الثمن مجهول فيصير الثمن مجهولا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحكم لأرباب بريرة بشيء مع فساد الشرط وصحة البيع. (الشرح الكبير على المقنع 4 ص 55) .
والرواية الثانية أن الشرط الفاسد يبطل البيع؛ لأن الشرط إذا فسد وجب الرجوع (1) إنما رضي بزوال ملكه عن المبيع بشرطه، والمشتري كذلك إذا كان الشرط منه، فلو صح البيع بدونه لزال ملكه بغير رضاه، والبيع من شرطه التراضي. (الشرح الكبير 4 المقنع 4 ص 54) .
ونرى مما تقدم أن المذهب الحنبلي والمذهب المالكي لا يختلفان كثيرا في الشرط الذي ينافي مقتضى العقد، ففي كلا المذهبين فاسد. ولكن مذهب مالك يتدرج في ترتيب الجزاء على هذا الشرط الفاسد، فتارة يبطل الشرط والعقد معا، وطورا الشرط ويستبقي العقد صحيحا، وثالثة يبطل الشرط والعقد معا إلا إذا نزل المشترط عن شرطه فيسقط الشرط ويبقى العقد، وقد مر ذكر ذلك.
(ب) ويكون الشرط فاسدا أيضا إذا ورد في النهي عنه نص خاص. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة، وعن شرطين في بيع وسلف، وقال عليه السلام: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك (2) » فهناك إذن نص خاص في النهي عن الجمع بين شرطين في العقد، وفي النهي عن الجمع بين بيع وسلف.
أما الجمع بين شرطين في العقد فممنوع في مذهب أحمد كما قدمنا. والشرطان المنهي عنهما هما الشرطان اللذان فيهما منفعة لأحد المتعاقدين دون أن يقتضيها العقد أو يلائماه، ولو انفرد أي منهما كان صحيحا. مثل ذلك من اشترى ثوبا واشترط على البائع خياطته وقصارته، أو طعاما واشترط طحنه وحمله، فاجتماع الشرطين في العقد يبطل الكل: الشرطان باطلان والعقد باطل. أما إن شرط شرطين أو أكثر من مقتضى العقد أو مما يلائم العقد، مثل أن يبيعه بشرط الرهن أو الضمين وبشرط أن يسلم إليه المبيع أو الثمن، فهذا لا يؤثر في العقد وإن كثر.
وأما الجمع بين بيع وسلف فممنوع أيضا. ومعناه في مذهب أحمد أن يشترط أحد المتعاقدين على المتعاقد الآخر عقدا ثانيا مستقلا في مقابل العقد الأول. وليس معناه مجرد اجتماع صفقتين في عقد واحد، فقد قدمنا أن مجرد اجتماع صفقتين في عقد واحد يجوز كما إذا اشترط سكنى الدار أو حمل الحطب أو خياطة الثوب. وقد جاء في المغني (جزء 4ص 285) : " والثاني أن يشترط عقدا في عقد، نحو أن يبيعه شيئا بشرط أن يبيعه شيئا آخر أو يشتري منه أو يؤجره أو يزوجه أو يسلفه أو يصرف له الثمن أو غيره. فهذا شرط فاسد يفسد به البيع، سواء اشترطه البائع أو المشتري، ثم جاء في ص 290 - 291: ولو باعه بشرط أن يسلفه أو يقرضه، أو شرط المشتري ذلك عليه، فهو محرم والبيع باطل، وهذا مذهب مالك والشافعي ولا أعلم فيه خلافا إلا أن مالكا قال: إن ترك مشترط السلف السلف صح البيع، ولنا ما روى عبد الله بن عمرو «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ربح ما لم يضمن وعن بيع ما لم يقبض وعن بيعتين في بيعه وعن شرطين في بيع وعن بيع
__________
(1) بما ينقصه الشرط من الثمن وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولا، ولأن البائع. . . الخ.
(2) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، مسند أحمد بن حنبل (2/205) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .(2/128)
وسلف (1) » أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وفي لفظ: «لا يحل بيع وسلف (2) » . ولأنه اشترط عقدا في عقد ففسد كبيعتين في بيعة، ولأنه إذا اشترط القرض زاد في الثمن لأجله، فتصير الزيادة في الثمن عوضا عن القرض وربحا له وذلك ربا محرم، ففسد لو صرح به، ولأنه بيع فاسد فلا يعود صحيحا كما لو باع درهما بدرهمين ثم ترك أحدهما، هذا ويحتمل أن يبطل الشرط وحده، ولكن المشهور في مذهب أحمد أن هذا الشرط الفاسد يبطل العقد.
ويبدو أن المذهب الحنبلي، في منعه الجمع بين شرطين في العقد والجمع بين بيع وسلف، إنما يحتفظ ببقايا من مبدأ وحدة الصفقة، كما فعل المذهب المالكي في منعه الجمع بين بيع وسلف. وإنما تخطى المذهبان الحنبلي والمالكي مبدأ وحدة الصفقة في البيع والشرط الواحد؛ لأن خطب الشرط الواحد يسير وهو تابع للعقد ومتمم له. فلا يخل بوحدته إخلالا جسيما. أما إذا كان لتعدد الصفقة مظهر أوضح بأن اجتمع في العقد شرطان لا شرط واحد عند أحمد أو بأن اجتمعت صفقتان متقابلتان في عقد واحد عند أحمد ومالك، فهذا تعدد جسيم في الصفقة لا يجوز احتماله، وما احتمل منه اليسير لا يحتمل منه الكثير.
فالمذهبان المالكي، الحنبلي وقفا جامدين هنا، ولم يتخطيا مبدأ وحدة الصفقة تخطيا تاما ولم يجيزا تعدد الصفقة في صورته السافرة. وننظر الآن ماذا فعل ابن تيمية.
* * *
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4631) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(2) سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .(2/129)
استكمال المذهب الحنبلي بأقوال ابن تيمية
يقول ابن تيمية: إن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا يحرم ويبطل منها إلا ما دل على تحريمه وإبطاله نص أو قياس عند من يقول به، وأصول أحمد - رضي الله عنه - المنصوصة يجري أكثرها على هذا القول، ومالك قريب منه، (فتاوى ابن تيمية 3 ص 326 وص 329 وما بعدها) .
ويستدل ابن تيمية لصحة ما يقول بالنقل والعقل. أما النقل فلقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) ولقوله عليه السلام «المسلمون على شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما (2) »
وأما العقل فإنه يقول: " إن العقود والشروط من باب الأفعال العادية - أي ليست من العبادات - والأصل فيها عدم التحريم، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم. كما أن الأعيان الأصل فيها عدم التحريم، وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (3) عام في الأعيان والأفعال. وإذا لم تكن حراما لم تكن
__________
(1) سورة المائدة الآية 1
(2) سنن أبو داود الأقضية (3594) .
(3) سورة الأنعام الآية 119(2/129)
فاسدة؛ لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم. وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة، (الفتاوى 3 ص 334) فالوفاء بالشرط إذن واجب بالنقل والعقل، وبخاصة بعد أن رضيها المتعاقد مختارا، فإن الأصل في العقود رضا المتعاقدين، ونتيجتها هي ما أوجباه على نفسيهما بالتعاقد؛ لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (2) فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه، فدل على أنه سبب له. وإذا كان طيب النفس هو المبيح للصداق، فكذلك سائر التبرعات، قياسا بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن.
وكذلك قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) لم يشترط في التجارة إلا التراضي، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة، وإذا كان كذلك، فإذا تراضى المتعاقدان، أو طابت نفس المتبرع بتبرع، ثبت حله بدلالة القرآن، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلك (الفتاوى 3 ص 336 - 337) .
ويستخلص ابن تيمية من هذه المقدمات أن الأصل في الشرط أن يكون صحيحا ويصح معه العقد، سواء كان ذلك في المعاوضات أو في التبرعات، ففي المعاوضات يجوز للبائع أن يشترط منفعة المبيع كأن يسكن الدار شهرا أو ينتفع بزراعة الأرض سنة، ويجوز للمشتري أن يشترط على البائع أن يخيط له الثوب أو يحمل المبيع إلى داره أو يحصد الزرع، ويجوز أن يشترط البائع إذا باع الرقيق أن يعتقه المشتري، ولكن لا يجوز أن يشترط البائع أن يكون الولاء له عند الإعتاق؛ لأن هذا شرط يحلل حراما. وفي التبرعات يجوز لمن أعتق عبدا أن يشترط عليه أن يخدمه طول حياته، حياة العبد أو السيد، وقد ورد أن أم سلمة أعتقت عبدها سفينة واشترطت عليه أن يخدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما عاش (الفتاوى 3 ص 327) . ويجوز للواهب أو الواقف أن يشترط لنفسه منفعة ما يهبه أو يقفه مدة معينة أو طول حياته (نظرية العقد لابن تيمية ص 16 - الفتاوى 3ص 389 - 390) بل يصح أن تكون المنفعة التي استثناها المتبرع وأضافها لنفسه منفعة غير معلومة إذ يجوز في التبرعات من الغرر ما لا يجوز في المعاوضات كما تقدم القول. وفي هذا يقول ابن تيمية: " يجوز لكل من أخرج عينا عن ملكه بمعاوضة كالبيع والخلع، أو تبرع كالوقف والعتق، أن يستثني بعض منافعها، فإن كان مما لا يصح فيه الغرر كالبيع، فلا بد أن يكون المستثنى معلوما؛ لما روي عن جابر. وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف، فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش عبده أو عاش فلان، أو يستثني غلة الوقف ما عاش الواقف " (الفتاوى 3ص 342 - 343) .
* * *
ويبني ابن تيمية على ما تقدم أن الشرط لا يفسد إلا على سبيل الاستثناء، وفي موضعين:
(الأول) إذا كان الشرط ينافي المقصود من العقد، مثل أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) سورة النساء الآية 4
(3) سورة النساء الآية 29(2/130)
أو يؤجره. ذلك أن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره، ثم شرط العاقد فيه ما ينافي هذا المقصود فقد جمع بين المتناقضين، بين إثبات المقصود ونفيه، فمثل هذا الشرط باطل. ويقول ابن تيمية في تفسيره للمعنى المراد بالشرط الذي ينافي المقصود في العقد وفي تمييزه بين هذا الشرط والشرط الذي يناقض الشرع، ما يأتي: " إن العقد له حالان، حال إطلاق وحال تقييد، ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود، فإذا قيل: هذا شرط ينافي مقتضى العقد، فإن أريد به ينافي العقد المطلق فكذلك كل شرط زائد وهذا لا يضره، وإن أريد ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد احتاج إلى دليل على ذلك. وإنما يصح هذا إذا أتى في مقصود العقد. فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود، فقد جمع بين المتناقضين، بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء. ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق، بل هو مبطل للعقد عندنا. والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها قد تنافي مقصود الشارع مثل اشتراط الولاء لغير المعتق، فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصوده، فإن مقصوده الملك، والعتق قد يكون مقصودا للعقد فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا، فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه كما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «كتاب الله وشرط الله أوثق (1) » فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان لغوا، وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا لله ورسوله، فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما؛ إذا لم يكن لغوا ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله، فلا وجه لتحريمه بل الواجب حله؛ لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه، فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه، ولم يثبت تحريمه فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج.
* * *
(الثاني) الشرط الذي يناقض الشرع فيحل الحرام. ويبدو أن ابن تيمية يبدأ بالتمييز بين منطقة الحرام ومنطقة المباح. فلا يستطيع الشرط في منطقة الحرام أن يجعل الحرام حلالا، بل كان ما كان حراما بدون الشرط فالشرط لا يبيحه، كالزنا، وكثبوت الولاء لغير المعتق. وأما ما كان مباحا بدون الشرط، كالزيادة في مهر المثل، وكالتبرع برهن لتوثيق الثمن، فيصح أن يوجب الشرط فعله بعد أن كان تركه مباحا، بل كان تركه هو الأصل المعمول به ما دام الشرط الموجب لفعله لم يوجد، وليس في ذلك تحريم للحلال أو تحليل للحرام، فيكون الشرط الموجب لفعل المباح شرطا مشروعا، ومن ثم يكون صحيحا. ويقول ابن تيمية في هذا المعنى ما يأتي:
فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله. . وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه، فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما. . وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا. . وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهنا، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها، فإنه يجب ويحرم ويباح لهذا الشرط ما لم يكن كذلك. وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشرط، قالوا:
__________
(1) صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) .(2/131)
لأنها إما أن تبيح حراما أو تحرم حلالا أو توجب ساقطا أو تسقط واجبا، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع. . وليس كذلك، بل كل ما كان حراما بدون الشرط فالشرط لا يبيحه، كالزنا وكالوطء في ملك الغير، وكثبوت الولاء لغير المعتق، فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح أو يمين، فلو أراد رجل أن يعير أمته للوطء لم يجز له ذلك، بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز. وكذلك الولاء، «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء وعن هبته (1) » وجعل الله الولاء كالنسب يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد. . فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط فلا يبيح الشرط ما كان حراما. وأما ما كان مباحا بدون الشرط فالشرط يوجبه، كالزيادة في المهر والثمن والمثمن والراهن.
ونرى من ذلك أن ابن تيمية لا يجعل الشرط فاسدا إلا إذا كان منافيا للمقصود من العقد وهذا طبيعي، وإلا إذا كان مناقضا للشرع فيحل حراما، وهذا أشبه في الفقه الغربي بالشرط الذي خالف القانون أو النظام العام. ولم يعرض ابن تيمية لتحريم اجتماع الشرطين ولا لتحريم اجتماع البيعتين في بيعة أو اجتماع البيع والسلف. ومن ثم يكون تطور الفقه الإسلامي في تصحيح الشروط قد وصل على يد ابن تيمية إلى غاية تقرب مما وصل إليه الفقه الغربي الحديث.
* * *
__________
(1) صحيح البخاري الفرائض (6756) ، صحيح مسلم العتق (1506) ، سنن الترمذي الولاء والهبة (2126) ، سنن النسائي البيوع (4657) ، سنن أبو داود الفرائض (2919) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2747) ، مسند أحمد بن حنبل (2/107) ، موطأ مالك العتق والولاء (1522) ، سنن الدارمي البيوع (2572) .(2/132)
مقارنة بين المذاهب الأربعة في تصحيح الشروط المقترنة بالعقد
مقارنة إجمالية:
يتبين مما قدمنا أن المذاهب الأربعة من ناحية تصحيح الشروط المقترنة بالعقد، يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسين:
1 - قسم يضيق في تصحيح الشروط ويلتزم مبدأ وحدة الصفقة، فلا يبيح إلا شرطا اقتضاه العقد أو لاءم العقد أو جرى به التعامل، وهذان هما المذهب الحنفي والمذهب الشافعي.
2 - وقسم يتوسع في تصحيح الشروط ولا يلتزم بمبدأ وحدة الصفقة، فيبيح الشروط، ما لم تكن منافية لمقتضى العقد أو مناقضة للشرع، وهذا هما المذهب المالكي والمذهب الحنبلي.
فتطور الفقه الإسلامي نحو تصحيح الشروط، ونبذ مبدأ وحدة الصفقة الذي كان أساسا من أسس الصناعة القانونية في المراحل الأولى من تطور القانون. أوضح وأبرز في القسم الثاني منه في القسم الأول على أنه يبدو(2/132)
لنا أن المذهب الحنفي على ضيقه في تصحيح الشروط وتأخره في التطور من هذه الناحية، هو أكثر المذاهب تقدما من ناحية تنسيق الصناعة القانونية. فنظريته في فساد العقد تفوق في وضوحها وتسلسلها المنطقي نظائرها في المذاهب الأخرى.
* * *(2/133)
مقارنة تفصيلية
على أن هناك فروقا تفصيلية ما بين المذهب الحنفي ومذهب الشافعي اللذين ينتظمهما القسم الأول، وكذلك ما بين المذهب المالكي والمذهب الحنبلي اللذين ينتظمهما القسم الثاني.
فالمذهب الحنفي ومذهب الشافعي يبيحان جميعا الشرط الذي يقتضيه العقد، ويبيحان كذلك الشرط الذي يلائم العقد، إلا أن المذهب الحنفي يبيحه استثناء على سبيل الاستحسان، ومذهب الشافعي يبيحه أصلا لا استثناء. ثم يتميز المذهب الحنفي على مذهب الشافعي بإفساحه المجال للشرط الذي جرى به التعامل، ويبيحه استحسانا كذلك، فيدخل العرف من هذا الباب عنصرا مرنا يطور الفقه الإسلامي. أما المذهب الشافعي فلا تكاد تلمح فيه باب جريان التعامل مفتوحا. إنما يتحدث المذهب عن شرط تدعو إليه الحاجة فهو شرط لمصلحة العقد، ويمزج بينه وبين الشرط الذي يلائم العقد. ولكن مذهب الشافعي، من جهة أخرى، يصحح شروطا لا يصححها المذهب الحنفي، ومن ذلك اشتراط بائع الرقيق على مشتريه أن يعتقه، ومن ذلك ما يشترط الزوج في زوجته من بكارة أو جمال أو غير ذلك. وما تشترط الزوجة في زوجها من مال أو حرفة أو مورد للعيش.
أما المذهبان المالكي والحنبلي فيصدران جميعا عن مبدأ واحد، هو أن الأصل في الشروط الصحة، والفساد هو الاستثناء، فينبذان بذلك - إلى حد كبير - وحدة الصفقة. وقد يزيد المذهب الحنبلي على المذهب المالكي في تصحيح الشروط، كما أشار إلى ذلك ابن تيمية حين قال: " وأصول أحمد رضي الله عنه المنصوصة يجري أكثرها على هذا القول، ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه ". فيجوز في مذهب أحمد مثلا أن تشترط الزوجة على زوجها ألا يخرجها من بلدها أو دارها، أو لا يتسرى أو ألا يتزوج عليها، فإن لم يف لها بشرطها كان لها أن تفسخ الزواج. وهذه الشروط غير جائزة في مذهب مالك.
ولكن التميز الحقيقي للمذهب الحنبلي على المذهب المالكي ليس في الشروط الصحيحة، وإنما هو الشروط الفاسدة. على أننا أخذنا المذهب الحنبلي كما كان قبل أن يجدد فيه ابن تيمية، لما كاد يتميز عن المذهب المالكي(2/133)
في ذلك. ففي المذهبين يفسد الشرط إذا كان مناقضا لمقتضى العقد، أو كان صفقة أخرى تقابل الصفقة الأصلية كبيع وسلف، فيخل الشرط بالثمن كما يقول المذهب المالكي، أو ينهى عن الشرط نص خاص كما يقول المذهب الحنبلي. وفي هذا النوع من الشرط الفاسد نلمح في المذهبين أثرا لمبدأ وحدة الصفقة، فهما يستبقيان هذا المبدأ في صورة من صوره، بل أن المذهب الحنبلي يزيد على المذهب المالكي بتحريم اجتماع الشرطين في عقد واحد. أما إذا أخذنا المذهب الحنبلي بعد تجديد ابن تيمية، فإننا نراه يتقدم تقدما كبيرا في التطور، فينبذ مبدأ وحدة الصفقة، ويضيق من منطقة الشروط الفاسدة، فلا يكون الشرط فاسدا إلا إذا كان منافيا لمقتضى العقد، أو إلا إذا كان مناقضا للشرع. اهـ
ويمكننا - على ضوء ما تقدم تقسيم الشروط في العقود إلى صحيح وفاسد - أن ننظر هل الشرط الجزائي من الشروط الصحيحة في العقود أم من الفاسدة؟ وفي حال القول بفساده هل ينحصر الفساد فيه أم يتعداه إلى العقد نفسه فيبطل ببطلانه.
لقد ذكر أهل العلم رحمهم الله أن الشروط في العقود قسمان: صحيح وفاسد
أما الصحيح فثلاثة أنواع: أحدها شرط يقتضيه العقد كالتقابض وحلول الثمن، ويظهر أن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع لإمكان تحقيق العقد بدونه.
الثاني: شرط من مصلحة العقد كاشتراط صفة في الثمن كالتأجيل أو الرهن أو الضمين به أو صفة في المثمن ككون العبد خصيا أو مسلما والأمة بكرا والدابة هملاجة، وحكمه أنه صحيح وإن المشروط عليه إن وفى بالشرط لزم البيع وإن لم يف به فإن تعذر الوفاء تعين الأرش لصاحب الشرط، وإن لم يتعذر الوفاء به ففيه وجهان، الأول: أن صاحب الشرط مخير بين الفسخ والأرش وهو الصحيح من المذهب، والثاني: أنه ليس له إلا الفسخ.
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الشرط الجزائي من مصلحة العقد؛ لأنه حافز لمن شرط عليه أن ينجز لصاحب الشرط حقه، ومساعد له على الوفاء بشرطه، فكان شبيها باشتراط الرهن والكفيل في الوفاء لصاحب الشرط بشرطه، وإذن يصح الشرط، ويلزم الوفاء به، فإن لم يف وتعذر استدراك ما فات تعين لمن اشترط شرطا جزائيا الأرش، وقد اتفق عليه عند العقد بتراضيهما، وإن لم يتعذر الاستدراك فلصاحب الشرط الخيار بين فسخ العقد والأرش مع بقائه.
الثالث: شرط فيه منفعة معلومة وليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته وليس منافيا لمقتضاه كاشتراط البائع سكنى الدار شهرا أو اشتراط المشتري خياطة الثوب، وفي حكمه خلاف، قيل: يصح وقيل: لا يصح، ويظهر أن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع من الشروط فهو مرتبط بالعقد حيث إنه تقدير للضرر المتوقع حصوله في حالة عدم الوفاء بالالتزام.
وأما الفاسدة فثلاثة أنواع:
أحدها: أن يشترط أحد طرفي العقد على الطرف الثاني عقدا آخر كبيع أو إجارة أو نحو ذلك فهذا الشرط غير صحيح، وهل يبطل العقد لبطلان الشرط أم يصح العقد ويبطل الشرط، قولان لأهل العلم أشهرها(2/134)
القول ببطلان العقد لبطلان الشرط لكونه من قبيل بيعتين في بيعة، المنهي عنها. وفي القول بصحة العقد وبطلان الشرط رواية عن الإمام أحمد سنده فيها حديث عائشة حيث أرادت أن تشتري بريرة للعتق فاشترط أهلها ولاءها فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «اشتريها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق (1) » متفق عليه. فصحح الشراء مع إبطال الشرط. ويمكن أن يقال: بأن الشرط الجزائي من هذه الشروط الفاسدة المترتب على فسادها على المشهور لدى بعض أهل العلم فساد العقود المشتملة عليها. وتوجيه ذلك أن الشرط الجزائي يعتبر عقد معاوضة مغايرا للعقد الأصلي فهو من مسائل بيعتين في بيعة المنهي عنها. ويمكن أن يرد هذا بأن الشرط الجزائي ليس مستقلا عن العقد الأصلي وإنما هو من قبيل الاحتياط في إكماله بالوفاء بالشرط أو التعويض عما يترتب على الإخلال به من ضرر فليس من قبيل بعتك على أن تقرضني أو تزوجني أو تؤجرني؛ لأن كل وحد من هذه العقود يمكن أن يقع مستقلا عن العقد الأصلي بخلاف الشرط الجزائي فإنه لا يقع مستقلا.
الثاني من الشروط الفاسدة: شرط ينافي مقتضى العقد كأن يشترط في المبيع أن لا خسارة عليه أو ألا يبيع ولا يهب ولا يعتق، فهذه الشروط باطلة. وهل تبطل العقود المشتملة عليها؟ قولان لأهل العلم وهما روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما لا يبطل العقد وهو المذهب، اختاره في المغني، ونصره في الشرح، وجزم به في الوجيز، وقدمه في الفروع؛ لحديث بريرة، وإذا ألغى الشرط لبطلان كان لصاحبه الخيار بين الفسخ وما نقص من الثمن، وقيل: ليس له إلا الفسخ أو الإمضاء ولا أرش له، ويمكن أن يقال: إن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع من الشروط؛ لأنه منافاة بين نفاذه وبين العقد المشتمل عليه
الثالث من الشروط: الفاسدة شرط يعلق به العقد كقوله: بعتك إن جئتني بكذا أو إن رضي فلان، أو يقول الراهن: إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك، فلا يصح المبيع، وهذا هو المذهب؛ لأن مقتضى العقد انعقاد البيع، وهذا الشرط يمنعه وللإمام أحمد رحمه الله رواية في تصحيح البيع والشرط اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه لم يخالف نصا. ويمكن أن يقال بأن الشرط الجزائي من هذا النوع من الشروط باعتبار عقد معاوضة مستقلا. وعلى هذا الاعتبار فهو عقد معاوضة معلق على حصول الإخلال بالتزام في العقد الأصلي فتجري فيه أحكام هذا النوع من الشروط إلا أن القول ببطلان العقد لبطلانه لا يأتي على العقد الأصلي المشتمل عليه؛ لأن تحقق العقد الأصلي ليس مرهونا بوجود الشرط وإنما يعتبر الشرط الجزائي عقد معاوضة مستقلا معلقا نفاذه على الإخلال بالعقد الأصلي ذلك؛ لأن النص في عقد المقاولة مثل بعبارة: إن تأخر إكمالك العمل عن شهر كذا فعليك عن كل شهر تتأخر مبلغ كذا. يعتبر عقدا يشبه في الجملة عقد الرهن المتضمن قول الراهن: إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك. ويمكن أن يرد على هذا بأن الشرط الجزائي ليس مستقلا عن العقد الأصلي وإنما هو من قبيل الاحتياط في إكماله بالوفاء بالشرط أو التعويض عما يترتب على الإخلال به من ضرر فليس من قبيل: بعتك على أن تقرضي أو تؤجرني أو تزوجني؛ لأن كل واحد من هذه العقود يمكن أن يقع مستقلا عن العقد الأصلي بخلاف الشرط الجزائي فإنه لا يقع مستقلا.
ونذكر جملة من العقود التي اقترن بها شرط، وكان ذلك مثار خلاف أئمة الفقهاء.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2168) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .(2/135)
أ - بيع العربون وهو: أن يشتري السلعة ويدفع إلى البائع مبلغا من المال على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن وإن لم يأخذها فهو للبائع.(2/136)
وقد بحث علماء المذاهب الإسلامية المعتبرة هذا النوع من البيوع واختلفوا فيه على قولين:
فذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى القول بتصحيحه. قال أبو محمد ابن قدامة رحمه الله (1) : والعربون في البيع هو أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهما أو غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن وإن لم يأخذها فذلك للبائع، يقال: عربون وأربون وعربان وأربان. قال أحمد: لا بأس به وفعله عمر - رضي الله عنه -، وعن ابن عمر أنه أجازه، وقال ابن سيرين: لا بأس به، وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئا، وقال أحمد: هذا في معناه، واختار أبو الخطاب أنه لا يصح، وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ويروى ذلك عن ابن عباس والحسن؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن بيع العربون (2) » رواه ابن ماجه، ولأنه شرط للبائع شيئا بغير عوض فلم يصح كما لو شرطه لأجنبي. ولأنه بمنزلة الخيار المجهول، فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح، كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهما، وهذا هو القياس، وإنما صار أحمد فيه إلى ما روي فيه عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا. قال الأثرم: قلت لأحمد تذهب إليه؟ قال أي شيء أقول؟ هذا عمر رضي الله عنه، وضعف الحديث المروي. روى هذه القصة الأثرم بإسناده.
فأما إن دفع إليه قبل المبيع درهما وقال: لا تبع هذه السلعة لغيري، وإن لم أشترها منك فهذا الدرهم لك ثم اشتراها منه بعد ذلك بعقد مبتدأ وحسب الدرهم من الثمن صح؛ لأن البيع خلا عن الشرط المفسد، ويحتمل أن الشراء الذي اشتري لعمر كان على هذا الوجه فيحمل عليه جمعا بين فعله وبين الخبر وموافقة القياس، والأئمة القائلين بفساد العربون وإن لم يشتر السلعة في هذه الصورة، لم يستحق البائع الدرهم؛ لأنه يأخذه بغير عوض ولصاحبه الرجوع فيه ولا يصح جعله عوضا عن انتظاره وتأخير بيعه من أجله؛ لأنه لو كان عوضا عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء، ولأن الانتظار بالمبيع لا تجوز المعاوضة عنه ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار كما في الإجارة. اهـ.
وقد لخص الدكتور السنهوري أدلة القولين ورد أدلة القائلين ببطلان بيع العربون فقال بعد إيراده ما ذكره ابن قدامة رحمه الله ما نصه: (3) .
ويمكن أن نستخلص من النص المتقدم ما يأتي:
إن الذين يقولون ببطلان بيع العربون يستندون في ذلك إلى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) المغني جـ 4 ص 232 ـ 233 طبعة المنار.
(2) سنن أبو داود البيوع (3502) ، سنن ابن ماجه التجارات (2193) .
(3) مصادر الحق في الفقه الإسلامي الجزء الثاني ص 101 ـ 102.(2/136)
الذي نهى عن بيع العربون؛ ولأن العربون اشترط للبائع بغير عوض، وهذا شرط فاسد؛ ولأنه بمنزلة الخيار المجهول إذا اشترط المشتري خيار الرجوع في البيع من غير ذكر مدة كما يقول: ولي الخيار متى شئت ردت السلعة ومعها درهم.
إن أحمد يجيز بيع العربون ويستند في ذلك إلى الخبر المروي عن عمر، وضعف الحديث المروي في النهي عن بيع العربون، وإلى القياس على صورة متفق على صحتها هي: أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها ويرد معها شيئا، قال أحمد: هذا في معناه.
ونرى أنه يستطاع الرد على بقية حجج من يقولون ببطلان بيع العربون - فالعربون لم يشترط للبائع بغير عوض إذ العوض هو الانتظار بالمبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة، وليس بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول إذ المشتري إنما يشترط خيار الرجوع في البيع مع ذكر مدة معلومة إن لم يرجع فيها مضت الصفقة وانقطع الخيار. اهـ.
ويمكن أن يقال بأن الشرط الجزائي يشبه بيع العربون في أن كلا منهما شرط يوجب على من أخل بالشرط عقوبة مالية يجري تعيينها قبل حصول ذلك.
ونوقشت المقارنة والترجيح بما يأتي:
أولا: في سند الأثر الذي فيه شراء نافع من صفوان دار السجن، عبد الرحمن بن فروخ السعد مولى عمر، وهو مجهول العين؛ لأنه لم يرو عنه إلا عمرو بن دينار ولذا ترك مسلم الرواية عنه في صحيحه، ولم يرو عنه البخاري إلا في التعليقات اللهم إلا أن يقال: إن الشهرة تقوم مقام راو آخر، ذكر معنى ذلك ابن حجر في تهذيب التهذيب عن الحاكم.
ثانيا: هذا الأثر يحتمل متنه أن يكون عقد الشراء قد أبرم فعلا بين نافع وصفوان، ويحتمل أن يكون مجرد وعد من نافع لصفوان بالشراء، ثم كان العقد بعد العرض على عمر ورضاه.
ثالثا: دعوى الاتفاق على ما قاله ابن سيرين من أنه لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئا، تحتاج إلى إثبات حتى يتأتى قياس بيع العربون عليه، وإلا فمجرد قول ابن سيرين ليس بأصل يرجع إليه في الاستدلال، والإمام أحمد ليس بمجتهد مذهب حتى يقال إن هذا من باب التخريج على مسألة في المذهب بل هو مجتهد مطلق يرجع في اجتهاده إلى الأصول الشرعية.
رابعا: ذكر الأستاذ السنهوري أن العربون عوض عن انتظار البائع أو عن تفويت فرصة البيع عليه، فهل الانتظار أو تفويت الفرصة مما يقوم بمال حتى يستحق البائع العربون عوضا عنه؟ هذا محل(2/137)
نظر، فالمخالف لا يوافقه على ذلك كما مر في النقل عن ابن قدامة رحمه الله.
خامسا: لم يذكر في تعريف بيع العربون تعيين مدة، فكان شبهة بالخيار المجهول ثابتا.
ب - مسألة ما إذا أعطى الرجل الخياط ثوبه فقال له: إن خطته اليوم فبعشرة أو خطته غدا فبتسعة. فهذه المسألة بحثها الفقهاء رحمهم الله ومنهم أبو الحسن المرداوي الحنبلي، فقد قال ما نصه:
قوله: وإن قال: إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم فهل يصح؟ على روايتين. وأطلقهما في الهداية والمذهب والمستوعب والخلاصة والمغني والشرح والفائق وشرح ابن منجا والحاوي الصغير إحداهما لا يصح وهو المذهب، والرواية الثانية يصح، وقدمه في الرعايتين. اهـ (1) .
ج - مسألة ما إذا أكرى لأحد الناس دابة فقال: إن ردتها اليوم فكراؤها خمسة وإن رددتها غدا فكراؤها عشرة. فقال أحمد في رواية عبد الله: لا بأس به، قال في الفائق: صح في أصح الروايتين وجزم في الوجيز والمذهب وقدمه في الرعايتين والخلاصة والحاوي الصغير والنظم (2) .
فعلى رأي القائلين بصحة العقد في المسألتين (ب - جـ) يكونون قد صححوا اقتطاع جزء من كل الأجرة جزاء التأخير، وهذا يشبهه الشرط الجزائي من حيث إن كلا منهما يوجب على المتسبب في الإخلال بالاتفاق غرامة مالية يجري تقديرها سلفا في مبدأ العقد. وقد يرد على ذلك بأن العقد في كلتا الصورتين ليس مشتملا على شرط التنجيز بخياطة الثوب أو رد الدابة وإنما هو عقد تخييري لحالين، أي حال منهما يقع عليها الاختيار يتعين العقد بموجبها، وعليه فليس فيه اقتطاع جزء من كامل الأجرة.
د - مسألة إذا قال: من خاط لي هذا الثوب في هذا اليوم فله كذا: فإذا خاطه في اليوم الثاني مثلا فهل يستحق الجعل أو أجرة المثل أو لا يستحق شيئا؟ هذه المسألة ذكرها ابن قدامة رحمه الله في المغني فقال في معرض تفريقه بين الإجارة والجعالة في حكم الجمع بين تقدير المدة والعمل: وإن علقه بمدة معلومة فقال: من رد لي عبدي من العراق إلى شهر فله دينار. أو من خاط قميصي هذا في اليوم فله درهم صح؛ لأن المدة إذا جازت مجهولة فمع التقدير أولى. . . إلى أن قال: فإن العمل الذي يستحق به الجعل هو عمل مقيد بمدة إن أتى به فيها استحق الجعل ولا يلزمه شيء آخر، وإن لم يف به فيها فلا شيء له. اهـ (3) .
__________
(1) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف جـ 6 ص 18.
(2) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف جـ 6 ص 20.
(3) المغني جـ 6 ص 28 مطبعة الإمام.(2/138)
وذكرها البهوتي رحمه الله في الكشاف فقال:
ويصح الجمع بين تقدير العمل والمدة كأن يقول: من خاط لي هذا الثوب في يوم فله كذا فإن أتى به فيها استحق الجعل ولم يلزمه شيء آخر وإن لم يف به فيها فلا يلزمه شيء له. اهـ (1) .
فعلى القول بأنه يستحق أجرة المثل إن لم يكن أكثر من الجعل ففي حال نقص أجرة المثل عن الجعل فإن الفرق بينهما في مقابلة التأخير، وعليه فيمكن أن يقال بأن الشرط الجزائي يشبهه من حيث إن استحقاق الشرط الجزائي في مقابلة الإخلال بالالتزام ومنه التأخير.
هـ - المسألة التي حكم فيها القاضي شريح والتي سبق ذكرها في أول البحث ونصها: روى البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين أن رجلا قال لكريه: أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم، فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعا غير مكروه فهو عليه. اهـ.
فهذه المسألة صريحة في أنها من أنواع الشروط الجزائية.
ويمكن أن يقال بتصحيح الشرط الجزائي بناء على اعتباره عقوبة مالية في مقابلة الإخلال بالالتزام حيث إن الإخلال به مظنة الضرر وتفويت المنافع، ولأن في تصحيحه ووجوب الوفاء به سدا لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله، وسببا من أسباب الحفز على الوفاء بالوعود والعهود تحقيقا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2)
هذا ومن الجدير بالذكر أن اللجنة بنت ما ذكرته من احتمالات في تطبيق الضوابط وفي الإلحاق بالنظائر على أوسع المذاهب في ذلك، وأقر بها إلى قوة الدليل، فإن سلم ذلك وظهر الحكم فالحمد لله، وإلا فالشرط الجزائي أبعد عن الحكم فيه بالجواز إذا طبقت عليه ضوابط الشروط الصحيحة والفاسدة في المذاهب الفقهية الأخرى كالمذهب الحنفي والشافعي، اللهم إلا أن ينظر إلى ما نقل عن الحنفية من اعتبار ما جرى به التعامل وتعارفه الناس في معاملاتهم وكان غير مناقض لمقتضى العقد، فبهذا يمكن أن يقال: إن الشرط الجزائي يتسع له هذا الضابط، فيعد من الشروط الصحيحة.
هذا ما تيسر ذكره، وبالله التوفيق. . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. .
__________
(1) كشف القناع عن متن الإقناع جـ 4 ص 173.
(2) سورة المائدة الآية 1(2/139)
ملخص قرار الهيئة
الحمد لله:
بعد مداولة الرأي والمناقشة واستعراض المسائل التي يمكن أن يقاس عليها الشرط الجزائي ومناقشة توجيه قياسه على تلك المسائل والإيراد عليه وتأمل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) وما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من قوله: «المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا (2) » ، ولقول عمر - رضي الله عنه - " مقاطع الحقوق عند الشروط " والاعتماد على القول الصحيح: من أن الأصل في الشروط الصحة وأنه لا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصا أو قياسا.
واستعراض ما ذكره أهل العلم من تقسيم الشروط في العقود إلى صحيحة وفاسدة، وتقسيم الصحيحة إلى ثلاثة أنواع:
__________
(1) سورة المائدة الآية 1
(2) سنن أبو داود الأقضية (3594) .(2/140)
إحداها: شرط يقتضيه العقد: كاشتراط التقابض وحلول الثمن.
الثاني: شرط من مصلحة العقد: كاشتراط صفة في الثمن كالتأجيل أو الرهن أو الكفيل به أو صفة في الثمن ككون الأمة بكرا.
الثالث: شرط فيه منفعة معلومة وليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته ولا منافيا لمقتضاه: كاشتراط البائع سكنى الدار شهرا.
وتقسيم الفاسدة إلى ثلاثة أنواع.
إحداها: اشتراط أحد طرفي العقد على الطرف الثاني عقدا آخر: كبيع أو إجارة أو نحو ذلك.
الثاني: اشتراط ما ينافي مقتضى العقد: كأن يشترط في المبيع ألا خسارة عليه أو ألا يبيع أو يهب ولا يعتق.
الثالث: الشرط الذي يتعلق به العقد: كقوله: بعتك إن جاء فلان.
وبتطبيق الشرط الجزائي عليها وظهور أنه من الشروط التي تعتبر من مصلحة العقد إذ هو حافز لإكمال العقد في وقته المحدود له، والاستئناس بما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين أن رجلا قال لكريه: أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم، فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه. وقال أيوب عن ابن سيرين أن رجلا باع طعاما وقال: إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع، فلم يجئ فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت فقضى عليه.
وفضلا عن ذلك فهو في مقابلة الإخلال بالالتزام حيث إن الإخلال به مظنة الضرر وتفويت المنافع. وفي القول بتصحيح الشرط الجزائي سد لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله، وسبب من أسباب الحفز على الوفاء بالعهود والعقود تحقيقا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1)
لذلك كله فإن المجلس يقرر بالإجماع: أن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر يجب الأخذ به ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام
__________
(1) سورة المائدة الآية 1(2/141)
الموجب له يعتبر شرعا فيكون العذر مسقطا لوجوبه حتى يزول. وإذا كان الشرط الجزائي كثيرا عرفا بحيث يراد به التهديد المالي ويكون بعيدا عن مقتضى القواعد الشرعية فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف على حسب ما فات من منفعة أو لحق من مضرة.
ويرجع تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي عن طريق أهل الخبرة والنظر عملا بقوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (1) وقوله سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (2) وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ضرر ولا ضرار (3) » وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. . .
__________
(1) سورة النساء الآية 58
(2) سورة المائدة الآية 8
(3) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .(2/142)
الفهرس
59 الشرط الجزائي.
61 المراد بالشرط الجزائي والداعي إليه.
64 ما يندرج تحته الشرط الجزائي من أنواع الشروط التي تشترط في عقود المعاملات أو إجارة أو نحو ذلك مع بيان وجه الاندراج.
97 ضوابط الشروط المقترنة بالعقد.
101 ما يجب لصحة الشرط الذي يلائم العقد.
104 الشرط الذي يلائم العقد يصح استثناؤه على سبيل الاستحسان عند الحنفية ويصح أصلا في المذاهب الأخرى.
105 الشرط الذي يجري به التعامل.
106 الشرط الفاسد.
107 أولا: المذهب الحنفي.
107 شرط فاسد يفسد العقد.
109 الصور المختلفة للشرط الفاسد الذي يفسد العقد.
111 الأسباب التي دعت المذهب إلى القول بفساد الشرط والعقد في هذه الصور.
112 العقود التي يكون فيها الشرط الفاسد مفسدا للعقد.
112 شرط فاسد يسقط ويبقى العقد
113 شرط لا منفعة فيه لأحد وهو شرط فاسد فيسقط.
115 تأصيل المذهب الحنفي وتطور الفقه الإسلامي
أ - سبب فساد العقد في المذهب الحنفي.
ب - السبب الحقيقي في فساد العقد إذا اقترن بالشرط.(2/143)
الفهرس
ج - علتان تنتهيان إلى علة واحدة - تعدد الصفقة.
117 السبب في تحريم تعدد الصفقة - وحدة العقد.
118 تطور الفقه الإسلامي في الشروط المقترنة بالعقد.
تطور الفقه الإسلامي في المذاهب الأربعة.
تطور الفقه الإسلامي في المذهب الحنفي.
119 تطور الفقه الإسلامي في المذهب الشافعي.
121 تطور الفقه الإسلامي في المذهب المالكي.
121 الشرط الصحيح في مذهب مالك.
122 الشرط الفاسد في مذهب مالك.
124 تقدير مذهب مالك.
124 تطور الفقه الإسلامي في المذهب الحنبلي.
124 المذهب الحنبلي أبعد المذاهب تطورا في تصحيح الشروط.
125 الشرط الصحيح في مذهب الحنابلة.
127 الشرط الفاسد في مذهب الحنابلة.
129 استكمال المذهب الحنبلي بأقوال ابن تيمية.
130 ابن تيمية: الشرط لا يفسد إلا على سبيل الاستثناء في موضعين.
132 مقارنة بين المذاهب الأربعة في تصحيح الشروط المقترنة بالعقد.
مقارنة إجمالية.
133 مقارنة تفصيلية.
140 ملخص قرار الهيئة.(2/144)
عبد الحليم محمود
من زوايا الدعوة إلى الله
قال الله تعالى:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1)
آية: 104 - آل عمران.
ونبدأ فنقول:
إن كلمة " من " في قوله تعالى: " منكم " إنما هي للتبعيض، أخرجت من لا يستطيعون الدعوة إلى الخير ولا يستطيعون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعجزهم أو جهلهم أو ضعفهم.
وهذا المعنى على هذه الصورة ينسجم انسجاما
الدكتور عبد الحليم محمود
شيخ الجامع الأزهر
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104(2/145)
تاما مع المعنى إذا قلنا: إن " من " للتبيين أو أنها صلة وتكون بمثابة " من " في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} (1)
إنه سبحانه لم يرد اجتناب بعض الأوثان بل أراد: اجتنبوا الأوثان جميعها.
" والأمة كلها إذن - ما عدا من لا يستطيعون - مأمورة بالدعوة إلى الخير، ومأمورة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك أن الآية الكريمة افتتحت بالأمر:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} (2)
وهذه الصيغة صيغة أمر؛ لأن اللام في قوله تعالى: " ولتكن " لام الأمر.
على أن القرآن صريح في إيجاب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة، يقول سبحانه:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (3)
ولقد بدأت هذه الآية الكريمة بالدعوة إلى الخير، والخير في الآية الكريمة: هو الأخلاق الفاضلة.
* * *
والأخلاق في جو الإسلام مرتبطة بالدين ارتباطا لا ينفصل، منه تنبع، وعلى أساسه تقوم، وعنه تصدر، إنها جزء من الدين الإسلامي، لا يتجزأ، مصدرها هو مصدره: إلهي رباني.
وبعض الناس في العصر الحديث يريد أن يجعل للأخلاق مصادر أخرى.
__________
(1) سورة الحج الآية 30
(2) سورة آل عمران الآية 104
(3) سورة آل عمران الآية 110(2/146)
يريد بعضهم أن يجعل أساس الأخلاق الضمير، بيد أن ذلك خطأ بين، فالضمير يربى ويكون، وتربيته وتكوينه هما شكله، ونزعته واتجاهه، الذي يتكيف بحسب الثقافة والبيئة والعصر والوسط.
أين مثلا الضمير عند الأمريكي الأبيض بالنسبة للأمريكي الأسود، وأين ضمائر البيض في جنوب إفريقيا بالنسبة لأهل البلاد الأصليين، وأين ضمير المستعمر أينما كان بالنسبة للمستعمر؟ ؟
إن الضمير أحيانا يصنع كما تصنع المزيفات، وهو إذن مقياس للأخلاق خاطئ.
وإذا بحثنا في معاجم اللغة العربية عن معنى كلمة " الضمير " فإننا لا نجد من بين معانيها، المعنى الأخلاقي، الذي نفهمه من هذه الكلمة في العصر الحاضر ونستعملها فيه ونطلقها عليه، وهي لم ترد بهذا المعنى في القرآن، أو الحديث، أو في الشعر العربي القديم، إنه معنى محدث، أخذناه عن الغرب في العصور الحديثة.
ويقول صاحب كتاب المشكلة الأخلاقية الأستاذ الفرنسي أندريه كرسون:
" ولما استعرضوا التاريخ والوقائع والمشاهدات، يستنيرون بها في أمر الضمير رأوا: أن الناس في كل العصور وفي جميع الأقطار يستشيرون ضمائرهم.
" ولكنها لا تسمعهم جميعا لحنا واحدا إذ أن ما يظهر عدلا وخيرا لبعض النفوس المخلصة في عصر خاص، لا يظهر عدلا ولا خيرا لنفوس أخرى، هي أيضا مخلصة، ولكنها عاشت في عصر آخر، أو مكان آخر ".
ويقول: " وكانت القوانين الرومانية القديمة، تجعل من المرأة والأطفال ملكا للزوج، كما لو كانوا أمتعة وأنعاما، لهذا كان للأب، من بين الحقوق الأخرى، الحق في أن يعرض ابنته المولودة حديثا، في السوق العام، إذا كانت له بنت أخرى، ولسنا بحاجة إلى أن نذهب بعيدا.
فها هم أولاء أسلافنا، كانوا يرون شرعية تطبيق العقوبة على مجرد ظن الجريمة، وكانوا بلا أدنى قلق يشاهدون الفرد مشنوقا من أجل اختلاس تافه ".
ويقول: " ومن ناحية أخرى: فإنه لا شيء أغرب من مشاهدة بعض الالتزامات التي تقتضيها حياة بعض البدائيين، وليس من المجهول، ما يعد من المحرمات الدينية عندهم: مثل تحريم بعض أنواع اللحوم، أو بعض أنواع الأشربة، أو خروج النساء بدون حجاب.(2/147)
وأمر الطقوس السائدة في البلاد " الأوقيانوسية " معروف مشهور: فهي تعتبر من الآثام، ما قد يظهر لنا طبيعيا، بل فوق ذلك ما يظهر ضروريا: إنها تحرم تناول الطعام تحت السقف، والمكث في المسكن إذا كان المرء مريضا، واستعمال الأيدي في التغذية، بعد فراغ المرء من حلق شعره، أو بعد فراغه من صنع زورق على أن الدلالة العميقة إنما هي مظاهر اختلاف الضمير في البيئة الواحدة، وفي الجماعة الواحدة، المتحضرة المتمدينة.
وهل الرأسمالي، الذي يدافع عن نظام الميراث، أقل إخلاصا من الشيوعي الذي يهاجمه؟
أم هل الديموقراطي، الذي يقرر ضرورة الانتخاب العام، أقل إخلاصا من الأرستوقراطي الذي يعلن عدم ملاءمة هذا النظام؟
وهل " فيلانت " عندما يبيح أنواعا من الكذب، أقل اقتناعا برأيه من " ألسست " عندما يحرمها؟
إن " شارلوت كردي " عندما قضت على حياة " مارا " كانت ترى - ولا شك - أنها تقوم بعمل أخلاقي عظيم بلا مراء، فهل المواطنون الذين ساقوها إلى المقصلة كانوا أقل إيمانا منها بالقيمة الأخلاقية لعملهم هذا؟ " اهـ
* * *
هذه الأمثلة التي ذكرها الأستاذ " أندريه كرسون ": إنما هي قطرة من بحر، مما يمكن أن يبرهن به، على اختلاف الضمير، بحسب اختلاف الزمن، أو اختلاف الثقافات في البيئة الواحدة، وهناك أمثلة لا تحصى إذا ما قارنا ضمائر العرب في العصر الجاهلي، بضمائرهم في العصر الإسلامي، أو ضمائر الوثنيين في مكة بضمائر المسلمين فيها عند نشأة الإسلام، أو إذا ما قارنا ضمائر المتفرنجين في مصر في العصر الحاضر بضمائر المحافظين فيها.
والنتيجة لكل هذه المقارنات هي: أن اتخاذ الضمير كأساس للأخلاق، أو كمقياس لها إنما هو مجرد حماقة وعبث.
* * *
لقد
نظر فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق إلى الضمير، وإلى أحكامه نظرة فاحصة دقيقة. وانتهى فيه إلى الحق، فوضعه في موضعه الصادق.(2/148)
لقد كتب في كتابه تفسير القرآن الكريم ص 225 تحت عنوان: " إرضاء الضمير " مقياس غير منضبط، ما يلي:
" وهناك فريق من الناس يرون أن أساس الفضيلة هو تلبية الضمير فيما يعتقدونه خيرا للمجتمع، ويرون أن هذا كاف في سعادة الإنسان، وأن الضمير كفيل بتقدير الخير ومعرفته دون رجوع إلى الله وما يرسم لعباده من شرع وخلق، وأنهم بهذا ليسوا في حاجة إلى الوحي، وأن الوحي إذا كان فإنما يحتاج إليه لإرشاد من ليسوا من أرباب الضمائر الحية المتيقظة، وقد فات هؤلاء أن فهم ما ينفع الهيئة الاجتماعية وما لا ينفعها كثيرا ما تختلف فيه الأنظار والآراء، وقلما نجد في تاريخ هذه النظرية - قديمة وحديثة - اتفاقا على نفع جزئية معينة، أو ضرر الخير والفضيلة، وقد عدل كثير من الفلاسفة عن آرائهم الأولى، واستحدثوا آراء أخرى جديدة، ولهذا تعترك في عصرنا الحاضر المذاهب الاجتماعية من ديمقراطية وفاشية ونازية وشيوعية واشتراكية، بل يتنازع أرباب المذهب الواحد، بل يتناقض الفرد الواحد مع نفسه ورأسه في وقتين مختلفتين، وكل هؤلاء يتحاكمون إلى الضمير، أو يتحاكمون إلى الإدراك البشري في معرفة الفضيلة، وهو تحاكم - كما ترى - إلى أساس غير ثابت ولا منضبط ولا مأمون العاقبة، وهو في الوقت ذاته سير بالنفس وبالعالم في طريق محفوفة بالمخاطر تهدد العالم في أمنه واستقراره، وتشعل فيما بين جوانبه نار الحروب والتدمير، ولا سبيل إلى الاستقرار في هذا العالم وسلامته من أثر الآراء المشتجرة إلا بالرجوع إلى أساس ثابت منضبط صادر عن عليم بطيات النفوس. ونزعات البشرية، يبصرهم ذلك الأساس بالخير والفضيلة التي ارتسمت في لوح الوجود الحق الذي لا يكتنهه إلا خالق الوجود ومدبر الكون على ما يعلم فيه من سنن وشئون، وليس ذلك المبصر إلا وحي العليم الحكيم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (1) اهـ.
* * *
وبعض الناس يريد أن يرجع بالأخلاق الفاضلة أو الخير الذي دعا الله سبحانه إليه إلى المصلحة العامة، ولكن المصلحة العامة كلمة غير محددة. وكل من يتحدث باسم المصلحة العامة: إنما يتحدث باسم فكرته هو سواء أكانت هذه الفكرة منحرفة أم ليست منحرفة.
والمصلحة العامة إذن كأساس للأخلاق: إنما هي أساس غير مضمون.
وبعض الناس يريد أن يرجع بالأخلاق إلى المصلحة الشخصية أو إلى اللذة أو إلى المنفعة.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9(2/149)
وكل هذا وارد الغرب الأوربي، أو الغرب الأمريكي عندما انحرف هذا الغرب وألحد.(2/150)
أما وارد الشرق الإسلامي، أو بتعبير أدق، وارد الإسلام الإلهي، فإن مقياس الأخلاق فيه: إنما هو المبادئ الدينية، إنما هو آيات القرآن، وإنما هو الفضائل التي أوحاها الله، سبحانه وتعالى، هذه الفضائل التي حددها القرآن في أسلوب عربي مبين، وركزها القرآن والسنة على أسس من الإيمان قوية ثابتة.
ومنها مثلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1)
ومنها قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (2)
ومن أجمعها الآيات الجميلة حقا التي تختتم بها سورة الفرقان، والتي تبدأ بقوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (3) ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شمول وتعميم - كما يروي ابن مردويه بسنده - عن أبي جعفر الباقر قال: «قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} (4) ثم قال: الخير اتباع القرآن وسنتي» .
* * *
بعد أن أمرت الآية الكريمة بالدعوة إلى الخير، أمرت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن هذا المبدأ الإسلامي الأصيل يقول صاحب الإحياء: " إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه وأهمل عمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد - وهلك العباد،
__________
(1) سورة النحل الآية 90
(2) سورة البقرة الآية 177
(3) سورة الفرقان الآية 63
(4) سورة آل عمران الآية 104(2/150)
وإن لم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد، وقد كان الذي خفنا أن يكون وإنا لله وإنا إليه راجعون، إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه، وانمحى بالكلية حقيقته ورسمه، واستولت على القلوب مداهنة الخلق، وانمحت عنها مراقبة الخالق، واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم، وعز على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم، فمن سعى في تلافي هذه الفترة، وسد هذه الثلمة، إما متكفلا بعملها، أو متقلدا لتنفيذها، مجددا لهذه السنة الدائرة، ناهضا بأعبائها ومتشمرا في إحيائها، كان مستأثرا من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها، ومستبدأ بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها " اهـ.
* * *
وكما بين الله تعالى المعروف بيانا شاملا في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية الشريفة، فإنه سبحانه بين المنكر بيانا شافيا أيضا، ومن أجمع الآيات في بيان المنكر قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (2)
وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3)
وحينما نكون بصدد المعروف أو بصدد المنكر فإنما نعني بذلك بيان الإسلام في المعروف وبيانه في المنكر، وذلك أن الغرب له معروف وله منكر، وقد يختلف معروف الغرب ومنكره عن معروف الإسلام ومنكره، وكثيرا ما يختلفان في الأخلاق وفي الاقتصاد وفي العقيدة، وفي مثل هذا الحال فإنه يجب علينا إيثار الجو الإسلامي إيثارا كاملا، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والله لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به (4) » .
ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ابتدع في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (5) » .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 151
(2) سورة الأنعام الآية 152
(3) سورة الأنعام الآية 153
(4) أخرجه الخطيب في تاريخه (4\491) ، والبغوي في شرح السنة (ح\104) ، والحسن بن سفيان كما في فتح الباري، وقال ابن حجر: رجاله ثقات، وقد صححه النووي في آخر الأربعين. انظر: فتح الباري (13\289) .
(5) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) .(2/151)
ويقول سيدنا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: " اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم "
* * *
وتتفاوت استعدادات الناس ومراكزهم فيما يتعلق بمسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبعضهم يأمر بيده، أي يغير المنكر ويقف في وجهه بالقوة، وهذه مرتبة الحكام. ومنهم من يقف في وجه المنكر بلسانه، وذلك مرتبة كل عارف، وليست خاصة بطبقة دون طبقة من الناس، وذلك أن معرفة الأمي بأن السرقة حرام كمعرفة العالم بحرمتها، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالخمر أو الاختلاس أو الاغتصاب، والمسئولية تترتب على المعرفة، فما دامت هناك معرفة فهناك مسئولية، ولا تختص - إذن - مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القولية بعلماء الدين فحسب، وإنما هي موزعة على كل من يعلم بالمعروف ويعلم بالمنكر.
ومن الناس من لا يستطيع أن يقف في وجه المنكر إلا بقلبه، وهذه الطبقة - وإن كانت في المرتبة الأولى - طبقة الذين لا يستطيعون الجهاد باليد، ولا الجهاد باللسان، فإنها - في حقيقة الأمر - تعم جميع أفراد الأمة، أي أن المجاهد بيده يجب أن يكون في الوقت نفسه مجاهدا بقلبه، والمجاهد بلسانه يجب في الوقت نفسه أن يكون مجاهدا بقلبه، وينتفي الإيمان - في وضعه السليم الصادق - بانتفاء الجهاد القلبي. والجهاد القلبي معناه عدم الرضا عن فعل المنكر، ومظهر عدم الرضا إنما هو اعتزال فاعل المنكر إذا لم يرعو ولم يأخذ بالنصيحة، فإذا كان تاجرا لا يشتري الإنسان منه، وإن كان مشتريا لا يبيعه، وإذا كان صديقا يقطع صداقته فلا يؤاكله ولا يشاربه ولا يجالسه، وإذا كان مرشحا لأية هيئة نقابية مثلا لا يساعده ولا يعينه، ولا ينتخبه، وذلك أن المجاهر بالمنكر محاد لله ورسوله، وجزاء الذين يحادون الله ورسوله معروف، وقد حرم الله - سبحانه - أن يعقد المؤمن صداقة ومودة بينه وبين الذين يجاهرون بالمنكر، فقال سبحانه: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) سورة المجادلة.
هذا هو الجهاد القلبي: إنه ليس جهادا سلبيا، كلا، وإنما هو في حقيقة الأمر علاج حاسم للمجاهرين
__________
(1) سورة المجادلة الآية 22(2/152)
بالمنكر، وذلك أن المجاهر بالمنكر حينما يشعر بنفسه مهينا في المجتمع، وحينما يشعر بأن الناس يعتزلونه كما يعتزلون وباء خبيثا فإنه يعود مضطرا أو مختارا إلى الجادة.
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » .
* * *
وصور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المجتمع ووجوب الأخذ على يد المفسد فيه - حتى لا يكون الهلاك - بالصورة الرائعة التالية، التي رواها الإمام البخاري عن النعمان بن بشير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا (2) » .
وروى الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم (3) » .
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر (4) » .
ولقد هدد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمة الإسلامية إذا تهاونت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه الفتن (4013) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .
(2) صحيح البخاري الشركة (2493) ، سنن الترمذي الفتن (2173) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (5/391) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (3/19) .(2/153)
ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم (5) » .
وقد بين سيدنا أبو بكر، رضي الله عنه، وجوب الأخذ على يد الظالم مبينا الأمر في غاية الدقة في موضوع آية اشتبه على كثير من الناس تفسيرها، فعنه - رضي الله عنه - قال: " يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (6)
وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول.
«إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه (7) » .
* * *
وبعد فإنه لا بد من:
1 - الدعوة إلى الخير، وذلك واجب الأفراد، وواجب الحكومات على وجه العموم. وجوهر الدعوة إلى الخير إنما هو الدعوة إلى التوحيد، أي الدعوة إلى إسلام الوجه لله وحده، والدعوة إلى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (8) الدعوة إلى: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله (9) » .
والدعوة إلى التوحيد إنما هي دعوة إلى الاستناد
__________
(1) سنن أبو داود الملاحم (4336) .
(2) سورة المائدة الآية 78 (1) {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
(3) سورة المائدة الآية 79 (2) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
(4) سورة المائدة الآية 80 (3) {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}
(5) سورة المائدة الآية 81 (4) {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}
(6) سورة المائدة الآية 105
(7) سنن الترمذي الفتن (2168) ، سنن أبو داود الملاحم (4338) ، مسند أحمد بن حنبل (1/7) .
(8) سورة الفاتحة الآية 5
(9) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، مسند أحمد بن حنبل (1/303) .(2/154)
إلى الله تعالى في التشريع، والاستناد إليه تعالى في العقيدة، والاستناد إليه تعالى في الأخلاق.
2 - الأمر بالمعروف: المعروف الإسلامي كما أتى به الوحي الشريف على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -.
3 - النهي عن المنكر، الذي نهى الله تعالى عنه.
وإذا فعلنا ذلك سلمنا من عذاب الله تعالى، وتولانا الله سبحانه برعايته وكفالته وحمايته وتوفيقه.(2/155)
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104(2/156)
منيع عبد الحليم محمود (1)
النبوة
دراسة من القرآن الكريم
فقط النبي مأخوذ من الإنباء، فيتضمن معنى الإعلام والإخبار، ولكنه في استعماله أخص من مطلق الإخبار، فهو يستعمل في الإخبار بالأمور الغائبة المختصة دون المشاهدة المشتركة، كما في قوله تعالى: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} (2) .
وقال: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} (3) .
وجمع النبي أنبياء، وهو من النبأ، وأصله الهمزة، وقد قرئ بها، وهي قراءة نافع. لكن لما كثر استعماله لينت همزته كما فعل مثل ذلك في الذرية وفي البرية.
__________
(1) د. منيع عبد الحليم محمود: مدرس التفسير وعلوم القرآن ـ كلية أصول الدين ـ جامعة الأزهر.
(2) سورة آل عمران الآية 49
(3) سورة التحريم الآية 3(2/157)
وقيل: هو من النبوة - بفتح النون وسكون الباء، وهي العلو، فمعنى النبي: المعلى الرفيع المنزلة، والأصح أن هذا المعنى لازم للأول، فمن أنبأه الله وجعله منبئا عنه، فلا يكون إلا رفيع القدر عليا. وأما لفظ العلو والرفعة فلا يدل على خصوص النبوة، إذ يوصف بهذا من ليس نبيا كما قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) .
* * *
ويقول الإمام ابن تيمية: وقراءة الهمزة قاطعة بأنه مهموز، وما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أنا نبي الله ولست نبيء الله» فما رأيت له إسنادا، لا سندا ولا مرسلا، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث، ولا السير المعروفة، ومثل هذا لا يعتمد عليه.
ثم يبين الإمام ابن تيمية أننا إذا اعتبرنا النبي مهموز الأصل، فإن الهمزة يمكن أن تلين، فذلك جائز، فتصير حرفا معتلا، فيعبر عنه باللفظين فترد إليه القراءتان بخلاف المعتل، فإنه لا يجعل همزة، فيجب القطع بأن النبي مأخوذ من الإنباء لا من النبوة بفتح النون وسكون الباء.
على أنه إذا كان هذا هو التحديد اللفظي واللغوي لمعنى النبوة، فإن أغلب تحديدات معنى النبوة تدور حول هذا ولا تزيد عنه إلا قليلا.
فإن المشهور في عرف الشرع - كما يقول الإمام الألوسي -: (إن النبي من أوحي إليه سواء أمر بالتبليغ أم لا) .
أما صاحب شرع المقاصد على المواقف فيقول: (إن النبوة هو كون الإنسان مبعوثا من الحق إلى الخلق) (2) .
أما الإمام محمد عبده، فإنه لا يحدد معنى النبوة بتعريفها بل يحددها بهدفها يقول: (النبوة تحدد ما ينبغي أن يلحظ في جانب واجب الوجود من الصفات، وما يحتاج إليه البشر كافة من ذلك، وتشير إلى خاصتهم بما يمكن لهم أن يفضلوا به غيرهم في مقدمات عرفانهم، لكنها لا تخدم إلا ما فيه الكفاية للعامة (3) .
على أننا إذا نظرنا إلى مجموع هذه التحديدات لمعنى النبوة نجد أنها لا تكفي كفاية تامة لتحديد معنى النبوة، فلم تحدثنا هذه التعريفات، عن علامات الرسل وسماتهم المحدودة، وعن خلقهم قبل الاصطفاء
__________
(1) سورة آل عمران الآية 139
(2) شرح المقاصد على المواقف جـ2 ص 128.
(3) رسالة التوحيد ص 72.(2/158)
للنبوة، وبالتأكيد فإن هذه التعريفات لم تخرج عن نطاق التحديد اللفظي للنبوة، ولم يخرج عن هذا النطاق سوى الشيخ محمد عبده، حيث تكلم عن أهدافها دون تحديد تعريف لها.
ولكن كيف يتأتى لنا أن نحدد معنى النبوة؟
* * *
إن التعريف الذي يحدد لنا معنى النبوة هو التعريف القرآني، وهو الذي يخرجنا من هذه الدائرة الضيقة المحدودة للتعريفات السابقة.
وتبدو لنا أولى الآيات التي تحدد لنا المعنى المراد في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (1) ويقول تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (2) ويقول: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} (3) .
تدلنا هذه الآيات على أن الله تعالى يصطفي الأنبياء ويجتبيهم لنفسه ويرسم حياتهم قبل ميلادهم. فيختار لهم النسب الشريف الذي يميزهم عن غيرهم ويصنعهم على عينه، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم: إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل: بني كنانة، واصطفى من بني كنانة: قريشا، واصطفى من قريش: بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم (4) » .
وليس هناك دليل على ما ذكرنا من قبل أكثر من قول الله سبحانه وتعالى عن سيدنا عيسى عليه السلام قبل أن يولد:
{إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (5) {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} (6) ، {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} (7) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 33
(2) سورة النساء الآية 125
(3) سورة طه الآية 39
(4) رواه مسلم في صحيحه.
(5) سورة آل عمران الآية 45
(6) سورة آل عمران الآية 46
(7) سورة مريم الآية 21(2/159)
ولعل ما يشرح الآيات السابقة بتفصيل أوسع ذلك الحديث الذي ذكره الإمام البخاري عن كيفية استدلال هرقل على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه ركز هرقل تركيزا كبيرا على حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة؛ عن الإمام البخاري - رضي الله عنه - قال: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، قال: أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرني عبد الله بن عتبة بن مسعود: أن عبد الله بن عباس أخبره: أن أبا سفيان بن حرب أخبره: «أن هرقل أرسل إليه في ركب قريش وكانوا تجارا بالشام، في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه، فقال:
أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟
فقال أبو سفيان فقلت: أنا أقربهم نسبا.
فقال: أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه:
قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه.
ثم كان أول ما سألني عنه: أن قال: كيف نسبه فيكم؟
قلت: هو فينا ذو نسب.
قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟
قلت: لا.
قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا.
قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟
فقلت: بل ضعفاؤهم.
قال: أيزيدون أم ينقصون؟
قلت: بل يزيدون.
قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟
قلت: لا.
قال: فهل يغدر؟ قلت: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها.
قال: ولم يكن كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة.
قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم.
قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال: ينال منا وننال منه.
قال: ماذا يأمركم؟(2/160)
قلت: يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف والصلة.
فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتسي بقول قيل قبله.
وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان في آبائه من ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل.
وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.
وسألتك: أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك: بم يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه (1) » .
* * *
ثم نأتي للجزء الثاني من المنهج القرآني لتحديد النبوة وهو حالة تلقي الوحي، فبعد أن يصطفي الله رسله ويربيهم ويعني بهم العناية الكاملة يفاجئهم بتلقي الوحي.
__________
(1) رواه الإمام البخاري في صحيحه.(2/161)
فبالنسبة للأنبياء السابقين على الإسلام يقول الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} (1) {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} (2) {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} (3) {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} (4) {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} (5) {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (6) {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} (7) {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} (8) .
وقال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} (9) {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (10) .
ويفاجئ الرسول - صلى الله عليه وسلم - الوحي وهو في غار حراء، وإذا كان الإمام البخاري قد ذكر الحديث الدال على ذلك في صحيحه فإن القرآن الكريم يعبر عنها بقوله:
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (11) .
وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (12) {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (13) {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (14) .
أما شرح تلك الحالة: فقد ورد في صحيح البخاري بسنده عن السيدة عائشة أم المؤمنين أنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.
فجاءه الملك فقال: اقرأ.
__________
(1) سورة طه الآية 9
(2) سورة طه الآية 10
(3) سورة طه الآية 11
(4) سورة طه الآية 12
(5) سورة طه الآية 13
(6) سورة طه الآية 14
(7) سورة طه الآية 15
(8) سورة طه الآية 16
(9) سورة القصص الآية 29
(10) سورة القصص الآية 30
(11) سورة الشورى الآية 52
(12) سورة الشعراء الآية 193
(13) سورة الشعراء الآية 194
(14) سورة الشعراء الآية 195(2/162)
قال: ما أنا بقارئ.
قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني،
فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني الثانية حتى بلغ مني الجهد.
فقال: اقرأ.
فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني.
فقال: فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر:
لقد خشيت على نفسي.
فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى - ابن عم خديجة - وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية إلى ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي.
فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك.
فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟
فأخبره - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى.
فقال له ورقة: هذا الناموس، الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك؟
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أومخرجي هم؟
قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي (4) » .
هذا هو المنهج القرآني لتعريف النبوة والذي يمثل لنا التعريف الصحيح لها باعتباره النص الذي أتانا من عند الله سبحانه وتعالى، وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولنا أن نوجزه فنقول:
__________
(1) رواه البخاري في باب كيف كان بدء الوحي، وفي كتاب التفسير عند تفسير (اقرأ) وفي كتاب التعبير. ورواه الإمام مسلم في باب بدء الوحي إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
(2) سورة العلق الآية 1 (1) {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}
(3) سورة العلق الآية 2 (2) {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}
(4) سورة العلق الآية 3 (3) {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}(2/163)
(النبوة سفارة بين الله وخلقه يقصد بها إصلاح أمرهم، وهبة من الله سبحانه وتعالى يمنحها لمن يصطفيهم من عباده بعد أن يربيهم التربية الصحيحة التي بها يكونون مؤهلين لتلقي الوحي من الله سبحانه وتعالى في أي وقت) .(2/164)
الفرق بين النبي والرسول
هل هناك فرق بين النبي والرسول؟
الواقع أن العلماء في إجابتهم على هذا السؤال انقسموا إلى فرقتين:
الفرقة الأولى: قررت هذه الفرقة أنه لا يوجد أي فرق بين النبي والرسول فكلا اللفظين معناهما الإنباء والإخبار، فالنبي هو من ينبئ والرسول يبلغ الرسالة، وعلى ذلك فلا فرق بينهما. والواقع أن أصحاب هذا الرأي استندوا في تفسيرهم للفظين إلى اللغة باعتبار أن النبي اسم فاعل أو اسم مفعول، والرسول اسم مفعول، وبناء على هذا قرروا عدم وجود فرق بين اللفظين.
الفرقة الثانية: وهم جمهور العلماء، فقد قرروا وجود فرق بين لفظي نبي ورسول، واستندوا في ذلك على القرآن والأحاديث الشريفة التي تؤيدهم في هذا الرأي، ومن ذلك: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (1) .
يقول الإمام الألوسي في تفسير الآية: وعطف نبي على رسول يدل على المغايرة بينهما وهو الشائع، ويدل على المغايرة أيضا ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - «سئل عن الأنبياء فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، قيل: فكم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا (2) » .
ونضيف نحن قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (3)
__________
(1) سورة الحج الآية 52
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/266) .
(3) سورة مريم الآية 54(2/164)
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} (1)
فإن توارد الصفتين: الرسول والنبي على موصوف واحد في التنكير والتعريف يقتضي تباينا ولو من وجه كما يقتضي تغايرا ولو في المفهوم على ما بيناه في آخر المقام. هذه هي أهم الأدلة على وجود الفرق بين النبي والرسول وبها يرجح رأي الفرقة الثانية.
* * *
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157(2/165)
الفرق بين النبي والرسول على أشهر الآراء
اختلفت آراء العلماء في تحديد الفرق بين النبي والرسول، بل إن بعضهم اختلفوا هم أنفسهم على قولين، وباستقراء الآراء في تحديد الفرق بين النبي والرسول نجدها كالآتي:
أولا: الرسول هو من له كتاب أو نسخ لبعض أحكام الشريعة السابقة، والنبي قد يخلو من ذلك كيوشع عليه السلام.
ثانيا: أن الرسول صاحب الوحي بواسطة الملك، والنبي هو المخبر عن الله تعالى بكتاب أو إلهام أو تنبيه في المنام.
ثالثا: الرسول من يأتيه الملك عليه السلام بالوحي يقظة، والنبي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام لا غير.
وقد عدد الإمام الألوسي بعض الآراء التي تمثل الجو العام للتفرقة بين النبي والرسول نذكر منها:
رابعا: الرسول ذكر حي بعثه الله بشرع جديد يدعو الناس إليه، والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهما السلام.
خامسا: الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى إلى قوم بشرع جديد بالنسبة إليهم وإن لم يكن جديدا في نفسه، كإسماعيل عليه السلام، إذ بعث لجرهم أولا. والنبي يعمه، من بعث بشرع غير جديد(2/165)
كذلك.
سادسا: أن المشهور في عرف الشرع أن النبي أعم من الرسول، فإنه من أوحى إليه وأمر بالتبليغ
بدراستنا لهذه الآراء نجد أنها جميعا لا تقدم لنا الفرق الكافي بين لفظي النبي والرسول، بل إن بعضها يتهافت في نفسه عند أول طعن، كالرأي الثالث الذي نقضه الإمام الألوسي، وإذا كان أهم هذه الآراء وأشهرها وهو الرأي السادس، فإننا بدراسته نجد أنه لا يحدد الفرق بين النبي والرسول تحديدا بينا فهو يخلط بينهما، يجعل النبي نبيا إذا لم يؤمر بالتبليغ، ويجعله رسولا إذا أمر بالتبليغ، مما لا يجعلنا نرى هناك فرقا واضحا بينهما، ونشارك في ذلك الرأي الإمام الألوسي بقوله تعقيبا على هذا الرأي:
(ولا يصح إرادة ذلك؛ لأنه إذا قوبل العام بالخاص يراد بالعام ما عدا الخاص، فمتى أريد بالنبي ما عدا الرسول، كان المراد به من لم يؤمر بالتبليغ، وحيث تعلق به الإرسال صار مأمورا بالتبليغ، فيكون رسولا فلم يبق في الآية بعد تعلق الإرسال رسول ونبي مقابل له) (1) .
* * *
__________
(1) روح المعاني للإمام الألوسي جـ 17 ص 173.(2/166)
نهج القرآن في تحديد كل من النبي والرسول
أولا: أنه ليس من الضروري أن يأتي الرسول بشريعة جديدة، وهذا نأخذه من قوله سبحانه وتعالى عن يوسف عليه السلام: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} (1) .
وقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} (2) {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (3) .
فإن يوسف عليه السلام كان يسير على شريعة إبراهيم عليه السلام، وداود وسليمان عليهما السلام كانا يسيران على شريعة التوراة، ومع ذلك كانوا من الرسل.
ثانيا: أن الأنبياء يأتيهم وحي من الله سبحانه وتعالى فيبلغونه للمؤمنين، مع وجود شريعة يعمل بها،
__________
(1) سورة غافر الآية 34
(2) سورة النساء الآية 163
(3) سورة النساء الآية 164(2/166)
وهذا يكون كالفهم لها، ولكنه فهم موحى به من قبل الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء كأنبياء بني إسرائيل، ونرى ذلك كما في قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} (1) .
فهم يطلبون وحيا من الله يخبرهم بملك يقاتلون تحت قيادته.
ثالثا: عند قراءتنا لقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (2) نجد أنه إرسال يشمل النبي والرسول، إذن فهناك إشراك في جزء من الرسالة للنبي، ويعلق على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (3) وقوله: {مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} (4) فذكر إرسالا يعم النوعين، وقد خص أحدهما بأنه رسول، فإن هذا هو الرسول المطلق، الذي أمر بتبليغ رسالته إلى من خالف الله كنوح، وقد ثبت في الصحيح أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض، وقد كان قبله أنبياء كشيث وإدريس، وقبلهما آدم كان نبيا مكلما.
قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام، فأولئك الأنبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه، ويأمرون به المؤمنين الذين عندهم؛ لكونهم مؤمنين بهم، كما يكون أهل الشريعة الواحدة يقبلون ما يبلغه العلماء عن الرسول. اهـ) (5) .
ومن هنا، وبناء على ما ذكرناه استنادا إلى كتاب الله تعالى، فإننا نرتضي رأي الإمام ابن تيمية فهو الذي يسير مع المنهج القرآني حيث يقول: (النبي هو الذي ينبئه الله، وهو ينبئ بما أنبأه الله به، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول، أما إذا كان يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول) (6) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 246
(2) سورة الحج الآية 52
(3) سورة الحج الآية 52
(4) سورة الحج الآية 52
(5) كتاب النبوات للإمام ابن تيمية ص 173.
(6) كتاب النبوات للإمام ابن تيمية ص 172.(2/167)
ونحن نضيف إلى هذا الرأي: أن مهمة النبي تتناول التبليغ عن الله عز وجل في أمور تتعلق بمصلحة المؤمنين، والفصل في قضاياهم العامة كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} (1) .
كما تتناول الإشراف على سياسة الدولة وتولية المناصب من لدن الله عز وجل، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) .
وكذلك تتناول التشريع في مسائل جزئية فيها صبغة التشريع المؤقت، كما قال تعالى على لسان ذلك النبي: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} (3) .
أما مهمة الرسول فهي شاملة لكل التشريعات القديمة أو الجديدة، على أن تخصيص الرسول بإنزال كتاب جديد عليه قضية لم يقم عليها دليل، ونحن نؤمن بأن جميع الأنبياء والرسل لا بد أن يكون معهم كتاب يكون دستورا للشريعة التي يحكمون بها.
قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (4) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 44
(2) سورة البقرة الآية 246
(3) سورة البقرة الآية 249
(4) سورة البقرة الآية 213(2/168)
الدكتور: منيع عبد الحليم محمود
تاريخ الميلاد: 14 يناير 1945 بالزيتون - القاهرة - مصر.
العمل: مدرس التفسير وعلوم القرآن بكلية أصول الدين جامعة الأزهر.
التخصيص: التفسير وعلوم القرآن.
المؤهلات:
- حاصل على الشهادة العالية من كلية أصول الدين جامعة الأزهر وكان ترتيبه الأول على قسم التفسير والحديث.
- حاصل على درجة الماجستير من كلية أصول الدين جامعة الأزهر في التفسير.
- حاصل على درجة الدكتوراه من كلية أصول الدين جامعة الأزهر بمرتبة الشرف الأولى في التفسير، وقررت لجنة المناقشة التوصية بطبع رسالته وتبادلها مع الجامعات الأخرى عام 1974.
المؤلفات: قام الدكتور منيع بتأليف وتحقيق العديد من الكتب منها: وكان خلقه القرآن، دراسات في السيرة النبوية، الأخلاق المتبولية، أبو الأنبياء، دراسة من القرآن الكريم، الألوهية النبوة الأخلاق، دراسة من سورة الفرقان.
وله الكثير من البحوث والمقالات منها: الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القرآن الكريم، الإمام القاسمي ومنهجه في التفسير، الإمام البغوي ومنهجه في التفسير، الإمام سفيان الثوري ومنهجه في التفسير، الإمام الطبري ومنهجه في التفسير، الإمام ابن كثير ومنهجه في التفسير. هذا غير الأحاديث الإذاعية.
سافر إلى كثير من البلاد منها: المغرب، حيث حضر الدروس الحسنية - وبومباي بالهند، حيث حضر الحلقة الدولية للدراسات العربية الإسلامية - ومكة، حيث حضر مؤتمر رسالة المسجد.
العنوان: جمهورية مصر العربية - القاهرة - الزيتون - شارع العزيز بالله - منزل رقم 54.(2/169)
من كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري في القضاء
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس. سلام عليك. أما بعد.
فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك وانفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك البينة على من ادعى واليمين من على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع على الحق، فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل(2/170)
علي محمد جريشة
شبهات وشعارات
حول
تطبيق الشريعة
ما يمارى مسلم في وجوب تطبيق شريعة الله. . لكنهم. . . يمارون بالشبهات ويجزئون في التطبيق. . . ويسرفون في الوعود. . .
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 9(2/171)
شبهات
فأما الشبهة الأولى: فقول البعض ببعد الشريعة الإسلامية
فعمر الشريعة الإسلامية يقترب من أربعة عشر قرنا. . .
لكن ذلك ليس بالنقد " الموضوعي "؛ لأن المعدن الأصيل لا يفقد ميزاته بالقدم. . . بل إن القدم مع الأصالة تشكلان أسباب نفاسته.
وشريعة الله - مع قدمها - لها هذه الأصالة. . . فلها من الثبات ما عجزت عنه أية شريعة أخرى. . . وثباتها راجع إلى ثبات مصدريها " القرآن والسنة " وهو أمر قدري قد تقرر لهما بقول الله سبحانه {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (1) وبمثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من كذب علي عامدا متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (2) » .
* * *
كما أن هذا الثبات راجع إلى ما حوته الشريعة من نصوص قطعية، ومن قواعد كلية صالحة لكل زمان ومكان.
هذا الثبات عجزت عنه دساتير العالم وقوانينه، إذ راحت تنشده ولم تبلغه. . واكتفت في هذا السبيل
__________
(1) سورة يونس الآية 64
(2) صحيح البخاري العلم (110) ، صحيح مسلم مقدمة (3) ، مسند أحمد بن حنبل (2/410) .(2/172)
باشتراط أغلبيات خاصة لإمكان تعديل الدستور. . لكن ذلك لم يحقق لها الثبات إذا أمكن الحصول على هذه الأغلبيات. . كما أنه في كل الأحوال لا قيمة لمثل هذه النصوص في مواجهة الثورات والانقلابات. . !!
بيد أن ثبات شريعة الله لم يمنع من مرونتها. . فقد تركت دائرة واسعة لاجتهاد من يملكون أداة الاجتهاد وأهليته، وذلك في صدد النصوص الظنية (التي تحتمل أكثر من تأويل) أو في صدد ما سكت عنه الشارع الحكيم رحمة بنا غير نسيان.
وبذا كان الأصل في شريعة الله هو الثبات. . لكنها مع ثباتها تحمل المرونة التي تمكنها من مواجهة كل حادثة تجد، وتبطل بالتالي حجج الذين يستوردون الأحكام أو النظم أو القوانين بمقولة أن الشريعة سكتت عن هذا الجانب أو عن ذاك.
ولها - مع ثباتها - صفة " العدل " المطلق الذي لم ولن تصل إليه شريعة أخرى. وهو عدل لا يميل مع الميل أو الهوى، ولو تعلق الأمر بالنفس أو بمن هو أقرب {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (1)
كما أنه عدل لا يحيف مع العداوة أو البغض. {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} (2)
وفي التطبيق: رفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقبل شفاعة أحب الناس إليه في مخزومية سرقت فقال: «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد (3) » .
وعلى الجانب الآخر نزل القرآن يبرئ يهوديا من تهمة ألصقت به بغير حق، رغم أن اليهود يومئذ أعدى أعداء الدعوة والدولة معا. . لكن هذا البغض لم يحف بالعدل الإسلامي عن طريقه المستقيم. وكانت نهاية الآيات لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} (4)
والعدل الإسلامي لا يعرف الظلم، ولا يحبه ولا يسكت عليه: إن الله لا يحب الظالمين.
«إن الله قد حرم الظلم على نفسه فلا تظالموا (5) »
__________
(1) سورة النساء الآية 135
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3475) ، صحيح مسلم الحدود (1688) ، سنن الترمذي الحدود (1430) ، سنن النسائي قطع السارق (4903) ، سنن أبو داود الحدود (4373) ، سنن ابن ماجه الحدود (2547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/162) ، سنن الدارمي الحدود (2302) .
(4) سورة النساء الآية 113
(5) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2577) .(2/173)
«الظلم ظلمات يوم القيامة (1) » .
«إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده (2) » .
وهي قبل ذلك وبعد ذلك شريعة ربانية:
و" ربانيتها " تجعل القلوب لها خير حارس وأقوى حارس، لا يغني عنها كثير من الحراس، وتغني هي عن كثير من الحراس.
انظروا كيف حركت " الربانية " مشاعر امرأة وإحساسها. . فراحت من تلقاء نفسها تعترف بذنب عقوبته " الإعدام ". راحت الغامدية تعترف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمقارفتها لجريمة الزنا، ويردها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة. . ومرة. . فتعود بعد ذلك من تلقاء نفسها كذلك - بغير حاجة إلى شرطة ولا مباحث ولا مخابرات - تعود لتقول: «طهرني يا رسول الله "، فيقيم عليها الحد، ويقول - صلى الله عليه وسلم - في حقها: لقد تابت توبة لو وزعت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم (3) » .
ويفعل مثلها " ماعز " ويراجعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع مرات فيصر على اعترافه! أين هذا من جرائم اليوم؟! يحتاج أصحابها إلى أكثر من جهاز يتتبعهم ثم لا يلبث أن ينتزع منهم الاعتراف انتزاعا!!
وفي مجال آخر تحرك " الربانية " ضمائر الناس. فيعطون الزكاة عن طيب خاطر، لا يتهربون ولا يخفون ولا يستخفون، حتى تستطيع حصيلة الضرائب في يوم ما أن تغطي حاجة الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب وتفيض بعد ذلك، فتفعل الدولة ما لم تفعله أغنى دول العالم ولا أرقاها، تسدد عن الناس ديونهم.
واليوم تفرض الدولة " الضرائب " وترسل وراءها الجباة والمراقبين للتهرب، وما تستطيع أن تحصل " الحصيلة " الحقيقية للضريبة المفروضة.
ومثل أخير: حرمت الخمر في أمريكا بتشريع. . فما أطاعه أحد، بل بذلت الدولة لتنفيذه من وسائل الترغيب والترهيب ما بلغ في الأولى تقرير الجوائز وما بلغ في الثانية حد الإعدام. . وما استطاعت - رغم ذلك - أن تفرض احترام " قانونها " واضطرت للعدول عنه بعد ذلك.
وفي دولة الإسلام نزل التشريع الرباني بتحريم الخمر. . منتهيا بقول الله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (4)
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2447) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2579) ، سنن الترمذي البر والصلة (2030) ، مسند أحمد بن حنبل (2/106) .
(2) سنن الترمذي الفتن (2168) ، سنن أبو داود الملاحم (4338) ، مسند أحمد بن حنبل (1/7) .
(3) صحيح مسلم الحدود (1696) ، سنن الترمذي الحدود (1435) ، سنن النسائي الجنائز (1957) ، سنن أبو داود الحدود (4440) ، مسند أحمد بن حنبل (4/430) ، سنن الدارمي الحدود (2325) .
(4) سورة المائدة الآية 91(2/174)
فقالوا جميعا: انتهينا. . انتهينا، وقاموا إلى براميل الخمر وأوانيه يهرقونها فوق الرمال. .!
هذه الأصالة " لشريعة الله " جعلها - رغم البعد - أقرب إلى حبل الوريد، وجعلت استسماك أتباعها بها أشد من استمساكهم بحياتهم. لكنها تعرضت بعد البعد للإبعاد.
ولم يكن إبعاد شريعة الله عن رغبة أهلها، إنما تم في ظروف تنم عن أن الإبعاد كان تخطيطا وعملا لأعداء الله الذين أدركوا أن أول ما ينبغي نقضه " عروة الحكم " وأدركوا أن ذلك أيسر على يد من بالداخل عن أن يفرض من الخارج.
ولا يزال المثل الحي لذلك: إلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا؛ اتجاها إلى العلمانية الآثمة الرافضة لحكم شريعة الله، ولقد سبق إلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا حدثان هامان:
أولهما: إصدار انجلترا لوعد بلفور بإعطاء فلسطين لليهود.
وثانيهما: طلب زعيم الماسونية في " سالونيك " إلى الخليفة عبد الحميد إعطاء اليهود أرض فلسطين مقابل " جعل " تقدم به إلى الخليفة، فلما رفض الخليفة المسلم قال له: " ستعلم كم يكلفك هذا الرفض. . ".
وفي مصر
كان إصدار القوانين الأهلية المستمدة من القوانين الأجنبية بعد سنة واحدة من الاحتلال البريطاني أي في سنة 1883، وحين أرادت مصر إلغاء الامتيازات الأجنبية وانعقد لذلك مؤتمر جنيف سنة 1937م كان شرط المؤتمرين لتوقيع معاهدة " مونتريه " أن تستمد مصر تشريعها من التشريع الغربي.
وكما لم تتأثر شريعة الله " بالبعد " فهي كذلك لم تتأثر " بالإبعاد ".
ولا تزال صحوة مصر الإسلامية في 1971 م عند وضع الدستور، وإجماع الأمة كلها على الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله. لا يزال ذلك كله أقوى دليل على أن هذه الأمة لن تتخلى عن شريعتها، ولن يؤثر فيها " بعد " ولا " إبعاد ".
هذا عن الشبهة الأولى.
* * *(2/175)
وأما الشبهة الثانية: فقولهم بوجود أقليات غير إسلامية
وما نعلم أن وجود الأقليات الإسلامية في بعض البلاد المسيحية منع تلك البلاد أن تفرض ما تشاء من قوانين ولو تعارضت مع الشريعة الإسلامية، بل ولو تعارضت مع العقيدة الإسلامية. بل وما نعلم أن الأقليات الإسلامية تنعم بجزء مما تنعم به في بلانا الأقليات غير الإسلامية.
وإلا فليقولوا لنا؛ لم تتعرض الأقلية الإسلامية في الفلبين لما تتعرض له من اضطهاد وعسف. بل وإبادة!! ؟ ولم تتعرض الأقلية الإسلامية في الحبشة وفي لبنان - وهي في حقيقتها أغلبية - لم تتعرض لما تتعرض له؟ !
ولا نذهب إلى الماضي لننكأ جروح الأندلس وهي غائرة في الصدور وفي القلوب. ولا نذهب إلى الدول مثل روسيا والصين لنسأل عن حقوق المسلمين فيها، وبرغم ذلك كله نقول: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} (1) لن نأخذ " الأقليات غير الإسلامية " بما تفعله الدولة غير الإسلامية بأقلياتنا؛ لأن الله علمنا {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (2) وعلمنا {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (3) وعلمنا مع ذلك كله: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (4)
وعلمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معها: «من آذى ذميا فأنا خصمه يوم القيامة» .
من هنا نترك لهم عقيدتهم، فلا إكراه في الدين. ونترك لهم معها عباداتهم، ونترك لهم كذلك أحوالهم الشخصية " من زواج وطلاق. . ".
أما القانون العام " فإنه يسرى عليهم كما يسري على المسلمين، وهو بالنسبة لهم بعد تشريع الدولة. وفي كل العالم تصدر التشريعات بالأغلبية فكيف ينكر على بلد إسلامي أن يتحاكم أهله إلى قانون إسلامي؟!
__________
(1) سورة المائدة الآية 8
(2) سورة الأنعام الآية 164
(3) سورة النجم الآية 39
(4) سورة الممتحنة الآية 8(2/176)
وأما الشبهة الأخيرة: فقولهم بقسوة الحدود
وقولهم هذا كقول من شاهد قاتلا يدفع ضحيته بعنف فراح يلوم الضحية على هذا العنف وترك القاتل بغير مساءلة ولا عتاب!!! .
نعم. . ينظرون إلى الحدود ولا ينظرون إلى الجرائم.
ينظرون إلى المجرمين نظرة العطف ولا ينظرون إلى الضحايا نفس النظرة.
والمجرم في الحد قد يكون واحدا، أما الضحية فهو أكثر من واحد. إنه " العفة " و "الفضيلة " و " الشرف " و " الأخلاق " و " الحياة ". إنه المجتمع كله {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (1) إن المجرم بمقارفته للحد يتحدى المجتمع كله فكيف يصبر عليه؟ وكيف يعفو عنه؟ !
إن الفقه الحديث لم يستطع أن يتسامح في جريمة " الخيانة العظمى " ولا أن يتهاون فيها، وأعطاها أقسى ما عنده من عقاب. فكيف ينكر علينا " الحدود " وجرائمها عندنا خيانة عظمى، انتهاك " للنظام العام " للدولة؟!
والذين ينكرون علينا قطع يد السارق - وهي لا تقطع مع شبهة، كما أن لها ضوابط وأركانا - لم ينكروا على بعض الدول الاشتراكية إعدام السارق. حرموا يده وأحلوا رقبته!! وهكذا يغدو منطقهم متهافتا متهاترا.
هذه بعض الشبهات، أو أهم الشبهات.
يماري بها من كان في عقله جهل أو كان في قلبه مرض.
__________
(1) سورة المائدة الآية 32(2/177)
ننتقل بعد ذلك إلى ما تتابعت فيه بعض الدول الإسلامية أو توشك أن تتابع فيه، وهو قبول تجزئه الشريعة؛ لتحكم جانبا ويحكم القانون الوضعي جانبا آخر، وهو أخطر ما وقعت فيه - أو تقع فيه - بعض البلاد الإسلامية.
أما خطورة الأمر: فلأنه يتم أو يمكن أن يتم خفية دون أن يشعر الناس فتنقض عرى الإسلام عروة عروة، والناس معتقدون أنهم بخير وأن دينهم بخير؛ لأنهم يسمعون الأذان ويؤدون الصلاة! تماما كما ينقب بيت ويسرق منه في كل ليلة شيئا، وصاحبه مطمئن نائم؛ لأن بيته لم ينقض عليه.
من هنا كان تعطيل جزء من شريعة الله، واستبدال جزء به كان هذا أخطر على المسلمين من تعطيلها كلها؛ لأن تعطيلها دفعة واحدة ينبه المسلمين للخطر فيفيق النوم الغافلون، أما تعطيلها جزءا جزءا فإن النوم والغافلين لا ينتبهون. وعرى الإسلام تنقض عروة عروة، أولها الحكم وآخرها الصلاة.
ولقد كان ذلك مسلك أعداء الإسلام دائما؛ فالتتار حين احتلوا أرض المسلمين لم يرغموهم على ترك شريعة الله كلها، وإنما عرضوا عليهم أن يأخذوا من الشريعة الإسلامية ومن شريعتهم ومن شرائع أخرى، وقدموا لهم الياسق، فطعن علماء المسلمين في ذلك، ورفضوه بالإجماع، وأفتوا بكفر من قبله أو تحاكم إليه (1) .
وهو ما حدث في تركيا قبل إلغاء الخلافة الإسلامية. فقد بدأ الأمر في سنة 1840 بإصدار قانون عقوبات مأخوذ عن القوانين الأجنبية.
وفي سنة 1850 بإصدار قانون التجارة مأخوذ كذلك عن القوانين الأجنبية.
وفي سنة 1860 بإنشاء المحاكم النظامية إلى جوار المحاكم الشرعية.
وأخيرا كان إلغاء الخلافة كلها في سنة 1923م.
وهو ما حدث في مصر كذلك - على نحو ما أشرت إليه.
ولقد نبه الله سبحانه إلى هذا الخطر فقال مخاطبا نبيه ومن بعده كل ولي أمر، وكل مسلم: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (2)
__________
(1) ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (جـ2 ـ ص 67) .
(2) سورة المائدة الآية 49(2/178)
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) ففي هذه الآيات عبر سبحانه وتعالى عن تجزئه أحكام الله بأنها فتنة. وأي فتنة تلك التي يقع فيها المسلم حين يحار في نظام يفرض في بلد ترتفع فيه المآذن وتقام فيه الصلوات. ثم تعطل الحدود، أو تمنع فيه الزكاة، أو يسمح فيه بالربا تحت اسم الفائدة أو تحت أي اسم آخر؟
* * *
وبعد أن عبر سبحانه وتعالى عن تجزئه أحكام الله بأنها فتنة، ووضع لنا الميزان الحق الذي لا تزيغ معه القيم ولا تختل المفاهيم، فجعل حكم الله كاملا في كفة وجعل ما دون ذلك حكم الجاهلية، سواء عطلت الشريعة كلها أو بعضها؛ لأن الجاهلية تتحقق بالمعصية والانحراف الصغير كما تتحقق بالكفر والانحراف الكبير.
وفي مكان آخر عبر الله سبحانه عن هذه الفتنة الجاهلية بالكفر فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} (2)
وكما يتحقق الكفر بجحود كل القرآن يتحقق بجحود بعضه، وكما يتحقق الكفر برفض كل القرآن يتحقق كذلك برفض بعضه.
وأخيرا عبر عنها القرآن بأنها محاربة لله ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (4)
حرب من الله ورسوله إذا عطلنا حكما واحدا، إذا أبحنا الربا، وكم من بلادنا الإسلامية تبيح الربا تحت اسم الفائدة في البنوك. أو تحت اسم المعاملات التجارية بين الأفراد، وكأننا نخدع الله بتغيير اسم الربا
__________
(1) سورة المائدة الآية 50
(2) سورة البقرة الآية 85
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 279(2/179)
إلى اسم آخر {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (1) وكم من بلادنا تبيح - مع الربا - الخمر والزنا !
