتين عند تعارضهما، وارتكاب أدنى المفسدتين وأخفهما تفاديا لأشدهما، فكان رمي الكفار قصدا بما يستتبع قتل متترسهم من المسلمين متفقا مع مقاصد الشريعة، لكن لما تعارضت مصلحة حفظ دماء أسرى المسلمين أو من بين الكفار من المسلمين حين الحرب ومصلحة الجهاد وما يترتب عليه من منافع وما يترتب على تركه من مضار، كانت المسألة مثار خلاف بين الفقهاء، فرأى بعضهم قتال الكفار بما يعم كالرمي بالمنجنيق والإغراق والغازات الخانقة وأمثالها إن لم يتغلب عليهم إلا بذلك، رعاية للمصلحة العامة، ورأى آخرون أنه لا يجوز رميهم وقتالهم بما يعم، وفيما يلي نصوص يتبين منها خلاف الفقهاء في ذلك وما استند إليه كل منهم من دليل أو تعليل.
قال السرخسي: ولا بأس بإرساله الماء إلى مدينة أهل الحرب وإحراقهم بالنار ورميهم بالمنجنيق، وإن كان فيهم أطفال أو ناس من المسلمين أسرى أو تجار. وقال الحسن بن زياد - رحمه الله -: إذا علم أن فيهم مسلم وأنه يتلف بهذا الصنع لم يحل له ذلك؛ لأن الإقدام على قتل المسلم حرام وترك قتل الكافر جائز. ألا ترى أن للإمام أن لا يقتل الأسارى لمنفعة المسلمين فكان مراعاة جانب المسلم أولى من هذا الوجه، ولكنا نقول أمرنا بقتالهم فلو اعتبرنا هذا المعنى لأدى إلى سد باب القتال معهم، فإن حصونهم ومدائنهم قل ما تخلو من مسلم عادة، ولأنه يجوز لنا أن نفعل ذلك بهم وإن كان فيهم نساؤهم وصبيانهم، وكما لا يحل قتل المسلم لا يحل قتل نسائهم وصبيانهم، ثم لا يمتنع ذلك لمكان نسائهم وصبيانهم فكذلك لمكان المسلم فلا يستقيم منع هذا. وقد روينا «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نصب المنجنيق على الطائف وأمر أسامة بن زيد - رضي الله عنه - بأن يحرق، وحرق حصن عوف بن مالك» . وكذلك إن تترسوا بأطفال المسلمين فلا بأس بالرمي إليهم وإن كان الرامي يعلم أنه يصيب المسلم وعلى قول الحسن - رضي الله عنه - لا يحل له ذلك وهو قول الشافعي لما بينا أن التحرز عن قتل المسلم فرض وترك الرمي إليهم جائز. ولكنا نقول: القتال معهم فرض وإذا تركنا ذلك لما فعلوا أدى إلى سد باب القتال معهم ولأنه يتضرر المسلمون بذلك فإنهم يمتنعون من الرمي لما أنهم تترسوا بأطفال المسلمين فيجترئون بذلك على المسلمين وربما يصيبون منهم إذا تمكنوا من الدنو من المسلمين والضرر مدفوع، إلا أن على المسلم الرامي أن يقصد به الحربي؛ لأنه لو قدر على التمييز بين الحربي والمسلم فعلا كان ذلك مستحقا عليه، فإذا عجز عن ذلك كان عليه أن يميز بقصده لأنه وسع مثله اهـ.(4/49)
وفي كتاب الجهاد من بداية المجتهد لابن رشد
اتفق عوام الفقهاء على جواز رمي الحصون بالمنجنيق، سواء كان فيها نساء وذرية أم لم يكن، لما جاء «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نصب المنجنيق على أهل الطائف (1) » ، وأما إذا كان الحصن فيه أسارى من المسلمين وأطفال من المسلمين فقالت طائفة يكف عن رميهم بالمنجنيق، وبه قال الأوزاعي، وقال الليث وذلك جائز، ومعتمد من لم يجزه قوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (2) الآية) وأما من أجاز ذلك فكأنه نظر إلى المصلحة.
وقال في الأم
قال الشافعي - رضي الله عنه -: (إذا كان في حصن المشركين نساء وأطفال وأسرى مسلمون فلا بأس بأن ينصب المنجنيق على الحصن دون البيوت التي فيها الساكن إلا أن يلتحم المسلمون قريبا من الحصن فلا بأس أن ترمى بيوته وجدرانه، فإذا كان في الحصن مقاتلة محصنون رميت البيوت والحصون، وإذا تترسوا بالصبيان المسلمين أو غير المسلمين والمسلمون ملتحمون فلا بأس أن يعمدوا المقاتلة دون المسلمين والصبيان، وإن كانوا غير ملتحمين أحببت له الكف عنهم حتى يمكنهم أن يقاتلوهم غير متترسين، وهكذا إن أبرزوهم فقالوا: إن رميتمونا وقاتلتمونا قاتلناهم، والنفط والنار مثل المنجنيق وكذلك الماء والدخان. اهـ) (3) .
وقال محمد الشربيني الخطيب الشافعي
(فإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر أو نحوه جاز ذلك - أي الرمي - بما ذكره غيره على المذهب لئلا يتعطل الجهاد بحبس مسلم عندهم وقد لا يصيب المسلم وإن أصيب رزق الشهادة) .
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7480) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1778) ، مسند أحمد بن حنبل (2/11) .
(2) سورة الفتح الآية 25
(3) الأم ج4 ص287 ط الأولى 1381 هـ.(4/50)
تنبيه: تعبيره بالجواز لا يقتضي الكراهة سواء اضطروا إلى ذلك أم لا، وملخص ما في الروضة ثلاثة طرق: المذهب إن لم تكن ضرورة كره تحرزا من إهلاك المسلم ولا يحرم على الأظهر، وإن كان ضرورة كخوف ضررهم أو لم يحصل فتح القلعة إلا به جاز قطعا، وكالمسلم الطائفة من المسلمين كما قاله الرافعي، وقضيته عدم الجواز إذا كان في المسلمين كثرة وهو كذلك (ولو التحم حرب فتترسوا بنساء) وخناثى (وصبيان) ومجانين منهم (جاز) حينئذ (رميهم) إذا دعت الضرورة إليه، ونتوقى من ذكر لئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى منع الجهاد وطريقا إلى الظفر بالمسلمين؛ لأنا إن كففنا عنهم لأجل التترس بمن ذكر لا يكفون عنا فالاحتياط لنا أولى من الاحتياط لمن ذكر (وإن دفعوا بهم عن أنفسهم ولم تدع ضرورة إلى رميهم فالأظهر تركهم) وجوبا لئلا يؤدي إلى قتلهم من غير ضرورة وقد نهينا عن قتلهم، وهذا ما رجحه في المحرر. والثاني وهو المعتمد كما صححه في زوائد الروضة جواز رميهم كما يجوز نصب المنجنيق على القلعة وإن كان يصيبهم، ولئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى تعطيل الجهاد أو حيلة إلى استبقاء القلاع لهم، وفي ذلك فساد عظيم، واحترز المصنف بقوله دفعوا بهم عن أنفسهم عما إذا فعلوا ذلك مكرا وخديعة لعلمهم بأن شرعنا يمنع من قتل نسائهم وذراريهم فلا يوجب ذلك ترك حصارهم ولا الامتناع من رميهم وإن أفضى إلى قتل من ذكر قطعا. قاله الماوردي. قال في البحر: وشرط جواز الرمي أن يقصد بذلك التوصل إلى رجالهم.
(وإن تترسوا بمسلمين) ولو واحدا أو ذميين كذلك (فإن لم تدع ضرورة إلى رميهم تركناهم) وجوبا صيانة للمسلمين وأهل الذمة، وفارق النساء والصبيان على المعتمد بأن المسلم والذمي محقونا الدم لحرمة الدين والعهد فلم يجز رميهم بلا ضرورة، والنساء والصبيان حقنوا لحق الغانمين فجاز رميهم بلا ضرورة.
(وإلا) بأن دعت ضرورة إلى رميهم بأن تترسوا بهم حال التحام بالقتال بحيث لو كففنا عنهم ظفروا بنا وكثرت نكايتهم (جاز رميهم) حينئذ (في الأصح) المنصوص، ونقصد بذلك قتال المشركين ونتوقى المسلمين وأهل الذمة بحسب الإمكان؛ لأن مفسدة الإعراض أعظم من مفسدة الإقدام، ويحتمل هلاك طائفة للدفع عن بيضة الإسلام ومراعاة الأمور الكلية. والثاني المنع إذا لم يتأت رمي الكفار إلا برمي مسلم أو ذمي وكالذمي المستأمن. اهـ (1) .
وقال أبو محمد بن قدامة رحمه الله
(ج9 ص276 277) .
وإن تترسوا في الحرب بنسائهم وصبيانهم جاز رميهم، ويقصد المقاتلة؛ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) مغني المحتاج ج4 ص223، 224 ط الحلبي.(4/51)
رماهم بالمنجنيق ومعهم النساء والصبيان (1) » ، ولأن كف المسلمين عنهم يفضي إلى تعطيل الجهاد، لأنهم متى علموا ذلك تترسوا بهم عند خوفهم فينقطع الجهاد. وسواء كانت الحرب ملتحمة أو غير ملتحمة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يتحين بالرمي حال التحام الحرب.
فصل: ولو وقفت امرأة في صف الكفار أو على حصنهم، فشتمت المسلمين، أو تكشفت لهم، جاز رميها قصدا؛ لما روى سعيد: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، «عن عكرمة، قال: لما حاصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل الطائف أشرفت امرأة، فكشفت عن قبلها، فقال: ها دونكم فارموها» . فرماها رجل من المسلمين، فما أخطأ ذلك منها. ويجوز النظر إلى فرجها للحاجة إلى رميها؛ لأن ذلك من ضرورة رميها. وكذلك يجوز رميها إذا كانت تلتقط لهم السهام، أو تسقيهم، أو تحرضهم على القتال؛ لأنها في حكم المقاتل. وهكذا الحكم في الصبي والشيخ وسائر من منع من قتله منهم.
فصل: وإن تترسوا بمسلم، ولم تدع حاجة إلى رميهم، لكون الحرب غير قائمة، أو لإمكان القدرة عليهم بدونه، أو للأمن من شرهم، لم يجز رميهم. فإن رماهم فأصاب مسلما، فعليه ضمانه. وإن دعت الحاجة إلى رميهم للخوف على المسلمين، جاز رميهم؛ لأنها حال ضرورة ويقصد الكفار. وإن لم يخف على المسلمين، لكن لم يقدر عليهم إلا بالرمي، فقال الأوزاعي، والليث: لا يجوز رميهم؛ لقول الله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} (2) الآية. قال الليث: ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق. وقال الأوزاعي: كيف يرمون من لا يرونه؟ إنما يرمون أطفال المسلمين. وقال القاضي والشافعي: يجوز رميهم إذا كانت الحرب قائمة؛ لأن تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد (3) اهـ
وقال المرادوي في الإنصاف: قوله (وإن تترسوا بمسلمين لم يجز رميهم، إلا أن يخاف على المسلمين فيرميهم ويقصد الكفار) هذا بلا نزاع، وظاهر كلامه: أنه إذا لم يخف على المسلمين ولكن لا يقدر عليهم إلا بالرمي: عدم الجواز. وهذا المذهب نص عليه، وقدمه في الفروع. وجزم به في الوجيز. وقال القاضي: يجوز رميهم حال قيام الحرب. لأن تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد. وجزم به في الرعاية الكبرى.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3013) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1745) ، سنن الترمذي السير (1570) ، سنن أبو داود الجهاد (2672) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2839) ، مسند أحمد بن حنبل (4/38) .
(2) سورة الفتح الآية 25
(3) ج4 ص129.(4/52)
المسألة الثانية: شق بطن امرأة ماتت وفي بطنها ولد علم أنه حي
شق بطن الميتة لإخراج ولدها الحي فيه انتهاك لحرمتها ومخالفة للأدلة التي دلت على وجوب تكريمها وحرمة إيذائها، لكن فيه الإبقاء على حياة الحمل المعصوم، وترك شق بطنها فيه تكريمها والمحافظة على حرمتها لكن يلزمه القضاء على حياته ومخالفة للأدلة الدالة على ذلك، فكان هذا التعارض منشأ اختلاف بين الفقهاء، فمنهم من منع شق بطنها رعاية لمصلحة تكريمها ورأى أنها لا تهان لمصلحة غيرها، ومنهم من أجاز أو أوجب شق بطنها إن لم يمكن إخراج الولد منها حيا إلا بذلك إيثارا لجانب الحي على جانب الميت، ويمكن أن يقال إن رعاية عصمة الدم آكد من رعاية حرمة الميت، فإن الاعتداء على الميت بقطع رقبته أو عضو من أعضائه مثلا لا يوجب قصاصا ولا دية وإنما يوجب تعمده تعزيرا بخلاف قتل الحي مسلما أو ذميا فإنه يوجب في الجملة قصاصا أو دية، والمسألة على كل حال اجتهادية، ويلتحق بذلك شق بطن من مات لإخراج ما قد بلعه من الدنانير أو دراهم أو نحوهما، حيث وقع فيه الخلاف أيضا، فمنهم من منعه رعاية لحرمة الميت، ومنهم من أجازه رعاية لحق المال، وفيما يلي أقوال بعض الفقهاء في ذلك.
قال ابن المواق: (وبقر عن مال كثر ولو بشاهد ويمين) (1) . سحنون: ويبقر عن دنانير في بطن الميت إلا على ما قل. عبد الحق: في كون ما قل دون ربع دينار أو نصاب الزكاة خلاف. وأجاب أبو عمران عن مقيم شاهد على ميت لم يدفن أنه بلع دنانير يحلف ليبقر بطنه قائلا اختلف في القصاص بشاهد واحد (لا عن جنين) من المدونة.
قال مالك: لا يبقر بطن الميتة إذا كان جنينها يضطرب في بطنها. وقال سحنون: إن كملت حياته ورجي خلاصه بقر. وقال ابن عبد الحكم: رأيت رجلا مبقورا على ناقة مبقورة. قال سند: وإذا بقر فمن خاصرتها اليسرى. ابن يونس: الصواب عندي البقر لأن الميت لا يؤلمه. وقد رأى أهل العلم قطع الصلاة خوف وقوع صبي أو أعمى في بئر، وقطع الصلاة فيه إثم ولكن أبيح لإحياء نفس فكذلك يباح بقر الميتة لإحياء ولدها الذي يتحقق
__________
(1) كتاب الجنائز ج2 من شرح المواق على مختصر الخليل(4/53)
موته إن ترك، والواقع في البئر قد يحيا فكان البقر أولى. ويحمل قول عائشة: «كسر عظام الميت ككسرها حيا (1) » إذا فعل ذلك عبثا، وأما لأمر هو واجب فلا. ألا ترى الحي لو أصابه أمر في جوفه يتحقق أن حياته باستخراجه لبقر عليه ولم يكن آثما في فعل ذلك بنفسه أو بولده أو عبده مع أن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت. قال اللخمي: إن كان الجنين في وقت لو أسقطته وهي حية لم يعش لم يبقر، وإن كان في شهر يعيش فيه الولد إذا وضعته كالتي دخلت في السابع أو التاسع أو العاشر وكان متى بقر عليه رجيت حياته، فقال مالك: لا يبقر عليه. وقال أشهب وسحنون: يبقر عليه وهو أحسن، وإحياء نفس أولى من صيانة ميت (وتؤولت أيضا على البقر إن رجي) (2) .
أما اللخمي وابن يونس فقد اختارا البقر كما تقدم مصرحين بأنه خلاف قول مالك وذكر ابن عرفة في المسألة ثلاثة أقوال (وإن قدر على إخراجه من محله فعل) قال مالك: إن قدر على أن يستخرج الولد من حيث يخرج في الحياة فعل. اهـ (ج2 من شرح ابن المواق على مختصر خليل) .
قال أحمد الدردير: و (بقر) أي شق بطن ميت (عن مال) له أو لغيره ابتلعه حيا (كثر) بأن كان نصابا (ولو) ثبت (بشاهد ويمين) ومحل التقييد بالكثير إذا ابتلعه لخوف عليه أو لمداواة، أما لقصد حرمان الوارث فيبقر ولو قل (لا) يبقر (عن جنين) رجي لإخراجه ولا تدفن به إلا بعد تحقق موته ولو تغيرت (وتؤولت أيضا على البقر) وهو قول سحنون وقد تأولها عليه عبد الوهاب (إن رجي) خلاصه حيا وكان في السابع أو التاسع فأكثر (وإن قدر على إخراجه من محله) بحيلة (فعل) اللخمي: وهو مما لا يستطاع. اهـ
وقال النووي في المجموع على قول الشيرازي في (3) .
(وإن ماتت امرأة وفي جوفها جنين حي شق جوفها لأنه استبقاء حي بإتلاف جزء من الميت فأشبه إذا اضطر إلى أكل جزء من الميت) .
(الشرح) هذه المسألة مشهورة في كتب الأصحاب، وذكر صاحب الحاوي أنه ليس للشافعي فيها نص، قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي والمحاملي وابن الصباغ وخلائق من الأصحاب: قال ابن سريج: إذا ماتت امرأة وفي جوفها جنين حي شق جوفها وأخرج، فأطلق ابن سريج المسألة، قال أبو حامد والماوردي والمحاملي وابن الصباغ: وقال بعض أصحابنا: ليس هو كما أطلقها ابن سريج، بل يعرض على القوابل، فإن قلن: هذا الولد إذا أخرج يرجى حياته، وهو أن يكون له ستة أشهر فصاعدا شق جوفها وأخرج، وإن قلن لا يرجى
__________
(1) سنن أبو داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد بن حنبل (6/100) .
(2) كتاب الجنائز ج1 الشرح الكبير لمختصر خليل.
(3) المهذب ص301 ج5 المجموع للنووي.(4/54)
بأن يكون له دون ستة أشهر لم يشق؛ لأنه لا معنى لانتهاك حرمتها فيما لا فائدة فيه قال الماوردي: وقول ابن سريج هو قول أبي حنيفة وأكثر الفقهاء. (قلت) : وقطع به القاضي أبو الطيب في تعليقه والعبدري في الكفاية وذكر القاضي حسين والفوراني والمتولي والبغوي وغيرهم في الذي لا يرجى حياته وجهين: (أحدهما) يشق، (والثاني) لا يشق، قال البغوي: وهو الأصح، قال جمهور الأصحاب: فإذا قلنا لا يشق لم تدفن حتى تسكن حركة الجنين، ويعلم أنه قد مات، هكذا صرح به الأصحاب في جميع الطرق. . . ومختصر المسألة إن رجي حياة الجنين وجب شق جوفها وإخراجه، وإلا فثلاثة أوجه (أصحها) لا تشق ولا تدفن حتى يموت (والثاني) تشق ويخرج (والثالث) يثقل بطنها بشيء ليموت وهو غلط، وإذا قلنا يشق جوفها شق في الوقت الذي يقال إنه أمكن له، هكذا قاله الشيخ أبو حامد. اهـ
وقال النووي في الروضة (1) : ولو ابتلع في حياته مالا، ثم مات وطلب صاحبه الرد شق جوفه ويرد، قال في العدة: إلا أن يضمن الورثة مثله أو قيمته فلا ينبش على الأصح، وقال القاضي أبو الطيب: لا ينبش بكل حال، ويجب الغرم في تركته، ولو ابتلع مال نفسه ومات فهل يخرج؟ وجهان، قال الجرجاني: الأصح يخرج. قلت: وصححه أيضا العبدري، وصحح الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب في كتاب المجرد عدم الإخراج، وقطع به المحاملي في المقنع، وهو مفهوم كلام صاحب التنبيه وهو الأصح، والله أعلم. وحيث قلنا يشق جوفه ويخرج، فلو دفن قبل الشق ينبش كذلك. اهـ
وقال أبو محمد بن قدامة (2) قال: والمرأة إذا ماتت، وفي بطنها ولد يتحرك، فلا يشق بطنها، ويسطو عليه القوابل، فيخرجنه.
معنى يسطو القوابل أن يدخلن أيديهن في فرجها، فيخرجن الولد من مخرجه. والمذهب أنه لا يشق بطن الميتة لإخراج ولدها، مسلمة كانت أو ذمية، وتخرجه القوابل إن علمت حياته بحركة. وإن لم يوجد نساء لم يسط الرجال عليه، وتترك أمه حتى يتيقن موته، ثم تدفن. ومذهب مالك وإسحاق قريب من هذا، ويحتمل أن يشق بطن الأم، إن غلب على الظن أن الجنين يحيا، وهو مذهب الشافعي؛ لأنه إتلاف جزء من الميت لإبقاء حي، فجاز، كما لو خرج بعضه حيا، ولم يمكن خروج بقيته إلا بشق، ولأنه يشق لإخراج المال منه، فلإبقاء الحي أولى.
__________
(1) ص140-121 من الروضة للنووي
(2) ص 415 ج 2 من المغني(4/55)
ولنا أن هذا الولد لا يعيش عادة، ولا يتحقق أنه يحيا، فلا يجوز هتك حرمة متيقنة لأمر موهوم، وقد قال عليه السلام: «كسر عظم الميت ككسر عظم الحي (1) » . رواه أبو داود، وفيه مثلة، وقد «نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المثلة (2) » . وفارق الأصل؛ فإن حياته متيقنة، وبقاءه مظنون، فعلى هذا إن خرج بعض الولد حيا، ولم يمكن إخراجه إلا بشق، شق المحل، وأخرج لما ذكرنا. وإن مات على تلك الحال، فأمكن إخراجه، أخرج وغسل. وإن تعذر غسله ترك، وغسلت الأم، وما ظهر من الولد، وما بقي ففي حكم الباطن لا يحتاج إلى التيمم من أجله؛ لأن الجميع كان في حكم الباطن، فظهر البعض، فتعلق به الحكم، وما بقي فهو على ما كان عليه. ذكر هذا ابن عقيل. وقال: هي حادثة سئلت عنها، فأفتيت فيها.
فصل: وإن بلع الميت مالا، لم يخل من أن يكون له أو لغيره، فإن كان له لم يشق بطنه؛ لأنه استهلكه في حياته، ويحتمل أنه إن كان يسيرا ترك، وإن كثرت قيمته، شق بطنه وأخرج؛ لأن فيه حفظ المال عن الضياع، ونفع الورثة الذين تعلق حقهم بماله بمرضه. وإن كان المال لغيره، وابتلعه بإذنه، فهو كماله؛ لأن صاحبه أذن في إتلافه. وإن بلعه غصبا ففيه وجهان: أحدهما، لا يشق بطنه، ويغرم من تركته؛ لأنه إذا لم يشق من أجل الولد المرجو حياته، فمن أجل المال أولى. والثاني، يشق إن كان كثيرا؛ لأن فيه دفع الضرر عن المالك برد ماله إليه، وعن الميت بإبراء ذمته، وعن الورثة بحفظ التركة لهم. ويفارق الجنين من وجهين: أحدهما، أنه لا يتحقق حياته. والثاني، أنه ما حصل بجنايته. فعلى هذا الوجه إذا بلي جسده، وغلب على الظن ظهور المال، وتخلصه من أعضاء الميت، جاز نبشه وإخراجه. وقد روى أبو داود، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن هذا قبر أبي رغال، وآية ذلك أن معه غصنا من ذهب، إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه (3) » فابتدره الناس، فاستخرجوا الغصن. ولو كان في أذن الميت حلق، أو في أصبعه خاتم أخذ، فإن صعب أخذه، برد وأخذ؛ لأن تركه تضييع للمال. اهـ
وقال المرداوي في الإنصاف: قوله (وإن ماتت حامل لم يشق بطنها) وهذا المذهب نص عليه، وعليه أكثر الأصحاب، قال الزركشي: هذا المنصوص، وعليه الأصحاب. وقوله (ويحتمل أن يشق بطنها إذا غلب على الظن أنه يحيا) ، وهو وجه في ابن تميم وغيره. فعلى المذهب (تسطو عليه القوابل فيخرجنه) إذا احتمل حياته، على الصحيح من المذهب، وقال القاضي في الخلاف: إن لم يوجد أمارات الظهور بانتفاخ المخارج وقوة الحركة فلا تسطو القوابل.
فعلى الأول: إن تعذر إخراجه بالقوابل، فالمذهب: أنه لا يشق بطنها، قاله في المغني، والشرح، والفروع وغيرهم، وعليه أكثر الأصحاب. واختار ابن هبيرة: أنه يشق ويخرج الولد، قلت: وهو أولى فعلى المذهب: يترك ولا يدفن حتى يموت. قال في الفروع: هذا الأشهر واختاره القاضي، والمصنف، وصاحب التلخيص،
__________
(1) سنن أبو داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد بن حنبل (6/100) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4192) ، سنن أبو داود الحدود (4364) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (2/83) ، موطأ مالك الطلاق (1243) .(4/56)
وغيرهم وقدمه في الرعايتين، والحاويين، وعنه يسطو عليه الرجال، والأولى بذلك المحارم، اختاره أبو بكر، والمجد: كمداواة الحي، وصححه في مجمع البحرين، وهو أقوى من الذي قبله، وأطلقهما ابن تميم، ولم يقيده الإمام أحمد بالمحرم، وقيده ابن حمدان بذلك. اهـ (1) .
وقال ابن حزم في المحلى
مسألة: ومن بلع درهما أو دينارا أو لؤلؤة شق بطنه عنها، لصحة «نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن إضاعة المال (2) » ، ولا يجوز أن يجبر صاحب المال على أخذ غير عين ماله، ما دام عين ماله ممكنا؛ لأن كل ذي حق أولى بحقه، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام (3) » فلو بلعه وهو حي حبس حتى يرميه، فإن رماه ناقصا ضمن ما نقص، فإن لم يرمه ضمن ما بلع، ولا يجوز شق بطن الحي؛ لأن فيه قتله، ولا ضرر في ذلك على الميت، ولا يحل شق بطن الميت بلا معنى؛ لأنه تعد، وقد قال تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا} (4) . اهـ المقصود (5) .
وقال أيضا: (6) .
مسألة: ولو ماتت امرأة حامل والولد حي يتحرك قد تجاوز ستة أشهر، فإنه يشق بطنها طولا ويخرج الولد؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (7) . ومن تركه عمدا حتى يموت فهو قاتل نفس، ولا معنى لقول أحمد رحمه الله: تدخل القابلة يدها فتخرجه، لوجهين: أحدهما أنه محال لا يمكن، ولو فعل ذلك لمات الجنين بيقين قبل أن يخرج، ولولا دفع الطبيعة المخلوقة المقدورة له وجر ليخرج لهلك بلا شك. والثاني أن مس فرجها لغير ضرورة حرام. اهـ.
قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على ذلك: أما إخراج الولد الحي من بطن الحامل إذا ماتت فإنه واجب، وأما كيف يخرج فهذا من شأن أهل الصناعة من الأطباء والقوابل.
__________
(1) ص556 ج2 الإنصاف.
(2) صحيح مسلم الأقضية (1715) ، مسند أحمد بن حنبل (2/360) ، موطأ مالك الجامع (1863) .
(3) صحيح البخاري الحج (1785) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن الترمذي الحج (856) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، موطأ مالك الحج (836) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(4) سورة البقرة الآية 190
(5) ص166 \ 167 من ج5 من المحلى لابن حزم، ط منير.
(6) ص166 \ 167 من ج5 من المحلى لابن حزم، ط منير.
(7) سورة المائدة الآية 32(4/57)
المسألة الثالثة: أكل المضطر لحم آدمي إذا لم يجد شيئا غيره
ثبت بالأدلة الصحيحة أن المسلم ومن في حكمه حرمة، وأنه يجب تكريمه حيا وميتا، ومقتضى ذلك أنه لا يباح للمضطر أن يأكل من جسمه حيا ولا من جثته ميتا، ولو لم يجد غيره، ولو أدى ذلك إلى هلاكه؛ لما في ذلك من انتهاك حرمته لمصلحة غيره، وثبت بالأدلة الصحيحة أيضا أنه يجب على الإنسان أن يحافظ على حياته، حتى إنه يجوز له أن يأكل حال الضرورة ما هو محرم عليه حال عدمها من ميتة الأنعام والدم ولحم الخنزير. . إلخ، بل يجب عليه أن يأكل من ذلك إذا خشي على نفسه الهلاك، ومقتضى ذلك أنه يجوز له أو يجب أن يأكل ميتة الآدمي إبقاء على حياته، وعلى هذا نجد بين الأمرين تعارضا، وهو مثار الخلاف بين الفقهاء في حكم هذه المسألة، حيث منع بعضهم أكل المضطر من ميتة آدمي ولو كانت ميتة ذمي؛ ترجيحا لحرمة الميت وإعمالا لأدلتها، وأجاز آخرون له الأكل منها إذا لم يجد غيرها، وإيثارا لحق الحي على حق الميت، وتقدم ما يمكن أن يعتبر مرجحا لهذا الجانب، وفيما يلي ذكر بعض أقوالهم في حكم المسألة مع توجيه كل منهم لما ذهب إليه: (والنص عدم جواز أكله) ابن القصار: المضطر إلى أكل لحم الميتة لا يجد إلا لحم آدمي لا يأكله، وإن خاف التلف، وابن رشد: الصحيح أن الميت من بني آدم ليس بنجس، ثم قال: والميت من بني آدم لا يسمى ميتة، فليس برجس ولا نجس، ولا حرم أكله لنجاسته، وإنما حرم أكله إكراما له، ألا ترى أنه لما لم يسم ميتة لم يجز للمضطر أن يأكله بإباحة الله تعالى له أن يأكل الميتة على الصحيح من الأقوال، (وصحح أكله) ابن عرفة، وتعقب عبد الحق قول ابن القصار: إن المضطر لا يأكل ميتة آدمي. اهـ المقصود منه (1) .
وقال أحمد الدردير في الشرح الكبير على مختصر خليل:
النص المعول عليه (عدم جواز أكله) أي أكل الآدمي الميت، ولو كان كافرا (لمضطر) ، ولو مسلما لم يجد غيره؛ إذ لا تنتهك حرمة مسلم لآخر، (وصحح أكله) ابن عرفة: أي صحح ابن عبد السلام القول بجواز أكله للمضطر. اهـ (2) .
__________
(1) من كتاب الجنائز ج2 شرح المواق على مختصر خليل.
(2) من كتاب الجنائز من ج1(4/58)
وقال النووي في الروضة
ثبت: المحرم الذي يضطر إلى تناوله قسمان، مسكر وغيره، فيباح جميعه ما لم يكن فيه إتلاف معصوم، فيجوز للمضطر قتل الحربي والمرتد وأكله قطعا. وكذا الزاني المحصن والمحارب، وتارك الصلاة على الأصح منهم، ولو كان له قصاص على غيره، ووجده في حالة اضطرار فله قتله قصاصا، وأكله، وإن لم يحضره السلطان، وأما المرأة الحربية وصبيان أهل الحرب ففي التهذيب أنه لا يجوز قتلهم للأكل، وجوزه الإمام، والغزالي؛ لأنهم ليسوا بمعصومين، والمنع من قتلهم ليس لحرمة أرواحهم، ولهذا لا كفارة فيهم.
قلت: الأصح: قول الإمام والله أعلم.
والذمي والمعاهد والمستأمن معصومون، فيحرم أكلهم ولا يجوز للوالد قتل ولده للأكل، ولا للسيد قتل عبده ولو لم يجد إلا آدميا معصوما ميتا، فالصحيح حل أكله، قال الشيخ إبراهيم الماوردي: إلا إذا كان الميت نبيا فلا يجوز قطعا، قال في الحاوي: فإذا جوزنا، لا يأكل منه إلا ما يسد الرمق حفظا للحرمتين. قال: وليس له طبخه وشيه، بل يأكله نيئا؛ لأن الضرورة تندفع بذلك، وطبخه هتك لحرمته، فلا يجوز الإقدام عليه، بخلاف سائر الميتات، فإن للمضطر أكلها نيئة ومطبوخة. ولو كان المضطر ذميا والميت مسلما، فهل له أكله؟ حكى فيه صاحب التهذيب وجهين.
قلت: القياس تحريمه والله أعلم.
ولو وجد ميتة ولحم آدمي أكل الميتة، وإن كانت لحم خنزير، وإن وجد المحرم صيدا ولحم آدمي أكل الصيد، ولو أراد المضطر أن يقطع قطعة من فخذه أو غيرها ليأكلها، فإن كان الخوف منه كالخوف في ترك الأكل أو أشد، حرم، وإلا جاز على الأصح، بشرط ألا يجد غيره، فإن وجد، حرم قطعا، ولا يجوز أن يقطع لنفسه من معصوم غيره قطعا، ولا للغير أن يقطع من نفسه للمضطر. اهـ (1) .
__________
(1) ص 284 \ 285 من ج3.(4/59)
وقال ابن قدامة في المغني:
يحرم على المضطر قتل آدمي معصوم ليأكله مسلما كان أو ذميا، لحرمته، ويجوز ذلك إن كان حربيا أو مرتدا؛ لأنه لا حرمة له، فهو بمنزلة السباع. وإن وجد ميتا جاز أكله كما لو قتله. وإن وجد معصوما ميتا، لم يبح أكله. وقال الشافعي، وبعض الحنفية: يباح. وهو أولى؛ لأن حرمة الحي أولى. قال أبو بكر: أباح الشافعي أكل لحوم الأنبياء. واحتج أصحابنا بحديث كسر عظم الميت ككسر عظم الحي.
واختار أبو الخطاب أن له أكله. وقال: لا حجة في الحديث هاهنا؛ لأن الأكل من اللحم لا من العظم. اهـ (1) .
وقال المرداوي في الإنصاف:
قوله: فإن لم يجد إلا آدميا مباح الدم كالحربي والزاني المحصن حل قتله وأكله، هذا المذهب. وعليه جماهير الأصحاب. وقال في الترغيب: يحرم أكله. وما هو ببعيد. قوله: وإن وجد معصوما ميتا، ففي جواز أكله وجهان، وأطلقهما في المذهب، والمحرر، والنظم. أحدهما: لا يجوز. وعليه جماهير الأصحاب. قال المصنف، والشارح: اختاره الأكثر. وكذا قال في الفروع، وجزم به في الإفصاح، وغيره. قال في الخلاصة، والرعايتين، والحاويين: لم يأكله في الأصح. قال في الكافي: هذا اختيار غير أبي الخطاب. قال في المغني: اختاره الأصحاب.
وقوله: يجوز أكله، وهو المذهب على ما اصطلحناه، صححه في التصحيح، واختاره أبو الخطاب في الهداية، والمصنف، والشارح. قال في الكافي: هذا أولى، وجزم به في الوجيز، والمنور، ومنتخب الآدمي، وقدمه في الفروع. فائدتان:
إحداهما: يحرم عليه أكل عضو من أعضائه على الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، وقطعوا به. وقال في الفنون، عن حنبل: إنه لا يحرم. انتهى (2) . .
__________
(1) ص79 من ج11 من المغني لابن قدامة، ص106 من ج11 من الشرح الكبير لابن قدامة
(2) صفحة 376 ج10 من الإنصاف(4/60)
وقال ابن حزم في المحلى:
مسألة: وكل ما حرم الله من المآكل والمشارب من خنزير أو صيد حرام، أو ميتة، أو دم، أو لحم سبع أو طائر، أو ذي أربع، أو حشرة، أو خمر، أو غير ذلك، فهو كله عند الضرورة حلال، حاشا لحوم بني آدم، وما يقتل من تناوله، فلا يحل من ذلك شيء أصلا، لا بضرورة ولا بغيرها. وبعد أن ذكر وجه حل ذلك للمضطر قال: وأما استثناء لحوم بني آدم فلما ذكرنا قبل من الأمر بمواراتها، فلا يحل غير ذلك. اهـ (1) . .
__________
(1) ص426 ج5 من المحلى(4/61)
المسألة الرابعة: إلقاء أحد ركاب سفينة خشي عليها العطب
فيلقى أحدهم في البحر بقرعة لينجو الباقون
الأصل في المسلمين أنهم سواء في عصمة الدم ووجوب المحافظة على حياتهم، فإذا ركب منهم جماعة سفينة، ثم أحدق بها الخطر وخشي من فيها على أنفسهم الغرق، وعلموا أو غلب على ظنهم أن لا نجاة لهم إلا بتخفيف السفينة بإلقاء واحد منهم بالقرعة، فهل يجوز لهم ذلك أو لا؟ هذا محل نظر واجتهاد، ولذا اختلف فيه العلماء، فبعضهم لا يرى القرعة في مثل هذه المسألة، لاستواء الركاب في عصمة الدم، ووجوب محافظة كل منهم على حياته، فيحرم على كل منهم أن يلقي بنفسه في اليم لإنقاذ الباقين، ويحرم عليهم جميعا أن يلقوا واحدا منهم بقرعة أو بدونها؛ لأن مصلحة إنقاذ الباقين جزئية لا كلية، ونجاتهم بإلقائه ظنية لا قطعية، وبعضهم يرى إلقاء واحد منهم لإنقاذ الباقين لأن المصلحة هنا وإن كانت جزئية فهي متضمنة للمحافظة على أقوى المصلحتين وهو إنقاذ الجماعة التي لم تلق في اليم بتفويت مصلحة من ألقي فيه، وهذا مستلزم لارتكاب أخف المفسدتين، وهو إلقاء أحدهم في اليم تفاديا لأشدهما وهو هلاك الجميع إذا لم يلق أحدهم بالقرعة، وكون نجاة من بقي ظنية لا تأثير له في منع إلقاء واحد ما دام ظنا غالبا لا وهما، فإن الظن الغالب تبنى عليه الأحكام، فإن القتل العمد العدوان يثبت به حق القصاص بشهادة عدلين بالسرقة وأربعة بزنا البكر والمحصن إلى غير هذا مما يفيد غلبة الظن وتثبت به الأحكام في الضروريات الخمس المعروفة.
أما اعتبار القرعة أصلا تبنى عليه الأحكام فهذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه بعد ثبوته، وبناء الأحكام عليه في الكتاب والسنة في مسائل كثيرة متنوعة قد يفيد استقراؤها القطع بثبوت هذا الأصل، وفيما يلي نقول عن بعض العلماء في العمل بالقرعة في مواضع كثيرة منها هذه المسألة.(4/61)
وقال في نتائج الأفكار:
قوله: والقرعة لتطييب القلوب وإزاحة تهمة الميل، قال الشراح: هذا جواب الاستحسان، والقياس يأباها لأن استعمال القرعة تعليق الاستحقاق بخروج القرعة، وهو في معنى القمار، والقمار حرام، ولهذا لم يجوز علماؤنا استعمالها في دعوى النسب ودعوى الملك وتعيين العتق أو المطلقة، ولكنا تركنا القياس ههنا بالسنة والتعامل الظاهر من لدن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا من غير نكير منكر، وليس هذا في معنى القمار؛ لأن أصل الاستحقاق في القمار يتعلق بما يستعمل فيه، وفيما نحن فيه لا يتعلق أصل الاستحقاق بخروج القرعة؛ لأن القاسم لو قال: أنا عدلت في القسمة فخذ أنت هذا الجانب وأنت ذاك الجانب. كان مستقيما إلا أنه ربما يتهم في ذلك فيستعمل القرعة لتطييب قلوب الشركاء ونفي تهمة الميل عن نفسه، وذلك جائز، ألا يرى أن يونس عليه السلام في مثل هذا استعمل القرعة مع أصحاب السفينة كما قال الله تعالى: فساهم فكان من المدحضين وذلك لأنه علم أنه هو المقصود، ولكن لو ألقى نفسه في الماء ربما نسب إلى ما لا يليق بالأنبياء، فاستعمل القرعة لذلك، وكذلك زكريا عليه السلام استعمل القرعة مع الأحبار في ضم مريم إلى نفسه مع علمه بكونه أحق بها منهم لكون خالتها عنده؛ تطييبا لقلوبهم كما قال الله تعالى: إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم «وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرع بين نسائه إذا أراد السفر (1) » تطييبا لقلوبهن. انتهى كلامهم.
وعزا في النهاية ومعراج الدراية هذا التفصيل إلى المبسوط. أقول: بين أول كلامهم هذا وآخره تدافع؛ لأنهم صرحوا أولا بأن مشروعية استعمال القرعة هاهنا جواب الاستحسان، والقياس يأبى ذلك لكونه في معنى القمار. وقالوا آخرا: إن هذا ليس في معنى القمار، وبينوا الفرق بينه وبين القمار، وذكروا ورود نظائر له في الكتاب والسنة، فقد دل ذلك على أنه ليس مما يأباه القياس أصلا، بل هو مما يقتضيه القياس أيضا فتدافعا. اهـ.
وقال في كتاب الأم: (كتاب القرعة) :
أخبرنا الربيع بن سليمان قال: أخبرنا الشافعي قال: قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (2) إلى قوله: {يَخْتَصِمُونَ} (3) وقال الله عز وجل: وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين (قال الشافعي) : رحمه الله تعالى: فأصل القرعة في كتاب الله في قصة المقترعين على مريم، والمقارعي يونس مجتمعة، فلا تكون القرعة - والله أعلم - إلا بين قوم مستوين في الحجة ولا يعدو - والله تعالى أعلم - المقترعون
__________
(1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2594) ، صحيح مسلم كتاب التوبة (2770) ، سنن أبو داود النكاح (2138) ، سنن ابن ماجه النكاح (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (6/198) ، سنن الدارمي الجهاد (2423) .
(2) سورة آل عمران الآية 44
(3) سورة آل عمران الآية 44(4/62)
على مريم أن يكونوا سواء في كفالتها فتنافسوها. ثم قال: فالقرعة تلزم أحدهم ما يدفع عن نفسه وتخلص له ما يرغب فيه لنفسه، وتقطع ذلك عن غيره ممن هو في مثل حاله. (قال) : وهكذا معنى قرعة يونس -صلى الله عليه وسلم- لما وقفت بهم السفينة، فقالوا: ما يمنعها من أن تجري إلا علة بها، وما علتها إلا ذو ذنب فيها، فتعالوا نقترع. فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس - عليه السلام - فأخرجوه منها وأقاموا فيها. وهذا مثل معنى القرعة في الذين اقترعوا على كفالة مريم؛ لأن حال الركبان كانت مستوية، وإن لم يكن في هذا حكم يلزم أحدهم في حالة شيئا لم يلزمه قبل القرعة، ويزيل عن آخر شيئا كان يلزمه، فهو يثبت على بعض حقا ويبين في بعض أنه بريء منه، كما كان في الذين اقترعوا على كفالة مريم غرم وسقوط غرم. (قال الشافعي) : وقرعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل موضع أقرع فيه في مثل معنى الذين اقترعوا على كفالة مريم سواء لا يخالفه، وذلك أنه أقرع بين مماليك أعتقوا معا، فجعل العتق تاما لثلثهم، وأسقط عن ثلثيهم بالقرعة، وذلك أن المعتق في مرضه أعتق ماله ومال غيره، فجاز عتقه في ماله ولم يجز في مال غيره، فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- العتق في ثلثه ولم يبعضه كما يجمع القسم بين أهل المواريث ولا يبعض عليهم، وكذلك كان إقراعه لنسائه أن يقسم لكل واحدة منهن في الحضر، فلما كان السفر كان منزلة يضيق فيها الخروج بكلهن، فأقرع بينهن، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وسقط حق غيرها في غيبته بها، فإذا حضر عاد للقسم لغيرها، ولم يحسب عليها أيام سفرها. وكذلك قسم خيبر، فكان أربعة أخماسها لمن حضر، ثم أقرع، فأيهم خرج سهمه على جزء مجتمع كان له بكماله وانقطع منه حق غيره، وانقطع حقه عن غيره. (أخبرنا) ابن عيينة عن إسماعيل بن أمية عن يزيد بن يزيد بن جابر عن مكحول عن ابن المسيب، «أن امرأة أعتقت ستة مملوكين لها عند الموت، ليس لها مال غيرهم، فأقرع النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة (1) » . أخبرنا عبد الوهاب عن أيوب عن رجل عن أبي المهلب عن عمران بن حصين، «أن رجلا من الأنصار إما قال: أوصى عند موته فأعتق ستة مملوكين ليس له شيء غيرهم، وإما قال: أعتق عند موته ستة مملوكين ليس له مال غيرهم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال فيه قولا شديدا، ثم دعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء، فأقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة (2) » . إلى أن قال: (أخبرنا) ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن أبي الزناد أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه قضى في رجل أوصى بعتق رقيقه وفيهم الكبير والصغير، فاستشار عمر رجلا منهم خارجة بن زيد بن ثابت، فأقرع بينهم. قال أبو الزناد: وحدثني رجل عن الحسن، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقرع بينهم. ثم ساق كلاما وقال بعده: (قال الشافعي) : وبهذا كله نأخذ، وحديث القرعة عن عمران بن حصين وابن المسيب موافق قول ابن عمر في العتق لا يختلفان في شيء حكي فيهما ولا في واحد منهما، وذلك أن المعتق أعتق رقيقه عند الموت ولا مال له غيرهم إن كان أعتقهم عتق بتات في حياته، فهكذا فيما أرى الحديث، فقد دلت السنة على معان منها: إن أعتق البتات عند الموت إذا لم يصح المريض قبل أن يموت فهو وصية كعتقه بعد الموت، فلما أقرع النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهم، فأعتق الثلث وأرق الثلثين، استدللنا على أن المعتق أعتق ماله ومال غيره، فأجاز النبي -صلى الله عليه وسلم- ماله، ورد مال غيره. اهـ المقصود (3) . .
__________
(1) صحيح مسلم الأيمان (1668) ، سنن الترمذي الأحكام (1364) ، سنن النسائي الجنائز (1958) ، سنن أبو داود العتق (3958) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2345) ، مسند أحمد بن حنبل (4/446) .
(2) صحيح مسلم الأيمان (1668) ، سنن الترمذي الأحكام (1364) ، سنن النسائي الجنائز (1958) ، سنن أبو داود العتق (3958) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2345) ، مسند أحمد بن حنبل (4/431) ، موطأ مالك العتق والولاء (1506) .
(3) الأم للشافعي ج8 ص3 \ 4 ط الأولى 1381هـ 1961م(4/63)
وقال ابن حجر في فتح الباري
عند تفسير (1) قوله تعالى: وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم الآية: أشار البخاري بذكر هذه الآية بذلك إلى الاحتجاج بهذه القصة في صحة الحكم بالقرعة، بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه، ولا سيما إذا ورد في شرعنا ما يقرره، وساقه مساق الاستحسان والثناء على فاعله، وهذا منه. اهـ.
وقال في تفسير قوله تعالى: فساهم فكان من المدحضين: والاحتجاج بهذه الآية في إثبات القرعة يتوقف على أن شرع من قبلنا شرع لنا، وهو كذلك ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وهذه المسألة من هذا القبيل؛ لأنه كان في شرعهم جواز إلقاء البعض لسلامة البعض، وليس ذلك في شرعنا؛ لأنهم مستوون في عصمة الأنفس، فلا يجوز إلقاؤهم بقرعة ولا بغيرها. اهـ.
وقال: (2) والمشهور عن الحنفية والمالكية عدم اعتبار القرعة، قال عياض: هو مشهور عن مالك وأصحابه؛ لأنه من باب الخطر والقمار، وحكي عن الحنفية إجازتها اهـ. وقد قالوا به في مسألة الباب. واحتج من منع من المالكية بأن بعض النسوة قد تكون أنفع في السفر من غيرها، فلو خرجت القرعة للتي لا نفع بها في السفر لأضر بحال الرجل، وكذا بالعكس قد يكون بعض النساء أقوم ببيت الرجل من الأخرى. وقال القرطبي: ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف أحوال النساء، وتختص مشروعية القرعة بما إذا اتفقت أحوالهن؛ لئلا تخرج واحدة معه فيكون ترجيحا بغير مرجح اهـ. وفيه مراعاة للمذهب، مع الأمن من رد الحديث أصلا لحمله على التخصيص، فكأنه خصص العموم بالمعنى.
قال ابن حجر في فتح الباري (3)
مشروعية القرعة مما اختلف فيه، والجمهور على القول بها في الجملة، وأنكرها بعض الحنفية، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة القول بها، وجعل المصنف ضابطها الأمر المشكل، وفسرها غيره بما ثبت فيه الحق لاثنين فأكثر، وتقع المشاحة فيه فيقرع لفصل النزاع.
__________
(1) باب القرعة في المشكلات ج5 من فتح الباري
(2) باب القرعة بين النساء ج9 من فتح الباري
(3) باب القرعة في المشكلات من ج 5 من فتح الباري(4/64)
وقال إسماعيل القاضي: ليس في القرعة إبطال الشيء من الحق كما زعم بعض الكوفيين، بل إذا وجبت القسمة بين الشركاء فعليهم أن يعدلوا ذلك بالقيمة ثم يقترعوا فيصير لكل واحد ما وقع له بالقرعة مجتمعا مما كان له في الملك مشاعا، فيضم في موضع بعينه ويكون ذلك بالعوض الذي صار لشريكه؛ لأن مقادير ذلك قد عدلت بالقيمة، وإنما أفادت القرعة أن لا يختار واحد منهم شيئا معينا فيختاره الآخر فيقطع التنازع. وهي إما في الحقوق المتساوية وإما في تعيين الملك، فمن الأول عقد الخلافة إذا استووا في صفة الإمامة، وكذا بين الأئمة في الصلوات والمؤذنين والأقارب في تغسيل الموتى والصلاة عليهم، والحاضنات إذا كن في درجة، والأولياء في التزويج، والاستباق إلى الصف الأول، وفي إحياء الموات، وفي نقل المعدن، ومقاعد الأسواق، والتقديم بالدعوى عند الحاكم، والتزاحم على أخذ اللقيط، والنزول في الخان المسبل ونحوه، وفي السفر ببعض الزوجات، وفي ابتداء القسم، والدخول في ابتداء النكاح، وفي الإقراع بين العبيد إذا أوصي بعتقهم ولم يسعهم الثلث، وهذه الأخيرة من صور القسم الثاني أيضا، وهو تعيين الملك، ومن صور تعيين الملك الإقراع بين الشركاء عند تعديل السهام في القسمة. اهـ.
قال ابن القيم في الطرق الحكمية: فصل القرعة:
من طرق الأحكام الحكم بالقرعة، قال تعالى: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذا يختصمون قال قتادة: كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم فتشاح عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا عليها بسهامهم، أيهم يكفلها، فقرع زكريا، وكان زوج خالتها، فضمها إليه. وروي نحوه عن مجاهد، وقال ابن عباس: لما وضعت مريم في المسجد اقترع عليها أهل المصلى، وهم يكتبون الوحي، فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها. وهذا متفق عليه بين أهل التفسير.
وقال تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (1) {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (2) {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (3) أي: فقارع، فكان من المغلوبين.
فهذان نبيان كريمان استعملا القرعة، وقد احتج الأئمة الأربعة بشرع من قبلنا إن صح ذلك عنهم،
__________
(1) سورة الصافات الآية 139
(2) سورة الصافات الآية 140
(3) سورة الصافات الآية 141(4/65)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه (1) » .
* وفي الصحيحين أيضا عن عائشة: أن «النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه (2) » ، وفي صحيح مسلم عن عمران بن حصين: «أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة، وقال له قولا شديدا (3) » .
* وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «عرض على قوم اليمين، فسارعوا إليه، فأمر أن يسهم بينهم في اليمين: أيهم يحلف (4) » ، وفي سنن أبي داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أكره اثنان على اليمين، أو استحباها، فليسهما عليها (5) » ، وفي رواية أحمد: «إذا أكره اثنان على اليمين أو استحباها (6) » . وفيه أيضا «أن رجلين اختصما في متاع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس لواحد منهما بينة، فقال: استهما على اليمين ما كان، أحبا ذلك أو كرها (7) » .
* وفي الصحيحين عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت: «أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان يختصمان في مواريث لهما، لم تكن لهما بينة إلا دعواهما، فقال: إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار (8) » . ورواه أبو داود في السنن وفيه: «فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لك، فقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما، وتوخيا الحق، ثم استهما، ثم تحالا (9) » .
* فهذه السنة - كما ترى - قد جاءت بالقرعة، كما جاء بها الكتاب، وفعلها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده، قال البخاري في صحيحه: ويذكر أن قوما اختلفوا في الأذان، فأقرع بينهم سعد. وقد صنف أبو بكر الخلال مصنفا في القرعة، وهي في جامعه، فذكر مقاصده.
* قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم وجعفر بن محمد: القرعة جائزة. وقال يعقوب بن بختان: سئل أبو عبد الله عن القرعة، ومن قال: إنها قمار. قال: إن كان ممن سمع الحديث فهذا كلام رجل سوء يزعم أن حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قمار.
* قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن ابن أكثم يقول: إن القرعة قمار، قال: هذا قول رديء خبيث، ثم قال: كيف؟ وقد يحكمون هم بالقرعة في وقت إذا قسمت الدار، ولم يرضوا، قالوا: يقرع بينهم، وهو يقول: لو أن رجلا له أربع نسوة فطلق إحداهن، وتزوج خامسة، ولم يدر أيتهن التي طلق؟ قال: يورثهن جميعا، ويأمرهن أن يعتددن جميعا، وقد ورث من لا ميراث لها، وقد أمر أن تعتد من لا عدة عليها، والقرعة تصيب
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (615) ، صحيح مسلم الصلاة (437) ، سنن الترمذي الصلاة (225) ، سنن النسائي الأذان (671) ، مسند أحمد بن حنبل (2/303) ، موطأ مالك النداء للصلاة (295) .
(2) صحيح البخاري الشهادات (2661) ، صحيح مسلم كتاب التوبة (2770) ، سنن أبو داود النكاح (2138) ، سنن ابن ماجه النكاح (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (6/198) ، سنن الدارمي الجهاد (2423) .
(3) صحيح مسلم الأيمان (1668) ، سنن الترمذي الأحكام (1364) ، سنن النسائي الجنائز (1958) ، سنن أبو داود العتق (3958) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2345) ، مسند أحمد بن حنبل (4/431) ، موطأ مالك العتق والولاء (1506) .
(4) صحيح البخاري الشهادات (2674) ، سنن أبو داود الأقضية (3616) ، سنن ابن ماجه كتاب الأحكام (2329) ، مسند أحمد بن حنبل (2/489) .
(5) صحيح البخاري الشهادات (2674) ، سنن أبو داود الأقضية (3617) ، سنن ابن ماجه كتاب الأحكام (2329) ، مسند أحمد بن حنبل (2/524) .
(6) سنن أبو داود الأقضية (3617) ، سنن ابن ماجه كتاب الأحكام (2329) ، مسند أحمد بن حنبل (2/524) .
(7) سنن أبو داود الأقضية (3616) ، سنن ابن ماجه كتاب الأحكام (2329) ، مسند أحمد بن حنبل (2/524) .
(8) صحيح البخاري الحيل (6967) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن النسائي آداب القضاة (5401) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، مسند أحمد بن حنبل (6/320) ، موطأ مالك الأقضية (1424) .
(9) صحيح البخاري المظالم والغصب (2458) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن الترمذي الأحكام (1339) ، سنن النسائي كتاب آداب القضاة (5422) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، مسند أحمد بن حنبل (6/320) ، موطأ مالك الأقضية (1424) .(4/66)
الحق، فعلها النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو الحارث: كتبت إلى أبي عبد الله أسأله، فقلت: إن بعض الناس ينكر القرعة، ويقول: هي قمار اليوم، ويقول: هي منسوخة؟ فقال أبو عبد الله: من ادعى أنها منسوخة، فقد كذب وقال الزور، القرعة سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقرع في ثلاثة مواضع: أقرع بين الأعبد الستة، وأقرع بين نسائه لما أراد السفر، وأقرع بين رجلين تدارآ في دابة، وهي في القرآن في موضعين.
* قلت: يريد أنه أقرع بنفسه في ثلاثة مواضع، وإلا فأحاديث القرعة أكثر، وقد تقدم ذكرها. قال: وهم يقولون إذا اقتسموا الدار والأرضين: أقرع بين القوم، فأيهم أصابته القرعة: كان له ما أصاب من ذلك، يجبر عليه.
* وقال الأثرم: إن أبا عبد الله ذكر القرعة واحتج بها، وبينها، وقال: إن قوما يقولون: القرعة قمار، ثم قال أبو عبد الله: هؤلاء قوم جهلوا فيها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خمس سنن. قال الأثرم: وذكرت له أنا حديث الزبير في الكفن، فقال: حديث أبي الزناد؟ فقلت: نعم. قال أبو عبد الله: قال أبو الزناد: يتكلمون في القرعة وقد ذكرها الله تعالى في موضعين من كتابه. وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله قال في قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (1) أي أقرع، فوقعت القرعة عليه. قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: القرعة حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقضاؤه، فمن رد القرعة فقد رد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضاءه وفعله، ثم قال: سبحان الله لمن قد علم بقضاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ويفتي بخلافه، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (3) قال حنبل: وقال عبد الله بن الزبير الحميدي: من قال بغير القرعة فقد خالف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنته التي قضى بها وقضى بها أصحابه بعده. وقال في رواية الميموني: في القرعة خمس سنن، حديث أم سلمة: «إن قوما أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في مواريث وأشياء درست بينهم، فأقرع بينهم (4) » ، وحديث أبي هريرة - حين تدارآ في دابة - فأقرع بينهما، وحديث الأعبد الستة، وحديث أقرع بين نسائه، وحديث علي. وقد ذكر أبو عبد الله من فعلها بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ابن الزبير، وابن المسيب، ثم تعجب من أصحاب الرأي وما يردون من ذلك.
* قال الميموني: وقال لي أبو عبيد القاسم بن سلام - وذاكرني أمر القرعة - فقال: أرى أنها من أمر النبوة، وذكر قوله تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (5) وقوله: فساهم.
* وقال أحمد في رواية الفضل بن عبد الصمد: القرعة في كتاب الله، والذين يقولون: القرعة قمار قوم جهال، ثم ذكر أنها في السنة، وكذلك قال في رواية ابنه صالح: أقرع النبي -صلى الله عليه وسلم- في خمسة مواضع، وهي في القرآن في موضعين.
__________
(1) سورة الصافات الآية 141
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) سورة المائدة الآية 92
(4) صحيح البخاري المظالم والغصب (2458) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن الترمذي الأحكام (1339) ، سنن النسائي كتاب آداب القضاة (5422) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، مسند أحمد بن حنبل (6/320) ، موطأ مالك الأقضية (1424) .
(5) سورة آل عمران الآية 44(4/67)
وقال أحمد في رواية الماوردي: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن عروة قال: أخبرني ابن الزبير: «أنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى، حتى كادت أن تشرف على القتلى، قال: فكره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تراهم، فقال: المرأة، المرأة قال الزبير: فتوهمت أنها أمي صفية، قال: فخرجت أسعى، فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى. قال: فلهزت في صدري - وكانت امرأة جلدة - وقالت: إليك عني، لا أم لك. قال: فقلت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عزم عليك، فرجعت وأخرجت ثوبين معها، فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة، فقد بلغني مقتله، فكفنوه فيهما، قال: فجئت بالثوبين ليكفن فيهما حمزة، فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل، قد فعل به كما فعل بحمزة، قال: فوجدنا غضاضة أن نكفن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له، قلنا: لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب، فقدرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر، فأقرعنا بينهما فكفنا كل واحد في الثوب الذي طار له (1) » . وقال في رواية صالح: وحديث الأجلح عن الشعبي عن أبي الخليل عن زيد بن أرقم، وهو مختلف فيه اهـ.
ثم ذكر كيفية القرعة ومواضعها، وقد ذكر كثير منها فيما تقدم نقله في الإعداد فاكتفي به.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/165) .(4/68)
المسألة الخامسة: تبييت المشركين أو رميهم بالمنجنيق ونحوه مما يعم الهلاك به وفيهم النساء والأطفال
الكفار بالنسبة للمسلمين إما أهل حرب أو أهل ذمة، فأهل الذمة يعاملون في الجملة معاملة المسلمين في عصمة الدم ورعاية حرمتهم أحياء وأمواتا، وإن كان ذلك في المسلمين للإسلام وفي الذميين للوفاء بالعهد، وقد سبق الكلام عنهم في المسألة الأولى والثانية والثالثة تبعا للحديث عن المسلمين.
أما الكفار المحاربون فدمهم هدر، غير أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قتل من لا شأن لهم في الحرب منهم كالنساء والصبيان، وقد سبق الكلام على تبييت المحاربين من الكفار وقتالهم بما يعم إهلاكه وفيهم نساؤهم وصبيانهم في المسألة الأولى تبعا لقتالهم بما يعم وفيهم مسلمون أسارى أو تجار، فأغنى عن إعادته هنا.(4/68)
وقد كتب إلى فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا سؤال عن حكم الطب المرضي فأجاب بجوازه بناء على المصلحة وفيما يلي نص السؤال والجواب.
السؤال: ما هو الحكم في إحضار الحكيم المعمول به في بعض الممالك الإسلامية الشرقية لأجل الاطلاع على من يخبر بموته وشهادته بصحة الخبر واكتشاف سبب الموت حتى لا يدفن الإنسان حيا ولا يخفى المرض المعدي وفي ذلك مما يفيد الأمة في حالتها الصحية ما لا يخفى، فهل ذلك(4/68)
- رعاكم الله - مما لا يجوز مطلقا؟ ولو كان الحكيم مسلما ولم يستتبع الكشف على الميت أدنى عملية جراحية أو ما يوجب أقل إهانة لكرامة الميت، ولو مع تخصيص حكيم لمباشرة الرجل وحكيمة لمباشرة المرأة، أو يسوغ مطلقا، أم المقام فيه تفصيل، أفيدونا تؤجروا وترحموا؟
ج: ليس في هذه المسألة نص عن الشارع، وهي من المسائل الدنيوية التي تتبع فيها قاعدة درء المفاسد وجلب المصالح، وحينئذ يختلف الحكم باختلاف الأموات، فإذا وقع الشك في موت من ظهرت عليه علامات الموتى، وعلم أن الطبيب يمكنه أن يعرف الحقيقة بالكشف عليه، فإن الكشف عليه يكون متعينا ويحرم دفنه مع بقاء الشك في موته وإبقائه عرضة للخطر، ويختار الطبيب الذي يوثق به للعلم ببراعته وأمانته على غيره؛ لأن العبرة في ذلك بالثقة، فإذا لم يوجد طبيب مسلم يوثق به ووجد غيره اعتمد عليه، بل إذا وجد طبيب مسلم غير موثوق به وطبيب غير مسلم موثوق به بتكرار التجربة يرجح الاعتماد على الثاني؛ لأن المسألة ليست عبادة فيكون الترجيح فيها بالدين، بل أقول: إن من اشترط من الفقهاء إسلام الطبيب الذي يؤخذ بقوله في المرض الذي يبيح ترك الغسل والوضوء إلى التيمم ليس لاعتبار ذلك من أركان العدالة التي هي سبب الثقة. وقد صرحوا حتى في هذه المسألة الدينية بأن المريض إذا صدق الطبيب الكافر بأن الماء يؤذيه في مرضه كان له أن يعمل بقوله. وإذا كان من اشتبه في موته امرأة ووجدت طبيبة يوثق بها قدمت على الطبيب حتما، فإن لم توجد كشف عليها الطبيب كما هو الشأن في جميع الأمراض، ومن درء المفاسد والقيام بالمصالح العامة ما تفعله (مصلحة الصحة) بمصر، وحيث توجد من مقاومة أسباب الوباء والأمراض المعدية ومن أعمالهم ما هو مفيد قطعا، ومنه ما تظن فائدته، فإذا علم أن في الكشف على الميت لمعرفة سبب مرضه مصلحة عامة، لم يكن ما يعبرون عنه بتكريم الميت مانعا من ذلك، نعم إن إهانة الميت محظورة، ولكن الإهانة تكون بالقصد وهو منتف هنا، على أن درء المفاسد وحفظ المصالح العامة من الأصول التي لا تهدم بهذه الجزئيات، والمدار على العلم بأن هنا مفسدة يجب درؤها أو مصلحة يجب حفظها، فإذا علم أولو الأمر ذلك عملوا به، والشرع عون لهم عليه.
وقد سئل فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف عن حكم إحراق جثث الموتى وتشريحهم فأجاب جوابا مستفيضا بين فيه المصالح التي تدعو إلى التشريح وتبرره، وفيما يلي نص السؤال والجواب.
السؤال: طلبت إحدى المصالح الحكومية بيان حكم الشريعة الغراء في إحراق جثث الموتى من المسلمين في زمن الأوبئة، وفي حالة الوصية بذلك من المتوفى.
ج: اعلم أن تطبيب الأجسام وعلاج الأمراض أمر مشروع حفظا للنوع الإنساني حتى يبقى إلى الأمد المقدر له، وقد تداوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفسه وأمر به من أصابه مرض من أهله وأصحابه، وقال: «تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء (1) » . وقال -عليه الصلاة والسلام- «إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله
__________
(1) سنن الترمذي الطب (2038) ، سنن أبو داود الطب (3855) ، سنن ابن ماجه الطب (3436) .(4/69)
من جهله (1) » . ودرج بعده أصحابه على هديه في التداوي والعلاج.
فكان الطب تعلما وتعليما مشروعا بقول الرسول وفعله، بل بدلالة الآيات الواردة بالترخيص للمريض بالفطر تمكينا له من العلاج، وبعدا عما يوجب تفاقم العلة أو الهلاك، والترخيص لمن به أذى في رأسه في الإحرام، وهو علاج للعلة وسبب للبرء، والترخيص للمريض بالعدول عن الماء إلى التراب الطاهر حمية له أن يصيب جسده، في ذلك كله تنبيه على حرص الشارع على التداوي وإزالة العلل والحمية من كل ما يؤذي الإنسان من الداخل أو الخارج، كما أشار إليه الإمام ابن القيم في زاد المعاد، فكان فن الطب علما وعملا من فروض الكفاية التي يجب على الأمة قيام طائفة منها بها، وتأثم الأمة جميعها بتركه وعدم النهوض به، كما أن جميع ما تحتاج إليه الأمة من العلوم والصناعات في تكوينها وبقائها من فروض الكفاية التي أمر بها الشارع وحث عليها، وحذر من التهاون فيها.
ومن مقدمات فن الطب، بل من مقوماته تشريح الأجسام، فلا يمكن الطبيب أن يقوم بطب الأجسام وعلاج الأمراض بأنواعها المختلفة إلا إذا أحاط خبرا بتشريح جسم الإنسان علما وعملا وعرف أعضاءه الداخلية وأجزاءه المكونة لبنيته واتصالاتها ومواضعها وغير ذلك، فهو من الأمور التي لا بد منها لمن يزاول الطب حتى يقوم بما أوجب الله عليه من تطبيب المرضى وعلاج الأمراض، ولا يمتري في ذلك أحد، ولا يقال: قد كان فيما سلف طب، ولم يكن هناك تشريح؛ لأنه كان طبا بدائيا لعلل ظاهرة، وكلامنا في طب واف لشتى الأمراض والعلل، والعلوم تتزايد، والوسائل تنمو وتكثر.
وإذا كان شأن التشريح ما ذكر كان واجبا بالأدلة التي أوجبت تعلم الطب وتعليمه ومباشرته بالعمل على الأمة لتقوم طائفة منها به، فإن من القواعد الأصولية أن الشارع إذا أوجب شيئا يتضمن ذلك إيجاب ما يتوقف عليه ذلك الشيء، فإذا أوجب الصلاة كان ذلك إيجابا للطهارة التي تتوقف الصلاة عليها، وإذا أوجب بما أومأنا إليه من الأدلة على الأمة تعلم فريق منها الطب وتعليمه ومباشرته، فقد أوجب بذلك عليهم تعلم التشريح وتعليمه ومزاولته عملا.
هذا دليل جواز التشريح من حيث كونه علما يدرس وعملا يمارس، بل دليل وجوبه على من تخصص في مهنة الطب البشري وعلاج الأمراض، أما التشريح لأغراض أخرى كتشريح جثث القتلى لمعرفة سبب الوفاة وتحقيق ظروفها وملابساتها، والاستدلال به على ثبوت الجناية على القاتل أو نفيها عن متهم فلا شبهة في جوازه أيضا إذا توقف عليه الوصول إلى الحق في أمر الجناية للأدلة الدالة على وجوب العدل في الأحكام حتى لا يظلم بريء ولا يفلت من العقاب مجرم أثيم.
وكم كان فيصلا بين حق وباطل، وعدل وظلم، فقد يتهم إنسان بقتل آخر بسبب دس السم له في الطعام، ويشهد شهود الزور له بذلك، فيثبت التشريح أنه لا أثر للسم في الجسم، وإنما مات الميت بسبب طبيعي، فيبرأ المتهم، ولولا ذلك لكان في عداد القاتلين أو المسجونين، وقد يزعم مجرم ارتكب جريمة القتل ثم أحرق الجثة أن الموت بسبب الحرق لا غير، فيثبت التشريح أن الموت بسبب جنائي والإحراق إنما كان ستارا
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5678) ، سنن ابن ماجه الطب (3439) .(4/70)
أسدل على الجريمة، فيقتص من المجرم، ولولا ذلك لأفلت من العقاب وبقي بين الناس جرثومة فساد.
وهنا قد يثار حديث كرامة جسم الإنسان وما في كشفه وتشريحه من هوان، فيظن جاهل أنه لا يجوز مهما كانت بواعثه، ولكن بقليل من التأمل في قواعد الشريعة يعلم أن مدار الأحكام الشرعية على رعاية المصالح والمفاسد، فما كان فيه مصلحة راجحة يؤمر به، وما كان فيه مفسدة راجحة ينهى عنه، فلا شك أن الموازنة بين ما في التشريح من هتك حرمة الجثة وما له من المصلحة في التطبيب والعلاج وتحقيق العدالة وإنقاذ البريء من العقاب وإثبات التهمة على المجرم الجاني تنادي برجحان هذه المصالح على تلك المفسدة.
ثم أتبع فتواه بفتوى في موضوع التشريح لفضيلة الشيخ يوسف الدجوي:
قال: وقد اطلعت بعد كتابة هذا على فتوى في هذا الموضوع لشيخنا العلامة المحقق الشيخ يوسف الدجوي رحمه الله قال فيها ما نصه:
وليس عندنا في كتب الفقه نصوص شافية في هذا الموضوع، وقد يظن ظان أن ذلك محرم لا تجيزه الشريعة التي كرمت الآدمي وحثت على إكرامه، وأمرت بعدم إيذائه، ولكن العارف بروح الشريعة وما تتوخاه من المصالح وترمي إليه من الغايات، يعلم أنها توازن دائما بين المصلحة والمفسدة، فتجعل الحاكم لأرجحهما على ما تقتضيه الحكمة ويوجبه النظر الصحيح، فيجب إذن أن يكون نظرنا بعيدا متمشيا مع المصلحة الراجحة التي تتفق وروح الشريعة الصالحة لكل زمان ومكان، الكفيلة بسعادة الدنيا والآخرة، وإذن نقول: إن من نظر إلى أن التشريع قد يكون ضروريا في بعض الظروف كما إذا اتهم شخص بالجناية على آخر وقد يبرأ من التهمة عندما يظهر التشريح أن ذلك الآخر غير مجني عليه، وقد يجنى على رجل ثم يلقى بعد الجناية عليه في بئر بقصد إخفاء الجريمة وضياع الجناية إلى غير ذلك مما هو معروف، فضلا عما في التشريح من تقدم العلم الذي تنتفع به الإنسانية كلها وينقذ كثيرا ممن أشفى على الهلكة أو أحاطت به الآلام من كل نواحيه، فهو يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت، إلى غير ذلك مما لا داعي للإطالة فيه، نقول: من نظر إلى ذلك الإجمال وما يتبعه من التفصيل لم يسعه إلا أن يفتي بالجواز تقديما للمصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة، ومتى كان تشريح الميت بهذا القصد لم يكن إهانة له ولا منافيا لإكرامه، على أن هذا أولى بكثير فيما نراه مما قرره الفقهاء ونصوا عليه في كتبهم من أن الميت إذا ابتلع مالا شق بطنه لإخراجه منه، ولو كان مالا قليلا، ويقدره بعض المالكية بنصاب السرقة، أي ربع دينار أو ثلاثة دراهم، وكلام الشافعية قريب من هذا، وربما كان الأمر عندهم أهون وأوسع في تقدير المال الذي يبتلعه، فإذا قسنا ذلك المال الضئيل على ما ذكرنا من الفوائد والمصالح وجدنا الجواز لدرء تلك المفاسد وتحصيل تلك المصالح أولى من الجواز لإخراج ذلك المال القليل، فهو قياس أولوي فيما نراه. انتهى.
غير أنا نرى أنه لا بد من الاحتياط في ذلك حتى لا يتوسع فيه الناس بلا مبالاة فليقتصر فيه على قدر الضرورة، وليتق الله الأطباء وأولوا الأمر الذين يتولون ذلك وليعلموا أن الناقد بصير والمهيمن قدير والله يتولى هدى الجميع والله أعلم.(4/71)
ثم كتبت فتوى في جواز نقل عيون الموتى لترقيع قرنية الأحياء
قامت بمصر مؤسسة علمية اجتماعية تسمى دار الإبصار تأسست في شهر يناير 1951 م، ومن أغراضها إيجاد مركز لجمع العيون التي تصلح لعملية ترقيع القرنية وتوفيرها وإيجاد المواد الأخرى اللازمة لهذه العملية الخاصة باسترداد البصر وتحسينه وتوزيع العيون الواردة إلى الدار على الأعضاء وطلبت الدار من مصلحة الطب الشرعي بتاريخ 31 أكتوبر 1951 م السماح لها بالحصول على العيون اللازمة لهذه العملية من دار فحص الموتى الملحقة بمصلحة الطب الشرعي ونظرا إلى أن الجثث التي تنقل إلى دار فحص الموتى للتشريح لمعرفة أسباب الوفاة كلها خاصة بحوادث جنائية طلبت المصلحة بكتابها المؤرخ 18 \ 2 \ 1952 م من قسم الرأي المختص إبداء الرأي في هذا الطلب من الوجهة القانونية فأرسل إلينا مستشار الدولة كتاب القسم المؤرخ 3 أبريل 1952 برقم 103 المتضمن طلب بيان الحكم الشرعي في هذا الموضوع وأضاف إلى ذلك أن بالولايات المتحدة معاهد مؤسسة دار الإبصار المصرية تقوم بجمع عيون الموتى وتوزيعها على من يطلبها من الأطباء بعد التأكد من صلاحيتها فنيا لعملية الترقيع القرني وكذلك في إنجلترا وفرنسا وجنوب إفريقيا وبعض بلدان أوربا تشريعات خاصة لتسهيل الحصول على هذه العيون وقد اطلعنا على قانون دار الإبصار وعلى الكتب المشار إليها وعلى بحث ضاف في هذا الموضوع لسعادة الدكتور محمد صبحي باشا طبيب العيون الشهير.
ج: إنه واضح مما ذكر أن الباعث على طلب هذه المؤسسة الحصول على عيون بعض الموتى إنما هو التوصل بها فنيا إلى دفع الضرر الفادح عن الأحياء المصابين في أبصارهم وذلك مقصد عظيم تقره الشريعة الإسلامية بل تحث عليه، فإن المحافظة على النفس من المقاصد الكلية الضرورية للشريعة الغراء، فإذا ثبت علميا أن ترقيع القرنية لهذه العيون هو الوسيلة الفنية لدرء خطر العمى أو ضعف البصر عند الإنسان يجوز شرعا نزع عيون بعض الموتى لذلك بقدر ما تستدعيه الضرورة لوجوب المحافظة على النفس، ولذا تقررت مشروعية التداوي من الأمراض محافظة على النفس من الآفات، فقد تداوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما ألم به من الأمراض وأمر الناس بالتداوي لإزالة العلل والآلام فيما هو أقل شأنا مما نحن بصدده وذلك يستلزم مشروعية وسائله وجواز استعمال ما تقتضيه ضرورة التداوي والعلاج ولو كان محظورا شرعا إذا لم يقم غيره مما ليس بمحظور مقامه في نفعه بأن تعين التداوي به، على أن الواجب شرعا على الأمة أن تختص منها طائفة بالطب والعلاج بقدر ما تستدعيه حاجتها وبحسب تنوع أمراضها، فيجب أن يكون فيها أطباء في كل فروع الطب ومنهم أطباء العيون سدا لحاجة الأمة في هذا الفرع بحيث إذا قصرت الأمة في ذلك كانت آثمة شرعا، وهذا الواجب هو المعروف في الأصول بالواجب الكفائي أو الفرض الكفائي، ويجب عليهم أن يحذقوا الفن حتى يؤدوا وظائفهم أكمل أداء، فإذا هدوا إلى علاج نافع لأمراض العيون(4/72)
يحفظ حاسة البصر أو يعيدها بعد الفقدان وجب عليهم أن ينفعوا الناس به ووجب تمكينهم من وسائله بقدر ما تقتضيه الضرورة والحاجة، وللوسائل في الشرع حكم المقاصد؛ ولذلك جاز أن يباشر طلاب الطب وأساتذته تشريح جثث الموتى ما دام ذلك هو السبيل الوحيد لتعلم فن الطب وتعليمه والعمل به. وبدونه لا يكون طب صحيح ولا علاج مثمر، بل لا يعد طبيبا من لا يعرف فن التشريح علما وعملا، كما قرر ذلك جميع الأطباء.
فيجب أن يمكن أطباء هذه المؤسسة من القيام بهذه المهمة الإنسانية الجليلة وعلاج عيون الأحياء بعيون الموتى الصالحة لذلك كشفا للضرر عنهم، ولا يمنع من ذلك ما يرى فيه من انتهاك حرمة الموتى؛ فإن علاج الأحياء من الضرورات التي يباح فيها شرعا بارتكاب هذا المحظور، هذا بتسليم أنه انتهاك لحرمة الموتى، ولكن من القواعد الشرعية أن الضرورات تبيح المحظورات، ولذا أبيح عند المخمصة أكل الميتة المحرمة، وعند الغصة إساغة اللقمة بجرعة من الخمر المحرمة، إحياء للنفس إذا لم يوجد سواهما مما يحل، وجاز دفع الصائل ولو أدى إلى قتله، وجاز شق بطن الميتة لإخراج الولد منها إذا كانت حياته ترجى، بل قيل بجواز شق بطن الميت إذا ابتلع لؤلؤة ثمينة أو دنانير لغيره، وإباحة المحظورات تقديرا للضرورات قاعدة يقتضيها العقل والشرع وفي الحديث «لا ضرر ولا ضرار (1) » وقد بني عليها كثير من الأحكام، ولذا قال الفقهاء: الضرر يزال فعملا بهذه القاعدة يجوز نزع عيون بعض الموتى مع ما فيه من المساس بحرمتهم لإنقاذ عيون الأحياء من مضرة العمى والمرض الشديد.
ومن القواعد العامة أن الحاجة تنزل منزل الضرورة عامة كانت أو خاصة، ولذا أجاز الفقهاء بيع السلم مع كونه بيع المعدوم دفعا لحاجة المفلسين، وأجازوا بيع الوفاء دفعا لحاجة المدينين، ولا شك أن حاجة الأحياء إلى العلاج ودفع ضرر الأمراض وخطرها بمنزلة الضرورة التي يباح من أجلها ما هو محظور شرعا، والدين يسر لا حرج فيه، قال تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) على أنه إذا قارنا بين مضرة ترك العيون تفقد حاسة الإبصار ومضرة انتهاك حرمة الموتى نجد الثانية أخف ضررا من الأولى، ومن المبادئ الشرعية أنه إذا تعارضت مفسدتان تدرأ أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما ضررا ولا شك أن الإضرار للميت أخف من الإضرار بالحي، ويجب أن يعلم أن إباحة نزع هذه العيون لهذا الغرض مقيدة بقدر ما تستدعيه الضرورة لما تقرر شرعا أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها فقط، ولذلك لا يجوز للمضطر لأكل الميتة إلا قدر ما يسد الرمق، وللمضطر لإزالة الغصة بالخمر إلا الجرعة المزيلة لها فقط، ولا يجوز أن تستر الجبيرة من الأعضاء الصحيحة إلا القدر الضروري لوضعها، ولا يجوز للطبيب أن ينظر من العورة إلا بقدر الحاجة الضرورية وغير خاف أن ابتناء الأحكام على المبادئ العامة والقواعد الكلية مسلك أصولي في تعريف الأحكام الجزئية للحوادث والوقائع النازلة التي لم يرد فيها بعينها نص عن الشارع، ولذلك نجد الشريعة الإسلامية لا تضيق ذرعا بحادث جديد، بل تفسح له صدرها وتشمله قواعدها الكلية ومبادئها العامة.
وإذ قد علم من هذا أنه يجوز شرعا بل قد يتعين نزع عيون بعض الموتى لهذا الغرض العلمي الإنساني
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .
(2) سورة الحج الآية 78(4/73)
بقدر ما تستدعيه الضرورة، يعلم أنه لا يجوز أن يكون ذلك بقانون عام يخضع له جميع الموتى على السواء؛ لأن ذلك فضلا عن أنه لا تقتضيه الضرورة كما هو ظاهر مفض إلى مفسدة عامة لا وزن بجانبها لمصلحة علاج مريض أو مرضى، مظهرها ثورة أولياء الموتى وأهليهم إذا أريد انتزاع عيون موتاهم قهرا، ثورة جامحة عامة، فيجب أن يقتصر في ذلك على عيون بعض الموتى ممن ليس لهم أولياء ولا يعرف لهم أهل، ومن الجناة الذين يحكم عليهم بالإعدام قصاصا والتحديد بهذا واف بالغرض دون اعتراض أحد أو مساس بحقه. والله أعلم.(4/74)
ولفضيلة الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي فتوى تتعلق بالموضوع رأينا إثباتها وفيما يلي نصها:
سؤال: هل يجوز أخذ جزء من جسد الإنسان وتركيبه في إنسان آخر مضطر إليه برضاء من أخذ منه؟
ج: جميع المسائل التي تحدث في كل وقت سواء حدثت أجناسها أو أفرادها يجب أن تتصور قبل كل شيء، فإذا عرفت حقيقتها وشخصت صفاتها وتصورها الإنسان تصورا تاما بذاتها ومقدماتها ونتائجها طبقت على نصوص الشرع وأصوله الكلية فإن الشرع يحل جميع المشكلات، مشكلات الجماعات والأفراد ويحل المسائل الكلية والجزئية، يحلها حلا مرضيا للعقول الصحيحة والفطر المستقيمة ويشترط أن ينظر فيه البصير من جميع نواحيه وجوانبه الواقعية والشرعية، فنحن في هذه المسألة قبل كل شيء نقف على الحياد حتى يتضح لنا اتضاحا تاما للجزم بأحد القولين، فنقول: من الناس من يقول هذه الأشياء لا تجوز لأن الأصل أن الإنسان ليس له التصرف في بدنه بإتلاف أو قطع شيء منه أو التمثيل به؛ لأنه أمانة عنده لله ولهذا قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) .
والمسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه، أما المال فإنه يباح بإباحة صاحبه وبالأسباب التي جعلها الشارع وسيلة لإباحة التملكات، وأما الدم فلا يباح لوجه من الوجوه ولو أباحه صاحبه لغيره سواء كان نفسا أو عضوا أو دما أو غيره إلا على وجه القصاص بشروط، أو في الحالة التي أباحها الشارع وهي أمور معروفة ليس منها هذا المسئول عنه، ثم إن ما زعموه من المصالح للغير معارض بالمضرة اللاحقة لمن قطع منه ذلك الجزء، فكم من إنسان تلف أو مرض بهذا العمل، ويؤيد هذا قول الفقهاء: من ماتت وهي حامل بحمل حي لم يحل شق بطنها لإخراجه ولو غلب الظن، أو لو تيقنا خروجه حيا إلا إذا خرج بعضه حيا فيشق للباقي، فإذا كان هذا في الميتة فكيف حال الحي، فالمؤمن بدنه محترم حيا وميتا ويؤخذ من هذا أيضا أن الدم نجس خبيث، وكل نجس خبيث لا يحل التداوي به مع ما يخشى عند أخذ دم إنسان من هلاك أو مرض، فهذا من
__________
(1) سورة البقرة الآية 195(4/74)
حجج هذا القول. ومن الناس من يقول لا بأس بذلك؛ لأننا إذا طبقنا هذه المسألة على الأصل العظيم للمحيط الشرعي صارت من أوائل ما يدخل فيه، وأن ذلك مباح بل ربما يكون مستحبا، وذلك أن الأصل إذا تعارضت المصالح والمفاسد والمنافع والمضار، فإن رجحت المفاسد أو تكافأت منع منه وصار درء المفاسد في هذه الحال أولى من جلب المنافع، وإن رجحت المصالح والمنافع على المفاسد والمضار اتبعت المصالح الراجحة، وهذه المذكورات مصالحها عظيمة معروفة ومضارها إذا قدرت فهي جزئية يسيرة منغمرة في المصالح المتنوعة، ويؤيد هذا أن حجة القول الأول وهي أن الأصل أن بدن الإنسان محترم لا يباح بالإباحة متى اعتبرنا فيه هذا الأصل، فإنه يباح كثير من ذلك للمصلحة الكثيرة المنغمرة في المفسدة بفقد ذلك العضو أو التمثيل به.
فإنه يباح لمن وقعت فيه الأكلة التي يخشى أن ترعى بقية بدنه، قطع العضو المتآكل لسلامة الباقي، وكذلك يجوز قطع الضلع التي لا خطر في قطعها، ويجوز التمثيل في البدن بشق البطن أو غيره للتمكن من علاج المرض ويجوز قلع الضرس ونحوه عند التألم الكثير وأمور كثيرة من هذا النوع أبيحت لما يترتب عليها من حصول مصلحة أو دفع مضرة.
وأيضا فإن كثيرا من هذه الأمور المسئول عنها يترتب عليها المصالح من دون ضرر يحدث فما كان كذلك فإن الشارع لا يحرمه، وقد نبه الله تعالى على هذا الأصل في عدة مواضع من كتابه ومنه قوله عن الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (1) فمفهوم الآية أن ما كانت منافعه ومصالحه أكثر من مفاسده وإثمه فإن الله لا يحرمه، ولا يمنعه، وأيضا فإن مهرة الأطباء المعتبرين متى قرروا تقريرا متفقا عليه أنه لا ضرر على المأخوذ من جسده ذلك الجزء وعرفنا ما يحصل من ذلك من مصلحة الغير، كانت مصلحة محضة خالية من المفسدة، وإن كان كثير من أهل العلم يجوزون بل يستحسنون إيثار الإنسان غيره على نفسه بطعام أو شراب هو أحق به منه، ولو تضمن ذلك تلفه أو مرضه ونحو ذلك، فكيف بالإيثار بجزء من بدنه لنفع أخيه النفع العظيم من غير خطر تلف بل ولا مرض وربما كان في ذلك نفع له إذا كان المؤثر قريبا أو صديقا خاصا أو صاحب حق كبير أو أخذ عليه نفع دنيوي ينفعه أو ينفع من بعده.
ويؤيد هذا أن كثيرا من الفتاوى تتغير بتغير الأزمان والأحوال والتطورات وخصوصا الأمور التي ترجع إلى المنافع والمضار ومن المعلوم أن ترقي الطب الحديث له أثره الأكبر في هذه الأمور كما هو معلوم مشاهد، والشارع أخبر بأنه ما من داء إلا وله شفاء، وأمر بالتداوي خصوصا وعموما، فإذا تعين الدواء وحصول المنفعة بأخذ جزء من هذا ووضعه في الآخر من غير ضرر يلحق المأخوذ منه فهو داخل فيما أباحه الشارع، وإن كان قبل ذلك وقبل ارتقاء الطب فيه ضرر أو خطر، فيراعى كل وقت بحسبه، ولهذا نجيب عن كلام أهل العلم القائلين بأن الأصل في أجزاء الآدمي تحريم أخذها وتحريم التمثيل بها، فيقال: هذا يوم كان ذلك خطرا أو ضررا أو ربما أدى إلى الهلاك، وذلك أيضا في الحالة التي ينتهك فيها بدن الآدمي وتنتهك حرمته.
__________
(1) سورة البقرة الآية 219(4/75)
فأما في هذا الوقت فالأمران مفقودان، الضرر مفقود وانتهاك الحرمة مفقودة، فإن الإنسان قد رضي كل الرضا بذلك واختاره مطمئنا مختارا لا ضرر عليه ولا يسقط شيء من حرمته، والشارع إنما أمر باحترام الآدمي تشريفا له وتكريما، والحالة الحاضرة غير الحالة الغابرة، ونحن إنما أجزنا ذلك إذا كان المتولي طبيبا ماهرا، وقد وجدت تجارب عديدة للنفع وعدم الضرر، فبهذا يزول المحذور.
ومما يؤيد ذلك ما قاله غير واحد من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أنه إذا أشكل عليك شيء هل هو حلال أو حرام، أو مأمور به أو منهي عنه؛ فانظر إلى أسبابه الموجبة وآثاره ونتائجه الحاصلة، فإذا كانت منافع ومصالح وخيرات وثمراتها طيبة، كان من قسم المباح أو المأمور به، وإذا كان بالعكس، كانت بعكس ذلك، طبق هذه المسألة على هذا الأصل، وانظر أسبابها وثمراتها تجدها أسبابا لا محذور فيها، وثمراتها خير الثمرات، وإذا قال الأولون: أما ثمراتها فنحن نوافق عليها ولا يمكننا إلا الاعتراف بها، ولكن الأسباب محرمة كما ذكرنا في أن الأصل في أجزاء الآدمي التحريم، وأن استعمال الدم استعمال للدواء الخبيث، فقد أجبنا عن ذلك بأن العلة في تحريم الأجزاء إقامة حرمة الآدمي ودفع الانتهاك الفظيع، وهذا مفقود هنا، وأما الدم فليس عنه جواب إلا أن نقول: إن مفسدته تنغمر في مصالحه الكثيرة وأيضا ربما ندعي أن هذا الدم الذي ينقل من بدن إلى آخر، ليس من جنس الدم الخارج الخبيث المطلوب اجتنابه والبعد عنه وإنما هذا الدم هو روح الإنسان وقوته وغذائه فهو بمنزلة الأجزاء أو دونها، ولم يخرجه الإنسان رغبة عنه وإنما هو إيثار لغيره، وبذل من قوته لقوة غيره وبهذا يخف خبثه في ذاته وتلطفه في آثاره الحميدة، ولهذا حرم الله الدم المسفوح وجعله خبيثا، فيدل على أن الدماء في اللحم والعروق وفي معدتها قبل بروزها ليست محكوما عليها بالتحريم والخبث، فقال الأولون: هذا من الدم المسفوح فإنه لا فرق بين استخراجه بسكين أو إبرة أو غيرها، أو ينجرح الجسد من نفسه فيخرج الدم فكل ذلك دم مسفوح محرم خبيث، فكيف تجيزونه؟ ولا فرق بين سفحه لقتل الإنسان أو الحيوان أو سفحه لأكل أو سفحه للتداوي به، فمن فرق بين هذه الأمور فعليه الدليل.
فقال هؤلاء المجيزون: هب أنا عجزنا عن الجواب عن حل الدم المذكور فقد ذكرنا لكم عن أصول الشريعة ومصالحها ما يدل على إباحة أخذ جزء من أجزاء الإنسان لإصلاح غيره إذا لم يكن فيه ضرر، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (1) » ، «ومثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد (2) » فعموم هذا يدل على هذه المسألة وأن ذلك جائز، فإذا قلتم: إن هذا في التواد والتراحم والتعاطف كما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- لا في وصل أعضائه بأعضائه، قلنا: إذا لم يكن ضرر ولأخيه فيه نفع فما الذي يخرجه من هذا؟ وهل هذا إلا فرد من أفراده؟ كما أنه داخل في الإيثار، وإذا كان من أعظم خصال العبد الحميدة مدافعته عن نفس أخيه وماله ولو حصل عليه ضرر في بدنه أو ماله فهذه المسألة من باب أولى وأحرى، وكذلك من فضائله تحصيل مصالح أخيه، وإن طالت المشقة وعظمت الشقة فهذه كذلك وأولى.
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .
(2) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .(4/76)
ونهاية الأمر أن هذا الضرر غير موجود في هذا الزمن، فحيث انتقلت الحال إلى ضدها وزال الضرر والخطر فلم لا يجوز ويختلف الحكم فيه لاختلاف العلة، ويلاحظ أيضا في هذه الأوقات التسهيل ومجاراة الأحوال إذا لم تخالف نصا شرعيا؛ لأن أكثر الناس لا يستفتون ولا يبالون وكثير ممن يستفتي إذا أفتي بخلاف رغبته وهواه تركه ولم يلتزمه، فالتسهيل عند تكافؤ الأقوال يخفف الشر ويوجب أن يتماسك الناس بعض التماسك لضعف الإيمان وعدم الرغبة في الخير، كما يلاحظ أيضا أن العرف عند الناس أن الدين الإسلامي لا يقف حاجزا دون المصالح الخالصة أو الراجحة بل يجاري الأحوال والأزمان ويتتبع المنافع والمصالح الكلية والجزئية، فإن الملحدين يموهون على الجهال أن الدين الإسلامي لا يصلح لمجاراة الأحوال والتطورات الحديثة، وهم في ذلك مفترون، فإن الدين الإسلامي به الصلاح المطلق من كل وجه، الكلي والجزئي، وهو حلال لكل مشكلة خاصة أو عامة وغير قاصر من جميع الوجوه.
رابعا: المقارنة بين المصالح التي بني عليها تشريح جثث الآدمي والمصالح التي بنى عليها فقهاء الإسلام الاستثناء من قاعدة عصمة دماء بني آدم ووجوب تكريمهم ورعاية حرمتهم.
إن شريعة الإسلام تنزيل من حكيم حميد، عليم بما كان وما سيكون، أنزلها على خير الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين، وجعلها قواعد كلية ومقاصد سامية شاملة، فكانت تشريعا عاما خالدا صالحا لجميع طبقات الخلق في كل زمان ومكان.
إن كثيرا من الجزئيات والوقائع التي حدثت لا نجدها منصوصا عليها نفسها في الكتاب أو السنة، وربما لم تكن وقعت من قبل فلا يعرف لسلفنا الصالح فيها حكم، لكن يتبين لبحث علماء الإسلام عنها أنها مندرجة في قاعدة شرعية عامة، ومن ثم يعرف حكمها، ومسألة تشريح جثث موتى بني آدم لا تعدو أن تكون جزئية من هذه الجزئيات التي لم ينص عليها في نص خاص فشأنها شأن الوقائع التي جدت، لا بد أن تكون مشمولة بقاعدة كلية من قواعد الشريعة، وراجعة لمقصد عام من مقاصدها العالية، ضرورة كمال الشريعة وشمولها، وصلاحيتها لجميع الخلق، وختمها بمن أرسل رحمة للعالمين، قال تعالى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (1) ، وقال: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (2) ، وقال {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3) وثبت في الحديث «لا أحد أحب إليه العذر من الله (4) » من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وبالبحث عن مسألة التشريح تبين أنها مندرجة تحت قواعد الشريعة العامة وراجعة إلى المصالح المعتبرة شرعا وأن لها نظائر من المسائل التي حكم فيها الفقهاء مع اختلاف نظرهم واجتهادهم فيها، وهذا مما ينير الطريق، ويهدي الباحث في مسألة التشريح ويساعد علة الوصول إلى ما قد يكون صوابا إن شاء الله.
__________
(1) سورة مريم الآية 64
(2) سورة النساء الآية 165
(3) سورة المائدة الآية 3
(4) صحيح البخاري التوحيد (7416) ، صحيح مسلم اللعان (1499) ، مسند أحمد بن حنبل (4/248) ، سنن الدارمي النكاح (2227) .(4/77)
إن من قواعد الشريعة الكلية ومقاصدها العامة أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفاديا لأشدهما، ومسألة التشريح داخلة في هذه القاعدة على كل حال، فإن مصلحة حرمة الميت مسلما كان أو ذميا تعارضت مع مصلحة أولياء الميت والأمة والمتهم عند الاشتباه فقد ينتهي الأمر بالتشريح والتحقيق مع المتهم إلى إثبات الجناية عليه، وفي ذلك حفظ لحق أولياء الميت وإعانة لولي الأمر على ضبط الأمن وردع من تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه الجريمة خفية، وقد ينتهي الأمر بثبوت موته موتا عاديا، وفي ذلك براءة المتهم، كما أن التشريح المرضي معرفة ما إذا كان هناك وباء ومعرفة نوعه فيتقى شره بوسائل الوقاية المناسبة، وفي هذا المحافظة على نفوس الأحياء والحد من أسباب الأمراض، وقد حثت الشريعة على الوقاية من الأمراض وعلى التداوي مما أصابها، وفي هذا مصلحة للأمة ومحافظة على سلامتها وإنقاذها مما يخشى أن يصيبها جريا على ما اقتضت به سنة الله شرعا وقدرا.
وفي تعريف الطلاب تركيب الجسم وأعضائه الظاهرة والأجهزة الباطنة ومواضعها وحجمها صحيحة ومريضة وتدريبهم على ذلك عمليا وتعريفهم بإصاباتها وطرق علاجها، في هذا وغيره مما تقدم بيانه في الموضوع الثاني، وما ذكر في فتوى الشيخ حسنين محمد مخلوف وما ذكره الأطباء. . . مصالح كثيرة تعود على الأمة بالخير العميم، فإذا تعارضت مصلحة المحافظة على حرمة الميت مع هذه المصالح نظر العلماء أي المصلحتين أرجح فبني عليها الحكم منعا أو إباحة، وقد يقال: إن مصلحة الأمة في مسألتنا أرجح لكونها كلية عامة، ولكونها قطعية كما دل على ذلك الواقع والتجربة، وهي عائدة إلى حفظ نفوس الناس، وحفظها من الضرورات التي جاءت بمراعاتها وصيانتها جميع شرائع الأنبياء، وقد وجدت نظائر لمسألة التشريح بحثها فقهاء الإسلام، منها المسائل الخمس التي تقدم ذكرها فقد بحثوها وبينوا الحكم فيها على ما ظهر لهم، فمسألة تترس الكفار بأسرى المسلمين ونحوهم في الحرب رجح كثير منهم رمي الترس إيثارا للمصلحة العامة، وكذا رجح كثير منهم شق بطن من ماتت وفي بطنها جنين حي، وأكل المضطر لحم آدمي ميت، إبقاء على حياته، وإيثار الجانب الحي على جانب الميت، وإلقاء أحد ركاب سفينة خيف عليهم الغرق ولا نجاة لهم إلا بإلقاء واحد منهم، إيثارا لمصلحة الجماعة على مصلحة الواحد، وقد سبق تفصيل ذلك، فلا يبعد أن يقال: يجوز التشريح إلحاقا بهذه النظائر في الحكم.
وقد يقال: إن الحوادث كانت منذ كان الناس، والطب قديم، والحاجة إلى تشخيص الأمراض ومعرفة أسبابها وطرق علاجها كان في العهود الأولى، ولم يتوقف شيء من ذلك على التشريح، ولهذا لم يقدم الأطباء قديما على التشريح، فلم نقدم عليه اليوم؟ وقد أورد فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف هذا السؤال على نفسه وأوضحه، ثم أجاب عنه في فتواه التي سبق ذكرها، وقد يقال أيضا: إن اقتضت المصلحة - ولا بد - تشريح إنسان ميت فليقتصر على تشريح المحاربين فإن دمهم هدر، ويستثنى منهم من نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتلهم كنسائهم وصبيانهم، ولا ينافي ذلك ما ورد عنه من النهي عن التمثيل بقتلاهم، فإن نهيه عنه مقيد بما إذا لم يوجد ما يقتضي التمثيل بهم، وهنا قد وجدت الضرورة، وبهذا يجمع بين مصلحة حرمة الميت المسلم والذمي ومصلحة الخدمات الطبية، وربما نوقش ذلك باحتمال عدم الكفاية بتشريح المحاربين أو عدم تيسر الحصول عليهم فيعود الأمر إلى البحث في تشريح جثث موتى المسلمين ومن في حكمهم، قد(4/78)
يقال: لا ضرورة تلجئ إلى تشريح جثث الموتى مطلقا؛ إذ يمكن أن يستغنى عن ذلك بتشريح الحيوانات بعد ذبح ما يذبح منها ذبحا شرعيا محافظة على المال.
ففي ذلك غنية عن تشريح جثث بني آدم وجمع بين مصلحة موتى الآدميين ومصلحة الخدمات الطبية، فإن لم يتيسر الاكتفاء بتشريحها فلا أقل من أن لا تشرح جثث بني آدم إلا فيما لا يمكن الاكتفاء فيه بتشريح جثث الحيوانات، تقليلا للمفسدة ومحافظة على حرمة الموتى بقدر الإمكان.
وللدكتور محمد عبد الفتاح هدارة كلمة بين فيها أوجه الشبه والخلاف بين جسم الإنسان وجسم الحيوانات الأخرى القريبة الشبه به قد تعتبر جوابا عن ذلك من مختص في علم التشريح المقارن وفيما يلي نصها.(4/79)
أوجه الشبه والخلاف بين جسم الإنسان
يستلزم تدريب الطبيب للممارسة الصحيحة للطب والجراحة أن يعرف حجم وشكل ومكان وتركيب كل عضو وما يجاوره من الأعضاء الأخرى في الجسم السليم، إذا يمكنه بعدئذ أن يعرف ما قد يطرأ من تغييرات على حجم وشكل ومكان وتركيب أي من هذه الأعضاء بسبب المرض.
فالمعرفة المذكورة المطلوبة معرفة تفصيلية دقيقة يصعب تصورها أو الحصول عليها دون تشريح الأجسام البشرية، ولا يمكن الاستعاضة في هذا المضمار عن الجسم البشري بجسم حيوان آخر.
فأقرب الحيوانات إلى شكل الإنسان هي مجموعة الأنواع التي تعرف بذوات الثدي أو الثدييات وهي التي تلد وترضع أولادها، والشبه بينها وبين الإنسان عام، ولكن هناك الاختلافات الكثيرة ولا تفيد دراسة تفاصيل جسم حيوان ثديي في فهم تفاصيل الجسم البشري التي تعين على تشخيص الأمراض في أحوال كثيرة.
فالاعتماد على تشريح الحيوانات الثديية وحدها، حتى أقربها إلى الإنسان شكلا لا يعطي فكرة صادقة عن تفاصيل الجسم البشري وقد يزرع في ذهن الأطباء عامة صورة غير صادقة عن تركيب الجسم البشري تكون سببا في ارتكاب الأطباء للأخطاء الفنية.
وخير ما يدل هو إبراز بعض أوجه الخلاف.(4/79)
الهيكل العظمي وما يتصل به من مفاصل وعضلات
يختلف هيكل الإنسان عن هيكل الثدييات الأخرى في مقاييس العظام المكونة له واعتداله، وتقوسات العمود الفقري، وشكل الحوض والقفص الصدري، كما تختلف نسب وأشكال عظام الأطراف والمفاصل التي بينها وخاصة اليد والقدم وعظام العضوين المذكورين تختلف في عددها وطرق تفصلها والعضلات المتصلة بها، وأما اليد فعضو إنساني بلغ في الإنسان مبلغا من الدقة لا يوجد في سائر الثدييات.
أما الرأس فنسب الأعضاء فيه مختلفة اختلافا كبيرا في سائر الثدييات فهيكل الفكين في الثدييات يكون جزءا كبيرا من الجمجمة في حين أن صندوق الدماغ فيها صغير نسبيا ووضع تجاويف الأنف وحجاج العين يختلف في الثدييات عن الإنسان.
الأحشاء الداخلية
والأحشاء الداخلية سواء كانت في الصدر أم في البطن تختلف في نسبها وشكلها العام في الإنسان عن سائر الثدييات فمعدة الإنسان بسيطة وقد تكون متعددة الأجزاء في الحيوانات المجترة، وأمعاؤه تخالف في الطول وفي الوضع أمعاء الثدييات الأخرى.
ورحم الإنسان بسيط وقد يكون ذا قرنين معقدين في كثير من الثدييات.
وكلية الإنسان ذات سطح ناعم لا أخاديد به رغم تعدد ما به من الفصوص وكلى الثدييات تختلف فبعضها ذات فص واحد وبعضها متعدد الفصوص ولكن يفصل بين فصوصها أخاديد تبدو على سطحها، ودماغ الإنسان أكبر بكثير من أدمغة الحيوانات الثديية التي تماثله حجما بل والتي تكبره بكثير بل مع اختلاف شكل دماغ الإنسان ونسب أجزائه عن أدمغة الثدييات الأخرى.
وهناك فروق كثيرة في التركيب الميكروسكوبي لأعضاء الإنسان وأعضاء الثدييات وإن كان الشبه بين أعضاء الثدييات عاما بالإضافة إلى أن هناك فروقا في التركيب الميكروسكوبي للأعضاء السليمة والأعضاء المريضة في جسم الإنسان لا بد من معرفتها حتى يعرف طبيعة المرض. هذا ما تيسر إعداده، والله الموفق وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
حرر في 21 \ 7 \ 96 هـ
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(4/80)
قرار رقم 47 وتاريخ 20 \ 8 \ 1396 هـ
الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وبعد:
ففي الدورة التاسعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في شهر شعبان عام 1396 هـ جرى الاطلاع على خطاب معالي وزير العدل رقم 3231 \ 2 \ خ المبني على خطاب وكيل وزارة الخارجية رقم 34 \ 1 \ 2 \ 13446 \ 3 وتاريخ 6 \ 8 \ 1395 هـ المشفوع به صورة مذكرة السفارة الماليزية بجدة المتضمنة استفسارها عن رأي وموقف المملكة العربية السعودية من إجراء عملية جراحية طبية على ميت مسلم وذلك لأغراض مصالح الخدمات الطبية.
كما جرى استعراض البحث المقدم في ذلك من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وظهر أن الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: التشريح لغرض التحقق عن دعوى جنائية.
الثاني: التشريح لغرض التحقق عن أمراض وبائية لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منها.
الثالث: التشريح للغرض العلمي تعلما وتعليما.
وبعد تداول الرأي والمناقشة ودراسة البحث المقدم من اللجنة المشار إليه أعلاه قرر المجلس ما يلي:
بالنسبة للقسمين الأول والثاني فإن المجلس يرى أن في إجازتهما تحقيقا لمصالح كثيرة في مجالات الأمن والعدل ووقاية المجتمع من الأمراض الوبائية، ومفسدة انتهاك كرامة الجثة المشرحة مغمورة في جنب المصالح الكثيرة والعامة المتحققة بذلك وإن المجلس لهذا يقرر بالإجماع إجازة التشريح لهذين الغرضين سواء كانت الجثة المشرحة جثة معصوم أم لا.
وأما بالنسبة للقسم الثالث وهو التشريح للغرض التعليمي فنظرا إلى أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها، وبدرء المفاسد وتقليلها، وبارتكاب أدنى الضررين لتفويت أشدهما وأنه إذا تعارضت المصالح أخذ بأرجحها، وحيث إن تشريح غير الإنسان من الحيوانات لا يغني عن تشريح الإنسان، وحيث إن في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العلمي في مجالات الطب المختلفة، فإن المجلس يرى جواز تشريح جثة الآدمي في الجملة، إلا أنه نظرا إلى عناية الشريعة الإسلامية بكرامة المسلم ميتا كعنايتها بكرامته حيا، وذلك لما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كسر عظم الميت ككسره حيا (1) » ونظرا إلى أن التشريح فيه امتهان لكرامته، وحيث إن الضرورة إلى ذلك منتفية بتيسر الحصول على جثث أموات غير معصومة، فإن المجلس يرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث وعدم التعرض لجثث أموات معصومين والحال ما ذكر. والله الموفق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
__________
(1) سنن أبو داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد بن حنبل (6/105) .(4/81)
من روائع الفن الإسلامي(4/82)
مجلة البحوث الإسلامية
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
القسامة
هيئة كبار العلماء(4/83)
الحمد لله وحده وبعد:
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثامنة المنعقدة في مدينة الرياض في النصف الأول من شهر ربيع الثاني عام 1396هـ موضوع (القسامة: هل الورثة هم الذين يحلفون أيمان القسامة، أو أن العصبة بالنفس هم الذين يحلفون، ولو كانوا غير وارثين إذا كانوا ذكورا بالغين؟) مشفوعا بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ورغبة في إطلاع قراء (مجلة البحوث الإسلامية) على هذا البحث القيم ننشره بنصه:(4/84)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فبناء على ما تقرر في الدورة الرابعة لهيئة كبار العلماء من أن يدرج موضوع القسامة ضمن المواضيع التي اتفق المجلس على إعداد بحوث فيها فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء بحثا في ذلك يشتمل على العناصر التالية:
1 - بيان اشتقاق القسامة، وتحديد معناها في اللغة، والمراد بها عند الفقهاء.
2 - بيان مستند من عمل بالقسامة، ومستند من لم يعمل بها ومناقشة كل منها.
3 - ضابط اللوث وبيان صوره، واختلاف العلماء فيها، ومنشأ ذلك مع المناقشة.
4 - هل يتعين أن يكون المدعى عليه في القسامة واحدا، أو يجوز أن يكون أكثر ولو مبهما مع ذكر الدليل والمناقشة.
5 - ذكر اختلاف العلماء فيمن توجه إليه أيمان القسامة أولا، من مدع ومدعى عليه ومستند كل مع المناقشة.
6 - ذكر خلاف العلماء فيمن يحلف أيمان القسامة، وبيان ذلك ومستند كل مع المناقشة، وهل ترد الأيمان إذا نقص العدد أو لا.
7 - خلاف العلماء في الحكم على الناكل بمجرد النكول مع الأدلة والمناقشة.
8 - ذكر خلاف العلماء فيما يثبت بالقسامة من قود أو دية، وذكر مستند كل مع المناقشة.
9 - خلاف العلماء فيمن يقتل بالقسامة إذا كان المدعى عليهم أكثر من واحد، وفي العدول عن القتل إلى دفع الدية مع الأدلة والمناقشة.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(4/85)
القسامة
أ - قال أحمد بن فارس: " قسم " القاف، والسين، والميم، أصلان صحيحان يدل أحدهما على جمال وحسن؛ والآخر على تجزئة شيء - وبعد كلامه على الأصل الأول قال: والأصل الآخر القسم: مصدر قسمت الشيء قسما، والنصيب قسم بكسر القاف، فأما اليمين فالقسم، قال أهل اللغة: أصل ذلك من القسامة وهي الأيمان تقسم على أولياء المقتول إذا ادعوا دم مقتولهم على ناس اتهموهم به (1) . .
ب - وقال ابن منظور نقلا عن ابن سيده: والقسامة الجماعة يقسمون على الشيء، أو يشهدون ويمين القسامة منسوبة إليهم، وفي حديث «الأيمان تقسم على أولياء الدم» وقال أيضا نقلا عن ابن زيد: جاءت قسامة الرجل سمي بالمصدر وقتل فلان فلانا بالقسامة أي باليمين، وجاءت قسامة من بني فلان وأصله اليمين ثم جعل قوما.
وقال أيضا نقلا عن الأزهري: القسامة اسم من الإقسام؛ وضع موضع المصدر، ثم يقال للذين يقسمون قسامة (2) .
__________
(1) معجم مقاييس اللغة ج5 ص86 ويرجع أيضا إلى اللسان ج15 ص 381 والصحاح ج5 ص 210
(2) لسان العرب ج15 ص381 - 382.(4/86)
ج: وقال الحسين بن أحمد السياني: وقد اختلف كلام أهل اللغة في معناها فقيل: هي اسم للأيمان تقسم على خمسين رجلا من أهل المحلة التي يوجد فيها القتيل لا يعلم قاتله، وهي على هذا مأخوذة من التقسيم، وقيل: هي اسم للجماعة يقسمون على الشيء ويشهدون به، ويمين القسامة منسوبة إليهم، ثم أطلقت على الأيمان نفسها. ذكره في المحكم ونحوه في القاموس. وقيل: بل هي اسم للأيمان وهي مصدر أقسم يقسم قسما وقسامة (1) .
__________
(1) الروض النضير ج4 ص285.(4/87)
المراد بالقسامة عند الفقهاء.
قال الكاساني: هي اليمين بالله تبارك وتعالى بسبب مخصوص، وعدد مخصوص وعلى شخص مخصوص وهو المدعى عليه، وعلى وجه مخصوص وهو أن يقسم خمسون من أهل المحلة إذا وجد قتيل فيها: بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا. فإذا حلفوا يغرمون الدية، وهذا عند أصحابنا رحمهم الله تعالى (1) .
وقال أحمد الشلبي: ثم القسامة عبارة عن الأيمان التي تعرض على خمسين رجلا من أهل المحلة أو الدار إذا وجد فيها قتيل لم يعرف قاتله، فإن لم يبلغ الرجال خمسين رجلا تكررت اليمين إلى أن تتم خمسين يمينا (2) .
وقال خليل والدردير: والقسامة من البالغ العاقل خمسون يمينا متتالية فلا تفرق على أيام أو أوقات قطعا بأن يقول: بالله الذي لا إله إلا هو لمن ضربه مات أو لقد قتله، واعتمد البات على ظن قوي، ولا يكفي قوله: أظن أو في ظني. وإن أعمى أو غائبا حال القتل لاعتماد كل على اللوث المتقدم بيانه يحلفها في الخطأ من يرث المقتول من المكلفين، وإن واحدا أو امرأة ولو أختا لأم لأنها سبب في حصوله (3) .
وقال ابن حجر: وصفتها أن يحلف أولياء الدم خمسين يمينا في المسجد الأعظم بعد الصلاة عند اجتماع الناس أن هذا قتله (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع ج5 ص 286 ويرجع أيضا إلى فتح القدير ج8 ص384.
(2) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ج6 ص169.
(3) مختصر خليل والشرح الكبير وعليها حاشية الدسوقي ج4 ص260 - 261.
(4) قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية ص377.(4/87)
وقال ابن حجر: وهي الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم أو على المدعى عليهم الدم، وخص القسم على الدم بلفظ القسامة (1) .
وقال الرملي: واصطلاحا اسم لأيمانهم وقد تطلق على الأيمان مطلقا إذ القسم اليمين (2) .
وقال أبو محمد بن قدامة: والمراد بالقسامة ها هنا الأيمان المكررة في دعوى القتل (3) .
__________
(1) فتح الباري ج12 ص 231
(2) نهاية المحتاج، ج7 ص387.
(3) المغني ج10 ص2 ويرجع إلى الفروع ج6 ص46(4/88)
الثاني بيان مستند من عمل بالقسامة ومستند من لم يعمل ومناقشة كل منهما
اختلف أهل العلم في حكم القسامة: فمنهم من عمل بها ومنهم من لم يعمل بها، وفيما يلي نذكر طائفة من كلام من عمل بالقسامة مع المناقشة، ثم نذكر طائفة من كلام من لم يعمل بها وأدلتهم مع المناقشة.
قال السمرقندي: القسامة مشروعة في القتيل الذي يوجد به علامة القتل من الجراح وغيرها ولم يعلم له قاتل بالأحاديث الصحيحة، وقضاء عمر -رضي الله عنه- وإجماع الصحابة في خلافة عمر بن عبد العزيز - -رضي الله عنه-.
وقال القاضي عياض: وهذه الأيمان هي أيمان القسامة، وهي أصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد أحكامه، وركن من أركان مصالح العباد أخذ به علماء الأمة وفقهاء الأمصار من الحجازيين والشاميين والكوفيين، وإن اختلفوا في كيفية الأخذ به بواسطة الأبي. وقال محمد بن رشد: أما وجوب الحكم بها على الجملة فقال به جمهور فقهاء الأمصار: مالك والشافعي وأحمد وسفيان وداود وأصحابهم وغير ذلك من فقهاء الأمصار (1) .
وقال الشافعي بعد ذكره لحديث محيصة وحويصة: وبهذا نقول (2) .
__________
(1) بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج2 ص304.
(2) الأم ج6 ص78.(4/88)
وقال البعلي: نقل الميموني عن الإمام أحمد أنه قال: أذهب إلى القسامة إذا كان ثم لطخ وإذا كان ثم سبب بين، وإذا كان ثم عداوة، وإذا كان مثل المدعى عليه يفعل هذا (1) .
* * *
__________
(1) الاختيارات الفقهية ص295.(4/89)
مستند القائلين بعدم العمل بالقسامة مع المناقشة
استدلوا بالسنة والإجماع والأثر.
أما السنة فدليلان:
أحدهما: ما رواه مسلم في الصحيح بالسند المتصل إلى سليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأنصار «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقر بالقسامة على ما كانت عليه في الجاهلية (1) » .
وفي رواية له أيضا عن ابن شهاب وزاد -أي عن رواية سليمان بن يسار - «وقضى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود، والقسامة التي وقعت في الجاهلية (2) » أخرج البخاري صفتها في الصحيح بالسند المتصل إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال إن أول قسامة كانت في الجاهلية لفينا بني هاشم كان رجل من بني هاشم استأجر رجلا من قريش من فخذ آخر فانطلق معه في إبله فمر رجل من بني هاشم انقطعت عروة جوالقه فقال: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل فأعطاه عقالا فشد به عروة جوالقه فلما نزلوا عقلت الإبل إلا بعيرا واحدا فقال الذي استأجره ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل؟ فقال: ليس له عقال قال فأين عقاله؟ قال فحذفه بعصا كان فيها أجله فمر به رجل من أهل اليمن فقال أتشهد الموسم قال ما أشهد ربما شهدته قال هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر قال: نعم قال: فكتب إذا أنت شهدت الموسم فناد يا آل قريش فإذا أجابوك فناد يا آل بني هاشم فإن أجابوك فاسأل عن أبي طالب فأخبره أن فلانا قتلني في عقال ومات المستأجر فلما قدم الذي استأجره أتاه أبو طالب فقال: ما فعل صاحبنا؟ قال: مرض فأحسنت القيام عليه فوليت دفنه. قال: قد كان أهل ذاك منك فمكث حينا ثم إن الرجل الذي أوصى إليه أن يبلغ عنه وافى الموسم فقال: يا آل قريش، قالوا: هذه قريش، قال: يا آل بني هاشم، قالوا: هذه بنو هاشم، قال: أين أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب، قال: أمرني فلان أن
__________
(1) صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1670) ، سنن النسائي القسامة (4708) ، مسند أحمد بن حنبل (5/432) .
(2) صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1670) ، سنن النسائي القسامة (4708) ، مسند أحمد بن حنبل (5/432) .(4/89)
أبلغك رسالة أن فلانا قتله في عقال. فأتاه أبو طالب فقال له اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من قومك إنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به، فأتى قومه فقالوا نحلف، فأتت امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم قد ولدت له فقالت يا أبا طالب أحب أن تجيز ابني هذا برجل من الخمسين ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان ففعل فأتاه رجل منهم فقال يا أبا طالب أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان مائة من الإبل نصيب كل رجل بعيران فاقبلهما مني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان فقبلهما وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا قال ابن عباس فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف.
وقد أجاب الصنعاني عن الاستدلال بذلك فقال: هو إخبار عن القصة التي في حديث سهل بن أبي حثمة وقد عرفت أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقض بها فيه كما قررناه -سيأتي ما قرره جوابا عن الاستدلال بالدليل الثاني. ثم قال:
وقد عرفت من حديث أبي طالب أنها كانت في الجاهلية على أن يؤدي الدية القاتل لا العاقلة كما قال أبو طالب: إما أن تؤدي مائة من الإبل. فإنه ظاهر أنها من ماله لا من عاقلته، أو يحلف خمسون من قومك أو تقتل، وها هنا في قصة خيبر لم يقع شيء من ذلك فإن المدعى عليهم لم يحلفوا ولم يسلموا الدية ولم يطلب منهم الحلف، وليس هذا قدحا في رواية الراوي من الصحابة بل في استنباطه لأنه قد أفاد حديثه أنه استنبط قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقسامة من قصة أهل خيبر وليس في تلك القصة قضاء، وعدم صحة الاستنباط جائز على الصحابي وغيره اتفاقا وإنما روايته للحديث بلفظه أو بمعناه هي التي يتعين قبولها. اهـ.
وقد استشعر الصنعاني إيرادا على قوله. . وعدم صحة الاستنباط جائز على الصحابي وغيره اتفاقا فأجاب عنه بقوله:
وأما قول أبي الزناد: " قتلنا بالقسامة والصحابة متوفرون إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان.
فإنه قال في فتح الباري: " إنما نقله أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي في رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه عن عشرة من الصحابة فضلا عن ألف ".
قلت: لا يخفى أن تقريره لما رواه أبو الزناد لثبوت ما رواه عن خارجة بن زيد الفقيه الثقة وإنما دلس بقوله "قتلنا" وكأنه يريد قتل معشر المسلمين وإن لم يحضرهم.
ثم لا يخفى أن غايته بعد ثبوته عن خارجة فعل جماعة من الصحابة وليس بإجماع حتى يكون حجة، ولا شك في ثبوت فعل عمر بالقسامة وإن اختلف عنه في القتل وإنما نزاعنا في ثبوت حكمه -صلى الله عليه وسلم- بها فإنه لم يثبت (1) .
__________
(1) سبل السلام ج3 ص257.(4/90)
ويمكن أن يجاب عن قول الصنعاني: أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقض بالقسامة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى في القسامة، ووجه كونه -صلى الله عليه وسلم- قضى بها: أنه طلب من الأنصار أن يحلفوا خمسين يمينا فامتنعوا فبين لهم -صلى الله عليه وسلم- أن لهم على اليهود خمسين يمينا وتبرأ اليهود من دم الأنصاري فلم يقبل الأنصار أيمان اليهود، فلم يكن امتناع النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحكم لأولياء الدم لكون القسامة غير مشروعة، بل لإبائهم أن يحلفوا لأنهم لم يشاهدوا الحدث ولم يقبلوا أيمان اليهود لأنهم قوم كفار.
الثاني: قصة عبد الله بن سهل، فأخرج البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي عن سهل بن أبي حثمة -رضي الله عنه- قال «انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر، وهي يومئذ صلح؛ فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه، ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال " كبر كبر " وهو أحدث القوم فسكت، فتكلما، فقال " أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم؟ قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال فتبرئكم يهود بخمسين "، قالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبي -صلى الله عليه وسلم- من عنده (1) » .
وفي رواية فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «" يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته ".
قالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم " قالوا: يا رسول الله. . . وذكر الحديث (2) » ونحوه.
وقد اعترض على الاستدلال بهذا الحديث بأمرين:
الأمر الأول: ما ذكره الصنعاني بقوله أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يحكم بها وإنما كانت حكما جاهليا فتلطف بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليريهم كيف لا يجري الحكم بها على أصول الإسلام وبيان أنه لم يحكم بها أنهم لما قالوا وكيف نحلف ولم نحضر ولم نشاهد؟ لم يبين لهم أن هذا الحلف في القسامة من شأنه ذلك بأنه حكم الله فيها وشرعه بل عدل إلى قوله: «" يحلف لكم يهود " فقالوا ليسوا بمسلمين (3) » . فلم يوجب -صلى الله عليه وسلم- عليهم وبين لهم أن ليس لكم إلا اليمين من المدعى عليهم مطلقا مسلمين كانوا أو غيرهم، بل عدل إلى إعطاء الدية من عنده -صلى الله عليه وسلم- ولو كان الحكم ثابتا لبين لهم وجهه، بل تقريره -صلى الله عليه وسلم- على أنه لا حلف إلا على شيء مشاهد مرئي _ دليل على أنه لا حلف في القسامة ولأنه لم يطلب -صلى الله عليه وسلم- اليهود للإجابة عن خصومهم في دعواهم.
فالقصة منادية بأنها لم تخرج مخرج الحكم الشرعي إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة فهذا أقوى دليل بأنها ليست حكما شرعيا، وإنما تلطف -صلى الله عليه وسلم- في بيان
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(3) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .(4/91)
أنها ليست بحكم شرعي بهذا التدريج المنادي بعدم ثبوتها شرعا، وأقرهم -صلى الله عليه وسلم- أنهم لا يحلفون على ما لا يعلمونه ولا شاهدوه ولا حضروه ولم يبين لهم بحرف واحد أن أيمان القسامة من شأنها أن تكون على ما لا يعلم. انتهى المقصود (1) .
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن يقال: الرسول -صلى الله عليه وسلم- عرض على الأنصار أن يحلفوا خمسين يمينا فامتنعوا ثم بين لهم أن لهم على اليهود خمسين يمينا يحلفها خمسون منهم فبينوا للرسول -صلى الله عليه وسلم- أنهم لا يقبلون أيمانهم وهذا يدل على مشروعيتها إذ لا يصلح أن يحمل هذا التصرف منه -صلى الله عليه وسلم- على العبث والألغاز التي لا يرشد إليها الكلام، وإنما يحمل عليها الكلام بمجرد الظنون والأوهام.
الأمر الثاني: أن هذا الدليل مضطرب، والاضطراب علة مانعة عن العمل به فيكون مردودا، ويمكن أن نبين وجوه الاضطراب والجواب عن كل وجه بعده:
الوجه الأول: الاضطراب بالزيادة والنقص وفي البدء بتوجيه الأيمان فإن هذا الحديث ليس فيه طلب البينة أولا من المدعين كما أنه يدل على البدء بتوجيه الأيمان إلى المدعين وقد جاء ما يخالف ذلك فروى البخاري في الصحيح بسنده المتصل إلى «بشير بن يسار زعم أن رجلا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة " وذكر الحديث وفيه " فقال لهم " تأتون بالبينة على من قتله " قالوا ما لنا بينة، قال " فيحلفون "، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود - الحديث (2) » .
" وقد أجاب ابن حجر عن ذلك بقوله: وطريق الجمع أن يقال: حفظ أحدهم ما لم يحفظ الآخر فيحمل على أنه طلب البينة أولا فلم تكن لهم بينة، فعرض عليهم الأيمان فامتنعوا، فعرض عليهم تحليف المدعى عليهم فأبوا.
وأما قول بعضهم: إن ذكر البينة وهم لأنه -صلى الله عليه وسلم- قد علم أن خيبر حينئذ لم يكن بها أحد من المسلمين فدعوى نفي العلم مردودة فإنه وإن سلم أنه لم يسكن مع اليهود فيها أحد من المسلمين لكن في نفس القصة أن جماعة من المسلمين خرجوا يمتارون تمرا فيجوز أن تكون طائفة أخرى خرجوا لمثل ذلك وإن لم يكن في نفس الأمر كذلك، وقد وجدنا لطلب البينة في هذه القصة من وجه آخر، أخرجه النسائي من طريق عبد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن ابن محيصة الأصفر أصبح قتيلا على أبواب خيبر فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليك برمته قال: يا رسول الله أنى أصيب شاهدين وإنما أصبح قتيلا على أبوابهم. . . الحديث (3) » . وهذا السند صحيح حسن وهو نص في الحمل الذي ذكرته فتعين المصير إليه. وقد أخرج أبو داود أيضا من طريق عباية بن رفاعة عن جده رافع بن خديج قال: «" أصبح رجل من الأنصار بخيبر مقتولا فانطلق أولياؤه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم" (4) » قال: لم يكن ثم أحد من المسلمين وإنما هم اليهود وقد يجترئون على أعظم من هذا (5) .
__________
(1) سبل السلام ج3 ص257.
(2) صحيح البخاري الديات (6898) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4523) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .
(3) سنن النسائي القسامة (4720) ، سنن ابن ماجه الديات (2678) .
(4) سنن أبو داود الديات (4524) .
(5) فتح الباري ج12 ص234.(4/92)
الوجه الثاني: أن الحديث مضطرب لاختلاف العبارات وقد وقع هذا في كثير من روايات الحديث لمن تأملها.
ويمكن أن يجاب عنها بأن الرواية بالمعنى جائزة وما دام أن اختلاف الألفاظ لا يترتب عليه اختلاف تضاد في الحكم فلا أثر له.
الوجه الثالث: أن الحديث مضطرب لوجود الاختلاف في دفع الدية ففي رواية البخاري «فوداه مائة من إبل الصدقة (1) » ، وفي رواية مسلم: «فوداه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عنده (2) » ، وفي رواية النسائي: «فقسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ديته عليهم وأعانهم بنصفها (3) » .
ويجاب عن هذا أولا بما قاله ابن حجر: قوله من إبل الصدقة، زعم بعضهم أنه غلط من سعيد بن عبيد لتصريح يحيى بن سعيد بقوله (من عنده) وجمع بعضهم بين الروايتين باحتمال أن يكون اشتراها من إبل الصدقة بمال دفعه من عنده أو المراد بقوله: من عنده أي بيت المال المرصد للمصالح وأطلق عليه صدقة باعتبار الانتفاع به مجانا لما في ذلك من قطع المنازعة وإصلاح ذات البين، وقد حمله بعضهم على ظاهره فحكى القاضي عياض عن بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المصالح العامة واستدل بهذا الحديث وغيره.
قلت: وتقدم شيء من ذلك في كتاب الزكاة في الكلام على حديث أبي لاس قال: «حملنا النبي -صلى الله عليه وسلم- على إبل من إبل الصدقة في الحج (4) » . وعلى هذا فالمراد بالعندية كونها تحت أمره وحكمه وللاحتراز من جعل ديته على اليهود أو غيرهم. قال القرطبي في المفهم: فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- على مقتضى كرمه وحسن سياسته وجلبا للمصلحة ودرءا للمفسدة على سبيل التأليف، ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق.
ورواية من قال: " من عنده " أصح من رواية من قال: " من إبل الصدقة " وقد قيل إنها غلط والأولى أن لا يغلط الراوي ما أمكن فيحتمل أوجها منها. فذكر ما تقدم وزاد أن يكون تسلف ذلك من إبل الصدقة ليدفعه من مال الفيء، أو أن أولياء القتيل كانوا مستحقين للصدقة فأعطاهم، أو أعطاهم ذلك من سهم المؤلفة استئلافا لهم واستجلابا لليهود. انتهى (5) .
ويجاب ثانيا عن رواية النسائي بأمرين: أحدهما من جهة السند، والثاني من جهة الدلالة.
أما من جهة السند: فإن النسائي -رحمه الله تعالى- ذكر هذه الترجمة " ذكر اختلاف الناقلين لخبر سهل فيه " وساق عدة روايات وقال بعد ذلك: " خالفهم عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - وذكر الحديث وقال في آخره: «فقسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ديته عليهم وأعانهم بنصفها (6) » .
وقال ابن القيم: قال النسائي: لا نعلم أحدا تابع عمرو بن شعيب على هذه الرواية.
__________
(1) صحيح البخاري الديات (6898) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4523) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .
(2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .
(3) سنن النسائي القسامة (4720) ، سنن ابن ماجه الديات (2678) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/221) .
(5) فتح الباري ج12 ص235.
(6) سنن النسائي ج8 ص12(4/93)
ويمكن أن يقال: إن عمرو بن شعيب انفرد بهذه الزيادة وهو مختلف في الاحتجاج به فتكون هذه الزيادة مردودة.
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنه سبق ما ذكر عن بعض العلماء كالإمام أحمد وابن المديني وغيرهما أنهم يحتجون به.
وبناء على أنه حجة فيقال من جهة دلالته: يمكن الجمع بينه وبين ما جاء دالا على أنه -صلى الله عليه وسلم- وداه من عنده. ووجه الجمع أن يقال: إن قول الراوي: " فقسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ديته عليهم " أي على اليهود؛ أي على تقدير أن يقروا بذلك؛ كأنه أرسل إلى يهود أن يقسم الدية عليهم ويعينهم بالنصف إن أقروا، فلما لم يقروا وداه من عنده (1) .
الوجه الرابع: أن الحديث مضطرب لوجود ذكر الحلف دون عدد الأيمان وعدد الحالفين في بعض الروايات ففي رواية البخاري " أتحلفون "؟ فذكر الحلف ولم يذكر عدد الأيمان ولا عدد الحالفين. وفي رواية البخاري «أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم (2) » ؟ " ففيها بيان عدد الأيمان.
ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن الروايات التي لم يذكر فيها عدد الأيمان وعدد الحالفين مجملة، والروايات التي جاء فيها عدد الحالفين وعدد الأيمان مفسرة لهذا الإجمال، وذلك أن القصة واحدة فيكون المفسر مبينا للمجمل فيحدد معناه. وبهذا تجتمع الروايات، وإذا أمكن الجمع وجب المصير إليه.
وأما بالإجماع: فقد سبق ما نقل عن السمرقندي وهو قوله: وإجماع الصحابة في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وقول خارجة بن زيد، فأجمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم ليقتلوه (3) .
قال ابن حجر وقد تمسك مالك بقول خارجة المذكور فأجمع أن القود إجماع (4) .
وقد تقدم ما نقله أبو الزناد عن خارجة من قوله: " قتلنا بالقسامة والصحابة متوافرون إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان " وسبقت مناقشته.
ويرد دعوى الإجماع في عهد عمر بن عبد العزيز ما نقل عن أنه كان لا يرى القسامة، ولهذا نصب أبا قلابة للناس ليعلن أبو قلابة رأيه في عدم مشروعية القسامة. ويرد على دعوى إجماع أهل المدينة: ما ذكره ابن حجر بقوله: " وسبق عمر بن عبد العزيز إلى إنكار القسامة سالم بن عبد الله بن عمر، فأخرج ابن المنذر عنه
__________
(1) شرح السيوطي لسنن النسائي ج8 ص13.
(2) صحيح البخاري الديات (6899) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/163) .
(3) الفتح جزء 12 ص 231.
(4) الفتح جزء 12 ص 232.(4/94)
أنه كان يقول: يا لقوم يحلفون على أمر لم يروه ولم يحضروه لو كان لي من أمر لعاقبتهم ولجعلتهم نكالا ولم أقبل لهم شهادة. وهذا يقدح في نقل إجماع أهل المدينة على القود بالقسامة فإن سالما من أجل فقهاء المدينة " (1) .
وأما الآثار فقد وردت آثار عن الخلفاء الأربعة وغيرهم تدل على مشروعية القسامة وبعضها لا يخلو من مقال.
* * *
__________
(1) . يرجع إلى نصب الراية ج4 ص393 وما بعدها والمحلى 11 \ 65.(4/95)
القائلون بعدم العمل بالقسامة
قال الأبي نقلا عن القاضي عياض: وأبطل الأخذ به - أي بهذا الركن فلم يثبت للقسامة حكما في الشرع - سالم بن عبد الله والحكم بن عيينة وسليمان بن يسار وقتادة وابن علية ومسلم بن خالد وأبو قلابة والمكيون وإليه نحا البخاري، واختلف قول مالك في الأخذ به في قتل الخطأ.
(ط) والشهير عنه إثباتها فيه وعنه أنه لا قسامة فيه (1) .
ونسبه البخاري إلى معاوية وعمر بن عبد العزيز وستأتي مناقشة ما نسبه إليهما.
* * *
__________
(1) إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم ج4 ص394.(4/95)
مستند القائلين بالعمل بالقسامة مع المناقشة
احتجوا بالسنة والاستصحاب والأثر:
أما السنة: فقال ابن حزم: نظرنا فيما يمكن أن يحتج به فوجدناه من طريق: نا طاهر نا ابن وهب عن ابن جريج عن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه(4/95)
وسلم- قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه (1) » . وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام (2) » وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك (3) » .
قالوا: فقد سوى الله تعالى على لسان نبيه -عليه الصلاة والسلام- بين تحريم الدماء والأموال وبين الدعوى في الدماء والأموال، وأبطل كل ذلك ولم يجعله إلا بالبينة واليمين على المدعى عليه فوجب أن يكون الحكم في كل ذلك سواء لا يفترق في شيء أصلا لا فيمن يحلف ولا في عدد يمين، ولا في إسقاط الغرامة إلا بالبينة ولا مزيد.
وهذا كله حق إلا أنهم تركوا ما لا يجوز تركه مما فرض الله تعالى على الناس إضافته إلى ما ذكروا؛ وهو أن الذي حكم بما ذكروا - وهو المرسل إلينا من الله تعالى - هو الذي حكم بالقسامة وفرق بين حكمها وبين سائر الدماء والأموال المدعاة، ولا يحل أخذ شيء من أحكامه وترك سائرها إذ كلها من عند الله تعالى، وكلها حق، وفرض الوقوف عنده والعمل به، وليس بعض أحكامه -عليه السلام- أولى بالطاعة من بعض، ومن خالف هذا فقد دخل تحت المعصية وتحت قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (4) ولا فرق بين من ترك حديث: «بينتك أو يمينه (5) » لحديث القسامة، وبين من ترك حديث القسامة لتلك الأحاديث (6) ومما يوضح جواب ابن حزم -رحمه الله- ما قاله الخطابي -رحمه الله- قال: هذا حكم خاص جاءت به السنة لا يقاس على سائر الأحكام وللشريعة أن تخص، كما لها أن تعم ولها أن تخالف بين سائر الأحكام المتشابهة في الصفة، كما لها أن توفق بينها ولها نظائر كثيرة في الأصول (7) .
وجاء معنى ذلك عن ابن المنذر (8) وابن حجر (9) .
وقد أورد ابن حزم -رحمه الله- اعتراضا على جوابه وأجاب عنه فقال: فإن قالوا: الدماء حدود ولا يمين في الحدود.
قيل لهم: ما هي الحدود؟ لأن الحدود ليست بموكولة إلى اختيار أحد إن شاء أقامها وإن شاء عطلها بل هي واجبة لله تعالى وحده، لا خيار فيها لأحد ولا حكم، وأما الدماء فهي موكولة إلى اختيار الولي إن شاء استقاد وإن شاء عفا، فبطل أن تكون من الحدود وصح أنها من حقوق الناس، وفسد قول من فرق بينهما وبين حقوق الناس من أموال وغيرها إلا حيث فرق الله تعالى ورسوله بين الدماء والحقوق وغيرها وليس ذلك إلا حيث القسامة فقط (10) .
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4552) ، صحيح مسلم الأقضية (1711) ، سنن الترمذي الأحكام (1342) ، سنن النسائي آداب القضاة (5425) ، سنن أبو داود الأقضية (3619) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2321) ، مسند أحمد بن حنبل (1/288) .
(2) صحيح البخاري الحج (1785) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن الترمذي الحج (856) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، موطأ مالك الحج (836) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (139) ، سنن الترمذي الأحكام (1340) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3245) ، مسند أحمد بن حنبل (4/317) .
(4) سورة البقرة الآية 85
(5) صحيح البخاري تفسير القرآن (4550) .
(6) المحلى ج11 ص77.
(7) معالم السنن ج6 ص315.
(8) الجامع لأحكام القرآن ج1 ص458.
(9) فتح الباري ج12 ص197.
(10) المحلى ج11 ص77.(4/96)
وقد أجاب شيخ الإسلام بأن القسامة من الحدود لا من الحقوق فقال: وهذه الأمور -أي أمثلة منها القسامة- من الحدود في المصالح العامة ليس من الحقوق الخاصة، وقال: فلولا القسامة في الدماء لأفضى إلى سفك الدماء، فيقتل الرجل عدوه خفية ولا يمكن لأولياء المقتول إقامة البينة، واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث باليمين (1) .
وقد أجاب ابن القيم رحمه الله بجواب آخر عن هذا الدليل فقال: وأما حديث ابن عباس: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه (2) » فهذا إنما يدل على أنه لا يعطى أحد بمجرد دعواه دم رجل ولا ماله، وأما في القسامة فلم يعط الأولياء فيها بمجرد دعواهم، بل البينة وهي ظهور اللوث وأيمان خمسين لا بمجرد الدعوى، وظهور اللوث وحلف خمسين يمين بمنزلة الشهادة أو أقوى، وقاعدة الشرع: أن اليمين تكون في جانب أقوى المتداعيين، ولهذا يقضى للمدعي بيمينه إذا أقام شاهدا واحدا لقوة جانبه بالشاهد فالقضاء بها في القسامة مع قوة جانب المدعين باللوث الظاهر أولى وأحرى (3) انتهى المقصود.
وقد بسط ابن القيم -رحمه الله تعالى- هذا الجواب في موضع آخر (4) .
وجواب ثالث عن مالك بن أنس -رحمه الله- قال: إنما فرق بين القسامة في الدم والأيمان في الحقوق أن الرجل إذا أراد قتل الرجل لم يقتله في جماعة من الناس، وإنما يلتمس الخلوة، قال فلو لم تكن القسامة إلا فيما ثبت فيه البينة وعمل فيها كما يعمل في الحقوق هلكت الدماء واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها، ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدءون بها ليكف الناس عن القتل وليحذر القاتل أن يؤخذ في مثل ذلك (5) .
أما الاستصحاب فقال ابن رشد: وعمدة الفريق النافي لوجوب الحكم بها أن القسامة مخالفة لأصول الشرع المجمع على صحتها، فمنها: أن الأصل في الشرع ألا يحلف أحد إلا على ما علم قطعا أو شاهد حسا، وإذا كان ذلك كذلك فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القتل بل قد يكونون في بلد والقتل في بلد آخر. ولذلك روى البخاري عن أبي قلابة أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس ثم أذن لهم فدخلوا عليه.
فقال: ما تقولون في القسامة؟
فأضب القوم وقالوا: نقول: القسامة القود بها حق قد أقاد بها الخلفاء.
__________
(1) الفتاوى المصرية ج4 ص291.
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4552) ، صحيح مسلم الأقضية (1711) ، سنن الترمذي الأحكام (1342) ، سنن النسائي آداب القضاة (5425) ، سنن أبو داود الأقضية (3619) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2321) ، مسند أحمد بن حنبل (1/288) .
(3) تهذيب سنن أبي داود ج6 ص 325 - 326.
(4) إعلام الموقعين ج2 ص331 - 332.
(5) الموطأ على المنتقى للباجي ج7 ص61.(4/97)
فقال: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبني للناس. فقلت: يا أمير المؤمنين عندك أشراف العرب ورؤساء الأجناد، أرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا على رجل أنه زنى بدمشق ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا.
قلت: أفرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا عندك على رجل أنه سرق بحمص ولم يروه أكنت تقطعه؟
قال: لا، وفي بعض الروايات قلت: فما بالهم إذا شهدوا أنه قتله بأرض كذا وهم عندك أخذت بشهادتهم؟ قال: فكتب عمر بن عبد العزيز في القسامة: أنهم إذا أقاموا شاهدي عدل أن فلانا قتله، ولا يقتل بشهادة الخمسين الذين أقسموا. قالوا: ومنها أن الأصول أن الأيمان ليس لها تأثير في إشاطة الدماء. ومنها أن من الأصول أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر (1) .
والجواب عن هذا الدليل من وجوه:
أحدها: بأن التعليق في عدم اعتبار القسامة بأنها من قبيل الحلف على ما لا يعلمه الحالف وهو غير مشروع قد أجيب عنه بما يلي:
قال الإمام الشافعي: " واحتج -أي القائل بهذا - بأن قال أحلفتهم على ما لا يعلمون؟ قلت: فقد يعلمون بظاهر الأخبار ممن يصدقون ولا تقبل شهادتهم، وإقرار القاتل عندهم بلا بينة ولا يحكم بادعائهم عليه الإقرار وغير ذلك، قال: العلم ما رأوا بأعينهم أو سمعوا بآذانهم قلت: ولا علم ثالث؟ قال: لا، قلت فإذا اشترى ابن خمس عشرة سنة عبدا ولد بالمشرق منذ خمسين ومائة سنة ثم باعه فادعى على الذي ابتاعه أنه كان آبقا فكيف تحلفه؟ قال: على البينة، قلت: يقول لك: تظلمني؛ فإن هذا ولد قبلي وببلد غير بلدي وتحلفني على البينة وأنت تعلم أني لا أحيط بأن لم يأبق قط علما، قال: يسأل، قلت: يقول لك فأنت تحلفني على ما تعلم أني لا أبر فيه. قال: وإذ سئلت فقد وسعك أن يحلف، قلت: أفرجل قتل أبوه فغبي من ساعته فسأل أولى أن يعلم؟ قال: نعم؛ قال بعض من حضره بل من قتل أبوه، فقلت فقد عبت يمينه على القسامة ونحن لا نأمره أن يحلف إلا بعد العلم، والعلم يمكنه والقسامة سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقلت برأيك يحلف على العبد الذي وصفت ". اهـ (2) .
وقال الشافعي أيضا: وإذا وجبت القسامة فلأهل القتيل أن يقسموا وإن كانوا غيبا عن موضع القتيل لأنه قد يمكن أن يعلموا باعتراف القتيل أو بينة تقوم عندهم لا يقبل الحاكم منهم ومن غيرهم غير ذلك من وجوه العلم التي لا تكون شهادة بقطع، وينبغي للحاكم أن يقول: اتقوا الله ولا تحلفوا إلا بعد الاستثبات ويقبل أيمانهم متى حلفوا. اهـ (3) .
__________
(1) بداية المجتهد ج2 ص427 - 428.
(2) اختلاف الحديث بهامش ج7 من الأم ص356 - 357 وفي مختصر المزني ص149 بهامش الأم ج5 هذا الجواب بإيجاز.
(3) الأم ج6 ص79.(4/98)
قال ابن قدامة: (قال القاضي: يجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله وإن كانوا غائبين عن مكان القتل لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للأنصار: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم (1) » وكانوا بالمدينة والقتل بخيبر. ولأن الإنسان يحلف على غالب ظنه كما أن من اشترى من إنسان شيئا فجاء آخر يدعيه جاز أن يحلف أنه لا يستحقه؛ لأن الظاهر أنه ملك الذي باعه، وكذلك إذا وجد شيئا بخطه أو خط أبيه ودفتره جاز له أن يحلف، وكذلك إذا باع شيئا لم يعلم فيه عيبا فادعى عليه المشتري أنه معيب وأراد رده كان له أن يحلف أنه باعه بريئا من العيب، ولا ينبغي أن يحلف المدعي إلا بعد الاستثبات وغلبة الظن (2) .
ويمكن أن يقال: لا يلزم أن تكون اليمين على اليقين مطلقا، وتقرير ذلك أن شريعة الإسلام تبنى أحكامها على الظاهر لا على الباطن، وعلى الظن لا على اليقين، وهذا جار في أسانيد الأدلة ودلالاتها وبقائها، وفي الجزئيات التطبيقية في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فأخبار الآحاد ظنية الثبوت، ودلالة العموم على جميع أفراده مع احتمال مخصص، ودلالة المطلق على بعض ما يتناوله مع احتمال مقيد، ودلالة النص على مقتضاه مع احتمال ناسخ، ودلالة الظاهر على معناه مع احتمال دليل صارف له عن ظاهره إلى التأويل. هذه الأمور كلها ظنية ومع ذلك يعمل بها، ولو ترك العمل بهذا الباب فقيل: لا يعمل إلا باليقينيات لتعطل كثير من مواضع تطبيق الشريعة.
وأما من الناحية التطبيقية في حياته -صلى الله عليه وسلم- فمن ذلك قضية اللعان؛ فبعدما انتهى المتلاعنان قال -صلى الله عليه وسلم- «الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب، ثلاثا (3) » فهو -صلى الله عليه وسلم- قضى بمقتضى اللعان مع أن أحدهما كاذب يقينا، وهذا الاحتمال لم يمنع النبي -صلى الله عليه وسلم- من إجراء الحكم على الظاهر.
ويمكن أن يقال أيضا: إذا حلف أنه لم يقتل ولا يعلم قاتلا فهذا يقين في الظاهر من الجهتين فإن قوله: "لم يقتله" هذا نفي لصدور القتل منه وقوله: " ولا يعلم له قاتلا " هذا نفي لعلمه بالقاتل، ومورد النفي في الصورتين مختلف لكن كل منهما يقين في الظاهر بحسبه، وتحقق مطابقة الظاهر للباطن لا يتوقف عليه ربط الحكم الشرعي بالظاهر وإن كان مخالفا للباطن.
ثانيها: روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال: إني أريد أن أدع القسامة؛ يأتي رجل من أرض كذا وآخر من أرض كذا وكذا فيحلفون، قال: فقلت له: ليس ذلك لك قضى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء بعده وإنك إن تتركها أوشك الرجل أن يقتل عند بابك فيطل دمه فإن للناس في القسامة حياة (4) .
ثالثها: يمكن أن يقال إن قصة أبي قلابة أكثر ما يقال فيها: إنها أثر تابعي فهل يصح أن يكون معارضا لقول معصوم؟ كلا. فلا عبرة بقول من دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع قوله -صلى الله عليه وسلم-.
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي كتاب القسامة (4710) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(2) المغني ج8 ص91 - 94.
(3) صحيح البخاري تفسير القرآن (4747) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3179) ، سنن أبو داود الطلاق (2256) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2067) .
(4) المصنف ج10 ص39.(4/99)
رابعها: ويمكن أن يقال إن قولهم " الأيمان ليس لها تأثير في إشاطة الدماء " غير صحيح؛ لأن المشرع هو الله جل وعلا في كتابه وعلى لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطرق الإثبات في الشريعة كثيرة متنوعة وكل طريق منها أصل بنفسه، والمشرع هو الذي جعله أصلا، فلا يصح أن تعارض هذه الأصول بعضها ببعض بل كل أصل منها يعمل في موضعه، ومن ذلك القسامة؛ الثابتة في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته (1) » وفي رواية مسلم " فيسلم إليكم".
خامسها: قولهم البينة على المدعي واليمين على من أنكر قد سبق الجواب عنه في معرض الإجابة عن الدليل الأول من أدلة القائلين بعدم العمل بالقسامة.
قال المانعون من العمل بالقسامة: ومما يؤيد دليل الاستصحاب أن ما ورد من الأحاديث في الحكم بالقسامة ليس نصا في ذلك، بل هي محتملة يتطرق إليها التأويل، فلم تنهض لمقاومة الاستصحاب، فوجب تأويلها لتتفق مع الأصول الأخرى.
قال ابن رشد: ومن حجتهم أنهم لم يروا في تلك الأحاديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حكم بالقسامة، وإنما كانت حكما جاهليا، فتلطف لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها على أصول الإسلام.
ولذلك قال لهم: " أتحلفون خمسين يمينا " أعني لولاة الدم، وهم الأنصار، قالوا: كيف نحلف ولم نشاهد؟ قال: " فيحلف لكم اليهود " قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟
قالوا: فلو كانت السنة أن يحلفوا وإن لم يشاهدوا لقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي السنة.
قالوا: وإذا كانت هذه الآثار غير نص في القضاء بالقسامة، والتأويل يتطرق إليها فصرفها بالتأويل إلى الأصول أولى (2) .
* * *
وأما الأثر فمن ذلك:
ما قال البخاري في صحيحه، قال ابن أبي مليكة: لم يقد بها معاوية.
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4713) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(2) بداية المجتهد ج2 ص420.(4/100)
قال ابن حجر: وقد وصله حماد بن سلمة في مصنفه ومن طريقه ابن المنذر، قال حماد عن ابن أبي مليكة: سألني عمر بن عبد العزيز عن القسامة فأخبرته أن عبد الله بن الزبير أقاد بها، وأن معاوية يعني ابن أبي سفيان لم يقد بها، وهذا سند صحيح.
واعترض عليه بما نسبه ابن حجر إلى ابن بطال قال: وقد توقف ابن بطال في ثبوته فقال: قد صح عن معاوية أنه أقاد بها، ذكر ذلك عنه أبو الزناد في احتجاجه على أهل العراق، قلت -القائل ابن حجر -: هو في صحيفة عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، ومن طريقه أخرجه البيهقي قال: " حدثني خارجة بن زيد بن ثابت قال: قتل رجل من الأنصار رجلا من بني العجلان ولم يكن على ذلك بينة ولا لطخ، فأجمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم فيقتلوه، فركبت إلى معاوية في ذلك فكتب إلى سعيد بن العاص: إن كان ما ذكره حقا فافعل ما ذكروه، فدفعت الكتاب إلى سعيد فأحلفنا خمسين يمينا ثم أسلمه إلينا ".
وقد أجاب ابن حجر عن هذا الاعتراض بثلاثة أجوبة ذكرها بقوله: ويمكن الجمع بأن معاوية لم يقد بها لما وقعت له وكان الحكم في ذلك، ولما وقعت لغيره وكل الأمر في ذلك إليه ونسب إليه أنه أقاد بها لكونه أذن في ذلك " ويحتمل أن يكون معاوية كان يرى القود بها ثم رجع عن ذلك، أو بالعكس (1) .
وقد أخرج الكرابيسي في أدب القضاء بسند صحيح عن الزهري عن سعيد بن المسيب قصة أخرى قضى فيها معاوية بالقسامة لكن لم يصرح فيها بالقتل.
ويمكن أن يجاب عن هذا الأثر بالأجوبة السابقة.
وقال البخاري في صحيحه: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة - وكان أمره على البصرة - في قتيل وجد عند بيت من بيوت السمانين: إن وجد أصحابه بينة وإلا فلا تظلم الناس، فإن هذا لا يقضى به إلى يوم القيامة.
قال ابن حجر: وصله سعيد بن منصور حدثنا هشام حدثنا حميد الطويل قال: كتب عدي بن أرطأة إلى عمر بن عبد العزيز، وذكر الأثر، وأخرج ابن المنذر من وجه آخر عن حميد قال: وجد قتيل بين قشير وعائش فكتب فيه عدي بن أرطأة إلى عمر بن عبد العزيز فذكر نحوه، وهذا صحيح. وقد اعترض على هذا الأثر بقول ابن حجر: وقد اختلف على عمر بن عبد العزيز في القود بالقسامة، كما اختلف على معاوية، فذكر ابن بطال أن في مصنف حماد بن سلمة عن ابن أبي مليكة أن عمر بن عبد العزيز أقاد بالقسامة في إمرته على المدينة (2) .
وقد أجاب ابن حجر عن هذا الاعتراض بقوله: ويجمع بأنه كان يرى ذلك لما كان أميرا على المدينة، ثم رجع لما ولي الخلافة، ولعل سبب ذلك ما سيأتي في آخر الباب من قصة أبي قلابة حيث احتج على عدم القود بها فكأنه وافقه على ذلك (3) .
__________
(1) فتح الباري ج12 ص231 - 232.
(2) الفتح ج12 ص232.
(3) الفتح ج12 ص232.(4/101)
والقصة التي أشار إليها ابن حجر هي ما رواها البخاري في الصحيح من حديث أبي قلابة الطويل، وفيه: قال لي: ما تقول يا أبا قلابة؟ أي في القسامة - ونصبني للناس- فقلت يا أمير المؤمنين: عندك رؤوس الأجناد وأشراف العرب، أرأيت لو أن خمسين شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا.
قلت: أفرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق ولم يروه أكنت تقطعه ولم يروه؟ قال: لا.
قلت: فوالله ما قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدا قط إلا في إحدى ثلاث خصال: رجل قتل بجريرة نفسه فقتل، أو رجل زنى بعد إحصان، أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام (1) .
ومما يدل على أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كان يرى العمل بها ثم رجع: ما أخرجه ابن المنذر من طريق الزهري، قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: إني أريد أن أدع العمل بالقسامة، يأتي رجل من أرض كذا وآخر من أرض كذا فيحلفون على ما لا يرون، فقلت: إنك إن تتركها يوشك أن الرجل يقتل عند بابك فيطل دمه، وإن للناس في القسامة لحياة (2) .
هذا وقد ذكر ابن حزم -رحمه الله- مجموعة من الآثار الدالة على أنه لا يقاد بالقسامة ولا يحكم بها وناقشها، وقد تركنا ذكرها اختصارا واكتفاء بما سبق من الأدلة.
__________
(1) الفتح ج12 ص230.
(2) الفتح ج12 ص232 - المحلى ج11 ص65 - 70.(4/102)
الثالث - ضابط اللوث وبيان صوره واختلاف العلماء فيها
ومنشأ ذلك مع المناقشة
1 - ضابط اللوث في اللغة وعند الفقهاء
أ- ضابط اللوث في اللغة
قال الفيروزآبادي: اللوث: القوة، وعصب العمامة، والشر، واللوذ، والجراحات، والمطالبات بالأحقاد، وشبه الدلالة. . . واللوث بالضم: الاسترخاء، والضعف، والالتياث: الاختلاف، والالتفاف، والإبطاء، والقوة. . . والتلويث: التلطيخ، والخلط، والمرس (1) .
قال الرملي: لوث - بمثلثة - من اللوث بمعنى القوة، لقوة تحويله اليمين لجانب المدعي، أو الضعف؛ لأن الأيمان حجة ضعيفة (2) .
__________
(1) القاموس المحيط ج1 ص173 - 174 وجاء ما يوافق ذلك في لسان العرب ج2 ص185 - 186. .
(2) نهاية المحتاج شرح المنهاج ج7 ص379.(4/102)
ب- ضابط اللوث عند الفقهاء
1 - قال أحمد الشلبي: وسببها وجود قتيل لا يدرى قاتله في محلة أو دار أو موضع يقرب إلى القرية بحيث يسمع الصوت منه (1) 2 - وقال الأبي: واللوث هي القرائن الظاهرة الدالة على قتل القاتل 3 - وقال النووي والرملي: واللوث: قرينة حالية أو مقالية مؤبدة تصدق المدعي بأن توقع في القلب صدقه في دعواه، ولا بد من ثبوت هذه القرينة (2) .
4 - أما عند الحنابلة ففي ضابطه روايتان: الأولى: قال ابن قدامة: هو العداوة الظاهرة وعنه أنه يغلب على الظن صحة الدعوى به (3)
* * *
__________
(1) حاشية تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ج6 ص169 وهذا المعنى يوجد في بدائع الصنائع ج7 ص286. .
(2) المنهاج وشرحه نهاية المحتاج ج7 ص389. .
(3) المقنع ص432 - 433. .(4/103)
بيان صوره واختلاف العلماء فيها
نذكر فيما يلي مجمل صور مما نص عليه المالكية والشافعي -رحمه الله- والحنابلة، ثم نتبعها بالكلام على كل صورة في حدود ما تيسر الاطلاع عليه.
مجمل الصور
1 - قال ابن جزي: وشهادة الشاهد العدل على القتل لوث، واختلف في شهادة غير العدل وفي شهادة الجماعة إذا لم يكونوا عدولا، وفي شهادة النساء والعبيد(4/103)
وشهادة العدلين على الجرح لوث، إذا عاش المجروح بعد الجرح وأكل وشرب. واختلف في شهادة عدل واحد على إقرار القاتل هل يقسم بذلك أم لا؟ ومن اللوث أن يوجد رجل بقرب المقتول ومعه سيف، أو شيء من آلة القتل، أو متلطخا بالدم، ومن اللوث أن يحصل المقتول في دار مع قوم فيقتل بينهم، أو يكون في محلة قوم أعداء له، ومن اللوث عند مالك وأصحابه التدمية في العمد، وهو قول المقتول: فلان قتلني أو دمي عند فلان، سواء كان المدمي عدلا أو مسخوطا، ووافقه الليث بن سعد في القسامة بالتدمية، وخالفها سائر العلماء، واختلف في المذهب في كون التدمية في الخطأ لوثا على قولين (1) .
وقال الباجي: وذكر أبو محمد في معونته قسما سادسا في فئتين اقتتلتا فوجد بينهما قتيل فيها روايتان (2) وساقهما، وذكر وجه كل منهما، وسيأتي ذلك في موضعه.
وقتيل الزحام نقله الأبي كما سيأتي.
2 - وقال الشافعي -رحمه الله تعالى- بعد سياقه لقصة قتل عبد الله بن سهل، قال: فإذا كان مثل هذا السبب الذي حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه بالقسامة حكمنا بها، وجعلنا فيها الدية على المدعى عليهم، فإذا لم يكن مثل ذلك السبب لم نحكم بها.
فإن قال قائل: وما مثل السبب الذي حكم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟
قيل: كانت خيبر دار يهود التي قتل فيها عبد الله بن سهل - محضة لا يخلطهم غيرهم، وكانت العداوة بين الأنصار واليهود ظاهرة، وخرج عبد الله بن سهل بعد العصر، ووجد قتيلا قبل الليل، فكاد أن يغلب على من علم هذا أنه لم يقتله إلا بعض يهود، وإذا كانت دار قوم مجتمعة لا يخلطهم غيرهم، وكانوا أعداء للمقتول، أو قبيلته، ووجد القتيل فيهم فادعى أولياؤه قتله فيهم فلهم القسامة، وكذلك إذا كان مثل هذا المعنى مما يطلب على الحاكم أنه كما يدعي المدعي على جماعة أو واحد، وذلك مثل أن يدخل نفر بيتا فلا يخرجون منه إلا وبينهم قتيل، وكذلك إن كانوا في دار وحدهم أو في صحراء وحدهم لأن الأغلب أنهم قتلوه، أو بعضهم، وكذلك أن يوجد قتيل بصحراء أو ناحية ليس إلى جنبه عين ولا أثر إلا رجل واحد مختضب بدمه في مقامه ذلك، أو يوجد قتيل فتأتي بينة متفرقة من المسلمين من نواح لم يجتمعوا فيثبت كل واحد منهم على الانفراد على رجل أنه قتله، فتتواطأ شهادتهم، ولم يسمع بعضهم شهادة بعض، وإن لم يكونوا ممن يعدل في الشهادة، أو يشهد شاهد عدل على رجل أنه قتله؛ لأن كل سبب من هذا يغلب على عقل الحاكم أنه كما ادعى ولي الدم، أو شهد من وصفت وادعى ولي الدم. ولهم إذا كان ما يوجب القسامة على أهل البيت أو القرية أو الجماعة أن يحلفوا على واحد منهم أو أكثر، فإذا أمكن في المدعى عليه أن يكون في جملة القتلة جاز أن يقسم عليه وحده وعلى غيره ممن أمكن أن يكون في جملتهم معه دعوى، وإذا لم يكن معه ما وصفت لا يجب بها القسامة.
__________
(1) قوانين الأحكام الفقهية ص378. .
(2) المنتقى ج7 ص56.(4/104)
وكذلك لا تجب القسامة في أن يوجد قتيل في قرية يختلط بهم غيرهم، أو يمر به المارة إذا أمكن أن يقتله بعض من يمر ويلقيه (1) .
وقال المزني زيادة عما تقدم نقله عن الشافعي قال: أو صفين في حرب أو ازدحام جماعة (2) وقال موسى الحجاوي في الكلام على شروط القسامة: الثاني اللوث ولو في الخطأ وشبه العمد، واللوث: العداوة الظاهرة؛ كنحو ما كان بين الأنصار وأهل خيبر، وكما بين القبائل التي يطلب بعضها بعضا بثأر، وما بين أحياء العرب وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب، وما بين البغاة وأهل العدل، وما بين الشرط واللصوص، وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن قتله. إلى أن قال: ويغلب في اللوث لو حصل عداوة بين سيد عبد وعصبته، فلو وجد قتيل في صحراء وليس معه غير عبده كان ذلك لوثا في حق العبد، ولورثة سيده القسامة، فإن لم تكن عداوة ظاهرة ولكن غلب على الظن صدق المدعي كتفرق جماعة عن قتيل، أو كان عصبته من غير عداوة ظاهرة، أو وجد قتيلا عند من معه سيف ملطخ بدم، أو في زحام، أو شهادة جماعة ممن لا يثبت القتل بشهادتهم كالنساء والصبيان والفساق، أو عدل واحد وفسقه، أو تفرق فئتان عن قتيل، أو شهد رجلان على رجل أنه قتل أحد هذين القتيلين، أو شهد أن هذا القتيل قتله أحد هذين، أو شهد أحدهما أن إنسانا قتله، والآخر أنه أقر بقتله، أو شهد أحدهما أنه قتله بسيف والآخر بسكين، ونحو ذلك فليس بلوث، ولا يشترط مع العداوة ألا يكون في الموضع الذي به القتل غير العدد، ولا أن يكون بالقتيل أثر القتل كدم في أذنه أو أنفه، وقول القتيل: قتلني فلان ليس بلوث، ومتى ادعى القتل عمدا أو غيره، أو وجد قتيل في موضع فادعى أولياؤه على قاتل مع عدم اللوث حلف المدعى عليه يمينا واحدا وبرئ، وإن نكل لم يقض عليه بالقود بل الدية. (3) وقال ابن قدامة -بعد ذكر الرواية الأولى-: وعنه أنه ما يغلب على الظن صحة الدعوى به كتفرق جماعة عن قتيل، ووجود قتيل عند من معه سيف ولطخ بدم، وشهادة جماعة ممن لا يثبت القتل بشهادتهم كالنساء والصبيان ونحو ذلك (4)
* * *
__________
(1) الأم ج6 ص78 - 79. .
(2) مختصر المزني بهامش الأم ج6 ص147. .
(3) متن الإقناع ج4 ص238 - 240. .
(4) المقنع ج3 ص 434 - 435.(4/105)
بيان صوره مفصلة واختلاف العلماء فيها مع المناقشة
الصورة الأولى: التدمية
قال الأبي " ع": وصور الشبهة سبعة
الأولى: قول الميت: دمي عند فلان، أو هو قتلني، أو جرحني، أو ضربني، وإن لم يظهر أثر ولا جرح، أثبت مالك القسامة بذلك وقال: وعليه إجماع الأئمة في القديم والحديث، وشرط بعض أصحابنا ظهور الأثر والجرح، وإلا لم تكن قسامة، وخالف مالكا في ذلك سائر فقهاء الأمصار، ولم يوافقه عليه إلا الليث، وروي عن عبد الملك بن مروان.
واحتج أصحابنا لذلك بأن القتل حال تطلب فيه الغيلة والاستتار، والمرء عند آخر عهده بالدنيا يتحرى الصدق ويرد المظالم، ويتزود من البر.
واحتج مالك بقضية البقرة في قوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} (1) الآية فأحيي الرجل وأخبر بمن قتله، إلى أن قال:
قلت: ألغى القسامة بذلك ابن عبد الحكم، ومن الأندلسيين عبد الرحمن بن بقي، وعبيد الله بن يحيى، وقيل إن ادعاه على من لا يليق به لفضله وصلاحه ألغيت تدميته، وإلا أعملت، فالأقوال في المذهب ثلاثة، ثالثها: الفرق المذكور.
ابن عبد السلام: وإنما خالف مالكا والليث سائر الفقهاء؛ لأن فيه قبول الدعوة دون بينة، وقد علم أن الأموال أضعف حرمة من الدماء، ومع ذلك لم تقبل فيها الدعوى، فكيف تقبل دعوى القتل بهذه الحجة الضعيفة؟
فإن قلت: قيل كما يحتاط للدماء أن تراق فكذلك يحتاط لها أن تضيع.
قلت: شتان ما بين الاحتياطين، الثاني دم فات، وهذا دم يراق، إلا أنه كما قال بعض المفتين: لأن يقال ألم تقتله؟ أحب إلي من أن يقال: لما قتلته؟
فإن قلت: أفتى مالك بحضرة أصحابه بقتل رجل فلما ذهب به ليقتل جعل مالك يتطاول بعنقه وقد اصفر لونه، ثم قال لأصحابه: لا تظنوا أني ندمت في فتياي، ولكني خفت أن يذهب من أيديهم فتضيع حدود الله.
__________
(1) سورة البقرة الآية 73(4/106)
قلت: هذا مسلم؛ لأنه في قصاص ثبت، والقائل بإعمال التدمية - وإن لم يظهر أثر - أصبغ، وهو ظاهر إطلاق الروايات، والقائل بإلغائها حتى يظهر الأثر ابن كنانة، واختاره اللخمي وابن رشد، وبه العمل.