وكم منها تستبيح مكارم الأخلاق فتهزأ بها وسائل إعلامها وتسخر: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (2) {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (3)
والذين يقولون: إننا نستكمل ما جاء في الشريعة بأنظمة لم تأت بها الشريعة مثل بعض المعاملات التجارية أو بعض الأمور الاقتصادية أو بعض النظم السياسية.
هؤلاء حكموا من حيث يشعرون أو لا يشعرون. . حكموا على دين الله بالنقص، والله سبحانه وتعالى أنزل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (4)
ومن حيث لا يشعرون أو يشعرون حكموا على الله سبحانه بالنقص؛ لأن الشيء الذي يصدر صورة لصاحبه، أو كما يقول المثل القديم: كل إناء ينضح بما فيه. فإذا اعترفنا لله سبحانه بالكمال فلا بد أن نعترف به للدين الذي أنزله خاتم الأديان. واعترافنا بكمال الدين اعتراف بكمال الله سبحانه، والقول بنقص الدين بشكل أو بآخر إسناد للنقص إلى الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وهم من حيث لا يشعرون يحكمون على أنفسهم بالجهل أو العجز أو بالخيانة؛ بالجهل إذ لا يعلمون حكم الله فيما يستوردون، أو بالعجز إذ يعلمون لكنهم لا يستطيعون الاجتهاد، أو بالخيانة إذ يعلمون ويستطيعون ولا يفعلون!
بعد ذلك هل أنا بحاجة إلى أن أبين جوانب دين الله وشريعته؟
هل أنا بحاجة إلى أن أبين أن أساسها العقيدة تنشر بين الناس تعليما وإعلاما. . ويدافع عنها كذلك تعليما وإعلاما. . وبسيف السلطان لمن حاد أو زاغ، ولا يرجع أو يئوب؟
هل أنا بحاجة إلى أن أبين أن الأخلاق تقف مع العقيدة ليربى عليها الفرد وتربى عليها الأسرة؟!
__________
(1) سورة البقرة الآية 9
(2) سورة الشورى الآية 30
(3) سورة الشورى الآية 31
(4) سورة المائدة الآية 3(2/180)
ويربى عليها المجتمع، ويدافع عنها كذلك تعليما وإعلاما وبسيف السلطان كذلك لمن حاد أو زاغ ولا يراجع أو يئوب. .؟ !
ثم هل أنا بحاجة إلى أن أبين منزلة الشعائر والعبادات في بناء الإسلام، وإلى أن أبين أن المقصود ليس مجرد شكلها وإلا لغدت جسدا بغير روح، وشكلا بغير مضمون؟! فأي قيمة لها؟!
وإلى أن أبين أن تعظيمها وتوقيرها وإعطاء القدوة من الحاكم للمحكومين. . كل ذلك واجب. . وأجب. . وأجب. .
وأخيرا. . هل أن بحاجة إلى أن أبين أن أحكام المعاملات هي الجزء الأخير من شريعة الله، التي تأتي بعد العقيدة، والأخلاق، والعبادات؟! وأن واجب الدولة ليس قاصرا على إصدار القوانين والأحكام، لكنه قبل ذلك واجب توجيهي تربوي تعليمي نخلف فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!
وهل لي أن أعيد قولا بدأته: أن شريعة الله بناء متكامل يشد بعضه بعضا. . وأنه لا يقبل التجزئة، وأن ذلك فتنة وجاهلية وكفر وحرب لله ورسوله. .
وبعد. .
فإنه ليس بالحدود وحدها تقام شريعة الله. .
إنها بناء متكامل يشد بعضه بعضا، الحدود بعض لبنائه، لكنها لا تقوم إلا بغيرها من اللبنات. . إلا بالعقيدة، والأخلاق، والشعائر، ومنها شعائر أحكام المعاملات. . وهي تشمل ما يسميه رجال العصر: فروع القانون العام والخاص على السواء.
وأن بيتنا المتكامل ليس بحاجة إلى أن يدخله غريب يرممه أو يكمله. إنه يلفظ كل غريب أو مستغرب، ويرحب بكل قريب. والإسلام رحم بين أهله!!
* * *
وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أن يكون الواحد منا " إمعة " إذا أحسن الناس أحسن وإن أساءوا أساء، ونعى القرآن على قوم ينعقون بما لا يسمعون إلا دعاء ونداء فقال تعالى:(2/181)
{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (1)
إن الثقافة تتجه يوما بعد يوم إلى العلمانية، والجيل الجديد يولع يوما بعد يوم بكل ما هو أجنبي.
العقيدة خليط بين الكفر والإيمان، والخرافة والتقليد!! وهو ما عبر عنه ابن خلدون بولع المغلوب بتقليد الغالب.
إنه ليس بالحدود وحدها تقام شريعة الله. إنها بناء متكامل يشد بعضه بعضا، لا يقبل التجزئة ولا التفرقة، وإقامة الحدود دون أداء الزكاة تجزئة، وإقامة الحدود مع بقاء الربا تجزئة، وإقامة الحدود قبل أن تقام العقيدة والأخلاق وكذا الشعائر. . إقامتها تربية وتعليما ونشرا وإعلاما ودفع كل ما يمسها أو ينال منها كذلك تجزئة.
ليس بالحدود وحدها تقام الشريعة، إنما الحدود جزء منها واجب ولازم، لكنه لا يقوم وحده، كما لا يقوم جزء من طابق من غير ما تحته من طوابق أو أساس.
أقيموها كاملة كما أنزلها الله كاملة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2)
* * *
__________
(1) سورة البقرة الآية 171
(2) سورة المائدة الآية 3(2/182)
الدكتور: علي محمد جريشة
البلد: صفط زريق - مركز ديرب نجم - شرقية - مصر.
المؤهلات: دكتوراه في الشريعة والقانون.
المؤلفات:
(1) في الزنزانة.
(2) الإيمان الحق.
(3) الشريعة الإسلامية العليا " تحت الطبع " إن شاء الله.
(4) عندما يحكم المجرمون " تحت الطبع " إن شاء الله.
(5) ليس بالحدود وحدها " تحت الطبع " إن شاء الله.
(6) مبادئ في الفقه السياسي الإسلامي " تحت الطبع " إن شاء الله.
(7) بحث في موسوعة الفقه الإسلامي " آل ".
(8) مقالات حول الشريعة بجريدة الأهرام القاهرية.
الأعمال التي مارسها: وكيل النائب العام المصري.
نائب بمجلس الدولة المصري.
مستشار بمجلس الدولة المصري.
أستاذ بجامعة الرياض - المملكة العربية السعودية.
الأعمال الإضافية: الاشتراك في موسوعة الفقه الإسلامي - الكويت.
مدير تحقيقات.
رئيس لجنة بوزارة التموين ومستشار نائب رئيس الوزراء المصري.
رئيس اللجنة الأولى للقسمة القضائية بوزارة الأوقاف المصرية.(2/183)
عن معاذ، قال: «أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات. قال: لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمدا، فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله، ولا تشربن خمرا فإنه رأس كل فاحشة، وإياك والمعصية فإن بالمعصية حل سخط الله، وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس، وإذا أصاب الناس موت وأنت فيهم فاثبت، وأنفق على عيالك من طولك ولا ترفع عنهم عصاك أدبا، وأخفهم في الله (1) »
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/238) .(2/184)
محمد أبو الفتح البيانوني
تحول العبادات إلى عادات
وأثره في حياة المسلمين
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه المبين: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) والصلاة والسلام على سيدنا محمد القائل: «أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا (2) » ورضي الله عن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. . .
أما بعد: فالفرق كبير شاسع بين أن يعتاد المرء العبادة فتصبح جزءا من حياته وسلوكه، وبين أن تغلب عليها العادة فتفقدها صفة العبادة، وتعرضها للتغير والزوال تبعا لتغير تلك العادة.
وقد غلبت العادات على كثير من الأعمال الشرعية في المجتمعات الإسلامية اليوم فأخرجتها عن وصف العبادة حتى زهد الشاب فيها وتحولوا عنها، بعد أن كانت عبادات خالصة تؤدي وظيفتها في حياة الناس.
ويرى المتتبع لهذه الظاهرة في حياة الناس: أن هذا التحول الخطير الذي عم الكبار والصغار، والرجال
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4837) ، صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2820) .(2/185)
والنساء، والأفراد والجماعات، قد شمل أيضا على مختلف أشكالها، وتفاوت درجاتها، فلم يقتصر على بعض الفضائل والمندوبات، ولا على بعض المظاهر والشعائر، بل تعداها إلى كثير من الواجبات الأساسية، والأركان الإسلامية.
والذي يعجب له المرء كل العجب أن تتحول أركان الإسلام الخمسة عند كثير من المسلمين اليوم من عبادات وأركان، إلى عادات ومظاهر. . .
ولهذا أحببت أن أعرض في بحثي هذا نماذج من هذه التحولات، محللا أسبابها، ومشيرا إلى مكامن الخطر فيها، مؤيدا ذلك بصور عملية من واقع حياة المسلمين. . . عسى أن نتنبه إلى هذا الخطر الذي يهدد إسلامنا وإسلام أجيال بعدنا، ونحن عنه غافلون، مطمئنين لشيوع المظاهر والشعائر في حياتنا الخاصة والعامة، فنندفع إلى دراسة هذه الظاهرة ومعالجتها.
وسيشمل بحثي النقاط التالية:
أ - مفهوم العبادة في الإسلام.
ب - تحول هذا المفهوم تدريجيا.
ج - أمثلة على هذا التحول.
د - سبب هذا التحول.
هـ - خطره على الحياة الإسلامية.
وأساليب علاجه.
أسأله سبحانه أن يلهمنا الصواب، وأن يبصرنا بمواطن الضعف في نفوسنا، والله ولي التوفيق. . .
* * *(2/186)
مفهوم العبادة في الإسلام
مفهوم العبادة في الإسلام مفهوم واسع شامل، ذكرها الله سبحانه وتعالى في معرض بيان وظيفة الإنسان في هذه الحياة، فحصر فيها حياته، وجعلها الغاية من خلقه، فقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) .
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56(2/186)
ولهذا كانت حياة المسلم كلها - كما أرادها الله - عبادة خالصة له سبحانه في جميع جوانبها الخاصة والعامة، والاعتقادية والعملية. . . فالمسلم عبد الله في كل تحرك وسكون {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) .
ومن هنا عرف الإمام ابن تيمية - رحمه الله - العبادة بأنها:
" اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالصلاة والزكاة، والصيام والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة.
وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضى بقضائه والتوكل عليه، والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك من العبادة لله.
وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له، والمرضية له التي خلق الخلق لها كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) (3) .
وفي تأكيد هذا الشمول لمعنى العبادة يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: " ليس في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى العبادة، أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف، والمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة أولا وأخيرا. . . " (4) .
وإذا ما عرف العلماء العبادة بالخضوع الشامل، والطاعة الكاملة، فلا بد لنا من أن نلاحظ في تعريف العبادة بالنسبة للإنسان قيدا خاصا يميز خضوعه عن خضوع غيره من المخلوقات، فالكون كله بأملاكه وأفلاكه، وجماداته وحيواناته خاضع لله عز وجل لا يخرج عن طاعته قيد شعرة، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (5) .
ولهذا كان لا بد لنا من قيد مميز لعبادة الإنسان عن عبادة غيره من المخلوقات، قيد ينسجم مع ما وهبه الله إياه من نعمة العقل، ألا وهو قيد " الإرادة ".
فعبادة الإنسان لله هي: خضوعه الإرادي الشامل وطاعته الإرادية المطلقة له سبحانه، أما الخضوع القسري فلا مزية فيه لمخلوق على مخلوق. . .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) انظر كتاب العبودية ص 38 - 39.
(4) انظر كتاب فقه الدعوة ص 66.
(5) سورة فصلت الآية 11(2/187)
ومن هنا نلاحظ أن القرآن الكريم استعمل لفظة العبادة بالنسبة للإنسان استعمالا يشعر بهذا القيد الإرادي فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1) وقال أيضا: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (2) والاستكبار عن العبادة أمر إرادي لا يكون إلا من الإنس والجن. أما غيرهم من الملائكة مثلا فلا يعرفون الاستكبار؛ لأنهم مفطورون على الطاعة والخضوع. قال تعالى في وصف الملائكة:
{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} (3) ولهذا كان مفهوم العبادة في الإسلام يشتمل على عنصرين:
1 - الخضوع الشامل لله عز وجل.
2 - كون هذا الخضوع إراديا مقصودا.
ولما كان الخضوع الإرادي لله عز وجل عنوان العبادة الحقيقية من هذا الإنسان، كان كافيا أن يرافق هذا الخضوع أي تصرف من تصرفات الإنسان الاختيارية أو الاضطرارية ليصبح هذا التصرف عبادة لله عز وجل؛ لأنه ابتغى به وجهه، وجاء على وفق رضائه، ومن هنا كان بإمكان المسلم أن يجعل حياته كلها عبادة حتى عاداته وغرائزه من طعام وشراب ولباس وسكن ومتعة في هذه الحياة. . .
فهو يماثل غيره في صور هذه التصرفات، ويتميز عن غيره في حقيقتها واعتبارها. . . ففي الحديث الشريف: « (وفي بضع أحدكم صدقة) قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) (4) » .
كما يكفي أن يفارق هذا الخضوع الإرادي أي تصرف من تصرفات الإنسان ليفقد هذا التصرف وصف العبادة حتى ولو كان هذا التصرف صلاة وصياما، أو زكاة وحجا أو غير ذلك من شعائر العبادات، «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (5) » ... كأن يقوم بمثل هذه العبادات ولا يقصد منها العبادة أو أن تكون من فاقد العقل مثلا.
* * *
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة الصافات الآية 35
(3) سورة الأعراف الآية 206
(4) رواه مسلم.
(5) متفق عليه.(2/188)
تحول مفهوم العبادة
عرف المسلمون الأولون حقيقة معنى العبادة، فكانوا عبادا لله حقا، وكان وصف العبودية جليا في حياتهم وجميع أعمالهم، بل كانت عاداتهم عبادات. . . إذ كانوا لا يتحركون تحركا ولا يسكنون سكونا إلا ويستشعرون رضا الله عن ذلك التحرك والسكون، حتى أصبح هذا الشعور محور تحركهم، ومبعث سلوكهم، لا تشوبه شائبة، ولا يغفلون عنه لحظة.
ولما ضعف هذا المفهوم في نفوس من بعدهم، وخفت ذلك الشعور في تصرفاتهم، بعدوا عن حقيقة العبادة تدريجيا حسب بعدهم عن ذلك المحور، وانقلبت كثير من عباداتهم إلى عادات. ولقد كان هذا التحول والبعد متنوعا فيهم، ومتفاوتا بينهم. . . فهناك من المسلمين من انحصر مفهوم العبادة عندهم في جانب من جوانب الحياة، ففصلوا بين علاقة الإنسان بربه وبين علاقته مع نفسه ومع غيره. . . وحصروا معنى العبادة في علاقتهم مع الله فخرجوا بذلك عن الجادة.
وفي هذا يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله:
" جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا مسلمين إذا هم أدوا نشاط العبادة وفق أحكام الإسلام بينما هم يزاولون كل نشاط المعاملات وفق منهج آخر، ولا يتلقونه من الله ولكن من إله آخر، هو الذي يشرع لهم في شئون الحياة ما لم يأذن به الله! وهذا وهم كبير، فالإسلام وحدة لا تنفصم، وكل من يفصمه إلى شطرين - على هذا النحو - فإنما يخرج من هذه الوحدة، أو بتعبير آخر، يخرج من هذا الدين، وهذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم يريد أن يحقق إسلامه، ويريد في الوقت ذاته أن يحقق غاية وجوده الإنساني. " (1) .
وهناك من المسلمين من انفصل شعورهم عن سلوكهم في أداء هذه الشعائر التعبدية، فخضعوا لله بجوارحهم، ولم يخضعوا له بمشاعرهم وقلوبهم، بل تصور كثير منهم تعبده لله نقمة عليه، وقيدا لسعادته وحريته في هذه الحياة، فتراه لا يخضع عن طواعية ورضى، أو يخضع لله فيما خضع له مجتمعه، أو اعتاد الخضوع فيه من بيئته، وهو لا يجد لهذا الخضوع معنى، ولا يحس له في نفسه أثرا. . .
مما شوه صورة العبادة في نفوس الأجيال، وأدى إلى تركها والاستكبار عنها. . . فخرج الناس عن وظيفتهم الحقيقية في هذه الحياة، وخبطوا خبط عشواء. . . مما أجهد الدعاة والوعاظ، وأوقعهم في الحيرة من أمرهم، لا يعرفون لهذا التحول الكبير سرا، ولا يجدون منه مخرجا.
__________
(1) انظر كتاب '' فقه الدعوة '' ص 67 وكذلك ص 60، 61.(2/189)
أمثلة على هذا التحول
بعد أن كان للشعائر التعبدية قدسيتها في نفوس المؤمنين تبعا لتفهمهم لها وحرصهم عليها. . . فقد الناس بتحول مفهوم العبادة عن معناه الصحيح تلك القدسية، وأصبحت عندهم عبارة عن مظاهر ومراسم لا تترك أثرا ولا تجدي نفعا.
فبعد أن كان المرء يحسب للفظ الشهادتين كل حساب، ويشعر وهو يتلفظ بهما بالخشوع والخضوع الكامل. . . أصبحنا نجد المسلم الذي يكررها مئات المرات ويجعلها وردا من أوراده وهي لا تترك فيه أثرا، ولا تصلح منه سلوكا.
وقل مثل هذا في جميع أنواع الذكر:
فكم من مستغفر لله عز وجل وهو متلبس بمعصية الله ومخالفته لا يجاوز الاستغفار لسانه. . .!
وكم من مسبح وحامد وشاكر لله عز وجل بلسانه، وهو غافل عن نعمه، ومرتكب لما يوحي بالكفران لهذه النعم. . .!
تجد هذا كثيرا في عامة الناس المحافظين على الأذكار والأوراد التي اعتاد عليها لسانهم، ولكنها لا تحرك قلوبهم. . . ترى هل يعتبر ذكرهم هذا عادة أم عبادة! ؟
كنت مرة مع صحب لي في المسجد النبوي الشريف ننتظر الإفطار في رمضان، وكان أحد المحافظين على ذكر الإفطار جالسا، فما أن تناول واحدة من التمر حتى قال على عجل: «اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، وبك آمنت وعليك توكلت، ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله (1) » .
فقلت له - منبها على هذه الحال وقبل أن يتناول الماء - هل ذهب ظمؤك، وابتلت عروقك حقا! ؟ فتعجب وتنبه.
وإن تعجب فعجب فعل مرتكب الكبائر، يجلس في المسجد ويتلو آيات القرآن فتمر عليه آيات الربا وغيرها دون أن تهز من نفسه، أو تنبه شعوره! !
والصلاة التي كانت قرة عيون المؤمنين، ومعراج المتقين، أصبحت عند كثير من المصلين عبارة عن حركات منظمة تفتقد الخشوع والطمأنينة.
__________
(1) سنن أبو داود الصوم (2357) .(2/190)
وأنى لصلاة كهذه أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، فتؤدي وظيفتها في حياة الناس وسلوكهم. . .!
والزكاة التي شرعت طهرة للقلوب، وتزكية لها من حب المال أصبحت عند كثير من المؤدين لها ضريبة من الضرائب، يحتال عليها ويتثاقل من دفعها.
وأنى لمثل هذه الزكاة أن تردع صاحبها عن الحرام، وأن تطهر قلبه من حب المال. . .!
وشهر رمضان الذي كان مدرسة التقوى والصبر. . . أصبح شهر طعام وشراب، وتلذذ وسمر. . .
يفهمه كثير من الصائمين امتناعا عن الطعام والشراب في النهار، واسترسالا فيه بالليل، وأنى لمثل هذا الصيام أن يطهر النفوس ويربيها على فضائل الصيام. . .!
ومناسك الحج تلك المدرسة التربوية الجامعة، أصبحت عند معظم الحجاج أعمالا روتينية لا تؤدي وظيفتها في النفوس. . .
يتقيد الحاج أيام الحج بمحظورات الإحرام، وهو متلبس بمحظورات الإسلام. . .
فكم من حاج يسأل مثلا عن حكم لبس الساعة حال الإحرام خشية الوقوع في المحظور، وهو متختم بالذهب طيلة حياته، لا يشعر به ولا يسأل عنه. . .!
وكم من حاج يخشى سقوط شعرة أو شعرات من جسمه، ويتحرز عنه كل التحرز، وهو مطلق لنفسه العنان في غير أيام الحج فيحلق ما يشاء ويترك ما يشاء، وكأنه سيد نفسه، ولا يشعر بعبوديته. . .!
وأنى لحاج مثل هذا وذاك أن يستفيد من الحج، وأن يعود حجه عليه بالنفع!!
والحجاب الذي كان مظهر العفة والحياء، أصبح عند كثير من النساء عبئا ثقيلا يتفنن في إزاحته، أو تشويه حقيقته. . .
وإذا ما لبسته المرأة فإنما تلبسه تبعا لعاداتها وتقاليد بلادها، وما أعجب أن تحتجب المرأة في صلاتها، ثم تخرج بعدها سافرة متبرجة! !
واللحية بعد أن كانت شعار التمسك والاتباع، أصبحت عند كثير من المسلمين تبعا للتقاليد والأزياء. . . وقل مثل هذا في كل شعيرة من الشعائر التعبدية، وفي كل عمل دعا إليه الإسلام، ولا يزال في المسلمين من يتمسك به أو يدعو إليه.(2/191)
ودع عنك أولئك الذين تنصلوا من الأحكام الشرعية، ولم يراعوا في حياتهم حلالا ولا حراما. . . فأي معنى العبادة يبقى لهؤلاء، وأي وصف من أوصافها يسلم لهم! ! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* * *(2/192)
سبب هذا التحول
ولعلنا نستطيع أن نرجع هذا التحول الخطير إلى سببين أساسيين: هما:
1 - الخطأ في مفهوم الإنسان لوجوده ووظيفته في هذه الحياة.
2 - تصور المسلم الشعائر التعبدية غايات لا وسائل.
فقد أوضح الله للناس سنته في خلقه فقال سبحانه:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) .
وقال أيضا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2) .
وليس بعد هذه السنة الكونية القاطعة قول لحكيم ولا تعليل لخبير. . . فبعد أن كان مفهوم المسلم أنه ما خلق في هذا الكون إلا ليعبد الله عز وجل، ويحقق كمال العبودية في طاعته وخضوعه. . .
نسي هذه الغاية، وجهل تلك الوظيفة، وتشبه بالحيوانات فجعل أكبر همه في هذه الحياة طعامه وشرابه وشهوته. . .
فغفل عن الكرامة التي أكرمه الله بها، وجحد نعمة العقل والتكليف، فتغير مفهومه لهذه الحياة. . . وتبعا لهذا التغير تغير كل شيء:
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (3) وبدلا من أن تكون الشعائر التعبدية عند المسلم وسائل تربوية، ومدارس تدريبية، يعرج بها المؤمن في
__________
(1) سورة الرعد الآية 11
(2) سورة الأنفال الآية 53
(3) سورة مريم الآية 59(2/192)
معارج الكمال، ويصل بها إلى كمال العبودية الحقة فيكون عبدا حقا وصدقا.
بدلا من هذا كله أصبحت هذه الشعائر التعبدية من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها. . . غايات في ذاتها، يحافظ عليها المرء دون أن تكون لها صلة بحياته، ويؤديها ثم ينطلق بعدها كما يريد دون أن يشعر بالتعارض والتناقض.
وأنى لمثل هذا أن يتفكر في حقائقها، وأن يستفيد من دروسها، ما دام ينظر إليها تلك النظرة، ويفهمها ذلك الفهم! ! .
مثله في هذا مثل الطفل الصغير الذي يرى المدرسة قيدا لحريته، ولكنه يذهب إليها إرضاء لوالده أو خوفا من عقابه. . . فأنى له أن يستفيد من مدرسته، وهيهات أن يتخرج من المدرسة - ما دام على هذه الحال - عالما صالحا! !
إنه لن يستفيد منها حتى يعلم حقيقتها، وتتغير نظرته إليها.
* * *(2/193)
خطر هذا التحول على الحياة الإسلامية
وبعد عرضنا لتحول مفهوم العبادة وتحليلنا لأسبابه، يمكننا أن نتلمس خطر هذا التحول في حياة المسلمين، ونجمله في جانبين أساسيين:
1 - فقدان أثر هذه المدارس التربوية في النفوس.
2 - ومن ثم: زهد الناس فيها، وضياعهم بتركها.
أما الجانب الأول: فيظهر جليا بقدر تفهم أثر تلك الشعائر التعبدية، والمدارس التربوية في نفوس الناس وحياتهم.
تصوروا بلدة كثر فيها بناء المدارس التعليمية، والمستشفيات الصحية حتى عمت كل حي وشارع. . . إلا أن الناس فيها أعرضوا عنها، واكتفوا بكثرتها وانتشارها، فلا أساتذة ولا طلاب في المدارس، ولا أطباء ولا مرضى في المستشفيات. . . فهل يمكن لهذه المؤسسات أن تؤدي وظيفتها في هذه المدينة، فتشيع بين أهلها العلم، وتقضي على الأمراض(2/193)
والأسقام! ! ؟
وهل يغني هؤلاء القوم وجودها عندهم، وانتشارها بينهم؟ !
فذلك مثل الشعائر التعبدية، والمدارس الدينية التربوية التي افتتحها الله لعباده، وبين حاجتهم إليها، ومجال الاستفادة منها فقال عن الصلاة: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (1) . وقال عن الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وقال: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) وقال عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه (4) » .
وقال عن الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (5) . وقال عن الحج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (6) وقال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (7) . إلى غير ذلك من نصوص عللت مشروعية العبادات والأعمال الشرعية وبينت أثرها في حياة الناس. . . فإذا باشر الناس هذه العبادات، وأدوا هذه الشعائر على أنها مجرد أوامر، دون تنبه لمقاصدها، وحرص على الاستفادة منها، فقدوا خيرها وآثارها في نفوسهم، وزهدوا من بعدهم فيها.
وأما الجانب الثاني: وهو زهد الناس فيها، وضياعهم بتركها، فيؤكده واقع المسلمين اليوم في أغلب بلدانهم، حيث ترى محافظة الكبار منهم على هذه الشعائر التعبدية محافظة عادة.
في الوقت الذي ترى فيه إعراض الشباب عنها، وزهدهم فيها، فالناس بين محافظين غافلين، وبين معرضين زاهدين. . . وأي شيء أخطر على حياة المسلمين من هذه الحال. . .! ؟
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 45
(2) سورة البقرة الآية 183
(3) سورة البقرة الآية 184
(4) رواه البخاري.
(5) سورة التوبة الآية 103
(6) سورة الحج الآية 28
(7) سورة الحج الآية 37(2/194)
إن السنة الكونية التي بينها الله عز وجل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) والتي بينت لنا الداء، وكشفت لنا عن سبب هذا التحول الخطير، هي نفسها مع مثيلاتها من آيات الله توضح له الدواء، وتصف أساليب العلاج.
فكما تحول واقع المسلمين من حسن إلى سيئ تبعا لتغير مفهومهم لحقيقة وجودهم، وتقصيرهم في أداء وظيفتهم. . . فكذلك تكفل الآية لهم أن يغير الله ما بهم، ويعيدهم إلى ما كانوا عليه من خير إذا ما حققوا ذلك الشرط، وغيروا واقعهم السيئ الذي صاروا إليه، فأصلحوا مفاهيمهم، وقاموا بوظيفتهم حق القيام.
كل هذا يؤكده منطوق هذه الآية، فيشمل التغيير من أسفل إلى أعلى، كما شمل التغيير من أعلى إلى أسفل. . .
إلا أن هذا التغيير المطلوب ليس بالأمر السهل الهين، وإنما يحتاج إلى جهود عظيمة متواصلة. . . جهود خاصة يبذلها الدعاة والمربون، وجهود عامة يقوم بها عامة المسلمين. . .
فعلى الدعاة أولا أن يوضحوا للناس الحكمة من مشروعية هذه العبادات، وكيفية الاستفادة منها، وأن يلمسوا الناس واقعهم السيئ الذي هم في غفلة عنه، والذي سببه جهلهم بحقيقة هذه العبادات وغاياتها، وتحول مفهومهم لها.
وعلى الناس ثانيا أن يتفهموا هذه الحقائق، ويتنبهوا إلى الخطر المحدق بهم، ليؤدوا هذه الشعائر التعبدية عن وعي وفهم، وبخضوع وخشوع، لتؤتي ثمارها في نفوسهم.
ومن ثم تأتي رغبة الأجيال بها، ويقوى حرصهم عليها، إذا لمسوا آثارها في النفوس، وظهرت فوائدها للعيون. . .
وعندئذ تقل الحاجة إلى الكلام والإقناع؛ لأن الواقع العملي المتحرك أكبر مؤثر في النفوس، والصلاح المنبثق عن العبادة أول داع لها ومحبب فيها. . .
فلنسهم جميعا في توضيح هذه الحقائق للناس بالوسائل المختلفة، والأساليب المتنوعة، ولنكون من أنفسنا وأهلينا نماذج تطبيقية سليمة تكون الداعية الأولى للصلاح، والمصدق الأكبر لما ندعو إليه، وعندئذ نوفر
__________
(1) سورة الرعد الآية 11(2/195)
كثيرا من الجهود، ونجني أطيب الثمار، ونستعيد رضا الله ورحمته التي وعد بها عباده التائبين المؤمنين الحريصين على العمل الصالح فقال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (1) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} (2) .
ونحقق وعد الله لنا بقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (3) .
__________
(1) سورة مريم الآية 59
(2) سورة مريم الآية 60
(3) سورة العنكبوت الآية 69(2/196)
الدكتور: محمد أبو الفتح البيانوني
1 - الاسم الكامل: محمد عبد الله أبو الفتح البيانوني.
2 - التولد: عام 1359 هـ الموافق 1940 م في مدينة حلب شمال سورية.
3 - التخصص العلمي: في أصول الفقه، ولقد حصل على شهادة " الدكتوراه " في أصول الفقه من الجامعة الأزهرية برسالة قدمها بعنوان " الحكم التكليفي في الشريعة الإسلامية " وذلك عام 1390 هـ.
4 - العمل الحالي: عين مدرسا بكلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية منذ عام 1389 - 1390 هـ ولا يزال مدرسا فيها.
5 - إنتاجه العلمي: صدر له كتاب عن الإمام " سفيان الثوري " - حياته العلمية والعملية - وله كتاب تحت الطبع بعنوان " دراسات في الاختلافات الفقهية " وأبحاث متفرقة لم تطبع بعد.
6 - العنوان الدائم: سورية - حلب - الجبيلة، أو الرياض - كلية الشريعة.(2/197)
عن بلال بن الحارثة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الخير ما يعلم مبلغها يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من الشر ما يعلم مبلغها يكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه (1) »
__________
(1) سنن الترمذي الزهد (2319) ، سنن ابن ماجه الفتن (3969) ، مسند أحمد بن حنبل (3/469) ، موطأ مالك الجامع (1848) .(2/198)
عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل
أحمد بن حنبل
هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المروزي البغدادي، وشيبان حي من بكر القبيلة المشهورة من قبائل العرب.
ولد في ربيع الأول على المشهور سنة 164 هجرية في بغداد، وكانت أمه قد حملت به في مرو التي كان يقيم فيها أبوه، والمعروف أن أباه مات بعد ولادته عن ثلاثين سنة تقريبا، وأحمد إذ ذاك صغير لا يدرك شيئا بدليل أنه نفى رؤيته لأبيه وجده.
وكان جده قد انتقل إلى خراسان، وكان واليا على سرخس في العهد الأموي، ثم انضم إلى صفوف الدعوة العباسية حتى أوذي في هذا السبيل، ويقال: إنه كان قائدا.
***(2/199)
نشأ أحمد - رضي الله عنه - يتيما، وقامت على تربيته أمه - صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك الشيباني - وترك له أبوه بيتا في بغداد يسكنه وبيتا آخر يغل غلة ضئيلة. وكان في هذا كشيخه الإمام الشافعي في اليتم والفقر والحاجة وعلو الهمة. تشابهت نشأة التلميذ والأستاذ ولكل منهما أم تدفعه إلى التقدم والعلو والزيادة من الخير. نشأ الإمام أحمد - رضي الله عنه - ببغداد، وتربى فيها تربيته الأولى، وقد كانت بغداد إذ ذاك تموج بالناس الذين اختلفت مشاربهم، وتخالفت مآربهم، وزخرت بأنواع العلوم والمعارف، ففيها القراء والمحدثون والمتصوفة وعلماء اللغة والفلاسفة وغيرهم، فقد كانت حاضرة العالم الإسلامي، وقد توافر فيها ما توافر في حواضر العالم من تنوع المسالك وتعدد السبل وتنازع المشارب ومختلف العلوم حتى إذا أتم حفظ القرآن وعلم اللغة اتجه إلى الديوان ليتمرن على التحرير والكتابة، ولقد قال في ذلك: كنت وأنا غليم أختلف إلى الكتاب، ثم أختلف إلى الديوان وأنا ابن أربع عشرة سنة. وكان وهو صبي محل ثقة الذين يعرفونه من الرجال والنساء حتى إنه ليروى أن الرشيد وهو بالرقة مع جنده وكان أولئك الجند يكتبون إلى نسائهم بأحوالهم فلا يجد النساء غير أحمد يقرأ لهن ما كتب به إليهن، ويكتب لهن الردود ولا يكتب ما يراه منكرا من القول. . .
* * *
شب أحمد على هذا، واستمر في طلب العلم بعزم صادق وجد، وأمه تشجعه على ذلك، وترشده وتدعوه إلى الرفق بنفسه إذا خشيت عليه الإرهاق، وحكى ذلك أحمد عنها فقال: كنت ربما أردت البكور في الحديث فتأخذ أمي بثيابي وتقول: اصبر حتى يؤذن الناس أو حتى يصبحوا، وكان اتجاهه إلى الأخذ عن رجال الحديث. ويروى أن أول تلقيه كان على القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة فقد قال: أول من كتبت عنه الحديث أبو يوسف، وفي تاريخ الحافظ الذهبي قال الخلال: كان أحمد قد كتب كتب الرأي، وحفظها ثم لم يلتفت إليها.
اتجه أحمد إلى كتابة الحديث من سنة 179 حينما كان عمره ست عشرة سنة، واستمر مقيما في بغداد يأخذ عن شيوخ الحديث فيها حتى سنة مائة وست وثمانين، وابتدأ في هذه السنة رحلته إلى البصرة، ثم إلى الحجاز واليمن وغيرها، واستمر ملازما لشيخه هشيم بن بشير بن أبي خازم الواسطي حتى سنة وفاته 183.
قال صالح بن أحمد قال أبي: كتبت عن هشيم سنة 179، ولزمناه إلى سنة ثمانين وإحدى وثمانين واثنين وثمانين وثلاث. ومات في سنة ثلاث وثمانين. كتبنا عنه كتاب الحج نحوا من ألف حديث وبعض التفسير وكتاب القضاء وكتبا صغارا، فقال صالح: يكون ثلاثة آلاف، قال: أكثر، ثم ارتحل في طلب العلم إلى الحجاز وغيره وقد ذكر ابن كثير تفصيل رحلاته الحجازية في تاريخه البداية والنهاية جزء 10 ص 326 وكان من أبرز الشخصيات التي التقى بها الإمام أحمد أثناء رحلاته وفي إقامته، الإمام الشافعي - رضي الله عنه - فقد أخذ عنه، واستفاد منه كثيرا، وكان الشافعي يجله ويقدره ويعول عليه في معرفة صحة الحديث أحيانا، ورشحه الإمام الشافعي(2/200)
عند الرشيد لقضاء اليمن فأبى أحمد، وقال له: جئت إليك لأقتبس منك العلم تأمرني أن أدخل لهم في القضاء، وكان ذلك في آخر حياة الرشيد، ثم رشحه الشافعي مرة ثانية لقضاء اليمن عند الأمين فأبى أحمد وكان ذلك 195 هـ.
* * *
ودخل الشافعي يوما على أحمد بن حنبل فقال: يا أبا عبد الله كنت اليوم مع أهل العراق في مسألة كذا فلو كان معي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدفع أحمد إليه ثلاثة أحاديث فقال له: جزاك الله خيرا. وقال الشافعي لأحمد يوما: أنتم أعلم بالحديث، والرجال، فإذا كان الحديث الصحيح فعلموني إن شاء يكون كوفيا أو شاميا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا، وهذا من كمال دين الشافعي وعقله حيث سلم هذا العلم لأهله؛ وقال عبد الوهاب الوراق: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، قالوا له: وأي شيء بان لك من علمه وفضله على سائر من رأيت؟ قال: رجل سئل عن ستين ألف مسألة فأجاب فيها بأن قال (أخبرنا) و (حدثنا) . وقال أبو زرعة الرازي:
حفظ أحمد بن حنبل بالمذاكرة على سبعمائة ألف حديث، وفي لفظ آخر قال أبو زرعة الرازي: كان أحمد يحفظ ألف ألف، فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذكراته فأخذت عليه الأبواب.
* * *
كان الإمام أحمد يقول: - فاتني مالك فأخلف الله علي بسفيان بن عيينة؛ وفاتني حماد بن زيد فأخلف الله علي إسماعيل ابن علية. وكان ملازما لكتابة الحديث فانشغل بذلك عن كل شيء حتى عن الزواج فلم يتزوج إلا بعد الأربعين. وقيل له: يا أبا عبد الله قد بلغت هذا المبلغ وأنت إمام المسلمين فقال: مع المحبرة إلى المقبرة، فأنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر.
وقد روى المزني: أن الشافعي قال: ثلاثة من عجائب الزمان: عربي لا يعرب كلمه وهو أبو ثور، وأعجمي لا يخطئ في كلمة وهو الحسن الزعفراني، وصغير كلما قال شيئا صدقه الكبار وهو أحمد بن حنبل.
وقال الشافعي: - خرجت من بغداد ما خلفت بها أحدا أورع ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل، ولم يزل على ذلك مكبا على الحديث والإفتاء وما فيه نفع المسلمين، والتف حوله أصحابه يأخذون عنه الحديث والفقه وغيرهما، وألف المسند في مدة ستين سنة تقريبا، وكان قد ابتدأ بجمعه في سنة 180 هـ أول ما بدأ بطلب الحديث، وسيأتي الكلام على المسند إن شاء الله تعالى، وألف في التفسير، وفي الناسخ والمنسوخ، وفي التاريخ، وفي المقدم والمؤخر في القرآن، وفي جوابات القرآن، وألف المناسك الصغير والكبير، وفي حديث شعبة، وألف كتاب الزهد، وكتاب الرد على الجهمية والزنادقة، وكتاب الصلاة، وكتاب السنة وكتاب الورع والإيمان، وكتاب(2/201)
العلل والرجال، وكتاب الأشربة، وجزءا في أصول السنة، وفضائل الصحابة، وله قصائد متناثرة، وأجزاء في بعض الأصول والمسائل، كما نقل عنه مجموعة من المسائل، منها مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود السجستاني صاحب السنن وهي مطبوعة نشرها السيد محمد رشيد رضا بمطبعة المنار وتقع في 328 صفحة. وهي أجوبة على بعض المسائل التي سئل عنها الإمام أحمد في الفقه؛ ومنها مسائل ابنه عبد الله بن أحمد، ومسائل إسحاق بن إبراهيم رواية ابن منصور المروزي وهي مخطوطة وتوجد في المكتبة الظاهرية بدمشق وغير ذلك من مؤلفاته رضي الله عنه.
* * *(2/202)
كان في بغداد أيام المأمون تيارات ثقافية متضادة: منها ما كان عليه السلف الصالح من أهل السنة والجماعة الممثل في حلقات أهل الحديث والفقهاء وغيرهم ممن يرجعون إلى النصوص الشرعية. ويثبتون لله ما أثبته لنفسه وما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تأويل ولا تعطيل ومن أبرز هؤلاء: الإمام أحمد ومحمد بن نوح وأحمد بن نصر الخزاعي وغيرهم. ومنها تيار المعتزلة القائلين بخلق القرآن وتأويل آيات الصفات وغير ذلك مما هو معروف من مذهبهم: كالقول بالعدل والتوحيد والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكان الرشيد يقاوم القول بخلق القرآن فلم يجرؤ أحد عليه مدة حياته كما روي عن محمد بن نوح قال: سمعت هارون الرشيد يقول: بلغني أن بشرا المريسي زعم أن القرآن مخلوق، علي إن أظفرني الله به لأقتلنه قتلة ما قتلها أحد قط، فلما مات الرشيد وتولى الأمين أراد المعتزلة حمله على ذلك فأبى.
فلما تولى المأمون الخلافة، وكان يميل إلى المعتزلة ويقربهم وكان أستاذه أبو الهذيل العلاف من زعماء المعتزلة وكذلك قاضيه أحمد بن أبي دؤاد فأشار عليه ابن أبي دؤاد بإظهار القول بخلق القرآن، فأظهر القول بذلك عام 212 هـ. فكان المأمون يناظر من يغشى مجلسه في ذلك ولكنه لم يلزم بذلك أحدا بل ترك الناس أحرارا فيما يذهبون إليه، فلما كان 218 هـ رأى المأمون حمل الناس وخصوصا العلماء والقضاة والمفتين على القول بخلق القرآن الكريم؛ وكان المأمون آنذاك في الرقة فأرسل إلى واليه على بغداد إسحاق بن إبراهيم وهو صاحب الشرطة ببغداد أن يجمع من بحضرته من القضاة ويمتحنهم فيما يقولون ويعتقدون في خلق الله القرآن وإحداثه، ويعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله بمن لا يقول بهذا القول وكان ذلك في ربيع الأول من عام 218 هـ.
فثار العلماء حين سمعوا كتاب المأمون إلى نائبه في بغداد وقال واحد منهم: لقيت ثمانمائة شيخ ونيفا وسبعين فما رأيت أحدا يقول بهذه المقالة - يعني خلق القرآن - وقد حبس وعذب وقتل في هذه المحنة خلائق(2/202)
لا يحصون كثرة كما يراه القارئ المتتبع لتلك الحقبة من التاريخ، وصارت هذه المحنة هي الشغل الشاغل للدولة والناس خاصتهم وعامتهم وأصبحت حديث مجالسهم وأنديتهم وحاضرتهم وباديتهم في العراق وغيره وقام الجدل فيها بين العلماء، ووقع امتحان الأمراء للعلماء والقضاة والفقهاء والمحدثين في مصر والشام وفارس وغيرها حتى تناول الإمام البخاري وشيوخه الأجلة الأفذاذ: يحيى بن معين وعلي بن المديني ويزيد بن هارون وزهير بن حرب وغيرهم من الأئمة المجمع على جلالتهم وإمامتهم في حفظ السنة المطهرة وعلومها.
وأرسل المأمون لصاحب الشرطة في بغداد بأن يوافيه بجواب من امتحن منهم فوافاه بجوابهم وإذا هو يتضمن إنكار هذه المقالة والتشنيع على من قال بها فلم يقتنع المأمون بذلك، فبعث إليه بكتاب ثان يأمره فيه بإشخاص سبعة من المحدثين المشهورين في بغداد أو ثمانية وهم -: محمد بن سعد كاتب الواقدي وأبو مسلم ويحيى بن معين وزهير بن حرب وإسماعيل بن داود وإسماعيل بن أبي مسعود وأحمد بن إبراهيم الدورقي. لكي يمتحنهم وفي مقدمتهم أحمد بن حنبل. إلا أن ابن أبي دؤاد حذف اسم الإمام أحمد من القائمة لمعرفته بصلابته وشدته في هذا الأمر.
* * *
ثم أمر المأمون بعد ذلك بحمل الإمام أحمد ومحمد بن نوح إليه في طرسوس فحملا إليه بأغلالهما فأما محمد بن نوح فمات في أثناء الطريق قبل أن يصل. وأما الإمام أحمد ومرافقوه فبلغهم وفاة المأمون قبل وصولهم فعادوا إلى بغداد، وألقي الإمام أحمد في الحبس. ويقال: إن أحمد دعا على المأمون وكانت وفاة المأمون في عام 218.
ثم تولى الخلافة المعتصم، وكان المأمون قد أوصاه بتقريب ابن أبي دؤاد والاستمرار بالقول بخلق القرآن وأخذ الناس بذلك. وكان أحمد في السجن فاستحضره من السجن، وعقد له مجلسا مع ابن أبي دؤاد وغيره؛ وجعلوا يناقشونه في خلق القرآن، وأحمد يستدل عليه بالنصوص الواردة. ويقول لهم: أعطوني دليلا من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانفض المجلس ذلك اليوم دون شيء، وأمر المعتصم برده إلى السجن. وفي اليوم التالي أحضر من السجن، وعقد المجلس وكان موقفه رائعا جليلا كموقفه في الأمس ورغم المحاولات والمناقشات صمم الإمام أحمد على كلامه، وفشل القوم كفشلهم بالأمس. وانفض الاجتماع، ورد الإمام أحمد إلى السجن، وفي اليوم الثالث أعيد انعقاد المجلس، وأحضر الإمام أحمد من السجن وأعيدت المناقشة. وكان المعتصم عند عقد مجلس المناظرة قد بسط بمجلسه بساطا، ونصب كرسيا جلس عليه وازدحم الناس إذ ذاك كازدحامهم أيام الأعياد، وكان مما دار بينهم أن قال للإمام أحمد: ما تقول في القرآن؟ فقال: كلام الله غير مخلوق قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (1) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 6(2/203)
قال: هل عندك حجة غير هذا؟ قال: نعم قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ} (1) {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (2) ولم يقل خلق القرآن، وقال تعالى: {يس} (3) {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} (4) ولم يقل المخلوق، فقال المعتصم: أعيدوه للحبس وتفرقوا، فلما كان من الغد جلس المعتصم مجلسه ذلك. وقال: هاتوا أحمد بن حنبل فاجتمع الناس، وسمعت لهم ضجة ببغداد فلما جيء به، وقف بين يديه والسيوف قد جردت والرماح قد ركزت والأتراس قد نصبت والسياط قد طرحت.
فسأله المعتصم عما يقول بالقرآن. قال: أقول غير مخلوق، وأستدل بقوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} (5) الآية، قال: فإن يكن القول من الله تعالى فإن القرآن كلام الله، وأحضر المعتصم له الفقهاء والقضاة فناظروه بحضرته ثلاثة أيام وهو يناظرهم، ويظهر عليهم بالحجج القاطعة ويقول: أعطوني دليلا من كتاب الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال المعتصم قهرنا أحمد وحلف ليضربنه بالسياط، وأمر الجلادين فأحضروا ولما جيء بالسياط نظر إليها المعتصم فقال: ائتوني بغيرها.
* * *
قال أبو عبد الله: ثم صيرت بين العقابين، والعقابان بضم العين خشبتان يوضع بينهما الرجل ليجلد قاله في تاج العروس، فعلق الإمام أحمد بالعقابين، ورفع حتى صار بينه وبين الأرض مقدار قبضة، قال أحمد: وشدت يداي وجيء بكرسي فوضع له - يعني للمعتصم - وابن أبي دؤاد قائم على رأسه والناس أجمعون قيام ممن حضر، فقال لي إنسان ممن شهدني: خذ بنابي الخشبتين بيدك، وشد عليهما فلم أفهم ما قال. قال: فتخلعت يداي لما شددت، ولم أمسك الخشبتين، قال أبو الفضل - يعني ابنه صالحا - ولم يزل أبي - رحمه الله - يتوجع منهما من الرسغ إلى أن توفي، قال أبو عبد الله فقلت: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث (6) » . الحديث. فبم تستحل دمي وأنا لم آت شيئا من هذا. يا أمير المؤمنين اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل كوقوفي بين يديك، يا أمير المؤمنين راقب الله، فلما رأى المعتصم ثبوت أبي عبد الله وتصميمه لان فخشي ابن أبي دؤاد من رأفته عليه فقال: يا أمير المؤمنين إن تركته قيل: إنك تركت مذهب المأمون وسخطت قوله، أو أن يقال: غلب خليفتين فهاجه ذلك، وطلب كرسيا جلس عليه، وقام ابن أبي دؤاد وأصحابه على رأسه ثم قال للجلادين: تقدموا وجعل أحدهم يتقدم إلى الإمام أحمد فيضربه سوطين ثم يتنحى ثم يتقدم الآخر فيضربه سوطين، والمعتصم يحرضهم على التشديد في الضرب، ثم قام إليه المعتصم وقال له يا أحمد: علام تقتل نفسك إني والله عليك لشفيق فما تقول؟ فيقول أحمد: أعطوني دليلا من كتاب الله وسنة رسوله حتى أقول به، ثم رجع المعتصم، فجلس فقال للجلاد: تقدم وحرضه على إيجاعه بالضرب ويقول: شدوا قطع الله أيديكم، قال أحمد: فذهب عقلي عند ذلك فلم أفق إلا وقد أفرج عني ثم جيء بي إلى دار إسحاق
__________
(1) سورة الرحمن الآية 1
(2) سورة الرحمن الآية 2
(3) سورة يس الآية 1
(4) سورة يس الآية 2
(5) سورة السجدة الآية 13
(6) صحيح البخاري الديات (6878) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676) ، سنن الترمذي الديات (1402) ، سنن النسائي تحريم الدم (4016) ، سنن أبو داود الحدود (4352) ، سنن ابن ماجه الحدود (2534) ، مسند أحمد بن حنبل (1/382) ، سنن الدارمي الحدود (2298) .(2/204)
ابن إبراهيم فحضرت صلاة الظهر فصليت فقالوا صليت والدم يسيل منك فقلت: قد صلى عمر - رضي الله عنه - وجرحه يثعب دما وكان ذلك في رمضان سنة 218. ثم نقل أحمد إلى بيته واستقر فيه حيث لم يقو على السير فلما برئت جراحه، وقوي جسمه خرج إلى المسجد، وصار يدرس في المسجد ويملي الحديث حتى مات المعتصم.
فلما تولى الواثق منع الإمام أحمد من الاجتماع بالناس وقال: لا تساكني في بلد أنا فيه فأقام الإمام ببغداد مختفيا لا يخرج إلى صلاة ولا غيرها حتى مات الواثق، وذلك مدة خمس سنوات تقريبا.
فلما تولى المتوكل الخلافة سنة 232 بقيت المحنة قائمة خلال عامين من حكمه ثم رفعت سنة 234 وكانت قد بدأت من السنة الأخيرة من خلافة المأمون وهي سنة 218 وانتهت في السنة الثانية أو الثالثة من خلافة المتوكل سنة 234 حيث أوقف المتوكل أخذ الناس بالمحنة. وأصدر إعلانا عاما في كافة أنحاء الدولة نهى فيه عن القول بخلق القرآن، وتهدد من يخوض في ذلك بالقتل فعم الناس الفرح في كل مكان، وأثنوا على سجايا الخليفة ومآثره ونسوا شروره ورذائله، وسمع الدعاء له من كل جانب، وذكر اسمه مع اسمي الخليفتين أبي بكر وعمر وعمر بن عبد العزيز.
وكان المتوكل يكره العلويين، ويسرف في مطاردتهم فجعل المعتزلة يحيكون دسائسهم لدى الخليفة ضد الإمام أحمد، ويتهمونه بالجنوح إلى العلويين، وتتطور المحنة لتأخذ لونا آخر، وتشتد الرقابة على الإمام أحمد وامتدت أعناق أهل الفتنة فاتهموا الإمام أحمد لدى الخليفة أنه يؤوي في بيته أحد العلويين ذوي القدر الخطير ويثور الخليفة فيرسل من فوره إلى بغداد لمفاجأة بيت الإمام أحمد والقبض على العلوي المزعوم، وفي ليلة من الليالي بعد أن نام الناس، وهدأت الحركة وأرخى الليل سدوله على بغداد الهادئة الساكنة سمع أحمد دقا عنيفا على باب داره فقام إلى الباب ففتحه فإذا به أمام رجلين وامرأتين أما الرجلان فهما مظفر حاجب عبد الله بن إسحاق نائب بغداد والآخر ابن الكلبي صاحب البريد. وأما المرأتان فمهمتهما هي مهمة البوليس النسوي في أيامنا هذه. قال مظفر: يقول لك الأمير: إن أمير المؤمنين كتب إليه أن عندك طلبته العلوي، وقال ابن الكلبي: نعم إنك تؤوي في بيتك علويا من أعداء أمير المؤمنين وقد جئنا لأخذه، فقال الإمام أحمد: إني لا أعرف هذا ولا أرى سوى طاعة أمير المؤمنين في العسر واليسر والمنشط والمكره والأثرة. وسكت الإمام قليلا سكتة ذكر فيها حرمانه من المسجد بدون مسوغ، واستأنف يقول: إني أتأسف عن تأخري عن الصلاة وعن حضور الجمعة ودعوة المسلمين، قال ابن الكلبي: قد أمرني أمير المؤمنين أن أحلفك ما عندك طلبته أفتحلف؟ قال أحمد: إن استحلفتني حلفت فأحلفه ابن الكلبي بالله، فحلف وبالطلاق فحلف. وكان نساء الدار والصبيان قد حضروا، وحضر ابنه صالح فقال ابن الكلبي: أريد أن أفتش منزلك ومنزل ابنك صالح، وقام مظفر وابن الكلبي ففتشا البيت وفتشت المرأتان النساء فلم يعثروا على شيء وفتشا بيت صالح، فلم يجدا شيئا وفتشت المرأتان أماكن الحريم وجاءوا بشمعة فأدلوها في البئر، وانصرفوا بعد أن لم يجدوا شيئا.
وتولى ابن الكلبي وصف حال الإمام أحمد للمتوكل من احتباسه عن الجمعة والجماعة بدون مسوغ ومن(2/205)
صدق لهجته فيما يكن لأمير المؤمنين من السمع والطاعة في المنشط والمكره ومن براءته مما عزاه إليه خصومه، وأذن الله بانكشاف الغمة فجاءه بعد يومين كتاب من علي بن الجهم أن أمير المؤمنين قد صح عنده براءتك مما قذفت به وكان أهل البدع قد مدوا أعناقهم فالحمد لله الذي لم يشمتهم بك.
وأقبلت الخلافة على الإمام تخطب وده وتطلب المؤانسة بقربه والتبرك بدعائه وأخذت الأيام تدبر مولية عن المعتزلة. فمرض ابن أبي دؤاد بالفالج، وجاء بعض أعيان الدولة يتقربون إلى الإمام أحمد بذكر ما نزل بابن أبي دؤاد ويومئون إلى أن كرامة الإمام على الله أوجبت ذلك القصاص فلم يلتفت إليهم الإمام أحمد وصمت ولم يرد، وظهر عليه التبرم بما قالوا. ومضت الأيام في إدبارها على المعتزلة فغضب الخليفة على ابن أبي دؤاد وقبض على أبنائه وصادر أملاكه وأمواله وجواهره، وأخذ ابن أبي دؤاد إلى بغداد بعد أن أشهد عليه ببيع ضياعه فكان يأتي إلى الإمام أحمد من يحمل إليه تلك الأنباء فيكرم نفسه أن تنزل إلى مستوى الشماتة الرخيص بل كان الخليفة نفسه يرسل إليه كأنه يستفتيه فيما يرى من مصير أموال ابن أبي دؤاود فكان يسكت ولا يجيب بشيء وهو موقف جدير أن يلقي على الناس دروسا في عظمة النفس وشدة الإقبال على جلائل الأمور والانصراف عن سفاسفها وتوافهها رحم الله الإمام أحمد لقد كان إماما في كل مكرمة.
ثم أرسل إليه الخليفة المتوكل كتابا يقول فيه: قد صح نقاء ساحتك، وقد أحببت أن آنس بقربك وأتبرك بدعائك وقد وجهت إليك بعشرة آلاف درهم معونة على سفرك وفرح آل أحمد بالعافية تقبل مع السعة والجاه، وحل بالدار نشاط وأنس، ودب فيها بعد الوحشة دبيب الحركة بمن صار يغشاها من رسل الخليفة وكبار رجال الدولة. قال ابنه صالح: لما جاء كتاب المتوكل بالمال ناداني أبي في جوف الليل فقمت إليه فإذا به يبكي فلما رآني قال: ما نمت ليلتي هذه سلمت من هؤلاء حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم.
* * *
فلما كان الصباح جاء الحسين البزاز والمشايخ فقال: يا صالح جئني بالميزان وبالدراهم ثم أخذ يزن المال ويقول: وجهوا هذا إلى أبناء المهاجرين وهذا إلى أبناء الأنصار وهذا لفلان ليفرق في ناحيته وهذا لفلان وهكذا حتى فرقها كلها فلما فرقها أحس أنه فرق معها كربته وتنفس الصعداء ونفض الكيس ثم تصدق به.
وكان لا بد لأحمد من تلبية أمر الخليفة لا خضوعا لقوة السلطان بل وفاء لحق السمع والطاعة الذي فرضه الإسلام لأولي الأمر في غير معصية، فخرج من بغداد إلى سامراء ومعه يعقوب المعروف بقوصرة وهو الرسول الذي حضر إليه من لدن الخليفة بالمال والخطاب وخرج معه بعض بنيه وكان يعقوب شديد السرور بنجاح مهمته فقد قبل أحمد بن حنبل أن يخرج معه، وكان يدرك مبلغ السرور الذي سيدخل قلب أمير المؤمنين بذلك.(2/206)
نزل الإمام بسر من رأى ضيفا على أمير المؤمنين ولم يكن للخليفة من هم بعد أن عرف كل شيء عن أحمد إلا أن يرضيه، وأن لا يحمله علي شيء يكرهه. عرف الخليفة أن أحمد لا يقبل ماله فلم يكن له بد من النزول على رغبته واحترام إرادته ولكن لا بد من أن يصله في قرابته فليكن المال لأهله وبنيه دون أن يعلم وتسلم صالح ابنه بأمر الخليفة عشرة آلاف على الفور مكان التي فرقها أبوه ببغداد على أبناء المهاجرين والأنصار وسواهم.
وعرف رجال القصر لهفة الخليفة وشدة إقباله على أحمد وإكباره له فأقبلوا عليه بمثل ما أقبل سيدهم كل يخطب وده ويبتغي إليه المنزلة ويحاول أن يسره بما يستطيع. أمر الخليفة أن تفرش الدار التي هيئت له بالفرش الوثيرة وأن ترتب له ومن معه من بنيه مائدة شهية واسعة وأمر أن يقطع له ملابس فاخرة: طيلسان وقلنسوة وشارات رسمية من السواد الذي اختارته الدولة العباسية شعارا لها.
ويحضر يحيى بن خالد فيقول: إن الخليفة أمرني أن أصير لك مرتبة في أعلى ويصير ولده المعتز في حجرك تؤدبه بما شئت من أدب القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجاء يحيى في اليوم التالي يدعوه أن يركب إلى دار المعتز ويقول في لهجة مهذبة: تركب يا أبا عبد الله فيقول الإمام أحمد: ذاك إليكم وكان يوما مشهودا في القصر ألبسوه هناك الطيلسان وما أمر له به الخليفة من ألوان الثياب والشارات ويقول بعض الخدم: إن الخليفة كان مع أمه مستترين خلف ستار من ستور القصر يرقب في خفاء ما يكون من أحمد، فلما رآه يدخل أخذته خفة وغشيته هزة من الفرح ولمع السرور في عينيه وقال. يا أمه قد أنارت الدار بدخول أحمد.
يقول ابنه صالح: لما عاد أبي من القصر إلى الدار التي أعدت له نزع عنه الثياب التي أنعم بها عليه. وجعل يبكي ويقول: سلمت من هؤلاء منذ ستين سنة حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم، ما أحسبني سلمت من دخولي على هذا الغلام فكيف بالخليفة الذي يجب نصحه من وقت أن تقع عيني عليه إلى أن أخرج من عنده؟ ! ثم التفت إلى الملابس وقال لابنه: وجه بهذه الثياب إلى بغداد لتباع وحذار أن يشتري أحد منكم شيئا منها. أما الفرش الوثيرة الطرية فقد نحى نفسه عنها، وألقى بنفسه على مضرية خشنة له، ونظر إلى حجرة في جانب الدار فأمر أن يحول إلى ركن منها وأن لا يسرج فيها سراج قط، وأما المائدة فقد عافها فلم يدخل بطنه شيء منها وكانت شهية حافلة.
وأخيرا بلغ الضجر بالإمام أحمد كل مبلغ وبرم بكل شيء وزهد في كل شيء ولم يعد أبغض إليه من أن يلقى رجال الخليفة حتى كان يدعهم مع بنيه في الدهليز، ويقبل على صلاته ما شاء الله، وكان المرض ينزل به فيراه عافية سابغة لما فيه من عافية احتجابه عنهم. اشتكت عينه مرة فلما برئت ضاق ببرئها وقال لولده صالح: ألا تعجب كانت عيني تشتكي فتمكث حينا حتى تبرأ ثم هي في هذه المرة تبرأ في سرعة. والله لقد تمنيت الموت في الأمر الذي كان أيام المعتصم وإني لأتمنى الموت في هذا، إن هذا فتنة الدنيا وكان ذاك فتنة الدين نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.(2/207)
وأما مرضه ووفاته فإنه مرض تسعة أيام قال ابنه عبد الله: سمعت أبي يقول: استكملت سبعا وسبعين سنة فحم من ليلته وهو محموم يتنفس تنفسا شديدا، وقال صالح: وكنت قد عرفت علته وكنت أمرضه إذا اعتل.
وجاء الفتح بن سهل إلى الباب ليعوده فحجبه وأتى ابن علي بن الجعد فحجبه، وكثر الناس فقال لي: أي شيء ترى؟ قلت: تأذن لهم فيدعون لك قال: أستخير الله تعالى فأذن لهم فجعلوا يدخلون عليه أفواجا، ويسلمون عليه ويرد عليهم بيده، ويسألونه عن حاله، ويدعون له حتى تمتلئ الدار، ثم يخرجون ويدخل فوج آخر، وكثر الناس، وامتلأ الشارع، وأغلقنا باب الزقاق، وجاء رجل من جيراننا قد خضب فسر به، وقال: إني لأرى الرجل يجيء شيئا من السنة فأفرح به فدخل فجعل يدعو له فيقول أبي: ولجميع المسلمين.
وجاء رجل فقال: تلطف لي بالإذن عليه فإني قد حضرت ضربه يوم الدار، وأريد أن استحله. فقلت له، فأمسك فلم أزل به حتى قال: أدخله فأدخلته فقام بين يديه وجعل يبكي وقال: يا أبا عبد الله أنا كنت ممن حضر ضربك يوم الدار، وقد أتيتك فإن أحببت القصاص فأنا بين يديك وإن رأيت أن تحلني فعلت. قال: على أن لا تعود لمثل ذلك قال: نعم قال: فإني جعلتك في حل فخرج يبكي وبكى من حضر من الناس ثم قال: وجه فاشتر تمرا وكفر عني كفارة يمين فأخبرته بأني قد فعلت قال: الحمد لله. ثم قال اقرأ علي الوصية فقرأتها فأقرها وكنت أنام إلى جنبه فإذا أراد حاجة حركني فأناوله، وجعل يحرك لسانه ولم يئن إلا في الليلة التي توفي فيها، ولم يزل يصلي قائما أمسكه فيركع ويسجد وأرفعه في ركوعه ولم يزل عقله ثابتا.
وتسامع الناس بمرضه وكثروا وسمع السلطان بكثرة الناس فوكل ببابه وباب الزقاق المرابطة وأصحاب الأخبار، ثم أغلق باب الزقاق حتى تعطل بعض الباعة، وحيل بينهم وبين البيع والشراء، وكان الرجل إذا أراد أن يدخل إليه ربما دخل من بعض الدور وربما تسلق، وجاء أصحاب الأخبار فقعدوا على الأبواب وجاءه صاحب ابن طاهر فقال: إن الأمير يقرئك السلام وهو يشتهي أن يراك فقال: هذا مما أكرهه وأمير المؤمنين قد أعفاني مما أكره، وأصحاب الخير يكتبون بخبره إلى العسكر. والبرد تختلف كل يوم وجاء بنو هاشم فدخلوا عليه وجعلوا يبكون، وجاء قوم من القضاة وغيرهم فلم يؤذن لهم فلما كان قبل وفاته بيوم أو يومين قال: ادعوا لي الصبيان بلسان ثقيل فجعلوا ينضمون إليه وجعل يشمهم ويمسح بيده على رؤوسهم وعينه تدمع فقال له رجل: لا تغتم لهم يا أبا عبد الله فأشار بيده فظننا أن معناه إني لم أرد هذا المعنى. وكان يصلي قاعدا ويصلي وهو مضطجع لا يكاد يفتر ويرفع يده في إيماء الركوع واشتدت علته يوم الخميس ووضأته فقال: خلل الأصابع، وثقل ليلة الجمعة فلما كان يوم الجمعة الموافق اثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول عام 241 توفي صدر النهار لساعتين منه فصاح الناس وعلت الأصوات بالبكاء حتى كأن الدنيا قد ارتجت وامتلأت السكك والشوارع وقال صالح: وجه ابن طاهر يعني نائب بغداد بحاجبه مظفر ومعه غلامين معهما مناديل فيها(2/208)
ثياب وطيب فقلت: أقرئ الأمير السلام وقل له: إن أمير المؤمنين قد كان أعفاه في حياته مما كان يكره، ولا أحب أن أتبعه بعد موته بما كان يكرهه في حياته.
وقد كانت الجارية غزلت له ثوبا عشاريا قوم بثمانية وعشرين درهما ليقطع منه قميصين فقطعنا له لفافتين وأخذ منه فوران لفافة أخرى فأدرجناه في ثلاث لفائف واشترينا له حنوطا وفرغ من غسله وكفناه، وحضر نحو مائة من بني هاشم ونحن نكفنه، وجعلوا يقبلون جبهته حتى رفعناه على السرير، وقال صالح: وجه الأمير ابن طاهر فقال: من يصلي عليه؟ قلت: أنا، فلما صرت إلى الصحراء إذا ابن طاهر واقف فخطا إلينا خطوات وعزانا ووضع السرير فلما انتظرت هنيهة تقدمت وجعلت أسوي صفوف الناس فجاءني ابن طاهر فقبض هذا على يدي ومحمد بن نصر على يدي وقالوا: الأمير. فمانعتهم فنحياني وصلى ولم يعلم الناس بذلك فلما كان من الغد علم الناس فجعلوا يجيئون ويصلون على القبر، ومكث الناس ما شاء الله يأتون فيصلون على القبر فكانت الصفوف من الميدان إلى قنطرة باب القطيعة سوى ما كان في الأطراف والحواري والسطوح والمواضع المتفرقة، ومن كان في السفن في الماء وقد حزر من حضر جنازته فكانوا سبعمائة ألف وقيل: ثمانمائة ألف وقيل: بلغوا ألف ألف وثلاثمائة ألف، وقيل غير ذلك مما يدل على أنهم جمع غفير وكان - رضي الله عنه - يقول في حال صحته: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز.
وقد صنفت في ترجمته مصنفات مستقلة منها: المناقب لأبي الفرج بن الجوزي في مجلد، ومنها لأبي إسماعيل الأنصاري في مجلدين، ومنها لأبي بكر البيهقي في مجلد، ومنها لأبي زهرة مجلد، ومنها لأحمد الدومي في مجلد، وغير ذلك عدا ما في غضون كتب التاريخ والتراجم من ذكر مناقبه وثناء الناس عليه رحمه الله وسائر أئمة المسلمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
* * *(2/209)
من مراجع البحث
1 - طبقات الحنابلة للقاضي أبي الحسين بن أبي يعلى.
2 - ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب.
3 - المنهج الأحمد للعليمي.
4 - ابن حنبل لأبي زهرة.
5 - أصول مذهب الإمام أحمد للدكتور عبد الله العبد المحسن التركي.
6 - الجزء الأول من المسند طبعة أحمد شاكر.
7 - أحمد بن حنبل إمام أهل السنة لعبد الحليم الجندي.
8 - أحمد بن حنبل بين محنة الدين ومحنة الدنيا تأليف أحمد عبد الجواد الدومي.
9 - أحمد بن حنبل والمحنة تأليف ولتر م. باتون ترجمة عبد العزيز عبد الحق.
10 - الإمام الممتحن أحمد بن حنبل نقلا عن مجلة " المسلمون ".
11 - الفتح الرباني وشرحه بلوغ الأماني لأحمد عبد الرحمن البنا الساعاتي.
12 - مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي.
13 - المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل لعبد القادر بن أحمد بن بدران.(2/210)
الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل
ولد في مدينة عنيزة من مدن القصيم عام 1337 هـ.
* أخذ في كنف والده عبد العزيز وكان أديبا شاعرا وطالب علم.
* أخذ العلم عن والده ومشائخ بلده كالشيخ عبد الله بن مانع والشيخ سليمان العمري ومن أهم مشائخه الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، وقرأ عليه التفسير والحديث والفقه وأصوله وعلوم العربية. ومن مشائخه سماحة مفتي السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله.
تولى القضاء في أبي عريش من مقاطعة جيزان سنة 1358 هـ فالخرج سنة 1365 هـ فمحكمة الرياض سنة 1366 فمحكمة عنيزة سنة 1370 هـ حتى أصبح عضوا في دار الإفتاء سنة 1375 فمحكمة التمييز بالرياض سنة 1391 فعضوا في الهيئة القضائية العليا إلى أن اختبر ليكون عضوا بمجلس القضاء الأعلى في هيئتيه العامة والدائمة.
* تعين عضوا بمجلس الأوقاف الأعلى.
* له نشاط إعلامي إسلامي في الإذاعة وصحيفة الدعوة حيث حرر فيها صفحة الفتاوى عدة سنوات تشكل كتابا ضخما.
* له تعليقات على بعض كتب الفقه في جلسته العامة في حلقات المساجد.
* شارك في الدعوة والإرشاد عن طريق المحاضرات والندوات.(2/211)
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
«من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن؟ قلت: أنا يا رسول الله فأخذ بيدي فعد خمسا فقال:
اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما، ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب (1) » .
__________
(1) سنن الترمذي كتاب الزهد (2305) ، مسند أحمد بن حنبل (2/310) .(2/212)
محمد محمد خليفة
حسان بن ثابت
هو شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، المنافح عنه الذي جعل نفسه وعرضه دريئة له، المؤيد بروح القدس ينفث في لسانه ما يدمي مشاعر القرشيين، ويجرح كبرياءهم. هو حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو، ويمتد نسبه إلى النجار فالخزرج حتى يصل إلى عامر بن ماء السماء، ثم ينتهي إلى قحطان، فهو من بني النجار أخوال الرسول، وهو خزرجي، وفي عامر بن ماء السماء يلتقي باللخميين ملوك العراق وبالغساسنة ملوك الشام وأخيرا هو قحطاني.
وقد كثر فخر حسان بانتمائه إلى عامر بن ماء السماء الذي يلتقي فيه بمحمد وحيه من المناذرة والغساسنة أولئك الذين أفاضوا عليهم عطاياهم لأنهم جميعا فروع لأصل واحد.
وكنيته: أبو الوليد وأبو عبد الرحمن وأبو الحسام.
وأمه: الفريعة بنت خالد بن قيس وهي خزرجية كحسان.
وكان مولده قبل ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم بثمان سنوات، وامتد عمره حتى مات في خلافة معاوية وعمره مائة وعشرون عاما.(2/213)
ونشأ بين قومه من الخزرج وهم يخوضون مع الأوس في المدينة غمار معارك تعددت أيامها، واصطلى الجانبان بنيرانها، والعربي الذي يعيش بين غبار المعارك ودمائها أحد رجلين: محارب يحمل السلاح فيذود به، ويكسب مجدا ببطولته، أو شاعر يرسل القوافي تثير وتهدد، وتسجل المفاخر، وتذيع الأمجاد، ومن النوع الثاني كان حسان، ومكانة الشاعر في المعارك لا تقل عن مكانة الفارس، فالفارس ساعد القبيلة، والشاعر لسانها يصور مواقفها وأمجادها إذا كانت فيه الموهبة القادرة على التصوير، وكان حسان يختلس نفسه من ضجيج المعارك حينا فيشارك العرب اجتماعاتهم في سوق عكاظ يسمع ما تجود به العبقريات الشاعرة، ويسمع من فيه ما قاله في عامه من روائع يعتد بها في الفخر أو في غيره، وحينا يولي وجهه شطر الشام حيث ينسى بين ظلال نعماء الغساسنة آلام الحرب ومناظر الدماء التي تخلفها المعارك.
وعرف حسان كما عرف اليثربيون جميعا دعوة الإسلام بعد بيعة العقبة ولكنه لم يسلم إلا بعد هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة.
وحين دقت أسماعه أهاجي شعراء قريش للرسول غلت مراجل أحاسيسه، ورآه الرسول خير من يتزعم معركة الدفاع اللساني، فندبه لهذه المهمة ونصب له في مسجده منبرا فراح حسان يصب من فوقه حمم الهجاء على قريش وعلى من عبأتهم من الشعراء لهجاء الرسول.
* * *(2/214)
صدق شاعريته
تعمل البيئات عملها في خلق الأديب وتكوين شاعريته، والشاعر الصادق هو ابن بيئته التي تحيط به، وتؤثر فيه، فتلهمه حيث يستلهمها، ويفي لها فيترجم عنها، وتصدق ترجمته كلما صدق تأثره فالبدوي الذي تشد بصره المفاوز الواسعة ويلمح سماءها الصافية أو الماطرة ونجومها الزاهرة، وأرضها المقفرة، أو وديانها المعشبة، وآكامها الصخرية، وجبالها الشامخة وكهوفها وأغوارها السحيقة، ويبصر فوق رمالها الظباء السوائح، وفي سفوح جبالها ووديانها الإبل والأغنام ذلك الذي يبصر كل ذلك خليق به أن يفتن في تصوير ما حوله، وما يلم به بصره، وأن ينتزع صوره من ذلك المحيط حتى يكون بارا ببيئته، وأن يصدق عليه أنه وليدها الذي يحكي عنها حتى يلائم قوله أمزجة قومه وما يألفون من الصور وهو حين يفعل ذلك يكون الترجمان الصادق في تعبيره، والمصور المبدع في تصويره.
وشاعر الريف الزاهر الذي يعيش بين أحضان الطبيعة الطبيعية يستلهم جمال الورود وشدو الطيور، وخرير الجداول وفضي النهر في الليل المقمر، وذهبي الجدول عند الأصيل فيلهمه كل ذلك فيضا من الإحساس بالجمال يحكيه شعرا، ويرسله ترانيم شادية مثل ذلك الشاعر عملت فيه بيئته عملها فتجاوب معها وعبر عنها وكأنه الوتر العازف معها في ألحان الحياة.(2/214)
فكل أولئك حين يصدرون عن وحي بيئاتهم يكون شعرهم مرآة تعكس للأجيال صور تلك البيئات وآثارها في عقولهم وتفكيرهم وتصويرهم وتعبيرهم.
فما هي البيئات التي أثرت في حسان وهل صدقت شاعريته ووفت لتلك البيئات؟
لقد عاش حسان في جاهليته وإسلامه بين يثرب والشام.
أما يثرب فتكتنفها الجبال، وتحيط بها لابتان من الحجارة السوداء قال في إحداها حسان:
ترى اللابة السوداء يحمر لونها ... ويغبر منها كل ربع وفدفد
وحولها كثرة من بساتين النخيل والأعناب والفاكهة وكانت سوقا للتجارات الواردة من اليمن والهند والشام، وقد أمدت هذه التجارات أهل يثرب بشيء من الثراء، ولم تنم الحروب الناشبة بين الأوس والخزرج في الجاهلية فكانت الأيام بينهما متصلة الحلقات ومن أيامهم يوم بعاث ويوم سميحة ويوم الدرك ويوم الربيع ويوم البقيع، وقد ورد بعض هذه الأيام في شعر حسان، وكان نصيبه من تلك المعارك نصيب الشاعر المترجم تلك هي بيئته الطبيعية والاجتماعية الأولى.
وكانت الشام البيئة الثانية لحسان حيث كان ينزح إلى جوار الغساسنة العام بعد العام فيمدحهم ويقيم بينهم شهورا ويعود بصلاتهم وعطاياهم. وبلاد الشام غنية منذ بعيد بالزراعة والفاكهة والتجارة وعاش ملوكها بين البذخ والنعيم. وتمتع معهم بذلك البذخ الكثير من شعراء العرب ومنهم حسان، وقد شهد حسان في الشام جمال الطبيعة في رياضها وجداولها المنسابة كما شهد مجالس اللهو والغناء، ورأى آثار الحضارتين الرومانية واليونانية اللتين امتدتا إلى الشام أثرا للاتصال والجوار، ولهذه البيئة الثانية أثرها فيه. فلما أسلم حسان شغله الدين الجديد، ورأى في القرآن وما فيه زادا لشاعريته، وكان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدور فيه من مسائل الدين والعلم والاقتصاد والسياسة والحرب بيئة ثقافية جديدة لشاعرية حسان، وقد عاش مع الأحداث الدينية والسياسية والاجتماعية التي كانت في حياة الرسول وبعده، وشهد الغزوات، وعاصر المعارك الدائرة بين المسلمين والفرس والروم كما عاصر الخلافات التي كانت بين المسلمين واليهود والتي كانت في سقيفة بني ساعدة بين المهاجرين والأنصار، وعاصر الفتنة الكبرى التي راح ضحيتها عثمان وما كان وراءها من معارك في البصرة وصفين.
وقد تفاعلت كل هذه المؤثرات مع مشاعر حسان فأرسل شعره يصور تلك الأحداث بل حمل العبء الأكبر في تصوير الدعوة منذ أسلمه الرسول صلى الله عليه وسلم زعامة الدفاع عنه وعن دعوة الإسلام، فنهض حسان بذلك العبء وروح القدس يؤيده.
ونضيف إلى تلك المؤثرات مؤثرا جديدا كان له أثره الكبير فيه، وهو أن بيت حسان كان بيت الشعر(2/215)
والشعراء فقد كان أبوه ثابت شاعرا وكان جده المنذر شاعرا وجد أبيه حرام كان شاعرا وكان عبد الرحمن بن حسان شاعرا وكان حفيده سعيد بن عبد الرحمن شاعرا وكانت ابنة حسان شاعرة فكان حسان في هذا البيت واسطة عقد الشعراء في تلك الأسرة الشاعرة.
وقد حدثوا أن حسانا قال يوما:
وإن امرأ يسمي ويصبح سالما ... من الناس إلا ما جنى لسعيد
قال ابنه عبد الرحمن:
وإن امرأ نال الغنى ثم لم ينل ... صديقا ولا ذا حاجة لزهيد
وأنشد بعد ذلك حفيده سعيد:
وإن امرأ لاحى الرجال على الغنى ... ولم يسأل الله الغنى لحسود
كما حدثوا أن شاعرنا أرق ليلة فقام يعالج الشعر فقال:
وقافية عجت بليل رزينة ... تلقيت من جو السماء نزولها
وانقطع الإلهام عنه فلم ينطق فقالت ابنته: أو أجيزك؟ فقال لها: وعندك ذلك؟ قالت: نعم قال: فافعلي، فقالت:
يراها الذي لا ينطق الشعر عنده ... ويعجز عن أمثالها أن يقولها
فهاج حسان وقال:
متاريك أذناب الحقوق إذا التوت ... أخذنا الفروع واجتنينا أصولها
فقالت:
مقاويل بالمعروف خرس عن الخنا ... كرام معاط للعشيرة سولها
وشهد الأصمعي لعبد الرحمن بن حسان بالشاعرية السباقة في قوله في وصف السحاب:
كأن الرباب دوين السحاب ... نعام تعلق بالأرجل
وكانت شاعرية عبد الرحمن مبكرة حيث قالوا: إن معلم الصبيان أراد معاقبته على تأخره عن موعد الحضور إلى المكتب فقال عبد الرحمن وهو صبي معتذرا:
الله أعلم أني كنت منتبذا ... في دار حسان أصطاد اليعاسيبا(2/216)
بين حسان وشعراء قريش بعد إسلامهم
كان حسان ورواة شعره يتناشدون في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أهاجي حسان في القرشيين حيث كانت تستعرض خواطرهم ذكريات الماضي ومواقفه ومعاركه.
وخشي عمر في خلافته على وحدة العرب أن يمزقها تذكر الثارات وإحياء الضغائن، فنهى الناس عن تناشد ذلك الشعر المثير لدفين الماضي، ومر يوما بحسان وهو في مسجد الرسول ينشد أهاجيه فأخذ بأذنه وقال له: أرغاء كرغاء البعير؟ فقال حسان: دعنا عنك يا عمر والله لتعلم أني كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك، فقال عمر: صدقت وانطلق.
ووفد على المدينة في خلافة عمر عبد الله بن الزبعري وضرار بن الخطاب وقد كانا من شعراء قريش الذين هجوا رسول الله، فاجتمعا بحسان فقال ابن الزبعري: يا أبا الوليد إن شعرك كان يحتمل في الإسلام ولا يحتمل شعرنا، وقد أحببنا أن نسمعك، فقال حسان: أفتبدآن أم أبدأ؟ قالا: نبدأ نحن فأنشداه أهاجيهما فيه، ففار كالمرجل غضبا، ثم استويا على راحلتيهما يريدان مكة، فخرج حسان حتى دخل على عمر فقص عليه قصتهما، فقال عمر لرسوله، لو لم تدركهما إلا بمكة فارددهما علي، فأدركهما الرسول بالروحاء فردهما، فدعا لهما بحسان، وكان عمر في جماعة من الصحابة، فقال لحسان: أنشدهما مما قلت فيهما، فأنشدهما حتى فرغ، فقال له عمر: أفرغت؟ فقال حسان: نعم، قال عمر: أنشداك في الخلا وأنشدتهما في الملأ، وقال لمن حضر: إني كنت نهيتكم أن تذكروا ما كان بين المسلمين والمشركين من أهاج دفعا للتضاغن، وبث القبيح فيما بينكم فأما إذا أبوا فاكتبوه واحتفظوا به فدونوه، وكان الأنصار يجددونه كلما خافوا عليه البلى.
* * *(2/217)
من مدائحه في الغساسنة
أفاض الغساسنة عطاياهم على حسان فلم ينس لهم تلك الأيادي، وأفاض فيهم من المدائح ما بقي خالدا على الزمن، وكم تغنى القيان لجبلة بن الأيهم أحد ملوكهم وهو في القسطنطينية بشعر حسان فاستعرضت خواطره الصور التي أثارها شعر حسان ومن تلك الأغاني التي كن يتغنين بها من شعر حسان قوله في الغساسنة:
لله در عصابة نادمتهم ... يوما بجلق في الزمان الأول
يمشون في الحلل المضاعف نسجها ... مشي الجمال إلى الجمال البزل
الضاربون الكبش يبرق بيضه ... ضربا يطيح له بنان المفصل
والخالطون فقيرهم بغنيهم ... والمنعمون على الضعيف المرمل(2/217)
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول
جلق بكسر الجيم وتشديد اللام المفتوحة: دمشق، البزل بضم الباء وتشديد الزاي المفتوحة جمع بازل وهو ما استكمل السنة الثامنة من الإبل، الكبش: سيد القوم وحاميهم، البيض: جمع بيضة وهي الخوذة والمراد ببنان المفصل: أطراف الأصابع، المرمل: الذي نفذ زاده ويراد به الفقير: وجفنة: أبو ملوك آل غسان وهو مزيقيا: ومارية بنت الأرقم وينتهي نسبها إلى مزيقيا وضرب بقرطيها المثل حيث كان فيهما مائتا دينار، الهرير: صوت الكلاب، شم الأنوف، كناية عن العزة، الطراز، فارسي معرب ومعناه الشكول العظيمة لقد كان هذا الشعر ألحانا وترانيم تتجاوب الأصوات فيه مع الأوتار فتهز الأسماع والقلوب، إنه شعر حسان يمدح في إعجاب وعجب أولئك الذين ينادمهم في دمشق، وهم أولئك الشجعان الذين يلبسون الحلل والدروع المضاعفة النسج، ويمشون مشي الجمال الأقوياء، أولئك الذين لا ينازلون غير الكماة فيطيحون بهم، أولئك الذين طبقوا نظم الإسلام الاجتماعية وإن لم يعرفوا الإسلام فخلطوا بين الأغنياء والفقراء، وكلهم لديهم سواء، وقد أغدقوا كرمهم على المرملين المعدمين، إنهم أولاد جفنة الكرماء الذين جثموا حول قبر أبيهم يعطون العفاة والمجتدين، هم الكرماء بيض الوجوه وهم الأعزاء شم الأنوف.
تلك هي الأغاني التي تشنف بها القيان أسماع جبلة ومن حوله فيعيشون مع خواطر حسان وأفكاره، وإن لم يكن معهم حسان.
وحسبنا هذا النموذج من شعره الجاهلي الذي وضعه في مصاف النابغين من أمثال النابغة الذبياني.
* * *(2/218)
شعر حسان في الإسلام
لم يقف حسان قصائد من شعره على الدعوة الإسلامية وحدها، ولكنه تكلم عن هذه الدعوة وأصولها وما اشتملت عليه في قصائد متفرقة في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام أو في مراثيه له ولغيره من الصحابة، أو في أهاجيه التي طعن بها قريشا أو بعضا من معاندي قريش.
وقد تأثر في شعره الإسلامي إلى حد كبير بالأساليب والمعاني القرآنية، وقد لا نكون مغالين إذا قلنا: إنه قمة شعراء الإسلام تأثرا بالقرآن.(2/218)
قال من قصيدة يمدح بها الرسول عليه الصلاة والسلام:
أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله مشهود يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
نبي أتانا بعد يأس وفترة ... من الرسل والأوثان في الأرض تعبد
وأنذرنا نارا وبشر جنة ... وعلمنا الإسلام فالله نحمد
وأنت إله الخلق ربي وخالقي ... بذلك ما عمرت في الناس أشهد
تعاليت رب الناس عن قول من دعا ... سواك إلها أنت أعلى وأمجد
لك الخلق والنعماء والأمر كله ... فإياك نستهدي وإياك نعبد
يقدم الشاعر الدليل المرئي على صدق نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم في خاتم النبوة الذي وسمه الله به بين كتفيه والذي يعلمه الأحبار والرهبان بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء، ثم ذكر الشاعر تكريم الله لنبيه حيث ضم اسم النبي إلى اسمه في الشهادتين اللتين ينطق بهما المؤذن خمس مرات كل يوم كما كرمه باشتقاق اسمه من وصفه فالله محمود واشتق لرسوله من ذلك الوصف اسم محمد، وبين الشاعر أن الله أرسل رسوله بعد أن يئست نفوس المتأملين المتبصرين من الحنفاء في هداية هذه البشرية التي تخر هاماتها للأوثان وبعد فترة من الرسل، والشاعر في هذه المعاني متأثر بالأسلوب القرآن: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} (1)
أنذر بالنار وبشر بالجنة، وعلم الناس الإسلام ورأى الشاعر أن هذا من النعم التي ينبغي أن يحمد الله عليها.
ثم أعلن الشاعر عبوديته للخالق، وشهد له بالربوبية، ونزهه عن دعوى المفترين فهو وحده الخالق المنعم والأمر لله وحده {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (2) وهو وحده المعبود.
في ظلال تلك المعاني الإسلامية عاش الشاعر بأحاسيسه وعقيدته متأثرا بدعوة الحق وبأسلوب القرآن فغير ما قدمنا نرى قوله: وأنت إله الناس ربي وخالقي قد تأثر فيه بقوله تعالى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} (3) وقوله: تعاليت رب الناس عن قول من دعا سواك. . . فيه رد على المشركين الذين حكى القرآن إشراكهم في قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (4) وعلى اليهود والنصارى الذين حكى القرآن معتقداتهم في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} (5) وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} (6)
__________
(1) سورة المائدة الآية 19
(2) سورة الأعراف الآية 54
(3) سورة يس الآية 22
(4) سورة الزمر الآية 3
(5) سورة التوبة الآية 30
(6) سورة التوبة الآية 31(2/219)
وقول الشاعر: فإياك نستهدي وإياك نعبد، تأثر فيه بقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (2) ولعلنا بعد هذا أدركنا إلى أي مدى تأثر شعر حسان بالقرآن.
* * *
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) سورة الفاتحة الآية 6(2/220)
من شعر حسان المرتجل في الوفود
بعد أن فتحت مكة تدفقت وفود القبائل العربية على المدينة تعلن إسلامها أو تفاخر الرسول بأمجادها وتكشف عن مكانها وعزتها، وسمي ذلك العام عام الوفود لكثرة الوفود التي قدمت فيه على الرسول وكان بين تلك الوفود وفد تميم وحينما ظهر لهم الرسول قالوا: يا محمد جئنا لنفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا قال: أذنت لخطيبكم فليقل، فقام عطارد بن حاجب فخطب، ولما انتهى قال الرسول لثابت بن قيس: قم فأجب الرجل فخطب ثابت، ثم أذن لشاعرهم الزبرقان بن بدر فبدأ قصيدته بقوله:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا يقسم الربع
والربع: ربع الغنيمة وكانوا إذا غزوا في الجاهلية أخذ الرئيس ربع الغنيمة وحده وذلك ما سمي المرباع ولم يكن حسان في المجلس حين حضر وفد تميم فبعث إليه الرسول فلما حضر سمع قصيدة الزبرقان ولما انتهى منها قال عليه الصلاة والسلام: قم يا حسان فأجب الرجل فقام حسان يرتجل:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد بينوا سنة للناس تتبع
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا
إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
ولا يضنون عن مولى بفضلهم ... ولا يصيبهم في مطمع طبع
أعطوا نبي الهدى والبر طاعتهم ... فما وني نصرهم عنه وما نزعوا
إن قال سيروا أجدوا السير جهدهم ... أو قال: عوجوا علينا ساعة ربعوا
ما زال سيرهم حتى استقاد لهم ... أهل الصليب ومن كانت له البيع
خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا ... ولا يكن همك الأمر الذي منعوا
فإن في حربهم - فاترك عداوتهم- ... شرا يخاض عليه الصاب والسلع(2/220)
نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها ... إذا الزعائف من أظفارها خشعوا
لا فخر إن هم أصابوا من عدوهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا جزع
كأنهم في الوغى والموت مكتنع ... أسد ببيشة في أرساغها بدع
إذا نصبنا لقوم لا ندب لهم ... كما يدب إلى الوحشية الذرع
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... إذا تفرقت الأهواء والشيع
الذوائب: الأعالي ويراد منها السادة، فهر: أصل قريش، السجية: الطبيعة، الطبع بتشديد الطاء المفتوحة وفتح الباء: العيب والدنس، الوني: الفتور والضعف، ربع بالمكان: أقام فيه، استقاد لهم أهل الصليب أعطوهم المقادة، الصاب: شجر يعتصر فتخرج منه قطرات إذا وضعت في العين كان كالنار وقيل الصاب: عصارة الصبر، والسلع: نوع من الشجر، الزعانف، السفلة من الناس، الخور بضم الخاء: الضعفاء من الناس، الجزع بضم الجيم والعين جمع جازع: ضد الصابر، المكتنع: القريب، بيشة: موضع تنسب إليه الآساد، الفدع: العوج، الذرع بتشديد الذال المضمومة وضم الراء، كل ما استتر به، الذريعة: جمل يختل به الصيد فيترك مع الصيد حتى يألفه ثم يستتر به الصياد حتى يتمكن من فريسته.
عرض الزبرقان بن بدر شاعر تميم مفاخرهم في أنهم الملوك الكرام القاهرون لأعدائهم المطعمون عند القحط الذين يدين لهم السادة والأشراف وينقاد لأمرهم كل مفاخر ولا يفاخرهم أحد، وهم يفخرون على كل أحد. أما حسان فقد رد بما أملاه عليه دينه أولا وهو هداية الناس وتوجيههم إلى تقوى الله واتباع شريعته ثم رد على قول تميم بأنهم القاهرون للأعداء بتهديد ووعيد: (قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم) ثم قابل ذلك بأنهم النافعون للأشياع. فليست حياتهم قصرا على الشر دأب الكثير من قبائل العرب في جاهليتهم، وأمعن حسان في الكشف عن قوة فتك المسلمين فبين أن الناس لا يستطعيون علاج ما يوقعونه بهم فهم الذين لا يقهر حليفهم، وهم السباقون وكل سبق تابع لسبقهم، وهم الذين لا يدنسون حياتهم بعيب، والعقلاء الحلماء الذين لا يركنون إلى الجهل والحمق؛ لأن في أخلاقهم سعة وأنهم أسلموا نفوسهم وطاعتهم لرسول الله ومن ثم آتاهم الله النصر من عنده ووضح الطاعة بأنهم يجدون إذا استنهضوا، ويقفون إذا أمروا. وما زال وضعهم كذلك حتى دان أهل الصليب والبيع.
وكشف عن المسلمين في الحروب كشف تهديد فحروبهم شر يخاض فيها الصبر، وهم الشجعان المتسامون بصفاتهم حين يجزع الناس من أظفار الحرب ومخالبها، وليسوا بالفخورين حين ينالون من عدوهم، ولا الضعفاء إذا نيل منهم وهم أسد بيشة يخافهم منازلوهم، ولا يخاتلون في حروبهم فيدبون إلى عدوهم دبيب الصياد المخاتل الذي يتخذ دريئة يخدع بها صيده حتى يصيده، فذلك فعل الجبان وهم ليسوا جبناء، وحسبهم أن يكون رسول الله شيعتهم حين تفرق الأهواء القلوب.(2/221)
وليس بمعقول بعد هذا الفيض من المعاني والقوة التي أخذت على بني تميم كل سبيل أن يثبتوا في ميدان المفاخرة، وقد قرأ الأقرع بن حابس في وجوه قومه الاقتناع بل الاستسلام فقال: وأبي إن هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، وشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا ولم يكد يقضي بما قضى حتى خشعت الرؤوس أمام قوة السماء وتأييدها فأعلنوا إسلامهم.
ومن عجب أن يرسل حسان ذلك الشعر ارتجالا في موقف التحدي والمفاخرة أمام أرباب البيان وما أعد لهذا الوقف أو ليس يدل هذا على شاعرية دامغة يؤيدها روح القدس؟
* * *(2/222)
الغزوات والسرايا في شعر حسان
غزا المسلمون ثلاثين غزوة قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غزوة مؤتة فلم يشهدها، وورد ذكر بعض الغزوات في القرآن، وسجل التاريخ تلك الغزوات في أمانة علمية صادقة، وكان حسان الشاعر المصور لتلك المعارك والشاعر المؤرخ في بعضها حين راح يسرد سرد المؤرخين ما كان من أحداث، وإذا ما راعه موقف بطولة صوره، وإذا ما شاهد فرارا وانكسارا أو جبنا أرسل خواطره وراءه ليقدم للزمن صورته، وقد تغريه مواقف الأهل بالفخر فيشدو ويفتخر، وقد تناول شعر حسان الغزوات والسرايا وكشف عما كان فيها من بطولات وربما أرسل في الغزوة الواحدة أكثر من قصيدة كبدر فقد تناولها في سبع قصائد، ولم يعن حسان كثيرا بتصوير رحى المعارك بل كان مؤرخا في أكثرها أكثر منه شاعرا، ولعل الحقائق التاريخية شغلته عن الاسترسال في الخيال وإبداع الصور وهذه أبيات من قصيدة قالها في غزوة بدر يقول:
بنو الأوس الغطارف آزرتها ... بنو النجار في الدين الصليب
فغادرنا أبا جهل صريعا وعتبة قد تركنا بالجبوب وشيبة قد تركنا في رجال ذوي حسب إذا نسبوا نسيب يناديهم رسول الله لما قذفناهم كباكب في القليب ألم تجدوا حديثي كان حقا وأمر الله يأخذ بالقلوب فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا صدقت وكنت ذا رأي مصيب
الغطارف: جمع غطريف: السيد، الدين الصليب: المتين، الجبوب: الأرض الغليظة، الكباكب: جمع كبكبة الجماعة من الناس، القليب: البئر.(2/222)
في هذه الأبيات نزع حسان إلى الفخر بموقف الأوس وبني النجار في المعركة لنصرة دين الله المتين ثم انتقل إلى بيان مصرع سادة قريش في بدر وهم: أبو جهل وعتبة وشيبة، ثم بين نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقف على القليب ينادي أولئك الذين طواهم القليب، وانطوت معهم بعض صفحات العناد، ودفنت كبرياء قريش، ولو أنطقهم الله حين نودوا لقالوا لرسول الله: لقد صدقت دعوتك وكنت صاحب الرأي السديد.
وخليق بنا أن نسمي هذا اللون من القول المنظوم نظما لا شعرا فهو كتلك الأراجيز التي نظمت بها قواعد العلوم والتاريخ وليس شعرا يحلق فيه الخيال ويطير ما سمحت له أجواؤه.