قال اللخمي: إلا أن يعلم أنه قد كان بينهما قتال، ويلزم الفراش عقب ذلك، أو كان يتصرف تصرف مشتك عليه دليل المرض، وتمادى به ذلك حتى هلك.
وباختيار اللخمي هذا أفتيت في نازلة (وقعت من سنة خمس عشرة وثمانمائة أرسل بها إلى الخليفة المعظم أبو فارس عبد العزيز ابن الخليفة المرحوم أبي العباس أحمد الحفصي فأمر أن نفتي فيها بما ظهر لي صوابه) .
والنازلة: هي أنه وقعت هوشة بين جماعتي مارغنة (بالراء والغين المعجمة) ومزاتة (بالزاي والتاء المثناة من فوق) وانكشف الجميع عن جرحى من الفريقين، فبعد أيام جاء رجل من مزاتة إلى العدول بسوسة وادعى على جماعة مارغنة وليس به جرح ولا أثر ضرب، حسبما ضمن ذلك شهود الرسم، ثم مات من الغد ونص فتياي: (الحمد لله، إذا لزم المدمى الفراش عقب الهوشة، أو كان يتصرف مشتك عليه دليل المرض ودام به ذلك حتى مات، وكان أعيان المارغنيين المدعى عليهم معروفة، ولم تكن فئة المدمي هي المبتدئة والأخرى دافعة، فالتدمية صحيحة، وإن لم يكن بالمدمي جرح ولا أثر ضرب، ويستحقون قتل واحد أو يقبلون الدية، إلا أن يكون الميت أوصى أن يقبل فيه الدية، فليس إلا الدية، هذا اختيار اللخمي في المسألة، وليس ببعيد من الصواب. والله أعلم.
وليس من التدمية البيضاء؛ لأن البيضاء هي التي ليس فيها سبب حتى يستند إليه قول المدمى، وليس فيها إلا قول المدمى: دمي عند فلان، كقضية اللؤلؤي، فإذا لم تكن من التدمية البيضاء فلترجع لتدمية قتل الصفين.
ولا يعترض على هذا بأنه قال في المدونة: ولا قسامة في قتيل الصفين؛ لأن معناها عند الأكثر إذا كان ذلك بدعوى الأولياء، وأما بقول القتيل فإنه يقسم معه، وسئل عنها المعين للفتيا في التاريخ؟ فأجاب بأنها من التدمية البيضاء التي جرى العمل على إلغائها، وإليك الترجيح بين الجوابين. والله أعلم بالصواب.
واختلف إذا قال الميت: دمي عند فلان خطأ، فلمالك في المدونة: يقسم على قوله، وفي الموازية لا يقسم لتهمة أنه أراد غنى ورثته، وفي المدونة: وإن ادعى الورثة خلاف دعوى الميت من عمد أو خطأ فليس لهم أن يقسموا إلا على قوله، ولم أسمعه من مالك، وفي الموازية: وإن ادعوا خلاف قول الميت فلا قسامة لهم، وليس لهم أن يرجعوا إلى قول الميت، وفي المدونة أيضا إذا قال: دمي عند فلان ولم يذكر عمدا أو خطأ، فما ادعاه ولاة الدم من عمد أو خطأ أقسموا عليه واستحقوا عليه، واستحقوه.
ابن الحارث وفي المجالس عن ابن القاسم: أحسن من هذا أن قوله باطل، وفي المدونة أيضا: قال بعضهم عمدا وقال بعضهم خطأ، فإن حلفوا كلهم استحقوا دية الخطأ بينهم، وبطل الدم، فإن نكل مدعي الخطأ فليس لمدعي العمد أن يقسموا، ولا دم ولا دية.
واختلف في تدمية الزوجة، فظاهر المذهب أنها كالأجنبية، وذكر ابن عات عن ابن حزين أنه قال: لا قود على الزوج إلا أن يتعمد، واحتج بأن الله أذن له في ضرب الأدب في قوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} (1) قال: فالذي
__________
(1) سورة النساء الآية 34(4/107)
يريد أن يدمي فيه أصله الجواز، ولا تقام الحدود إلا بأمرين، لحديث: «ادرءوا الحدود بالشبهات (1) » وكذلك معلمو الصبيان يضرب أحدهم فيما يجوز له، فيتعدى طرف الشراك أو عود الدرة فيفقأ العين، وإنما عليه العقل، إلا أن يتعمد، وكذلك على الزوج، قال: وهذا الذي تعلمناه من شيوخنا (2) وقال الباجي: فأما قول القتيل: دمي عند فلان، فهو عند مالك في الجملة لوث يوجب القسامة، خلافا لأبي حنيفة والشافعي.
وقد استدل أصحابنا في ذكره بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (3) الآية.
ففي المجموعة والموازية قال مالك: وما ذكره الله سبحانه وتعالى من شأن البقرة التي ضرب القتيل بلحمها فحيي فأخبر عمن قتله دليل على أنه سمع من قول الميت.
فإن قيل: إن ذلك آية، قيل: إنما الآية في إحيائه، فإذا صار حيا لم يكن كلامه آية، وقد قبل قوله فيه، وهذا مبني على أن شريعة من قبلنا شرع لنا، إلا ما ثبت نسخه (4) .
وقال ابن العربي: فإن قيل: فإن ما قتله موسى -صلى الله عليه وسلم- بالآية قلنا: ليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه، فلعله أمرهم بالقسامة معه، أو صدقه جبريل فقتله موسى بعلمه، كما قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- الحارث بن سويد بن زياد بإخبار جبريل -عليه السلام- له بذلك (5) انتهى المقصود.
وقال الباجي أيضا: واستدل أصحابنا على ذلك بما روى هشام بن زيد عن أنس أن «يهوديا قتل جارية على أوضاح لها، فقتلها بحجر، فجيء بها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وبها رمق، فقال: " أقتلك فلان "؟ فأشارت برأسها أن لا، ثم قال الثانية، فأشارت برأسها أن نعم، (6) » وهذا الحديث رواه قتادة عن أنس، فزاد فيه: «فأتى به النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يزل به حتى أقر، فرض رأسه بالحجارة (7) » . أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم وغيرهما على اختلاف في الروايات مع الاتفاق على أصل القصة.
وجه الدلالة: قال المازري استدل به -أي بحديث الجارية المذكور- بعضهم - أي بعض المالكية - على التدمية؛ لأنها لو لم تعتبر لم يكن لسؤال الجارية فائدة، قال: ولا يصح اعتباره مجردا؛ لأنه خلاف الإجماع، فلم يبق إلا أنه يفيد القسامة.
وقال النووي: ذهب مالك إلى ثبوت قتل المتهم بمجرد قول المجروح، واستدل بهذا الحديث، ولا دلالة فيه، بل هو قول باطل؛ لأن اليهودي اعترف، كما وقع التصريح به في بعض طرقه.
__________
(1) سنن الترمذي الحدود (1424) .
(2) إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم ج4 ص396 - 399.
(3) سورة البقرة الآية 67
(4) المنتقى على الموطأ ج7 ص56. .
(5) أحكام القرآن الجزء الأول تفسير قوله تعالى (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) .
(6) صحيح البخاري الديات (6879) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1672) ، سنن الترمذي كتاب الديات (1394) ، سنن النسائي القسامة (4740) ، سنن أبو داود الديات (4528) ، سنن ابن ماجه الديات (2666) ، مسند أحمد بن حنبل (3/171) ، سنن الدارمي الديات (2355) .
(7) المنتقى على الموطأ ج7 ص56. .(4/108)
ونازعه بعض المالكية فقال: لم يقل مالك ولا أحد من أهل مذهبه بثبوت القتل على المتهم بمجرد قول المجروح، وإنما قالوا: إن قول المحتضر عند موته فلان قتلني لوث يوجب القسامة، فيقسم اثنان فصاعدا من عصبته بشرط الذكورية، وقد وافق بعض المالكية الجمهور، واحتج من قال بالتدمية أن دعوى من وصل إلى تلك الحالة وهي وقت خلاصه وتوبته عند معاينة مفارقة الدنيا يدل على أنه لا يقول إلا حقا، قالوا: وهي أقوى من قول الشافعية: إن الولي يقسم إذا وجد قرب وليه المقتول رجلا معه سكين، لجواز أن يكون القاتل غير من معه السكين، انتهى بواسطة ابن حجر (1) .
وقد ناقش ابن حزم الاستدلال بهذا الحديث أيضا فقال: قال أبو محمد -رحمه الله-: وهذا لا حجة لهم فيه؛ لأن هذا خبر رويناه بالسند المذكور إلى مسلم نا عبد بن حميد، نا عبد الرزاق، نا معمر، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أنس «أن رجلا من اليهود قتل جارية من الأنصار على حلي لها، ثم ألقاها في قليب، ورضخ رأسها بالحجارة وأخذ، فأتي به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر به أن يرجم حتى يموت، (2) » وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة، وأبان بن يزيد العطار، كلاهما عن قتادة، عن أنس.
فإن قالوا: إن شعبة زاد ذكر دعوى المقتول في هذه القصة، وزيادة العدل مقبولة.
قلنا: صدقتم، وقد زاد همام بن يحيى عن قتادة، عن أنس في هذا الخبر زيادة لا يحل تركها، كما روينا من طريق مسلم نا هداب بن خالد، نا همام، عن قتادة، عن أنس «أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين فسألوها من صنع هذا بك؟ فلان، فلان، حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها فأخذ اليهودي، فأقر، فأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرض رأسه بالحجارة، (3) » فصح أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقتل اليهودي إلا بإقراره، لا بدعوى المقتولة.
ووجه آخر، وهو أنه لو صح لهم ما لا يصح أبدا من أنه -عليه السلام- إنما قتله بدعواها لكان هذا الخبر حجة عليهم، ولكانوا مخالفين له؛ لأنه ليس فيه ذكر قسامة أصلا، وهم لا يقتلون بدعوى المقتولة البتة حتى يحلف اثنان فصاعدا من الأولياء خمسين يمينا ولا بد.
وأيضا فهم لا يرون القسامة بدعوى من لم يبلغ، والأظهر في هذا الخبر أنها كانت لم تبلغ؛ لأنه ذكر جارية ذات أوضاح، وهذه الصفة عند العرب الذين بلغتهم تكلم أنس إنما يوقعونها على الصبية لا على المرأة البالغة، فبطل تعلقهم بهذا الخبر بكل وجه، ولاح خلافهم في ذلك، فوجب القول به، ولا يحل لأحد العدول عنه (4) وقال الباجي أيضا: واستدلوا من جهة المعنى بأن الغالب من أحوال الناس عند الموت ألا يتزودوا من الدنيا قتل النفس التي حرم الله، بل يسعى إلى التوبة والاستغفار والندم على التفريط، ورد المظالم، ولا أحد أبغض إلى المقتول من القاتل، فمحال أن يتزود من الدنيا سفك دم حرام يعدل إليه، ويحقن دم قاتله.
قال الباجي بعد ذكره لاستدلال المالكية بقصة البقرة والجارية: وهذا الدليل من المعنى، قال: -وهذا عمدة
__________
(1) الفتح ج12 ص199. .
(2) صحيح البخاري الديات (6877) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1672) ، سنن الترمذي كتاب الديات (1394) ، سنن النسائي القسامة (4742) ، سنن أبو داود الديات (4528) ، سنن ابن ماجه الديات (2666) ، مسند أحمد بن حنبل (3/203) ، سنن الدارمي الديات (2355) .
(3) صحيح البخاري الديات (6877) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1672) ، سنن الترمذي كتاب الديات (1394) ، سنن النسائي القسامة (4742) ، سنن أبو داود الديات (4527) ، سنن ابن ماجه الديات (2666) ، مسند أحمد بن حنبل (3/203) ، سنن الدارمي الديات (2355) .
(4) المحلى ج11 ص 84 ويرجع أيضا إلى شرح معاني الآثار للطحاوي ج2 ص190 - 191. .(4/109)
ما يتعلق به أصحابنا في هذه المسألة- وهي مسألة فيها نظر، والله أعلم وأحكم (1) 2 - قال ابن قدامة -رحمه الله تعالى- على قول الخرقي -رحمه الله تعالى-: وإذا شهدت البينة العادلة أن المجروح قال: دمي عند فلان، فليس ذلك بموجب القسامة ما لم يكن لوث. قال: هذا قول أكثر أهل العلم منهم: الثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي، وقال مالك والليث: هو لوث؛ لأن قتيل بني إسرائيل قال قتلني فلان، فكان حجة، وروي هذا القول عن عبد الملك بن مروان.
ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم (2) » .
ولأنه يدعي حقا لنفسه فلم يقبل قوله كما لو لم يمت.
ولأنه خصم فلم تكن دعواه لوثا كالولي.
فأما قتيل بني إسرائيل فلا حجة فيه، فإنه لا قسامة فيه، ولأن ذلك كان من آيات الله ومعجزات نبيه موسى -عليه السلام- حيث أحياه الله تعالى بعد موته وأنطقه بقدرته بما اختلفوا فيه، ولم يكن الله ينطقه بالكذب، بخلاف الحي، ولا سبيل إلى مثل هذا اليوم، ثم ذاك في تنزيه المتهمين، فلا يجوز تعديتها إلى تهمة البريئين (3) وجاء في حاشية المقنع ونقل الميموني: أذهب إلى القسامة إذا كان ثم لطخ، وإذا كان ثم سبب بين، وإذا كان ثم عداوة، وإذا كان مثل المدعى عليه يفعل مثل هذا. (4) .
* * *
__________
(1) المنتقى للباجي ج7 ص56. .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4552) ، صحيح مسلم الأقضية (1711) ، سنن النسائي آداب القضاة (5425) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2321) .
(3) المغني ج8 ص 498 - 499. .
(4) حاشية المقنع ج3 ص 435.(4/110)
الصورة الثانية: شهادة بينة غير قاطعة على معاينة القتل
1 - قال الأبي "ع": الصورة الثانية: اللوث من غير بينة قاطعة على معاينة القتل لم يختلف قول مالك في أن شهادة العدل الواحد أو اللفيف من الناس وإن لم يكونوا عدولا لوث، وإنما اختلف قوله في شهادة الواحد غير العدل، وفي شهادة المرأة هل ذلك لوث؟ وجعل بعض أصحابنا شهادة النساء والصبيان لوثا، وأباه أكثرهم، وجعل ربيعة ويحيى بن سعيد والليث شهادة الذميين والعبيد لوثا (1)
__________
(1) إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم ج4 ص299 ويرجع أيضا إلى المنتقى ج7 ص56. .(4/110)
2 -وقال النووي والرملي: وشهادة العدل الواحد: أي إخباره ولو قبل الدعوى بأن فلانا قتله لوث؛ لأنه يفيد الظن وشهادته بأن أحد هذين قتله لوث في حقهما، كما علم مما مر أول الباب، فيعين الولي أحدهما أو كليهما ويقسم، وكذا عبيد أو نساء يعني إخبار اثنين فأكثر أن فلانا قتله، وفي الوجيز أن القياس أن قول واحد منهم لوث، وجرى عليه في الحاوي الصغير فقال: وقول راو، وجزم به في الأنوار وهو المعتمد، وقيل: يشترط تفرقهم لاحتمال التواطؤ، ورد بأن احتماله كاحتمال الكذب في إخبار العدل، وقول فسقة وصبيان وكفار لوث في الأصح؛ لأن اجتماعهم على ذلك يؤكد ظنه. والثاني قال: لا اعتبار بقولهم في الشرع، ولو ظهر لوث في قتيل فقال أحد ابنيه مثلا: قتله فلان، وكذبه الابن الآخر صريحا بطل اللوث، فلا يحلف المستحق لانخرام ظن الصدق بالتكذيب الدال على عدم قتله، إذ جبلة الوارث على التشفي، فنفيه أقوى من إثبات الآخر، بخلاف ما إذا لم يكذبه كذلك بأن صدقه أو سكت أو قال لا أعلم أنه قتله أو قال إنه قتله، وبحث البلقيني أنه لو شهد عدل به بعد دعوى أحدهم خطأ أو شبه عمد لم يبطل اللوث بتكذيب الآخر قطعا، فلمن لم يكذبه أن يحلف معه خمسين يمينا ويستحق، وفي قول لا يبطل كسائر الدعاوى، ورد بما مر من الجبلة هنا، وقيل: لا يبطل بتكذيب فاسق، ويرد بما مر أيضا إذ الجبلة لا فرق فيها بين الفاسق وغيره، ولو عين كل غير معين الآخر من غير تعرض لتكذيب صاحبه أقسم كل الخمسين على ما عينه وأخذ حصته. انتهى (1) 3 - وقال ابن قدامة: السادس أن يشهد بالقتل عبيد ونساء فهذا فيه عن أحمد روايتان: أحدهما: أنه لوث؛ لأنه يغلب على الظن صدق المدعي في دعواه، فأشبه العداوة، والثاني: ليس بلوث؛ لأنها شهادة مردودة، فلم تكن لوثا، كما لو شهد به الكفار، وإن شهد به فساق أو صبيان فهل يكون لوثا؟ على وجهين: أحدهما: ليس بلوث؛ لأنه لا يتعلق بشهادتهم حكم، فلا يثبت اللوث بها، كشهادة الأطفال والمجانين، والثاني: يثبت بها اللوث؛ لأنها شهادة يغلب على الظن صدق المدعي، فأشبه شهادة النساء والعبيد، وقول الصبيان معتبر في الإذن في دخول الدار، وقبول الهدية ونحوها، وهذا مذهب الشافعي، ويعتبر أن يجيء الصبيان متفرقين؛ لئلا يتطرق إليهم التواطؤ على الكذب، فهذه الوجوه قد ذكر عن أحمد أنها لوث؛ لأنها يغلب على الظن صدق المدعي أشبه العداوة.
وروي أن هذا ليس بلوث، وهو ظاهر كلامه في الذي قتل في الزحام؛ لأن اللوث إنما يثبت بالعداوة بقضية الأنصاري القتيل، ولا يجوز القياس؛ لأن الحكم ثبت بالمظنة، ولا يجوز القياس في المظان؛ لأن الحكم إنما يتعدى بتعدي سببه، والقياس في المظان جمع بمجرد الحكمة وغلبة الظنون والحكم، والظنون تختلف ولا تأتلف، وتتخبط ولا تنضبط، وتختلف باختلاف القرائن والأحوال والأشخاص، فلا يمكن ربط الحكم بها ولا تعديته بتعديها، ولأنه يعتبر في التعدية به والقياس التساوي بين الأصل والفرع في المقتضى، ولا سبيل إلى يقين التساوي بين الظنين مع كثرة الاحتمالات وترددها، فعلى هذه الرواية حكم هذه الصورة حكم غيرها مما لا لوث فيه (2)
* * *
__________
(1) المنهاج وشرح نهاية المحتاج ج7 ص 391 - 392. .
(2) المغني ج8 ص 490. .(4/111)
الصورة الثالثة: شهادة عدلين بجرح وعدل بالقتل
1 -قال الأبي "ع": الصورة الثالثة شهادة عدلين بجرح وحيي بعده حياة بينة ثم مات بعده قبل أن يفيق منه، قال مالك وأصحابه والليث: ذلك لوث، واختلف عندنا في شهادة العدل الواحد هل هي لوث؟ والأصح الأول، وأنه لا بد من شاهدين، ولم ير الشافعي والحنفية في هذا قسامة، ورأوا فيه القصاص إن ثبت بشاهدين، قلت: قال ابن الحارث: إلا أن يكون ما شهد به العدلان من الجرح قد أنفذ مقاتله، فإن أنفذها فلا قسامة فيه وهو كمقتول، والمشهور في شهادة الواحد أنها لوث، نص على ذلك في المدونة، وفي العتبية: لا قسامة فيه.
واختلف في شهادة الواحد على إقرار القاتل بالقتل، فقال أشهب: فيه قسامة، وفي الموازية لا قسامة فيه (1) 2 - وقال النووي والرملي: وشهادة العدل الواحد -أي إخباره ولو قبل الدعوة بأن فلانا قتله- لوث؛ لأنه يفيد الظن، وشهادته بأن أحد هذين قتله لوث في حقهما، كما علم مما مر في أول الباب، فيعين الولي أحدهما أو كليهما ويقسمه (2) .
3 - وقال ابن قدامة: فصل: وإن شهد رجلان على رجل أنه قتل أحد هذين القتيلين لم تثبت هذه الشهادة ولم يكن لوثا عند أحد علمائنا، قوله: وإن شهد رجلان أن هذا القتيل قتله أحد هذين الرجلين، أو شهد أحدهما أن هذا قتله بسكين لم تثبت الشهادة ولم يكن لوثا، هذا قول القاضي واختياره، والمنصوص عن أحمد فيما إذا شهد أحدهما بقتله والآخر بالإقرار بقتله أنه يثبت القتل، واختار أبو بكر ثبوت القتل ها هنا، وفيما إذا شهد أحدهما أنه قتله بسيف وشهد الآخر أنه قتله بسكين؛ لأنهما اتفقا على القتل واختلفا في صفته، وقال الشافعي: هو لوث في هذه الصورة في أحد القولين، وفي الصورتين اللتين قبلها هو لوث؛ لأنها شهادة يغلب على الظن صدق المدعي أشبهت شهادة النساء والعبيد.
ولنا أنها شهادة مردودة؛ للاختلاف فيها فلم يكن لوثا كالصورة الأولى (3)
__________
(1) إكمال إكمال المعلم ج4 ص399 - 400 ويرجع أيضا إلى المنتقى شرح الموطأ ج7 ص56. .
(2) المنهاج وشرح نهاية المحتاج ج7 ص391. .
(3) المغني ج8 ص 490 - 491. .(4/112)
الصورة الرابعة: وجود المتهم بقرب القتيل أو آتيا من جهته ومعه آلة القتل أو عليه أثره
1 -قال الأبي " ع ": الرابعة: وجود المتهم بقرب القتيل أو آتيا من جهته ومعه آلة القتل وعليه أثر كالتلطخ بالدم وشبهه، فروى ابن وهب وقاله ابن عبد الحكم هو لوث، وقال الشافعي نحوه، قال: ذلك إذا لم يوجد هناك أحد، ولا به أثر سبع، قال: ومنه إذا وجد في بيت أو صحراء وليس هناك سواهم، وتفرقوا عن قتيل، وهذا كله شبهة توجب القسامة، قلت: رواية ابن وهب ذكرها ابن الجلاب كأنها المذهب، قال: وإن وجد قتيل وبقربه رجل وبيده آلة القتل أو عليه شيء من دم القتيل أو عليه أثر القتل فذلك لوث، يقسم معه. . (1) قال ابن قدامة: الرابع: أن يوجد قتيل لا يوجد بقربه إلا رجل معه سيف أو سكين ملطخ بالدم، ولا يوجد غيره ممن يغلب على الظن أنه قتله، مثل أن يرى رجلا هاربا يحتمل أنه القاتل، أو سبعا يحتمل ذلك فيه (2)
* * *
__________
(1) إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم ج4 ص400 ويرجع أيضا إلى المنتقى ج7 ص56. .
(2) المغني ج8 \ 489. .(4/113)
الصورة الخامسة: قتيل الصفين
1 - قال الأبي "ع": الخامسة: قتيل الصفين، تقتتل الفئتان فيوجد بينهما قتيل لا يدرى من قتله، ففيه عندنا روايتان: الأولى: للأولياء أن يقسموا على من يعينونه منها، أو على من يدعي عليه الميت -كان منهما أو من غيرهما- بالقسامة، قال الشافعي: وقال: عقله على الفئة المنازعة، وإن عينوا رجلا ففيه القسامة.(4/113)
قلت: الرواية الثانية في المدونة، قال فيها: ولا قسامة في قتيل الصفين، لكن اختلف، فقيل: معنى قوله: لا قسامة إذا عينه الأولياء، وأما إذا عينه المقتول ففيه القسامة، وقيل: لا قسامة عينه المقتول أو الأولياء، وعلى الأول حمل المدونة الأكثر، ووجه ابن عات رواية القسامة بأن وجوده بينهما يغلب على الظن أن قتله لم يخرج عنهما، وذلك لوث، ووجه الرواية الأخرى بأن القسامة لا تكون إلا مع لوث في مشار إليه معين، فإن اللوث إذا تعلق بواحد معين أثر في القسامة، أما إذا تعلق بجماعة على أن القاتل واحد منهم غير معين فلا يؤثر (1) 2 - وقال الشافعي: إذا اقتتل القوم فانجلوا عن قتيل، فادعى أولياؤه على أحد بعينه، أو على طائفة بعينها، أو قالوا: قد قتلته إحدى الطائفتين، ولا يدرى أيتهما قتلته، قيل لهم: إن جئتم بما يوجب القسامة على إحدى الطائفتين أو بعضهم أو واحد بعينه أو أكثر قيل لكم: اقسموا على واحد، فإن لم تأتوا بذلك فلا عقل ولا قود، ومن شئتم أن نحلفه لكم على قتله أحلفناه، ومن أحلفناه أبرأناه، وهكذا إن كان جريحا ثم مات؛ ادعى على أحد أو لم يدع عليه، إذا لم أقبل دعواه فيما هو أقل من الدم لم أقبلها في الدم، وما أعرف أصلا ولا فرعا لقول من قال: تجب القسامة بدعوى الميت، ما القسامة التي قضى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عبد الله بن سهل إلا على خلاف ما قال فيها دعوى ولا لوث من بينة 3 - وقال ابن قدامة: الثاني: أن يتفرق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثا في حق كل واحد منهم، فإن ادعى الولي على واحد فأنكر كونه مع الجماعة فالقول قوله مع يمينه، ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي؛ لأن الأصل عدم ذلك إلا أن يثبت بينته (2) .
وقال ابن قدامة: الخامس: أن يقتتل فئتان فيتفرقوا عن قتيل من إحداها: فاللوث على الأخرى، ذكره القاضي، فإن كانوا بحيث لا تصل سهام بعضهم بعضا فاللوث على طائفة القتيل، هذا هو قول الشافعي.
وروي عن أحمد أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما إذا اقتتلت الفئتان، إلا أن يدعوا على واحد بعينه، وهذا قول مالك، وقال ابن أبي ليلى: على الفريقين جميعا؛ لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه، فاستوى الجميع فيه، وعن أحمد في قوم اقتتلوا فقتل بعضهم، وجرح بعضهم: فدية المقتولين على المجروحين تسقط منها دية الجراح، وإن كان فيهم من لا جرح فيه فهل عليه من الديات شيء؟ على وجهين ذكرهما ابن حامد (3)
__________
(1) إكمال إكمال المعلم ج4 ص401 ويرجع أيضا إلى المنتقى ج7 ص56. .
(2) المغني ج8 ص489. .
(3) المغني ج8 ص489 - 490. .(4/114)
الصورة السادسة: قتيل الزحام
1 - قال الأبي "ع": الصورة السادسة: قتيل الزحام قال مالك: دمه هدر، وقال الشافعي: فيه القسامة والدية، وقال الثوري وإسحاق: عقله في بيت المال، وعن عمر وعلي مثله، وقال الحسن والزهري: عقله على من حضر، قلت: الذي حكى أبو عمر عن الشافعي إنما هو لا شيء فيه كقول مالك (1) وقال الباجي نقلا عن الموازية: وذلك أنه لا تتعلق التهمة بمعين ولا معينين (2) 2 - وقال النووي والرملي: أو تفرق عنه جمع محصور يتصور اجتماعهم على قتله، وإن لم يكونوا أعداءه، في نحو دار أو زحام على الكعبة أو بئر، وإلا فلا قسامة حتى يعين منهم محصورين، فيمكن من الدعوى والقسامة، ولا بد من وجود أثر قتل، وإن قل، وإلا فلا قسامة، وكذا في سائر الصور، خلافا للأسنوي (3) .
قال ابن قدامة: الثالث أن يزدحم الناس في مضيق فيوجد منهم قتيل، فظاهر كلام أحمد أن هذا ليس بلوث، فإنه قال فيمن مات بالزحام يوم الجمعة: فديته في بيت المال، وهذا قول إسحاق، وروي ذلك عن عمر وعلي، فإن سعيدا روى في سننه عن إبراهيم قال: قتل رجل في زحام الناس بعرفة، فجاء أهله إلى عمر، فقال: بينتكم على من قتله، فقال علي: يا أمير المؤمنين لا يطل دم امرئ مسلم، إن علمت قاتله، وإلا فأعط ديته من بيت المال.
قال أحمد فيمن وجد مقتولا في المسجد الحرام: ينظر من كان بينه وبينه شيء في حياته يعني عداوة يؤخذون، فلم يجعل الحضور لوثا، وإنما جعل اللوث العداوة.
وقال الحسن والزهري فيمن مات في الزحام: ديته على من حضر؛ لأن قتله حصل منهم، وقال مالك: دمه هدر؛ لأنه لا يعلم له قاتل، ولا وجد لوث فيحكم بالقسامة، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إليه رجل وجد قتيلا لم يعرف قاتله، فكتب إليهم: إن من القضايا قضايا لا يحكم فيها إلا في الدار الآخرة وهذا منها (4) .
* * *
__________
(1) إكمال إكمال المعلم ج4 ص401 - المنتقى ج7 ص114. .
(2) إكمال إكمال المعلم ج4 ص401 - المنتقى ج7 ص114. .
(3) المنهاج وشرح نهاية المحتاج ج7 ص390.
(4) المغني ج8 ص489.(4/115)
الصورة السابعة: وجود قتيل في محلة
1 - قال شمس الدين السرخسي -رحمه الله تعالى-: وإذا وجد الرجل قتيلا في محلة قوم فعليهم أن يقسم منهم خمسون رجلا بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا، ثم يغرمون الدية، بلغنا هذا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي هذا أحاديث مشهورة:
منها: حديث سهل بن أبي حثمة «أن عبد الله بن سهل وعبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة خرجوا في التجارة إلى خيبر، وتفرقوا بحوائجهم، فوجدوا عبد الله بن سهل قتيلا في قليب من قلب خيبر، يتشحط في دمه، فجاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليخبروه، فأراد عبد الرحمن - وهو أخو القتيل- أن يتكلم فقال عليه الصلاة والسلام: " الكبر الكبر " فتكلم أحد عميه حويصة ومحيصة وهو الأكبر منهما، وأخبره بذلك قال: " ومن قتله؟ " قالوا: ومن يقتله سوى اليهود! قال: " أتبرئكم اليهود بأيمانها " فقالوا: " لا نرضى بأيمان قوم كفار لا يبالون ما حلفوا عليه قال -عليه السلام-: " أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم " فقالوا: كيف نحلف على أمر لم نعاين ولم نشاهد، فكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة (1) » .
وذكر الزهري عن سعيد بن المسيب: أن القسامة كانت من أحكام الجاهلية فقررها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتيل من الأنصار وجد في حي ليهود، وذكر الحديث إلى أن قال: فألزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليهود الدية والقسامة.
وفي رواية فكتب إليهم: «إما أن يدوه أو يؤذنوا بحرب من الله ورسوله (2) » . وذكر الكلبي عن ابن صالح عن ابن عباس -رضي الله عنه- «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى أهل خيبر: "أن هذا قتيل وجد بين أظهركم فما الذي يخرجه عنكم "؟ فكتبوا إليه أن مثل هذه الحادثة وقعت في بني إسرائيل فأنزل الله على موسى -عليه السلام- أمرا فإن كنت نبيا فاسأل الله مثل ذلك فكتب إليهم: إن الله أراني أن أختار منكم خمسين رجلا فيحلفون بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا، ثم يغرمون الدية " قالوا: لقد قضيت فينا بالناموس، يعني الوحي» .
وروى حنيف عن زياد بن أبي مريم قال: «جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني وجدت أخي قتيلا في بني فلان، فقال: " اختر من شيوخهم خمسين رجلا فيحلفون بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا " قال: وليس لي من أخي إلا هذا، قال: " نعم ومائة من الإبل (3) » .
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6142) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4714) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .
(3) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4523) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .(4/116)
وفي الحديث: أن رجلا وجد بين وادعة وأرحب وكان إلى وادعة أقرب فقضى عليهم عمر -رضي الله عنه- بالقسامة والدية، فقال الحارث بن الأصبغ الوادعي: يا أمير المؤمنين، لا أيماننا تدفع عن أموالنا، ولا أموالنا تدفع عن أيماننا، فقال: حقنتم دماءكم بأيمانكم، وأغرمتم الدية لوجود القتيل بين أظهركم.
فهذه الآثار تدل على ثبوت حكم القسامة والدية في القتيل الموجود في المحلة على أهلها، ونوع من المعنى يدل عليه أيضا؛ وهو أن الظاهر أن القاتل منهم؛ لأن الإنسان قلما يأتي من محلة إلى محلة ليقتل مختارا فيها، وإنما تمكن القاتل منهم من هذا الفعل بقوتهم ونصرتهم، فكانوا كالعاقلة، فأوجب الشرع الدية عليهم صيانة لدم المقتول عن الهدر، وأوجب القسامة عليهم لرجاء أن يظهر القاتل بهذه الطريق فيتخلص غير الجاني إذا ظهر الجاني، ولهذا يستحلفون بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا، ثم على أهل كل محلة حفظ محلتهم عن مثل هذه الفتنة؛ لأن التدبير في محلتهم إليهم، فإنما وقعت هذه الحادثة لتفريط كان منهم في الحفظ حين تغافلوا عن الأخذ على أيدي السفهاء منهم ومن غيرهم، فأوجب الشرع القسامة والدية عليهم لذلك، ووجوب القسامة والدية على أهل المحلة مذهب علمائنا. اهـ (1) .
2 - قال الأبي "ع": الصورة السابعة: القتيل يوجد بمحلة قوم أو قبيلتهم أو مسجدهم، فقال مالك والشافعي: دمه هدر؛ لأنه قد يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محلة قوم ليلطخهم به، قال الشافعي: إلا أن يكون مثل قضية الأنصار الذي حكم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعداوة الظاهرة بين الأنصار واليهود، وخيبر مختصة باليهود ليس فيها غيرهم، وخرج عبد الله بعد العصر فوجد مقتولا قبل الليل، وقال أحمد نحوه، وتأوله النسائي على مذهب مالك.
وذهب أبو حنيفة ومعظم الكوفيين إلى أن للقتيل يوجد في القرية والمحلة: القسامة، ولا سبب عندهم من الوجوه السبعة للقسامة سواه؛ لأنها الصورة التي حكم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيحلف خمسون رجلا خمسين يمينا ويستحقون الدية على ما تقدم من مذهبهم في العمل بها، وذلك إذا وجد القتيل وبه أثر، وإلا فلا قسامة فيه، وإن وجد القتيل في مسجد أهل المحلة فالدية في بيت المال إذا ادعوا بذلك على أهل المحلة.
وقال الأوزاعي: وجود القتيل في المحلة يوجب القسامة وإن لم يكن فيه أثر على ما تقدم من مذهب، وقال داود: لا قسامة إلا في العمد دون الخطأ على أهل القرية الكبيرة والمدينة وهم أعداء المقتول، قلت: في المدونة: وإن وجد قتيل في قرية قوم أو دارهم لا يدرى من قتله فدمه هدر، ولا دية في بيت المال ولا في غيره.
ابن يونس: يريد إن لم يوجد معه أحد، وإن وجد معه رجل عليه أثر قتله قتل به مع القسامة، ابن رشد: ولو وقع مثل قضية الأنصاري في زماننا الواجب الحكم به، ولم يصح أن يتعدى إلى غيره (2) وقال ابن حزم: واعترض المالكيون ومن لا يرى القسامة في هذا بأن قالوا: والقتيل قد يقتل ثم يحمله قاتله فيلقيه على باب إنسان، أو في دار قوم.
فجوابنا -وبالله تعالى التوفيق-: أن هذا ممكن ولكن لا يعترض على حكم الله تعالى، وحكم رسول الله -عليه السلام- بأنه يمكن أمر كذا، وبيقين يدري كل مسلم أنه قد يمكن أن يكذب الشاهد، ويكذب الحالف، ويكذب المدعي
__________
(1) دل المبسوط ج26 ص106 - 108 مطبعة السعادة بجوار محافظة مصر.
(2) إكمال إكمال المعلم ج4 ص401 - 402 ويرجع أيضا إلى المنتقى ج7 ص52 ج7 / 114.(4/117)
أن فلانا قتله هذا أمر لا يقدر أحد على دفعه، ومضى إلى أن أيد ذلك بقصة عبد الله بن سهل. (1) .
3 - وقال النووي والرملي: واللوث قرينة حالية أو مقالية مؤيدة تصدق المدعي بأن توقع في القلب صدقه في دعواه، ولا بد من ثبوت هذه القرينة، إذ القرائن لم تنحصر فيما ذكره وجد قتيل أو بعضه وتحقق موته في محلة منفصلة عن بلد كبير أو في قرية صغيرة لأعدائه أو أعداء قبيلته دينا أو دنيا حيث كانت العداوة تحمله على الانتقام بالقتل ولم يساكنهم غيره كما صححه في الروضة وهو المعتمد، والمراد بغيرهم من لم تعلم صداقته للقتيل، ولا كونه من أهله، أي ولا عداوة بينهما، كما هو واضح، وإلا فاللوث موجود فلا تمتنع القسامة، قاله ابن أبي عصرون وغيره وهو ظاهر.
قال الأسنوي تبعا لابن الرفعة: ويدل له قصة خيبر، فإن إخوة القتيل كانوا معه، ومن ذلك شرعت القسامة، قال العمراني وغيره: ولو لم يدخل ذلك المكان غير أهله لم تعتبر العداوة، قال الأذرعي: ويشبه اشتراط ألا يكون هنا طريق جادة كثيرة الطارقين، وخرج بالصغيرة الكبيرة، فلا لوث، بل وجد فيها قتيل فيما يظهر إذ المراد بها من أهله غير محصورين، وعند انتفاء حصرهم لا تتحقق العداوة بينهم فتنتفي القرينة (2) 4 - وقال ابن قدامة: واختلفت الرواية فيه -أي في اللوث المشترط في القسامة - فروي عنه أن اللوث هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه، كنحو ما بين الأنصار ويهود خيبر، وما بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب، وما بين أهل العدل وما بين الشرطة واللصوص، كل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله.
نقل مهنا عن أحمد فيمن وجد قتيلا في المسجد الحرام ينظر من بينه وبينه في حياته شيء -يعني ضغنا- يؤخذون به، ولم يذكر القاضي في اللوث غير العداوة، إلا أنه قال في الفريقين يقتتلان فينكشفون عن قتيل فاللوث على الطائفة الأخرى، ولا لوث على طائفة القتيل، إذا ثبت هذا فإنه لا يشترط مع العداوة ألا يكون في الموضع الذي به القتيل غير العدو، نص عليه أحمد في رواية مهنا التي ذكرناها، وكلام الخرقي يدل عليه أيضا.
واشترط القاضي ألا يوجد القتيل في موضع عدو لا يختلط بهم غيرهم، وهذا مذهب الشافعي؛ لأن الأنصاري قتل في خيبر، ولم يكن فيها إلا اليهود، وجميعهم أعداء؛ لأنه متى اختلط بهم غيرهم احتمل أن يكون القاتل ذلك الغير.
ثم ناقض القاضي قوله، فقال في قوم ازدحموا في مضيق فافترقوا عن قتيل: إن كان في القوم من بينهم وبينه عداوة وأمكن أن يكون هو قتله لكونه بقربه فهو لوث، فجعل العداوة لوثا مع وجود غير العدو، ولنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يسأل الأنصار هل كان بخيبر غير اليهود أم لا، مع أن الظاهر وجود غيرهم فيها؛ لأنها كانت أملاكا للمسلمين يقصدونها لأخذ غلات أملاكهم منها وعمارتها، والاطلاع عليها، والامتيار منها، ويبعد أن تكون مدينة على جادة تخلو من غير أهلها.
وقول الأنصار ليس لنا بخيبر عدو إلا يهود يدل على أنه قد كان بها غيرهم من ليس بعدو، ولأن اشتراكهم في العداوة لا يمنع من وجود اللوث في حق واحد، وتخصيصه بالدعوى مع مشاركة غيره في احتمال قتله، فلأن يمنع ذلك وجود من يبعد منه القتل أولى.
__________
(1) المحلى ج11 ص82 - 83. .
(2) المنهاج وشرح نهاية المحتاج ج7 ص 389 - 390. .(4/118)
وما ذكره من الاحتمال لا ينفي اللوث، فإن اللوث لا يشترط فيه يقين القتل من المدعى عليه، ولا ينافيه الاحتمال، ولو تيقن القتل من المدعى عليه لما احتيج إلى الأيمان، ولو اشترط نفي الاحتمال لما صحت الدعوى على واحد من جماعة؛ لأنه يحتمل أن القاتل غيره، ولا على الجماعة؛ لأنه يحتمل ألا يشترك الجميع في قتله.
والرواية الثانية عن أحمد: أن اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي، وذلك من وجوه إحداها: العداوة المذكورة (1) وسنذكر البقية موزعة في مواضعها.
* * *
__________
(1) المغني ج8 ص487-489.(4/119)
تحرير محل النزاع في اللوث مع بيان منشأ الخلاف
اتفق من يقولون بالقسامة على أنها لا تثبت بمجرد دعوى أولياء الدم، واتفقوا على أنها تثبت بالدعوى إذا اقترن بها شبهة يغلب على الظن الحكم بمقتضاها، ثم اختلفوا في الصور التي تتحقق فيها هذه الشبهة، ومنشأ الخلاف في ذلك اختلافهم في تطبيق ضابط هذه الشبهة المسماة لوثا على هذه الصور، فمن رآها متحققة في صورة من الصور السبع المذكورة أو نحوها أثبت بها القسامة، ومن لم يجد في نفسه غلبة الظن توجب الحكم بها في صورة لم يثبت الحكم بها في تلك الصورة. اهـ ابن حجر بتصرف (1)
__________
(1) فتح الباري ج12 ص197. .(4/119)
الرابع: هل يتعين أن يكون المدعى عليه في القسامة واحدا أو يجوز أن يكون أكثر لو منبهما مع ذكر الدليل والمناقشة
لقد سبق الكلام على معنى اللوث وخلاف العلماء في صوره، وكان مما تقدم أن القسامة عند الحنفية لا تكون إلا في صورة واحدة من الصور التي سبق الكلام عليها وهي الواقعة بين(4/119)
الأنصار واليهود في خيبر، وتقدم النقل عنهم في هذه الصورة مستوفيا أدلتهم من السنة والآثار، ومما تقدم يتبين أن أبا حنيفة -رحمه الله- يرى أن الدعوى في القتل تكون على مبهم، فتركنا إعادة ذلك النقل اكتفاء بما سبق ذكره، ومعلوم أن هذا الرأي يخالف قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم (1) » .
وأما المذاهب الثلاثة ففيما يلي تفصيل أقوالهم، وما استدلوا إليه، ومعلوم أن الأصل في هذا الباب هو قصة خيبر، وقد جاء في بعض الروايات الصحيحة «يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته (2) » .
1 - قال مالك: " وإذا كانت القسامة لم تكن إلا على رجل واحد ولم يقتل غيره ولم نعلم قسامة كانت قط إلا على رجل واحد، قال الباجي: هذا قول مالك وأكثر أصحابه، وقال أشهب: إن شاءوا أقسموا على واحد أو على اثنين أو على جميعهم، ثم لا يقتلون إلا واحدا ممن أدخلوه في القسامة، كان ذلك لقول الميت: دمي عند فلان، أو فلان، أو لشهادة شاهد على القتل، أو شاهدين على الضرب ثم عاش أياما.
وجه قول مالك: أنه لا يقتل في القسامة إلا واحد، فلا معنى للقسامة على غيره. ووجه قول أشهب: أن القتيل إذا ادعى قتل جماعة له فيجب أن تكون القسامة على قدر ذلك؛ لأن الأيمان لا تكون إلا موافقة للدعوى (3) وقال الباجي في الكلام على من يستحق القتل بالقسامة، قال: وإذا قلنا لا يقتل إلا واحد فهل يقسم على واحد أو على جماعة؟ ففي المجموعة من رواية ابن القاسم عن مالك: لا يقسم إلا على واحد، سواء ثبتت القسامة بدعوى الميت أو بلوث، أو بينة على القتل، أو بينة على الضرب ثم عاش أياما، وقال أشهب: إن شاءوا أقسموا على واحد أو على اثنين أو على أكثر أو على جميعهم، ثم لا يقتلون إلا واحدا ممن أدخلوه في قسامتهم، وجه القول الأول أن القسامة فائدتها القصاص من المدعى عليه القتل، فلا معنى للقسامة على من لا يقتل، ولا تؤثر فيه القسامة حكما.
ووجه القول الثاني أن القسامة إنما هي على قدر الدعوى محققة لها، ولا يجوز أن يكون في بعضه، فإذا وجب لهم القصاص بالقسامة المطابقة لدعواهم كان لهم حينئذ تعيين من يقتص منه؛ لأن القسامة قد تناولته.
وقال سحنون فيما جاء في القسامة على الجماعة في العموم قال: قلت أرأيت إن ادعوا الدم على جماعة رجال ونساء، قال: قال مالك: إذا ادعوا الدم على جماعة أقسموا على واحد منهم وقتلوا إذا كان لهم لوث من بينة، أو تكلم بذلك المقتول، أو قامت البينة على أنهم ضربوه ثم عاش بعد ذلك ثم مات، قلت: فللورثة أن يقسموا على أيهم شاءوا ويقتلوه؟ قال: نعم؛ عند مالك، قلت: فإن ادعوا الخطأ وجاءوا بلوث من بينة على جماعة أقسم الورثة عليهم كلهم بالله الذي لا إله إلا هو أنهم قتلوه ثم تفرق الدية على قبائلهم في ثلاث سنين؟ قال: نعم؛ وكذلك سألت مالكا فقال لي مثلما قلت، وقال لي مالك: ولا يشبه هذا العمد (4) .
وقال ابن رشد:
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(3) الموطأ بشرح المنتقى ج7 ص62. .
(4) المدونة الكبرى ج16 ص224.(4/120)
واختلف الذين أوجبوا القود بالقسامة هل يقتل بها أكثر من واحد؟ فقال مالك: لا تكون القسامة إلا على واحد وبه قال أحمد بن حنبل، وقال أشهب: يقسم على الجماعة ويقتل منها واحد يعينه الأولياء، وهو ضعيف، وقال المغيرة المخزومي: كل من أقسم عليه قتل، وقال مالك والليث: إذا شهد اثنان عدلان أن إنسانا ضرب آخر وبقي المضروب أياما بعد الضرب ثم مات أقسم أولياء المضروب أنه مات من ذلك الضرب وقيد به، وهذا كله ضعيف (1) .
قال الشافعي في باب القسامة: ولهم - أي ولاة الدم - إذا كان ما يوجب القسامة على أهل البيت أو القرية أو الجماعة أن يحلفوا على واحد منهم أو أكثر، فإذا أمكن في المدعى عليه أن يكون في جملة القتلة جاز أن يقسم عليه وحده وعلى غيره ممن أمكن أن يكون في جملتهم (2) .
وقال أيضا في اختلاف المدعى عليه في الدم قال: فإن ادعى أولياؤه " أي القتيل" على أهل المحلة لم يحلف لهم منهم إلا من أثبتوا بعينه فقالوا: نحن ندعي أنه قتله، فإن أثبتوهم كلهم وادعوا عليهم، وهم مائة أو أكثر، وفيهم نساء ورجال وعبيد، مسلمون كلهم، أو مشركون كلهم، أو فيهم مسلم ومشرك، أحلفوا كلهم يمينا يمينا؛ لأنهم يزيدون على خمسين.
وإن كانوا أقل من خمسين ردت الأيمان عليهم، فإن كانوا خمسة وعشرين حلفوا يمينين يمينين، وإن كانوا ثلاثين حلفوا يمينين يمينين؛ لأن على كل واحد منهم يمينا وكسر يمين ومن كان عليه كسر يمين حلف يمينا تامة، وليس الأحرار المسلمون أحق بالأيمان من العبيد، ولا العبيد من الأحرار، ولا الرجال من النساء، ولا النساء من الرجال، كل بالغ فيها سواء.
وإن كان فيهم صبي ادعوا عليه لم يحلف، وإذا بلغ حلف، فإن مات قبل البلوغ فلا شيء عليه، ولا يحلف واحد منهم إلا واحدا ادعوا عليه بنفسه، فإذا حلفوا برئوا.
وقال الشافعي: بيان ما يحلف عليه في القسامة قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: وينبغي للحاكم أن يسأل من وجبت له القسامة: من صاحبك؟ فإذا قال: فلان، قال: فلان وحده؟ فإن قال: نعم، قال عمدا أو خطأ؟ فإن قال: عمدا، سأله: ما العمد؟ فإن وصف ما يجب بمثله قصاص، ولو قامت بينة أحلفه على ذلك، وإن وصف من العمد ما لا يجب فيه القصاص وإنما يكون فيه العقل أحلفه على ذلك بعد إثباته، وإن قال: قتله فلان ونفر معه لم يحلفه حتى يسمي النفر، فإن قال: لا أعرفهم وأنا أحلف على هذا أنه فيمن قتله لم يحلفه حتى يسمي عدد النفر معه، فإن كانوا ثلاثة أحلفه على الذي أثبته وكان له عليه ثلث الدية، أو على عاقلته، وإن كانوا أربعة نفر فربعها، وإن لم يثبت عددهم لم يحلف؛ لأنه لا يدري كم يلزم هذا الذي يثبت ولا عاقلته من الدية لو حلف عليه.
ولو عجل الحاكم فأحلفه قبل أن يسأله عن هذا كان عليه أن يعيد عليه اليمين إذا أثبت كم عدد من قتل معه، ولو عجل الحاكم فأحلفه لقتل فلان فلانا ولم يقل عمدا ولا خطأ أعاد عليه عدد ما يلزمه من الأيمان؛ لأن حكم الدية في العمد أنها في ماله، وفي الخطأ أنها على عاقلته، ولو عجله فأحلفه لقتله مع غيره عمدا ولم يقل قتله وحده أعاد عليه اليمين لقتله وحده، ولو عجل فأحلفه لقتله من غيره ولم يسم عدد الذين قتلوه معه أعاد عليه الأيمان إذا عرف العدد.
ولو أحلفه لقتله وثلاثة معه ولم يسمهم قضى عليه بربع الدية، أو على عاقلته، فإن جاء بواحد من الثلاثة فقال: قد أثبت هذا أحلفه أيضا عليه عدة ما يلزمه من الأيمان، فإن كان هذا الوارث وحده أحلفه خمسين يمينا لقتله مع هؤلاء الثلاثة، فإن كان يرث النصف فنصف الأيمان، ولم تعد عليه الأيمان الأولى، ثم كلما أثبت
__________
(1) بداية المجتهد ج2 ص432. .
(2) الأم ج6 ص75. .(4/121)
واحدا معه أعاد عليه ما يلزمه من الأيمان، كما يبتدئ استحلافه على واحد لو كانت دعواه عليه منفردة، وإن كان له وارثان فأغفل الحاكم بعض ما وصفت أنه عليه أن يحلفه عليه وأحلفه مغفلا خمسين يمينا، ثم جاء الوارث الآخر فحلف خمسا وعشرين يمينا أعاد على الأول خمسا وعشرين يمينا؛ لأنها هي التي تلزمه مع الوارث معه، وإنما أحلفه أولا خمسا وعشرين يمينا؛ لأنه لا يستحق نصيبه من الدية إلا بها إذا لم تتم أيمان الورثة معه خمسين يمينا (1) .
3 - قال ابن قدامة: ذكر الخرقي من شروط القسامة أن تكون الدعوى عمدا، فوجب القصاص إذا ثبت القتل، وأن تكون الدعوى على واحد، وقال غيره: ليس بشرط، لكن إن كانت الدعوى عمدا محضا لم يقسموا إلا على واحد معين، ويستحقون دمه، وإن كانت خطأ أو شبه عمد فلهم القسامة على جماعة معينين ويستحقون الدية (2) .
وقال في حاشية المقنع: قوله: وأن تكون الدعوى على واحد إذا كانت الدعوى عمدا محضا لم يقسموا إلا على واحد معين يستحقون دمه وهذا بلا نزاع، قال الشارح: لا يختلف المذهب أنه لا يستحق بالقسامة أكثر من قتل واحد، وبهذا قال الزهري ومالك وبعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: يستحق بها قتل جماعة؛ لأنها بينة موجبة للقود، فاستوى فيها الواحد والجماعة كالبينة، وقول أبي ثور نحو هذا.
ولنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته (3) » فخص بها الواحد.
ولأنها بينة ضعيفة خولف بها الأصل في قتل الواحد فيقتصر عليه وتبقى على الأصل.
وأما إن كانت الدعوى خطأ أو شبه عمد فقال في الإنصاف: فالصحيح من المذهب والروايتين ليس لهم قسامة ولا تشرع على أكثر من واحد، وعليه جماهير الأصحاب، منهم الخرقي والقاضي وجماعة من أصحابه كالشريف وأبي الخطاب والشيرازي وابن البنا وابن عقيل وغيرهم، وجزم به في الوجيز والمنور ومنتخب الآدمي وغيرهم، وقدمه في المحرر والنظم والحاوي الصغير والفروع وغيرهم.
وعنه لهم القسامة على جماعة معينين ويستحقون الدية، وهو الذي قاله المصنف هنا، وجزم به في الهداية والمذهب والمستوعب والخلاصة، وقدمه في الرعايتين، وظاهر كلام المصنف هنا أن غير الخرقي ما قال ذلك، وتابعه الشارح وابن منجا، وليس الأمر كذلك، فقد ذكرنا عن غير الخرقي من اختار ذلك. انتهى.
قلت: والذي جزم به في الإقناع أن لهم القسامة في الخطأ كالعمد؛ لأن الخطأ أحد القتلين أشبه العمد، ويقسمون على واحد معين كالعمد، وهو معنى ما جزم به في الإنصاف (4)
__________
(1) الأم ج6 ص81. .
(2) المقنع ج3 ص432-433. .
(3) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(4) حاشية المقنع ج3 ص433 - 443. .(4/122)
الخامس: ذكر خلاف العلماء فيمن توجه إليه أيمان القسامة أولا من مدع ومدعى عليه ومستند كل مع المناقشة
اختلف أهل العلم القائلون بالقسامة فيمن توجه إليه أيمان القسامة ابتداء.
فذهبت طائفة منهم إلى أنه يبدأ بالمدعين فتوجه إليهم الأيمان.
قال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا والذي سمعت ممن أرضى في القسامة والذي اجتمعت عليه الأمة في القديم والحديث أنه يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون (1) وقال ابن رشد: قال الشافعي وأحمد وداود بن علي وغيرهم: يبدأ المدعون (2) . وجاء في المقنع وحاشيته: ويبدأ بأيمان المدعين فيحلفون خمسين يمينا، هذا المذهب، فإن لم يحلفوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا وبرئوا، وهذا قول يحيى بن سعيد، وربيعة، وأبي الزناد، والليث، ومالك، والشافعي (3) .
واستدلوا لذلك بالسنة، والإجماع، والاستصحاب، والنظر، والقياس.
أما السنة:
فروى الشافعي قال: أخبرنا مالك عن ابن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن، «عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره رجال من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما، فتفرقا في حوائجهما فأتي محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في فقير، أو عين، فأتى يهود، فقال: أنتم والله قتلتموه، فقالوا: والله ما قتلناه، فأقبل حتى قدم على قومه فذكر ذلك لهم، فأقبل هو وأخوه حويصة، وهو أكبر منه، وعبد الله بن سهل؛ أخو المقتول، فذهب محيصة يتكلم وهو الذي كان بخيبر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمحيصة " كبر كبر " يريد السن فتكلم حويصة، ثم تكلم محيصة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب " فكتب إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك فكتبوا إليه: إنا والله ما قتلناه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم " فقالوا: لا، قال: " فتحلف يهود؟ " قالوا:
__________
(1) الموطأ على المنتقى ج7 ص55، وإكمال إكمال المعلم ج4 ص395. .
(2) بداية المجتهد ج2 ص439.
(3) المقنع وحاشيته ج3 ص439. .(4/123)
ليسوا بمسلمين، فوداه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عنده، فبعث إليه بمائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار، قال سهل: لقد ركضتني منها ناقة حمراء (1) » .
وعورض هذا الحديث أولا بما روى أبو داود عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن عبد الرحمن بن بجيد بن قبطي أحد بني حارثة، قال محمد بن إبراهيم وايم الله ما كان سهل بأعلم منه، ولكنه كان أسن منه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «احلفوا على ما لا علم لكم به، ولكنه كتب إلى يهود حين كلمته الأنصار " أنه وجد بين أبياتكم قتيل فدوه " فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه، ولا يعلمون له قاتلا، فوداه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (2) » .
وقد أجاب ابن قدامة -رحمه الله- عن ذلك فقال: ولنا حديث سهل، وهو صحيح متفق عليه، ورواه مالك في موطئه، وعمل به، وما عارضه من الحديث لا يصح لوجوه:
أحدها: أنه نفي فلا يرد به قول المثبت.
والثاني: أن سهلا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- - شاهد القصة وعرفها، حتى أنه قال ركضتني ناقة من تلك الإبل، والأخرى يقول برأيه وظنه من غير أن يرويه عن أحد، ولا حضر القصة.
والثالث: أن حديثنا مخرج في الصحيحين متفق عليه، وحديثهم بخلافه.
الرابع: أنهم لا يعملون بحديثهم ولا حديثنا، فكيف يحتجون بما هو حجة عليهم فيما خالفوه فيه (3) وعورض حديث سهل ثانيا بما جاء في البخاري من رواية سعيد بن عبيد: فقال لهم: «"تأتون بالبينة على قتله " قالوا: ما لنا بينة، قال: " فيحلفون " قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يطل دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة (4) » .
وما جاء في البخاري من رواية أبي قلابة، وفيه قال: «" أترضون نفل خمسين من اليهود ما قتلوه " فقالوا: ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم ينتفلون، قال: " أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم " قالوا: ما كنا لنحلف، فوداه من عنده (5) » .
وأجاب ابن حجر عن هذا الاعتراض بعد ذكره لمجموعة من الروايات فيها تقديم تحليف المدعين، قال: كذا في رواية سعيد بن عبيد لم يذكر عرض الأيمان على المدعين، كما لم يقع في رواية يحيى بن سعيد طلب البينة أولا، وطريق الجمع أن يقال: حفظ أحدهم ما لم يحفظه الآخر، فيحمل على أنه طلب البينة أولا فلم تكن لهم بينة، فعرض عليهم الأيمان فامتنعوا، فعرض عليهم تحليف المدعى عليهم (6) وقال أيضا: وأجابوا عن رواية سعيد بن عبيد المذكورة في حديث الباب بقول أهل الحديث: إنه وهم من رواية من أسقط من السياق تبرئة المدعين
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/2) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي كتاب القسامة (4710) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(3) المغني ج8 ص495، 496. .
(4) صحيح البخاري الديات (6898) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4523) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .
(5) صحيح البخاري الديات (6899) .
(6) فتح الباري ج12 ص234.(4/124)
باليمين؛ لكونه لم يذكر فيهم رد اليمين، واشتملت رواية يحيى بن سعيد على زيادة من ثقة حافظ فوجب قبولها، وهي تقضى على من لم يعرفها، نقله ابن حجر عن القاضي عياض (1) وما رواه أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة " (2) » .
قال ابن حجر في الكلام على سند هذا الحديث: قوله روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر إلا في القسامة (3) » الدارقطني والبيهقي وابن عبد البر من حديث مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده به قال أبو عمر: إسناده لين، وقد رواه عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عمرو مرسلا، وعبد الرزاق أحفظ من مسلم بن خالد وأوثق، ورواه ابن عدي والدارقطني من حديث عثمان بن محمد عن مسلم، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة وهو ضعيف أيضا، وقال البخاري: ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب، فهذه علة أخرى (4) .
أما الإجماع: فقال البيهقي: وأصح ما روي في القتل بالقسامة وأعلاه بعد حديث سهل ما رواه عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: حدثني خارجة بن زيد بن ثابت قال: قتل رجل من الأنصار " وهو سكران " رجلا آخر من الأنصار من بني النجار في عهد معاوية، ولم يكن على ذلك شهادة إلا لطيخ وشبهته، قال فاجتمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول، ثم يسلم إليهم فيقتلوه، قال خارجة بن زيد: فركبنا إلى معاوية وقصصنا عليه القصة، فكتب معاوية إلى سعيد بن العاص، فذكر الحديث، وفيه فقال سعيد: أنا منفذ كتاب أمير المؤمنين، فاغدوا على بركة الله، فغدونا عليه، فأسلمه إلينا سعيد بعد أن حلفنا عليه خمسين يمينا.
وفي بعض طرقه "وفي الناس يومئذ من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن فقهاء الناس ما لا يحصى، وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول، ويقتلوا ويستحيوا، فحلفوا خمسين يمينا وقتلوا، وكانوا يخبرون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى بالقسامة". انتهى بواسطة ابن القيم (5) وأما الاستصحاب: فقد نقل الأبي عن القاضي عياض أن القسامة أصل في نفسها، شرعت لحياة الناس، وليرتدع المعتدي، والدعاوى في الأموال على سننها، فكل أصل صحيح في نفسه يتبع، ولا تطرح سنة بسنة (6) وقد سبق ذكر هذا دليلا ونوقش هناك، فاكتفي به عن إعادة مناقشته خشية الإطالة.
__________
(1) فتح الباري ج12 ص23. .
(2) سنن الترمذي الأحكام (1341) .
(3) سنن الترمذي الأحكام (1341) .
(4) تخليص الجبر ج4 ص39. .
(5) شرح ابن القيم لسنن أبي داود، وعليها عون المعبود ج12 ص254. .
(6) إكمال إكمال المعلم ج4 ص395. .(4/125)
وأما النظر: فقال الأبي نقلا عن القاضي عياض: القسامة إنما تكون مع الشبهة القوية على القتل، ومع الشبهة صارت اليمين له (1) .
وأما القياس: فقال ابن قدامة: ولأنها أيمان مكررة فيبدأ فيها بأيمان المدعين كاللعان (2) ويمكن أن يقال: بأن هذا قياس مع النص، وهو ما ورد من الأدلة دالا على البدء بالمدعى عليهم بالأيمان المتعارضة، ومن جهة الترجيح فلا نطيل الكلام بإعادتها.
وذهبت طائفة أخرى من أهل العلم إلى أنه يبدأ أولا بالمدعى عليهم فتوجه إليهم الأيمان.
قال الأبي نقلا عن الإمام مالك -رحمه الله-: وقال الكوفيون وكثير من البصريين والمدنيين، ويروى عن عمر أن المبدأ المدعى عليهم (3) ثم قال: قلت: واختلف هؤلاء فقال بعضهم: إن حلفوا برئوا، وقال بعضهم: يحلفون وتكون الدية عليهم.
وقال ابن قدامة، وقال الحسن: يستحلف المدعى عليهم أولا خمسين يمينا ويبرءون وإن أبوا أن يحلفوا استحلف خمسون من المدعين أن: حقنا قبلكم ثم يعطون الدية (4) وقال أيضا: وقال الشعبي والنخعي وأصحاب الرأي: يستحلف خمسون رجلا من أهل المحلة التي وجد فيها القتيل بالله ما قتلناه ولا علمنا قاتلا، ويغرمون الدية (5) وقد استدل أصحاب هذا القول بالسنة، والأثر، والقياس:
أما السنة:
فمن ذلك ما أخرجه البخاري بالسند المتصل قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سعيد بن عبيد، عن بشير بن سيار -الحديث إلى أن قال- فقال لهم: «" تأتون بالبينة على من قتله " قالوا: ما لنا بينة قال: " فيحلفون " قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يطل دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة (6) » ، وفي رواية أبي قلابة قال: «أترضون نفل خمسين من اليهود ما
__________
(1) إكمال إكمال المعلم ج4 ص395. .
(2) المغني ج8 ص496. .
(3) إكمال إكمال المعلم ج4 ص395.
(4) المغني ج8 ص495. .
(5) المغني ج8 ص495. .
(6) صحيح البخاري الديات (6898) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4523) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .(4/126)
قتلوه؟ " فقالوا: ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم ينتفلون، قال: "أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم؟ " قالوا: ما كنا لنحلف، فوداه من عنده (1) » .
ويمكن أن يجاب عن ذلك بجوابين:
الأول: الجمع، وسبق ذكر ذلك في مناقشة الدليل الأول للقائلين بأنه يبدأ بالمدعين.
الثاني: قال القاضي عياض: وما احتج به الآخرون من رواية من روى أنه بدأ بالمدعى عليهم.
قال المحدثون: هي وهم من راويها (2) ويمكن أن يناقش هذان الجوابان بما ذكره ابن رشد من أن الذين يرون البدء بالمدعى عليهم بالأيمان قالوا: وأحاديثنا هذه أولى من التي تروى فيها تبدئة المدعين بالأيمان؛ لأن الأصل شاهد لأحاديثنا من أن اليمين على المدعى عليه (3) .
ويناقش الجواب الثاني بما ذكره ابن رشد من أن الأحاديث المتعارضة في ذلك مشهورة (4) ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة بقول الحطاب: الرواية الصحيحة المستفيضة أنه إنما بدأ فيه بالمدعين (5) ومنها ما رواه أبو داود في سننه قال: حدثنا الحسن بن محمد الصباح الزعفراني، أخبرنا أبو نعيم، أخبرنا سعيد بن عبيد الطائي، عن بشير بن يسار، «زعم أن رجلا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها فوجدوا واحدهم قتيلا، فقالوا للذين وجدوه عندهم: قتلتم صاحبنا، فقالوا ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا، فانطلقنا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: فقال لهم: " تأتون بالبينة على من قتل هذا؟ " قالوا: ما لنا بينة قال: " فيحلفون لكم؟ " قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يطل دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة (6) » .
ورد هذا الحديث بقول النسائي لا نعلم أحدا تابع سعيد بن عبيد على روايته عن بشير بن يسار، وبقول مسلم: رواية سعيد بن عبيد غلط، ويحيى بن سعيد أحفظ منه.
وقال ابن القيم: والصواب رواية الجماعة الذين هم أئمة أثبات أنه بدأ بأيمان المدعين، فلما لم يحلفوا ثنى باليهود، وهذا هو المحفوظ في هذه القصة، وما سواها وهم (7) ويقول الخطابي في المعالم: في الحديث حجة لمن رأى أن اليمين على المدعى عليهم، إلا أن أسانيد الأحاديث المتقدمة أحسن اتصالا وأصح متونا.
__________
(1) صحيح البخاري الديات (6899) .
(2) إكمال إكمال المعلم ج4 ص395. .
(3) بداية المجتهد ج2 ص430. .
(4) بداية المجتهد ج2 ص430. .
(5) إكمال إكمال المعلم ج4 ص395. .
(6) صحيح البخاري الديات (6898) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4523) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .
(7) شرح سنن أبي داود ج12 ص249 - 250. .(4/127)
وقد روى ثلاثة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أنه بدأ في اليمين بالمدعين سهل بن أبي حثمة، ورافع بن خديج، وسويد بن النعمان (1) هذا ويمكن أن تجرى فيه المناقشة التي مضت في الدليل الأول.
ومنها ما رواه أبو داود في سننه قال: حدثنا الحسن بن علي بن راشد، أنبأنا هشيم، عن أبي حيان التيمي، أخبرنا عباية بن رفاعة، «عن رافع بن خديج قال: أصبح رجل من الأنصار مقتولا بخيبر، فانطلق أولياؤه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكروا ذلك له فقال: " لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم؟ " قالوا: يا رسول الله لم يكن ثم أحد من المسلمين، إنما هم اليهود، وقد يجترئون " يجترون " على أعظم من هذا، قال: " فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم "، "فاستحلفهم" فأبوا، فوداه النبي -صلى الله عليه وسلم- من عنده (2) » .
ويمكن أن يناقش هذا الدليل بأمرين:
أحدهما: ما مضى من المناقشة من جهة المتن والدرجة.
الثاني: أن هذا الحديث من سنن الحسن بن علي بن راشد، وقد رمي بشيء من التدليس، قاله ابن حجر (3) ويجاب عن المناقشة الثانية بأنه جاء في السند: وأخبرنا هشيم، فزالت تهمة التدليس بذلك، وقد حسن ابن التركماني إسناده فقال: ومنها ما أخرج أبو داود بسند حسن عن رافع بن خديج، وساق الحديث (4) ومنها ما رواه أبو داود في سننه قال: حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني أخبرنا "حدثني " محمد -يعني ابن سلمة - عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن عبد الرحمن بن بجيد قال: إن سهلا، وإن أوهم الحديث «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى اليهود: " أنه قد وجد بين أظهركم قتيل فدوه " فكتبوا يحلفون بالله خمسين يمينا ما قتلناه وما علمنا له قاتلا.
قال: فوداه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عنده مائة ناقة (5) » .
ورد هذا الحديث أولا بقول المنذري: في إسناده محمد بن إسحاق، وقد تقدم الكلام فيه، وبقول الإمام الشافعي: فقال قائل: ما منعك أن تأخذ بحديث ابن بجيد؟ قلت: لا أعلم ابن بجيد سمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن لم يكن سمع منه، فهو مرسل فلسنا وإياك نثبت المرسل، وقد علمت سهلا صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- وسمع منه، وساق الحديث سياقا لا يثبت به الإثبات، فأخذت به كما وصفت. انتهى بواسطة المنذري.
وفي الإصابة في ترجمة عبد الرحمن بن بجيد: قال أبو بكر بن أبي داود: له صحبة، وقال ابن أبي حاتم: روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن جدته، وقال ابن حبان: يقال له صحبة، ثم ذكره في
__________
(1) عون المعبود على سنن أبي داود ومعه معالم السنن للخطابي ج12 ص254. .
(2) سنن أبو داود الديات (4524) .
(3) أضواء البيان ج3 ص503. .
(4) الجوهر النقي في الرد على البيهقي. .
(5) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4525) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .(4/128)
ثقات التابعين، وقال البغوي: لا أدري له صحبة أم لا.
وقال ابن عمر: أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يسمع منه فيما أحسب، وفي صحبته نظر؛ لأنه روى، فمنهم من يقول إن حديثه مرسل، وكان يذكر بالعلم. انتهى (1) .
ويجاب ثانيا بما أجيب به عن الحديث الأول من هذه الأدلة.
ومنها ما رواه أبو داود في سننه قال: حدثنا الحسن بن علي، أخبرنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، «عن رجال من الأنصار أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لليهود وبدأ بهم: " يحلف منكم خمسون رجلا " فأبوا، فقال للأنصار: " استحقوا (2) » ، فقالوا نحلف على الغيب يا رسول الله! فجعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دية على يهود؛ لأنه وجد بين أظهرهم) .
ورد هذا الحديث بقول المنذري: قال بعضهم: وهذا حديث ضعيف لا يلتفت إليه، وقد قيل للإمام الشافعي -رضي الله عنه- ما منعك أن تأخذ بحديث ابن شهاب؟ فقال: مرسل، والقتيل أنصاري، والأنصاريون بالعناية أولى بالعلم به من غيرهم إذ كان كل ثقة، وكل عندنا بنعمة الله ثقة، قال البيهقي -رضي الله عنه-: وأظنه أراد بحديث الزهري ما روى عنه معمر عن أبي سلمة وسليمان بن يسار عن رجال من الأنصار، وذكر هذا الحديث (3) وقال ابن القيم: وهذا الحديث له علة وهي أن معمرا انفرد به عن الزهري، وخالفه ابن جريج وغيره، فرووه عن الزهري بهذا الإسناد بعينه عن أبي سلمة وسليمان عن رجال من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية، وقضى فيها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود، ذكره البيهقي.
وفي قول الشافعي: إن حديث ابن شهاب مرسل - نظر، والرجال من الأنصار لا يمتنع أن يكونوا صحابة، فإن أبا سلمة وسليمان كل منهما من التابعين قد لقي جماعة من الصحابة، إلا أن الحديث غير مجزوم باتصاله؛ لاحتمال كون الأنصاريين من التابعين (4) .
وأجيب عن هذا بقول ابن رشد عند ذكره لهذا الحديث بسنده هذا قال: وهو حديث صحيح الإسناد؛ لأنه رواه الثقات عن الزهري عن أبي سلمة (5) .
__________
(1) سنن أبي داود وعليها عون المعبود وشرح ابن القيم ج12 ص252.
(2) قال في عون المعبود: فقال للأنصار استحقوا، في القاموس: استحقه استوجبه، والمراد هنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر الأنصار بأن يستوجبوا الحق الذي يدعونه على اليهود بأيمانهم، فأجابوا بأنهم لا يحلفون على الغيب ج12 ص253.
(3) سنن أبي داود عليها عون المعبود ومعالم السنن للخطابي وشرح ابن القيم ج12 ص254-255. .
(4) شرح ابن القيم على سنن أبي داود ج12 ص253-254.
(5) بداية المجتهد ج2 ص430. .(4/129)
ويناقش بما سبق من أن جميع الروايات التي فيها البدء بالمدعى عليهم قال المحدثون: هي وهم من راويها.
ومنها ما رواه مسلم في صحيحه: «ولكن اليمين على المدعى عليه (1) » وفي لفظ: «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه (2) » رواه الشافعي في مسنده.
وقد أجاب ابن قدامة عن الاستدلال بهذا الحديث فقال: " اليمين على المدعى عليه " لم ترد به هذه القصة؛ لأنه يدل على أن الناس لا يعطون بدعواهم، وهنا قد أعطوا بدعواهم، على أن حديثنا أخص منه، فيجب تقديمه، ثم هو حجة عليهم؛ لكون المدعين أعطوا بمجرد دعواهم من غير بينة ولا يمين منهم، وقد رواه ابن عبد البر بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة (3) » وهذه الزيادة يتعين العمل بها؛ لأن الزيادة من الثقة مقبولة (4) وأجاب الخطابي أيضا فقال: وأما عن الحديثين الآخرين - حديث «شاهداك أو يمينه (5) » ، «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر (6) » - فإن القسامة أصل في نفسها، شرع الحكم بها لتعذر إقامة البينة حينئذ؛ لأن القاتل في الغالب إنما يقصد الخلوة والغيلة، بخلاف سائر الحقوق.
وأيضا فإنها لم تخرج عن ذلك الأصل، لأنه إنما كان القول قول المدعى عليه في تلك الحقوق لقوة جنبته بشهادة الأصل، وهو أن الأصل براءة الذمة، وهذا المعنى موجود هنا، فإنا لم نجعل القول قول المدعي إلا لقوة جنبته باللوث الذي يشهد بصدقه، فقد أهملنا ذلك الأصل ولم نطرحه بالكلية (7) .
وأما الأثر: فقال ابن رشد: واحتج هؤلاء القوم على مالك بما روي عن ابن شهاب الزهري عن سليمان بن يسار وعراك بن مالك أن عمر بن الخطاب قال للجهني الذي ادعى دم وليه على رجل من بني سعد، وكان أجرى فرسه فوطئ على إصبع الجهني فنزي فيها فمات، فقال عمر للذي ادعى عليهم: أتحلفون بالله خمسين يمينا ما مات منها؟ فأبوا أن يحلفوا وتحرجوا، فقال للمدعين: احلفوا، فأبوا، فقضى عليهم بشطر الدية (8) ويمكن أن يجاب عن هذا بأنه أثر، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة تقدم المدعين، فلا تعارض الأحاديث الصحيحة بالآثار.
وهناك آثار لا تخلو من مقال تركنا ذكرها اختصارا، ومن أراد الرجوع إليها فعليه بمراجعة: نصب الراية، والدراية، وتلخيص الحبير، وشرح ابن القيم لسنن أبي داود.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4552) ، صحيح مسلم الأقضية (1711) ، سنن الترمذي الأحكام (1342) ، سنن النسائي آداب القضاة (5425) ، سنن أبو داود الأقضية (3619) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2321) ، مسند أحمد بن حنبل (1/288) .
(2) سنن الترمذي الأحكام (1341) .
(3) سنن الترمذي الأحكام (1341) .
(4) المغني ج8 ص 496. .
(5) صحيح البخاري الرهن (2516) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2996) ، مسند أحمد بن حنبل (1/379) .
(6) سنن الترمذي الأحكام (1341) .
(7) إكمال إكمال المعلم ج4 ص 395. .
(8) بداية المجتهد ج2 ص 430. .(4/130)
وأما القياس: فقال ابن الهمام: ولأن اليمين حجة في الدفع لا الاستحقاق، وحاجة الولي إلى الاستحقاق، ولهذا لا يستحق بيمينه المال المبتذل، فأولى ألا يستحق النفس المحرمة (1) . ويمكن أن يجاب عن هذا القياس أولا بأنه قياس مع الفارق، وقد بين ذلك الإمام مالك -رحمه الله- فقال: " وإنما فرق بين القسامة في الدم والأيمان في الحقوق أن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه في حقه، وأن الرجل إذا أراد قتل الرجل لم يقتله في جماعة من الناس، وإنما يتلمس الخلوة، قال: فلو لم تكن القسامة إلا فيما تثبت فيه البينة ولو عمل فيها كما يعمل في الحقوق هلكت الدماء، واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها، ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدءون فيها ليكف الناس عن القتل، وليحذر القاتل أن يؤخذ في مثل ذلك بقول المقتول (2) .
وثانيا: أنه قياس مع النص، والقياس مع النص لا يصح، والنص ما ورد من الأدلة الصحيحة على البدء بالمدعين.
__________
(1) فتح القدير ج8 ص 385.
(2) الموطأ على المنتقى ج7 ص 61. .(4/131)
السادس: ذكر خلاف العلماء فيمن يحلف أيمان القسامة، ومستند كل مع المناقشة،
وهل ترد الأيمان إذا نقص العدد أو لا
1 - من يحلف من المدعين
اختلف أهل العلم في ذلك، فمنهم من رأى أن الوارث هو الذي يقسم، ومنهم من رأى أن العصبة هم الذين يقسمون، فمن القائلين بأن الورثة هم الذين يقسمون الإمام الشافعي -رحمه الله- وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد -رحمه الله- وفيما يلي ذكر بعض ما قالوه في ذلك مع الأدلة والمناقشة.
وقال الشافعي -رحمه الله تعالى- تحت ترجمة: " من يقسم فيه ويقسم عليه " قال: يحلف في القسامة الوارث البالغ غير المغلوب على عقله من كان منهم مسلما أو كافرا، عدلا أو غير عدل، ومحجور عليه، والقسامة في المسلمين على المشركين، والمشركين على المسلمين، والمشركين فيما بينهم مثلها على المسلمين لا تختلف.
لأن كلا: ولي دمه ووارث دية المقتول وماله، إلا أنا لا نقبل شهادة مشرك على مسلم، ولا نستدل بقوله بحال؛ لأن من حكم الإسلام إبطال أخذ الحقوق بشهادة المشركين.(4/131)
وقال الشافعي أيضا تحت ترجمة " الورثة يقسمون ": وإذا قتل الرجل فوجبت فيه القسامة لم يكن لأحد أن يقسم عليه إلا أن يكون وارثا، كان قتله عمدا أو خطأ، وذلك أنه لا تملك النفس بالقسامة إلا دية المقتول، ولا يملك دية المقتول إلا وارث، فلا يجوز أن يقسم على ما لا يستحق إلا من له المال بنفسه، أو من جعل الله تعالى له المال من الورثة.
وقال الشافعي: لو وجبت في رجل القسامة وعليه دين وله وصايا فامتنع الورثة من القسامة فسأل أهل الدين أو الموصى لهم أن يقسموا لم يكن ذلك لهم، وذلك أنهم ليسوا المجني عليه الذي وجب له على الجانين المال، ولا الورثة الذين أقامهم الله تعالى مقام الميت في ماله بقدر ما فرض له منه.
وقال الشافعي: ولو ترك القتيل وارثين فأقسم أحدهما فاستحق به نصف الدية أخذها الغرماء من يده، فإن فضل منها فضل أخذ أهل الوصايا ثلثها من يده ولم يكن لهم أن يقسموا ويأخذوا النصف الآخر، فإن أقسم الوارث الآخر أخذ الغرماء من يده ما في يده حتى يستوفوا ديونهم، وإن استوفوا أخذ أهل الوصايا الثلث مما في يده، وإن كان للغرماء مائة دينار فاستوفوها من نصف الدية الذي وجب للذي أقسم أولا ثم أقسم الآخر رجع الأول على الآخر بخمسين دينارا، ولا يرجع عليه في الوصايا؛ لأن أهل الوصايا إنما يأخذون منه ثلث ما في يده لا كله كما يأخذه الغرماء.
قال الشافعي: ولا يقسم ذو قرابة ليس بوارث، ولا ولي يتيم من ولد الميت حتى يبلغ اليتيم، فإن مات اليتيم قام ورثته في ذلك مقامه، وإن طلب ذو قرابة وهو غير وارث القتيل أن يقسم جميع القسامة لم يكن ذلك له، فإن مات ابن القتيل أو زوجة له أو أم أو جدة فورثه ذو القرابة كان له أن يقسم؛ لأنه صار وارثا.
وقد أورد الشافعي -رحمه الله- اعتراضا على تخصيصه الوارث وأجاب عنه.
قال الشافعي: فإن قال قائل ففي حديث ابن أبي ليلى ذكر أخي المقتول ورجلين معه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: «تحلفون وتستحقون (1) » فكيف لا يحلف الوارث؟ قلت: قد يمكن أن يكون قال ذلك لوارث المقتول هو وغيره، ويمكن أن يكون قال ذلك لوارثه وحده تحلفون لواحد، وقال ذلك لجماعتهم، يعني به يحلف الورثة إن كان مع أخيه الذي حكى أنه حضر النبي -صلى الله عليه وسلم- وارث غيره، أو كان أخوه غير وارث له، وهو يعني بذلك الورثة.
فإن قال قائل: ما الدلالة على هذا؟ فإن جميع حكم الله وسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما سوى القسامة أن يمين المرء لا تكون إلا فيما يدفع بها الرجل عن نفسه، كما يدفع قاذف امرأته الحد عن نفسه،
__________
(1) صحيح البخاري الجزية (3173) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .(4/132)
وينفي بها الولد، وكما يدفع بها الحق عن نفسه والحد من غيره، وفيما يأخذ بها الرجل مع شاهد ويدعي المال فينكل المدعى عليه وترد عليه اليمين فيأخذ بيمينه ونكول صاحبه بما ادعى عليه، لا أن الرجل يحلف فيبرئ غيره، ولا يحلف فيملك غيره بيمينه شيئا، فلما لم يكن في الحديث بيان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى بها لغير وارث ويستحق بها الوارث لم يجز فيها -والله أعلم- إلا أن تكون في معاني ما حكم الله عز وجل من الأيمان، ثم رسوله -صلى الله عليه وسلم- ثم المسلمون من أنه لا يملك أحد بيمين غيره شيئا.
قال الشافعي: -رحمه الله تعالى-: ولا يجب على أحد حق في القسامة حتى تكمل أيمان الورثة خمسين يمينا، وسواء كثر الورثة أو قلوا، وإذا مات الميت وترك وارثا واحدا أقسم خمسين يمينا، واستحق الدية، وإن ترك وارثين أو أكثر فكان أحدهما صغيرا أو غائبا أو مغلوبا على عقله أو حاضرا بالغا فلم يحلف فأراد أحدهما اليمين لم يحبس على غائب ولا صغير، ولم يبطل حقه من ميراثه من دمه بامتناع غيره من اليمين ولا إكذابه دعوى أخيه ولا صغره، وقيل للذي يريد اليمين: أنت لا تستوجب شيئا من الدية على المدعى عليهم ولا على عواقلهم إلا بخمسين يمينا، فإن شئت أن تعجل فتحلف خمسين يمينا وتأخذ نصيبك من الميراث لا يزاد عليه قبلت منك، وإن امتنعت فدع هذا حتى يحضر معك وارث تقبل يمينه خمسين يمينا، أو ورثته فتكمل أيمانكم خمسين يمينا، كل رجل منكم بقدر ما يجب عليه من الأيمان أو أكثر. ولا يجوز أن يزاد على وارث في الأيمان على قدر حصته من الميراث إلا في موضعين:
أحدهما: ما وصفت من أن يغيب وارث أو يصغر أو ينكل فيريد أحد الورثة اليمين، فلا يأخذ حقه إلا بكمال خمسين يمينا، فيزاد عليه في الأيمان في هذا الموضع، ولا يجبر على الأيمان، أو يدع الميت ثلاث بنين فتكون حصة كل واحد منهم سبعة عشر يمينا إلا ثلث يمين، فلا يجوز في اليمين كسر، ولا يجوز أن يحلف واحد ستة عشر يمينا، وعليه ثلث ويحلف آخر سبعة عشر ولا سبعة عشر زيادة (1) ، ويحلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينا، فيكون عليهم زيادة يمين بينهم، وهكذا من وقع عليه أو له كسر يمين جبرها.
وإن لم يدع القتيل وارثا إلا ابنه وأباه أو أخاه أجزأه أن يحلف خمسين يمينا؛ لأنه مالك المال كله، وكل من ملك شيئا حلف عليه، وهكذا لو لم يدع إلا ابنته وهي مولاته حلفت خمسين يمينا وأخذت الكل: النصف بالنسب، والنصف بالولاء، وهكذا لو لم يدع إلا زوجته وهي مولاته.
وإذا ترك أكثر من خمسين وارثا سواء في ميراثه كأنهم بنون معا أو إخوة معا أو عصبة في (2) الفقد إليه سواء حلف كل واحد منهم يمينا وإن جازوا خمسين أضعافا؛ لأنه لا يأخذ أحد مالا بغير بينة ولا إقرار من المدعى عليه بلا يمين منه، ولا يملك أحد بيمين غيره شيئا، ولو كانت فيهم زوجة فورثت الربع أو الثمن حلفت ربع الأيمان ثلاثة عشر يمينا، ويزاد عليها كسر يمين، أو ثمن الأيمان سبعة أيمان يزاد عليها كسر يمين، كما وصفت من أنه لا يجوز إذا كان على وارث كسر يمين إلا أن يأتي بيمين تامة (3) .
__________
(1) قوله ولا سبعة عشر إلخ '' كذا في الأصل وانظر.. .
(2) قوله في الفقد إليه سواء أي مستوين في درجة النسب إلى الميت، كتبه مصححه.
(3) الأم ج6 ص 80 \ 82.(4/133)
2 - قال ابن قدامة: والرواية الثانية لا يقسم إلا الوارث، وتعرض الأيمان على ورثة المقتول دون غيرهم على حسب مواريثهم، هذا ظاهر قول الخرقي، واختيار أبي حامد، وقول الشافعي، فعلى هذه الرواية تقسم بين الورثة من الرجال من ذوي الفروض والعصبات على قدر إرثهم، فإن انقسمت من غير كسر مثل أن يخلف المقتول ابنين أو أخا وزوجا، حلف كل واحد منهم خمسا وعشرين يمينا، وإن كانوا ثلاثة بنين وجدا وأخوين جبر الكسر عليهم فحلف كل واحد منهم سبعة عشر يمينا، لأن تكميل الخمسين واجب ولا يمكن تبعيض اليمين، ولا حمل بعضهم لها عن بعض فوجب تكميل اليمين المنكسرة في حق كل واحد منهم، وإن خلف أخا من أب وأخا من أم فعلى الأخ من الأم سدس الأيمان، ثم يجبر الكسر فيكون عليه تسع أيمان وعلى الأخ من الأب اثنان وأربعون، وهذا أحد قولي الشافعي.
وقال في الآخر: يحلف كل واحد من المدعين خمسين يمينا سواء تساووا في الميراث أو اختلفوا فيه؛ لأن ما حلفه الواحد إذا انفرد حلفه كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى، وعن مالك أنه قال: ينظر إلى من عليه أكثر اليمين فيجبر عليه ويسقط الآخر.
ولنا على أن الخمسين تقسم بينهم قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للأنصار «تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم (1) » .
وأكثر ما روي عنه في الأيمان خمسون، ولو حلف كل واحد خمسين لكانت مائة ومائتين وهذا خلاف النص، ولأنها حجة للمدعين فلم تزد على ما يشرع في حق الواحد كالبينة.
ويفارق اليمين على المدعى عليه فإنها ليست حجة للمدعي، ولأنها لم يمكن قسمتها فكملت في حق كل واحد لكونها لا تتبعض وما لا يتبعض يكمل كالطلاق والعتاق.
وما ذكره مالك لا يصح؛ لأنه إسقاط لليمين عمن عليه بعضها، فلم يجز كما لو تساوى الكسران بأن يكون على كل واحد من الاثنين نصفها، أو على كل واحد من الثلاثة ثلثها، وبالقياس على من عليه أكثرها، ولأن اليمين في سائر الدعاوى تكمل في حق كل واحد ويستوي من له في المدعي كثير وقليل كذا ها هنا، ولأنه يفضي إلى أن يتحمل اليمين غير من وجبت عليه، فلم يجز ذلك كاليمين الكاملة وكالجزء الأكثر (2) .
3 - قال الخرقي: وسواء كان المقتول مسلما أو كافرا، حرا أو عبدا إذا كان المقتول يقتل به المدعى عليه إذا ثبت عليه القتل؛ لأن القسامة توجب القود، إلا أن يحب الأولياء أخذ الدية.
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4712) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1631) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(2) المغني ج8 ص 502.(4/134)
قال ابن قدامة: أما إذا كان المقتول مسلما حرا فليس فيه اختلاف سواء كان المدعى عليه مسلما أو كافرا، فإن الأصل في القسامة قصة عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر فاتهم اليهود بقتله، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقسامة.
وأما إن كان المقتول كافرا أو عبدا وكان قاتله ممن يجب عليه القصاص بقتله وهو المماثل له في حاله ففيه القسامة، وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي.
وقال الزهري والثوري ومالك والأوزاعي: لا قسامة في العبد، فإنه مال، فلم تجب القسامة فيه، كقتل البهيمة، ولنا أنه قتل موجب للقصاص، فأوجب القسامة كقتل الحر.
وفارق البهيمة فإنها لا قصاص فيها، ويقسم على العبد سيده؛ لأنه المستحق لدمه.
وأم الولد، والمدبر، والمكاتب، والمعلق عتقه بصفة؛ كالقن؛ لأن الرق ثابت فيهم، وإن كان القاتل ممن لا قصاص عليه كالمسلم يقتل كافرا، أو الحر يقتل عبدا، فلا قسامة فيه، وفي ظاهر قول الخرقي وهو قول مالك؛ لأن القسامة إنما تكون فيما يوجب القود.
وقال القاضي: فيها القسامة، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي؛ لأنه قتل آدمي يوجب الكفارة، فشرعت القسامة فيه كقتل الحر المسلم، ولأن ما كان حجة في قتل الحر المسلم كان حجة في قتل العبد الكافر كالبينة، ولنا أنه قتل لا يوجب القصاص فأشبه قتل البهيمة، ولا يلزم شرعها فيما يوجب القصاص شرعها مع عدمه، بدليل أن العبد إذا اتهم بقتل سيده شرعت القسامة إذا كان القتل موجبا للقصاص، ذكره القاضي؛ لأنه لا يجوز قتله قبل ذلك، ولو لم يكن موجبا للقصاص لم تشرع القسامة (1) .
ومن القائلين بأن العصبة هم الذين يحلفون: الإمام مالك -رحمه الله- وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وفيما يلي ذكر بعض ما قالوا في ذلك:
قال مالك: -رحمه الله- والقسامة تصير إلى عصبة المقتول، وهم ولاة الدم الذين يقسمون عليه، والذين يقتل بقسامتهم، وقال مالك أيضا: يحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا (2) .
وقال الباجي: قوله: " يحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا " يحتمل أن يريد إن كان الولاة أكثر من خمسين حلف منهم خمسون، فيكون "من" للتبعيض، ويحتمل أن يريد به: يحلف من هذا الجنس خمسون، فتكون "من" للجنس إذا كان ولاة الدم خمسين فلا خلاف أن جميعهم يحلف، وإن كانوا أكثر من خمسين فقد حكى القاضي أبو محمد في ذلك روايتين:
__________
(1) المغني ج7 ص 504 - 505.
(2) الموطأ على المنتقى ج7 ص 58.(4/135)
إحداهما: يحلف منهم خمسون خمسين يمينا.
والرواية الثانية: يحلف جميعهم، والذي ذكر ابن عبدوس، وابن المواز من رواية ابن القاسم، وابن وهب عن مالك: يحلف من الولاة خمسون، وقال المغيرة وأشهب وعبد الملك: وإن كانوا أكثر من خمسين وهم في العقد سواء ففي الموازية كالإخوة وغيرهم، فليس عليهم أن يحلف منهم إلا خمسون، وهذا المشهور من المذهب في كتب المغاربة من المالكيين، وإنما اختلفوا إذا كان الأولياء خمسين فأرادوا أن يحلف منهم رجلان خمسين يمينا، ففي المجموعة عن عبد الملك: لا يجزئهم ذلك وهو كالنكول.
وقال ابن المواز: ذهب ابن القاسم إلى أن يمين رجلين منهم خمسين يمينا يجزئ وينوب عمن بقي، قال محمد: وقول ابن القاسم صواب؛ لأن أهل القسامة تجزئ أيمان بعضهم عن بعض، ولو لم يجز ذلك ولم يقل أشهب إن كانوا ثلاثة يحلفون يمينا يمينا ثم يحلف عشرون منهم عشرون يمينا، ولو كانوا مائة متساوين أجزأ يمين خمسين، قال: وأما إذا تشاح الأولياء ولم يرضوا أن يحمل بعضهم عن بعض فلا بد من قول أشهب، وبه قال ابن القاسم.
فرع: وهذا إن كان إمساك من أمسك عن اليمين يحمل ذلك عنه، وأما إن امتنع عن اليمين فتسقط الدية، قاله ابن القاسم (1) .
قال الباجي: مسألة: ولا يحلف في القسامة على قتل العمد أقل من اثنين قاله مالك في المجموعة، والموازية، قال ابن القاسم كأنه من ناحية الشهادة؛ إذ لا يقتل بأقل من شاهدين، قال أشهب وقد جعل الله لكل شهادة رجل في الزنا يمينا من الزوج في التعانه.
قال عبد الملك: ألا ترى أنه لا يحلف النساء في العمد لأنهن لا يشهدن فيه، وإنما عرضها النبي -صلى الله عليه وسلم- على جماعة، والجماعة اثنان فصاعدا، قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (2) . وأصل هذا ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه «قال للحارثيين " أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم (3) » ، وإنما كان ولي الدم رجلا واحدا وهو عبد الرحمن بن سهل أخو المقتول عبد الله بن سهل وإنما كان حويصة ومحيصة ابني عم، فلما علق النبي -صلى الله عليه وسلم- الأيمان بجماعتهم ولم يقصرها على ولي الدم كان الظاهر أنها لا تثبت إلا في حكم الجماعة، وأقل الجماعة اثنان، وقد نص عليه ابن الماجشون واحتج عليه بآية الميراث {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (4) ولا خلاف أن الأخوين يحجبان الأم عن الثلث إلى السدس، كما يفعل الثلاثة الإخوة ولا يحجبها الأخ الواحد لأن اسم الإخوة لا يتناوله.
فرق: والفرق بين ولاة القتيل لا يقسم منهم أقل من اثنين، ويقسم من جنبة القاتل واحد، وهو القاتل أن جنبة القاتل إذا عدم منها اثنان وبطلت القسامة في جنبته فرجعت في جنبة القاتل فإن لم يكن معه من يحلف معه من جهتهم كان للطالب بالدم ما يرجع إليه وهو أيمان القاتل وأولياؤه، ولو لم يقبل من القاتل، وقد يعدم أولياء
__________
(1) المنتقى على الموطأ ج7 ص 58-59.
(2) سورة النساء الآية 11
(3) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .
(4) سورة النساء الآية 11(4/136)
يحلفون معه لم يكن له ما يرجع إليه في تبرئة نفسه (1) .
قال الباجي: مسألة: فإن كان ولاة الدم اثنين حلف كل رجل منهم خمسا وعشرين يمينا، وليس لأحدهما أن يتحمل عن صاحبه شيئا من الأيمان، قال ابن المواز عن ابن القاسم: ووجه ذلك أنه لا يجوز أن يحلف أحد في العمد أكثر من خمس وعشرين يمينا، قال ابن المواز عن ابن الماجشون: ولهما أن يستعينا بمن أمكنهما من العصبة، ويبدأ بيمين الأقرب فالأقرب، يحلفون بقدر عددهم مع المعينين، فإن حلف الأولياء أكثر مما ينوبهم في العدد مع المعينين جاز ذلك، وإن حلف المعينون أكثر لم يجز ذلك.
ووجه ذلك عندي أنه نوع من النكول.
وأما إذا تساووا على حسب العدد، أو كانت أيمان الولاة أكثر فإنها على وجه العون للولاة، ولو حلف أحد الوليين خمسا وعشرين ثم استعان الآخر بأربعة وعشرين من العصبة لم يجزه أن يحلف إلا ثلاثة عشر يمينا؛ لأن المعينين تتوجه معونتهم إليه وإلى صاحبه، كما لو حلفوا قبل أن يحلف الولي الأول.
قال الباجي: مسألة: فإن كان ولي الدم واحدا جاز له أن يستعين من العصبة بواحد وأكثر من ذلك ما بينه وبين خمسين رجلا.
والأصل في ذلك ما روى أبو قلابة «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال للحارثيين اللذين ادعيا على اليهود: " أتحلفون وتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم (2) » فكان الظاهر أن هذا العدد لا يزاد عليه؛ لأن عدد الأنصار كان أكثر من ذلك، وتكون الأيمان بينهم على ما تقدم من التفسير.
وقال مالك: القسامة في قتل الخطأ يقسم الذين يدعون الدم ويستحقون بقسامتهم يحلفون خمسين يمينا تكون على قسم مواريثهم من الدية، فإن كان في الأيمان كسور إذا قسمت بينهم نظر إلى الذي يكون عليه أكثر تلك الأيمان إذا قسمت فيجبر عليه تلك اليمين.
قال الباجي: وهذا على ما قال إن ولاة الدم الذين يدعون الدم يقسمون في قتل الخطأ مع الشاهد على القتل.
قال أشهب: وكذلك إن قال: دمي عند فلان قتلني خطأ. وقال عبد الملك: ويؤخذ في ذلك بشهادة النساء فيمن علم الناس بموته، وقال ابن المواز: اختلف قول مالك في القسامة على قول القتيل في الخطأ. وقال عيسى بن دينار: أخبرني من أثق به أن قول مالك في الغريم: لا يقسم في الخطأ بقول الميت، ثم رجع فقال: يقسم مع قوله. قال القاضي أبو محمد: وجه القول الأول أنه يتهم أن يريد غنى ولده وحرمة الدم أعظم.
ووجه القول الذي رجع إليه أنه معنى يوجب القسامة في العمد فأوجبها في الخطأ كالشاهد العدل.
" فرع " فإذا قلنا إنه يقسم مع قول القتيل فإنه يقسم مع قول المسخوط والرجال والنساء ما لم يكن صغيرا
__________
(1) المنتقى على الموطأ ج7 ص 59.
(2) صحيح البخاري الديات (6899) .(4/137)
أو عبدا أو ذميا (1) .
قال الباجي: وقوله: "يحلفون خمسين يمينا" علق ذلك بالعدد؛ لأنها قسامة في دم، فاختصت بالخمسين كالعمد، ولهذا المعنى يبدأ فيها المدعون، وتكون الأيمان على الورثة إن كانوا يحيطون بالميراث على قدر مواريثهم، فإن كان في الأيمان كسر فالقسامة على أكثرهم حظا منها، قاله مالك في المجموعة.
قال عبد الملك: لا ينظر إلى كثرة ما عليه من الأيمان، وإنما ينظر إلى أكثر تلك اليمين، قال ابن القاسم: فإن كان على أحدهم نصفها وعلى الآخر ثلثها وعلى الآخر سدسها جبرت على صاحب النصف، وإن كان الوارث لا يحيط بالميراث فإنه لا يأخذ حصة من الدية حتى يحلف خمسين يمينا (2) .
قال مالك: فإن لم يكن للمقتول ورثة إلا النساء فإنهن يحلفن ويأخذن الدية، فإن لم يكن له وارث إلا رجل واحد حلف خمسين يمينا وأخذ الدية، وإنما يكون ذلك في قتل الخطأ ولا يكون في قتل العمد (3) .
قال الباجي: وهذا على ما قال أن حكم القسامة في قتل الخطأ غير حكمها في قتل العمد؛ لأنها لما اختصت القسامة في الخطأ بالمال كان ذلك للورثة رجالا كانوا أو نساء قل عددهم أو كثر، ولا يحلف في ذلك إلا وارث، وأما قتل العمد فإن مقتضاه القصاص، وإنما يقوم به العصبة من الرجال؛ فلذلك تعلقت الأيمان بهم دون النساء.
قال الأبي "ع": والأيمان في القسامة خمسون لا ينقص منها؛ لنص الحديث، يحلفها في الخطأ الورثة، فإذا لم تكن إلا امرأة لم تأخذ فرضها حتى تحلف الخمسين، وكذلك إن لم تكن الورثة إلا نساء فإنهن لا يأخذن فرضهن حتى يحلفن الخمسين يمينا، وإن كانت الورثة جماعة وزعت الأيمان على قدر المواريث.
قال الأبي: قلت: وإنما وزعت كذلك لأن الأيمان هي السبب في حصول الدية، فتوزع كما توزع الدية، فإن انكسرت منها يمين أو أكثر فإن استوت الأجزاء أكملت اليمين على كل واحد من المنكسر عليهم، وإن اختلفت كما لو كان الوارث ابنا وابنة فالمشهور أنه إنما تكمل اليمين على صاحب الجزء الأكبر، وقيل: تكمل على كل واحد من المنكسر عليهم (4) .
قال الأبي "ع": فإن لم يحضر من الورثة إلا واحد وغاب الباقون لم يأخذ الحاضر نصيبه حتى يحلف الخمسين يمينا، فإذا قدم الغائب لم يأخذ حظه من الميراث حتى يحلف نصيبه من الأيمان، ولا يكتفى بحلف الحاضر (5) .
__________
(1) المنتقى على الموطأ ج7 ص63.
(2) المنتقى على الموطأ ج7 ص63-64.
(3) الموطأ وعليه المنتقى ج7 ص64.
(4) الأبي ج4 ص395-396.
(5) الأبي ج4 ص396.(4/138)
قال ابن قدامة: اختلفت الرواية عن أحمد، فيمن تجب عليه أيمان القسامة؛ فروي أنه يحلف من العصبة الوارث منهم وغير الوارث، خمسون رجلا، كل واحد منهم يمينا واحدة. وهذا قول لمالك، فعلى هذا، يحلف الوارث منهم الذين يستحقون دمه، فإن لم يبلغوا خمسين، تمموا من سائر العصبة، يؤخذ الأقرب منهم فالأقرب من قبيلته التي ينتسب إليها، ويعرف كيفية نسبه من المقتول.
فأما من عرف أنه من القبيلة، ولم يعرف وجه النسب، لم يقسم؛ مثل أن يكون الرجل قرشيا والمقتول قرشيا، ولا يعرف كيفية نسبه منه، فلا يقسم؛ لأننا نعلم أن الناس كلهم من آدم ونوح، وكلهم يرجعون إلى أب واحد، ولو قتل من لا يعرف نسبه، لم يقسم عنه سائر الناس، فإن لم يوجد من نسبه خمسون، ردت الأيمان عليهم، وقسمت بينهم، فإن انكسرت عليهم جبر كسرها عليهم حتى تبلغ خمسين (1) .
جاء في حاشية المقنع: قوله: "وعنه يحلف من العصبة. . . إلخ" هذا قول لمالك، ونصره جماعة من الأصحاب منهم الشريف وأبو الخطاب والشيرازي وابن البناء (2) .
من يحلف من المدعى عليهم، إذا لم يحلف المدعون حلف من المدعى عليهم خمسون رجلا خمسين يمينا، هذا في المذاهب الثلاثة، ويوافقهم المذهب الحنفي في أنه يحلف خمسون رجلا خمسين يمينا، وهذا إذا أمكن عند الجميع، وإذا لم يمكن فسيأتي بيانه في رد الأيمان، وقد بسط الكاساني -رحمه الله- الكلام على تحليف المدعى عليهم مع بيان خلاف أئمة المذهب الحنفي وفي مقدمتهم أبو حنيفة -رحمه الله- فذكرنا كلامه مفصلا.
قال الكاساني: وأما بيان سبب وجوب القسامة والدية فنقول: سبب وجوبهما هو التقصير في النصرة وحفظ الموضع الذي وجد فيه القتيل ممن وجب عليه النصرة والحفظ؛ لأنه إذا وجب عليه الحفظ فلم يحفظ مع القدرة على الحفظ صار مقصرا بترك الحفظ الواجب فيؤاخذ بالتقصير زجرا عن ذلك وحملا على تحصيل الواجب، وكل من كان أخص بالنصرة والحفظ كان أولى بتحمل القسامة والدية.
لأنه أولى بالحفظ فكان التقصير منه أبلغ.
ولأنه إذا اختص بالموضع ملكا أو يدا بالتصرف كانت منفعته له، فكانت النصرة عليه؛ إذ الخراج بالضمان على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقال تبارك وتعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (3) .
ولأن القتيل إذا وجد في موضع اختص به واحد أو جماعة إما بالملك أو باليد، وهو التصرف فيه، فيتهمون
__________
(1) المغني ج8 ص501.
(2) حاشية المقنع ج3 ص440.
(3) سورة البقرة الآية 286(4/139)
أنهم قتلوه، فالشرع ألزمهم القسامة دفعا للتهمة، والدية لوجود القتيل بين أظهرهم، وإلى هذا المعنى أشار سيدنا عمر -رضي الله تعالى عنه- حينما قيل: أنبذل أموالنا وأيماننا؟ فقال: أما أيمانكم فلحقن دمائكم، وأما أموالكم فلوجود القتيل بين أظهركم، وإذا عرف هذا فنقول: القتيل إذا وجد في المحلة فالقسامة والدية على أهل المحلة للأحاديث وإجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على ما ذكرنا.
ولأن حفظ المحلة عليهم، ونفع ولاية التصرف في المحلة عائد إليهم، وهم المتهمون في قتله؛ فكانت القسامة والدية عليهم.
وكذا إذا وجد في مسجد المحلة أو في طريق المحلة؛ لما قلنا فيحلف منهم خمسون، فإن لم يكمل العدد خمسين رجلا تكرر الأيمان عليهم حتى تكمل خمسين يمينا.
لما روي عن سيدنا عمر -رضي الله تعالى عنه- أنه حلف رجال القسامة فكانوا تسعة وأربعين رجلا، فأخذ منهم واحدا، وكرر عليه اليمين حتى كملت خمسين يمينا. وكان ذلك بمحضر الصحابة -رضي الله عنهم- ولم ينقل أنه خالفه أحد؛ فيكون إجماعا.
ولأن هذه الأيمان حق ولي القتيل، فله أن يستوفيها ممن يمكن استيفاؤها منه، فإن أمكن الاستيفاء من عدد الرجال الخمسين استوفى، وإن لم يمكن يستوفي عدد الأيمان التي هي حقه، وإن كان العدد كاملا فأراد الولي أن يكرر اليمين على بعضهم ليس له ذلك، كذا ذكر محمد -رحمه الله- لأن موضوع هذه الأيمان على عدد الخمسين في الأصل لا على واحد، وإنما التكرار على واحد لضرورة نقصان العدد، ولا ضرورة عند الكمال.
وإن كان في المحلة قبائل شتى، فإن كان فيها أهل الخطة والمشترون فالقسامة والدية على أهل الخطة ما بقي منهم واحد في قول أبي حنيفة ومحمد عليهما الرحمة.
وقال أبو يوسف -رحمه الله-: عليهم وعلى المشترين جميعا.
وجه قوله: أن الوجوب على أهل الخطة باعتبار الملك، والملك ثابت للمشترين؛ ولهذا إذا لم يكن من أهل الخطة أحد كانت القسامة على المشترين.
وجه قولهما: أن أهل الخطة أصول في الملك؛ لأن ابتداء الملك ثبت لهم، وإنما انتقل عنهم إلى المشترين، فكانوا أخص بنصرة المحلة وحفظها من المشترين، فكانوا أولى بإيجاب القسامة والدية عليهم، وكان المشتري بينهم كالأجنبي، فما بقي واحد منهم لا ينتقل إلى المشتري.
وقيل: إن أبا حنيفة بنى الجواب على ما شاهد بالكوفة، وكان تدبير أمر المحلة فيها إلى أهل الخطة، وأبو يوسف رأى التدبير إلى الأشراف من أهل المحلة؛ كانوا من أهل الخطة أو لا، فبنى الجواب على ذلك، فعلى هذا لم يكن بينهما خلاف في الحقيقة؛ لأن كل واحد منهما عول على معنى الحفظ والنصرة.(4/140)
فإن فقد أهل الخطة. وكان في المحلة ملاك وسكان فالدية على الملاك لا على السكان عند أبي حنيفة ومحمد.
وعند أبي يوسف: عليهم جميعا.
له ما «روي أن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أوجب القسامة على أهل خيبر، وكانوا سكانا، (1) » ولأن للساكن اختصاصا بالدار يدا، كما أن للمالك اختصاصا بها ملكا، ويد الخصوص تكفي لوجوب القسامة.
وجه قولهما: أن المالك أخص بحفظ الموضع ونصرته من السكان؛ لأن اختصاصه اختصاص ملك، وأنه أقوى من اختصاص اليد. ألا يرى أن السكان يسكنون زمانا ثم ينتقلون.
وأما إيجاب القسامة على يهود خيبر فممنوع؛ لأنهم كانوا سكانا، بل كانوا ملاكا، فإنه روي أنه -عليه الصلاة والسلام- أقرهم على أملاكهم ووضع الجزية على رءوسهم، وما كان يؤخذ منهم كان يؤخذ على وجه الجزية لا على سبيل الأجرة.
ولو وجد قتيل في سفينة فإن لم يكن معهم ركاب فالقسامة والدية على أرباب السفينة، وعلى من يمدها ممن يملكها أو لا يملكها، وإن كان معهم فيها ركاب فعليهم جميعا، وهذا في الظاهر يؤيد قول أبي يوسف في إيجابه القسامة والدية على الملاك والسكان جميعا.
وأبو حنيفة ومحمد -رحمهما الله- يفرقان بين السفينة والمحلة؛ لأن السفينة تنقل وتحول من مكان إلى مكان فتعتبر فيها اليد دون الملك كالدابة إذا وجد عليها قتيل، بخلاف الدار فإنها لا تحتمل النقل والتحويل، فيعتبر فيها الملك والتحويل ما أمكن لا اليد. وكذا العجلة حكمها حكم السفينة؛ لأنها تنقل وتحول، ولو وجد القتيل معه رجل يحمله على ظهره فعليه القسامة والدية؛ لأن القتيل في يده.
ولو وجد جريح معه به رمق يحمله حتى أتى به أهله فمكث يوما أو يومين ثم مات لا يضمن عند أبي يوسف. وقال أبو يوسف: وفي قياس قول أبي حنيفة -رضي الله عنه- يضمن.
وجه القياس: أن الحامل قد ثبتت يده عليه مجروحا فإذا مات من الجرح فكأنه مات في يده، وهذا تفريع على من جرح في قبيلة فتحامل إلى قبيلة أخرى فمات فيهم، وقد ذكرناه فيما تقدم.
وكذلك إذا كان على دابة، ولها سائق أو قائد أو عليها راكب فعليه القسامة والدية؛ لأنه في يده، وإن اجتمع السائق والقائد والراكب فعليهم جميعا؛ لأن القتيل في أيديهم، فصار كأنه وجد في دارهم.
وإن وجد على دابة لا سائق لها ولا قائد ولا راكب عليها، فإن كان ذلك الموضع ملكا لأحد فالقسامة والدية على المالك، وإن كان لا مالك له فعلى أقرب المواضع إليه من حيث يسمع الصوت من الأمصار والقرى، وإن كان بحيث لا يسمع فهو هدر لما قلنا فيما تقدم.
فإن وجدت الدابة في محلة فعلى أهل تلك المحلة.
وكذلك إذا وجد في فلاة من الأرض أنه ينظر إن كان ذلك المكان الذي وجد فيه ملكا لإنسان فالقسامة
__________
(1) سنن النسائي القسامة (4708) ، مسند أحمد بن حنبل (5/432) .(4/141)
والدية عليه، وإن لم يكن له مالك فعلى أقرب المواضع إليه من الأمصار والقرى، إذا كانت بحيث يبلغ الصوت منها إليه، فإن كان بحيث لا يبلغ فهو هدر لما قلنا، وذكر في الأصل في قتيل وجد بين قريتين أنه يضاف إلى أقربهما.
لما روي عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «أمر بأن يوزع بين قريتين في قتيل وجد بينهما (1) » .
وكذا روي عن سيدنا عمر -رضي الله عنه- في قتيل وجد بين وادعة وأرحب، وكتب إليه عامله بذلك، فكتب إليه سيدنا عمر -رضي الله عنه- أن قس بين القريتين فأيهما كان أقرب فألزمهم، فوجد القتيل إلى وادعة أقرب فألزموا القسامة والدية، وذلك كله محمول على ما إذا كان بحيث يبلغ الصوت إلى الموضع الذي وجد فيه القتيل، كذا ذكر محمد في الأصل، حكاه الكرخي -رحمه الله- والفقه ما ذكرنا فيما تقدم.
وكذا إذا وجد بين سكتين فالقسامة والدية على أقربهما، فإن وجد في المعسكر في فلاة من الأرض، فإن كانت الأرض التي وجد فيها لها أرباب فالقسامة والدية على أرباب الأرض؛ لأنهم أخص بنصرة الموضع وحفظه، فكانوا أولى بإيجاب القسامة والدية عليهم، وهذا على أصلهما؛ لأن المعسكر كالسكان، والقسامة على الملاك لا على السكان على أصلهما، فأما على أصل أبي يوسف -رحمه الله- فالقسامة والدية عليهم جميعا، وإن يكن في ملك أحد بأن وجد في خباء أو فسطاط فعلى من يسكن الخباء والفسطاط، وعلى عواقلهم القسامة والدية.
لأن صاحب الخيمة خص بموضع الخيمة من أهل العسكر بمنزلة صاحب الدار مع أهل المحلة، ثم القسامة على صاحب الدار إذا وجد فيها قتيل لا على أهل المحلة، كذا هاهنا.
وإن وجد خارجا من الفسطاط والخباء فعلى أقرب الأخبية والفساطيط منهم القسامة والدية، كذا ذكر في ظاهر الرواية؛ لأن الأقرب أولى بإيجاب القسامة والدية؛ لما ذكرنا.
وعن أبي حنيفة -رضي الله عنه - إذا وجد بين الخيام فالقسامة والدية على جماعتهم، كالقتيل يوجد في المحلة جعل الخيام المحمولة كالمحلة على هذه الرواية، هذا إذا لم يكن العسكر لقوا عدوا، فإن كانوا قد لقوا عدوا فقاتلوا فلا قسامة، ولا دية في قتيل يوجد بين أظهرهم.
لأنهم إذا لقوا عدوا وقاتلوا فالظاهر أن العدو قتله لا المسلمون؛ إذ المسلمون لا يقتل بعضهم بعضا.
ولو وجد قتيل في أرض رجل إلى جانب قرية ليس صاحب الأرض من أهل القرية فالقسامة والدية على صاحب الأرض لا على أهل القرية؛ لأن صاحب الأرض أخص بنصرة أرضه وحفظها من أهل القرية، فكان أولى بإيجاب القسامة والدية عليه، كصاحب الدار مع أهل المحلة. . . . . ولو وجد قتيل في دار إنسان، وصاحب الدار من أهل القسامة فالقسامة والدية على صاحب الدار، وعلى عاقلته، كذا ذكر في الأصل، ولم يفصل بين ما إذا كانت العاقلة حضورا أو غيبا، وذكر في اختلاف زفر ويعقوب -رحمهما الله- أن القسامة على رب الدار وعلى عاقلته حضورا كانوا أو غيبا.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/39) .(4/142)
وقال أبو يوسف -رحمه الله-: لا قسامة على العاقلة، هكذا ذكر فيه.
وقال الكرخي -رحمه الله-: إن كانت العاقلة حضورا في المصر دخلوا في القسامة، وإن كانت غائبة فالقسامة على صاحب الدار تكرر عليه الأيمان، والدية عليه وعلى عاقلته.
أما دخول العاقلة في القسامة، إذا كانوا حضورا فهو قولهما، وظاهر قول أبي يوسف: لا قسامة على العاقلة يقتضي أن لا يدخلوا في القسامة.
وجه قول زفر -رحمه الله-: أنه لما لزمتهم الدية لزمتهم القسامة، كأهل المحلة، ولأبي يوسف أن صاحب الدار أخص بالنصرة وبالولاية والتهمة فلا تشاركه العاقلة كما لا يشارك أهل المحلة غيرهم.
ووجه قولهما: أن العاقلة إذا كانوا حضورا يلزمهم حفظ الدار ونصرتها كما يلزم صاحب الدار. وكذا يتهمون بالقتل كما يتهم صاحب الدار، فقد شاركوا في سبب وجوب القسامة، فيشاركونه في القسامة أيضا، وبهذا يقع الفرق بين حال الحضور والغيبة على ما ذكره الكرخي -رحمه الله.
لأن معنى التهمة ظاهر الانتفاء من الغيب. وكذا معنى النصرة؛ لأنه لا يلحق ذلك الموضع نصرة من جهتهم إلا أنه تجب عليهم الدية؛ لأن وجوب الدية على العاقلة لا يتعلق بالتهمة؛ فإنهم يتحملون عن القاتل المعين، إذا كان صبيا أو مجنونا أو خاطئا، وسواء كانت الدار فيها ساكن أو كانت مفرغة مغلقة فوجد فيها قتيل فعلى رب الدار وعلى عاقلته القسامة والدية.
أما على أصل أبي حنيفة ومحمد -رضي الله عنهما- فظاهر؛ لأنهما يعتبران الملك دون السكنى؛ فكان وجود السكنى فيها والعدم بمنزلة واحدة.
وأما أبو يوسف -رحمه الله - فإنما يوجب على الساكن لاختصاصه بالدار يدا، ولم يوجد ها هنا، وسواء كان الملك الذي وجد فيه القتيل خاصا أو مشتركا فالقسامة والدية على أرباب الملك؛ لما قلنا، وسواء اتفق قدر أنصباء الشركاء أو اختلف فالقسامة والدية بينهم بالسوية، حتى لو كانت الدار بين رجلين لأحدهما الثلثان وللآخر الثلث فالقسامة عليهما وعلى عاقلتهما نصفان، ويعتبر في ذلك عدد الرءوس لا قدر الأنصباء كما في الشفعة؛ لأن حفظ الدار واجب على كل واحد منهما، والحفظ لا يختلف؛ ولهذا تساويا في استحقاق الشفعة؛ لأن الاستحقاق لدفع ضرر الدخيل، وإنه لا يختلف باختلاف قدر الملك، وذكر في الجامع الصغير فيمن باع دارا وجد فيها قتيل قبل أن يقبضها المشتري: أن القسامة والدية على البائع، إذا لم يكن في البيع خيار، فإن كان فيه خيار فعلى من الدار في يده في قول أبي حنيفة.
وعند أبي يوسف ومحمد: الدية على مالك الدار إن لم يكن في البيع خيار، فإن كان فيه خيار فعلى من تصير الدار له. وعند زفر -رحمه الله- الدية على المشتري إلا أن يكون للبائع خيار، فتكون الدية عليه.
وجه قول زفر: أن الملك للمشتري إذا لم يكن فيه خيار. وكذا إذا كان الخيار للمشتري؛ لأن خيار المشتري(4/143)
لا يمنع دخول المبيع في ملكه عنده، فإذا كان الخيار للبائع فالملك له؛ لأن خياره يمنع زوال المبيع عن ملكه بلا خلاف.
وجه قولهما أنه إذا لم يكن فيه خيار فالملك للمشتري، وإنما للبائع صورة يد من غير تصرف، وصورة اليد لا مدخل لها في القسامة، كيد المودع، فكانت القسامة والدية على المشتري، وإذا كان فيه خيار فعلى من تصير الدار له؛ لأنها إذا صارت للبائع فقد انفسخ البيع، وجعل كأنه لم يكن، وإن صارت للمشتري فقد انبرم البيع وتبين أنه ملكها بالعقد من حين وجوده.
وأما تصحيح مذهب أبي حنيفة -رضي الله عنه- فمشكل من حيث الظاهر؛ لأنه يعتبر الملك فيما يحتمل النقل والتحويل لا اليد، وإن كانت اليد يد تصرف كيد الساكن، والثابت للبائع صورة يد من غير تصرف، فأولى أن لا يعتبره، لكن لا إشكال في الحقيقة؛ لأن الوجوب بترك الحفظ، والحفظ باليد حقيقة، إلا أنه يضاف الحفظ إلى الملك؛ لأن استحقاق اليد به عادة، فيقام مقام اليد، فكانت الإضافة إلى ما به حقيقة الحفظ أولى، إلا أن مطلق اليد لا يعتبر، بل اليد المستحقة بالملك، وهذه يد مستحقة بالملك بخلاف يد الساكن، وإذا وجد رجل قتيلا في دار نفسه فالقسامة والدية على عاقلته لورثته في قول أبي حنيفة -رضي الله عنه- وفي قولهما -رحمهما الله- لا شيء فيه، وهو قول زفر والحسن بن زياد -رحمهم الله- وروي عن أبي حنيفة -رحمه الله- مثل قولهم.
وجه قولهم: أن القتل صادفه، والدار ملكه، وإنما صار ملك الورثة عند الموت، والموت ليس بقتل؛ لأن القتل فعل القاتل، ولا صنع لأحد في الموت، بل هو من صنع الله -تبارك وتعالى- فلم يقتل في ملك الورثة فلا سبيل إلى إيجاب الضمان على الورثة وعواقلهم، ولأن وجوده قتيلا في دار نفسه بمنزلة مباشرة القتل بنفسه كأنه قتل نفسه بنفسه فيكون هدرا.
ولأبي حنيفة -رضي الله عنه - أن المعتبر في القسامة وقت ظهور القتيل، لا وقت وجود القتل، بدليل أن من مات قبل ذلك لا يدخل في الدية، والدار وقت ظهور القتيل لورثته؛ فكانت القسامة والدية عليهم وعلى عواقلهم تجب، كما لو وجد قتيلا في دار ابنه، فإن قيل: كيف تجب الدية عليهم وعلى عواقلهم، وأن الدية تجب لهم؟ فكيف تجب لهم وعليهم؟ وكذا عاقلتهم تتحمل عنهم لهم أيضا، وفيه إيجاب لهم أيضا وعليهم، وهذا ممتنع، فالجواب ممنوع أن الدية تجب لهم بل للقتيل؛ لأنها بدل نفسه فتكون له، وبدليل أنه يجهز منها، وتقضى منها ديونه، وتنفذ منها وصاياه، ثم ما فضل عن حاجته تستحقه ورثته لاستغناء الميت عنه، والورثة أقرب الناس إليه، وصار كما لو وجد الأب قتيلا في دار ابنه أو في بئر حفرها ابنه أليس أنه تجب القسامة والدية على الابن وعلى عاقلته ولا يمتنع ذلك؛ لما قلنا، كذا هذا.
وإن اعتبرنا وقت وجود القتل فهو ممكن أيضا.
لأنه تجب على عاقلته لتقصيرهم في حفظ الدار فتجب عليهم الدية حقا للمقتول، ثم تنتقل منه إلى ورثته عند فراغه عن حاجته، وذكر محمد إذا وجد ابن الرجل أو أخوه قتيلا في داره أن على عاقلته دية ابنه ودية أخيه، وإن كان هو وارثه؛ لما قلنا: إن وجود القتيل في الدار كمباشرة صاحبها القتل فيلزم عاقلته(4/144)
ذلك المقتول، ثم يستحقها صاحب الدار بالإرث، ولو وجد مكاتب قتيلا في دار نفسه فدمه هدر؛ لأن داره في وقت ظهور القتيل ليست لورثته بل هي على حكم ملك نفسه إلى أن يؤدي بدل الكتابة، فصار كأنه قتل نفسه فهدر دمه. . . . . رجلان كانا في بيت ليس معهما ثالث وجد أحدهما مذبوحا. . .
قال أبو يوسف: يضمن الآخر الدية. وقال محمد: لا ضمان عليه.
وجه قوله: أنه يحتمل أنه قتله صاحبه ويحتمل أنه قتل نفسه فلا يجب الضمان بالشك، ولأبي يوسف أن الظاهر أنه قتله صاحبه؛ لأن الإنسان لا يقتل نفسه ظاهرا وغالبا، واحتمال خلاف الظاهر ملحق بالعدم. ألا ترى أن مثل هذا الاحتمال ثابت في قتيل المحلة ولم يعتبر (1) .
* * *
__________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص290-294.(4/145)
إذا كان في المدعين والمدعى عليهم نساء وصبيان فهل عليهم قسامة؟
الأدلة والمناقشة
قال الكاساني: ولا تدخل المرأة في القسامة والدية في قتيل يوجد في غير ملكها؛ لأن وجوبهما بطريق النصرة وهي ليست من أهلها، وإن وجد في دارها أو في قرية لها لا يكون بها غيرها، عليها القسامة فتستحلف ويكرر عليها الأيمان، وهذا قولهما.
وقال أبو يوسف: عليها لا على عاقلتها.
وجه قوله: أن لزوم القسامة لزوم النصرة، وهي ليست من أهل النصرة فلا تدخل في القسامة؛ ولهذا لم تدخل مع أهل المحلة.
وجه قولهما: أن سبب الوجوب على المالك هو الملك مع أهلية القسامة، وقد وجد في حقها، أما الملك فثابت لها. وأما الأهلية فلأن القسامة يمين، وأنها من أهل اليمين. ألا ترى أنها تستحلف في سائر الحقوق.
ومعنى النصرة يراعى وجوده في الجملة لا في كل فرد كالمشقة في السفر. وهل تدخل مع العاقلة في الدية؟ ذكر الطحاوي ما يدل على أنها لا تدخل، فإنه قال: لا يدخل القاتل في التحمل إلا أن يكون ذكرا عاقلا بالغا، فإذا لم تدخل عند وجود القتل منها عينا فها هنا أولى، وأصحابنا -رضي الله عنهم- قالوا: إن المرأة تدخل(4/145)
مع العاقلة في الدية في هذه المسألة، وأنكروا على الطحاوي قوله، وقالوا: إن القاتل يدخل في الدية بكل حال، ويدخل في القسامة والدية الأعمى والمحدود في القذف والكافر؛ لأنهم من أهل الاستحلاف والحفظ -والله سبحانه وتعالى أعلم (1) .
وقال أيضا: الصبي والمجنون لا يدخلان في القسامة في أي موضع وجد القتيل، سواء وجد في غير ملكهما أو في ملكهما.
لأن القسامة يمين، وهما ليسا من أهل اليمين؛ ولهذا لا يستحلفان في سائر الدعاوى، ولأن القسامة تجب على من هو من أهل النصرة، وهما ليسا من أهل النصرة؛ فلا تجب القسامة عليهما، وتجب على عاقلتهما إذا وجد القتيل في ملكهما لتقصيرهم بترك النصرة اللازمة.
وهل يدخلان في الدية مع العاقلة؟ فإن وجد القتيل في غير ملكهما كالمحلة وملك إنسان لا يدخلان فيها، وإن وجد في ملكهما يدخلان؛ لأن وجود القتيل في ملكهما كمباشرتهما القتل، وهما مؤاخذان بضمان الأفعال، وعلى قياس ما ذكره الطحاوي -رحمه الله- لا يدخلان في الدية مع العاقلة أصلا، لكنه ليس بسديد؛ لأن هذا ضمان القتل، والقتل فعل، والصبي والمجنون مؤاخذان بأفعالهما (2) .
قال الشافعي: ومن وجبت له القسامة وهو غائب أو مخبول أو صبي، فلم يحضر الغائب أو حضر فلم يقسم، ولم يبلغ الصبي ولم يفق المعتوه، أو بلغ هذا وأفاق هذا فلم يقسموا ولم يبطلوا حقوقهم في القسامة حتى ماتوا قام ورثتهم مقامهم في أن يقسموا بقدر مواريثهم منه، (3) . فقوله: ولم يبلغ الصبي. نص منه -رحمه الله- أنه لا يرى دخوله في أيمان القسامة حتى يبلغ.
قال مالك: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أنه لا يحلف في القسامة في العمد أحد من النساء، وإن لم يكن للمقتول ولاة إلا النساء فليس للنساء في قتل العمد قسامة ولا عفو (4) .
قال الباجي: قوله: " لا يحلف في قسامة العمد أحد من النساء " يريد أنه لا يقسم إلا الأولياء من الرجال ومن له تعصيب، وأما من لا تعصيب له من الخؤولة وغيرهم فلا قسامة لهم، وإذا كان للقتيل أم فإن كانت معتقة أو أعتق أبوها أو جدها أقسم مواليها في العمد، قاله ابن القاسم في الموازية والمجموعة، وإن كانت أمه من العرب فلا قسامة في عمده، قال محمد: لأن العرب خؤولته، ولا ولاية للخؤولة، ومن شهد شاهد عدل بقتله عمدا، وقال: دمي عند فلان ولم يكن له عصبة وكان له من الأقارب نساء أو خؤولة فإنه لا قسامة فيه، ويحلف المدعى عليهم القتل. انتهى المقصود (5) .
__________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص294-295.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص294.
(3) الأم ج6 ص80.
(4) الموطأ ج7 ص62.
(5) المنتقى على الموطأ ج7 ص62.(4/146)
3 - سبق في كلام الشافعي -رحمه الله- أن النساء يدخلن في القسامة.
4 - قال الخرقي: والنساء والصبيان لا يقسمون.
قال ابن قدامة: يعني إذا كان المستحق نساء وصبيانا لم يقسموا؛ أما الصبيان فلا خلاف بين أهل العلم أنهم لا يقسمون، سواء كانوا من الأولياء، أو مدعى عليهم؛ لأن الأيمان حجة للحالف، والصبي لا يثبت بقوله حجة. ولو أقر على نفسه، لم يقبل، فلئلا يقبل قوله في حق غيره أولى.
وأما النساء فإذا كن من أهل القتيل، لم يستحلفن. وبهذا قال ربيعة، والثوري، والليث، والأوزاعي. . .
وقال مالك: لهن مدخل في قسامة الخطأ دون العمد. قال ابن القاسم: ولا يقسم في العمد إلا اثنان فصاعدا، كما أنه لا يقتل إلا بشاهدين.
وقال الشافعي: يقسم كل وارث بالغ؛ لأنها يمين في دعوى، فتشرع في حق النساء، كسائر الأيمان. ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يقسم خمسون رجلا منكم، وتستحقون دم صاحبكم (1) » . ولأنها حجة يثبت بها قتل العمد، فلا تسمع من النساء، كالشهادة.
ولأن الجناية المدعاة التي تجب القسامة عليها هي القتل، ولا مدخل للنساء في إثباته، وإنما يثبت المال ضمنا، فجرى ذلك مجرى رجل ادعى زوجية امرأة بعد موتها ليرثها، فإن ذلك لا يثبت بشاهد ويمين، ولا بشهادة رجل وامرأتين، وإن كان مقصودها المال. فأما إن كانت المرأة مدعى عليها القتل، فإن قلنا إنه يقسم من العصبة رجال. لم تقسم المرأة أيضا؛ لأن ذلك مختص بالرجال. وإن قلنا: يقسم المدعى عليه. فينبغي أن تستحلف؛ لأنها لا تثبت بقولها حقا ولا قتلا، وإنما هي لتبرئتها منه، فتشرع في حقها اليمين، كما لو لم يكن لوث. فعلى هذا، إذا كان في الأولياء نساء ورجال، أقسم الرجال، وسقط حكم النساء، وإن كان فيهم صبيان ورجال بالغون، أو كان فيهم حاضرون وغائبون، فقد ذكرنا من قبل أن القسامة لا تثبت حتى يحضر الغائب، فكذا لا تثبت حتى يبلغ الصبي؛ لأن الحق لا يثبت إلا ببينته الكاملة، والبينة أيمان الأولياء كلهم، والأيمان لا تدخلها النيابة.
ولأن الحق إن كان قصاصا، فلا يمكن تبعيضه، فلا فائدة في قسامة الحاضر البالغ، وإن كان غيره فلا تثبت، وقد سبق كلام مالك -رحمه الله- في قسامة النساء في القتل الخطأ.
__________
(1) سنن الترمذي الديات (1422) ، مسند أحمد بن حنبل (4/2) ، سنن الدارمي الديات (2353) .(4/147)
إلا بواسطة ثبوت القتل، وهو لا يتبعض أيضا.
وقال القاضي: إن كان القتل عمدا، لم يقسم الكبير حتى يبلغ الصغير، ولا الحاضر حتى يقدم الغائب؛ لأن حلف الكبير الحاضر لا يفيد شيئا في الحال، وإن كان موجبا للمال، كالخطأ وعمد الخطأ، فللحاضر المكلف أن يحلف، ويستحق قسطه من الدية. وهذا قول أبي بكر، وابن حامد، ومذهب الشافعي.
واختلفوا في: كم يقسم الحاضر؟
فقال ابن حامد: يقسم بقسطه من الأيمان، فإن كان الأولياء اثنين أقسم الحاضر خمسا وعشرين يمينا، وإن كانوا ثلاثة أقسم سبع عشرة يمينا.
وإن كانوا أربعة أقسم ثلاث عشرة يمينا، وكلما قدم غائب أقسم بقدر ما عليه، واستوفى حقه؛ لأنه لو كان الجميع حاضرين، لم يلزمه أكثر من قسطه، فكذلك إذا غاب بعضهم كما في سائر الحقوق.
ولأنه لا يستحق أكثر من قسطه من الدية، فلا يلزمه أكثر من قسطه من الأيمان. وقال أبو بكر: يحلف الأول خمسين يمينا. وهذا قول الشافعي.
لأن الحكم لا يثبت إلا بالبينة الكاملة، والبينة هي الأيمان كلها، ولذلك لو ادعى أحدهما دينا لأبيهما، لم يستحق نصيبه منه إلا بالبينة المثبتة لجميعه.
ولأن الخمسين في القسامة كاليمين الواحدة في سائر الحقوق. ولو ادعى مالا له فيه شركة له به شاهد لحلف يمينا كاملة، كذلك هذا.
فإذا قدم الثاني: أقسم خمسا وعشرين يمينا، وجها واحدا عند أبي بكر؛ لأنه يبني على أيمان أخيه المتقدمة.
وقال الشافعي: فيه قول آخر، أنه يقسم خمسين يمينا أيضا، لأن أخاه إنما استحق بخمسين، فكذلك هو. فإذا قدم ثالث، أو بلغ، فعلى قول أبي بكر، يقسم سبع عشرة يمينا؛ لأنه يبني على أيمان أخويه، وعلى قول الشافعي، فيه قولان: أحدهما: أنه يقسم سبع عشرة يمينا. والثاني: خمسين يمينا وإن قدم رابع، كان على هذا المثال.
قال ابن قدامة. "فصل": فإن كان فيهم من لا قسامة عليه بحال، وهو النساء، سقط حكمه، فإذا كان ابن وبنت، حلف الابن الخمسين كلها. وإن كان أخ وأخت لأم وأخ وأخت لأب، قسمت الأيمان بين الأخوين، على أحد عشر، على الأخ من الأم ثلاثة، وعلى الآخر ثمانية، ثم يجبر الكسر عليهما، فيحلف الأخ من الأب سبعة وثلاثين يمينا، والأخ من الأم أربع عشرة يمينا.
* * *(4/148)
هل ترد الأيمان إذا نقص العدد أم لا؟
الأيمان قد تكون من المدعين، وقد تكون من المدعى عليهم، وفي كلتا الحالتين قد يكون العدد الذي اتجهت إليه الأيمان كافيا فيكون خمسين رجلا، وقد ينقص العدد، وعلى هذا الأساس فالرد يكون في جانب المدعين كما يكون في جانب المدعى عليهم، وفيما يلي بعض من أقوال أهل العلم في ذلك.
أ - الرد في جانب المدعين
1 - قال الباجي: "مسألة": ولا يحمل بعض الورثة عن بعض شيئا من الأيمان في الخطأ كما يتحملها بعض العصبة عن بعض في العمد، إلا في جبر بعض اليمين، فإنها تجبر على أكثرهم حظا منها على ما تقدم، قاله ابن القاسم، قال ابن المواز: لأنه مال ولا يتحمل أحد فيه اليمين عن غيره كالديون (1) .
2 - وقال مالك: لا يقسم في قتل العمد من المدعين إلا اثنان فصاعدا، فترد الأيمان عليهما حتى يحلفا خمسين يمينا، ثم قد استحقا الدم وذلك الأمر عندنا (2) .
قال الباجي: قوله لا يقسم في قتل العمد من المدعين إلا اثنان فصاعدا يريد أنه إن لم يوجد من يستحق أن يحلف من الأولياء إلا واحد فإن الأيمان لا تثبت في جنبتي القتيل، ولكن ترد على القاتل فيحلف وحده بأن لم يوجد من يحلف معه، والفرق بينه وبينه أن جنبة القتيل لا يحلف لإثبات الدم إلا اثنان، وفي جنبة القاتل يحلف لنفي الدم واحد، لأن جنبة القتيل إذا تعذرت القسامة فيها لم يبطل الحق؛ لأن رد الأيمان على جنبة القاتل فيه استيفاء حقهم، وجنبة القاتل لو لم تقبل أيمانه وحده مع كثرة وجود ذلك لم يكن لما فاته من الحق بدل يرجع إليه؛ لأن الأيمان ترد إلى جنبة القتيل بانتقالها إلى جنبة القاتل، والله أعلم (3) .
3 - وأما رد الأيمان في المدعين إذا كانوا أقل من خمسين عند الشافعي فقد مضى في الكلام على من يحلف من الورثة.
__________
(1) المنتقى على الموطأ ج7 ص63.
(2) الموطأ وعليه المنتقى ج7 ص62.
(3) المنتقى ج7 ص62.(4/149)
4 - قال ابن مفلح: فانفرد واحد منهم -أي من المدعين الذين توجهت إليهم اليمين- حلفها، نص عليه. ونقل عنه الميموني أنه قال: لا أجترئ عليه، النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يحلف خمسون منكم على رجل منهم (1) » قلت: فبم يأخذ من قال بذلك؟ ، قال: بحديث معاوية، فإنه قصرها على ثلاثة، وكذا ابن الزبير، وفي مختصر ابن رزين: يحلف الولي يمينا وعنه خمسين، انتهى المقصود (2) .
وقد مضى أيضا الكلام على رد الأيمان في أثناء الكلام على من يحلف من الورثة.
ترديد الأيمان على المدعى عليهم
1 - قال شمس الدين السرخسي: (فإن لم يكمل العدد خمسون رجلا كررت عليهم الأيمان حتى يكملوا خمسين يمينا لما روي أن الذين جاءوا إلى عمر -رضي الله عنه- من أهل وادعة كانوا تسعة وأربعين رجلا منهم فحلفهم، ثم اختار منهم واحدا فكرر عليه اليمين؛ وهذا لأن عدد اليمين في القسامة منصوص عليه، ولا يجوز الإخلال بالعدد المنصوص عليه) (3) .
وقال: (وإن لم يكمل أهل المحلة كررت الأيمان عليهم حتى تتم خمسين) .
لما روي: أن عمر -عليه السلام- لما قضى في القسامة وافى إليه تسعة وأربعون رجلا فكرر اليمين على رجل منهم حتى تمت خمسين، ثم قضى بالدية. وعن شريح، والنخعي -رضي الله عنهما- مثل ذلك، ولأن الخمسين واجب بالسنة فيجب إتمامها ما أمكن، ولا يطلب فيه الوقوف على الفائدة لثبوتها بالسنة، ثم فيه استعظام أمر الدم، فإن كان العدد كاملا فأراد الولي أن يكرر على أحدهم فليس له ذلك؛ لأن المصير إلى التكرار ضرورة الإكمال) (4) اهـ.
قال الزيلعي (قوله: روي عن عمر لما قضى بالقسامة وافى إليه تسعة وأربعون رجلا، فكرر اليمين على رجل منهم، حتى يتم خمسين، ثم قضى بالدية. وعن شريح، والنخعي مثل ذلك) ؛ قلت: أما حديث عمر: فرواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " بنقص، فقال: حدثنا وكيع، ثنا سفيان، عن عبد الله بن يزيد الهذلي، عن أبي مليح أن عمر بن الخطاب رد عليهم الأيمان، حتى وفوا انتهى.
ورواه عبد الرزاق في " مصنفه " بتغيير، فقال: أخبرنا أبو بكر بن عبد الله عن أبي الزناد، عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب استحلف امرأة خمسين يمينا على مولى لها أصيب، ثم جعل عليها الدية (5) ثم قال الزيلعي: حديث مرفوع في الباب، رواه عبد الرزاق في " مصنفه " أخبرنا ابن جريج عن عبد العزيز بن عمر أن في كتاب عمر
__________
(1) صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن النسائي القسامة (4713) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) .
(2) الفروع ج3 ص455.
(3) الفروع ج3 ص455.
(4) نصب الراية ج4 ص395-396 والحديث عند عبد الرزاق في باب قسامة النساء ج10 من المصنف ص49.
(5) نصب الراية ج4 ص395-396 والحديث عند عبد الرزاق في باب قسامة النساء ج10 من المصنف ص49.(4/150)
ابن عبد العزيز أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «قضى في القسامة أن يحلف الأولياء، فإن لم يكن عدد يبلغ الخمسين، ردت الأيمان عليهم، بالغا ما بلغوا» . اهـ.
أثر عن أبي بكر رواه الواقدي في " كتاب الردة " حدثني الضحاك بن عثمان الأسدي عن المقبري، عن نوفل بن مساحق العامري، عن المهاجر بن أبي أمية، قال: كتب إلي أبو بكر: أن افحص لي عن داودي، وكيف كان أمر قتله، إلى أن قال: فكتب أبو بكر إلى المهاجر: أن ابعث إلي بقيس بن مكشوح في وثاق، فبعث به إليه في وثاق، فلما دخل عليه جعل قيس يتبرأ من قتل داودي، ويحلف بالله ما قتله، فأحلفه أبو بكر خمسين يمينا عند منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- مردودة عليه، بالله ما قتله، ولا يعلم له قاتلا، ثم عفا عنه أبو بكر، مختصر. . . وهو بتمامه في قصة الأسود العنسي (1) .
ثم قال الزيلعي (قوله: وعن شريح، والنخعي مثل ذلك) ؛ قلت: حديث شريح رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن أشعث، عن ابن سيرين، بلغ عن شريح، قال: جاءت قسامة، فلم يوفوا خمسين، فردد عليهم القسامة حتى أوفوا. انتهى.
حدثنا وكيع، ثنا سفيان عن هشام، عن ابن سيرين، عن شريح، قال: إذا كانوا أقل من خمسين رددت عليهم الأيمان. انتهى.
وحديث النخعي رواه عبد الرزاق في " مصنفه " أخبرنا الثوري عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: إذا لم تبلغ القسامة، كرروا حتى يحلفوا خمسين يمينا. انتهى.
ورواه ابن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الشيباني، عن حماد، عن إبراهيم، نحوه سواء. انتهى.
2 - قال الباجي: "فصل": وقوله: "فإن لم يبلغوا -أي المدعى عليهم- خمسين رجلا ردت عليهم الأيمان، يحتمل أن يريد به إن لم يكن من يجوز أن يحلف من أولياء القاتل من يبلغ خمسين رجلا، يريد وكان من وجد منهم اثنان فزائد ردت الأيمان على من وجد منهم حتى يستوفوا خمسين يمينا، قال ابن الماجشون في الواضحة: لهم أن يستعينوا بولاتهم وعصبتهم وعشيرتهم كما كان ذلك لولاة المقتول، وقاله المغيرة، وأصبغ، وقال مطرف عن مالك: لا يجوز للمدعى عليهم واحدا كانوا أو جماعة أن يستعينوا بمن يحلف معهم كما يفعل ولاة المقتول؛ لأنهم إنما يبرئون أنفسهم. وقد تقدم ذكره، ويحتمل أن يريد به: فإن لم يبلغ الذين تطوعوا بالأيمان معه خمسين رجلا؛ لأن غيره ممن كان يصح أن يحلف معه أبوا من ذلك فإن الخمسين يمينا ترد على من تطوع بذلك.
قال الباجي: " فصل ": وقوله: فإن لم يجد المدعى عليه القتل من يحلف معه حلف وحده خمسين يمينا، وبرئ، والفرق بين الأيمان والحالفين أن الأيمان لا ضرورة تدعو إلى التبعيض فيها عن العدد المشروع، وقد يعدم في الأغلب عدد الحالفين (2) .
__________
(1) نصب الراية ج4 ص396.
(2) المنتقى ج7 ص 60-61.(4/151)
3 - قال المزني وقال الشافعي: إن وجد قتيل في محلة قوم لا يخالطهم غيرهم، أو في صحراء، أو مسجد، أو سوق فلا قسامة، وإن ادعى وليه على أهل المحلة لم يحلف إلا من أثبتوه بعينه، وإن كانوا ألفا فيحلفون يمينا يمينا؛ لأنهم يزيدون على خمسين، فإن لم يبق منهم إلا واحد حلف خمسين يمينا وبرئ، فإن نكلوا حلف ولاة الدم خمسين يمينا واستحقوا الدية في أموالهم إن كان عمدا، وعلى عواقلهم في ثلاث سنين إن كان خطأ (1) .
قال ابن قدامة -رحمه الله تعالى -: "فصل" إذا ردت الأيمان على المدعى عليهم وكان عمدا لم تجز على أكثر من واحد فيحلف خمسين يمينا.
وإن كان عن غير عمد كالخطأ وشبه العمد فظاهر كلام الخرقي أنه لا قسامة في هذا؛ لأن القسامة من شرطها اللوث والعداوة إنما أثرها في تعمد القتل لا في خطئه، فإن احتمال الخطأ في العمد وغيره سواء.
وقال غيره من أصحابنا: فيه قسامة وهو قول الشافعي؛ لأن اللوث لا يختص العداوة عندهم، فعلى هذا تجوز الدعوى على الجماعة، فإذا ادعى على جماعة لزم كل واحد منهم خمسون يمينا.
وقال بعض أصحابنا تقسم الأيمان بينهم بالحصص كقسمها بين المدعين، إلا أنها ها هنا تقسم بالسوية؛ لأن المدعى عليهم متساوون فيها فهم كبني الميت.
وللشافعي قولان كالوجهين.
والحجة لهذا القول قول النبي -صلى الله عليه وسلم- «تبرئكم يهود بخمسين يمينا (2) » وفي لفظ قال: «فيحلفون لكم خمسين يمينا ويبرءون من دمه (3) » .
ولأنهم أحد المتداعين في القسامة فتسقط الأيمان على عددهم كالمدعين، وقال مالك: يحلف من المدعى عليهم خمسون رجلا خمسين يمينا فإن لم يبلغوا خمسين رجلا رددت على من حلف منهم حتى تكمل خمسين يمينا، فإن لم يوجد أحد يحلف إلا الذي ادعى عليه حلف وحده خمسين يمينا.
لقوله -صلى الله عليه وسلم- «فتبرئكم يهود بخمسين يمينا (4) »
ولنا أن هذه أيمان يبرئ بها كل واحد نفسه من القتل، فكان على كل واحد خمسون، كما لو ادعى على كل واحد وحده قتيل.
ولأنه يبرئ المدعى عليه حال الاشتراك إلا ما يبرئه حال الانفراد.
ولأن كل واحد منهم يحلف على غيره ما حلف عليه صاحبه بخلاف المدعين فإن أيمانهم على شيء واحد،
__________
(1) مختصر المزني بهامش الأم ج5 ص152.
(2) صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4714) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(4) صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4712) ، موطأ مالك القسامة (1631) .(4/152)
فلا
يلزم من تلفيقها تلفيق ما يختلف مدلوله أو مقصوده (1) .
ولابن حزم -رحمه الله - كلام فيمن يحلف وكم يحلف مع ذكر المذاهب والأدلة ومناقشتها، رأت اللجنة أن تختم هذه الفقرة بذكره.
قال ابن حزم: فيمن يحلف بالقسامة، قال أبو محمد -رحمه الله-: اتفق القائلون بالقسامة على أنه يحلف فيها الرجال الأحرار البالغون العقلاء من عشيرة المقتول الوارثين له، واختلفوا فيما وراء ذلك في وجوه منها: هل يحلف من لا يرث من العصبة أم لا، وهل يحلف العبد في جملتهم أم لا، وهل تحلف المرأة فيهم أم لا وهل يحلف المولى من فوق أم لا، وهل يحلف المولى الأسفل فيهم أم لا، وهل يحلف الحليف أم لا؟ فوجب لما تنازعوا على ما أوجبه الله تعالى علينا عند التنازع إذ يقول تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (2) ، الآية ففعلنا فوجدنا رسول الله -عليه السلام- قال في حديث القسامة الذي لا يصح عنه غيره كما قد تقصيناه قبل: «تحلفون وتستحقون ويحلف خمسون منكم (3) » فخاطب النبي -عليه الصلاة والسلام- بني حارثة عصبة المقتول، وبيقين يدري كل ذي معرفة أن ورثة عبد الله بن سهل -رضي الله عنه- لم يكونوا خمسين وما كان له وارث إلا أخوه عبد الرحمن وحده، وكان المخاطب بالتحليف ابني عمه محيصة وحويصة وهما غير وارثين له، فصح أن العصبة يحلفون وإن لم يكونوا وارثين، وصح أن من نشط لليمين منهم كان ذلك له، سواء كان بذلك أقرب إلى المقتول أو أبعد منه؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاطب ابني العم كما خاطب الأخ خطابا مستويا لم يقدم فيه أحدا منهم، وكذلك لم يدخل في التحليف إلا البطن الذي يعرف المقتول بالانتساب إليه؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يخاطب بذلك إلا بني حارثة الذي كان المقتول معروفا بالنسب فيهم، ولم يخاطب بذلك سائر بطون الأنصار كبني عبد الأشهل، وبني ظفر وبني زعورا، وهم إخوة بني حارثة، فلا يجوز أن يدخل فيهم من لم يدخله رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد -رحمه الله -: فإن كان في العصبة عبد صريح النسب فيهم، إلا أن أباه تزوج أمة لقوم فلحقه الرق لذلك، فإنه يحلف معهم إن شاء؛ لأنه منهم، ولم يخص -عليه السلام- إذ قال: " خمسون منكم " حرا من عبد إذا كان منهم كما كان عمار بن ياسر -رضي الله عنه- من طينة عنس، ولحقه الرق لبني مخزوم كما كان عامر بن فهيرة أزديا صريحا فلحقه الرق؛ لأن أباه تزوج فهيرة أمة أبي بكر -رضي الله عنه- وكما كان المقداد بن عمرو بهرانيا قحا، ولحقه الرق من قبل أمه. وبالله.
تعالى التوفيق.
وأما المرأة فقد ذكرنا قبل أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أحلف امرأة في القسامة وهي طالبة فحلفت، وقضى لها بالدية على مولى لها. وقال المتأخرون: لا تحلف المرأة أصلا، واحتجوا بأنه إنما يحلف من تلزمه له النصرة، وهذا باطل مؤيد بباطل؛ لأن النصرة واجبة على كل مسلم بما روينا من طريق البخاري
__________
(1) المغني جزء 8 ص 503- 504.
(2) سورة النساء الآية 59
(3) صحيح البخاري الجزية (3173) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .(4/153)
نا مسدد، نا معتمر بن سليمان، عن حميد، عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «انصر أخاك ظالما كان أو مظلوما، قالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: تأخذ فوق يديه (1) » ". وروينا من طريق مسلم نا أحمد بن عبد الله بن يونس، نا زهير - هو ابن معاوية - نا أشعث - هو ابن أبي الشعثاء - ني معاوية بن سويد بن مقرن، قال: دخلنا على البراء بن عازب فسمعته يقول: «أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبع، ونهانا عن سبع، أمرنا: بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار القسم أو المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام (2) » . فقد افترض الله تعالى نصر إخواننا. قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (3) . نعم، ونصر أهل الذمة فرض، قال الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (4) . فقد صح أنه ليس أحد أولى بالنصرة من غيره من أهل الإسلام فوجب أن تحلف المرأة إن شاءت، وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «يحلف خمسون منكم (5) » وهذا لفظ يعم النساء والرجال. وإنما ذكرنا حكم عمر لئلا يدعوا لنا الإجماع. فأما الصبيان والمجانين، فغير مخاطبين أصلا بشيء من الدين، قال -صلى الله عليه وسلم-: «رفع القلم عن ثلاث (6) » . فذكر: الصبي والمجنون، مع أنه إجماع ألا يحلفا في القسامة؛ متيقن لا شك فيه. وأما المولى من فوق، والمولى من أسفل، والحليف، فإن قوما قالوا: قد صح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال «مولى القوم منهم (7) » «ومولى القوم من أنفسهم (8) » . وأثبت الحلف في الجاهلية، قالوا: ونحن نعلم يقينا أنه قد كان لبني حارثة موال من أسفل، وحلفاء، لا شك في ذلك، ولا مرية، فوجب أن يحلفوا معهم.
قال أبو محمد -رحمه الله-: أما قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " مولى القوم منهم - ومن أنفسهم " فصحيح، وكذلك كون بني حارثة لهم الحلفاء والموالي من أسفل بلا شك؟ إلا أننا لسنا على يقين من أن بني حارثة إذ قال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- -: " «تحلفون وتستحقون ويحلف خمسون منكم (9) » حضر ذلك القول في ذلك المجلس حليف لهم، أو مولى لهم، ولو أيقنا أنه حضر هذا الخطاب مولى لهم، أو حليف لهم، لقلنا بأن الحليف والمولى يحلفون معهم، وإذ لا يقين عندنا أنه حضر هذا الخطاب حليف ومولى؟ فلا يجوز أن يحلف في حكم منفرد برسمه إلا من نحن على يقين من لزوم ذلك الحكم له. فإن قيل: قد قال -صلى الله عليه وسلم- «مولى القوم منهم (10) » يغني عن حضور الموالي هنالك، والحليف أيضا يسمى في لغة العرب " مولى " كما قال -عليه السلام- للأنصار أول ما لقيهم «أمن موالي يهود» يريد من حلفائهم؟ قلنا وبالله تعالى التوفيق:
قد قال -عليه الصلاة والسلام- ما ذكرتم. وقال أيضا «ابن أخت القوم منهم (11) » ، وقد أوردناه قبل بإسناده في " كتاب العاقلة " ولا خلاف في أنه لا يحلف مع أخواله؟ فنحن نقول: إن ابن أخت القوم منهم حق؛ لأنه متولد من امرأة هي منهم بحق الولادة، والحليف والمولى أيضا منهم؛ لأنهما من جملتهم، وليس في هذا القول منه -عليه السلام- ما يوجب أن يحكم للمولى والحليف بكل حكم وجب للقوم. وقد صح إجماع أهل
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2444) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .
(2) صحيح البخاري النكاح (5175) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2066) ، سنن الترمذي الأدب (2809) ، سنن النسائي الجنائز (1939) ، مسند أحمد بن حنبل (4/284) .
(3) سورة الحجرات الآية 10
(4) سورة الأنفال الآية 72
(5) صحيح البخاري المناقب (3845) ، سنن النسائي كتاب القسامة (4706) .
(6) سنن النسائي الطلاق (3432) ، سنن أبو داود الحدود (4398) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2041) ، مسند أحمد بن حنبل (6/101) ، سنن الدارمي الحدود (2296) .
(7) سنن النسائي الزكاة (2612) .
(8) صحيح البخاري الفرائض (6761) .
(9) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(10) سنن الدارمي السير (2528) .
(11) صحيح البخاري المناقب (3528) ، صحيح مسلم الزكاة (1059) ، سنن النسائي الزكاة (2611) ، مسند أحمد بن حنبل (3/246) ، سنن الدارمي السير (2527) .(4/154)
الحق على أن الخلافة لا يستحقها مولى قريش، ولا حليفهم، ولا ابن أخت القوم، وإن كان منهم. والقسامة في العمد والخطأ سواء -فيما ذكرنا- فيمن يحلف فيها، ولا فرق. انتهى المقصود (1) .
وقال أيضا: كم يحلف في القسامة؟ اختلف الناس في هذا.
فقالت طائفة: لا يحلف إلا خمسون، فإن نقص من هذا العدد واحد فأكثر: بطل حكم القسامة، وعاد الأمر إلى التداعي.
وقال آخرون: إن نقص واحد فصاعدا ردت الأيمان عليهم حتى يبلغوا اثنين، فإن كان الأولياء اثنين فقط بطلت القسامة في العمد، وأما في الخطأ فيحلف فيه واحد خمسين، وهو قول روي عن علماء أهل المدينة المتقدمين منهم.
وقال آخرون: يحلف خمسون، فإن نقص من عددهم واحد فصاعدا ردت الأيمان عليهم، حتى يرجعوا إلى واحد، فإن لم يكن للمقتول إلا ولي واحد بطلت القسامة، وعاد الحكم إلى التداعي، وهذا قول مالك.
وقال آخرون: تردد الأيمان، وإن لم يكن إلا واحد فإنه يحلف خمسين يمينا وحده، وهو قول الشافعي. وهكذا قالوا في أيمان المدعى عليهم: أنها تردد عليهم وإن لم يبق إلا واحد، ويجبر الكسر عليهم، فلما اختلفوا وجب أن ننظر: فوجدنا من قال بترديد الأيمان من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: أن في كتاب لعمر بن عبد العزيز أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «قضى في الأيمان أن يحلف الأولياء، فإن لم يكن عدد عصبته تبلغ خمسين رددت الأيمان عليهم بالغا ما بلغوا» .
ومن طريق ابن وهب أخبرني محمد بن عمرو عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب، قال: «قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمسين يمينا، ثم يحق دم المقتول إذا حلف عليه، ثم يقتل قاتله، أو تؤخذ ديته، ويحلف عليه أولياؤه -من كانوا قليلا أو كثيرا- فمن ترك منهم اليمين ثبتت على من بقي ممن يحلف، فإن نكلوا كلهم حلف المدعى عليهم خمسين يمينا: ما قتلناه، ثم بطل دمه، وإن نكلوا كلهم عقله المدعى عليهم ولا يطل دم مسلم إذا ادعي إلا بخمسين يمينا» .
قال أبو محمد -رحمه الله -: هذا لا شيء؛ لأنهما مرسلان، والمرسل لا تقوم به حجة: أما حديث عمر بن عبد العزيز ففيه: أن يحلف الأولياء، وهذا لا يقول به الحنفيون؛ فإن تعلق به المالكيون، والشافعيون قيل للمالكيين: هو أيضا حجة عليكم؛ لأنه ليس فيه أن لا يحلف إلا اثنان. وأيضا فليس هو بأولى من المرسل الذي بعده من طريق ابن وهب، وهو مخالف لقول جميعهم؛ لأن فيه: إن نكل الفريقان عقله المدعى عليهم ولا يقول به مالكي، ولا شافعي، وفيه القود بالقسامة، ولا يقول به حنفي، ولا شافعي، وفيه ترديد الأيمان جملة دون تخصيص أن يكونا اثنين كما يقول مالك. . . (2)
__________
(1) المحلى ج11 ص89-91.
(2) المحلى ج11 ص91-92.(4/155)
السابع: خلاف العلماء في الحكم على الناكل بمجرد النكول
مع الأدلة والمناقشة
لا يخلو أمر النكول من أحوال: فإما أن ينكل المدعون جميعهم عن الأيمان، أو ينكل بعضهم، وفي هذه الحال لا يخلو إما أن يكون الناكل وارثا بالفعل، أو بالإمكان. وإما أن ينكل المدعى عليهم عن الأيمان جميعهم، أو ينكل بعضهم، وفيما يلي بعض من أقوال أهل العلم في ذلك.
أ - نكول المدعيين عن الأيمان أو نكول بعضهم
سبق فيما تقدم أن الحنفية لا يرون البدء بالمدعين في الأيمان كما يراه غيرهم من الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد. ولهذا لا تأتي عندهم مسألة نكول المدعين أو بعضهم إلا في حال الرد عليهم بعد نكول المدعين.
1 - المذهب المالكي
أ - قال الباجي:
مسألة: لو نكل ولاة الدم عن القسامة، وقد وجبت لهم زاد أبو زيد عن ابن القاسم يحلف المدعى عليهم وبرئوا، وقد قال ابن المواز: فعلى المدعى عليه الجلد والسجن، قال: لم يختلف أصحاب مالك إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: إذا نكلوا فلا جلد ولا سجن وليحلف كل من ادعى عليه القتل خمسين يمينا، ويسلم من الضرب والسجن، ومن لم يحلف حبس أبدا حتى يحلف.
وجه القول الأول أن العقوبة قد ثبتت بما أوجب القسامة، فالضرب والسجن حق لله تعالى، قاله عبد الملك بن الماجشون، والقتل حق للأولياء، فإن أسقط الأولياء حقهم بالنكول من القصاص لم يملكوا إسقاط حق الله تعالى، كما لو عفوا أو عفا السلطان عن الجلد، قال عبد الملك: إنه لا يملك ذلك.(4/156)
ووجه القول الثاني: أن القتل لم يثبت قبله فيجب عليه عقوبته، ونكول الأولياء يبطل ما ادعوه من القتل فلا تجب فيه عقوبة سجن ولا ضرب (1) .
ب - قال الباجي في شرح قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أتحلف لكم يهود (2) » يحتمل أن يكون على وجه رد الأيمان على المدعى عليهم حين نكول المدعين، وهي السنة عند مالك والشافعي أن يبدأ المدعون بالأيمان، فإن نكلوا ردت على المدعى عليهم. وقال أبو حنيفة: يبدأ المدعى عليهم بالأيمان، فإن أقسموا برئوا، وإن نكلوا ردت على المدعي، والدليل على ما نقوله الحديث المتقدم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للحارثيين «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم"؟ قالوا: لا، قال: فتحلف لكم يهود؟ (3) » قال القاضي أبو محمد: قلنا: من هذا الحديث دليلان:
أحدهما: أنه بدأ المدعين بالأيمان.
والثاني: أنه نقلها عند نكولهم إلى المدعى عليهم. وقد روى أبو قلابة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «بدأ المدعى عليهم بالأيمان» وهو حديث مقطوع، وما رواه مسند من رواية أهل المدينة.
ومن جهة المعنى أن اليمين إنما يثبت في إحدى الجنبتين واللوث وهو الشاهد العدل قد قوى جهة المدعين فثبتت الأيمان في جنبتهم (4) .
قال الإمام مالك: يحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا، فإن قل عددهم أو نكل بعضهم ردت الأيمان عليهم، إلا أن ينكل أحد من ولاة المقتول ولاة الدم الذين يجوز لهم العفو عنه، فإن نكل أحد من أولئك فلا سبيل إلى الدم إذا نكل أحد منهم، قال يحيى: قال مالك: وإنما ترد الأيمان على من بقي منهم إذا نكل أحد ممن لا يجوز لهم العفو عن الدم، وإن كان واحدا، فإن الأيمان لا ترد على من بقي من ولاة الدم إذا نكل أحد منهم عن الأيمان، ولكن الأيمان إذا كان ذلك ترد على المدعى عليهم، فيحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا، فإن لم يبلغوا خمسين رجلا ردت الأيمان على من حلف منهم، فإن لم يوجد أحد يحلف إلا الذي ادعى عليه حلف هو خمسين يمينا وبرئ.
قال الباجي: قوله: فإن قل عددهم أو نكل بعضهم ردت الأيمان عليهم؛ يريد: إن قل عدد المعينين من العصبة، أو نكل بعضهم فإن كانوا أكثر من اثنين فنكل بعضهم عن معونة الولي فإن من بقي مع الولي ترد عليهم الأيمان حتى يستوفوا خمسين يمينا، فلا تبطل القسامة بنكول بعض المعينين من العصبة مع بقاء الولي أو الأولياء عن القيام بالدم والمطالبة به.
ولو نكل الولي لم يكن للمعينين القسامة ولا المطالبة بالدم، وكذلك لو كان الأولياء جماعة فنكل واحد منهم لم يكن لغيرهم قسامة في المشهور من المذهب؛ لأنه لا قسامة لغيرهم، وترد الأيمان على المدعى عليهم.
__________
(1) المنتقى ج7 ص127.
(2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .
(3) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .
(4) المنتقى ج7 ص55(4/157)
وجه القول الأول: أنهم لما تساووا في الحق لم يكن نكول بعضهم مؤثرا في سقوط حق الباقين أصله قتل الخطأ.
ووجه الرواية الثانية: أن الحق لجماعتهم وليس بعضهم بأولى من بعض بإثباته وهو لا يتبعض " فرع ".
قال القاضي أبو محمد: وهذا في العصبة، وأما البنون والإخوة فرواية واحدة أن من نكل منهم ردت الأيمان على المدعى عليهم.
ووجه ذلك أن البنين والإخوة يردون الأم من الثلث إلى السدس فكان لقرابتهم مزية، والله أعلم.
وترد الأيمان على المدعى عليهم، وفي العتبية وغيرها لابن القاسم، ورواية عن مالك إذا نكل ولاة الدم عن القسامة، ثم أرادوا أن يقسموا لم يكن ذلك لهم إن كان نكولا بينا، ومن نكل عن اليمين فقد أبطل حقه.
ووجه ذلك أن نكول من يجب عليه اليمين توجب رد اليمين على المدعى عليه كالمدعي حقا يشهد له شاهد فينكل عن اليمين مع شاهده، فإن اليمين ترد على المدعى عليه.
" مسألة ": وإذا حلف الأولياء مع المعينين لهم من العصبة بدئ بالولي ولا يبدأ بأيمان المعينين لهم قاله في المجموعة والموازية، ابن القاسم قال: وإنما يعين الولي من قرابته منه معروفة فيلتقي معه إلى جد يوارثه فأما من هو من عشيرته من غير نسب معروف فلا يقسم، كان للمقتول أو لم يكن (1) . .
قال الباجي: " فصل " وقوله: ولكن: ترد الأيمان على المدعى عليهم فيحلف منهم خمسون رجلا، يريد أنه يحلف الجماعة في النكول، كما يحلف الجماعة في الدعوى؛ لأن أيمان القسامة لما لم يحلف فيها إلا اثنان فما زاد من المدعى عليهم. وقد روى ابن حبيب عن مطرف عن مالك أنه لا يحلف إلا المدعى عليه وحده بخلاف المدعي. وقال مطرف: لأن الحالف المدعى عليه إنما يبرئ نفسه.
ووجه رواية ابن القاسم ما روى أبو قلابة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- " أنه قال للمدعين: «أترضون خمسين يمينا من اليهود ما قتلوه (2) » فمقتضى ذلك أن القسامة مختصة بهذا العدد ولا يزاد عليه؛ لأن اليهود كانوا أكثر من خمسين، ومن جهة المعنى أنه لما جاز أن يحلف مع ولي الدم المدعى له غيره جاز أن يحلف مع المدعى عليه المنكر له غيره.
ووجه آخر أن الدماء مبنية على هذا، وهو أن يتحملها غير الجاني، كالدية في قتل الخطأ، فإن الأيمان لما كانت خمسين وكانت اليمين الواحدة لا تتبعض لم يجز أن يكون الحالفون أكثر من خمسين.