* * *(2/223)
حول فرار الحارث بن هشام يوم بدر
حين اشتدت رحى القتال في بدر لم يثبت الحارث بن هشام شقيق أبي جهل، وقد رأى أبطال قريش تعصف بهم رياح الموت فآثر الفرار والنجاء من أهوال المعركة وقد عيره الناس بفراره فقال:
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسي بأشقر مزبد
ووجدت ريح الموت من تلقائهم ... في مأزق والخيل لم تتبدد
وعلمت أني إن أقاتل واحدا ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
فصدفت عنهم والأحبة دونهم ... طمعا لهم بعقاب يوم مفسد
وبهذا الأسلوب اعتذر الحارث عن الفرار؛ لأنه لا يضر المسلمين شهود الحارث وإنه ليطمع في يوم يثأر فيه للأحبة الذين خلفهم صرعى في بدر.
والحارث هذا هو ابن هشام بن المغيرة وأمه أسماء بنت مخربة وأمها عقاب كانت بنت أمة لرجل من تغلب فكانت جدته لأمه بنت أمة وذلك ما عير به حسان الحارث في كل أهاجيه له، وهذا النسب لم يغب عنه أبو بكر أستاذ علم الأنساب ذلك العلم الذي تلقاه عنه حسان فهجا الكثير من القرشيين دون أن يمس نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد تناول حسان فرار الحارث يوم بدر فقال:
يا حار قد عولت غير معول ... عند الهياج وساعة الأحساب
إذ تمتطي سرج اليدين نجيبة ... مرطى الجراء خفيفة الأقراب
والقوم خلفك قد تركت قتالهم ... ترجو النجاء فليس حين ذهاب(2/223)
هلا عطفت على ابن أمك إذا ثوى ... قمصي الأسنة ضائع الأسلاب
جهما لعمرك لو دهيت بمثلها ... لأتاك أجثم شابك الأنياب
عجل المليك له فأهلك جمعه ... بشنار مخزية وسوء عذاب
لو كنت ضنيء كريمة أبليتها ... حتى ولكن ضنيء بنت عقاب
هذه صورة قدمها حسان لفرار الحارث وهي صورة فيها شيء من الحياة والتعبير إذ كشفت عن صورة المعركة في هياجها وصورة الحارث على فرس طويلة اليدين سريعة الجري خفيفة الخاصرة وهو يمعن في الهرب والعدو بها لا يلوي على شيء، ولا يلتفت وراءه لشقيقه وهو يهلك ويضرب بسلاحه بعد أن جرد من كل ما اعتد به من سلاح وهو عاجز ضعيف يجثم كما تجثم الإبل وقد تشابكت أنيابه واختلفت غيظا حين علاه ابن مسعود وراح يحتز رأسه، وقد أعجل الله له ولجمعه الهلاك والعار والعذاب.
ثم طعن ذلك الهارب في أصله فهو ليس من أب عربي وأم عربية، ولو كان عربي الأم لطاب معدنه وآثر الموت على الفرار الذي نجا فيه بنفسه تاركا وراءه شقيقه يتخبط في دمه وليس بغريب على ابن بنت الأمة أن يفر من الأهوال.
وقد أسلم الحارث يوم الفتح وحسن إسلامه وحارب في عهد الفاروق عمر في حروب الشام وقد مات في طاعون عمواس وقيل: في اليرموك بعد أن جاهد في سبيل الله حق الجهاد لعله يكفر عن مواقفه من الإسلام والمسلمين قبل أن يسعده الله بالإسلام.
* * *(2/224)
على ماء بدر
وقد قدم حسان صورة لجيش المسلمين في المغافر والدروع والأسلحة يتقدمون في قوة وجلد وإيمان وثبات إلى ماء بدر حيث وقفت قريش عنده بثلاثة أمثال جيش المسلمين وهي تصر على منعهم من ورود الماء ولكن الرسول ما كان ليتراجع أمام أية قوة وتقدم إلى الماء غير مكترث بتهديد حتى شرب وشرب المسلمون وبقي ماء بدر تحت أيديهم لم تزحرحهم عنه قريش لأنهم مستمسكون بحبل الله، وحبل الله لا يضيعه مؤمن ولا ينقطع من يد مستوثق قال حسان من قصيدة يصور فيها المسلمين:
مستشعري حلق الماذي يقدمهم ... جلد النحيزة ماض غير رعديد
أعني الرسول فإن الله فضله ... على البرية بالتقوى وبالجود
وقد زعمتم بأن تحموا ذماركم ... وماء بدر زعمتم غير مورود
وقد وردنا ولم نسمع لقولكم ... حتى شربنا رواء غير تصريد(2/224)
مستعصمين بحبل غير منجزم ... مستحكم من حبال الله ممدود
استشعر الثوب لبسه على جسده مباشرة دون حائل بينه وبين الجسد، الماذي: الدرع البيضاء، الجلد بفتح الجيم: القوي الصبور، النحيزة، الطبيعة، الرعديد: الجبان، الذمار: كل ما يجب على الإنسان حفظه من متاع وحمى وعرض، الرواء بفتح الراء المشددة: الماء الكثير العذب، التصريد: شرب دون الري الاعتصام: التمسك: المنجزم: المنقطع، المستحكم: المستوثق
* * *(2/225)
يوم أحد
لم تكد قريش تكسب جولة في أحد حتى هتف شاعرها ابن الزبعري بحسان يناديه:
يا غراب البين أسمعت فقل ... إنما تنطق شيئا قد فعل
أبلغا حسان عني آية ... فقريض الشعر يشفي ذا الغلل
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
فجاوبه حسان وعارضه بقوله:
ذهبت بابن الزبعري وقعة ... كان منا الفضل فيها لو عدل
ولقد نلتم ونلنا منكم ... وكذاك الحرب أحيانا دول
إذ شددنا شدة صادقة ... فاجأناكم إلى سفح الجبل
ولم يشتف حسان بتلك القصيدة التي عارض بها ابن الزبعري فأرسل حسان قصيدة أخرى منها:
ما أبالي أنب بالحزن تيس ... أم لحاني بظهر غيب لئيم
ولى البأس منكم إذ حضرتم ... أسرة من بني قصي صميم
تسعة تحمل اللواء وطارت ... في رعاع من القنا مخزوم
لم يولوا حتى أبيدوا جميعا ... في مقام وكلهم مذموم
وأقاموا حتى أزيروا شعوبا ... والقنا في نحورهم محطوم
وقريش تلوذ منا لواذا ... لم يقيموا وخف منها الحلوم
لم تطق حمله العوائق منهم ... إنما يحمل اللواء النجوم(2/225)
أنب التيس بتشديد الباء المفتوحة: صاح عند الوثوب للسفاح، الحزن بفتح الحاء: ما غلظ من الأرض، لحاه، شتمه، الصميم: الخالص، الرعاع: الضعفاء، شعوب بفتح الشين: الموت، لواذا: مستترين، الحلوم: العقول، العاتق: ما بين الكتف والعنق، النجوم هنا: يراد بهم الأشراف.
يذكر حسان في هذه الأبيات أن الأهاجي التي يرسلها ابن الزبعري لا تشبه إلا صياح التيوس وأنه لا يكثرت بشتائمهم يرسلها لئيم خامل في قومه، ثم راح يعير قريشا بمقامها في أحد حين تولى حمل اللواء نفر من بني قصي تساقط منهم تسعة تعاقبوا حمل اللواء فسقطوا واحدا إثر آخر، فلما لم تجد قريش لواءها مرفوعا فروا ولكنهم أبيدوا جميعا، وأوردوا المنايا، وقدم الشاعر صورة لقريش تستتر وتستخفى وقد طاشت عقولها من الهول.
وقدم الشاعر أكثر من صورة للمعركة المضطربة: صورة الفرار، وصورة الإبادة، وصورة قريش تساق إلى الموت والرماح محطومة في ظهورها، وصورة للمتسللين الذين أذهلهم الخوف فطلبوا الحياة وراء صخور الشعاب بعيدا عن عيون المسلمين (وكل ذلك كان في الفترة الأولى قبل أن تطلع عليهم خيول خالد) .
* * *(2/226)
حسان يتحدث عن غزوة الخندق
تجمعت جيوش الأحزاب: اليهود وغطفان وقريش حول المدينة بعد أن حفر الخندق حولها وجعل المسلمون ظهورهم إلى جبل سلع استعدادا للقاء الأعداء، وسهر الصحابة يحرسون الثغرات، ثم جاءت آية الله ريحا صرصرا أطارت الخيام والقلوب، ومزق الله الأحزاب شر ممزق {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (1) بهذا حدث القرآن والتاريخ، وانطلقت شاعرية حسان متأثرة بالقرآن فقال:
جيش عيينة وابن حرب فيهم ... متخمطين بحلية الأحزاب
حتى إذا وردوا المدينة وارتجوا ... قتل النبي ومغنم الأسلاب
وغدوا علينا قادرين بأيديهم ... ردوا بغيظهم على الأعقاب
بهبوب معصفة تفرق جمعهم ... وجنود ربك سيد الأرباب
وكفى الإله المؤمنين قتالهم ... وأثابهم في الأجر خير ثواب
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 25(2/226)
عيينة: هو عيينة بن حصن الفزاري قائد غطفان، ابن حرب: أبو سفيان، المتخمطون: شديدو الغضب والحلية: الصورة وفي رواية: حلبة: ويراد بها اجتماع القوم، الأيد: القوة، الريح المعصفة: الشديدة الهبوب.
وكان حسان في هذه الأبيات من القصيدة مؤرخا حيث قدم عيينة وأبا سفيان غاضبين في صورة الأحزاب التي اجتمعت وليس لهم من هدف حين جاءوا المدينة غير قتل النبي والظفر بالأسلاب وحينما اعتزوا بقوتهم وكثرتهم ردهم الله على أعقابهم مغيظين وفرقت جموعهم ريح عاصفة وجنود من عند الله وكفى الله المؤمنين القتال وأجزل لهم الثواب وكان حسان في شعره هذا مرددا ما قاله القرآن في سورة الأحزاب. في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} (1) وقوله:
{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (2)
وتناول حسان في غير هذه القصيدة أحداثا جانبية في الغزوة كمصرع ابن عبد ود.
* * *
ولم يتخلف حسان عن تقديم صور لغزوة قريظة وغزوة بني النضير وذي قرد وتناول تلك الغزوات في أكثر من قصيدة وكان صدر قصيدته في بني قريظة:
لقد لقيت قريظة ما غطاها ... وحل بحصنها ذل ذليل
غطاها: ساءها
وقال في غزوتي قريظة وبني النضير:
لقد لقيت قريظة ما سآها ... وما وجدت لذلك من نصير
أصابهم بلاء كان فيهم ... سوى ما قد أصاب بني النضير
سآها: ساءها
وغزوة ذي قرد تلك التي أغار فيها عيينة بن حصن على إبل حوامل ذات ألبان لرسول الله صلى الله عليه
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 9
(2) سورة الأحزاب الآية 25(2/227)
وسلم - فاستاقوا تلك الإبل، وركب الأنصار في طلبهم وفيهم قتادة الأنصاري والمقداد فردوا الإبل وفر المغيرون بعد معركة غلبت فيها القلة المؤمنة الكثرة الباغية، وتناول حسان تصوير ذلك في قصيدة فقال:
هل هر أولاد اللقيطة أننا ... سلم غداة فوارس المقداد
واللقيطة: أم حصن وكان قد التقطها حذيفة مع جوار أخر في سنة مجدبة ثم تزوجها.(2/228)
كان حسان من طلائع الشعراء المخضرمين في الفخر ففخر في جاهليته بحسبه ونسبه الذي ينتمي إليه ويجتمع فيه مع ملوك الحيرة الغساسنة، فهو كما قدمنا خزرجي من بني النجار، وينتهي في الماضي البعيد إلى مزيقيا الأكبر للخميين ملوك الحيرة والغسانيين ملوك الشام.
ولم يغب عنه بعد إسلامه الفخر بذلك النسب القريب والبعيد وكثر بعد إسلامه فخره بأنصاريته.
* * *(2/229)
فخره في الجاهلية
لحسان في الجاهلية شعر يزخر بالمفاخر بلسانه ويده وسيفه وكرمه وخلقه ثم بأهله: بشجاعتهم ومكانتهم وأمجادهم وأصولهم وهو حين تفور مشاعره للفخر يذكر المرأة فيناديها لتعلم حقيقته كما فعل عنترة في قوله: " هلا سألت الخيل يا ابنة مالك " كذلك يكشف حسان عن حقيقته لمحبوبته شعثاء فيقول:
لعمر أبيك الخير يا شعث ما نبا ... علي لساني في الخطوب ولا يدي (1)
لساني وسيفي صارمان كلاهما ... ويبلغ ما لا يبلغ السيف مذودي (2)
وإن أك ذا مال قليل أجد به ... وإن يهتصر عودي على الجهد يحمد (3)
فلا المال ينسيني حياتي وعفتي ... ولا واقعات الدهر يفللن مبردي
أكثر أهلي من عيال سواهم ... وأطوي على الماء القراح المبرد
وإني لمعط ما وجدت وقائل ... لموقد ناري ليلة الريح أوقدي
وهكذا يشير حسان في هذه الأبيات إلى أن له لسانا وسيفا وكلاهما صارم، وأن لسانه أقوى حدة من سيفه ولم يثبت لحسان في جاهليته في إسلامه موقف من مواقف البأس والصرامة كما لم يثبت له إيقاد نار يهتدي بها الساري في دلج الليل وأنه أكثر أهله بعيال غيرهم (إنه الشعر التقليدي) سار فيه حسان على نهج من سبقه من الشعراء الشجعان والكرماء.
__________
(1) نبا الشيء: تباعد وتجافى.
(2) المذود: اللسان.
(3) قصد بالعود: نفسه، واهتصاره: عصره.(2/229)
وقد فخر حسان بخزرجيته فوضع بين يدي الزمان صورا لمكانتهم بين اليثربيين في قوله:
ويثرب تعلم أنا بها ... إذا خافت الأوس جيرانها
متى ترنا الأوس في بيضنا ... نهز القنا تخب نيرانها
وقد أفاض حسان في الكشف عن مكانة الخزرجيين في هذه القصيدة فهم حماة أهل يثرب في المواطن التي يفزع الأوس من هولها، وهم حملة القنا والرماح، وهم الذين أسلمهم الأوس القياد في مواطن الفزع إلى آخر ما جادت مشاعر الفخر.
* * *(2/230)
تفاخره في شعره الإسلامي
لم يغمض الشاعر الطرف عن الماضي بعد إسلامه، بل كان كثير التغني بمفاخر أهله كلما سنحت له فرصة الفخر وما أكثر ما جمع شعره الإسلامي بين مفاخر الجاهلية والإسلام وهذه أبيات من قصيدة جمعت بين فخره الجاهلي والإسلامي حيث يقول:
فإن تسألي الأقوام عني فإني ... إلى محتد تنمي إليه المحاتد
وجدي خطيب الناس يوم سميحة ... وعمي ابن هند مطعم الطير خالد
ومنا قتيل الشعب أوس بن ثابت ... شهيدا وأسنى الذكر مني المشاهد
وفي كل دار ربة خزرجية ... وأوسية لي في ذراهن والد
كشف حسان في هذه الأبيات عن أصله العظيم الذي ينتمي إليه، وعنى بجده الذي خطب الناس يوم سميحة (وهو يوم من الأيام التي دارت بين الأوس والخزرج، وفني فيه من فني، ثم تداعوا إلى الصلح، وحكموا المنذر بن حرام جد حسان أو ثابت بن المنذر والده فقضى بينهم وتعاهدوا وكان الفضل في ذلك الصلح الذي حقن الدماء لتلك الخطبة التي خطبها في الحيين، وأما عمه ابن هند مطعم الطير فهو خالد بن زيد بن كليب وكان ينحر الإبل للأضياف فيأكل منها الناس والطير، وأما قتيل الشعب فهو أوس بن ثابت أخو حسان وقد قتل يوم أحد وقصد بالمشاهد مشاهد الحروب، ثم بين أن كل دار جامعة سواء أكانت دارا أوسية أم خزرجية له في أعالي تلك الدار أصل.
وكم سجل حسان للأجيال مكارم قومه في الجاهلية فهم أولاد عمرو بن عامر وهم الملوك وأبناء الملوك
كجفنة والتمتام عمرو بن عامر ... وأولاد ماء المزن وابني محرق
وحارثة الغطريف أو كابن منذر ... ومثل أبي قابوس رب الخورنق(2/230)
وبعد أن تحدث عن أمجاد أصوله انتقل فبين نصرة قومه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتاهم وقد أظلمت الأرض بين عينيه وبين موقف قريش من محمد صلى الله عليه وسلم ومن دعوته فقال:
أتانا رسول الله لما تجهمت ... له الأرض يرميه بها كل موفق (1)
تطرده أفناء قيس وخندف ... كتائب إلا تغد للروع تطرق (2)
فكنا له من سائر الناس معقلا ... أشم منيعا ذا شماريخ شهق
فنحن ولاة الناس في كل موطن ... متى ما نقل في الناس قولا نصدق
نوفق في أحكامنا حكماؤنا ... إذا غيرهم في مثلها لم يوفق
في هذه الأبيات بين الشاعر تنكر قوم الرسول صلى الله عليه وسلم له وتألبهم عليه حين فوقوا سهامهم نحوه واجتمع على طرده أبناء قيس وخندف فلاذ بالأنصار حيث لقي بهم الحصن المنيع الشاهق الذي لا ينال، ثم كشف حسان عن مكانة قومه، وأنهم ولاة الناس وقضاتهم الموفقون في أحكامهم حين لم يوفق غيرهم.
وإنا لنلمس في القصيدة كلها قوة في الأسلوب وروعة في التصوير تدفع أحكام أولئك الذين رموا شعر حسان الإسلامي كله بالضعف والحقيقة أن الشاعر حين تثور في نفسه ثورة المفاخر يستوحي من تلك الثورة العبارة العالية والصورة الغالية التي تضعه في مصاف كبار الشعراء.
* * *
__________
(1) تجهمت: تنكرت، والموفق: الذي جعل فوق السهم في الوتر ليرمي به
(2) أفناء: النزاع من قبائل مختلفة، تطرق: تتكهن وتحتال من طرق الحصى أي الضرب به وهو نوع من التكهن.(2/231)
حسان الثائر لكرامة الأنصار
ليس ثمت من ينكر فضل الأنصار وسبقهم وإيواءهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولصحبه من المهاجرين وأن الله أعز بهم الإسلام وأقام بناءه.
وأن أولئك الأنصار حين أدوا ما أدوا للإسلام ما كانوا يرتقبون شكرا، ولكن حسان الشاعر بدا له أنهم أقصوا عن المكانة التي يستحقونها حين قدم الرسول صلى الله عليه وسلم بني سليم على الأنصار يوم فتح مكة، ولم يكن تقديم الرسول لبني سليم يحمل وراءه تقديمهم على الأنصار ولكن لعل الرسول خاف اشتباك قريش والأحابيش بالأنصار؛ لأنهم هم القوة التي فتكت بسادة قريش في بدر وفي أحد وفي الخندق، ومن ثم أراد الرسول(2/231)
أن يجنب فتح مكة الدماء؛ لأنه لم يزل يأمل في أن ينسى أهلها الدماء ويقبلوا على الإسلام، أو لعل الرسول أراد أن يبين لقريش أن جيش الفتح ليس قوامه الأنصار، بل ها هي تلك طلائعه تموج في ألف من بني سليم وقد غاب عن حسان رأي الرسول في تقديم بني سليم على الأنصار فثارت شاعريته وقال:
وأت الرسول فقل يا خير مؤتمن ... للمؤمنين إذا ما عدل البشر
علام تدعى سليم وهي نازحة ... أمام قوم هم آووا وهم نصروا
سماهم الله أنصارا لنصرهم ... دين الهدى وعوان الحرب تستعر
وجاهدوا في سبيل الله واعترفوا ... للنائبات فما خاموا وما ضجروا
والناس ألب علينا ثم ليس لنا ... إلا السيوف وأطراف القنا وزر
ونحن جندك يوم النصف من أحد ... إذ حزبت بطرا أشياعها مضر
فما ونينا وما خمنا وما خبروا ... منا عثارا وجل القوم قد عثروا
هذه صفحة من كفاح الأنصار ينشرها حسان وهي مقبولة من شاعر الرسول الحريص على أن تظل للأنصار مكانتهم في الطليعة بين المسلمين وألا تقصيهم الأيام عن مكانهم، ولعل ذلك الحرص هو الذي فجر أحاسيس الشاعر فنادى الرسول: يا خير مؤتمن على مكانة الأنصار وهو يسوي الصفوف حتى لا تغيب في غمار الأحداث مكانتهم وهم المجاهدون، وتساءل الشاعر علام تقدم سليم وهي بعيدة أمام الأنصار الذين جاهدوا في الله حق الجهاد وما جبنوا في معركة ولا ضجروا من طولها حين تألب العرب عليهم فلم يعصمهم منهم غير السيوف والرماح فهم الذين ثبتوا في أسفل أحد حيث جمعت مضر الأشياع والأحزاب للقضاء على الإسلام والمسلمين ولم تفتر عندئذ للأنصار همة وما نكصوا وما عثروا حين عثر الناس جميعا وتساقطت عزائمهم.
وكان جواب الرسول على ثورة حسان خطبته بعد تقسيم غنائم هوازن وألف قلوب القرشيين بالكثير منها وقد ختم الخطبة بقوله: لو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، ودعا للأنصار ولأبناء الأنصار، وكان في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير ما يقنع حسان ويطمئنه على مكانة الأنصار.(2/232)
الهجاء في شعر حسان
كان الباعث على التهاجي في الجاهلية تلك الأحقاد التي أثارتها العصبيات والمنافرات والمفاخرات، فاندفع الشعراء وراء أحقادهم وأحقاد قبائلهم يطعنون أعداءهم، بل قد يسرفون في طعن الأعراض لتشتفي النفوس حين تدمي الطعنات نفوس الأعداء.
وقد وجد هذا اللون مجاله في الصدر الأول للإسلام بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعبئة قريش الشعراء لهجاء الرسول لإضعاف شأنه وشأن دعوته بين العرب، ولهذا أغرت قريش أولئك الشعراء من أمثال ابن الزبعرى وعمرو بن العاص وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم الرسول.
وحين طرقت أهاجيهم أسماع الرسول جند طائفة من الشعراء على رأسهم حسان للدفاع عنه والنيل من أعدائه فخاض حسان ميدان الهجاء ولم يقصر هجاءه على الأفراد بل هجا البطون والعشائر والقبائل، فهجا أبا سفيان بن الحارث وابن الزبعرى وعمرو بن العاص، وصفوان بن أمية، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة والحارث بن هشام وأبا جهل والعاص بن المغيرة وحكيم بن حزام، وأبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة وهجا من القبائل والبطون والعشائر: هذيلا، ومزينة، وبني عبد الدار، وبني العوام، وبني المغيرة وهوازن وثقيفا، وبني أسد، وبني الحماس، وبني سهم.
وقد احتل الهجاء في ديوان حسان مكانا كبيرا.
قال في أبي سفيان بن الحارث قبل أن يسلم في عام الفتح قصائد متعددة قال في بعضها:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... فأنت مجوف نخب هواء (1)
بأن سيوفنا تركتك عبدا ... وعبد الدار سادتها الإماء (2)
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
والبيت الرابع من هذه الأبيات تأثر فيه حسان بالأسلوب القرآني في قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (3)
وفي قصيدة أخرى يقول لأبي سفيان:
وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
__________
(1) المجوف: الجبان الذي لا قلب له، والنخب والهواء مثله.
(2) عير حسان بني عبد الدار حين حملت إماؤهم اللواء بعد أن سقط تحته تسعة من بني عبد الدار.
(3) سورة سبأ الآية 24(2/233)
وإن امرأ كانت سمية أمه ... وسمراء مغلوب إذا بلغ الجهد
والنسب الذي خلص لحسان ليطعن منه أبا سفيان دون أن يمس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ابن سمية وهي أم ولد لعبد المطلب، وسمراء أم أبيه الحارث وهي أيضا أم ولد، ولم يكد يبلغ هذا الشعر أبا سفيان حتى قال: إن هذا الشعر لم يغب عنه ابن أبي قحافة حيث كان أبو بكر أعلم قريش بالأنساب، وعنه تلقى حسان علم النسب فعرف كيف يطعن ويسدد الطعن لمن يهجو دون أن يمس أقرباء المهجو من المهاجرين وهجا حسان ابن الزبعرى بعد أن راح يفخر بأصوله فقال له:
فلا تفخر فقد غلبت قديما ... عليك مشابه من آل حام
وقد رأى حسان أن ابن الزبعرى يغلب على أصوله السواد وهذا يدل على أنه غير عربي لأن العرب ساميون والساميون ليسوا سودا، وإن الشاعر ليعلم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم «ليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى (1) » ولكنه الهجاء الذي جعل الشاعر يتلمس مغمزا ليطعن منه ابن الزبعرى فنفى عنه العروبة حيث رأى فيه مشابها من آل حام.
وطعن صفوان بن أمية بأن أمه كانت أمة لمعمر بن حبيب في قوله:
من مبلغ صفوان أن عجوزه ... أمة لجاره معمر بن حبيب
وهجا الوليد بن المغيرة بأنه عبد للإبل الشائلة التي جف لبنها بعد الحمل فقال فيه:
وأنت ابن المغيرة عبد شول ... قد اندب حبل عاتقك الوطاب
والندوب: أثر الجراح، والعاتق: ما بين العنق والمنكب، والوطاب، سقاء اللبن، وبهذا رماه بأنه لم يكن غير عبد تولى رعاية الإبل وأثر هذه الرعاية تلك الندوب التي في عاتقه مما كان يحمل من سقاء اللبن بعد أن يحلب تلك النوق.
وطعن الوليد بأنه ينتمي إلى صعقب الحداد الذي نزل في قريش وادعى الانتماء إليها وهو ليس منها واسمه الحقيقي ديسم بن صعقب وذلك في قوله:
وصعقب والد لأبيك قين ... لئيم حل في شعب الأروم
تسمون المغيرة وهو ظلم ... وينسى ديسم الاسم القديم
وتناول حسان العاص بن المغيرة والحارث بن هشام بن المغيرة.
وهجا أبا جهل في كثير من ديوانه ومما قال فيه:
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/411) .(2/234)
سماه معشره أبا حكم ... والله سماه أبا جهل
أبقت رياسته لمعشره ... غضب الإله وذلة الأصل
وهجا حسان أبا سفيان بن حرب وزوجته كما هجا عمرو بن العاص وأمية بن خلف.
وقد هجا هذيلا بسبب موقفها يوم الرجيع (وهو ماء لهذيل بين مكة وعسفان) حين غدروا بوفد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى (عضل) ليفقهوهم في الدين حتى إذا بلغوا ماء الرجيع غدر بهم أولئك الذين طلبوا من رسول الله إيفادهم واستصرخوا عليهم الهذليين فحملوا عليهم لأسرهم وتقديمهم إلى أهل مكة ليصيبوا بهم خيرا لأنفسهم، وكان وفد الرسول هم مرثد الغنوي وخالد الليثي، وعاصم بن ثابت وخبيب بن عدي وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق وقاوم منهم من قاوم فقتل ولان من لان فأسر وخرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم فقاوم في الطريق عبد الله بن طارق وقتل بمر الظهران وأما خبيب وزيد فقد بيعا لقريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة.
وقد هزت هذه النكبة قلوب المسلمين وشمل الأسى كل بيت في المدينة وترجم حسان عن مشاعر المسلمين في أكثر من قصيدة هجا بها الهذليين ومما قال:
لو خلق اللؤم إنسانا يكلمهم ... لكان خير هذيل حين تأتيها
ترى من اللؤم رقما بين أعينهم ... كما كوى أذرع العانات كاويها
تبكي القبور إذا ما مات ميتهم ... حتى يصيح بمن في الأرض داعيها
مثل القنافذ تخزي أن تفاجئها ... شد النهار ويلفي الليل ساريها
إن الشاعر ليتصور أن اللؤم إذا تجسم فصار إنسانا يتكلم لكان ذلك خير من يعبر عن هذيل حين يطرقها طارق أو يلم بها نزيل، وإن اللؤم ليبدو نقشه في عيونهم واضحا كأثر الكي الذي يبدو على أذرع الأتان، هذه صورة أحيائهم أما موتاهم فهم موضع سخط القبور والضجر بهم حتى ليستصرخ داعي القبور بمن في الأرض يطلب الخلاص منهم فكأن بطن الأرض تكره موتاهم واللؤم يمثل أحياءهم ثم أبرز صورة لهم: هي صورة القنافذ التي تستخزي من المفاجأة نهارا فلا ترى إلا ليلا وإن هذيلا لكذلك يتوارى أبناؤها عن أعين الناس نهارا فإذا جن الليل ظهروا يدبون في الأرض.
وهجا حسان في جاهليته وإسلامه مزينة، وبني عبد الدار وهجا ثقيفا فقال:(2/235)
ثقيف شر من ركب المطايا ... وأشباه الهجارس في القتال (1)
ولو نطقت رجال الميس قالت ... ثقيف شر من فوق الرحال (2)
وقال في هوازن:
أبلغ هوازن أعلاها وأسفلها ... أن لست هاجيها إلا بما فيها
تبلى عظامهم إماهم دفنوا ... تحت التراب ولا تفنى مخازيها
كأن أسنانهم من خبث طعمتهم ... أظفار خائنة كلت نواسيها
وهجا بني الحماس بأكثر من قصيدة ولا يتسع المقام لعرض ما قيل وحسبنا ما قدمنا من الأهاجي التي طعن بها حسان الخارجين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هجوه أو غدروا بأصحابه أو نالوا من دعوته.
* * *
__________
(1) الهجارس: الثعالب
(2) الميس: نوع من الشجر تصنع منه الرحال.(2/236)
المراثي في شعر حسان
لقد عاش حسان مع أحداث الإسلام يسجل ويصور، وكان وفيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه مجدهم أحياء وبكاهم شهداء أو موتى، وقد كشفت مراثيه عن عواطف الشاعر المصور لأولئك الراحلين عن دنيا الناس تاركين وراءهم بطولات وتاريخا وآثارا وأخلاقا وأعمالا.
رثى أصحاب الرجيع وخص خبيبا بأكثر من مرثية لأواصر القربى التي ربطت بينهما ولكثرة ما هز مشاعره من أنات الثكالى اللواتي بكين خبيبا من حوله، وبكى حمزة وبكى شهداء مؤتة وبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اختاره الله لجواره بكثير من القصائد حيث أثارت الفاجعة مشاعر حسان فتدفقت عبراته مع الباكين، وضجت أناته مع من هزتهم المصيبة فتجاوب دمع حسان وشعره مع دموع المسلمين حين رأى مسجد الرسول ومعهد ورسوم دياره وقد خيم عليها الأسى وكم وقف بتلك المعاهد والرسوم فبكى ورثى قال:
بطيبة رسم للرسول ومعهد ... منير وقد تعفو الرسوم وتهمد
وواضح آيات وباقي معالم ... وربع له فيه مصلى ومسجد(2/236)
عرفت بها رسم الرسول وعهده ... وقبرا به واراه في الترب ملحد
ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت ... عيون ومثلاها من الجفن تسعد
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت ... بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد
وما فقد الماضون مثل محمد ... ولا مثله حتى القيامة يفقد
ومن السهل الممتنع في رثاء الرسول قول حسان:
كنت السواد لناظري ... فعمى عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
ورثى حسان عمر حين اغتاله فيروز في أبيات منها:
وفجعنا فيروز لا در دره ... بأبيض يتلو المحكمات منيب
وعنى بالأبيض: النقي السريرة وبالمنيب: الراجع إلى الله في كل ما أمر به.
وعاش حسان أيام فتنة عثمان دامي القلب يرقب الأحداث التي تعصف بالمسلمين، ويرى أصابع ابن سبأ تعبث بالعقول في مصر والكوفة والبصرة وفي غيرها من الحواضر الإسلامية، ثم رأى الفتنة وهي تقلق مضاجع الآمنين في المدينة، ثم رأى الخليفة وهو طعمة للألسنة تنهشه من كل جانب، وفي غمار المطاعن أبصر الثائرين يقذفون الخليفة بالحصى، ثم رأى الثورة تموج شرورها وتصطخب حتى تمزق الخليفة وهو بين يدي كتاب الله، وقد ترجم حسان بعض جوانب الفتنة وهدد وتوعد الثائرين في قوله:
إن تمس دار ابن أروى منه خالية ... باب صريع وباب مخرق خرب
فقد يصادف باغي الخير حاجته ... فيها ويأوي إليها الذكر والحسب
يا أيها الناس أبدوا ذات أنفسكم ... لا يستوي الصدق عند الله والكذب
ألا تنيبوا لأمر الله تعترفوا ... بغارة عصب من خلفها عصب
فيها حبيب شهاب الحرب يقدمهم ... مستلئما قد بدا في وجهه الغصب
في هذه الأبيات يبصر حسان بالغد وما يجر وراءه إن خلت دار عثمان منه وانتهكت حرماتها ثم يهدد الثوار بموقف حاسم تتحرك فيه الجيوش من أطراف الملك الإسلامي وبينهم حبيب بن مسلمة الفهري شهاب الحرب وكان قد بعث به معاوية على رأس القوات التي تقدمت من الشام إلى المدينة حينما قامت الثورة ولكن حبيبا ما كاد يقارب المدينة حتى سمع نعي عثمان فعاد أدراجه بعد أن وقعت الواقعة، وذكر حسان في أبيات مآخذ الثوار على عثمان وما طلبوا منه قال فيها:(2/237)
ما نقمتم من ثياب خلفة ... وعبيد وإماء وذهب (1)
قلتم بدل فقد بدلكم ... سنة حرى وحريا كاللهب (2)
* * *
__________
(1) نقم الشيء: كرهه، والثياب الخلفة: المختلفة في هيئتها وألوانها وأنواعها.
(2) السنة الحرى: المجدبة.(2/238)
شعر حسان سجل للأنساب
كان شعر حسان سجلا للأنساب التي ربما ضاعت في أعماق التاريخ وبخاصة في أهاجيه التي غاص فيها وراء الأنساب ليرى تناسل مهجوه من أمة وإن بعدت أو من عبد وإن نأى فيرمي مهجوه، ويسدد إليه الطعنات من ذلك الجانب، وإن إبرازه لمثل ذلك في شعره جعل من ذلك الشعر مرجعا لعلماء الأنساب ومن ذلك قوله في هجاء أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
وإن امرأ كانت سمية أمه ... وسمراء مغلوب إذا بلغ الجهد
وبهذا كشف نسب أبي سفيان بأن أمه كانت أم ولد كما كانت سمراء أم أبيه الحارث أمة كذلك وقوله في ابن الزبعري حين هجاه:
قسامة أمكم إن تنسبوها ... إلى نسب فتأنفه الكرام
وقسامة كانت أمة سوداء لقيس بن عامر الخولاني وهي أم سهم وجمح وهي جدة نائية لابن الزبعري ولكن حسان غاص وراء ذلك النسب حتى بلغ قسامة فرمى بها ابن الزبعري.
وكذلك طعنه لصفوان بن أمية حين هجاه بقوله:
من مبلغ صفوان أن عجوزه ... أمة لجاره معمر بن حبيب
فوصمه بأن أمه كانت أمة لمعمر بن حبيب.
وقد رمى قبيلة مزينة بأن أمهم كانت نوبية سوداء فقال في هجاء أحدهم:
وأمك سوداء نوبية ... كأن أناملها الحنظب
والحنظب نوع من الخنافس وأي تصوير لأنامل النوبية أدق من تشبيها في شكلها وتحركها بالخنافس.(2/238)
وكم بين شعر حسان من كشف عن أنساب أولئك الذين تناولهم، ولقد كان معلمه الذي يقف به على دوحة الأنساب وفروعها والفروع التي تشابكت بها مع غيرها هو أبو بكر فهو خير ملم بأنساب العرب.
* * *(2/239)
شعر حسان الإسلامي
تفور مشاعر الشعراء، وتنفعل أحاسيسهم بالمؤثرات التي تهز القرائح فتفجر ينابيع الشعر، وعلى قدر الانفعال بتلك المؤثرات تكون قوة الشعر أو لينه، ومشاعر الشاعر تختلف انفعالاتها باختلاف المؤثر والزمان والمكان والموقف، ويختلف الشعر تبعا لكل ذلك وتبعا لاختلاف الأغراض، بل قد يتفق الغرض وتختلف فيه القصيدة عن الأخرى، كل ذلك يمكن أن يقال في شعر حسان فلا نحكم له بقوة شعره الجاهلي كله ونرمي شعره الإسلامي باللين والضعف، ونتلمس الأسباب لنصم كل شعره الإسلامي بالضعف.
والحق الذي يقال: إن شعر حسان كشعر غيره فيه القوي الرائع وفيه الضعيف، بل إن القصيدة الواحدة للشاعر نرى فيها بيتا يحملنا على أن نحكم له بأنه (عين القصيدة) وإلى جانبه أبيات لا عمق فيها ولا قوة فما لنا نتجنى على حسان المسلم ونتحامل على شعره الإسلامي كله فنصمه بالضعف ولعلنا وفينا بما قدمنا حق شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم على الأجيال جزاء ما قدم من أعز ما يملكه العربي ليدرأ عن الرسول ألسنة الخائضين وهو العرض حيث قال:
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
جزاه الله عما قدم أحسن الجزاء(2/239)
الدكتور: محمد محمد خليفة علي
ولد سنة 1909 بمحافظة بني سويف إحدى محافظات جمهورية مصر العربية، وحفظ القرآن وهو في العاشرة من عمره، ثم التحق بالأزهر.
حصل على الشهادة العالية في كلية اللغة العربية سنة 1936 والعالمية مع إجازة التدريس سنة 1938 وعين في نفس العام مدرسا في الأزهر وارتقى إلى مدرس أول. فمفتش للغة العربية، فمدير عام لامتحانات الأزهر، فمدير عام للتعليم الثانوي، وانتهت مدة خدمته سنة 1975.
وفي سنة 1966 - 1967 حصل على الدكتوراه. في البلاغة والأدب من جامعة الأزهر بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، وندب إلى جانب أعماله للتدريس في المعهد العالي للدراسات الإسلامية والعربية التابع لجامعة الأزهر.
وبعد انتهاء خدمته تعاقد مع الجامعة الإسلامية في المدينة للتدريس بها وما زال يقوم بتدريس أدب اللغة في كليتي الشريعة واللغة بالجامعة الإسلامية.
مؤلفاته:
1 - كتب في البلاغة والأدب. تدرس في الأزهر من خمسة عشر عاما.
2 - كتب في الأدب درست في المعهد العالي للدراسات الإسلامية والعربية التابع لجامعة الأزهر.
3 - تعليق على شرح ابن عقيل في النحو والصرف، درس في المعهد العالي للدراسات الإسلامية والعربية.
4 - مذكرات في الأدب تدرس حاليا في الجامعة الإسلامية في كليتي الشريعة واللغة.
5 - كتاب مع نزول القرآن مطبوع.
6 - كتاب: مع الإيمان في رحاب القرآن " يقوم بطبعه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ".
7 - كتاب كبير عن الخطابة في صدر الإسلام لم يطبع ".
8 - قصة شعرية في تاريخ عمر بن الخطاب مطبوعة.
9 - ديوان شعره لم يطبع.
10 - بحوث أدبية في موضوعات مختلفة.
11 - مقالات إسلامية تنشر في الصحف الإسلامية في مصر وغيرها.(2/240)
محمد أحمد العزب
الأمومة والطفولة في الإسلام
يخيل إلي أننا أمام هذا البحث في إطار من حتمية الإجابة عن هذا السؤال: هل هناك فواصل منظورة أو مستورة بين الأمومة والطفولة؟ أم أن هناك وشائج خالدة وواطدة بين الطفولة والأمومة ليس إلى تحديها من سبيل؟
ويخيل إلي. . . أننا حين نخلص إلى إجابة صادقة عن هذا السؤال نكون قد خلصنا من خلال ذلك إلى مواجهة الموضوع هكذا في تبلج وائتلاق. . .(2/241)
وفي يقيني أننا نسبح في الطين إذا بدأنا مثل هذا البحث هكذا في عفوية عريانة، لا تتعمق حقائق هذه الروابط، ولا تهوم خلف آفاقها البعيدة لمعانقة مشارقها الأصلية. . . ولنبدأ معا. . .
هل هناك أمومة بدون طفولة؟ أو طفولة بدون أمومة؟ الذي أعرفه أن " شيئا " لا يمكن أن ينبثق هكذا من " لا شيء " وأن صفة " الأصل " لا نخلعها إلا على ما يحمل في طبيعته الوجودية أفرعا وأغصانا. . .
* * *
الأمومة لا يمكن أن تتحقق إلا بتحقق مقدماتها. . . وأعني بمقدماتها الإنجاب. . . والطفولة لا يمكن أن تولد من فراغ، أو تنبثق من عدم. . . لا بد لها من أمومة. . . ومن هنا. . . يتأكد لدى البداءة في غير تعمل أو اعتساف، أن تلازما جذريا خالدا ينهض بين الأمومة من جهة. . . والطفولة من جهة أخرى. . . ومن هنا يتحتم كذلك أن تتعانق المجالات وتتشابك، فلا تقوم الحواجز الشاهقة بين طبيعة الحديث عن الأمومة. . . وطبيعة الحديث عن الطفولة. . .
قد يقال هنا: ليس من اللازم أن توجد الطفولة ليتحقق معنى " الأمومة " في الأنثى. . . فما أكثر ما رأينا عبر أجيال البشر، ومراحل التاريخ من أمهات، لم يعقبن ذكرا ولا أنثى، ومع ذلك فقد كن أمهات رائدات. . . أليست أمهات المؤمنين - مثلا - لنا أمهات. . . مع انحسام الروابط المادية بيننا وبينهن؟ ". . . قد يقال هذا في مثل هذا الصدد. . . ولكنه لن يخرج عن أن يكون حيلة ذهنية بارعة، تلفتنا عن الحقائق الموضوعية المنشودة في مثل ذلك البحث، لتتوه في مجاهيل التربص الفكري، الذي يترك الأعماق ويطفو على السطح في حركة رعاشة رعناء!
نحن لا نجهل أن أمهات المؤمنين لنا أمهات. . . ولا نجهل كذلك أن كل أنثى في تاريخ البشر، مهما كان لونها. . . أو جنسها. . . تتربع على عرش الأمومة " الروحية " للملايين. . . إذا استوت على أفق معين من آفاق التفوق الإنساني. . .
ولكننا هنا - في مثل هذا البحث - لسنا بصدد الحديث عن الأمومة بمعناها العائم الغائم، وإنما نحن بصدد الحديث عن الأمومة " النوعية " التي تضم جناحيها على أفراخها الصغار، ساكبة حنان قلبها في حنايا قلوبهم، وناسلة ريش جناحها لتدفئ به قرهم، وسافحة أيامها ولياليها على أصابع الزمن، لترى - بعد رحلة ربداء - إلى أطفالها الصغار، وقد استووا أيقاعا. . . وتعملقوا رجالا. . .(2/242)
نحن بصدد الحديث عن الأمومة الخالدة، التي عناها الابن البار الرحيم محمد رسول الله صلوات الله عليه وسلامه - بكلماته: «الجنة تحت أقدام الأمهات (1) » .
ولنا بعد ذلك جولة مترامية المدى مع ألوان أخرى من الأمومات. . .
ولكني أتساءل: هل الإسلام هو الدين الوحيد الذي انحنى في غبطة وشمول على الأمومة الحانية. . . والطفولة الخضراء؟ أم أن كل شرائع الأرض والسماء قد عرفت لهذين الكائنين حقهما من العطف. ونصيبهما من الرعاية والتكريم أم أن للإسلام موقفا خاصا يتميز به بين سائر الشرائع، وكافة القوانين؟ يجعل لموقفنا من الأمومة والطفولة على السواء فلسفة خاصة واتجاها فريدا؟ وهذا هو الذي ستجيب عنه هذه الصفحات. . . ولكن. . . قبل أن نمضي مع الإسلام الرائد في رحلته مع الأمومة والطفولة. . . لا بد لنا من إلمامة خاطفة بمكانة كل منهما فيما عدا الإسلام من نظم. . . وفيما سوى الشرق من أرجاء. . . حتى يتسنى لنا من بعد أن نقيم موازنة عادلة بين فلسفة الإسلام في هذا الصدد، وبين فلسفات أخرى نبعت من هنا أو من هناك. . .
* * *
وأول ما يبدو هنا حين نبغي مقارنة، أو نهدف إلى موازنة. . . المجتمع الجاهلي، الذي جاء الإسلام لتصحيح مفاهيمه وتعديل أوضاعه.
كيف كان وضع الأم في هذا المجتمع؟
وكيف كانت رعاية الطفولة فيه؟
أما كيف كان وضع الأم في المجتمع الجاهلي؟ فأبسط ما يقال فيه. . . أنه وضع تؤهل له طبيعة عربية متأبية، ترى في عراقة الأصل، وطيب الوعاء، وشموخ النسب. . . جحافل من المعاني تقاتل في حومة النزال مع الجحافل الضارية. . . حتى لقد كان مجرد تعريض الأم للون من ألوان الضعة، أو شكل من شكول الهوان، يثير في آفاق هذا المجتمع حربا ضارية ضروسا، لا يعلم أحد ما مداها، ولا إلى أي حد ينتهي بها الجماح! !
* * *
ولقد حدثوا أن عمرو بن هند ملك الحيرة قال يوما لجلسائه: هل تعلمون أحدا من العرب تأنف أمه من خدمة أمي؟
__________
(1) سنن النسائي الجهاد (3104) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2781) .(2/243)
قالوا: نعم. . أم عمرو بن كلثوم. قال. . ولم؟ قالوا: لأن أباها مهلهل بن ربيعة، وعمها كليب وائل أعز العرب. . وبعلها كلثوم بن مالك أفرس العرب، وابنها عمرو بن كلثوم وهو سيد قومه وليث كتيبته، فأرسل عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم يستزيره ويسأله أن تزور أمه أمه. فأقبل ابن كلثوم من الجزيرة في جماعة من بني تغلب، وأقبلت " ليلى " أمه في ظعن منهم. . وأمر عمرو بن هند برواقه فضرب فيما بين الحيرة والفرات، وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا. . ودخل ابن كلثوم إلى جانب الرواق، وكان بين الاثنين صلة نسب. . قالوا. وقد كان عمرو بن هند أوصى أمه أن تنحي الخدم إذا دعا بالطرف. وتستخدم " ليلى ". فلما فعل قالت هند لزائرتها بعد أن اطمأن بها المجلس: ناوليني " يا ليلى " ذلك الطبق. . فقالت " ليلى " في نفور وأنفة: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فأعادت هند عليها وألحت. وإذ ذاك صاحت " ليلى " واذلاه: يا لتغلب! فسمعها ابنها فثار الدم في وجهه. . وانتقض انتفاضة المحموم وقال: لا ذل لتغلب بعد اليوم. ثم نظر حوله فإذا سيف معلق بالرواق ليس هناك سيف غيره، فوثب إليه مهتاجا وأطاح به رأس ابن هند!! وأنشد يومئذ معلقته مرتجلا:
أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا
بأنا نورد الرايات بيضا ... ونصدرهن حمرا قد روينا
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
بأي مشيئة عمرو بن هند ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
تهددنا وأوعدنا رويدا ... متى كنا لأمك مقتوينا
على آثارنا بيض حسان ... نحاذر أن تقسم أو تهونا
إذا لم نحمهن فلا بقينا ... لشيء بعدهن ولا حيينا
ومهما يكن من أمر هذه الحادثة. . صدقا، أو إحالة، أو تزييفا. . . فإنها أبدا لا تفقد ظلالها الرائعة العميقة، التي تؤكد دور الأم ومكانتها السامقة في هذا المجتمع الجاهلي العريض. . .
* * *
أرأيت كيف أن محاولة للتهوين من شأن " أم " كانت سببا في قتل ملك. . وثورة قبيلة؟ إن مثل هذا المجتمع كان من غير شك يقدس الأمومة، ويرى فيها حمى لا بد أن يحمى. . ومعنى خالدا كبيرا لا بد أن يصان. . .
* * *
وإذا
أردنا مزيدا من الوثائق التاريخية التي تؤيد هذا المنزع، وتزكي هذا الاتجاه. . فحسبنا أن نرجع(2/244)
إلى أسماء طائفة من قبائل العرب، وبطونها. . لنرى كيف كانوا يعتزون حتى بالانتساب إلى الأم. . ويرون في ذلك مفخرة لهم. . وتخليدا لذكراها. . وقلب معي صفحات التاريخ، فستلتقي لا محالة برتل من هذه الأسماء: كبني الخندف. . وهي ليلى بن عمران القضاعية وعنها تشعبت بطون كثيرة من العرب كهذيل، وكنانة، وأسد. . وكأم الخندف: وهي ضرية بنت ربيعة بن نزار التي ينسب إليها حي ضرية. . وكبني جديلة: بنت مدركة بن إياس وإليها تنتسب قبيلة عدوان. . وكذلك بنو جندلة. . وبنو بجيلة. . وبنو العبدية. . ورقاش. . ومزينة وعفراء. . وباهلة. . وسلول. . والعبلات. رهط الثريا بنت عبد الله بن الحارث صاحبة عمرو بن أبي ربيعة نسبوا إلى أمهم عبلة بنت عبيد الله بن جاذب (1) هذا قليل من كثير. . لو شئنا أن نتتبعه عبر أجيال العرب لما وسعنا مثل هذا البحث، وليس من همنا أن نحشد هنا نقولا تاريخية مكدسة. . فإنها ليست من غرضنا في هذا الصدد وإنما الذي نهدف إليه. . أن نستشف من خلال حادثة أو حوادث، ما وراء النص من عوامل الفخر بالأم، ونوازع التقديس لمكانتها، وحوافز الثورة لما عساه أن يجرح كبرياءها الأصيل. .
* * *
ولأن العربي كان يعرف وضع الأمومة وما يعكسه هذا الوضع على أبنائها من ظلال، فقد حرص على أن ينتخب لأولاده أما لا تهون، ولا تطأطئ في مواقف الفخر، ومجالات المباهاة. . قال أعرابي لبنيه: يا بني. . إني قد أحسنت إليكم صغارا، وكبارا، وقبل أن تولدوا. قالوا: وكيف أحسنت إلينا قبل أن نولد؟ قال: اخترت لكم من الأمهات من لا تسبون بها!!
قد يقال هنا: إن ذلك كان وحي شعور الرجل المؤمن بدونية المرأة. . إنه كان لونا من ألوان العطف على الكائن الأدنى ليستشعر الحياة. . ويحس الكرامة. . ولم يكن لذلك كله من أثر عميق في نفسية المرأة ينعكس على موقفها. . أو يورق في واقعها الحياتي. . فلقد كانت دائما تعيش في إطار من إحساسها العارم بدونيتها؟!! ولكني لست من هذا الرأي. . ولا أستطيع أن أكون منه. . فليس بصحيح أن ذلك كان إحساس العربي " الرجل " فحسب. . بل كان كذلك إحساس العربية " الأنثى ". . كانت تعرف دورها كأم. . ومكانتها كصانعة أجيال، ومن هنا فقد تأبت على كل ما يشدها إلى الحضيض، أو يعفر جبهات أبنائها. .
حدثوا أن سلمى الغفارية وقعت في حبائل الأسر. . وتزوجها الشاعر الفارس عروة بن الورد، وأنجب منها أولادا. . وأحبته ملء عيونها. . ووسع أشواقها. . ولكنها رغم ذلك كله حدثته ذات يوم قائلة: ألا ترى ولدك يعيرون بأمهم ويسمون بني الأخيذة؟
__________
(1) انظر في هذا كتاب '' أم النبي '' للدكتورة بنت الشاطئ.(2/245)
قال: فماذا تريدين؟ قالت: أن تردني إلى قومي حتى يكونوا هم الذين يسلمونني إليك!! هذا موقف من مواقف الصدق الفطري، الذي يوائم طبيعة العربية الحرة، حين تثور في أعماقها المتفتحة نوازع الاستعلاء على نوازع الهبوط. . وحين تنتصر في نفسها كرامة الإنسان على خوالج المحب العاشق المفتون. .
هذه نظرة عجلى نلقيها على مكانة الأم في المجتمع الجاهلي. . لنخلص من ذلك إلى أن الأمومة في كل طور من أطوار الزمن معنى تقدسه الأجيال، ولو لم تقم على حراسته شريعة. . حتى ولو لم تؤكده رسالات الهداة المصلحين.
* * *
وإليك وصية من وصايا مصر القديمة يوجهها والد إلى ولده فيقول: " يا بني " ضاعف الخير لأمك، واحملها إن استطعت كما حملتك. . فطالما تحملت عبئك ولم تلقه علي، وعندما التحقت بالمدرسة وتعلمت الكتابة فيها. . واظبت دوني على الذهاب إليك فالطعام والشراب من دارها كل يوم، فإذا شببت وتزوجت واستقررت في دارك فضع نصب عينيك كيف ولدتك أمك. وكيف حاولت أن تربيك بكل سبيل!!
هذه منزلة الأمومة في المجتمع الجاهلي. . وفي غيره من المجتمعات. . فهل كان للطفولة مثل هذه المنزلة؟ أم أن الأمومة قد استأثرت بكل ما هنالك من عواطف الحب، ومشاعر التكريم؟ الذي نعرفه. . وتؤكده السواند التاريخية الصادقة، أن مثل ما قد حظيت به الأمومة في المجتمع الجاهلي - لأنها سبب وجود ومعدة أجيال - قد حظيت به الطفولة في هذا المجتمع؛ لأنها امتداد هذا الوجود، ولأنها لبنات هذه الأجيال. . وهو وضع طبيعي لا ينبو عن فطرة البشر، ولا يصادم حقائق الأشياء. . فهل أستطيع مثلا أن أعشق الأرض الخصبة وهي جرداء من كل شيء. . حتى ولو كانت في أطوائها طبيعة الخصب المعطلة ملء الوجود. . أم تراني أعانقها وأعشق ذراتها بعيوني حين تتفتح هنا عن ثمر. . وتبتسم هناك في شجر. . وتتألق في أرجائها الفساح آلاف الورود؟ إنني أحبها هكذا. . لأنني أحب ما على صدرها الرحيب من معطيات. . فإذا جاء العربي وأحب الأمومة وبارك خطواتها البيضاء. . فلأنه يرى فيها طبيعة الأرض المثمرة، أو طبيعة الشجرة المزهرة، أو طبيعة الأنثى التي تنبثق من أعماقها براعيم الحياة.
الطفولة إذا. . أهداب أعين الرجال، وفلذات أكبادهم تمشي على الأرض. . أليس العربي كان(2/246)
مجنونا بغريزة الاستعلاء، والتفوق على من عداه؟ وكيف يتحقق له ذلك الأمل ما لم يكن له من أبنائه جيل وفير؟ إن أقرب مثل يمكن أن نسوقه هنا في هذا الصدد. . موقف عبد المطلب جد الرسول. . حين نذر - إن رزقه الله عشرة بنين - أن يذبح واحدا منهم تقربا إلى الآلهة، وشكرا لها على عطاياها. . وما أهول الفداء الذي كاد أن يسفح على مذبحه الرهيب دماء عبد الله. . والد النبي العظيم. . إن ذلك لم يكن نتيجة عفوية لنزوة طائشة، أو لوثة حمقاء. . إنه كان وليد إحساس عميق بخطورة الولد في مثل هذه البيئة التي تفجرت عن مثل هذا الوضع الراعب الرهيب!!
وتسألني: فما تقول في موقف العربي من طفولة أخرى، غير طفولة الولد. . طفولة البنت؟ لقد نعى القرآن عليه انقباضه الشاحب حين كان يبشر بمولودة أنثى. . ولطالما ارتعشت في ذهنه الأسئلة: أيمسكه على هون؟ أم يدسه في التراب؟ وكم وارى التراب الأصم من طفولات نسائية عزلاء؟!!
فأجيبك: أجل. . لقد كان العربي يأسى لأن وليده أنثى. . ولقد كان كذلك يواريه التراب. . أو يوشك أن يواريه التراب؛ لأنه ليس من فصيلة الذكور!! ولكن. . هل فعل الأعرابي ذلك كله لأن طبيعته المركوزة في أعماقه - كإنسان - تعطفه على الذكر، وتباعد بينه وبين الوليدة الأنثى؟ أم أن هناك بواعث خفية، وحوافز خلقية دفعت به إلى مثل هذا التصرف الراعن الوبيل؟ أكاد أؤكد أن الحب - لا الكراهية - هو الذي كان يدفع بالعربي إلى هذا المنحدر. . فلقد كان لفطريته الساذجة يرى في البنت كائنا زجاجي المصير، إن تعرض للخدش أو للتحطيم فلن تلتئم جراحاته النازفة بكل ما على الأرض من قدرات. . كان يحبها أكثر مما يحب الولد. . أو كما يحب الولد. . ولذلك فقد كان يحيا بمشاعره الرهيفة في أبعاد مصيرها المنشود، فيهوله ما قد تتعرض له الأثيرة المرموقة من أذى. . أو ما قد يلحق بها من العار. . فينطلق في حمى ذلك الإحساس المستوفز الطافر إلى مواراتها حية في التراب. . أنا معك في أن أسلوبه في التعبير عن نفسه كان ضربا من الخطأ. . وجنوحا ذاهلا عن سواء الطبيعة. . ولكن. . ألسنا جميعا ذلك الرجل؟ ألسنا نعض الرضيع من كثرة ما نحبه؟ . . ألسنا نضمه إلى أحضاننا ضمة هوجاء. . قد تذهب بحياته الغضة. . فإذا هو هباء. . في هباء؟! . . ثم إنني لست عن هذا وحده أتحدث. . أعني: لست عن تصرفه الخاطئ أبحث. . ولكنني أغوص على البواعث البادية أو المستترة وراء هذا التصرف أو ذاك. .
لقد كان العربي يحيا في بيئة عريانة ضاحية، متعرضا لانقضاضة من هنا. . أو فجاءة من هناك. . فإذا أبناؤه أشلاء ممزقة. . وإذا بناته سبايا مسترقات. . وهو قد أعد أبناءه من قبل لأمثال هذا المصير. . ولكن(2/247)
بناته حينما يتعرضن لشيء من ذلك ولو يسير. . فهو شعور يمض العربي. . ويقضه. . ويجعله دائم الأهبة لمصيره المرتقب. . إن لم يكن بتحصين قلاعه - وقليلا ما يستطيع - فليكن بإقفازها مما يحب، أو مما يقدس. . أو مما يأسى لفراقه وضياعه. . واستمع إلى القرآن حيث يقول: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} (1) {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (2) ! النحل 58، 99 " وحدق معي قليلا في قوله: " على هون " فلعلنا في ظلالها نلتقي. .
واستمع معي إلى الشاعر العربي، الذي يرى في الطفلات عالما من العواطف الجياشة والأحاسيس النبيلة المنهمرة التي تشده إلى الحياة، وتعمق صداقته للوجود:
لولا بنيات كزغب القطا ... رددن من بعض إلى بعض
لكان لي مضطرب واسع ... في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا ... أكبادنا. . تمشي على الأرض
إن هبت الريح على بعضهم ... امتنعت عيني عن الغمض
لقد كانت اهتمامات العربي الجاهلي بالطفولة معادلة تماما لاهتماماته بالأمومة، لا فرق في ذلك بين طفولة " ذكر " وطفولة " أنثى " إلا بمقدار ما تتباين غرائز البشر، وتتباعد طبيعة الأجواء البيئية المختلفة. . وليس في ذلك ما يستغرب أو يعاب؛ لأن طبيعة الحياة هكذا. . حيث لا تجد ههنا نقصا. . لا بد أن تجد ثغرة في كمال!!
* * *
فإذا انتقلنا إلى مجتمع كالمجتمع المصري القديم لنقف على حقيقة وضع الطفولة فيه، لراعنا ما تلقى هنالك من عطف، وما تحاط به من رعاية وتكريم. . وهذا ورد من متون التوابيت يتحدث على لسان والد نعم بسعادة الدارين بفضل ولده فقال: " أصبح مقعدي في حوزتي، ولم يكن أبي هو الذي وهبه لي، وليست أمي هي التي وهبته لي، ولكنه وريثي الذي أعطاني إياه. . . ".
ويكتب صديق إلى صديقه الثري العقيم: " إنك وإن تكن موفور الثراء إلا إنك لم تعمل على أن تهب شيئا لأحد، وأولى بمن لم يكن له ولد أن يتخير لنفسه يتيما يربيه، فإذا نما عنده صب الماء على يده، وأصبح كأنه الولد البكر من صلبه ". . . هكذا. . .
نحن إذا على وفاق. . على وفاق من أن كل المجتمعات قد أعطت للأمومة الرائعة والطفولة الخضراء ما
__________
(1) سورة النحل الآية 58
(2) سورة النحل الآية 59(2/248)
يستأهلان من عطف؛ وما يستحقان من تكريم، على تباين هنا وهناك في " مقادير " العطف والتكريم ومفاهيمهما " كذلك!
فإذا انتهينا إلى هذه النتيجة الوامضة الجليلة فماذا يبقى هناك؟ أليس يقال: أي شيء فعله الإسلام في هذا الصدد سوى أنه أقام على هذا الجدار الشامخ سطرا أو سطرين. . أو سطورا؟ ثم ألا يتعارض هذا مع ما أسلفنا من مطالع هذا البحث من أن للإسلام في هذا السبيل فلسفته الخاصة وإطاره الذاتي؟ أجل. . إنه يتعارض في مفاهيم النظرة العجلى والبداءة المبتسرة، التي ترى في كل قانون من قوانين الحياة شكله العدائي الذي لا يلتقي مع غيره من قوانين. . ولكنه لا يتعارض أبدا مع مفاهيم النظرة المستأنية، والبديهة الصافية، التي تحاول في صداقة وحب أن تعقد بين نواميس الحياة، وقوانين الوجود وشائج القربى وأسباب اللقاء. .
لقد كان للإسلام توجيهه السليم بالنسبة لغرائز البشر فلقد عدلها لتتسق مع مفاهيمه، وتتساوق مع طبيعته كدين. . إن الإسلام لم يحرق نبات الأرض لأنه نما في ظلال غير ظلاله الفيحاء. . ولكنه مع ذلك أكد شخصيته المميزة، وطبيعته الغنية، وفلسفته النابعة من أعماقه، لا الوافدة إليه من هنا. . أو من هناك. .
ومن خلال هذه الصفحات القادمة. سنبصر معا مطالع هذه الفلسفة، ومفاهيم هذه النظرة، لنؤمن معا بأن الإسلام دين رائد فذ، له في عالم الطبائع والمثل والقوانين دور الريادة الحكيمة العالمة، التي تشكل في تاريخ البشرية محورا لا يهتز ومشعلا لا يخبو، ونبعا لا يغيض. . ولنبدأ برحلتنا. . أعني رحلة الإسلام مع الأمومة في القرآن.(2/249)
الأمومة في القرآن
ولعل من الطبيعي جدا أن يلتفت الباحث في موضوع كهذا أول ما يلتفت إلى القرآن الكريم، كتاب الإسلام الخالد، ودستوره الجامع، وموسوعته الشاملة، ليرى كيف أن للأمومة والطفولة فيه ذروة سامقة، وقمة شاهقة، وحديثا مع الأيام لا يبلى. . ولا يمل.
أليست الأم مصدر حياة ومرفأ حنان؟ أليست مصدر إشعاع يشكل هذه العجائن الطيعة ويدفع بها إلى خضم الوجود؟ أجل إنها كذلك. . ومن هنا فقد حرص القرآن على(2/250)
تزكيتها، وتكريمها والارتفاع بها إلى مستوى شاهق نبيل. . وللقرآن في حديثه عن الأمومة أسلوب متميز، وفلسفة معينة، من العسير على كل ذي بديهة متفتحة أن يلمحها من خلال السطور.
ولكن. . أليس من الأجمل أن نرجئ الحديث القرآني عن الأم في إطاره العام، حتى نقف أولا مع أمومات ثلاث؟ أم إسماعيل. . وأم موسى. . وأم المسيح؟
إن الحديث القرآني عن هذه الأمومات يبرز لنا إلى حد بعيد ضخامة العبء الذي تنهض به الأمومة من جهة. . وروعة الاحتفاء القرآني بهذه الناهضة بأعبائها من جهة أخرى. . وحين تتكامل هذه الصورة بظلالها المرهفة وأضوائها الوهاجة. . فإنها تعطي من غير شك انطباعها الصادق في هذا الصدد العظيم. .
* *(2/251)
أم إسماعيل (1)
وأم إسماعيل هاجر. . هي تلك الجارية الأمة، التي لا حول لها ولا طول. . جاءت بها السيدة سارة إلى فلسطين من مصر. . بعد رحلتها مع زوجها إبراهيم. . حين خرج بدينه إلى هناك، نافضا عن كاهله العظيم غبار الوثنية، وأوقار الضلالات. .
وكانت سارة عاقرا. . لا تحمل. . ولا تلد. . فأشارت على الخليل أن يبني بهاجر فبنى! ثم حملت هاجر. . وولدت. . فولدت إلى جوار وليدها المحنة!!
قالت سارة لإبراهيم: أنا دفعت إليك جاريتي فلما حملت ترفعت علي!! فرد إبراهيم في حنان صيب. . ورثاء دامع لتلك الأنثى المجروحة الغيرى: هي جاريتك تفعلين بها ما تشائين! حينئذ ظهر الغضب في صوت سارة. . وأقسمت ألا يؤويها وصاحبتها بيت بعد اليوم!!
__________
(1) استفدت في هذا السرد من كتاب '' أم النبي '' للدكتورة بنت الشاطئ ومن التوراة.(2/251)
وبدأت خيوط المأساة تتجمع وتتشابك. . لتنفرج من بعد وتعتنق. . حينما حمل إبراهيم زوجته هاجر وابنها إسماعيل. . وانطلق بها ضاربا في التيه. . وعند ربوة حمراء تسامت أطلال البيت العتيق، ترك إبراهيم وليده الغض. . وأم وليده العزلاء. . وما كان لدى الأم ووليدها من رزق في هذا الوادي الجديب الأجرد. . سوى جراب فيه تمر وسقاء فيه ماء. . ولا بد للتمر أن ينفد، ولا بد للماء أن يتلاشى. . فماذا يخبئ الغيب لهما من مصير؟ لأفسح أنا المجال لابن عباس يحدثنا حديث هاجر الأم. . وابنها إسماعيل الرسول. . يقول ابن عباس: ". . ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ من أحد. . وليس بها ماء. . فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء. . ثم قضى إبراهيم منطلقا. . فتبعته أم إسماعيل. فقالت: يا إبراهيم: أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا. . ثم رجعت فانطلق إبراهيم. . حتى إذا كان عند الثنية لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات، ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (1) وجعلت أم إسماعيل ترضع ابنها وتشرب من ذلك الماء. . حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى. . فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر. . هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا. . فهبطت من الصفا. . حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي. . ثم أتت المروة فقامت عليها. . فنظرت هل ترى أحدا. . فلم تر أحدا. . ففعلت ذلك سبع مرات. .
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فلذلك سعى الناس بينهما (2) » فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا. . فقالت: صه. . تريد نفسها. . ثم تسمعت أيضا. . فإذا هي بالملك عند موضع
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 37
(2) صحيح البخاري الحج (1649) ، صحيح مسلم الحج (1266) ، سنن الترمذي الحج (863) ، سنن النسائي مناسك الحج (2979) ، سنن أبو داود المناسك (1885) ، مسند أحمد بن حنبل (1/373) .(2/252)
زمزم، فبحث بعقبه. . أو قال بجناحه. . حتى ظهر الماء. . فجعلت تخوضه. . وتغرف منه في سقائها وهو يفور بعدما تغرف فشربت وأرضعت ولدها.
فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة. . فإن هذا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه. . وإن الله لا يضيع أهله. . وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية. . تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله. .
فكانت كذلك حتى مرت بهم قافلة من جرهم مقبلين عن طريق كداء. . فنزلوا في أسفل مكة. . فرأوا طائرا عائقا: فقالوا: إن هذا الطير ليدور على ماء. . لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء. . فأرسلوا جريا أو جريين. . فإذا هم بالماء. . فرجعوا وأخبروهم بالماء. . فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء.
فقالوا: أتأذننين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم. . ولكن لا حق لكم في الماء. . قالوا: نعم. . وشب الغلام " إسماعيل " وتعلم العربية منهم. . وأعجبهم. . فلما أيفع واكتمل روجوه، وماتت أم إسماعيل. لتترك في الأرجاء حديثا هائلا ضخما. دائما يدوي. . وكيف تنسى ذاكرة الزمن، أو راعية الأيام أم إسماعيل. . وقصة بطولتها الخالدة تلهج بها ملايين الألسن كل يوم. . فيما يتلونه من كتاب الله، وآياته الغراء.
* * *
إنني ألمح من خلال الجهاد الرائع الذي كابدته أم إسماعيل عبر نزولها في واد غير ذى زرع، وذلك بمعاناتها للظمأ القاتل الرهيب. . ثم مسعاها اللاهف بين الصفا والمروة باحثة عن خيط يشدها ووليدها إلى الحياة. . إني ألمح من خلال ذلك كله. . ليس إنفاذ وعد الله فحسب. . بل كذلك تخليد دور الأمومة الرائعة، التي تحترق لتضيء للملايين.
ومع إسدال الستار على هذه القصة القرآنية، نحس من أعماقنا المسلمة عن كثب أن صوت القرآن العظيم غض عذب، يردد في مسامع الإجيال: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 125(2/253)
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (1) {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2) {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (3) {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (4)
* * *
__________
(1) سورة البقرة الآية 126
(2) سورة البقرة الآية 127
(3) سورة البقرة الآية 128
(4) سورة البقرة الآية 129(2/254)
أم موسى (1)
ومع الأصداء الأخيرة الحلوة لهذا الترتيل. . نصعد معا إلى جبل آخر من جبال النور. . لنعانق أبعاد ملحمة أبطالها. . أم. . . ونبي. . وشخوص أشتات متباينة من البشر المتباينين. نحن مع موسى وأمه. . مع الأمومة البطلة الفدائية، التي صممت على أن تهدي الحياة ربيعها الأخضر متمثلا في بشر رسول. . فعاشت من خلال هذا العمل العملاق. . صورة حية وامضة لكل ما في الأمومة من نداوة الحب. . وخصب العاطفة. . وإثراء الوجدان. . وبسالة الإصرار. . نحن مع موسى وأمه إذن من خلال ما يحدثنا به القرآن (2) . وما أصدق حديثه وأعذبه وما أخلد آياته وأروعها. . والقرآن هنا لا يحدثنا عن والد موسى (3) . . وإنما يخص بالذكر أمه. . لأنها كانت بطلة الموقف. . وحاملة عبئه. . والمناضلة بعواطفها الأصلية عن وليدها الأثير. .
وتبدأ القصة بداية راعبة. . وشاحبة. . تبدأ برؤيا يراها فرعون. . تؤرق ليله، وترتق نهاره. . وتتركه في خضم متلاطم من الهواجس السافكة. . والوساوس الخانقة، والرؤى الشرهاء فيجمع في ذهول كهنته وسحرته، وكل المعبرين والمنجمين. . ويسألهم تأويل رؤياه. . فيقولون: يولد في بني إسرائيل غلام يسلبك الملك، ويغلبك على سلطانك، ويخرجك وقومك من أرضك، ويبدل دينك وقد أظلك زمانه الذي يولد فيه! ".
وهنا يجن جنون فرعون. . وينفجر في حناياه طوفان من الغضب العارم. . فيأمر في لوثة حمقاء بقتل كل غلام وليد، حتى لا يعانق الحياة هذا البازغ المنتظر الرهيب!
__________
(1) المراجع السابقة. . وقصص الأنبياء للإمام الثعلبي.
(2) ملحوظة: يلاحظ أنه ينسب إلى القرآن أشياء ليست فيه وإنما وردت في الآثار.
(3) ملحوظة: يلاحظ أنه ينسب إلى القرآن أشياء ليست فيه وإنما وردت في الآثار.(2/254)
وبين هذه السحب المتراكمة المخيفة ولد موسى الكليم. . ويا له من ميلاد مفزع. . ذلك الذي يجيء عبر أنهار من دماء سبعين ألف شهيد وليد. . وكأنما أفزع أمه أن يولد لها غلام. . لأنها تعلم مصيره المحتوم. . ونهايته الأكيدة. . إلا أنها بحافز الحب الخلاق الذي يفرش دروبها المؤمنة. . تخبئ وليدها وراء أهداب العين. . وخلف أحناء الضلوع. . ولكن. . إلى متى يا أم موسى؟ وتصيخ في أمومة حادية معذبة. . فإذا بوحي هادئ منغوم يتردد في خلدها المرهف: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} (1) وتفعل الأم ما أمر به الله. . وتلقي وليدها. . في النيل. .! وكأنما جاشت نفسها حسرات بعد أن رأت الأمواج الغاضبة تتدافع في جنون حاملة تابوت وليدها الغض، تتأرجح به يمنة ويسرة. . وتغوص به مرة، وتطفو به أخرى.
فهمست وهي تتراجع قافلة إلى دارها في ذهول: أليس كان في قتله راحة أندى من أن أطوح به هكذا في ضباب الضياع؟ . . وكادت تتهالك من الأسى. . {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2)
* * *
ويمضي الموج. . أو يمضي التابوت بالموج. . ليرسو أمام قصر الطاغية. . ويلمحه الجواري إلى جانب الشاطئ يترجرج. . ويتأرجح. . فيلتقطنه. . ويذهبن به إلى آسية امرأة فرعون وتفتح آسية التابوت. . وتعانق صباحها ابتسامة " طفلة " بيضاء ترسم على أعماقها الجديبة صورة الأمل المرتجى. . وبراعم الحب الظامئ اللهيف! وتذهب به إلى فرعون في لهفة ظمأى مستوهبة إياه. . قائلة في ارتعاش أنثوي صارخ: فرعون. . {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} (3) وتتنزى انتفاضة الغضب في عيني الطاغية. . مصرا على أن يعانق الطفل مصير آلاف من الأطفال سبقوه. . ولكن آسية اللهيفة ما تزال به - تهدهد ثورته - وتتسرب من نوافذ العاطفة إلى قلبه الصلد. . حتى يتلاشى أو ينهار. . ويأمر فرعون أن يستبقى الغلام. .
__________
(1) سورة طه الآية 39
(2) سورة القصص الآية 10
(3) سورة القصص الآية 9(2/255)
ولكن. . ما بالنا قد تركنا أمه هناك؟ . . لنرجع إليها على وشك. . فإنها ما زالت لهيفة عبرى. . تتحس أخباره ولا صدى. . وتقتفي آثاره ولا شبح. . إنها ما زالت كالطائر المجروح، الذي فقد أفراخه الصغار! . . إنها ما زالت تلوب ظامئة حول أبعاد رحلته تريد أن تعرف ما مصيره. . تهتف بأخته مريم: (قصيه) . . وتمضي الفتاة جانب النهر. . تتسمع حتى خففات الصدور، وهمسات الجفون، حتى تقف أخيرا على طرف من الخيط الذاهب هناك. . في قصر فرعون. . إن شقيقها الطفل وراء هذه الجدران. . إنه مصر بكل ما في طفولته البريئة من تشامخ عنيد ألهمه الله إياه ألا يقرب من هذه الأثداء المأجورة ثديا واحدا يرضعه. . .
وحين ترى الفتاة اللهفانة جارية من جواري القصر. . تدنو منها في جلد محاذر مشبوب وتهمس في أذنها: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} (1) فترقص ابتسامة جذلى في عيني الجارية، وتقول: أجل. . أجل. . من هؤلاء يا أختاه؟ وتمضي بها عجلانة إلى سيدتها آسية، فتسر الفتاة إليها - في حذر - بخبر المرضع التي ليست سوى أم الوليد. . وحين يؤتى إلى أمه الوالهة. . تتطلع إليه في تشوف مبهور. . وتضمه في جذل خائف إلى صدرها الحاني. . فيرضع الطفل حتى يروى. . بين ذهول الجواري وتوثب مريم في حذر بهيج.
وتستدعي ربة القصر أمه إلى قصرها. . تريد أن ترضع الغلام هناك. . فتتأبى هذه وتتمنع حتى تنزل السيدة على إرادتها. . على إرادة الإصرار في موقف الأم. . التي ما زالت تحيا وراء ستار المرضع الحانية الرؤوم. . .
وحين تشارف هذه المرحلة. . نتسمع من بعيد. . وعن كثب إلى قول الحق سبحانه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (2) {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (3) {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} (4) {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (5) {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} (6) {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (7) {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (8) {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (9) {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} (10) {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (11) {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (12)
* * *
__________
(1) سورة القصص الآية 12
(2) سورة القصص الآية 4
(3) سورة القصص الآية 5
(4) سورة القصص الآية 6
(5) سورة القصص الآية 7
(6) سورة القصص الآية 8
(7) سورة القصص الآية 9
(8) سورة القصص الآية 10
(9) سورة القصص الآية 11
(10) سورة القصص الآية 12
(11) سورة القصص الآية 13
(12) سورة القصص الآية 14(2/256)
أم المسيح (1)
وكما يأتلق شعاع الضحى بعد رحلة ربداء في أغساق الظلام. . كان ميلاد المسيح الهادي رجفة زلزلت شوامخ الطقوس الدينية المجدبة، التي لا حياة فيها ولا روح!
والقرآن كان كذلك - سجلا حافلا بمضامين هذا الميلاد الغريب. . وكأنما ولد عيسى على هذا النحو ليلفت إليه أبصار اليهودية المعصوبة، التي تقوقعت داخل مفاهيم محفلية جوفاء. . نضب فيها زيت الحياة الخالد، وخبا في سراجها وهج الروح المتألق الشعاع. . والقرآن يتحدث حين يتحدث لا عن أب لعيسى رعرعه، ولا عن أسرة له أنجبته، ولكن عن أمه الطاهرة البتول، التي خلدت الأمومة في أنصع صفحات تاريخها الوضيء. . تلك الأمومة الفذة، التي تعرضت لامتحان باتر رهيب، فلم تهن. . ولم تتهالك. . وإنما شمخت بكل ما في كيانها الباسل من إباء. . متحدية تخرص المتخرصين، ولغط اللاغطين، ماضية على طريقها الوامض، كأنها شجرة فارعة هيفاء. . لا يضيرها أبدا أن تسقط العاصفة من هنا ورقة. . أو من ههنا ورقات!
إنها مريم. . التي نشأت في بيت دين وفضيلة وعلم، والتي كان أبوها شيخا جليلا رائعا في قومه. . فلما حملت بها أمها نذرتها لخدمة الهيكل. . {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2) {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (3) {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (4)
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) سورة آل عمران الآية 35
(3) سورة آل عمران الآية 36
(4) سورة آل عمران الآية 37(2/257)
وأمضت الفتاة صباها في المحراب عابدة. . حتى إذا أراد الله لشمس رسالته أن تشرق على يدي رسول، بعث إليها من يبشرها في خلوتها: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (1) {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} (2)
" فحملته ". . وخافت ألسنة مبحوحة من طول ما لوثتها الأراجيف. . {فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} (3) ثم وضعت وليدها في مذود. . وصرخة مقرورة مرتشعة تهتف في أعماقها: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} (4) ثم. . على خجل واجف. . وتردد مذعور فأتت به قومها تحمله {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} (5) {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (6) {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} (7) {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} (8) {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (9) {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} (10) {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} (11)
ولكن القوم ما زالوا بمريم ووليدها الرسول. . حتى هاجرت به إلى مصر قرابة اثنتي عشرة سنة، تغزل الكتان، وتلتقط السنبل في أثر الحصادين، وكانت تفعل ذلك والمهد في منكبها، والوعاء الذي فيه السنبل في المنكب الآخر. .
ولكن إرادة الله الغالبة، عادت بالمسيح النبي مرة أخرى إلى هذه البقاع، فجلجل فيها رادعا وواعدا. . حتى أتم رسالته.
وهكذا ينسدل ستار متألق الأبعاد من روعة الحديث القرآني العظيم على أمومات ثلاث، ليترك للأجيال من بعد. . أناشيد من نور ترددها. . وتحيا في معانيها، فإذا كل المعاني الهابطة البليدة قد استحالت إلى تسامق شاهق، وإذا كل الحياة السنة تلهج بتمجيد دور الأم. . إن لم يكن بواقعها المعاش. . فبما أسلفت في التاريخ عن أمجاد بطولية شماء.
__________
(1) سورة مريم الآية 20
(2) سورة مريم الآية 21
(3) سورة مريم الآية 22
(4) سورة مريم الآية 23
(5) سورة مريم الآية 27
(6) سورة مريم الآية 28
(7) سورة مريم الآية 29
(8) سورة مريم الآية 30
(9) سورة مريم الآية 31
(10) سورة مريم الآية 32
(11) سورة مريم الآية 33(2/258)
ولكن ترى. . هل هذا هو كل ما دار في القرآن الكريم من حديث حول الأمومة، ودورها الباسل. . وكفاحها النبيل؟ الذي أعرفه. . أن ذلك لو كان كذلك لكفى. . ولكن القرآن لم يدر الحديث عن الأمومة في هذه الإطارات الثلاثة فحسب، وإنما أداره مرات ومرات، تارة مستقلا بذاته، منفصلا عما عداه. . وطورا في معرض الحديث عن الأبوة والأمومة جميعا. . ولو أننا حاولنا تتبع ما جاء في هذا الصدد بشيء من التفصيل الرحيب. . لضاق بنا المجال، وامتدت بنا الآماد، ولكننا فحسب، سنشير إشارات خاطفة عجلى. . وسنضيء على كل مفرق من مفارق الطرق شمعة أو شمعات. .
إن لكلمة " الأم " في القرآن - حتى من الزاوية اللغوية البحتة، ظلالا رائعة، وتهاويل مشرقة، كأنها رمز يوحي بما للأمومة من أوج وما لمكانتها من سموق. . فحين يذكر الله رسوله بفضله عليه يقول: هو {الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (1) وحين يضع في يده السلاح الباتر لهداية الجموع يهيب به: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (2) إننا نحس أن في كلمتي " أم الكتاب "، " وأم القرى " تكريما حسيا لأشياء ومواطن. . نحسه من خلال هذه الكلمة الوامضة المشعة البيضاء. .
وفي مواطن الهول والاستنفار لا تجد كلمة مثل كلمة " الأم " تثير بها عواطف الأغيار {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (3)
* * *
ما أجمل أن يعبر القرآن بكلمة " أم " بدلا من الاسم الوضعي للمرأة. . أي امرأة {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} (4) {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} (5) إن القرآن هادف حين يعبر هذا التعبير الجميل، لما لهذه الكلمة من ظلال تلقي على الحدث طاقات معينة من الشعور والانفعال. .
وللتدليل على قدرة الله القادر يتحدر صوت القرآن رائعا وجليلا {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} (6) {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} (7) {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (8)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2) سورة الأنعام الآية 92
(3) سورة الأعراف الآية 150
(4) سورة القصص الآية 7
(5) سورة القصص الآية 10
(6) سورة النحل الآية 78
(7) سورة الزمر الآية 6
(8) سورة النجم الآية 32(2/259)
ولربط القيادة بالجموع يطلق القرآن هذه الكلمة الرائعة الخالدة: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (1) وما نعرف في لغات البشر تعبيرا يسمو إلى هذه الذروة، التي تحفر في أعماق الملايين حب النبي. . وحب زوجاته. . أمهاتنا الأثيرات!
وفي مجال التذكير بمصدر الوجود الإنساني، وبكل المعاناة الراعفة، والعذابات القاصفة يتحدث القرآن حديثه اللاهب: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (2) {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (3)
وحين يتحدث المسيح في المهد يقول في مطلع ما يقول: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} (4) هذه هي اللفتات القرآنية الوامضة التي خصت الأمومة بحديثها العذب وتنغيمها المسحور، وهناك لفتات قرآنية أخرى تناولت الأمومة بحديثها الفياض، ولكنه تناول ضمني في معرض الحديث عن الوالدين جميعا. . وأرهف السمع معي إلى هذه الآيات:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (5)
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (6)
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (7)
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (8) {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (9)
وهنا أفسح المجال للشيخ محمود شلتوت - رحمه الله - يحدثنا في كتابه " الإسلام عقيدة وشريعة " فيقول: " والذي أحب أن أنبه إليه أن القرآن حينما جاء بوصايا احترام الوالدين جميعا وبتخصيص الأم " بنوع من العناية. . جاء منظما لما تقتضيه فطرة الخلق والتكوين، وما تقتضيه عاطفة الحنو والشفقة التي أودعها الله في قلب المرأة لولدها، وبها احتملت ما احتملت في الحمل والإرضاع والتربية الأولى والسهر على حفظ صحته وسلامته مما يخطو به في مراحل الحياة الشاقة ". .
* * *
وأظنك لست تجهل ذلك الموقف القرآني الواسع الذي تعكس نبضاته الإنسانية سورة " المجادلة ". . ولكن لا بأس من أن نقف أمامه لحظات، نعيشها مع ذلك الأفق المترامي العملاق. إن
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 6
(2) سورة لقمان الآية 14
(3) سورة الأحقاف الآية 15
(4) سورة مريم الآية 32
(5) سورة البقرة الآية 83
(6) سورة النساء الآية 36
(7) سورة الأنعام الآية 151
(8) سورة الإسراء الآية 23
(9) سورة الإسراء الآية 24(2/260)
الإسلام لم يرتفع بالإنسانة الأنثى إلى مصاف المساواة مع أخيها الرجل فحسب. . وإنما أبرز لها صفحة أخرى. . صفحة الكائن الفذ الذي لا يضيع رأيه في غمار الآراء. . أليست " خولة بنت ثعلبة " هي التي أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو له زوجها أوس بن الصامت. . حين قال لها: " أنت علي كظهر أمي " وكان الرجل في الجاهلية إذا قال مثل هذا لزوجته حرمت عليه، ثم دعاها. . فأبت، وقالت: والذي نفس خولة بيده، لا تصل إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله.
ثم أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله. . إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب في، فلما خلا سني، ونثرت بطني، جعلني عليه كأمه وتركني إلى غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني بها وإياه فحدثني بها. .
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن. . وما أراك إلا قد حرمت عليه» فقالت: " ما ذكر طلاقا يا رسول الله؟ وأخذت تجادل النبي وتكرر عليه القول، والنبي لا يزيد على أن يقول لها: «ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن» ... هنالك تلجأ المرأة إلى أمومتها عساها أن تطرق بها باب السماء فينفتح. . أو تعطف بها قلب الرسول فيضرع من أجلها لله. .
فتقول: يا رسول الله. . إن لي منه صبية صغارا. . إن ضممتهم إليه ضاعوا. . وإن ضممتهم إلي جاعوا، وجعلت ترفع طرفها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك، اللهم فأنزل على لسان نبيك. . وما برحت حتى نزلت الآيات إرسالا:
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (1) {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (2) {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (3) {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4)
في القرآن مجالات أخرى تتألق فيها كرامة المرأة " كأم " وإن لم تكن هذه المجالات مفتوحة أو مباشرة، ولكنها أبدا لا تستتر أمام من يحاول التعمق، أو يجهد في البحث، أو يتأنى في تأمل الآيات. .
إنني ألمح من وراء الموقف القرآني في لحظات الطلاق، بالتحكيم، والوعظ، والهجر، والضرب قبل
__________
(1) سورة المجادلة الآية 1
(2) سورة المجادلة الآية 2
(3) سورة المجادلة الآية 3
(4) سورة المجادلة الآية 4(2/261)
الفراق. . ثم بالمراجعة الهينة الميسورة بعد الفراق. . محاولة هادفة، وجادة، ومضيئة. . للإبقاء على قداسة " الأمومة " الفاضلة التي قد تتعرض بعد الطلاق لعزوبة قاسية. . قد تنحرف بها هنا أو هناك. . {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (1) {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (2)
وهكذا يظهر بوضوح وصدق مدى اهتمامات القرآن الكريم بالأمومة، حتى ليخيل إلينا من طول ما تحدث عنها في جوانبها المتعددة الكثار. . أننا بإزائها الآن. . كما تكون الأنامل الرقيقة الشاخصة، المشيرة في خجل وارتعاش إلى أبعاد فجر رائع جديد.
* * *
__________
(1) سورة النساء الآية 34
(2) سورة النساء الآية 35(2/262)
الأستاذ: محمد أحمد العزب
مدرس الأدب والنقد بكلية اللغة العربية - جامعة الأزهر - بأسيوط
مؤلفاته:
1 - أبعاد غائمة (ديوان شعر) .
2 - مسافر في التاريخ (ديوان شعر) .
3 - دراسات في الأدب.
4 - دراسات في الشعر.
5 - دراسات في الفكر الإسلامي.
6 - التراجم الغيرية في الأدب العربي الحديث.
مشاركاته في الحياة الأدبية:
له مشاركات في الحياة الأدبية من خلال الدوريات التالية:
التضامن الإسلامي، والرابطة الإسلامية، والدعوة، وقافلة الزيت (السعودية) ، والعربي، والوعي الإسلامي، والكويت، والبيان (الكويتية) ، والأديب (اللبنانية) ، والثقافة، والشعر، والأزهر (المصرية) وغيرها. .
إلى جانب إسهامه المستمر في الندوات والمؤتمرات واللقاءات الفكرية والعقائدية.
العنوان: القاهرة - الأهرام - بجري مدينة حسن محمد - شارع مكة.(2/263)
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (1)
__________
(1) سورة النحل الآية 89(2/264)
مصطفى كمال وصفي (1) .
الحسبة والنظام الإداري
يقرر الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه الطرق الحكمية: أن جميع الولايات ترد إلى الحسبة. فهي - في أصلها - أمر بمعروف ظهر تركه أو نهي عن منكر ظهر فعله.
ولم يستثن من ذلك سوى أعمال التوثيق، أي أعمال كتابة الإشهادات وتحرير الأحكام ونحو ذلك، فقد أضاف هذه الأعمال إلى هذا الأصل العام الكبير، مبينا أن الولايات: إما أن ترد إلى هذا أو إلى ذاك.
__________
(1) دكتور مصطفى كمال وصفي مستشار بمجلس الدولة المصري ـ مستشار التوعية الإسلامية بوزارة الحج والأوقاف.(2/265)
ونظرا لاستغراق الحسبة لمعظم الولايات، وبسطها ظلها على جل الولايات الإسلامية، وأن ولاية التوثيق - إذا نظرنا إلى موضوعها ومادتها - إنما تنصب إلى تقرير وتحرير وإثبات ما هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإننا نجد - في النهاية - أن الحسبة هي الأساس الظاهر للولايات الإسلامية.
أي أن النظام الإداري الإسلامي - الذي تديره هذه الولايات العامة - أساسه العام هو الحسبة. فهي قطب الرحاة فيه وحجر الزاوية في بنائه.
* * *(2/266)
ما هو النظام الإداري الإسلامي؟ وقيام الأفراد به:
وقبل أن نسير في عرض الموضوع نحب أن ننبه إلى حقيقة قد تغيب عن الكثيرين. وهي أن النظام الإداري الإسلامي لا يقوم على الجهاز الحكومي فقط كما هو الحال في النظام الحديث، بل هو يقوم - بصفة أساسية - على الأفراد.
فالنظم الحديثة تجعل ولاية إدارة المرافق العامة احتكارا للسلطة. وهي وحدها التي تقوم بها بصورة " سلطة عامة " تمارس على الأفراد ما نسميه " بالامتيازات الإدارية " وهي وسائل خاصة تتسلط بها على الأفراد وتقهرهم بها، لتتمكن من السير بالمصالح العمومية المتمثلة - في النظم الحديثة - في تسيير المرافق العامة.
وأما إذا قام الفرد بخدمة من الخدمات العادية (كالنقل الحر، أو بيع الأدوية والأطعمة والضروريات) فإنه لا يتمتع في ذلك بالامتيازات الإدارية المذكورة، ولا يقوم بهذه الأعمال كسلطة عامة، وبالطريقة والوسائل التي تقوم بها الحكومة لو أنها قامت بذات هذه الأعمال.
* * *(2/266)
فأما في الإسلام فإن الأصل هو أن يتولى الأفراد المرافق العامة كلها.
وسبب ذلك أن القيام بالمصالح عندنا فرض كفاية، وأنه إذا تخلف المسلمون عنها فإنهم يأثمون جميعا.
فتفاديا لهذا الإثم العام يقوم الأفراد عندنا في الإسلام أصالة عن أنفسهم بأعمال هي من النوع الذي تقوم به الدول العصرية.
فالأفراد عندنا مكلفون مباشرة بأن يعبدوا الطرق وينشئوا الجسور ويقيموا المستشفيات والمدارس والمساجد ونحو مما يلزم الحاجة العامة. نعم إذا كان بيت المال قادرا على ذلك قام به. ولكن إذا لم يكن بيت المال قادرا عليه، أو أهمله، فإن ذلك لا يعفي الأفراد من واجب إقامتهم لهذه المصالح ورعايتهم لها، ولا يكون تخلف السلطة العامة عنها عذرا لهم في فسادها.
وقد ترك هذا آثارا ظاهرة في الأحكام. منها: قيام نظام الوقف كنظام أساسي في الشريعة الإسلامية.
فالواقع أن الوقف هو " تنظيم مالي " للإنفاق على مرفق من المرافق الإدارية العامة. فهي كلها مصالح عامة مما يلزم الجمهور ويحتاجون لها كخدمات عامة في حياتهم. فالأوقاف ترصد على العلاج والتعليم والإحسان والدفن والمصالح المختلفة وهي كلها في حقيقتها وجوهرها من قبيل الخدمات الإدارية التي تقوم بها الدول الحديثة. وذات طبيعة إدارية محضة إذا نظرنا إليها بمعيار نظرة النظم الحديثة. وإنما واجهت الشريعة واجب الإنفاق الدائم على هذه الخدمات بوسيلة مناسبة هي: إيجاد المصرف المالي الدائم عليها باعتبارها جهات بر لا ينقضي.
ومنها: أحكام إصلاح الطرق والجسور والأنهار وكريها وتطهيرها.
فإن الشريعة الإسلامية تنظر إلى الطريق العام وكأنه ملك مشترك بين المنتفعين. وكذا الحال بالنسبة للمساقي ومجاري المياه والأنهار. وقد صرح الأحناف بأن هذه الحالة تعتبر " شركة إباحة " بين هؤلاء المنتفعين، وعلى هذا الأساس ألقت عليهم الواجب المباشر والتكليف بذات الالتزامات التي تقوم بها السلطات الإدارية العامة في النظم الحديثة.
وهكذا يمكن القول في سائر الاحتياجات العامة. فلا شك أن الناس يأثمون إذ تركوا أنفسهم في مشقة تهدد أمور حياتهم. فإنهم إذ خلت قريتهم أو ناحيتهم من طبيب - مما يهدد حفظ النفس والنسل - فإنهم يأثمون حتى يستقدموا طبيبا وحتى يندبوا من أبنائهم من يقوم بملء هذا الفراغ. . وهذه وظيفة إدارية حقيقية. وتقوم(2/267)
بها الدول في النظم الحديثة ويقتصر دور الأفراد في ذلك على أن يجأروا بالشكوى والتذمر من الحكومة دون أن يقوموا إيجابيا بهذا العمل؛ لأن النظم الحديثة لا تتصور أن يكون للأفراد ولاية على المرافق العامة إلى هذه الدرجة.
* * *(2/268)
أهمية الحسبة في النظام الإسلامي
فإذا كان الأفراد عندنا يقومون بالمرافق العامة في الإسلام، فإن ذلك يتطلب تمكينهم من الوسائل التي يقومون بها بذلك.
إذ ليس من المعقول أن يقوم الإنسان بواجب يتكلفه بلا وسائل. . ولا يستقيم النظام ولا يتزن إلا بتمكينه من تلك الوسائل. وهذه الوسائل هي التي يكون منها صلب الحسبة. ونحن إذا لم نعترف بها للفرد في الإسلام، اختل توازن النظام الإداري الإسلامي، وعدم وسائله الحقيقية التي يتحقق بها. ولا بد إذن لاستقامة الحياة الإسلامية بوسائلها الإسلامية الحقيقية الأصلية الصحيحة من الاعتراف بنظام الحسبة كعنصر عملي إيجابي فعال لإقامة النظام الإداري الإسلامي على وجهه الصحيح.
* * *(2/268)
النظم الحديثة والحسبة
أما النظم الحديثة فهي تقوم على أسس وأصول تجعلها تستغني عن الحسبة وتجعل السلطة كلها في يد الدولة، وإن كان ذلك يؤدي إلى أضرار جسيمة. فالدولة عندهم هي الواضعة لجميع النظم. فهي - في تعبيرهم - تنشأ نشوءا ذاتيا بذاتها. فإذا نشأت على هذا الوجه فإنها تحدد النظام تحديدا ذاتيا.(2/268)
وتحدد القوانين تحديدا ذاتيا. وتصدرها استنادا إلى سلطتها الوضعية المطلقة. وبذلك فإن السبب في احترام هذه القوانين وقوتها عندهم هو أنها صادرة عن الدولة. فعلتها شكلها فقط ولا بحث وراء ذلك في العدالة إلا إذا لم يوجد قانون. ولذلك فإن اعتبارات السلطة والتحكم قوية جدا في تلك النظم. ولكنها تترك للإنسان مجالا خاصا في شئونه الخاصة الداخلية على وجه مطلق. وبذلك فهي تترك للأفراد مجال حرياتهم الخاصة والشخصية والفردية - في حدود القانون - وتقيد مساهمتهم في الحياة العامة بشكل يكاد يجعل هذه المساهمة لاغية ولا قيمة لها.
وأما في مجال الحقوق العامة فهذه النظم العصرية شديدة الوطأة على الفرد بسبب أنها تجعل الدولة وحدها هي المحتكرة الأولى للسلطة. ففي الحقوق الدستورية: لا يملك الفرد في النظم العصرية أن يباشر شيئا بصفة الفردية الخاصة. بل كل حقوقه معلقة ومنوطة ومقيدة بأن يمارسها بصفته عضوا في هيئة من الهيئات ولا يتأتى له الاستقلال بكيانه في شيء. ففي استعماله لحقه في الانتخاب يدلي بصوته - أيا كان قيمته - كعضو في الهيئة العامة للناخبين. ويتكون القرار النهائي الصادر بإنجاح الفائز من مجموع الأصوات التي أبديت في الانتخاب. وكذا في المشروعات والقرارات التي يقرها البرلمان أو نحوه من مجالس السلطة التشريعية المكونة من نواب منتخبين عن الشعب، فإنها كلها تصدر بقرار من الأغلبية، وكذا قرارات المجالس، كمجلس الوزراء فما دون، واللجان داخل مجلس الشعب أو خارجه وفي أنواع الإدارات المركزية والمحلية والمتفرعة. . كل ذلك يكون بالأغلبية ولا يملك فرد بصفته الخاصة شيئا.
وهذا التصوير البراق يخفي حقيقة مؤلمة: هي أن هذه الأشكال كلها تنطوي على التحكم والاستبداد. . فإن الانتخابات التي تدور بين حزبين فأكثر إنما تدور على أساس برنامج يضعه كل حزب. وهذا البرنامج يضعه واحد هو رئيس الحزب، أو - بالكثير - بمشاركة القلة من أصحاب القوى والنفوذ في الحزب. وتأتي المجالس الشعبية - التي تحوز السلطة التشريعية - لتنفذ هذا البرنامج؛ لأنها نجحت على أساسه. . وينظر إلى المعارض داخل الحزب نظرة خاصة قد تطيح به. . وهذا هو الحال في المجالس بأنواعها، وفي مجالس الإدارات العامة كمجالس المؤسسات العامة، ومجالس الإدارات الخاصة، وتسير الحياة سيرا احتكاريا في ثوب خادع من حرير الحرية الناعمة حتى أصبحت الوسائل القابضة من أهم مظاهر الحياة الحديثة وأصبح التحكم والاحتكار في الحياة العامة والخاصة من أعقد العيوب التي تعاني منها الحياة العصرية. وأصبح الكيان الحقيقي للفرد هو لا شيء. . وصفر بلا رقم صحيح أو كسر. .(2/269)
وفي النظام الإداري وجدت هذه الظاهرة بأقسى صورها في البداية، إذ الحقيقة أن النظم الوضعية تحتقر الفرد. وتضحك عليه وتخدعه للحصول على النفوذ والسلطان بواسطة الكوادر والأغلبيات العددية.
وفي البداية قيل: إن أساس النظام الإداري، والمبرر الذي يسوغ وجوده - كقانون استثنائي يعطي الإدارة امتيازات القهر والجبر على الأفراد - هو احتياج الإدارة لهذه الامتيازات ذاتها. فجعلت الامتيازات واعتبارات السلطة والحاجة إلى إعلاء الصالح العام على الصالح الخاص أساسا لذلك القانون.
وهذا الأساس كان شديد التجاهل والقسوة على الأفراد فكان يبرر الوسائل الإدارية مهما كانت شدتها، كالشروط غير المألوفة في العقود الإدارية والتنفيذ المباشر بالطريق الإداري بصورة متوسع فيها.
وكان من الطبيعي أن يتعدل هذا الأساس نحو احترام الناس والشعور بوجودهم.
فقيل بأن الأساس الذي يبرر وجود قانون إداري مخصوص (يتصف بصفات الشدة السابق ذكرها) هو ضرورة تسيير المرافق العامة. فإن هذه الضرورة هي التي قالوا: إنها تبرر قيام قانون إداري إلى جانب القانونين المدني والتجاري اللذين ينظمان علاقات الأفراد. وكان ذلك في منتصف القرن الميلادي الماضي.
وكان اتخاذ مبدأ " تسيير المرافق العامة " أساسا للقانون الإداري أكثر شعورا بالجمهور واحتياجاتهم فلم يقتصر هذا القانون على تنظيم الامتيازات الإدارية، بل أبصر بنواح من مصالح الشعب، وذلك على أساس أن المرافق العامة هي خدمات تؤدى إلى المنتفعين بها، وأن لهم حقوقا في الطعن على ما يخل بهذا الانتفاع، وأنه يجب أن تراعى أوضاعهم كهيئة لها كيان خاص في مقابل هيئة الإدارة في كيانها. .
ونشأت في هذه النظم الوضعية كثير من النظريات والوسائل التي كانت تعتبر تقدمية في وقتها. وكانت موضع فخرهم واعتزازهم الشديد.
ثم تطور الزمان مرة أخرى. فقد وجدوا أن انفصال السلطة عن الشعب لهذه الدرجة التي قام عليها نظامهم من قبل، يجعل صراعا حقيقيا بين العنصرين، وهما في الحقيقة أمة واحدة.
فإن السلطة تسعى لمصلحة المجموع. والشعب يسعى لمصلحة المجموع. وأنهما يتلاقيان في هدفهما وغرضهما. وأن الحقيقة - كما تكشفت لهم - هي أن الحكومة يجب أن تعمل وفقا " للروح الشعبية ".
وإنه لا فائدة من الكيان الفردي إلا إذا انفعل وتحمس بهذه الروح العامة - أي الروح الشعبية - التي يجب أن تعمر كيان الأمة وتجعلها متحمسة ومنفعلة بالعقيدة العامة والإيمان العام الذي يرتبط به الجميع.(2/270)
ولم يكن لحديث الإيمان محل قبل ذلك إلا في مناسبات خاصة كأوقات الحروب والثورات، أو الخطب التي لا معنى لها عندهم. .
* * *
ولكن حدث منذ أوائل هذا القرن أن بدأت أوروبا وغيرها بالشعور بضرورة الإيمان وبأن تقوم على أساسه روح شعبية تدفع الجماعة إلى الأمام.
فالموظف يجب - وهو يعمل - أن يشعر أن عواقب إدارته وآثارها تعود عليه.
وأن صالحها وسيئها إنما ينصرف إليه وإلى أسرته في صميم حياته الخاصة ومختلف ما يحتاج إليه.
وكذا القاضي فإنه يجب أن يعلم أن آثار العدالة تعم الجميع وتناوله فيمن تنصرف إليه من المواطنين. وإذا ساعد اليوم على إرساء الظلم فستدور عليه دوائره غدا.
وكذا المشرع الذي يسن القوانين، فإنه سينطبق عليه كمن ينطبق عليه من عامة الشعب.
وبذلك تكون السلطة من الشعب وإلى الشعب، إذ يتولاها الموظف أو القاضي أو المشرع كفرد من الشعب يعمل بروحه الشعبية وعالما بأن مآل عمله إليه وإلى أفراد أسرته وأهله كجزء من الشعب.
وبهذا بدأ النظام الإداري يتجه إلى أن يقوم على أساس الروح الشعبية، وإن كان هذا الاتجاه لم يستقر تماما ولم يتأسس بعد على وجهه؛ لأن الواقع أن " الإيمان " والحاجة إليه في تلك البلاد لم يتغلغل إلى صميم الناس بعد، وما زالوا في غفلة لاعبين، وإنما عرف مفكروهم ومنظموهم أخيرا قيمة الحاجة إليه، وشرعوا في التنبيه له والتنظيم على أساسه. وبديهي أن " إيمانهم " كإيماننا. . وهذا موضوع آخر لا نريد أن نخوض فيه الآن لضيق المجال. وقد ظهرت آثار هذه الاتجاهات الشعبية في الوسائل الجديدة التي بدأت تظهر في مجالات الأعمال العامة.
من ذلك توسيع حقوق الأفراد في الطعن في القرارات العامة، حتى أراد البعض أن يقرر ما يسمى " بالدعوى الشعبية " وهي أخت دعوى الحسبة وقرينتها، ولكن الأفكار الوضعية الكليلة لم تحتمل مثل هذا التقدم الشديد.(2/271)
وكذلك أنشئت شخصيات رقابية كبرى - لها هيمنة على السلطات في مختلف النواحي في الغالب - من طراز جديد لحساب الروح الشعبية وأهمها شخصية " أمبودزمان " في السويد، وشخصية مقاربة منها في فرنسا أنشئت في سنة 1973 ميلادية باسم الوسيط (انترميديير) ومنها شخصية " المدعي الاشتراكي " في مصر، وهم جميعا يعملون على إعلاء الروح الشعبية وحمايتها، ولكن مكانة هؤلاء الأشخاص وقوة شخصيتهم وإنتاجية وسائلهم تختلف اختلافا حسب الظروف، وهي كلها لم تقرر تقاليدها وحدود علاقاتها بالسلطات التقليدية - التشريعية والقضائية والتنفيذية - وما زالت أوضاعها تثير الكثير من المشاكل والبحوث التي لم يستقر الرأي فيها بعد. .
واتجهت طرق الإدارة إلى العناية " بالإدارة الشعبية " بإشراك العمال والمنتفعين أو المستهلكين في مجالس الإدارة ومساهمة الشعب في تكوين القرارات العامة.
وهذه الوسائل الشعبية أيضا قشرية وليست حقيقة؛ لأن العامل أو المستهلك الذي يجلس في مجلس الإدارة يكون ضعيفا إلى جانب المديرين الحقيقيين الذين يعلمون حقيقة الحال ويطلعون على أصول الأوراق في حينها ويتناولون الوقائع فور حدوثها، ويباشرون الإدارة اليومية ويتمتعون بنفوذ فعلي في المشروع. . فضلا عن أنه لا يعين ولا يبقى في هذه المجالس إلا الشديد الولاء والخضوع. . وإلا أسفر الأمر عن نزاع خطير، وخاصة في حالة وجود نقابات وتشكيلات مقابلة. . وبذلك إما أن تسفر هذه الاتجاهات عن أوضاع صورية - وهو الغالب - أو تسفر عن منازعات وصراع لا ينتهي. .
* * *(2/272)
الوضع في الإسلام
والأساس الذي يرتكز عليه النظام الإسلامي كله - في جميع نواحيه - على الإيمان بالتوحيد. وهو إيمان يرتكز على العمل بما أنزل الله تعالى من نصوص الكتاب والسنة وتحري المصالح والمقاصد الشرعية التي يدور الاجتهاد في إطارها.
فالإيمان عندنا نية وقول وعمل.
والالتزام بالعمل بما أمر الله به، ومنع ما نهى الله عنه، هو التزام إيجابي عندنا في الإسلام، بسبب ما بيناه من أنه مقرر على وجه فرض الكفاية التي يأثم الجميع بتركها، والذي يولد حالة من التضامن العام بين الجميع في إقرار أحكام الله وإعلانها.(2/272)
وهذه الظاهرة العامة توجد فوارق شديدة من مركز الفرد المسلم في المجتمع الإسلامي، ومركز الفرد المواطن في المجتمع الحديث: أولا: أن الحقوق والحريات في المجتمع الإسلامي هي تكاليف وليست تمتعا ذاتيا كما في المجتمع العصري.
ومن أجل ذلك عنيت كتب أصول الفقه بأبواب. " التكليف " ونظرت إلى مراكز الأفراد على أنها وسائل في سبيل الله سبحانه وتعالى.
فالفرد يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، ويجب أن تتوجه نواياه نحو الإخلاص لله.
ومن أظهر ما يظهر فيه ذلك: أن يراقب صالح عامة المسلمين وصالح الكافة في أعماله، وهذا يجعله أصيل في متابعة المصالح العمومية.
ثانيا أن الفرد في المجتمع الإسلامي لا يمارس حقوقه فقط كعضو في هيئة، بل بصفة أصلية مباشرة وقد يتأتى أن يمثل الفرد المسلم في المجتمع كافة المسلمين، بما يقوم به لقوله صلى الله عليه وسلم: «ذمة المسلمين واحدة ويسعى بها أدناهم (1) » قيل: أي أقلهم كالمرأة والرقيق، وقيل: أقربهم؛ لأنه أولى بأن يجير ويبادر. وقد استند الفقهاء إلى هذا الحديث في أبواب الإمامة. ولكن أراه - والله أعلم - أولى بأن يعمل به في مختلف الأبواب لما قلناه من أن إقامة المصالح فرض كفاية يسد مسد قيام الكافة به. ولذلك فقيامه بالمصلحة على هذا الأساس يكون عن المسلمين جميعا، وهم يعتمدونه ما دامت طبقا لما أنزل الله وما تدور عليه المصالح الشرعية بلا خفاء لوضوح أسس النظام الإسلامي وثباته.
ثالثا: أن ما تقدم استتبع أن يمكن المسلم من وسائل إيجابية للقيام بما تقدم، بأن يستعمل إمكانياته كوسائل لتحقيق ما أمر الله به ومنع ما نهى الله عنه. وهذه الوسائل الخاصة هي محل الكلام في الحسبة وطرقها ومراتبها. فإن صلب هذا الباب وقوامه هو تحقيق هذه الطرق وهذه المراتب على وجه يحقق المصالح الشرعية المقصودة ويوازن بين مختلف المصالح التي تعتمل حولها النوازل.
وقد تصل هذه الطرق إلى درجة أخذ الحق باليد وتغيير الباطل بالفعل المباشر، بأن يقوم المسلم بتغيير المنكر بيده لقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده (2) » . . . الحديث.
ويختلف ذلك من مذهب إلى مذهب، وفي الغالب بسب الدرجة الحضارية التي عاش فيها المذهب، إذ أنني لاحظت - والله أعلم - أن أحكام مذهب عاش في الأطراف وفي الجماعات التي لم تنتظمها دول قوية
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7300) ، صحيح مسلم الحج (1370) ، سنن الترمذي الولاء والهبة (2127) ، سنن النسائي القسامة (4734) ، سنن أبو داود المناسك (2034) ، مسند أحمد بن حنبل (1/151) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(2/273)
كمذهب الأباضية مثلا - تختلف عن أحكام المذاهب التي عايشت الدول القوية كالحنفية مثلا. إذ أن الأولى تسمح للمسلم دائما أن يغير بيده، بينما تتجه الثانية في الغالب إلى أن يقوده إلى السلطان أو الحاكم (القاضي) وبعضها الآخر - وهو الغالب - يضع حكما احتياطيا بصفة دائمة إذا لم يوجد سلطان أو حاكم.
ولا يكاد يوجد خلاف في المذاهب في إتلاف آلات اللهو والكفر وإراقة الخمر عند القدرة وأمن الفتنة وهذه كلها من وسائل " التنفيذ المباشر " بالمصطلح الحديث وهو لا يجوز في القانون الحديث، فلا يسمح للإنسان فيه أن يسترد ماله من غاصب - وهو جائز عندنا في الإسلام - ولا يجوز في القانون الحديث بأي حال " أخذ الحق باليد " على حد تعبيرهم. ومن أجل ذلك فإن النظم الحديثة تعتمد على الدولة فقط وتنهدم تماما بانهدامها، بينما يبقى الإسلام ما استدار الزمان وتغيرت أحواله. وما كان الله ليجعل قيام الإسلام رهين أحوال الدولة وإلى الله ترجع الأمور. وكذلك فإن الإسلام يزود الفرد بوسيلة قضائية عظيمة القيمة هي دعوة الحسبة.
* * *
وفي الواقع فإن هذه الدعاوى الثلاث التي عرفها النظام الإسلامي، وهي الدعوى القضائية العادية، ودعوى الحسبة، ودعوى المظالم، تهيئ حماية كاملة للتطبيق الإسلامي بتكامل وتكفل حماية ممارسة الفرد لواجباته الشرعية بمأمن تام وتوازن بالغ.
فإنه إذا قام المسلم - مثلا - بإتلاف آلة للفسوق فإن هذا العمل المباشر يقوم مقام رفعه الدعوى أمام القاضي بطلب إتلافها واستصدار الحكم اللازم وتنفيذه فورا على الفاسق، الذي يكون - في الواقع، مدعا عليه في الأصل. . ولكن هذه الوسيلة الباهرة تضطر هذا الفاسق إلى الابتداء بالدعوى والتقدم بها إذا تظلم من إتلاف آلته أو منعه بالقوة عن فسوقه. . ويصير المسلم الذي منعه عن هذا المنكر وكأنه المدعى عليه فيها، ولا يخفى ما يتمتع به المرفوع عليه الدعوى من امتياز في الإجراءات، وما يتكلفه رافعها من صعوبة. . كما أنه إذا كان المنتظر - بسبب تطبيق قواعد الإسلام على وجهها الصحيح - أن الدعوى التي يقيمها الفاسق في هذه الحالة سيكون نصيبها الرفض والخسران، فإنه - في الواقع - سيضطر إذن إلى عدم الاعتراض والسكوت، مما إلى جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما دام القضاء والسلطة يؤيدان من يقوم بها.
وبذلك تؤدي هذه الوسائل وظيفتها بأمان تام من الفتنة، ولو أنها نفذت تنفيذا جبريا بالطريق المباشر بين الأفراد.(2/274)
هذا ولا يفوتنا قبل الانتهاء من هذه الملاحظات البسيطة على نظام الحسبة والنظام الإداري أن ننوه بأن كل الولايات الإدارية المعاصرة هي من قبيل الحسبة أيضا. فالنيابة العمومية والرقابة الإدارية والشرطة والقضاة والمفتشون والمعلمون والقائمون بالإعلام والتوعية وحماة النظام من أي نوع ومنفذوه والقائمون بالمرافق العامة هم آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر وقائمون بالحسبة.
وأما الأعمال التنفيذية البحتة - ومنها أعمال التوثيق السابق ذكرها - فلا يعتبرها القانون الحديث أعمالا إدارية بالمعنى المفهوم بل هي - في نظره - أعمال مادية لا ترقى إلى مرتبة التصرفات الإدارية.
وبذلك فمن الممكن - بل الواجب - الإفادة من أصول نظرية الحسبة في الدول العصرية الإسلامية مع ما بيناه من التعويل على الفرد في إقامة النظام الإداري على ما بيناه.(2/275)
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (1)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 82(2/276)
ناجي الطنطاوي
الحديث عن لو
كلمة (لو) لفظ صغير في تركيبه ومبناه، ولكنه كبير في دلالته ومعناه، تنظر إليه ببصرك نظر من يرى الشيء في ظاهره فلا يكاد يملأ عينيك ولا يكاد. . يجذبك إليه، ولا يثير في حنايا نفسك شعورا بالاهتمام به والانصراف إليه، ولا تحس برغبة في العناية بما يحمل في طياته من معان وعظات.
وهو لفظ مركب من حرفين فقط تجاورا أمدا طويلا. وارتبطا برباط الألفة والجوار فلم يفارق أحدهما صاحبه. وهو لفظ سهل النطق يخرج من بين الشفتين في خفة ورقة، ويسر وسهولة، دون(2/277)
أن تتكلف له أو تتهيبه أو توليه العناية، وأنت تحسب للنظرة الأولى أنه لا يستحق منك الالتفات إليه ولا التفكير فيه، ولا البحث عن السر الذي يكمن في ثناياه وحواشيه، ويغيب عن ذهنك أن الصغير الضئيل ربما استوفز فخلف وراءه الأثر الكبير، وقديما قال الشاعر:
لا تحقرن صغيرا في مخامصة ... إن البعوضة تدمي مهجة الأسد
ويحفزنا الحديث عن (لو) إلى الكلام عنها من الناحية اللغوية النحوية، ومن الناحية الشرعية أيضا لأن الرباط بين علوم اللغة العربية وعلوم الشريعة رباط وثيق لا تنفصم عراه، ولا يتطرق إليه الوهن، فاللغة العربية هي لغة القرآن، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (2) {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (3) {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (4)
* * *
فلسان العرب هو اللسان الذي نزل به الكتاب، وهو اللسان الذي وردت به الأحاديث الشريفة النبوية وليس هناك من سبيل لفهم نصوص الكتاب والسنة إذا جهل المرء قواعد اللغة العربية.
يروى عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: جودوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات، وأعربوه فإنه عربي والله يحب أن يعرب به. وعن مكحول قال: بلغني أن من قرأ بإعراب كان له من الأجر ضعفان ممن قرأ بغير إعراب. وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي» . ولو أنك أمعنت النظر في كتب التفاسير لرأيت للشروح اللغوية وللإشارات البلاغية نصيبا وافرا منها ومن كان محروما من معرفة اللغة العربية وأساليبها ودقائقها، أو كان قليل البضاعة من علومها كان من
__________
(1) سورة الشعراء الآية 192
(2) سورة الشعراء الآية 193
(3) سورة الشعراء الآية 194
(4) سورة الشعراء الآية 195(2/278)
العسير عليه تذوق نصوصها ومعرفة معاني الآيات التي يتعبد ربه بتلاوتها، ولم يجد في نفسه تلك المتعة التي يحس بها من أجاد قواعد اللغة وتمكن من معاني مفرداتها، ورب خطأ غير مقصود في كلمة من كلمات القرآن الكريم أو في حرف من حروفه أو في حركة من حركاته في الإعراب أدى إلى عكس المقصود منه. بل لعله يؤدي إلى الكفر كما حدث لذلك الأعرابي الذي قدم المدينة في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: من يقرئني مما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ فأقرأه رجل سورة براءة فلما بلغ إلى قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (1) قرأها بكسر لام رسوله، فقال الأعرابي: أو بريء الله من رسوله؟ فإن يكن الله بريء من رسوله فأنا أبرأ منه. . فبلغ عمر مقالة الأعرابي فدعاه فقال: يا أعرابي أتبرأ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني قدمت المدينة ولا علم لي بالقرآن فسألت من يقرئني فأقرأني هذا سورة براءة فقال: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (2) فقلت: أو قد برئ الله من رسوله؟ إن يكن برئ منه فأنا أبرأ منه فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي، قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ قال: ورسوله (بالضم) فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما بريء الله ورسوله منه. فأمر عمر أن لا يقرئ الناس إلا عالم باللغة وأمر أبا الأسود فوضع النحو.
وصنف بعض العلماء كتبا في إعراب القرآن مثل الإمام أبي البقاء العكبري وابن خالويه وغيرهما، وصنف آخرون في بلاغة القرآن وفي إعجازه، بل إن الأمثلة في مصنفات علم النحو والبلاغة التي استشهد بها المؤلفون كان أكثرها مستمدا من القرآن الكريم والحديث الشريف.
* * *
ونعود إلى الحديث عن (لو) بعد هذه المقدمة فنقول: إنها عند أهل اللغة وعلماء النحو (حرف امتناع لامتناع) تقول: (لو ذهبت معنا لسررت) فامتنع سرورك لامتناع ذهابك؛ لأن الأول متعلق بالثاني ومشروط بوجود ومنه قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} (3) وهذا بخلاف (لولا) فهي حرف امتناع للوجود، تقول: (لولا رحمة الله لهلك الناس) فوجودها منع هلاكهم. وذكر (ابن هشام) (4) أنها تقتضي امتناع شرطها دائما لا جوابها، ثم إن لم يكن لجوابها سبب غيره لزمه امتناعه نحو {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} (5)
__________
(1) سورة التوبة الآية 3
(2) سورة التوبة الآية 3
(3) سورة التوبة الآية 47
(4) في كتابه أوضح المسالك (3 ـ 203)
(5) سورة الأعراف الآية 176(2/279)
وكقولك: (لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا) وتختص مطلقا بالفعل يأتي بعدها، ويجوز أن يليها اسم معمول لفعل محذوف يفسره ما بعده مثل (لو غيرك قالها) وكثيرا ما تأتي بعدها (أن) وصلتها نحو {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} (1)
وتعتبر (لو) من حروف التمني كقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} (2) فقد تمنى لوط عليه السلام لو أنه وجد عونا على رد قومه وإبعادهم عن أضيافه. وقال القرطبي: (أن) في موضع رفع بفعل مضمر تقديره (لو اتفق أو وقع) وهذا يطرد في (أن) التابعة لـ (لو) وجواب (لو) محذوف أي لرددت أهل الفساد.
وهي أيضا حرف (عرض وطلب) كقولك لصاحبك: (لو تجلس عنا فتستفيد علما) فأنت تعرض عليه الجلوس وتطلبه منه.
وتأتي أيضا (للحض) كأن تقول لصاحبك: (لو فعلت كذا) أي افعل كذا تحضه على الفعل. وهي من (الأحرف المصدرية) تجعل ما بعدها في تأويل مصدر فترادف (أن) المصدرية تقول: (أحب أن تعمل معي فتصيب خيرا) أي إنني أحب عملك معي، وتسمى في مثل هذه الحال (موصولا إضافيا) يوصل بما بعده فيجعله في تأويل مصدر، وأكثر وقوعها بعد فعل (ود) - كما قال ابن هشام (3) - نحو قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (4) وقوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} (5) ومنه قول قتيلة:
__________
(1) سورة الحجرات الآية 5
(2) سورة هود الآية 80
(3) في كتاب أوضح المسالك (3 ـ 199) .
(4) سورة القلم الآية 9
(5) سورة البقرة الآية 96(2/280)
وهي أيضا من (حروف الشرط) للمستقبل، وفي هذه الحال لا تفيد الامتناع نحو قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} (1) يعني أن يتركوا، وكلمة (خافوا) في تتمة الآية ماض جواب الشرط والتقدير (لو تركوا لخافوا) وحذفت اللام هنا من جواب الشرط، وهو جائز كما في قوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} (2) ولم تحذف في قوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} (3) وإثبات اللام أكثر، أما إذا جاء جوابها منفيا فالأكثر حذفها نحو قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} (4) وتأتي أيضا (للتقليل) كما ورد في الحديث الشريف «التمس ولو خاتما من حديد (5) » . وفي الحديث الآخر «أدوا العلائق. قالوا وما العلائق؟ قال ما تراضى عليه الأهلون ولو قضيبا من أراك» . رواه الدارقطني والطبراني وفي الحديث أيضا «تصدقوا ولو بظلف محرق (6) » كل ذلك للتقليل.
* * *
وقد يأتي جوابها في المعنى لا في اللفظ. قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (7) إن كلمة (لمثوبة) جواب (لو) عند قوم. وقال الأخفش سعيد (لو) ليس لها هنا جواب في اللفظ ولكن في المعنى، المعنى (لأثيبوا) وموضع (أن) من قوله: (ولو أنهم) موضع رفع، أي لو وقع إيمانهم، لأن (لو) لا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا؛ لأنها بمنزلة حروف الشرط إذ كان لا بد لها من جواب و (أن) يليه فعل. قال (محمد بن يزيد) وإنما لم يجازوا بلو لأن سبيل حروف المجازاة كلها أن تقلب الماضي إلى معنى المستقبل فلما لم يكن هذا في (لو) لم يجز أن نجازي بها (8) . وقال ابن هشام: في أوضح المسالك قيل: إن الجملة مستأنفة أو جواب لقسم مقدر.
وقال الإمام الطبري في تفسيره: أنكر بعض نحويي أهل البصرة على الأخفش وقال: إن جواب قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} (9) هو قوله: (لمثوبة) وقال: إن (لو) إنما أجيبت بالمثوبة وإن كانت أخبر بها بالماضي من الفعل لتقارب معناها من معنى (لئن) .
__________
(1) سورة النساء الآية 9
(2) سورة الواقعة الآية 70
(3) سورة الواقعة الآية 65
(4) سورة الأنعام الآية 112
(5) صحيح البخاري النكاح (5135) ، صحيح مسلم النكاح (1425) ، سنن الترمذي النكاح (1114) ، سنن النسائي النكاح (3359) ، سنن أبو داود النكاح (2111) ، سنن ابن ماجه النكاح (1889) ، مسند أحمد بن حنبل (5/336) ، موطأ مالك النكاح (1118) ، سنن الدارمي النكاح (2201) .
(6) سنن الترمذي الزكاة (665) ، سنن أبو داود الزكاة (1667) ، مسند أحمد بن حنبل (6/382) ، موطأ مالك الجامع (1714) .
(7) سورة البقرة الآية 103
(8) تفسير القرطبي 2 ـ 56.
(9) سورة البقرة الآية 103(2/281)
وعقد الثعالبي في كتابه (فقه اللغة) فصلا في إلغاء خبر (لو) اكتفاء بما يدل عليه الكلام وثقة بفهم المخاطب وقال: إن ذلك من سنن العرب كقول الشاعر:
وجدك لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
والمعنى: لو أتانا رسول سواك دفعناه. وفي القرآن الكريم حكاية عن لوط عليه السلام: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (1) وفي ضمنه لكنت أكف أذاكم عني، ومثله قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} (2) والخبر عنه مضمر كأنه قال: لكان هذا القرآن (3) . ويؤيده في ذلك قول القرطبي: والجواب محذوف تقديره لكان هذا القرآن (ثم يقول) : لكن حذف إيجازا لما في ظاهر الكلام من الدلالة عليه كما قال امرؤ القيس.
فلو أنها نفس تموت جميعة ... ولكنها نفس تساقط أنفسا
يعني (لهان علي) هذا معنى قول قتادة قال: لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعله قرآنكم. وقيل: الجواب متقدم وفي الكلام تقديم وتأخير، أي وهم يكفرون بالرحمن لو أننا نزلنا القرآن وفعلنا بهم ما اقترحوا (4) وذكر الطبري: في تفسيره قول بعضهم: إنه من المؤخر الذي معناه التقديم، وجعلوا جواب (لو) مقدما قبلها، وقال آخرون: بل هو كلام مبتدأ منقطع عن قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} (5) قال: وجواب (لو) محذوف دل عليه الكلام، والعرب تفعل ذلك كثيرا.
وذكر القرطبي: في قوله: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ} (6) أن العلم هنا المعرفة فلا يقتضي مفعولا ثانيا، وجواب (لو) محذوف أي لو علموا الوقت الذي لا يكفون عن وجوهم النار وعرفوه لما استعجلوا الوعيد، وقيل: المعنى لو علموه لما أقاموا على الكفر ولآمنوا. ونقل ابن حجر في شرح البخاري عن ابن بطال في قوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} (7) أن جواب (لو) محذوف كأنه قال: (لحلت بينكم وبين ما جئتم له من الفساد) قال: وحذفه أبلغ لأنه يحصر بالنفي ضروب المنع، وإنما أراد لوط عليه السلام العدة من الرجال، وإلا فهو يعلم أن له من الله ركنا شديدا ولكنه جرى على الحكم الظاهر.
__________
(1) سورة هود الآية 80
(2) سورة الرعد الآية 31
(3) فقه اللغة 499.
(4) تفسير القرطبي: 9: 319.
(5) سورة الرعد الآية 30
(6) سورة الأنبياء الآية 39
(7) سورة هود الآية 80(2/282)
ولتمام الفائدة نقول: إنك إذا أردت التحدث عن لفظ (لو) بوصفه كلمة مستقلة فإنك تجعله اسما وتعربه، وهي حين تقام مقام الاسم تصرف وتصير مرادفة للندم والتمني. وقال ابن مالك: إذا نسب إلى حرف أو غير حكم هو للفظه دون معناه جاز أن يحكى وجاز أن يعرب بما يقتضيه العامل.
وأشار الإمام البلوي: إلي ذلك في كتابه (ألف باء) واستشهد بقول الشاعر:
سبقت مقادير الإله وحكمها ... فأرح فؤادك من (لعل) ومن (لو)
وقول الآخر:
وقدما أهلكت (لو) كثيرا ... وقبل اليوم عالجها قدار
وجمع الشاعر بينها وبين (ليت) في شطر بيت بقوله: إن (لوا) وإن (ليتا) عناء
* * *
ونكتفي بهذا القدر عن (لو) في مجال اللغة والنحو، وننتقل إلى الكلام عنها من الناحية الشرعية فنقول: جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام في صحيحه في كتاب القدر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوى خير وأحب إلى الله عز وجل من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإن (لو) تفتح عمل الشيطان (1) » . ينهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تعويد ألسنتنا النطق بهذه الكلمة الصغيرة؛ لأنها تشير من طرف خفي إلى معارضة القدر، وهذه المعارضة يلقيها الشيطان في نفسك من حيث لا تحسها ولا تشعر بها فهي مفتاح من مفاتيحه الكثيرة، وحبالة من حبائله المتعددة التي يعدها ليصيد بها قلوب بني آدم ويستعين بها على إفساد نفوسهم أو إضلالهم أو إدخال الشك على قلوبهم في أقل المراتب.
وإن المسلم ليعلم علم اليقين أن ما أصابه من خير وما لحق به من شر وما ناله من سواء إنما كان بقضاء الله وقدره منذ الأزل، وأن ما قدره الله سبحانه واقع لا محالة.
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (79) ، مسند أحمد بن حنبل (2/370) .(2/283)
وقد نهى العلماء عن تعويد اللسان النطق بكلمة (لو) ومن الخير أن تضمر في نفسك شرط مشيئة الله فتقول في نفسك: (إلا أن يشاء الله) . أما إذا قلت: (لو) ناويا التأسف على ما فاتك من طاعة الله والاستكثار من الخير فهو جائز، ويدخل هذا المعنى في باب التمني الذي تستعمل له هذه الكلمة أحيانا.
وإذا طال بك السهر وأويت إلى فراشك بعد هزيع من الليل، ثم غلبك النوم فلم تنهض إلى صلاة الفجر مع أنك كنت عازما في قرارة نفسك على النهوض إليها فإنك تحس إذ ذاك بالندم على تقصيرك ويخالط نفسك الأسى وتشعر بالأسف لهذا السهر الذي حال بينك وبين أداء الفريضة في وقتها، وتقول: لو أنني لم أسهر لم تفتني الصلاة، ولا تقصد بقولك هذا معارضة القدر، ولكنك تظهر التأسف والندم على تقصيرك وإهمالك.
* * *
وعقد الإمام البخاري - رحمه الله - في صحيحه كتابا من التمني أورد فيه بابا سماه (باب ما يجوز من اللو) ذكر فيه قوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} (1) وأورد بعض الأحاديث في هذا المعنى مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لو كنت راجما امرأة من غير بينة (2) » ومثل قوله: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك (3) »
* * *
وقال الإمام القسطلاني - رحمه الله -: ولا معارضة بين ما ورد من الأحاديث الدالة على الجواز والدالة على النهي؛ لأن النهي مخصوص بالجزم بالفعل الذي لم يقع، فيكون المعنى لا تقل لشيء لم يقع: لو أني فعلت كذا لوقع قاضيا بتحتم ذلك غير مضمر في نفسك شرط مشيئة الله، وإن ما ورد من التلفظ بكلمة (لو) محمول على ما إذا كان قائله موقنا بالشرط المذكور وهو أنه لا يقع شيء إلا بمشيئة الله وإرادته قاله الطبري.
ونقل الإمام ابن حجر عن الطبري في طريق الجمع بين هذا النهي وبين ما ورد من الأحاديث الدالة على الجواز أن النهي مخصوص بالجزم بالفعل الذي لم يقع، وقال: إن معنى الحديث، لا تقل لشيء لم يقع لو أني فعلت كذا لوقع قاضيا بتحتم ذلك، وهو كقول أبي بكر في الغار: (لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا) . فجزم بذلك
__________
(1) سورة هود الآية 80
(2) صحيح البخاري التمني (7238) ، صحيح مسلم كتاب اللعان (1497) ، سنن النسائي الطلاق (3470) ، سنن ابن ماجه الحدود (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (1/336) .
(3) قال الإمام القسطلاني: إن مآل (لولا) إلى (لو) إذ معناه (لو لم تكن المشقة لأمرتهم به) وهذا يرفع استشكال ما عقد عليه الباب في قوله: ما يجوز من اللو.(2/284)
مع تيقنه أن الله قادر على أن يصرف أبصارهم عنهما بعمى أو غيره، لكن جرى على حكم العادة الظاهرة وهو موقن بأنهم لو رفعوا أقدامهم لم يبصروهما إلا بمشيئة الله تعالى.
* * *
ويقول القاضي عياض: وهذا لا حجة فيه؛ لأنه إنما أخبر عن مستقبل وليس فيه دعوى لرد قدر بعد وقوعه. . إلى أن يقول: والذي عندي في معنى الحديث أن النهي على ظاهره وعمومه ولكنه نهي تنزيه.
ويعقب الإمام النووي على هذا القول مؤيدا ومستشهدا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي (1) » فيكون نهي تنزيه لا تحريم، أما من قاله تأسفا على ما فات من طاعة الله ونحوه فلا بأس به. اهـ.
ونقل ابن حجر عن القرطبي: أن المراد من الحديث الذي أخرجه مسلم أن الذي يتعين بعد وقوع المقدور التسليم لأمر الله والرضى بما قدر والإعراض عن الالتفات لما فات، فإنه إذا فكر فيما فاته من ذلك فقال: لو أني فعلت كذا لكان كذا جاءته وساوس الشيطان فلا تزال به حتى يفضي إلى الخسران فيعارض بتوهم التدبير سابق المقادير، وهذا هو عمل الشيطان المنهي عن تعاطي أسبابه، وليس المراد ترك النطق (بلو) مطلقا إذ قد نطق النبي - صلى الله عليه وسلم - بها في عدة أحاديث، ولكن محل النهي عن إطلاقها إنما هو فيها إذا أطلقت معارضة للقدر مع اعتقاد أن ذلك المانع لو ارتفع لوقع خلاف المقدور. اهـ.
وكما أشار القرطبي - رحمه الله -: فقد وردت كلمة (لو) في عدة أحاديث نذكر منها حديث «لو سلك الناس واديا أو شعبا (2) » وحديث «لو مد بي في الشهر لواصلت (3) » . .) وحديث «لو تأخر - يعني الهلال - لزدتكم (4) » . .) وغيرها.
ووردت في آيات عدة من القرآن الكريم كقول الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: و {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} (5) و {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} (6) و {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} (7) و {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} (8) و {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} (9) وغيرها.
وقال السبكي: وقد تأملت اقتران «احرص على ما ينفعك (10) » بقوله: (وإياك واللو) فوجدت الإشارة إلى محل (لو) المذمومة وهي نوعان: أحدهما في الحال ما دام فعل الخير ممكنا فلا يترك لأجل فقد شيء آخر فلا تقول: لو أن كذا كان موجودا لفعلت كذا مع القدرة على فعله ولو لم يوجد ذاك، بل يفعل الخير ويحرص على عدم فواته، والثاني من فاته أمر من أمور الدنيا فلا يشغل نفسه.
__________
(1) صحيح البخاري التمني (7229) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4332) ، صحيح مسلم الزكاة (1059) ، سنن الترمذي المناقب (3901) ، مسند أحمد بن حنبل (3/169) .
(3) صحيح البخاري التمني (7241) ، صحيح مسلم الصيام (1104) ، مسند أحمد بن حنبل (3/253) .
(4) صحيح البخاري الصوم (1965) ، صحيح مسلم الصيام (1103) ، مسند أحمد بن حنبل (2/281) ، سنن الدارمي الصوم (1706) .
(5) سورة الأعراف الآية 188
(6) سورة آل عمران الآية 154
(7) سورة آل عمران الآية 154
(8) سورة التوبة الآية 42
(9) سورة آل عمران الآية 167
(10) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (79) ، مسند أحمد بن حنبل (2/370) .(2/285)
بالتلهف عليه لما في ذلك من الاعتراض على المقادير وتعجيل تحسر لا يغني شيئا، ويشتغل به عن استدراك ما لعله يجدي.
وعلى هذا فليس المراد ترك النطق بلفظ (لو) مطلقا؛ لأنه وقع في عدة أحاديث وآيات كما ذكرنا، ولكن النهي ينحصر فيما إذا أطلقت معارضة للقدر مع اعتقاد أن ذلك المانع لو ارتفع لوقع خلاف المقدور.
ويقول الإمام البلوي: في كتاب (ألف باء) قد تنفع (لو) في بعض الأوقات بحسب اختلاف النيات يقول الإنسان: لو قضى الله شيئا كان، وإذا عمل الشر قال: لو وفقني الله لهداني إلى الخير، فقد تنصل من قوته وحوله ووكل الأمر إلى أهله. وجاء عن خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة قط فلم تقض إلا قال: يا بني لو قدر شيء لكان» وكان بعض أزواجه تقول: لو فعلت كذا وكذا فيقول: «دعوه ما يكون إلا ما أراد الله عز وجل» فهذا الضرب من القول - بحمد الله - صاحبه سالم وقائله إن شاء الله غانم والحمد لله رب العالمين.(2/286)
الشيخ ناجي الطنطاوي
1 - ولد في دمشق عام 1914 م 1334 هـ.
2- نال شهادة (دار المعلمين) عام 1353 هـ 1934 م.
3- نال شهادة (الحقوق) عام 1365 هـ 1946م.
4- اشتغل بالتعليم (14سنة) واشتغل بالقضاء (قاضيا شرعيا) (12) سنة.
5- يعمل مستشارا في وزارة الحج والأوقاف منذ عام (1383) هـ.
6- ألف كتاب (أخبار عمر وعبد الله بن عمر) بالاشتراك مع أخيه الشيخ علي الطنطاوي واشترك معه أيضا في تحقيق كتاب (صيد الخاطر) لابن الجوزي. وله مقالات وأبحاث وقصائد شعرية منشورة في الجرائد والمجلات في دمشق والقاهرة والمملكة العربية السعودية وأحاديث إذاعية.(2/287)
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ} (1)
__________
(1) سورة الشورى الآية 7(2/288)
إسقاط الكرة الأرضية بالنسبة لمكة المكرمة وتعيين اتجاه القبلة
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم. والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
لقد دفعني إلى هذا البحث، حاجة الناس الماسة من المسلمين، إلى معرفة اتجاه القبلة للصلاة عندما يحين وقتها، ويكونون في أماكن بعيدة عن المساجد، أو في بلاد غير المسلمين، كما يحدث غالبا لطلاب البعثات.
ولقد قمت سابقا بتصميم أكثر من جهاز صغير، يستطيع الإنسان وضعه في جيبه، أو حمله معه في أي مكان لتعيين اتجاه القبلة للصلاة. ولكني لم أوفق حتى الآن في تصنيع أي واحد من هذه النماذج المذكورة لتعميمه بين الناس بثمن معقول لا يزيد عن بضعة ريالات. وذلك لعدم وجود رأس المال للبدء في التصنيع.
لذلك فكرت في عمل خريطة جديدة للكرة الأرضية، أجعل فيها مدينة مكة المكرمة مركزا لهذا الإسقاط، ويكون الهدف من ذلك بيان اتجاهات القبلة للصلاة على هذه الخريطة، ثم طبع عدد كبير من هذه الخريطة الجديدة، وتعميمها بين المسلمين، وهذا المشروع يتكلف قدرا أقل كثيرا من تصنيع الجهاز الخاص، وهو جهاز تعيين اتجاه القبلة.
ولكن لا يخفى أن الخريطة الجديدة تعطينا فقط اتجاه القبلة، ثم نحتاج بعد ذلك إلى الاستعانة بجهاز البوصلة المعتاد، وهو متيسر في كل مكان.
ومما يجدر ذكره في هذه المقدمة، أنني بعدما وضعت الخطوط الأولى في هذا البحث ورسمت عليها القارات الأرضية، وجدت أن مكة المكرمة هي مركز لدائرة تمر بأطراف جميع القارات، أي أن الأرض اليابسة على سطح الكرة الأرضية موزعة حول مكة المكرمة، توزيعا منتظما، وإن مدينة مكة المكرمة في(2/292)
هذه الحالة تعتبر مركزا للأرض اليابسة، وصدق الله العظيم، إذ يقول: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ} (1)
* * *
__________
(1) سورة الشورى الآية 7(2/293)
الفصل الأول
تعيين الاتجاه بين مكانين على سطح الكرة الأرضية
إن تعيين الاتجاه بين مكانين على سطح مستوى، هو الخط المستقيم الذي يصل بينهما، وأما الاتجاه بين مكانين على سطح كروي فلا يكون خطا مستقيما، ولكنه يكون قوسا من دائرة وعلى ذلك يمكن بيان الاتجاه بين مكانين على سطح الأرض بعدد كثير من الأقواس الدائرة، ويعتبر الاتجاه الصحيح بين هذه الأقواس هو أقصرها طولا، وهو قوس الدائرة العظمى المارة بهذين المكانين - والدائرة العظمى هي الدائرة التي يمر مستواها بمركز الكرة الأرضية، ولا يوجد غير اتجاه واحد صحيح في هذه الحالة. وهذا الاتجاه لا يقاس من الخرائط الموجودة في الأطالس المصورة المعروفة بيننا، ولكنه يجب حسابه باستعمال المثلث الكروي الذي بين هذين المكانين وبين القطب الأرضي الشمالي. إن المدن على سطح الكرة الأرضية تعين أماكنها بخطوط الطول وخطوط العرض. والمعروف أن خطوط العرض تبدأ من خط الاستواء بمقدار عددي يساوي صفرا، ثم تتجه شمالا وجنوبا إلى كل من القطبين الشمالي والجنوبي حتى يصل الرقم العددي لها إلى 90 من درجات خطوط العرض. ومعنى ذلك أن المقدار العددي لخط العرض بمثل الزاوية المركزية (1) المحصورة بين مستوى دائرة الاستواء، وبين موضع هذا الخط على سطح الكرة الأرضية. وجميع خطوط العرض تمثل دوائر كاملة في مستويات متوازية، ولكنها مختلفة في أطوال أقطارها. وأكبرها قطرا هي دائرة الاستواء - وهي الدائرة العظمى الوحيدة بين دوائر خطوط العرض جميعها - وقطرها يساوي القطر الأكبر للكرة الأرضية، وهو حالي 12760 كم تقريبا. ثم بعد ذلك تنقص أقطار هذه الدوائر حتى تصل إلى الصفر عند القطبين.
__________
(1) الزاوية المركزية هي الزاوية التي رأسها عند مركز الكرة الأرضية.(2/293)
ولما كان من الواجب عند تعيين انحراف مكان ما عن مكان آخر، أن يكون حساب هذا الانحراف هو أقصر بعد بينهما، لذلك فإن تعيين الانحراف الصحيح بين أي بلد يجب أن يكون في مستوى الدائرة العظمى المار بكل منهما معا، وليس على محيط أي دائرة أخرى غيرها. أما خطوط الطول فهي أنصاف دوائر عظمى، وهذه الدوائر تمر بالقطبين الشمالي والجنوبي، وكذلك تتجمع عندهما، ويبدأ ترقيم هذه الدوائر من خط الطول الأساسي المار بمرصد جرينوتش قرب مدينة لندن عاصمة انجلترا، وهو خط الطول صفر. ومن عند هذا الخط تتجه خطوط الطول شرقا وغربا حول الكرة الأرضية، حتى تتقابل عند الجهة الخلفية له من سطح الأرض، وعلى ذلك فإن خطوط الطول تبدأ من صفر إلى 180 درجة شرقا، وأيضا من صفر إلى 180 درجة غربا. ونلاحظ أن جميع خطوط الطول تكون متعامدة مع جميع خطوط العرض على سطح الكرة الأرضية وأن المسافات الأفقية بين خطوط الطول وبعضها تضيق كلما اتجهنا شمالا أو جنوبا، بالنسبة إلى خط الاستواء، حتى تصل إلى الصفر عند القطبين. كما نلاحظ كذلك أن مستويات هذه الدوائر تمر جميعها بمركز الكرة الأرضية، أي أنها أنصاف دوائر عظمى. وسوف نراعي بإذن الله تعالى في رسم الإسقاط المقترح بيانه في هذا البحث، أن يكون هذا الإسقاط محتفظا بخاصية صحة الاتجاهات وكذلك صحة المسافات فقط، أما صحة التشابه فليست من أغراض هذا البحث. كما أن صحة الاتجاهات والمسافات ستكون بين مدينة مكة المكرمة، وبين جميع مدن العالم قاطبة. وذلك بقصد التمكن من معرفة الاتجاه الصحيح للصلاة في جميع بقاع العالم، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.
* * *
سبق أن علمنا أن تعيين الاتجاه الصحيح بين مكانين على سطح الكرة الأرضية، يكون على قوس الدائرة العظمى المارة بهذين المكانين، وكذلك علمنا أن المدن على سطح الكرة الأرضية تعين.(2/294)
مواضعها بخطوط الطول وخطوط العرض. وعلى ذلك نرى أنه عندما نريد تعيين اتجاه الصلاة لأي بلد ما، يجب معرفة مقدار خط الطول وخط العرض المارين بهذا البلد. وذلك بالإضافة إلى معرفة مقدار خط الطول وخط العرض المارين بمدينة مكة المكرمة
ثم نجعل كلا من هذا البلد، ومن مدينة مكة المكرمة طرفين في مثلث كروي، وأما الطرف الثالث فإنه يكون القطب الشمالي الأرضي. انظر الشكل رقم (1) .
نفرض:
أن خط طول مدينة مكة المكرمة = ل 1
وأن خط عرض مدينة مكة المكرمة = ض 1
وأن خط طول المكان = ل 2
وأن خط عرض المكان = ض 2
في الشكل رقم (1) نجد أن:
ق = القطب الأرضي الشمالي.
م = مدينة مكة المكرمة.
ن = أي مكان على سطح الأرض (البلد) .(2/295)
م = زاوية انحراف المكان بالنسبة إلى مكة المكرمة.
ن = زاوية انحراف مكة المكرمة بالنسبة إلى البلد، وهي زاوية اتجاه القبلة.
ق = زاوية الفرق بين خط طول البلد وبين خط طول مكة المكرمة = (ل 2 - ل 1) .
القوس (ن ق) = متمم خط عرض البلد = (90 - ض2) .
القوس (م ق) = متمم خط عرض مكة المكرمة = (90 - ض1) .
القوس (م ن) = المسافة بين مكة المكرمة وبين البلد.
وهذا المثلث الكروي يمكن حساب المعلومات المجهولة فيه من المعلومات المعلومة، وهي (ض1، ل1) ، (ض2، ل2) وعلى ذلك نستطيع تعيين مقدار الزاوية (ن) وهي زاوية اتجاه القبلة عند هذا المكان، كما نستطيع تعيين بعد هذا المكان عن مدينة مكة المكرمة، وأيضا يمكننا تعيين انحراف هذا المكان عن مكة المكرمة ومن معرفة هذا الانحراف الأخير والمسافة بين المكان وبين مكة المكرمة يمكننا رسم خريطة العالم المطلوبة في هذا البحث. ولقد وجدنا من المناسب لرسم الخريطة المطلوبة، أن نأخذ أولا الأمكنة المطلوبة عند تقاطع خطوط الطول مع خطوط العرض لكل عشر درجات وتحسب أبعاد وانحرافات هذه الأمكنة عن مدينة مكة المكرمة، ثم نصل بعد ذلك بين نقط خطوط الطول المتساوية في المقادير مع بعضها، فنحصل على خطوط العرض المطلوبة في هذا الإسقاط أيضا، أي أننا قد حصلنا بذلك على إسقاط خطوط الطول والعرض الأرضية بالنسبة إلى مدينة مكة المكرمة. ثم بعد ذلك نرسم حدود القارات وباقي التفاصيل على هذه الشبكة من الخطوط، ولقد وجدنا في بعض الأماكن أنه من الواجب تصغير الأمكنة إلى خمس درجات بدلا من عشرة، وكذلك في بعض الأمكنة القليلة الأخرى وجدنا من المناسب تصغير الأمكنة إلى درجة واحدة. وهذا الإسقاط يعتبر إسقاطا متوازيا متكافئا في المسافات للعالم كله، بالنسبة إلى مدينة مكة المكرمة.(2/296)
الفصل الثاني
حساب البيانات المطلوبة من المثلث
الشكل:
رقم 2 يمثل المثلث الكروي الذي رؤوسه النقاط ا، ب، جـ، وزواياه، ا، ب، جـ، وأضلاعه أ، ب، جـ
من قانون الجيب في المثلث الكروي، نجد أن:
حا ا / حا 1 = حا ب / حا ب = حا حـ / حا حـ
ولحساب قيمة الزواية حـ، نجد أن:
حا حـ = حا حـ × حا ب / حا ب................ (1)
ومن قانون جيوب التمام في المثلث الكروي نجد أن:
حتا ب = حتا ا. حتا حـ + حا ا. حتا ب
ب= حتا -1 (حتا ا. حتا حـ + حا ا. حا حـ. حتا ب) ..................... (2)
والقانون رقم (2) يحسب المسافة بين المكانين (ا، حـ) .
وبالتعويض في المعادلة رقم (1) ينتج أن:
حا حـ = حا حـ × حا ب × قتا (حتا -1 (حتا ا. حتا حـ + حا 1. حا حـ. حتا ب) ..................... (3)(2/297)
وبالمثل فإن القانون رقم (4) .
حا 1 = حا ا × حا ب × قتا (حتا -1 (حتا ا. حا حـ. + حا ا. حا حـ. حتا ب) ............ (4)
يعطينا زاوية انحراف المكان حـ عن المكان ا.
أي أنه من هذه القوانين السابقة يمكن تعيين البيانات اللازمة لإسقاط الخريطة المطلوبة. وبالربط بين المثلث الكروي شكل (1) ، وبين المثلث الكروي شكل (2) أي أننا نعتبر أن مدينة مكة المكرمة تمثل رأس المثلث ا، وأن المكان الثاني يمثل رأس المثلث حـ، وأن القطب الشمالي يمثل رأس المثلث ب. وبفرض أن:
خط طول مكة المكرمة = ل 1
خط طول المكان = ل 2
خط عرض مكة المكرمة = ض 1
خط عرض المكان = ض 2
ثم بالتعويض في القوانين السابقة، نجد أن:
م ن= حتا -1 (حاض 2. حاض 1. + حتاض 2. حتا (ل 2 - ل 1) .................. (2)
حا ن= حتاض 1. حا (ل 2 - ل 1) . قتا (حتا 1 (حاض 2. حاض 1 + حتاض 2. حتاص 1. حتا (ل 2 - ل 1) (3)
حا م= حتاض 2. حا (ل 2 - ل 1) . قتا (حتا -1 (حاض 2. حاض 1 + حتاض 2. حتاض 1. حتا (ل 2 - ل 1)) (4)
وبتطبيق هذه القوانين على مدينة الرياض، وبفرض أن:
خط عرض مكة المكرمة = 21.437 شمالا
خط عرض مدينة الرياض = 24.625 شمالا
خط طول مكة المكرمة = 39.817 شرقا
خط طول مدينة الرياض = 46.720 شرقا.
نجد أن:
أولا: المسافة بين مكة المكرمة ومدينة الرياض، بالتعويض في المعادلة رقم (2) ينتج أن:
م ن = حتا -1 (حا 24.625 × حا 21.427 + حتا 24.625 × حتا 21.437 × حتا 46.720 = 39.817) . = 7.1062 = طول القوس (م ن) بالدرجات.
وبفرض أن نصف قطر الأرض المتوسط = 6370 كم. إذا تكون المسافة بين مدينة مكة المكرمة وبين مدينة الرياض: = 790.0462 = كم طول القوس (م ن) بالكيلومترات.(2/298)
ثانيا انحراف القبلة من مدينة الرياض، بالتعويض في المعادلة رقم (3) ، ينتج أن:
حا ن = حتا 21.437 × حا (46.720 – 39.817) × قتا (حتا -1 (حا 24.625 × حا 21.437 + حتا 24.625 × حتا 21.437 × حتا (46.720 – 39.817)) = 0.9043379.
ن = 64.7343 أو (180 – 64.7343) .
ولما كانت الزاوية (ن) أكبر من 90.
ن = 115، 2657.
أي أن الانحراف الدائري لمدين مكة المكرمة، بالنسبة إلى مدينة الرياض:.
= 360 – 115، 2657 = 244، 7343.
= 03 44 244
وهذا هو انحراف القبلة.
والانحراف الدائري هو الزاوية التي تقاس ابتداء من خط الشمال الجغرافي وتدور إلى جهة اليمين حتى تصل إلى الاتجاه المرغوب فيه. وعند استعمال البوصلة المغناطيسية تتجه الإبرة إلى الشمال المغناطيسي الأرضي وليس إلى الشمال الجغرافي، وتكون زاوية الانحراف التي تقرأها البوصلة في هذه الحالة هي زاوية الانحراف الدائري المغناطيسي. والفرق بين الشمال المغناطيسي والشمال الجغرافي ليس ثابتا ويعتريه بعض التغيرات مع اختلاف الزمان واختلاف المكان على سطح الأرض، والفرق بينهما ليس كبيرا، وعلى ذلك فإنه من الممكن استعمال جهاز البوصلة العادية عند تعيين اتجاه الصلاة في الأماكن الخاصة. وأما في المساجد والأماكن المعتمدة للصلاة فالأفضل عند بنائها تعيين اتجاه القبلة عن الشمال الجغرافي باستعمال الأرصاد الفلكية، وقد يسر الله سبحانه وتعالى لنا علم ذلك وأمدنا بالأجهزة والآلات الدقيقة لننتفع بها ونكون على علم ويقين عند التوجه للصلاة إلى البيت الحرام، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.
انحراف مدينة الرياض عن مدينة مكة المكرمة، بالتعويض في المعادلة رقم (4) ، ينتج أن:
حا م= حتا 24.625 × حا (46، 720 – 39، 817) × قتا (حتا -1 (حا 24.625 × حا 21.437 + حتا 24.625 × حتا 21.437 × حتا (46، 720- 39، 817))
= 0، 8831915
= 62، 0298 = 47 01 62
وهذا الانحراف بالإضافة إلى المسافة بين مدينة مكة المكرمة وبين مدينة الرياض، هو الذي استعمل في إسقاط خريطة العالم بالنسبة إلى مكة المكرمة.(2/299)
ملاحظات:
- بإضافة زوايا المثلث الكروي الثلاثة السابق حسابها، نجد أن مجموعها يساوي: ن = 57 15 115?
م = 47 01 62
ق = 11 54 06
55 11 184
أي أن مجموع الزوايا الداخلية في المثلث الكروي تزيد عن 180 وهذه الخاصية دائمة في المثلثات الكروية، وتمتاز بها عن المثلثات المستوية.
- في المثال السابق كانت قيمة الزاوية (ض 1) أصغر من قيمة الزاوية (ض 2) وكانت إشارة كل منهما موجبة، أي أن الإشارة الجبرية بينهما متوافقة. وعلى ذلك كانت قيمة الزاوية (م) أصغر من 90، وكانت الزاوية (ن) أكبر من 90. وأما إذا كانت قيمة كل من المقدارين ض 1، ض 2 متساويين في المقدار والإشارة، فإننا نلاحظ من القانون (3، 4) أن:
حا ن = حتا ض 1 × ك
حا م = حتا ض 2 × ك
حيث إن (ك) مقدار ثابت في كل من المعادلتين. وعندئذ تصير قيمة كل من الزاويتين (م، ن) متساويتين. وهذه الحالة تقع بين البلدان التي تشترك مع مدينة مكة المكرمة في نفس خط العرض. الأماكن التي تشترك مع مكة المكرمة في نفس خط الطول، تقع جميعها في هذا الإسقاط على خط مستقيم، هو خط الشمال الجنوب الجغرافي، المار بها. وذلك لأنه عند الرجوع إلى المعادلة رقم (4) ، نجد أن (ل 2 - ل 1) = صفر دائما
حا م = صفر، دائما وذلك بصرف النظر عن خط عرض المكان. ويحدث ذلك أيضا في المقدار حا ن أي أن اتجاه القبلة في المدن التي تشترك مع مدينة مكة في خط الطول، يكون اتجاه الصلاة فيها إلى الشمال أو الجنوب الجغرافي تماما.(2/300)
والمدن التي تتجه في الصلاة إلى الجنوب الجغرافي، تبدأ من عند خط عرض مكة المكرمة وتتجه شمالا، أي تبدأ من خط عرض (+ 21437) إلى خط عرض (+ 90) عند القطب الشمالي. وأما المدن التي تقع على خطوط العرض في جنوب مكة المكرمة، أي من خط عرض (+ 21437) إلى خط الاستواء، ثم من خط الاستواء إلى خط عرض (- 90) عند القطب الجنوبي، فإن اتجاه القبلة في هذه المدن يكون ناحية الشمال الجغرافي تماما. وإذا أخذنا خط الطول المقابل لخط طول مكة المكرمة، وهو خط الطول (140183) غربا، فإن اتجاه القبلة للمدن الواقعة على هذا الخط كذلك تكون الصلاة فيها نحو الشمال أو الجنوب الجغرافي أيضا. فالمدن الواقعة على خطوط العرض التي بين خط العرض (- 21437) وبين القطب الجنوبي تتجه في الصلاة نحو الجنوب الجغرافي، وأما المدن الواقعة على خطوط العرض التي تتجه شمالا وتبدأ من خط العرض (- 21437) إلى خط العرض صفر، أي عند خط الاستواء، ثم من خط الاستواء إلى القطب الشمالي، فإن اتجاه الصلاة فيها يكون إلى ناحية الشمال الجغرافي تماما. وعلى ذلك نجد أن المدينة الواقعة على خط عرض (- 21437) وخط طول (140183) غربا تجوز فيها الصلاة نحو كل من الشمال والجنوب الجغرافي. وفي هذا المكان كذلك تصح الصلاة نحو جميع الاتجاهات شمالا وجنوبا وشرقا وغربا. وذلك لأن هذا المكان يقع على امتداد قطر الكرة الأرضية المار بمدينة مكة المكرمة تماما، أي أن جميع الدوائر العظمى التي تمر بمكة المكرمة تم كذلك بهذا الموضع من سطح الكرة الأرضة، وتكون المسافات المقاسة في جميع الاتجاهات بين مكة المكرمة وبين هذا المكان متساوية في المقادير، وبذلك تصلح جميعها أن تكون اتجاها للقبلة الصحيحة. وهذا المكان من الكرة الأرضية يقع في جزيرة موروروا، من مجموعة جزر بلونيزيا، في المحيط الهادي، في وسط المسافة تقريبا بين أستراليا وبين أمريكا الجنوبية. - الأماكن التي تشترك مع مدينة مكة المكرمة في خط العرض، لا تقع على خط مستقيم واحد معها، ولكن يجمعها خط منحني، وتختلف عند ذلك اتجاهات القبلة للمدن الواقعة على هذا الخط. - في الإسقاط المذكور نلاحظ التماثل لخطوط الطول والعرض، حول خط الطول المار بمدينة مكة المكرمة، على يمينها وعلى يسارها. - عند استعمال المعادلات السابق ذكرها، ينبغي المحافظة على الإشارة الجبرية لكل من خطي الطول والعرض. بمعنى أن خطوط العرض شمال خط الاستواء تكون إشارتها الجبرية موجبة وجنوب خط الاستواء تكون إشارتها الجبرية سالبة. وكذلك فإن خطوط الطول شرق خط جرينوتش تكون إشارتها الجبرية موجبة، وغرب خط جرينوتش تكون إشارتها الجبرية سالبة.(2/301)
الفصل الثالث
حساب المسافات والانحرفات اللازمة لإسقاط الخريطة المطلوبة
سبق أن ذكرنا أنه لرسم خريطة العالم بالنسبة إلى مكة المكرمة، أننا سنأخذ نقط تقاطع خطوط الطول مع خطوط العرض على سطح الكرة الأرضية، أساسا لرسم خطوط الطول والعرض النهائية لخريطة العالم الجديدة في هذا البحث. ولقد استعملنا في ذلك جهاز الحاسب الألكتروني لتعيين مقادير المسافات والانحرافات المطلوبة لنقط التقاطع هذه، بالنسبة إلى مكة المكرمة. وسنذكر فيما يلي البرنامج المستعمل في حساب هذه المقادير، وسنكتفي بذلك، حيث إنه لا داعي لذكر الأرقام العددية المحسوبة في هذه العمليات لكثرتها الكبيرة. وفي هذا البرنامج استعملنا المعادلتين رقم (2) ورقم (4) من معادلات المثلث الكروي المذكورة سابقا. كما استعملنا أيضا الجهاز الحاسب الألكتروني في رسم خطوط الطول وخطوط العرض المطلوبة لهذا الإسقاط الجديد. وفيما يلي البرنامج المستعمل في رسم هذه الخطوط مباشرة من الحاسب الألكتروني، ونموذجا من حساب الجداول لخط العرض (30?) وتقاطعه مع خطوط الطول المتعامدة عليه جميعها، ويلي ذلك خريطة الإسقاط المطلوب للكرة الأرضية، كما رسمت بمعرفة هذا الجهاز. وبهذه المناسبة أرى من الواجب علي أن أنوه بكل سرور وتقدير بالمجهود المشكور الكبير الذي قام به الأستاذ الدكتور محمد الشافعي عبد اللطيف في تحضير البرنامج للجهاز الحاسب الألكتروني، للحصول على الجداول، وكذلك لرسم خطوط الطول والعرض، جزاه الله تعالى عنا كل خير. ملاحظات عن الجدول المبين في الصحيفة التالية: 1- زاوية مكة المكرمة المذكورة في هذا الجدول، وكذلك زاوية المدينة يمثلان الانحراف الدائري الجغرافي الصحيح لكل من هذين المكانين. 2- بعد أن وصلنا إلى خط الطول 180? درجة شرقا، وجدنا من الأفضل أن يستمر الترقيم إلى 220? شرقا، وعلى ذلك أصبح ترقيم خطوط الطول الغربية ينتهي عند خط طول 140? غربا. ملاحظة:(2/302)
نموذج من الجداول المحسوبة بالجهاز الإلكتروني الحاسب لخط العرض 30 درجة شمالا(2/303)
وفي الصحيفة رقم (313) يظهر إساقط خطوط الطول وخطوط العرض بالنسبة إلى مكة المكرمة، وهي المعبر عنها بحرف " M "، كما يظهر القطب الأرضي الشمالي عند الحرف " N "، وكذلك القطب الأرضي الجنوبي عند الحرف " S " وخطوط الطول والعرض مرسومة لكل عشر درجات، كما هو مرقوم على الشكل، ولقد أضيف خط العرض 25° درجة جنوبا للحاجة إليه في دقة رسم القارات.
والترقيم المسجل على الدائرة الخارجية، يمثل الانحراف الدائري الجغرافي بالنسبة إلى مدينة مكة المكرمة، بحيث إننا لو أخذنا خطا مستقيما بين مكة المكرمة وبين أي مكان على هذا الإسقاط، فإن امتداد هذا الخط إلى هذه الدائرة الخارجية، يقرأ الانحراف الدائري لهذا المكان عن مدينة مكة المكرمة.
وفي الصحيفة التي تليها، وقعنا القارات السبع للعالم، فوق خريطة الإسقاط السابقة، في مواقعها الصحيحة بالنسبة إلى خطوط الطول والعرض الأرضية. وبهذا توصلنا إلى إسقاط الكرة الأرضية بالنسبة إلى مدينة مكة المكرمة، للإسقاط المطلوب في هذا البحث.
ولقد لاحظنا عندما رسمنا دائرة مركزها مدينة مكة المكرمة، وحدودها خارج القارات الأرضية السبع، أن محيط هذه الدائرة يكاد يدور مع حدود القارات الخارجية. وذلك يعني أن موقع مدينة مكة المكرمة هو مركز الأرض اليابسة على سطح الكرة الأرضية.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1) وصدق الله العظيم {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (2)
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) سورة الأنعام الآية 92(2/315)
الفصل الرابع
إعادة إسقاط خريطة العالم بالنسبة للاتجاهات الصحيحة للصلاة
لقد تم بحمد الله تعالى في الفصول السابقة، إسقاط خريطة العالم بالنسبة إلى مدينة مكة المكرمة، بحيث يمكن عند استعمال هذا الإسقاط معرفة زاوية انحراف أي بلد عن مكة المكرمة وكذلك مقدار المسافة بينهما.
وإننا نريد في هذا الفصل إعادة الإسقاط مرة أخرى بحيث نحتفظ بالمسافات الصحيحة بين مكة المكرمة وبين بلدان العالم كما هي. ثم نستعمل زاوية انحراف البلد عن مكة المكرمة بدلا من زاوية انحراف مكة المكرمة عن هذه البلد. وعلى ذلك يصبح هذا الإسقاط الجديد مساعدا على معرفة اتجاهات الصلاة مباشرة في كل مكان من العالم باستعمال هذه الخريطة الجديدة.
ويمثل الرسم المبين في الصفحة رقم (318) هذا الإسقاط المطلوب، ونلاحظ على هذا الإسقاط بعض العقبات التي تمنع منه في الغرض المطلوب له. ولقد حاولنا تذليل هذه العقبات بحلول مناسبة سيأتي بيانها تباعا فيما بعد.
ملاحظات على هذا الإسقاط:
1 - خطوط العرض تتقاطع مع بعضها، وتدور حول مدينة مكة المكرمة، وليس حول القطب الأرضي، كما هو المعتاد.
2 - خطوط الطول تظهر في شكل بيضاوي تتوازى ولا تتقابل مع بعضها وهذا خلاف الواقع.
3 - يحدث تداخل بين خطوط العرض الجنوبية مع خطوط العرض الشمالية في بعض مناطق الإسقاط.
4 - خطوط العرض الجنوبية يظهر بعضها في أعلى خريطة الإسقاط، كما يظهر البعض الآخر منها في أسفل هذه الخريطة، بينما تظهر خطوط العرض الشمالية في وسط الخريطة.
5 - جميع الانحرافات الدائرية تظهر على خط العرض الواحد.
6 - تندمج بعض المساحات في بعضها البعض وتظهر على شكل عقدة.
7 - المناطق القريبة من القطبين الشمالي والجنوبي تتسع كثيرا جدا عن حقيقتها المعروفة.
8 - يحدث اقتراب في هذا الإسقاط بين المنطقة القطبية الجنوبية والمنطقة القطبية الشمالية.(2/317)
ونلاحظ من التشكيل العام لمجموعة خطوط الطول والعرض وتقاطعها، وعدم ظهورها بالترتيب المعتاد في اتجاه واحد، أنه يتعذر رسم القارات السبع للكرة الأرضية على هذا الإسقاط بشكل منتظم، كما اعتاد الناس أن يروها على صفحات الأطالس الجغرافية.
ولقد كانت المحاولة الثانية أننا نستعمل الإسقاط الأول المبين في الصفحة رقم (314) كما هو، ثم نرفع عليه خطوط اتجاهات الصلاة في المقادير. ولقد تم توقيع هذه الخطوط باستعمال الجهاز الحاسب الإلكتروني، وحصلنا على الرسم المبين في الصفحتين رقم (320، 321) .
ونلاحظ على هذا الإسقاط ما يلي:
1 - أن خريطة إسقاط الكرة الأرضية بالنسبة إلى مكة المكرمة تظل كما هي.
2 - أن خطوط اتجاهات الصلاة المتساوية في المقادير، تتقابل في ثلاث مناطق فوق هذا الإسقاط، هي مكة المكرمة، والقطب الشمالي، والقطب الجنوبي.
3 - أنه يوجد تماثل بين خطوط اتجاهات الصلاة المتساوية في النصف الشرقي والنصف الغربي من الكرة الأرضية، بالنسبة إلى مكة المكرمة، من ناحية الشكل، ولكنها تختلف عنها من ناحية المقادير.
وهذه الخريطة يستطيع الشخص العادي أن يستفيد منها في معرفة اتجاه الصلاة في المكان الموجود فيه، ولكن وجود التجمعات الثلاثة لخطوط الاتجاهات المتساوية للصلاة في بعض المناطق، يجعل الاستدلال على اتجاه القبلة في هذه الأماكن غير يسير، حيث قد تختلط عليه الاتجاهات لتقاربها كثيرا من بعضها البعض.(2/319)
لاحظنا عند رسم خريطة العالم، وتوقيع خطوط الاتجاهات المتساوية للصلاة عليها، أن هذه الخطوط تتجمع عند ثلاثة أماكن. أولها مكة المكرمة، وهذا التجمع طبيعي؛ لأن اتجاه الصلاة دائما نحوها. وأما التجمعان الآخران فهما عند القطبين الأرضيين. وإذا باعدنا بين هذه الخطوط في رسم خريطة العالم، فإنه بالتبعية يحدث ابتعاد بين خطوط الاتجاهات المتساوية للصلاة في هذين المكانين. وعلى ذلك استعملنا الإسقاط المتعامد لخطوط الطول والعرض الأرضية، بدلا من الإسقاط السابق بيانه، وهو المرسوم في الصحيفة رقم (313) .
وفي حالة الإسقاط المتعامد، وهو الإسقاط الأسطواني، نجد أن جميع خطوط العرض تتوازى مع بعضها البعض، وكذلك جميع خطوط الطول، وأن كلا منهما يكون عموديا على الآخر وهذا الإسقاط على نوعين:
أ- الإسقاط المتساوي.
ب- إسقاط مركيتور.
ففي الإسقاط الأول نجد أن المسافات بين خطوط العرض تساوي نظائرها على سطح الأرض، وأما المسافات بين خطوط الطول فهي تساوي المسافات التي بينها عند خط الاستواء الأرضي. وهذا الإسقاط لا يحتفظ بمقياس رسم صحيح بين الطول والعرض، سوى عند خط الاستواء فقط، ولكنه شائع الاستعمال في الأطالس الجغرافية.
وأما في الإسقاط الثاني فإنه يتم المحافظة على مقياس الرسم عند تقاطعات خطوط الطول والعرض، وبذلك يكون التشابه قريبا من الصحة في الأماكن المحدودة، ولو أن الخريطة جميعها لها مقاييس رسم مختلفة عن بعضها.
ونلاحظ عند توقيع خطوط الاتجاهات المتساوية للصلاة على هذين الإسقاطين، أن هذه الخطوط تتجمع عند مكة المكرمة، ولكنها تفترق عند المنطقة القطبية الشمالية والجنوبية، وأما التجمع الحادث عند طرف الخريطة، فهو تجمع هذه الخطوط عند جزيرة (موروروا) من مجموعة جزر بولنيزيا، وهي النقطة المقابلة لمكة المكرمة في الجهة الأخرى من الكرة الأرضية، ولقد سبق ذكرها في هذا البحث. وهذا التجمع لا يعنينا؛ لأن هذه المنطقة في وسط المحيط الهادي وبعيدة عن القارات الأرضية المعمورة بالسكان.
وفي الصحيفة رقم (323) نجد الإسقاط الأول المتساوي بدون رسم خطوط الاتجاهات المتساوية للصلاة عليه، ولكننا بدلا من ذلك كتبنا عليه مقادير انحرافات القبلة عند كل تقاطع بين خطوط الطول والعرض. وهذا الرسم يصلح استعماله لذوي الدراية، ممن يعرفون خطوط الطول والعرض المارة ببلادهم، فيقرءون اتجاه القبلة من هذا الرسم مباشرة، أو بعد عملية تناسب رياضية بسيطة.(2/322)
كما يوجد إسقاط مركيتور لخطوط الطول والعرض على الصحيفة رقم (324) . وبعد ذلك رسمت خطوط الاتجاهات المتساوية للصلاة على كل من هذين الإسقاطين. كما هو مبين في الصحيفتين رقم (325، 326) .
وهذه الخرائط يستطيع الشخص العادي الاستفادة منها في معرفة اتجاه الصلاة الصحيح في أي مكان يوجد فيه، وذلك أولا بتحديد مكانه على الخريطة، ثم بعد ذلك يقرأ المقدار العددي المكتوب على أقرب خط من خطوط الاتجاهات المتساوية للصلاة إلى هذا المكان. فيكون الرقم العددي هو الانحراف الدائري إلى مدينة مكة المكرمة من عند هذا الموضع. ثم باستعمال بوصلة مغناطيسية عادية يمكنه تحديد اتجاه الصلاة الصحيح بعد ذلك.
ولكن المنطقة المحيطة بمكة المكرمة عن قرب لا يزال يصعب بيان الخريطة فيها، ولذلك عملت المحاولة الثالثة التي سيأتي شرحها، فيما يلي:
في هذه الحالة، استعملنا إسقاطا جديدا، يجمع بين الإسقاط الأول الخاص للكرة الأرضية بالنسبة إلى مكة المكرمة، وبين الإسقاط المتعامد. وفي هذا الإسقاط نرسم خطوط الطول متوازية والمسافات التي بينها متساوية وتكافئ المسافات الفاصلة بينها عند خط الاستواء الأرضي. ثم نوقع عليها خطوط العرض بصورة تجعلنا نحتفظ بالانحرافات الصحيحة بين نقط تقابل هذه الخطوط مع خطوط الطول وبين مكة المكرمة، وعلى ذلك نستطيع أن نسجل هذه الانحرافات الدائرية على محيط الدائرة الخارجي لهذا الإسقاط. وفي هذه الحالة لا نحتاج إلى رسم خطوط الاتجاهات المتساوية للصلاة السابق ذكرها، بل نأخذ الانحراف المطلوب لأي مكان من الرقم المدون على محيط دائرة الإسقاط، كما هو الحال في خريطة العالم حول مكة المكرمة.
ولقد تم توقيع هذا الإسقاط كذلك باستعمال الجهاز الحاسب الإلكتروني، والشكل المرسوم في الصحيفة رقم (328) يبين هذا الإسقاط في صورة دائرة.(2/327)
ملاحظات على هذا الإسقاط
1 - تظهر الخريطة بوضوح، لأننا لا نحتاج لرسم خطوط الاتجاهات المتساوية للصلاة عليها.
2 - المنطقة المحيطة بمكة المكرمة والقريبة منها يسهل تعيين اتجاهات الصلاة فيها بدقة.
3 - القارات الثلاث الرئيسية، وهي آسيا وأفريقية وأوربا، يمكن توقيعها بشكل مألوف على هذا الإسقاط. بينما القارات الثلاث الأخرى، وهي الأمريكتان واستراليا يتعذر ذلك معها، حيث نشاهد من خطوط الإسقاط، أن خطوط العرض تغير اتجاهاتها الطبيعية عند هذه القارات المذكورة وعلى ذلك لا يمكن رسمها على خريطة الإسقاط بصورة مألوفة.
ولذلك فإننا نرى أن يستعمل هذا الإسقاط الأخير بنجاح في المنطقة التي تحد رأسيا بخط العرض (40°) جنوبا إلى القطب الأرضي الشمالي، كما تحد أفقيا من خط الطول (120°) درجة شرقا إلى (30°) درجة غربا، وهذه المنطقة تقع فيها بلاد الأمة الإسلامية. أما باقي القارات فمن الأفضل استعمال خريطة الاتجاهات المتساوية للصلاة عندها، وهي الأمريكتان واستراليا.
ولقد رسمت في الصحيفة رقم (330) القارات الثلاث آسيا وأفريقية وأوربا بإسقاط الانحرافات الدائرية الصحيح، وهذا الإسقاط هو الذي يستعمل في رسم الخرائط المطلوبة مع جهاز تعيين اتجاه القبلة. كما رسمت في الصحيفة رقم (331) أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية بالإسقاط المتساوي ورسم عليهما خطوط الاتجاهات المتساوية للصلاة. وكذلك في الصحيفة رقم (332) رسمت استراليا وجزر الهند الشرقية بهذا الإسقاط المذكور.(2/329)
عند ملاحظة خطوط العرض الأرضية في الإسقاط الدائري الصحيح، في الصحيفة رقم (330) ، نجد أنها تبدأ مرتفعة من عند خط الطول (40°) درجة شرقا المار بمكة المكرمة، ثم بعد ذلك تنخفض كلما ابتعدنا شرقا أو غربا. وهذا الأثر يجعل مظهر القارات الأرضية يبدو غير مألوف بعض الشيء عند توقيعها على خطوط الطول والعرض في هذا الإسقاط. ولقد رأينا تصحيحا لذلك أننا لو جعلنا المسافات الفاصلة بين خطوط الطول تزداد بنسبة معلومة كلما ابتعدنا عن خط الطول الأساسي المار بمكة المكرمة، فإن ذلك يساعد على ظهور خطوط العرض بشكل أفقي تقريبا.
وهذا التعديل في الإسقاط الدائري الصحيح مرسوم في الصحيفة رقم (334) . وقد اكتفينا برسم هذه الخطوط من 30° درجة غربا إلى 110° درجة شرقا، ومن 80° درجة شمالا إلى 50° درجة جنوبا، لأن هذا الجزء من سطح الكرة الأرضية هو الذي يصلح عنده استعمال الإسقاط الدائري الصحيح.
وهذا البحث يمكن أن يكون له امتدادات كثيرة لتحسين هذه الإسقاطات، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.(2/333)
الدكتور حسين كمال الدين
البيانات الخاصة:
الاسم: حسين كمال الدين أحمد إبراهيم.
المولد: القاهرة 1913 م.
الديانة: مسلم.
الجنسية: مصري.
***
البيانات العلمية:
أولا: المؤهلات:
1 - بكالوريوس في الهندسة المدنية مع مرتبة الشرف من جامعة القاهرة عام 1938 م.
2 - ماجستير في المساحة التصويرية عام 1943 م.
3 - دكتوراه في المساحة التصويرية عام 1950 م.
ثانيا: الخبرة في التدريس:
1 - معيد بكلية الهندسة بجامعة القاهرة من 1938 - 1944 م.
2 - مدرس بكلية الهندسة بجامعة القاهرة من 1944 - 1953 م.
3 - أستاذ مساعد بكلية الهندسة بجامعة القاهرة من 1953 - 1961 م.
4 - أستاذ كرسي المساحة والجيوديسية بجامعة أسيوط 1961 - 1971 م.
5 - أستاذ المساحة بكلية الهندسة بجامعة الرياض 1971 - 1975 م (عقد شخصي) .
6 - أستاذ بكلية الهندسة بجامعة بغداد - عن طريق الإعارة 1944 - 1946 م.
7 - أستاذ منتدب بالمعهد العالي للمساحة بالقاهرة - وجامعة الزهر - وجامعة القاهرة.(2/335)
ثالثا: المواد المساحية التي قام بتدريسها:
1 - المساحة المستوية 2- المساحة الطبوغرافية 3- المساحة الجيوديسية 4- مساحة المناجم 5- المساحة التصويرية 6- الجيولوجيا التصويرية 7- نظرية الأخطاء 8- الفلك الكروي رابعا: الأعمال الإدارية:
1 - رئيس قسم الهندسة المدنية بجامعة أسيوط كلية الهندسة عام 1963 - 1969 م.
2 - وكيل كلية الهندسة بجامعة أسيوط عام 1964 - 1968 م.
3 - رئيس قسم الهندسة المدنية بكلية الهندسة بجامعة الرياض عام 1971 - 1973 م.
خامسا: اللجان العلمية:
1 - عضو لجنة المساحة التصويرية المصرية ممثلا للجامعات المصرية.
2 - عضو لجنة إنشاء كلية الهندسة بالجامعة الأزهرية، ووضع المناهج الخاصة بها عام 1961 م.
3 - عضو لجنة إنشاء المعهد العالي للمساحة بمصر، ورعاية المناهج الخاصة به 1963 - 1971 م.
4 - عضو لجنة الترقيات العلمية لدرجة الأستاذية بالجامعات المصرية.
سادسا: الكتب والمؤلفات:
1 - كتاب المساحة المستوية - عدة طبعات باللغة العربية.
2 - كتاب المساحة الطبوغرافية - عدة طبعات باللغة العربية.
3 - كتاب المساحة الجيوديسية ونظرية الأخطاء - عدة طبعات باللغة العربية.
4 - الفلك الكروي - باللغة العربية - لم يطبع.
5 - مساحة المناجم - باللغة العربية - لم يطبع.
6 - المساحة التصويرية - باللغة العربية - لم يطبع.
7 - تعريب كتاب المساحة التصويرية الأرضية، للأستاذ ماكس زيللر.
سابعا: الأبحاث والمقالات العلمية:
1 -إدخال تعديلات لتبسيط بعض الأدوات المساحية لإقامة وإسقاط الأعمدة.
2 - تصميم جهاز لرسم القطاعات الطولية لسطح الأرض.(2/336)
3 - الانتقال النسبي لمواقع النقط في الصور الجوية نتيجة لإمالة هذه الصور - مجلة الفوتوجرامتري الأميركية 1951 م.
4 - لاؤية المجسمة والاستفادة منها في المساحة التصويرية مجلة الهندسة المدنية المصرية 1953 م.
5 - تصميم ثلاثة أنواع من جهاز تعيين اتجاه القبلة للصلاة، من أي مكان من الأرض.
6 - تعيين مواقيت الصلاة، في أي زمان ومكان على سطح الأرض.
ملاحظة: البحوث رقم 5، 6، 7 تم عملها في كلية الهندسة بجامعة الرياض.
7 - إسقاط جديد للكرة الأرضية حول مدينة مكة المكرمة " لمعرفة اتجاهات القبلة للصلاة في جميع بلدان العالم ".
8 - تعيين دقة القياسات الإلكترونية في الظروف الجوية الخاصة بالمملكة العربية السعودية.
ملاحظة: البحث رقم 8 مسجل تبع مركز البحوث بكلية الهندسة بجامعة الرياض، وهو تحت البحث حتى الآن ولم ينته بعد.
ثامنا: الإشراف على الأبحاث:
1 - استعمال التصوير الجوي والأرضي في أعمال مساحة المناجم - ماجستير بجامعة أسيوط عام 1964 م.
2 - استعمال التصوير الجوي في تخطيط وتصميم الطرق - دكتوراه بجامعة عين شمس عام 1964 م.
3 - تحليل وتعيين العوامل المؤثرة في دقة إنتاج الخرائط باستعمال أجهزة رسم الخرائط التصويرية من الدرجة الأولى والثانية - دكتوراه بجامعة عين شمس عام 1964 م.
4 - المقارنة بين الطرق المختلفة للقياسات التكيومترية - ماجستير الأزهر عام 1970 م.
5 - المبالغة في الارتفاعات عند الرؤية المجسمة للصور الجوية - ماجستير بجامعة أسيوط 1950 م.
6 - استعمال الصور الجوية في أخذ الإحصاءات (قراءة الصور) على مدينة القاهرة - ماجستير بجامعة أسيوط عام 1970 م.
7 - تحليل العوامل المؤثرة في المبالغة في الارتفاعات بقصد تعيين الارتفاعات الصحيحة عند الرؤية المجسمة - دكتوراه بجامعة أسيوط عام 1971 م.
8 - إنشاء وترتيب النماذج المصورة المختلفة لقراءة الصور على القطر المصري - دكتوراه بجامعة أسيوط عام 1971 م.(2/337)
تاسعا: التقارير العلمية:
1 - تقرير خاص بتعيين أفضل المناسيب لاستخراج الطاقة الكهربائية من منخفض القطارة بالقطر المصري بالتعاون مع الأستاذ الدكتور حسن مصطفى عام 1953 م.
2 - تقرير لحساب شركة سيناء للمنجنيز، حول الخرائط اللازمة لعمليات التعدين لهذه الشركة عام 1961 م.
3 - تقرير لحساب المؤسسة الاقتصادية المصرية، لغرض إنشاء وحدة للصور الجوية لعمل الخرائط الجيولوجية اللازمة لشركات التعدين في هذه المؤسسة عام 1961 م.
4 - تقرير مقدم إلى المديرية العامة للمصالح العقارية (مديرية المساحة والتحسين العقاري) بالجمهورية العربية السورية - حول استعمال التصوير الجوي وإمكانية تطبيقه على أعمال المساحة الأرضية في هذه البلاد - يوليه 1973 م.(2/338)
مسألة الاحتجاج بالشافعي
فيما أسند إليه
والرد على الطاعنين
بعظم جهلهم عليه
تصنيف الإمام العالم الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى
خليل إبراهيم ملا خاطر
حققها وخرج نصوصها وعلق عليها
دكتوراه في الحديث وعلومه
والأستاذ المساعد بكلية الشريعة
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية(2/339)
" جزء فيه مسألة الاحتجاج بالشافعي فيما أسند إليه والرد على الطاعنين بعظم جهلهم عليه ".
تصنيف الشيخ الإمام العالم الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي.
رواية الشيخ أبي محمد يحيى بن علي بن محمد بن علي بن الطراح إذنا عنه.
رواية بنت ابنه الشيخة الصالحة نعمة بنت علي عنه.
رواية الشيخين أبي محمد إسماعيل بن أبي اليسر، وأبي بكر محمد بن علي النشبي عنها.
***(2/340)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين الذي تكفل بالحفظ لهذا الدين فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) وجعل من عباده أعلاما يجددون هذا الدين كلما علاه الغبار فينفون ما علق به. وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي القرشي المكي المدني القائل: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها (2) » والذي خص عالم قريش بزيادة العلم والفهم والمعرفة فقال: «عالم قريش يملأ طباق الأرض علما (3) » وقال: «الأئمة من قريش (4) » صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وذريته ومن تولاه واتبع سنته إلى يوم الدين.
كما أن الله تعالى تكفل أن يبعث لعباده المؤمنين الصالحين من يدافع عنهم ولو من غير طلب منهم فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (5) .
وإذا كان الأئمة الأعلام الهداة المهديون الفقهاء المجتهدون فيما بينهم أخوة متحابين هدفهم إقامة شرع الله والنصح لهذه الأمة. فإنه مما لا شك فيه أنه لم يخل واحد منهم من حاسد أو طاعن. وإذا كان هؤلاء الأئمة الأعلام لم يلتفتوا إلى الطاعنين الحاسدين بعين السخط والازدراء - بل قابلوهم بالدعاء والإقبال - فإن من جاء بعدهم جند نفسه للذب عنهم.
ومن هؤلاء الأئمة الأعلام: الإمام المطلبي القرشي أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي سارت بفضائله الركبان. ومع هذا فقد حاول بعض الحاسدين أن يتكلموا فيه بالذي ليس له حقيقة، إنما أخذهم الحسد لا غير.
وإذا كان الإمام البيهقي - رحمه الله تعالى - جند نفسه لجمع مرويات الشافعي وأقواله وألف الكتب في ذلك حتى قيل: " ما من شافعي إلا وللشافعي له عليه منة إلا البيهقي فله المنة على الشافعي. . . " (6) فإن الإمام الحافظ الخطيب البغدادي - رحمه الله تعالى - فعل مثل هذا ولكن بالكثرة الكاثرة التي فعلها البيهقي من قبل. فقد ألف - رحمه الله تعالى - رسالة يرد فيها على بعض المتعصبين من الحنفية فيما قالوه حسدا عن الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى -.
__________
(1) سورة الحجر الآية 9
(2) سيأتي تخريج الحديثين.
(3) سيأتي تخريج الحديثين.
(4) أخرجه أحمد والنسائي والحاكم والطيالسي والبيهقي وأصله في الصحيح.
(5) سورة الحج الآية 38
(6) انظر التذكرة: 1137.(2/341)
والإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - لم يكن كتاب الخطيب البغدادي هو الكتاب الوحيد الذي ألف فيه بل كتبت في ترجمته عشرات المجلدات. منها ما وصل إلينا ومنها ما لم يصل، والذي وصل، منه المطبوع ومنه المخطوط حتى اليوم. وكتاب الخطيب - الذي نقدمه اليوم - إنما هو حلقة متصلة بغيرها مما ألف في الدفاع عن الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى -.
وصلتي بهذا الكتاب قديمة - وإن كان هذا الكتاب يعد عند المختصين بالخطيب البغدادي من المفقودات - وإنما عثرت عليه بواسطة المرحوم رشاد عبد المطلب الخبير بالمخطوطات بمعهد المخطوطات بالقاهرة. وسأذكر وصفا لهذه المخطوطة بعد ذكري لترجمة الخطيب البغدادي - رحمه الله تعالى -. ثم ذكر تراجم سند هذه المخطوطة من بعد الخطيب حتى صاحبها " ابن جعوان ".(2/342)
ترجمة الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى
اسمه ونسبه
أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي يكنى أبا بكر واشتهر بالخطيب البغدادي. ذكر الخطيب في ترجمة والده (1) : أن أصله من العرب كان مسكن عشيرته بالحصاصة من نواحي الفرات (2) ، كان والده خطيبا للجمعة والعيدين بقرية (درزيجان) بالقرب من بغداد. وله إلمام بالعلم (3) وكان أحد الحفاظ لكتاب الله، تولى الخطابة والإمامة نحوا من عشرين سنة.
__________
(1) انظر تاريخ بغداد 11: 359.
(2) معجم البلدان 2: 274 قرية من قرى السواد قرب قصر ابن هبيرة من أعمال الكوفة.
(3) انظر طبقات الشافعية للسبكي 4: 29.(2/343)
ولادته
ولد أبو بكر الخطيب يوم الخميس لست بقين من جمادى الآخرة سنة ثنتين وتسعين وثلاثمائة (1) وقيل سنة إحدى وتسعين.
***
نشأته
نشأ أبو بكر في كنف والده فبث فيه روح العلم والتقى، وحبب إليه القرآن ومجالس العلماء فتعلم القراءة والكتابة وقراءة القرآن ووجوه القراءات عندما صار في سن التمييز. وتأدب عند هلال بن عبد الله الطيبي.
***
__________
(1) انظر تاريخ دمشق لابن عساكر 1: 399 وفيات الأعيان 1: 76 معجم الأدباء 4: 16 وغيرها.(2/344)
أول سماعه للحديث
لما بلغ أبو بكر إحدى عشرة سنة أرسله أبوه إلى جامع بغداد ليحضر حلقة ابن رزقويه وكتب عنه إملاء مجلسا واحدا ثم انقطع عنه مدة ثلاث سنوات انشغل فيها بالفقه ثم عاد إلى ابن رزقويه ولازمه إلى آخر حياته (1) ، وحضر مجلس كبار الفقهاء كأبي حامد الإسفراييني الذي انتهت إليه رياسة المذهب الشافعي ببغداد. ثم أحمد بن محمد المحاملي شيخ الشافعية ببغداد بعد الأسفراييني وهو أول من علق الفقه عنه (2) وكذلك أمثال: الفقيه الكبير طاهر بن عبد الله الطبري وأبي الطيب الطبري وأبي نصر بن الصباغ. فبرع في الفقه الشافعي والخلاف حتى صار فقيها ثم غلب عليه الحديث. لم يترك محدثا من محدثي بغداد إلا أخذ عنه ثم عزم على الرحلة إلى الأقطار الإسلامية ليأخذ عن محدثيها.
__________
(1) انظر تاريخ بغداد ترجمة ابن رزقويه 1: 351.
(2) تاريخ بغداد 4: 372.(2/344)
رحلاته في طلب الحديث
لقد بدأ رحلاته سنة اثنتي عشرة وأربعمائة فسافر إلى البصرة والكوفة - وعمره إذ ذاك عشرون سنة -. ثم سافر إلى نيسابور وأصبهان والري وهمذان والدينور والجبال. ثم سافر إلى مكة المكرمة ودمشق والمدينة المنورة والقدس وصور وطرابلس. كانت رحلته الأولى سنة اثنتي عشرة وأربعمائة التي توفي فيها أبوه في شهر شوال ثم قام برحلته الثانية إلى جهة المشرق بعد استشارته لشيخه البرقاني وتزويده برسالة إلى أبي نعيم محدث أصبهان. وكانت هذه الرحلة سنة خمس عشرة وأربعمائة والتقى فيها بمحدثين كثيرين وأخذ عنهم واستفاد من هذه الرحلة كثيرا. وإما رحلته الثالثة فهي إلى الحج وكانت سنة أربع وأربعين وأربعمائة لكنه زار فيها دمشق والمدينة ثم زار بيت المقدس في عودته، ثم صور في سنة ست وأربعين.
***(2/345)
نيته عند شربه ماء زمزم
لقد ذكر الخطيب - رحمه الله - أنه لما حج شرب من ماء زمزم ثلاث شربات، وسأل الله ثلاث حاجات آخذا بالحديث «ماء زمزم لما شرب له (1) » .
الحاجة الأولى: أن يحدث بتاريخ بغداد بها.
الحاجة الثانية: أن يملي الحديث بجامع المنصور.
الحاجة الثالثة: أن يدفن عند بشر الحافي " رحمه الله " فقضى الله له ذلك.
***
__________
(1) سنن ابن ماجه المناسك (3062) ، مسند أحمد بن حنبل (3/357) .(2/345)
إبطاله لكتاب مزور كتبه اليهود
إن هذه الحادثة جرت سنة سبع وأربعين وأربعمائة وكان لها أكبر الأثر في رفع مقام الخطيب وانتشار سمعته ورفعة منزلته. وهي تدل على سعة علمه واطلاعه ونباهته واستحضاره للوقائع والتاريخ. وأصل الحادثة: أن كان قد أظهر بعض اليهود كتابا، وادعى إنه كتاب رسول الله - صلى(2/345)
الله عليه وسلم - بإسقاط الجزية عن أهل خيبر وفيه شهادات الصحابة، وإن خط علي بن طالب فيه، فعرضه رئيس الرؤساء ابن المسلمة على أبي بكر الخطيب، فقال: هذا مزور، قيل: من أين لك؟ قال: في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية أسلم يوم الفتح، وخيبر كانت في سنة سبع، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وكان قد مات يوم الخندق، فاستحسن ذلك منه واعتمده وأمضاه ولم يجز اليهود على ما في الكتاب لظهور تزويره. وصنف رئيس الرؤساء في إبطاله جزءا وكتب عليه الأئمة أبو الطيب وأبو نصر بن الصباغ والدامغاني والبيضاوي وغيرهم. وقد أذن للخطيب بعدها أن يملي الحديث في جامع المنصور ببغداد بعد هذه الحادثة.