__________
(1) المنتقى ج6
(2) صحيح البخاري الديات (6899) .(4/158)
" مسألة ": فإذا قلنا يحلف غيره من عصبته فقد قال ابن القاسم ورواه هو وابن وهب عن مالك: يحلف خمسون من أولياء المقتول خمسين يمينا وإن لم يكن منهم من يحلف إلا اثنان حلفا خمسين يمينا وبرئ المدعى عليه، ولا يحلف هو معهم فيحلف هو بعضها وهم بعضها، فإن لم يوجد من يحلف من عصبته إلا واحد لم يحلف معه وحلف المدعى عليه وحده خمسين يمينا.
وقال عبد الملك: يحلف هو ومن يستعان به من عصبته على السواء، وله أن يحلف هو أكثر منهم، فإن لم يوجد من يعينه حلف هو وحده خمسين يمينا.
قال محمد: قول ابن القاسم أشبه بقول مالك في موطئه وإنما أراد محمد قول مالك يحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا.
قال الباجي " فصل " وقوله خمسين يمينا وجه ذلك ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «فتبرئكم يهود بخمسين يمينا (1) » ، ومن جهة المعنى أن الأيمان المردودة يعتبر بعدتها فيما انتقلت عنه كأيمان الحقوق فكذلك الأيمان الثانية في الخمسين؛ فإن عددها فيهما سواء كأيمان اللعان. (ج6 ص60 المنتقى) .
قال ابن المواق على قول خليل: ونكول المعين غير معتبر بخلاف غيره ولو بعد، انظر قوله: فسيأتي أن أولياء الدم إن كانوا أعماما وأبعد منهم فإن مالكا حلفهم مرة كالبنين، ومرة قال: إن رضي اثنان كان لهما أن يحلفا ويستحقا حقهما من الدية. ابن شاس: إن كان الولي واحدا استعان ببعض عصبته ثم نكول المعين غير معتبر، فأما نكول أحد الأولياء فمسقط للقود. ومن ابن يونس قال ابن القاسم: إن كثر أولياء الدم أجزأ أن يحلف اثنان إذا تطاوعا ولم يترك باقيهم اليمين نكولا. قال في المدونة: فإن نكل واحد من ولاة الدم الذين يجوز عفوهم إن عفوا فلا سبيل إلى القتل، كانوا اثنين أو أكثر. قال محمد: فرق مالك بين نكول أحد الأولياء عن القسامة قبل القسامة أو بعد أن حلف جماعتهم فقال: إن نكل منهم من له العفو قبل القسامة فلا قسامة لبقيتهم ولا دم ولا دية، ويحلف المدعى عليه خمسين يمينا إن لم يجد من عصبته من يحلف معه، وإن نكل بعد يمين جماعتهم لم يسقط حظ من بقي من الدية، ونكول هذا كعفوه راجعه فيه ابن عرفة: قول ابن شاس نكول المعين لغو واضح لعدم استحقاقه ما يحلف عليه (2) انتهى المقصود.
* * *
المذهب الشافعي
قال الشافعي رحمه الله تحت ترجمة نكول الورثة واختلافهم في القسامة ومن يدعى عليهم. قال الشافعي - رحمه الله -: فإذا كان للقتيل وارثان فامتنع أحدهما من القسامة لم يمنع ذلك الآخر من أن يقسم خمسين يمينا ويستحق نصيبه من الميراث، وكذلك إن كان الورثة عددا كثيرا فنكلوا إلا
__________
(1) صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4712) ، موطأ مالك القسامة (1631) .
(2) التاج والإكليل على مواهب الجليل ج6 ص273.(4/159)
واحدا (1)
المذهب الحنبلي
1 - قال الخرقي: " فإن لم يحلف المدعون، حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ ".
2 - وقال ابن قدامة على ذلك ظاهر المذهب. وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة، وأبو الزناد، ومالك، والليث، والشافعي، وأبو ثور. وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد، أنهم يحلفون، ويغرمون الدية؛ لقضية عمر، وخبر سليمان بن يسار. وهو قول أصحاب الرأي.
ولنا، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم (2) » أي: يتبرءون منكم، وفي لفظ قال: «فيحلفون خمسين يمينا ويبرءون من دمه (3) » .
وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يغرم اليهود، وأنه أداها من عنده. ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه، فيبرأ بها، كسائر الأيمان، ولأن ذلك إعطاء بمجرد الدعوى، فلم يجز للخبر، ومخالفة مقتضى الدليل؛ فإن قول الإنسان لا يقبل على غيره بمجرده، كدعوى المال، وسائر الحقوق؛ ولأن في ذلك جمعا بين اليمين والغرم، فلم يشرع، كسائر الحقوق (4) .
3 - قال الخرقي: " فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال ". 4 - وقال ابن قدامة: على ذلك يعني أدى ديته؛ لقضية عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر، فأبى الأنصار أن يحلفوا؛ وقالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ فوداه النبي - صلى الله عليه وسلم - من عنده. كراهية أن يطل دمه ".
فإن تعذر فداؤه من بيت المال، لم يجب على المدعى عليهم شيء؛ لأن الذي يوجبه عليهم اليمين، وقد امتنع مستحقوها من استيفائها، فلم يجب لهم غيرها، كدعوى المال (5) .
5 - قال ابن مفلح: " وإن نكلوا أو كانوا نساء حلف المدعى عليه خمسين، وعنه: يغرم الدية، وعنه: من بيت المال. اختاره أبو بكر، وقدم في الموجز: يمينا واحدة، وهو رواية في التبصرة. . . فإن لم يرض الأولياء بيمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال (6)
__________
(1) الأم جـ 6 ص 82.
(2) صحيح البخاري الأدب (6142) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4716) ، سنن أبو داود الديات (4520) .
(3) سنن الترمذي الديات (1422) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) .
(4) المغني ج8 ص497.
(5) المغني ج8 ص497.
(6) المبسوط ج26 ص111.(4/160)
نكول المدعى عليهم
أ - قال شمس الدين السرخسي: إن نكلوا - أي المدعى عليهم - عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا؛ لأن الأيمان في القسامة حق مقصود لتعظيم أمر الدم، ومن لزمه حق مقصود لا تجري النيابة في إيفائه، فإذا امتنع منه فإنه يحبس ليوفي ككلمات اللعان (1) .
ب - وقال أيضا: وإذا أبى الذين وجد فيهم القتيل أن يقسموا حبسوا حتى يقسموا؛ لأن القسامة عليهم باعتبار تهمة القتيل، وقد ازدادت بنكولهم، والأيمان مقصودة هاهنا فيحبسون لإيفائها (2) .
ج - قال ابن الهمام على قول صاحب المتن: " ومن أبى منهم اليمين حبس حتى يحلف ": لأن اليمين فيه مستحقة لذاتها تعظيما لأمر الدم ولهذا يجمع بينه وبين الدية، بخلاف النكول في الأموال لأن اليمين بدل عن أصل حقه؛ ولهذا يسقط ببذل المدعي وفيما نحن فيه لا يسقط ببذل الدية، هذا الذي ذكرنا إذا ادعى الولي القتل على جميع أهل المحلة، وكذا إذا ادعى على البعض لا بأعيانهم والدعوى في العمد أو الخطأ؛ لأنهم لا يتميزون عن الباقي. ولو ادعى على البعض بأعيانهم أنه قتل وليه عمدا أو خطأ فكذلك الجواب، يدل عليه إطلاق الجواب في الكتاب، وهكذا الجواب في المبسوط.
وعن أبي يوسف في غير رواية الأصل أن في القياس تسقط القسامة والدية عن الباقين من أهل المحلة، ويقال للولي: ألك بينة؟ فإن قال: لا، يستحلف المدعى عليه يمينا واحدة. ووجهه أن القياس يأباه لاحتمال وجود القتل من غيرهم، وإنما عرف بالنص فيما إذا كان في مكان ينسب إلى المدعى عليهم والمدعي يدعي القتل عليهم، وفيما وراءه بقي على أصل القياس وصار كما إذا ادعى القتل على واحد من غيرهم. وفي الاستحسان تجب القسامة والدية على أهل المحلة؛ لأنه لا فصل في إطلاق النصوص بين دعوى ودعوى فنوجبه بالنص لا بالقياس، بخلاف ما إذا ادعى على واحد من غيرهم؛ لأنه ليس فيه نص، فلو أوجبناهما لأوجبناهما بالقياس وهو ممتنع، ثم حكم ذلك أن يثبت ما ادعاه إذا كان له بينة، وإن لم تكن استحلفه يمينا واحدة؛ لأنه ليس بقسامة لانعدام النص وامتناع القياس. ثم إن حلف برئ وإن نكل والدعوى في المال ثبت به، وإن كان في القصاص فهو على اختلاف مضى في كتاب الدعوى (3) .
__________
(1) المبسوط ج26 ص121
(2) الفروع ج3 ص456.
(3) فتح القدير ج8 ص388 - 389.(4/161)
قال قاضي زاده على قول صاحب المتن: " ومن أبى منهم اليمين حبس حتى يحلف ": قال تاج الشريعة: هذا إذا ادعى الولي القتل عمدا، أما إذا ادعاه خطأ فنكل أهل المحلة فإنه يقضي بالدية على عاقلته ولا يحبسون ليحلفوا. انتهى. " وأما سائر الشراح فلم يقيد أحد منهم هاهنا مثل ما قيده تاج الشريعة، إلا أن صاحبي النهاية والعناية قالا في صدر هذا الباب: " حكم القسامة القضاء بوجوب الدية إن حلفوا، والحبس حتى يحلفوا إن أبوا لو ادعى الولي العمد، ولو ادعى الخطأ فالقضاء بالدية عند النكول " انتهى.
ولا يخفى أن ظاهر ما ذكراه هناك يطابق ما ذكره تاج الشريعة هنا. أقول: لا يذهب عليك أن الظاهر من إطلاق جواب مسألة الكتاب هنا ومن اقتضاء دليلها الذي ذكره المصنف ومن دلالة قوله فيما بعد هذا الذي ذكرناه إذا ادعى الولي القتل على جميع أهل المحلة، وكذا إذا ادعى على البعض لا بأعيانهم، والدعوى في العمد أو الخطأ أن يكون الحبس إلى أن يحلف الناكل موجب النكول في كل واحدة من صورتي دعوى العمد ودعوى الخطأ، وعن هذا ترى أصحاب المتون قاطبة أطلقوا جواب هذه المسألة، وكذا أطلقه الإمام قاضي خان في فتاواه حيث قال: وإن امتنعوا عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا انتهى. وكذا حال سائر ثقات الأئمة في تصانيفهم، وكأن صاحب الغاية تنبه لهذا حيث قال في صدر هذا الباب: حكم القسامة القضاء بوجوب الدية على العاقلة في ثلاث سنين عندنا، وعند الشافعي إذا حلفوا برئوا، وأما إذا أبوا القسامة فيحبسون حتى يحلفوا أو يقروا انتهى فإنه جرى في بيان حكمها أيضا على الإطلاق كما ترى.
ثم أقول: التحقيق هاهنا هو أن في جواب هذه المسألة روايتين: إحداهما أنهم إن نكلوا حبسوا حتى يحلفوا على الإطلاق وهو ظاهر الروايتين عن أئمتنا الثلاثة، والأخرى أنهم إن نكلوا لا يحبسون بل يقضى بالدية على عاقلتهم في ثلاث سنين بلا تقييد بدعوى الخطأ، وهو رواية الحسن بن زياد عن أبي يوسف. وقد أفصح عنه في المحيط البرهاني حيث قال: ثم في كل موضع وجبت القسامة وحلف القاضي خمسين رجلا فنكلوا عن الحلف حبسوا حتى يحلفوا، هكذا ذكر في الكتاب. وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف أنه قال: لا يحبسون، ولكن يقضى بالدية على عاقلتهم في ثلاث سنين. وقال ابن أبي مالك: هذا قوله الآخر، وكان ما ذكر في هذه الرواية قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبي يوسف الأول، إلى هنا لفظ المحيط.
ثم أقول: بقي هاهنا إشكال، وهو أنه قد مر في باب اليمين من كتاب الدعوى أن من ادعى قصاصا على غيره فجحد استحلف بالإجماع، ثم إن نكل عن اليمين فيما دون النفس يلزمه القصاص، وإن نكل في النفس حبس حتى يحلف أو يقر عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لزمه الأرش في النفس وفيما دونها انتهى، فمقتضى إطلاق ذلك أن يكون موجب النكول في القسامة أيضا هو القضاء بالدية دون الحبس عند أبي يوسف ومحمد وإن ادعى ولي القتيل القصاص مع أن المذكور في عامة الكتب أن يكون موجب النكول في القسامة هو الحبس إلى الحلف بلا خلاف فيه من أبي يوسف ومحمد كما هو ظاهر الرواية، نعم قد ذكر أيضا في المحيط والذخيرة أنه روى الحسن بن زياد عن أبي يوسف أنه يقضي بالدية في القسامة أيضا عند النكول، لكن يبقى إشكال التنافي بين ما ذكر في المقامين على قول أبي يوسف في ظاهر الرواية وعلى قول(4/162)
محمد مطلقا فتأمل في الدفع (1) .
وقال أيضا على قوله: " وفي الاستحسان تجب القسامة والدية على أهل المحلة؛؛ لأنه لا فصل في إطلاق النصوص بين دعوى ودعوى فتوجيه بالنص لا بالقياس " قوله فيه بحث؛ لأنه إن أراد بإطلاق النصوص إطلاقها بحسب لفظها فهو مسلم لكن لا يجدي هنا نفعا، إذ من القواعد المقررة عندهم أن النص الوارد على خلاف القياس يختص بمورده والنصوص فيما نحن فيه واردة على خلاف القياس كما صرحوا به، فلا بد وأن تكون مخصوصة بموردها وهو ما إذا وجد القتيل في مكان ينسب إلى المدعى عليهم والمدعي يدعي القتل عليهم كما ذكر في وجه القياس وإن أراد إطلاقها بحسب المورد أيضا فهو ممنوع إذ لم يسمع في حق القسامة نص ورد فيما إذا ادعى الولي القتل على بعض أهل المحلة بعينه كما لا يخفى على من تتبع النصوص الواردة في هذا الباب (2) .
* * *
المذهب المالكي
قال الباجي: " فصل ": وقوله: فإن لم يجد المدعى عليه القتل من يحلف معه حلف وحده خمسين يمينا وبرئ.
وقوله: وبرئ يريد برئ من الدم وعليه جلد مائة وسجن عام قاله مالك وابن القاسم. وإن أبى أن يحلف سجن حتى يحلف وفي النوادر. وقد ذكر ابن القاسم فيه عن مالك قولا لم يصح عند غيره أن المدعى عليهم إذا ردت عليهم الأيمان فنكلوا فالعقل عليهم في مال الجارح خاصة ويقتص منه في الجرح يريد فيمن ثبت جرحه واحتيج إلى القسامة أنه من ذلك الجرح مات، وقال القاضي أبو محمد: في المدعى عليه القتل وأتى المدعون بما يوجب القسامة ونكلوا عن اليمين حلف المدعى عليه القتل وتسقط عنه الدعوى، فإن نكل ففيها روايتان:
إحداهما يحبس إلى أن يحلف. والثانية: تلزمه الدية في ماله وأراه أشار لرواية ابن القاسم. " فرع " فإذا قلنا أنه يحبس إلى أن يحلف فإن حبس وطال حبسه فقد روى القاضي أبو محمد يخلى سبيله وفي العتبية والموازية يحبس حتى يحلف قال ابن المواز: فقد اتفقوا على أن هذا إن نكل سجن أبدا حتى يحلف (3) .
* * *
__________
(1) نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار وهو تكملة فتح القدير ج8 ص388 - 389.
(2) نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار وهو تكملة فتح القدير ج8 ص389 - 390.
(3) ج6 ص61.(4/163)
المذهب الشافعي
قال الشافعي في كلامه على المدعى عليهم في القسامة: (فإذا حلفوا برئوا وإذا نكلوا عن الأيمان حلف ولاة الدم خمسين يمينا واستحقوا الدية إن كانت عمدا ففي أموالهم ورقاب العبيد منهم بقدر حصصهم فيها، وإن كانت خطأ فعلى عواقلهم، وإن كان ولي القتيل ادعى على اثنين منهم فحلف أحدهما وامتنع الآخر من اليمين برئ الذي حلف وحلف ولاة الدم على الذي نكل، ثم لزمه نصف الدية في ماله إن كان عمدا وعلى عاقلته إن كان خطأ؛ لأنهم إنما ادعوا أنه قاتل مع غيره وسواء في النكول عن اليمين المحجور عليه وغير المحجور عليه إذا نكل منهم واحد حلف المدعى عليه (1) .
وقال الشافعي: في " باب الإقرار والنكول والدعوى والدم ". وإذا ادعوا على عشرة فيهم صبي رفعت حصة الصبي عنهم من الدية إن استحقت وإن نكلوا حلف ولاة الدم وأخذوا منهم تسعة أعشار الدية فإذا بلغ الصبي حلف فبرئ أو نكل فحلف الولي وأخذ منه العشر إذا كان القتل عمدا. قال الشافعي: وإذا ادعوا على جماعة فيهم معتوه فهو كالصبي لا يحلف وذلك أنه لا يؤخذ بإقراره على نفسه فإن أفاق من العته أحلف، وتسعه اليمين بعد مسألته عما ادعوا عليه وإن نكل حلف ولاة الدم واستحقوا عليه حصته من الدية وإن ادعوا على قوم فيهم سكران لم يحلف السكران حتى يفيق، ثم يحلف فإن نكل حلف أولياء الدم واستحقوا عليه حصته من الدية. .
* * *
المذهب الحنبلي
1 - قال ابن قدامة: إن امتنع المدعى عليهم من اليمين لم يحبسوا حتى يحلفوا، وعن أحمد رواية أخرى أنهم يحبسون حتى يحلفوا، وهو قول أبي حنيفة، ولنا أنها يمين مشروعة في حق المدعى عليه، فلم يحبس عليها، كسائر الأيمان. إذا ثبت هذا، فإنه لا يجب القصاص بالنكول؛؛ لأنه حجة ضعيفة، فلا يشاط بها الدم، كالشاهد واليمين، قال القاضي: ويديه الإمام من بيت المال نص عليه أحمد. وروى عنه حرب بن إسماعيل، أن الدية تجب عليهم، وهذا هو الصحيح، وهو اختيار أبي بكر؛ لأنه حكم ثبت بالنكول، فيثبت في حقهم هاهنا، كسائر الدعاوى، ولأن وجوبها في بيت المال، يفضي إلى إهدار الدم، وإسقاط حق المدعين، مع إمكان جبره، فلم يجز، كسائر الدعاوى، ولأنها يمين توجهت في دعوى أمكن إيجاب المال بها، فلم تخل من وجوب شيء على المدعى عليه، كما في سائر الدعاوى، وهاهنا لو لم يجب على المدعى عليه مال بنكوله، ولم يجبر على اليمين؛ لخلا من وجوب شيء عليه بالكلية. وقال أصحاب الشافعي: إذا نكل المدعى عليهم ردت الأيمان على المدعين، إن قلنا: موجبها المال. فإن حلفوا، استحقوا، وإن نكلوا، فلا شيء لهم.
وإن قلنا: بوجوب القصاص. فهل ترد على المدعين؟ فيه قولان.
__________
(1) الأم ج6 ص85 في اختلاف المدعي والمدعى عليه في الدم.(4/164)
وهذا القول لا يصلح؛ لأن اليمين إنما شرعت في حق المدعى عليه إذا نكل عنها المدعي، فلا ترد عليه، كما لا ترد على المدعى عليه إذا نكل المدعي عنها بعد ردها عليه في سائر الدعاوى، ولأنها يمين مردودة على أحد المتداعيين، فلا ترد على من ردها، كدعوى المال (1) .
2 - قال ابن مفلح: وإن نكل أي المدعى عليه فعنه كذلك أي فداه الإمام من بيت المال - وعنه: يحبس حتى يقر أو يحلف، وعنه تلزمه الدية، وهي أظهر ولو رد اليمين على المدعي فليس للمدعي أن يحلف، وفي الترقيب على رد اليمين وجهان، وهما في كل نكول عن يمين مع القود إليها في مقام آخر، هل له ذلك لتعدد المقام أم لا؟ لنكوله مرة؟ (2) .
قال علي بن سليمان المقدسي: مسألة 6، 7 قوله: وإن لم يرض الأولياء يمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال، وإن نكل فعنه كذلك، وعنه يحبسه حتى يقر أو يحلف، وعنه: تلزمه الدية، وهو أظهر، انتهى. اشتمل كلامه على مسألتين: المسألة الأولى: إذا طلبوا أيمانهم ونكلوا فهل يحبس حتى يقر، أو يحلف، أم لا؟ أطلق الخلاف، وأطلقه الزركشي. " أحدهما ": لا يحبس، وهو الصحيح، جزم به في الهداية والمذهب والخلاصة والمقنع والهادي والوجيز وغيرهم، وقدمه في المغني والشرح والنظم والرعايتين والحاوي الصغير وغيرهم. " الرواية الثانية ": يحبس حتى يقر أو يحلف.
تنبيه: ظهر مما تقدم أن في إطلاق المصنف شيئا، وأن الأولى أنه كان يقدم أنه لا يحبس.
المسألة الثانية: إذا قلنا لا يحبس فهل تلزمه الدية أو تكون في بيت المال؟ أطلق الخلاف، وأطلقه في الهداية والمذهب ومسبوك الذهب والمستوعب والخلاصة والهادي والزركشي وغيرهم. " إحداهما ": تلزمه الدية، وهو الصحيح، قال المصنف هنا: وهو أظهر، واختاره أبو بكر والشريف وأبو الخطاب والشيخ الموفق وغيرهم، وصححه الشارح والناظم، وقدمه في الرعايتين. " والرواية الثانية " يكون في بيت المال، قدمه في المحرر والحاوي الصغير " (3) .
__________
(1) المغني ج8 ص498.
(2) الفروع ج3 ص456.
(3) تصحيح الفروع \ 3 \ 456.(4/165)
الثامن: ذكر خلاف العلماء فيما يثبت بالقسامة من قود أو دية وذكر مستند كل مع المناقشة
اختلف القائلون بمشروعية القسامة فمنهم من ذهب إلى أن القسامة توجب القود، ومنهم من ذهب إلى أنه لا يجب بها إلا الدية.(4/165)
أما القائلون بوجوب القود فقالوا: إن دعوى القتل إما أن تكون موجهة على أنه عمد أو خطأ، فإذا كان القتل خطأ فليس فيه إلا الدية اتفاقا، وإذا كان القتل عمدا: أ - فقال الأبي " ع ": وعلى إثباتها فالمستحق في الخطأ الدية واختلف في العمد فقال مالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه يجب فيها القصاص (1) .
واختلف القائلون بها فيما إذا كان القتل عمدا هل يجب القصاص بها؟ فقال معظم الحجازيين: يجب وهو قول الزهري وربيعة وأبي الزناد ومالك وأصحابه والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود، وهو قول الشافعي في القديم. وروي عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز، قال أبو الزناد: قلنا بها وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون أني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان (2) .
ح - وقال ابن مفلح: ويجب القود في قسامة العمد بشرطه، نص عليه، كسائر قتل العمد. قال أحمد: الذي يدفع القتل في هذا قد يبيحه بأيسر منه، فيبيحه بالظن، فلو حمل عليه بسلاح ليأخذ متاعه أليس دمه هدرا؟ وإنما هو شيء وقع في نفسه لم ينله بشيء، فكذا بما وقع في أنفسهم وعرفوه ويقسمون عليه (3) .
د - وأجاب شيخ الإسلام - رحمه الله - عن سؤال وجه إليه فقال: إذا شهد لأولياء المقتول شاهدان، ولم يثبت عدالتهما: فهذا لوث إذا حلف معه المدعون خمسين يمينا - أيمان القسامة - على واحد بعينه حكم لهم بالدم؛ وإن أقسموا على أكثر من واحد ففي القود نزاع. وأما إن ادعوا أن القتل كان خطأ أو شبه عمد مثل أن يضربوه بعصا ضربا لا يقتل مثله غالبا: فهنا إذا ادعوا على الجماعة أنهم اشتركوا في ذلك فدعواهم مقبولة ويستحقون الدية (4) . واحتجوا على ذلك بالسنة والأثر.
أما السنة
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم (5) » .
قال الباجي: نص على أن المستحق هو الدم ولا خلاف أنه أظهر في القصاص (6) . وقال ابن قدامة: أراد القاتل لأن دم القتيل ثابت لهم قبل اليمين (7) .
__________
(1) الأبي ج4 ص395.
(2) النووي على مسلم ج11 ص 133 / 144 ويرجع أيضا إلى المغني ج8 ص416.
(3) الفروع ج3 ص454.
(4) مجموع الفتاوى ج34 ص150 - 151
(5) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .
(6) المنتقى شرح الموطأ ج7 ص55
(7) المغني.(4/166)
وأجيب عن الاستدلال بهذا الحديث بما يأتي: 1 - أجاب محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة عنه بقوله: إنما قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم (1) » يعني بالدية ليس بالقود، وإنما يدل على ذلك: أنه إنما أراد الدية دون القود قوله في أول الحديث «إما أن تدوا صاحبكم، وإما أن تؤذنوا بحرب (2) » . فهذا يدل على آخر الحديث، وهو قوله: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم (3) » ، لأن الدم قد يستحق بالدية كما يستحق بالقود، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل له تحلفون وتستحقون دم من ادعيتم فيكون هذا على القود، وإنما قال لهم: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم (4) » فإنما عنى به تستحقون دم صاحبكم بالدية، لأن أول الحديث يدل على ذلك وهو قوله: «إما أن تدوا صاحبكم، وإما أن تؤذنوا بحرب (5) » ، وقد قال عمر بن الخطاب: القسامة توجب العقل، ولا تشيط الدم في أحاديث كثيرة، فبهذا نأخذ وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
2 - وأجاب السرخسي بقوله: أما قوله «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم (6) » فلا تكاد تصح هذه الزيادة، وقد قال جماعة من أهل الحديث: أوهم سهل بن أبي حثمة ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم (7) » ، (8) . 3 - وأجاب أيضا بقوله: " ولو ثبت فإنما قال ذلك على طريق الإنكار عليهم لا على طريق الأمر لهم بذلك فإنه لو كان على سبيل الأمر لكان يقول: أتحلفون فتستحقون دم صاحبكم فأما قوله: «أتحلفون وتستحقون (9) » فعلى سبيل الإنكار كقوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} (10) {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} (11) الآية، وكذلك قوله: تحلفون معناه أتحلفون كقوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} (12) معناه أتريدون وكان - عليه الصلاة والسلام - رأى منهم الرغبة في حكم الجاهلية حين أبوا أيمان اليهود وبقولهم: " نرضى بأيمان قوم كفار " فقال ذلك على سبيل الزجر فلما رأوا كراهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك رغبوا عنه بقولهم كيف نحلف على أمر لم نعاين ولم نشاهد وقد أيد ذلك الطحاوي (13) .
4 - وأجاب أيضا بقوله " ثم يحتمل أن يكون اليهود ادعوا عليهم بنقل القتيل من محلة أخرى إلى محلتهم فصاروا مدعى عليهم؛ فلهذا عرض عليهم اليمين (14) . وبقوله - صلى الله عليه وسلم - «يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته (15) » .
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .
(2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، سنن النسائي كتاب القسامة (4710) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(3) صحيح البخاري الجزية (3173) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .
(4) صحيح البخاري الجزية (3173) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .
(5) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، سنن النسائي كتاب القسامة (4710) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(6) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .
(7) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .
(8) المبسوط ج26 ص109.
(9) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) .
(10) سورة الشعراء الآية 165
(11) سورة الشعراء الآية 166
(12) سورة الأنفال الآية 67
(13) شرح معاني الآثار ج3 ص302 وما بعدها.
(14) المبسوط ج26 ص109.
(15) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .(4/167)
قال القاضي عياض: أي بالحبل الذي ربط به هذا أصله ثم استعمل فيمن دفع للقود (1) . وقال ابن دقيق العيد: يستعمل في دفع القاتل للأولياء للقتل، ولو أن الواجب الدية لبعد استعمال هذا اللفظ فيها وهو في استعماله في تسليم القاتل أظهر (2) .
وقال ابن قدامة بعد أن ذكره دليلا لوجوب الدم قال: والرمة الحبل الذي يربط به من عليه القود (3) . وأجيب عن الاستدلال بهذا الدليل بقول النووي: وتأوله القائلون لا قصاص بأن المراد أن يسلم ليستوفي منه الدية لكونه ثبتت عليه (4) . ومن ذلك ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قتل بالقسامة رجلا من بني نصر بن مالك. ومن هذا الطريق رواه البيهقي (5) وأورده المنذري وبناء على هذا الطريق: فقد أعله البيهقي بالانقطاع والمنذري بقوله: " هذا معضل وعمرو بن شعيب اختلف في الاحتجاج بحديثه " ويجاب عن هذا الاعتراض بوجوه.
أحدها: أن هذا الحديث ورد في سنن أبي داود هكذا: حدثنا محمود بن خالد وكثير بن عبيد، قالا: نا، ح ونا محمد بن صالح بن سفيان نا الوليد عن أبي عمرو عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر الحديث. . الثاني: أن رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حجة قال بذلك ابن العربي (6) والدارقطني (7) وابن عبد البر (8) قال البخاري: رأيت علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق بن راهويه يحتجون به (9) . ومنها ما أخرجه مسلم والنسائي وسليمان بن يسار، عن أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن القسامة كانت في الجاهلية، وأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما كانت عليه في الجاهلية، وقضى بها بين أناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر.
__________
(1) مشارق الآثار على صحاح الآثار ج1 ص291.
(2) أحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام وعليه العدة ج4 ص 311 والمغني جزء 8 ص 77
(3) المغني ج8 ص77.
(4) النووي على مسلم ج11 ص149.
(5) السنن الكبرى.
(6) أحكام القرآن ج1 ص12.
(7) سنن الدارقطني ج2 ص310.
(8) الجامع لأحكام القرآن ج1 ص459.
(9) سنن الدارقطني ج2 ص310(4/168)
واعترض عليه بقول ابن حجر: وهذا أي الاستدلال بهذا الحديث على القود يتوقف على ثبوت أنهم كانوا في الجاهلية يقتلون في القسامة (1) .
ويجاب عن هذا بقول البيهقي: أخبرنا أبو الحسن بن عبد الله أنبأنا أحمد بن عبيد حدثنا ابن ملحان حدثنا يحيى هو ابن بكير، أنبأنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن أناس من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أن القسامة كانت في الجاهلية قسامة الدم فأقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما كانت عليه في الجاهلية وقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أناس من الأنصار من بني حارثة ادعوه على اليهود (2) » .
* * *
وأما الأثر فمن ذلك ما ذكره البيهقي قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الرفاء البغدادي بخسروجرد، أنبأ أبو عمرو عثمان بن محمد بن بشر، ثنا إسماعيل بن إسحاق، ثنا إسماعيل بن أبي أويس وعيسى بن مينا قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد أن أباه قال: كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهى إلى قولهم يعني من أهل المدينة يقولون: يبدا باليمين في القسامة الذين يجيئون من الشهادة على اللطخ والشبهة الخفية ما لا يجيء خصماؤهم وحيث كان ذلك كانت القسامة لهم. قال أبو الزناد وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أن رجلا من الأنصار قتل وهو سكران رجلا ضربه بشوبق ولم يكن على ذلك بينة قاطعة إلا لطخ أو شبهة ذلك وفي الناس يومئذ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن فقهاء الناس ما لا يحصى وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول ويقتلوا أو يستحيوا فحلفوا خمسين يمينا وقتلوا، وكانوا يخبرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالقسامة ويرونها للذي يأتي به من اللطخ والشبهة أقوى مما يأتي به خصمه، ورأوا ذلك في الصهيبي حين قتله الحاطبيون وفي غيره. ثم قال البيهقي: (ورواه ابن وهب عن ابن أبي الزناد وزاد فيه أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص إن كان كما ذكرنا له حقا أن يحلفنا على القاتل ثم يسلم إلينا. أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ثنا أبو العباس الأصم، ثنا بحر بن نصر، ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد أن هشام بن عروة أخبره أن رجلا من آل حاطب بن أبي بلتعة كانت بينهم وبين رجل من آل صهيب منازعة فذكر الحديث في قتله قال: فركب يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك فقضى بالقسامة على ستة نفر من آل حاطب فثنى عليهم الأيمان فطلب آل حاطب أن يحلفوا على اثنين ويقتلوهما فأبى عبد الملك إلا أن يحلفوا على واحد ليقتلوه فحلفوا على الصهيبي فقتلوه. قال هشام: فلم ينكر ذلك عروة ورأى أن قد أصيب فيه الحق. وروينا فيه عن الزهري وربيعة ويذكر عن ابن أبي مليكة عن عمر بن عبد العزيز وابن الزبير أنهما أقادا بالقسامة) (3) أهـ. كلام البيهقي.
__________
(1) فتح الباري ج12 ص198.
(2) السنن الكبرى للبيهقي ج8 ص 122.
(3) السنن الكبرى ج8 ص127.(4/169)
ما ذكره عن أبي الزناد من القتل بالقسامة بمحضر عدد كبير من الصحابة - رضي الله عنه - ذكره القاضي عياض بلفظ (واقتلنا بالقسامة والصحابة متوافرون، إني لأرى أنهم الف رجل فما اختلف منهم اثنان) . وقد علق الحافظ ابن حجر على ذلك بقوله: (قلت إنما نقل ذلك أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى عشرين من الصحابة فضلا عن الف) (1) . .
وأما ما ذكره البيهقي عن معاوية أنه أقاد بالقسامة، فقد نقل الحافظ عن ابن بطال أنه قال: وصح عن معاوية بن أبي سفيان أنه أقاد بالقسامة، ذكر ذلك عن أبي الزناد في احتجاجه على أهل العراق، ثم الحافظ ابن حجر العسقلاني: (قلت: هو في صحيفة عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ومن طريقه أخرجه البيهقي قال: - أي أبو الزناد - حدثني خارجة بن زيد بن ثابت قال: قتل رجل من الأنصار رجلا من بني العجلان ولم يكن على ذلك بينة ولا لطخ، فأجمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم فيقتلوه. فركبت إلى معاوية في ذلك فكتب إلى سعيد بن العاص: إن كان ما ذكره حقا فافعل ما ذكروه، فدفعت الكتاب إلى سعيد فأحلفنا خمسين يمينا ثم أسلمه إلينا) (2) .
وقد جمع الحافظ بينما رواه حماد بن سلمة في مصنفه ومن طريق ابن المنذر قال حماد عن ابن أبي مليكة: سألني عمر بن عبد العزيز عن القسامة فأخبرته أن عبد الله بن الزبير أقاد بها وأن معاوية يعني ابن أبي سفيان لم يقد بها وهذا سند صحيح، وجاء في باب القسامة من صحيح البخاري بلفظ (وقال ابن أبي مليكة: لم يقد بها معاوية) جمع الحافظ بين هذا وبين ما تقدم عن معاوية أنه أقاد بها بقوله: (قلت: يمكن الجمع بأن معاوية لم يقد بها لما وقعت له وكان الحكم في ذلك، ولما وقعت لغيره وكل الأمر في ذلك إليه ونسب إليه أنه أقاد بها لكونه أذن في ذلك) قال: ويحتمل أن يكون معاوية كان يرى القود بها ثم رجع عن ذلك أو بالعكس) (3) .
وأما ما ذكره البيهقي عن ابن الزبير أنه أقاد بالقسامة، فقد قال ابن حزم: (صح عنه من أجل إسناد أنه أقاد بالقسامة، وأنه رأى القود بها في قتيل وجد، وأنه رأى الحكم للمدعين بالأيمان، وأنه رأى أن يقاد بها من الجماعة للواحد: روى ذلك عنه أوثق الناس سعيد بن المسيب وقد شاهد تلك القصة كلها. وعبد الله بن أبي مليكة قاضي ابن الزبير) (4) .
وأما ما ذكره البيهقي عن عمر بن عبد العزيز أنه أقاد بالقسامة فقد قال ابن حزم: (صح عنه أي عن عمر بن عبد العزيز أنه أقاد بالقسامة صحة لا مغمز فيها) (5) . . وقد مضت مناقشة ما نقل عن معاوية وعمر بن عبد العزيز عند الكلام عن حكم القسامة.
__________
(1) فتح الباري ج12 ص197
(2) فتح الباري ج12 ص193.
(3) فتح الباري ج12 ص193.
(4) المحلى ج11 ص70
(5) المحلى ج11 ص111(4/170)
قال النووي نقلا عن القاضي عياض: وقال الكوفيون والشافعي - رضي الله عنه - في أصح قوليه: لا يجب بها القصاص وإنما تجب الدية، وهو مروي عن الحسن البصري والشعبي والنخعي وعثمان الليثي (1) والحسن بن صالح وروي أيضا عن أبي بكر وابن عباس ومعاوية - رضي الله عنهم - (2) .
واحتجوا لذلك بالنسبة والأثر:
أما السنة: ما رواه مالك في الموطأ عن ابن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل، عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره رجال، من كبراء قومه «أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في فقير بئر أو عين، فأتى يهود وقال: أنتم والله قتلتموه، قالوا: والله ما قتلناه، فأقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك، ثم أقبل هو وأخوه حويصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل، فذهب محيصة ليتكلم، وهو الذي كان بخيبر فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كبر كبر " يريد السن، فتكلم حويصة، ثم تكلم محيصة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إما أن تدوا صاحبكم وإما أن تؤذنوا بحرب " فكتب إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: " أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ " قالوا: لا، قال: " أفتحلف لكم يهود " قالوا: ليسوا مسلمين فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده، فبعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار، قال سهل: لقد ركضتني منها ناقة حمراء (3) » .
قال القرطبي: (قالوا - أي الذين لا يرون سوى الدية في القسامة (هذا يدل على الدية لا على القود) (4) . . ومنها ما رواه البخاري في " باب القسامة " قال: (حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، حدثنا الحجاج بن أبي عثمان، حدثني أبو رجاء من آل أبي قلابة: حدثني أبو قلابة «أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس، ثم أذن لهم فدخلوا، فقال: ما تقولون في القسامة؟ قال: نقول: القسامة القود بها حق، وقد أقادت بها الخلفاء (6) » إلى آخر الحديث (7) .
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) النووي على مسلم ج11 ص144 ويرجع أيضا إلى المغني ج8 ص416.
(3) الموطأ رواية يحيى الليثي بشرح الزرقاني ج4 ص52.
(4) الجامع لأحكام القرآن ج1 ص159
(5) صحيح البخاري الديات (6899) .
(6) (5) . قال لي: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبني للناس، فقلت: يا أمير المؤمنين، عندك رءوس الأجناد وأشراف العرب: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى، ولم يروه، أكنت ترجمه؟ قال: لا. قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق، أكنت تقطعه ولم يروه؟ قال: لا، قلت: فوالله ما قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا قط إلا في إحدى ثلاث فقال: رجل قتل بجريرة نفسه فقتل، أو رجل زنى بعد إحصان، أو رجل حارب الله ورسوله، وارتد عن الإسلام
(7) صحيح البخاري بشرح فتح الباري ج12 ص200 - 204.(4/171)
ووجه الاستدلال من هذا الحديث الطويل ما جاء في رواية أبي قلابة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم (1) » . وأما قصة الهذليين فليس فيها تصريح بما صنع عمر هل أقاد بالقسامة أو حكم بالدية كذا في فتح الباري ج12 ص204 ثم وجدنا في مصنف عبد الرزاق ج10 ص48 ما يدل على أن عمر حكم بالدية في هذه القضية فقد روى عبد الرزاق في باب الخلع عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال: (خلع قوم هذليون سارقا منهم كان يسرق الحاج قالوا: قد خلعناه فمن وجده يسرق فدمه هدر فوجدته رفقة من أهل اليمن يسرقهم فقتلوه فجاء قومه عمر بن الخطاب فحلفوا بالله ما خلعناه ولقد كذب الناس علينا فأحلفهم عمر خمسين يمينا ثم أخذ عمر بيد الرفقة فقال: أقرنوه إلى أحدكم حتى تؤتوا بدية صاحبكم ففعلوا فانطلقوا حتى دنوا من أرضهم أصابهم مطر شديد فاستنزوا بجبل طويل وقد أمرسوا، فلما نزلوا كلهم انقض الجبل عليهم فلم ينج منهم أحد ولا من ركابهم إلا التريك وصاحبه فكان يحدث بما لقي قومه اهـ
ومما أجيب به عن قوله - صلى الله عليه وسلم - للحارثيين «إما أن تدوا صاحبكم وإما أن تؤذنوا بحرب (2) » . وما ذكره الباجي قال: يحتمل أن يريد بقوله «أن تدوا صاحبكم (3) » إعطاء الدية؛ لأنه قد جرى في كلام الحارثيين أنهم طلبوا الدية دون القصاص، ويحتمل أنهم لم يكونوا ادعوا حينئذ قتله عمدا، ويحتمل أنهم لما لم يعينوا القاتل وإنما قالوا: إن بعض يهود قتله ولا يعرف من هو لم يلزم في ذلك قصاص وإنما يلزم فيه الدية كالقتيل بين الصفين لا يعرف من قتله ولا يقول: دمي عند فلان ولا يشهد شاهد بمن قتله فإن ديته على الفرقة المنازعة له دون قسامة؛ ولذلك لم يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بالقسامة في هذا المقام، ولعل هذا كان يكون الحكم إن لم يقطع يهود بأنها لم تقتل ولم تنف ذلك عن أنفسها وتقول لا علم لنا وإنما أظهر في المقام ما يجب من الحق إن لم يقع النفي للقتل الموجب للقسامة أن عليهم أن يؤدوا الدية فإن امتنعوا من الواجب عليهم في ذلك فلا بد من محاربتهم في ذلك حتى يؤدوا الحق ويلتزموا من ذلك حكم الإسلام) (4) ، اهـ.
ومنهم من طعن في هذا الحديث لما جاء فيه «وإما أن تؤذنوا بحرب (5) » قال الخطابي: (وقد أنكر بعض الناس قوله «وإما أن تؤذنوا بحرب (6) » وقال " إن الأمة على خلاف هذا القول فدل على أن خبر القسامة غير معمول به، وقد أجاب الخطابي عن هذا بقوله بعد ما ذكرت (قلت ووجه الكلام بين وتأويله صحيح، وذلك أنهم إذا امتنعوا من القسامة ولزمتهم الدية فأبوا أن يؤدوها إلى أولياء الدم أوذنوا بحرب كما يؤذنوا بها إذا منعوا الجزية) .
وأما استدلال أبي قلابة بترك القود بالقسامة لقوله (فوالله «ما قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا قط إلا في ثلاث خصال: رجل قتل بجريرة نفسه فقتل، أو رجل زنى بعد إحصان ورجل حارب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وارتد عن الإسلام (7) » فقد قال فيه الحافظ ابن حجر: (لم يظهر لي وجه استدلال
__________
(1) صحيح البخاري الديات (6899) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/163) .
(2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، سنن النسائي كتاب القسامة (4710) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(3) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، سنن النسائي كتاب القسامة (4710) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(4) المنتقى شرح الموطأ. ج 8 ص 53.
(5) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/2) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(6) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/2) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(7) سنن النسائي القسامة (4743) ، مسند أحمد بن حنبل (6/58) .(4/172)
أبي قلابة بأن القتل لا يشرع إلا في الثلاث لرد القود بالقسامة مع أن القود قتل نفس بنفس وهو أحد الثلاثة وإنما النزاع في الطريق إلى ثبوت ذلك (1) .
وأما قول أبي قلابة (وقد كان في هذا سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «دخل عليه نفر من الأنصار فتحدثوا عنده فخرج رجل منهم بين أيديهم فقتل فخرجوا بعده فإذا هم بصاحبهم يتشحط في الدم فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله صاحبنا كان تحدث معنا فخرج بين أيدينا فإذا نحن به يتشحط في الدم فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من تظنون أو ترون قتله؟ ، قالوا: نرى أن اليهود قتلته فأرسل إلى اليهود فدعاهم، فقال: أنتم قتلتم هذا؟ ، قالوا: لا، قال: أترضون نفل خمسين من اليهود ما قتلوه؟ فقالوا: ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم ينتفلون قال: فتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم؟ قالوا: ما كنا لنحلف فوداه من عنده قلت وقد كانت هذيل خلعوا خليعا لهم في الجاهلية فطرق أهل بيت من اليمن بالبطحاء فانتبه له رجل منهم فحذفه بالسيف فقتله فجاءت هذيل فأخذوا اليماني فرفعوه إلى عمر بالموسم (2) » إلخ. فقد أجاب البيهقي عن ذلك بقوله (وحديثه أي أبي قلابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القتيل مرسل، وكذلك عن عمر - رضي الله عنه - في قصة الهذلي (3) .
* * *
ومما استدلوا به من السنة ما رواه أبو داود في المراسيل عن هارون بن زيد عن أبي الزرقاء عن أبيه عن محمد بن راشد بن مكحول أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقض في القسامة بقود ومن هذا الطريق أخرجه البيهقي في باب ترك القود بالقسامة، وقال: أخبرنا محمد بن محمد أنبأنا الفسوي ثنا اللؤلئي ثنا أبو داود فذكره (4) .
والجواب عن هذا الحديث أنه منقطع قال ابن القيم: وأما حديث محمد بن راشد المكحولي يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقض في القسامة بقود فمنقطع (5) . وما رواه أحمد وأبو داود الطيالسي وإسحاق بن راهويه والبزار في مسانيدهم والبيهقي في سننه من طريق أبي إسرائيل الملائي واسمه إسماعيل بن إسحاق عن عطية عن أبي سعيد الخدري «أن قتيلا وجد بين حيين فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاس إلى أقربهما فوجد أقرب إلى أحد الحيين بشبر قال الخدري: كأني أنظر إلى شبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألقى ديته عليهم (6) » ورواه ابن عدي والعقيلي في
__________
(1) فتح الباري ج 12 ص 204.
(2) صحيح البخاري الديات (6899) .
(3) السنن الكبرى ج 8 ص 129.
(4) السنن الكبرى للبيهقي ج 8 ص 129.
(5) تهذيب سنن أبي داود ج 6 ص 352.
(6) مسند أحمد بن حنبل (3/89) .(4/173)
كتابيهما بلفظ فألقى ديته على أقربهما (1) .
والجواب قد أعله ابن عدي والعقيلي في كتابيهما بأبي إسرائيل فضعفه ابن عدي عن قوم ووثقه عن آخرين وقال فيه البزار: أبو إسرائيل قال النسائي فيه: ليس بثقة كان يسب عثمان - رضي الله عنه - قال: وثقه ابن معين (2) . وقال ابن حجر قال العقيلي: لا أصل له (3) . وقال ابن حزم: هالك؛ لأنه انفرد به عطية بن سعيد العوفي وهو ضعيف ضعفه هشيم وسفيان الثوري ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وما ندري أحدا وثقه وذكر عن أحمد بن حنبل أنه كان يأتي الكلبي الكذاب فيأخذ عنه الأحاديث ثم يكنيه بأبي سعيد ويحدث بها عن أبي سعيد فيوهم الناس أنه الخدري وهذا من تلك الأحاديث والله أعلم، فهو ساقط ثم هو أيضا من رواية أبي إسرائيل الملائي هو إسماعيل بن إسحاق فهو بلية عن بلية والملائي هذا ضعيف جدا وليس في الذرع بين القريتين خبر عن هذا لا مسندا ولا مرسلا (4) .
وقال البيهقي تحت عنوان (باب ما روي في القتيل يوجد بين القريتين ولا يصح) : أخبرنا أبو بكر بن فورك أنبأنا عبد الله بن جعفر ثنا يونس بن حبيب ثنا أبو داود ثنا أبو إسرائيل عن عطية عن أبي سعيد أن قتيلا وجد بين حيين فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاس إلى أيهما أقرب فوجد أقرب إلى أحد الحيين بشبر قال أبو سعيد: كأني أنظر إلى شبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألقى ديته عليهم وأخبرنا أبو سعد الماليي أنبأنا أبو أحمد ابن عدي أنبأنا الفضل بن الحباب ثنا أبو الوليد الطيالسي عن أبي إسرائيل الملائي بنحوه. تقول به أبو إسرائيل عن عطية العوفي وكلاهما لا يحتج بروايتهما اهـ نص في (السنن الكبرى) (5) . وقال في المعرفة أبو إسرائيل الملائي عن عطية العوفي وكلاهما ضعيف اهـ (6) .
وقال ابن القيم: (وأما حديث أبي سعيد الخدري «أن قتيلا وجد بين حيين فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاس إلى أقربهما فوجد أقرب إلى أحد الحيين بشبر فألقى ديته (7) » عليهم فرواه أحمد في مسنده وهو من رواية أبي إسرائيل الملائي عن عطية العوفي وكلاهما فيه ضعف. ولو لم يكن في إسناد هذا الحديث سوى البلية أبي إسرائيل لكفى ذلك في تضعيفه فقد قال ابن عدي: حدثنا الآجري حدثنا الحسن بن علي حدثنا عفان قال: قال لي أبو إسرائيل الملائي: عثمان كفر بما أنزل
__________
(1) نصب الراية ج 4 ص 396.
(2) نصب الراية ج 4 ص 396 - 397.
(3) التلخيص الجيد ج 4 ص 39.
(4) المحلى ج 11 ص 86.
(5) السنن الكبرى ج 8 ص126.
(6) نصب الراية ج4 ص397.
(7) مسند أحمد بن حنبل (3/39) .(4/174)
على محمد - صلى الله عليه وسلم - روى ذلك الحافظ الذهبي عن ابن عدي بسنده إليه (1) . هذا وعند ابن عدي هذا الحديث أيضا من رواية الصبي بن أشعث بن سالم السلولي، سمعت عطية العوفي عن الخدري به ولكن الصبي هنا لينه ابن عدي وقال: إن في بعض حديثه ما لا يتابع عليه، قال: ولم أر للمتقدمين فيه كلاما ورواه عن عطية أبو إسرائيل اهـ (2) .
وقال ابن القيم: لا تجوز معارضة الأحاديث الثابتة بحديث من قد أجمع علماء الحديث على ترك الاحتجاج به وهو ابن صبيح الذي لم يسفر صباح صدقه (3) .
* * *
وأما الآثار فمنها ما ذكره ابن حزم قال: قال ابن أبي شيبة: نا عبد السلام بن حرب عن عمرو هو ابن عبيد عن الحسن البصري أن أبا بكر والجماعة الأولى لم يكونوا يقيدون بالقسامة. وما ذكره البيهقي قال: أخبرنا أبو بكر الأردستاني أنبأنا سفيان بن محمد الجوهري ثنا علي بن الحسن ثنا عبد الله بن الوليد ثنا سفيان عن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: القسامة توجب العقل ولا تشيط الدم (4) .
وما ذكره ابن حزم قال أبو بكر بن أبي شيبة: نا وكيع نا المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال: (انطلق رجلان من أهل الكوفة إلى عمر بن الخطاب فوجداه قد صدر عن البيت عامدا إلى منى فطاف بالبيت ثم أدركاه فقصا عليه قصتهما، فقالا: يا أمير المؤمنين إن ابن عم لنا قتل نحن إليه شرع سواء في الدم وهو ساكت لا يرجع إليهما شيئا حتى ناشداه الله، فحمل عليهما، ثم ذكراه الله فكف عنهما، ثم قال عمر بن الخطاب: ويل لنا إذا لم نذكر بالله، وويل لنا إذا لم نذكر الله. فيكم شاهدان ذوا عدل، يجيئان به على من قتله فنقيدكم منه. وإلا حلف من بيدكم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا، فإن نكلوا حلف منكم خمسون، ثم كانت لكم الدية. إن القسامة تستحق بها الدية ولا يقاد بها (5) .
وما ذكره ابن حجر قال: أخرج الثوري في جامعه وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بسند صحيح
__________
(1) ميزان الاعتدال ج4 ص390.
(2) نصب الراية ج4 ص 397.
(3) تهذيب السنن ج 6 ص324.
(4) السنن الكبرى ج8 ص129.
(5) نقله ابن حزم عن ابن أبي شيبة في المحلى ج11 ص65.(4/175)
إلى الشعبي قال: وجد قتيل بين حيين من العرب فقال عمر: قيسوا ما بينهما فأيهما وجدتموه إليه أقرب فحلفوهم خمسين يمينا وأغرموهم الدية، وأخرجه الشافعي عن سفيان بن عيينة عن منصور عن الشعبي أن عمر كتب في قتيل وجد بين خيوان ووادعة أن يقاس ما بين القريتين فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منهم خمسون رجلا حتى يوافوه مكة فأدخلهم الحجر فأحلفهم ثم قضى عليهم الدية فقال: حقنت أيمانكم دماءكم ولا يطل دم رجل مسلم (1) .
وروى عبد الرزاق عن عمرو وغيره عن الحسن قال: يستحقون بالقسامة الدية ولا يستحقون الدم (2) . ومن ذلك ما رواه عبد الرزاق عن معمر قال: قلت لعبد الله بن عمر العمري: أعلمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقاد بالقسامة؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟ قال: لا، قلت فعمر؟ قال: لا، قلت فلم تجترئون عليها؟ فسكت (3) . والجواب عنه أولا: أنه لا معارض بما أخرجه أبو عوانة في صحيحه وأصله عند الشيخين من طريق حماد بن زيد عن أيوب وحجاج الصواف عن أبي رجاء أن عمر بن عبد العزيز استشار الناس في القسامة فقال قوم: هي حق قضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقضى بها الخلفاء. وثانيا: أن من قال: إنه قضى بها مثبت، ومن قال: لم يقض بها ناف والمثبت معه زيادة علم فيقدم على النافي. وثالثا: كونه لا يعلم لا يلزم منه عدم الوقوع فعدم علمه ليس بدليل. ورابعا: هو معلول بالإرسال قال ابن حزم: لا يصح؛ لأنه مرسل إنما هو عن عبيد الله بن عمر بن حفص.
وما أخرجه الدارقطني ومن طريقه البيهقي قال الدارقطني: نا محمد بن القاسم بن زكريا نا هشام بن يونس نا محمد بن يعلى عن عمر بن صبيح عن مقاتل بن حيان عن صفوان بن سليم عن سعيد بن المسيب أنه قال: لما حج عمر حجته الأخيرة التي لم يحج غيرها، غودر رجل من المسلمين قتيلا في بني وادعة، فبعث إليهم عمر، وذلك بعد ما قضى النسك وقال لهم: هل علمتم لهذا القتيل قاتلا منكم؟ قال القوم: لا، فاستخرج منهم خمسين شيخا، فأدخلهم الحطيم، فاستحلفهم بالله رب هذا البيت الحرام، ورب هذا البلد الحرام، والشهر الحرام، أنكم لم تقتلوه، ولا علمتم له قاتلا، فحلفوا بذلك، فلما حلفوا قال: أدوا ديته مغلظة في أسنان الإبل، أو من الدنانير، والدراهم دية وثلثا فقال رجل منهم، يقال له سنان: يا أمير المؤمنين أما تجزيني من مالي؟ قال: لا، إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، فأخذوا ديته دنانير، وثلث دية (4) .
والجواب عن هذا الحديث بأن فيه عمر بن صبيح وهو متروك، قال ذلك الدارقطني والبيهقي وابن القيم فقال الدارقطني في سنده: عمر بن صبيح متروك (5) وقال البيهقي رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني قوله إنما قضيت فيكم بقضاء نبيكم منكر
__________
(1) فتح الباري ج12 ص198 - 199.
(2) المصنف ج10 ص41.
(3) فتح الباري ج12 ص199.
(4) سنن الدارقطني ج20 ص359، والسنن الكبرى ج8 ص125.
(5) سنن الدارقطني ج2 ص355.(4/176)
وهو مع انقطاعه من رواية من أجمعوا على تركه (1) .
ونقل الزيلعي عن البيهقي أنه قال في كتاب المعرفة: أجمع أهل الحديث على ترك الاحتجاج بعمر بن صبيح، وقد خالفت روايته هذه رواية الثقات الأثبات (2) .
وذكر ابن حزم أن ذلك صحيح عن الحسن ونصه وأما الحسن: فصح عنه أن لا يقاد بالقسامة لكن يحلف المدعى عليهم: بالله ما فعلنا، ويبرءون فإن نكلوا حلف المدعون وأخذوا الدية - هذا في القتيل يوجد (3) . كما ذكر ابن حزم أنه صح عن قتادة أن القسامة تستحق بها الدية ولا يقاد بها " أهـ (4) .
والجواب عن هذه الآثار ما يأتي:
أما ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد السلام بن حرب عن عمرو بن عبيد عن الحسن البصري أن أبا بكر والجماعة الأولى لم يكونوا يقيدون بالقسامة فهو مرسل. قال إنه لا يصح؛ لأنه عن الحسن وفي طريق الحسن عبد السلام بن حرب " (5) . وأما ما رواه الثوري عن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن أن عمر بن الخطاب قال القسامة توجب العقل ولا تشيط الدم. فقد قال البيهقي فيه: " هذا منقطع " (6) وقال ابن القيم: " أما ما رواه الثوري في جامعه عن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: القسامة توجب العقل ولا تشيط الدم فمنقطع موقوف " (7) اهـ كلام ابن القيم.
وقد رواه ابن أبي شيبة ومن طريقه ابن حزم قال ابن أبي شيبة: نا وكيع نا المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال: انطلق رجلان من أهل الكوفة إلى عمر بن الخطاب فذكر الحديث المتقدم وفيه " أن القسامة تستحق بها الدية ولا يقاد بها ".
ثم ذكر ابن حزم في رواية القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عمر بن الخطاب منقطعة. قال: لم يولد والد القاسم إلا بعد موت عمر " (8) .
__________
(1) السنن الكبرى ج8 ص125.
(2) نصب الراية ج4 ص395.
(3) المحلى ج11 ص70.
(4) المحلى ج11 ص71.
(5) المحلى ج11 ص69.
(6) السنن الكبرى ج8 ص129.
(7) تهذيب السنن ج6 ص324.
(8) المحلى ج11 ص69.(4/177)
وأما الأثر الذي أخرجه الثوري في جامعه وابن أبي شيبة عن منصور بسند صحيح إلى الشعبي أنه وجد قتيل بين حيين من العرب، فقال عمر: قيسوا ما بينهما، الحديث، وأخرجه الشافعي وفي تسمية الحيين خيوان ووادعة. فقد قال ابن حزم: " إنه مرسل؛ لأنه عن عمر من طريق الشعبي ولم يولد إلا بعد موت عمر بأزيد من عشرة أعوام أو نحوها (1) . وقال البيهقي: في الجواب عنه من ناحية ما فيه من مخالفة النصوص الدالة على البدء بولاة الدم في الأيمان قال: أما الأثر الذي أخبرنا أبو حازم الحافظ أنبأنا أبو الفضل بن خميرويه، أنبأنا أحمد بن نجدة ثنا سعيد بن منصور ثنا أبو عوانة عن مغيرة عن عامر يعني الشعبي أن قتيلا وجد في خربة وادعة همدان فرفع إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأحلفهم خمسين يمينا ما قتلناه ولا علمنا قاتلا ثم أغرمهم الدية ثم قال: يا معشر همدان حقنتم دماءكم بأيمانكم فما يطل دم هذا الرجل المسلم، وأخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ثنا أبو العباس الأصم أنبأنا الربيع بن سليمان أنبأنا الشافعي ثنا سليمان عن منصور عن الشعبي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب في قتيل وجد بين خيوان ووادعة أن يقاس ما بين القريتين فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منهم خمسون رجلا حتى يوافوه مكة فأدخلهم الحجر فأحلفهم ثم قضى عليهم بالدية فقالوا: ما وقت أموالنا أيماننا ولا أيماننا أموالنا، قال عمر - رضي الله عنه -: كذلك الأمر. قال الشافعي: وقال غير سفيان عن عاصم الأحول عن الشعبي قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: حقنتم بأيمانكم دماءكم ولا يطل دم مسلم فقد ذكر الشافعي - رحمه الله - في الجواب عن ما يخالفون عمر - رضي الله عنه - في هذه القصة من الأحكام، قيل له أثابت هو عندك؟ قال: إنما رواه الشعبي عن الحارث الأعور والحارث مجهول ونحن نروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإسناد الثابت أنه بدا بالمدعين، فلما لم يحلفوا قال: «فتبرئكم يهود يمينا (2) » وإذ قال: تبرئكم فلا يقول عليهم غرامة ولما لم يقبل الأنصاريون أيمانهم وداه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يجعل على يهود ولا القتيل بين أظهرهم شيئا قال الربيع: أخبرني بعض أهل العلم عن جرير عن مغيرة عن الشعبي قال: " حارث الأعور كان كذابا وروى عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عمر - رضي الله عنه - ومجالد غير محتج به وروى عن مطرف عن أبي إسحاق عن الحارث بن الأزمع عن عمر وأبو إسحاق لم يسمع من الحارث بن الأزمع، قال علي بن المديني عن أبي زيد عن شعبة قال: سمعت أبا إسحاق يحدث حديث الحارس بن الأزمع أن قتيلا وجد بين وادعة وخيوان فقلت: يا أبا إسحاق من حدثك؟ قال: حدثني مجالد عن الشعبي عن الحارث بن الأزمع فعادت رواية أبي إسحاق إلى حديث مجالد واختلف فيه على مجالد في إسناده ومجالد غير محتج به والله أعلم، هذا كلام البيهقي في السنن الكبرى (3) . وأخرج في المعرفة عن ابن عبد الحكم أنه قال: سمعت الشافعي يقول: " سافرت خيوان، ووادعة أربع عشرة سفرة، وأنا أسألهم عن حكم عمر بن الخطاب في القتيل، وأنا أحكي لهم ما روي عنه فيه، فقالوا: هذا شيء ما كان ببلدنا قط " (4) .
__________
(1) المحلى ج11 ص69.
(2) موطأ مالك القسامة (1631) .
(3) ج8 ص23 - 24.
(4) نصب الراية ج4 ص355.(4/178)
وفي هذا دليل على عناية الشافعي - رحمه الله - بحالة هذا الأثر، وقد ناقش ابن التركماني ما ذكره البيهقي في السنن الكبرى عن الشافعي من ناحية كون الأثر من رواية الحارث الأعور وادعوا جهالته فقال: قلت: لم يذكر أحد فيما علمنا أن الشعبي رواه عن الحارث الأعور غير الشافعي ولم يذكر سنده في ذلك وقد رواه الطحاوي بسنده عن الشعبي عن الحارث الأعور غير الشافعي ولم يذكر سنده في ذلك وقد رواه الطحاوي بسنده عن الشعبي عن الحارث الوادعي هو ابن الأزمع وسيأتي أن مجالدا رواه عنه الشعبي كذلك ورواية أبي إسحاق لهذا الأثر عن الحارث هذا عن عمر أمارة على أنه الواسطة لا الحارث الأعور كما زعم الشافعي ورواه أيضا عبد الرزاق (1) ، عن الثوري عن منصور عن الحكم عن الحارث بن الأزمع والحارث هذا ذكره أبو عمر وغيره في الصحابة وذكره ابن حيان في ثقات التابعين ثم إن الحارث الأعور وإن تكلموا فيه فليس بمجهول كما زعم الشافعي بل هو معروف روى عنه الطحاوي والشعبي والسبيعي وغيرهم (2) اهـ.
* * *
__________
(1) المصنف ج10 ص35.
(2) الجوهر النقي بذيل السنن الكبرى ج8 ص120.(4/179)
التاسع خلاف العلماء فيمن يقتل بالقسامة إذا كان المدعى عليه أكثر من واحد
اختلف أهل العلم في هذه المسألة فمنهم من ذهب إلى أنه لا يقتل إلا واحد ومنهم من ذهب إلى أنه يستحق بها قتل جماعة، ومنهم من ذهب إلى العدول إلى الدية.
أما المذهب الأول فقال مالك - رحمه الله -: لا يقتل في القسامة إلا واحد لا يقتل فيها اثنان، وقال الباجي - رحمه الله -: على ذلك لا خلاف في المذهب أنه لا يستحق بالقسامة إلا قتل رجل واحد خلافا للشافعي في أحد قوليه. والدليل على ما نقوله ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم (1) » .
ومن جهة المعنى أن القسامة أضعف من الإقرار والبينة وفي قتل الواحد ردع، قال القاضي أبو محمد المنتقى (2) . وقال ابن قدامة - رحمه الله -: لا يختلف المذهب أنه لا يستحق بالقسامة أكثر من قتل واحد وبهذا قال الزهري ومالك وبعض أصحاب الشافعي قال بعد ذكر مذهب آخر سيأتي، ولنا قول النبي - صلى الله
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .
(2) ج7 ص54 ويرجع إلى عارضة الأحوذي ج7 ص193.(4/179)
عليه وسلم -: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته (1) » فخص بها الواحد؛ ولأنها بينة ضعيفة خولف بها الأصل في قتل الواحد فيقتصر عليه ويبقى الأصل فيما عداه، وبيان مخالفة الأصل بها أنها ثبتت باللوث واللوث شبهة فغلبه على الظن صدق المدعى والقود يسقط بالشبهات فكيف يثبت بها ولأن الأيمان في سائر الدعاوي تثبت ابتداء في جانب المدعى عليه وهذا بخلافه وبيان ضعفها أنها تثبت بقول المدعى ويمينه مع التهمة في حقه والشك في صدقه وقيام العداوة المانعة من صحة الشهادة عليه في إثبات حق لغيره فلأن يمنع منه قبول قوله وحده في إثبات حقه أولى وأحرى (2) .
أما المذهب الثاني فقال ابن قدامة - رحمه الله - وقال بعضهم أي بعض أصحاب الشافعي: يستحق بها قتل الجماعة. لأنها بينة موجبة للقود فاستوى فيها الواحد والجماعة كالبينة وهذا نحو قول أبي ثور. وقد ناقش ابن قدامة ذلك فقال وفارق البينة فإنها قويت بالعدد وعدالة الشهود وانتفاء التهمة في حقهم من الجهتين وفي كونهم لا يثبتون لأنفسهم حقا ولا نفعا ولا يدفعون عنها ضرا ولا عداوة بينهم وبين المشهود عليه ولهذا لا يثبت بها سائر الحقوق والحدود التي تنفي الشبهات (3) .
وأما المذهب الثالث: فقال النووي: قال الشافعي: إذا ادعوا على جماعة حلفوا عليهم وثبتت عليهم الدية على الصحيح عند الشافعي وعلى قول إنه يجب القصاص (4) . وقد مضى أن الشافعي - رحمه الله - لم يوجب الدم في القسامة ومضت أدلة ذلك ومناقشتها هذا ما تيسر ذكره والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(2) المغني ج8 ص506.
(3) المغني ج8 ص508.
(4) شرح النووي على مسلم ج11 ص149.(4/180)
قرار
رقم 41 وتاريخ 13 \ 4 \ 1396هـ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه، وبعد:
ففي الدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض في النصف الأول من شهر ربيع الآخر عام 1396هـ اطلع المجلس على ما سبق أن أجله من الدورة السابعة إلى الدورة الثامنة من بحث القسامة، هل الورثة هم الذين يحلفون أيمان القسامة أو أن العصبة بالنفس هم الذين يحلفون ولو كانوا غير وارثين إذا كانوا ذكورا بالغين عقلاء؟
وبعد استماع المجلس ما سبق أن أعد في ذلك من أقوال أهل العلم وأدلتهم ومناقشتها وتداول الرأي قرر المجلس بالأكثرية أن الذي يحلف من الورثة هم الذكور البالغون العقلاء ولو واحدا سواء كانوا عصبة أو لا لما ثبت في الصحيحين من حديث سهل بن أبي حثمة في قصة قتل اليهود لعبد الله بن سهل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ " قالوا: لا، وفي رواية: " يقسم منكم خمسون رجلا (1) » ولأنها يمين في دعوى حق فلا تشرع في غير حق غير المتداعين كسائر الأيمان وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه سلم.
هيئة كبار العلماء
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .(4/181)
هدي التمتع والقران
هيئة كبار العلماء(4/183)
الحمد لله وحده وبعد. . .
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثامنة المنعقدة في مدينة الرياض في النصف الأول من شهر ربيع الثاني عام 1396 هـ موضوع هدي التمتع والقران ووقت الذبح ومكانه، وحكم الاستعاضة عن الهدي بالتصدق بقيمته وعلاج مشكلة اللحوم مشفوعا بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ورغبة في إطلاع قراء (مجلة البحوث الإسلامية) على هذا البحث القيم ننشره بنصه:(4/184)
هدي التمتع والقران
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد: فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الطائف في شعبان عام 1395هـ من الموافقة على إعداد بحث هدي التمتع والقران فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك مشتملا على الأمور الآتية:
أولا: ابتداء وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة. ثانيا: نهاية وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة. ثالثا: الذبح ليلا مع الأدلة والمناقشة. رابعا: مكان الذبح مع الأدلة والمناقشة. خامسا: حكم الاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته مع الأدلة سادسا: علاج مشكلة اللحوم في منى. وبالله التوفيق - صلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(4/185)
أولا: ابتداء وقت الذبح
اختلف أهل العلم في تحديد ابتداء وقت ذبح هدي التمتع والقران هل يجوز ذبحه قبل يوم النحر أو أنه لا يجوز إلا ابتداء من يوم النحر؟
القول الأول
يبتدئ وقت ذبحه يوم النحر بعد طلوع الشمس وصلاة العيد أو مضي قدرها عند الحنابلة، وبعد رمي جمرة العقبة عند مالك، ويوم النحر عند الحنفية قال النسفي والزيلعي: وخص ذبح هدي المتعة والقران بيوم النحر فقط وفي بداية المبتدي " ولا يجوز ذبح هدي المتعة والقران إلا في يوم النحر " وجاء معنى ذلك في كثير من كتب الحنفية تركنا ذكرها اختصارا.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -: أما مذهب مالك فالتحقيق فيه أن هدي التمتع والقران لا يجب وجوبا تاما إلا يوم النحر " بعد رمي جمرة العقبة وقال ابن العربي: ولو ذبحه قبل يوم النحر لم يجزه، وقال الباجي: ولا يجوز أن ينحره قبل يوم النحر، وقال المزني: فإن كان معتمرا نحر بعد ما يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة قبل أن يحلق عند المروة وحيث نحر من فجاج مكة أجزأه وإن كان حاجا نحره بعد ما يرمي جمرة العقبة قبل أن يحلق انتهى المقصود.
وقال الرملي: " ووقته أي وقت ذبح الهدي - كوقت ذبح الأضحية على الصحيح وصححه أيضا النووي والرافعي، وقال الفتوحي: ووقت ذبح أضحية وهدي نذر وتطوع ومتعة وقران من بعد أسبق صلاة العيد بالبلد أو قدرها لمن لم يصل انتهى كلامه.
ونقل ابن قدامة عن أبي الخطاب: أنه يجب إذا طلع الفجر يوم النحر؛ لأنه وقت إخراجه فكان وقت وجوبه. واستدل للقول بأنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر بالكتاب والسنة والإجماع والأثر والمعنى: أما الكتاب فمنه دليلان:(4/186)
الأول قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) . وجه الدلالة ما ذكره الباجي - رحمه الله - بقوله " لو جاز قبل يوم النحر لجاز الحلق قبل يوم النحر ولا سيما على القول بدليل الخطاب ولا خلاف بينهم في القول به إذا علق بالغاية وهو قول القاضي أبي بكر وأكثر شيوخنا. ومما يدل على هذا حديث حفصة، وهو قولها «يا رسول الله ما بال الناس حلوا من عمرتهم ولم تحل أنت من عمرتك فقال: " إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر (2) » .
وهذا يفيد أنه تعذر النحر عليه فوجب لامتناعه من الحلاقة ولو كان النحر مباحا لعلل امتناع الإحلال بغير تأخير النحر ولما صح اعتلاله به. ويمكن أن يناقش الاستدلال بالآية بأنها في الإحصار فإن قبلها قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (3) ، والكلام في هدي التمتع والقران لا الإحصار.
الثاني قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (4) ، وجه الدلالة أن الآية مطلقة من جهة تحديد وقت ذبح الهدي وقد جاء ما يدل على تحديده وهو قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (5) {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (6) . ووجه الدلالة ما ذكره الجصاص وغيره من أن قضاء التفث وطواف الزيارة لا يكون قبل يوم النحر ولما رتب هذه الأفعال على ذبح هدي البدن دل على أنها بدن القران والتمتع لأن جميع الهدايا لا يترتب عليها هذه الأفعال، وأن له أن ينحرها متى شاء فثبت بذلك أن هدي المتعة غير مجز قبل يوم النحر.
وقد نوقش هذا الاستدلال بقول الجصاص - رحمه الله - " إذا كان الصيام بدلا من الهدي والهدي لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر فكيف جاز الصوم؟ وأجاب عن ذلك بقوله: " لا خلاف في جواز الصيام قبل يوم النحر وقد ثبت بالسنة امتناع ذبح الهدي قبل يوم النحر وأحدها ثابت بالاتفاق وبدليل قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (7) ، والآخر ثابت بالسنة فالاعتراض عليهما بالنظر ساقط.
وأيضا فإن الصوم مراعى ومنتظر به شيئان، أحدهما إتمام العمرة والحج في أشهر الحج والثاني ألا يجد حتى يحل فإذا وجد المعنيان صح الصوم عن المتعة وإذا عدم أحدهما بطل أن يكون الصوم متعة وصار تطوعا، وأما الهدي فقد رتب عليه أفعال أخر من حلق وقضاء التفث وطواف الزيارة فلذلك اختص بيوم النحر.
واعترض على ذلك بما قاله الجصاص من أن الله تعالى قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (8) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) صحيح البخاري الحج (1566) ، صحيح مسلم الحج (1229) ، سنن النسائي مناسك الحج (2682) ، سنن أبو داود المناسك (1806) ، سنن ابن ماجه المناسك (3046) ، مسند أحمد بن حنبل (6/285) ، موطأ مالك الحج (897) .
(3) سورة البقرة الآية 196
(4) سورة البقرة الآية 196
(5) سورة الحج الآية 28
(6) سورة الحج الآية 29
(7) سورة البقرة الآية 196
(8) سورة البقرة الآية 196(4/187)
فلا يجوز تقديمه على الحج وأجاب عن ذلك بقوله: لا يخلو قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (1) ، من أحد معان إما أن يريد به في الأفعال التي هي عمدة الحج وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - حجا وهو الوقوف بعرفة؛ لأنه قال: «الحج عرفة (2) » في أول أشهر الحج لأن الله قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (3) ، وغير جائز أن يكون المراد فعل الحج الذي لا يصح إلا به، لأن ذلك إنما هو يوم عرفة بعد الزوال ويستحيل صوم الثلاثة الأيام منه، ومع ذلك فلا خلاف في جوازه قبل يوم عرفة فبطل هذا الوجه، وبقي من وجوه الاحتمال في إحرام الحج أو في أشهر الحج وظاهره يقتضي جواز فعله بوجود أيهما كان لمطابقته اللفظ في الآية وأيضا قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (4) ، معلوم أن جوازه معلق بوجود سببه لا بوجوبه فإذا كان هذا المعنى موجودا عند إحرامه للعمرة وجب أن يجزئ ولا يكون ذلك خلاف الآية، كما أن قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (5) ، دال على جواز تقديمها على القتل لوجود الجراحة وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول (6) » لم يمنع جواز تعجيلها لوجود سببها وهو النصاب فكذلك قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (7) ، غير مانع جواز تعجيله لأجل وجود سببه الذي جاز فعله في الحج.
ثم نقده - رحمه الله - بقوله لم نجد بدلا يجوز تقديمه على وقت المبدل عنه ولما كان الصوم بدلا عن الهدي لم يجز تقديمه عليه. وأجاب عن ذلك بقوله: هذا اعتراض على الآية لأن نص التنزيل قد أجاز ذلك في الحج قبل يوم النحر. وأيضا فإننا لم نجد ذلك فيما تقدم البدل كله على وقت المبدل منه، وهاهنا إنما جاز تقديم بعض الصيام على وقت الهدي وهو صوم الثلاثة الأيام والسبعة التي معها غير جائز تقديمها عليها؛ لأنه تعالى قال: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (8) ، فإنما أجيز له من ذلك مقدار ما يحل به يوم النحر فإذا لم يجد الهدي وهدي العمرة يصح إيجابه بعد العمرة ويتعلق به حكم التمتع في باب المنع من الإحلال إلى أن يذبحه انتهى كلامه.
ونوقش الاستدلال بالآية على أن " ثم " للتراخي فربما يكون الذبح قبل يوم النحر وقضاء التفث فيه ". وأجيب عنه بأن موجب ثم بالتراخي يتحقق بالتأخير ساعة فلو جاز الذبح قبل النحر جاز قضاء التفث بعده بساعة كذلك.
* * *
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) سنن الترمذي الحج (889) ، سنن النسائي مناسك الحج (3016) ، سنن أبو داود المناسك (1949) ، سنن ابن ماجه المناسك (3015) ، مسند أحمد بن حنبل (4/335) ، سنن الدارمي المناسك (1887) .
(3) سورة البقرة الآية 197
(4) سورة البقرة الآية 196
(5) سورة النساء الآية 92
(6) سنن ابن ماجه الزكاة (1792) .
(7) سورة البقرة الآية 196
(8) سورة البقرة الآية 196(4/188)
وأما الأدلة من السنة فكثيرة نكتفي منها بما يأتي
:
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: «تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة قال للناس: " من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله (1) » الحديث.
ولهما عن جابر - رضي الله عنه - قال: «أهللنا بالحج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا: " فقال يا أيها الناس أحلوا فلولا الهدي معي فعلت كما فعلتم " قال: فأحللنا حتى وطئنا النساء وفعلنا كما يفعل الحلال حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج (2) » .
ولهما عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: «قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منيخ بالبطحاء فقال: " بما أهللت " قال: قلت: أهللت بإهلال كإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سقت من هدي؟ قلت: لا، قال: فطف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي (3) » .
روى البخاري عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أنه سئل عن متعة الحج فقال: «أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي " فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وآتينا النساء ولبسنا الثياب وقال: " من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله " ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج وإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعمرتنا وعلينا الهدي كما قال تعالى: (5) » .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1692) ، صحيح مسلم الحج (1227) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2732) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1805) .
(2) صحيح مسلم الحج (1216) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) .
(3) صحيح البخاري الحج (1724) ، صحيح مسلم الحج (1221) ، سنن النسائي مناسك الحج (2738) ، مسند أحمد بن حنبل (4/393) ، سنن الدارمي المناسك (1815) .
(4) تقدمت الآية.
(5) سورة البقرة الآية 196 (4) {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}(4/189)
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نصرخ بالحج صراخا فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج (1) » .
وروى البزار في مسنده عن أنس - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل هو وأصحابه بالحج والعمرة فلما قدموا مكة طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة وأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحلوا فهابوا ذلك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أحلوا فلولا أن معي الهدي لأحللت فحلوا حتى خلوا إلى النساء (2) » .
وروى أبو داود عن أنس قال: «بات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني بذي الحليفة حتى أصبح ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء فحمد الله وسبح وكبر ثم أهل بحج وعمرة وأهل الناس بهما فلما قدم أمر الناس فحلوا حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحج نحر سبع بدنات بيده قياما (3) » وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن قرط أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أعظم الأيام عند الله عز وجل يوم النحر ثم يوم القر (4) » ، قال ثور: وهو اليوم الثاني، قال: وقرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدنات (خمس أو ست) فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ قال: فلما وجبت جنوبها قال: فتكلم بكلمة خفية لم أسمعها فقلت ما قال؟ قال من شاء اقتطع.
وروى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر عن نسائه في حجه بقرة (5) » . وفي رواية قال: «نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة بقرة يوم النحر (6) » . وروى البخاري ومسلم في الصحيحين عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: سمعت عائشة - رضي الله عنها - تقول «خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا الحج فلما دنونا من مكة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يحل، قالت: فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت ما هذا؟ قال: نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه (7) » قال يحيى: فذكرته للقاسم فقال: أتتك بالحديث على وجهه ولهما عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «فلما دخلنا مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي " قالت: وذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه البقر يوم النحر (8) » .
وروى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه فجاء رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر فقال: اذبح ولا حرج ثم جاء رجل آخر فقال: يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي فقال: ارم ولا حرج فما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج (9) » وروى مسلم
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1247) ، مسند أحمد بن حنبل (3/5) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/142) .
(3) صحيح البخاري الحج (1551) ، سنن أبو داود المناسك (1796) ، مسند أحمد بن حنبل (3/268) .
(4) سنن أبو داود المناسك (1765) .
(5) صحيح مسلم الحج (1319) .
(6) صحيح مسلم الحج (1319) .
(7) صحيح البخاري الحج (1709) ، صحيح مسلم الحج (1211) .
(8) سنن أبو داود المناسك (1782) .
(9) صحيح البخاري العلم (83) ، صحيح مسلم الحج (1306) ، سنن الترمذي الحج (916) ، سنن أبو داود المناسك (2014) ، موطأ مالك الحج (959) ، سنن الدارمي المناسك (1907) .(4/190)
في صحيحه عن جابر - رضي الله عنه - قال: «أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجتهم (1) » وروى مسلم عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: «أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعمرة وأهل أصحابه بالحج فلم يحل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من ساق الهدي من أصحابه وحل بقيتهم (2) » . وله أيضا عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - قالت: «خرجنا محرمين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - صلى الله عليه وسلم -: " من كان معه هديه فليقم على إحرامه ومن لم يكن معه هدي فليحل (3) » فلم يكن معي هدي فحللت، وكان مع الزبير هدي فلم يحل.
وروى مسلم من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: «أقبلنا مهلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج مفرد وأقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كنا بسرف عركت حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحل منا من لم يكن معه هدي قال: فقلنا: يا رسول الله حل ماذا؟ قال: " الحل كله " فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال ثم أهللنا يوم التروية (4) » ، الحديث. وله أيضا من طريق أبي خيثمة عن أبي الزبير عن جابر قال: «خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهللين بالحج معنا النساء والولدان فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا وبالمروة فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يكن معه هدي فليحل " قلنا: يا رسول الله أي الحل؟ فقال: " الحل كله "، قال: فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج (5) » ، الحديث.
وروى الإمام أحمد عن أنس - رضي الله عنه - قال: خرجنا نصرخ بالحج فلما قدمنا مكة أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نجعلها عمرة وقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة ولكن سقت الهدي وقرنت بين الحج والعمرة (6) » .
وله أيضا عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وأصحابه مهلين بالحج فقال: " من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي " قالوا: يا رسول الله أيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا؟ قال: نعم " وسطعت المجامر (7) » .
وله أيضا وابن ماجه عن البراء بن عازب قال: «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فأحرمنا بالحج فلما قدمنا مكة قال: " اجعلوا حجكم عمرة "
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/378) .
(2) سنن النسائي مناسك الحج (2814) .
(3) صحيح مسلم الحج (1236) ، سنن النسائي مناسك الحج (2992) ، سنن ابن ماجه المناسك (2983) ، مسند أحمد بن حنبل (6/350) .
(4) صحيح مسلم كتاب الحج (1213) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1785) .
(5) صحيح مسلم الحج (1213) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1785) .
(6) مسند أحمد بن حنبل (3/266) .
(7) مسند أحمد بن حنبل (2/28) .(4/191)
قال: فقال الناس: يا رسول الله قد أحرمنا بالحج كيف نجعلها عمرة؟ قال: " انظروا ما آمركم به فافعلوا " فردوا عليه القول فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة وهو غضبان فرأت الغضب في وجهه فقالت: من أغضبك أغضبه الله فقال: ومالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع (1) » .