***(2/346)
خروج الخطيب إلى دمشق وهجره بغداد
لقد استولى " البساسيري " مقدم الأتراك ببغداد على البلاد في سنة خمسين وأربعمائة، وكان البساسيري (1) سيئ العقيدة على مذهب الفاطميين فدعا لصاحب مصر في الخطبة وزيد في الأذان " حي على خير العمل "، ونفى الخليفة إلى " حديثة عانة " وصلب ابن المسلمة صاحب الخطيب ورئيس الرؤساء. وكان عوام من الحنابلة قد آذوا الخطيب (2) ، فخشي أن تدبر له مؤامرة ويوشى به لدى البساسيري لذا قرر الهجرة إلى دمشق فخرج منتصف شهر صفر سنة إحدى وخمسين وأربعمائة مستترا وأخذ معه كتبه وتصانيفه وسماعاته لعزمه على المقام بها. وسكن في المأذنة الشرقية من الجامع الأموي وبدأ تدريس الحديث وغيره في المسجد، لكنه لم يدم له المقام بدمشق إذ ثار عليه الروافض عند سماعهم منه فضائل العباس - رضي الله عنه - وكانت دمشق تحت حكم الفاطميين - فخرج إلى صور (3) وذلك سنة سبع وخمسين وأربعمائة وقيل سنة تسع وخمسين ومكث بين صور وبيت المقدس حتى شعبان من سنة اثنتين وستين وأربعمائة.
__________
(1) انظر القصة في تاريخ بغداد 9: 399 - 404.
(2) انظر المنتظم 8: 267 وتأنيب الخطيب: 12.
(3) انظر البداية 12: 102 وطبقات الشافعية للحسيني 164 - 165.(2/346)
رجوعه إلى بغداد
لما بلغ أبو بكر من العمر سبعين عاما وشعر بقرب أجله واشتاق إلى بلده بغداد عزم على السفر إليها، فسافر بصحبة تلميذه وصاحبه عبد المحسن بن محمد بن علي الشيحي في شعبان سنة اثنتين وستين وأربعمائة، فسلكا طريق الساحل فمرا بطرابلس ثم حلب وأقام بها أياما ثم توجه إلى بغداد فوصلها في ذي الحجة من السنة نفسها وكان في طريقه يختم في كل يوم وليلة ختمة كاملة.
ولما وصل بغداد استأنف تحديثه ودرسه في جامع المنصور ببغداد واجتمع إليه طلابه بلهف وشوق فحدث بسنن أبي داود من روايته وأملى فصولا من التاريخ والزيادات.
***(2/347)
مرضه ووصيته ووفاته
مرض الخطيب - رحمه الله تعالى - في منتصف رمضان من سنة ثلاث وستين في حجرته بباب المراتب بدرب السلسلة قرب المدرسة النظامية. ولم يكن له عقب ولا وارث فأراد أن يختم حياته بعمل من أعمال البر فكتب إلى القائم بأمر الله يستأذنه أن يفرق ماله - وكان مائتي دينار - (1) على أصحاب الحديث فأذن له ووكل أمر توزيعه إلى أبي الفضل بن خيرون. وأوصى بأن يتصدق بجميع ثيابه وما يملكه من أشياء بعد موته ووقف جميع كتبه ومصنفاته على المسلمين وسلمها إلى ابن خيرون.
واشتد مرضه في ذي الحجة وتوفي ضحى يوم الإثنين سابع ذي الحجة من سنة ثلاث وستين وأربعمائة رحمه الله.
ولما مات دفن عند قبر بشر الحافي - رحمهما الله تعالى - يوم الثلاثاء، وكان قد صلي عليه في جامع المنصور وصلى عليه القاضي أبو الحسين محمد بن علي بن المهتدي بالله وتبعه الفقهاء والخلق العظيم - وكان بين يدي الجنازة جماعة ينادون: هذا الذي كان يذب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هذا الذي كان يحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أبو إسحاق الشيرازي شيخ الشافعية ممن حمل جنازته. وكان قد حضرها جميع الفقهاء وأهل العلم ونقيب النقباء في بغداد (2) . وانتشر خبر وفاته في البلاد الإسلامية وأرسلت
__________
(1) انظر المنتظم 8: 269، والتذكرة 3: 1143، ومعجم الأدباء 4: 45.
(2) انظر التبيين 269 - 270، والتذكرة 3: 1144.(2/347)
الكتب من بغداد بنعيه، ورثاه كثير من أهل العلم والشعراء ورآه كثير من الصلحاء في المنام على أحسن حال (1) .
***
__________
(1) انظر الطبقات للسبكي 4: 37.(2/348)
علومه
لقد أخذ الخطيب من كل علم بنصيب جيد وحظ وافر، فقد قرأ القرآن وتعلم وجوه القراءات ثم درس الفقه وأصوله حتى صار من كبار فقهاء الشافعية، ودرس علوم الآلة والأدب حتى اعتبر نحويا أديبا وسمع الحديث ورحل فيه واشتغل بالتاريخ خصوصا تاريخ رجال الحديث وغلب عليه الحديث والتاريخ. وصنف وهذب ورتب ونقد.
تفقه بالمحاملي وأبي الطيب الطبري وأبي نصر بن الصباغ وهم من كبار فقهاء الشافعية ببغداد، وكان في العقيدة على مذهب أبي الحسن الأشعري - رحمه الله تعالى -.
***(2/348)
بعض مناقبه وأخلاقه
لقد كان الخطيب - رحمه الله - على جانب كبير من الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة والمناقب النبيلة. كان مخلصا في عمله وتصنيفه، ورعا متحفظا غير متقرب لسلطان ولا لذي جاه، عفيف النفس، غير حريص على الدنيا (1) ، زاهدا فيها، متحملا للأذى، كان متواضعا حتى إنه ما كانت تروق له الأسماء والألقاب كالحافظ والمحدث، كان كريما معطاء، كان حريصا على تطبيق العلم كحرصه على جمعه وضبطه وفهمه كان يقول: " الواجب أن يكون طلبة الحديث أكمل الناس أدبا، وأشد الخلق تواضعا وأعظمهم نزاهة وتدينا وأقلهم طيشا وغضبا لدوام قرع أسماعهم بالأخبار المشتملة على محاسن أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآدابه وسيرة السلف الأخيار من أهل بيته وأصحابه، وطرائق المحدثين ومآثر الماضين، فيأخذوا بأجملها وأحسنها ويصدفوا عن أرذلها وأدونها " (2) .
__________
(1) انظر معجم الأدباء 4: 31، والتذكرة 3: 1138، والطبقات للسبكي 4: 34.
(2) مقدمة الجامع لأخلاق الراوي.(2/348)
بعض صفاته
لقد كان الخطيب - رحمه الله - جيد الخط، وجودة الخط قليلة لدى كبار المحدثين، وقد عقد في كتابه (الجامع) بابا خاصا سماه باب تحسين الخط وتجويده (1) ، كان فصيحا في نطقه ولهجة كلامه حسن القراءة جهوري الصوت يسمع صوته عند قراءته الحديث كل من في المسجد (2) ، كان حريصا على المطالعة كان يمشي في الطريق وفي يده جزء من الحديث يطالعه (3) كان سريعا في القراءة ضرب به المثل في تفرده في زمانه بذلك (4) . قرأ صحيح البخاري في ثلاثة مجالس على شيخه الحيري.
كما كانت عليه - رحمه الله - هيبة ووقار. كان نبيلا خطيرا. ثقة صدوقا متحريا حجة فيما يصنفه وينقله ويجمعه حسن النقل، كثير الشكل والضبط وكان في درجة الكمال والرتبة العليا خلقا وخلقا وهيئة ومنظرا - كذا قال ابن السمعاني (5) . كان هادئ الشخصية بعيدا عن التدخل في الأمور السياسية.
***
__________
(1) ورقة 52 - 56.
(2) التذكرة 3: 1138، والشذرات 3: 312.
(3) المنتظم 8: 267.
(4) صبح العشي 1: 454.
(5) معجم الأدباء 4: 30.(2/349)
شيوخه
إن الرحلات التي قام بها الخطيب والبلدان التي زارها أو أقام بها جعلته يلتقي بعدد كبير وكبير جدا من الشيوخ الذين سمع منهم أو قرأ عليهم أو روى عنهم، وهذا ما جعل بعض الذين ترجموا للخطيب يقولون بأن عدد شيوخه يزيدون على الألف شيخ، بينهم عدد من أئمة الحديث وحفاظه وكبار الفقهاء المشهورين في عصره في بلاد الشرق والجزيرة والعراق والشام والحجاز وغيرها. أمثال أبي نعيم - صاحب الحلية - والبرقاني، وأبي الحسن البزاز، وأبي عبد الله الصوري وغيرهم.(2/349)
تلاميذه
إن الخطيب - رحمه الله تعالى - بعد أن لمع نجمه وارتفعت مكانته - وكيف لا وهو العالم الكبير والحافظ الإمام والمصنف الشهير والرحالة الصبور، الذي جمع من المصنفات والكتب ما لا سمعه شيوخه وأقرانه - كثر تلاميذه في مختلف البلاد التي أقام بها ورحل الناس إليه يسمعون مصنفاته ويقرأون عليه مروياته، حتى أخذ عنه بعض شيوخه الكبار بعد عودته إلى بغداد، كالبرقاني وغيره من شيوخه، وابن ماكولا، وابن الأكفاني، والأسفراييني، ويحيى بن علي الخطيب التبريزي، وابن خيرون وأبي المعالي الشريف المرتضى وغيرهم كثير.
***(2/350)
مصنفاته
كان الخطيب البغدادي - رحمه الله - أحد الأئمة المكثرين من التصنيف، المجيدين البارعين وقد اشتهرت تصانيفه وعرف بها، وكان أهل الحديث من بعده عالة عليه. وقد ذكر السمعاني أنه صنف قريبا من مائة مصنف صارت عمدة لأصحاب الحديث (1) . إذ ما من باب من أبواب علوم الحديث إلا وألف فيها رسالة أو جزءا. لكن لم يصل إلينا كل ما كتبه الخطيب - رحمه الله -، بل وصلنا ربع ما قيل إنه قد كتبه تقريبا. وقد ذكر أصحاب الفهارس والأستاذان الدكتور العش والأخ الدكتور محمود طحان ما يقرب من ثمانين كتابا من كتب الخطيب. والمصنفات التي ذكروها هي:
1 - الأمالي.
2 - كتاب فيه حديث " الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن ".
3 - حديث عبد الرحمن بن سمرة، وطرقه: في جزئين.
4 - حديث النزول.
5 - كتاب فيه حديث " نضر الله امرءا سمع منا حديثا ".
6 - طريق حديث " قبض العلم " في ثلاثة أجزاء.
7 - حديث " طلب العلم فريضة على كل مسلم ".
__________
(1) الأنساب ق 203.(2/350)
8 - مجموع حديث أبي إسحاق الشيباني في ثلاثة أجزاء.
9 - مجموع حديث محمد بن حجارة، وبيان بن بشر، وصفوان بن سليم، ومطر الوراق، ومسعر بن كدام.
10 - مجموع حديث محمد بن سوقه في ثلاثة أجزاء.
11 - مختصر السنن من أصل الخطيب.
12 - مسند أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - على شرط الشيخين في جزء.
13 - مسند صفوان بن عسال.
14 - مسند نعيم بن هماز العصفاني في جزء.
15 - جزء فيه أحاديث مالك بن أنس عوالي تخريج الخطيب.
16 - أمالي الجوهري تخريج الخطيب.
17 - فوائد أبي القاسم النرسي تخريج الخطيب في عشرين جزءا.
18 - فوائد عبد الله بن علي بن عياض الصوري تخريج الخطيب في أربعة أجزاء.
19 - الفوائد المنتخبة الصحاح والغرائب انتقاء الخطيب من حديث الشريف أبي القاسم الحسني في عشرين جزءا.
20 - الفوائد المنتخبة الصحاح والغرائب تخريج الخطيب لأبي القاسم المهرواني.
21 - الفوائد المنتخبة الصحاح والعوالي تخريج الخطيب لجعفر بن أحمد بن الحسين السراج القاري.
22 - مجلس من إملاء أبي جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة تخريج الخطيب.
23 - بيان حكم المزيد في متصل الأسانيد.
24 - الرباعيات في ثلاثة أجزاء.
25 - الفصل للوصل المدرج في النقل، تسعة أجزاء.
26 - الكفاية في معرفة أصول الرواية ثلاثة عشر جزءا ط.
27 - كتاب فيه الكلام في الإجازة للمجهول والمعدوم والمعلقة بشرط، جزء واحد ط.
28 - المسلسلات ثلاثة أجزاء.
29 - المكمل في بيان المهمل ثمانية أجزاء.
30 - اقتضاء العلم العمل جزء واحد ط.(2/351)
31 - تقييد العلم جزءان ط.
32 - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع خمسة عشر جزءا.
33 - الرحلة في طلب الحديث جزء واحد ط.
34 - شرف أصحاب الحديث ثلاثة أجزاء ط.
35 - الفقيه والمتفقه اثنا عشر جزءا ط.
36 - جزء فيه النصيحة لأهل الحديث ط.
37 - القول في علم النجوم جزء واحد.
38 - نهج الصواب في أن التسمية آية من فاتحة الكتاب جزءان.
39 - إبطال النكاح بغير ولي جزء واحد.
40 - إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة.
41 - الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة جزءان.
42 - الحيل أربعة أجزاء.
43 - الدلائل والشواهد على صحة العمل بخبر الواحد.
44 - صلاة التسبيح والاختلاف فيها جزء واحد.
45 - الغسل للجمعة جزءان.
46 - القضاء باليمين مع الشاهد جزءان.
47 - القنوت والآثار المروية فيه على اختلافها وترتيبها على مذهب الشافعي ثلاثة أجزاء.
48 - مسألة الاحتجاج بالشافعي فيما أسند إليه، والرد على الطاعنين بعظم جهلهم عليه جزء واحد - وهو كتابنا هذا -.
49 - النهي عن صوم يوم الشك.
50 - الوضوء من مس الذكر.
51 - كتاب فيه خطبة عائشة في الثناء على أبيها، من تخريج الخطيب من رواياته عن شيوخه.
52 - المنتخب من الزهد والرقائق.
53 - البخلاء ثلاثة أجزاء ط.
54 - التنبيه والتوقيف على فضائل الخريف.(2/352)
55 - التطفيل، وحكايات الطفيليين وأخبارهم أربعة أجزاء ط.
56 - الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة.
57 - الأسماء المتواطئة والأنساب المتكافئة.
58 - بيان أهل الدرجات العلى.
59 - تلخيص المتشابه في الرسم، وحماية ما أشكل منه عن بوادر التصحيف والوهم في ستة عشر جزءا.
60 - تالي التلخيص أربعة أجزاء.
61 - التبيين لأسماء المدلسين جزءان.
62 - التفصيل لمبهم المراسيل جزء واحد.
63 - تمييز المزيد في متصل الأسانيد ثمانية أجزاء.
64 - رافع الارتياب في المقلوب من الأسماء والأنساب في مجلد.
65 - الرواة عن شعبة ثمانية أجزاء.
66 - الرواة عن مالك تسعة أجزاء.
67 - روايات الستة التابعين بعضهم عن بعض جزء واحد.
68 - روايات الصحابة عن التابعين جزء واحد.
69 - روايات الآباء عن الأبناء جزء واحد.
70 - السابق واللاحق تسعة أجزاء.
71 - غنية المقتبس في تمييز الملتبس في مجلد.
72 - المتفق والمفترق ستة عشر جزءا.
73 - من حدث ونسي جزء واحد.
74 - من وافقت كنيته اسم أبيه مما لا يؤمن من وقوع الخطأ فيه ثلاثة أجزاء.
75 - المؤتنف في تكملة المؤتلف والمختلف في أربعة وعشرين جزءا.
76 - موضح أوهام الجمع والتفريق ط.
77 - تاريخ بغداد مائة وستة أجزاء ط.
78 - مناقب أحمد بن حنبل.
79 - مناقب الشافعي.(2/353)
80 - كتاب الوفيات.
***
هذا ويمكن أن تقسم كتب الخطيب إلى ثمانية أقسام.
1 - أسماء رجال الحديث.
2 - المصطلح.
3 - الأحاديث المخرجة.
4 - آداب المحدث والفقيه.
5 - الأحاديث والمسانيد.
6 - الفقه والأدلة له من الحديث.
7 - الأدب.
8 - التاريخ.
***(2/354)
ثناء العلماء عليه
لا يخلو إنسان من صديق وعدو ومادح وقادح، ويقاس بالغالبية من الطرفين إذا خلا من حسد أو بغض أو عداوة. والخطيب البغدادي - رحمه الله تعالى - أثنى عليه عامة العلماء ما خلا بعض الحنابلة وبعض الحنفية. أما الذين أثنو عليه فهم كثيرون ومن مختلف المذاهب. وفيهم الحفاظ والمحدثون والعلماء والفقهاء الكبار. ويمكن القول بأن عامة العلماء قد اتفقت كلمتهم على مدحه والثناء عليه عدا خصومه.
قال ابن ماكولا عنه: (كان آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفة وإتقانا وحفظا وضبطا لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتفننا في علله وأسانيده، وخبرة برواته وناقليه وعلما بصحيحه وغريبه، وفرده(2/354)
ومنكره، وسقيمه ومطروحه - ولم يكن للبغداديين بعد أبي الحسن الدارقطني من يجري مجراه، ولا قام بهذا الشأن سواه. . . .) (1) .
وقال ابن نقطة الحنبلي: كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه (2) .
وقال السمعاني: إمام عصره بلا مدافعة، وحافظ وقته بلا منازعة. صنف قريبا من مائة مصنف صارت عمدة لأصحاب الحديث (3) . وقال عنه أيضا: إنه في درجة القدماء من الحفاظ والأئمة الكبار كيحيى بن معين وعلي بن المديني وأحمد بن أبي خيثمة وطبقتهم. وقال أيضا: انتهى إليه معرفة علم الحديث وحفظه، وختم به الحفاظ (4) .
وقال ابن عساكر: الفقيه الحافظ أحد الأئمة المشهورين والمصنفين المكثرين والحفاظ المبرزين، ومن ختم به ديوان المحدثين (5) .
وقال ابن خلكان: كان من الحفاظ المتقنين والعلماء المتبحرين. . . وفضله أشهر من أن يوصف (6) .
وقال السبكي: ما طاف سور بغداد على نظيره، يروي عن أفصح من نطق بالضاد ولا أحاطت جوانبها بمثله، وإن طفح ماء دجلتها عن كل صاد (7) .
وقال الذهلي: إمام مصنف حافظ لم تدرك مثله (8) - قاله للسلفي.
وقال ابن الأثير: كان إمام الدنيا في زمانه (9) .
وقال الذهبي: ختم به إتقان هذا الشأن (10) ويقول في دول الإسلام: وفيها مات حافظ الدنيا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب صاحب التصانيف (11) .
__________
(1) مقدمة تهذيب مستمر الأوهام. خ والتذكرة: 1137.
(2) نخبة الفكر: 1.
(3) الأنساب ق 203.
(4) معجم الأدباء 4: 30، والشذرات 3: 312، والتذكرة للذهبي 3: 1138.
(5) تاريخ دمشق 2: 8.
(6) الوفيات 1: 76.
(7) الطبقات للسبكي 4: 34.
(8) تاريخ القاضي ابن أبي شهبة.
(9) الكامل 8: 110.
(10) انظر التذكرة: 1139.
(11) دول الإسلام 1: 199.(2/355)
ومن هذا يظهر اتفاق العلماء على مختلف القرون على تجلته وتوثيقه وإنه الحافظ الإمام حتى إن خصومه قد اعترفوا له بذلك. رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته.
***(2/356)
وأما تراجم رجال سند هذه الرسالة فهم ابن الطراح الراوي هذه الرسالة عن الخطيب البغدادي بالإجازة. هو أبو محمد: يحيى بن علي بن محمد بن علي الطراح المديني ولد بنهر القلائين في سنة تسع وعشرين وأربعمائة ونشأ بها، ثم انتقل إلى الجانب الشرقي، وسمع أبا الحسين بن المهتدي، وأبا جعفر بن المسلمة، وأبا محمد الصريفي، وأبا الغنائم عبد الصمد بن المأمون، وأبا الحسين بن النقور، وأبا بكر الخياط، وأبا القاسم بن البسري، والمهرواني وغيرهم، وكان صالحا ساكنا، قال ابن كثير: سمع الكثير وأسمع، وكان شيخا حسنا مهيبا كثير العبادة، وقال صاحب المنتظم: وكان سماعه صحيحا، وكان من أهل السنة، شهد له بذلك شيخنا ابن ناصر. وكان له سمت المشايخ ووقارهم وسكونهم، مشغولا بما يعنيه، وكان كثير الرغبة في الخير وزيارة القبور، وسمعنا عليه كثيرا وكان مديرا لقاضي القضاة أبي القاسم الزينبي. توفي ليلة الجمعة رابع عشر من رمضان سنة 536 ودفن بالشونيزيه
***(2/356)
ست الكتبة
هي الرواية عن جدها هذه الرسالة بالسماع والتحديث هي نعمة بنت علي بن يحيى بن محمد بن الطراح الدمشقي، أم عبد الغني. شيخة من أهل دمشق، عالمة بالحديث، روته، وأخذ عنها،(2/356)
قال ابن قاضي شبهة: روت الكثير بدمشق عن جدها، من ذلك جملة من تصانيف الخطيب، وحدثت.
وقال سبط ابن الجوزي: شيختنا سمعت عليها الحديث بدمشق سنة 600. سمعت مع أبيها وأخت لها اسمها " عزيزة " وابنة أخيها " صلف بنت محمد بن علي بن الطراح " كتاب " الكفاية في معرفة الرواية، للخطيب البغدادي، على جدها " يحيى " سنة 530، وأجازها به الحافظ " ابن عساكر " وسمعه عليها جماعة. منهم: أبو المجد إسماعيل بن هبة الله بن باطيش الموصلي. كما أخذ عنها علي بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي قراءة عليها بعض سماعها من جدها يحيى. توفيت بدمشق في 28 ربيع الأول، سنة 604. ودفنت خارج باب الفراديس.
***(2/357)
محمد بن علي المظفر بن القاسم
هو نجم الدين أبو بكر محمد ابن المحدث علي بن المظفر بن القاسم. الدمشقي المولد. المؤذن، ولد في المحرم سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وسمع من الخشوعي وطائفة كثيرة. قال الذهبي في ترجمة والده: ومثل ذلك الحافظ ابن حجر: والنشبي من نشبة: بطن من قيس، بينما قال ابن العماد: البشتي، نسبة إلى بشت، قرية بنيسابور، قال الذهبي وابن حجر في ترجمة والده: وأسمع أولاده أبا بكر محمدا، وأبا العز مظفرا. وحدثوا عنه، كتب عنهم الدمياطي. توفي سنة 670 كما قال ابن العماد وقال: توقف بعض المحدثين في السماع منه لأنه كان جنائزيا.
***(2/357)
إسماعيل ابن أبي اليسر التنوخي الراوي عن ست الكتبة
هو الإمام العالم العلامة مسند عصره تقي الدين أبو محمد: إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر شاكر بن عبد الله بن سليمان التنوخي، المعري الأصل، الدمشقي المولد والدار والوفاة،(2/357)
ولد سابع عشر المحرم سنة تسع وثمانين وخمسمائة. سمع الكثير من الخشوعي، وابن طبرزد، وحنبل، والكندي وغيرهم. وحدث مدة بدمشق ومصر وغيرهما، وتفرد برواية أشياء من مسموعاته، وكان شيخا فاضلا نبيلا، من بيت كتابة وعدالة وجلالة. قال الذهبي عنه: كبير المحدثين ومسندهم الإمام تقي الدين.
وقال عنه ابن العماد: " مسند الشام ابن أبي اليسر. له شعر جيد وبلاغة وفيه خير وعدالة، وقد ذكره الحافظ الدمياطي في تاريخه ورفع نسبه إلى عمران بن إسحاق بن قضاعة. وكان له يد في النظم والنثر، كتب الإنشاء للملك الناصر صلاح الدين، وتولى نظر المارستان النووي وغيره ": وقد عمر حتى روى معظم مسموعاته، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي يوم الأحد السادس والعشرين من صفر سنة اثنتين وسبعين وستمائة بدمشق عن ثلاث وثمانين سنة، ودفن بجبل الصالحية بتربة والده، قريبا من مغارة الجوع - رحمه الله تعالى -.
***(2/358)
ترجمة ابن جعوان صاحب النسخة والراوي لها عنهما
الإمام الحافظ المتقن العلامة المحدث الفقيه الشافعي البارع في النحو واللغة: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عباس بن أبي بكر بن جعوان بن عبد الله الأنصاري الدمشقي الشافعي أحد من برع في العربية على ابن مالك. ثم عني بالحديث، سمع ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسير، ومحمد النشبي وأحمد بن أبي الخير، ويحيى بن الصيرفي وطبقتهم وبمصر عن عامر القلعي، والعز بن الصقل وطائفة وكتب وانتخب، وقد قرأ المسند على أبي الغنائم بن علان قراءة عذبة فصيحة لم يأخذوا عليه فيها لحنة واحدة إلا أن يكون سبق لسان. قال ابن كثير: سمعت شيخنا تقي الدين ابن تيمية وشيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول كل منهما للآخر: هذا الرجل قرأ مسند الإمام أحمد وهما يسمعان فلم يضبط عليه لحنة متفقا عليها.
وناهيك بهذين ثناء على هذا وهما هما اهـ. قال عنه ابن مكتوم: كان إماما في اللغة والنحو. كان فاضلا دينا، له معرفة بالأدب، وله طبع مطاوع في النظم، وكان مليح الشكل حسن البزة، كيس العشرة، ثبتا فيما يقول كتب عنه آحاد الطلبة، ظريفا، حلو الشمائل. قال السيوطي: مولده ليلة السبت ثالث محرم سنة خمسين وستمائة. ومات في عنفوان الشبيبة ليلة الخميس في سادس عشر جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين وستمائة رحمه الله تعالى.(2/358)
ترجمة علي بن المظفر النشبي وهو القارئ هذه الرسالة على ست الكتبة
هو شمس الدين أبو الحسن علي بن المظفر بن القاسم الربعي النشبي الدمشقي، نائب الحسبة، سمع الكثير من الخشوعي والقاسم بن عساكر، وخلق، وكان فصيحا طيب الصوت بالقراءة، كتب الكثير، وكان يؤدب ثم صار شاهدا. قال الذهبي وابن حجر: والنشبي من نشبة بطن من قيس هو المحدث علي بن المظفر. . سمع الخشوعي وطبقته، وأسمع أولاده أبا بكر محمدا وأبا العز مظفرا وعبد الله، توفي في ربيع الأول سنة ست وخمسين وستمائة وقد جاوز التسعين (1) .
هذا وقد وجدت سماعات مكتوبة على هذه الرسالة وهي خمس سماعات هذه هي صورتها.
في الورقة الأخيرة كتبت السماعات التالية:
1 - سمع هذا الجزء على الشيخ أبي محمد يحيى بن علي بن الطراح بحق إجازته من الخطيب، بقراءة الإمام أبي عبد الله محمد بن محمد بن علي بن طالب الواعظ عزيزة (2) وست الكتبة ابنتا علي بن يحيى الطراح ومسعود بن علي بن البادر وكتب السماع من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وخمسمائة.
2 - سمع جميع هذه المسألة على الشيخة الفتية (3) ست الكتبة نعمت بنت أبي الحسن علي بن يحيى بن علي بن الطراح البغدادي، بسماعها من جدها بقراءة القاضي بهاء الدين (4) إبراهيم ابن السيد سالم بن سليم السماحي (5) أبو محمد إسماعيل وكاتب الأسماء جعفر بن محمد بن جعفر العباسي وكتب سابع عشر جمادى سنة وخمسمائة نقلها مختصرة من خط جعفر المذكور علي بن محمد بن هلال الأزدي.
وعلى أصل آخر بهذه المسألة.
3 - قرأت جميع هذا الجزء على الشيخة الصالحة المسندة أم نعمة ست الكتبة بنت علي بن يحيى بن الطراح بسماعها من جدها في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وخمسمائة عن الخطيب أبي بكر إذنا، فسمعه ابناي أبو بكر وعمر وأختهما ست الأهل، وأمهم زين الدار وفتاتي نارنج الأرمنية (6) . وكتب أبوهم علي بن المظفر بن القاسم النشبي. وذلك في ثالث رجب سنة ثلاث وستمائة بمنزلنا بدمشق نقله من أصله محمد بن جعوان.
__________
(1) انظر ترجمته في: الشذرات 5: 280، والمشتبه 1: 74، وتبصير المنتبه 1: 151.
(2) غير واضحة واستكملتها من ترجمة ست الكتبة.
(3) غير واضحة، وغير منقطة ولعلها مصحفة من '' التقية ''.
(4) غير مقروءة.
(5) غير مقروءة.
(6) الكلمات غير واضحة في الأصل.(2/359)
4 - قرأت جميع هذا الجزء على الشيخ الإمام الجليل المسند نجم الدين أبي بكر محمد ابن الإمام المحدث شمس الدين أبي الحسن علي بن المظفر بن القاسم النشبي أثابه الله تعالى بحق سماعه من ست الكتبة بسماعها من جدها بإجازته من المؤلف فسمعه كاتبه نجم الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عمر بن هلال الأزدي نفعه الله تعالى، وذلك في يوم الإثنين الحادي والعشرين من صفر سنة سبعين وستمائة بمسجد المسمع بالزلاقة بدمشق. وكتب الفقير إلى الله محمد بن عباس بن أبي بكر بن جعوان الأنصاري حامدا ومصليا ومسلما.
5 - في الورقة الأولى كتبت السماعات التالية.
سمع جميع هذه المسألة بالت (1) على الشيخ الإمام العالم الصدر الكبير تقي الدين أبي محمد إسماعيل بن القاضي بهاء الدين إبراهيم (2) ابن أبي اليسر شاكر بن سليمان التنوخي بحق سماعه فيها، نقلا من الشيخة ست الكتبة (3) بقراءة المحدث أبي الحسن علي بن مسعود بن نفيس الموصلي كاتب هذه النسخة، وقرأ فيها الصدر الأصيل الجليل نجم الدين أبو الحسن علي بن الشيخ الصدر الرئيس عماد الدين أبي عبد الله محمد بن عمر بن عبد الرحمن بن هلال الأزدي - نفعه الله وإياي بالعلم - وعلاء الدين أبو الحسن علي بن نصير الدين بن محمد بن غالب الأنصاري، وشرف الدين أبو يوسف يعقوب بن أحمد بن يعقوب الحلبي، وبرهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن أبي عمرو القرشي، وكاتب السماع محمد بن محمد بن عباس بن جعوان الأنصاري.
وصح ذلك وثبت بجامع دمشق المحروسة في يوم الجمعة سابع عشر ذي الحجة سنة سبعين والحمد لله وحده.
__________
(1) الكلمات غير مقروءة لوجود ختم المكتبة عليها.
(2) الكلمات غير مقروءة لوجود الختم عليها واستكملتها من ترجمته.
(3) الكلمات غير مقروءة لوجود الختم عليها، ولعلها: بسماعها فيها.(2/360)
وصف المخطوطة وعملي في الكتاب
إن المخطوطة التي اعتمدت عليها هي نسخة فريدة - فيما أعلم - وهي محفوظة بالمكتبة الظاهرية. وكنت قد رأيتها هناك منذ عدة سنوات. وهي في أربع عشرة ورقة، وعدد سطور كل صفحة 23 سطرا وعدد كلمات كل سطر أربع عشرة كلمة تقريبا. وهي مكتوبة بخط عربي قديم، قليلة التنقيط سيئة الخط، أصابتها رطوبة في مواطن متعددة منها، كما أن فيها كثيرا من التمزقات مما يجعل القراءة عسيرة في كثير من(2/360)
الأحيان. ويرجع تاريخ خطها إلى سنة سبعين وستمائة إلى آخر السماعات بهذا التاريخ وهي بخط محمد بن عباس بن جعوان. المتوفى سنة اثنتين وثمانين وستمائة.
وقد كتب عليها عدة سماعات كما رأيت. ولم يكن لهذه الرسالة من عناوين مسماة إنما الموجود كلمة " فصل ".
وأما عملي في هذا الكتاب فيتلخص بما يلي:
1 - حققت النصوص كلها - إلا ما ندر - وذلك بمقابلتي لها على الكتب المعتبرة وعزوت ذلك لتلك الكتب - مطبوعة أو مخطوطة.
2 - خرجت الأحاديث التي وردت في هذه الرسالة وتكلمت عليها بما يقتضي المقام.
3 - ترجمت لأغلب الأعلام ترجمة موجزة وأشرت إلى مكان وجودهم في كتب التراجم.
4 - علقت على كثير من المواطن التي رأيت أنها تحتاج إلى تعليق.
5 - وضعت عناوين جانبية ليسهل الرجوع إلى الموطن الذي يريده الباحث أو القارئ.
ولا أزيد في القول إذ هو بين يدي القارئ الكريم يحكم عليه.
وفي الختام أسأل الله تعالى أن يوفقنا لخدمة دينه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأن يقينا الزلات، ويجعلنا من خدمة العلم المخلصين، ويرزقنا حسن الختام، ويرحمنا ويرحم والدينا ومشايخنا والمسلمين ويصلح لنا ذريتنا وآخرتنا، إنه سميع مجيب،
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الرياض: 8 صفر الخير 1396 هـ.
خليل إبراهيم ملا خاطر(2/361)
سند المخطوطة إلى المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
أخبرنا الشيخان الأجلان الأمينان: الثقة نجم الدين أبو بكر محمد بن علي بن المظفر بن القاسم النشبي (1) . والإمام العالم العلامة مسند عصره تقي الدين أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر التنوخي (2) قراءة على كل واحد منهم وأنا أسمع، بمدينة دمشق في تاريخين (مختلفين) (3) .
قيل لكل واحد منهما: أخبرتك الشيخة الصالحة ست الكتبة نعمة (4) بنت علي بن يحيى بن علي بن الطراح البغدادي قراءة عليها وأنت تسمع بدمشق في تاريخ سماعه منها، فأقر به، قيل لها: أخبرك جدك الشيخ أبو محمد يحيى (5) بن علي بن محمد الطراح قراءة عليه وأنت تسمعين في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وخمسمائة فأقرت به. قال: أنبأنا الشيخ الإمام العالم الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب (6) البغدادي إجازة. قال:
***
مقدمة المؤلف
الحمد لله رب العالمين شكرا لنعمته، ولا إله إلا الله إقرارا (7) بوحدانيته، وصلى الله على خير خلقه، محمد نبينا المصطفى لرسالته، وعلى إخوانه من النبيين وأهل بيته، وصحابته، وتابعيه بالإحسان المتمسكين بسنته.
سألني بعض إخواننا تولاهم الله برعايته، ووفقنا وإياهم للعمل بطاعته، بيان علة ترك أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، الرواية عن الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، في كتابه " الجامع "
__________
(1) انظر ترجمته، ص357.
(2) انظر ترجمته، ص357.
(3) في الأصل '' مختلفة ''.
(4) انظر ترجمتها، ص356.
(5) سبقت ترجمته، ص356.
(6) سبقت ترجمته فانظرها.
(7) في الأصل '' إقرار '' بالرفع.(2/364)
للآثار، عن سلف الأمة الأخيار، وذكر أن بعض من يذهب إلى رأي أبي حنيفة ومقالته، ضعف أحاديث للشافعي واعترض بالطعن عليه في روايته، لإعراض أبي عبد الله البخاري عنها، واطراحه ما انتهى إليه منها.
- ولولا ما أخذ الله تعالى على العلماء فيما يعلمونه (1) ، ليبيننه للناس ولا يكتمونه، لكان أولى الأشياء الإعراض عن اعتراض الجهال، والسكوت عن جوابهم فيما اجترءوا عليه من النطق بالمحال، وتركهم على جهلهم يعمهون بتحيرهم في الباطل والضلال، لكن وعيد الله في القرآن، منع العلماء من الكتمان، ثم ما صح واشتهر، عن المصطفى سيد البشر " صلى الله عليه وسلم "، من التغليظ في الخبر.
- الذي أخبرنا به أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ بأصبهان ثنا حبيب بن الحسن القزاز، ثنا عبد الله بن أيوب يعني الجزار ثنا أبو نصر التمار ثنا حماد (2) عن علي بن الحكم (3) عن عطاء عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كتم علما علمه الله، ألجمه الله
__________
(1) في الأصل '' يعملونه ''.
(2) هو: ابن سلمة.
(3) هو: البناني بالتخفيف.(2/365)
تعالى بلجام من نار (1) » .
__________
(1) الحديث أخرجه أحمد بأسانيد كثيرة: بأرقام 7143، 7561، 7930، 8035، 8514، 8623، 10425، 10492، 10605 والحاكم 1: 101 من روايتي أبي هريرة وابن عمرو وصححه وأقره الذهبي، والترمذي رقم 2651 (5: 29 وقال: حديث حسن) وأبو داود رقم 3658، وابن ماجه 1: 261، وابن حبان من رواية أبي هريرة وابن عمرو أيضا رقم 95، وابن سعد 4: 331 من رواية أبي هريرة. وأبو نعيم في الحلية 2: 355، والطيالسي رقم 2534، والبغوي في شرح السنة 1: 301 والطبري تعليقا 3: 252 وابن عبد البر في جامع بيان العلم 1: 4 - 5، والحديث مروي من طرق كثيرة وعن كثير من الصحابة: ذكر السخاوي في المقاصد: وله طرق كثيرة أورد الكثير منها ابن الجوزي في العلل المتناهية. وفي الباب عن أنس وجابر، وطلق بن علي، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن مسعود، وعمرو بن عبسة، أوردها الزيلعي في آل عمران من تخريجه (المقاصد 425) وذكر المنذري: علي بن طلق. (الترغيب: 1: 98) قلت: وعلي بن طلق، وطلق بن علي كلاهما صحابي يمامي حنفي. ولهما روايات قليلة انظر أحاديث طلق بن علي في '' تحفة الإشراف 4: 223 '' فله ستة أحاديث في الأصول الستة ''. وذكر الهيثمي '' سعد بن المدحاس (مجمع الزوائد 1: 163) ، وحديث ابن عباس رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير وقال الهيثمي: ورجال أبي يعلى رجال الصحيح. والرواية الأخرى له عند الطبراني في الكبير أيضا وفيه إبراهيم بن أيوب الفرساني. وقال المنذري رواه الطبراني في الكبير والأوسط بسند جيد. ورواية ابن عمر رواها الطبراني في الأوسط وفي إسناده حسان بن سياه. ضعفه ابن عدي وابن حبان. وحديث ابن عمرو فقد رواه الحاكم وابن حبان وصححاه ورواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله موثقون. وحديث ابن مسعود رواه الطبراني في الأوسط، والكبير وفي إسناد الأوسط النضر بن سعيد ضعفه العقيلي وفي إسناد الكبير سوار بن مصعب وهو متروك. وحديث سعد بن المدحاس '' صحابي انظر ترجمته في الإصابة 2: 36 '' رواه الطبراني في الكبير من حديث، وفيه سليمان ابن عبد الحميد كذبه النسائي، ووثقه ابن حبان وقال ابن أبي حاتم: صدوق. كما ذكر المنذري حديث أبي سعيد الخدري ونسبه لابن ماجه '' الترغيب 1: 98 ''. قال الحاكم في '' المستدرك 1: 101 بعد ذكره لرواية أبي هريرة من طريق ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة. وفيه قصة. '': هذا حديث تداوله الناس بأسانيد كثيرة تجمع ويذاكر بها. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ذاكرت شيخنا أبا علي الحافظ بهذا الباب، ثم سألته هل يصح شيء من هذه الأسانيد عن عطاء فقال: لا، قلت: لم؟ قال: لأن عطاء لم يسمعه من أبي هريرة. ثم ذكر السند. . . ثنا عبد الوارث بن سعيد ثنا علي بن الحكم عن عطاء عن رجل عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. . . الحديث. قال الحاكم: فقلت له: قد أخطأ فيه أزهر بن مروان أو شيخكم ابن أحمد الواسطي وغير مستبعد '' في المستدرك مستبدع. وهو خطأ مطبعي '' منهما الوهم. قال الحاكم: ثم لما جمعت الباب وجدت جماعة ذكروا فيه سماع عطاء من أبي هريرة ووجدنا الحديث بإسناد صحيح لا غبار عليه عن عبد الله بن عمرو. اهـ. فزيادة الرجل المبهم بين عطاء وأبي هريرة وهم من عبد الوارث بن سعيد لأن الحاكم رواه في الطريق الأخرى عن مسلم بن إبراهيم عن عبد الوارث. ورواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم عن طريق مسدد عن عبد الوارث. فلا يعقل أن يتفق ثقتان على خطأ. فقد رواه عن علي بن الحكم: حماد بن سلمة كما في النص هنا وهو عند أحمد (7561) وعمارة بن زاذان الصيدلاني كما عند الترمذي وابن ماجه والطيالسي وابن عبد البر. ورواه الحجاج بن أرطاة عن عطاء عن أبي هريرة عند أحمد 7930، 10492، ورواه ليث بن أبي سليم عن عطاء عند ابن عبد البر. فإذا كان هؤلاء جميعا قد اتفقوا على نقل الحديث عن عطاء عن أبي هريرة من غير واسطة ورواية الحاكم الأولى في المستدرك: ثنا ابن جريج قال: جاء الأعمش إلى عطاء فسأله عن حديث فحدثه، فقلنا له: تحدث هذا وهو عراقي! قال: لأني سمعت أبا هريرة يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من سئل عن علم فكتمه. . الحديث '' 1: 101 ''. لهذا زال كل شك في رواية الرجل المجهول بسماع عطاء من أبي هريرة وباتفاق الرواة عن علي بن الحكم عن عطاء عن أبي هريرة من غير ذكر الرجل المبهم واتفاق مسدد ومسلم بن إبراهيم في الرواية عن عبد الوارث بزيادة الرجل المبهم احتمل بل قوي الاحتمال أن يكون هو الواهم فيه لا كما قاله الحاكم - رحمه الله -. وانظر تعليق الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - على الحديث (7561) من المسند فقد أجاد وأفاد. كما هي عادته. وأما العلم الذي ورد التحذير من كتمانه. فقد قال الخطابي: هذا في العلم الذي يلزمه تعليمه إياه، ويتعين فرضه عليه، كمن رأى كافرا يريد الإسلام يقول: علمني ما الإسلام؟ وكمن يرى رجلا حديث عهد بالإسلام لا يحسن الصلاة وقد حضر وقتها يقول: علمني كيف أصلي. وكمن جاء مستفتيا في حلال أو حرام يقول: أفتوني وأرشدوني، فإنه يلزم في هذه الأمور أن لا يمنعوا الجواب، فمن فعل ذلك كان آثما مستحقا للوعيد، وليس كذلك الأمر في نوافل العلم التي لا ضرورة بالناس إلى معرفتها. والله أعلم. وقال سفيان الثوري: ذاك إذا كتم سنة، ومنهم من يقول: إنه علم الشهادة. انظر شرح السنة (1: 302) . وقال السخاوي: ويشمل الوعيد حبس الكتب عمن يطلبها للانتفاع بها، لا سيما مع عدم التعدد لنسخها الذي هو أعظم أسباب المنع، وكون المالك لا يهتدي للمراجعة منها، والابتلاء بهذا كثير. (المقاصد 425) . والله أعلم.(2/366)
وأخبرنا القاضي أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي بالبصرة ثنا عبد الرحمن بن أحمد الحافظ ثنا عمر بن إبراهيم أبو الآذان ثنا القاسم بن سعيد بن المسيب بن شريك ثنا أبو النضر الأكفاني ثنا سفيان الثوري عن جابر - يعني - الجعفي عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سئل عن علم نافع فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار (1) » .
وأنا بمشيئة الله أجيب أخانا عن مسألته، مؤملا من الله جزيل أجره ومثوبته، وسائلا له المعونة بتوفيقه وعصمته، فإنه لا حول لي ولا قوة إلا بمعونته.
***
وقد كان جرى بيني وبين بعض من يشار إليه بالمعرفة، كلام في هذه المسألة، واعترض علي بما تقدم ذكره، وزاد في احتجاجه بخلو كتب مسلم بن الحجاج النيسابوري، وأبي داود السجستاني، وأئمة الحديث غيرهما ممن صنف الصحاح بعدهما من حديث الشافعي.
__________
(1) الحديث أخرجه أبو يعلى والطبراني في الكبير ورجال أبي يعلى رجال الصحيح انظر مجمع الزوائد 1: 163 والترغيب والترهيب 1: 98 وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط بسند جيد.(2/367)
فأجبته بما فتحه الله عز وجل علي ويسره، وقضى لي به النطق في الحال وقدره، وسألخص إن شاء الله في هذه المسألة الكلام، وأشرحها شرحا يؤمن معه وقوع الإيهام، ليكون حجة على من رام دفع الحق وظهور الباطل بعدوانه، ونزول شبهه إن اعترضت في قلب من لم يكن علم الحديث من شأنه (1) ، وأعوذ بالله من الرياء والإعجاب، وأسأله التوفيق لإدراك الحق والصواب.
***
قال أنبأنا القاضي أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي ثنا أبو العباس محمد بن أحمد الأثرم ثنا حميد بن الربيع، ثنا يونس بن بكير أخبرني محمد بن إسحاق حدثني إبراهيم بن أبي عبلة عن أبيه عن عوف بن مالك - رحمه الله تعالى - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أمام الدجال سنين خوادع، فسئل: ما الرويبضة؟ قال: من لا حسب له، ولا يؤبه له (3) » .
__________
(1) أي ليس له معرفة بعلوم الحديث.
(2) الحديث أخرجه أحمد وابن ماجه والطبراني. مع اختلاف. فقد أخرجه أحمد في المسند بسندين عن أبي هريرة: أحدهما 2: 291، عن أبي هريرة بلفظ: إنها ستأتي على الناس سنون خوادع يصدق فيها الكاذب. . . قيل: وما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة. والثاني بلفظ: (قبل الساعة سنون خداعة. . .) الحديث من غير تفسير الرويبضة (2: 338) وأخرجه بسند آخر عن أنس بن مالك (3: 220) بلفظ حديث عوف إلا قوله: وما الرويبضة؟ قال: الغويسق يتكلم في أمر العامة. وهو - أي حديث أنس - من رواية محمد بن إسحاق وقد رواه عن محمد بن المنكدر بالعنعنة. وأخرجه ابن ماجه بسند أحمد الأول من طريق إسحاق بن أبي الفرات عن المقبري عن أبي هريرة بلفظ أحمد من رواية ابن إسحاق مع اختلاف يسير قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه في أمر العامة. (كتاب الفتن باب شدة الزمان 2: 1339) . والمقبري يرويه عند ابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - من غير ذكر واسطة بينهما. بينما يرويه عند أحمد: عن أبيه عن أبي هريرة، فهو ليس منقطعا عند ابن ماجه لأن المقبري يروي عن أبي هريرة مباشرة. لذا يحتمل أن يكون قد سمعه من أبي هريرة مباشرة ومن أبيه عن أبي هريرة، فرواه مرة عن أبي هريرة من غير ذكر الواسطة لأنه سمعه منه كما عند ابن ماجه، ومرة عن أبيه عن أبي هريرة. كما هو عند أحمد. (فتنبه) . وأما إسحاق بن أبي الفرات فقد قال الحافظ في التهذيب 1: 247 روي عن سعيد المقبري وعنه عبد الملك بن قدامة الجمحي، روى له ابن ماجه في الزهد حديثا واحدا عن المقبري عن أبي هريرة: (سيأتي على الناس سنوات خداعات) اهـ. قلت: ليس هو في الزهد، وإنما هو في الفتن. وإسحاق بن أبي الفرات قال الحافظ عنه: مجهول. وعبد الملك بن قدامة الجمحي مدني وثقه ابن معين والعجلي وابن عبد البر، وضعفه غيرهم من جهة حفظه (انظر التهذيب 6: 414) . ورواه الطبراني بأسانيد من طريق عوف بن مالك: بلفظ الخطيب إلا في قوله وما الرويبضة؟ قال: من لا يؤبه به. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (رواه الطبراني بأسانيد وفي أحسنها ابن إسحاق وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات) (7: 330) قلت: (إن ابن إسحاق قد صرح بالسماع في رواية الخطيب بقوله: حدثني إبراهيم بن أبي عبلة) . فزال التخوف من تدليسه. وأما جملة (من لا حسب له) فلم أرها إلا عند الخطيب.
(3) (2) ، يكثر فيها المطر، ويقل فيها النبت، ويؤمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، ويكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، ويتكلم فيها الرويبضة(2/368)
- فقد شاهدنا ما كنا قبل نسمعه، ووصلنا إلى الزمان الذي كنا نحذره ونتوقعه، وحل بنا ما لم (1) نزل نهابه ونفزعه، من استعلاء الجاهلين، وظهور الخاملين، وخوضهم بجهلهم في الدين، وقذفهم بوصفهم الذي ما زالوا به معروفين، السادة من العلماء والأئمة المنزهين، وبسطهم ألسنتهم بالوقيعة في الصالحين، وإن الذنب بهم ألحق، والذم إليهم أسبق، والقبيح بهم ألصق، والعيب بهم أليق.
- وما سبيلهم فيما قصدوه، من الطريق الذي سلكوه، وظنهم الكاذب الذي يوهموه، وقولهم الباطل إذ أذاعوه، إلا ما أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق البزاز قال: أنشدنا أحمد بن كامل قال: أنشدنا أبو يزيد أحمد بن روح البزاز قال: أنشدنا عبيد بن محمد العبسي في ابنه:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالناس أضداد (له) (2) وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغيا إنه لذميم
وترى اللبيب محسدا لم يجترم ... شتم الرجال وعرضه مشتوم
- وأخبرنا ابن رزق أيضا قال: أنشدنا أحمد بن كامل قال: أنشدنا الحارث بن محمد بن أبي أسامة قال: أنشدنا علي بن محمد المدايني:
إن الغرانيق نلقاها محسدة ... ولا نرى للئام الناس حسادا
__________
(1) قوله (لم) أضفناها وهي موجودة في الهامش وكتب فوقها '' صح ''.
(2) في الأصل '' لهم '' وما أثبتناه موجود في الهامش وكتب عليه '' صح ''، وهكذا هو في الديوان أيضا.(2/369)
بعض مزايا الشافعي
فمثل الشافعي من حسد، وإلى ستر معالمه قصد {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} (1) ويظهر بفضله من كل حق مستوره، وكيف لا يغيظ من حاز الكمال، بما جمع الله تعالى له من الخلال، اللواتي لا ينكرها إلا ظاهر الجهل، أو خارج عن حد التكليف لذهاب العقل.
- منها: جزيل حظه من الأدب، وجلالة (2) محتده في النسب، الذي ساوى به في الحكم بني عبد المطلب.
ثم لما كان عليه من قوة الدين، وحسن الطريقة عند الموافقين والمخالفين.
وحفظه لكتاب ربه، ومعرفته بواجبه وندبه، وتصرفه في سائر أنواع علمه، مما يعجز غيره عن بلوغ فهمه.
- وفقهه بالسنن المنقولة، وبصره بالصحاح منها والمعلولة. وكلامه في الأصول، وحكم المرسل والموصول، وتمييز وجوه النصوص، وذكر العموم والخصوص، وهذا ما لم يدرك الكلام فيه، أبو حنيفة ولا غيره من متقدميه.
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ثم تركه التقليد لأهل البلدة. وإيثاره (3) ما ظهر دليله وثبتت به الحجة.
__________
(1) سورة التوبة الآية 32
(2) في الأصل: خلاله بالخاء المعجمة الفوقية:
(3) في الأصل '' والإيثارة ''، إلا أن إشارة ضرب على (لا) واضحة.(2/370)
- مع اتخاذه اليد العظيمة، وتقليده المنن الجسيمة، كافة أهل الآثار، ونقلة الأحاديث والأخبار، بتوقيفه إياهم على معاني السنن وتنبيههم، وقذفه بالحق على باطل (1) أهل الرأي وتمويههم، فنشلهم الله تعالى به (2) بعد أن كانوا خاملين، وظهرت كلمتهم على من سواهم من ساير المخالفين، ودمغوهم بواضحات الدلايل والبراهين، حتى ظلت أعناقهم لها خاضعين.
ثناء الأئمة على الشافعي
أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ ثنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي قال: سمعت الخضر بن داود يقول: سمعت الحسن بن محمد الزعفراني يقول: قال محمد بن الحسن: إن تكلم أصحاب الحديث يوما فبلسان الشافعي (3) - يعني لما وضع كتبه -.
قرأت على محمد بن أحمد بن يعقوب عن محمد بن نعيم النيسابوري قال: سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول: سمعت أبا جعفر محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن محمد بن أبي بكر بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب يقول: سمعت الحسن بن محمد الزعفراني يقول: كان أصحاب الحديث رقودا حتى جاء الشافعي فأيقظهم (4) فتيقظوا.
- حدثني أبو رجاء هبة الله بن محمد بن علي الشيرازي في مجلس أبي الحسين بن بشران ثنا عبد الرحمن بن عمر التميمي بن راشد الدينوري ثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن القاضي ثنا الفضل بن
__________
(1) في الأصل '' على الباطل أهل الرأي ''.
(2) لفظة '' به '' موجودة بين السطرين وكتب عليها '' صح '' وهي بنفس الخط. لذا أثبتناها.
(3) حلية الأولياء 9: 91 وتوالي التأسيس ص 55 ولا يوجد في الحلية (أبو بكر) .
(4) توالي التأسيس ص 59 ووفيات الأعيان 3: 306.(2/371)
زياد قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما أحد مس بيده محبرة ولا قلما إلا وللشافعي في رقبته منة.
- فهذا قول سيد أصحاب الحديث وأهله، ومن لا يختلف العلماء في ورعه وفضله، ويحق له ذلك، وقد كان أحد تلاميذ الشافعي ومن أعيان أصحابه، وأكثر الناس ملازمة له، وأشدهم حرصا على سماع كتبه، وأحضهم للخلق على حفظ علمه، ومن شكره للشافعي قال هذا القول، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل(2/372)
ففي بعض ما ذكرنا من معالم الشافعي ما يوجب الحسد والكذب عليه.
- وما الذي يضره ويقدح فيه، من جهل عدو ومناوئيه (1) ، مع تولي رب العالمين لنصرته، وإرادته في السابق إظهار كلمته.
أبى الله إلا رفعه وعلوه ... وليس لما يعليه ذو العرش واضع
وما يتعدى الحاسد فعله، ولا يضر كيده إلا نفسه.
- أنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري قال: أنا أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى بن المرزباني ثنا عبد الله بن محمد بن أبي سعيد البزاز قال: أنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثني حبيب بن أوس قال: قال رجل لابنه: يا بني إياك والحسد، فإنه يتبين فيك، ولا يتبين في عدوك. ولو أن رعاع التبع، وأسرى حبالة الطمع (2) ، شغلتهم عيوبهم، وأهمتهم ذنوبهم، وأعينوا من الله بالتوفيق وحسن البصيرة، لأسقط أهل العلم عن أنفسهم مؤنا كثيرة، من تكلفهم إزالة أكاذيبهم، وكشفهم (3) شبه زخارفهم وأعاجيبهم، لكن لم يرد الله بهم خيرا فخذلهم، وعن دفع (4) الحق بالباطل الذي لا ينفعهم شغلهم، ونحن نعوذ بالله من غضبه وخذلانه، ونسأله التوفيق لما يؤدي إلى رحمته ورضوانه.
أخبرني بكر بن أبي الطيب الحرجرائي ثنا محمد بن أحمد المفيد ثنا عبد الصمد بن محمد قال: سمعت أبا تراب النخشبي يقول: إذا ألف القلب الإعراض عن الله صحبه الوقيعة في أولياء الله.
أنبأنا عبد العزيز (5) بن أبي الحسن القرميسيني ثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم بن كثير ثنا الفيض بن إسحاق قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: تكلمت فيما لا يعنيك فشغلك عما يعنيك، ولو شغلك ما يعنيك
__________
(1) في الأصل: مناويه.
(2) في الأصل طمس في الكلمات من إصابة ماء. وأسرى: جمع أسير ويجمع على أسارى.
(3) في الأصل تخرق في الموضعين، والذي ذكرته هو ما ملت إليه مع غلبة الظن.
(4) في الأصل تخرق في الموضعين، والذي ذكرته هو ما ملت إليه مع غلبة الظن.
(5) غير واضحة في الأصل.(2/373)
تركت ما لا يعنيك.
- ولن يخلي الله عز وجل كل عصر، آنف بعد سالف إلى آخر الدهر، من دافع للكذب بالصدق، ودامغ للباطل بالحق، يجاهد في الله بفعاله، ويحتسب ما عند الله بمقاله، متيقنا أن مذهبه القويم، وسبيله هو السبيل المستقيم، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) .
- أنبأنا أبو بكر أحمد بن غالب الفقيه ثنا محمد بن العباس الخزاز ثنا أبو عبيد بن حربويه ثنا الحسن بن محمد الزعفراني ثنا يزيد بن هارون قال أنبأنا شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال ناس من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك (2) » - أنبأنا أبو نعيم الحافظ ثنا سليمان بن أحمد الطبراني ثنا أسلم بن سهل الواسطي ثنا تميم بن المنتصر قال: لما حدث يزيد بن هارون بحديث شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه قال يزيد: إن لم يكونوا أهل الحديث والأثر فلا أدري " من هم " (3) .
- أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن صالح المقري بأصبهان قال: أنبأ أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان ثنا إسحاق بن أحمد الفارسي ثنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ثنا ابن أبي أويس ثنا ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن أبي الزبير قال: سمعت جابرا يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) سورة الأنفال الآية 42
(2) أخرجه الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث ص 25، 26، بلفظ قريب. وأخرجه أحمد في المسند 3: 436، 5: 34، 5: 35 والترمذي في كتاب الفتن باب ما جاء في الشام (4: 485) وابن ماجه في المقدمة باب اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1: 4) والحاكم في المعرفة ص 2.
(3) في الأصل منهم.(2/374)
يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة (1) » .
__________
(1) الحديث أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب نزول عيسى بن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وفي كتاب الإمارة باب قوله - صلى الله عليه وسلم - لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق من رواية جابر أيضا، والخطيب في شرف أصحاب الحديث ص 27، وأحمد في المسند (3: 345) (3: 384) ، وأبو يعلى أيضا. والحديث رواه أبو هريرة عند أحمد (2: 321) (2: 340) (2: 379) وابن ماجه في المقدمة باب اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1: 5) والبزار ورجاله رجال الصحيح غير زهير بن محمد وهو ثقة (مجمع الزوائد 7: 288) والطبراني في الأوسط (مجمع 7: 288) . ومعاوية بن أبي سفيان عند البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى (إنما قولنا لشيء إذا أردناه) وفي المناقب باب حدثنا محمد بن المثنى. وفي كتاب الاعتصام باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق. وعند أحمد في المسند (4: 93) (4: 97) (4: 99) (4: 101) وعند مسلم في كتاب الإمارة باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق (6: 53) . وابن ماجه في المقدمة باب اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1: 5) وفي الحلية (5: 158) . وجبير بن نفير عند أحمد في المسند (4: 104) . والمغيرة بن شعبة عند البخاري في كتاب الاعتصام باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق. وفي كتاب التوحيد باب قول الله تعالى (إنما قولنا لشيء إذا أردناه) وفي المناقب باب حدثنا محمد بن المثنى، وعند أحمد في المسند (4: 244) (4: 248) (4: 252) وعند مسلم في كتاب الإمارة باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق) (6: 53) والدارمي في كتاب الجهاد باب لا تزال طائفة من هذه الأمة يقاتلون على الحق 2: 132. وعقبة بن عامر عند مسلم في كتاب الإمارة باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق (6: 54) . وسعد بن أبي وقاص عند مسلم في الكتاب والباب السابقين (6: 54) بلفظ: أهل المغرب. وفي الحلية 3: 96 وقال: حديث ثابت مشهور. وعمر بن الخطاب عند الدارمي في كتاب الجهاد باب لا تزال طائفة من هذه الأمة يقاتلون على الحق (2: 133) والطبراني في الكبير والصغير، ورجال الكبير رجال الصحيح (مجمع 7: 288) . وزيد بن أرقم عند أحمد في المسند (4: 369) والبزار والطبراني (مجمع 7: 287) . وعمران بن حصين عند أبي داود في كتاب الجهاد باب في دوام الجهاد رقم 2484 وعند أحمد في المسند (4: 429) (4: 434) (4: 437) وشرف أصحاب الحديث ص 26، والمحدث الفاصل ص 177. وجابر بن سمرة عند مسلم في كتاب الإمارة باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، وعند أحمد في المسند (5: 92) (5: 94، 98، 103، 105، 106، 108) ، ورجاله رجال الصحيح (المجمع 7: 287) . وأبو أمامة عند أحمد في المسند (5: 269) والطبراني ورجاله ثقات (المجمع 7: 288) . وثوبان عند مسلم في كتاب الإمارة باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق. والترمذي في كتاب الفتن باب ما جاء في الأئمة المضلين وقال: وهذا حديث حسن صحيح. وأبي داود في كتاب الفتن باب ذكر الفتن رقم 4252 وابن ماجه في المقدمة باب اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1: 5) وفي كتاب الفتن باب ما يكون من الفتن (2: 1304) وعند أحمد في المسند (5: 278) (5: 279) وفي الحلية (2: 289) . ومرة البهزي رواه الطبراني (مجمع الزوائد 7: 288) . ورواه كذلك عبد الله بن حوالة وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو. كما قال الترمذي: وفي الباب عن عبد الله بن حوالة. . . عند ذكره لحديث معاوية بن قرة عن أبيه في كتاب الفتن باب ما جاء في الشام (4: 485) وسلمة بن نفيل (الفتح 13: 293) .(2/375)
قال أبو عبد الله البخاري: يعني أهل الحديث - كل طائفة وإن كانت تتأول أن هذا الحديث وارد فيها، دون غيرها ممن خالفها، فإنها لا تنكر أن أشد الناس نظرا في حال المنقول، واهتماما بأمور الأسانيد المؤدية عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحاب الحديث لأنهم العالمون بأسماء الرجال، وأهل العناية بالبحث عن الأحوال،(2/376)
وذووا المعرفة بالجرح والتعديل، والحافظون طرق الصحيح والمعلول، اجتهدوا في تعلم ذلك وضبطه، وأتعبوا أنفسهم في سماعه وحفظه، وفنيت فيه أعمارهم، وبعدت فيه أسفارهم، واستقربوا له الشقة البعيدة، وهونوا لأجله المشقة الشديدة، حتى علموا - بتوفيق الله لهم - صحيح الآثار، ومنكر الروايات والأخبار، وعرفوا أهل النقل، من مجروح وعدل، ومتقن وحافظ، وصدوق وصالح، ولين وضعيف، وساقط، ومتروك، فنزلوا الرواة منازلهم، وميزوا أحوالهم ومراتبهم، ودونوا من الأحاديث صحيحها، ونبهوا على باطلها وموضوعها، (البخاري لم يلتزم إخراج ما صحح عنده ولا عن كل ثقة) وكان من أحسنهم مذهبا فيما ألفه، وأصحهم اختيارا لما صنفه، محمد بن إسماعيل البخاري هذب ما - في جامعه - جمعه، ولم يأل عن الحق فيما أودعه، غير أنه عدل عن كثير من الأصول، إيثارا للإيجاز وكراهة للتطويل، وإن كان قد عني عن المتروك بأمثاله، ودل على ما هو من شرطه بأشكاله، ولم يكن قصده - والله أعلم - استيعاب طرق الأحاديث كلها، ما صح إسناده، وإنما جعل كتابه أصلا يؤتم به، ومثالا يستضاء بمجموعه، ويرد ما شذ عنه إلى الاعتبار بما هو فيه.
سبب تأليف البخاري للصحيح
ويدل على ذلك ما أخبرنا أبو سعد أحمد بن محمد الماليني قال أنبأنا عبد الله بن عدي الحافظ قال: سمعت الحسن بن الحسين البخاري (1) يقول: سمعت إبراهيم بن معقل (2) يقول: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح، وتركت " من الصحاح لحال الطوال ".
- وأنبأنا أبو سعد أيضا قال أنبأنا عبد الله بن عدي (3) قال: حدثني محمد بن أحمد القومسي قال: سمعت محمد بن حمدويه يقول: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح (4) .
__________
(1) هو البزار.
(2) هو النسفي.
(3) في تاريخ بغداد زيادة '' الحافظ ''.
(4) هدي الساري 487 وشروط الأئمة الخمسة 48 وتاريخ بغداد 2: 25.(2/377)
وجامع البخاري إنما يشتمل على ألوف يسيرة من الأصول.
- وأحسبه أراد بقوله: أحفظ مائة ألف حديث صحيح: طرق الأخبار من المرفوعة والموقوفة وأقوال التابعين ومن بعدهم، جعل كل طريق منها حديثا، لا أنه أراد الأصول حسب.
وأي ذلك كان مراده، فقد بين أن في الصحاح ما لم يشتمل عليه كتابه، ولم يحوه جامعه.
وكمثل ما فعل في الأحاديث فعل في الرجال، فإن كتاب التاريخ الذي صنفه تشتمل أسماء الرجال المذكورة فيه على ألوف كثيرة في العدد، وأخرج في صحيحه عن بعض المذكورين في تاريخه.
- وسبيل من ترك الإخراج عنه سبيل ما ترك من الأصول.(2/378)
إما أن يكون الراوي ضعيفا ليس من شرطه، أو يكون مقبولا عنده غير أنه عدل عنه استغناء بغيره، والله أعلم.(2/379)
فصل
سبب ترك البخاري إخراج الحديث عن طريق الشافعي
والذي نقول في تركه الاحتجاج بحديث الشافعي إنما تركه لا لمعنى يوجب ضعفه لكن غني عنه بما هو أعلى منه، وذلك أن أقدم شيوخ الشافعي الثقات الذين روى عنهم: مالك بن أنس، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وداود بن عبد الرحمن العطار وسفيان بن عيينة.
البخاري لم يدرك الشافعي وروى عمن هو أكبر سنا من الشافعي
والبخاري لم يدرك الشافعي (وروى عن من) (1) كان أكبر منه سنا، وأقدم منه سماعا، مثل مكي بن إبراهيم البلخي وعبيد الله بن موسى العبسي، وأبي عاصم الشيباني ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وخلق (2) يطول ذكرهم.
وهؤلاء الذين سميتهم رووا عن بعض التابعين.
وحدثه أيضا عن شيوخ الشافعي جماعة كعبد الله بن مسلمة القعنبي وعبد الله بن يوسف
__________
(1) في الأصل: وورا عن من
(2) في الأصل: وخلقا.(2/379)
التنيسي وإسماعيل بن أبي أويس، وعبد العزيز الأويسي، ويحيى بن قزعة (1) ، وأبي نعيم الفضل بن دكين، وخالد بن مخلد وأحمد بن يونس، وقتيبة بن سعيد.
- وهؤلاء كلهم رووا عن مالك، ومنهم من روى عن الدراوردي كسعيد بن أبي مريم المصري، وأبي غسان النهدي، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وعلي بن المديني.
وهؤلاء رووا عن سفيان بن عيينة، وفيهم من يحدث عن داود بن عبد الرحمن العطار.
وغير من ذكرت أيضا ممن أدرك شيوخ الشافعي قد كتب عنه البخاري.
- فلم ير أن يروي عنه حديثا عن رجل عن الشافعي عن مالك، وقد حدثه به غير واحد عن مالك، كما رواه الشافعي، مع كونه الذي حدثه به أكبر من الشافعي سنا، وأقدم سماعا.
__________
(1) يحيى بن قزعة القرشي المكي المؤذن مقبول من العاشرة، سمع مالك بن أنس وهو من أفراد البخاري.(2/380)
اعتراض: البخاري روى في صحيحه حديثا نازلا وهو عنده عال
فإن قيل: فقد أورد البخاري في صحيحه نازلا حديثا كان عنده عاليا، وهو حديث " مدعم " رواه عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك (1) ، ورواه أيضا عن عبد الله بن محمد المسندي عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق الفزاري عن مالك، وهذا الحديث في الموطأ.
- ولا شك أن البخاري قد سمعه من غير واحد من أصحاب مالك. إذ كان قد لقي جماعة ممن روى له الموطأ عن مالك.
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الأيمان والنذور، باب هل يدخل في الأيمان والنذور الأرض والغنم والزروع والأمتعة.(2/381)
- " فأعظم ما في الباب لو روى عن رجل عن الشافعي عن مالك " أن يكون قد نزل عن عالي حديثه درجة، وهو في الاعتبار أعلى من حديث أبي إسحاق الفزاري الذي أخرجه بدرجة لأن بينه وبين مالك من طريق الشافعي لو أخرجه رجلين ومن طريق الفزاري ثلاثة.
وهذا يدل عن خلاف ما ذكرت، وينقض ما عليه في هذا الباب اعتمدت.
***(2/382)
البخاري لم يرو نازلا وهو عنده عال إلا لمعنى
إن البخاري لم يرو في الصحيح حديثا نازلا وهو عنده عال إلا لمعنى في النازل لا يجده في العالي، أو يكون أصلا مختلفا فيه، فيذكر بعض طرقه عاليا ويردفه بالحديث النازل متابعة لذلك القول، فأما أن يورد الحديث النازل وهو عنده عالي لا لمعنى يختص به، ولا على وجه المتابعة لبعض ما اختلف لبعض ما اختلف فيه فغير موجود في الكتاب.
وحديث أبي إسحاق الفزاري فيه بيان الخبر وهو معدوم في غيره، وأنا أسوقه ليوقف على صحة ما ذكرته.
حديث مدعم وتخريج الخطيب له
أنبأنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن بن أحمد الحرشي بنيسابور ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ثنا محمد بن إسحاق الصغاني ثنا معاوية بن عمرو (1) عن أبي إسحاق عن مالك بن أنس قال: حدثني ثور (2) أخبرني سالم مولى ابن مطيع أنه «سمع أبا هريرة (رضي الله عنه) يقول: افتتحنا خيبر فلم نغنم ذهبا ولا فضة إنما غنمنا الإبل والبقر والمتاع والحوائط ثم انصرفنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى وادي القرى، ومعه عبد له يقال له " مدعم " وهبه له أحد بني الضباب فبينما هو يحط رحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه
__________
(1) ما بين القوسين ليس في صلب المخطوطة وإنما كتب بالهامش وكتب عليه صح.
(2) هو: ثور بن زيد الديلي، المدني، ثقة من السادسة مات سنة خمس وثلاثين.
(3) الحديث بهذا اللفظ عند البخاري في كتاب المغازي باب غزوة خيبر. وسيمر معنا من رواية ثانية بالعنعنة عاليا إن شاء الله تعالى. قال ابن طاهر: والسر في ذلك أن في رواية أبي إسحاق الفزاري وحده عن مالك: حدثني ثور بن زيد، وفي رواية الباقين: عن ثور والبخاري حرص شديد على الإتيان بالطرق المصرحة بالتحديث اهـ. (الفتح 7: 488) . قوله '' وادي القرى ''. قوله '' عائر '' أي لا يدري من رمى به، وقيل هو الحائد عن قصده. قوله '' الشملة '' كساء يشتمل به الرجل. قوله '' لتشتمل عليه نارا '' وذلك لأنه أخذها من الغنيمة قبل القسمة وهو الغلول الذي أوعد الله عليه قال الله تعالى: (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) '' الكرماني 16: 108 '' ويحتمل أن يكون - أي الاشتعال - ذلك حقيقة، بأن تصير الشملة نفسها نارا فيعذب بها، ويحتمل أن يكون المراد: أنها سبب لعذاب النار وكذا القول في الشراك الآتي ذكره. '' فتح الباري 7: 489 ''. قوله '' بشراك أو بشراكين '' الشراك: سير النعل على ظهر القدم.
(4) في صحيح البخاري '' ولم ''. (3)
(5) في صحيح البخاري '' إنما غنمنا البقر والإبل. . . ''. (4)(2/382)
سهم " عائر " حتى أصاب ذلك العبد فقال الناس: هنيئا له الشهادة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل (4) - حين سمع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - بشراك أو بشراكين (5) فقال: هذا شيء كنت أصبته. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: شراك أو شراكان من نار» .
- فلينظر كيف قد جود أبو إسحاق رواية هذا الحديث وحكى فيه سماع " مالك من ثور بن زيد " (6) ، وسماع ثور من سالم وسماع سالم من أبي هريرة.
- وأما أصحاب مالك: عبد الله بن وهب، ومعن بن عيسى، وأبو قرة موسى بن طارق (7) ، ومحمد بن إدريس الشافعي، ومحمد بن الحسن الشيباني، وعبد الله بن مسلمة القعنبي، وإسماعيل بن أبي أويس، وسعيد بن كثير بن عفير، وأبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري، ومصعب بن
__________
(1) في صحيح البخاري '' أهداه ''. (5)
(2) في الأصل '' عابر '' والتصويب من صحيح البخاري. (1)
(3) في الأصل: فقال له، والتصويب من صحيح البخاري. (2)
(4) (3) والذي نفسي بيده إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا فجاء رجل قال الحافظ: لم قف على اسمه.
(5) في الأصل '' بشراك أو شراكين '' والتصويب من صحيح البخاري.
(6) في الأصل '' مالك بن ثور من زيد '' وهو خطأ واضح من النساخ. والصواب ما أثبتناه.
(7) موسى بن طارق اليماني، أبو قرة، الزبيدي، القاضي ثقة يغرب، من التاسعة.(2/383)
عبد الله الزبيري، وسويد بن سعيد، فإنهم جميعا رووه من غير بيان خبر ولا نص سماع.
- أنا القاضي أبو بكر بن الحسن الحيري ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم قال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: أنا ابن وهب قال: أخبرني مالك بن أنس (1) :
- وأنا أبو الحسين محمد بن الحسين بن محمد بن الفضل القطان قال: أنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم البغوي ثنا إبراهيم بن الهيثم ثنا إسماعيل بن أبي أويس المدني حدثني مالك بن أنس (2) .
- وأنا عبد الرحمن بن عبيد الله الحربي وعثمان بن محمد بن يوسف العلاف قالا: أنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثني إسحاق الحربي ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك (3) :
- وأنبأنا القاضي أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي قال: ثنا محمد بن عبد الله بن سفيان المعمري، قال: ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، قال: ثنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر، قال: ثنا مالك بن أنس:
- وأنا علي بن أبي علي المعدل قال: ثنا عبيد الله بن محمد بن إسحاق البزار قال: ثنا عبد الله بن محمد بن عبد العز قال: ثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال: ثنا مالك:
- وأخبرني عبيد الله بن أبي الفتح الفارسي قال: ثنا محمد بن المظفر الحافظ قال: أنا محمد بن محمد بن سليمان الباغندي قال: قرأ علي سويد، مالك.
- وأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب الخوارزمي قال: قرأت على أبي بكر الإسماعيلي، أخبركم هارون بن يوسف قال: ثنا ابن أبي عمر قال: ثنا معن (4) عن مالك:
- وأنا القاضي أبو العلاء محمد بن علي بن يعقوب الواسطي قال: أنا عبد الله بن محمد بن عثمان المدني الحافظ: أنا المفضل بن محمد الجندي قال: ثنا أبو حمه محمد بن يوسف (5) ثنا أبو قرة قال: ذكر مالك:
__________
(1) عند مسلم في كتاب الإيمان باب غلط تحريم الغلول وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.
(2) البخاري: كتاب الأيمان والنذور باب هل يدخل في الأيمان والنذور الأرض والغنم والزرع والأمتعة.
(3) سنن أبي داود كتاب الجهاد، باب في تعظيم الغلول (2711) .
(4) هو ابن عيسى الأشجعي.
(5) محمد بن يوسف الزبيدي أبو حمه صاحب أبي قرة، صدوق من العاشرة مات في حدود الأربعين ومائتين.(2/384)
- وأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم الدمشقي (1) في كتابه إلينا ثنا أبو علي الحسن بن حبيب بن عبد الملك الفقيه قال: أنبأنا الربيع بن سليمان أنبأنا الشافعي قال: أنبأنا مالك:
- وأخبرني الحسن بن أبي طالب ثنا محمد بن المظفر ثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي ثنا أبو إبراهيم المزني ثنا الشافعي أنبأنا مالك: (2) .
- وأنبأنا الحسن بن أبي بكر بن شاذان قال: أنبأنا القاضي أبو نصر أحمد بن نصر بن محمد بن إسكاب البخاري ثنا عبد الله بن عبد الوهاب القزويني ثنا إسماعيل بن توبة ثنا محمد بن الحسن عن مالك بن أنس (3) :
- وأخبرني عتيق بن سلامة بن نصر بن عبد الله الأنصاري ثنا عبد الرحمن بن عمر بن محمد المصري ثنا أحمد بن بهزاد الفارسي ثنا عبيد الله بن سعيد بن كثير بن عفير حدثني أبي حدثني مالك.
- عن ثور بن زيد عن أبي الغيث مولى مطيع عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم يوم خيبر فذكر الحديث بطوله نحو ما تقدم.
- وهكذا رواه عن مالك عبد الرحمن بن القاسم ويحيى بن عبد الله بن بكير المصريان.
__________
(1) في المخطوطة تمزق عند هذا الاسم.
(2) السنن للإمام الشافعي 113، وانظر بدائع المنن 2: 118.
(3) الموطأ رواية محمد بن الحسن.(2/385)
والبخاري يتبع الألفاظ بالخبر في بعض الأحاديث، ويراعيها لأسباب.(2/385)
وقد كان بعض الناس أنكر قول أبي هريرة: " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر "، لأن أبا هريرة إنما قدم في أثناء الوقعة، فأخرج البخاري حديث أبي إسحاق لتجويده وإسناده، إذ فيه قطع لعذر (1) من اعترض عليه بتجويز كونه مرسلا مقطوعا أو مدلسا غير مسموع، وتأول قوله ففتحنا خيبر أنه أراد بذلك إدراكه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر أثناء الوقعة، لا أنه أراده كونه معه في ابتدائها، وكذلك كانت قضية قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقيب فتحه بعض حصون خيبر فشهد بقية الفتح، وسار معه لما قفل من غزوته.
***
وقد أورد البخاري في الجامع لحديث أبي إسحاق نظائر، إذا تأملها الناظر تبين صحة ما قلنا.
لا يوجد للشافعي حديث على شرط البخاري أغرب به، وأنا اعتبرنا روايات الشافعي التي (2) ضمنها كتبه فلم نجد فيها حديثا واحدا على شرط البخاري أغرب به ولا تفرد بمعنى فيه يشبه ما بيناه في حديث أبي إسحاق، ونلزم البخاري إخراجه من طريقه، وإن كان لا يلزمه.
__________
(1) في الأصل: لغذر، بالمعجمتين. ولعله تصحيف من لعذر. وهي الحجة التي يعتذر بها.
(2) في الأصل '' الذي '' وقد كتب في الهامش '' التي '' وكتب عليها '' صح ''.(2/386)
وإذ قد بينا الوجه الذي لأجله " خنى " (1) البخاري عن إخراج حديث الشافعي في صحيحه، فمثله القول في ترك مسلم بن الحجاج إياه، لإدراكه ما أدرك البخاري من ذلك.
***
رواية أبي داود لحديث الشافعي
وأما أبو داود السجستاني فقد أخرج في كتابه (2) الذي جمع السنن فيه، عن الشافعي غير حديث: من ذلك:
ما أخبرنا القاضي أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي ثنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي ثنا أبو داود ثنا ابن السرح وإبراهيم بن خالد (3) هو " أبو ثور " الكلبي في آخرين قالوا ثنا محمد بن إدريس الشافعي حدثني عمي محمد بن علي بن شافع عن عبد الله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة «أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة (5) ما أردت إلا واحدة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فطلقها الثانية في زمان عمر، والثالثة في زمان عثمان» .
قال أبو داود: أوله لفظ إبراهيم وآخره لفظ ابن السرح.
__________
(1) كذا في الأصل: ولعله غني أي استغنى.
(2) كتابه المعروف باسم '' سنن أبي داود ''.
(3) في سنن أبي داود: '' الكلبي أبو ثور ''.
(4) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2208) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) .
(5) (4) ألبتة فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: والله في السنن وقال: والله. وفي المسند وبدائع المنن '' ووالله ''.(2/387)
من أخرج من الحفاظ حديث الشافعي
وأخرج له أبو عيسى الترمذي، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري، وعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، ولم نرد بقولنا لهذا إلا الإبانة ليتطاول قول من حكينا عنه أنه احتج علينا بترك الأئمة له، على أن الترك لا يزيد في حال المتروك إذا كانت عدالته ظاهرة، والألسن بالثناء عليه ناطقة، وإنما التأثير لذكر " ينكت " (1) به الجرح، وترك " يرد فيه " (2) التضعيف والقدج، وقد كان لشعبة (3) بن الحجاج مذهب فيمن يترك حديثه.
***
مذهب شعبة فيمن يترك حديثه
أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران المعدل أنبأنا علي بن محمد بن أحمد المصري ثنا محمد بن عمرو بن نافع.
وأنبأنا محمد بن عيسى بن عبد العزيز الهمذاني بها ثنا صالح بن أحمد الحافظ أنبأنا عبد الرحمن بن أبي حاتم قراءة ثنا علي بن الحسن الهسنجاني ثنا نعيم بن حماد قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: سمعت شعبة وسئل من الذي يترك حديثه؟ قال: الذي إذا روى عن المعروفين ما لا يعرفه المعرفون فأكثر طرح حديثه، وإذا اتهم بالكذب طرح حديثه، - يعني إذا صح عليه - وإذا روى حديثا غلطا مجمعا عليه فلم يتهم نفسه فيتركه طرح حديثه، وإذا أكثر الغلط يترك حديثه، وما كان غير ذلك فارو عنه دخل لفظ أحد الحديثين في الآخر.
__________
(1) غير واضحة في الأصل لوجود تمزق فيه ولعلها كما كتبناها أو يثبت به الجرح.
(2) غير واضحة في الأصل لوجود تمزق شديد فيه.
(3) في الأصل: لسعيد وهو خطأ من الكاتب والصواب ما أثبتناه - والله أعلم.(2/388)
فصل
زعم: إنما عدل البخاري عن الاحتجاج بالشافعي لقلة عمله بالحديث
وزعم بعض من يدعي المعرفة أن الشافعي إنما عدل البخاري عن الاحتجاج بروايته، لقلة علمه كان بالحديث وعلله، ومعرفة أسانيده وطرقه، وتمييزه صحيحه من سقيمه، وأحوال رواته (1) ونقلته، وهذه دعوى متعرية عن البرهان، ما أنزل الله بها من سلطان، وأظن صاحبها تأول:
ما أنبأنا أبو نعيم الحافظ ثنا سليمان بن أحمد اللخمي قال: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: سمعت أبي يقول: قال محمد بن إدريس الشافعي: أنتم (2) أعلم بالأخبار الصحاح منا (3) ، فإذا كان خبر صحيح فأعلمني حتى أذهب إليه، كوفيا أو بصريا أو شاميا.
__________
(1) في الأصل '' روايه ''.
(2) في الأصل '' أني ''.
(3) في الأصل '' هنا ''.(2/389)
فرأى أن هذا قول مقر بالتقصير، يقول في قاعدة مذهبه على التقليد، وليس الأمر كذلك.
وإنما أراد الشافعي إعلام أحمد بن حنبل أن أصله الذي بنى عليه مذهبه الأثر دون غيره فيما ثبت النص بخلافه، وأشار إلى أن أصحاب الحديث أشد عناية من غيرهم بتصحيح الأحاديث وتعليلها، وأكثر بحثا عن أحوال الأمة في جرحها وتعديلها، ليستخرج بذلك ما في نفس أحمد " ويسبره " (1) ، هل يجد عنده طعنا عليه، أو عيبا فيما يذهب إليه، أو " خبرا " (2) يخالف أصله، أو أثرا ينقض قوله، وهذا يدل على قوة نفسه فيما أصله، وإتقانه قاعدة مذهبه وما شيده.
***
قول الشافعي إذا وجدتم سنة خلاف قولي فخذوا بها
وقد أنبأنا محمد بن أحمد بن رزق البزار ثنا دعلج بن أحمد (3) قال: سمعت أبا محمد الجارودي يقول: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلاف قولي، فخذوا بالسنة، ودعوا قولي، فإني أقول بها.
وكيف يوجد في الأمر ما يخالف مذهبه!!! وعلى الأثر عول ومنه استنبط، وبه أخذ!!!
__________
(1) الأصل أصابته ماء ورطوبة فطمس في هذا الموضع.
(2) الأصل أصابته ماء ورطوبة فطمس في هذا الموضع.
(3) في مناقب الشافعي للبيهقي زيادة '' بن دعلج '' وهو جد '' دعلج ''.(2/390)
وإنما قال هذا تعظيما للأثر، وحثا على التمسك بالسنن.
إخراج البخاري عن جماعة هم دون الشافعي
ويبطل قول المعتل بما ذكرناه في أول هذا " الفصل " (1) أن البخاري قد أخرج منهم قدم في العلم ثابتة، ولا حالة عند أهله ظاهرة، كعبد الله بن مرة، في صحيحه أحاديث عن جماعة ليس لواحد وسعدان بن يحيى اللخمي، وشبيب بن سعيد الحبطي وطلحة بن أبي سعيد، وعبد الله بن يحيى بن أبي كثير، وخلق يطول ذكرهم، احتج بأحاديثهم وليس يقاربون الشافعي في اشتهار الاسم، وانتشار العلم، وبيان الفضل، وصحة الأصل،
__________
(1) في الأصل '' الفطك ''.(2/391)
بعض مناقب الشافعي
فإن مناقبه أكثر من أن تحصى، وعد ما جمع الله فيه لا يستوفى، إذ كان المخصوص من الدين، والرجحان الظاهر المبين، والتقدم في المسلمين بما فاق به النظراء، وسما به على الأكفاء، فصار نسيج وحده، وفريد مجده، وقريع دهره،(2/392)
وواحد عصره، إن ذكرت المفاخر فهو الغاية، وإن عدت المحاسن فإليه النهاية، ذو القدم السابقة، وصاحب النية الصادقة، والفهم الراجح، والفضل الواضح، والمجد الشامخ، والسناء الباذخ، والفطنة الدقيقة والقريحة العميقة، والعقدة الوثيقة، واستقامة الطريقة، وكرم الخلقة، والمزية الشامخة العليا، والتقدم في الفقه والفتيا، " فتصرف " (1) في سائر العلوم بافتنان، وحاز ما عجز عنه أهل الأسنان (2) ، وضبط ذلك بحسن بصيرة وإتقان، ولو عدد المبالغون، وأحصى مناقبه المحصون، لأدركتهم السآمة في حسابها، ولأقروا بالعجز " عن " (3) استيعابها، وأنا ذاكر من شواهد أخباره، ومورد من مشهور أذكاره، نبذة موجزة يسيرة، تزيد المستبصر بصيرة، وتكبت العدو الحاسد، وتخصم الألد المعاند، تزيل - إن شاء الله - شك المستريب، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
__________
(1) في الأصل تمزق وخفاء
(2) الأسنان: من السن، وهو العمر والمراد بذلك من تقدمت بهم أعمارهم.
(3) ليست في الأصل وإنما هي في الهامش وكتب عليها '' صح ''.(2/393)
قول مالك بن أنس فيه
أنبأنا محمد بن رزق البزار أنبأنا محمد بن الحسن السراحي ثنا أبو نعيم الاستراباذي حدثني علي بن عبد الرحمن بن المغيرة: علان المصري قال: سمعت حرملة يقول: سمعت الشافعي يقول: أتيت مالك بن أنس، وأنا ابن ثلاث عشرة سنة وكان ابن عم لي والي المدينة فكلم لي مالكا فأتيته، لأقرأ عليه، فقال: اطلب من يقرأ لك، فقلت: أنا أقرأ. قال: فقرأت عليه، فكان ربما قال لي لشيء قد مر: أعد حديث كذا فأعيد عليه حفظا، فكأنه أعجبه، ثم سألته عن مسألة فأجابني، ثم أخرى فقال: أنت يجب أن تكون قاضيا. (1) .
أخبرني علي بن أحمد الرزاز قال: أنبأنا علي بن محمد بن سعيد الموصلي ثنا أبو عبد الله أحمد بن إبراهيم الطائي ثنا عبد الله بن عمر القواريري ثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: سمعت مالكا يقول: ما يأتيني قرشي أفهم من هذا الفتى - يعني الشافعي - (2) .
***
وصف ابن عيينة له أنبأنا أبو نعيم الحافظ بأصبهان ثنا عبد الله بن محمد " بن جعفر بن حبان (3) " ثنا عمرو بن عثمان المكي " حدثني " (4) أحمد بن محمد ابن بنت الشافعي قال: سمعت أبي وعمي يقولان: كان سفيان بن عيينة إذا جاءه شيء من التفسير والفتيا يسأل عنها، التفت إلى الشافعي، فيقول: سلوا هذا.
***
__________
(1) مناقب الشافعي للبيهقي 1: 101 وفيه زيادة '' ثم أخرى '' مكررة مرتين. وتوالي التأسيس ص 50.
(2) تاريخ بغداد والمناقب للرازي 17.
(3) ليست في الحلية.
(4) في الحلية '' ثنا ''.(2/394)
ذكر مسلم بن خالد إياه
أخبرني الحسن بن أبي طالب ثنا محمد بن العباس الخزاز ثنا محمد بن (محمد) (1) الباغندي حدثني الربيع بن سليمان.
وأنبأنا أحمد بن محمد البزار واللفظ له قال: أنبأنا علي بن عبد العزيز البرذعي أنبأنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ثنا الربيع بن سليمان المرادي قال: سمعت الحميدي يقول: سمعت الزنجي - يعني مسلم بن خالد - يقول للشافعي: أفت يا أبا عبد الله، فقد آن لك أن تفتي، وهو ابن خمس عشرة سنة.
***
قول عبد الرحمن بن مهدي فيه أنبأنا محمد بن " أحمد بن " (2) رزق ثنا دعلج بن أحمد (3) قال: سمعت جعفر بن أحمد الساماني يقول: سمعت جعفر ابن أخي ابن أبي ثور يقول: سمعت عمي يقول: كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي وهو شاب " أن " (4) يضع له كتابا فيه معاني القرآن، ويجمع " قبول " (5) الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع كتاب الرسالة.
قال عبد الرحمن بن مهدي: ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها.
__________
(1) الزيادة من تاريخ بغداد.
(2) الزيادة من تاريخ بغداد للخطيب 2: 64.
(3) في مناقب الشافعي للبيهقي '' أخبرنا أبو محمد دعلج بن أحمد بن دعلج '' (1: 230) .
(4) سقطت من الأصل وكتبت بالهامش وكتب عليها '' صح ''.
(5) في تاريخ بغداد '' فنون '' وهو تصحيف (2: 64) .(2/395)
قول يحيى بن سعيد القطان فيه
أنبأنا أحمد بن أبي جعفر القطيعي أنبأنا علي بن عبد العزيز البرذعي أنبأنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ثنا الحسن بن محمد الصباح قال: أخبرت عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال: إني أدعو الله للشافعي في كل صلاة، أو في كل يوم - يعني لما فتح الله عليه من العلم ووفقه للسداد فيه -.
***
ذكر أيوب بن سويد له أنبأنا أحمد بن أبي جعفر أنبأنا علي بن عبد العزيز أنبأنا ابن أبي حاتم قال: في كتابي عن الربيع بن سليمان قال: سمعت أيوب بن سويد الرملي لما رأى الشافعي قال: ما ظننت أني أعيش حتى أرى مثل هذا الرجل (1) ، ما رأيت مثل هذا الرجل قط.
قلت: وقد رأى الأوزاعي، ومالك بن أنس وسفيان الثوري.
__________
(1) حلية الأولياء 9: 94، ومناقب الشافعي للبيهقي 2: 246، 247.(2/396)
وصف مصعب بن عبد الله الزبيري
أنبأنا محمد بن أحمد بن رزق ثنا أحمد بن كامل القاضي حدثني أبو الحسن بن القواس قال: حدثني ابن بنت الشافعي قال: سمعت زبير بن بكار يقول: قال لي عمي مصعب: كتبت عن فتى من بني شافع من أشعار هذيل ووقائعها وقرا، لم تر عيناي مثله، (1) " قال: قلت: يا عمي أنت تقول: لم تر عيناي مثله!! قال: نعم يا بني لم تر عيناي مثله " (2) .
قلت: وقد رأى مصعب (3) مالك بن أنس ومن عاصره من العلماء بالمدينة.
***
ذكر محمد بن الحسن الشيباني إياه أنبأنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ ثنا محمد بن إبراهيم " بن علي " (4) ثنا عبد العزيز بن أحمد ابن أبي رجاء قال: سمعت الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي: كان محمد بن الحسن يقرأ علي جزءا، فإذا جاء أصحابه قرأه عليهم أوراقا، فقالوا له: إذا جاء هذا الحجازي قرأت عليه جزءا، وإذا جئنا قرأت علينا أوراقا؟ فقال (5) : اسكتوا، إن تابعكم هذا لم يثبت لكم أحد (6) .
***
قول بشر بن غياث المريسي فيه أنبأنا أبو نعيم الحافظ ثنا الحسن بن سعيد بن جعفر " البصري (7) " ثنا زكريا " بن يحيى " (8) الساجي ثنا الزعفراني قال: حج بشر (9) المريسي سنة إلى مكة، ثم قدم فقال: لقد رأيت
__________
(1) انظر المناقب للبيهقي 2: 45، 46، 266.
(2) ما بين القوسين قد سقط من الأصل، وكتب في الهامش بخط دقيق إلا أن الكاتب واحد وكتب عليه '' صح ''.
(3) في الأصل زيادة '' بن '' فصار الكلام: مصعب بن مالك بن أنس، وهو خطأ من النساخ.
(4) ما بين القوسين ليس في الحلية.
(5) في الحلية '' قال ''.
(6) حلية الأولياء 9: 93.
(7) ليست في الحلية.
(8) ليست في الحلية.
(9) في الأصل: بسر بالمهملة. وهو خطأ من النسخ.(2/397)
بالحجاز رجلا ما رأيت مثله سائلا ولا مجيبا - يعني الشافعي.
***
ذكر أحمد بن حنبل له أنبأنا محمد بن أحمد بن رزق ثنا عبد الله بن جعفر بن شاذان ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث (1) .
زعم: إبطال أهل الحديث لروايات جماعة من الفقهاء اختلاف الشافعي عنهم
فإن قال قائل: إن وصف الشافعي بالفقه وعلو مرتبته في العلم مما لا يمكن دفعه، ولا يتوصل إلى ستره، غير أن ذلك على مذاهب أصحاب الحديث بمجرده لا يوجب قبول الخبر، والاحتجاج بالرواية، إذ قد أبطلوا روايات جماعة من العلماء، وردوا أخبار غير واحد من الفقهاء، كأبي حنيفة، وابن أبي ليلى، وأبي يوسف القاضي، وأبي البختري وهب بن وهب، ومحمد بن الحسن، وغيرهم ممن يطول ذكره، مع اشتهار هؤلاء بمعرفة الأحكام والاجتهاد في مسائل الحلال والحرام، فهل الشافعي إلا كواحد منهم؟ أو حكمه عند المحدثين يفارق حكمهم؟ ؟ ؟
__________
(1) توالي التأسيس ص.(2/398)
قلت (1) : بل بين حكمه وحكمهم تفاوت كثير، وفرقان - إذا تأمله الناظر - واضح منير، وذلك أن كل واحد ممن تقدم ذكره، لما رد أخباره أصحاب الحديث ضعفوا أمره.
ما قبل من تجريح في أبي حنيفة - رحمه الله -
كما أخبرنا محمد بن الحسين القطان أنبأنا علي بن إبراهيم المستملي قال: أخبرني محمد بن إبراهيم بن شعيب الغازي قال: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: ثنا نعيم - يعني ابن حماد - ثنا الفزاري وهو أبو إسحاق قال: كنت عند الثوري فنعي أبو حنيفة فقال: الحمد لله، وسجد، قال: كان ينقض الإسلام عروة عروة. وقال - يعني الثوري: ما ولد في الإسلام مولود أشأم منه. .
أخبرني عبد الله بن أبي الفتح ثنا عمر بن أحمد الواعظ ثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ثنا محمود بن غيلان ثنا المؤمل قال: ذكر أبو حنيفة عند الثوري " وهو " (2) في الحجر فقال: غير ثقة، ولا مأمون، غير ثقة ولا مأمون، فلم يزل يقول، حتى " جاوز " (3) الطواف.
حدثني الحسن بن أبي طالب ثنا عبد الواحد بن علي القاضي " ثنا أبو محمد عبد الله بن سليمان بن عيسى القاضي " (4) ثنا إسحاق بن إبراهيم بن هانئ قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل وسئل عن أبي حنيفة
__________
(1) في الأصل: الكلام غير واضح
(2) ليست في الأصل وإنما هي من تاريخ بغداد المصنف.
(3) في تاريخ بغداد '' حتى جاز ''.
(4) ما بين القوسين ليس في الأصل وإنما كتب في الهامش وكتب عليه '' صح ''.(2/399)
يروي عنه؟ قال: لا. .
أنبأنا محمد بن أحمد بن رزق أنبأنا هبة الله بن محمد بن حبش الفراء ثنا أبو جعفر محمد بن عثمان ابن أبي شيبة قال: سمعت يحيى بن معين وسئل عن أبي حنيفة فقال: كان يضعف في الحديث.
أنبأنا محمد بن الحسين القطان أنبأنا عثمان بن أحمد الدقاق ثنا سهل بن أحمد الواسطي ثنا عمرو بن علي قال: أبو حنيفة النعمان بن ثابت ضعيف الحديث، عامة حديثه غلط. ما يسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قليل الحديث.(2/400)
صفحة فارغة(2/401)
صفحة فارغة(2/402)
وقالوا في ابن أبي ليلى
ما أنبأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب الخوارزمي أنبأنا أحمد بن سعيد بن سعد ثنا عبد الكريم بن أبي عبد الرحمن النسائي ثنا أبي قال محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة،(2/403)
أحد الفقهاء وليس بالقوي في الحديث. 11- آ
***
وأما أبو يوسف
فأخبرنا محمد بن الحسين المتوثي أنبأنا دعلج بن أحمد المعدل أنبأنا أحمد بن علي الأبار ثنا محمود بن غيلان قال: قلت لزيد بن هارون: ما تقول في أبي يوسف؟ قال: لا تحل الرواية عنه، إنه كان يعطي أموال اليتامى مضاربة، ويجعل الربح لنفسه. .
أخبرني أحمد بن محمد بن غالب حدثني محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الملك الأدمي ثنا محمد بن علي بن أبي " داود " (1) الأيادي ثنا زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن حدثني أبو داود سليمان بن الأشعث ثنا عبيدة (2) بن عبد الله الخراساني قال رجل لابن المبارك: أيهما أصدق أبو يوسف أو محمد؟ قال: لا تقل أيهما أصدق، قل أيهما أكذب؟ .
__________
(1) كتبت في هامش الأصل وكتب عليها '' صح '' وفي تاريخ بغداد '' محمد بن علي الأيادي ''.
(2) في تاريخ بغداد 14: 257 '' عبده ''.(2/404)
ووصفوا أبا البختري بوضع الحدث كذلك.
أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل بن شاذان الصيرفي بنيسابور قال: سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب الأصم يقول: سمعت العباس بن محمد الدوري يقول: سمعت يحيى بن(2/405)
معين يقول: أبو البختري - يعني القاضي - يضع الحديث. .
***
وقالوا في محمد بن الحسن ما أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق ثنا أحمد بن علي بن عمر بن حبيش الرازي قال: سمعت محمد بن أحمد بن عصام يقول: سمعت محمد بن سعد بن محمد بن الحسن بن عطية العوفي يقول: سمعت يحيى بن معين وسألته عن محمد بن الحسن فقال: كذاب.
وصف الشافعي بالصدق والعدالة والثقة
وأما الشافعي: فالمحفوظ عن العالمين بالحديث، ومن يرجع إلى أقوالهم في الجرح والتعديل، وصفهم له بالصدق والأمانة، وذكرهم إياه بالثقة والديانة،
سماع أحمد الموطأ من الشافعي وكان قد سمعه من جماعة قبله
كما أنبأنا أبو سعيد الماليني أنبأنا عبد الله بن عدي الحافظ ثنا عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني ثنا صالح بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: سمعت الموطأ من محمد بن إدريس الشافعي، لأني رأيته فيه ثبتا، وقد سمعت من جماعة(2/406)
قبله.
ثناء أحمد بن حنبل عليه
وأخبرني الحسن بن أبي طالب ثنا محمد بن العباس الخزاز ثنا عبد الله بن إسحاق المدايني قال: سمعت العباس بن محمد يقول: سألت أحمد بن حنبل عن الشافعي فقال: قد سألناه، واختلفنا إليه فما رأينا إلا خيرا (1) .
***
- وأنبأنا عبد الله بن يحيى بن عبد الجبار السكري ثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ثنا إبراهيم الحربي قال: سألت أحمد بن حنبل عن الشافعي فقال: حديث صحيح ورأي صحيح، قلت: ما تقول في أبي حنيفة؟ قال: لا حديث، ولا رأي.
وقد روى أحمد بن حنبل في مسنده عن الشافعي أحاديث كثيرة، وروى أيضا عن سليمان بن داود الهاشمي عن الشافعي حديثا.
__________
(1) المناقب للبيهقي 2: 259.(2/407)
ثناء يحيى بن معين على الشافعي
أنبأنا أبو نعيم الحافظ ثنا أحمد بن بندار بن إسحاق الفقيه ثنا أحمد بن روح " البغدادي قال: سمعت " الزعفراني قال: كنت مع يحيى بن معين في جنازة فقال له الرجل: يا أبا زكريا ما تقول في الشافعي؟ قال: دع هذا عنك، لو كان الكذب " له " (1) مطلقا لكانت مروءته تمنعه من أن يكذب (2) .
أنبأنا أبو سعد الماليني ثنا عبد الله بن عدي قال: سمعت يحيى بن زكريا بن حيوة يقول: سمعت هاشم بن مرثد الطبراني يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: الشافعي صدوق، لا بأس به (3) .
ثناء أبي حاتم على الشافعي
أنبأنا أحمد بن أبي جعفر القطيعي قال: أنبأنا علي بن عبد العزيز قال: أنبأنا عبد الرحمن بن أبي حاتم (4) الرازي قال: سمعت أبي يقول: محمد بن إدريس الشافعي صدوق.
واستيفاء ما ورد في هذا المعنى يطول. وفي يسير ما ذكرت كفاية عن كثير.
لم يقف علماء الحديث على وهم من الشافعي في الحديث
على أن أئمة النقل قد اعتبروا ما رواه الشافعي، فلم يقفوا منه على وهم، ولا أدركوا له شيئا قد لحقه فيه سهو، حتى قال من انتهى إليه الحفظ في عصره، ولم يدانه أحد من أهل وقته، أبو زرعة الرازي:
قول أبي زرعة
ما أنبأنا رضوان بن محمد بن الحسن الدينوري قال: سمعت أبا عبد الله الحسين بن جعفر العنبري بالري يقول: سمعت الزبير بن عبد الواحد يقول: سمعت عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني بمصر يقول: سمعت أبا زرعة يقول: ما عند الشافعي حديث غلط فيه.
ثناء ابن عبد الحكم على الشافعي
أنبأنا محمد بن علي بن أحمد المقري أنبأنا محمد بن جعفر التميمي بالكوفة أنبأنا عبد الرحمن بن محمد بن حاتم بن إدريس البلخي ثنا نصر بن المكي ثنا ابن عبد الحكم
__________
(1) ليست في الأصل وإنما هي من مناقب الشافعي للبيهقي والبداية والنهاية.
(2) المناقب للبيهقي 2: 249 - 250 والمناقب للرازي 81 والبداية والنهاية 10: 253 والحلية 9: 97.
(3) المناقب للبيهقي 2: 249، والبداية والنهاية 10: 253 وتذكرة الحفاظ 1: 362 من غير اللفظة الأولى.
(4) في الأصل '' حامد '' وهو غلط من النساخ والصواب ما أثبتناه.(2/408)
قال: ما رأينا مثل الشافعي، كان أصحاب الحديث ونقاده يجيئون إليه، فيعرضون عليه، فربما أعل نقد النقاد منهم، ويوقفهم على غوامض (من) (1) علم الحديث لم يقفوا عليها، فيقومون وهم متعجبون منه. ويأتيه أصحاب الفقه، المخالفون والموافقون، فلا يقومون إلا وهم مذعنون له بالحذق والديانة، ويجيئه أصحاب الأدب فيقرأون عليه الشعر فيفسره، ولقد كان يحفظ عشرة آلاف بيت شعر من أشعار هذيل بإعرابها وغريبها ومعانيها، وكان من أضبط الناس للتاريخ، وكان يعينه على ذلك شيئان: وفور عقل، وصحة دين (2) ، وكان ملاك أمره إخلاص العمل لله عز وجل. (3) .
بعض ما ورد عن الشافعي من كلام في أحوال الرواة
وقد نقل عن الشافعي مع ضبطه لحديثه كلام في أحوال الرواة، يدل على بصره بهذا الشأن، ومعرفته به، وتبحره فيه. فمن ذلك قوله:
__________
(1) كتبت في الهامش وكتب عليها '' صح ''.
(2) في التوالي '' وصحة ذهن ''.
(3) التوالي 59 ومناقب الرازي 20 ببعض اختلاف.(2/409)
الرواية عن حرام حرام
الرواية عن حرام بن عثمان حرام.
قوله عن بعض الرواة توثيقا وتعديلا
وذكر داود بن قيس الفراء، وأفلح بن حميد الأنصاري فرفع بهما في الثقة والأمانة (1) .
__________
(1) المناقب للبيهقي 1: 523 بزيادة '' والإتقان لما رووا '' وانظر التوالي.(2/409)
- وسئل عن أسامة بن زيد الليثي، ومحمد بن أبي حميد فقال: لا بأس بهما (1) .
وغمض على ليث بن أبي سليم.
وقال: من حدث عن أبي جابر البياضي (2) بيض الله عينيه.
- وسئل عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فحكى من أمره ما يوجب ضعفه وترك الاحتجاج بحديثه.
وقال: إرسال الزهري عندنا ليس بشيء، وذلك: أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم.
__________
(1) (المناقب للبيهقي 1: 547)
(2) في الأصل '' البيضائي '' والصواب ما أثبتناه.(2/410)
- وكل ما حكيته هاهنا عن الشافعي، فإنه عندنا عن شيوخنا بالأسانيد المتصلة بيننا وبينه، وإنما حذفتها ميلا إلى الإيجاز.
ولو اجتهد المتقن الحافظ، وتحرى البصير الناقد، أن نصف هؤلاء المذكورين آنفا، على قدر أحوالهم، وننزلهم في الرواية منازلهم، لما عدا ما ذكر الشافعي من أمرهم، وهذا يدل منه على علم وافر، وفهم حاضر، ومعرفة ثاقبة، وبصيرة نافذة.
انتهاء العلم بالمدينة إلى الفقهاء السبعة وعمن أخذ علمهم
وقد كان العلم بالمدينة انتهى إلى الفقهاء السبعة، وهم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن(2/411)
عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وخارجة بن زيد بن ثابت، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
- وأخذ عن هؤلاء السبعة علمهم محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ويحيى بن سعيد(2/412)
الأنصاري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي، وأبو الزناد عبد الله بن ذكوان.
وأخذ الشافعي علم هؤلاء الأربعة عن أصحابهم.
- أما الزهري فحفظ علمه عن مالك وسفيان بن عيينة وإبراهيم بن سعد، ومسلم بن(2/413)
خالد الزنجي، وعمه محمد بن علي بن شافع،
وأما يحيى بن سعيد وربيعة وأبو الزناد فحفظ علمهم عن مالك وسفيان أيضا.
- وكان من فقهاء المدينة ومحدثيها محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، فلم يدركه الشافعي، لكنه أخذ علمه عن صاحبيه محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، وعبد الله بن نافع الصائغ.
***(2/414)
إلى من انتهى العلم في مكة وعمن أخذ علمهم
وأما أهل مكة، فانتهى العلم فيهم إلى عطاء، وطاووس ومجاهد، وعمرو بن دينار، وابن أبي مليكة،
فأخذ الشافعي علم عطاء عن أصحاب ابن جريج وهم مسلم بن خالد، وعبد المجيد بن(2/415)
عبد العزيز بن أبي رواد، وسعيد بن سالم القداح، وهؤلاء كانوا بمكة،
- ورحل إلى اليمن فأخذ عن هشام بن يوسف قاضي صنعاء، ومطرف بن مازن، وهما من كبار أصحاب ابن جريج.
وكان ابن جريج أخذ العلم عن عطاء نفسه.
وأما طاوس ومجاهد فإن علمهما انتهى إلى ابن جريج أيضا.
- وكان أخذه عن عبد الله بن طاوس، والحسن بن مسلم بن يناق، وإبراهيم بن ميسرة(2/416)
" وشاركه ابن عيينة في السماع عن ابن طاوس وإبراهيم بن ميسرة " (1) .
فأخذ الشافعي علم ابن جريج عن أصحابه الذين قدمنا ذكرهم.
وأخذ عن ابن عيينة نفسه ما كان عنده من هذا النوع وعنه أيضا أخذ علم عمرو بن دينار، وابن أبي مليكة.
وبعضه أخذه عن داود بن عبد الرحمن العطار، وكان ممن علت سنه، وتقدم سماعه.
***
__________
(1) ما بين القوسين سقط من الأصل وكتب في الهامش بنفس الخط وكتب عليه '' صح ''.(2/417)
انتهاء العلم في الشام إلى الأوزاعي وعمن أخذ علمه
وانتهى العلم في الشاميين إلى عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي فأخذ الشافعي علمه عن صاحبه عمرو بن أبي سلمة التنيسي.(2/417)
انتهاء علم المصريين إلى الليث وعمن أخذ علمه
وكان الليث بن سعد انتهى إليه علم أهل مصر، فأخذ الشافعي علمه عن جماعة من أصحابه، والذي عول عليه من بينهم يحيى بن حسان.
***
عمن أخذ علم العراقيين أهل الكوفة
وأخذ الشافعي علم العراقيين عن فرقتين (1) ، فما كان عن أهل الكوفة.
فأخذ عن أبي إسحاق السبيعي، ومنصور بن المعتمر، وسليمان
__________
(1) في الأصل '' فرتعين ''.(2/418)
الأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، ونحوهم فإنه أخذ عن سفيان بن عيينة وأبي أسامة حماد بن أسامة، ووكيع بن الجراح.
أهل البصرة
وما كان من أهل البصرة:
فأخذ عن إسماعيل ابن علية، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وغيرهما.(2/419)
وكمل للشافعي مطالعة علم جميع الأمصار، والإشراف على حال علماء سائر الأقطار (1) .
وقد ذكرنا في هذه الأوراق على سبيل الاختصار، ما فيه مقنع لذوي النهى والأبصار.
- ونسأل الله تعالى إلحاقنا بالصالحين، وتوفيقنا لسلوك طريقة أئمتنا الماضين، وأن لا يجعلنا من الشاكين المرتابين، ويتولى عصمتنا في حال الدنيا والدين، فإنا إياه نعبد، وبه نستعين.
- حدثني أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقلت له: يا رسول الله ما تقول في صحيح البخاري؟ فقال لي: صحيح كله، أو جيد كله، أو نحو هذا من الكلام، لو أنه أدخل فيه الشافعي.
والحمد لله وحده وصلواته على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) انظر الشافي شرح مسند الشافعي لابن الأثير مخطوط في المقدمة.(2/420)
مصادر التحقيق والمقدمة
1 - أخبار القضاة، لوكيع - المكتبة التجارية 1369 هـ.
2 - آداب الشافعي ومناقبه، لابن أبي حاتم - مطبعة الخانجي 1372 هـ.
3 - إرشاد الأريب - معجم الأدباء.
4 - الاستيعاب، لابن عبد البر بهامش الإصابة.
5 - الإصابة، للحافظ ابن حجر - تصوير عن مطبعة السعادة بمصر 1328 هـ.
6 - الأعلام، للزركلي - ط الثالثة.
7 - أعلام النساء، عمر رضا كحالة ط. دمشق المطبعة الهاشمية.
8 - الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، للسخاوي - نشر القدسي 1349 هـ.
9 - الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني - مصور عن مطبعة بولاق في بيروت 1390 هـ.
10 - ألفية الحديث، للسيوطي، بشرح أحمد محمد شاكر - ط عيسى البابي الحلبي بمصر 1353 هـ.
11 - الأم، للإمام الشافعي - ط دار الشعب بالقاهرة.
12 - الآمال الشجرية، للشجري، طبعة دائرة المعارف العثمانية 1349 هـ.
13 - الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء، لابن عبد البر - نشر حسام الدين القدسي 1350 هـ القاهرة.
14 - الأنساب، للسمعاني، نسخة مصورة بالأوفست عن المخطوطة - نشر مكتبة المثنى ببغداد.
15 - البحر الذي زخر شرح ألفية الأثر، للسيوطي - مخطوط مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة.
16 - بدائع المنن في جمع وترتيب المسند والسنن، للبنا الساعاتي ط الأولى 1369 هـ القاهرة.
17 - البداية والنهاية، لابن كثير - ط السعادة بالقاهرة 1348 هـ وتصوير بيروت.
18 - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، للسيوطي ط عيسى البابي الحلبي 1384 هـ القاهرة.
19 - بهجة المجالس وأنس المجالس، لابن عبد البر، نشر الدار المصرية للتأليف والترجمة، بدون تاريخ.
20 - بيان خطأ من أخطأ على الشافعي، للبيهقي - مخطوط، وعندي صورة عنه.
21 - البيان والتبيين، للجاحظ - ط الخانجي ت عبد السلام هارون 1388 هـ.
22 - تاريخ ابن قاضي شهبة - مخطوط بالظاهرية.
23 - تاريخ الإسلام، للذهبي مكتبة القدسي 1369 هـ القاهرة.
24 - تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي - ط الخانجي بمصر 1349 هـ وتصوير بيروت.
25 - تاريخ دمشق، لابن عساكر - مخطوط بالظاهرية تاريخ.(2/421)
26 - التاريخ الصغير، للإمام البخاري - إدارة إحياء السنة بباكستان.
27 - تاريخ الطبري، للإمام الطبري - ط أولى الحسينية المصرية، بدون تاريخ.
28 - التاريخ الكبير، للبخاري - ط دائرة المعارف العثمانية بالهند 1361 هـ وتصوير بيروت.
29 - تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب، للكوثري - ط أولى بمصر 1361 هـ.
30 - التبصرة والتذكرة، للعراقي - المطبعة الجديدة بفاس المغرب 1354 هـ.
31 - تبصير المنتبه بتحرير المشتبه، لابن حجر - ط المؤسسة المصرية العامة 1383 هـ.
32 - تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام الأشعري، لابن عساكر - ط القدسي بالقاهرة.
33 - تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، للمزي - ط الدار القيمة بالهند 1386 هـ.
34 - تدريب الراوي شرح تقريب النواوي، للسيوطي، ت عبد الوهاب عبد اللطيف - نشر دار الكتب الحديثة بمصر 1385 هـ.
35 - تذكرة الحفاظ، للذهبي - ط حيدر آباد الدكن 1375 هـ وتصوير بيروت.
36 - ترتيب المدارك، للقاضي عياض - دار مكتبة الحياة بيروت 1387 هـ.
37 - ترتيب مسند الشافعي، للسندي - نشر عزت العطار 1370 هـ.
38 - الترغيب والترهيب، لابن حجر - إدارة إحياء المعارف بالهند 1380 هـ.
39 - الترغيب والترهيب، للمنذري - المكتبة التجارية الكبرى بمصر 1379 هـ.
40 - تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة، لابن حجر - نشر السيد عبد الله هاشم اليماني بالمدينة المنورة 1386 هـ.
41 - تفسير الطبري، لأبي جعفر الطبري - ت أحمد محمد شاكر وأخيه محمود.
42 - التقريب، للنووي - بأعلى التدريب.
43 - تقريب التهذيب، لابن حجر، ت عبد الوهاب عبد اللطيف - نشر المكتبة العلمية بالمدينة المنورة 1380 هـ.
44 - التقصي، لابن عبد البر - مكتبة القدسي بالقاهرة 1350 هـ.
45 - التكملة، للمنذري.
46 - التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، لابن حجر - نشر عبد الله هاشم اليماني بالمدينة المنورة 1384 هـ.
47 - تلخيص المستدرك، للذهبي، بأسفل المستدرك - نشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
48 - التنكيل في تأنيب الكوثري من الأباطيل، لليماني - طبع على نفقة محمد نصيف وشركاه.
49 - تهذيب الأسماء واللغات، للنووي - ط إدارة الطباعة المنيرية وتصوير بيروت.(2/422)
50 - تهذيب التهذيب، لابن حجر - ط دائرة المعارف العثمانية بالهند 1325 هـ وتصوير بيروت.
51 - تهذيب مستمر الأوهام، لابن ماكولا - مخطوط في تركيا ومصور بمعهد المخطوطات بالقاهرة.
52 - توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس، لابن حجر - ط أولى بولاق 1301 هـ.
53 - توجيه النظر، للجزائري - المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
54 - جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر - نشر المطبعة السلفية بالمدينة المنورة 1388 هـ.
55 - جامع الترمذي، انظر السنن للإمام الترمذي - ت أحمد شاكر وغيره تصوير بيروت.
56 - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي - مخطوط بالإسكندرية ومصور بدار الكتب.
57 - الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم - ط دائرة المعارف العثمانية بالهند 1360 هـ.
58 - الخطيب البغدادي مؤرخ بغداد ومحدثها، للدكتور يوسف العش - ط الترقي بدمشق 1364 هـ.
59 - الخطيب البغدادي وأثره في علوم الحديث، للدكتور محمود طحان - رسالة دكتوراه.
60 - الجمع بين رجال الصحيحين - ط دائرة المعارف النظامية 1323 هـ.
61 - الحماسة، للبحتري - ط أولى - بالمطبعة الرحمانية بالقاهرة 1929 م.
62 - الجواهر المضية في تراجم الحنفية - ط دائرة المعارف النظامية بالهند 1332 هـ.
63 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم ط مكتبة الخانجي 1352 هـ.
64 - خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، للبغدادي - ط بولاق 1299 هـ.
65 - خلاصة تذهيب الكمال - ط بولاق 1301 هـ وقد رجعت إلى الطبعات الأخرى.
66 - الديباج المذهب في تراجم أعيان المذهب - لابن فرحون ط مكتبة عباس بن شقرون 1351 هـ بالقاهرة.
67 - دول الإسلام، للذهبي - ط ثانية بدائرة المعارف العثمانية بالهند 1365 هـ.
68 - ديوان أبي الأسود الدؤلي - طباعة بغداد.
69 - ذيل مرآة الزمان، لليونيني ط دائرة المعارف العثمانية 1380 هـ.
70 - الرسالة، للإمام الشافعي، ت أحمد شاكر - ط مصطفى البابي الحلبي 1358 هـ.
71 - الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة، للكتاني - ط باكستان 1379 هـ.
72 - سمط اللآلي ط لجنة التأليف والترجمة والنشر 1354 هـ القاهرة.
73 - سنن أبي داود، ت محي الدين عبد الحميد - نشر دار إحياء السنة النبوية.
74 - سنن ابن ماجه - ط دار إحياء الكتب العربية 1373 هـ القاهرة.
75 - سنن الترمذي، انظر الجامع الصحيح.
76 - سنن الدرامي - ط شركة الطباعة 1386 هـ نشر السيد عبد الله هاشم اليماني.(2/423)
77 - السنن، للإمام الشافعي - مطبعة الاتحاد المصري 1315هـ القاهرة.
78 - السنن الكبرى، للبيهقي - ط دائرة المعارف العثمانية 1347 هـ.
79 - سنن النسائي - ط مصطفى البابي الحلبي 1383 هـ.
80 - سير أعلام النبلاء - للذهبي دار المعارف 1962 م.
81 - سيرة ابن هشام - ط مصطفى البابي الحلبي 1355 هـ.
82 - الشافي شرح مسند الشافعي، لابن الأثير - مخطوط وعندي صورة عنه.
83 - الشافعي وأثره في الحديث وعلومه، لخليل ملا خاطر - رسالة دكتوراه.
84 - شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي - نشر القدسي بالقاهرة 1350 هـ.
85 - شرح البخاري، للكرماني - المطبعة البهية المصرية 1356 هـ القاهرة.
86 - شرح صحيح مسلم، للنووي - بدون تاريخ.
87 - شرف أصحاب الحديث، للخطيب البغدادي - ط جامعة أنقرة 1971 م.
88 - شروط الأئمة الخمسة، للحازمي - ط القدسي 1357 هـ.
89 - شروط الأئمة الستة، لأبي الفضل المقدسي - ط القدسي 1357 هـ.
90 - صبح الأعشى، للقلقشندي - ط دار الكتب الخديوية بالقاهرة 1331 هـ.
91 - صحة أصول مذهب أهل المدينة - لابن تيمية مطبعة الإمام بالقاهرة.
92 - صحيح البخاري، للإمام البخاري وهو مع فتح الباري.
93 - صحيح مسلم - للإمام مسلم، ط محمد علي صبيح بالقاهرة.
94 - صفة الصفوة، لابن الجوزي - ط دائرة المعارف العثمانية 1355 هـ.
95 - الضعفاء، للبخاري - ط إدارة إحياء السنة بباكستان.
96 - الضعفاء والمتروكين، للنسائي - ط إدارة إحياء السنة بباكستان.
97 - طبقات الحنابلة، للقاضي أبي يعلى - السنة المحمدية 1372 هـ القاهرة.
98 - الطبقات السنية في تراجم الحنفية - ط المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة 1390 هـ.
99 - طبقات الشافعية، للحسيني - نشر دار الآفاق الجديدة بيروت 1971 م.
100 - طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي - ط عيسى البابي الحلبي بالقاهرة 1383 هـ.
101 - طبقات الصوفية، للسلمي - جماعة الأزهر للنشر والتأليف 1372 هـ القاهرة.
102 - طبقات فحول الشعراء - ط الثانية، تحقيق محمود شاكر.
103 - طبقات فقهاء اليمن - للجعدي مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة.
104 - الطبقات الكبرى، لابن سعد - دار صادر بيروت 1377 هـ.
105 - طبقات المدلسين، لابن حجر.(2/424)
106 - العبر في خبر من غبر، للذهبي - طبعة الكويت 1960 م.
107 - عقود الجمان في مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان، لمحمود يوسف الصالحي - لجنة إحياء المعارف النعمانية بالهند 1394 هـ.
108 - علوم الحديث، لابن الصلاح ت نور الدين عتر - ونشر المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
109 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري، للعيني - تصوير عن الطباعة المنيرية في بيروت، نشر أمين دمج.
110 - غاية النهاية في طبقات القراء - للجزري ط الخانجي 1352 هـ القاهرة.
111 - فتح الباري شرح صحيح البخاري - المطبعة السلفية بالقاهرة.
112 - فتح الباقي شرح ألفية العراقي، لزكريا الأنصاري - المطبعة الجديدة بفاس المغرب 1354 هـ.
113 - الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير، للنبهاني - مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة.
114 - الفتح المغيث، للسخاوي - نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة 1388 هـ.
115 - الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي - مطابع القصيم بالرياض 1389 هـ.
116 - فهرست ابن خليفة الأشبيلي - نشر مكتبة المثنى ببغداد.
117 - فهرست ابن النديم.
118 - الفوائد البهية في تراجم الحنفية، لعبد الحي اللكنوي - ط أولى مطبعة الخانجي 1234 هـ.
119 - القاموس المحيط، للفيروز ابادي.
120 - قواعد في علوم الحديث، للتهانوي - نشر مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب 1392 هـ.
121 - الكامل، لابن الأثير - ط بيروت.
122 - كتاب المجروحين لابن حيان - حيدر آباد بالهند 1392 هـ.
123 - كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر على ألسنة الناس للعجلوني - ط ثانية 1351.
124 - كشف الظنون، لحاجي خليفة - ط دار سعادات 1310 هـ.
125 - الكفاية في علم الرواية، للخطيب البغدادي - ط مصر.
126 - الكنى، للبخاري - ط دائرة المعارف العثمانية 1360 هـ.
127 - اللباب في تهذيب الأنساب، لابن الأثير - نشر القدسي بالقاهرة.
128 - لسان العرب، لابن منظور - ط بولاق 1302 هـ.
129 - لسان الميزان، للحافظ ابن حجر - ط أولى دائرة المعارف العثمانية 1325 هـ.
130 - مجمع الزوائد، للهيثمي - نشر دار الكتاب 1387 هـ.
131 - المحدث الفاصل، للرامهرمزي - دار الفكر بيروت 1391 هـ.
132 - مرآة الجنان، لابن صديق الغماري - ط دائرة المعارف العثمانية.(2/425)
133 - مرآة الزمان، سبط ابن الجوزي - ط حيدر آباد 1370 هـ.
134 - المستدرك، للحاكم - نشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض بدون تاريخ.
135 - مسند أحمد، ت أحمد شاكر - دار المعارف بالقاهرة.
136 - مسند أحمد - تصوير بيروت 1389 هـ.
137 - مسند أبي داود الطيالسي.
138 - المشتبه في الرجال للذهبي - دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة.
139 - معجم الأدباء، لياقوت الحموي - ط عيسى البابي الحلبي، ورجعت إلى الطبعة الأولى أيضا.
140 - معجم البلدان، لياقوت الحموي - مصور عن طبعة المستشرق " وستنفلد ".
141 - معرفة علوم الحديث، للحاكم - ت السيد معظم حسين.
142 - المغني في الضعفاء، للذهبي - نشر دار إحياء التراث في بيروت 1391 هـ.
143 - مفتاح السعادة طاش كبرى زادة - ط دار الكتب الحديثة بالقاهرة.
144 - المقاصد الحسنة، للسخاوي - مطبعة الخانجي 1375.
145 - مقدمة تحفة الأحوذي، للمباركفوري - ط مصر.
146 - مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه، للموفق بن أحمد المكي - ط دائرة المعارف النظامية بالهند 1321 هـ.
147 - مناقب الإمام الشافعي، للبيهقي - مطبعة دار التراث بالقاهرة 1391 هـ.
148 - مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه، للكردري - ط دائرة المعارف النظامية 1321 هـ.
149 - مناقب الإمام الشافعي، للرازي - المكتبة العلامية بالقاهرة.
150 - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، لابن الجوزي - دائرة المعارف العثمانية بالهند.
151 - موطأ مالك، للإمام مالك بن أنس - ط دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة 1370.
152 - ميزان الاعتدال، للذهبي - ط دار الكتب الحديثة بالقاهرة 1382 هـ.
153 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، لابن تغري بردي الأتابكي - دار الكتب الحديثة بالقاهرة.
154 - نخبة الفكر، لابن حجر.
155 - نصب الراية، للزيلعي - ط دار المأمون بشبرا 1357 هـ.
156 - نكت الهميان للصفدي - ط المطبعة الجمالية بالقاهرة 1329 هـ.
157 - النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، ت الطناحي - مطبعة عيسى البابي بالقاهرة.
158 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، للشوكاني - دار الجيل بيروت 1393 هـ.
159 - هدي الساري، للحافظ ابن حجر - المطبعة السلفية بالقاهرة.
160 - وفيات الأعيان، لابن خلكان - تصوير بيروت.(2/426)
الورقة ... العنوان ... الورقة ... العنوان
341 ... مقدمة التحقيق ... 388 ... مذهب شعبة فيمن يترك حديثه
فصل
343 ... ترجمة الخطيب ... 389 ... زعم: إنما عدل البخاري عن الاحتجاج الشافعي لقله عمله بالحديث
والرد على هذه الدعوى
343 ... اسمه ونسبه
344 ... ولادته ... 390 ... قول الشافعي: إذا وجدتم سنة لرسول الله صلى الله عليه سلم
خلاف قولي فخذوا بالسنة
344 ... نشأته ... 391 ... إخراج البخاري عن جماعة هم دون الشافعي
344 ... أول سماعه الحديث ... 392 ... بعض مناقب الشافعي رحمه الله
345 ... رحلاته في طلب الحديث ... 394 ... طرق حديث " عالم قريش ". ت.
طرق حديث «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من
يجدد لها دينها (1) » ومن حمل الحديثين على الشافعي رحمه الله. ت.
345 ... نيته عند شربه ماء زمزم ... 394 ... أقوال العلماء في الشافعي رحمه الله
345 ... إبطاله لكتاب مزور كتبه اليهود ... 394 ... قول الإمام مالك فيه
346 ... خروجه إلى دمشق وهجرة بغداد ... 394 ... وصف ابن عيينة له
347 ... رجوعه إلى بغداد ... 395 ... ذكر مسلم بن خالد إياه
347 ... مرضه ووصيته ووفاته ... 395 ... قول عبد الرحمن بن مهدي فيه
348 ... علومه ... 396 ... قول يحيى بن سعد القطان فيه
سبب طلب عبد الرحمن بن مهدي من الشافعي تأليف " الرسالة ". ت.
348 ... بعض مناقبه وأخلاقه ... 396 ... ذكر أيوب بن سويد له
349 ... بعض صفاته ... 397 ... ذكر مصعب بن عبد الله الزبيري له.
349 ... شيوخه ... 397 ... ذكر محمد بن الحسن إياه
350 ... تلاميذه ... 397 ... قول بشر بن غياث المريسى فيه
350 ... مصنفاته ... 398 ... قول أحمد بن حنبل عنه
354 ... ثناء العلماء عليه ... 399 ... زعم: إبطال أهل الحديث لروايات جماعة من الفقهاء.
وهل يختلف الشافعي عن غيره من العلماء عند أهل الحديث
ما قيل من تخريج أبي حنيفة رحمه الله تعالى
رد هذه المزاعم عن أبي حنيفة رحمه الله وإنه من العلماء
الأثبات ونقل من وثقه من العلماء. ت.
356 ... تراجم رجال سند هذه الرسالة ... 403 ... ما قيل في ابن أبي ليلى
356 ... ابن الطراح ... 404 ... ما قيل في أبي يوسف القاضي
نقل توثيق بعض العلماء له. ت.
ما وصف به أبو البختري من وضع الحديث
356 ... ست الكتبة ... 406 ... ما قيل في محمد بن الحسن
تحقيق ما قيل فيه. ت.
357 ... إسماعيل بن أبي اليسر التنوخي ... 406 ... وصف الشافعي رحمه الله تعالى بالصدق والعدالة والثقة
357 ... محمد بن علي بن المظفر بن القاسم ... 406 ... سماع أحمد الموطأ من الشافعي وكان قد سمعه من جماعة قبله
358 ... محمد بن جعوان صاحب النسخة ... 407 ... ثناء أحمد بن حنبل على الشافعي
359 ... علي بن المظفر النشبي ... 408 ... ثناء يحيى بن معين على الشافعي
360 ... السماعات ... 408 ... ثناء أبي حاتم الرازي على الشافعي
361 ... وصف المخطوطة وعمل المحقق ... 408 ... قول أبي زرعة ما عند الشافعي حديث غلط فيه
364 ... سند المخطوطة ... 408 ... ثناء ابن عبد الحكم على الشافعي
364 ... مقدمة المؤلف ... 409 ... بعض ما ورد عن الشافعي من كلام في أحوال الرواة
365 ... تحقيق حديث " من كتم علما ". ت.
368 ... تحقيق حديث «إن إمام الدجال سنين خوادع (2) » . ت ... 409 ... قوله: الرواية عن حرام بن عثمان حرام
قوله عن بعض الرواة تعديلا وتوثيقا
قوله: إرسال الزهري عندنا ليس بشيء
نقل كلام الشافعي في الرسالة لموافقته هنا. ت.
تخريج حديث " القهقهة في الصلاة يبطل الصلاة والوضوء ". ت.
370 ... بعض مزايا الشافعي رحمه الله ... 411 ... انتهاء العلم بالمدينة إلى الفقهاء السبعة وعمن أخذ علمهم
371 ... ثناء الأئمة على الشافعي ... 415 ... انتهاء العلم بمكة إلى عطاء وطاوس ومجاهد وعمرو بن دينار
وابن أبي مليكة وعمن أخذ علمهم
372 ... تحقيق حديث «من لم يشكر الناس لم يشكر الله (3) » . ت. ... 417 ... انتهاء علم الشاميين إلى الأوزاعي وعمن أخذ علمه.
374 ... تحقيق حديث «لا يزال ناس من أمتي يقاتلون على الحق (4) » . ت. ... 418 ... انتهاء علم أهل مصر إلى الليث بن سعد وعمن أخذ علمه.
375 ... تحقيق حديث «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق (5) » . ت. ... 418 ... عمن أخذ علم العراقيين - الكوفة - البصرة
376 ... من المراد بهذه الطائفة وأين مكانهم. ت. ... 421 ... مراجع التحقيق والمقدمة
376 ... الثناء على أهل الحديث
377 ... البخاري لم يلتزم إخراج كل ما صح عنده، ولا عن كل ثقة
377 ... سبب تأليف البخاري كتابة الصحيح
378 ... عدد أحاديث صحيح البخاري، وعدد رجال البخاري في تاريخه. ت.
فصل
379 ... سبب ترك البخاري إخراج الحديث عن طريق الشافعي رحمهما الله تعالى
379 ... البخاري لم يدرك الشافعي، وروى عمن هو أكبر سنا منه
380 ... أهل الحديث لا يروون نازلا إن وجدوا عاليا.
381 ... اعتراض: بأن البخاري روى في صحيحه حديثا نازلا وهو عنده عال.
سبب ترك البخاري الرواية عن الشافعي. ت.
382 ... البخاري لم يرو نازلا وهو عنده عال إلا لمعنى
382 ... تخريج حديث مدعم
معنى قول أبي هريرة رضي الله عنه " خرجنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم خيبر "
386 ... لا يوجد للشافعي رواية على شرط البخاري أغرب بها
387 ... رواية أبي داود لحديث الشافعي
388 ... من أخرج من الحفاظ حديث الشافعي
تخريج حديث " تطليق ركانة لزوجه ". ت.
__________
(1) سنن أبو داود الملاحم (4291) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/220) .
(3) سنن الترمذي البر والصلة (1955) ، مسند أحمد بن حنبل (3/32) .
(4) صحيح البخاري المناقب (3640) ، صحيح مسلم الإمارة (1921) ، مسند أحمد بن حنبل (4/248) ، سنن الدارمي الجهاد (2432) .
(5) صحيح مسلم الإيمان (156) ، مسند أحمد بن حنبل (3/384) .(2/427)
الدكتور خليل إبراهيم ملا خاطر
ولد في مدينة دير الزور في الجمهورية العربية السورية.
قرأ القرآن الكريم في مكاتب بلده وأنهى دراسته الابتدائية والمتوسطة والثانوية في دير الزور.
تتلمذ على علماء بلده وتخرج عليهم ومن أشهرهم المرحومان الشيخ محمد سعيد المفتي والشيخ حسين رمضان.
التحق بكلية الشريعة بجامعة دمشق وتخرج منها.
عمل في التدريس ثم التحق بكلية أصول الدين بالأزهر الشريف ونال درجة العالمية " الدكتوراه " في الحديث وعلومه.
قدم المملكة العربية السعودية للتدريس في المعاهد والكليات بجامعة محمد بن سعود الإسلامية سنة 1386 هـ. وهو الآن أستاذ مساعد مادة الحديث في كلية الشريعة.
قام بتأليف وتحقيق عدد من الكتب لم تنشر بعد ويتابع نشر بعض بحوثه في المجلات العلمية.(2/428)
مجلة
البحوث الإسلامية
أعمال المؤتمرات(2/429)
{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُون} (1)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 181(2/430)
مؤتمر رسالة المسجد(2/431)
مقتطفات من أقوال هامة في المؤتمر
إن أية خطوات أو إجراءات يمكن أن تؤدي لنشر لواء الإسلام وصالح المسلمين ستكون هذه البلاد سباقة دائما إليها ومؤيدة لها في كل مجال وبكل الإمكانيات.
" سمو الأمير أحمد بن عبد العزيز نائبا عن جلالة الملك خالد بن عبد العزيز " ملك المملكة العربية السعودية " في افتتاح مؤتمر رسالة المسجد "
***(2/432)
كان " المسجد هو الجامعة وهو (البرلمان) . . وهو المنتدى الإسلامي الكبير. . . كان هو المحكمة التي أصدرت أعدل الأحكام. . . وكان مركز القيادة المؤمنة. . . كان هو الميدان الذي تتم فيه مبايعة الخليفة حيث يعلن من منبره سياسة الدولة الإسلامية ومنهاجها. "
محمد صالح قزاز الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي
***
لقد " أقام الاستعمار وأقامت الصهيونية فرقا وأحزابا عميلة وصبت المال في أيديها صبا، والسمة البارزة لكل هذه الفرق والأحزاب هي إلغاء الجهاد. وفي الأقطار الإسلامية جماعات ولاؤها لغير الإسلام. . . . . . . .
بل ولغير أوطانها. .!
وقد نبه لهذه الجماعات: المرحوم الملك فيصل، وخادم الحرمين الملك خالد. . وولي العهد الأمير فهد في خطبهم وأحاديثهم. "
عبد الحليم محمود " شيخ الجامع الأزهر "
***
إن " فلسطين بلد إسلامي موطن الرسل والأنبياء. وطريق الأرض إلى السماء مسرى نبيكم الكريم، قبلتكم الأولى وإليها تشد الرحال. ولهذه الأسباب مجتمعة خطط الأعداء الصهاينة للانقضاض عليها منذ الحرب الصليبية إلى يومنا هذا. . "
أبو هشام " رئيس وفد فلسطين "(2/433)
وواجبنا " نحن أئمة المساجد أن لا نغفل عما انتاب المجتمع الإسلامي من تيارات ملحدة ومبادئ هدامة اندست في كل الأوساط وتسربت إلى أسرنا وداخل بيوتنا وتسلحت بكل الوسائل العصرية من صحافة وإذاعة وأفلام حتى تتمكن من هدمنا وإغراء الشباب وتقويض المجتمع ".
مصطفى كمال التارزي " مدير الشئون الدينية بجمهورية تونس "
***
لقد تحدث الأخوة الأعضاء بإسهاب وتفصيل حول رسالة المسجد وأجدني في خضم هذه الكلمات النافعة أتقدم باقتراح يتضمن ما يلي:
- أن تصدر توصية بالقيام بدراسة البرامج التي تقدمها إذاعات الدول الإسلامية ومدى تمشيها مع جوهر رسالة المسجد أو تناقضها معها.
وكذلك البرامج التي يقدمها التليفزيون في دول العالم الإسلامي، ودراسة الأفلام التي تعرض في البلاد التي تسمح بعرضها.
- القيام بمسح إحصائي للزمن الذي تستغرقه مختلف البرامج وما هي حصة البرامج الدينية من ذلك؟
- إن الإعلام الحديث له مقدرة ابتلاعية هائلة. فهل يستطيع المسجد أن يواصل رسالته حقيقة في هذا الصخب الإعلامي؟ وهل يمكن استخدام نفس الأجهزة لتوسيع رسالة المسجد وانطلاقا من روحه؟
وهل يمكن إعطاء منح إسلامية لدراسة فنون الأداء الإذاعية والتليفزيونية والصحافية بحيث يمكن مع الوقت إزالة التناقض بين معطيات هذه الأجهزة بحيث يسيران جنبا إلى جنب إلى هدف واحد؟
عثمان الصالح رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية(2/434)
ولا شك أن الدور الذي تلعبه حكومة المملكة العربية السعودية في تبني المؤتمرات ودعم المنظمات والمؤسسات الإسلامية دور رائع عظيم، وهو مساندة فعالة قوية للمسلمين في العالم فهم يشعرون بارتياح بالغ وبقوة معنوية كبيرة حينما يرون أن حكومة الحرمين الشريفين وملكها ورجالها يهتمون بشئونهم ويسهرون على تحقيق أهدافهم. . . وهكذا يتجسد معنى الأخوة الإسلامية {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1)
عبد الوحيد عبد الحق السلفي " الأمين العام للجامعة السلفية ببنارس الهند "
***
يزيد عدد المسلمين في ديار المهجر الأميركي عن مليوني نسمة منتشرين في مختلف الولايات المتحدة. . . وعلى أثر الاحتلال الإسرائيلي البغيض لبيت المقدس الشريف أجبر عدد كبير على النزوح. . . وخلال السنوات الثمان الماضية وعلى الأخص بعد حرب " حزيران 1967 " ازداد عدد المهاجرين من ديار المقدس الشريف ومن مختلف الأقطار العربية. . . ومن مختلف الأقطار الإسلامية وكان المسلمون في ديار المهجر ضائعين.
وقد تم والحمد لله تكوين مجلس أعلى للتنسيق بين المنظمات الإسلامية الكبرى في أميركا الشمالية ويعرف بـ A. N. C. C. I. . وذلك لأول مرة التقت جميع المنظمات الإسلامية في تلك البلاد في هذا المجلس الإسلامي الأعلى لخدمة الإسلام.
داود أسعد " السكرتير العام لمجلس التنسيق للمنظمات الإسلامية في أميركا الشمالية "
***
لقد أرسل الله رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالشريعة السمحاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. . .
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10(2/435)
وقال صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » . . .
وقال: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الخير ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها (2) » . . . .
«فالعلماء ورثة الأنبياء. . . والأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم (3) »
هذا وإن المساجد بيوت الله وهي خير بقاع الأرض وأحبها إليه وقد أمر سبحانه أن تعظم وتعمر وأن ترفع ويذكر فيها اسمه.
إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ " الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد "
***
يسرني أن أعلن بمناسبة انعقاد هذا المؤتمر الكريم أن المسلمين في كوريا يعتبرون أيضا (جنود الإسلام الشجعان) ولا يريدون أن يكونوا في مؤخرة الصفوف في الجهاد في تضامن العالم الإسلامي لخوض معركة الكفاح ضد الصهيونية العالمية والشيوعية والاستعمار.
صبري سوح " رئيس اتحاد مسلمي كوريا "
***
إننا بالنسبة إلى الدعاة المسلمين في أندونيسيا لا زلنا في مواجهة الأعداء الألداء للعقيدة الإسلامية وهما:
التبشير.
والشيوعية.
فالمسيحية تحاول محو الإسلام بطريقة التبشير وبناء المستشفيات وبث الفهم المسيحي
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(2) صحيح البخاري العلم (73) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (816) ، سنن ابن ماجه الزهد (4208) ، مسند أحمد بن حنبل (1/432) .
(3) سنن الترمذي العلم (2682) ، سنن أبو داود العلم (3641) ، سنن ابن ماجه المقدمة (223) ، مسند أحمد بن حنبل (5/196) .(2/436)
وتوزيع الأرزاق لأبناء أندونيسيا المعوزين. .
بينما الشيوعية تحاول محو العقيدة الإسلامية وجعل المسلمين أمة لا دينية. .
فوادي محمد حسب الله " إمام مسجد سونن أمبيل " " سورابايا - أندونيسيا "
***
إن مسلمي يوغسلافيا يدركون كل الإدراك أهمية المسجد وخطورة رسالته، إنهم يعرفون تمام المعرفة أن المسجد كان له أعظم فضل في كونهم - ولله الحمد - متمسكين بعقيدتهم الإسلامية مهما تقلبت عليهم الدول ورأوا العسر واليسر ولم تتزعزع عقيدتهم ولا وهن إيمانهم ولم تزدهم تقلبات الدهر إلا إسلاما وإيمانا. وبرغم تباعد ما بينهم وبين المسلمين وكون بلادهم هي آخر حدود البلاد التي فيها مسلمون فإنهم بقوا معتصمين بالأخوة الإسلامية. يشعرون بما يشعر به المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها.
حسين جوزو " مستشار رئيس العلماء "
***
" أما المسجد الجامع فإن ما آل إليه حاله من العزلة والإهمال فدلالته على ما بلغه قصور جهود الدعاة وقدرتهم على أن يصلوا إلى جماهير الأمة وأنماط الحياة ومقدراتها كالمتبع في بلاد الإسلام على أكبر قدر من الأهمية.
إن محدودية ثقافة القائمين على المساجد واقتصارها في الغالب على جوانب قانونية وفقهية فقط وبروح تقليدية، ساهمت في القضاء التدريجي على انعدام معنى المسجد الجامع في حياة الجماعة المسلمة. . . " دكتور عبد الحميد أبو سليمان " الندوة العالمية للشباب الإسلامي "(2/437)
انعقد مؤتمر " إحياء رسالة المسجد " في مساء السبت 15 رمضان 1395هـ الموافق 20 سبتمبر 1975م إلى 20 رمضان 1395هـ بمكة المكرمة.
وكانت رابطة العالم الإسلامي برئاسة معالي الأمين العام الشيخ محمد صالح القزاز قد تبنت الدعوة إلى هذا المؤتمر.
***
من مكانكم هذا أشرقت شمس الإسلام
وقد افتتح المؤتمر نيابة عن جلالة الملك خالد بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية صاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن عبد العزيز نائب أمير منطقة مكة المكرمة. وكان من حديث سموه قوله:
من مكانكم هذا أشرقت شمس الإسلام قرب بيت الله الأول. وفي أرجائه بدأت كلمات التوحيد ومنهاج الحياة الذي يتوجب على بني الإنسان اتباعه، كونه خيرا لهم في عجالة الدنيا وبقاء الآخرة التي هي خير وأبقى.
فلقد كان ترابط الرسالة مع المسجد وتعليمها فيه، واجتماع المؤمنين في ساحته والقيام بصلواتهم بفنائه ولقاءاتهم الخمسة يوميا في أرجائه لهي رابطة وثيقة، وصلة عميقة، وتوافق رسمه العزيز الحكيم ونفذه القدوة والمجتبى محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) مبشرا بالسعادة في الدارين لمن اتبعه واتبع الهدى ومنذرا لكل كفار أثيم أو فاسق لئيم شذ عن الصراط المستقيم.
إن المساجد لم تعمر لهياكلها ومظاهرها أو تكون مآثر وشواهد حضارة فن معماري وطراز هندسي. وليست هي كمعابد أقامها الأولون أو يقيمها بعض المستجدين في الديانات الأخرى وأهل الكتاب. . إنما المساجد لما وضعت له وهي إقامة الصلاة بها خمسا في اليوم الواحد جماعة، يلتقي فيها المؤمنون بالجسد والروح نحو هدف واحد ومعتقد ثابت، عبادة للرب عز وجل، وتذكيرا لنهج الإسلام وأخلاق المسلم، يغشونها تاركين أحوال دنياهم بعد نداء الحق ودعوة مؤذن الفلاح لأمور الصلاح والإصلاح ليستشعروا باجتماعهم هذا في بيت الله، قربهم منه عز وجل وصلتهم به سبحانه لا وسيط ولا رقيب خاضعين مستجيرين لائذين برب العباد وله. مرتجين رحمته ورضوانه وعونه وتوفيقه. . فتذهب من نفوسهم هموم كثيرة وتغتسل أفئدتهم بطهارة الإيمان يستمدون من تلك الروحانية عزيمة المؤمن القوي الصابر المكافح، المناضل العامل، المجد المجتهد، لخير الأعمال وأفضلها والمنتج لأصلح الثمرات في دنياه وآخرته.(2/438)
القدس تدنس أرجاؤه، وتطأ أقدام بني صهيون ساحاته
وقال سموه:
" وإني في هذه المناسبة ومن هذا الموقع المقدس الطاهر وفي هذا الشهر الكريم (شهر رمضان) الذي أنزل فيه القرآن لأتذكر معكم جميعا أولى القبلتين وثالث الحرمين (القدس الشريف) : إنه لأمر جلل وحزن عظيم يحز في نفس كل مسلم أن تدنس أرجاؤه وتطأ أقدام بني صهيون ساحاته. . . فهي صرخة ونداء شهيد الجهاد في سبيله ومات وهو كذلك إن شاء الله ونحن على الدرب سائرون. . إنه " الفيصل بن عبد العزيز " رحمه الله وأسكنه فسيح جناته. إن دعوة الجهاد في سبيل الله المفروضة على كل مسلم يتبناها اليوم خادم الحرمين الشريفين " الخالد بن عبد العزيز " حاملا لواء الإسلام لتطهير بيت المقدس من براثن الظلم والعدوان والطغمة الفاسدة الشريرة، وإنه بإذنه تعالى وبعد الاتكال عليه سيتحرر القدس ويخلص من سيطرة اليهود ويعود لأبنائه ومكانته بفضل من الله وتعاون المسلمين كافة ومناصرتهم للحق والجهاد في سبيل الله بكل ما يملكون وبأرواحهم. "
***
الدولة العربية السعودية لم تؤسس إلا على الإسلام
وختم سموه كلمته بقوله:
إن هذه الدولة العربية السعودية المسلمة وعلى رأسها جلالة مولاي الملك المعظم وسمو ولي عهده وكل مسئوليها ومواطنيها لتؤكد لكم وللعالم أجمع أنها في حمل رسالة الإسلام ولوائه ماضية إن شاء الله. . لأنها لم تقم أو تؤسس إلا على ذلك. وسنجاهد في كل مضمار ومجال سواء سلما أو حربا لما فيه عزة الإسلام والمسلمين ورفع رايتهم وإعلاء كلمتهم وتحسين مجتمعهم وتطوير أحوالهم من كل النواحي وفي كل الأمور بإذنه تعالى. . وإن أية إمكانات لدينا مادية أو بشرية لهي مسخرة لخدمة الإسلام والمسلمين. . ولجعل كلمة الله هي العليا وما دونها السفلى. . وإننا كمسلمين نعلم علم اليقين أننا لفعل الخيرات ساعون ولصالح وصلاح البشرية جمعاء عاملون، ولسنا دعاة هدم أو تخريب أو ضلال أو عداون بل نمد أيدينا للنهوض بهذا العالم المنهك من تسلط الضمائر الفاسدة الحاقدة والعقائد الملحدة المادية والأطماع الاستعمارية العشوائية وشبابه الضائع الحائر المتسائل إلى أين - وأين الطريق؟
فنقول لهم طريق الإسلام والسلام والمحبة والتعاون والتآخي والعمل المستمر للدارين والسعادتين فهلموا إلى ذلك وعلى قويم النهج سيروا.(2/439)
وقد قام المؤتمر بتشكيل اللجان الآتية:
لجنة رسالة المسجد.
لجنة إعداد الأئمة.
لجنة إدارة المسجد.
لجنة التمويل.
لجنة التخطيط الهندسي.
لجنة خطبة الجمعة.
لجنة المسجد الأقصى.
***
لجنة رسالة المسجد
الرئيس: معالي الدكتور الشيخ حسني الذهبي
المقرر: معالي الدكتور عبد الله الزيد
الأعضاء
الأستاذ إبراهيم المصري
الأستاذ أحمد إبراهيم دندار
الشيخ أحمد تيجان كورا
الدكتور أحمد الشلبي
الشيخ بشير الباني
الشيخ حسنين مخلوف
الشيخ حسين جوزو
الأستاذ حسين دهال
الأستاذ حسين القوتلي
الأستاذ خالد كيبا
الأستاذ داود أسعد
الأستاذ سالم عزام
الدكتور صالح السامرائي
الأستاذ صلاح الدين عزام
الأستاذ عبد الرحمن الولايتي
الشيخ عبد العزيز الضاني
الدكتور عبد الله عبد الشكور
الأستاذ مجمل هاشمي
الشيخ محمد الحكيم
الشيخ محمد رشاد الشافعي(2/440)
الشيخ محمد شفيع
الشيخ محمد الطيب
الشيخ محمد عمر الداعوق
الدكتور محمد علوي مالكي
الشيخ محمد مدني الشويرف
الدكتور محمد كفراوي
الدكتور مجاهد الصواف
الشيخ يوسف البنوري
***(2/441)
لجنة إعداد الأئمة
الرئيس: فضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي
المقرر: فضيلة الشيخ عبد المحسن العباد
الأعضاء
الشيخ أحمد عبد العزيز المبارك
الدكتور إبراهيم سمبا
الشيخ أبو بكر القادري
الأستاذ أحمد أزهر
الدكتور عمر عبد الله
الدكتور عبد العال
الدكتور عبد الجليل حسن
الأستاذ عصام العطار
السيد محمد علي الحبشي
الأستاذ مرزوقي بكري
الشيخ محمد أمين باه
الأستاذ محمد حسين يوسف
الأستاذ محمد حنيفة
الشيخ منصور المحجوب
الدكتور مصطفى عبد الواحد
الدكتور أحمد فؤاد شاهين
الأستاذ أبو بكر عبد الباقي
الشيخ أحمد النجفي
الأستاذ حمزة يونس
الأستاذ رشدي مالك
الشيخ عبد القادر أسد
الشيخ عبد العزيز الثاني
الأستاذ فؤاد هيبة
الأستاذ مرزوقي يتيم
اللواء محمود شيت خطاب
الأستاذ محمد الحبيشي
الأستاذ محمد شكري غزال
الشيخ محمد محمود الصواف
الشيخ محمد محمود الصديقي
الأستاذ نووي محمد حسب الله(2/441)
لجنة إدارة المسجد
الرئيس: العالم الدكتور معروف الدواليبي
المقرر: العالم الدكتور محمد العروس
الأعضاء
الدكتور إبراهيم النصيف
الشيخ أبو بكر الحاج موسى إسماعيل
الأستاذ أبو بكر كنيج جو صقر
الشيخ أحمد كفتارو
السيد أحمد مشهور الحداد
الأستاذ أحمد بتروبا
الأستاذ إسماعيل باتل
الأستاذ إنعام الله خان
الدكتور التيجاني أبو جدير
الأستاذ راشد الشامي
الدكتور رفعت مصطفى
الأستاذ صالح الفوزان
الأستاذ صبري صقر
الشيخ ضياء الدين بابا خانوف
الأستاذ عبد الرحمن السعيد
الأستاذ عبد الوهاب دوكري
علي أحمد بدوي
الشيخ كاي عبد الله الأيل
الدكتور لطفي دونمان
الشيخ محمد حسن حبنكه
الشيخ الحاج محمد لطيف الصباحي
الدكتور محمد مؤمنات
الدكتور ناصر عبد الله الطريم
الأستاذ نافع قاسم
الشيخ السيد يوسف الحجي
الأستاذ الشريف يوسف النبهاني(2/442)
لجنة التمويل
الرئيس: الأستاذ عبد الله إبراهيم المفرج
المقرر: الدكتور عبد الله نصيف
الأعضاء
الشيخ إبراهيم بن راشد الحديني
الشيخ أحمد الشاذلي
الشيخ أحمد الشاذلي النيفر
الشيخ أحمد نور الدين
الشيخ إسماعيل حقي
الشيخ آية الله الكاشاني
الشيخ توفيق رومية
الشيخ حمدي سباهيش
الشيخ صالح سباني
الشيخ صالح البليهي
الشيخ عباس المهاجراني
الشيخ مبارك سيث
الشيخ مصطفى الشاتيسي
الشيخ محمد بن إبراهيم المبارك
الشيخ محمد شفيق الرحمن
الشيخ محمد صالح العثيمين
الشيخ محمد بن عبد الله بن عجلان
الشيخ محمد الفريان
الشيخ محمد ناصر البيطار
الشيخ محمد هاشم السيد
الشيخ محمود صبحي
الشيخ نعيم عيد شي
الشيخ هلال المصلح هلال
الشيخ يحيى الرافعي
***(2/443)
لجنة التخطيط الهندسي
الرئيس: الدكتور محمد عبده يماني
المقرر: الدكتور بكر طلال
الأعضاء
الأستاذ إبراهيم جودت
الدكتور أحمد فريد
الدكتور أحمد التوتونجي
الدكتور علي الدفاع
الدكتور فهد الدخيل
الأستاذ كرسبين برئيزو
الدكتور محمود سفر
***(2/444)
لجنة خطبة الجمعة
الرئيس: الأستاذ ثاني بن حارب
المقرر: الشيخ عبد الله العقيل
الأعضاء
الشيخ إبراهيم خان
الشيخ أحمد محمد الهليلي
الشيخ أنور الدين سيد
الشيخ تقي الدين الندوي
الشيخ جمال ميان
الأستاذ خورشيد أحمد
الشيخ داود أسعد
الشيخ الشاذلي بن القاضي
الدكتور عادل الأسير
الدكتور عبد الخالق القاضي
الشيخ عتيق الرحمن
الشيخ عبد الستار السيد(2/444)
الشيخ عبد الغفار السلفي
الشيخ عبد الواحد بومل
الشيخ عبد الوحيد عبد الحق السلفي
الشيخ علي عيسى
الشيخ فضل الله كلابت
الشيخ منة الله الرحماني
الشيخ محمد القعود
الأستاذ نزار الصباغ
الشيخ هادي الهدار
الدكتور يوسف القرضاوي
***(2/445)
لجنة المسجد الأقصى
الرئيس: الأستاذ محمد عبد السلام الفيتوري
المقرر: الأستاذ أبو هشام
الأعضاء
الشيخ إبراهيم خشان.
الأستاذ أحمد محمد هليل.
الأستاذ سميح عبد الله.
الدكتور إسماعيل الفاروقي.
الأستاذ عبد الرحمن خليفة.
الأستاذ عبد الرحمن بن عقيل.
الأستاذ فارض جوفرنير.
الدكتور هاشم جميل.
الأستاذ هشام سلطان.
***
وكان سعادة الأستاذ كامل الشريف " مقرر المؤتمر " وعضو المجلس التأسيسي للرابطة قد صرح بقوله: " إن هذا المؤتمر الضخم في هذه المرحلة بالذات يزيد في الأمل والثقة التي وضعناها في هذه المملكة الفتية التي ستظل دوما منيعة تحمي رسالة الإسلام وتنشرها في العالمين، ولا يخالجنا أدنى شك أن هذه البلاد التي كانت موطن الدعوة الأولى ستظل باستمرار تمارس هذا الدور الإيجابي في حياة المسلمين تحت قيادة رائدها خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك خالد بن عبد العزيز وسمو ولي عهده الأمين.(2/445)
وقد أشار إلى الأبحاث المقدمة إلى لجان المؤتمر فقال: " إنها تكشف مقدار الجهد الذي بذلته الأمانة العامة للرابطة وبصفة خاصة الأمين العام ومساعدوه لاستيعاب جوانب هذا الموضع المتشعب الأمر الذي يسهل أعمال اللجان ".
***
ولقد كان لإجماع المؤتمر على اختيار سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة رئيسا عاما للمؤتمر، أثره العميق في أعمال المؤتمر وتوجيهه، كما كان لاتصاله برؤساء وأعضاء الوفود آثاره التي لمسوها في دراسة مشكلات المسلمين في بلادهم وإحالة كثير من المشروعات التي يأملون دراستها إلى المسئولين المختصين لانتقاء أفضل الحلول والمبادرة إليها.
***(2/446)
مكة
سماحة أمين عام رابطة العالم الإسلامي الشيخ محمد صالح قزاز يقول:
كان المسجد هو الجامعة وهو المنتدى الإسلامي الكبير
وكان مركز القيادة المؤمنة
وكان المحكمة التي أصدرت أعدل الأحكام
***
ألقى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الشيخ محمد صالح القزاز كلمة كان من أبرز ما جاء فيها: إن هذا المؤتمر يمثل مرحلة " العودة الصحيحة " للمنطلق الإسلامي الأول ألا وهو المسجد الذي منه انطلق المد الإسلامي ليعم الدنيا كلها شرقا وغربا. . شمالا وجنوبا ".
" لقد كان المسجد هو الجامعة. .
وهو البرلمان. . . . . .
وهو المنتدى الإسلامي الكبير. . ". . . .
" كان هو المحكمة التي أصدرت أعدل الأحكام وأجرأها حيث سطرت فيه أروع صفحات القضاء على هدى من شريعة الله.
وكان مركز القيادة المؤمنة الذي انطلقت منه جيوش الإسلام لفتح الدنيا كلها ولتخرج الناس من الظلمات إلى النور ". . . . .
" إنه من خلال نظرة سريعة للتاريخ فإننا نستطيع أن نلمح رسالة المسجد في حياة الأمة، وما بنا من حاجة لسبر أغوار التاريخ السحيق فهذا المسجد الحرام الذي تنعمون اليوم بالنزول في ساحته كم خرج من علماء وفقهاء. . .
ورجال فكر وأدب وبلاغة. . .
وهذا المسجد النبوي الشريف، كم شهدت أروقته من مؤتمرات المسلمين وأنديتهم وقياداتهم(2/447)
وهذا جامع المنصور. . .
ومسجد قرطبة. . .
والجامع الأموي. . .
وجامع الزيتونة. . .
والقرويين. . .
وجامع الأزهر. . .
كم حققت من أمجاد في حياة أمتنا حتى غدا من رجاله من استطاعوا أن يزرعوا في الصدور والقلوب قوة خارقة بنت مجدنا الإسلامي التليد. . . ". . .
" وحين نقف اليوم على مساجدنا فإننا لا نرى فيها هذه الملامح المشرقة؛ ذلك لأن دور المسجد أخذ يتضاءل مع عصور " الانحطاط " و " التأخر " و " غفلة المسلمين " عن المؤتمرات الأجنبية التي استطاعت في فترة ركود الحماس الديني أن تعمل على تعطيل منابع القوة والوحدة في كيان الأمة نتيجة لجهل المسلمين وانصرافهم عن القيام بالدور الرائد الذي خصهم الله به كخير أمة أخرجت للناس. . .
يأمرون بالمعروف. . .
وينهون عن المنكر. . .
حتى رأينا مساجدنا وقد انحصرت في دائرة ضيقة لا تتعدى أداء الصلوات الخمس يوميا. . .! وتبقى بعد ذلك مقفلة ".
وبات الذين يتصدون لرسالة المسجد من أئمة و " خطباء " و " مرشدين " و " وعاظ " لا يقدرون على مواجهة التحديات المعاصرة وتقديم الحلول لمشاكل العصر ومطالبه المتزايدة.
***
- " لذا لم يعد مستغربا وجود الحالة التي نشاهدها اليوم وهي انصراف الكثيرين من شبابنا عن المساجد إلى الأندية ودور اللهو والمؤسسات الترفيهية الأخرى التي عملت دون كلل على تجريد هذا الشباب من قيمه ومبادئه وتعاليمه الإسلامية حتى غدا لقمة سائغة لمخططات التخريب العقيدي والأخلاقي. . . . . . ".
" مما يحتم علينا كمسلمين أن نعمل على إعادة المسجد إلى محتواه الأصيل ودوره القيادي في توجيه الجماهير المسلمة ".
" إننا إذا نظرنا إلى واقعنا نجد أننا أحسنا بناء المساجد وتزويقها وإظهارها في مظهر رائع خلاب في كثير من البلدان ولكننا أضعنا الجوهر ".(2/448)
مصر
فضيلة شيخ الجامع الأزهر الشيخ علي عبد الحليم محمود يقول:
خطتهم في تحلل المسلمين من الإسلام
التحلل من العقيدة
السخرية بعلماء الدين
ثم السخرية بالدين في فروعه
ثم السخرية بالدين في مبادئه
التحلل من الأخلاق
بنشر كل ما يعين على الفساد ويهدم الفضيلة
التحلل التشريعي
بوضع القوانين الوضعية موضع التعميم والتطبيق
***
وجاء في الكلمة التي ألقاها:
إن رسالة المسجد في العصر الحاضر أصبحت شاقة وذلك أنه حينما تقلص الاستعمار المادي بدأت دول الغرب والشرق تغزونا باستعمار فكري هدفه أن يتحلل المسلمون من الإسلام:
أن يتحللوا من العقيدة وذلك بالتشكيك في العقائد عن طريق الأفلام المأجورة، وذلك له نظامه المخطط: السخرية بعلماء الدين، ثم السخرية بالدين في فروعه، ثم السخرية بالدين في مبادئه.
***
وأن يتحللوا أخلاقيا وذلك بنشر كل ما يعين على الفساد وكل ما يهدم الفضيلة.
***
وأن يتحللوا تشريعيا وذلك بوضع القوانين الوضعية موضع التعميم والتطبيق.(2/449)
أما نظام المجتمع فإن الغرب والشرق يضعان المجتمعات الغربية والشرقية في الصورة التي تخيل للمسلم الذي لا يعرف الإسلام أنها أرقى المجتمعات.
وفي مواجهة كل ذلك لا بد أن يقوم المسجد بإعلان كلمة الإسلام في الصغير والكبير من هذه المجالات.
وليس هذا دور المسجد فحسب: وذلك أن أعداء الأمة الإسلامية يحاولون الآن جاهدين أن يبعثوا فيها التفكك والاختلاف والفرقة، وأن يزيلوا من أذهان المسلمين المبادئ الإسلامية التي قامت عليها أمتهم.
***
من إزالة الحدود المصطنعة إلى أمة لا تقهر
وأشار فضيلته إلى مصدر البأس والقوة في هذه الأمة فقال:
" لقد قامت الأمة الإسلامية على الأخوة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (2) » ، «المسلم أخو المسلم (3) » .
وهذه الأخوة بنى عليها أن الأمة الإسلامية أمة واحدة، وأن الحدود والفواصل فيما بينها إنما هي حدود وفواصل مصطنعة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (4) {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (5)
وما دامت أمة واحدة يربطها رباط الأخوة فهي إذن أمة متضامنة متساندة متعاونة إذا اشتكى منها عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
وإذا وضع ذلك موضع التطبيق فإنها تكون أمة قوية شديدة البأس، لا تقهر: ومن أجل ذلك كانت المحاولات الدائمة لبث الاختلاف والفرقة.
***
أحزاب عميلة لإلغاء الجهاد
ثم سلط الأضواء على ما يجري في باطن العالم الإسلامي من مؤامرات فقال:
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10
(2) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .
(3) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) ، مسند أحمد بن حنبل (2/68) .
(4) سورة الأنبياء الآية 92
(5) سورة المؤمنون الآية 52(2/450)
ولقد أقام الاستعمار، وأقامت الصهيونية فرقا وأحزابا عميلة وصبت المال في أيديها صبا: والسمة البارزة لكل هذه الفرق والأحزاب هي إلغاء الجهاد، والقول بأن الجهاد في الإسلام قد انتهى، أو لا جهاد إلا تحت راية خليفة، وما دام الخليفة غير موجود فلا جهاد. إن أصبع الصهيونية من هذه الفرق والأحزاب واضح لا يحتاج إلى دليل.
***
ولا لغير الإسلام. . ولا لغير الأوطان
وحذر فضيلته من الخيانة والولاء لغير الإسلام والأوطان فقال:
وفي الأقطار الإسلامية جماعات ولاؤها لغير الإسلام، بل ولغير أوطانها، إنها عدوة للإسلام وعدوة لأوطانها، وقد نبه إلى هذه الجماعات كبار المفكرين ونبه عليها بالذات أمثال: المرحوم الملك فيصل، وخادم الحرمين الملك خالد، وولي العهد الأمير فهد في خطبهم وأحاديثهم.
***
مجلس عالمي للمساجد
ثم أشار إلى أفضل ما يمكن أن يخرج به المؤتمر من أعمال فقال:
إن رسالة المسجد قد أصبحت في العصر الحاضر شاقة.
وإن مما ييسرها أمور أعرض هنا لواحد منها في غاية الأهمية، وإذا ظفرنا به في مؤتمرنا هذا فإننا نكون قد ظفرنا بالخير الكثير، بل أستطيع أن أخاطر فأقول: إننا لو لم نظفر بغيره لكفانا كثمرة ضخمة لهذا المؤتمر المبارك. . ولكننا سنظفر به وسنظفر بغيره بإذن الله.
وذلك هو تكوين " المجلس العالمي للمساجد ".
لقد آن أن نكون هذا المجلس بل تأخرنا في تكوينه. . . ويكون من عمل هذا المجلس:
1 - تجلية الإسلام على حقيقته ونشر ذلك كدستور أساسي للأئمة في جميع أنحاء العالم.
2 - تتبع الصورة الإسلامية الحالية في صدقها أو في انحرافها في مختلف الأقطار، والبحث في إيجاد حل لها إذا هي انحرفت.
3 - إعلان الموقف في وضوح للرأي العام الإسلامي كلما كانت المبادئ الإسلامية في أزمة هنا وهناك. . .
4 - العمل المستمر على تعرف أحوال العالم الإسلامي.
5 - محاولة إيجاد رأي إسلامي عام.(2/451)
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
سماحة الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ يقول.
«من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » .
«العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم (2) »
عودوا بالمساجد إلى ما كانت عليه في عهد أجدادكم
***
وتحدث سماحة الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ فقال: " لقد أرسل الله رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالشريعة السمحاء ليلها كنهارها. . لا يزيغ عنها إلا هالك ". . . . . .
وأشار إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (3) » وقوله: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الخير، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها (4) » . وأمر من سمعه أن يبلغ عنه فقال: «ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه (5) » .
«فالعلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم (6) » وقد أثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من دخل المسجد ليعلم أو يتعلم، وجعله في حكم من جاهد في سبيل الله ".
ثم طالب المؤتمرين: " أيها الإخوان: عودوا بالمساجد إلى ما كانت عليه في عهود أسلافكم الأمجاد، أعيدوا لها الحياة العلمية، وضعوا لها المناهج الدراسية،
وأعدوا لها المدرسين والوعاظ والمحاضرين. . . ".
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(2) سنن الترمذي العلم (2682) ، سنن أبو داود العلم (3641) ، سنن ابن ماجه المقدمة (223) ، مسند أحمد بن حنبل (5/196) .
(3) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(4) صحيح البخاري العلم (73) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (816) ، سنن ابن ماجه الزهد (4208) ، مسند أحمد بن حنبل (1/432) .
(5) صحيح البخاري العلم (67) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .
(6) سنن الترمذي العلم (2682) ، سنن أبو داود العلم (3641) ، سنن ابن ماجه المقدمة (223) ، مسند أحمد بن حنبل (5/196) .(2/452)
فضيلة رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية
الشيخ عثمان الصالح
دراسة البرامج التي تقدمها الإذاعات المسموعة والمرئية ومدى تمشيها أو تناقضها مع رسالة المسجد
منح إسلامية لدراسة فنون الإذاعة والتليفزيون والصحافة تتبناها الهيئات الإسلامية
***
وقد أدلى فضيلة الشيخ عثمان الصالح ببيان أثناء المؤتمر اقترح فيه:
أن تصدر توصية بالقيام بدراسة إحصائية للبرامج التي تقدمها إذاعات الدول الإسلامية ومدى تمشيها أو تناقضها مع جوهر رسالة المسجد.
دراسة إحصائية للبرامج التي يقدمها التليفزيون في بلاد العالم الإسلامي.
دراسة إحصائية للأفلام التي تعرض في بلاد العالم الإسلامي.
دعوة المثقفين لاختيار هذه المشاكل وأثرها في البيئة موضوعا لرسائل الماجستير والدكتوراه. . وبحيث تكون هذه الدراسات وأصحابها في مقدمة الذين يوجهون هذه الأجهزة ويرفعون من كفاءتها.
الدعوة إلى وضع أسس جديدة لتشكيل اللجان المشرفة على إجازة النصوص والبرامج في مختلف أجهزة الإعلام بحيث تكون تحت إشراف أعلى المستويات في الدولة، وبعضوية كبار رجال الفكر والتربية والدين والأدب والإعلام وكما يحدث في المجالس العليا للجامعات.
الدعوة لإعطاء منح إسلامية لدراسة علوم فنون الإذاعة والتليفزيون والصحافة حتى يترتب على ذلك رفع مستوى المادة المقدمة في مختلف الأجهزة، وحتى لا يكتفي الداعون للإصلاح بموقف الناقد السلبي دون تقديم نماذج من برامج عميقة أو خفيفة لا تتعارض مع المبادئ السامية للإسلام كما لا ينقصها التشويق اللازم.(2/453)
أن يصدر المؤتمر توصية " بكادر " للعاملين والمتصلين برسالة المسجد يوفر لهم مستوى كريما رفيعا بمثل ما للقضاة أو من هم في مثل مكانتهم. نظرا لشدة تأثيرهم في المجتمع وحتى يقبل المثقفون على الانخراط في سلك الأئمة والموجهين بالمساجد.
إن إيجاد معهد للأئمة أمر جوهري فالمسجد ثانيا والإمام أولا. . . . أو أن توضع دراسات خاصة في كل جامعة لأئمة المساجد بحيث يسهل عليهم الالتحاق بهذه الدورات. وأن تربط ترقياتهم بنتائج هذه الدراسات.(2/454)
-
فلسطين
أبو هشام رئيس وفد فلسطين
باسم المسجد الأقصى أحييكم. . رمز كرامتكم. . الذي امتهن وأحرق
باسم فلسطين كل فلسطين. . وكلكم ناطق باسمها
البذل والعطاء والاستشهاد واجب على الشعب الفلسطيني والجهاد في فلسطين واجب عربي وإسلامي
وليس قصرا على الشعب الفلسطيني
***
وفي كلمة فلسطين في المؤتمر أكد " أبو هشام " أنه لولا الصفة الإسلامية لفلسطين لم تتعرض لكل ما تتعرض له. . .
ذلك أن فلسطين بلد إسلامي موطن الرسل والأنبياء وطريق الأرض إلى السماء مسرى نبيكم الكريم. . . . . . " ولهذه الأسباب مجتمعة خطط الأعداء الصهاينة للانقضاض عليها منذ الحرب الصليبية إلى يومنا هذا. ".
وقد أشار إلى أن " دخول الجيوش العربية إلى فلسطين عام 1948 كان خطأ فادحا ارتكب بوعي أو بدون وعي وأدى إلى سقوط فلسطين في يد الأعداء. . . ومن ثم فلسطين كلها. . . نتيجة للارتجال وتجريد شعبها من سلاحه. . . . . . . . . "(2/454)
" وإن انسحاب هذه الجيوش من المعركة اليوم هو أشد فداحة وخطورة ليس على فلسطين وجميعها اليوم في يد الأعداء. . . ولكن على بقية الوطن العربي. . . "
" وأنه إذا كان انسحاب هذه الجيوش من المعركة أمر لا مفر منه فليكن ذلك بخطة تخرج الأوضاع الرسمية من المعركة. . . ولكن تقذف بكل الأمة العربية والإسلامية فيها تحت الراية الفلسطينية ".
" وإن المبادرة الرائعة التي بادر بها جلالة الملك خالد بن عبد العزيز وولي عهده الكريم سمو الأمير فهد من الدعوة العاجلة لعقد مؤتمر مصغر للقمة يضم دول المواجهة بما فيها فلسطين هو الطريق لرأب الصدع في صفوف هذه الأمة ".
وقد طالب ممثل فلسطين بتشكيل لجنة دائمة للقدس في رابطة العالم الإسلامي مهمتها متابعة قضية فلسطين والمقدسات فيها، ورسم الخطط ووضع القرارات الكفيلة بتحريك جماهير الأمة الإسلامية لتأدية دورها في الجهاد المحتدم اليوم من أجل تحرير فلسطين وفي مقدمتها المقدسات.
كما أشاد في نهاية كلمته بدور المملكة العربية السعودية فقال: " ولا يسعني إلا أن أشيد بالدور الطليعي الذي تضطلع به المملكة العربية السعودية الشقيقة ملكا وحكومة وشعبا في نصرة جهاد شعبنا. . بكل أنواع المساندة والنصرة، ومتابعة وسيرا على نهج المغفور له شهيد القدس جلالة الملك فيصل طيب الله ثراه. . الذي تمنى أن يسقط على أرض القدس شهيدا فسقط على أرضيتها راضيا مرضيا ". . .
***(2/455)
-
العراق
الأستاذ فاتح قاسم أول عمل للرسول: تأسيس المسجد
كما أشار ممثل العراق الأستاذ فاتح قاسم في كلمته إلى دور المسجد حيث كان " أول عمل للرسول - صلى الله عليه وسلم - حين هاجر هو تأسيس المسجد الذي صار معبدا، ودار شورى، وثكنة عسكرية، ومقرا قياديا، ومنتدى اجتماع للتداول في شئون الدين والدنيا ".
كما لفت النظر إلى ما أصاب هذه الصورة المشرقة فقال: لقد: " خيل لبعض الفئات من الناس، أن المسجد هو دار صلاة وقيام وقعود، وأنه مكان يلجأ إليه العجزة والمتقاعدون والمتسولون وهذه ظاهرة تعتبر من أخطر ما يتهدد كيان المسلمين. ".(2/455)
تركيا
الأستاذ لطفي دوغان
بدأت المساجد أعمالها كمدارس وجامعات
لماذا هدمت مساجدنا في قبرص
***
وقال مندوب تركيا في كلمته: " إن المساجد بدأت أعمالها كمدارس وجامعات منذ السنوات الأولى من نشر الإسلام، ثم بتوسع الحركة العلمية أنشئت مدارس حول هذه المساجد عندنا نحن الأتراك ".
وأردف " لقد صدرت عندنا قوانين ضمنت للعاملين في " حقل الدين " جميع حقوقهم الذاتية والاجتماعية ونظمت كيفية أعمالهم تنظيما يتناسب مع ما يقومون به من أعمال ".
وأشاد بموقف المملكة العربية السعودية وما قامت به من " عون مادي في تشييد جامع " قوجه تيسه " في أنقره أكبر جامع في الشرق الأوسط ".
وأشار بأسى إلى غفلة المسلمين حيث " استفاد الأروام من هذا النوم وهذه الغفلة فتمركزوا فيها وأنشئوا كنائسهم ومعابدهم وبدءوا يضطهدون المسلمين وينتهكون حرمات المساجد، فهدموا ما يقرب من مائة مسجد وألقوا القنابل فوق المآذن. وفي " قبرص " كانت مساجدنا تهدم ولكن مكاريوس هو الذي يتباكى ولقد أتى بوفدين إلى قبرص من اتحاد كنائس العالم ليشهر دعايته الصليبية ".
***(2/456)
تونس
فضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي
ينبغي على العالم معرفة واقع الحياة ومقدار ما يعطي من تربية دينية
***
وقد نبه فضيلة مدير الشئون الدينية بتونس إلى واجب العالم الذي " لا يمكن أن يقتصر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى تلاوة النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، بل عليه أن يفكر
- كيف يقوم المعوج. . .؟
- وكيف يزيل الشبهات؟
-وكيف يتمكن من إقناع المجتمع بهذا المنهج الذي يدعو إليه؟
وهذا يتطلب من العالم معرفة " واقع الحياة " التي يعيشها " تلامذتنا " في المدارس " وشبابنا " في الجامعات و " عمالنا " في المعامل والمصانع، و " كهولنا " في المجتمع، ومقدار ما يعطي لهؤلاء من تربية دينية وتعاليم إسلامية.
كما حذر أئمة المساجد من الأمراض التي هاجمت المجتمع الإسلامي وألا يغفلوا عما انتاب المجتمع الإسلامي من تيارات ملحدة ومبادئ هدامة اندست في كل الأوساط. . .
- وتسربت إلى أسرنا وداخل بيوتنا وتسلحت بكل " الوسائل العصرية " من صحافة وإذاعة وأفلام. . . . . .
" لذلك كان على الوعاظ والخطباء في المساجد أن يزيلوا حيرة الشباب. . . ولن يكون ذلك إلا " بدراسة " هذه التيارات الحديثة ووضعها في إطارها الحقيقي حتى يتعرفوا على عوامل تسربها ".(2/457)
الرياض
الدكتور عبد الحميد أبو سليمان " الندوة العالمية للشباب الإسلامي "
إعادة المسجد إلى محتواه الأصيل ودوره القيادي في توجيه الجماهير المسلمة
نحتاج للتخطيط الفني في الموقع لخدمات المسجد
ينبغي إنشاء مركز أبحاث إسلامي ملحق بإحدى الجامعات أو المؤسسات الإسلامية
***
وقد لفت أمين الندوة العالمية للشباب الإسلامي إلى وجوب التفرقة بين المسجد " كموضع طاهر لغرض آداء الصلوات. . .
وبين المسجد الجامع كمركز ومحور للحياة الإسلامية، دينية واجتماعية وسياسية ".
" إن الحاجة للتخطيط الفني في الموقع وفي الخدمات للمسجد بغرض الصلاة تحد لم تتصد له الهيئات والمؤسسات الإسلامية بعد ".
" إن المسجد بغرض الصلاة يجب أن يصبح جزءا طبيعيا لا يتجزأ من كيان المصنع والمكتب والشركة والمستشفى والمدرسة والسوق. يجب أن يتوفر في هذا المسجد سهولة البلوغ والمتناول، اقتصادية التكاليف جودة المرافق ومناسبتها لأنماط الحياة والمهام التي تلحق بهذا اللون من المساجد ".
أما المسجد الجامع:
فإن ما آل إليه حاله من العزلة والإهمال فدلالته على ما بلغه قصور جهود الدعاة وقدرتهم على أن يصلوا إلى جماهير الأمة وأنماط الحياة ومقدراتها في بلاد الإسلام.
إن محدودية ثقافة القائمين على المساجد واقتصارها في الغالب على جوانب قانونية وفقهية فقط. .! وبروح تقليدية ساهمت في القضاء التدريجي على انعدام معنى المسجد الجامع في حياة الجماعة المسلمة.
وتحدث عن حركة الإحياء فقال: إنها " لا تكون " إلا إذا:(2/458)
- خططت مرافقه لأداء الخدمات التربوية والتعليمية.
أصبح المنبر منطلقا للنظر والبحث بروح " الشورى " في كل ما يهم المسلمين.
ولا يكون هذا الإحياء حقيقيا إلا: -
- إذا تجددت بشمول ثقافة القائمين على المسجد.
إذا أصبح القائمون عليه " فريقا " يتكامل في العمل.
إذا أصبحوا " وسيلة " أهل الحل والعقد من المسلمين.
ثم اقترح على المؤتمر أن يتبنى:
تكوين مركز للأبحاث يلحق بإحدى الجامعات أو المؤسسات الإسلامية ذات الصلة.
أن يسخر المركز لتطوير المرافق والخدمات الإسلامية بتوفير الكفاءات الفنية وفقا للغايات الإسلامية.
وأن يكون مصدرا للمشورة والعون لكل مؤسسة خدمة إسلامية للارتفاع بمستوى خدماتها.
***(2/459)
رئيس اتحاد مسلمي كوريا الحاج صبري سوح
دخل الإسلام كوريا مع الجيش التركي أثناء صد الغزو الشيوعي
تبرعت الحكومة الكورية بخمسة آلاف لبناء مسجد في سيول
***
وقد أشار الحاج صبري سوح في كلمته إلى أن دخول الكوريين في الإسلام - الذين وصفهم بأنهم جنود الإسلام الشجعان - قد جاء عن طريق قوات الجيش التركي التي جاءت لصد الغزو الشيوعي.
وقال: " إن أهالي جمهورية كوريا يتمتعون بالحق المطلق والحرية في ممارسة الدين تحت ظل القانون ".
وتساءل عما يجري في كوريا الشمالية الشيوعية: حيث يجبر الناس على عبادة " كيم إيل سونج " وحيث يسخر البشر " كجزء من الآلة الميكانيكية ". . . يهيئونهم للحرب. . .!
كما أشار إلى عقد إنشاء أول مسجد في كوريا الذي جرى توقيعه في 16 أكتوبر 1974 الموافق لعيد الفطر.
***(2/460)
عبد الله بن عبد الله الزائد (1)
رسالة المسجد (2)
إن المؤذن ينادي في كل يوم وليلة خمس مرات في شتى بقاع الدنيا في وقت معين: " الله أكبر " يرددها أكثر من أي جملة أخرى ويعيدها عند نهاية الآذان.
ليذكر كل كبير أنه صغير بين يدي الله، عبد له فيتخلص من نزوة النفس. ونشوة الحياة. وسكر النفوذ.
وكما يتذكر الكبراء هذا المعنى يتذكر الضعفاء كبرياء الله، وأنه أكبر من كل كبير، فتحيا آمالهم، وتقوى نفوسهم، وتهتز قلوبهم.
إذ الأكبر ليس هذا المتسلط ولا ذاك الغاشم. وإنما هو الرحمن الرحيم.
ثم يتبع هذا، الإقرار والخضوع بشهادة التوحيد وشهادة أن محمدا رسول الله، وأصوات المؤذنين في القرى والمدن تغطي ما بين المساجد. والمشروع لسامع المؤذن أن يقول مثله في ذلك، فيكون المسلمون في جميع الدنيا يجددون إسلامهم كل يوم وليلة خمس مرات بنداء واحد ودعاء واحد، تنبع منه عقيدة واحدة.
***
__________
(1) د. عبد الله بن عبد الله الزائد: وكيل المعهد العالي للقضاء، بالرياض
(2) تقدم المجلة ملخصا وافيا لها(2/461)
رسالة المسجد
إذا أردنا للمسجد أن يؤدي رسالته فلننظر إلى المثل الكامل والأسوة الحسنة، إن مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المثال الذي ينبغي أن نطمح إليه لكي يؤدي المسجد رسالته على الوجه المرضي، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إمامه وهو المثال الكامل والأسوة الحسنة للمؤمنين. وحتى تمكن المحاكاة ليتم الإقتداء، لا بد من إبراز الصورة من جميع جوانبها عن بنائه المتواضع وموقعه المناسب وإمامه.
ومن إمامه؟ إنه الرجل الأول في المجتمع والإنسان الكامل.
وأين كان يسكن؟ إنه بجوار المسجد. ثم التعليم للخير الذي كان مستمرا في أكثر الأوقات. ومن المسجد كان يعلن الجهاد وتدبر السرايا والغزوات، وكان - صلى الله عليه وسلم - يتفقد أصحابه فيسأل عن المتخلف فإن كان مصابا عزاه. وإن كان فقيرا واساه. وإن كان مريضا عاده. كان المسجد في الصدر الأول مركز القيادة ومجمع الأخيار والكبراء تجتمع فيه القلوب على الإيمان، والأبدان على العبادة، والعمل لصالح الفرد والجماعة، ولمنزلته هذه كان أول ما يقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر يبدأ بالمسجد فيصلي فيه.
وما زال المسجد يحتفظ بالصدارة حتى تخلى عن تولي الإمامة والخطابة فيه الحكام والأمراء ووكل ذلك إلى من يستطيع القول ولا يستطيع الفعل. فقلت أهميته في قيادة الأمة وضعف تأثيره إذ صار مكان عبادة ودراسة وفتيا.(2/462)
واليوم وقد استيقظ بعض المسلمين من سبات عميق فبهت كثير منهم بما رأى حوله. والبعض الآخر وهم القليل أدركوا أن دليل الطريق إلى النجاة من كل عثرة هو كتاب الله وسنة رسوله فأقبلوا عليهما حفظا وفهما وعملا وتعليما، فاستبان لهم الحق ووجب عليهم رد الحائرين إليه.
إن المؤذن ينادي في كل يوم وليلة خمس مرات في شتى بقاع الدنيا في وقت معين " الله أكبر " يرددها أكثر من أي جملة أخرى ويعيدها عند نهاية الآذان ليذكر كل كبير أنه صغير بين يدي الله، عبد له فيتخلص من نزوة النفس. ونشوة الحياة. وسكرة النفوذ. وكما يتذكر الكبراء هذا المعنى يتذكر الضعفاء كبرياء الله وأنه أكبر من كل كبير، فتحيا آمالهم، وتقوى نفوسهم، وتهتز قلوبهم. إذ الأكبر ليس هذا المتسلط ولا ذاك الغاشم. وإنما هو الرحمن الرحيم. ثم يتبع هذا، الإقرار والخضوع بشهادة التوحيد وشهادة أن محمدا رسول الله. وأصوات المؤذنين في القرى والمدن تغطي ما بين المساجد. والمشروع لسامع المؤذن أن يقول مثله في ذلك، فيكون المسلمون في جميع الدنيا يجددون إسلامهم كل يوم وليلة خمس مرات، بنداء واحد ودعاء واحد تنبع منه عقيدة واحدة.
***
ثم إنهم في صلاتهم يستقبلون قبلة واحدة، كل أهل حي يضمهم بناء واحد يتبعون إماما واحدا لا يختلفون عليه ويسبقونه، يسددونه بالتنبيه والفتح عليه متى احتاج إلى ذلك. ومتى خالف الإمام في أمر أساسي في الصلاة وتيقن المأموم ذلك ونبهه ولم يستجب لزم المأموم اتباع الحق ومتابعة الإمام حينما يمكنه ذلك. هذا المنهج في العبادة هو المنهج في الحياة للمسلمين «اسمعوا وأطيعوا ولو تأمر عليكم عبد حبشي (1) » ويقول - عليه الصلاة والسلام -: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (2) » .
هذا الاجتماع الأخوي لكل أهل حي، المتكرر في اليوم، المقتضي للألفة والتعاون والنصرة، به يعرف المختلف وسبب تخلفه فإن كان لعارض حضر في الوقت الآخر وإن استمر بحث عن السبب، فإن كان كسلا وتهاونا فلا يترك فريسة للشيطان يستحوذ عليه وينفرد به كما ينفرد الذئب بالقاصية من الغنم، بل يزار ويعالج أمره برفق ولين وحكمة حتى يرد إلى بيت الله مع عباد الله.
وإن كان المرض أقعده سعى له في العلاج بما يناسب حاله، وإن كان الفقر جمع له ما يعينه ونظر فيما يستطيعه من عمل وبذلت الأسباب لتشغيله، إن تحقيق معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - «مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (3) » . تحقيق هذا المعنى لا يتم على الوجه الأكمل إلا إذا أديت الصلاة في المسجد مع الجماعة. لأنك قد ترى جارك في الصباح ولا تراه في المساء، ولن تطرق عليه بابه كل يوم خمس مرات لتطمئن عليه،
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7142) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2860) ، مسند أحمد بن حنبل (3/114) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) .
(3) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .(2/463)
ولو فعلت ذلك لكنت عليه أثقل من حديث مكرور أو جاهل مغرور، ولو وقع ذلك فرضا لكنتما فردين من أمة. وحتى لا تنفصم عرى المودة والإخاء بين أهل البلدة شرع الله صلاة الجمعة، فقد يعرض لهم ما يستدعي جهودهم مجتمعين أو يحتاج إلى تحذيرهم وتنبيههم أجمعين من شبهة مضلة أو حادثة مطلة تحتاج في دفعها إلى تعاون الجماعة ليتم لهم تحقيق قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1)
وهكذا تكون اجتماعات المسلمين على العبادة إصلاحا للدنيا والآخرة بدءا بجماعة الحي وانتهاء بجماعة المسلمين في الحج الأكبر.
إن أداء المسجد رسالته أمنية لا بد لها من وسيلة فما الوسيلة لذلك؟
إن الوسيلة إلى تلكم الغاية هي الإمام المؤمن الذي يرى الإسلام عقيدة وعملا فيكون عنده الحماس للدعوة والحرص عليها. إن مثل هذا لا يقل نفعا عن الأستاذ في الجامعة، والقائد الحصيف في المعركة.
***
وحيث إن معرفة الداء أول الشفاء فإن مما يحول بين المسجد وأداء رسالته ما يلي:
1 - ما يقام في كثير من المساجد من البدع والشركيات كدعاء الموتى والتوسل بهم وخرافات الصوفية المنحرفة ومشائخ الطرق.
2 - ضعف مستوى الأئمة والمؤذنين.
3 - عزوف القادرين على تحمل المسئولية في المسجد عن الإمامة بحجة أنه يربطهم عن الكثير من حوائجهم وأشغالهم.
4 - إقفار المساجد من حلق التعليم.
5 - تباعد المساجد في الأحياء الأمر الذي يثبط البعض عن حضور الجماعة.
6 - إقبال الناس على المادة وتسابقهم إليها واستكثارهم دقائق ينتظرون بها صلاة أو درسا.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(2/464)
محمود شيت خطاب
الرسالة العسكرية للمسجد
الثكنة الأولى
" قبل معركة اليرموك الحاسمة بين المسلمين والروم التي دارت رحاها سنة ثلاث عشرة من الهجرة " 634 م ".
قال رجل من المسلمين لخالد بن الوليد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين.
فقال خالد: ما أقل الروم وأكثر المسلمين إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان ".
***
" لقد أحصيت عدد القادة الفاتحين، فكانوا " 256 " قائدا عربيا مسلما منهم " 216 " من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، و " 40 " من التابعين - عليهم رضوان الله -(2/465)
وكل القادة المنتصرين بعد الفتح الإسلامي كانوا متدينين غاية التدين. . . فمن أين جاء المستعمرون بفرية التناقض بين التدين والعسكرية؟ ! ".
***
لا حدود لسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - دروسا وعبرا، فهو الأسوة الحسنة للمسلمين في كل زمان ومكان، يتعلم منها من يتعلم ما يفيده في حاضره ومستقبله، وقد صدرت كتب وبحوث ودراسات في العربية وغيرها، كتبها مسلمون وغير مسلمين في السيرة المطهرة لم تصدر عشر معشارها عن شخصية أخرى منذ خلق الله الإنسان حتى اليوم، وستصدر أضعافها في المستقبل القريب والبعيد بحول الله. وقد أجرت هيئة تابعة للأمم المتحدة خاصة بالعلوم والآداب والفنون إحصائية عن الكتب والبحوث والمؤلفات التي نشرت عن الشخصيات العالمية، فتفوق ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما صدر عن الشخصيات الأخرى فواقا بعيدا.
وقد أمعنت النظر في حياته المباركة، فوجدتها تتلخص في التوحيد والجهاد.
لقد وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة منذ مبعثه حتى هجرته من أجل الجهاد، وحد الأفكار بالتوحيد، ووحد الصفوف بالتوحيد، ووحد الأهداف بالتوحيد.
وجاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة منذ هجرته إليها حتى التحق بالرفيق الأعلى من أجل التوحيد. ففرض الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا.