وروى أبو داود عن الربيع بن سبرة عن أبيه قال: «خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بعسفان قال له سراقة بن مالك المدلجي: يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم فقال: " إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجكم عمرة فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي (2) » .
فهذه الأحاديث منها ما هو نص في أن بدء وقت النحر للمتمتع والقارن يوم الأضحى ومنها ما يدل عليه بمفهومه أو مع أمره - صلى الله عليه وسلم - أن نأخذ عنه المناسك وقد نحر عن نفسه وعن أزواجه يوم الأضحى ونحر أصحابه كذلك ولم يعرف عن أحد منهم أنه نحر هديه لتمتعه أو قرانه قبل يوم الأضحى فكان ذلك عمدة في التوقيت بما ذكر من جهات عدة.
وأما الإجماع فقد قال ابن عابدين على قول صاحبي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار: ويتعين يوم النحر أي وقته وهو الأيام الثلاثة لذبح المتعة والقران فقط، فلم يجز قبله قال: " فلم يجزئ " أي بالإجماع وهو بضم أوله من الإجزاء.
وأما الأثر فقد نقل ابن قدامة عن الإمام أحمد أنه قال: روي عن غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورواه الأثرم عن ابن عمر وابن عباس. وأما المعنى فقد ذكره ابن قدامة بقوله: إنما قبل يوم النحر لا يجوز ذبح الأضحية فيه فلا يجوز فيه ذبح الهدي للمتمتع كمثل التحلل من العمرة.
القول الثاني أنه يجوز قبل يوم النحر وهو منقول عن بعض المالكية وبه قال الشافعي وبعض أصحابه وهو رواية عن الإمام أحمد وقول لبعض أصحابه والذين قالوا بهذا القول: منهم من يرى جواز ذبحه إذا قدم به قبل العشر وهو رواية عن أحمد، ومنهم من يرى جواز ذبحه إذا أحرم بالعمرة، ومنهم من يرى جواز ذبحه إذا حل من العمرة، ومنهم من يرى جواز ذبحه بعد الإحرام بالحج.
وفيما يلي نقول عن القائلين بهذا القول مع مناقشتها ثم نتبع ذلك بأدلتهم ومناقشتها.
__________
(1) سنن ابن ماجه المناسك (2982) ، مسند أحمد بن حنبل (4/286) .
(2) سنن أبو داود المناسك (1801) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1857) .(4/192)
أ - نقل الأبي عن القاضي عياض - رحمه الله - في الكلام على قول جابر - رضي الله عنه - " فأمرنا إذا أحللنا " أنه قال: في الحديث حجة لمن يجوز نحر الهدي للمتمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج وهو إحدى الروايات عندنا أي المالكية، والأخرى أنه لا يجوز إلا بعد الإحرام بالحج؛ لأنه بذلك يصير متمتعا، والقول الأول جار على تقديم الكفارة على الحنث وعلى تقديم الزكاة على الحول، وقد يفرق بين هذه الأصول، والأول ظاهر الأحاديث لقوله «فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي (1) » . وقد ناقش محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف الرهوني ما نقله الأبي عن القاضي عياض فقال: وأما ما نقله ويعني أبا عبد الله الأبي عن عياض فليس فيه أن الرواية بالجواز هي المشهورة أو الراجحة أو مساوية للأخرى على أن قوله وفي الحديث حجة لمن يجيز نحر هدي التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج وإن كان في الأبي كذلك (نحر بالنون والحاء والراء) مخالفا لما وجدته لعياض في الإكمال فإن الذي وجدته فيه تقليد هدي التمتع (بالتاء والقاف واللام والياء والدال) كذا وجدته في نسخة عتيقة مظنون بها الصحة لم أجد في الوقت غيرها ويؤيد ما وجدته في أنه ذكر المسألة في موضع آخر فلم يذكر فيها جواز ذلك (أي النحر بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج) عند أحد لا من أهل المذهب ولا من غيره ونصه وقوله للمتمتعين فمن لم يجد هديا فليصم {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (2) نص في كتاب الله تعالى مما يلزم المتمتع وقد اختلف العلماء في تفسير هذه الجملة فقال جماعة من السلف: ما استيسر من الهدي شاة وهو قول مالك وقال جماعة أخرى منهم: بقرة دون بقرة وبدنة دون بدنة، وقيل المراد بدنة أو بقرة أو شاة أو شرك في دم وهذا عند مالك للحر والعبد إذ لا يهدي إلا أن يأذن له سيده وله الصوم وإن كان واجدا الهدي ولا يجوز عند مالك وأبي حنيفة نحره قبل يوم النحر، وأجاز ذلك الشافعي بعد إحرامه بالحج اهـ منه بلفظه.
ونقله الأبي نفسه مختصرا (عن القاضي عياض) وسلم ذكره قبل كلامه الذي نقله محمد البناني بنحو كراسين في كلامه (أي القاضي عياض) يفيد اتفاق الأئمة الثلاثة - رضي الله عنهم - على أنه لا يجوز نحره قبل الإحرام بالحج وكذا بعده مالك وأبو حنيفة خلافا للشافعي فكيف يذكر بعد ذلك الروايتين عند مالك في جواز نحره قبل الإحرام بالحج.
ويؤكد ذلك أيضا أن اللخمي إنما ذكر الخلاف في التقليد لا في النحر ونصه " ولا يقلد هدي المتعة إلا بعد الإحرام بالحج وكذلك القارن واختلف إذا قلد وأشعر قبل إحرام بالحج فقال أشهب وعبد الملك في كتاب ابن حبيب: لا يجزئه وقال ابن القاسم: يجزئه، فلم يجزئ في القول الأول لأن المتعة إنما تجب إذا أحرم بالحج وإذا قلد وأشعره قبل ذلك كان تطوعا والتطوع لا يجزئ عن الواجب وأجزأ في القول الأخير قياسا على تقديم الكفارة قبل الحنث والزكاة إذا قرب الحول والذي تقتضيه السنة التوسعة في جميع ذلك اهـ منه بلفظه.
ولا يخفى على منصف وقف على كلام اللخمي هذا وعلى كلام عياض أن الصواب هو ما وجدته في الإكمال ما نقله عنه الأبي ونص الإكمال قوله: «فأمرنا حين أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدي وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم لوجوب الهدي على المتمتع كما قال: ": تعالى الله (4) » .
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1318) .
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) صحيح مسلم الحج (1318) .
(4) سورة البقرة الآية 196 (3) {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}(4/193)
لأن هؤلاء صاروا بإحلالهم في أشهر الحج وانتظارهم الحج متمتعين وقد تقدم الكلام عليها في أول الكتاب ويحتج به ويجيز الاشتراك في الهدي الواجب ومن يجيز تقليد هدي التمتع عند التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج وهي إحدى الروايتين عندنا والأخرى لا يجوز إلا بعد الإحرام؛ لأنه حينئذ صار متمتعا ووجب عليه الدم والقول الأول على أصل تقديم الكفارة قبل الحنث وتقديم الزكاة قبل الحول على من يقول بها وقد يفرق بين هذه الأصول إذ ظاهر الحديث يدل على ما قلناه اهـ محل الحاجة منه بلفظه.
* * *
ب - قال خليل: " ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزا قبله ":
لقد ناقش الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - هذه الجملة عن خليل فقال: واعلم أن قول من قال من المالكية: إنه يجب بإحرام الحج وأنه يجزئ قبله كما هو ظاهر قول خليل في مختصره المالكي في ترجمته مبينا لما به الفتوى " ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله فقد اغتر به بعض من لا تحقيق عنده بالمذهب المالكي.
والتحقيق أن الوجوب عندهم برمي جمرة العقبة وبه جزم ابن رشد وابن العربي وصاحب الطراز وابن عرفة قال ابن عرفة: سمع بن القاسم " إن مات يعني المتمتع قبل رمي جمرة العقبة فلا دم عليه " ابن رشد؛ لأنه إنما يجب في الوقت الذي يتعين فيه نحره وهو بعد رمي جمرة العقبة فإن مات قبله لم يجب عليه وهو خلاف نقل النوادر عن محمد بن القاسم وعن سماع عيسى: من مات يوم النحر ولم يرم فقد لزمه دم، ثم قال ابن عرفة: فقول ابن الحاجب يجب بإحرام الحج يوهم وجوبه على من مات قبل وقوفه ولا أعلم في سقوطه خلافا، ولعبد الحق عن ابن الكاتب عن بعض أصحابنا من مات بعد وقوفه فعليه الدم انتهى من الحطاب " فأصح الأقوال الثلاثة وهو المشهور أنه لا يجب على من مات إلا إذا كان موته قبل رمي جمرة العقبة وفيه قول بلزومه إن مات يوم النحر قبل الرمي وأضعفها أنه يلزمه إن مات بعد الوقوف بعرفة أما لو مات قبل الوقوف بعرفة فلم يقل أحد بوجوب الدم عليه من عامة المالكية وقول من قال منهم: إنه يجب بإحرام الحج ولا يتفرع عليه من الأحكام شيء إلا جواز إشعاره وتقليده وعليه فلو أشعره أو قلده قبل إحرام الحج كان هدي تطوع فلا يجزئ عن هدي التمتع فلو قلده وأشعره بعد إحرام الحج أجزأه؛ لأنه قلده بعد وجوبه أي بعد انعقاد الوجوب في الجملة اهـ، وعن ابن القاسم أنه لو قلده وأشعره قبل إحرام الحج ثم أخر ذبحه إلى وقته أنه يجزئه عن هدي التمتع وعليه فالمراد بقول خليل: وأجزا قبله أي أجزأ الهدي الذي تقدم تقليده وإشعاره على إحرام الحج، هذا هو المعروف عند عامة علماء المالكية فمن ظن أن المجزئ هو نحره قبل إحرام الحج أو بعده قبل وقت النحر فقد غلط غلطا فاحشا.
قال الشيخ المواق في شرحه: قول خليل: وأجزأ فيه ما نصه: ابن عرفة يجزئ تقليده وإشعاره(4/194)
بعد إحرام حجه ويجوز أيضا قبله على قول ابن القاسم انتهى.
وقال الشيخ الحطاب في شرحه: لقول خليل في مختصره ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله ما نصه: فإن قلت إذا كان هدي التمتع إنما ينحر بمنى إن وقف بعرفة أو بمكة بعد ذلك على ما سيأتي فما فائدة الوجوب هنا قلت يظهر في جواز تقليده وإشعاره بعد الإحرام للحج، وذلك أنه لو لم يجب الهدي حينئذ مع كونه يتعين بالتقليد لكان تقليده إذ ذاك قبل وجوبه فلا يجزئ إلا قلد بعد كمال الأركان.
وقال الشيخ الحطاب أيضا: والحاصل أن دم التمتع والقران يجوز تقليدها قبل وجوبها على قول ابن القاسم ورواية عن مالك، وهو الذي مشى عليه المصنف فإذا علم بعد ذلك فلم يبق للحكم بوجوب دم التمتع بإحرام الحج فائدة لا سيما على القول بأنه لا يجزئه ما قلده قبل الإحرام بالحج تظهر ثمرة الوجوب في ذلك ويكون المعنى أنه يجب بإحرام الحج وجوبا غير متحتم؛ لأنه معرض للسقوط بالموت والفوات فإذا رمى جمرة العقبة تحتم الوجوب فلا يسقط بالموت، كما نقول في كفارة الظهار أنها تجب بالعودة وجوبا غير متحتم بمعنى أنها تسقط بموت الزوجة وطلاقها فإن وطئ تحتم الوجوب ولزمت الكفارة ولو ماتت الزوجة وطلقها إلى أن قال: بل تقدم في كلام ابن عبد السلام في شرح المسألة الأولى: أن هدي التمتع إنما ينحر بمنى إن وقف به بعرفة أو بمكة بعد ذلك إلى آخره، وهو يدل على أنه لا يجزئ نحره قبل ذلك والله أعلم، ونصوص المذهب شاهدة بذلك.
قال القاضي عبد الوهاب في المعونة: ولا يجوز نحر هدي التمتع والقران قبل يوم النحر خلافا للشافعي لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) ، وقد ثبت أن الحلق لا يجوز قبل يوم النحر فدل على أن الهدي لم يبلغ محله إلا يوم النحر وله نحو ذلك في شرح الرسالة، وقال في التلقين: الواجب بكل واحد من التمتع والقران هدي ينحره بمنى ولا يجوز تقديمه قبل فجر يوم النحر وله مثله في مختصر عيون المجالس، ثم قال الحطاب - رحمه الله -: فلا يجوز الهدي عند مالك حتى يحل وهو قول أبي حنيفة وجوزه الشافعي من حيث يحرم بالحج واختلف قوله فيما بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج ودليلنا أن الهدي متعلق بالتحلل وهو مفهوم من قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (2) ، اهـ منه.
وكلام العلماء المالكية بنحو هذا كثير معروف والحاصل أنه لا يجوز ذبح دم التمتع والقران عند مالك وعامة أصحابه قبل يوم النحر وفيه قول ضعيف بجوازه بعد الوقوف بعرفة وهو لا يعول عليه وإن قولهم: إنه يجب بإحرام الحج لا فائدة فيه إلا جواز إشعار الهدي وتقليده بعد إحرام الحج لا شيء آخر فيما نقل عن عياض وغيره من المالكية مما يدل على جواز نحره قبل يوم النحر، كله غلط إما من تصحيف الإشعار والتقليد وجعل النحر بدل ذلك غلطا، وإما من الغلط في فهم المراد عند علماء المالكية كما لا يخفى على من عنده علم بالمذهب المالكي فاعرف هذا التحقيق ولا تغتر بغيره.
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) سورة البقرة الآية 196(4/195)
قال الشافعي: وإذا ساق المتمتع الهدي أو القارن لمتعته أو قرانه فلو تركه حتى ينحره يوم النحر كان أحب إلي، وإن قدم فنحره في الحرم أجزأه، من قبل أن على الناس فرضين فرضا في الأبدان فلا يكون إلا بعد الوقت وفرضا في الأموال فيكون قبل الوقت إذا كان شيئا مما فيه الفرض وهكذا إن ساقه مفردا متطوعا به والاختيار إذا ساقه معتمرا أن ينحره بعدما يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة قبل أن يحلق عند المروة وحيث نحره من فجاج مكة أجزأه والاختيار في الحج أن ينحره بعد أن يرمي جمرة العقبة وقبل أن يحلق.
وقال الشيرازي: ويجب دم التمتع بالإحرام بالحج وفي وقت جوازه قولان أحدهما: لا يجوز قبل أن يحرم بالحج، والثاني يجوز بعد فسخ الإحرام من العمرة، وقال النووي: ووقت وجوبه عندنا الإحرام بالحج بلا خلاف ولا يتوقف بوقت كسائر دماء الجبران لكن الأفضل ذبحه يوم النحر، وهل تجوز إراقته بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج فيه قولان مشهوران وحكاهما جماعة وجهين والمشهور قولان وذكرهما المصنف يريد الشيرازي في كتابه المهذب بدليلهما وأصحهما الجواز فعلى هذا هل يجوز قبل التحلل من العمرة فيه طريقان: أحدهما لا يجوز قطعا وهو مقتضى كلام المصنف وكثيرين ونقله صاحب البيان عن أصحابنا العراقيين ونقل الماوردي اتفاق الأصحاب عليه والثاني فيه وجهان أصحهما لا يجوز والثاني يجوز بوجود بعض السبب حكاه أصحابنا الخراسانيون وصاحب البيان فالحاصل في وقت جوازه ثلاثة أوجه: أحدها بعد الإحرام بالعمرة وأصحها بعد فراغها، والثالث بعد الإحرام بالحج.
* * *
4 - قال ابن قدامة: أما وقت وجوبه فعن أحمد أنه يجب إذا أحرم بالحج وهو قول أبي حنيفة والشافعي وعنه أنه يجب إذا وقف بعرفة وهو قول مالك واختيار القاضي. . . وقال أبو طالب: سمعت أحمد قال في الرجل يدخل مكة في شوال ومعه هدي قال: ينحر بمكة، وإن قدم قبل العشر لم ينحره حتى ينحره بمنى ومن جاء من قبل ذلك نحره عن عمرته وأقام على إحرامه وكان قارنا انتهى، وقال أيضا وقد ذكرنا رواية في جواز تقديم الهدي على إحرام الحج انتهى.
وذكر صاحب الفروع رواية عن الإمام أحمد أنه يجب بإحرام العمرة. وقال صاحب الفروع أيضا: أما وقت ذبحه فجزم جماعة منهم المستوعب والرعاية أنه لا يجوز نحره قبل وقت وجوبه وقاله القاضي وأصحابه لا يجوز قبل فجر يوم النحر (و5 م) فظاهره يجوز إذا وجب.(4/196)
أدلة هذا القول
نظرا إلى اختلاف القائلين بهذا القول في تحديد بدء وقت جواز ذبحه فإننا نذكر أدلة كل قول على حده مع المناقشة. أما رواية أبي طالب عن الإمام أحمد أنه إن قدم به قبل عشر ذي الحجة جاز ذبحه وإن قدم به بعد دخول العشر فإنه لا يذبحه إلا يوم النحر فهذه الرواية مبنية على مصلحة مرسلة، وذلك أنه جاء في رواية أبي طالب كما في المغني أنه قال: سمعت أحمد قال في الرجل يدخل مكة في شوال ومعه هدي قال: ينحره بمكة وإن قدم قبل العشر ينحره حتى لا يضيع أو يموت أو يسرق انتهى المقصود.
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأمور ثلاثة: أحدهما أن العمل بالمصلحة المرسلة مشروط بعدم مخالفتها نصا وقد خالفت النص هنا وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر ذبح الهدي إلى يوم النحر قصدا وقال - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا عني مناسككم (1) » . الثاني: أنها منتقضة فإن التعليل بخوف الموت والضياع والسرقة وارد أيضا على الهدي إذا قدم به بعد دخول العشر لأن العشر يحتمل أن يموت فيها الهدي أو يضيع أو يسرق. الثالث: أن التحديد بالعشر لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع.
وأما من قال بجواز ذبحه بعد الإحرام بالعمرة وهو قول عند الشافعية ورواية عن الإمام أحمد وقول أبي الخطاب من الحنابلة ومن وافقهم من أهل العلم فاستدل له بالكتاب وهو قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (2) .
وجه الدلالة ما ذكره الشيرازي وغيره أن هدي التمتع والقران له سببان هما العمرة والحج في تلك السنة فإن أحرم بالعمرة انعقد السبب الأول في الجملة فجاز الإتيان بالمسبب كوجوب قضاء الحائض أيام حيضها من رمضان لأن انعقاد السبب الأول الذي هو وجود شهر رمضان كفى في وجوب الصوم وإن لم تتوفر الأسباب الأخرى وإن لم تنتف الموانع، لأن قضاء الصوم فرع من وجوب سابقه في الجملة.
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن هذا مجرد فهم للآية باجتهاد عارضه نص ومن القواعد المقررة في باب الاجتهاد أنه لا يجوز الاجتهاد مع النص والنص هو قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (3) {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (4) ، وقد سبق الاستدلال بهذه الآية ومناقشتها في القول الأول فلا نطيل الكلام بالإعادة.
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) سورة الحج الآية 28
(4) سورة الحج الآية 29(4/197)
ج - وأما من قال بجواز ذبحه بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج وهو قول الشافعية ومن وافقهم من أهل العلم فقد استدلوا بالكتاب والسنة والمعنى. أما الكتاب فقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) . ووجه الاستدلال بها مع المناقشة يقال فيه ما قيل عند الاستدلال بها للقول قبل هذا، وأما السنة: فما رواه مسلم في صحيحه قال: وحدثني محمد بن حاتم حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية (2) » وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث وجه الدلالة: قال النووي: فيه دليل لجواز ذبح هدي التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج.
ويمكن أن يجاب عن ذلك بثلاثة أمور:
أحدها أن يقال: لا منافاة بين هذا الحديث وبين ما سبق من أدلة السنة للقول الأول وما جاء في معناها فإن جميعها يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المفرد والقارن اللذين لم يسوقا الهدي بالتحلل، وأمر بالهدي وأمر باشتراك السبعة في البدنة إلا أنه في هذا الحديث نسق أمرهم بالهدي وأمرهم بأن يشترك السبعة في البدنة على أمره إياهم بالفسخ بدون فاصل متبعا ذلك قوله: " وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم " وليس في تلك الأحاديث هذه اللفظة ولا ذلك التنسيق فمن هنا نشا الخطأ في استدلال من استدل بهذا الحديث حيث لم يفرق بين زمن الأمر بالشيء وبين زمن فعل المأمور به فظن أن الإشارة في قوله " وذلك " إلى زمن الذبح وإنما هي إشارة إلى زمن الأمر والمراد أن زمن الأمر بالفسخ وزمن الأمر بالهدي والاشتراك فيها زمن واحد والحديث صريح في أن ذلك حين إحلالهم من حجهم وذلك إنما وقع يوم النحر؛ لأنه لا إحلال من حج البتة قبل يوم النحر فيكون الحديث حجة عليهم لا لهم وهذا ما يسمى عند الأصوليين بالقلب.
الثاني: أنه على تقدير أن قوله: " وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث " مخالف لما سبق من الأدلة فيقال في أن هذه الزيادة شاذة ووجه شذوذها مخالفتها لما سبق من الأدلة الصحيحة الخالية من هذه الزيادة، ومدارها على محمد بن أبي بكر البرساني وقد رواه عن جابر عدول عن طريق أبي الزبير المكي أئمة مالك بن أنس والليث بن سعد وأبو خيثمة ومطر الوراق وسفيان بن عيينة وجميع رواياتهم خالية من هذه الزيادة.
الثالث: أن هذا من الأمور التي تتوافر الهمم والدواعي على نقلها فلو وقع أمره - صلى الله عليه وسلم - للصحابة بأن يذبحوا الهدي بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج لسارعوا إلى الامتثال كما سارعوا إلى امتثال أوامره من لبس الثياب والتطيب ومجامعة النساء وغير ذلك ولو وقع ذلك لنقل فلما لم ينقل دل على
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) صحيح مسلم الحج (1318) .(4/198)
عدم وقوعه ولم يأمرهم بالتحلل من العمرة إلا أنهم ليس معهم هدي.
وأما المعنى: فقال الشيرازي: إنه حق مالي يجب بشيئين فجاز تقديمه على أحدهما كالزكاة بعد ملك النصاب، ويمكن أن يناقش ذلك بأنه دليل اجتهادي في مقابل نص ولا اجتهاد مع النص وقد مضى ذلك. د (وأما من قال من الشافعية ومن وافقهم بأنه يجوز بعد الإحرام بالحج فقد استدلوا بالكتاب والسنة والمعنى. أما الكتاب فقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) ، ووجه الدلالة ما ذكره الشيرازي وغيره من أن الله أوجب الهدي على المتمتع وبمجرد الإحرام بالحج يسمى متمتعا فوجب حينئذ؛ لأنه يطلق على المتمتع وقد وجد ولأن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (2) ، فالصيام ينتهي بأول جزء من الليل فكذلك التمتع يحصل بأول جزء من الحج وهو الإحرام.
ويجاب عن الاستدلال بهذه الآية بما أجيب به عن الاستدلال بها لمن قال بجواز ذبحه إذا أحرم بالعمرة أو بعد تحلله منها وقد سبق، ويجاب أيضا بأن المتمتع لا يتحقق بإحرام الحج لاحتمال أن الحج قد يفوته بسبب عائق عن الوقوف بعرفة؛ لأنه لو فاته لا يسمى متمتعا.
وأما السنة: فقد استدلوا بأدلة:
الأول ما رواه مسلم في صحيحه قال: وحدثني محمد بن حاتم حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية وذلك حين أمرهم أن يحلوا (3) » من حجهم في هذا الحديث. وجه الدلالة قد يقال أن هذا الحديث يدل على جواز ذبح هدي التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج فيدل بطريق الأولى على جوازه بعد الإحرام بالحج.
وقد مضت مناقشة هذا الدليل عند الاستدلال به لمن قال بجواز ذبحه بعد التحلل من العمرة وبهذا يتبين أنه لا دلالة فيه ويجاب ثانيا بما أجيب به من الوجه الثاني عن الاستدلال بالآية. الدليل الثاني ما أخرجه الحاكم في المستدرك قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى بن إبراهيم ثنا أحمد بن النضر بن عبد الوهاب، ثنا يحيى بن أيوب، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق، ثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء، عن جابر بن عبد الله قال: «كثرت القالة بين الناس فخرجنا حجاجا حتى لم يكن بيننا وبين أن نحل إلا ليال قلائل أمرنا بالإحلال» الحديث إلى أن قال:
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) سورة البقرة الآية 187
(3) صحيح مسلم الحج (1318) .(4/199)
قال عطاء: قال ابن عباس - رضي الله عنه -: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم يومئذ في أصحابه غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه فلما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت يدي ناقته فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اصرخ أيها الناس هل تدرون أي شهر هذا؟» الحديث ثم قال الحاكم بعد إخراجه: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي على تصحيحه.
ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله: «فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه فلما وقف بعرفة (1) » إلخ وجه الدلالة قد يقال: إن عطف الوقوف بالفاء على ذبح سعد تيسه عن نفسه يدل على جواز ذبح الهدي بعد الإحرام بالحج.
والجواب أن ذبح سعد للتيس كان يوم النحر بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: أخبرني عكرمة مولى ابن عباس زعم أن ابن عباس أخبره «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم غنما يوم النحر في أصحابه وقال: " اذبحوها لعمرتكم فإنها تجزئ " فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا (2) » وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: أخرجه الإمام أحمد ورجاله رجال الصحيح فرواية الإمام أحمد مفسرة لرواية الحاكم وحينئذ لا دلالة في الحديث.
* * *
وأما المعنى فمن وجوه
أحدها ما ذكره الشيرازي بقوله إن شرائط الدم إنما توجد بوجود الإحرام فوجب أن يتعلق الوجوب به انتهى ويمكن أن يناقش ذلك بأنه دليل اجتهادي ولا اجتهاد مع النص وقد سبق ما يدل على خلاف ذلك عند الكلام على أدلة المذهب الأول.
الثاني ويجاب أيضا بما أجيب به من الوجه الثاني عن الآية التي استدل بها أهل هذا القول، ما سبق من المناقشة لاستدلال أهل القول الأول بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (3) والمحل المقصود من المناقشة جواز ذبح الهدي قبل يوم النحر قياسا على جواز الصيام؛ لأنه بدله والبدل له حكم المبدل منه.
الثالث ويجاب عن هذا بما أجيب به عنه هناك تركنا إعادته هنا اختصارا. ما ذكره النووي بقوله " ولا يتوقت بوقت كسائر دماء الجبران ".
ويناقش ذلك بما ذكره ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه زاد المعاد 1 \ 217 من أنه دم شكران لا دم جبران.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/307) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/307) .
(3) سورة البقرة الآية 196(4/200)
ويمكن أن يناقش ثانيا بأنه قياس مع النص فقد وردت أدلة دالة على ذبحه يوم النحر وسبقت من أدلة القول فيكون هذا القياس فاسد الاعتبار.
ثانيا انتهاء وقت ذبح الهدي
اختلف أهل العلم في تحديد نهاية أيام النحر هل هي يوم العيد ويومان بعده أو يوم العيد وثلاثة أيام بعده أو يوم العيد فقط إلخ ما ستأتي الإشارة إليه من الأقوال التي لا تعتمد على دليل شرعي وفيما يلي ذكر المذاهب ومن قال بكل مذهب منها ومستنده مع المناقشة في حدود ما يسره الله.
القول الأول: ينتهي وقت النحر بغروب شمس اليوم الثاني من أيام التشريق وممن قال بهذا القول الحنفية وهو مذهب مالك وأحمد الجصاص، ذهب أصحابنا والثوري إلى أنه يوم العيد ويومان بعده وقال القرطبي: قال مالك: ثلاثة يوم النحر ويومان بعده وقال ابن قدامة: قال أحمد: أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال ابن القيم: هذا مذهب أحمد وقال في الإنصاف: هذا هو الصحيح من المذهب وعليه جماهير الأصحاب وقطع به كثير منهم واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والإجماع والأثر والمعنى:
أما الكتاب فقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (1) ، وجه الدلالة ما ذكره القرطبي بقوله " وهذا جمع قلة لكن المتيقن منه الثلاثة وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به ".
وأما السنة «فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاثة (2) » ، وجه الدلالة ما ذكره الباجي بقوله: ومعلوم أنه أباح الأكل منها في أيام الذبح فلو كان اليوم الرابع منها لكان قد حرم على من ذبح في ذلك اليوم أن يأكل من أضحيته انتهى كلام الباجي وليس هناك فرق بين الأضحية والهدي بالنسبة لانتهاء وقت الذبح.
وأما الإجماع فقد قرره الجصاص بقوله بعد ذكره هذا الرأي عن بعض أصحابه قال: قد ثبت عمن ذكرنا من الصحابة أنها ثلاثة واستفاض ذلك عنهم وغير
__________
(1) سورة الحج الآية 28
(2) صحيح البخاري الأطعمة (5423) ، سنن النسائي الضحايا (4432) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3159) .(4/201)
جائز لمن بعدهم خلافهم إذا لم يرد عن أحد من نظرائهم خلافه فثبتت حجته.
وأيضا فإن سبيل تقدير النحر التوقيف أو الاتفاق إذ لا سبيل إليها من طريق القياس فلما قال: من ذكرنا قوله من الصحابة بالثلاثة صار ذلك توقيفا كما قلنا في مقدار مدة الحيض وتقدير المهر ومقدار التشهد في إكمال فرض الصلاة وما جرى مجراها من المقادير التي طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق وإذا قال به قائل من الصحابة ثبتت حجته وكان ذلك توقيفا.
وأما الأثر فقد نقله الجصاص وغيره عن علي وابن عباس وابن عمر وأنس بن مالك وأبي هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب.
* * *
وأما المعنى فمن وجهين
:
أحدها ما ذكره الجصاص بقوله: قد ثبت الفرق بين أيام النحر وأيام التشريق؛ لأنه لو كانت أيام النحر أيام التشريق لما كان بينهما فرق وكان ذكر أحد العددين ينوب عن الآخر فلما وجدنا الرمي في يوم النحر وأيام التشريق ووجدنا النحر يوم النحر وقال قائلون: إلى آخر أيام التشريق وقلنا نحن يومان بعده وجب أن نوجد فرقا بينهما لإثبات فائدة كل واحد من اللفظين وهو أن يكون من أيام التشريق ما ليس من أيام النحر وهو آخر أيامها.
الثاني ما ذكره الباجي بقوله هو يوم مشروع النحر قبله فلم يكن من أيام الذبح كالخامس. القول الثاني أن وقت الذبح ينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث من أيام التشريق وبهذا قال الشافعي: واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومن وافقهم من أهل العلم قال الشافعي: والأضحية جائزة يوم النحر وأيام منى كلها، وقال المرداوي في الإنصاف: قال في الإيضاح: آخره آخر يوم من أيام التشريق واختاره ابن عبدوس في تذكرته بأن آخره آخر اليوم الثالث من أيام التشريق واختاره الشيخ تقي الدين قاله في الاختيارات وجزم به ابن رزين في نهايته والظاهر أنه مراد صاحب النهاية فإن كلامه محتمل.
وقال ابن القيم في زاد المعاد وهو مذهب إمام أهل الهجرة الحسن وإمام أهل مكة عطاء بن أبي رباح وإمام أهل الشام الأوزاعي وإمام فقهاء أهل الحديث الشافعي - رحمه الله - واختاره ابن المنذر واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والأثر والمعنى أما الكتاب فقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (1) ، الآية.
__________
(1) سورة الحج الآية 28(4/202)
وجه الدلالة أن المراد بالمعلومات أيام النحر يوم العيد وثلاثة أيام بعده واستدلوا لهذا التوجيه بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (1) .
* * *
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: هذه الأيام الثلاثة تختص بأنها أيام منى وأيام الرمي وأيام التشريق ويحرم صيامها فهي أخوة في هذه الأحكام فكيف تفترق في جواز الذبح بغير نص ولا إجماع.
وأما السنة فقد استدلوا بأدلة:
الأول: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر هديه يوم النحر ضحى» . وجه الدلالة ما ذكره الشافعي بقوله: فلما لم يحظر على الناس أن ينحروا بعد يوم النحر بيوم أو يومين لم نجد اليوم الثالث مفارقا لليومين قبله؛ لأنه ينسك فيه ويرمى كما ينسك ويرمى فيهما.
الثاني: ما رواه سليمان بن أبي موسى عن أبي حسين عن جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل عرفات موقف وارتفعوا عن عرنة وكل مزدلفة موقف وارتفعوا عن محسر وكل فجاج مكة منحر وكل أيام التشريق ذبح (2) » .
وهذا نص في الدلالة أن كل أيام النحر بأنها ثلاثة بعد العيد وأجيب عن هذا الحديث بما نقله الرازي عن الإمام أحمد أنه قال جوابا لمن سأله عن هذا الحديث قال: لم يسمعه ابن أبي حسين بن جبير بن مطعم وأكثر روايته عنه سهو. وقال الرازي: وقد قيل إن أصله ما رواه مخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبيه قال: سمعت أسامة بن زيد يقول: سمعت عبد الله بن أبي حسين يخبر عن عطاء بن أبي رباح وعطاء يسمع قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل عرفة موقف وكل منى منحر وكل فجاج مكة طريق ومنحر (3) » فهذا أصل الحديث ولم يذكر فيه «وكل أيام التشريق ذبح (4) » ويشبه أن يكون الحديث الذي ذكره فيه هذا اللفظ إنما هو من كلام جبير بن مطعم أو من دونه؛ لأنه لم يذكره.
وأجاب ابن القيم عن ذلك بقوله وروي من وجهين مختلفين يشد أحدهما الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل منى منحر وكل أيام التشريق ذبح (5) » وروي من حديث جبير بن مطعم وفيه انقطاع ومن حديث أسامة بن زيد عن عطاء عن جابر قال يعقوب بن سفيان: أسامة بن زيد عند أهل المدينة ثقة
__________
(1) سورة البقرة الآية 203
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/82) .
(3) سنن أبو داود المناسك (1937) ، سنن ابن ماجه المناسك (3048) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1879) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/82) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (4/82) .(4/203)
مأمون. انتهى.
وقد تكلم الزيلعي على هذا الحديث في نصب الراية فقال: رواه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه في النوع الثالث والأربعين من القسم الثالث من حديث عبد الرحمن بن أبي حسين عن جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل أيام التشريق ذبح وعرفة كلها موقف (1) » إلى آخره وقد ذكرناه بتمامه في الحج ورواه البزار في مسنده وقال: ابن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم ورواه البيهقي في المعرفة ولم يذكر فيه انقطاعا، وأخرجه الداراقطني في سننه عن أبي معيد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن دينار عن جبير بن مطعم مرفوعا وأبو معين بمثناه فيه لين وأخرجه هو والبزار عن سويد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه مرفوعا قال البزار: لا نعلم قال فيه عن نافع بن جبير عن أبيه الأسود بن عبد العزيز وهو ليس بالحافظ ولا يحتج به إذا انفرد، وحديث ابن أبي حسين هو الصواب مع أن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم. انتهى.
وأخرجه أحمد أيضا والبيهقي عن سليمان بن موسى عن جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال البيهقي: وسليمان بن موسى لم يدرك جبير بن مطعم وأخرجه ابن عدي في الكامل عن معاوية ابن يحيى الصدفي عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيام التشريق كلها ذبح (2) » انتهى.
وضعف معاوية بن يحيى عن النسائي والسعدي وابن معين وعلي بن المديني ووافقهم وقال ابن أبي حاتم في كتاب العلل: قال أبي: هذا حديث موضوع بهذا الإسناد انتهى وقيل معاوية محمد بن شعيب.
وأما الأثر فقد أخرج البيهقي عدة آثار في ذلك عن ابن عباس والحسن وعطاء وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى وذكر ابن قدامة أنه مروي عن علي.
وأما المعنى فإنها أيام تكبير وإفطار فكانت محلا للنحر كالأولين ذكر ذلك ابن قدامة. وأما ما عدا هذين القولين من الأقوال فقد تركنا ذكرها لعدم جدوى البحث فيها فإنها أقوال مبنية على مدارك اجتهادية ولا محل للاجتهاد مع الأدلة قال ابن عبد البر: ولا يصح عندي في هذا إلا قولان أحدهما قول مالك والكوفيين والثاني قول الشافعي والشاميين وهذان القولان مرويان عن الصحابة فلا معنى للاشتغال بما خالفهما؛ لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة ولا في قول الصحابة وما خرج عن هذين فمتروك انتهى المقصود، بواسطة نقل القرطبي عنه في جامعه.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/82) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/82) .(4/204)
ثالثا: ذبح الهدي ليلا
اختلف أهل العلم في جواز الذبح ليلا فمنهم من يرى أنه لا يجوز ومنهم من قال بجوازه وفيما يلي ذكر القولين مع الأدلة والمناقشة.(4/204)
القول الأول: لا يجوز الذبح ليلا ومن قال به مالك وأصحابه إلا أشهب وهو رواية عن أحمد وهي ظاهر كلام الخرقي، قال الباجي: ولا يجوز نحر الهدي ليلا وعلى هذا قول مالك وأصحابه إلا أشهب فقد روى عنه ابن الحارث أنه يجوز نحر الهدي أو ذبحه ليلا وقال ابن قدامة: ولا يجزئ أي الذبح في ليلتهما في قول الخرقي. . . . قال: واختلفت الرواية عن أحمد في الذبح في ليلتي يومي التشريق ففيه لا يجزئ نص عليه أحمد - رضي الله عنه - في رواية الأشرم واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والمعنى: أما الكتاب فقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (1) .
وجه الدلالة قد يقال: إن الله ذكره بلفظ الأيام وذكر اليوم يدل على أن الليل ليس كذلك ومن وجه آخر قال الباجي: أن الشرع ورد بالذبح في زمن مخصوص وطريق تعلق النحر والذبح بالأوقات الشرع لا طريق له غير ذلك فإذا ورد الشرع بتعلقه بوقت مخصوص كقوله تعالى {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (2) وبنحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وذبحه أضحيته نهارا علمنا جواز ذلك نهارا ولم يجز أن نعديه إلى الليل إلا بدليل وقد طلبنا في الشرع فلم نجد دليلا ولو كان لوجدناه مع البحث والطلب فهذا من باب الاستدلال بعدم الدليل فيما تتوقف شرعيته على وجود الدليل.
وأجاب ابن حزم عن هذا الاستدلال بقوله: هذا إيهام منهم يمقت الله عليه؛ لأن الله تعالى لم يذكر في هذه الآية ذبحا ولا تضحية ولا نحرا لا في نهار ولا في ليل إنما أمر الله تعالى بذكره في تلك الأيام المعلومات أفترى يحرم ذكره في لياليه إن هذا لعجب ومعاذ الله من هذا وليس هذا النص يمانع من ذكره تعالى وحمده على ما رزقنا من بهيمة الأنعام في ليل ونهار في العام كله ولا يختلفون فيمن حلف ألا يكلم زيدا ثلاثة أيام أن الليل يدخل في ذلك النهار.
وأما السنة فما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه نهى عن الذبح ليلا» . وهذا نص في الدلالة على عدم جواز الذبح ليلا وقد أجاب عنه ابن حزم بقوله وذكروا حديثا لا يصح رويناه من طريق بقية بن الوليد عن مبشر بن عبيد الحلبي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الذبح بالليل» وبقية ليس بالقوي ومبشر بن عبيد مذكور بوضع الحديث عمدا ثم هو مرسل انتهى كلام ابن حزم وقال ابن حجر في مبشر بن عبيد: هو متروك ويجاب عن ذلك بأن البيهقي أخرج في سننه حديثا فيه النهي عن الذبح ليلا قال: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا الحسن بن علي بن عفار ثنا يحيى بن آدم ثنا حفص عياش عن شيث بن عبد الملك عن الحسن قال: «نهي عن حداد الليل وحصاد الليل والأضحى بالليل» وأجاب عنه البيهقي بقوله إنما كان ذلك من شدة حال الناس كان الرجل يفعله ليلا فنهي عنه ثم رخص في ذلك.
وأما المعنى فمن وجهين ذكرهما عبد الرحمن بن قدامة أحدهما أنه ليل يوم يجوز الذبح فيه فأشبه ليلة يوم النحر.
__________
(1) سورة الحج الآية 28
(2) سورة الحج الآية 28(4/205)
الثاني أن الليل يتعذر فيه تفرقة اللحم في الغالب ولا يفرق طريا فيفوت بعض المقصود وأجاب ابن حزم عن الدليل الأول فقال هذا قياس والقياس كله باطل ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل؛ لأن يوم النحر هو مبدأ دخول وقت التضحية وما قبله ليس وقتا للتضحية ولا يختلفون معنا في أن من طلوع الشمس إلى أن يمضي بعد ابيضاضها وارتفاعها وقت واسع من يوم النحر لا يجوز فيه التضحية فيلزمهم أن يقيسوا على ذلك اليوم ما بعده من أيام التضحية فلا يجيزون التضحية فيها إلا بعد مضي مثل ذلك الوقت وإلا فقد تناقضوا وظهر فساد قولهم وما نعلم أحدا من السلف قبل مالك منع من التضحية ليلا.
* * *
القول الثاني: أنه يجوز الذبح ليلا بمنى قال بذلك أبو حنيفة وروي عن مالك إن فعل ذلك أجزأه، وقال به أشهب من المالكية والشافعي وهو رواية عن أحمد وقول أكثر الصحابة وبه قال ابن حزم: قال الباجي نقلا عن القاضي أبي الحسن: وقد روي عن مالك فيمن فعل ذلك أجزأه ونقل الباجي القول عن أشهب فيه أنه يجوز الذبح ليلا، وقال الشافعي - رحمه الله -: ويذبح في الليل والنهار وإنما أكره ذبح الليل لئلا يخطئ رجل في الذبح أو لا يوجد مساكين حاضرون فأما إذا أصاب الذبح ووجد مساكين فسواء وقال النووي: مذهبنا جواز الذبح ليلا ونهارا في هذه الأيام لكن يكره ليلا وبه قال أبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور والجمهور وهو الأصح عن أحمد وقال ابن قدامة بعد ذكره لرأي الخرقي وقال غيره من أصحابنا: يجوز ليلتي يومي التشريق الأوليين وهو قول أكثر الفقهاء وقال في الشرح: وروي عن أحمد أن الذبح يجوز ليلا اختاره أصحابنا المتأخرون وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو حنيفة وأصحابه انتهى كلامه.
واستدل لهذا القول بالكتاب والمعنى، أما الكتاب فقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (1) . وجه الدلالة: يمكن أن يقال: إن الأيام تطلق لغة على ما يشمل الليالي ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن حمل الآية على ظاهرها وهو أنها تتناول الأيام دون الليالي أحوط من حملها على تناول الليل والنهار
__________
(1) سورة الحج الآية 28(4/206)
رابعا: مكان ذبح الهدي
لم نطلع على كلام أحد من أهل العلم أن هدي التمتع والقران يجوز ذبحه خارج الحرم ولم يرد في القرآن ولم نطلع على شيء من السنة يدل على جواز ذبحه خارج الحرم وقد جاءت أدلة من القرآن خاصة في غير هدي التمتع والقران وجاءت آية دالة بعمومها على محل هدي التمتع والقران وجاءت أدلة من السنة تدل على ذبحه في أي موضع من الحرم وفيما يلي بيان هذه الأدلة.
قال تعالى في المحصر: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) ، وفسر محله بأنه الحرم عند القدرة على إيصاله وقوله تعالى في جزاء الصيد {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (2) ، ومعلوم أنه لم يرد الكعبة بعينها وإنما أراد الحرم وقال: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (3) ، وهذا عام في الهدايا ومنها هدي التمتع والقران وأما الأحاديث فقد روى البيهقي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل منى منحر وكل فجاج مكة طريق ومنحر (4) » ولتمام الفائدة نورد ما ذكره الزيلعي على هذا الحديث قال: روي من حديث جابر ومن حديث أبي هريرة فحديث جابر أخرجه أبو داود وابن ماجه عن أسامة بن زيد الليثي عن عطاء بن أبي رباح عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كل عرفة موقف وكل منى منحر وكل المزدلفة موقف وكل فجاج مكة طريق ومنحر (5) » انتهى بلفظ أبي داود ومثله لفظ ابن ماجه. إلا أن فيه تقديما وتأخيرا ولاختلاف لفظهما فرقهما ابن عساكر في موضعين من ترجمة عطاء عن جابر في أطرافه فجعلهما حديثين وليس بجيد والصواب ما فعله شيخنا أبو الحجاج المزي في أطرافه فإنه ذكره في ترجمة واحدة والشيخ زكي الدين المنذري قلد ابن عساكر فلم يعزه في مختصر السنن لابن ماجه والله أعلم.
وأسامة بن زيد الليثي قال في التنقيح روى له مسلم متابعة فيما أرى ووثقه ابن معين في روايته انتهى فالحديث حسن واعلم أن بعض الحديث في مسلم أخرجه عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «نحرت هاهنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم (6) » .
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود في الصوم عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أفطر يوم تفطرون وأضحي يوم تضحون وكل عرفة موقف وكل منى منحر وكل فجاج مكة منحر وكل جمع موقف (7) » انتهى.
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) سورة المائدة الآية 95
(3) سورة الحج الآية 33
(4) سنن أبو داود المناسك (1937) ، سنن ابن ماجه المناسك (3048) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1879) .
(5) سنن أبو داود المناسك (1937) ، سنن ابن ماجه المناسك (3048) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1879) .
(6) سنن أبو داود المناسك (1907) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) .
(7) سنن أبو داود الصوم (2324) .(4/207)
قال المنذري في مختصره: قال ابن معين: محمد بن المنكدر لم يسمع من أبي هريرة - رضي الله عنه - وقال: أبو زرعة لم يلق أبا هريرة انتهى ورواه البزار في مسنده وقال: محمد بن المنكدر لا نعلمه سمع من أبي هريرة انتهى، وروى الواقدي في كتاب المغازي حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في عمرة القضية وهديه عند المروة: «هذا المنحر وكل فجاج مكة منحر (1) » فنحر عند المروة انتهى كلام الزيلعي.
وقال ابن حجر في إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي مولاهم أبو إسماعيل المدني: ضعف من السابقة روى له أبو داود والترمذي والنسائي.
* * *
__________
(1) سنن أبو داود الصوم (2324) .(4/208)
خامسا: حكم الاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق
دل الكتاب والسنة والإجماع وسد الذرائع على أنه لا يجوز أن يستعاض عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته. أما الكتاب فقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (1) . وجه الدلالة: أن الله جل وعلا أوجب على المتمتع الهدي في حال القدرة عليه فإذا لم يجد هديا أو ثمنه فإنه ينتقل إلى الصيام ولم يجعل الله واسطة بين الهدي والصيام ولا بدلا عن الصيام عند العجز عنه وما كان ربك نسيا وقد بين الله ما يجب على المريض إذا عجز مطلقا عن الصيام من الإطعام بقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (2) ، وإذا كان قادرا على القضاء فقد بين حكمه بقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (3) ، وبين في كفارة اليمين أنه يجب العتق أو الإطعام أو الكسوة وعند العجز يصوم ثلاثة أيام متتاليات وبين في كفارة من أصيب بمرض أو أذى في رأسه واحتاج إلى ارتكاب محظور ليتخلص مما أصيب به بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (4) ، وقال في كفارة القتل خطأ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (5) إلى أن قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} (6) ، وقال في كفارة الظهار: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (7) {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} (8) الآية.
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) سورة البقرة الآية 184
(3) سورة البقرة الآية 185
(4) سورة البقرة الآية 196
(5) سورة النساء الآية 92
(6) سورة النساء الآية 92
(7) سورة المجادلة الآية 3
(8) سورة المجادلة الآية 4(4/208)
وأما السنة فإن أدلتها في هذا الموضوع متفقة مع القرآن. وأما الإجماع فإن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المجتهدين أخذوا بما دل عليه القرآن ودلت عليه السنة من وجوب الهدي على المتمتع والقارن فإذا لم يجد هديا أو لم يجد ثمنه فإنه يصوم عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ومن قال بالتصدق فإنه يطالب بدليل يخالف ذلك.
وأما سد الذرائع فإنه لو أجيز القول بالاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته لأدى ذلك إلى التوسع في أبواب الشريعة فمثلا يقال: تخرج نفقة الحج بدلا من الحج نظرا لصعوبته في هذا العصر. وهناك شبه قد يتعلق بها من تسول له نفسه القول بالجواز نذكرها فيما يلي ثم نتبع كل شبهة بجوابها.
الشبهة الأولى: قد يقال بالجواز نظرا لصعوبة تنظيم الذبح في الوقت الحاضر مع بقاء المفسدة على حالها بل ربما زادت مع تزايد عدد الحجاج. ويمكن أن يجاب عن هذه الشبهة بأمور أحدها: أن سوء تطبيق الناس لأمر كلفوا به لا يجوز نقلهم عنه إلى أمر لم يشرع لهم بدعوى أنه يسهل عليهم تطبيقه بل يجب السعي في تسهيل الذبح عليهم وحسن تطبيقه.
الثاني: أن هذا حكم مبني على مصلحة ملغاة وقد قرر العلماء على أن المصالح ثلاثة أقسام مصلحة معتبرة فيعمل بها بالإجماع ومصلحة ملغاة فلا يعمل بها بالإجماع ومصلحة مرسلة وفي العمل بها خلاف والمصلحة المذكورة هنا مصلحة ملغاة فإن الشرع لم يعتبرها بعد ذكره للهدي وفي حالة عدم القدرة عليه أو على ثمنه ينتقل إلى الصيام.
الثالث: أن المقصود من هذه العبادة إراقة الدم وأما اللحوم فهي مقصودة بالقصد الثاني قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (1) ، وفي الاكتفاء بالتصدق بالثمن دون إراقة الدم إضاعة للقصد الأول.
الشبهة الثانية ما يجري عليه بعض الحجاج من تسليم ثمن الهدي الواجب عليهم للمطوفين وعمالهم بأنفسهم بصفة التوكيل حيث لا يباشرون بأنفسهم عمليات الشراء والذبح والتصدق باللحوم لتعذر ذلك عليهم وخوف الهلاك من شدة الازدحام أو المشقة أو الحرج.
ويمكن أن يجاب عن هذه الشبهة بما أجيب به عن الشبهة الأولى ويضاف إلى ذلك أن الحاج إذا وكل شخصا يشتري عنه هديا ويذبحه ويوزعه على المستحقين على الصفة الشرعية فقد خرج بذلك عن عهدة الهدي وصارت العهدة على من صار وكيلا للقيام بالشراء والذبح والتصدق فإن هذا مما يجوز التوكيل فيه شرعا.
__________
(1) سورة الحج الآية 37(4/209)
الشبهة الثالثة أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح وبالتالي درء للمفاسد عن الأمة وجلب لمصالحها.
ويجاب عن هذه الشبهة بما أجيب به عن الشبهة الأولى ويضاف إلى ذلك: أولا: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح لكن لا يصح أن يقال: إن ذبح الهدايا مفسدة وإن درءها بما ذكروه من إلغاء هذه الشعيرة والتصدق بثمنها؛ لأن من القواعد المقررة في الشريعة أن المفاسد درجات وأن المصالح درجات وأنه يجوز تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما وارتكاب أخف المفسدتين لاجتناب كبراهما ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح فيما ليس فيه دليل شرعي وفيما إذا كانت المفسدة أرجح من المصلحة وما نحن فيه ليس كذلك بل قام الدليل على خلافه والمصلحة أرجح مما ظن مفسدة بتحريف النصوص عن مواضعها ومقاصدها.
ثانيا: أن هذا يفتح باب تلاعب في الشريعة فلا يكون للنصوص قيمة وإنما القيمة لما يصدر من سفهاء العقول من تصورات يزعمون أنها مصالح تستحق أن تقدم على الأدلة. ثالثا: أن النسك عبادة مبنية على التوقيت فلا يجوز العدول عن المشروع إلا بدليل شرعي موجب للعدول عنه وكل تشريع مبني على التوقيت فإنه لا يدخله الاجتهاد ومنه القول بالمصلحة المدعاة هنا.
رابعا: أن من وجب عليه الهدي يجب عليه إيصاله إلى مستحقه كما في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (1) ، وكذلك سائر ما يجب عليه من الحقوق كالزكاة والنذر والكفارات وغيرها.
خامسا: أن الشارع لم يمنع الذبح في أي محل من الحرم كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «نحرت هاهنا ومنى كلها منحر وفجاج مكة طريق ومنحر (2) » فالحاج ينحره في أي موضع من فجاج مكة ويوزعه على الفقراء.
سادسا: علاج مشكلة اللحوم في منى: مشكلة اللحوم يمكن أن تعالج بالأمور الآتية: الأول: الكشف على ما يباع للتأكد من صلاحيته هديا من حيث السن والسلامة من الأمراض وموانع الإجزاء وتوضع علامة يعرف بها أن هذه الذبيحة تجزئ وما عدا ذلك يمنع.
الثاني: التوسع في توعية الحجاج ببيان المجزئ وما لا يجزئ حتى لا يقدموا إلا على بصيرة. الثالث: الإكثار من عدد المجازر في أماكن مختلفة من منى وفجاج مكة وإرشاد الناس إليها.
__________
(1) سورة الحج الآية 28
(2) صحيح مسلم الحج (1218) .(4/210)
الرابع: تسهيل طريق الحصول على هذه اللحوم للفقراء وذلك بما يلي: 1- إيصاله إليهم إن أمكن. 2- معاونتهم على إيصاله إلى منازلهم. 3- التوسع في توزيع ما زاد على فقراء الحرم على فقراء خارج الحرم ويكون إعطاء الفقراء الذين هم خارج الحرم بمنزلة دفع الزكاة لفقراء غير فقراء بلد المال إذا أعطي فقراء بلد المال حاجتهم ولم يوجد أحد يستحق فكذلك الهدي ينقل إلى فقراء البلدان المجاورة لمكة.
التوسع في التوكيل على ذبح الهدي بطرق منظمة تضمن مصلحة صاحب الهدي ومصلحة الفقير والمصلحة العامة ويكون فيه أناس يشرفون من قبل الدولة على تطبيق ذلك. هذا ما تيسر ذكره وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(4/211)
مصادر ومراجع هذا البحث " باب الهدي من كتاب الحج
"
1. المذهب الحنفي: أحكام القرآن للجصاص لباب المناسك للسندي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر، المبسوط للسرخسي، كتاب الآثار لأبي يوسف، فتح القدير. 2. المذهب المالكي: المدونة للإمام مالك، المنتقى للباجي، حاشية الرهوني على شرح عبد الباقي الزرقاني لمختصر خليل، أحكام القرآن للقرطبي، أضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، شرح الرسالة لابن أبي زيد، شرح الأبي على مسلم.
3. المذهب الشافعي: الأم للشافعي، شرح صحيح مسلم للنووي، فتح الباري المجموع شرح المهذب الإيضاح للنووي، المنهاج وشرحه مغني المحتاج، الأشباه والنظائر للسيوطي، أحكام القرآن للشافعي، القرى لقاصد أم القرى للطبري.
4. المذهب الحنبلي: تفسير ابن كثير، المغني لابن قدامة، الشرح الكبير لابن قدامة، حاشية المقنع، زاد المعاد، الإنصاف، مسائل الإمام أحمد، القواعد لابن رجب، الفروع لابن مفلح المحرر، تحفة الودود في أحكام المولود، القياس في الشرع الإسلامي.
5. كتب أخرى المحلى لابن حزم، السنن الكبرى للبيهقي، سنن الدارقطني، نصب الراية، التلخيص الحبير، الدراية، شرح معاني الآثار، سنن أبي داود وعليه معالم السنن للخطابي، بلوغ المرام.(4/212)
القرار
رقم 43 وتاريخ 13 \ 4 \ 1396هـ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
بناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الطائف في النصف الأول من شعبان عام 1395هـ من إدراج موضوع (هدي التمتع والقران) في جدول أعمال الدورة الثامنة وإعداد بحث في ذلك فقد اطلعت الهيئة في الدورة الثامنة المنعقدة بمدينة الرياض في النصف الأول من شهر ربيع الثاني عام 1396هـ على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في وقت الذبح ومكانه وحكم الاستعاضة عن الهدي بالتصدق بقيمته وعلاج مشكلة اللحوم.
وبعد تداول الرأي تقرر بالإجماع ما يلي: 1- لا يجوز أن يستعاض عن ذبح هدي التمتع والقران بالتصدق بقيمته لدلالة الكتاب والسنة والإجماع على منع ذلك مع أن المقصود الأول من ذبح الهدي هو التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدماء كما قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (1) ، ولأن من القواعد المقررة في الشريعة سد الذرائع والقول بإخراج القيمة يفضي إلى التلاعب بالشريعة فيقال مثلا: تخرج نفقة الحج بدلا من الحج لصعوبته في هذا العصر، ولأن المصالح ثلاثة أقسام: مصلحة معتبرة بالإجماع، ومصلحة ملغاة بالإجماع ومصلحة مرسلة، والقول بإخراج القيمة مصلحة ملغاة لمعارضتها للأدلة، فلا يجوز اعتبارها.
2 - قرر المجلس بالأكثرية أن أيام الذبح أربعة، يوم العيد وثلاثة أيام بعده، ويجوز الذبح في ليالي أيام التشريق لقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (2) {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (3)
__________
(1) سورة الحج الآية 37
(2) سورة الحج الآية 28
(3) سورة الحج الآية 29(4/213)
فإن قضاء التفث وطواف الزيارة لا يكون قبل يوم النحر ولما رتب هذه الأفعال على ذبح الهدي دل على أنه هدي القران والتمتع؛ لأن جميع الهدايا لا يترتب عليها هذه الأفعال.
ولأنه ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه ذبح هديه يوم العيد وكذلك ذبح هدي التمتع والقران عن نسائه يوم العيد ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه أنه ذبح قبل يوم العيد ولا بعد أيام التشريق ولما روى سليمان بن موسى عن ابن أبي حسين عن جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل عرفات موقف (1) » الحديث إلى أن قال: «وكل أيام التشريق ذبح (2) » .
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: روي من وجهين مختلفين يشد أحدهما الآخر انتهى المقصود.
3 - لا يخصص الذبح بمنى بل يجوز الذبح في مكة وفي أي موضع من الحرم لقوله - صلى الله عليه وسلم - «وكل منى منحر وكل فجاج مكة طريق ومنحر (3) » .
4 - ما ترك من اللحوم في المجازر فإن على الحكومة حفظه على وجه يحفظ نفعه حتى يوزع بين فقراء الحرم.
5 - يجوز للحكومة تنظيم الاستفادة من سواقط الهدي التي تترك في المجازر مثل الجلد والعظام والصوف ونحو ذلك مما ترى فيه المصلحة لفقراء الحرم مما يتركه أهله رغبة عنه.
6 - ينبغي للحكومة وفقها الله أن تعني بتكثير المجازر في منى ومكة وبقية الحرم على وجه يمكن الحجاج من ذبح هداياهم بيسر وسهولة وأن يستمدوا من لحومها ما شاءوا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/82) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/82) .
(3) سنن أبو داود المناسك (1937) ، سنن ابن ماجه المناسك (3048) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1879) .(4/214)
وجهة نظر
لصاحب الفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع
عضو هيئة كبار العلماء
إن وجهة نظري تتلخص في الملاحظات الآتية:
أولا: جاء في الصفحة الثالثة من البحث الاستدلال على تحديد وقت ذبح هدي التمتع والقران بالإطلاق في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) ، وبالتقييد في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (2) {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} (3) ، الآية ولا شك أن بعض أهل العلم استدل بهذا ولكن الأمانة العلمية تقتضي مناقشة هذا الاستدلال.
إذ يمكن مناقشته بما يلي:
إن كمال الآية المراد بها تقييد عموم قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (4) وقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (5) {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} (6) ، الآية. وقد ذكر جمع كثير من العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء أن المراد بالأيام المعلومات عشر ذي الحجة فقد ذكر الجصاص في كتابه " أحكام القرآن " أنه روي عن ابن عباس بإسناد صحيح أن المعلومات العشر والمعدودات أيام التشريق وهو قول الجمهور من التابعين منهم الحسن ومجاهد وعطاء والضحاك وإبراهيم في آخرين منهم، وقد روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أن المعلومات العشر والمعدودات أيام التشريق (7) . .
وروى البيهقي بإسناده إلى الشافعي أنه قال: الأيام المعلومات أيام العشر كلها والمعدودات أيام منى فقط اهـ (8) .
وقال النووي في المجموع:
وأما الأيام المعلومات فمذهبنا أنها العشر الأوائل من ذي الحجة إلى آخر يوم النحر إلى أن قال: وقال الإمام أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره: قال أكثر المفسرين: الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة اهـ (9) .
فعلى هذا لا حجة في الآية على القول بتحديد وقت الذبح بيوم النحر وأيام التشريق بل قد يكون فيها دليل على القول بذبح هدي التمتع والقران في الأيام المعلومات التي هي العشر الأوائل من ذي الحجة؛ لأن المقصود بذكر الله على بهيمة الأنعام في هذه الآية أمر صريح بتحديد وقت الذبح وإذا كان الدليل
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) سورة الحج الآية 28
(3) سورة الحج الآية 29
(4) سورة البقرة الآية 196
(5) سورة الحج الآية 28
(6) سورة الحج الآية 29
(7) أحكام القرآن ج5 ص67
(8) أحكام القرآن للشافعي جمع البيهقي ج1 ص 134.
(9) المجموع ج8 ص 295.(4/215)
يفهم من ترتيب قضاء التفث على ذكر الله على بهيمة الأنعام فإن هذا يعني بطلان أعمال الحج يوم العيد من رمي وحلق أو تقصير وطواف زيارة إذا فعل ذلك قبل الذبح أو النحر، ولا يخفى ما عليه إجماع أهل العلم قاطبة من أن الترتيب فيها مستحب وأنه لا حرج في تقديم واحد منها على الآخر لقوله - صلى الله عليه وسلم - حينما سئل عن تقديم بعض هذه الأفعال على بعض قال: «افعل ولا حرج (1) » فدل ذلك على أن غاية الأمر أن يكون مفهوم الترتيب الاستحباب، وبذلك ينتفي الاستدلال بالآية.
* * *
ثانيا: جاء في الصفحة الثالثة من البحث مناقشة الجصاص الاعتراض على منع تقديم ذبح هدي التمتع والقران بإجازة الصوم الذي هو بدل عنه قبل يوم النحر وقد كانت مناقشته في حاجة إلى مناقشة بما يلي:
أ - جاء في قوله إنه ثبت بالسنة امتناع ذبح الهدي قبل يوم النحر ويرد على ذلك بأنه لو كان الأمر كما ذكر من ثبوت امتناع ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر بالسنة لما حصل الخلاف في ذلك والثابت بخصوص الهدي إنما هو في الهدي المسوق تطوعا فلا يجوز ذبحه قبل يوم النحر، أما هدي المتعة والقران فإن القائلين بجواز ذبحه قبل يوم النحر يطالبون بالنص الصريح الثابت في امتناع ذبحه قبل يوم النحر من كتاب أو سنة بل إنهم يستدلون بهما على جواز ذلك.
ب - (ما ذكره بأن الصوم مراعى ومنتظر به شيئان إلى آخر قوله: هذا القول يمكن أن يقال في هدي المتعة وأيضا فإذا وجد المعنيان إتمام الحج والعمرة صح الهدي عن المتعة وإذا عدم أحدهما بطل أن يكون هدي متعة وصار هدي تطوع كصيام التطوع. ت - (قوله بأن الهدي رتب عليه أفعال أخرى من حلق وقضاء تفث وطواف زيارة فلذلك اختص بيوم النحر مناقشة ذلك ما مر في الملاحظة الأولى.
* * *
ثالثا: جاء في الصفحة الثامنة من البحث ما نصه: فهذه الأحاديث منها ما هو نص في أن بدء وقت النحر للمتمتع والقارن يوم الأضحى ومنها ما يدل عليه بمفهومه أو مع أمره - صلى الله عليه وسلم - أن نأخذ عنه المناسك وقد نحر عن نفسه وعن أزواجه يوم الأضحى ونحر أصحابه كذلك
__________
(1) صحيح البخاري العلم (83) ، صحيح مسلم الحج (1306) ، سنن أبو داود المناسك (2014) ، موطأ مالك الحج (959) ، سنن الدارمي المناسك (1907) .(4/216)
ولم يعرف عن أحد منهم أنه نحر هديه لتمتعه أو قرانه قبل يوم الأضحى فكان ذلك عمدة في التوقيت بما ذكر من جهات عدة.
وإن ذلك ممكن أن يناقش بما يلي:
أ - إن المتتبع لجميع ألفاظ الأحاديث الواردة في البحث لا يجد فيها نصا على تحديد بدء وقت نحر هدي التمتع والقران بيوم الأضحى، وإنما النص في بعضها على أن من ساق الهدي فلا يجوز له الإحلال حتى ينحر هديه، ولا شك أن الهدي الذي ساقه - صلى الله عليه وسلم - وساقه بعض أصحابه ودخلوا به مكة في حجهم معه - صلى الله عليه وسلم - هدي تطوع دخل فيه هدي التمتع أو القران فهو متصل به اتصال الجزء بكله بحيث لا يمكن فصله عنه.
ب - إن القول بأن منها (أعني الأحاديث الواردة في البحث) ما يدل مع أمره - صلى الله عليه وسلم - أن نأخذ عنه مناسكنا على بدء التحديد بيوم النحر يرد عليه بإجماع الأمة على جواز ذبح هدي التمتع أو القران في اليوم الأول أو الثاني من أيام التشريق وهو - صلى الله عليه وسلم - ذبح يوم العيد وقال: «خذوا عني مناسككم (1) » فلو كان عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - «خذوا عني مناسككم (2) » وارد على ذلك لكان الذبح في أيام التشريق غير جائز للمخالفة وقد لا يمكن القول بأن العموم مخصص بقوله - صلى الله عليه وسلم - «وكل أيام التشريق ذبح (3) » فقد تكلم رجال الحديث في هذه الزيادة بما لا يتسع المقام لذكره وبما يبطل الاستدلال به للتخصيص مع أن قوله - صلى الله عليه وسلم - «خذوا عني مناسككم (4) » عام في جميع أفعال النسك من ركن وواجب ومستحب وفي قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (5) ، تخصيص لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - «خذوا عني مناسككم (6) » .
ت - إن ما نحره عن نفسه هو هديه الذي ساقه - صلى الله عليه وسلم - تطوعا ودخل به مكة محرما وكان سوقه سبب امتناعه عن الإحلال، وأما نحره - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه في حجه فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك أضحية منه عنهن قال ابن حزم: ووجدنا ما رويناه من طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة نا عبده بن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع موافين لهلال ذي الحجة فكنت فيمن أهل بعمرة فقدمنا مكة فأدركني يوم عرفة
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .
(2) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/82) .
(4) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .
(5) سورة البقرة الآية 196
(6) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .(4/217)
وأنا حائض لم أحل من عمرتي فشكوت ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج " قالت: ففعلت فلما كانت ليلة الحصبة وقد قضى الله حجنا أرسل معي عبد الرحمن بن أبي بكر فأردفني وخرج بي إلى التنعيم فأهللت بعمرة وقضى الله حجنا وعمرتنا ولم يكن في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم (1) » إلى أن قال: فإن قيل: قد صح أنه عليه السلام أهدى عن نسائه البقر قلنا: نعم وقد بين معنى ذلك الإهداء سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنه كان أضاحي لا هدي متعة ولا هديا عن قران اهـ " (2) . وعلى فرض أن ما ذبحه - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه هدي تمتع أو قران فقد فعل الأفضل ولا شك أن الأفضل ذبح ذلك يوم العيد.
د - وأما القول بأنه لم يعرف أحد من أصحابه نحر هدي تمتعه أو قرانه قبل يوم الأضحى فإنه يمكن مناقشته بأن عدم معرفة أحد من الصحابة نحر هديه قبل يوم الأضحى لا يعني منع ذلك ولا نفي أن أحدا من الصحابة فعله ثم إن الحديث الذي أخرجه الحاكم في مستدركه وذكر أنه على شرط مسلم وأقره الذهبي صريح في أن سعد بن أبي وقاص ذبح هديه قبل يوم النحر، وقد أخرجه الطبراني في الكبير وذكر أن رجاله ثقات.
وسيأتي مزيد نقاش لهذا الحديث والاعتراض عليه بما في مجمع الزوائد عن عكرمة.
* * *
رابعا: جاء في الصفحة الثامنة من البحث الاحتجاج لذلك القول بالإجماع بما ذكره ابن عابدين ويمكن أن يناقش ذلك بما يلي:
لعل ابن عابدين - رحمه الله - يقصد بالإجماع إجماع أهل مذهبه مع أن ابن قدامة - رحمه الله - نسب إلى أبي حنيفة القول بوجوب هدي التمتع بالإحرام بالحج وذلك في كتابه " المغني "، كما نسب ذلك إليه ابن العربي في كتابه " أحكام القرآن " وابن مفلح في كتابه " الفروع " أما أن يقصد ابن عابدين إجماع الأمة على منع ذلك فبعيد جدا لوجود الخلاف القوي في المسألة بين العلماء من مالكيين وشافعيين وحنابلة وغيرهم، ولأن مثل ابن عابدين لا يخفى عليه الخلاف في المسألة لا سيما وهو خلاف مشهور وعلى فرض أن ابن عابدين يقصد بالإجماع إجماع الأمة فما ذكره غير صحيح والخلاف في ذلك مشهور يعرفه الخاص والعام.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1786) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، مسند أحمد بن حنبل (6/177) .
(2) المحلى ج7 ص 193 - 194.(4/218)
خامسا جاء في الصفحة الثامنة من البحث الاحتجاج بالمعنى بما ذكره ابن قدامة - رحمه الله - بقوله؛ لأن ما قبل يوم النحر لا يجوز ذبح الأضحية فيه إلى آخره، ويمكن نقاش ذلك بما ذكره ابن قدامة نفسه توجيها للقول بجواز تقديم ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر حيث قال: ووجه جوازه أنه دم يتعلق بالإحرام وينوب عنه الصيام فجاز قبل يوم النحر كدم الطيب واللباس ولأنه يجوز إبداله قبل يوم النحر فجاز أداؤه قبله كسائر الفديات اهـ " (1) ، وبما ذكره في توجيه رواية الوجوب بعد الإحرام بالحج بقوله: لأن الله تعالى قال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (2) ، وهذا قد فعل ذلك ولأن ما جعل غاية فوجود أوله كاف كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (3) . . اهـ " (4) .
وبما ذكره الشافعي - رحمه الله - بقوله: وإذا ساق المتمتع الهدي معه أو القارن لمتعته أو قرانه فلو تركه حتى ينجزه يوم النحر كان أحب إلي، وإن قدم فنحره في الحرم أجزأ عنه من قبل أن على الناس فرضين فرضا في الأبدان فلا يكون إلا بعد الوقت، وفرضا في الأموال فيكون قبل الوقت إذا كان شيئا مما فيه الفرض اهـ " (5) . . وبما ذكره ابن رجب في قواعده قال: العبادات كلها سواء كانت بدنية أو مالية أو مركبة منهما، لا يجوز تقديمها على سبب الوجوب ويجوز تقديمها بعد سبب الوجوب وقبل الوجوب أو قبل شرط الوجوب ويتفرع على ذلك مسائل كثيرة - وذكر منها ما ذكر ثم قال: ومنها صيام التمتع والقران فإنه سبب العمرة السابقة للحج في أشهره فبالشروع في إحرام العمرة قد وجد السبب فيجوز الصيام بعده وإن كان وجوبه متأخرا عن ذلك، وأما الهدي فقد التزمه أبو الخطاب في انتصاره، ولنا رواية أنه يجوز ذبحه لمن دخل قبل العشر لمشقة حفظه عليه إلى يوم النحر اهـ " (6) .
كما أنه يمكن مناقشة ما ذكره ابن قدامة - رحمه الله - من قياسه الهدي على الأضحية بما ذكره ابن مفلح في الفروع حيث قال: وقاسوه على الأضحية والهدي وهي دعوى اهـ " (7) .
* * *
__________
(1) المغني ومعه الشرح ج3 ص 505.
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) سورة البقرة الآية 187
(4) المغني ومعه الشرح ج3 ص503.
(5) الأم للشافعي ج2 ص217
(6) قواعد ابن رجب ص6، 7.
(7) الفروع ج7 ص249.(4/219)
سادسا: جاء في الصفحة التاسعة من البحث اعتراض الراهوني على ما ذكره الأبي عن القاضي عياض في شرحه رواية مسلم «فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم (1) » ، مع أن في الحديث حجة لمن يجيز للمتمتع نحر هديه بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج إلى آخره حيث ذكر الرهوني أن لديه نسخة عتيقة مظنونا فيها الصحة وليس فيها جواز نحر هدي المتمتع بعد التحلل من العمرة وإنما ذكر فيها جواز تقليد الهدي قبل الإحرام بالحج إلى آخر ما ذكره الرهوني.
ويمكن مناقشة ذلك بما يلي:
أ - إن عبارة القاضي عياض في جواز نحر الهدي قبل الإحرام بالحج قد تناقلها شيوخ كبار في مذهب الإمام مالك فقد نقلها عنه الأبي والسنوسي والدسوقي والبناني ومحمد عابد فلم يعترض عليها واحد منهم بل احتج بها بعضهم على رد تأويلات بعض شراح مختصر خليل في قوله وأجزا (أي دم التمتع) قبله (أي قبل يوم النحر) حينما قال بعضهم: إن المقصود بذلك تقليد الهدي وإشعاره لا ذبحه.
ب - (إن احتجاج الرهوني لدعواه التصحيف بما لديه من نسخة يدعي قدمها والوثوق بها فيه نظر، ولو سلم له احتجاجه لكان ذلك من أقصر الطرق لرد آراء العلماء وأقوالهم بإنكار نسبتها إليهم بالتصحيف فيما كتب عنهم، ثم هل يمكن أن تكون نسخة الرهوني هي الصحيحة الثابتة دون ما عداها مما لدى شيوخه وشيوخهم، إن العكس هو القريب الممكن المعقول.
ج - (إن اللجنة أيدت دعوى التصحيف بما ذكره بأن اللخمي ذكر الخلاف في التقليد لا في النحر وهذه الحجة ليست أكثر عجبا من سابقتها فإن عدم ذكر الشخص الشيء لا يعني نفيه من الوجود واللخمي كغيره من العباد ينطبق عليه القول: " علمت شيئا وغابت عنك أشياء ".
على أن المرء يقف حائرا في تكييف وجه الخلاف بين علماء المذهب المالكي في جواز تقليد الهدي وإشعاره بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج إلا أن يكون المراد بذلك مآل التقليد والإشعار وهو الذبح حسبما يفهم من التمثيل على جواز ذلك بقياسه على تقديم الكفارة قبل الحنث والزكاة قبل الحول وأن ذلك مما تقتضيه السنة توسعة في جميع ذلك فإن اقتضاء السنة التوسعة على العباد لا يعني الحرج وإيجاد العسر والمشقة في رعاية الهدي المقلد والمشعر حتى يأتي يوم النحر فينحر فإن الحاج في شغل عنه بتهيئة أسباب حجه من زاد وراحلة وغير ذلك وإنما التوسعة عليه في إراحته من ملازمته ورعايته بذبحه بعد وجوبه، ولا شك
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1318) .(4/220)
أن المتتبع بإنصاف لنصوصهم يقوى لديه الظن بأنهم يقصدون بذلك الذبح لما في جميع ذلك من التوسعة التي تقتضيها السنة.
د - إن الرهوني تعقب ما نقله الأبي عن المازري من قوله: مذهبنا أن هدي التمتع إنما يجب بالإحرام بالحج وفي وقت جوازه ثلاثة أوجه: فالصحيح والذي عليه الجمهور أنه يجوز بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج اهـ " (1) .
فقال: ليس فيه أن المراد بالجمهور جمهور أهل المذهب وقد تقدم أن المراد بهذه العبارة حيث أطلقها أهل الخلاف الكبير جمهور المجتهدين وإن كانت تشمل الإمام مالكا لكن لا تصريح بنسبة ذلك إليه اهـ " (2) .
وهذا ما يفرح به القائلون بتقديم ذبح هدي التمتع قبل يوم النحر فلأن يكون هذا القول قول جمهور المجتهدين من علماء الإسلام أمثال الإمام مالك أحب إليهم من أن يكون قول جمهور المالكيين من أمثال الرهوني وأترابه.
هـ - إن المتتبع لحواشي الرهوني يخرج من تتبعها بالحكم عليه بأنه ليس في مستوى قيادي في مذهبه فهو يريد أن يقلل من شأن القول بجواز الذبح قبل يوم النحر بإنكار أن الجمهور القائلين به حسبما ذكره المازري جمهور المالكيين وإنما هم جمهور المجتهدين أمثال مالك وغيره، وهذا تقوية للقول من حيث لا يدري من أن المتتبع لقول المازري يخرج من تتبعه أنه يتحدث عن مذهبه وعن فقهاء مذهبه وأقوالهم مما يدل على أن ما ذكرنا في الرهوني وارد، وإذا كان الرهوني على مستوى يسمح باعتباره إماما في مذهبه ومحققا وإذا كانت نسخته هي المظنون بها الصحة فكيف لنا تفسير نقله من نسخته هذه التي لم يجد غيرها في ذلك الوقت حسبما ذكر، نقله آية من كتاب الله تعالى وأوردت خطأ دون أن يشير إلى تصحيحها فقد جاء في حاشيته ونقلته اللجنة عنه في السطر الثامن من الصفحة التاسعة من البحث ما نصه: ونصه وقوله للمتمتعين (: فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم نص في كتاب الله تعالى مما يلزم التمتع إن صحة الآية: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (3) .
* * *
سابعا: جاء في الصفحتين العاشرة والحادية عشرة من البحث نقل طويل لشيخنا محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - وفيه يشير إلى تغليظ من يجيز على المذهب المالكي ذبح
__________
(1) إكمال إكمال المعلم ج3 ص 451.
(2) حاشية الرهوني على شرح عبد الباقي مختصر خليل ج2 ص434.
(3) سورة البقرة الآية 196(4/221)
الهدي قبل الإحرام بالحج بعد أن أورد مجموعة نصوص لشراح مختصر خليل يؤولون قوله: وأجزأ قبله ويمكن مناقشة ما ذكره بعض شراح المختصر من التأويلات بما قاله الدسوقي بعد أن أورد قول بعضهم: إن المراد بذلك تقليد الهدي وإشعاره لا ذبحه.
قال: فيه نظر فقد قال الأبي في شرح مسلم على أحاديث الاشتراك في الهدي على قول الراوي وأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ما نصه: (عياض) في الحديث حجة لمن يجوز نحر الهدي للمتمتع بعد الإحلال من العمرة وقبل الإحرام بالحج وهي إحدى الروايتين عندنا والأخرى أنه لا يجوز إلا بعد الإحرام بالحج؛ لأنه بذلك يصير متمتعا وذكر بعضهم أنه يجوز بعد الإحرام بالعمرة اهـ
وبه نعلم أنه يتعين صحة إبقاء كلام المصنف أي خليل على ظاهره وسقوط تعقب الشراح عليه وتأويلهم له من غير داع لذلك اهـ (1) . . وقال الشيخ محمد عابد في شرح قول الماتن: ولا يجوز نحر هدي التمتع قال: تبع في ذلك الخطاب في مناسكه والدردير وعبد الباقي على خليل عند قوله: وأجزا قبله حيث قال كل منهم أي إشعاره وتقليده لا نحره إذ لم يقل به أحد وفي البناني ما يخالف ذلك وحاصل ما فيه أنه أطبق كثير من شراح خليل على تأويل قوله: أجزأ قبله أي الإشعار والتقليد محتجين بأنه لم يصرح أحد من أهل المذهب بأن نحر الهدي قبل الإحرام بالحج مجزئ وهو غير ظاهر لقول الأبي في شرح مسلم على أحاديث الاشتراك في الهدي على قول الراوي.
وأمرنا إذا أحللنا أن نهدي، ما نصه: عياض في الحديث حجة لمن يجوز نحر الهدي للمتمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج ثم ساق بقية كلام القاضي (عياض) وكلام المازري عن طريق الأبي " (2) .
* * *
ثامنا: جاء في الصفحة الرابعة عشرة من البحث مناقشة الرواية عن الإمام أحمد بجواز ذبح هدي من قدم به مكة قبل العشر خشية ضياعه أو سرقته، ويمكن نقاش ذلك بأن هذه المسألة خارجة عن موضوعنا فإنها خاصة فيمن قدم مكة ومعه هدي، وموضوعنا خاص فيمن تمتع بالعمرة إلى الحج فاستوجب الهدي أيذبحه بعد وجوبه أم يؤخر ذبحه حتى يوم النحر.؟
* * *
__________
(1) حاشية الدسوقي على شرح الدردير على مختصر خليل
(2) حاشية الدسوقي على شرح الدردير على مختصر خليل.(4/222)
تاسعا: جاء في الصفحة الرابعة عشرة من البحث مناقشة الاستدلال على جواز الذبح قبل يوم النحر بآية: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) .، بأن هذا مجرد فهم للآية باجتهاد عارضه نص هو قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (2) ، الآية وقد سبق مناقشة الاستدلال بهذه الآية في الملاحظة الأولى مما يغني عن إعادته.
* * *
عاشرا: جاء في الصفحة الخامسة عشرة من البحث مناقشة الاستدلال بحديث أبي الزبير عن جابر «فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدي وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم (3) » في هذا الحديث أمور ثلاثة يمكن أن تناقش بما يلي:
أ - التسليم بنفي التعارض بينه وبين الأحاديث الواردة في البحث إذ ليس فيها ما يدل بصريح العبارة على منع تقديم ذبح هدي التمتع أو القران على يوم النحر وقد سبقت مناقشة القول بدلالتها على المنع في الملاحظة الثالثة وعليه فإن دلالة الحديث على إجازة الذبح بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج قد فهمها علماء كبار من رجال الحديث وشراحه أمثال النووي والقاضي عياض والمازري والأبي والسنوسي وغيرهم.
ب - إن القول بأن المقصود بقول جابر: «فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي التحلل من الحج (4) » يرده مزيد التأمل والتدبر في نهاية الحديث وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم فلقد أمر - صلى الله عليه وسلم - أصحابه الذين أحرموا بالحج معه أن يحلوا منه إلى عمرة واشتد غضبه - صلى الله عليه وسلم - على قوم ترددوا في الأخذ بقوله وأمره أما التحلل من الحج يوم العيد فإنه لا يكون بأمر وإنما يحصل بأفعال يفعلها الحاج يوم العيد من رمي وحلق أو تقصير وطواف زيارة وفضلا عن ذلك كله فإن راوي الحديث عن جابر وهو أبو الزبير قد أبان المقصود من ذلك فقد ذكر أبو عبد الله الأبي في شرحه صحيح مسلم عند كلامه على حديث جابر ما نصه: ويعني بقوله حين أمرهم يعني إحلال الفسخ الذي أمرهم به في حجة الوداع. اهـ.
إن القول بأن في الحديث زيادة شاذة لمخالفتها ما سبق من الأدلة الصحيحة الخالية من هذه الزيادة وأن مدارها على محمد بن بكر البرساني يمكن أن يناقش بما يلي:
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) سورة الحج الآية 28
(3) صحيح مسلم الحج (1318) .
(4) صحيح مسلم الحج (1318) .(4/223)
1 - نفي الشذوذ في هذه الزيادة إذ هي لم تخالف غيرها من الروايات فليس هناك حديث صريح صحيح ينص على بدء وقت ذبح هدي التمتع والقران بيوم النحر وإنما غاية ما في الأمر مفاهيم لا يجوز أن يحكم بها على زيادة من عدل رواها مسلم في صحيحه إذ الزيادة من العدل مقبولة.