كانت همته بناء الرجال، وكان سبيله التوحيد من أجل الجهاد، والجهاد من أجل التوحيد، وبالتوحيد أشاع الانسجام الفكري بين العرب، وهذا الانسجام جعل التعاون بينهم ممكنا، فوحد لأول مرة في التاريخ شبه الجزيرة العربية تحت لواء الإسلام، توحيدا لم يستطعه أحد غيره قبل الإسلام وبعده، فكان فضل الله عليه وعلى أصحابه عظيما.
وحين هاجر - عليه أفضل الصلاة والسلام - إلى المدينة، شرع ببناء المسجد وعمل مع أصحابه في تشييده، فكان هذا المسجد الثكنة الأولى في الإسلام.
فقد كان - عليه الصلاة والسلام -، يحشد أصحابه في المسجد، ويحرضهم على الثبات في القتال، وتنطلق الغزوات والسرايا من المسجد، ويجتمع أصحابه حين يداهمهم الخطر في المسجد، ويعود المنتصرون من الغزوات والسرايا إلى المسجد، وتضمد جروح المصابين في المسجد.
والفرق بين الغزوات والسرايا معروف. . . الغزوات هي التي قادها النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه،(2/466)
والسرايا هي التي تولى قيادتها قادة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أخرج الشيخان واللفظ لمسلم عن أنس - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعا وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة - رضي الله عنه - يجري في عنقه السيف وهو يقول: " لم تراعوا لم تراعوا (1) » .
سبق عليه الصلاة والسلام جماعة الاستطلاع إلى الصوت، وكان الصحابة في المسجد عليهم السلام جاهزين لتنفيذ أوامر الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام.
لقد كان المسجد في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم مثابة للمجاهدين والمثابة هي مكان اجتماع القائد بجنوده، وكان المنادي يهتف: الصلاة جامعة حين يتهدد المسلمين خطر من الأخطار، فيتقاطر المجاهدون زرافات ووحدانا إلى المسجد عليهم السلاح، ليقاوموا الخطر ويقضوا على مصدره تنفيذا لخطة قائد واحد، تحقيقا لهدف واحد، هو الدفاع عن الإسلام حتى تكون كلمة الله هي العليا.
ولست بحاجة أن أثبت قابلية النبي - صلى الله عليه وسلم - القيادية: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (2) ولكن الفضل ما شهدت به الأعداء.
كتب المشير اللورد مونتكومري في آخر كتاب ألفه صدر سنة 1385 هـ (1965م) بعنوان: السبيل إلى القيادة، ما نصه (محمد أعظم قائد في التاريخ) .
ولست أعتز بهذه الشهادة ولا قيمة لها في نظري، ولكنني ذكرتها خاصة للذين لا تطربهم مغنية الحي، عبيد الاستعمار الفكري البغيض.
***
وبقي للمسجد مكانته السامية مثابة للمجاهدين في أيام الفتح الإسلامي منذ بدأ الفتح الإسلامي العظيم سنة إحدى عشرة من الهجرة حتى توقف سنة أربع وتسعين من الهجرة، فامتدت دولة الإسلام من حدود الصين شرقا إلى قلب فرنسا غربا، ومن سيبيريا شمالا إلى المحيط جنوبا، وكان سبب
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6033) ، صحيح مسلم الفضائل (2307) ، سنن الترمذي الجهاد (1687) ، سنن أبو داود الأدب (4988) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2772) ، مسند أحمد بن حنبل (3/147) .
(2) سورة الأنعام الآية 124(2/467)
توقف الفتح: أن المسلمين في إحدى غزواتهم البحرية لجزيرة من جزر البحر الأبيض المتوسط غلوا، فنهاهم قائدهم وأنذرهم، إلا أنهم لم ينتهوا وأعرضوا عن النذر، فلما أبحرت بواخرهم عائدة بهم إلى قواعدهم في شمال أفريقية، بعث الله عليهم ريحا عاتية أغرقتهم مع ما حملوه من سحت حرام، لم ينج منهم غير قائدهم الذي سلم لأمانته، فأخبر عن مصير الذين يغلون في الغنائم، خلافا لتعاليم القرآن الكريم والسنة المطهرة وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا يسلمون الغنائم كاملة لقادتهم، حتى الإبرة والمخيط.
ومنذ توقف الفتح الإسلامي العظيم، لأن المسلمين غيروا ما بأنفسهم، حتى اليوم، جرت معارك دفاعية انتصر فيها المسلمون؛ لأن قادتهم خافوا الله فوهبهم النصر، يكفي أن أذكر من القادة المنتصرين: قاضي القضاة أسديرة الفرات فاتح صقلية وصلاح الدين الأيوبي الذي استعاد القدس من الصليبيين، وقطز قاهر التتار ومحمد الفاتح فاتح القسطنطينية.
إن كل القادة الذين نجحوا في صد المعتدين أو أضافوا فتحا جديدا على الفتوحات الإسلامية، كانوا متدينين إلى أبعد الحدود، وكانوا أمثلة شخصية لرجالهم في التدين والاستقامة والعمل الصالح.
وخبا نور المسجد بعد تفسخ المسلمين، ولكن بقي شيء من نوره يشع قليلا، كالذي يعالج سكرات الموت، حتى غزا أعداء المسلمين بلاد المسلمين في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، فأجهز الاستعمار على بقية النور في محاولة طمسه إلى الأبد.
ولكن الله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
***(2/468)
التربية الاستعمارية
كان هدف الاستعمار القضاء على القرآن الكريم عقيدة وشريعة ولغة، فقد خطط " لويس الثالث " ملك فرنسا الذي أسره المصريون (بالمنصورة) وهو أسير، وكان مجمل تخطيطه القضاء على القرآن الكريم عقيدة وتشريعا ولغة.
وكانت الأسباب الموجبة لتخطيطه: أن المسلمين لا يستعبدون أبدا، ما داموا متمسكين بهذا القرآن.
وشبت ثورات عارمة في الهند على الإمبراطورية البريطانية، وكان المؤجج الأول لأوار تلك الثورات(2/468)
هو التمسك بالدين الحنيف.
وضاق غلادستون رئيس وزراء بريطانيا حينذاك ذرعا، فوقف خطيبا يكاد يتميز من الغيظ حقدا على الإسلام والمسلمين، فقال: (لا يستقر للاستعمار قرار ما دام هذا القرآن يتلى صباح مساء بين المسلمين، فيجب أن نمزقه لنثبت أقدامنا في البلاد الإسلامية) .
ومزق الله الإمبراطورية البريطانية، وحفظ الله القرآن الكريم، وصدق الله العظيم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1)
ولكن، هل أخفق الاستعمار في تحقيق أهدافه كلها؟
الحق أنه لم يخفق كل الإخفاق، بل حقق بعض أهدافه في بذر الشكوك بجدوى القرآن عقيدة وشريعة ولغة.
لقد بذل قصارى جهده في بذر هذه الشكوك تمكينا للاستعمار في ديار المسلمين وتمهيدا لخلق دولة إسرائيل.
وبذلت الصهيونية العالمية قصارى جهدها دعما للاستعمار خدمة لمطامعها التوسعية الاستيطانية وتحقيقا لحلمها من النيل إلى الفرات.
***
في سنة 1897 ميلادية، عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة (بازل) بسويسرا تحت رئاسة هرتزل نبي الصهيونية، كما يسميه الصهاينة ومن لف لفهم، وكان من مقررات هذا المؤتمر: إحياء التوراة عقيدة ولغة.
ورصدت الصهيونية العالمية لتحقيق هذا الهدف ملايين الجنيهات الذهبية كما ذكر هرتزل في مذكراته، لإحياء الدين اليهودي وغرسه في نفوس اليهود وعقولهم معا، ولإحياء اللغة العبرية الميتة.
في هذا الوقت بالذات وبتأثير المال الصهيوني، ظهرت أصوات ناشزة مريبة في الغرب، تشكك في القرآن لغة وعقيدة وتشريعا، ولكن هذه الأصوات قوبلت بالرفض المطلق من العرب والمسلمين.
وفي سنة 1917 الميلادية صدر وعد بلفور الذي عزز الأطماع الصهيونية وبعث آمالها، فاشتدت عزائم الصهيونية والاستعمار لتحقيق أهدافها في التشكيك بجدوى القرآن الكريم لغة وعقيدة وتشريعا.
__________
(1) سورة الحجر الآية 9(2/469)
في هذا الوقت بالذات، ظهرت أصوات عربية ناشزة، تدعو إلى العامية تارة، وتدعو إلى كتابة العربية بالأحرف اللاتينية، ليصبح هذا القرآن مهجورا ولتصبح اللغة العربية التي تربط العرب من المحيط إلى الخليج بإخوانهم المسلمين من الخليج إلى المحيط، لغة المقابر والكهوف، كما عبر عنها أحد المريبين من العرب المسلمين ومن العرب غير المسلمين أيضا مع الأسف الشديد.
وأتساءل والأسى يذيب قلبي: هل كانت صدفة من الصدف، أن تطرح فكرة بعث التوراة لغة وعقيدة بإماتة القرآن لغة وعقيدة وتشريعا؟
الذين يدعون بأن الصدفة عملت عملها، لا بد أن يكونوا قد ألغوا عقولهم والذين يصدقون هذا الادعاء لا بد أن يكونوا من المغرر بهم كل التغرير، أو من الجهلاء كل الجهل أو من العملاء كل العمالة.
إن وراء إماتة القرآن الكريم لغة وعقيدة وتشريعا، الاستعمار أولا، ووسيلتهم بذلك نفوذهم وعملاؤهم، والصهيونية العالمية ثانيا، ووسيلتها في ذلك الماسونية والمال الصهيوني والدعاية الصهيونية، فلا تعجبوا بعد ذلك أن يصبح " سلامة موسى " من قادة الفكر العربي، وأن يمسي الذي شارك في افتتاح الجامعة العبرية في القدس سنة 1939 عميد الأدب العربي.
لقد اكتشفت أن الذين دعوا إلى اللغة العامية وإلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية من الماسون، وأن الذي رفع ذكرهم بين الناس هم الماسون والاستعمار.
ودليلي على ذلك هو وجود أسمائهم في معجم المحافل الماسونية في الشرق وهو كتاب مطبوع في بيروت.
إن أصابع الماسونية وراء هؤلاء الأمعات الخونة الذين لم يدخلوا في حياتهم مسجدا ولم يؤدوا صلاة فيه أبدا.
ولعل أطرف مناقشة جرت بين المرحوم الشيخ عبد العزيز البشري والأستاذ عبد العزيز فهمي الذي تولى كبر الدعوة إلى كتابة العربية بالأحرف اللاتينية، فخلد في مصر بإطلاق اسمه على أكبر شارع في مصر الجديدة بالقاهرة وبالمترو الذي ينطلق من ساحة التحرير في القاهرة إلى نهاية شارع المنتزه بمصر الجديدة.
قال الشيخ عبد العزيز البشري لعبد العزيز فهمي: لماذا تريد أن تكتب العربية بالأحرف اللاتينية؟ قال عبد العزيز فهمي: أريد أن أعممها، فقال البشري - عليه رحمة الله -: إنك تريد أن تبرنطها ولا تريد أن تعممها، هكذا يخلد العرب المريبين، أما المخلصون فلهم الله.
وأذكر بهذه المناسبة أنني شهدت جنازة المرحوم الشيخ محيي الدين عبد الحميد، ومن الأقدار العجيبة أن أحد الفنانين مات في نفس اليوم الذي مات فيه الشيخ محيي الدين. كان سرادق الميتين متجاورين، وكان في سرادق الشيخ عشرات، وفي سرادق الفنان آلاف.(2/470)
وشيع جنازة الشيخ إلى مثواه الأخير عدد قليل من الناس، وشيع جنازة الفنان أكثر من عشرة آلاف. ويومها سالت من عيني دمعات، وما خفي في نفسي كان أعظم. . . .
- قلت لنفسي: إن هذا الشيخ كان أكبر محقق للتراث العربي الإسلامي وخدم العربية والإسلام خدمة باقية، أما الفنان فقد عمل ثلاثين سنة على إفساد الأخلاق وتشجيع التخنث والانحلال.
أهكذا يجازي العرب بخاصة والمسلمون بعامة من يخدم العربية والإسلام ومن يحارب الأمة في أخلاقها.
وا أسفاه على العرب والمسلمين! !
- ولكن إلى متى يبقى العرب والمسلمون بهذه الحال؟ إلى متى يبقون في غفلتهم التي تجعل الحليم حيرانا؟
إن أكثر الذين تلقوا العلم في الغرب، أشرف عليهم مستشرقون يهود أو جواسيس.
وقد نزل أكثرهم إلى مستوى الخادمات أخلاقيا، ولا أزيد.
وكانت رسائل أكثرهم هدما لمبادئ الدين الحنيف وتاريخه.
وقد نال بعضهم شهاداتهم برسائل منها: التناقض في القرآن الكريم، وسفورزا اليهودي.
إني أتمنى أن يستيقظ العرب والمسلمون، وحينذاك ستتغير مفاهيمهم وإلا فاقرأ السلام على العرب والمسلمين.
- وعاد هؤلاء المستغربون من العرب والمسلمين، لينفثوا سمومهم في المعاهد والجامعات، كل مصادرهم وثقافتهم أجنبية، وكل عملهم ترجمة أفكار الأجانب من مصادرهم، لأنهم لا أسس ثقافية لديهم من المصادر العربية الإسلامية، فلا عجب أن يدعي أحدهم: أن الفتح الإسلامي كان لأسباب اقتصادية. . . كان العرب قبل الإسلام أغنياء، فأصبحوا بعد الإسلام فقراء.
هكذا تكون الثقافة وإلا فلا!
- لا عجب أن ينهار التعليم في المعاهد والجامعات، وأن يتنكر أكثر المتخرجين فيها لمبادئ الدين الحنيف، لاعتقادهم بأن هذا التنكر (تقدمية) وأن التمسك بالدين (رجعية) .
ولا عجب أن يغمز أكثر المتخرجين العربية والإسلام بمناسبة وبغير مناسبة.
ولا عجب أن يدرس هؤلاء القضايا العربية والإسلامية، بأفكار معادية للعربية والإسلام.
إني أطالب بوضع حد حاسم لهذا الانهيار، بحيث أصبحنا نتقدم إلى الوراء.(2/471)
التربية العسكرية الاستعمارية
لست بحاجة إلى أن أنوه بأهمية العسكريين ضباط وضباط صف وجنود ومراتب أخرى، لأن بيدهم القوة الضاربة، وصلاحهم صلاح للأمة، وفسادهم فساد لبلادهم.
لذلك ركز الاستعمار وساعدت الأيدي الخفية من ماسونية وصهيونية على العسكريين بخاصة، وعملت على تربيتهم تربية فاسدة.
كانت الكليات العسكرية وكليات الأركان العربية الإسلامية تدرس تاريخ حرب المستعمرين، وتدرس تاريخ القادة الذين استعمروا بلاد العرب والمسلمين بأسلوب يجعل الطلاب يؤمنون بتفوق المستعمرين، وبضرورة الاقتداء بهم منهاجا وتصرفا.
وكان الطلاب العسكريون يتخرجون ضباطا وهم يعرفون عن (الجنرال مود) و (الجنرال اللنبي) أكثر مما يعرفونه عن الرسول القائد - عليه أفضل الصلاة والسلام - وعن خالد بن الوليد.
وكان أكثرهم لا يعرفون عن قادة الفتح الإسلامي شيئا مذكورا، ومن المذهل أن نسأل الضابط العربي المسلم عن اسم القائد العربي المسلم الذي فتح مدينته ونشر فيها العربية لغة والإسلام دينا، فلا يعرف هذا الضابط لهذا السؤال جوابا.
كما يدرس في الكليات العسكرية وكليات الأركان، الفكر الغربي للسائرين بفلك الغرب، والفكر الشرقي للسائرين بالفلك الشرقي، من الناحيتين التعبوية (التكتيكية) والسوقية (الاستراتيجية) ، وقد تكون الأفكار الشرقية الغربية هذه لا تلائم الطبيعة العربية والإسلامية، وقد تكون على طرفي نقيض من هذه الطبيعة.
أما الفكر العسكري العربي والإسلامي فغائب عن تلك الكليات.
أما التدريب العسكري فهو تدريب شرقي أو غربي، ولا دخل للتدريب النابع من فكرنا وطبيعتنا في تدريب الطلاب العرب والمسلمين.
وما يقال عن التنظيم والتسليح، يقال عن التدريب العسكري.
كل هذا التعليم والتدريب، يدرس بلغة عربية ركيكة، تشيع فيها المصطلحات الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والتركية، وحتى الروسية أيضا، تأكيدا للاستعمار الفكري البغيض.(2/472)
تعريب المصطلحات
ولله الفضل وحده في توحيد المصطلحات العسكرية للجيوش العربية وذلك بصدور أربعة معجمات عسكرية موحدة، المعجم العسكري الموحد (إنكليزي - عربي) والمعجم العسكري الموحد (عربي - إنكليزي) والمعجم العسكري الموحد (فرنسي - عربي) والمعجم العسكري الموحد (عربي - فرنسي) .
ولكن أفظع من كل ذلك - السلوك اللاأخلاقي الذي فرضه الاستعمار بكل أشكاله شرقيا أم غربيا، قديما أم حديثا.
***(2/473)
الدين والعسكرية هل هما على طرفي نقيض؟
لقد أشاع هذا الاستعمار، أن الدين والعسكرية على طرفي نقيض، وأن المتمسك بدينه متخلف لا يمكن أن ينجح في مسلكه العسكري، فعليه إما أن يترك دينه، أو يتخلى عن عسكريته.
وأن من صفات العسكري الممتاز، أن يكون فاسقا فاجرا، يعاقر الخمر، ويلعب القمار، ويصادق الغيد الحسان.
وقد سألني آمر سريتي في أول لقاء به: هل تعاقر الخمر؟ هل تلعب القمار؟ هل تغازل الفتيات؟ فلما أجبته بالنفي قال لي: لماذا تعيش إذن؟ الأفضل أن تموت.
وقد تحمل العسكريون المتدينون - وهم قلة قليلة - ما تحملوا من عناء ليبقوا في مسلكهم العسكري، وأكثرهم تخلوا عن العسكرية، أو جرفهم التيار الوسخ، وأقلهم ثبتوا على عقيدتهم بعد جهد جهيد.
وكان من يمارس الصلاة والصوم من العسكريين ويطبق تعاليم الدين الحنيف ثقيل الظل غير مريح.(2/473)
- وكان في كل وحدة من الوحدات مقصف للخمور، وكان في كل ناد للضباط مقصف للخمور، وكانت الحفلات تقام لأتفه الأسباب، وهي حفلات داعرة خليعة يراق فيها الخمر وتقترف فيها المحرمات.
- وقد توليت في يوم من الأيام رئاسة نادي الضباط في الموصل الحدباء بالانتخاب، فتذمر من رئاستي أكثر الضباط، لأن المقصف أقفر، واشتد ساعد الضباط الذين يؤدون الصلاة.
- وكان في النادي سجل للاقتراحات، فكتب أحد الضباط اقتراحا يقول فيه: اقترح استقدام مقرئ للقرآن الكريم ليقرأ الذكر الحكيم في النادي، لأنه لم يبق فيه ما يسر الضباط.
- وجاءنا قائد همام، شعر أن كل شيء في قيادته كامل وتمام، ولم يبق غير تعلم الرقص، فأصدر أوامره الصارمة الحازمة بتدريب الضباط على الرقص.
- تلك هي لمحات عن السلوك اللاأخلاقي الذي فرضه الاستعمار على الضباط العرب المسلمين.
- فهل يستغرب أحد بعد ذلك لانتصار مليونين ونصف المليون من اليهود على مائة وعشرين مليونا من العرب وستمائة مليون من المسلمين؟
- إن الضابط المتدين غريب بين أقرانه بكل ما في الكلمة من معنى.
- وكان الضباط حين يجدون ضابطا لامعا لا يشق له غبار في عسكريته، ولكنه متمسك في خلقه ودينه، يتساءلون فيما بينهم: كيف يمكن أن يكون الضابط لامعا ومتدينا؟ كيف استطاع أن يجمع بين النقيضين؟ أذلك ممكن؟ أذلك يصير؟
- وتسأل هؤلاء: هل يحارب الدين العلم؟ هل يدعو الإسلام إلى الجهل؟ ماذا تعيبون على العقيدة الإسلامية منهجا للحياة وسبيلا للفضيلة والخير؟
- لماذا إذن التنكر للدين؟ ولمصلحة من هذا التنكر؟(2/474)
إن هذا التنكر لمصلحة الاستعمار وإسرائيل ما في ذلك أدنى شك.
- وفي يوم من الأيام سألت أحد هؤلاء: ماذا تعرف عن العسكرية الإسلامية؟ فأجاب بكل بساطة: لم أدرس هذا الموضوع في الكلية العسكرية ولا في كلية الأركان.
- إن الأيدي الخفية التي لا تريد الخير للعرب والمسلمين هي التي عملت وتعمل على إشاعة المفاهيم الخاطئة الهدامة عن الدين والمتدينين من العسكريين، حتى لا تقوم قائمة للعرب والمسلمين، وحتى ترسخ إسرائيل أقدامها في الأراضي المقدسة. . . فلسطين.
- إني أتحدى كل من يستطيع أن يذكر قائدا عربيا واحدا منتصرا، لم يكن يتحلى بالتدين العميق، ولم يكن يؤمن بالمثل العليا النابعة من صميم تعاليم الدين الحنيف.
- لن يستطيع أحد أن يذكر قائدا عربيا واحدا، كان له في ميدان النصر تاريخ إلا وهو متدين إلى أبعد الحدود.
- سيد القادات، وقائد السادات، الرسول القائد - عليه أفضل الصلاة والسلام - هو نبي الإسلام وسيد المنتصرين.
- وقادة الفتح الإسلامي العظيم كلهم من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن التابعين - عليهم رضوان الله -.
- لقد أحصيت عدد القادة الفاتحين، فكانوا " 256 " قائدا عربيا مسلما منهم " 216 " من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، و " 40 " من التابعين - عليهم رضوان الله -.
- وكل القادة المنتصرين بعد الفتح الإسلامي كانوا متدينين غاية التدين كما ذكرت سابقا.
- فمن أين جاء المستعمرون بفرية التناقض بين التدين والعسكرية، وإذا كان من حق الاستعمار والصهاينة أن يفتروا خدمة لمصالحهم، فلماذا يصدقها العرب والمسلمون، ولماذا يرددونها باقتناع؟
- أمن أجل خراب بيوتهم؟ إني لأعلم علم اليقين أن المتحوب جنسيا أو المتحوب جيبيا لا يمكن أن يقاتل كما يقاتل الرجال، ولا ينتصر أبدا.(2/475)
أثر المسجد في العسكريين
قبل معركة اليرموك الحاسمة بين المسلمين والروم التي دارت رحاها سنة ثلاث عشرة من الهجرة (634م) قال رجل من المسلمين لخالد بن الوليد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين، فقال خالد: ما أقل الروم وأكثر المسلمين إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان.
ومعنى ذلك أن الجيش ليس بعدده وعدده بقدر ما هو بمعنوياته. . . والجيش الذي لا يتحلى بالمعنويات العالية لا قيمة له في الحرب، والفئة القليلة ذات المعنويات العالية، تغلب الفئة الكثيرة ذات المعنويات المنهارة.
وقد كان نابليون بونابارت يقول: قيمة المعنويات بالنسبة للقوى المادية تساوي ثلاثة على واحد، أي أن تكون 75% في الناحية المعنوية و 25% في الناحية المادية.
وقد أيد نابليون في رأيه هذا كبار القادة العسكريين في الماضي والكثير من القادة العسكريين في الوقت الحاضر.
غير أن اللواء (فولر) في كتابه (الأسلحة والتاريخ) خالف نابليون نظرا لابتكار الأسلحة النووية والهيدروجينية، وللتحسينات الهائلة التي طرأت على القذائف الموجهة وعلى وسائل قذف هذه الأسلحة وعلى أساليب استعمالها.
وليس هناك شك، في أن الأسلحة الحديثة، ذات تأثير في الناحية المادية للجيوش الحديثة، إذ جعلت نسبة هذه الناحية بالنسبة للناحية المعنوية 50% لكل منهما.
أي أن الناحية المعنوية لا تزال ذات قيمة عظيمة، حتى ظهور الأسلحة الجهنمية الحديثة، وأن المعنويات كانت ولا تزال وستبقى عاملا حاسما من عوامل النصر.
وفي الحروب القديمة، أي الحروب التي خاضتها الدول قبل الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) كان الجيش في كل دولة هو المسئول الأول والأخير عن إحراز النصر.
***(2/476)
النصر مسئولية الشعب كله لا الجيش وحده
أما في الحروب الحديثة ابتداء من الحرب العالمية الثانية، فقد أصبحت الحرب إجماعية (وهي الحرب الشاملة أو الحرب الاعتصابية) تحشد لها الأمم طاقاتها المادية والمعنوية، لذلك أصبح الشعب كله - لا الجيش وحده - مسئولا عن إحراز النصر.
إن الحرب الإجماعية، تقتضي زج كل قادر على حمل السلاح في الحرب ودعم المحاربين بكل طاقات الشعب المادية والمعنوية، لذلك كان إعلان الحرب معناه: أن يكون الشعب كله - لا قواته المسلحة وحدها - في الصفوف الأمامية خاصة بعد تطور القوة الجوية، واختراع الأسلحة النووية، فقد أصبح كل مكان في البلاد المحاربة ساحة حرب لا تقل أهمية وخطرا عن الجبهة الأمامية في ميدان القتال.
لذلك أصبحت أهمية المعنويات في الشعب كأهميتها في الجيش سواء بسواء، كما أن الجيش من الشعب، فإذا كانت معنويات الشعب عالية، كانت معنويات الجيش عالية، والعكس صحيح.
من هنا تأتي أهمية المعنويات للشعب كله، وتبرز ضرورة إدانة هذه المعنويات في الشعب والجيش على حد سواء. فما هي المعنويات؟
كان تعريف المعنويات قبل الحرب العالمية الثانية، بأنها الصفات التي تميز الجيش المدرب المنقاد إلى أسس الضبط (الانضباط) عن العصابات المسلحة، وتتجلى بهذه الصفات الطاعة القائمة على الحب، وتنمي الشجاعة وتظهر الصبر على المشاق، وتبدي كل المزايا التي تجعل الجندي مطيعا باسلا صبورا.
وهذا التعريف يشمل الجيش وحده كما ترى، لأن الحروب كانت حروب جيوش لا حروب أمم، كما أصبحت في الوقت الحاضر.
أما تعريف المعنويات اليوم، فهو القوى الكامنة في صلب الإنسان، التي تكسبه القابلية على الاستمرار في العمل، والتفكير بعزم وشجاعة، مهما اختلفت الظروف المحيطة به.
وهذا التعريف يشمل الشعب كله، لا الجيش وحده.
وإذا أردنا إيضاح هذا التعريف وتبسيطه، فيمكن القول بأن الفرد في الشعب، يجب أن يكون شجاعا لا يجبن، عزيزا لا يهون، ثابتا لا يتراجع، صابرا لا ينهار، متفائلا لا يقنط، مستعدا للتضحية بماله وروحه من أجل المثل العليا.(2/477)
إن المعنويات العالية هي العقيدة الراسخة، والدين الإسلامي لا يقتصر على رفع المعنويات فقط، بل أمر بالإعداد المادي أيضا.
***(2/478)
المسجد والعسكرية
في المسجد يتلقى المؤمنون تعاليم الدين الحنيف، وفي المسجد يقوى الإيمان ويشتد، فما هو أثر المسجد في العسكرية؟
إن أثر المسجد في العسكرية هو أثر الإسلام فيها، إذ المسجد ليس بأحجاره وجدرانه، بل بالعلماء العاملين الذين يحافظون على كرامة العلماء. وحث الإسلام على الطاعة، والطاعة هي الضبط والنظام: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (1) .
وأشاع الإسلام معاني الخلق الكريم، ومنه الصبر الجميل {ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) . وقال تعالى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} (3) .
وغرس الإسلام روح الشجاعة، والإقدام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} (4) {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (5) .
والتولي يوم الزحف من الكبائر، كما نص على ذلك حديث رسول الله - عليه أفضل الصلاة والسلام -. وأمر الإسلام بالثبات في ساحة القتال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (6) .
ودعا الإسلام إلى الجهاد بالأموال والأنفس لإعلاء كلمة الله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (7) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 285
(2) سورة النحل الآية 110
(3) سورة آل عمران الآية 200
(4) سورة الأنفال الآية 15
(5) سورة الأنفال الآية 16
(6) سورة الأنفال الآية 45
(7) سورة الحجرات الآية 15(2/478)
- وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) .
- وانظر تفسير هذه الآية الكريمة في (الكشاف) للزمخشري، لتجد أن المسلمين سبقوا العالم إلى مفهوم الحرب الإجماعية التي تنص على: إعداد الأمة بكل طاقاتها المادية والمعنوية للحرب، بينما زعم المشير لورندروف بعد الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) في كتابه (الأمة في الحرب) بأنه أول من فكر في الحرب الإجماعية.
- وبين الإسلام أن المصلحة العليا للمسلمين، لا بد أن تكون لها الأسبقة على كل شيء في الدنيا {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (2) .
- وجعل الإسلام مقام الشهداء من أعظم القمامات {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} (3) وقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} (4) وقال تعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (5) .
- كما أن الإسلام يصاول الحرب النفسية التي تستهدف القضاء على الطاقات المعنوية للإنسان ليستسلم للأعداء.
- ولعل أهم أهداف الحرب النفسية هي التخويف من الموت والفقر ومن القوة الضاربة للمنتصر، ومحاولة جعل النصر حاسما، والدعوة إلى الاستسلام وبث الإشاعات والأراجيف، وإشاعة الاستعمار الفكري بالغزو الحضاري، وإشاعة اليأس والقنوط.
- المؤمن حقا لا يخشى الموت {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (6) وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (7) وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (8) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 41
(2) سورة التوبة الآية 24
(3) سورة النساء الآية 69
(4) سورة البقرة الآية 154
(5) سورة النساء الآية 74
(6) سورة يونس الآية 49
(7) سورة الأعراف الآية 34
(8) سورة آل عمران الآية 145(2/479)
وقال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (1) .
وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} (2) .
وما أصدق قولة خالد بن الوليد - رضي الله عنه -: ما في جسمي شبر إلا وفيه طعنة رمح أو سيف، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء.
- والمؤمن حقا لا يخاف الفقر، لأنه يعتقد اعتقادا جازما بأن الأرزاق بيد الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (3) .
وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (4) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (5) .
وقال تعالى: {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (6) .
- والمؤمن حقا لا يخشى قوات العدو الضاربة، فما انتصر المسلمون في أيام الرسول القائد - عليه أفضل الصلاة والسلام -، وفي أيام الفتح الإسلامي العظيم بعدة أو عدد، بل كان انتصارهم انتصار عقيدة لا مراء، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (7) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (8) .
- والمؤمن حقا لا يقر بانتصار أحد عليه ما دام في حماية عقيدته، لذلك فإن انتصار العدو في معركة ما قد يدوم ساعة، ولكنه لا يدوم إلى قيام الساعة {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (9) .
- والمؤمن حقا لا يستسلم بعد هزيمته، لأنه يعلم بأن بعد العسر يسرا وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (10) وقال تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (11) .
__________
(1) سورة النساء الآية 78
(2) سورة آل عمران الآية 154
(3) سورة البقرة الآية 212
(4) سورة الطلاق الآية 2
(5) سورة الطلاق الآية 3
(6) سورة الأنفال الآية 26
(7) سورة البقرة الآية 249
(8) سورة الأنفال الآية 65
(9) سورة آل عمران الآية 140
(10) سورة المنافقون الآية 8
(11) سورة يونس الآية 65(2/480)
- والمؤمن حقا لا يصدق الإشاعات والأراجيف {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (1) .
وقال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} (2) . وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (3) .
- والمؤمن حقا يقاوم الاستعمار الفكري ويصاول الغزو الحضاري، لأن له من مقومات دينه وتراث حضارته، ما يصونه من تيارات المبادئ الوافدة التي تذيب شخصيته وتمحو آثاره من الوجود.
- والمؤمن حقا لا يقنط أبدا ولا ييأس من نصر الله ورحمته {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (4) وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} (5) وقال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (6) وقال تعالى: {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} (7) .
ولكن القول بأن الإسلام يؤجج الحوافز المعنوية في المقاتل لا يغني عن كل قول.
- والواقع هو أن في الإسلام حوافز (مادية) لا تقل أهمية عن الحوافز المعنوية تعمل عملها جنبا لجنب لترصين الحوافز (المعنوية) ، فالإسلام دائما (مادة) و (معنويات) .
ومن أهم الحوافز المادية، عدم الاستهانة بالعدو أولا، والإعداد الحربي تدريبا وتسليحا وتنظيما وتجهيزا وقيادة ثانيا.
- لا يخاف الموت، ولا يخشى الفقر، ولا يهاب قوة في الأرض، يسالم ولا يستسلم، ولا تضعف عزيمته الأراجيف والإشاعات، لا يستكين للاستعمار الفكري، ويقاوم الغزو الحضاري، ولا يقنط أبدا ولا ييأس من رحمة الله.
- هذا المسلم الحق، يقظ أشد ما تكون اليقظة، حذر أعظم ما يكون الحذر، يتأهب لعدوه ويعد العدة للقائه، ولا يستهين به في السلم والحرب.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 6
(2) سورة الأحزاب الآية 60
(3) سورة النساء الآية 83
(4) سورة الزمر الآية 53
(5) سورة الحجر الآية 56
(6) سورة الروم الآية 36
(7) سورة فصلت الآية 49(2/481)
وهذا ما يفسر سر انتصار المسلمين الأولين؛ لأن شعارهم كان {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} (1) النصر أو الشهادة.
- ولأن المسلمين كانوا يحرصون على الموت حرص غيرهم على الحياة الذين {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (2) {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (3) .
وأشهد أنني لم أقرأ، حتى في كتب التعبية وسوق الجيش، الصادرة في القرن العشرين، أوضح تعبيرا وأدق تعريفا وأكثر شمولا، مما جاء في القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة تعريفا للمجاهد الصلب المقاتل الرهيب.
بل لا يقتصر معناها على المجاهد المثالي وحده، بل يشمل تعريف المعنويات العالية أيضا، تلك هي عظمة القرآن الكريم حتى في المجالات العسكرية ولكن يا ليت قومي يعلمون.
إن دور المسجد لا يقتصر على غرس هذه المثل العليا العسكرية في عقل المسلم الحق ونفسه، بل إن روح المسجد الذي يتسم بذكر الله يجعل القلوب تطمئن والنفوس تهدأ اتجاها إلى العمل الصالح خدمة للإسلام.
كما أن صلاة الجماعة تدريب عملي على الضبط والربط والنظام.
لقد بدأت منذ ظهور الإسلام الصلاة العامة، ثم قامت صلاة الجماعة التي أداها المسلمون وراء إمام واحد. وهذه الإمامة يقوم بها رجل واحد يؤم المصلين جميعا، ينفذون ما ينفذ تماما، يقوم بها رجل مطهر يؤمن أصحابه بصدقه، هي تطبيق للقيادة في إصدار أوامرها وتنفيذها من الجنود.
ومن يرى المسلمين وهم مجتمعون صفوفا للصلاة يؤدون ركعاتها وسجداتها في تناسق مدهش وفي نظام ووقار لا يمكن أن يغفل ما لهذه الصلاة المنظمة من قيمة تربوية عسكرية في نفوس المسلمين.
***
- إن العرب والأعراب أباة لا يخضعون لمشيئة خارجية، ولكنهم كانوا يفتقرون إلى الشعور التام بالطاعة والنظام، فكانت لهذه الصلاة أهمية بالغة في (إيقاظ) روح
__________
(1) سورة التوبة الآية 52
(2) سورة آل عمران الآية 173
(3) سورة آل عمران الآية 174(2/482)
النظام في نفوس العرب والأعراب المسلمين، لذلك غدا المسجد أول ميدان حقيقي للتدريب العسكري عند المسلمين.
- لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤم ألفين في عمرة القضاء ومائة ألف في حجة الوداع، يسيرون كلهم في نظام أدق نظام: هرولة ومشيا واستلاما للركن أو الحجر الأسود، هذا النظام المتصل بروح الإسلام سبب من أسباب القوة، بل هو مصدرها وملاكها.
- إن الإسلام دين نظام. . . والنظام روح العسكرية. . . وعمودها الفقري، والمسجد هو المكان الأول لفرض النظام والتدريب العملي على تعاليم الإسلام، فما أحرانا أن نعود إلى المسجد، مقرا للقيادة، ومكانا لرفع المعنويات وموضعا للتدريب وموقعا للسمو الروحي.
***(2/483)
مقترحات
يجب إقامة المساجد في كل وحدة عسكرية وكل معكسر وفي كل مدرسة ومعهد وكلية، وحث التلاميذ والطلاب والعسكريين على أداء فريضة الصلاة.
ولقد أقام العسكريون الأجانب كنيسة في كل بارجة ومدرعة وفي كل وحدة وكتيبة ومعسكر، كما أقام المسئولون الأجانب عن التربية مسجدا في كل مدرسة ومعهد وكلية، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
اختيار العلماء العاملين الأعزاء ليؤدوا واجب الإمامة في كل وحدة وكتيبة ومدرسة ومعهد وكلية عسكرية وغير عسكرية. . واختيار أمثال هؤلاء ليكونوا أئمة المساجد العامة.
إعادة النظر في تربية النشء الإسلامي ووضع مناهج تربيتهم على أسس مستمدة من تعاليم الدين الحنيف. . إن مناهج التعليم في كثير من المدارس والمعاهد والجامعات تناقض تعاليم الدين الحنيف نصا وروحا.(2/483)
على الدول العربية والإسلامية أن تختار العلماء العاملين المخلصين من رجال الدين للنهوض بواجب التوعية الدينية في الإذاعة والصحافة وأجهزة الإعلام والمساجد والنوادي وقاعات المحاضرات.
لكن أين هم العلماء العاملون المخلصون؟ . هنا تسكب العبرات. . .
- من الضروري إجراء مسابقات دينية بين العسكريين وغيرهم: كإتقان قراءة القرآن وحفظ الكتاب العزيز، وتفسير الذكر الحكيم، وإعداد المحاضرات الدينية وإلقائها.
- إن المسجد بالعالم الديني الذي فيه لا بأحجاره وأركانه، فلا بد من التفكير العميق في إعداد الدعاة الصالحين الذين يتكلمون من قلوبهم ليؤثروا في قلوب الناس، وفي إعداد العلماء العاملين المخلصين لينشروا الإسلام على هدى وبصيرة.
- إننا لسنا بحاجة إلى تخريج علماء موظفين. . بل نحن بحاجة إلى تخريج علماء حقيقيين.
- أدعو الله في هذا اليوم المبارك. . في هذا الشهر المبارك. . من هذا البلد المبارك. . في هذا المكان المبارك. . أن يفيد العرب والمسلمين بما قدمته، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وحسبي الله ونعم الوكيل
***(2/484)
محمد محمد أبو شهبة (1)
رسالة المساجد في صدر الإسلام
" وقد كان بالمسجد " صفة ". . "
" يأوي إليها من لا " دار " له، ولا " أهل "، ولا " مال ".
" يسمون " أضياف الله ". . وكان المسلمون يتبارون في إكرامهم ولم يكونوا عالة. .! "
" فقد كانوا يحتطبون بالنهار، ويتعبدون بالليل، ويهبون للقتال إذا ما دعوا للجهاد. . ".
__________
(1) من علماء الأزهر الشريف.(2/485)
1 - بناء مسجد قباء:
لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة ونزل " بقباء (1) حيث كان يسكن بنو عمرو بن
__________
(1) قباء بضم القاف والمد، وتقصر: قرية من المدينة كانت تعتبر ضاحية من ضواحيها، والآن اتصلت بالمدينة.(2/485)
عوف من الأنصار.
كان أول عمل قام به هو بناء مسجد " قباء " وهو المسجد الذي ذكر في قوله سبحانه: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (1) .
ويستعرض الكاتب الأغراض التي بني من أجلها فهو للصلاة، لقراءة القرآن، لذكر الله، للتشاور في أمور الدين والدنيا، مظهر للوحدة. وبذلك وضعت أول لبنة في بناء صرح المساجد في الإسلام.
__________
(1) سورة التوبة الآية 108(2/486)
2 - بناء المسجد النبوي:
وبعد أن أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - " بقباء " أربعة أيام توجه هو وصاحبه الصديق أبو بكر إلى المدينة. فخرج إليهم المسلمون شاكي السلاح مع النساء والغلمان والجواري مكبرين، ونزل النبي في دار الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري وبعد أن استراح قليلا فكر في بناء المسجد حيث بركت الناقة " القصواء " في مربد لغلامين يتيمين بالمدينة وأراد أولياؤهما التصدق بها - عن صدق - وأباها الرسول إلا بالثمن.
وحينما شرعوا في البناء حمل النبي في مقدمتهم " اللبن "، و " الحجارة " و " التراب " وهم يرددون الأشعار.
وهذا المسجد الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما عداه من المساجد إلا المسجد الحرام (1) » .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.(2/486)
3 - بناء المساجد في الأسفار والغزو:
وقد بنى - صلى الله عليه وسلم - مسجدا أثناء حصار " خيبر ".
وعقد البخاري بابا في كتاب الصلاة للمساجد على طريق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -.(2/486)
4 - منزلة المساجد في الإسلام:
وإقامة المساجد ضرورة دينية ودنيوية، وهي مثوى عباد الله الصالحين، ولا بد لمن يغشاها أن يتطهر من الأحداث والأنجاس في الجسد والثوب والمكان. وهي منازل طهر، ونظافة وتجمل.(2/487)
وظيفة المسجد في صدر الإسلام
1 - المساجد أماكن عبادة:
وهي الوظيفة الأولى. ولعمارتها معنيان: تشييدها، والعبادة فيها، ولا شك أن عمارتها بالمعنى الثاني أهم. واسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليأتين على أمتي زمان يتباهون بالمساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلا» رواه أبو داود.
2 - المساجد كانت تقوم مقام مجالس الشورى اليوم:
وشتان ما بين جوهرها اليوم وفي عهد الرسول.
وكثيرا ما عقدت هذه المجالس في المسجد، كما قبيل غزوة أحد والأحزاب وغيرهما.
كما تشاور فيه الخلفاء الراشدون في شئون " الحرب " و " المعاهدات " والصلح. وكان لهم " مجلس شورى " من كبار المهاجرين والأنصار.
3 - المساجد كانت تقوم مقام المعاهد:
بما كان يلقيه - صلى الله عليه وسلم - من حكمه، وكلمه، وإجاباته، فتربى فيها رعاة الإبل والشاء فصاروا علماء حكماء، وخلفاء وأمراء رحماء، " وقادة ساسة فتكوا بقواد الفرس والرومان ".(2/487)
4 - المساجد كانت تقوم مقام الملاجئ والمبرات:
فيأوي إليها " الغريب " و " ابن السبيل ".
فيجد بها " المبيت " و " الطعام " و " الشراب " و " الكساء "!!!
فقد كان بالمسجد " صفة " (1) يأوي إليها من لا دار له، ولا أهل، ولا مال.
يسمون " أضياف الله ". . . وكان المسلمون يتبارون في إكرامهم.
ولم يكونوا عالة. . .!
فقد كانوا يحتطبون بالنهار، ويتعبدون بالليل، ويهبون للقتال إذا ما دعوا للجهاد.
5 - المساجد كالجمعيات الخيرية في جمع الصدقات والزكوات:
كانت تجمع فيه بعض " زكاة الفطر " والزكاة العامة، وبعض الأموال التي لا ترد من الأقاليم والغنائم وتوزع على مستحقيها.
6 - المسجد النبوي كساحة للتدريب على فنون القتال وإعداد السلاح:
فكان الحبشة يلعبون بالحراب والدراق يوم عيد، وأذن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعائشة في رؤيتهم وهي خلفه.
وكان بعض الصحابة يعد " القسي " ويثقف ويعدل الهام في المسجد النبوي.
7 - المسجد النبوي كمستشفى عسكري:
وقد كان به خيمة السيدة " رفيدة " الصحابية. . . التي كانت تقوم بتمريض الجرحى وتضميد جراحهم. وخيمة أخرى لبني غفار. وأمر -صلى الله عليه وسلم- بضرب خيمة لسيدنا سعد بن معاذ لما أصيب يوم الخندق ليتمكن من رعايته.
__________
(1) المكان المظلل بالمسجد، وكان في مؤخرته.(2/488)
8 - المسجد كدار للقضاء ودار للصلح بين الناس:
فقد جلس فيه الرسول ليقضي بين الخصوم، وليفض منازعاتهم، ويصلح بينهم.
9 - المسجد كدار ضيافة للوفود:
فقد أقام فيه وفد نصارى نجران بأمره -صلى الله عليه وسلم-، ووكل بهم من يرعاهم.
10 - المسجد ربط به الأسرى:
فقد استخدم كمعسكر للأسرى كما في قصة ثمامة بن أثال الحنفي. وعرض عليه الرسول ثلاث مرات فأبى. . .! .
ثم أمرهم بإطلاق سراحه. .! .
فذهب واغتسل وأسلم.
11 - المسجد النبوي مركز إعلام للدفاع عن الإسلام:
فكان حسان بن ثابت ينشد الشعر مظهرا محاسن الإسلام وفي صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أجب عن رسول الله، اللهم أيده بروح القدس فلما زجره سيدنا عمر عن إنشاد الشعر في المسجد النبوي قال له: لقد كنت أنشد به، وفيه من هو خير منك (1) » .
__________
(1) انظر صحيح البخاري، كتاب الصلاة، أبواب المساجد.(2/489)
أمر المساجد والقائمين عليها اليوم
انحسرت رسالة المساجد وفقدت كثيرا من هذه الوظائف والخصائص وأصبح لا يغشاها إلا الضعفاء.
وتحولت النظرة إلى أئمة المساجد على أنهم قوم في حاجة لأن يتعيشوا.
كما أن بعضهم لا يعلمون من الدين إلا قليلا. . .!
ومن العلم الديني إلا قشورا. . .
ولا يعلم من العلم الدنيوي كثيرا ولا قليلا. . .
والبعض المؤهل منهم بالإجازات والشهادات العلمية في حاجة إلى إحاطة شاملة بالعلوم الإسلامية وبالثقافة الإسلامية الأصيلة، وبالاطلاع على المذاهب الفكرية، والتيارات المعاصرة. . . التي أصبح لها دعاة مثقفون أذكياء، مرنوا على الجدال والمناقشة.(2/490)
الوسائل لتحقيق رسالة المسجد اليوم
1 - إعداد الإمام الصالح. . . دينيا ودنيويا فاهما للإسلام والشريعة وملما بالتيارات العلمية والمذاهب الفكرية، ويتأتى ذلك بما يأتي:
(أ) إعداد معاهد علمية إسلامية خاصة بالدعاة إلى الله (ابتدائي - إعدادي - ثانوي) مع حفظ القرآن حفظا متقنا مجودا (شرط أساسي للنجاح) مع حفظ قدر كبير من السنة النبوية بحيث يصلح المتخرج للالتحاق بكليات الدعوة عربيا وإسلاميا.
(ب) إعداد كليات الدعوة إلى الله في جميع البلاد الإسلامية والعربية على أن يكون القائمون بالتدريس من أهل العلم المتمعنين في الدراسات الإسلامية، والعلم بالأصلين الشريفين: القرآن والسنة، والمحيطين بالتيارات والمذاهب الفكرية في العالم كله.
(جـ) إعداد أقسام للدراسات العليا في كل قطر وبلد إسلامي وعربي للحصول على درجة التخصص الأولى " الماجستير "، ثم درجة التخصص الأرقى، هو الحصول على العالمية " الدكتوراه " مع توحيد المناهج في هذه الأقسام التخصصية.(2/490)
وأن يشترك في وضع هذه البرامج أقطاب العلماء في العالم الإسلامي.
(د) أن يكون القائمون بالتدريس من المعروفين بالتدين الصادق.
2 - أن يمنح القائمون بوظائف الإمامة والدعوة إلى الله المرتبات السخية التي تؤهلهم للتفرغ الكامل.
3 - أن يستغل العلماء المعروفون بالعلم والصلاح والاستقامة الذين يحالون إلى المعاش في وظائف الإمامة، ولو في المساجد الكبرى التي يغشاها الكثيرون من المثقفين ثقافة عالية مدنية، مع مراعاة الفروق المادية التي تعطى لأمثالهم من الأساتذة غير المتفرغين بالجامعات.
4 - أن يكون للإمام دور مهم في تثقيف أهل الحي بعقد الندوات والمحاضرات بقاعة تعد لذلك ملحقة بالمسجد.
5 - أن يعمل الإمام في الحي على تمتين الصلة بينه وبين أهل حيه.
6 - أن يلحق بكل مدرسة دار تعد لإمام المسجد تسهل له مهمته في إمامة الناس.
7 - أن يتولى إمام المسجد بكل حي رئاسة لجان المصالحات وإزالة الخصومات يخفف العبء عن المحاكم فيكتسب رضاء الله ورضاء الناس.(2/491)
8 - أن يلزم الأئمة على أن يكونوا على هدي خاص، وصمت خاص، وزي خاص، يتسم بالوقار، فيكون له احترامه وتقديره، وهيبته في نفوس الجماهير.(2/492)
محمد المجذوب (1)
رسالة المسجد قديما وحديثا
على ضوء هذه الأحداث وجدتني وأنا أهم بكتابة هذا البحث، أتساءل:
- ما الحصيلة التي سيرجع بها المجتمعون في هذا المؤتمر إلى بلادهم؟ .
- وإلى أي مدى يمكنهم أن يضعوا مقرراتهم في حيز التنفيذ؟ .
- وفي اعتقادي أن أعظم خدمة نقدمها لإحياء رسالة المسجد هو أن نبدأ هذا التصحيح في مساجد هذه المملكة أولا.
- إن المملكة العربية السعودية هي البيئة الإسلامية المتميزة. . ونشاطها الإسلامي لا يكاد يفوته من أرض المسلمين.
وفي إمكاناتها المادية ضمان لإنجاح أي مشروع إسلامي من هذا النوع.
- " فلتكن هي المنطلق الأول لتحقيق النموذج الأفضل. . ".
__________
(1) الأستاذ محمد المجذوب: المدرس بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(2/493)
في رأس الحقائق البديهية أن عبادة الله هي المهمة الأولى للثقلين الجن والإنس ويؤكد ذلك قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) فها هنا قصر الخلق على صفة العبادة وحدها، فكأنه لا غرض من وجود الجن والإنس سوى عبادة الخالق وحده، وبذلك يصبح مفهوم العبادة أوسع مدى من الشعائر الخاصة كالصلاة والصوم والزكاة والحج وما إليها مما يدخل بداهة في هذا النطاق، حتى يتناول كل تحرك يأتيه الإنسان في حياته، فلا يستثنى من ذلك طعامه وشرابه ومختلف تصرفاته، إذ المفروض أن هذا الإنسان على وعي تام لسلطان الخالق ومراده من خلقه، فلا يأتي شيئا أو يذر شيئا إلا وفق الأفضل والأرضى له. . ومتى استوفى الإنسان هذه الصفة كان عبدا ربانيا، وكان كل تحرك له عبادة لله خالصة.
والإسلام بناء متنام الأجزاء، أول أركانه بعد شهادة الحق الصلاة، التي عدها الرسول -صلى الله عليه وسلم- عمود الدين، ومن هنا كان للمسجد أثره العظيم في تكوين المجتمع الإسلامي الأمثل، لهذا السبب رأينا أول عمل يقوم به الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد استقراره في المدينة هو تأسيس مسجد قباء، ثم إنشاء مسجده المبارك، الذي شارك بنفسه في بنائه مع صحابته الأكرمين.
لقد بدأ هذا المسجد مهامه في تنظيم المجتمع من أول يوم، فكان أشبه بمحطة كهرباء تمتد أسلاكها إلى كل ناحية، فتضيء وتحرك وتزود الجميع بكل نافع.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56(2/494)
جامعات شعبية
وهكذا أخذ المسجد سبيله في ضبط المسيرة الإسلامية، حتى لقد كانت المساجد في صدر الإسلام تؤدي بجانب رسالتها الدينية عدة مهام، فمن على منابرها تذاع أوامر الدولة وتوجيهاتها وفيها تنعقد مجالس القضاء للحكم بين الناس.
(وقد شاهد ناصر خسرو في جامع عمرو بن العاص -رضي الله عنه- محرري الصكوك والعقود، كما رأى فيه مجلس قاضي القضاة ويقول: إنه كان في الزيادة الغربية من المسجد، كما كان فيها مجلس قاضي الحكم الشافعي، ومجلس القاضي المالكي. . .) .
وكذلك عاين ابن رستة، وهو من رجال القرن الثالث الهجري، بيت المال الخاص بحفظ أموال اليتامى في هذا المسجد نفسه، ووصفه بأنه كان أمام المنبر، وأنه شبه قبة عليها أبواب من حديد، ثم نقل إلى صحن المسجد، وحتى اليوم لا يزال البناء الخاص ببيت المال قائما في الجامع الأموي بدمشق، وفي الجامع الكبير بمدينة حماة وإن هو قد خلا من كل مال. . .(2/494)
أما الجانب التعليمي من حياة المسجد فلا يزال من أبرز مقوماته بعد الصلاة، على الرغم من كل العوائق التي اعترضت طريق الإسلام، وبخاصة في أيامنا هذه. وقلما ترى مسجدا في قرية أو مدينة لا يقوم فيه مدرس أو مدرسون، أو مقرئون يعلمون صغار المسلمين كتاب الله حتى الساعة.
إنها بقية من ماض مجيد، كان المسجد فيه يتخذ صفة الجامعة الشعبية مفتحة الأبواب لكل راغب في المعرفة، لا تقيده بدوام، ولا تفرض عليه مادة دون أخرى، بل تفتح لمواهبه سبيل الانتخاب الطبيعي، فينتقل من حلقة إلى أخرى، حتى يستقر في الاتجاه الذي يتلاءم مع استعداده، وبهذه الطريقة أتيح للمسجد أن يخرج أكبر عباقرة الذين تسلموا مقاعد الإمامة في الدنيا والدين.
يصف أحد المستشرقين اثنين من مساجد العاصمة فيقول: (في عهد العظمة التركية كان المسجد مركزا اجتماعيا. فمسجد محمد الفاتح مثلا كان على جانبيه كليات وفندق ومستشفى ومركز لتوزيع الطعام، وعلى رابية أخرى كان يربض أوسع المساجد إطلاقا وهو مسجد سليمان القانوني، الذي كان حوله عشر مؤسسات منها كليات أربع، والمدرسة لم تكن خاصة بالدين، بل كانت وحدة للسكن، وكان المسجد نفسه قاعة للدرس والمحاضرات وكان بوسعك أن ترى لعهد قريب أساتذة في صحن المسجد خلال الصيف، وفي المسجد نفسه أثناء الشتاء، يدرسون جماعات صغيرة من الطلاب.(2/495)
بين أمس واليوم
أجل. . . إن المسجد لم يفقد حتى اليوم تأثيره في حياة المسلمين فهو لا يزال قائما لاستقبال المصلين، ولا يخلو في كثير من الأحيان والبلدان من مكتبة صغيرة تمد المصلين بنسخ من كتاب الله للتبرك ببعض التلاوة، وقد تحتوي على بعض الكتب الإسلامية الأخرى التي تبرع بها بعض المحسنين، دون تفريق بين النافع وغير النافع.
على أن قليلا من التأمل في أوضاعها على ضوء الغاية العليا التي من أجلها وجد المسجد في الإسلام يؤكد لنا أن ثمة فجوة هائلة بين المسجد اليوم ومسجد الأمس.
لقد جرد المسجد الحديث من الطاقات التي تمكنه من العمل من بناء الفكر والقلب وتصحيح المفهومات الخاطئة.(2/495)
لقد سيطر الرعب على خطيب المسجد ومدرسه وضاقت في عيونهما سبل الرزق، فلا يريان سبيلا للوصول إليه إلا بإرضاء المتسلطين على مرافق الحياة، ممن لا يقيم وزنا لدين الله ولا يعرف حقا لشريعة الله. . . ويكاد أن يكون هذا هو واقع المسجد في معظم ديار المسلمين إلا من رحم الله.(2/496)
التطور المدمر
إن الإسلام في توكيده على عمران المساجد إنما يستهدف من ذلك توفير وسائل التوعية الدائمة التي لا مندوحة عنها لإقامة المجتمع الصالح. . . المجتمع الذي يعرف كل فرد منه ما له وما عليه، ذلك لأن الجماعة المسلمة هي المادة التي منها تتكون دولة الإسلام، وهي القاعدة التي عليها ترتكز، وإذا كانت وظيفة المجتمع المسلم - شعبا ودولة - هي تبليغ رسالة الله وإقامة الحكم الأفضل؛ فطبيعي أن يجد هذا المجتمع من الرعاية والحرية ما يمكنه من تحقيق واجبه في الاستعداد للنهوض بأعباء هذه الرسالة في نفسه أولا، ثم في أوساط الشعوب الأخرى.
ولكن المسجد أوشك أن يفقد سلطانه على النفوس بعد هذا التطور التي سلخته من معظم مقوماته، وسلطت عليه من لا يؤمن برسالته، فهو اليوم في جل ديار المسلمين أداة شلاء لا يكاد يؤدي أي وظيفة اجتماعية هادفة، بل لا نغالي إذا قلنا إنه - بما يعتوره من المعوقات المختلفة - لا يزيد الواقع الاجتماعي إلا بلبلة واضطرابا.(2/496)
لنبدأ من هنا
على ضوء هذه الأحداث وجدتني وأنا أهم بكتابة هذا البحث، أتساءل: ما الحصيلة التي سيرجع بها المجتمعون في هذا المؤتمر إلى بلادهم؟ . . . وإلى أي مدى يمكنهم أن يضعوا مقرراتهم في حيز التنفيذ؟ . . .
لقد تكررت المؤتمرات التي عقدت لعرض أحوال المسلمين، ولدراسة أوضاعهم على مختلف المستويات، وإن من مقرراتها الكثير من العلم والخير. . . غير أني أتطلع في كل اتجاه لأرى آثارها العملية فلا أكاد ألمح شيئا. . . ولا جرم أن اجتماعا يعقد لتصحيح أوضاع المسجد جدير بكل تقدير واهتمام، إذا كان من شأنه تغيير هذا الواقع الذي انتهى إليه المسجد وأهله. . . ولكن ما السبيل إلى ذلك وهو الذي لا سبيل إليه إلا عن طريق الذين لا يريدون هذا التغيير.(2/496)
وفي اعتقادي أن أعظم خدمة نقدمها لإحياء رسالة المسجد هو أن نبدأ هذا التصحيح في مساجد هذه المملكة أولا، فإذا نجحت المحاولة هنا كانت الخطوة التالية إقناع باقي الأقطار الإسلامية الأخرى بنقل هذه التجربة إلى مساجدها.
إن المملكة السعودية هي البيئة الإسلامية المتميزة، فقضاؤها إسلامي صرف، وتعليمها لا يزال مرتبطا بأهداف الإسلام، ونشاطها الإسلامي لا يكاد يفوته جانب من أرض المسلمين، وفي إمكاناتها المادية -ولله الحمد- ضمان لإنجاح أي مشروع إسلامي من هذا النوع. . . فلتكن هي المنطلق الأول لتحقيق الأنموذج الأفضل الذي تتطلع إليه أبصار المصلحين وبصائرهم.
لقد كتب الكاتبون، وألف المؤلفون، وخطب المحاضرون، وتغنى الشعراء الإسلاميون بعظمات الإسلام وإمكاناته العجيبة لإصلاح الإنسان، وبناء الأوطان، وإقامة الحكم الصالح وإعطاء البشرية أفضل الأنظمة في السياسة والاقتصاد والعدالة. . . ولكن شيئا من ذلك لم يترجم على نطاق العمل المنظور خارج هذه البلاد حتى الآن. لذلك ستظل هذه الكنوز حديثا ماتعا يسلي القارئ والسامع، على حين أن المسلمين ومن ورائهم العالم كله يظلون أحوج ما يكونون إلى رؤية هذه الكنوز بارزة في متناول الأيدي والأبصار. فمتى يتاح لهذه الحقائق الإسلامية أن تحتل مكانها في عالم الواقع؟ ليقتنع العالم أن لدينا ما نقدمه لإنقاذه من هاوية الضياع! .
إن الضمير الإنساني يطالب المسلمين بإقامة نموذج صحيح للمجتمع الذي يستطيع الإسلام أن يبنيه بإمكاناته الخاصة وحدها، فيكون مجتمعا ربانيا يحكمه نظام الإسلام في كل شيء، دون أن يسمح للتيارات الداخلية بأي تأثير في خصائصه العليا، حتى يكون حجة الإسلام على العالم، الذي مزقته التجارب البشرية المقطوعة عن طريق الوحي.
وما لم يتفق المسلمون على هذه الحقيقة، وما لم يتقدم من الشعوب الإسلامية من يحقق هذا الأنموذج، فسيظل كماخض الماء، لا يتجاوز حدود الأحلام.(2/497)
المسجد الذي نريده
أما المسجد الأنموذج الذي تتطلع إليه أبصار المفكرين فهو الذي توافرت فيه كل الوسائل المساعدة على استعادة منزلته وتحقيق رسالته التي أنشئ لها من أول يوم أول مسجد أسس على التقوى.
ولن يكون المسجد كذلك إذا قصرنا فيه على الشكل دون المضمون. . . أو على المضمون دون الشكل.(2/497)
إن قاعة الصلاة جزء من هذه الوحدة، يفيء إليها روادها كلما دعا إليها الداعي في أوقاتها الخمسة، ثم مكتبة عامرة بأفضل المؤلفات الإسلامية في شتى العلوم والفنون، على أن يعنى فيها باختيار الطبعات الرائعة من كتاب الله، فلا تقع العين ولا اليد على تلك المصاحف التجارية، التي طبعت أردأ طبع، وجلدت أسوأ تجليد، فلا يتكرر لمسها حتى تتفتت، وتتحول إلى ركام من الأوراق الممزقة.
ثم تلحق بهاتين القاعدتين ثالثة للجلوس يجتمع فيها أهل الفكر من أبناء المحلة أو زوار الوحدة حيث يتداولون الرأي في أمورها وأحوال روادها، وما ينبغي عمله لاستمرار تقدمها وازدهارها، على أن تكون من السعة بحيث تصلح لإلقاء المحاضرات، وإقامة الندوات الفكرية تحت إشراف المسئول عن الوحدة.
وسيكون من الإحياء للسنة إجراء عقود النكاح في هذه القاعة، ليحضرها رواد المسجد والمكتبة والمجاورون؛ فيكون ذلك مدعاة لتقوية الروابط بين أهل المحلة، وأفضل وسيلة لمكافحة السرف الذي اعتاد الناس أن يتنافسوا به في مثل هذه المناسبات.
ولن ننشد المستحيل عندما نتمنى أن تكتمل هذه الوحدة بإضافة مستوصف يتناسب مع حاجة البيئة، يقوم على طبيب أو أطباء، بصورة ثابتة أو بالتناوب بين أطباء يخصصون بعض وقتهم لخدمة المترددين على هذا المستوصف، على أن تصرف لهم الأدوية الأولية من الصيدلية الملحقة به.
إن مركزا إسلاميا كهذا من شأنه أن يقدم لبيئته أجل الخدمات، ويهب للإسلام نماذج الدعاية، التي تعرف الناس قدرا غير قليل من جمال هذا الدين، الذي يهدي للتي هي أقوم، ويهيب بالمؤمنين أن يتعاونوا - دائما وأبدا - على البر والتقوى.
على أن كل مجهود يبذل لتوفير هذه المصالح سيظل أبتر معرضا للخلل فالزوال، إذا لم توجه مثل هذه العناية إلى نوعية الرجال الذين سيشرفون عليها.
ولهذا نرى أن أول الشروط التي على أساسها يختارون هو الكفاءة الخلقية ثم الكفاءة العلمية.
وإني لأكتب هذه الكلمات وفي رأسي ذكرى يوم رافقت فيه أحد مديري الأوقاف في بلد مسلم إلى أحد المساجد التاريخية، وهناك أدركتنا صلاة العصر فإذا هو يستعجل بفراقنا لأنه لا يريد الصلاة، أو لا يعلم كيف يصلي، وما أكثر هؤلاء في معظم ديار المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لقد آن للمسئولين عن رعاية المساجد أن يحسنوا لها الاختيار، فلا يقل مؤهل الإمام والخطيب عن الشهادة الثانوية الشرعية في أوساط القرى والبوادي، وأما في المدن والحواضر فلا يصل إلى هذه الأعمال امرؤ يقل مؤهله الدراسي عن مستوى الإجازة من إحدى الكليات الإسلامية وذلك بعد الاستيثاق الكامل من مؤهله الخلقي. على أن هذا يقتضي أن يوفر للعاملين في خدمة المسجد كل ما يؤمن لهم الحياة الكريمة، سواء في(2/498)
الراتب أو المسكن، وقد درج بعض المحسنين على أن يلحقوا بالمسجد منزلا خاصا للإمام والخطيب، وإنها لسنة حسنة يجدر بالمؤتمر ألا يغفلها.
وإذا كان هذا صحيحا بالنسبة إلى كل مسجد في أي مكان، فهو أحق بالتحقيق في المسجد الأنموذج، الذي يراد له أن يكون منارا للهداية، ومنطلقا للدعوة إلى دين الله بين مختلف عباد الله.(2/499)
المراكز الإسلامية
وبحث كهذا في شأن المسجد لا يستكمل عناصره ما لم نلق من خلاله نظرة إلى ما يسمى اليوم بالمراكز الإسلامية المنشآت خارج أقطار المسلمين.
إن لبعض هذه المراكز نشاطا ملحوظا في خدمة المسلمين وفي الدعوة إلى الإسلام، وقد حقق هذا البعض بفضل الله غير قليل من النجاح في أوساط الجاليات الإسلامية، وطلاب الحق والخير من غيرها.
بيد أن الملاحظ أن أكثر هذه المراكز نجاحا في خدمة الإسلام هي التي يقوم على خدمتها عناصر حرة من الشباب المؤمن، الذي لا تقيده وظيفة رسمية. . . ففي ظل هؤلاء الأحرار يحسن عرض الإسلام لجاهلية من الأجانب. وتنظم برامج تعليم لصغار المسلمين، ممن لا يتاح لهم معرفة شيء عن دينهم، إلا عن طريق هؤلاء المتطوعة.
هذا على حين نرى المراكز الأخرى التي تتولى أمرها قيادات رسمية لا يهمها من أمرها إلا تحقيق الدعاية السياسية التي تفرضها الدولة. . . ومن هنا رأينا مراكز تنفق عليها الأموال الطائلة، ثم لا مردود لها سوى زيادة البلبلة في أوساط الجاليات الإسلامية.
ولقد حدثني زميل فاضل تولى إمامة أحد هذه المراكز من قبل هيئة خاضعة للحكومة فلم يستطع أن يحقق فيه أي مهمة إسلامية، بل لم يستطع حمايته من المفاسد التي ينكرها أهل الإيمان، لأن الذي عهد إليه بإدارته كان أبعد الناس عن فضائل الإسلام. حتى أنه ليفطر رمضان دون عذر، ويأتي من المنكرات ما لا يكتمه زميلي الفاضل لو سئل عنه.
وقد شكا أمره إلى المسئول الأعلى فلم يجد أي مردود سوى التهديد والوعيد.
وهكذا تذهب آمال المسلمين ببعض هذه المراكز مع الريح، ولا جرم أن إخفاق أي مركز إسلامي في الغرب يجر معه إخفاقا أكبر للدعوة الإسلامية، إذ يكون سببا لتشويه الإسلام، وصرف الراغبين عنه إلى البحث عن علاج حيرتهم في غيره.(2/499)
طموح مشكور يرجى تحقيقه
ومرة أخرى أسمح لنفسي بالقول: إن هذه المملكة أحق بلاد الإسلام في عهدنا هذا بإصلاح الوضع. وذلك لإحداث مراكز للإسلام في مختلف حواضر العالم الغربي، يقوم على رأسها رجال جمعوا بين قوة العلم وأمانة التبليغ، كبعض أولئك الذين خرجوا من هنا بدعوة الله قبل قليل إلى أوروبة والفاتيكان، فأحسنوا العرض والحوار، وعادوا مكللين بالأجر والفخار.
وفي ظني أن أهم واجب يتحمل تبعته كل مركز إسلامي ينشأ خارج البلاد العربية هو لم شعث الجوالي الإسلامية تحت راية الصلاة، ثم تخصيص برامج أسبوعية لتعليم أبنائهم ما لا بد من علمه عن كتاب ربهم وسنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، إلى برامج أخرى خاصة لنشر العربية والإسلام بين الأجانب والأعاجم، ودعم كل من البرنامجين بمكتبة صالحة تيسر لطالب العلم سبيل الحصول على بغيته من أقرب سبيل على أن يراعى فيها مستوى كل من القسمين، مع الاهتمام الكبير بنوعية المنشورات والكتب، بحيث تكون مقصورة على عرض الإسلام وتيسير العربية دون انحراف نحو الدعايات السياسية الخاصة.(2/500)
رسالة المسجد عبر التاريخ
أبو بكر القادري
" وتأسست أول جامعة علمية في العالم. .
وكانت هي جامعة القرويين بفاس من المملكة المغربية.
المبتناة سنة 245 هـ الموافق 859 ميلادية.
فكانت مركزا للعلوم على اختلاف أنواعها وبقيت مركزا للإشعاع الإسلامي لا بين المسلمين فحسب بل كان يقصدها حتى الأجانب المسيحيون، أمثال الراهب " جيربير " الذي تبوأ منصب البابوية وغدا اسمه " سيلفيستر الثاني " و " ملينار " من جامعة " لوفان " و " كيوليوس " من جامعة لندن. . ثم كانوا بعد أساتذة الاستشراق في أوروبا. . ".(2/501)
لقد كان المسجد منذ عهد الرسول -عليه السلام-، المنطلق الأول للدعوة الإسلامية والمركز الأساسي الذي شعت منه رسالة محمد -عليه الصلاة والسلام-.
والمسجد لغة اسم لمكان السجود، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (1) » ، قال الزركشي: كل مكان يتعبد فيه فهو مسجد. وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (2) قال المفسرون: المساجد واحدها مسجد، أي موضع السجود للصلاة والتعبد، ويدخل فيها الكنائس والبيع ومساجد المسلمين. وعن قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله معبودات أخرى، فأمرنا بهذه الآية أن نخلص لله تعالى الدعوة إذا دخلنا المسجد. وقال الزركشي: السبب في اختيار كلمة المسجد لمكان الصلاة، أنه لما كان السجود أشرف أعمال الصلاة لقرب العبد من ربه، اشتق اسم المكان منه فقيل مسجد، ولم يقولوا مركع، ثم إن العرف خصص المسجد بالمكان المهيأ للصلوات الخمس.
المسجد منذ أسسه سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن مركزا للعبادة والتعبد، والصلاة والتهجد فحسب، وإنما كان بالإضافة إلى ذلك مكانا وناديا يلتقي فيه المسلمون لتدارس أحوالهم وقضايا مجتمعهم، وما يعرض لهم في حياتهم من مشاكل وقضايا.
ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجلس بالمسجد النبوي بالمدينة المنورة لتعليم المسلمين دينهم، وتبصيرهم عاقبة أمرهم، حتى كان مجلسه تنافسيا بين الصحابة -رضوان الله عليهم- كلهم يبتغي السبق إلى حضور هذا المجلس النبوي،، والظفر بالإنصات إلى الذي لا ينطق عن الهوى. ولقد كان جلوسه -عليه السلام- عند موضع الاسطوانة المسماة اليوم اسطوانة التوبة (3) ، وهي كائنة في الروضة الشريفة وهي اليوم الاسطوانة الرابعة فيما بين المنبر النبوي وبين الحجرة المشرفة، فكان -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الصبح انصرف إلى ذلك الموضع فحلق أصحابه به حلقا بعضها دون بعض، أي بعضها أضيق من بعض، فيتلو عليهم ما أنزل من القرآن من ليلته، ويحدثهم إلى طلوع الشمس ويسألونه عما يعرض لهم، ففي صحيح الإمام البخاري من حديث أبي موسى الأشعري «جاء رجل وهو قائم فقال: يا رسول الله، ما القتال في سبيل الله؟ فرفع رأسه إليه وقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (4) » . وفي الصحيح أيضا «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان منهم إلى رسول الله، فوقفا، فأما أحدهما: فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الكلام قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة، أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه (5) » . ولعله كان من المنافقين والعياذ بالله.
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (317) ، سنن أبو داود الصلاة (492) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (745) .
(2) سورة الجن الآية 18
(3) أضيفت الاسطوانة إلى التوبة مشيرة لتوبة أبي لبابة.
(4) صحيح البخاري العلم (123) ، صحيح مسلم الإمارة (1904) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1646) ، سنن النسائي الجهاد (3136) ، سنن أبو داود الجهاد (2517) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2783) ، مسند أحمد بن حنبل (4/417) .
(5) صحيح البخاري العلم (66) ، صحيح مسلم السلام (2176) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2724) ، مسند أحمد بن حنبل (5/219) ، موطأ مالك الجامع (1791) .(2/502)
ولقد كان الصحابة بنوا لرسول الله دكة من طين يجلس عليها، ليعرفه الغريب إذا دخل المسجد، وكان تعليمه الناس على طريقتين، أولاهما: وهي الأكثر، أن يعلن على حاضري مجلسه من القرآن والتربية الخلقية والمواعظ وأخبار الأنبياء السابقين. والثانية: جوابه عن أسئلة السائلين المسترشدين، وما يدور بينه وبين أصحابه من أطراف الحديث.
وسار الصحابة الكرام سيرته -عليه السلام- في بث العلم في المسجد، ونشر القرآن وإفتاء الناس في ما يقع لهم من أحداث، فعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: «كنت أعلم القرآن رجلا من أهل الصفة، فأعطاني قوسا أجاهد بها، فسألت عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لي: إذا كنت تريد أن يطوقك الله بقوس من نار فاقبله» ، ولعله -صلى الله عليه وسلم- أراد لعبادة بن الصامت أن يكون تعليمه أخاه لله، دون أجر أو عوض دنيوي. وعن ابن عباس كنت أقري رجالا من المهاجرين، أي القرآن منهم عبد الرحمن بن عوف.
ومن الذين قاموا بمهمة التعليم من أصحاب رسول الله: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وعائشة أم المؤمنين، وأبو هريرة، وعبد الله بن عباس، وأبو موسى الأشعري، -رضي الله عنهم- أجمعين.
وسار مسلكهم واتبع خطتهم في التعليم من التابعين أمثال: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وسالم مولى عبد الله بن عمر، وابن جريج، ومجاهد، وسعيد بن جبير وكانت مجالسهم العلمية، تعقد بالمساجد.
واستمر الحال على ذلك زمن التابعين، وتابعي التابعين، ففي الموطأ عن أبي بكر بن عبد الرحمن أحد فقهاء المدينة من كبار التابعين أنه كان يقول: من غدا إلى المسجد ليتعلم خيرا أو ليعلمه، ثم رجع إلى بيته كان كالمجاهد في سبيل الله، رجع غانما.
ولقد كان الإمام مالك بن أنس يتتبع خطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلقد ورد أنه كان يجلس في أول انتصابه للعلم بالمسجد، وكان موضعه في المسجد النبوي الاسطوانة التي أشرنا إليها سالفا، والمعروفة باسطوانة التوبة.
وتتابعت الدروس بالمساجد في مختلف الأصقاع والأنحاء الإسلامية، قال القاضي عياض اليحصبي السبتي -رحمه الله- في كتابه المدارك: قال القنازعي: دخلت مسجد عمرو بن العاص الفسطاط، وفيه من المجلس المالكية في الفقه والحديث نحو عشرين حلقة.(2/503)
وتأسست أول جامعة علمية في العالم، وكانت هي جامعة القرويين بفاس من المملكة المغربية، المبتناة سنة 245 هجرية الموافق 859 ميلادية، فكانت مركزا للعلوم على اختلاف أنواعها، وتخرج منها العدد العديد من العلماء الأفذاذ، والشيوخ الأجلاء، وبقيت مركزا للإشعاع الإسلامي، ونشر جميع أنواع المعرفة الإنسانية، لا بين المسلمين فحسب، بل كان يقصدها حتى الأجانب المسيحيون، أمثال الراهب " جيربير " الذي تبوأ منصب البابوية وغدا اسمه " سيلفيستر الثاني " و " ملينار " من جامعة " لوفان " " وكيوليوس " من جامعة لندن. . ثم كانوا بعد أساتذة الاستشراق في أوروبا.
فجامعة " القرويين " قامت بدورها في نشر الثقافة الإسلامية وغير الإسلامية من أنواع الثقافات وكانت أساسا مسجدا يقصده المصلون والمتعبدون، والتالون لكتاب الله العظيم، ومن الطريف أن نذكر أن الذي بنى هذه الجامعة القروية أو مسجد القرويين، امرأة صالحة تدعى بأم البنين فاطمة الفهرية، وأنها تحرت كل التحري عندما اشترت أرضه، حتى لا يشوب شراءها حرام، وأنها منذ شرع في بنائه وهي صائمة تقربا إلى الله إلى أن انتهى من بنائه.
لقد ذكرت أن جامعة القرويين أول جامعة علمية في العالم، ودليل على ذلك ما أكده العلامة (دلفان) في كتابه " فاس وجامعتها " (1) فلقد قال: " إن جامعة القرويين تعتبر أول مدرسة في الدنيا.
ويقول " بندلي " إن أقدم جامعة في العالم ليست في أوروبا كما كان يظن بل في أفريقيا وفي مدينة (فاس) بالذات عاصمة بلاد المغرب (العلمية) ، وأثبت التاريخ أنه تخرج من هذه الجامعة عشرات ومئات من الطلبة الأجانب من غير المسلمين وعلى رأسهم الراهب " جربيرت " الذي صار فيما بعد البابا " سيلفيستر ". الثاني انتهى ما قاله " بندلي ".
يقول الأستاذ المرحوم علال الفاسي في بحث له عن مهمة علماء المسلمين (2) ولقد لعب المعهد القروي والمعاهد الدينية الأخرى في المغرب والأندلس دورا هاما في تنقيح المنقول وابتكار المعقول، وفي ذلك الجو نشأ أبطال في المعرفة والفلسفة، أمثال ابن رشد، وابن الطفيل، وابن باجة، وابن حزم، وابن البنا، وابن العربي، وغيرهم من مختلف رجال الفكر الذين نشروا المعرفة وضحوا في سبيلها، وكانوا القناة التي سقت الغرب الأوروبي فأثمر حضارته الحالية.
وقد استخرج صديقنا الدكتور عمر فروخ في رسالته عن ابن باجة بعض المعطيات التي قدمها المفكرون المغاربة للثقافة العربية، وفي مقدمتها سيطرة العقل عند المغاربة، وحسن الإنتاج والابتكار، إلى جودة التنسيق والاختصار ونضيف إلى ذلك أن المغاربة عملوا على توحيد مجتمعهم لا من جهة العقائد ولا من جهة الفروع. . . فتخلصوا
__________
(1) انظر كتاب الثورة الاجتماعية في الإسلام للسيد عبد الحافظ عبد ربه، ص160.
(2) مهمة علماء المسلمين صفحة 12.(2/504)
من الطائفيات، وانصرفوا لدراسة الإنسان وعلاقته بالطبيعة، متجنبين بقدر الإمكان كل الأبحاث، الميتافيزيقية التي لا يمكن للإنسان إدراكها إلا عن طريق النقل، واتجهوا في فلسفتهم الاجتماعية نحو مجتمع واقعي، يقوم على التعاون، ويتأثر بقوانين الكون، عوامل الاقتصاد، ويتطور بحسب البداوة، والغزو، أو الحضارة والاتجار. ومقدمة ابن خلدون خير مثال لذلك. على أن الاتجاه الاجتماعي كان بارزا عند الفلاسفة والفقهاء المغاربة فقط بل حتى عند متصوفة المغرب أمثال ابن العباس السبتي، وابن محمد صالح من الذين بحثوا في تجربتهم الروحية، سبيل خدمة المجتمع، والتعاون على سد حاجاته، وبذلك قدر المغاربة مهمة للعالم الديني، على أنها ليست في مجرد البحث والتدريس ولكن في نقل معرفته، وبذل جهوده لخدمة الإنسان، وتحسين حالته المادية والخلقية، ولكن المسلمين لم يسيروا على وتيرة واحدة دائما.
وليست " القرويين " وحدها هي التي قامت بهذا الدور العلمي الثقافي الحضاري، فجامع الأزهر الذي تم بناؤه سنة 361 - 972 م كان مركزا لنشر المعرفة ومقصدا للطلبة من جميع الآفاق، ويحدثنا التاريخ أن أول درس ألقي فيه كان أواخر عهد المعز لدين الله (365 - 975) حيث جلس قاضي القضاة أبو الحسن علي بن النعمان يدرس فيه مختصر أبيه في فقه الشيعة في جمع حافل من العلماء والكبراء (1) ، وفي ذلك الوقت بالذات برزت دار الحكمة التي أنشأها الخليفة الحاكم، وقد أمضى المقدسي (2) في المسجد الجامع بالقاهرة وقت العشاء مائة وعشر مجالس من مجالس العلم، وكان جامع المنصور ببغداد، وهو أقدم مسجد جامع بها، أشهر مركز للتعليم في المملكة الإسلامية، ويحكى أن الخطيب البغدادي لما حج شرب من ماء زمزم ثلاث شربات، سأل الله -عز وجل- ثلاث حاجات، أخذا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ماء زمزم لما شرب له (3) » ، فالحاجة الأولى: أن يحدث بتاريخ بغداد، والثانية أن يملي الحديث بجامع المنصور، والثالثة: أن يدفن إذا مات عند قبر بشر الحافي (4) . وقد جلس إبراهيم بن محمد نفطويه المتوفى عام 323 هـ 935 م وكان من أكبر العلماء بمذهب داود الأصبهاني إلى اسطوانة بجامع المنصور خمسين سنة لم يتغير محله منها (5) ، وكان أبو حامد أحمد بن محمد الإسفراييني المتوفى عام (406 هـ - 1015 م) إمام أصحاب الشافعي يدرس بمسجد عبد الله بن المبارك ببغداد، وكان يحضر مجلسه من الفقهاء والعلماء ما بين 300 و 700 فقيه (6) ، وكان أبو الطيب الصعلوكي مفتي نيسابور مركز علماء خراسان، يحضر مجلسه أكثر من خمسمائة طالب، ونفس الشيء بالنسبة لمدينة (كشغر)
__________
(1) مساجد مصر وأولياؤها الصالحون.
(2) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري.
(3) سنن ابن ماجه المناسك (3062) ، مسند أحمد بن حنبل (3/357) .
(4) الإرشاد لياقوت.
(5) الإرشاد.
(6) طبقات السبكي.(2/505)
حيث يحضر دروس مسجدها أكثر من خمسمائة طالب، ويروي التاريخ أن الصاحب بن عباد لما عزم على إملاء الحديث وهو وزير خرج يوما متطلسا متحنكا بزي أهل العلم، فقال: قد علمتم، قدمي في العلم، فأقروا له بذلك، وأنا متلبس بهذا الأمر، وجميع ما أنفقته من صغري إلى وقتي هذا من مال أبي وجدي، ومع هذا لا أخلو من تبعات، أشهد الله وأشهدكم أني تائب إلى الله من ذنب أذنبته، واتخذ لنفسه بيتا أسماه بيت التوبة، ولبث أسبوعا على ذلك، ثم أخذ خطوط الفقهاء بصحة توبته ثم خرج وقعد للإملاء، وحضر الخلق الكثير وكان المستملي الواحد ينضاف إليه ستة، كل يبلغ صاحبه، فكتب الناس حتى القاضي عبد الجبار (1) .
وفي سنة 346 هـ 957 م توفي أبو العباس الأصم، وكان من أكبر علماء خراسان ومحدثيهم، وقد ظهر به الصمم وهو ابن ثلاثين سنة وكان إذا ذهب إلى المسجد للتحديث، وجد السكة قد امتلأت بالناس، وكانوا يقومون له ويحملونه على عواتقهم إلى مسجده، وكان لا يأخذ شيئا على التحديث وإنما كان يورق ويأكل من كسب يده (2) .
لقد كانت المساجد مركزا للتعليم والتثقيف في جميع ميادين المعرفة، كما كانت مجالس للوعظ والإرشاد والتوجيه، وقد ذكر الجاحظ في البيان والتبيين أن جعفر بن الحسن أول من اتخذ حلقة في مسجد البصرة لإقراء القرآن وللقصص، ويقول المرحوم العلامة الظاهر ابن عاشور: " وأحسب أنه ما نشأت فكرة وضع المدارس لدراسة العلوم في الإسلام، إلا من أثر امتزاج التمدن في عصر الدولة الإسلامية العباسية بين مدينة الإسلام ومدينة اليونان "، ثم يقول: وما ظهرت المدارس في الإسلام لمزاولة العلوم إلا في بغداد، لما وضع أبو جعفر المنصور حلقة الطب التي فوض أمرها إلى (فرات بن سحتاثا) الفارس الطبيب في حدود سنة 140 هـ، وما كانت تلك الحلقة معهد تعليم للعلم، ولكنها كانت مجمعا لعلماء الطب ليتذاكروا علمهم وتجاربهم (3) .
ولقد بقي أهل السنة بمصر يدرسون العلم بجامع الفسطاط إلى أن بنى صلاح الدين مدرستين: الأولى للمالكية سنة 566 هـ، والثانية للشافعية، وبنى الملك الكامل بالقاهرة دار الحديث المعروفة بالكاكلية سنة 622 هـ وجعلها للمذاهب الأربعة، وأقام الملك العادل في دمشق المدرسة العادلية والملك الظاهر في دمشق أيضا المدرسة الظاهرية (4) وأشير بالمناسبة إلى أن مركز مصر العلمي ابتداء منذ الفتح الإسلامي سنة 16 هـ حيث سكن أرض الكنانة جمهور من الصحابة، مثل عمرو بن العاص، وابنه عبد الله، وقيس بن عبادة وعبيد الله بن محمد
__________
(1) الإرشاد لياقوت.
(2) الحضارة الإسلامية.
(3) ص 56 من '' أليس الصبح بقريب ''.
(4) ص 56 أليس الصبح بقريب.(2/506)
(وهو أول من أقرأ القرآن بمصر) ، وإن الدراسات في المسجد، كانت أولا مقتصرة على القرآن، وما يلقيه القصاصون والواعظون، إلى أن ورد يزيد بن أبي حبيب، في زمن عمر بن عبد العزيز، فأظهر الفقه، وأخذ عنه الليث بن سعد، ولقد ازداد مركز مصر العلمي بظهور الإمام محمد بن إدريس الشافعي وأصحابه أواخر القرن الثاني الهجري، وتضاعفت قيمتها العلمية بل أصبحت المركز العلمي الأساسي في الشرق العربي بعد خراب بغداد على أيدي التتار سنة 656 هـ، فلقد هاجر إليها العلماء الأعلام، ومن جميع البلاد الإسلامية التي حل بها الغزو التتاري، فوجدوا بها من حسن الاستقبال والإكرام، ما رغبهم فيها وما جعلهم يختارونها دار إقامتهم، ومأوى فرارهم، وهكذا قطنها فطاحل العلماء أمثال: عز الدين بن عبد السلام، والإمام ابن الحاجب، والعلامة ابن منظور صاحب لسان العرب، والفيروز أبادي صاحب القاموس، والتيفاشي صاحب كتاب (خواص الأحجار) ، وظهر فيها أمثال شهاب الدين القرافي، وتقي الدين ابن دقيق العيد، فأصبح الأزهر مركز الإشعاع العلمي، وقصده الطلبة من جميع بلاد الإسلام، فبنيت المدارس المجاورة له لإيواء الطلبة الواردين وعززت ببناء الأروقة في رحاب الأزهر الشريف.(2/507)
أما في إفريقية (تونس) فلقد أصبحت القيروان ومسجدها، مركزا علميا قصد جماعة منها أرض المشرق العربي، رغبة في طلب العلم، والتزود بالمعرفة، فحصلوا على مبتغاهم، وقفلوا راجعين إلى بلادهم، مزودين بثقافة واسعة في علم الشريعة، أمثال علي بن زياد التونسي (توفي سنة 183 هـ) صاحب الإمام مالك بن أنس، والذي يعتبر أول من أدخل الموطأ إلى المغرب، ومثل ابن أشرس والبهلول القيرواني، وعبد الله بن غانم القيرواني، من كبار أصحاب مالك، فجاءوا بعلم الحديث والفقه والعربية، ويقول العلامة ابن عاشور (1) : إنه من العجب أن تقدم العلوم بإفريقية والقيروان كان من تلقاء طلبة العلم، لولعهم به، ولم يكن من همة الأمراء في شيء كما كان الأمر بالمشرق والأندلس، ولقد كانت القيروان اشتغال آهلة بأئمة العلوم، فكانت فيها العلوم الشرعية والعربية والأدبية والتاريخية والطب ولا يعرف لأهل القيروان اشتغال بعلوم الفلسفة، وكانت بقية العلوم الرياضية ضعيفة في القيروان، وأشهر عناوينهم كانت بعلوم الشريعة، ناهيكم بالإمام سحنون سنة 191 هـ وما قام به من أعمال، وما نشر من علم وما صحح من أوضاع، فلقد عرض عليه محمد بن الأغلب خطة القضاء وحلف عليه إلا قبل، فاشترط أن يبدأ بأهل بيت الأمير ابن الأغلب وقرابته وأعوانه قائلا: فإن قبلهم ظلامات للناس، وأموالا منذ زمن طويل، إذ لم يجترئ عليهم من كان قبلي فقال له: نعم، لا تبدأ إلا بهم وأجر الحق على مفرق رأسي، والإمام سحنون اهتم الاهتمام الزائد بإصلاح مناهج التعليم،
__________
(1) من '' أليس الصبح بقريب '' ص 67.(2/507)
وعزل الشيوخ الذين كان لا يطمئن إليهم من تعليم الأطفال، ونظم خطة القضاء وأصول المرافعة على الوجه الضامن للحقوق (1) .
وأما في المغرب فبعد استقرار الحكم الإسلامي فيه خصوصا بعد سنة 135 وبعد وصول المولى إدريس سنة 172 وبناء حديقة فاس (193) حل بفاس جماعة من العلماء أتوا من قرطبة إثر واقعة الربض المشهورة سنة 197 فكانوا نواة نشر العلوم الإسلامية، ثم ظهر العلامة عمران بن عبد الله العمري من أهل بصرة المغرب، القريب من مدينة فاس (اندثرت) ومعاصراه أحمد بن حذاقة، وبشار بن بركانة من بصرة المغرب أيضا، وهؤلاء الثلاثة قصدوا الديار المقدسة، وتزودوا بالعلم العزيز، ثم قفلوا إلى بلادهم ينشرون العلم بين الناس، ثم ظهر (بوميمونة) دارس بن إسماعيل الفاس، وكان من الفقهاء الأعلام المطلعين على أسرار الفقه المالكي، وأخذ عن ابن اللباد القيرواني معاصر الشيخ ابن أبي زيد القيرواني، وتوفي سنة 350 هـ وبدارس هذا صار المغرب مركزا أساسيا للفقه المالكي، كما ظهر العلم في لمتونة من قبائل المغرب.
ولقد كانت المراكز التي تدرس فيها العلوم، هي المساجد، وأحيانا بيوت العلم نفسها.
ونفس الشيء كان بفارس أي ما وراء النهر، والأندلس وغيرهما من الأقطار التي عمتها الدعوة الإسلامية، والتي يطول بنا الحال لو استمررنا في تعدادها.
فلقد ذكر، أن الحكم المستنقي خليفة قرطبة اتخذ المؤدبين يعلمون أولاد الضعفاء والمساكين القرآن حول المسجد الجامع، وبكل ربض من أرباض قرطبة، ولم يكن إذ ذاك بالأندلس مدارس للتعليم وتلقين العلوم، وإنما كانت المساجد هي مكان تعليمهم.
فلقد ورد في نسخة عتيقة لشرح ابن رشد على العتبية أنها نسخت من نسخة قرئت على ابن رشد بمسجده بقرطبة، وذكر ابن حزم في " طوق الحمامة " أنه أخذ الحديث في جامع قرطبة وفي المسجد القمري بها (2) ولم تتخذ المدارس بالمغرب إلا في زمن الدولة الموحدية، أما قبل ذلك فكانت الدروس تلقى بالمساجد، وكان المسجد الجامع الذي بناه المولى إدريس قبل أن يبنى جامع القرويين مكانا للدراسة أيضا.
__________
(1) '' أليس الصبح بقريب '' صـ 67، 68.
(2) '' أليس الصبح بقريب ''.(2/508)
وفي البصرة والكوفة من أرض العراق، كان مسجداهما عامرين بالدروس لغاية القرن الرابع الهجري، فكثرت الحلقات الدراسية، وبرز العلماء الأعلام في مختلف الفنون، ويعد أبو الأسود الدؤلي أول من اشتغل بعلم النحو في عهد الأمويين، كما كان أول من وضع أساس مدرسة البصرة، التي تعتبر أقدم من مدرسة الكوفة، ومن أشهر علماء البصرة وأدبائها أبو عمرو بن العلاء، الذي اشتغل بالتفسير، والخليل بن أحمد، واضع علم العروض، وصاحب كتاب العين، الذي يعد أول معجم وضع في اللغة العربية، وعمرو بن بحر الجاحظ وغيرهم كثير، كما يعد علي بن حمزة الكسائي والفراء وغيرهما من أشهر علماء الكوفة.
ولقد درست بالبصرة كثير من العلوم بما فيها علم الفلسفة، وتعتبر المركز الأساسي، الذي اتخذته جماعة إخوان الصفا لنشاطها، ولم نتكلم عن بغداد ونشاطها العلمي العديم المثال، واشتغال علمائها بترجمة العلوم الأجنبية إلى العربية، واعتنائهم بالعلوم الدينية واللغوية، ويكفي أن نذكر من جملة أمثال محمد بن جرير الطبري، صاحب التفسير والتاريخ، وكتاب القراءات وتنزيل القرآن، وأبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن حماد المتوفى سنة 282 هـ وعلي بن محمد بن حبيب البصري المعروف بالماوردي المتوفى سنة 450 هـ صاحب التآليف المشهورة، وعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 290 هـ وأبا بكر عبد الله بن داود الأزدي من أكابر حفاظ الحديث والذي تقلد رئاسة الحنابلة، وكذلك الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني، والسرافي وغيرهم كثير، ويجب أن أشير هنا إلى أن العلوم التي كانت تدرس إذ ذاك وخصوصا بالأندلس، كانت متنوعة فكانت فيها علوم العربية، وعلوم الفلسفة، والرياضيات، والطب، والفلك، والعلوم الطبيعية، وعلم الجراحة، زيادة على العلوم الشرعية والأدبية واللغوية.
وهكذا ندرك ما أسداه المسجد في مختلف أنحاء العالم الإسلامي للثقافة والحضارة والتوجيه والتكوين من معروف، وهكذا ندرك لماذا كان المسلمون لا يحلون بأية ناحية من النواحي، ولا بقطر من الأقطار، إلا ويبادرون بتأسيس المساجد، فلقد ذكر المقريزي: أن سيدنا عمر بن الخطاب لما افتتح البلدان كتب إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة يأمره أن يتخذ مسجدا للجماعة، ويتخذ للقبائل مساجد، فإذا كان يوم الجمعة انضموا على مسجد الجماعة، وكتب إلى سعد ابن أبي وقاص وهو على الكوفة بمثل ذلك، وكتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر بمثل ذلك أيضا، فكان الناس متمسكين بأمر عمر وعهده، وكانت صلاة الجماعة تؤدى في المسجد الجامع يقول (شارل سينوبوس) في كتاب تاريخ الحضارة، عن علماء الإسلام: لقد جروا على أصول إسقاء الأرضين بفتح الترع، فحفروا الآبار، وجازوا بالمال الكثير من عثروا على ينابيع جديدة، ورفعوا المصطلحات لتوزيع المياه بين الجيران، ونقلوا إلى أسبانيا أسلوب النواعير، التي ترفع المياه والسواقي التي توزعها، ثم يقول: ومن الأقوال الحكيمة التي قالها المؤرخون عن المسلمين: إنهم(2/509)
يهتمون عند فتح البلاد بشيئين في وقت واحد هما:
تنظيم الحقل وبناء المسجد.