2 - إن القول بأن مدار هذه الزيادة على محمد بن بكر البرساني غير صحيح فقد روى الإمام أحمد في مسنده هذا الحديث بكامل هذه الزيادة عن محمد بن بكر وروح بن عبادة القيسي فقال: حدثنا محمد بن بكر وروح قالا: حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فأمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في البدنة وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجتهم (1) » اهـ " (2) .
وروح هو روح بن عبادة القيسي قال الحافظ ابن حجر: كان أحد الأئمة وثقه علي بن المديني ويحيى بن معين ويعقوب بن شيبة وأبو عاصم وابن سعد والبزار وأثنى عليه أحمد وغيره وقال يعقوب بن شيبة: قلت لابن معين: زعموا أن ابن القطان كان يتكلم فيه فقال: باطل ما تكلم فيه إلى أن قال الحافظ: قلت احتج به الأئمة كلهم اهـ (3) .
وقال الحافظ ابن حجر في محمد بن بكر ما نصه: وثقه أبو داود والعجلي وقال عثمان الدارمي عن يحيى بن معين: ثقة وقال أبو حاتم: شيخ محله الصدق إلى آخر ما قال (4) . . وقال في تهذيب التهذيب: قال حنبل بن إسحاق عن أحمد صالح الحديث وقال الدوري عن ابن معين: ثنا البرساني وكان والله ظريفا صاحب أدب وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة وقال أبو داود: والعجلي ثقة.
قال الحافظ: وذكره ابن حبان في الثقات وقال: هو وابن سعد وآخرون: مات سنة ثلاث ومائتين زاد ابن سعد بالبصرة في ذي الحجة وكان ثقة وذكر الحافظ أنه أجاب عن قول الذهبي في البرساني روي عن عبد الحميد بن جعفر عن هشام بن عروة في حديث بسرة في مس الذكر: أو أنثييه أو فرجه فرفع الزيادة وإنما هي من قول عروة قال: قد أوضحت ذلك
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/378) .
(2) مسند الإمام أحمد ج3 ص378.
(3) هدي الساري ج2 ص127.
(4) هدي الساري ج2 ص159(4/224)
في المدرج وذكرت فيه من شاركه في رفع هذه الزيادة لكن عن غير شيخه وبينت سبب الإدراج ومستنده (1) .
3 - إن هذه الزيادة غير شاذة ففضلا عن أن محمد بن بكر لم ينفرد بها بل اشترك معه في روايتها عند أحمد روح بن عبادة وأنه ليس في الروايات الأخرى نص صريح في مخالفتها فقد تأيدت بما روى الحاكم في مستدركه والطبراني في الكبير من «أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه بالإحلال من الحج وفسخه إلى عمرة إلا من ساق معه الهدي ثم قسم - صلى الله عليه وسلم - يومئذ في أصحابه غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا فذبحه» وسيأتي مزيد نقاش لحديث الحاكم.
د - إن القول: بأن مسألة ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر من الأمور التي تتوافر الهمم والدواعي على نقلها لو كان فيها نص بالجواز يمكن نقاشه بأن الهمم والدواعي تتوافر أيضا على نقل ما فيها من نصوص تقتضي المنع لو كانت هناك نصوص في ذلك وحيث لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص صريح في منع ذلك وتعيين البدء بيوم النحر حتى يمكن أن يكون مخصصا لعموم قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (2) ، تعين الأخذ بعموم الآية مع ما هناك من أدلة أخرى تسند الجواز فمتى دخل الحاج في معنى التمتع وجب عليه الهدي واستقر في ذمته حتى يؤديه كاستقرار الكفارات في ذمة مستوجبها وكوجوب الدماء في ذمة من استوجبها.
* * *
الحادية عشر جاء في الصفحة الخامسة عشر من البحث الاستدلال للقائلين بجواز تقديم الذبح قبل يوم النحر بما ذكره الشيرازي ولو أضيف إليه ما ذكره الشافعي في الأم وابن قدامة في المغني وابن رجب في قواعده مما تقدم لنا ذكره في الملاحظة الخامسة لكان ذلك من إيفاء البحث حقه ومع ذلك فإن مناقشته بأنه دليل اجتهادي في مقابل نص قد تقدم ردها بالمطالبة بالنص الصريح الثابت من كتاب أو سنة أو قول صحابي في تحديد بدء وقت ذبح هدي التمتع والقران بيوم النحر.
* * *
__________
(1) تهذيب التهذيب ج9 ص78.
(2) سورة البقرة الآية 196(4/225)
جاء في الصفحة السادسة عشرة من البحث مناقشة الاستدلال بآية {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (1) في أن التمتع يحصل بأول جزء من الحج وهو الإحرام إلى آخره من أن التمتع قد لا يتحقق بإحرام الحج لاحتمال فوات الوقوف بعرفة ويمكن نقاش ذلك بأن هذا لا يمنع من لم يجد هديا أن يعدل إلى بدله وهو الصوم مع احتمال عدم التمكن من إكمال التمتع فإذا جاز ذلك في البدل جاز في المبدل عنه.
* * *
الثانية عشر: جاء في الصفحة السابعة عشرة من البحث مناقشة الاستدلال بحديث الحاكم بما رواه الإمام أحمد في مسنده عن طريق عكرمة مولى ابن عباس وفيه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم يومئذ غنما يوم النحر في أصحابه وقال: " اذبحوها لعمرتكم فإنها تجزئ (2) » إلى آخره من أن رواية الإمام أحمد مفسرة لرواية الحاكم.
ويمكن مناقشة ذلك بما يلي:
إن الروايتين لا يصلح أن تكون إحداهما مفسرة للأخرى لانتفاء الإجمال في رواية الحاكم فإنها صريحة في «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم الغنم في أصحابه بعد الإحلال من العمرة وقبل الوقوف بعرفة» كما يتضح ذلك من سياق الحديث الذي لم تذكره اللجنة بتمامه وتأسيسا عليه في النقاش فإنه يتعين ذكر نصه بتمامه، روى الحاكم في مستدركه قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى بن إبراهيم ثنا حمد بن النضر بن عبد الوهاب ثنا يحيى بن أيوب ثنا وهب بن جرير ثنا أبي عن محمد بن إسحاق ثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء عن جابر بن عبد الله قال: كثرت القالة من الناس فخرجنا حجاجا حتى لم يكن بيننا وبين أن نحل إلا ليال قلائل أمرنا بالإحلال فيروح أحدنا إلى عرفة وفرجه يقطر منيا فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام خطيبا فقال: «أبالله تعلموني أيها الناس فأنا والله أعلمكم بالله وأتقاكم له ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت هديا ولحللت كما أحلوا فمن لم يكن معه هدي فليصم ثلاثة أيام وسبعة إذا رجع إلى أهله ومن وجد هديا فلينحر (3) » ، فكنا ننحر الجزور عن سبعة قال عطاء: قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم يومئذ في أصحابه غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا فذبحه عن نفسه فلما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت يدي ناقته فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اصرخ أيها الناس هل تدرون أي شهر هذا؟» إلى آخر الحديث ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه وأقره الذهبي على تصحيحه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 187
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/307) .
(3) سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2805) .(4/226)
فقوله - صلى الله عليه وسلم - «أبالله تعلموني أيها الناس» إلى قوله: ومن وجد هديا فلينحر صريح في الأمر بالنحر في ذلك الوقت الذي ألقى فيه كلمته التوجيهية وقول جابر: «فكنا ننحر الجزور عن سبعة (1) » صريح في الامتثال لأمره - صلى الله عليه وسلم - يومئذ وقول ابن عباس «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم يومئذ غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه (2) » بين أن ذلك هو زمن أمره - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالتحلل من الحج وفسخه إلى عمرة ويؤيد ذلك روايتا مسلم وأحمد عن أبي الزبير عن جابر «فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم (3) » .
ورواية عكرمة عن ابن عباس صريحة في أن الغنم التي قسمها - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه سعد كان يوم النحر.
وبذلك يتضح التعارض بين الروايتين ويتعين المصير إلى الترجيح وعليه فيمكننا ترجيح رواية الحاكم على رواية الإمام أحمد بالأمور الآتية:
أ - إن رواية الحاكم فيها قصة ورجال الحديث وحفاظه متفقون على أن القصة في الحديث من أدلة حفظه قال ابن القيم - رحمه الله - في معرض توجيهه: القول بالأخذ بحديث عائشة في إنكارها على زيد بن أرقم بيعه بالعينة قال: وأيضا فإن في الحديث قصة وعند الحفاظ إذا كان فيه قصة دلهم على أنه محفوظ (4) .
ب - إن دلالة رواية الحاكم على أن سعد بن أبي وقاص ذبح تيسه بعد إحلاله من العمرة مؤيد برواية مسلم وأحمد عن جابر «فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم (5) » قال أبو الزبير راوي الحديث عن جابر: ويعني بقوله: حين أمرهم يعني إحلال الفسخ الذي أمرهم به في حجة الوداع اهـ.
ت - إن رجال رواية الحاكم ثقات وعلى شرط مسلم كما ذكر ذلك الحاكم وأقره الذهبي وفيهم عطاء أفقه الناس في المناسك ومن أكثرهم علما وورعا وتقى وقد روى صدرها عن جابر عطاء ومجاهد وروى عجزها عن ابن عباس عطاء.
ث - إن رواية الحاكم مؤيدة بما روى الطبراني عند الهيثمي في مجمع الزوائد في باب الخطب في الحج حيث قال: وعن ابن عباس «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم يومئذ في أصحابه غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه فلما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت يدي ناقته وكان رجلا صيتا فقال: " اصرخ أيها الناس: أتدرون أي شهر هذا (6) » ؟ " إلى
__________
(1) سنن الترمذي الأضاحي (1502) ، سنن أبو داود الضحايا (2807) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3132) ، مسند أحمد بن حنبل (3/335) ، موطأ مالك الضحايا (1049) ، سنن الدارمي الأضاحي (1955) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/307) .
(3) صحيح مسلم الحج (1318) .
(4) إعلام الموقعين ج3 ص217.
(5) صحيح مسلم الحج (1318) .
(6) مسند أحمد بن حنبل (1/307) .(4/227)
آخره - قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات (1) .، فقد رتب رواية وقوفه - صلى الله عليه وسلم - بعرفة وخطبته في الناس على رواية تقسيمه - صلى الله عليه وسلم - الغنم في أصحابه وإصابة سعد بن أبي وقاص تيسا منها وذبحه كما هو الحال في رواية الحاكم.
ج - إن رواية الإمام أحمد التي فيها قسم غنما يوم النحر في أصحابه من طريق عكرمة مولى ابن عباس ولا يخفى ما لعطاء على عكرمة من الفضل والتقديم والثقة فإن عكرمة وإن اعتبره بعض أهل العلم فيكفينا لرد الاحتجاج بروايته إذا عارضت رواية رجال ثقات أمثال عطاء وغيره ممن اعتبرهم أهل العلم ووثقوهم يكفينا لذلك ما ذكره الحافظ الذهبي في كتابه ميزان الاعتدال حيث قال عن عكرمة ما يلي:
قال محمد بن سيرين: ما يسوءني أن يكون من أهل الجنة ولكنه كذاب وقال ابن المسيب لمولاه برد: لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس، وقال وهيب: شهدت يحيى بن سعيد الأنصاري ذكر عكرمة فقال: كذاب، وروى جرير عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث قال: دخلت على علي بن عبد الله فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش فقلت له ألا تتقي الله، فقال: إن هذا الخبيث يكذب على أبي، وقال ابن أبي ذئب: رأيت عكرمة وكان غير ثقة، وقال مطرف بن عبد الله: سمعت مالكا يكره أن يذكر عكرمة ولا رأى أن يروى عنه، قال أحمد بن حنبل: ما علمت أن مالكا حدث بشيء لعكرمة إلا في الرجل يطأ امرأته قبل الزيارة، رواه عن ثور عن عكرمة، وقال محمد بن سعد كان عكرمة كثير الحديث والعلم بحرا من البحور وليس يحتج بحديثه ويتكلم الناس فيه وقال خالد بن خداش: شهدت حماد بن زيد في آخر يوم مات فيه فقال: أحدثكم بحديث لم أحدث به قط لأني أكره أن ألقى الله ولم أحدث به سمعت أيوب يحدث عن عكرمة أنه قال: إنما أنزل الله متشابه القرآن ليضل به، قلت: القائل الحافظ الذهبي ما أسوأها عبارة وأخبثها بل أنزله ليهدي به وليضل به الفاسقين، وقال قطر بن خليفة: قلت لعطاء: إن عكرمة يقول: قال ابن عباس سبق الكتاب الخفين فقال: كذب عكرمة سمعت ابن عباس يقول: لا بأس بمسح الخفين وإن دخلت الغائط، قال عطاء: والله إن كان بعضهم ليرى أن المسح على القدمين يجزئ وثبت عن أحمد بن حنبل أنه قال في عكرمة: كان يرى رأي الصفرية وقال ابن المديني: كان يرى رأي نجدة الحروري، وقال عطاء: كان إباضيا وقال مصعب الزبيري: كان عكرمة يرى رأي الخوارج، وقال يحيى بن بكير: قدم عكرمة مصر وهو يريد المغرب قال: فالخوارج الذين هم بالمغرب عنه أخذوا إلى آخر ما ذكره (2) .
وما في رواية عكرمة من الإشكال في قوله «اذبحوها لعمرتكم فإنها تجزئ (3) » إذ ليس على العمرة دم والتمتع والقران لا يسمى أحدهما عمرة فما نوع هذه العمرة المستوجبة للدم؟ ثم إن التعبير بلفظ: فإنها تجزئ تعبير رديء ركيك ساذج ينزه الأسلوب النبوي عن مستواه إنه يشبه من يقدم لشخص
__________
(1) مجمع الزوائد ج3 ص271
(2) ميزان الاعتدال ج3 ص93 - 96
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/307) .(4/228)
جائع طعاما ثم يقول له كله فإنه يرفع الجوع ويدفعه اللهم إلا أن يكون الغرض من ذلك أنه قسم غنما رديئة لا يجزئ مثلها هديا فاعتبر لها حكما خاصا في الإجزاء كعناق خال البراء بن عازب وهذا مما لا نستطيع اعتباره والقول به فمقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرفع وأعلى من أن يرتضي لربه نسائك رديئة يتقرب بها إليه وقد تقرب - صلى الله عليه وسلم - لربه بهدي جزل بلغ مائة بدنة.
* * *
الثالثة عشرة: جاء في الصفحة السابعة عشرة من البحث مناقشة ما ذكره الشيرازي من الأمر المعنوي في جواز الذبح قبل يوم النحر بأمور ثلاثة يمكن نقاش أحدها بنفي وجود النص الصريح المقتضي منع ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر حتى يقال بمصادمته للاجتهاد فضلا عن أن القول بالجواز مؤيد بالكتاب والسنة وعمل الصحابة وقد مر بسط ذلك مما يغني عن إعادته، كما يمكن نقاش الأمر الثاني بما ذكره في الملاحظة الثانية ويمكن نقاش الأمر الثالث بأن ما يذكره ابن القيم - رحمه الله - أو غيره من أهل العلم لا يكون حجة حتى يستند قوله على ما يؤيده من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح أما إذا كان قوله مجرد رأي فإنه رجل وغيره رجال.
الرابعة عشرة: جاء في الصفحة الثامنة عشرة من البحث نفي الفرق بين الأضحية والهدي في الوقت ويمكن نقاش ذلك بأنه قياس مع الفارق فالأضحية عبادة مستقلة جاء النص الصريح بتحديد بدء وقت جواز ذبحها وكاد الإجماع ينعقد على تحديد نهاية الوقت بنهاية اليوم الثاني أو الثالث من أيام التشريق على خلاف بين أهل العلم أما الهدي الواجب للتمتع أو القران فليس عبادة مستقلة وإنما هو جزء من أعمال الحج لم يرد نص صريح من كتاب أو سنة بتحديد انتهاء وقته وقد جاء النص بوجوبه عند حصول التمتع قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) ، فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فقد وجب عليه واستقر في ذمته حتى يؤديه قال ابن حزم - رحمه الله - بعد أن ذكر أن هدي التمتع يجب بالإحرام بالحج بعد التحلل من العمرة قال ما نصه: وأما ذبحه ونحره بعد ذلك فلأن هذا الهدي قد بين الله تعالى أول وقت وجوبه ولم يحدد آخر وقت وجوبه بحد وما كان هكذا فهو دين باق أبدا حتى يؤدى والأمر به ثابت حتى يؤدى، ومن خصه بوقت محدود فقد قال على الله تعالى ما لم يقله عز وجل وهذا عظيم جدا اهـ (2) .
وقد رد بعض أهل العلم قياس هدي التمتع والقران على الأضحية أو هدي التطوع، فقال ابن مفلح: وقاسوه على الأضحية والهدي وهي دعوى اهـ (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) المحلى (7) ص 155.
(3) الفروع ج2 ص 249.(4/229)
وقال النووي: ويخالف الأضحية؛ لأنه منصوص على وقتها اهـ " (1) .
* * *
الخامسة عشرة: جاء في الصفحة الثامنة عشر الاحتجاج على تحديد وقت انتهاء الذبح باليوم الثاني من أيام التشريق بالإجماع بما ذكره الجصاص عن بعض الصحابة وأنه لا يجوز لمن بعدهم مخالفتهم ويمكن نقاش ذلك بأمرين: أحدهما أن المقصود بالذبح ذبح هدي التطوع والأضاحي لا ذبح هدي المتعة والقران لورود النص فيهما دون هدي المتعة والقران ولاختلافه عنهما، الثاني استبعاد أن الجصاص يقصد بقوله: أنه لا يجوز لمن بعدهم مخالفتهم انعقاد الإجماع على ذلك وعلى فرض أنه يقصد الإجماع فإن النقل عن بعض الصحابة في حكم مسألة لا يعني إجماع كل الصحابة على القول به حتى يرد النص بنفي الخلاف بينهم فيها ما لم تكن مبنية على نص صريح ثابت من كتاب أو سنة.
* * *
السادسة عشرة: جاء في الصفحة الثانية من البحث نقول عن الرملي والفتوحي من الشافعية بأن وقت ذبح الهدي محدد بوقت ذبح الأضحية على الصحيح، وصحح ذلك النووي والرافعي ويمكن نقاش ذلك بأن مقصود الرملي والنووي والرافعي بالهدي هو هدي التطوع وفيما يلي بعض النصوص في بيان ذلك.
قال النووي: فرع في وقت ذبح الأضحية والهدي المتطوع بهما والنذور فيدخل وقتهما إذا مضى قدر صلاة العيد وخطبتين معتدلتين بعد طلوع الشمس يوم النحر سواء صلى الإمام أو لم يصل وسواء صلى المضحي أو لم يصل ويبقى إلى غروب الشمس من آخر أيام التشريق ويجوز في الليل لكنه مكروه إلى أن قال: وأما الدماء الواجبة في الحج بسبب التمتع أو القران أو اللبس أو غير ذلك من فعل محظور أو ترك مأمور فوقتها من حين وجوبها بوجود سببها ولا تختص بيوم النحر ولا غيره اهـ " (2) .
وقال في موضع آخر: ووقت وجوب دم التمتع إذا أحرم بالحج فإذا وجب جازت إراقته ولم يتوقت بوقت كسائر دماء الجبرانات اهـ " (3) . وقال الشربيني على قول النووي وسيأتي في آخر الباب محرمات الإحرام على الصواب ما نصه:
__________
(1) المجموع ج7 ص 180.
(2) الإيضاح من ص375 - 376.
(3) الإيضاح ص 522.(4/230)
ووقته وقت الأضحية على الصحيح هذا بناه المصنف على ما فهمه من أن مراد الرافعي بالهدي هنا المساق تقربا إلى الله تعالى، فاعترضه هنا وفي الروضة والمجموع، واعترض الأسنوي المصنف بأن الهدي يطلق على دم الجبرانات والمحظورات، وهذا لا يختص بزمان، وهو المراد هنا، وفي قوله: أولا ثم يذبح من معه هدي، وعلى ما يساق تقربا إلى الله وهذا هو المختص بوقت الأضحية على الصحيح، وهو المذكور في آخر باب محرمات الإحرام فلم يتوارد الكلامان على محل واحد حتى يعد ذلك تناقضا. وقد أوضح الرافعي ذلك في باب الهدي من الشرح الكبير فذكر أن الهدي يقع على الكل وأن الممنوع فعله في غير وقت الأضحية هو ما يسوقه المحرم لكنه لم يفصح في المحرر عن المراد كما أفصح عنه في الكبير فظن المصنف - هو النووي - أن المسألة واحدة فاستدرك عليه وكيف يجيء الاستدراك مع تصريح الرافعي هناك بما يبين المراد. اهـ (1) .
وبهذا يتضح أن النووي والرافعي والرملي يقصدون بتوقيت ذبح الهدي بوقت الأضحية ما يساق هديا تقربا إلى الله تعالى على سبيل التطوع أو النذر، أما هدي المتعة والقران فنصوصهم صريحة متضافرة على جواز ذبحها بعد وجوبها.
هذا ما تيسر إيراده، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. . .
* * *
__________
(1) مغني المحتاج ج1 ص504.(4/231)
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1)
صدق الله العظيم
__________
(1) سورة النساء الآية 29(4/232)
دكتور محمد بن أحمد الصالح
أستاذ الفقه بكلية العلوم الشرعية
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التسعير
في
نظر الشريعة الإسلامية(4/233)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
التسعير (1)
الحمد لله نور السماوات والأرض، يهب الحكمة لمن يشاء من عباده، فيصيب بها من يشاء، ويصرفها عمن يشاء، وهو أعلم حيث يجعل رسالته.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد مشكاة الهدى، ومنارة العارفين، ورائد المفكرين إلى رحاب المعرفة واليقين برب العالمين، وعلى آله وصحبه والداعين بهديه إلى يوم الدين.
وبعد. . .
تقوم أحكام الشريعة الإسلامية على رعاية مصلحة الفرد والجماعة، وذلك بتشريع كل ما فيه منفعة وخير لهم في العاجل والآجل، ومنع كل ما فيه ضرر وشر عنهم في الدنيا والآخرة، ليحقق لهم بذلك السعادة في الدارين.
ولا تقف رعاية هذه المصلحة عند نوع معين من التشريعات، بل تمتد فتشمل أحكام العبادات، والمعاملات والعقوبات، والأحوال الشخصية، والعلاقات الدولية، وغيرها من أحكام تنظم علاقة الفرد بربه وبغيره في سائر مجالات الحياة، فإن هذه الأحكام هدفها وغايتها تحقيق مصلحة الفرد وإسعاده في الدنيا والآخرة.
__________
(1) الدكتور محمد بن أحمد الصالح - أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.(4/234)
وتقوم أحكام المعاملات في هذه الشريعة على أساس حرية التعامل في البيع والشراء والأخذ والعطاء، وسائر العقود والتصرفات، ما دام التعامل جاريا بين الناس على وفق ما جاءت به الشريعة من أحكام وقواعد ونظم.
وبناء على هذا المبدأ منعت الشريعة الدولة _ ممثلة في ولي الأمر وأعوانه _ من القيام بكبت هذه الحرية وتعطيلها، أو تقييدها والحد منها، ما دام التعامل جاريا على الوجه الذي أشرنا إليه آنفا.
ولكن إذا أسيء استخدام هذه الحرية، وتعسف الناس في استعمال حقوقهم، لتحقيق المصالح الذاتية لهم، فخرجت بذلك تصرفاتهم ومعاملاتهم عن السنن المشروع فأضرت بالناس، أو استغلت حاجتهم، فأرهقتهم وأثقلت عليهم حياتهم، فإن الشريعة تبيح للدولة حينئذ أن تتدخل في هذه الحالة، لحمل الناس على الجادة المستقيمة في تصرفاتهم ومعاملاتهم، وإلزامهم بالعودة إلى الطريق المشروع الذي لا يضر بأحد، أو يستغل حاجة أحد، أو يعنت أحدا، وذلك لأن الشريعة التي قامت على رعاية المصالح وحرية التعامل لا تسمح لمصلحة فرد أو طائفة أن تطغى - في ضوء هذه الحرية - على مصلحة الجماعة فتعطلها، أو تنقص منها، أو تقلل من شأنها، وذلك تغليبا لمصلحة الجماعة على مصلحة الفرد وترجيحا للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
ومن الأمثلة الحية على ذلك موقف الشريعة من تسعير السلع والبضائع على التجار، فإن التجار إذا تغالوا في البيع فباعوا بأزيد من القيمة الحقيقية لهذه السلع، وتواطؤوا على ذلك، أو احتكروا السلع والبضائع وحبسوها عن الناس، ليحملوهم على الشراء بالسعر الذي يريدونه، فإن الشريعة توجب على ولي الأمر أن يتدخل للحد من حرية هؤلاء التجار، فيقوم بالتسعير العدل الذي لا وكس فيه ولا شطط على أحد من الناس وذلك رفعا للضرر عن جمهور الأمة.
وفي هذا البحث نعالج الموضوع في خمسة فصول على وجه يتضح منه موقف الشريعة الرائع الذي يحقق مصلحة الأمة، بائعين ومشترين، تجارا ومستهلكين.
ففي الفصل الأول من هذا المبحث نبين معنى التسعير وحكمه، فنذكر آراء الفقهاء وأدلتهم والراجح من هذه الآراء، ثم نتبع ذلك برأي شيخ الإسلام ابن تيمية في التسعير.
وفي الفصل الثاني نبين آراء الفقهاء وأدلتهم والراجح منها في أجور العقارات وأجور الأشخاص ذوي الحرف والصناعات، متبعين ذلك برأي شيخ الإسلام ابن تيمية في تسعير هذه الأجور.
وفي الفصل الثالث نبين حكم البيع بأنقص من سعر السوق، فنبين آراء الفقهاء وأدلتهم في ذلك وما نراه راجحا من هذه الآراء.
وفي الفصل الرابع نتناول بالبحث ما يراه الفقهاء من تنظيمات يجب على ولي الأمر اتباعها عند قيامه(4/235)
بالتسعير، فنتكلم عن الحالات التي يجب فيها التسعير، وعن ضرورة الاستعانة بأهل الخبرة في التسعير، وعن مراقبة ولي الأمر للأسعار والأسواق بصفة مستمرة.
وفي الفصل الخامس نبين ما يراه الفقهاء من تعزير من يخالف تسعير ولي الأمر بالعقوبة الرادعة، مع بيان العقوبة التعزيرية المقررة في نظام المملكة العربية السعودية.
ثم نختم الموضوع بكلمة موجزة عما انتهى إليه البحث من نتائج.
ونسأل الله تعالى التوفيق والسداد.
* * *
د. محمد بن أحمد الصالح(4/236)
الفصل الأول
معنى التسعير وحكمه
يشتمل هذا الفصل على ثلاثة مباحث
1 - تعريف التسعير
2 - حكم التسعير
3 - رأي شيخ الإسلام ابن تيمية في التسعير
المبحث الأول
تعريف التسعير
المعنى اللغوي للتسعير
هو: الذي يقوم عليه الثمن، وجمعه: أسعار.
يقال: " أسعروا وسعروا " إذا اتفقوا على سعر معين.
ويقال: " ساعره مساعرة " إذا ساومه على سعر بعينه.
ويقال: " له سعر ": إذا زادت قيمته و " وليس له سعر ": إذا أفرط رخصه.
والسعر المحدود: هو الذي لا يقبل المساومة.
وسعر السوق: هو الحالة التي يمكن أن تشترى بها الوحدة أو ما شابهها في وقت ما.
وسعر الصرف: هو سعر السوق بالنسبة لنقود الأمم.
* * *(4/237)
المعنى الاصطلاحي للتسعير
هو إلزام ولي الأمر - أو من يقوم مقامه - الناس بثمن معين لا يتبايعون إلا به فيمنعون من الزيادة عليه أو النقص عنه عند الضرورة في الطعام وغيره مما يحتاج الناس إليه بحيث يراعي حق الطرفين بالعدل للمصلحة العامة.
فالتسعير في حاضرنا اليوم يعني تدخل الدولة ممثلة في وزارة التجارة أو الغرفة التجارية أو أي هيئة أخرى مختصة في وضع أسعار محددة لسلع معينة أو لكل السلع تكون ملزمة للتجار ليس لهم تجاوزها، وإلا كانوا عرضة للعقاب.
* * *(4/238)
المبحث الثاني
حكم التسعير
للعلماء في حكم التسعير عدة آراء منها:
القول بالمنع مطلقا، وإلى هذا ذهب بعض الشافعية والحنابلة ورواية عن الإمام مالك.
القول بجواز التسعير فيما عدا قوت الآدمي والبهيمة وإليه ذهب متأخرو الزيدية.
القول بجواز التسعير عند إغلاء التجار الأسعار، وإليه ذهب الحنفية ورواية أخرى عن مالك، وفيما يلي بيان هذه المذاهب بشيء من التفصيل وأدلة أصحاب كل مذهب ومناقشتها.
* * *
الرأي الأول
عدم جواز التسعير مطلقا(4/239)
وقد اعتمد أصحاب هذا الرأي على أدلة بعضها من الكتاب والسنة وبعضها من العقل والمنطق.
أولا: دليلهم من الكتاب:
قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) .
ووجه الدلالة من هذه الآية أنها تفيد إطلاق الحرية للبائع، والتسعير حجر عليه وإلزام له بصفة معينة في البيع؛ إذ قد لا يكون راضيا به فيكون كالأكل بالباطل الذي نهت الآية الكريمة عنه.
* * *
المناقشة: نوقش هذا الدليل بأن التسعير لا يخالف هذه الآية الكريمة؛ لأن التسعير ما هو إلا إلزام للتجار ببيع السلعة بسعر المثل الذي يراعى عند تحديده مصلحة البائع والمشتري، وعلى هذا فلا يكون فيه أكل لأموال الناس بالباطل، بل على العكس من ذلك نجد أن ترك الحرية المطلقة للتجار ليبيعوا بأزيد من القيمة الحقيقية للسلعة مستغلين في ذلك حاجة الناس لها هو بعينه أكل أموال الناس بالباطل.
فالتسعير العادل الذي أذنت فيه الشريعة ليس فيه أكل المشتري مال التاجر بغير حق؛ لأن السعر يراعى فيه القيمة الحقيقية للسلعة مع إضافة كسب معقول للتاجر.
ويعتبر إجبار التاجر على البيع في هذه الحالة إكراها بحق، ويكون من جنس إكراه المدين على بيع ماله لوفاء دينه.
فإن قيل: وما وجه الحق في إجبار البائع على البيع بسعر محدد؟
قلنا: إن إرخاء الأسعار للمسلمين عامة ومنع الإجحاف بهم واستغلالهم من أهم الحقوق.
* * *
__________
(1) سورة النساء الآية 29(4/240)
ثانيا: دليلهم من السنة
1 - ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله لو سعرت؟ فقال: إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال (1) » رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي.
2 - ما روي عن أبي هريرة عند أحمد وأبي داود قال: «جاء رجل فقال: يا رسول الله سعر. فقال: " بل أدعو الله ". ثم جاء رجل آخر فقال: يا رسول الله سعر. فقال: " بل الله يخفض ويرفع (2) » .
ووجه الدلالة من هذين الحديثين: أنهما يدلان على تحريم التسعير، ويتضح ذلك من وجهين:
أولهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم امتنع عن التسعير مع أن الصحابة طلبوا منه ذلك وتكرر الطلب منهم ومع ذلك لم يسعر، فلو كان التسعير جائزا لأجابهم إلى طلبهم. وعلى هذا يكون التسعير غير جائز.
ثانيهما: أن الرسول صلى الله عليه وسلم علل امتناعه عن التسعير بأنه ظلم، والظلم حرام. وعلى هذا يكون التسعير حراما.
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .
(2) سنن أبو داود البيوع (3450) ، مسند أحمد بن حنبل (2/337) .(4/241)
المناقشة نوقش هذان الدليلان بأنهما لا يدلان على تحريم التسعير مطلقا؛ لأن امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن التسعير محمول على حالة خاصة وهي أن التجار في ذلك الوقت كانوا أهل تقوى وصلاح، وكانوا يبيعون بأسعار مناسبة، والغلاء في ذلك الوقت لم يكن يرجع إلى جشع التجار وإنما كان ناتجا عن قلة السلع المعروضة وكثرة الطلب عليها.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينه عن التسعير صراحة فلم يقل: لا يجوز التسعير أو التسعير حرام أو نحوا من ذلك، ولكن كل ما جاء في الحديثين أنه لم يسعر لأنه لم تكن هناك حاجة إليه.
وعلى هذا فليس في الحديثين ما يدل على عدم جواز التسعير في حالة جشع التجار وتجاوزهم الحد المعقول بالبيع بأكثر من قيمة المثل.
وفي الرد على من استدل بهذين الحديثين قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ومن منع التسعير مطلقا محتجا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله هو المسعر القابض الباسط (1) » الحديث، فقد غلط فإن هذه قضية معينة وليست لفظا عاما، وليس فيها أن أحدا امتنع من بيع يجب عليه أو عمل يجب عليه، أو طلب في ذلك أكثر من عوض المثل. ومعلوم أن الشيء إذا قل رغب الناس في المزايدة فيه. فإذا كان صاحبه قد بذله كما جرت به العادة ولكن الناس تزايدوا فيه فهنا لا يسعر عليهم. . . "
ورد الإمام ابن القيم - رحمه الله - على من استدل بهذين الحديثين في منع التسعير، بمثل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية.
* * *
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .(4/242)
ثالثا: حادثة عمر مع حاطب
فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بحاطب بن أبي بلتعة بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما.
فقال له: مدان لكل درهم.
فقال له عمر: قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم يغترون بسعرك، فإما أن ترفع في السعر وإما أن تدخل زبيبك في بيتك فتبيعه كيف شئت.
فلما رجع عمر حاسب نفسه ثم أتى حاطبا في داره فقال له: إن الذي قلت لك ليس بعزمة مني ولا قضاء وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع وكيف شئت فبع.
ووجه الدلالة من هذه القصة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجع عن التسعير والإلزام به بعد ما رأى أنه أخطأ، واعترف بأنه ما قاله لحاطب بالسوق إنما كان اجتهادا منه. فدل ذلك على أن التسعير غير جائز.
المناقشة
نوقش هذا الدليل بأن هذه القصة رويت عن صحابي، وقول الصحابي لا يستقيم للحجية إلا إذا كان مستندا على نص من كتاب أو سنة أما إذا اعتمد على الرأي المجرد فلا يكون حجة، وإذا افترضنا أنه حجة فقد جاء للخليفة في هذه القصة رأيان:
الأول: الأخذ بالتسعير، والثاني: الرجوع عنه، وهو ما أخذ به أصحاب هذا المذهب واستندوا إليه في القول بعدم جواز التسعير.
ونقول لهم بأن هذه القصة جاءت في قضية خاصة وهي البيع بأقل من سعر السوق، والراجح أنه لا يجوز التسعير في هذه الحالة لما فيه من المصلحة لعامة الناس بالبيع بسعر رخيص.
على أن المحتجين بقضية حاطب لم يأخذوا بما صح عن عمر رضي الله عنه في قضايا كثيرة حيث خالفوه في إجبار بني العم على النفقة على ابن عمهم، وعتق كل ذي رحم محرم إذا ملك، وغير ذلك.
على أن هذا الأثر لا يصح عن عمر من رواية سعيد بن المسيب؛ لأنه لم يسمع من عمر إلا نعيه النعمان بن مقرن فقط.(4/243)
وإنما الذي روى عن عمر -على فرض صحته - هو بخلاف ما ذهبوا إليه؛ لأن عمر أراد بقوله: " إما تزيد في السعر " أي أن تبيع من المكاييل أكثر مما تبيع بهذا الثمن، حيث جاء من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب.
قال: " وجد عمر حاطب بن أبي بلتعة يبيع الزبيب بالمدينة.
فقال: كيف تبيع يا حاطب؟
قال: مدين.
فقال عمر: تبتاعون بأبوابنا وأفنيتنا وأسواقنا، وتقطعون في رقابنا، ثم تبيعون كيف شئتم، بع صاعا وإلا فلا تبع في أسواقنا، وإلا ف
سيبوا في الأرض ثم أجلبوا ثم بيعوا كيف شئتم ".
فهذا هو أثر عمر مع حاطب في الزبيب كما يجب أن يظن بعمر.
فإن قالوا: إن في هذا ضررا على أهل السوق.
قلنا: هذا باطل. بل في قولكم أنتم الضرر على أهل البلد كلهم، وعلى المساكين، وعلى هذا المحسن إلى الناس، ولا ضرر في ذلك على أهل السوق؛ لأنهم إن شاءوا أن يرخصوا كما فعل هذا فليفعلوا، وإلا فهم أملك بأموالهم كما هذا أملك بماله.
وخلاصة القول: أنه ليس في قصة عمر بن الخطاب مع حاطب بن أبي بلتعة دليل على منع التسعير.
رابعا: الأدلة العقلية
وقد أراد أصحاب هذا المذهب تأييد ما ذهبوا إليه - من القول بمنع التسعير - بأدلة من العقل والمنطق منها:
1 - قالوا إن الناس مسلطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن.(4/244)
نقول: إن الإمام ليس معنيا برعاية مصلحة فريق من الناس وهم التجار، ولكنه معني برعاية مصالح كل الأمة، فليس من العدل والإنصاف أن يترك الإمام الفرصة للتجار في الاحتكار واستغلال الناس بحجة عدم الحجر عليهم في التصرف في أموالهم، بل من مصلحة المسلمين إجبار التجار على البيع بسعر المثل، وليس في إلزامهم بالبيع بسعر المثل ظلم أو إجحاف بهم، حيث إن على الإمام مراعاة مصلحة التجار بتحديد سعر يتضمن ربحا معقولا لهم.
2 - قالوا: إن التسعير يمنع الجالبين عن القدوم بسلعهم إلى البلد حتى لا يجبروا على البيع بغير ما يريدون وكذلك أهل السوق يمتنعون من بيع ما لديهم من السلع فيخفونها ليبيعوها بالثمن الذي يرضيهم فينشأ عن ذلك ما يعرف بالسوق السوداء.
المناقشة
نقول: إن ولي الأمر يملك من الوسائل ما يحمل به الجالبين على القدوم لبيع ما بأيديهم من السلع، ولديه القدرة على استخراج السلع من مخابئها، كما يمكنه أن يقوم هو بالجلب وبيع السلع بسعر التكلفة فيحمل بذلك التجار على بيع ما لديهم من البضائع، فيقضي بذلك على الاحتكار والاستغلال.
الخلاصة
أن الرأي القائل بمنع التسعير رأي مرجوح لأنه أمكن مناقشة ما استدل به أصحابه من أدلة وتفنيد ما أوردوه من حجج.
وعليه يظهر لنا أنه ليس في الإسلام ما يمنع من التسعير طالما روعي فيه مصلحة جميع الأطراف من بائعين ومشترين.(4/245)
الرأي الثاني
القول بجواز التسعير فيما عدا قوت الآدمي وعلف البهائم
وقد اعتمد أصحاب هذا الرأي على ما يلي:
أولا: حديث أنس رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل أن يسعر قال: «إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر (1) » . . . الحديث.
وحديث أبي هريرة وفيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «بل الله يخفض ويرفع (2) » الحديث.
ووجه الاستدلال من هذين الحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما امتنع عن التسعير في أقوات الآدميين وأعلاف البهائم؛ لأنها أغلب السلع المتداولة في ذلك الوقت؛ فيحمل المنع من التسعير عليها فقط.
المناقشة
نقول: إنه ليس في الحديثين ما يدل من قريب ولا من بعيد على قصر منع التسعير على قوت الآدمي وعلف البهائم، ولم يرد أن هاتين السلعتين يغلب وجودهما في السوق. وحمل الحديثين على هذا المعنى فيه تكلف وتحميل للألفاظ بمعان لا تحتملها.
هذا وقد سبق مناقشة هذين الحديثين بما يغني عن إعادته هنا.
ثانيا: قالوا إن تسعير الأقوات قد يدفع التجار إلى إخفاء السلع مما يؤدي إلى حدوث مجاعات ومفاسد أكبر مما ينتج عن عدم التسعير ولذلك لا يجوز تسعير الأقوات وعلف البهائم، ويجب ترك الحرية للتجار يبيعونها كيفما شاءوا.
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/156) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .
(2) سنن أبو داود البيوع (3450) ، مسند أحمد بن حنبل (2/337) .(4/246)
المناقشة
يناقش هذا الدليل بأن التسعير لا يعني وضع أسعار ثابتة للسلع يتعين الأخذ بها في كل زمان ومكان، وإنما المراد بالتسعير هو وضع سعر لكل سلعة بعد معرفة قيمتها الحقيقية مع إضافة كلفة وصولها إلى أرض المشتري ثم إضافة نسبة معقولة من الربح للتاجر، وبهذا ينتفي لحوق الضرر بالتجار.
على أن لولي الأمر السلطة التامة في إلزام التجار بالبيع بالسعر الذي حدده لهم، ومنعهم من إخفاء السلع عن الناس.
الخلاصة
إن القول بجواز التسعير فيما عدا قوت الآدمي وعلف البهائم قول مردود؛ إذ أنه استند على حجج واهية أمكن الرد عليها.
وعلى هذا فليس هناك ما يمنع من تسعير الأقوات عند الأخذ بالتسعير، بل على العكس فإنه كلما كانت الحاجة إلى السلعة عامة كان التسعير واجبا، وليس هناك حاجة أشد من حاجة الناس إلى الأقوات.
* * *(4/247)
الرأي الثالث
القول بجواز التسعير عند إغلاء التجار الأسعار وتواطئهم على رفع السعر بقصد ضرر المستهلكين، فهنا يجب تدخل ولي الأمر لرفع الضرر بالعدل الذي هو من متطلبات وحقوق الرعية على الراعي؛ فإن التسعير في هذه الحالة مصلحة عامة.
وقد استدل أصحاب هذا الرأي بما يلي:
أولا: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد (1) » .
ووجه الاستدلال من الحديث أن الشارع لم يعط المالك الحق بأخذ زيادة على القيمة حيث أوجب إخراج الشيء من ملكه بعوض المثل لمصلحة تكميل العتق، فكيف إذا كانت حاجة الناس إلى تملك الطعام والشراب واللباس وغيره؟
فهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من تقويم الجميع بقيمة المثل إنما هو التسعير في الحقيقة حيث إنه من جنس سلطة الشريك في انتزاع الشقص المشفوع فيه من يد المشتري بثمنه الذي ابتاعه به لا بزيادة عليه لأجل مصلحة التكميل لواحد فكيف بما هو أعظم؟
فحاجة المسلمين إلى الطعام والشراب واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة ليس الحق فيها لواحد بعينه، وتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية الذي وجب على الشريك المعتق، فلو لم يقدر فيها الثمن لتضرر بطلب الشريك الآخر ما شاء.
__________
(1) صحيح البخاري العتق (2522) ، صحيح مسلم الأيمان (1501) ، سنن الترمذي الأحكام (1346) ، سنن النسائي البيوع (4699) ، سنن أبو داود العتق (3940) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2528) ، مسند أحمد بن حنبل (2/112) ، موطأ مالك العتق والولاء (1504) .(4/248)
فإن عموم الناس بحاجة لشراء الطعام واللباس، فلو أعطي أرباب السلع الحرية في البيع بما يشاءون لكان ما يلحق الناس من الضرر أعظم وأفحش.
ثانيا: إن القول بالتسعير عند تجاوز التجار ثمن المثل في البيع يحقق مصلحة الأمة بإرخاء الأسعار للناس وحمايتهم من جشع التجار واستغلالهم.
ثالثا: إن القول بالتسعير فيه سد للذرائع ومن الثابت أن سد الذرائع من الأدلة المعتبرة في الفقه الإسلامي وأصل من أصوله المعتمدة.
وسد الذرائع هو المنع من بعض المباحات لإفضائها مفسدة، ومن المسلم به أن ما يؤدي إلى الحرام يكون حراما، فترك الحرية للناس في البيع والشراء بأي ثمن دون تسعير هو أمر مباح في الأصل، ولكنه قد يؤدي إلى الاستغلال والجشع والتحكم في ضروريات الناس، فيقضي هذا الأصل الشرعي بسد هذا الباب بتقييد التعامل بأسعار محددة.
فإن قيل إن التسعير فيه تقييد لحرية التجار في البيع وهذا ضرر بهم والضرر منهي عنه شرعا.
نقول: إن الضرر الحاصل من منع التسعير أعظم بكثير من الضرر الناتج من إجبار التجار على البيع بسعر، ولا شك أن الضرر الأكبر يدفع بالضرر الأصغر.
وهكذا يتضح من كلام العلماء الذين أجازوا التسعير أنهم لم يجيزوه لذاته بل لأنه إجراء وقائي لصد ظلم الظالمين واحتكار المحتكرين.
* * *
الخلاصة
إن القول بالتسعير وإلزام التجار بالبيع بثمن المثل عند تجاوزهم الأسعار - التي تحقق لهم ربحا معقولا - وظهور بوادر الجشع والاستغلال، لهو الرأي المختار الذي يجب العمل به والمصير إليه، وذلك لقوة أدلته وسلامتها من الرد، ولما فيه من تحقيق مصالح الأمة ودفع الضرر عن الناس.(4/249)
المبحث الثالث
رأي شيخ الإسلام ابن تيمية
في حكم التسعير
قال رضي الله عنه: " السعر منه ما هو ظلم لا يجوز ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه أو منعهم مما أباحه الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل فهو جائز بل واجب.
فأما الأول: فمثل ما روى أنس قال: «غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله لو سعرت؟ فقال: إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال (1) » رواه أبو داود وصححه.
فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق، فهذا إلى الله، فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق.
وأما الثاني: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها - مع ضرورة الناس إليها - إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم الله به.
فشيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه لا يرى الأخذ بالتسعير مطلقا وفي كل الأحوال، وإنما يفرق بين حالتين:
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .(4/250)
الأولى: حالة ما إذا كان الغلاء ناتجا عن قلة العرض وكثرة الطلب دون أن يكون للتجار دخل في ذلك، فهنا لا يرى الأخذ بالتسعير بل يراه ضربا من ضروب الظلم والعدوان.
الثانية: حالة ما إذا كان الغلاء ناتجا عن جشع التجار واستغلالهم للناس، فهنا يرى أن التسعير حلال بل واجب، ويتعين على ولي الأمر تحديد الأسعار - في هذه الحالة - حماية للناس من جشع التجار واستغلالهم.
وهذا ما يتفق مع سماحة الشريعة الإسلامية وعدالتها لما فيه من جلب المصالح ودفع المفاسد ورفع الظلم عن الناس.(4/251)
الفصل الثاني
تسعير أجور الأشخاص والعقارات
ينقسم الكلام في هذا الموضوع إلى قسمين رئيسيين:
الأول: تسعير أجور الأشخاص
الثاني: تسعير أجور العقارات
ونخصص لكل منهما مبحثا مستقلا
المبحث الأول
تسعير أجور الأشخاص
إن الإسلام بقواعده الراسخة ومبادئه الثابتة التي أرست دعائم حياة الفرد المسلم وجاءت بهديه وقيادته إلى سبيل السعادة في الدنيا والآخرة، قد جعل العمل فرضا على كل مسلم وحث عليه ورغب فيه.
وكان الكثير من الأنبياء يكسب قوته من عمل يده، وكان منهم النجار والحداد والطبيب وراعي الأغنام، ولذا فقد قال نبي الرحمة -عليه الصلاة والسلام-: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده (1) » . وقال صلى الله عليه وسلم: «من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له» «وسئل - صلوات الله وسلامه عليه- عن أفضل الكسب، فقال: بيع مبرور وعمل الرجل بيده (2) » .
ولما كان العمل بهذه المثابة فقد أمر الدين الحنيف بإكرام العامل ومراعاة حقوقه، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه (3) » . وجاء في الحديث القدسي
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2072) ، سنن ابن ماجه التجارات (2138) ، مسند أحمد بن حنبل (4/132) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/466) .
(3) سنن ابن ماجه الأحكام (2443) .(4/252)
عن رب العزة: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته (1) » . . . ثم قال في الثالث: «ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره (2) » .
وكما أمر الإسلام بالعمل وحث على حفظ حقوق العمال، فقد أوجب على العامل أن يؤدي عمله بأمانة وإخلاص وإتقان، فقال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2227) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2442) ، مسند أحمد بن حنبل (2/358) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2227) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2442) .(4/253)
تحديد أجور العمال
نشأت الدعوة إلى تحديد أجور العمال ووضع حد أدنى لها، عندما قامت بعض التكتلات في الأسواق الدولية تعمل لصالح أصحاب الإنتاج ضد العمال، فهي لم تترك للعمال حرية التعاقد بل فرضت عليهم الشروط التي تكون في صالحها دون مراعاة لمواهب العامل وقدراته الخاصة، أو مستوى المعيشة في البلد.
وكان العامل مكرها على قبول ما يحدده رب العمل من أجر - بدافع الفقر والعوز - وكانت عقود العمل التي تنشأ بذلك توصف بأنها عقود إذعان؛ لأن الطرف القوي فيها يفرض على الطرف الضعيف ما يشاء من شروط مجحفة.
وقام العمال وبعض الباحثين في الاقتصاد الحديث بالدعوة إلى تحديد أجور العمل، وقام بعض المفكرين بالمناداة بوضع حد لهذا الظلم، وظهرت من ذلك عدة نظريات نوجزها فيما يلي:(4/253)
1 - نظرية حد الكفاف أو الأجر الحدي
تقوم هذه النظرية على أساس عرض العمال للأجور، ويكون تحديد الأجر بالحد الأدنى لحاجة العامل الضرورية لمعيشته هو وعائلته وإبقائهم على قيد الحياة.
على أن هذه النظرية لم تحل المشكلة لأن عرض العمال للأجور يؤدي إلى تنافسهم في عرض أجور أقل مما يؤدي بالتالي إلى انخفاض أجورهم إلى حد الكفاف.
وقد أخذ بهذه النظرية كثير من باحثي الاقتصاد في الغرب كآدم سميث وكسناي وتركو، وقد انتقد آخرون تلك النظرية كمالتس؛ حيث يعتقد بزيادة السكان إلى حد كبير وأن مستقبلهم تعس بسبب تزايدهم على العمل حيث يؤدي إلى انخفاض أجورهم وترديها.(4/253)
2 - نظرية إنتاجية العمل
وتتحدد أجور العمال - بمقتضى هذه النظرية - بمقدار ما يتبقى من قيمة الإنتاج الصناعي بعد دفع حصة عناصر الإنتاج الأخرى من تكاليف وربح احتياطي، فإذا زاد الإنتاج زادت الأجور تبعا لذلك.
وهذه النظرية فيها ظلم للعامل؛ حيث إن أجره مرتبط بربح وخسارة المنشأة وارتفاع وانخفاض الأسعار، كما أنها لم تراع ظاهرة العرض والطلب وهي ذات أثر كبير في مسألة تحديد الأجور.
وفوق ذلك فإن هذه النظرية مخالفة لما يجب أن يكون عليه العقد من أن الأجور تحدد مسبقا قبل البدء بالعمل، أما جهالة الأجر فلا تجوز، وأمثال تلك الصور ظلم وأكل للمال بالباطل فلا تصح. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من استأجر أجيرا فليعلمه أجره (1) » .
__________
(1) سنن النسائي الأيمان والنذور (3857) ، مسند أحمد بن حنبل (3/71) .(4/254)
3 - نظرية المساومة
وتقضي هذه النظرية بأن تحديد الأجور يتم بالمساومة بين أرباب العمل والعمال، ويتدخل في تحديد الأجور الطلب على العمل وعرضه، فعندما تكون الأحوال الاقتصادية حسنة والطلب على العمال كبيرا لا يستطيع أصحاب العمل تجاهل طلبات العمال برفع الأجور، وعلى العكس من ذلك ففي حالة سوء الأحوال الاقتصادية وقلة الطلب على العمال، يضطر العمال إلى التنازل عن موقفهم وقبول أجور أقل.
وبهذا فإن نظرية المساومة لا تقول بفرض أجر معين، بل تقول إن واقع الحال يجب أن يكون هو الحكم، وأن هناك نظاما واسعا في الأجور، وأن تحديد الأجور يتم بالمساومة، ويختلف باختلاف الزمان والمكان ومهارة العامل ودرايته وقدرته.
* * *(4/254)
بيان حكم ذلك في الشريعة الإسلامية
إن الأعمال والمهن التي يحتاج إليها المجتمع ينظر إليها الفقهاء المسلمون - انطلاقا من المفهوم الإسلامي المستمد من القرآن والسنة - نظرة اجتماعية وأخلاقية لا نظرة اقتصادية فحسب، فهم يرون أن العمل واجب اجتماعي وفرض على الكفاية لا تتم مصلحة الناس إلا به، فإذا لم يقم أحد بهذا(4/254)
الواجب لحق المجتمع كله إثم على هذا التقصير فيكون الوجوب قائما ما دام المجتمع محتاجا وينتهي بقيام من يكفي المجتمع مئونة ذلك العمل. وهذا المفهوم الإسلامي مبني على فكرة وحدة المجتمع وتضامنه وتكافله.
وعلى هذا.
فلا يجوز للعامل أن يفرض أجرا مرتفعا مستغلا في ذلك حاجة الناس إلى عمله.
كما ينبغي على الناس أن يعطوا العامل حقه دون نقص.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجبا يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم. . . والمقصود هنا أن ولي الأمر إن أجبر أهل الصناعات على ما يحتاج إليه الناس من صناعاتهم كالفلاحة والحياكة والبناية فإنه يقدر أجرة المثل، فلا يمكن المستعمل من نقص أجرة الصانع عن ذلك ولا يمكن الصانع من المطالبة بأكثر من ذلك حيث تعين عليه العمل، وهذا من التسعير الواجب. . . ".
وخلاصة القول أن تحديد أجور العمال يكون واجبا في حالة الضرورة، وهي:
إما تكتل أصحاب الأعمال ضد العمال ليفرضوا عليهم شروطهم.
وإما تكتل الأعمال وتواطؤهم على فرض أجور مرتفعة مستغلين في ذلك حاجة الناس إليهم وإلى صناعاتهم، فهنا يجب تحديد الأجور منعا للجشع والاستغلال، وحفظا لمصالح العمال وأصحاب الأعمال.(4/255)
طريقة تحديد الأجور في الشريعة الإسلامية
عندما يضطر ولي الأمر إلى وضع مستوى معين للأجور فإنه ينبغي أن يتم ذلك عن طريق هيئة تمثل العمال وأرباب العمل، تقوم بتقدير الأجر المناسب لكل مهنة أو حرفة، وتراعي في تحديد الأجور مهارة العامل وإمكانياته وقدراته، مع مراعاة مستوى المعيشة في كل عصر ومصر.
فعند القيام بوضع جدول للأجور لكل مهنة يجب الإشارة إلى الفوارق الطبيعية في الذكاء والاستعداد الفطري والقدرة على التحمل، فلا يكون أجر العامل الكسول الذي يقوم بعمل تافه مساويا لأجر العامل المجد النشيط الذي يؤدي عملا على جانب كبير من الأهمية.
وبهذا يأخذ كل ذي حق حقه، مما يؤدي إلى تحسين العمل كيفا وزيادته كما، وتزول الضغائن والأحقاد(4/255)
التي كثيرا ما تقوم بين العمال وأرباب العمل، وتحل محلها المحبة والوئام. وبهذا تتحقق مصلحة المجتمع ويعم الرخاء.
والإسلام في هذا قد سبق المنظمات العمالية والهيئات الدولية التي تزعم أنها تحمي حقوق الإنسان والتي أشارت في المادة الثالثة والعشرين من وثيقة إعلان حقوق الإنسان الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة على " ضرورة جعل الأجور عادلة تكفي معيشة العامل وعائلته بصورة كريمة لائقة بالإنسان ".
فالإسلام قد سبقها إلى ذلك في صورة لم يعرف لها العصر الحديث مثيلا حيث قدر أن للعامل جميع متطلبات الحياة الإنسانية الأساسية، فقد قال المستورد بن شداد بن عمرو: سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن كان لنا عامل فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا (1) » .
وعلى ضوء هذا الحديث يمكن أن نقدر أجور العمال في إطار مطالب الحياة الرئيسية.
فأين هذا من تلك النظريات الاقتصادية التي تنادي بجعل الأجور على حد الكفاف، أو تربطها بالإنتاج الذي يؤدي إلى الجهالة والغرر، ويفضي إلى الشقاق بين العامل ورب العمل.
فصلى الله على محمد ما أرحمه بأمته وأرأفه بهم! وصدق الله تعالى حيث يقول: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2) .
* * *
__________
(1) سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2945) ، مسند أحمد بن حنبل (4/229) .
(2) سورة التوبة الآية 128(4/256)
المبحث الثاني
تسعير أجور العقارات
كما أن الناس بحاجة إلى الغذاء والكساء فهم بحاجة إلى المسكن الذي يأويهم ويقيهم القر والحر. وكما يوجد فئة من الناس تحتكر الأقوات وتتحكم فيها نجد فئة أخرى تقوم ببناء المساكن وتتحكم في تأجيرها بفرض أجور باهظة لا يقوى على دفعها الكثير من الناس.
ففي هذه الحالة يجب تحديد أجور العقارات منعا من الاستغلال والاحتكار والتعسف في استعمال حق التملك.
ويقصد بتحديد أجور العقار تقييم منافعها فقد تكون الحاجة إلى منافع العقارات لا إلى أعيانها، فإذا كانت هناك حاجة عامة لهذه المنافع التي يملكها بعض الناس فعليهم بذلها بأجرة عادلة لا غبن فيها ولا إجحاف بأي طرف من الأطراف.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية: " ونظير هؤلاء صاحب الخان والقيسارية والحمام إذا احتاج الناس إلى الانتفاع بذلك، وهو إنما ضمنها ليتجر فيها، فإذا امتنع من إدخال الناس إلا بما شاء، وهم محتاجون لم يمكن من ذلك وألزم ببذل ذلك بأجرة المثل، كما يلزم الذي يشتري الحنطة ويطحنها ليتجر فيها. . . . ".
فيجب تحديد الإيجارات إذا كان ارتفاعها نتيجة لاحتكار أرباب العقار للمساكن وتواطئهم على رفع أجورها.
أما في حالة ما إذا كان ارتفاع الإيجارات ناتجا عن قلة المساكن وكثرة الطلب عليها فإن تحديد الإيجارات هنا يكون ضربا من ضروب الظلم والعدوان فضلا عن أنه يحد من نشاط الحركة العمرانية في البلاد، كما هو الحال في بلادنا فإن ارتفاع إيجارات المساكن ليس نتيجة لاتفاق أصحابها على رفعها، وإنما سببه في الغالب قلة العقار المعد للإيجار والكثرة الهائلة من طالبي الاستئجار.(4/257)
طريقة تحديد الإيجارات
رأينا أنه في حالة ما إذا كان ارتفاع الإيجارات ناتجا عن جشع أصحاب العقارات وتواطئهم على رفعها، تعين على ولي الأمر تحديد هذه الإيجارات منعا من الاستغلال.
وعند تحديد الإيجارات يجب على ولي الأمر أن يجمع أصحاب الشأن - من مؤجرين ومستأجرين - وأهل الخبرة المختصين بالإسكان ويناقشهم في الأمر، ويعرف منهم أسباب ارتفاع الإيجارات، وما ينفقه أصحاب العقارات على تشييدها من مواد البناء وسعر الأرض، مع مراعاة ما يتمتع به كل عقار من مميزات من حيث الموقع ونوع البناء والمرافق وما إلى ذلك، حتى يتوصل إلى تحديد أسعار للإيجارات ترضي الجميع، فلا يكون فيها ظلم للمستأجر ولا إجحاف بالمؤجر.
ولا بد أن يكون جميع من وكل إليهم النظر في هذا الأمر من أهل التقوى والصلاح حتى يؤمن عليهم من محاباة طرف دون طرف.
ولكن هل يكون الإيجار الذي حدده ولي الأمر لازما ما دام العقار قائما بغض النظر عما يحدث من تغير الظروف وتبدل الأحوال؟
فيما يبدو لنا أنه يجوز رفع قيمة الإيجار إذا تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال، كأن ارتفعت أسعار السلع ارتفاعا كبيرا، وزادت الدخول والمرتبات زيادة ملحوظة، وارتفع مستوى المعيشة مما جعل الإيجار المتفق عليه شيئا ضئيلا لا يتناسب مع مستوى الأسعار العام، مما يجعل المالك يشعر بالظلم والغبن الفاحش.
وهذا بلا شك يتفق مع العدالة الإسلامية والقاعدة الشرعية التي أرساها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «لا ضرر ولا ضرار (1) » .
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .(4/258)
الفصل الثالث
إلزام ولي الأمر بسعر السوق وعدم النقص عنه
رأينا فيما سبق أن لولي الأمر - في حالة إغلاء التجار الأسعار - أن يلزم التجار بالبيع بسعر معين لا يتجاوزونه وإلا تعرضوا للعقاب.
ولكن ما الرأي فيما إذا باع أحد التجار بضاعته بسعر أقل من السعر الذي تباع به في السوق؟
ذهب الفقهاء في ذلك إلى رأيين:
الأول: أن لولي الأمر أن يتدخل فيمنع التجار من البيع بأنقص من سعر السوق وهذا مذهب بعض المالكية وحكى ابن قدامة أنه مذهب مالك.
الثاني: ليس لولي الأمر أن يتدخل في هذه الحالة ليلزم التجار بالبيع بسعر السوق وهو مذهب جمهور الفقهاء.
وفيما يلي نتناول هذين الرأيين بشيء من التفصيل مع بيان أدلة كل رأي ومناقشتها:
الرأي الأول:
استدل أصحاب هذا الرأي إلى أدلة أهمها:
أولا: ما رواه مالك بن أنس عن يونس بن سيف عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبا له بالسوق فقال له عمر: " إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا ".(4/259)
ووجه الاستدلال من هذه القصة أن عمر بن الخطاب أمر حاطبا بالبيع بسعر السوق أو القيام منه، مما يدل على مشروعية الإلزام بالبيع بسعر السوق وعدم النقص عنه.
ويجاب عن ذلك بأن هذه القصة جاءت في رواية أخرى عن الشافعي أن عمر بن الخطاب بعدما أمر حاطبا بالرفع من السوق ذهب إليه في داره، وقال له: " إن الذي قلت لك ليس بعزمة مني ولا قضاء، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع ".
ومن هذا يتبين لنا أن عمر رضي الله عنه عندما أمر حاطبا بالبيع بسعر السوق وعدم النقص عنه إنما كان اجتهادا منه، ثم تراجع عن موقفه عندما تبين له خطؤه.
ثانيا: أن بيع أحد التجار بسعر يقل عن سعر السوق ربما يؤدي إلى الخصومة والمنازعة بينه وبين أهل السوق من التجار.
ويجاب عن ذلك بأن وقوع الخصومة والمنازعة بسبب البيع بسعر أقل من سعر السوق؛ إنما هو مجرد احتمال ولو حدث فإن لولي الأمر سلطة القضاء على الخصومات والمنازعات.
ثالثا: أن التجار قد يضطرون إلى مجاراة البائع الذي يبيع بأقل من سعر السوق فيؤدي ذلك إلى خسارتهم.
ويجاب عن ذلك بأن التاجر الذي يبيع بأقل من سعر السوق إذا كان يبيع بأقل من ثمن المثل فسوف يزول من السوق بسبب خسارته، أما إذا كان يبيع بزيادة قليلة على ثمن المثل (أي أنه يقنع بربح قليل) فإن التجار إذا جاروه في ذلك يكون فيه مصلحة لعامة الناس.
* * *
الرأي الثاني
يرى أصحاب هذا الرأي أن البيع بأقل من سعر السوق فيه مصلحة لعامة الشعب من المستهلكين؛ لأنه يضطر بقية التجار إلى خفض أسعارهم مما يؤدي إلى رخص الأسعار بصفة عامة فيعم الرخاء وهذه مصلحة كبرى، والإلزام بالبيع بسعر السوق قضاء على هذه المصلحة فلا يجوز.
وقد يقال إن الذي يبيع بأقل من سعر السوق يقصد الإضرار بأهل السوق من التجار وذلك بإفلاسهم.
ويجاب عن ذلك بأن فردا واحدا أو بضعة أفراد لا يتمكنون من إفلاس جميع التجار، ولو فرض تحقق ذلك وظهر هذا القصد وجب على ولي الأمر التدخل والإلزام بسعر السوق.
وقد يقال أيضا بأن البيع بأقل من سعر السوق ربما يمنع الجالبين عن الجلب؛ لأنهم إذا علموا بمن يبيع برخص امتنعوا عن جلب بضائعهم.(4/260)
ويجاب عن ذلك بأن هذا مجرد فرض ممن لا يعرف حال الأسواق والتجار، ومع ذلك لو فرض تحقق ذلك فإن ولي الأمر يستطيع - بما لديه من إمكانيات - جلب البضائع وطرحها في الأسواق وبيعها بسعر التكلفة فيعم بذلك الرخاء بين الناس.
* * *
الرأي الراجح
مما سبق يتضح لنا أن الرأي الراجح هو رأي جمهور الفقهاء القائل بعدم تدخل ولي الأمر في حالة البيع بسعر أقل من سعر السوق لما في ذلك من مصلحة عامة للناس.
كما تبين لنا عدم صحة الرأي الأول نظرا لضعف أدلته حيث سبق أن أجبنا عن كل دليل منها.
والله ولي التوفيق(4/261)
الفصل الرابع
تنظيم التسعير
يتضمن هذا الفصل ثلاثة مباحث
الأول: الحالات التي يجب فيها التسعير
الثاني: ضرورة الاستعانة بأهل الخبرة في التسعير
الثالث: مراقبة الأسعار من قبل ولي الأمر
المبحث الأول
الحالات التي يجب فيها التسعير
لا يتحتم التسعير في كل الأوقات والأحوال وإنما يتعين الأخذ به في حالات معينة تتحقق فيها حكمة إيجابه وتحصل منها نتيجة تشريعه.
وسبب تحديد هذه الحالات التي يجب الأخذ فيها بسياسة التسعير أن الضرورة تقدر بقدرها، والتسعير كقيد يوضع على حرية التعامل إنما يأتي للضرورة ودفعا للحرج، ومن ثم يجب أن يكون بقدر الضرورة التي تستوجبه.
وأهم الحالات التي يجب فيها التسعير عند القائلين به هي:
1 - عند حاجة الناس إلى السلعة.
2 - في حالة الاحتكار.
3 - في حالة حصر البيع في أناس مخصوصين.(4/262)
4 - في حالة تواطؤ البائعين وتآمرهم على المشترين أو العكس.
وفيما يلي نتناول هذه الحالات بشيء من الإيضاح:
* * *(4/263)
1 - حاجة الناس إلى السلعة
عندما يكون الناس في حاجة ماسة إلى سلعة معينة يجب على ولي الأمر تسعيرها خشية استغلال التجار هذه الحاجة إلى السلعة فيرفعون سعرها، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " لولي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس بحاجة ماسة، فإنه يجبر على بيعه للناس بقيمة المثل، ولهذا قال الفقهاء: من اضطر إلى طعام الغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة مثله، ولو امتنع عن بيعه إلا بأكثر من سعره لم يستحق إلا سعره ".
وإنما يجب التسعير في مثل هذه الحالة لأنه علاج لحاجة عامة، ولذلك يقول ابن تيمية: " ما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس فإنه يجب ألا يباع إلا بثمن المثل، إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة، وإن ما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله ".
ويقصد بحقوق الله في الفقه الإسلامي ما نعنيه اليوم بالحقوق العامة، ولا شك أن ضمان الحقوق العامة تهون في سبيله المنافع الشخصية والأطماع الفردية.
وبعبارة أخرى فإن كفالة حق المجتمع في الحصول على حاجياته الأساسية التي يشترك في الاحتياج إليها جميع أفراده أو أكثرهم كالخبز والغذاء بصفة عامة، تستوجب تسعير هذه الأشياء طالما ظلت حاجة الناس إليها عامة، وذلك مخافة استغلال الباعة هذه الحاجة.
* * *(4/263)
2 - حالة الاحتكار
ويراد بالاحتكار حبس الشيء عن البيع والتداول بقصد إغلاء سعره.
والاحتكار محرم بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يحتكر إلا خاطئ (1) » . وقوله: «من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1605) ، سنن الترمذي البيوع (1267) ، سنن أبو داود البيوع (3447) ، سنن ابن ماجه التجارات (2154) ، مسند أحمد بن حنبل (6/400) ، سنن الدارمي البيوع (2543) .(4/263)
فهو خاطئ، وقد برئت منه ذمة الله (1) » ، وقوله أيضا: «من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله منه (2) » .
ولا شك أن القرآن الكريم جاء صريحا في النهي عن كنز الذهب والفضة، وجاء صريحا في الأمر بتداول المال ومنع الاستغلال.
وفضلا عن تلك النصوص الصريحة القاطعة في النهي عن الاحتكار فإن القواعد العامة للشريعة الإسلامية القاضية بالعدل والتيسير على الناس بنفي الحرج والمشقة ودفع الضرر عنهم تفيد النهي عن الاحتكار لما فيه من الإضرار بالناس.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " ومثل ذلك - أي من حيث كونه منكرا يمنع- الاحتكار لما يحتاج إليه الناس، لما روى مسلم في صحيحه «لا يحتكر إلا خاطئ (3) » فإن المحتكر هو الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام فيحبسه عنهم ويريد إغلاءه عليهم، وهو ظلم للخلق المشترين، ولهذا كان لولي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل ".
فالإكراه على البيع بقيمة المثل هو التسعير، وفي حالة الاحتكار مع حاجة الناس إلى المادة المحتكرة تشتد الحاجة إلى التسعير.
* * *
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/351) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/33) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1605) ، سنن الترمذي البيوع (1267) ، سنن أبو داود البيوع (3447) ، سنن ابن ماجه التجارات (2154) ، مسند أحمد بن حنبل (6/400) ، سنن الدارمي البيوع (2543) .(4/264)
3 - حالة الحصر
قد تلجأ بعض الدول والمجتمعات إلى حصر البيع في أناس مخصوصين بالنسبة لبعض المواد أو في بعض الظروف والأحوال، بصرف النظر عن حصول ذلك بحق لفائدة المستهلكين أو حصوله استبدادا وتحكما واستغلالا.
ومثل هذه الحالة قد تمكن البائعين الذين قصر عليهم البيع من رقاب المشترين، وقد عالج ابن تيمية - رحمه الله - مثل هذه الحالة بقوله: ". . . وأبلغ من هذا أن يكون الناس قد التزموا ألا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون، لا تباع تلك السلع إلا لهم ثم يبيعونها هم، فلو باع غيرهم ذلك منع - فهنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل. . . فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع. . . ".(4/264)
وإيجاب التسعير في هذه الحالة يعلل بأنه اتخاذ ما يلزم شرعا لتفادي الظلم ودفعه، وهي حالة تشبه الاحتكار إلا أن الفارق هو جواز ترخيص الدولة لجهة معينة أو لفرد معين بالاستئثار بإنتاج أو توزيع مادة أو سلعة معينة، فيتعين على الدولة في مثل هذه الحالة أن تقرن مثل هذا الترخيص بتسعير جبري لهذه المادة أو السلعة دفعا لاحتمالات الاستبداد بالمستهلكين من جانب صاحب الامتياز أو المرخص له.(4/265)
4 - حالة التواطؤ
وهذه حالة مزدوجة تتمثل في تواطؤ البائعين وتآمرهم على المشترين بالبيع بسعر معين يتحقق لهم فيه ربح فاحش، أو على العكس قد يتواطأ المشترون على أن يشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا حق البائعين.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وقد منع غير واحد من الفقهاء كأبي حنيفة وأصحابه القسام الذين يقتسمون العقار وغيره بالأجرة أن يشتركوا؛ فإنهم إذا اشتركوا والناس محتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجر، فمنع البائعين الذين تواطئوا على ألا يبيعوا إلا بثمن قدروه أولى، وكذلك منع المشترين إذا تواطئوا على أن يشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا سلع الناس أولى ".
وقال ابن القيم - رحمه الله -: " ولا ريب أن هذا أعظم إثما وعدوانا من تلقي السلع وبيع الحاضر للبادي ومن النجش " وهي من المعاملات المنهي عنها نهيا صريحا في الإسلام.
ونحن نعتقد أن حالة تواطؤ البائعين تنطوي تحت حالة الاحتكار بمعنى الامتناع عن البيع إلا بسعر فاحش، وإن كانت تزيد عليها بأنها لا تكون حالات فردية وإنما تأخذ صورة تآمر وتوافق على السعر الباهظ إعناتا للمشترين، الأمر الذي يوجب فرض التسعير من جانب الدولة.
وكذلك في الصورة العكسية وهو تواطؤ المشترين إضرارا بأرباب السلع، ويجب فرض التسعير عليهم دفعا للضرر، فالدولة الإسلامية لا تترك أحدا يجحف بحق أحد.
والقاعدة العامة في الحالات التي يجب فيها التسعير أنه كلما استولى على التجار الجشع وتمكن من نفوسهم الطمع، وسيطرت عليهم الأنانية، وعمدوا إلى الاحتكار والاستغلال، تعين على ولي الأمر التدخل بتحديد الأسعار.(4/265)
المبحث الثاني
الاستعانة بأهل الخبرة في التسعير
حتى يتمكن ولي الأمر من تحديد سعر مناسب لا يكون فيه ظلم لأحد الطرفين - البائع والمشتري - لا بد أن يستعين في ذلك بأهل السوق من التجار، وبأهل الخبرة في هذا الشأن كرجال الاقتصاد.
فليس لولي الأمر أن يفرض على التجار سعرا لا يرضونه، كأن يأمرهم بالبيع بأقل مما اشتروا به أو بمثله، وكذلك ليس من حقه أن يعطي التجار أرباحا هائلة على حساب المشترين، بل عليه أن يجمع التجار ويعرف مقدار ما يشترون به، ويستعين بأهل الخبرة في تقدير الربح المناسب للتجار والمشترين.
وفي هذا الشأن يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ". . . وأما صفة ذلك عند من جوزه فقال ابن حبيب: ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء - المراد تسعيره - ويحضر غيرهم استظهارا على صدقهم فيسألهم:
كيف يشترون؟
وكيف يبيعون؟
فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد حتى يرضوا، ولا يجبرون على التسعير ولكن عن رضا. ونقل عن أبي قوله: ووجه ذلك أنه بهذا يتوصل إلى معرفة مصالح الباعة والمشترين، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم ولا يكون فيه إجحاف بالناس، وإذا سعر عليهم من غير رضا بما لا ربح لهم فيه أدى ذلك إلى فساد الأسعار وإخفاء الأقوات وإتلاف أموال الناس ".
وليس المقصود بالرضا من جانب البائعين أن يكون السعر موافقا لهواهم محققا لمصلحتهم الشخصية، ولكن المقصود هو أن يكون السعر عادلا وغير مجحف بالبائعين، أي يتحقق لهم فيه ربح معقول.(4/266)
واشتراط أن يكون السعر عادلا في التسعير الإسلامي أمر لا بد منه؛ لأن التسعير ما جعل إلا رفعا للظلم فلا يسوغ أن يكون هو في ذاته ظلما.
وانتفاء صفة العدل عن التسعير يدعو إلى التهرب منه ومخالفته، وقد يؤدي إلى توقف التجار عن الاتجار في السلعة التي لا يتحقق لهم في سعرها ربح معقول. وهذا ما توقعه أشهب فيما رواه عن الإمام مالك في صاحب السوق يسعر على الجزارين. . . لحم الضأن بكذا، ولحم الإبل بكذا وإلا خرجوا من السوق، قال: " وإذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس بهم، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق ".
فكل سعر يحدد جزافا بدون مناقشة أصحاب السلعة للوقوف على كيفية شرائها وتكاليف نقلها إلى غير ذلك، يؤدي إلى تنفير البائعين من التجارة وإشعارهم بالظلم، والإسلام دين عدل ومساواة لا يهضم حق أحد ولا يرضى بأن يهضم أحد.
* * *(4/267)
المبحث الثالث
مراقبة الأسعار
إن التسعير كضرورة تقتضيها المصلحة العامة لا يحقق الهدف المنشود منه، وهو رعاية مصالح الناس ومنع الاستغلال والاحتكار، إلا إذا صاحبه مراقبة دقيقة من قبل ولي الأمر لمنع التجار من التلاعب بالأسعار.
فمهمة ولي الأمر لا تقف عند تحديد الأسعار، بل تتعداه إلى مراقبة الأسعار وتفقد الأسواق بصفة دائمة حتى يطمئن إلى أن البيع والشراء يتم وفقا لما حدده لهم.
والذي يمثل ولي الأمر في القيام بمهمة مراقبة الأسواق إنما هو المحتسب المختص بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا شك أن مخالفة التسعير والغلو في الأسعار من المنكرات التي يناط بالمحتسب إنكارها والنهي عنها والعقاب عليها.
ورقابة الأسعار والإشراف على الأسواق من أهم واجبات المحتسب، فهو ينظر في مراعاة أحكام الشرع. ويشرف على نظام السوق، ويكشف على الموازين والمكاييل منعا للغش والتطفيف.
ومما لا شك فيه أن النفوس البشرية مجبولة على الطمع والجشع في كل زمان ومكان، فإذا ترك لها الزمام دون رقابة أو تفتيش لم تقم وزنا للأنظمة والقوانين.
ولهذا فقد اهتمت حكومتنا الرشيدة بهذا الأمر وأولته ما يستحق من عناية فأصدرت بشأنه القرارات التي تنظمه، ونخص بالذكر منها قرار مجلس الوزراء رقم 680 الصادر في 15 \ 5 \ 1397هـ والذي ينص على ما يأتي:
" يعهد إلى كل من سمو وزير الداخلية ومعالي وزير التجارة باتخاذ الإجراءات المشددة لمراقبة الأسعار في الأسواق والحيلولة دون حدوث أي زيادة في الأسعار والضرب على أيدي العابثين بها بشدة رادعة ".(4/268)
الفصل الخامس
عقوبة مخالفة التسعير
لما كان ولي الأمر معنيا برعاية مصالح الناس والنظر فيما تستقيم به شئون حياتهم من تحديد أسعار ومراقبة الأسواق، وكان عليه أيضا تقرير عقوبة رادعة للمخالف الذي لا يمتثل للأوامر؛ إذ إن طاعة ولي الأمر واجبة فقد قال الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) ومخالفة ولي الأمر تعتبر معصية تستوجب العقوبة.
والمعاصي تنقسم بالنسبة للعقوبات إلى قسمين:
ا - قسم فيه عقوبة محددة كالحدود والقصاص والديات والكفارات.
ب - قسم ليس فيه عقوبة محددة، بل متروك شأنها لأولياء الأمر والقضاة يفرضون منها في كل حالة ما يناسبها من عقوبات تسمى بالتعزيرات.
وهذا القسم يدخل تحته عقوبة مخالف التسعير.
وأنواع العقوبات التعزيرية كثيرة أهمها: الزجر والجلد والنفي والحبس والعزل والتشهير والعقوبة بالمال.
فلولي الأمر أن يختار من هذه العقوبات ما يراه ملائما لردع مخالف التسعير؛ لأن الناس يتفاوتون فمنهم من يكفي لردعه الزجر والتوبيخ، ومنهم من لا يردعه إلا الحبس والجلد، كما أن اختلاف الزمان له تأثير في اختلاف العقوبة، فما كان رادعا في الزمن الماضي قد لا يكفي لردع الناس في زمننا الحاضر.
وقد روي عن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا. فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟
__________
(1) سورة النساء الآية 59(4/269)
قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس. من غشنا فليس منا (1) » .
وكان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب بالدرة من رآه يأتي منكرا مما يستوجب التعزير.
ولهذا قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " إن عقوبات التعزير تختلف مقاديرها وصفاتها بحسب كبر الذنوب وصغرها، وبحسب حال المذنب في قلته وكثرته ".
وقال ابن القيم - رحمه الله -: " يتغير التعزير بحسب اقتضاء المصلحة زمانا أو مكانا أو حالا، ويختلف تقدير العقوبة فيه حسب خطر الجريمة وتأصلها في نفس المجرم ".
والعبرة - بصفة عامة - في التعزير، بكل ما فيه من إيلام الإنسان من قول أو فعل.
ومن رحمة الله تعالى بعباده أن وكل تقدير عقوبة التعزير عموما إلى الحاكم ليراعي ظروف مرتكب الجريمة وزمانه، لهذا تجد أن الشريعة الإسلامية فيها من السعة والعموم والشمول والمرونة ما يسمح بتطبيقها في كل زمان ومكان، ويكفي أنها شريعة من عند الله الرحمن الرحيم الذي يعلم السر وأخفى.
* * *
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (102) ، سنن الترمذي البيوع (1315) ، سنن ابن ماجه التجارات (2224) ، مسند أحمد بن حنبل (2/242) .(4/270)
عقوبة مخالفة التسعير في المملكة العربية السعودية
لقد كانت - ولا زالت - حكومة جلالة الملك - حفظه الله - تعمل كل ما في وسعها لتحقيق مصالح الناس وحمايتهم من الاستغلال والجشع، لذلك فقد خولت الوزارء المختصين (وهم وزراء الداخلية والتجارة والزراعة والصحة والصناعة والكهرباء) بوضع الأسعار المناسبة للسلع، واعتبرت مخالفة هذه الأسعار جريمة تستوجب العقاب.
وقد جاء في الفقرة (ثانيا) من قرار مجلس الوزراء رقم 855 الصادر في 26 \ 5 \ 1396 هـ ما نصه:
" يعاقب بغرامة من خمسة آلاف إلى خمسين ألف ريال، ومصادرة فرق السعر، مع إغلاق المحل بالشمع الأحمر من ثلاثة أيام إلى شهر أو إيقاف المخالف من ثلاثة أيام إلى شهر أو جميعها مع مصادرة السلع المضبوطة ونشر القرار على نفقته في إحدى الجرائد المحلية:
أ- كل من باع مادة من المواد التموينية بأكثر من السعر المحدد لها في قرار وزير التجارة أو قام بإنقاص وزنها المحدد.(4/270)
ب - كل من باع إحدى المواد المحدد لها نسبة ربح للتاجر بقرار من وزير التجارة إذا تم البيع بما يجاوز هذه النسبة.
ج - كل من قام بتخزين سلعة أو أكثر أو منعها عن السوق بقصد رفع السعر.
د - كل من امتنع عن بيع سلعة من السلع أو فرض أي قيد على بيعها.
هـ - كل مصنع محلي أو معمل بلك أو منجرة باع أو عرض للبيع منتجاته بأكثر من السعر الذي تحدده وزارة الصناعة والكهرباء.
وكل من باع أو عرض للبيع المنتجات الزراعية المحلية من الخضراوات وكذلك منتجات مزارع الدواجن والألبان ومنتجاتها بأكثر من السعر الذي تحدده وزارة الزراعة ".
وهذه من العقوبات التعزيرية التي تقرها الشريعة الإسلامية، والأمر متروك للحاكم في مضاعفة العقوبة أو التخفيف منها حسب ما تقتضيه المصلحة، فلا يتحتم الوقوف عند العقوبات الواردة في هذا النص.
والله ولي التوفيق(4/271)
الخاتمة
من خلال بحثنا لموضوع التسعير واستعراض آراء الفقهاء وما استندوا إليه من أدلة على النحو السابق يتضح لنا: أنه يتعين القول بالتسعير إذا توافر شرطان:
أحدهما: ألا يكون سبب الغلاء هو كثرة الطلب وقلة المعروض من السلع، والثاني: أن تكون حاجة الناس للسلعة عامة.
فكلما كانت مصالح الناس ومنفعتهم العامة في التسعير تعين اتخاذه، وهذا أمر نسبي يختلف باختلاف الزمان والمكان، ويتسع تطبيقه ويضيق بحسب قوة الوازع الديني في النفوس ومدى متانة الأخلاق في المجتمع.
فإذا اندفعت حاجة الناس وقامت مصلحتهم بدون التسعير، فلا داعي له لما فيه من تقييد لحرية التعامل الذي هو من المبادئ الأساسية في الشريعة الإسلامية.
أما إذا كانت حاجة الناس لا تندفع إلا بالتسعير ولا تتحقق مصلحتهم إلا به، كان واجبا على الحاكم أن يسعر عليهم تسعير عدل لا وكس فيه ولا شطط.
والله الموفق
د. محمد بن أحمد الصالح(4/272)
مصادر ومراجع هذا البحث
أولا: القرآن الكريم.
* * *
ثانيا: التفسير:
1 - تفسير القرآن العظيم لابن كثير.
2 - تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) .
3 - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
* * *
ثالثا: اللغة:
1 - الصحاح للجوهري.
2 - تهذيب الصحاح للزنجاني.
2 - القاموس المحيط لمجد الدين الفيروز آبادي.
1 - المعجم الوسيط.
* * *
رابعا: السنة:
1 - صحيح البخاري.
2 - فتح الباري في شرح البخاري لأحمد بن حجر العسقلاني.
3 - صحيح مسلم بشرح النووي.
4 - المسند للإمام أحمد بن حنبل.
5 - الفتح الرباني لأحمد عبد الرحمن البنا.
6 - مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري.(4/273)
خامسا: الفقه:
1 - المغني لابن قدامة.
2 - الكافي لابن قدامة.
3 - الإقناع لموسى الحجاوي المقدسي.
4 - كشاف القناع على متن الإقناع لمنصور البهوتي.
5 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني.
6 - حاشية ابن عابدين لمحمد أمين الشهير بابن عابدين.
7 - فتح القدير لكمال بن الهمام.
8 - مغني المحتاج إلى شرح المنهاج للشيخ محمد الشربيني.
9 - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي.
10 - المنتقى شرح موطأ مالك لسليمان الباجي.
11 - مواهب الجليل لشرح مختصر خليل لمحمد الطرابلسي المغربي.
12 - المحلى لابن حزم الظاهري.
* * *
سادسا: المراجع العامة:
1 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جزء 28.
2 - الحسبة في الإسلام لابن تيمية.
3 - آراء ابن تيمية في الدولة لمحمد المبارك.
4 - الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم الجوزية.
5 - التكافل الاجتماعي للشيخ محمد أبو زهرة.
6 - محاضرات في نظام الحكم في الإسلام لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد العال عطوة رئيس قسم السياسة الشرعية بالمعهد العالي للقضاء بالرياض.
7 - التعزير في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد العزيز عامر.
8 - التسعير في الإسلام - تأليف البشري الشوربجي.
9 - رسالة الإجارة والأجور للشيخ علي بن محمد التركي.
* * *(4/274)
الفهرس
1- مقدمة المؤلف............................ 234
الفصل الأول
2- معنى التسعير وحكمه......................... 237
3- المبحث الأول: تعريف التسعير.......................... 237
4- المبحث الثاني: حكم التسعير............................ 239
5- الرأي الأول: عدم جواز التسعير مطلقا............................ 239
6- الرأي الثاني: جواز التسعير فيما عدا قوت الآدمي وعلف البهائم............ 246
7- الرأي الثالث: جواز التسعير لاتفاق التجار على غلاء الأسعار............. 248
8- المبحث الثالث: رأي شيخ الإسلام ابن تيمية في حكم التسعير......... 250
الفصل الثاني:
9- تسعير أجور الأشخاص والعقارات............................ 252
10- المبحث الأول: أ- تسعير أجور الأشخاص........................... 252
11- ب - بيان حكم الشريعة الإسلامية............................ 254
12- ج- طريقة تحديد الأجور في الشريعة الإسلامية............................ 255
13- المبحث الثاني: أ- تسعير أجور العقارات............................ 257
14- ب- طريقة تحديد الإيجارات............................ 258(4/275)
الفصل الثالث:
15- إلزام ولي الأمر بالبيع بسعر السوق وعدم النقص عنه............... 259
16- الرأي الأول: لولي الأمر أن يتدخل فيمنع التجار من البيع بأنقص من سعر السوق.... 259
17- الرأي الثاني: ليس لولي الأمر أن يتدخل ليلزم التجارة بالبيع بسعر السوق.... 260
الفصل الرابع:
18- تنظيم التسعير........................ 262
19- المبحث الأول: الحالات التي يجب فيها التسعير..................... 262
20- المبحث الثاني: الاستعانة بأهل الخبرة في التسعير.................... 266
21- المبحث الثالث: مراقبة الأسعار............................ 268
الفصل الخامس:
22- عقوبة مخالف التسعير........................ 269
23 - عقوبة مخالف التسعير في الممكلة العربية السعودية................. 270
24- الخاتمة............................ 272
25- مصادر البحث 273(4/276)
أسعد بيوض التميمي
الإسراء وفلسطين
ودولة اليهود
الإسراء وعلاقته بقضية المسلمين في الأرض المباركة
اشتد الصراع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار من قريش حيث خافت قريش على ما يوفره الكفر لها من امتيازات طبقية ودينية وامتيازات اقتصادية وأخذ الصراع بين الحق والباطل يتصاعد بين الدين الجديد وما يمثله من خير للإنسان وما يعطيه للبشرية من حياة كريمة يعبد فيها الإنسان ربه الذي خلقه، ويسجد لبارئه الذي أوجده، فلا يسجد لبشر، ولا ينحني أمام حجر أو شجر، ولا يعبد فلكا ولا مظهرا من مظاهر الكون، وإنما يستمد العزة لنفسه من عبادة الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.(4/277)
اشتد الصراع بينه وبين الشرك وما يمثله من انحطاط في الفكر الإنساني والسلوك البشري الذي يظهر في السجود لحاكم أو رجل دين أو حجر أو شجر أو فلك، ذلك الانحطاط الذي ينتج عنه أن الغرائز في الإنسان تتحكم في مسيرته، لا مقياس عنده يقيس به الأمور ولا حلال ولا حرام، وإنما كل أمر مباح من قتل نفس أو ظلم إنسان أو أكل مال حرام، أو استعباد نفس وإذلال للخلق، فلا عجب أن ظهرت الطبقية العرقية الممثلة في السادة والعبيد والأشراف والسوقة، والطبقية الاقتصادية الممثلة في تجارة الربا وأكل أموال الناس بالباطل واستغلال حاجة الآخرين للإثراء غير المشروع، والطبقية الدينية بحيث يصبح الدين وفهمه احتكارا على طبقة معينة وناس مخصوصين يستغلون جهل الناس ويطلبون منهم أن يعبدوهم، ويطلبون منهم تقديم النذور والقرابين لهم ولما يمثلون.
* * *(4/278)
وأخذ الكفر يقاتل عن مواقعه بشراسة حتى اضطر المسلمون إلى الهجرة مرتين فرارا بدينهم وحرصا على عقيدتهم، وحتى يأذن الله بالفرج.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يقارع قومه الحجة، يبين باطل ما هم فيه وما عليه حياتهم ولكنهم أصابهم الكبر ولحق بهم العناد، وكان الله قد هيأ له زوجة صالحة تعتني بأمره وتدعمه بمالها، وتخفف عنه قسوة عناد قومه، وجهل عشيرته، وهيأ له كذلك عمه أبا طالب يحميه، ويمنعهم من قتله واغتياله، وإن لم يمنع عنه ما دون القتل والاغتيال من الأذى وهم مع ذلك يحسبون حساب عمه حين إيذائه، حتى إن بعضهم يطرح عليه سلى جزور وهو يصلي.
ثم إن خديجة رضي الله عنها وأبا طالب هلكا في عام واحد قبل هجرته بثلاث سنين، فعظمت المصيبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهلاكهما وذلك أن قريشا وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته منه، حتى نثروا التراب على رأسه الشريف صلى الله عليه وسلم فدخل الرسول بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول الله يقول لها:(4/278)
«يا بنية لا تبكي فإن الله مانع أباك» .
ولما استعصت قريش، وصمت آذانها وأغلقت قلوبها وعقولها، اتجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فلما وصلها عمد إلى نفر من ثقيف وهم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم ثلاثة إخوة عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومسعود بن عمرو بن عمير، وحبيب بن عمرو بن عمير، فردوه ردا غير جميل، فقال أحدهم وهو يمرط ثياب الكعبة: إن كان الله قد أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك، وقال الثالث: والله لا أكلمك كلمة أبدا، لئن كنت رسولا من الله كما تقول أنت أعظم خطرا من أن أرد عليك بالكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خبر ثقيف، وقد قال لهم فيما ذكره شيخ المؤرخين المسلمين الطبري وأنا أروي عنه: «إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني» . وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى بستان لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يناجي ربه مناجاة الصابر المحتسب يطلب منه المدد والعون حيث قومه لا يستجيبون للنور ولا يلتقون على الخير، والطائف كانت أسوأ من مكة، وأقسى من قريش، فأخذ يقول كما يروي الطبري: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك» .
* * *(4/279)
في هذا الجو القاتم الشرس كان الله بنبيه رءوفا رحيما، وكانت حادثة الإسراء من مكة إلى القدس، وكان المعراج من أرض المسجد الأقصى إلى السماوات العلا إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، وكان في الإسراء أكثر من معنى، وأثره لا يزال على مر الأيام وكر السنين.
يكرم الله نبيه على صبره ويجازيه الجزاء الأوفى على تحمله فيستدعيه إليه ويقربه منه، ويرفعه إلى درجة لم يصلها أحد من خلقه حتى ولا الملائكة المقربون. ويقدم له أرض الشام، أرض فلسطين، أرض القدس، المسجد الأقصى هدية إيمان وجائزة رضوان، فيفتح النبي أرض الشام، ومنها أرض فلسطين فتحا ماديا بجسده الشريف، ويعلن الله للدنيا في ذلك الحين وللدنيا بعد هذا الحين وللدنيا في كل حين أن المسجد الأقصى أصبح مسجدا للمسلمين، فيصلي فيه النبي الصلاة الإسلامية الأولى إماما للأنبياء المرسلين حيث أحياهم الله له(4/279)
ويصلي الصلاة الثانية بعده عمر وأبو عبيدة وكبار الصحابة والجنود المؤمنون يوم أن دخل عمر القدس، واستلمها من بطريركها صفرونيوس وأعطاه العهدة العمرية التي تنص فيما نصت عليه ألا يسكن إيليا (القدس) أحد من اللصوص واليهود، وذلك أن كبار أصحاب رسول الله كانوا على علم منه لا يعلمه بقية الناس، وهذا النص في الوثيقة يدل على مبلغ فهم عمر لخطر اليهود على هذه الأرض.
* * *(4/280)
ويذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم هذا الخبر العظيم فيقول في أول سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1)
وسورة الإسراء تتحدث عن المسجد الأقصى وإسراء النبي إليه، وتقرر أن هذا المسجد الذي بني بعد البيت الحرام بأربعين سنة، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصل (2) » . فعاد للمسجد بالإسراء قدسيته وطهره حيث كان المسجد خرابا يبابا لا يصلي فيه أحد إلى أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم فتقررت مسجديته في القرآن، واستلمه عمر فكان ينظفه هو وأصحابه من الكناسة وطهروه وأصبح من يومها منارة علم، ودار إيمان، ومحجة زوار، ومحراب صلاة.
إذن سورة الإسراء تتحدث عن علاقة المسلمين بالمسجد، وأن المسجد للمسلمين حيث أسري بنبيهم إليه، وتقرر بركة أرض الشام أو أرض فلسطين، وتبدأ بعد ذلك في الحديث عن الفساد والعلو لليهود والتدمير الذي سيلحق بهم، وأنهم سينازعون المسلمين أرض الإسراء والمسجد الأقصى.
وهنا لا بد أن نقرر أن علماء التفسير اختلفوا اختلافا كبيرا في (العلوين والإفسادين) اللذين أشارت إليهما الآية وهي قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} (3) {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} (4) . . فقال قوم هم أهل بابل، وكان عليهم بختنصر، قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وقال قتادة: أرسل عليهم جالوت فقتلهم، فهو وقومه أولو بأس شديد. وقال مجاهد: جاءهم جند من فارس يتجسسون أخبارهم ومعهم بختنصر. وقال محمد بن إسحاق: إن المهزوم سنحاريب ملك بابل. وقيل: إنهم العمالقة، إلى غير ذلك من الأقوال المتضاربة، ونحن حين ننظر إلى الآيات نظرة موضوعية نجد الأشياء الآتية:
__________
(1) سورة الإسراء الآية 1
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3366) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (520) ، سنن النسائي المساجد (690) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (753) ، مسند أحمد بن حنبل (5/156) .
(3) سورة الإسراء الآية 4
(4) سورة الإسراء الآية 5(4/280)
أولا: الآيات مكية وتتحدث عن علوين وإفسادين لليهود فهل معنى هذا أن العلوين قبل نزول الآية أم أنهما آتيان؟
مما لا شك فيه أن اليهود دمروا أكثر من مرة قبل الإسلام، وقبل نزول الآيات فقد سباهم البابليون، ودمرهم الرومان، وذلك أنه منذ أن غضب الله عليهم نتيجة سوء تصرفهم وحقدهم على الله وأنبيائه غضب الله عليهم وجعلهم يتصرفون تصرفا يلجئ البشرية إلى إذلالهم وضربهم. يقول الله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) ، ثم تقرر آية أخرى في سورة أخرى أن العذاب سيستمر في اليهود والتدمير لهم إلى يوم القيامة: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} (2) . .
إذن لا غرابة أن يكون إفساد اليهود وعلوهم ثم تدميرهم أكثر من مرة قبل الإسلام ولا غرابة أن يكون كذلك علوا وفسادا بعد الإسلام ثم تدميرهم.
وليس هناك ما يمنع أن يكون الفساد والعلو ثم التدمير لمرتين بعد نزول الآيات والواقع أن المتعمق في الآيات يجد المرتين في علو اليهود وإفسادهم ثم تدميرهم هما بعد نزول آيات الإسراء.
وذلك أن الله يقول: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} (3) {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا} (4) ، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمان ولا علاقة لما بعدها بما قبلها، فوجود كلمة " إذا " في الآية تدل على أن الفساد والعلو ثم التدمير الأول آت وأنه لم يمر، كما أن استعمال إذا للمرة الثانية يدل على أنها آتية لم تمر كذلك.
وقوله تعالى: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ} (5) . .
إن الذين سيتولون تدمير اليهود هم من المؤمنين؛ إذ إن الله سبحانه وتعالى حين يضيف كلمة العباد لذاته تكون في موضع التشريف ويخص بها المؤمنين، يقول الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} (6) ، ويقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (7) ، ويقول:
__________
(1) سورة البقرة الآية 61
(2) سورة الأعراف الآية 167
(3) سورة الإسراء الآية 4
(4) سورة الإسراء الآية 5
(5) سورة الإسراء الآية 5
(6) سورة الفرقان الآية 63
(7) سورة الزمر الآية 53(4/281)
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} (1) . .
وأعظم منزلة للنبي صلى الله عليه وسلم أنه عبد الله ورسوله.
وفي التحيات: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (2) » .
وهذا التشريف والتكريم الإيماني لا ينطبق على البابليين ولا على الرومان؛ لأنهم جميعا من الوثنيين، إذن ينطبق هذا الوصف على رسول الله وأصحابه الذين جاءوا إلى المدينة ولليهود فيها نفوذ سياسي واقتصادي.
وكان من أول أعماله في المدينة إبرام المعاهدة السياسية بينه وبين اليهود، وأن اليهود جماعة مستقلة وأن المسلمين جماعة مستقلة، فلما غدر اليهود ونقضوا العهد كعادتهم ودأبهم سلط الله عليهم المسلمين فجاسوا خلال الديار اليهودية وتغلغلوا فيها وأزالوهم عن المدينة وخيبر وتيماء، وزال سلطانهم وتدمر علوهم، فكان ذلك من خلال معارك بني قريظة وبني النضير، ومعارك خيبر الشهيرة، وتأتي سورة الحشر لتؤكد هذا المعنى في قوله تعالى في وصف معارك المسلمين مع اليهود في المدينة: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} (3) . .
إذن هو أخرجهم لأول الحشر، فخرج قسم منهم إلى أذرعات من أرض الشام حتى تبدأ المرة الثانية من علوهم وفسادهم، ويقول الله: {وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} (4) يعني في عهد النبي والوحي ينزل، وأتمه أصحابه من بعده. وتبدأ الآيات بعد ذلك تتحدث عن المرة الثانية من العلو والفساد، فتخبر الآيات أن الله سيجعل لليهود الكرة عليهم، على من؟ على الذين جاسوا خلال الديار أول مرة، والكرة الدولة والسلطة. وحين أراد الله لليهود أن يكروا استعمل كلمة (ثم) وثم كما هو معروف معناها العطف مع التراخي أو المهلة فهل كر اليهود في التاريخ على البابليين وكانت لهم دولة وسلطة عليهم؟ لم يحدث ذلك في التاريخ ولن يحدث الآن، ولا في المستقبل؛ حيث إن البابليين قد انصرفوا من الدنيا كأمة وليس لهم مكان يعرفون فيه أو دولة يعيشون فيها، وحاشا لله ألا يصدق القرآن أو يكون خبره غير محقق، إذن لا بد أن تكون الكرة على أبناء الذين جاسوا خلال الديار وهم المسلمون أو العرب المسلمون فقد كر اليهود على ديار الشام وفلسطين منها وهذا هو الذي قد حدث ونعيشه الآن، ويعاني منه المسلمون كل المسلمين، وانظروا معي إلى بقية الآيات تمضي فتصف الواقع الذي نعيشه وتعيشه دولة اليهود إذ بعد أن جعل الله الكرة لليهود علينا يقول الله لليهود: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} (5) ، وهنا نسأل مرة أخرى، هل أمد الله اليهود في التاريخ بأموال وبنين غير هذه المرة؟ لم نعرف أن ذلك قد حدث، واليهود منذ أن غضب الله عليهم وهم في بلاء متصل وعذاب مستمر، فقبل الإسلام كان عذاب البابليين لهم والرومان، وبعد الإسلام أخرجهم المسلمون من الجزيرة ثم بدأت
__________
(1) سورة الإسراء الآية 1
(2) صحيح البخاري الأذان (831) ، صحيح مسلم الصلاة (402) ، سنن الترمذي النكاح (1105) ، سنن النسائي السهو (1298) ، سنن أبو داود الصلاة (968) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (899) ، مسند أحمد بن حنبل (1/428) ، سنن الدارمي الصلاة (1340) .
(3) سورة الحشر الآية 2
(4) سورة الإسراء الآية 5
(5) سورة الإسراء الآية 6(4/282)
أوربا تعذبهم في إسبانيا حتى جاء المسلمون فأنقذوهم من الأسبان واستمر العذاب، واليهودي في كل الأرض يعتبر إنسانا شريرا متآمرا يستحق التعذيب والقتل، وآخر من عذبهم في حياتنا المعاصرة هو أدولف هتلر ومعه النازيون.
وحتى نرى مبلغ صدق الآية، ونرى إعجازها بأعيننا نجد دولة اليهود اليوم تعيش على البنين الذين يأتونها من أطراف الأرض ليمدوها بالجند، وفي هذه الفترة من روسيا بالذات، وترى الأموال من دول الغرب تأتيها بمساعدات مذهلة حتى تستمر في عدوانها وطغيانها وجبروتها، ثم يقول الله: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} (1) ولذلك فإن أكبر قوة في الأرض أو أكبر دول الأرض تساند دولة اليهود في حال نفرتها وحربها.
* * *
__________
(1) سورة الإسراء الآية 6(4/283)
إذن هذه هي المرة الثانية من العلو فما بال الفساد؟ وحتى يتحقق الفساد فنرى اليهود في دولتهم يرتكبون أفظع الجرائم، بحيث فاقوا كل أنواع العذاب التي عانوا منها في زعمهم أو عاناه غيرهم، ولذلك يحذرهم الله، فيقول لهم: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (1) ، وهم قد أساءوا فقتلوا النفس الإنسانية وعذبوها، ويتموا الأطفال، وسجنوا النساء، وهدموا البيوت، واغتصبوا الأرض، وأقاموا المستعمرات، وحرقوا الأقصى في 21 \ 8 \ 1969. والأقصى عند الله عظيم ودنسوا مسجد الخليل عليه السلام، والخليل عند الله هو الخليل، وارتكبوا جريمة الجرائم في مسجد الخليل يوم أن عمدوا إلى كتاب الله القرآن العظيم فمزقوه وداسوه.
وهنا تأتي عقوبة الله على ما اقترفوا من الإثم والجرائم بتفسير من الآيات، إن دولتهم لن يطول فسادها ولا علوها فيقول الله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} (2) ، وهنا حين يخبر الله عن زوال دولتهم استعمل حرف الفاء للعطف، ولم يستعمل ثم، والفاء للعطف مع التعقيب، وتعقيب كل شيء بحسبه وما يناسبه وهو يدل على السرعة المناسبة في حصول المقصود، {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} (3) أي لذهاب علوهم الثاني تصبح وجوه بني إسرائيل سيئة، ويبشرنا ربنا جلت قدرته أننا سندخل المسجد الأقصى كما دخلناه أول مرة، وفي هذه الآية إشارة لطيفة إلى دخولنا المسجد مرتين، والمرتان حدثتا بعد نزول الآية، المرة الأولى الفتح العمري للمسجد حين دخله باسم الله والإسلام، والمرة الثانية هذه التي نحن على أبوابها حيث سيدخل المسلمون المسجد فاتحين
__________
(1) سورة الإسراء الآية 7
(2) سورة الإسراء الآية 7
(3) سورة الإسراء الآية 7(4/283)
للمرة الثانية، ثم يقرر الله أننا سنتبر أي ندمر، ونهلك علو اليهود المادي والمعنوي. ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن فلسطين لم تعرف العمارات ذات الطوابق التي تزيد عن أربعة أو خمسة طوابق إلا في ظل اغتصاب اليهود لها، ولذلك فإن هذه العمارات الشاهقة التي يقيمونها على الأرض المباركة سيلحقها التدمير والخراب، ثم تمضي الآيات فتحذر اليهود من محاولة العودة للفساد والتعالي فيقول الله لهم: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} (1) ، وتأتينا البشرى من الله بعد أن يفهمنا ربنا أن القرآن يهدي إلى الطريق السوي والحياة الصحيحة تأتينا البشرى بالنصر فيقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (2) ، وفي آخر السورة سورة الإسراء آية أخرى تتعلق بهذا الأمر، وهي قوله تعالى في آخر السورة: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} (3) ، ولفيفا جماعات ملتفة وفي بقية الآية إنذار لليهود وبشرى لنا، فيقول الله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (4) ، بشرى لنا وإنذار لهم، فإذا ربطنا هذه الآيات وتفسيرها بالحديث الذي يدلنا على صدق النبوة ومعجزة الرسول صلى الله عليه وسلم حين أخبرنا عن قتال اليهود فيما رواه الشيخان البخاري ومسلم، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود (5) » .
* * *
__________
(1) سورة الإسراء الآية 8
(2) سورة الإسراء الآية 9
(3) سورة الإسراء الآية 104
(4) سورة الإسراء الآية 105
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2926) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2922) ، مسند أحمد بن حنبل (2/417) .(4/284)
أيقنا بعد ذلك لماذا لم تنجح المحاولات لتثبيت دولة اليهود؟ وذلك أنه منذ سنة 1948، وكل محاولة للصلح وتثبيت دولة اليهود يفشلها اليهود أنفسهم، وذلك لأن الله يلهمهم الخطأ فيرفضون كل الحلول؛ لأن اليهود لا يعالجون أي أمر إلا بالحقد والتآمر والخديعة، ويقرر الله ألا عقل عندهم، فيقول: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} (1) ، وذلك كله يجري حتى يأتي اليوم الموعود يوم تتخلص المعركة أو ديار المسلمين من الإيديولوجيات المنافية للإسلام، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر في حديث قتال اليهود «أن الحجر والشجر سينطق ويقول: يا مسلم يا عبد الله خلفي يهودي فتعال فاقتله (2) » ، إذن لن يكون قتال النصر في فلسطين قتالا يمينيا رجعيا،
__________
(1) سورة الحشر الآية 14
(2) صحيح البخاري المناقب (3593) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2921) ، سنن الترمذي الفتن (2236) ، مسند أحمد بن حنبل (2/67) .(4/284)
ولا يساريا تقدميا، وإنما يكون قتالا إسلاميا في سبيل الله كما كان دائما قتال النصر للمسلمين: {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} (1) ،
وبعد. . فإن الآية الأولى من سورة الإسراء نصت على بركة الأرض التي تحيط بالمسجد الأقصى وكذلك آيات أخرى نصت على هذه البركة مثل قوله تعالى في حق الخليل إبراهيم: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} (2) ، وقوله {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} (3) ، والبركة الزيادة في كل شيء وليست بركة هذه الأرض مادية، وإنما بركتها بالإضافة إلى الأشياء المادية بركات معنوية، تتمثل في أنها عش الأنبياء، ولذلك فكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في دفنه في بيت المقدس عند وفاته باعتبارها عش الأنبياء وكانت لم تفتح بعد، وهي مهبط الوحي، وهي مسرى النبي ومعراجه منها صلى الله عليه وسلم، وهي القبلة الأولى، فقد صلى المسلمون إلى مسجدها ستة عشر شهرا، ومسجدها تشد إليه الرحال، كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى (4) » .
ومن بركة هذه الأرض استقراء أنه حينما يبتعد المسلمون عن محور عزهم ومركز قوتهم وهو الإسلام يضعفون ويتمزقون وتكثر دولهم ودويلاتهم؛ فيسهل على العدو أن يتسرب من خلالهم، فيأخذ الأرض المباركة ويأخذ المسجد الأقصى، وعندها يتحرك المسلمون حركة حياة من جديد وينفضون غبار الهزيمة فيعملون لاستخلاص هذه الأرض فعن طريق استخلاصها يتم توحيد المسلمين من جديد. ألا ترون أنه بسبب حريق المسجد الأقصى كان مؤتمر القمة الإسلامي الأول في المغرب الذي انبثق عنه مؤتمر وزراء الخارجية المسلمين الذين كونوا الأمانة العامة الإسلامية في جدة، وهذا من بركة هذه الأرض التي باركها الله، ولذلك لن يصل أحد مع اليهود وأعوانهم إلى حل حتى يأتي أمر الله، ويتوحد المسلمون، ويعود الإسلام محركا للحياة في ديار الإسلام وفي العالم كله.
وقد ظهرت بركتها في الحروب الصليبية إذ بعد أن أخذها المسلمون، وظنوا أن الأمر قد استقر لهم كانت حروبهم سببا في توحيد المسلمين من جديد فكان نور الدين زنكي الذي وحد الأجزاء المبعثرة وأخذ الراية منه صلاح الدين، فكانت حطين النصر المبين، وكانت معركة القدس فيما بعد ودخلها - رحمه الله - فأعاد الأمن والأمان إليها وعاد مسجدها إلى قدسيته وطهره.
وقدر أهل الشام وفلسطين منها أنهم مرابطون إلى يوم القيامة حيث الكفار لا يتركون الأرض المباركة يستقر أهلها وهم يريدون مسجدها ليقيموا عليه الهيكل.
روى الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن أهل الشام وأزواجهم وذراريهم وعبيدهم
__________
(1) سورة الإسراء الآية 51
(2) سورة الأنبياء الآية 71
(3) سورة سبأ الآية 18
(4) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .(4/285)
وإماءهم إلى منتهى الجزيرة مرابطون ممن نزل مدينة وقرية من المدائن والقرى، فهو في رباط أو ثغر من الثغور فهو في جهاد» .
وقدر أهل الشام كذلك أن ينتقم الله بهم من أعدائه فعن خريم بن فاتك: «أهل الشام سوط الله في أرضه ينتقم بهم ممن يشاء من عباده، وحرام على منافقيهم أن يظهروا على مؤمنيهم، وأن يموتوا إلا هما وغما وغيظا وحزنا» رواه الطبراني مرفوعا وأحمد موقوفا، ورجاله ثقات. وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول: «الملحمة الكبرى بأرض يقال لها الغوطة، فيها مدينة يقال لها دمشق، خير منازل المسلمين يومئذ (1) » رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد. وقد روى أبو بكر بن شيبة عن أبي الزاهرية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «معقل المسلمين من الملاحم دمشق، ومعقلهم من الدجال بيت المقدس، ومعقلهم من يأجوج ومأجوج الطور» .
وعلى هذا فالأرض المباركة بركتها بالإضافة إلى الأشياء المادية التي ذكرها المفسرون من الثمار والأشجار والأنهار، والأرض المعطاء والسهل الخصيب والجبال العالية والأرض المنخفضة التي تجعلك تنتقل في ساعة من زمن أو أقل من مستوى سطح البحر إلى العلو الشاهق إلى الغور المنخفض، فهناك البركة المعنوية، والبركة المادية تتصاغر أمام البركة المعنوية والتي باركها الله فجعلها القبلة الأولى يصلي إليها المسلمون، وأسري بنبيه إليها، وعرج به من مسجدها إلى السماوات العلا، وجعل مسجدها الأقصى تشد إليه الرحال، وهي عش الأنبياء، وهذا مما جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأتي بنفسه لتسلم القدس.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/160) .(4/286)
ولذلك فحينما يتحدث اليهود وأعوانهم عن الوطن البديل للفلسطينيين يظنون أن أي أرض يمكن أن تستبدل بها الأرض المباركة، ويظنون أن الأمر أمر إسكان لاجئين أو استقرار مشردين، وما علموا أو هم يتجاهلون أن هذه الأرض لا تدانيها أرض أخرى، ولا يمكن أن يقوم مقامها وطن بديل في أي بقعة من بقاع الكرة الأرضية، ما عدا أرض الحرمين الشريفين فشرفها معروف؛ إذ إن هذه الأرض مرتبطة بعقيدة المسلمين سجلت في كتاب الله بوصفها القبلة الأولى، وبوصفها مسرى النبي، وبوصفها معراج الرسول، وبوصفها الأرض المباركة، ولذلك فهي لا تخص الفلسطينيين وحدهم، ولا تخص العرب وحدهم، بل تخص المسلمين أينما كانوا وحيثما وجدوا، وما دام كتاب الله القرآن موجودا على الأرض يتلى وفي الأرض مؤمنون، فليس هناك استقرار لدولة اليهود، وهي في طريقها لأن تصبح من مخلفات التاريخ، كما أصبحت دولة الصليبيين من قبلها من مخلفات التاريخ تؤلف الكتب عن أسباب زوالها ويكتب الباحثون أبحاثهم ويعطي العلماء آراءهم في ذلك، وكلهم أو جلهم ينسى أو يتناسى الحقيقة الأزلية وهي استحالة أن يملك هذه الأرض غير المسلمين ملكا مستقرا، وأن تبقى في حوزة أعدائهم؛ لأن هذه إرادة الله بينها ليلة الإسراء.(4/286)
والواقع أن العالم كله لا يفقه القضية الفلسطينية أو القضية اليهودية، وإنما كل فئة تنظر إلى القضية من زاوية معينة تتفق مع مصلحتها، وهذه النظرة بالنسبة لمصالحها صحيحة، فالغرب ينظر إلى القضية على أنها امتداد للحروب الصليبية، وأن اليهود أداة في يديه لتمزيق الوطن الإسلامي والسيطرة على بلاد المسلمين وتهديدهم حتى لا يفيقوا مرة أخرى فيتعرضوا لقيادة الدنيا وإنقاذها مما تعانيه.
وروسيا تنظر إلى القضية على أن بقاء دولة اليهود في بلاد المسلمين أمر ضروري لإيجاد التناقض حسب الفكر المادي، ولذلك هي مع بقاء دولة اليهود، وتحارب الطبقة الحاكمة في إسرائيل حربا طبقية باعتبارها عميلة للغرب، ويهمها أن يبقى التناقض في المنطقة، وعدم الاستقرار؛ لأن ذلك حسب وجهة نظرها يغذي الحركة الشيوعية وينميها، وبعض الحكام في المنطقة يرون في دولة إسرائيل ضمانا لبقائهم فهم يريدون لها أن تبقى حتى يبقوا ولكن يريدون منها أن تتنازل عن بعض ما أخذته حتى يكون ذلك (انتصارا) ظاهريا يخدع به الشعب العربي والمسلمون من ورائهم، وأهل البلاد الذين أخرجوا من ديارهم (الفلسطينيون) ينظرون إلى القضية من زاوية أنهم شعب ظلم وشرد واضطهد، فهم يريدون حياة الاستقرار في الأرض التي ولدوا فيها أو نبت آباؤهم فيها أو دفن أجدادهم في ترابها فهم يحنون بفطرتهم إليها ولا يرون في الدنيا أرضا تكون بديلا لها وهذا صحيح، ولكن هذه النظرات المختلفة للقضية من زواياها المختلفة ليست هي القضية وإنما القضية تتعلق باليهود أو بغضب الله على اليهود المستمر عبر التاريخ بالعذاب الواقع بهم؛ نتيجة سوء تصرفهم وحقدهم على الإنسانية، فهذه حلقة من حلقات الغضب والسخط عليهم من الله، إن الله أخبر في القرآن في آيات الإسراء، كما أسلفت في أول البحث، وفي حديث البخاري ومسلم: إنه قبل قيام الساعة ستقوم لليهود دولة يتولى المسلمون تصفيتها، «حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله خلفي يهودي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود (1) » .
* * *
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2926) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2922) ، مسند أحمد بن حنبل (2/417) .(4/287)
ولقد حاول العالم منذ 1948 أو القوى الكبرى في العالم أو الغرب على وجه التخصيص أن يثبت إسرائيل دولة فوضع الحلول، وحاك المؤامرات، وخلق قيادات، وأوجد زعامات لتتعاون معه على تثبيت إسرائيل دولة، ولكن المؤامرات تفشل والطبخات تحترق، وذلك بفضل الله ثم بمعاونة اليهود أنفسهم حيث يرفضون كل ما يعرض عليهم حتى يأتي يومهم الموعود وقدرهم المرصود، فتزول دولتهم وآثامها وشرورها، وإن الغرب اليوم يحاول جاهدا إنقاذ دولة اليهود من مصيرها المحتوم وقدرها المرسوم رغم أنفها، ولكن اليهود يتمردون على من أوجدهم ذلك بأنهم قوم لا يعقلون، وصدق الله إذ يقول في حقهم: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} (1) . .
__________
(1) سورة الحشر الآية 14(4/287)
وإن من بركة الأرض المباركة أن المسلمين يتوحدون دائما عن طريق استخلاصها من أيدي أعدائهم، وذلك أن الأمة الإسلامية حينما تبتعد عن محور قوتها - وهو الإسلام - يلحقها الضعف والتشتت، فتقام فيها دول ودويلات، حتى تصل في صغرها إلى مستوى الأحياء والحارات، فيأتي العدو ليتسلل عبر هذا الضعف فيأخذ الأرض المباركة وتسقط القدس ويسقط الأقصى في يديه، عند ذلك تبدأ الأمة في التحرك حركة الحياة من جديد حتى إذا وقفت على قدميها كرت على عدوها لتخلص الأرض المباركة منه فتتوحد من أجل ذلك أو بسبب ذلك، كان ذلك في الحروب الصليبية وكان ذلك في حروب التتر وهو الآن، ولذلك بسبب حريق الأقصى في 21 \ 8 \ 69 انعقد مؤتمر القمة الإسلامي الأول، وخرجت من ذلك المؤتمر منظمة الدول الإسلامية الممثلة في الأمانة العامة الإسلامية في جدة والتي بسببها يعقد وزراء خارجية الدول الإسلامية مؤتمرهم السنوي في إحدى العواصم الإسلامية، وسيستمر اللقاء والتقارب حتى يصل إلى حد التمازج والتلاحم، فيشترك المسلمون كل المسلمين في تحرير الأرض المباركة التي تكون سبب وحدتهم.
* * *(4/288)
وبمناسبة انعقاد مؤتمر السيرة النبوية في إستانبول، عاصمة المسلمين لعدة قرون، ومركز الخلافة الإسلامية لمئات السنين لا بد من الإشارة إلى الدور الذي لعبته الدولة العثمانية في حماية المقدسات الإسلامية وخصوصا في فلسطين، ولا بد من الإشارة هنا إلى الخليفة العثماني، السلطان عبد الحميد - رحمه الله - حيث رفض أن يعطي اليهود امتيازات في الأرض المباركة، مما جعلهم يحنقون عليه ويشوهون سمعته ويعملون على عزله، متعاونين مع قوى الشر المختلفة من صليبية وماسونية ونعرات قومية، مما هيأ الظروف من بعده إلى التآمر على دولة الخلافة، ومن ثم ذهابها وقيام دولة اليهود في الأرض المباركة، ولكن هذه الدولة لا تدوم كما أسلفت، وكل الدلائل تشير إلى سرعة زوالها، وذلك حتى تتحقق الآيات والأحاديث في حقها {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} (1) .
* * *
__________
(1) سورة الإسراء الآية 51(4/288)
خليل إبراهيم ملا خاطر
المرسل عند الإمام الشافعي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وبعد.
لقد اختلفت آراء العلماء في الحكم على الحديث المرسل من حيث قبوله أو رده، كما اختلفوا في حكم الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - عليه أيضا؛ لذا أحببت أن أبين رأي الشافعي - رحمه الله - في الحديث المرسل؛ حاسما الخلاف - إن شاء الله - في حكمه، ناقلا رأيه بشكل واضح من مؤلفاته التي خلفها لنا، وهي معتمدة عند كل من يعرف مذهب الإمام رحمه الله تعالى.
فالمرسل: ما رواه التابعي قائلا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر من روى الحديث،(4/289)
وكذا لو روى الصحابي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمعه منه، بل سمعه من صحابي آخر، ولكن أسقطه، فهذا كله مرسل.
ولما كان التابعون رضي الله عنهم منهم من رأى جمعا غفيرا جدا من الصحابة رضي الله عنهم، وهؤلاء من كبار التابعين، ومنهم من رأى عددا محدودا منهم، وهؤلاء هم صغار التابعين، فقد اختلف حكم الشافعي رضي الله عنه بالنسبة لمرسل التابعي الكبير ومرسل التابعي الصغير، وكذا بالنسبة لمرسل الصحابي، فقد رد مرسل التابعي الصغير، وقبل مرسل الصحابي، وقبل مرسل التابعي الكبير بشروط.
ولما كان قد اشتهر أن الإمام الشافعي رحمه الله - يأخذ بمرسلات سعيد بن المسيب رضي الله عنه، فقد أحببت أن أبين اختلاف حكمه بالنسبة لمرسل الصحابي ثم مرسل التابعي الكبير ثم مرسل التابعي الصغير، ثم أحرر القول فيما اشتهر من أخذه بمرسل سعيد - رحمه الله - بعد أن أشير إلى حالة قبول المرسل أو رده قبل الإمام الشافعي رحمه الله.(4/290)
1 - المرسل قبل الشافعي
قال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة: " وأما المرسل فقد كان يحتج به العلماء فيما مضى، مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي، حتى جاء الشافعي فتكلم فيه (1) .، وقال
__________
(1) فتح المغيث 1: 133 وتوجيه النظر ص245(4/290)
ابن جرير: " أجمع التابعون بأسرهم على قبول المرسل ولم يأت عنهم إنكاره ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين - قال ابن عبد البر - كأنه يعني أن الشافعي أول من رده " (1) .، اهـ. قلت: ويستغرب من ابن جرير ادعاؤه إجماع التابعين على قبول المرسل، وكذا ادعاؤه عدم ورود إنكاره عن أحد من الأئمة قبل الشافعي، فقد رد المرسل سعيد بن المسيب، وهو من كبار التابعين، وابن سيرين والزهري وابن مهدي وابن القطان والأوزاعي وشعبة وغير واحد، فكيف يجوز أن يدعي بأن الشافعي هو أول من رده! ! ! ولهذا قال في توجيه النظر: " وقد انتقد بعضهم قول من قال: إن الشافعي أول من ترك الاحتجاج بالمرسل، فقد نقل ترك الاحتجاج عن سعيد بن المسيب وهو من كبار التابعين، ولم ينفرد هو بذلك بل قال به من بينهم ابن سيرين والزهري، وقد ترك الاحتجاج بالمرسل ابن مهدي ويحيى القطان وغير واحد ممن قبل الشافعي.
والذي يمكن نسبته إلى الشافعي في أمر المرسل هو زيادة البحث عنه والتحقيق فيه " (2) .، اهـ. وقال ابن الأثير: " والناس في قبول المراسيل مختلفون، وأما أهل الحديث قاطبة أو معظمهم، فإن المراسيل عندهم واهية غير محتج بها، وإليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل، وهو قول ابن المسيب والزهري والأوزاعي ومن بعدهم من فقهاء الحجاز. . " (3) .، اهـ. قلت: إطلاق ابن الأثير القول في حكم الشافعي غير جيد كما ستراه إن شاء الله تعالى في مرسل كبار التابعين.
والسبب الذي حدا بهؤلاء الأئمة إلى رد المرسل ما قاله الإمام السخاوي - رحمه الله -: " من وجود الصفات المذمومة فيما بعد الصحابة رضي الله عنهم من القرنين، لكن بقلة بخلاف من بعد القرون الثلاثة فإن ذلك أكثر فيهم وأشهر، وقد روى الشافعي عن عمه عن هشام بن عروة عن أبيه قال: إني لأسمع الحديث أستحسنه فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمعه سامع فيقتدي بي، وذلك أني أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدث عمن أثق به، أو أسمعه من رجل أثق به قد حدث به عمن لا أثق به _ وهذا كما قال ابن عبد البر: يدل على أن ذلك الزمان - أي زمان الصحابة والتابعين كان يحدث فيه الثقة وغيره، ونحوه ما أخرجه العقيلي من حديث ابن عون قال: ذكر أيوب السختياني لمحمد بن سيرين حديثا عن أبي قلابة، فقال: أبو قلابة رجل صالح ولكن عمن ذكره أبو قلابة؟ ومثل هذا حديث عاصم عن ابن سيرين قال: كانوا لا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة بعد. وأعلى من هذا ما رويناه في الحلية من طريق ابن مهدي عن ابن لهيعة أنه سمع شيخا من الخوارج يقول بعدما تاب: إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم - فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا. اهـ، قال السخاوي: ولذا قال شيخنا: إن هذه - والله - قاصمة الظهر للمحتجين بالمرسل، إذ بدعة الخوارج كانت في مبدأ الإسلام. والصحابة متوافرون ثم في عصر التابعين فمن بعدهم وهؤلاء إذا استحسنوا أمرا جعلوه حديثا وأشاعوه، فربما سمع الرجل الشيء فحدث به، ولم يذكر من حدثه به تحسينا للظن فيحمله عنه غيره، ويجيء الذي يحتج بالمقاطع فيحتج به مع كون أصله ما ذكرت ولا حول ولا قوة إلا بالله (4) . .
__________
(1) توجيه النظر ص245
(2) توجيه النظر ص245
(3) جامع الأصول 1: 94
(4) فتح المغيث 1: 137 - 138(4/291)
ومن الذي ذكرناه يظهر لنا أن الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - لم يكن هو أول من رد المرسل وإنما تحقق فيه، كما سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى.
* * *(4/292)
2 - مرسل الصحابي
المشهور من مذهب الشافعي - رحمه الله - قبول مرسل الصحابي، وهو في هذا مثل الجمهور في قبوله، إلا أنه قد نقل بعضهم عنه عدم الاحتجاج به، فقد قال القاضي عبد الجبار: " إن مذهب الشافعي أن الصحابي إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، قبل، إلا إن علم أنه أرسله، وكذا نقله ابن بطال في أوائل شرحه للبخاري عن الشافعي، قلت: وهذا القول غير سليم فقد قال السخاوي: فالنقل بذلك عن الشافعي خلاف المشهور من مذهبه، وقد صرح ابن برهان في الوجيز: أن مذهبه أن المراسيل لا يجوز الاحتجاج بها إلا مراسيل الصحابة ومراسيل سعيد، وما انعقد الاجتماع على العمل به " (1) .، اهـ قلت: وما أطلقه ابن برهان غير مسلم كما ستراه في مرسل كبار التابعين ومرسل سعيد.
وقد ذكر الإمام النووي - رحمه الله - أن مذهب الشافعي في مرسل الصحابي وهو ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يدركه أو لم يحضره أنه حجة، حيث قال: " ومذهب الشافعي أنه إذا انضم إلى المرسل ما يعضده احتج به وبان بذلك صحته. . سواء عنده في هذا مرسل سعيد بن المسيب وغيره. . .، ثم قال: هذا في غير مرسل الصحابي، أما مرسله وهو روايته ما لم يدركه أو يحضره، كقول عائشة رضي الله تعالى عنها: «كان أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا (2) » ، فمذهب الشافعي والجماهير أنه حجة " (3) .، اهـ. وهذا ما أكده الحافظ السيوطي عند شرحه لعبارة النووي (أما مرسله - أي الصحابي - فمحكوم بصحته على المذهب الصحيح) ، قال السيوطي: الذي قطع به الجمهور من أصحابنا وغيرهم وأطبق عليه المحدثون المشترطون للصحيح القائلون بضعف المرسل. . . لأن أكثر رواياتهم عن الصحابة، وكلهم عدول، ورواياتهم عن غيرهم نادرة وإذا رووها بينوها بل أكثر ما رواه الصحابة عن التابعين، ليس أحاديث مرفوعة بل إسرائيليات أو حكايات موقوفات. . . " (4) .، اهـ، قلت: وقد حدث بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم حدثوا عن أنفسهم أنه ليس كل قول يقولونه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمعوه منه صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر الخطيب من هذا كثيرا، فأخرج بسنده إلى البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: ليس كلنا سمع حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، كانت لنا ضيعة وأشغال وكان الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ فيحدث الشاهد الغائب. وأخرج عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: ليس كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه،
__________
(1) فتح المغيث 1: 146 -147 وتوجيه النظر ص246
(2) أخرجه البخاري والترمذي وأحمد
(3) شرح البخاري للنووي ص 11
(4) تدريب الراوي 1: 207(4/292)
ولكن حدثنا أصحابنا ونحن قوم لا يكذب بعضهم بعضا (1) .، اهـ.
ولم يكن هذا شأن صغار الصحابة رضي الله عنهم كأنس وابن عباس وعائشة وابن الزبير وأمثالهم رضي الله عنهم فحسب، بل وجد هذا حتى من كبار الصحابة كعمر بن الخطاب وغيره، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " كان لي أخ يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، وأشهده يوما، فإذا غبت جاءني بما يكون من الوحي وما يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " (2) .، اهـ. فقد كان يتناوب هو وأخ له أنصاري يوما بعد يوم.
ومن هذا نجد الشافعي - رحمه الله - ملأ كتبه بحديث ابن عباس وعائشة وابن عمر وأبي هريرة الذي قصرت مدة إقامته عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تزد على أربع سنوات بالذي سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يسمعوه، ولم يتعرض الشافعي - رحمه الله - إلى رواية واحدة من هذه الأحاديث الكثيرة التي رواها عن هؤلاء بطعن أو رد مما يدل على اعتبارها حجة وهي كالمتصلة إذ لم يفرق بينهما، حتى يقال: كيف فعل أو يحتاج إلى تخريج. والله أعلم.
* * *
__________
(1) الكفاية ص 548
(2) انظر الكفاية 71 - 72(4/293)
3 - مرسل كبار التابعين
لقد مرت بنا عبارة ابن عبد البر - كأنه يعني أن الشافعي أول من رده - فهي تدل على أن العلماء اختلفوا في رأي الشافعي في المرسل، إذا ما قيست فيمن يقول: بأن الشافعي لم يقبل إلا مرسل سعيد (1) . وفيمن يقول: بأن الشافعي يقبل المرسل إذا لم يجد سواه من غير تقييد (2) . . وفيمن يقول يستحب العمل بمرسل سعيد فقط.
لقد ذكر الإمام الشافعي - رحمه الله - في كتاب الرسالة رأيه واضحا جليا لا يحتاج إلى الاعتماد على غيره، كما أن كل من نقل هذا من علماء المصطلح ذكروا قيده، كالنووي والعراقي والسخاوي والسيوطي وغيرهم. قال العراقي:
والشافعي بالكبار قيدا ... ومن روى عن الثقات أبدا
ومن إذا شارك أهل الحفظ ... وافقهم إلا بنقص لفظ (3)
__________
(1) تدريب الراوي 1: 199.
(2) التبصرة 1: 149
(3) راجع فتح المغيث 1: 42.(4/293)
قال الشافعي: فقال، أي المناظر: فهل تقوم بالحديث المنقطع حجة على من علمه. وهل يختلف المنقطع؟ أو هو وغيره سواء؟ قال الشافعي: فقلت له: المنقطع مختلف، فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التابعين فحدث حديثا منقطعا عن النبي صلى الله عليه وسلم أعتبر عليه بأمور، منها:
أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث، فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل معنى ما روى، كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه، وإن انفرد بإرسال حديث لم يشاركه فيه من يسنده قبل ما ينفرد به من ذلك ويعتبر عليه بأن ينظر: هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم فإن وجد ذلك كانت دلالة يقوى له مرسله وهو أضعف من الأولى، وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا له، فإن وجد يوافق ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله تعالى، وكذلك إذا وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الشافعي: ثم يعتبر عليه، بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسمي (1) ، مجهولا ولا مرغوبا عن الرواية عنه، فيستدل بذلك على صحته فيما روي عنه، ويكون إذا شرك أحدا من الحفاظ في الحديث لم يخالفه، فإن خالفه وجد حديثه أنقص _ كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه، ومتى خالف ما وصفت أضر بحديثه، حتى لا يسع أحدا منهم قبول مرسله، قال: وإذا وجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله، ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت ثبوتها بالمتصل، وذلك أن معنى المنقطع مغيب يحتمل أن يكون حمل عمن يرغب عن الرواية عنه إذا سمى، وأن بعض المنقطعات - وإن وافقه مرسل مثله - فقد يحتمل أن يكون مخرجها واحدا من حيث لو سمى لم يقبل، وأن قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوافقه، ويحتمل مثل هذا في فيمن وافقه من بعض الفقهاء (2) ، اهـ. ومن هذا النص نستطيع أن نحدد شروط قبول الشافعي للمرسل. فقد اشترط أن يكون المرسل من كبار التابعين ثم بشرط الاعتبار في المرسل والمرسل.
فاعتباره بالمرسل (بالفتح)
1 - أن يأتي مسندا من طريق آخر، لقوله: أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل معنى ما روي.
2 - أن يوافقه مرسل آخر بشرط أن يكون من غير رجال المرسل الأول، لقوله: ويعتبر عليه: بأن ينظر هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم.
__________
(1) كذا بالأصل بإثبات حرف العلة مع الجازم وهذا كثير في لغة الشافعي.
(2) الرسالة. ص461 - 465.(4/294)
3 - أن يوافقه قول لبعض الصحابة رضي الله عنهم لقوله: وإن لم يوجد نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا له.
4 - أن يوافقه فتوى أكثر العلماء بمقتضاه لقوله: وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما اعتباره بالمرسل (بالكسر) :
1 - أن يكون إذا سمى من روى عنه لا يسمي مجهولا ولا مرغوبا عن الرواية عنه لقوله: ثم يعتبر عليه: بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسمي (1) . مجهولا ولا مرغوبا عن الرواية عنه فهو ثقة لا يروي إلا عن ثقات.
2 - أن يكون إذا شرك أحدا من الحفاظ في حديث لم يخالفه، بحيث يكون ثبتا حافظا وذلك لقوله: ويكون إذا شرك أحدا من الحفاظ في حديث لم يخالفه، فإن خالفه وجد حديثه أنقص كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه، فقد شرط أن يكون المرسل ثقة حافظا، ضابطا ثبتا، وكذلك لا يروي إلا عن مثله، فإن كان يروي عن الضعفاء والمجهولين لا يقبل مرسله، والله أعلم.
__________
(1) كذا بالأصل بإثبات حرف العلة مع الجازم وهذا كثير في لغة الشافعي(4/295)
4 - حجية المرسل بعد الاعتضاد
إن هذه الشروط التي وضعها الشافعي - رحمه الله تعالى - لقبول المرسل وقيده بها إن فقد منها شرط ضر ذلك بالمرسل فلا يقبل، لقوله: ومتى خالف ما وصفت أضر بحديثه، حتى لا يسع أحدا منهم قبول مرسله، وقد بين الشافعي - رحمه الله - الشبهة في هذا، عندما قال في آخر ما نقلناه عنه: وذلك أن معنى المنقطع مغيب يحتمل أن يكون حمل عمن يرغب عن الرواية عنه إذا سمى. وإن بعض المنقطعات وإن وافقه مرسل مثله، فقد يحتمل أن يكون مخرجها واحدا من حيث لو سمى لم يقبل، وإن قول بعض الصحابة، إذا قال لو وافقه يدل على صحة المخرج، ويمكن أن يكون إنما(4/295)
غلط به حين سمع قول الصحابي يوافقه، ويحتمل مثل هذا فيمن وافقه من بعض الفقهاء، وقال الشيخ أحمد شاكر معلقا: " يريد بيان المعنى الذي كان عنه المنقطع مغيبا مع ترجيح المنقطع عن كبار التابعين إذا وافقه قول بعض الصحابة فيأتي بوجهي الاحتمال الأول: أن موافقة قول الصحابي يدل دلالة قوية على صحته، والثاني يمكن أن يكون التابعي سمع الخبر ممن لو سمى لم يقبل فلما رأى قول الصحابي يوافقه غلط فيه فظنه أمارة صحته، فرواه على الإرسال، ولم يسم من حدثه إياه. " (1) ، اهـ. أما إذا عضد بمسند جاء من طريق آخر، فلا يخلو إن كان المسند صحيحا صار (أي المسند والمرسل) أقوى من صحيح جاء من طريق واحد، كما قال العراقي:
فإن يقل فالمسند المعتمد ... فقل: دليلان به يعتضد
أي فإن قيل: قولكم يقبل المرسل إذا جاء مسندا من وجه آخر لا حاجة حينئذ إلى المرسل، بل الاعتماد حينئذ على الحديث المسند، والجواب أنه بالمسند تبينا صحة المرسل، وصارا دليلين يرجح بهما عند معارضة دليل واحد، فقوله: " به " أي بالمسند يعتضد المرسل (2) . وهو الذي ذكره النووي في التقريب (3) .، وقال ابن الصلاح في الجواب: " فجوابه أنه بالمسند تتبين صحة الإسناد الذي فيه الإرسال حتى يحكم له مع إرساله بأنه إسناد صحيح تقوم به الحجة (4) .، وأما إذا كان العاضد مسندا ضعيفا أو مرسلا آخر من غير طريق الأول وغيرهما مما ذكره الشافعي فإنه يحتج به؛ لأنه صار في مرتبة الحسن، كما قال ابن الصلاح في الحسن: الحسن يتقاصر عن الصحيح. من شرطه أن يكون رواته قد ثبتت عدالتهم وضبطهم وإتقانهم. . . وذلك غير مشترط في الحسن فإنه يكتفي فيه بما سبق ذكره من مجيء الحديث من وجوه وغير ذلك مما تقدم شرحه، وإذا استبعد ذلك من الفقهاء الشافعية مستبعد ذكرنا له نص الشافعي رضي الله عنه في مراسيل التابعين أنه يقبل منها المرسل إذا جاء نحوه مسندا، وكذلك لو وافقه مرسل آخر أرسله من أخذ العلم عن غير رجال التابعي الأول في كلام له. . . " (5) ، اهـ. وقد قيد الرازي المسند في مسند لم تقم به الحجة إذا انفرد حتى تكون القوة من هيئة الاجتماع (6) . وقال ابن الصلاح أيضا: " ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه بل ذلك يتفاوت. . . وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر (7) ، اهـ. وهذا ما اعتمده النووي، وقال العراقي في منظومته:
لكن إذا صح لنا مخرجه ... بمسند أو مرسل يخرجه
__________
(1) الرسالة. ص 464 ت.
(2) التبصرة 1: 153.، اهـ
(3) التقريب 1: 199 بشرح التدريب
(4) المقدمة ص49
(5) المقدمة ص 29، وفتح الباقي 1: 153.
(6) راجع فتح المغيث 1: 143.
(7) المقدمة ص 30 - 31.(4/296)
من ليس يروي عن رجال الأول ... نقبله قلت: الشيخ لم يفصل (1)
وقال في الحسن:
ألا ترى المرسل حيث أسندا ... أو أرسلوا كما يجيء اعتضدا (2)
قال السخاوي: " وصار حجة " (3) ، وهذا هو قول العراقي والسيوطي، إلا أنه قال: وكان دون الحسن لذاته (4) ، وزكريا الأنصاري وغيرهم إلا أن الملاحظ أن ابن الصلاح لم يفرق بين كبار التابعين وصغارهم كما نص عليه الشافعي ونبه عليه العراقي.
والذي ذهبت إليه من تقسيم المرسل بالعاضد إلى صحيح وحسن: هو ما أشار إليه الشافعي في الرسالة فقال في الأول: إذا كان العاضد مسندا صحيحا اعتبر عليه بأمور، منها: أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث، فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل معنى ما روى، كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه. وقال في العاضد: إذا لم يكن مسندا. . . وإذا وجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفت، أحببنا أن نقبل مرسله، ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل، اهـ. كما مر ومعنى قول أحببنا: اخترنا، كما قال البيهقي (5) ، ومعنى هذا إذا عارضه حديث متصل صحيح قدم عليه، لأنا لا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل، فهو دونه، أما الأول فكما ذكرنا وأما إذا لم يوجد إلا المرسل فقد نقل الماوردي عن الشافعي أنه يأخذ به (6) وقال السبكي: " إذا دل على محظور ولم يوجد سواه فالأظهر وجوب الانكفاف - يعني احتياطا " (7) ، والله أعلم.
* * *
__________
(1) التبصرة 1: 149.
(2) التبصرة 1: 90.
(3) فتح المغيث 1: 71.
(4) تدريب الراوي 1: 177.
(5) التبصرة 1: 151.
(6) فتح المغيث 1: 80 و142 و268. .
(7) فتح المغيث 1: 143.(4/297)
5 - مرسل صغار التابعين
إن الشافعي - رحمه الله تعالى - رد مرسل صغار التابعين المرة، ولم يقبله مع أنه أطلق عليه اسم المرسل، فقال في الرسالة: فأما من بعد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أعلم واحدا يقبل مرسله لأمور، أحدها: أنهم أشد تجوزا(4/297)
ممن يروون عنه، والآخر: أنهم توجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف مخرجه، والآخر: كثرة الإحالة كان أمكن للوهم وضعف من يقبل عنه. وقد خبرت بعض من خبرت من أهل العلم فرأيتهم أتوا من خصلة وضدها، رأيت الرجل يقنع بيسير العلم ويريد ألا أن يكون مستفيدا إلا من جهة، قد يتركه من مثلها أو أرجح، فيكون من أهل التقصير في العلم، ورأيت من عاب هذه السبيل ورغب في التوسع في العلم من دعاه ذلك إلى القبول عمن لو أمسك عن القبول عنه كان خيرا له، ورأيت الغفلة قد تدخل على أكثرهم فيقبل عمن يرد مثله وخيرا منه، ويدخل عليه فيقبل عمن يعرف ضعفه إذا وافق قولا يقوله، ويرد حديث الثقة إذا خالف قولا يقوله، ويدخل على بعضهم من جهات، ومن نظر في العلم بخبرة وقلة غفلة استوحش من مرسل كل من دون كبار التابعين بدلائل ظاهرة فيها. قال: فلم فرقت بين التابعين المتقدمين الذين شاهدوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين من شاهد بعضهم دون بعض؟ فقلت: لبعد إحالة من لم يشاهد أكثرهم، قال: فلم لا تقبل المرسل منهم ومن كل فقيه دونهم؟ قلت: لما وصفت، قال: وهل تجد حديثا تبلغ به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل أحد من أهل الفقه به؟ قلت: نعم، أخبرنا سفيان عن محمد بن المنكدر «أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي مالا وعيالا، وإن لأبي مالا وعيالا، وإنه يريد أن يأخذ مالي فيطعمه عياله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت ومالك لأبيك (1) » .
قال محمد بن المنكدر: عندكم غاية في الثقة، قلت: أجل والفضل في الدين والورع، ولكنا لا ندري عمن قبل هذا الحديث، وقد وصفت لك الشاهدين يشهدان على الرجل فلا تقبل شهادتهما حتى يعدلاهما أو يعدلهما غيرهما، قال: فتذكر من حديثكم مثل هذا؟ قلت: نعم، أخبرنا الثقة عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمر رجلا ضحك في الصلاة أن يعيد الوضوء والصلاة (2) » ، فلم نقبل هذا لأنه مرسل. ثم أخبرنا الثقة عن معمر عن ابن شهاب عن سليمان بن أرقم عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، وابن شهاب عندنا إمام في الحديث والتخيير وثقة الرجال، إنما يسمي بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم خيار التابعين، ولا نعلم محدثا يسمي أفضل ولا أشهد ممن يحدث عنه ابن شهاب، قال: فأنى تراه أتى في قبوله عن سليمان بن أرقم، رآه رجلا من أهل المروءة والعقل فقبل عنه وأحسن الظن به فسكت عن اسمه إما لأنه أصغر منه، وإما لغير ذلك، وسأله معمر عن حديثه فأسنده له، فلما أمكن في ابن شهاب أن يكون يروي عن سليمان مع - ما وصفت به ابن شهاب - لم يؤمن مثل هذا على غيره. . . (3) اهـ. فقد ذكر الشافعي - رحمه الله - سبب رده لمرسل صغار التابعين، كونهم أشد تجوزا ممن يروون عنهم، وضعف مخرج ما أرسلوه، وكثرة الإحالة، وهذه الخصال الثلاثة أمكن للوهم وضعف من يقبل عنه، كما أنه قرر أن بعض من توسع في العلم يروي عن أناس لو أمسك عن الأخذ عنهم كان خيرا له. ثم يقرر شناعة مرسل
__________
(1) أخرجه ابن ماجه عن جابر وهو ضعيف والطبراني في الكبير عن سمرة وابن مسعود، وأخرج أحمد شاهديه له بسندين صحيحين وأبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو والشافعي في الرسالة مرسلا.
(2) أخرجه الدارقطني. وانظر نصب الراية 1: 47 - 53 فقد ذكر روايات هذا الحديث المرسل ومن خرجها.
(3) الرسالة ص465 - 470.(4/298)
صغار التابعين، وذلك أن صغار التابعين يروي أغلبهم عن كبار التابعين، وقد تصل الوسائط إلى سبعة أشخاص. وكان قد ظهر في ذلك الوقت من يرغب عن الرواية عنه، فإذا سكت الراوي عمن روى عنه فيحتمل أن يكون من هؤلاء، ويحتمل غيره، لذا كان الأولى رد حديثه، وقد مثل الشافعي - رحمه الله - بالزهري وابن المنكدر مع جلالتهما وفضلهما وانتقائهما الشيوخ الذين يرويان عنهم، فلما صرح الزهري بسليمان بن أرقم - وهو ضعيف جدا لا يقبل حديثه - رد مرسله ومرسل من كان كذلك، لذلك يقول رحمه الله: " يقولون يحابي ولو حابينا لحابينا الزهري، وإرسال الزهري ليس بشيء، وذاك أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم. " (1) ، اهـ، فإذا كان الزهري مع انتقائه الشيوخ والفضل والعلم يروي عن مثل سليمان بن أرقم فما بالك بغيره الذي لم يصل إلى مثل الزهري في الانتقاء والإمامة في الحديث والتخيير وثقة الرجال! ؟
* * *
__________
(1) طبقات الشافعية لابن السبكي 2: 10.(4/299)
6 - مرسل سعيد بن المسيب
لقد اختلف علماء الشافعية بالنسبة لمرسلات سعيد - رحمه الله - فمنهم من يراها حجة، ومنهم من يراها ليست بحجة، بل هي كغيرها من المراسيل، وسبب اختلافهم راجع إلى فهم عبارة الإمام الشافعي التي وردت في مختصر المزني: " وإرسال ابن المسيب حسن ".
وسبب تخصيص مرسلات سعيد من غيرها عندهم؛ لأنه من أولاد الصحابة، فإن أباه المسيب ابن حزن من أصحاب الشجرة وبيعة الرضوان، وقد أدرك سعيد عمر وعثمان إلى آخر العشرة، وهو فقيه الحجاز ومفتيهم وأول الفقهاء السبعة، وقال الحاكم: وأيضا فقد تأمل الأئمة المتقدمون مراسيله فوجدوها بأسانيد صحيحة، وهذه الشرائط لم توجد في مراسيل غيره (1) ، اهـ.
والعبارة كما جاءت في مختصر المزني: قال الشافعي: أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن ابن المسيب: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان» ، وعن ابن عباس أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه فجاء رجل بعناق فقال: أعطوني جزءا بهذه العناق، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا. وكان القاسم بن محمد وابن المسيب وعروة ابن الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن يحرمون بيع اللحم بالحيوان عاجلا وآجلا يعظمون ذلك ولا يرخصون فيه، قال: وبهذا نأخذ: كان اللحم مختلفا أو غير مختلف، ولا نعلم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خالف في ذلك أبا بكر وإرسال ابن المسيب عندنا حسن (2) ، اهـ.
قال النووي اشتهر عند فقهاء أصحابنا أن مرسل سعيد حجة عند الشافعي حتى إن كثيرا منهم لا يعرفون غير ذلك، وليس الأمر على ذلك (3) . وقال الخطيب: اختلف الفقهاء من أصحاب الشافعي في قوله هذا، منهم من قال: أراد الشافعي به أن مرسل سعيد بن المسيب حجة؛
__________
(1) راجع معرفة علوم الحديث ص 25 - 26.
(2) مختصر المزني بهامش الأم 2: 157 - 158.
(3) فتح المغيث 1: 140.(4/299)
لأنه روى حديثه المرسل في النهي عن بيع اللحم بالحيوان، واتبعه بهذا الكلام وجعل الحديث أصلا إذ لم يذكر غيره، فيجعل ترجيحا له، وإنما فعل ذلك لأن مراسيل سعيد تتبعت فوجدت كلها مسانيد عن الصحابة من جهة غيره. ومنهم من قال: لا فرق بين مرسل سعيد بن المسيب وبين مرسل غيره من التابعين، وإنما رجح الشافعي به، والترجيح بالمرسل صحيح، وإن كان لا يجوز أن يحتج به على إثبات الحكم، وهذا هو الصحيح من القولين عندنا؛ لأن من مراسيل سعيد ما لم يوجد مسندا بحال من وجه يصح. وقد جعل الشافعي لمراسيل كبار التابعين مزية على من دونهم، كما استحسن مرسل سعيد بن المسيب على من سواه (1) ، اهـ.
قلت: وقد رد الخطيب على القول الأول في " الفقيه والمتفقه "، فقال: والذي يقتضي مذهب الشافعي أنه جعل لسعيد مزية في الترجيح لمراسيله خاصة؛ لأن أكثرها وجد متصلا من غير حديثه، لا أنه جعلها أصلا يحتج به (2) ، اهـ. وهذا هو الذي مال إليه ابن الصلاح فقال: ولهذا احتج الشافعي رضي الله عنه بمرسلات سعيد. . . ولا يختص ذلك عنده بإرسال ابن المسيب كما سبق (3) ، اهـ. وذلك بعد أن قال: إن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف إلا أن يصح مخرجه بمجيئه من وجه آخر (4) .، اهـ. وقال البيهقي: وقد ذكرنا لابن المسيب مراسيل لم يقبلها الشافعي حيث لم ينضم إليها ما يؤكدها ومراسيل لغيره قال بها حين انضم إليها ما يؤكدها، قال: وزيادة ابن المسيب في هذا على غيره أنه أصح التابعين إرسالا فيما زعم الحفاظ (5) ، اهـ.
قال النووي فهذان إمامان حافظان فقيهان شافعيان متضلعان من الحديث والفقه والأصول والخبرة التامة بنصوص الشافعي ومعاني كلامه، وأما قول القفال: مرسل ابن المسيب حجة عندنا فهو محمول على التفصيل المتقدم، قال: ولا يصح تعلق من قال إنه حجة بقوله: إرساله حسن؛ لأن الشافعي لم يعتمد عليه وحده، بل لما انضم إليه من قول أبي بكر ومن حضره من الصحابة وقول أئمة التابعين الأربعة الذين ذكرهم وهم أربعة من فقهاء المدينة السبعة، وقد نقل ابن الصباغ وغيره هذا الحكم عن تمام السبعة، وهو مذهب مالك وغيره فهذا عاضد ثان للمرسل (6) ، اهـ. قلت: وقد نقل أن الشافعي كان يحتج بمرسلات سعيد في القديم لكونه يروي عن كبار الصحابة أو كان مرسله يعضده قولهم، وأنها سبرت فوجدت مأخوذة عن أبي هريرة لما بينهما من الوصلة والمصاهرة وأما مذهبه في الجديد أنه كغيره (7) ، وقال النووي وأما قول القفال:. . . . قال الشافعي في الرهن الصغير: مرسل سعيد عندنا حجة فهو محمول على التفصيل الذي قدمناه عن البيهقي والخطيب والمحققين (8) ، قلت: والذي في الرهن الصغير، قال: أي المناظر فكيف قبلتم عن ابن المسيب منقطعا، ولم تقبلوه عن غيره؟ قلنا: لا نحفظ أن ابن المسيب روى منقطعا إلا وجدنا ما يدل على تسديده، ولا آثره عن أحد فيما عرفنا عنه إلا ثقة معروف، فمن كان بمثل حاله قبلنا منقطعه، ورأينا غيره يسمي المجهول ويسمي من يرغب عن الرواية عنه ويرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن بعض من لم يلحق من أصحابه - المستنكر، الذي لا يوجد له شيء يسدده، ففرقنا بينهم لافتراق أحاديثهم ولم نحاب
__________
(1) الكفاية 571 - 572.
(2) الفقيه والمتفقه227.
(3) المقدمة ص 49.
(4) المقدمة ص49
(5) فتح المغيث 1: 140.
(6) التدريب 1: 200.
(7) راجع تدريب الراوي 1: 200 - 201.
(8) فتح المغيث 1: 140 والتدريب 1: 200.(4/300)
أحدا، ولكنا قلنا في ذلك بالدلالة البينة على ما وصفنا من صحة روايته، وقد أخبرني غير واحد من أهل العلم عن يحيى بن أبي أنيسة عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن أبي ذئب، اهـ. قلت: والحديث الذي أشار إليه هو:
قال الشافعي: أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن سعيد ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه (1) » . فقد روى الشافعي هذا الحديث، مرسلا من طريق ابن أبي ذئب، ومتصلا مرفوعا من طريق ابن أبي أنيسة، فليس للقفال فيه دليل على ما ذكره حتى يقول بأنه حجة، ولا لمن يقول: " فهذا كلام الشافعي يدل دلالة قوية على ما ذكره القفال المروزي الذي نقله عنه النووي آنفا " (2) .
وذلك لأن الشافعي روى الحديث متصلا، ورواه مرسلا، ومن الطريق نفسه فهو عاضد له - كما مر في مرسلات كبار التابعين - والسنة قائمة في الحديث المتصل المرفوع أكثر من قيامها بالحديث المرسل. وقد نص الشافعي على أن المرسل ضعيف لا تثبت الحجة به ثبوتها بالمتصل، ما لم يعضده مسند صحيح، وهذا أكبر دليل على العاضد المسند من نفس طريق المرسل كما ذكره الشافعي في أول شروط مرسل كبار التابعين.
نعم، ذكر ميزة لمرسلات سعيد لا توجد عن غيره ممن أرسل، ومع هذا فلا يخرج مرسله عن مرسلات كبار التابعين عن القيود والشروط التي وضعها فقوله: " فمن كان بمثل حاله قبلنا منقطعة " يوضح أن مرسله كمرسل غيره من كبار التابعين الذين كانوا كحاله رحمه الله، ولهذا قال الإمام النووي: ومذهب الشافعي: إذا انضم إلى المرسل ما يعضده احتج به وبان بذلك صحته، وذلك بأن يروي مسندا أو مرسلا من جهة أخرى، أو يعمل به بعض الصحابة رضوان الله عليهم أو أكثر العلماء، سواء عنده في هذا مرسل سعيد بن المسيب وغيره (3) ، اهـ، قلت: وعلى هذا: فالحديث الذي ذكره الشافعي في بيع اللحوم بالحيوان يصلح مثالا لقسم المرسل المقبول، فقد عضده قول صحابي وأفتى أكثر أهل العلم بمقتضاه، وذكر السيوطي أن له شاهدا مرسلا آخر، أرسله من أخذ العلم عن غير رجال الأول، وشاهد آخر مسندا، فقال: وروى البيهقي في المدخل من طريق الشافعي: عن مسلم بن خالد عن ابن جريج عن القاسم بن أبي بزة قال: قدمت المدينة فوجدت جزورا قد جزرت، فجزئت أربعة أجزاء، كل جزء منها بعناق، فأردت أن أبتاع منها جزءا، فقال لي الرجل من أهل المدينة: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع حي بميت» ، فسألت عن ذلك الرجل فأخبرت عنه خيرا، قال البيهقي فهذا حديث أرسله ابن المسيب، ورواه القاسم بن أبي بزة عن رجل من أهل المدينة مرسلا، والظاهر أنه غير سعيد؛ فإنه أشهر من ألا يعرفه القاسم بن أبي بزة المكي حتى يسأل عنه. قال: وقد روينا من حديث الحسن عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) الأم 3: 164 والحديث رواه أيضا الأوزاعي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق وأبو داود والبزار والدارقطني.
(2) انظر الحديث المرسل ص 40.
(3) شرح البخاري للنووي ص 11.(4/301)
إلا أن الحفاظ اختلفوا في سماع الحسن من سمرة، وفي غير حديث العقيقة، فمنهم من أثبته فيكون مثالا للفصل الأول، يعني ما له شاهد مسند، ومنهم من لم يثبته فيكون أيضا مرسلا، انضم إلى مرسل سعيد (1) ، اهـ.
ومن خلال ما ذكرته يترجح أن الشافعي -رحمه الله - قد سوى بين مرسلات سعيد وغيره من كبار التابعين، إلا أنه قد وضع ميزة لمرسل سعيد على غيره أنه أصح المراسيل. والله أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* * *
__________
(1) التدريب 1: 201.(4/302)
علي عبد الله الدفاع
إيجاد جذر المعادلة بطريقة التوسط
لابن الهيثم
هو أبو علي الحسن بن الحسن بن الهيثم، والمعروف عند الأوربيين بالحازين " ALHAZEN ". ولد في البصرة عام 965 م، ونشأ وتعلم فيها، وعمل كاتبا هناك، وزار بغداد عدة مرات للتعرف على علمائها. وتوفي في مصر عام 1039 ميلادية، حيث قصد القاهرة وعاش فيها في عهد الخليفة الفاطمي " الحاكم " وحصل على تقدير كبير في بلاطه. قال عنه العالم الكبير في علم الرياضيات ديفيد يوجين سمث في كتابه تاريخ الرياضيات المجلد الثاني: إن ابن الهيثم لم يترك علما من العلوم إلا وكتب فيه، وأشهرها علم الهندسة وعلم(4/303)
الفلك وعلم الجبر، وفن صنع الساعات الشمسية (أي المزاول) ، وأخذ الشهرة العظيمة في علم البصريات.
يروي هورد إيفز في كتابه تاريخ الرياضيات أن ابن الهيثم قال: " لو كنت في مصر لعملت في نيلها عملا يعود بالنفع الكثير على سكانها والعالم أجمع، وذلك بالسيطرة على فيضان مياه النيل ". فوصل هذا الكلام إلى الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي تولى الحكم في مصر سنة 996 ميلادية، فطلب ابن الهيثم وقدم له كل تكريم وحفاوة، وعهد إليه بتنفيذ ما كان يقوله، فأجرى ابن الهيثم اللازم لدراسة مجرى النيل، حتى وصل إلى أسوان، فوجد أن المصريين قد قاموا بإنشاءات كبيرة هناك، وليس في الإمكان إضافة شيء ما إليها في ظل الإمكانيات التي كانت متوفرة آنذاك. فاعتذر للحاكم عن خطئه وقبل الحاكم عذره. ثم استمر في اهتمامه وعنايته بابن الهيثم، غير أن ابن الهيثم خشي أن يغير الحاكم فكرته؛ حيث إنه كان معروفا بالتقلب وبالإقدام على سفك الدماء، ولكن ابن الهيثم اختفى في مكان بعيدا عن الأنظار خشية من بطش الحاكم به، وفي هذه الحقبة من الزمن بقي يبحث ويؤلف في مخبئه، حتى إن الكثير من علماء العلوم يعتقدون أن هذه الفترة كانت أكثر إنتاجا بالنسبة لفترات حياته الأخرى.
كل من أرسطو طاليس وابن خلدون اعتبرا علم البصريات جزءا لا يتجزأ من علم الهندسة، ولهذا السبب اعتبر ابن الهيثم عالما رياضيا في علم الهندسة منذ زمن بعيد. كما درس وترجم معظم مؤلفات إقليدس وأبو لونيوس، كما ركز على دراسة الإدراك الحسي الذي يشرح أن الأجسام كبيرة إذا كانت قريبة، وصغيرة إذا كانت المسافة بعيدة. كما أوضح أيضا الحقيقة في أن الأشياء تظهر كبيرة تحت الماء وخلف الأجسام الشفافة، وناقش ظواهر طبيعية كثيرة، وبرهن على صحتها هندسيا. ولقد أعطى معلومات كثيرة عن القمر وتحركاته حول مداره، وأثبت بطرق عديدة خسوف القمر.
* * *
ليس من المبالغة إذا اعتبر أن ابن الهيثم هو واضع علم الفيزياء والبصريات على أسسها العلمية الصحيحة، فهو الذي أنكر نظرية إقليدس وبطليموس في علم البصريات التي تقول: إن العين ترسل أشعتها على الأشياء، ولكن ابن الهيثم صحح هذه النظرية في كتابه علم البصريات، وأثبت أن العكس صحيح لنظرية إقليدس وبطليموس. وفي هذا الكتاب وضع الأسس التي لها أهميتها في علم البصريات الحديث.
وفي هذا الكتاب تظهر به نظرية ابن الهيثم المشهورة، والتي تقول: إن الشعاع لا يظهر من العين إلى الأجسام، ولكن الأجسام ترسل أشعتها إلى العين. كما أنه بحث في تشريح العين وتركيبها، وفي العدسات والضوء واستعمال العدسات لملافاة عيوب النظر في نفس الكتاب.(4/304)
يعتبر ابن الهيثم أعظم علماء المسلمين في جميع فروع المعرفة، وخاصة علم الفيزياء، ومن أعظم الباحثين في علم الضوء في جميع العصور. كما أن له مؤلفات كثيرة في الطب والفلسفة والمنطق. ونال الشهرة بكتابه " المناظر " الذي يحتوي على اكتشافات كثيرة في فيزياء النظر ودراسة الانعكاس وانكسار الأشعة. وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية، وبقي المرجع الوحيد في هذا الحقل حتى القرن السابع عشر الميلادي في جميع أنحاء العالم، وخاصة في أوربا. وقال المؤلف روز بول في كتابه المختصر في تاريخ الرياضيات: إن ابن الهيثم برهن نظريات في علم الفيزياء الحديثة كانكسار الأشعة، مما أدى إلى تقدم هذا العلم إلى ما هو عليه الآن. ويستمر العالم المشهور في علم البصريات وعمله بدون شك يفوق بكثير عمل إقليدس وبطليموس.
ولمح عالم الرياضيات في القرن العشرين درك سترويك في كتابه ملخص تاريخ الرياضيات أن ابن الهيثم أعطى دراسة وافية بطريقة تحديد موضع صورة نقطة مضيئة في مرآة أسطوانية الشكل إذا ما عرف كل من النقطة والعين، وتقود هذه المسألة حل المسألة المعروفة عند الأوروبيين باسم مسألة (الحزين Alhazen، s Problem) وهي التي تتعلق بكيفية رسم خطين من نقطتين في مستوى دائرة يتلاقيان في نقطة على المحيط ويرسمان زاويتين متساويتين مع الخط العمودي في تلك النقطة. وتؤدي هذه المسألة إلى معادلة من الدرجة الرابعة س4 + ب س3 = جـ (equation biquadratic) ، وقد حل بطريقة القطع الزائد (hyperbola) أي: بواسطة تقاطع دائرة مع قطع مخروطي زائد. وفي القرن السابع عشر الميلادي أعطى عالم الرياضيات والفيزياء الهولندي كريسشن هيوجنس (christian Huggen s) الذي ولد عام 1629 ميلادية وتوفي عام 1695 م صاحب الشهرة العظيمة بين علماء الرياضيات والفيزياء على السواء اهتماما كبيرا بهذه المسألة، ولا يقل عنه اهتماما عالم الهندسة الإنجليزي إسحاق باور (Isaac Barrow) والذي عاش فيما بين (1630 - 1677 م) ، والذي يعتبر من عمالقة علم الهندسة في القرن السابع عشر. ويجدر أن نرفق الشكلين الهندسيين المأخوذين من مخطوطة الحسن بن الهيثم في علم البصريات والتي توجد في معظم المكتبات العلمية الآن.
* * *(4/305)
قال المؤلف المشهور هورد إيفر في كتابه مقدمة لتاريخ الرياضيات: إن ابن الهيثم الذي عاش ما بين 965 م إلى 1039 م قد اشتهر بنظرياته المعروفة لدينا نحن الرياضيين برسائل الحزين، وبدون شك أنه أعظم رياضي مسلم في ذلك العصر، وأعظم فيزيائي مسلم في هذا العصر. حيث إن فضله لا ينسى بحكم مؤلفاته المشهورة بالبصريات.
وإنتاج ابن الهيثم معروف لدى أوروبا، وخاصة فيما بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين بواسطة جون بيكهام، ولقد اخترع العدسات المكبرة التي كانت إيطاليا هي أول بلد استفاد منها. كما استفاد من ابتكارات ابن الهيثم علماء كثيرون، وذلك في القرن السابع عشر، وفي مقدمتهم العالم المشهور كبلر. ولقد قال المؤلف كيلي في كتابه تاريخ الفلك: إن مؤلفات ابن الهيثم لها طابع رياضي خاص، وخاصة في علم الهندسة، وهو بدون شك المكتشف لكيفية حدوث قوس قزح والكسوف والخسوف وعلم الظل والعدسات المقعرة والمحدبة.
* * *(4/307)
طريقة التوسط
إن عالمنا المسلم صاحب الشهرة المرموقة الحسن بن الهيثم هو مبتكر طريقة التوسط التي - في بعض الأحيان - تعرف باسم طريقة التناسب. والجدير بالذكر أن طريقة التوسط طريقة تمتاز بسهولتها لإيجاد الجذر الحقيقي التقريبي، والكثير من علماء الرياضيات يستعملونها ويفضلونها على طريقة الخطين لصاحبها العالم المسلم محمد بن موسى الخوارزمي، وطريقة الميزان لصاحبها بهاء الدين العاملي، كما أن ابن الهيثم أعطى اهتماما كبيرا لبعض خواص التناسب وعرفها بأن " التناسب هو التساوي بين نسبتين
ب / جـ = د / هـ (ب، هـ) طرفي التناسب، (جـ، د) وسطي التناسب
1- ب /جـ = د / هـ ب هـ = جـ د(4/307)