وأداء الصلاة جماعة بالمساجد، والمظهر الذي يعطيه تنظيم الصفوف والمساواة التي يحققها بين مختلف طبقات المسلمين، فليس في المسجد مكان خاص للوزير، وآخر للعامل أو الخادم، وإنما الجميع سواء أمام الكبير المتعالي، هذا المظهر من المساواة الذي يقضي على جميع الفوارق وقف أمامه كثير من الأجانب والمستشرقين مشدوهين، فهذا الفيلسوف الفرنسي (رينان) يقول: إنني لم أدخل مسجدا من مساجد المسلمين، من غير أن أهتز خاشعا، وأن أشعر بشيء من الحسرة على أنني لست مسلما. ويقول السير توماس أرنولد عن الصلاة في المسجد: هذا الفرض المنظم من عبادة الله هو من أعظم الأمارات المميزة للمسلمين عن غيرهم في حياتهم الدينية، فكثيرا ما لاحظ السائحون وغيرهم في بلاد الشرق ما لكيفية أدائه من التأثير على النفوس، ثم قال: ولننتقل من صلاة الفرد إلى صلاة الجماعة فنقول: إنه لا يتأتى لأحد أن يكون قد رأى مرة في حياته ما يقرب من خمسة عشر ألف مصل، في وسط المسجد الجامع بمدينة (دلهي) بالهند، يوم الجمعة الأخيرة من شهر الصيام، (رمضان) وكلهم مستغرقون في صلاتهم وقد بدت عليهم أكبر شعائر التعظيم والخشية في كل حركة من حركاتهم، نقول: إنه لا يتأتى لأحد ويكون قد رأى ذلك المشهد، إلا ويبلغ تأثره به أعماق قلبه، وإلا يلحظ ببصره القوة التي تمتاز بها هذه الطريقة من العبادة عن غيرها (1) .
لقد لعب المسجد في الإسلام، دورا خطيرا في التوجيه، والدعوة وإصلاح العباد، وتربيتهم، وتقوية الشعور الديني، وتدريب المصلين من المؤمنين على الأعمال الجماعية، التي يدعو إليها الإسلام، والحفاظ على الوحدة الإسلامية حقيقة ومظهرا، ويكفي أن أشير إلى صلاة الجماعة وما ترمي إليه من أهداف بعيدة المدى، وأؤكد أن الإسلام لم يفرض الجماعة وخصوصا في الجمعة والأعياد إلا ليشعر المسلم أنه واحد من كل، وعضو في جماعة، يجب أن يهتم بشئونها ويرعاها، فالإسلام يطلب من المسلم أن لا يعيش لنفسه فقط، متعبدا منعزلا، وإنما يطلب منه حتى في صلاته أن يعيش بجانب إخوانه يستمد منهم ويستمدون منه، والرسول -عليه السلام- هم أن يحرق على قوم بيوتهم، لأنهم يتخلفون عن الجماعة، هذه الجماعة التي تتحقق على عدة مستويات، فتكون كل يوم في المسجد القريب، من مسكن المسلم، وتفرض في المسجد الجامع بمناسبة صلاة الجمعة التي لا يسوغ لمسلم أن يتخلف عنها إلا إذا كان عذره قاهرا، حيث إن الرسول -عليه السلام- يقول: «من ترك ثلاث جمع تهاونا بها، طبع الله على قلبه (2) » ، ويقول: «لينتهين قوم عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين (3) » .
__________
(1) العبادة في الإسلام.
(2) سنن الترمذي الجمعة (500) ، سنن النسائي الجمعة (1369) ، سنن أبو داود الصلاة (1052) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1125) ، مسند أحمد بن حنبل (3/425) ، سنن الدارمي الصلاة (1571) .
(3) صحيح مسلم الجمعة (865) ، سنن النسائي الجمعة (1370) ، مسند أحمد بن حنبل (1/239) ، سنن الدارمي الصلاة (1570) .(2/510)
ويتضاعف تجمع المسلمين بمناسبة العيدين حتى يسع المصلى جميع سكان البلد، بما فيهم العواتق، والحيض، وذوات الخدور، فعن أم عطية قالت: «أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق، والحيض، وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين (1) » إلى آخر الحديث.
وبعد: فما هي رسالة المسجد بعد كل ما ذكرت؟ أستطيع أن ألخص فأقول: بأن رسالة المسجد تستمد جوهرها من رسالة سيد الأنام -عليه السلام-، ورسالة الرسول العظيم كانت رسالة عامة شاملة تهدف إلى إصلاح العبد فيما بينه وبين ربه، وإصلاحه فيما بينه وبين نفسه، كما تهدف إلى إصلاح كل طبقات المجتمع، والرفع من شأنها، والدفع بها في ميدان العمل الصالح، ليصبح المجتمع الإسلامي مجتمعا مثاليا، حتى يتحقق فيه، وينطبق عليه، ما أراده الله لهذه الأمة من أن تكون خير أمة أخرجت للناس {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (2)
فداخل المسجد يتربى المسلم على تطهير نفسه، وتصحيح عقيدته، والقرب من ربه، ومراقبته في سره وعلانيته، وفي داخل المسجد وبين صفوفه، يتربى المؤمن على الاتصال بإخوانه المؤمنين، وتقوية صفوفهم، والشعور بآلامهم، والاهتمام بجميع شئونهم، وفي داخل المسجد يشعر المؤمن بقوته جانب إخوانه، ويحس بالرسالة التي طوق بأدائها، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله بالحسنى والحكمة.
وداخل المسجد تتربى روح الأخوة والألفة والمحبة بين المؤمنين، فيعيشون عالمهم المثالي الخالي من التنافسات، والتطاحنات، وحروب الطبقات.
وفي المسجد يشعر المؤمن بكرامته التي كرمه الله بها، وأنه متساو في الحقوق والواجبات، مع جميع الذين يجلسون بجانبه، سواء كانوا حكاما أو محكومين، أغنياء أو فقراء، جهالا أو علماء، فهو واحد من كل، ولا ميزة لأي واحد إلا بالتقوى.
وفي المسجد يجتمع المسلمون للتداول في شئونهم، والنهوض بحياتهم والاستماع إلى التوجيهات والتخطيطات التي يخططونها، للذود عن حوضهم، وصيانة عقيدتهم، والحفاظ على مقدساتهم.
ومن المسجد تنطلق الدعوة إلى الله صارخة هادفة موضحة مبينة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (3) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} (5) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6) {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (7)
وفقنا الله للعمل الصالح وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، آمين.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1652) ، صحيح مسلم صلاة العيدين (890) ، سنن الترمذي الجمعة (539) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1558) ، سنن أبو داود الصلاة (1139) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1307) ، مسند أحمد بن حنبل (5/84) ، سنن الدارمي الصلاة (1609) .
(2) سورة آل عمران الآية 110
(3) سورة الأنفال الآية 24
(4) سورة الحج الآية 77
(5) سورة الحج الآية 78
(6) سورة الجمعة الآية 9
(7) سورة الجمعة الآية 10(2/511)
أحمد شلبي (1)
رسالة المسجد في العالم عبر التاريخ
" وعندما نؤسس معهدا للدعوة. .
هناك سؤال مهم: كيف نختار طلاب هذا المعهد؟
أرى أن نختار طلابه من بين الحاصلين على درجات جامعية بتقدير جيد على الأقل من كليات تعنى بالدراسات الإسلامية، وبامتحان يثبت فيه الطالب طلاقة لسانه، وإجادة الحوار، وعمق الإيمان بالفكرة، ومعرفة لغة أجنبية واحدة على الأقل، وتقدم للطالب منح مجزية طيلة دراسته التي تستمر سنتين ويمنح الناجح شهادة تعادل الماجستير ".
كان المسجد أول المنشآت التي عني بها المسلمون، فإن المسلمين بعد أن أبعدوا عن مكة وحرموا الالتقاء والعبادة في البيت الحرام فكروا سريعا في أن يعتاضوا به مكانا آخر ولذلك نجد الرسول
__________
(1) د. أحمد شلبي: من علماء الأزهر.(2/512)
-صلوات الله عليه- وهو في طريقه إلى المدينة مهاجرا أقام بقباء بضعة أيام أسس فيها مسجد قباء، وهو أول مسجد بني في الإسلام ويقال إن فيه نزلت الآية الكريمة {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} (1) .
ويروي البلاذري (2) أن هذا المسجد أسسه الذين هاجروا إلى المدينة قبل رسول الله، ثم إن الرسول لما دخل المدينة بنى مسجده بالمربد، وعمل فيه بنفسه ليشجع المهاجرين والأنصار على النشاط في العمل (3) ، ويروي البلاذري وابن هشام روايات أخرى تفيد أن الآية السابقة نزلت في هذا المسجد لا في مسجد قباء، وكانت تعقد حلقات العلم في مسجد قباء (4) كما كان من عادة الرسول أن يجلس في مسجده بالمدينة ليعلم أصحابه دينهم (5) .
وكثرت بعد ذلك المساجد وزاد انتشارها بتوسع الإسلام، وأصبح من المتبع أن يبنى مسجد أو أكثر في كل مكان فتحه المسلمون أو في كل قرية أو مدينة أسسوها، فلقد روي أن عمر لما فتح البلدان كتب إلى أبي موسى وهو على البصرة يأمره أن يتخذ مسجدا للجماعة، ويتخذ للقبائل مساجد، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة. وكتب إلى سعد بن أبي وقاص وهو على الكوفة بمثل ذلك، وكتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر بمثل ذلك (6) وأسوة برسول الله -صلوات الله عليه- الذي كان يجلس بالمسجد معلما ارتبط تاريخ التربية الإسلامية بالمسجد ارتباطا وثيقا، وجلس بالمساجد خير العلماء يقدمون الفكر الإسلامي للمريدين ولطلاب المعرفة، ومما يدلنا على أن التدريس بالمسجد كان يحتل مكانة سامية في نفوس العلماء أن الخطيب البغدادي لما حج شرب من ماء زمزم وسأل الله أن يحقق له ثلاث حاجات، كان من بينها أن يتاح له أن يملي الحديث بجامع المنصور (7) .
وفي مسجد المنصور أيضا أملى أبو عمر الزاهد كتابه الياقوت وقد بدأ يحاضر في موضوع ذلك الكتاب في شهر المحرم سنة 326 هـ. ولما أتمه استعاد قراءته فهذبه وزاد عليه (8) .
وكان للخطيب البغدادي في جامع دمشق حلقة كبيرة وكان الناس يجتمعون إليه في بكرة كل يوم فيقرأ لهم وكان إذا قرأ الحديث في جامع دمشق سمع صوته في آخر الجامع.
__________
(1) سورة التوبة الآية 108
(2) فتوح البلدان: 17.
(3) ابن هشام 2: 12. الطبري 1: 3: 259. البلاذري وفتوح البلدان: ص 171.
(4) الإحياء 1: 52.
(5) البخاري: باب الصلاة.
(6) الخطاط 2: 246 وحسن المحاضرة 2: 149.
(7) ياقوت: معجم الأدباء 1: 246.
(8) الفهرست ص 113.(2/513)
ولما وفد محمد بن جرير الطبري على مصر بان فضله في القرآن والفقه والحديث واللغة والنحو والشعر، فلقيه أبو الحسن بن سراج فوجده فاضلا في كل ما يذاكره به من العلم ويجيب في كل ما يسأل عنه، حتى سأله عن الشعر فرآه فاضلا بارعا فيه فسأله عن شعر الطرماح فإذا به يحفظه، فسئل أن يمليه فاستجاب وجلس بجامع عمرو لإملائه (1) .
ودرس في المساجد الطب والميقات، يروي السيوطي (2) أن دروسا مختلفة رتبت في الجامع الطولوني وقد شملت التفسير والحديث والفقه على المذاهب الأربعة والقراءات والطب والميقات، ويقول عبد اللطيف البغدادي إن درسا في الطب كان يلقى في الأزهر في منتصف النهار من كل يوم (3) .
ولم تكن المساجد مكانا للعبادة والعلم فحسب بل كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يستقبل فيها السفراء، وكانت أمكنة تعقد فيها مجالس القضاء، وساحات تجتمع فيها الجيوش قبل أن تندفع نحو هدفها، وفي غزوة الأحزاب كان مسجد المدينة مستشفى يعالج فيه الجرحى والمصابون في المعارك فقد أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن تقام بالمسجد خيمة تخصص لجرحى المعركة، وعين لعلاج الجرحى من لهم خبرة بالطب، ويقول ابن حجر: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك ليكون من السهل عليه أن يعود الجرحى من حين إلى آخر، وهو يدير المعركة (4) .
من أجل هذا نريد أن نهتدي بمسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونحن نفكر في مساجد العصر الحاضر نريد أن يكون مسجد اليوم " مجمعا " به مكان للعبادة، وبه مكتبة إسلامية وثقافية، وبه قاعة للمحاضرات والاجتماعات، وبه استعداد للإسعافات الصحية السريعة، وحوله مكان للشبان يمارسون به أحيانا بعض الرياضات المباحة حتى إذا أذن المؤذن للصلاة هرعوا إليها، ونريد أن يكون بكل مسجد مكان مخصص للنساء يصلين به ويتدارسن فيه شئونهن، ونحن بهذا نخلق مركزا دينيا سيكون واسع الأثر في خدمة الإسلام والمسلمين كما كان مسجد الصدر الأول للإسلام.
ونريد كذلك أن نهتدي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبجماعات الصدر الإسلامي الأول فنجعل بناء
__________
(1) ياقوت: معجم الأدباء 6: 432.
(2) الأصفهاني: محاضرات الأدباء 1: 20.
(3) ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 2: 207.
(4) الإصابة: ترجمة سعد بن معاذ.(2/514)
المسجد جزءا رئيسيا في كل مدينة أو عمارة تمتد أو قرية تنشأ، وبلغة أخرى أن يوجد المسجد في أي تجمع يضم جماعة من المسلمين، ليكون بيت الله منارة بينهم، ومكانا يلتقون فيه للعبادة ولكل الأغراض التي أوردناها.(2/515)
إعداد الأئمة والدعاة
نحب أن نقول بدقة أن العالم العربي والإسلامي به مئات المعاهد والكليات لأنواع من الدراسات الإسلامية وغيرها. . ولكن ليس به معهد واحد ذو بال لتخريج الدعاة والأئمة، ولو اتخذنا مصر مثالا لنا نجد أنه ليس بمصر معهد واحد للدعوة ضمن مئات المعاهد والكليات في جامعاتنا، حتى الأزهر الذي حمل عبء الثقافة الإسلامية طيلة ألف عام والذي يشمل عددا كبيرا من المعاهد النظرية والعملية لا يوجد به معهد للدعوة اللهم إلا قسم صغير بكلية أصول الدين يعرض الطلاب عنه، أو يكرهون على الالتحاق به، وعندما يتخرجون يفرون من الاشتغال بنشر الدعوة الإسلامية، لأنهم في الحقيقة غير مؤهلين لذلك أو غير راغبين فيه.
ونحب أن نوضح أن هناك فرقا كبيرا بين المدرس والداعية، وأن المسجد في حاجة إلى داعية، والبلاد الأجنبية في قلب أفريقية وفي جنوب شرقي آسيا تحتاج للدعاة أكثر من حاجتها للمدرسين. فالمدرسون يبدأ عملهم بعد نجاح الدعاة، فإذا قدم الداعية الإسلام للضال واستطاع أن يجذبه لحوزة الإسلام، بدأ بعد ذلك عمل المدرسين ليعلموا هذا المسلم كيف يصلي، وكيف يصوم وكيف يؤدي مبادئ الإسلام ويلتزم بتوجيهاته. أما الداعية فيعرف علوم المدرس معرفة تامة من فقه وتفسير وحديث وغيرها من العلوم الإسلامية ولكن ينبغي أن يضيف لها الدعوة وهي بالإجمال:
إجادة لغة من اللغات العالمية على الأقل، ثم معرفة لغة القوم الذين سيقدم لهم الإسلام ويدعوهم إليه، ويمكن أن تكون معرفة الداعي بهذه اللغة معرفة محدودة؛ لأن حياة الداعية بين القوم ستجعله يطور معرفته بهذه اللغة بسرعة.
هناك صفات شخصية يتحتم أن تكون بارزة في الداعية وفي قمتها: الإيمان العميق بالعمل الذي يزاوله، وإحساس أنه يريد أن يعطي من فكره وجهده لخدمة دينه ووطنه، ثم وضوح الفكرة وطلاقة اللسان وإجادة الحوار والمناظرة، ثم سماحة النفس واتساع الأفق وحسن العشرة، ثم الكرم وسمو الخلق والتطور الفكري وسعة الاطلاع، وقبل هذا وبعده: أن يكون قدوة حسنة للناس، وأن يجعل الآية الكريمة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (1) نبراسا له وضوءا يهتدي به.
__________
(1) سورة النحل الآية 125(2/515)
الدراسة العميقة لعلم مقارنة الأديان ودراسة مقارنة الأديان، ستضع أيدينا على جمال الإسلام وعلى الدور الذي يحمله ليكمل به محاولات الأديان لهداية البشر، وسيستفيد الداعية من مقارنة الأديان في مواجهة المبشرين بالمسيحية أو البوذية، فهؤلاء يعرفون الإسلام ويتلمسون ما يعتقدونه نقاط ضعف فيه ليهاجموه عن طريقها، كتعدد الزوجات والطلاق وانتشار الإسلام بالقوة، ولا يجوز أن يقف الداعية موقف المدافع فقط بل يجب أن يعرف كيف يهاجم أحيانا، ولن يكون ذلك إلا إذا تعرف على هذه الأديان ودرسها وأدرك ما حدث بها من تحريف على مر السنين.
الدراسة العميقة للحضارة الإسلامية بنوعيها، أي دراسة الحضارة التجريبية وهي إبراز دور الإسلام في العلوم التي كانت موجودة قبل الإسلام. . كترقية العمران وتطوير ما عرفه الناس في جوانب الفكر البشري من طب ورياضة وفلك وغيرها، ثم دراسة الحضارة الإسلامية الأصيلة التي جاء بها الإسلام ولم تكن معروفة قبل الإسلام، كاتجاهات الإسلام في السياسة والاقتصاد وفي المجال التربوي والاجتماعي والعسكري. تلك الجوانب الحضارية التي تعد منحة الإسلام لهداية البشرية.
التعرف التام على تاريخ المسلمين منذ مطلع الإسلام حتى الآن في كل البلاد الإسلامية مع تصحيح ما ازدحم به التاريخ الإسلامي من أخطاء.
وعندما نؤسس معهدا للدعوة ستكون مهمته أن يخرج الأئمة لمساجد العالم الإسلامي، ويخرج الدعاة الذين يحملون الإسلام إلى مختلف المناطق، ويقدمونه للملايين التي تتطلع إليه في مختلف الأرجاء. وهناك سؤال مهم هو: كيف نختار طلاب هذا المعهد؟
وفي الإجابة عن هذا السؤال، تختلف الاتجاهات، ولكن أقربها للصواب فيما أرى: أن نختار لهذا المعهد طلابه من بين الحاصلين على درجات جامعية بتقدير جيد على الأقل من كليات تعنى بالدراسات الإسلامية، ويكون اختيارهم من بين هؤلاء بامتحان يثبت فيه الطالب طلاقة اللسان، وإجادة الحوار، وعمق الإيمان بالفكرة، ومعرفة لغة أجنبية واحدة على الأقل، وتقدم للطلاب منح مجزية طيلة دراستهم التي تستمر سنتين، ويمنح الناجح في الامتحان بعد هاتين السنتين شهادة تعادل درجة الماجستير، بعد أن يدرس منهاجا يشمل الدراسات التي قدمناها وسواها مما يراه الخبراء والمتخصصون ضروريا لمثل هذه الحالة.
إن كل جهد يبذل لخدمة المسجد ورفع شأنه وتطويره، وكل جهد يبذل لتقديم الداعية الناجح. . . سيكون جهدا نافعا في الدنيا والآخرة.
والله ولي التوفيق. . .(2/516)
رسالة المسجد في الماضي والحاضر
ضياء الدين بابا خانوف (1)
" أقدم لكم. . تحيات عشرات الملايين من المسلمين في الاتحاد السوفييتي. .! الذين يكنون مشاعر الحب والإخاء نحو إخوتهم في الدين ونحو إخوتهم في الأراضي المقدسة. . . ".
وأقول " إن العلماء الفطاحل والمحدثين العظام من أمثال أبي عبد الله محمد بن إسماعيل " البخاري "، وأحمد بن شعيب النسائي صاحب السنن، والإمام أبي بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال " الشاشي ". . . وأبي عبد الرحمن الدارمي " السمرقندي " صاحب المسند، وأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، والعالم الموسوعي أبو الريحان البيروني " الخوارزمي ". . قد تلقوا دروسهم الأولية في المساجد. . ". . . .
" وقد كانت المساجد بسمرقند مثل: طلا كاري، المدرسة الرئيسية في تعليم القرآن. . والمسجد الجامع في طشقند. . وقد كان المركز الرئيسي في تدريس علوم الحديث. . ".
__________
(1) سماحة الشيخ ضياء الدين بابا خانوف: رئيس الإدارة الدينية لمسلمي آسيا الوسطى وقازاقستان.(2/517)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبي الهدى محمد وآله وصحبه أجمعين.
أيها الرئيس المحترم وأيها الوفود العظام. . .
قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (1) {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (2) وحينما نقف في رحاب هذا البيت العتيق المقدس علينا أن نكرر شكرنا الوافر لله -سبحانه وتعالى- الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس وقال الله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} (3) وقال أيضا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} (4) الآية، وقال الرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلم-: «لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (5) » (رواه البخاري ومسلم) .
وإننا لنشعر بسعادة عظيمة حيث نحضر هذا المؤتمر العظيم المبارك في هذه البقعة المباركة التي تولى إليها وجوه الأمة الإسلامية في كل أنحاء العالم.
وأنتهز هذه الفرصة فأقدم لكم، أيها السادة، تحيات عشرات الملايين من المسلمين في الاتحاد السوفييتي، الذين يكنون مشاعر الحب والإخاء نحو إخوتهم في الدين عامة، ونحو إخوتهم في الأراضي المقدسة خاصة.
وبودي كذلك أن نبتهل إلى الله العلي القدير أن يؤيد جلالة الملك المعظم خالد بن عبد العزيز -حفظه الله تعالى-، وأشكر جلالته على إقامة هذا المؤتمر المبجل الشأن، وأشكر كذلك السادة رؤساء رابطة العالم الإسلامي الموقرين، الذين أعدوا المؤتمر على أحسن حال وأعظم مكان، وحققوا أعمالا واسعة النطاق في إجراءاته اللازمة.
ونحن قد اجتمعنا هنا في البقعة المقدسة، كي نناقش المشاكل الملحة المتعلقة بحياة وأعمال المسلمين في الأقطار المختلفة، قال الله -سبحانه وتعالى- في القرآن المبين: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (6) (1- 144) وإن المسلمين في المعمورة يولون وجوههم شطر المسجد الحرام الذي ارتضى به الرسول الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم - قبلة.
أيها العلماء العظام:
إننا نعرف جيدا أن المساجد هي في الواقع مراكز للحياة الدينية وهي مواقع إشعاع الفكر الإسلامي
__________
(1) سورة آل عمران الآية 96
(2) سورة آل عمران الآية 97
(3) سورة التوبة الآية 108
(4) سورة الإسراء الآية 1
(5) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/278) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(6) سورة الشورى الآية 38(2/518)
والدعوة الإلهية، وهي بيت الله تعالى الذي تنفرد العبادة إليه ونبتهل إلى ذاته العلية، ونعرف أيضا أن المساجد لعبت دور بيوت التعليم والتدريس، وأن جميع مراحل التعليم كانت تجري بين جدران المساجد، ومدة قرون أدت المساجد رسالتها في حقل نشر نور العلم والمعرفة وتركت آثارا عميقة في الثقافة الإسلامية. وإن العلماء الفطاحل والمحدثين العظام من أمثال أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وأحمد بن شعيب النسائي صاحب السنن، والإمام أبي بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الشاشي الفقيه، وأبي عيسى الترمذي صاحب الجامع الصحيح، وأبي عبد الرحمن الدارمي السمرقندي صاحب المسند، وأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، والعالم الموسوعي أبو الريحان البيروني الخوارزمي، وكثيرين غيرهم قد تلقوا دروسهم الأولية في المساجد وتخرجت من المساجد أجيال كثيرة من العلماء في العلوم الإسلامية الذين يعتز بأسمائهم الكريمة العالم الإسلامي وتنير آثارهم العلمية الطريق أمام المسلمين في كل بقعة من الأرض.
إن التاريخ حافل بالأحداث حيث كانت مساجد ما وراء النهر بمثابة مدارس للعلماء العظام، وإن الإمام البخاري بعد عودته إلى مسقط رأسه بخارى ألقى دروسه في الحديث في الجامع الذي بناه بمال الإسلام، وكانت المساجد بسمرقند مثل: طلا كاري، المدرسة الرئيسية في تعليم القرآن الكريم. وأما المسجد الجامع في طشقند الذي بناه عبيد الله خواجه أمراء خليفة بهاء الدين نقشبندي كان المركز الرئيسي في تدريس علوم الحديث، على صاحبه أفضل الصلوات والتسليم.
وأما الآن في ظروف بلاد الاتحاد السوفييتي حيث ألقيت الأمور الدينية كلية على كاهل العلماء أنفسهم والدين انفصل عن الحكومة زادت مهمات المساجد وعظمت رسالتها واشتدت المسئولية على أهلها، وصارت المساجد ليست معابد فحسب، بل أصبحت مراكز دينية ثقافية حيث ينهل المسلم الغذاء الروحي من مناهلها ويتلقى الشبان التهذيب الديني ويجدون جوابات مقنعة على أسئلتهم الدينية اليومية في المساجد ما عدا معهدي بخارى وطشقند.
أيها العلماء الكرام:
قال الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (1) وقال الرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلم-: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان» نعم في الحقيقة أن المسلمين في بلاد الاتحاد السوفييتي، يعظمون المساجد في نفوسهم أيما تعظيم، وأن كل فرد
__________
(1) سورة التوبة الآية 18(2/519)
من المؤمنين يجتهد بكل جهده لكي يعمر المساجد ويهتم في نظافتها وطهارتها.
والمسلمون في ما وراء النهر لا يزالون يتبعون تقاليد طيبة في هذا الباب، وهم يقدمون كل ما لديهم من البر والإحسان، حتى الزكاة وصدقة الفطر إلى مساجدهم، ومهتمون في اختيار العلماء الصالحين والأتقياء لوظائف الإمامة، ففي معظم الحالات يعينون لوظائف الإمامة والخطابة العلماء الشبان الذين يزدادون في المساجد خبرة وحنكة ويعدون أنفسهم للوظائف الدينية الرفيعة، وإن كثيرين من موظفي الإدارات الدينية بعد تخرجهم من المعهد والمدرسة كانوا قد عينوا أئمة في المساجد، واجتازوا فيها فترة التمرين ومزاولة الأعمال الدينية، هكذا صارت المساجد كما كانت مدارس لإعداد جيل جديد من العلماء والفقهاء.
وقال الله -سبحانه وتعالى- في القرآن الكريم: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (1) (7- 31) وإني أعتقد أن علينا أن نفهم معنى هذه الآية الكريمة، ليس معناها الواضح فحسب وبل معناها الخفي أيضا. فاتخاذ الزينة عند كل مسجد فحواه أن يكون الإنسان جميلا بقلبه وخالصا في نيته ومخلصا في عقيدته للإسلام، والمودة والأخوة بين المسلمين. ففي ذلك تتجلى بكل وضوح الحكمة الإلهية النيرة التي ظهرت في الآية الأخرى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (2) (7 - 29) .
أيها الإخوة الكرام: يسرني أن أبشركم أن في كل جمعة وكل صلوات العيدين في بلادنا مرشدين من الإدارة: يرشدون الناس بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية إلى مكارم الأخلاق وسبل التقوى، ويوجهونهم إلى طاعة الله تعالى، والمودة والإخاء مع الناس والعمل الجاد المثمر لخير الأمة الإسلامية والإنسانية. وإن الآلاف المؤلفة من المسلمين في الأيام المباركة في رمضان الشريف يتلهفون إلى سماع كلمة العلماء الدينية، والمعرفة التي يحصلون عليها في المساجد ينقلونها إلى بيوتهم وإلى قلوب الجيل الصاعد بكل عزم وصدق.
ومن المؤكد أن المسلم يهمه في هذا العصر أمور كثيرة: ومن بينها: الأمور التي لا تتعلق به ومسلمي بلادنا فقط، فإنه ترقى في سلم العلوم وتثقف ثقافة ملحوظة ويعيش في رفاهية ولديه الإمكانيات الواسعة لمطالعة الكتب والجرائد والمجلات بلغته الأم، وهو مطلع على الأحداث الجارية في البلد وفي العالم، ويهمه كذلك مشاكل التطور الاجتماعي والعلمي والتكنيكي في العالم ومعضلات الحفاظ على السلام وأمن الشعوب، وهو يهتم في أمر ازدهار شعوب البلاد النامية لكي يضمن لها إمكانيات التطور الذاتي، ويقلق باله ويثير غضبه الأعمال الإجرامية التي تتبعها الصهاينة والإمبريالية تجاه إخوته العرب، والشعوب الأخرى المتحررة. وهذه الأمور كلها تلقي المسئولية على المساجد وعلى الدعاة المسلمين والوعاظ.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 31
(2) سورة الأعراف الآية 29(2/520)
ومن إحدى شروط أداء المسجد رسالته بشكل أصح وأكمل: هو سعة معرفة الأئمة والخطباء والوعاظ الذين يقدمون خدماتهم للمسجد والمصلين، وإن نجاح المسجد في أداء رسالته يتعلق كلية بمستوى الإمام العلمي والخطيب اللذين يلقيان المواعظ الدينية في مختلف المواضيع والفروع الدينية. وعلى خدمة المساجد أن يكونوا على اتصال دائم مع الأحداث الجارية في كل بلدة على حدة، وكذلك في العالم الإسلامي، وعلى الأئمة والخطباء أن يعظوا بروح العصر ويوافق ما يقولون ومستوى المسلمين العلمي. ففي هذه الحالة فقط فإن المسلم الجالس في المسجد يفهم الإمام ويصدق كلامه وحينئذ يحق على الإمام أن يعتقد أنه ساعد في ترسيخ قواعد الدين الإسلامي في بلده، وبالتالي أداء رسالته بشكل أكمل.
هذا وإن المراكز الإسلامية في بلادنا قد حققت في السنوات الأخيرة شوطا كبيرا من الأعمال المفيدة في خصوص توسيع مجال الدعوة، وقد حققنا نشر القرآن الكريم، كما طبعنا كتاب الأدب المفرد والجامع الصحيح للإمام البخاري، ونشرنا كتاب تاريخ المصحف العثماني المحفوظ في طشقند، وأصدرنا عشرات من الفتاوى الدينية حول حل المشاكل في الفروع التي أحدثتها طبيعة الحياة، وإن مجلة " المسلمون في الشرق السوفييتي " تنشر على صفحاتها بحوثا في توضيح المسائل الفقهية والاجتماعية، ويجد المسلم في المجلة كل الأعمال والتجارب المفيدة الجارية في مختلف مناطق البلاد.
ومن دوافع سرورنا في هذه الأيام أننا الآن على وشك تحقيق نشر القرآن الكريم بحجمين: كبير وصغير بعدد كثير، وكذلك عدة كتب دينية أخرى توزع كلها مجانا.
وتساعد في رفع مستوى النشاط الديني والعلمي والاجتماعي للمساجد وأهلها الاجتماعات والمؤتمرات العلمية الدينية، ففي بعض منها قد اشترك ضيوف من الدول الخارجية، ففي ظرف خمس سنوات أخيرة قد انعقد في طشقند وسمرقند ثلاثة اجتماعات دينية كبيرة، والعلماء الحاضرون في هذا الجمع الحافل المبارك سيتحدثون عن مقدار نجاح المؤتمر الذي جرى في سمرقند بمناسبة مرور اثني عشر قرنا من ميلاد إمام المحدثين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله-.
وإن البحوث والخطب التي ألقاها العلماء المسلمون في المؤتمر من 26 بلد عربي وإسلامي، وكذلك من جميع أنحاء الاتحاد السوفييتي قد ناقشوا بكل عمق وتفكير وحيوية مشاكل تاريخية وعصرية في ضوء تعاليم الدين الحنيف.
ونحن إن شاء الله سوف ننشر بحوث هذا المؤتمر الجليل في مجموعة خاصة كي يستفيد بها الأئمة والخطباء ويستنبطوا منها ما يفيدهم من الأدلة والبراهين الساطعة في أداء رسالة المسجد بشكل أحسن.
وقد ساعدنا في ذلك المجال أيضا المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في بغداد ومؤتمرات مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، وكذلك تبادل الوفود مع الدول الإسلامية.(2/521)
وإن الطلبة في المعهدين الدينيين في بخارى وطشقند إلى جانب المواد الدينية يتلقون كذلك دروسا في المواد العصرية كي يكون المتخرجون علماء قديرين لمواجهة المشاكل الجديدة الاجتماعية.
ولكن على الإدارة الدينية أن تحقق أشياء كثيرة لكي ترفع من مستوى المتخرجين العلمي في معهدينا، وعلى ذلك فإني أنتهز الفرصة الكريمة ومن على هذا المنبر أكرر شكري الأخوي الصادق وشكر مسلمي الاتحاد السوفييتي للمسئولين والعلماء الكرام في البلاد العربية والإسلامية الذين تصدوا لحاجاتنا وساعدونا لنكون في عداد كوادر العلماء المسلمين ذوي المؤهلات العالية. ودرس طلبتنا ولا يزالون يدرسون في الجامع الأزهر في القاهرة، وفي كلية الشريعة بجامعة القرويين في المغرب، وكلية الشريعة جامعة دمشق، وفي كلية الشريعة في بيضاء بليبيا، وإذ أكرر شكري مرة أخرى للمسئولين في هذه الجامعات الإسلامية أود أن أؤكد بأننا الآن نستعد لإرسال فوج من الطلبة إلى الجامعات الأخرى أيضا، كما يعلق المسلمون في بلادنا آمالا في أن أبناءهم سوف يتشرفون لتلقي علومهم في مهبط الوحي ومشعل النور في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة على صاحبها الصلاة والسلام.
إن مساجدنا تحقق كثيرا من الأعمال في تهذيب المسلمين تهذيبا دينيا، ورفع مستواهم العلمي وفي زرع مبادئ التقوى في قلوبهم، وفي إنماء روح المحبة للوطن في صدورهم، وإذا كانت بلاد ما وراء النهر قد حققت منجزات واسعة النطاق في حقول الاقتصاد والعلوم والتكنيك وغيرها، وكذلك في إقامة صلات أخوية مع الشعوب، وفي الحفاظ على السلام وفي الكفاح ضد إسرائيل، ففي هذه كلها أودع بقسطهم الوافر إخوتكم المسلمون كما أودعت فيه نصيبها المساجد الواقعة في جميع أنحاء الاتحاد السوفييتي. إلا أن هذا كله لا يعني أننا لا نشعر بقصور في أعمالنا، بل إننا نحتاج إلى تقوية شئون المساجد، ونتوجه إلى هذا المؤتمر الكريم الذي سوف يرفع شئون المساجد إلى درجة أكبر ويخلق دوافع جديدة لتحسين أمورها.
أيها الوفود الكرام من الدول الإسلامية:
إن الهدف الرئيسي من هذا الاجتماع الحافل هو تحسين وتنشيط رسالة المسجد التي جمعتنا في هذا المكان المقدس. وإني لا أشك في أن المشتركين لا يدخرون شيئا ولا يألون جهدا في أن تكلل أعمال المؤتمر بالنجاح التام، وتحقق أهدافه جميعها برعاية الله تعالى. وإني آمل أن المؤتمر سوف يصدر قرارات وتوصيات هامة لخير المسلمين في العالم.
وإن هذه القرارات سوف تستخدم لتقوية الصلات بين المسلمين في بلاد العالم وإقامة المودة والمحبة فيما بينهم.
وفي الختام، أبتهل إلى الله العلي القدير أن يوفقنا في أعمالنا، وأن يمنح العناية والرعاية لهذا الجمع المبارك الساعي إلى الخير وشكرا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . .(2/522)
سليمان دنيا (1)
رسالة المسجد في الماضي والحاضر
لقد تخرجت في الأزهر وعملت به أستاذا زمانا طويلا، وعاصرت أنواعا من التغيرات والنظم التي تواردت عليه، وعملت أستاذا بجامعة القرويين بالمغرب ثلاث سنوات ومثلها في جامعة أم درمان الإسلامية بالسودان.
وقد تأكدت من خلال هذه التجربة الطويلة أن منشأ ضعف طلاب الجامعة الدينية الذي نشكو آثاره، داخل المسجد وخارج المسجد، هو البرامج الدراسية، التي هي خليط غير متسق من عناصر شتى، وما يتصل بها من دراسات في مذكرات موضوعة على عجل، استغني بها عن المراجع الأصلية، فانقطعت صلة الطلاب بهذه المراجع، وأصبحوا عاجزين عن الاستفادة منها، وامتحانات يعوزها الجدية والدقة والضبط.
__________
(1) الدكتور سليمان دنيا من علماء الأزهر.(2/523)
كان المسجد أيام السلف الصالح، مكان النشاط الديني والفكري، كانت تعقد فيه حلقات الدروس، وكان العلماء يلتقون فيه بطلابهم، وبالجمهور؛ ليعطوا كلا منهم ما هو بحاجة إليه.
وكان العلماء يفعلون ذلك في الغالب، حسبة لوجه الله، فكان عملهم خالصا لوجهه، وكان الناس يمنحونهم ثقتهم التامة، فيأخذون عنهم ما يقولون، ويقتدون بهم فيما يفعلون، لذلك تبوأ المسلمون في هذا العهد مكانتهم اللائقة بهم كمسلمين عرفوا الطريق الصحيح إلى الله، فسلكوه فرضي الله عنهم وأيدهم بنصر من عنده.
لكنا إذا نظرنا إلى المسجد الآن وجدنا به إماما ومأمومين، ولم نجد حلقات الدروس التي ما كانت تتوقف في وقت من ليل أو نهار. ومعنى ذلك أن المسجد لم يعد يصنع الإمام، بل تصنعه له الجامعة التي أريد لها أن تقوم بدور المسجد في التدريس والبحث والتأليف.
ولكن الجامعة التي خلفت المسجد لم تلبث أن وجدت نفسها محاطة بجامعات أخرى، أوجدتها الرغبة في التعرف على أسرار الكون ونظامه.
ولا شك أنه لا تعارض بين هذه الجامعات التي تقوم بدور التعمق في فهم أسرار الكون ونظامه للانتفاع بخيراته وتوقي أخطاره، وبين الجامعات الدينية التي تتعرف على خالق الكون وواضع نظامه، من خلال رسالاته إلى رسله وأنبيائه، التي تعلم في هذا المجال ما لا يستطيع العقل البشري أن يستقل بإدراكه بانفراده.
نعم. . . لا تعارض بين هذه الجامعات وتلك، فلكل مهمتها، والمهمتان متآخيتان متعاونتان، ما دامت الوسائل سليمة والمقاصد مستقيمة.
لكن هذا ليس يعني أن نخلط بينهما، أو في تعبير أدق، ذلك ليس يعني أن تطمع الجامعة الدينية أن تدخل في نطاق نشاطها موضوعات مما هو من اختصاص الجامعات الدنيوية، لا تقوى على الاضطلاع بها مع علوم الدين طاقة أبنائها. فإن نتيجة ذلك أن لا يحسن الطلاب العلم بهذا ولا العلم بذلك، كما هو الحال الآن.
وفي مثل هذه الظروف القلقة غير المستقرة التي تعيشها الجامعات الدينية الآن، يتخرج الإمام، وكما فقدت الجامعات الدينية كثيرا من خصائص المسجد، فقد الإمام كثيرا من خصائص من كان يتخرج من المسجد. وكان من نتيجة ذلك أننا وجدنا أنفسنا بخصوص المسجد والإمام أمام مشكلة تتطلب الحل.
وإذا قصرنا أنفسنا على النظر في المسجد والإمام، لم نجد الحل السريع ولا الحل الصحيح، لأن نظرتنا يجب أن تتسع فتشمل الجامعة التي فيها يتخرج الإمام.(2/524)
لقد تخرجت في الأزهر وعملت به أستاذا زمانا طويلا، وعاصرت أنواعا من التغييرات والنظم التي تواردت عليه، وعرفت الفرق بين نظام ونظام، وعملت أستاذا بجامعة القرويين بالمغرب ثلاث سنوات، ومثلها في جامعة أم درمان الإسلامية بالسودان.
وقد تأكدت من خلال هذه التجربة الطويلة، أن منشأ ضعف طلاب الجامعة الدينية الذي نشكو آثاره، داخل المسجد وخارج المسجد، هو البرامج الدراسية، التي هي خلط غير متسق من عناصر شتى، وما يتصل بها من دراسات في مذكرات موضوعة على عجل، استغني بها عن المراجع الأصلية، فانقطعت صلة الطلاب بهذه المراجع، وأصبحوا عاجزين عن الاستفادة منها، وامتحانات يعوزها الجدية والدقة والضبط.
وأضرب هنا مثلا واحدا بسيطا من أمثلة عدة للخلط في البرامج، إنه قد أصبح من المتعارف عليه في الجامعات الدينية، أن يدرس الطلاب لغة أو أكثر من اللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية، وتعطى هذه اللغة من الوقت بعض ما كان مخصصا للغة العربية من قبل، فيضيق الوقت والجهد عن استيعابها جميعا وتكون النتيجة أن لا يحسن الطالب لا هذه ولا تلك، فانحط مستوى الطلاب في اللغة العربية إلى حد يؤذن بقرب ضياعها، إن لم نتدارك الأمر بسرعة وحزم.
إني أؤمن بأنه لا يضير طالب الجامعة الدينية أن يجهل اللغة الأجنبية ما دام سيعهد إليه بعمل لا يتوقف نجاحه فيه على العلم بها، ويضيره كل الضير أن يكون ضعيفا في اللغة العربية التي هي قوام حياته كطالب وعالم وباحث ومؤلف، في مجال القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وكتب الأئمة وعلماء هذه الأمة.
إن نسبة ضئيلة من المتخرجين هي التي تباشر العمل في مجال يتطلب العلم بلغة أجنبية، فينبغي أن يقتصر تعليم اللغة الأجنبية على هذه النسبة. أما أن يفرض تعليمها على الجميع، من سيكون بحاجة إليها، ومن لا يكون، مع أداء ذلك إلى الجهل باللغة العربية، أداء إذا استمر أفضى إلى زوالها وطمس معالمها، وفي زوال اللغة العربية وطمس معالمها زوال الدين وطمس معالمه، وذلك هو الكارثة التي نسأل الله أن يقينا شرها.
والمغزى الأساسي من هذه الكلمات هو الإشارة إلى علاقة المسجد بالجامعة، وأن محاولة إصلاحه منفصلا عنها محاولة صعبة قد لا تأتي بالنتيجة المرجوة.
وما أظنني هنا بحاجة إلى أن أذكر ما قرره بعض ذوي البصر بالأحداث الجارية في العالم الإسلامي، مع أن الخلط في برامج الجامعات الدينية بهذه الصورة المشوهة، التي أدت إلى إضعاف ملكة الطلاب الدينية سياسة أجنبية، نجد لها أعوانا داخل البلاد الإسلامية، يهيئون الفرصة لتطبيقها وتنفيذها.
لقد آن الأوان إلى أن يتواصى المسلمون بالعودة ببرامج الجامعات الدينية، إلى الأصل الذي تخرج عليه علماء يشار إليهم بالبنان، ملئوا الدنيا بآثارهم الطيبة، علما وعملا، وإنا في هذه الظروف الحرجة التي يحياها العالم الإسلامي، لفي أشد الحاجة إلى كثير من أمثالهم ليأخذوا بيد الأمة الإسلامية إلى طريق الفلاح والرشاد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . .(2/525)
طفيل محمد (1)
المسجد ومكانته في الإسلام
" وأقول مع شديد الأسف إن بعض الدول الإسلامية في العصر الحاضر بدلت قوانين الأحوال الشخصية. الأمر الذي لم يستطع الاستعمار الغربي أن يتجاسر عليه في عهد الاحتلال. . وأضرب لكم مثلا من بلادي.
فقد طبق فيها قانون من عام 1968 لا يسمح بأن يعقد شاب عمره أقل من ثمانية عشر عاما زواجه بفتاة يقل عمرها عن ستة عشر عاما، وإنهما إن فعلا ذلك فإن القانون يعاقبهما ووالديهما وشهود النكاح أيضا أشد العقاب. . .! .
نعم، إذا جاء ذلك الفتى وتلك الفتاة ينشئان العلاقات غير الشرعية بينهما على رضاهما فليس هناك قانون يمنعهما من ذلك، ثم إذا أحب الرجل المتزوج أن يتخذ إحدى النساء محظية له لا يمانعه قانون. .! ؟ .
__________
(1) الأستاذ طفيل محمد أمير الجماعة الإسلامية بباكستان.(2/526)
ولكن إذا أراد أن يتزوج بتلك المرأة فلا يستطيع بموجب القانون إلا بعد الحصول على الإذن من زوجته الأولى. . ".
الحمد لله العلي العظيم. . . والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته إلى يوم الدين، وبعد:
سيدي الرئيس والسادة شركاء مؤتمر رسالة المسجد. . .
إن الملك المؤمن خالد بن عبد العزيز -حفظه الله- وحكومته الموقرة والقائمين على رابطة العالم الإسلامي ليستحقون كل تقدير وشكر وامتنان على مبادرتهم العظيمة لعقد مؤتمر رسالة المسجد في مكة المكرمة ودعوة أهل العلم والدعوة والفكر من المسلمين لحضوره؛ ليتفكروا وهم في جوار بيت الله وفي ظل مهبط الوحي: ماذا عسى أن تكون التدابير الفعالة والخطوات الحسنة لتحسين أوضاع المساجد وتطوير إدارتها وإحياء رسالتها الحقيقية واستعادة مكانتها السامية، ورفع مستوى الأئمة والخطباء والمساعدين من النواحي العلمية والفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية؛ لينالوا في المجتمعات الإسلامية نفس المكانة السامية التي أرادها لهم الإسلام، وليقدروا على أداء نفس الدور الفعال الذي كان يؤديه الخطباء والأئمة في القرن الأول في النهوض بالمسلمين وإصلاحهم إصلاحا شاملا يستوعب كل جوانب حياتهم الدينية والخلقية والثقافية والاجتماعية.
وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يجزي الملك الكريم خالد بن عبد العزيز -حفظه الله- خير الجزاء وأوفاه، ويوفقه للمزيد من خدمة ما فيه خير الإسلام وسعادة المسلمين، ويجعله يحذو حذو أخيه الكبير الشهيد العظيم فيصل بن عبد العزيز -رحمه الله- رحمة واسعة، ويكتب له السبق في هذا المضمار كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (1) وكذلك أدعو للقائمين على رابطة العالم الإسلامي وعلى رأسهم الشيخ الموقر الكريم الصالح محمد صالح القزاز أن يكتب لهم جزاء حسنا ونجاحا باهرا في هذا الصدد. . . وأنا كلي دعاء وتضرع لجميع المؤتمرين الكرام لأن يخرجوا من هذا المؤتمر وهم على توفيق شامل وعزم أكيد وتخطيط مصمم وحماس عارم لأن يبذلوا ما في وسعهم من الجهود لإحياء رسالة المسجد بصورة يرتضيها الله ورسوله، ولا يخافون في ذلك لومة لائم. . . والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة المطففين الآية 26(2/527)
المسجد لغة مكان السجود، واصطلاحا ذلك البيت الذي تقام فيه الصلاة ويعبد فيه الله. . . وكان المسجد في الإسلام مركزا لنشاطات المسلمين الاجتماعية والثقافية. . . وإلى جانب ذلك كان في عهد النبوة وعهد الخلافة الراشدة مدرسة يشع منها نور الحق.
ولكنه من الأسف أن الانهيار الذي تغلغل في حياة المسلمين الاجتماعية بعد الخلافة الراشدة لم يستطع المسجد أيضا بسببه أن يحافظ على مكانته الحقيقية. . . بل أصبح مكانا لإقامة الصلاة والعبادة فقط، أو مركزا للتدريس والوعظ والإرشاد إلى آخر الحد. . أما أن يكون المسجد هو المقر الذي تتم فيه شئون المسلمين بالمشورة وبدافع خشية الله فقد انتزعت منه تلك المكانة العظيمة وحلت محله البلاطات الملكية، حيث كان الملوك المستبدون يقضون في شئون الناس حسب ما تمليهم أهواؤهم. . . اللهم إلا من رحم ربي. . .
ولما تمت سيطرة الإنكليز على شبه القارة الهندية فإنهم لأجل القضاء على الشخصية الإسلامية فيها حاولوا السيطرة على المساجد ولكن المسلمين قاوموا هذه الفكرة باستماتة وإباء ونجحوا في إحباط تلك المؤامرة. . ولكن الإنكليز اختاروا أسلوبا آخر لتحقيق غايتهم وهو أنهم استخدموا الأفراد الذين ربوهم في أكنافهم وبذلوا لهم الألقاب العديدة وعن طريقهم كونوا جمعيات تشرف على المساجد، وهكذا استطاعوا أن يجعلوا طائفة من المساجد الرئيسية في البلاد تحت نفوذهم ورعايتهم، حتى لا يعلو منها على الأقل صوت يحارب الاستعمار الإنكليزي. . أما عامة المساجد في المدن والقرى فإن المسلمين على رغم الاحتلال الإنكليزي العنيف حافظوا على حريتها وقدسيتها. . . وبفضل تلك الحرية استطاعت مساجد المسلمين ومعاهدهم أن تجعل قناديل الإيمان والإسلام مستنيرة متلألئة في قلوب المسلمين، وبفضل تلك الحرية والقناديل الإيمانية برزت أخيرا إلى الوجود دولة باكستان الإسلامية في ربوع الهند الوثنية في عام 1947 م.
وصحيح مبدئيا أن رعاية المساجد والمعاهد هي مهمة الحكومة الإسلامية الأولى. . . ولكن هذه المهمة لا يستطيع أداءها على أحسن وجهها إلا حكومة تحذو حذو الخلافة الراشدة. . . بل إلى هذا النمط من الحكومة الرشيدة يمكن تفويض هذه المهمة. . . ولا تصلح للقيام بها حكومة لا تقر بحاكمية الله، ولا(2/528)
تؤمن بشريعة الله قانونا أساسيا للدولة. . . وتطبق قوانين الكفر بدلا من قانون الله، وتقمع صوت الخير والصلاح. . . وتروج السوء والفحشاء. . . وبدلا من أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، تأتي فتهدد دعاة الحق والخير وتروعهم، وتزج بهم في السجن، وتعلقهم على المشانق.
وبالمناسبة أقول، مع شديد الأسف، إن بعض الدول المسلمة في العصر الحاضر بدلت قوانين الأحوال الشخصية. . الأمر الذي لم يستطع الاستعمار الغربي أن يتجاسر عليه في عهد الاحتلال. . . وأضرب لكم مثلا من بلادي. . . فقد طبق فيه قانون من عام 1968م لا يسمح بأن يعقد شاب عمره أقل من ثمانية عشر عاما زواجه بفتاة أقل من ستة عشر عاما، وإنهما إن فعلا ذلك فإن القانون يعاقبهما ووالديهما وشهود النكاح أيضا أشد العقاب. . . أما إذا جاء ذلك الرجل وتلك الفتاة ينشئان العلاقات غير الشرعية بينهما على رضاهما فليس هناك من قانون يمنعهما من ذلك، ثم إذا أحب الرجل المتزوج أن يتخذ إحدى النساء محظية له لا يمانعه قانون، ولكنه إذا أراد أن يتزوج بتلك المرأة فلا يستطيع الرجل بموجب القانون إلا بعد الحصول على الإذن من زوجته الأولى. . . ولا ينقصكم في هذا العصر مثل للحكومة التي منعت الأذان والخطبة باللغة العربية. . . وهناك عدة دول مسلمة تحاول فرض الاشتراكية على أعناق المسلمين باسم الإسلام، ولا يخفى عليكم ما آل إليه أمر نظام الحياة الإسلامية والقيم الإسلامية في ظل بعض الحكومات المسلمة في بعض البلدان.
ولذلك أرى، بدون ما ريب، أن نظام المساجد والمدارس يجب أن يبقى بعيدا عن تدخل الحكومات ونفوذها. . . وإلا سيكون مصيره مصير النظام الكنائسي، وبالتالي يتحول نظام المساجد في كل بلد إلى نظام قومي مثل الكنيسة القومية، يتبع المصالح القومية ويصير أداة بيد الحكام، ولا حاجة بعد ذلك إلى ذكر الأضرار التي تلحق بدين الله والوحدة الإسلامية بهذه الطريقة، ثم ليس من المستبعد أن يقع نظام المساجد والمدارس في متاعب ومحن لا تعد ولا تحصى إذا سيطر عليها الحكام في مختلف البلدان تتضارب أفكارهم وتتنازع مصالحهم، وأقترح أن تقام في مختلف أنحاء العالم الإسلامي معاهد لتربية الأئمة والخطباء وإعدادهم إعدادا صحيحا كاملا يتلقى فيها الأئمة والخطباء قدرا لازما من المعارف والعلوم التي تؤهلهم للقيام بواجب التوجيه والدعوة والإصلاح وفق مقتضيات العصر.
وكذلك لأجل إحياء رسالة المسجد في الحياة القومية ولجعله مؤسسة فعالة لتطوير المستوى الديني والخلقي(2/529)
للمسلمين لا بد من أن تتبع كل مسجد مكتبة ودار للمطالعة تضم كتبا فكرية وعلمية وإسلامية هامة وجرائد ومجلات إسلامية عالمية. .
وبصدد تنظيم المساجد وتحسينها وإعداد الأئمة والخطباء كذلك أقترح إنشاء مجلس إسلامي يتكون من عشرين أو خمسة وعشرين عضوا من أصحاب العلم والتقى وأرباب الفضل والبصيرة من مختلف أنحاء العالم. . . ويكون مقر ذلك المجلس مكة المكرمة أو المدينة المنورة، وتكون مهمته دراسة أوضاع المساجد والمعاهد ونظمها الراهنة في جميع الدول الإسلامية وغير الإسلامية عن طريق الممثلين، ثم وضع مشروع شامل فعال لجعل المساجد أنفع وسيلة وأقوى مركز لتحسين أحوال المسلمين الدينية والخلقية والقومية والقضاء على ما بينهم من الطائفية وضيق النظر والعصبيات والخلافات المذهبية غير الصحيحة، وربطهم بحبل الأمة الإسلامية الواحدة كما كانوا في عهد الرسول أمة واحدة وجماعة واحدة.
وقد ورد في القرآن الكريم توجيه أساسي بشأن نظام المسجد وما يرجع إليه أمره قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (1) التوبة: 18.
ويتضح من هذه الآية بدون ما غموض أن الله تعالى لا يحب أن يسلم أمر المساجد إلى أشخاص لا يبالون بأحكام الله ورسوله واليوم الآخر، ولا يقيمون الصلاة، ولا يؤتون الزكاة، ويخشون الناس ولا يخشون الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. . .
__________
(1) سورة التوبة الآية 18(2/530)
محمد حسين يوسف (1)
رسالة المساجد في عصور ازدهارها
" إن المسجد لا يمكن أن يكون منعزلا عن النشاط الإنساني الحيوي؛ لأن الانعزال عن تتبع التطورات يحدث جفوة وعدم فعالية المسجد في توجيه النشاط الإنساني حسب مبادئ الإسلام، وتقدم الأمم في هذا العصر من الأمور التي يجب مراعاتها في وضع المساجد، حتى تكون دائمة الصلة في توجيه الأمة حسب متطلباتها المتجددة من الثقافة والعلم والفن ونحوها، بإشباع الأمة بالمعلومات الإسلامية التي لا بد وأن تجري بواسطة الوسائل الحديثة المطبقة في أماكن التوعية والتثقيف التي منها المساجد. فالمدارس والجامعات مع ملحقاتها التي تقع حول المسجد من شأنها أن تقوم أيضا بدورها في إحياء رسالة المسجد.
__________
(1) د. محمد حسين يوسف: إمام مسجد الشهداء بجاكرتا.(2/531)
يقول سبحانه وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (1) {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (2) {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (3)
تنطلق من المساجد أصوات الآذان خمس مرات كل يوم تدعو المسلمين إلى اللقاء الروحي بالله -عز وجل- لذكره وشكره على نعمائه والاستزادة من فضله تعالى.
إنه إذا أمعنا النظر نجد أن المسجد مكان لتجديد الصلة بالله تعالى هو مكان للسجود.
لقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتلقى كثيرا عن ربه الوحي بعد الهجرة وهو في المسجد، وفي المسجد كان -صلى الله عليه وسلم- يعلم المسلمين أحكام دينهم. فالمسجد بالنسبة للمسلمين هو كذلك مكان لتلقي تعاليم الدين وتعليمه، بل كانت الأمور الدنيوية كذلك تناقش طبق الإسلام في المسجد. ومن المسجد كانت تذاع الإعلانات والأخبار التي تهم أمور المسلمين وحياتهم المادية والمعنوية. هو مكان للتوعية والتربية للجيل الناشئ.
إن التراث الإسلامي من المصادر والمراجع هو عنصر هام في مجال التربية والتوعية الإسلامية، وبما أن المسجد كذلك مكان لتلقي وتعليم الثقافة والتربية الإسلامية، فيجب أن تكون للمسجد مكتبة زاخرة بكل فروعها وملحقاتها ونظمها حتى يقوم المسجد تماما بدوره الإيجابي الذي كان عليه في عصوره الزاهرة.
هذا كما يجب أن تقوم شئون الأوقاف بالمسجد بضمان ماديات حياة المتفرغين للعلم مدرسين ومتعلمين حتى لا تشغلهم مطالب الحياة عن اشتغالهم بالتدريس أو التعلم. وذلك في صورة منح دراسية أو في صورتها.
وفي المسجد بيت المال يقوم بدور فعال في إنقاذ المجتمع الإسلامي من سؤال الأجانب. وهو عامل كبير في رفع الشخصية الإسلامية؛ وذلك لأن مشاكل الحياة المادية قد تكفلها المسلمون للمحتاجين إليها عن طريق هذه المؤسسة. وقد كان المسجد أيضا دارا للقضاء فكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتخذه مكانا للبت في قضايا المسلمين وشئون المجتمع والدولة. كذلك في عصور الخلفاء الراشدين، حتى أن وفود الملوك يجري استقبالهم في المسجد. بالجملة كانت النشاطات الدينية والمدنية نابعة من المسجد. وهذا كان له أثره في تلوين مجالات الحياة البشرية بالأخلاق الفاضلة، مما جعل حياة البشر عموما تشعر بالحياة الهادئة تحت ظل الحضارة الإسلامية.
وهناك أمور أخرى كثيرة تقوم بها المساجد، مما يعود نفعه على المسلمين والحضارة الإسلامية، لا نوضحها هنا خوف الإطالة.
__________
(1) سورة النور الآية 36
(2) سورة النور الآية 37
(3) سورة النور الآية 38(2/532)
أوضاع المساجد في العالم في العصر الحاضر
إنه لا يختلف اثنان في أن المسجد كان عاملا قويا في قوة الأمة الإسلامية في مختلف مجالات الحياة البشرية، وذلك عندما كان المسلمون يعيشون تلك العصور الزاهرة النقية عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين -رضي الله عنهم-، ثم ما يليهما من عصر التابعين وأتباع التابعين -رضي الله عنهم-.
وإنه إذا أمعنا النظر في أوضاع المساجد في العالم بصفة عامة في عصرنا الحاضر لوجدناها على صورتين.
الأولى: المساجد التي - جملة - تقوم برسالتها طبق ما رسمها لها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وطبق مفهوم لفظ المسجد.
الثانية: هي المساجد التي لا تكون مطابقة برسالتها حق المطابقة، وكانت بعيدة عن الغرض الأسمى من الإسلام.
وإن المعيار الصحيح لوظيفة المسجد هو أن يكون المسجد طبق روح الإسلام مركزا لتكوين فرد ومجتمع عارف لحقوق الله وحقوق عباده، الأمر الذي يجعل من حياة الفرد والمجتمع ميزانا.(2/533)
المسجد محور للنشاط ومركز للتوجيه الروحي والفكري للأمة
تطوير
خطب الجمعة بحيث تتمشى ومتطلبات العصر وتحدياته مع ضمان انتشارها وحفظها.
لقد ثبت من التاريخ أن المسجد كان يلعب دورا فعالا في ترقية الأمة الإسلامية دينيا وفكريا وحضاريا. ويعرف ذلك من أمعن النظر في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومن جاء بعده من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين. وقد كان ذلك لعدة أسباب، منها:
1 - كان المسلمون تحت إشرافه وتوجيهاته -صلى الله عليه وسلم-، وهو مرجعهم عما خفي عنهم من أمور الدين.
2 - وقد كان المسلمون في ظل الخلافة على منهاج النبوة الحارسة الأمينة على إحياء تعاليم القرآن وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
3 - بفضل الخلافة بعد وفاة الرسول -عليه الصلاة والسلام- تزول الخلافات المؤدية إلى افتراق وحدة الأمة.(2/533)
فهذه وتلك من الأسباب الرئيسية التي مكنت للمسجد القيام بأداء وظيفته، محورا للنشاط الإنساني والروحي ومركزا للتوجيه المعنوي والفكري للأمة. وأما الأمور الأخرى فتشكل أسبابا فرعية وعملية رغم أهميتها أيضا في بعث رسالة المسجد من جديد ومنها: تطوير خطب الجمعة التي في مقدورها أن تجيب على تحديات العصر.
فخطبة الجمعة مثلا ذات أثر كبير في النفوس، إذا كانت صادرة من قلوب مخلصة طاهرة طيبة، وكان من صاحبها من طلاقة اللسان ما يحسن التعبير به عما يكنه الفؤاد. ثم يجب على الخطيب أن يراعي مقتضيات الأحوال، فيخطب في الحوادث النازلة، والوقائع الجديدة، ولا يسلك ما يسلكه أكثر خطبائنا في هذا العصر ينهون عن جرائم كانت في سالف الأيام.
توسيع
مجالات الخدمة التي يقوم بها المسجد فكريا وعلميا واجتماعيا مع تسخير كل الوسائل الإعلامية والتربوية الحديثة.
إن التسهيلات في مجالات الحياة متوفرة في عصرنا هذا، فيجب تسخيرها واستغلالها لصالح الأمة وبناء مستقبلها الأفضل، وإلا تحولت إلى وسائل للتدمير في روحانية الأمة ومعنوياتها ودينها.
ولذا أحبذ لو ألحق بالمسجد ما من شأنه أن يساعد على القيام بمهام المسجد وذلك مثل: دار الطباعة، ودور التعليم والتثقيف المزودة بالوسائل العصرية، وكذلك مؤسسات أخرى لكفالة الأيتام وذوي العاهات تؤهلهم بفنون العصر التي تعدهم للمستقبل، مع إعدادهم بالأخلاق الفاضلة عارفين دينهم وعاملين لأوامره وناهين عن زواجره.(2/534)
حسن إعداد الأئمة ومساعديهم ورفع كفاياتهم ومكانتهم
وسائل
إعداد الأئمة ومساعديهم ورفع كفاياتهم فكريا وعلميا وثقافيا.
إن هذا العصر يتسم بالاكتشافات في العلوم والفنون والبحوث العلمية في مجالات الحياة الإنسانية من ثقافية واقتصادية وفكرية، فبمقتضى هذه التطورات في الحياة البشرية يجب أن يقوم المسئولون بشأن تسيير دفة رسالة المسجد من الأئمة ومساعديهم بما يضمن لهم في إنجاح واجباتهم من تبليغ رسالة الإسلام إلى المجتمع الذي سادت فيه مظاهر العصر، فيجب إعدادهم في أمور منها:(2/534)
1 - ترقية معلوماتهم الثقافية والاجتماعية.
2 - تعميقهم بروح الشريعة الإسلامية للنظر في الأمور المتجددة.
3 - عقد لقاءات دورية للنظر والتشاور حول الأمور التي لها صلة برسالة الأئمة حول البيئة المتطورة.
4 - عقد مؤتمرات سنوية للنظر حول مشاكل المجتمع.
هذا وبالنسبة للعنصر الثاني.
(2) النهوض بمكانة الأئمة ومساعديهم اجتماعيا واقتصاديا أمر لا مفر منه لإنجاح رسالة المسجد وإحيائه في هذا العصر من جديد.
لقد كان من أزمة المساجد إهمالنا بشأن أئمة المساجد وإعدادهم في أداء واجباتهم اجتماعيا واقتصاديا، وذلك لعدم وجود الضمان المادي، مما يجعل الأئمة منشغلين بأمور حياتهم المادية، وهذا مما يقف في سبيل فعالية المساجد غالبا. فلا بد من مؤسسة خاصة تقوم برعاية أمور أئمة المساجد ومساعديهم. كما تقوم بتخريج الدعاة من الأئمة الأكفاء المزودين بالمعلومات الاجتماعية والثقافية. وبهذه الصورة ستنتهي إلى حد ما الأزمة التي تعيشها أكثر المساجد في العالم الإسلامي خاصة، ومن هذه الناحية يبدو دور بيت المال جليا.(2/535)
التخطيط لبناء المسجد ومرفقاته
(1) التخطيط لتعمير المساجد بين أوساط تجمعات المسلمين في المدن والقرى ووسائل صيانتها.
إن المسجد يمكن أن يكون معيارا للأمة في مدى تمسكها بالدين أو انحلالها عنه، ولكي نضمن صلاحية الأمة على أساس الإسلام، فكان من الواجب بناء المساجد في وسط تجمعات المسلمين مع مراعاة ظروف بيئتهم، لنضمن نجاح المسجد في أداء رسالته وسط كل تجمعات معينة. بحيث تلحق إلى المسجد ما من شأنه جذب الناس إليه والانسياق إلى هدف المسجد، فبناء المسجد في مدينة ما غير المسجد الذي يبنى في القرية، لاختلاف البيئة والظروف بينهما.
2 - أما المرافق الضرورية الملحقة بالمساجد وطرق الاستفادة منها فهي على كثرتها متوقفة على الظروف والأحوال التي فيها المسجد.
إن المسجد لا يمكن أن يكون منعزلا عن النشاط الإنساني الحيوي؛ لأن الانعزال عن تتبع التطورات يحدث(2/535)
جفوة وعدم فعالية المسجد في توجيه النشاط الإنساني حسب مبادئ الإسلام، وتقدم الأمم في هذا العصر من الأمور التي يجب مراعاتها في وضع المساجد، حتى تكون دائمة الصلة في توجيه الأمة حسب متطلباتها المتجددة من الثقافة والعلم والفن ونحوها، بإشباع الأمة بالمعلومات الإسلامية التي لا بد وأن تجرى بواسطة الوسائل الحديثة المطبقة في أماكن التوعية والتثقيف التي منها المساجد. فالمدارس والجامعات مع ملحقاتها التي تقع حول المسجد من شأنها أن تقوم أيضا بدورها في إحياء رسالة المسجد، عن طريق المنشورات والمطبوعات التي تعنى بترقية معلومات الأوساط الثقافية والطلابية في مجال الدين وصلته بالحياة الإنسانية وبالمجالات الأخرى. وأن يكون المسجد ملحقا به أيضا مساكن المؤهلين في المجالات المختلفة، حيث يمكن الاستفادة منهم في بث العلوم والمعارف التي تقوم بتنظيمها مؤسسة المسجد بتحويل خاص من بيت المال مثلا أو ما يشابهه من المؤسسات المشروعة في الإسلام.(2/536)
محمد حسين الذهبي (1)
رسالة المسجد في العالم عبر التاريخ
" إن أخص وظائف المسجد وهي " التوجيه الديني " بوجه عام يزاحمه فيها الآن مؤسسات اجتماعية كثيرة، يتوافر لها من الإمكانات المادية والبشرية والفنية ما لا يتوفر أقله للمسجد! . .
فإذا أضفنا لهذا كله ما آل إليه المسجد " الآن " من كونه " مؤسسة رسمية " وأن ما يمارس فيها من دعوة وتوجيه إنما يتم على أنه عمل وظيفي تحدده دوافع الوظيفة وتحد منه أو تقيده مسئولياتها، بدت لنا الفوارق جلية وحادة. .
بين " مسجد اليوم " و. . . " مسجد الأمس ". .!
" لقد تطور المجتمع وتخلف المسجد، فحدث ما يعانيه الآن من انفصام بينه وبين الحياة.! "
__________
(1) د. محمد حسين الذهبي وزير الأوقاف وشئون الأزهر بجمهورية مصر العربية.(2/537)
أ. رسالة المسجد في عصور ازدهارها
ب. أوضاع المساجد في العالم في العصر الحاضر
المسجد هو نسبة إسلامية لمكان العبادة، وقد لوحظ في هذه التسمية معنى الأصل الذي اشتقت منه الكلمة، وهو السجود الذي يعني الخضوع الكامل لله سبحانه! ذلك الخضوع الذي يأخذ أسمى صورة في الصلاة، وفي ذلك الركن الخاص منها الذي نقل إليه لفظ " السجود " فكأن الصلاة أخص ما بني له المسجد!
ولليهود والنصارى تسميات لأماكن عبادتهم ذكر منها القرآن الكريم " الصوامع " و " البيع " " والصلوات " وسلكها مع المساجد في سلك واحد {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (1) وقد عمم القرآن استخدام لفظ " المسجد " فأطلقه على أماكن العبادة لدى اليهود والنصارى {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} (2) فأطلق لفظ مسجد على ما أقام أولو الأمر والذين عاصروا معجزة أهل الكهف من بناء، وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن اليهود والنصارى وتحذيرا من صنيعهم «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (3) » .
في عرف القرآن يسوغ إطلاق لفظ " مسجد " على كل مكان اتخذ لعبادة الله وذكره
ولا تكاد توجد جماعة إنسانية ضربت بهم في الحضارة إلا وفي نسيج حضارتها ما يقابل " المسجد " عند المسلمين، أو البيعة عند النصارى، أو الصلوة عند اليهود، كما هو الحال عند قدماء المصريين والهنود والفرس والإغريق. . . ويطلق عادة على هذه الأماكن لفظ " معبد " أو ما يشبهه!
وبغض النظر عن صحة العقيدة أو فسادها لدى هذه الجماعة أو تلك، فهذه المعابد تحتل مكانا له دلالته في سجل الحضارة الإنسانية وتاريخها الطويل، وهي تعبر في قوة وعمق عن تجربة مستمرة ومحاولة متصلة دائبة، لم تنقطع من جانب الإنسان بهدف التعرف والاتصال بتلك القوة التي أحسها رغم خفائها - تغمر عقله ووجدانه وهو مبعثر في الطرق قبل أن تأخذ هداية السماء بيده وتهديه إلى خالقه.
إن اللحظة التي بنى فيها الإنسان لنفسه مسكنا يأوي إليه، يبني فيها كذلك لإلهه أو آلهته " معبدا " يفزع
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة الكهف الآية 21
(3) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(2/538)
إليه، مدفوعا بإحساس غامر بالحاجة إلى الاتصال به أو بها، وإلى التعبير عن شعوره تجاهه أو تجاهها، وقد وجه الإنسان القديم من طاقاته وإمكاناته المادية وإبداعه الفني لهذه " المعابد " ما لم يوجه بعضه إلى مسكنه الذي يعيش فيه.
" المعبد " إذن عنصر أصيل في حضارة الإنسان عبر التاريخ!
وقد حدثنا القرآن عن البيت العتيق وأخبرنا أنه أول بيت وضع للناس: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (1) وحين حدثنا عن هذا البيت جعله مرة " البيت " معرفا بلام التعريف {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} (2) ومرة بالإضافة إليه سبحانه {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (3) ويصف ما قام به إبراهيم وإسماعيل فيقول: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} (4) يرفع القواعد وكأنما كانت موجودة من قبل، أرشد الله إبراهيم -عليه السلام- إلى مكانها، كما يشير إلى ذلك قول الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} (5)
توحي إلينا الآيات الكريمة إيحاء خفيا أن هذا البيت قديم موغل في القدم وإن لم تسعفنا مصادر التاريخ المسجل بأوليته الأولى، وهذا هو المتسق مع قوله تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُون} (6)
وإذا كان التدين - في صورة ما - ظاهرة عامة لازمت الإنسان في كل فترات تاريخه فقد قوي هذا الفهم وتأكد!
مهما يكن من أمر فإن للمسجد في الإسلام وفي حضارته مكانا ساميا ومنزلة جد خطيرة
حدد القرآن أمام المسلمين الغاية من خلق الإنسان بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (7) وعلمهم أن يكون هذا أساس حضارتهم {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (8)
ونبههم إلى انحرافات الحضارات التي قامت من قبل {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} (9)
كان هذا توجيه القرآن للمسلمين وقد وعوه جيدا وطبقوه!
__________
(1) سورة آل عمران الآية 96
(2) سورة البقرة الآية 125
(3) سورة البقرة الآية 125
(4) سورة البقرة الآية 127
(5) سورة الحج الآية 26
(6) سورة الذاريات الآية 56
(7) سورة الذاريات الآية 56
(8) سورة الحج الآية 41
(9) سورة القصص الآية 83(2/539)
لقد شاء الله أن تكون المدينة المنورة المهد الأول الذي مكن فيه للإسلام وللمسلمين، وجاء الإسلام إلى المدينة وافدا مهاجرا ليتخذ منها قاعدة لبناء دولته وحضارته ومجتمعه.
فماذا حدث منذ اللحظة الأولى لهذا التمكين؟ !
إن " المسجد " هو أول ثمار تمكين الله للمسلمين في الأرض، وهو فاتحة تاريخهم الحضاري!
لقد ألزمهم ربهم بإقامة الصلاة متى مكن لهم، فأصبحت إقامتها أول التزام من جانبهم - بعد توحيد خالقهم - وكان اختطاط المسجد ورفعه تعبيرا عمليا عن هذا الالتزام وإعلانا عن عزم على الوفاء به!(2/540)
رسالة المسجد في عصور ازدهارها
بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- حياة الإسلام في المدينة بإقامة المسجد، وفعله هذا سنة للمسلمين من بعده، وله دلالة بالغة الخطر لمن يريد أن يتفهم روح الإسلام ويتعرف على أساس حضارته، ولمن يريد أن يدرك مكان " المسجد " في مجتمع الإسلام!
إنه يعني - في فهمنا - التزام المسلمين بتوجيه حضارتهم - كليا وجزئيا - إلى غايات ووسائل لتكون في خدمة دينهم، وغاية دينهم في النهاية إنما تتمثل في إعلاء كلمة الله في الأرض، والمسجد هو مركز هذا التوجيه.
مكان المسجد في حياة المسلمين إذن جد خطير، والقرآن الكريم يضفي على أماكن العبادة عامة قيمة سامية ويمنحها جلالا وقدسية! وحسبك أن يقرر القرآن أن حمايتها والحفاظ عليها واجب تشرع من أجله الحرب ويجب الجهاد {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (1)
نستطيع أن نقول مطمئنين إن " المسجد " هو المؤسسة الحضارية الأولى في مجتمع الإسلام، ومعنى هذا أن للمسجد وعليه معا أن يقوم بدور يتكافأ مع مكانه من هذه الحضارة وهو دور يقوم به تجاه سائر ما يقيمه المجتمع من مؤسسات! ولا يفهم هذا الدور الأعلى أنه إعلام كامل شامل بهذا الدين.
لقد كان " المسجد " في عهد النبوة - واستمر في عصور الإسلام الأولى - هو مركز التوجيه والإشعاع الفكري، والأخلاقي، والتربوي، والأدبي، والاجتماعي.
وقد استطاع المسجد في تلك العصور أن يكون مجالا تحيا فيه القيم الإسلامية، وتمارس فيه أنماط السلوك العملي التي تجسد هذه القيم، مما أتاح للمسلمين حرية فكرية منقطعة النظير. ومن حول سواري المساجد قامت مذاهب ونشأت تيارات في الفقه والفلسفة والتوحيد والنحو والأدب والنقد، وقامت المحاورات والمناظرات، وكان " المسجد " بما له من قدسية ضمانا لهذه الحرية الفكرية التي يفخر بها تاريخ المسلمين!
__________
(1) سورة الحج الآية 40(2/540)
أوضاع المساجد في العالم في العصر الحاضر
لم يستمر هذا الدور الخصب الذي نهض به المسجد في عصوره الأولى!
وإنما أخذ يضيق وينكمش حتى جاءت فترة اقتصر فيها على أداء الصلوات وعلى إلقاء خطب الجمعة وبعض الدروس التي لا تسمن ولا تغني من جوع! وتاريخ الدواوين التي كانت تقرأ على المنابر، أو تحفظ وتلقى، مثل واضح!
ومن الظواهر الغريبة أنه كلما زادت العناية بالمظهر الخارجي للمسجد لم نجد وراء هذا المظهر إلا ضحالة وعجزا وقصورا عن وفائه برسالته، وكأنها عملية تعويض يراد من خلالها ستر هذا الفراغ!
إن أشد أبنية المساجد ضخامة وأعظمها فنا وزخرفة ينتمي لفترات من تاريخ المسلمين تخلفوا فيها دينا ودنيا على نحو يجعل هذه الأبنية ظاهرة في حاجة إلى تفسير!!
ولو تساءلنا عن عوامل ازدهار المسجد ودوره في فترات سلفت من تاريخنا لوجدنا عاملين أساسين يقفان وراء هذا الازدهار:
أولهما: يرجع إلى المسجد نفسه ويتمثل في اقتدار المسجد على أداء دوره في توجيه الحياة.
وثانيهما: يرجع إلى المجتمع ويتمثل في الطابع الديني الذي كان يسيطر على حياة الناس ويصبغها بصبغة دينية شاملة.
ويضاف لهذين العاملين عامل ثالث يكملهما: ذلك أن مجتمع تلك العصور لم تكن فيه مؤسسات اجتماعية تزاحم المسجد وتنافسه في دوره الذي كان يستقل به غير مشارك ولا مدافع.
فقد قضى تطور المجتمع أن تقوم فيه مؤسسات متنامية أخذت لها أدوارا تضطلع بها فقامت المدرسة إلى جانب المسجد وأصبحت هي المسئولة عن مهمة تعليم النشء وتربيته! وتحولت مظاهر الحكم والسلطان من " المسجد " إلى مواقع أخرى في المجتمع تمارس فيها ومنها عمليات التشريع والتوجيه والتخطيط والتنفيذ الكبرى ذات الأثر البعيد في صياغة الحياة!
بل إن أخص وظائف المسجد وهي " التوجيه الديني " بوجه عام يزاحمه فيها الآن مؤسسات اجتماعية كثيرة يتوافر لها من الإمكانات المادية والبشرية والفنية ما لا يتوافر أقله للمسجد!!
وأخطر من هذا الأمر تجاوز المزاحمة والمنافسة إلى المناهضة والمقاومة، فجدت أشياء وحدثت أمور شديدة التأثير والجذب للناس، توجههم نحو غايات، وتدعوهم إلى مسالك، وتدفعهم في شعاب كثيرا ما تتناقض وتتصادم مع ما يدعو إليه المسجد وما يقدمه من توجيه!(2/541)
فإذا أضفنا لهذا كله ما آل إليه " المسجد " الآن من كونه مؤسسة رسمية، وأن ما يمارس فيه من دعوة وتوجيه إنما يتم على أنه عمل وظيفي تحدده دوافع الوظيفة وتحد منه أو تقيده مسئولياتها، بدت لنا الفوارق جلية وحادة بين مسجد اليوم ومسجد الأمس!
إن صورة " المسجد " المعاصر لا تبدو غريبة إذا وضعناه في الإطار العام لحياة المجتمع المعاصر، فهو جزء منه يتأثر به إيجابا وسلبا، ويتحدد دوره بحسب وضعه في هذا المجتمع ومكانه منه!
اقتصار المسجد الآن على كونه مكانا لأداء الصلوات وما يتبعها من خطابة دينية وعظات أو دروس يبدو وكأنه نتيجة طبيعية بل حتمية لما آل إليه المجتمع من تطور!
ويخيل إلينا أنه لو سارت الأمور في اتجاهها الذي نراه فالاحتمال القريب أن يزداد " المسجد " انفصالا عن الحياة ويزداد دوره في توجيهها تقلصا وانكماشا!!
كان " المسجد " قاعدة الحضارة الإسلامية وكل ما يشعه المسجد مفتاح هذه الحضارة وكان ما يصدر عنه يطبع الحياة بطابعه، فهل هو الآن كذلك؟
إنه لا يزيد في أحسن الأحوال - فوق وظيفته التقليدية كمكان للصلاة - عن كونه مصدرا لمعرفة دينية هزيلة لا تستطيع أن تصمد في معركة توجيه الحياة مع أمواج التيارات الفكرية السابحة في كل اتجاه، متذرعة بكل الوسائل والأساليب.
تطور المجتمع وتخلف المسجد، فحدث ما يعانيه الآن من انفصام بينه وبين الحياة!
إن الحياة المعاصرة قد تبدو - في ظاهرها - مستغنية أو معرضة عن توجيه المسجد، لكن حقيقتها أنها أشد ما تكون حاجة إلى هذا التوجيه بشرط أن يرتفع هذا التوجيه إلى مستوى يجعله أهلا لأن يستمع إليه، قادرا على الصمود عند مقارنته بسواه، متجاوزا هذا المدى لينتزع التسليم بحقه في الهيمنة على كل ما عداه ثقة فيه واطمئنانا إليه واستشرافا للمنفعة الحقيقية فيه!!
* * *(2/542)
عبد الرءوف حامد التكينة (1)
رسالة المسجد
" إن الوثنيات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي صنعها اليهود لتمزيق شمل المسلمين وإبعادهم عن دينهم ممثلة في الشيوعية والاشتراكية والقومية والبعثية والوجودية والفرعونية والقاديانية المندحرة تلعب دورا مرعبا في أوساط الشباب.
" والمسجد والساجدون " في إغفاءة تشبه الموت أو هي الموت عينه ". . . . .
وثمة تساؤلات، كم نسبة الساجدين في المسجد من مجموع أهل القبلة؟
بل كم نسبة الذين يسجدون فقط بغض النظر عن صلتهم وارتباطهم بالمسجد؟
وإذا افترضنا أن نسبة الساجدين فعلا 50 %.
ونسبة الذين يرتادون المسجد تساوي 5 %.
__________
(1) الأستاذ عبد الرءوف حامد التكينة رئيس مؤتمر القرآن الكريم بالسودان.(2/543)
فما هو موقف المؤتمر من الذين لا يسجدون ونسبتهم 45 %؟
إذن فنسبة الذين يرتادون المسجد ضئيلة جدا 5 %. . فهل يمكن أن تستقطب كل اهتمامات المؤتمر علما بأنها هي الأحسن حالا ومآلا؟ ".
* * *
الحمد لله الذي نزل على عبده الكتاب هدى للناس وبينات من الهدى، {مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (1) {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ} (2) {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (3) وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبعد:
فإنه لمما تقر له عين المؤمن وتطيب له نفسه، أن ينعقد هذا المؤتمر في الظروف التي تشتد فيها الحاجة إليه ويشتد مساسها، ومما يزيد في أهميته ويجعل الآمال الكبار تنعقد عليه، اجتماع الناس له في أم القرى، مهبط الوحي، ومنبت الدعوة، ومهوى أفئدة المؤمنين، وقبلة وجوههم، وفي شهر رمضان المعظم.
ويضاعف من أهميته أنه جاء بعد تجمعات إسلامية عدة أثارت انتباه المسلمين، وأرهفت إحساسهم لما عساه يحدث من تغيير وتجديد في واقع حياتهم التي لازمها الجمود عدة قرون، وإنه لعمل جليل وسعي مبارك تشكر عليه رابطة العالم الإسلامي، يضاف إلى صنائعها وأمجادها وعملها الدءوب في سبيل بعث إسلامي شامل، كانت المملكة العربية -وما تزال- هي الرائد والقائد في هذا المضمار.
ويسعدني أن أساهم في أعمال هذا المؤتمر بهذا البحث الموجز باسم مؤتمر القرآن الكريم بالسودان.
إن أهمية المسجد والدور الذي قام به في حياة المسلمين أمر بالغ الأهمية وذو أبعاد لا يمكن استيعابها في مثل هذا البحث الموجز، وما تزال أهمية المسجد وستظل باقية ما بقي في الأرض مسجد، وإذا كان المسجد الأول من أهم المرتكزات التي صنعت الشخصية الإسلامية وصاغتها على ضوء الوحي وظلت تؤدي هذا الدور قرونا متتالية فإننا الآن في حالة من الضرورة القصوى التي تدعو وبإلحاح إلى إعدادها إعدادا متكاملا لتؤدي واجبها على أحسن الوجوه وأفضلها. وإذا كان المسجد الأول قد قام بدوره في صناعة الرجال وتخريج الأبطال
__________
(1) سورة الزمر الآية 23
(2) سورة الشورى الآية 7
(3) سورة الأنفال الآية 42(2/544)
وصاغ بالقرآن من رعاة الإبل وعباد الأصنام أئمة الهدى عليهم الرضوان، فكانوا دعاته وقضاته وحماته (رهبان الليل فرسان النهار) ، وساحوا في الأرض ينشرون الإسلام والسلام، ويبعثون الحياة في رفات الوجود، ويمدون الإنسانية بقيم لم تألفها ومثل لم تعرفها.
أيها الإخوة:
مضى المسجد الأول وكان صلة الأرض بالسماء، يصنع من تلك الفلول المتناحرة أمة سماوية لم يعرف لها التاريخ البشري مثيلا؛ لأنها صياغة المسجد على ضوء الوحي، وتمضي الأيام تباعا وهو يخرج كتائب المؤمنين وأفواج الصالحين، ونترك الوحي يتلو خصائصهم ويوضح سماتهم:
{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} (1)
وينزل القرآن كذلك يأمر الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، ليبلغ أصحابه بحدود مسئوليتهم في الدعوة وحصتهم في البلاء، عزيمة من عزائم الإيمان، وفريضة من فرائض الإسلام، ومشاركة فعلية في مسئولية البلاغ {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2) الآية، ومن تلك اللحظة وقعت المسئولية تماما وتأكدت على المسجد والساجد معا، ومضى المسجد يؤدي رسالته، ومضى الساجد يؤدي دوره دون تخاذل أو تردد أو إبطاء؛ حتى دوت كلمة التوحيد ما بين سيبيريا شرقا ومشارف أوروبا غربا.
أيها الإخوة المؤمنون:
هنا يبرز عدد من الأسئلة غير مفترضة ولكنها قائمة فعلا، منها:
1 - أن المؤمن في صدر الإسلام قد صيغ صياغة قرآنية، وأن القرآن باق كما نزل، فهل يمكن أن يقوم بدوره الآن في صياغة المؤمن؟
2 - وسؤال آخر: إن المسجد موجود وهو يشغل مساحة كبيرة في الوطن الإسلامي العريض، فلماذا عجز عن القيام بدوره؟
3 - وسؤال ثالث: إذا كان القرآن محفوظا والمسجد موجودا فهل الأمل قائم في أن " نجد الرائد الذي يصنع الحنفاء! ؟
سأترك هذه الأسئلة معلقة لأجيب عليها فيما بعد. . .
__________
(1) سورة التوبة الآية 112
(2) سورة يوسف الآية 108(2/545)
لقد مضى المسجد والساجد كل يؤدي دوره في نشر الخير وحماية الحق حتى أطلت الدنيا بمفاتنها ومباهجها، وظهر خلاف واضح بين السلطان والقرآن، وبدأ المسجد يفتقد الساجد والرائد، ورويدا رويدا تحولت المنابر إلى غير وجهتها تبعا للسلطان، وبدأت الشقة تزداد اتساعا بين المسجد والساجد حتى انحازت المنابر للسلطة والسلطان، ورويدا رويدا أصبحت المنابر واحدة من أجهزة الدولة، وظل الحال هكذا إلى يومنا هذا؛ حيث اندثرت ملامح الهدى ومعالمه في المسجد أو كادت في كثير من بلاد المسلمين.
إن تلك الوثنيات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي صنعها اليهود لتمزيق شمل المسلمين وإبعادهم عن دينهم ممثلة في الشيوعية والاشتراكية والقومية والبعثية والوجودية والفرعونية والقاديانية المندحرة المنتحرة تلعب دورا مرعبا في أوساط الشباب. والمسجد والساجدون في إغفاءة تشبه الموت أو هي الموت عينه.(2/546)
إحياء رسالة المسجد
إن قضية المسجد هي فرع قضية الساجد: ونعني بالساجد المسلم، فآل الأمر إلى أن هذا الجمع الحاشد المبارك يبعث قضيتين:
أولاهما: تتسع فتشمل الساجد عقيدة وسلوكا حاضرا ومستقبلا.
والثانية: قضية المسجد: وهي تعني البحث عن أحسن الوسائل وأفضلها لكي يقوم بدور فعال في صياغة المؤمن وفق عقيدته وشرائعه. ولنقصر الحديث الآن على الساجد؛ لأنه محور القضية وموضوع المؤتمرين.
الساجد:
إن الحديث عن الساجد لا بد أن يثير عددا من التساؤلات:
كم نسبة الساجدين في المسجد من مجموع أهل القبلة؟ بل كم نسبة الذين يسجدون فقط؟ بغض النظر عن صلتهم وارتباطهم بالمسجد.
ثم إن افترضنا أن نسبة الساجدين فعلا 50 %، ونسبة الذين يرتادون المسجد تساوي 5 %، فإن أسئلة أخرى تبرز من جديد: ما هو موقف المؤتمر من الذين لا يسجدون ونسبتهم 45 %؟
وسؤال آخر ما موقف المؤتمر من الذين يسجدون خارج المسجد؟ هل ننقل المسجد إليهم في مدارسهم(2/546)
وأنديتهم وملاعبهم وأسواقهم؟
إذا فنسبة الذين يرتادون المسجد ضئيلة جدا 5 % هل يمكن أن تستقطب كل اهتمامات المؤتمر علما بأنها هي الأحسن حالا ومآلا «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان» وإذا شاء المؤتمر أن يقتصر على بحث أمر الساجد والمسجد فقط، فإن النسبة الساحقة تبقى خارج نطاق اهتمامهم، وهذا ما يتنافى مع شمولية الفكر الإسلامي.
أيها الإخوة. . .
إن مسئولية الدعوة والبلاغ بكل تبعاتها تقع على صنفين من الناس:
الشطر الأول منها يقع على عاتق علماء الشريعة الإسلامية {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1)
والقيام بشطر هذه المسئولية يقتضي تنظيما عالميا نشير إلى تفاصيله فيما بعد.
والشطر الثاني من هذه المسئولية يقع على ولاة أمور المسلمين، وعلى الأخص دولة الإيمان ومملكة الإسلام (المملكة العربية السعودية) وعليها أن تضطلع بالدور القيادي للحكومات الإسلامية في هذا الأمر لأسباب متعددة منها: أنها مؤهلة فكريا وماديا لتولي القيادة الروحية للعالم الإسلامي نحو غاياته الكبرى، ولأنها ما زالت تستمسك بالقرآن في الوقت الذي تفرقت فيه السبل بآخرين، ومنها: أن الله أكرمها بخدمة الحرمين الشريفين منطلق دعوتهم. . . ومنها: أن المملكة قد مرت بتجربة مريرة حينما هبت رياح التغيير وعصفت بكثير من القيم الإسلامية في مواقع متعددة من بلدان العالم الإسلامي، فظلت هي الشامخة الصامدة محتفظة ومعتزة بكيانها الإسلامي، وظل فقيد الإسلام فيصل بن عبد العزيز - طيب الله ثراه - يصارع الأنواء ويغالبها، وفي مهب هذه الزوابع استطاع بعون الله أن يرسي قواعد التضامن الإسلامي جامعة المسلمين التي ظلت حلما يراود قلوب المسلمين وعقولهم منذ سقوط الخلافة الإسلامية، ولم تسقط الراية بوفاة فقيد الإسلام ولن تسقط، فقد استلمها إمام المسلمين خالد بن عبد العزيز بحزم المؤمنين وصدقهم، وإنا لنأمل أن يحقق الله به آمال المسلمين، ويرأب به صدعهم، ويلم به شعثهم.
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(2/547)
لقد رأينا في الأمانة العامة للمؤتمر الإسلامي الأخير تسعا وأربعين علما إسلاميا يخفق على واجهة دار المؤتمر وهو أمر يدعو على العجب والطرب، فإذا أضفنا إلى ذلك المؤسسات المتخصصة في شئون الدعوة: الجامعة الإسلامية، إدارة البحوث العلمية والإفتاء، رابطة العالم الإسلامي، التي نجتمع الآن تحت سقفها، كان عنوان صدق لما نقول.
* * *
أيها الإخوة المؤتمرون:
إن ذكر هذه الخصائص للمملكة العربية السعودية لا يعني الإنقاص لأي دولة إسلامية أخرى، وإنما يعني أنها مؤهلة للقيام بدور قيادي فعال، خصوصا والدول الإسلامية تشاطرها المسئولية في المؤتمر الإسلامي والبنك الإسلامي وصندوق التنمية الإسلامي، وانطلاقا من هذا المفهوم فإني باسم مؤتمر القرآن الكريم بالسودان ودعما للجهود المخلصة التي يقوم بها هذا المؤتمر وإسهاما في مسئولية البلاغ أقترح الآتي:
1 - رفع التماس لإمام المسلمين خالد بن عبد العزيز كي يتبنى هو شخصيا بالتضامن مع الدول الإسلامية مشروعا يدعو لنشر الدعوة الإسلامية بصفة عامة لكافة الناس، ونشر الفكر الإسلامي المشرق بين المسلمين بصفة خاصة، على أن يكون مؤتمر رسالة المسجد واحدا من أجهزتها.
2 - بما أن العناصر الأساسية لنشر الدعوة الإسلامية ممثلة في:
أ- القرآن: هدى وضياء، والسنة: شرحا وبيانا.
ب- المسجد: منطلقا للدعوة وصانعا للدعاة.
ج- علماء الشريعة الإسلامية: دعاة وهداة.
أقترح تكوين اتحاد عالمي لهم ينظم شئون الدعوة استجابة لأمر الله {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وحماية لاتحاداتهم الإقليمية من التسلط سيما وأن حقوق الاتحادات والنقابات الفئوية أصبحت تجد حماية دولية.
3 - العناية البالغة من الدول الإسلامية بأمر القرآن عناية تجعل من القارئ شخصية إسلامية متكاملة للقيام بدوره على أحسن الوجوه وأفضلها.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(2/548)
4. إمامة المسجد: يجب أن لا توكل إلا لأكبر أهل العلم والإيمان حتى يكون له أثره في بناء الفرد المسلم والمجتمع المسلم، وترد للمسجد هيبته ويوضع في مصاف الأكاديميات، كما كان للجامع الأزهر، سابقا على أن تكون للإمام الحماية من التسلط، وحتى يستطيع أن يجهر بكلمة الحق دون رهبة أو خشية.
5. توجيه نداء لكل الحكومات الإسلامية بأن نتعاون مع الاتحادات الإقليمية لاتحاد العلماء المرتقب وتتيح له فرصة الاستفادة من أجهزة الإعلام بالقدر الذي يمكنه من أداء رسالته.
6. تكوين أمانة عامة لمؤتمر إحياء رسالة المسجد يكون مقرها مكة المكرمة، ولتكون على صلة بالمؤسسات الإسلامية العالمية للتنسيق معها.
7. توجيه نداء لاتحاد الجامعات الإسلامية بأن توظف فترة الإجازة الرسمية لصالح الدعوة أسوة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وذلك بابتعاث أساتذتها لنشر الدعوة في الأقطار المختلفة، على أن يتم ذلك بتنسيق بينها.
8. رفع صوت شكر لإمام المسلمين خالد بن عبد العزيز لرعايته لهذا المؤتمر.
9. تسجيل صوت شكر لرابطة العالم الإسلامي، لاهتمامها بأمور المسلمين ودعوتها لعقد هذا المؤتمر.
والله الموفق. . .
* * *(2/549)
محمد بشير الباني (1)
المسجد المعاصر
" وتقتضي إعادة المسجد لعالميته ورسالته في نشر هداية القرآن ودعوة الإسلام العمل على استدراك عودة القوى العملاقة الاقتصادية وسواها، القادرة على النهوض بأعباء المسجد وضرورياته ولوازمه. . ".
الحمد لله وحده
والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا محمد سيد والأولين والآخرين والمبعوث رحمة للعالمين، قمر الهداية، وشمس الرسالة، وعلى آله السادة الأخيار، وأصحابه الكرام كواكب الهداية ونجوم الاقتداء، ومن تبعهم بإحسان.
__________
(1) فضيلة الشيخ محمد بشير الباني: خطيب الجامع الأموي بدمشق، ورئيس جمعية الأنصار الخيرية - دمشق.(2/550)
إن رسالة المسجد تخريج أبطال يعتصمون بالكتاب والسنة {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) تخرج علماء حكماء يعملون بعمل الأنبياء، وقد خرج الرسول الأعظم هؤلاء العباقرة الأبطال الذين زينت الدنيا أعمالهم.
فلا توجد جامعة من جامعات الدنيا اليوم تكفل تخريج هذه النماذج من البشرية رغم أننا وصلنا إلى أرقى تقدم حضاري لم تشهد البشرية له نظيرا ولا مثيلا، مما دل على أن المادة. . والمادة فقط. . لا يمكن أن توصل إلى أهداف رسالة الإنسانية بل لا بد لهذه الجامعة أن تتلقح بخريجي المسجد، وعند ذلك نجد في ساحة المجتمع المثقف الحقيقي الذي جمع بالإضافة إلى دراسته وتجاربه العلمية ثقافة روحية وأخلاقا فاضلة.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 101(2/551)
وضع هذا المسجد
ولم تعد كثير من المساجد وقتنا الحاضر تقوم بمهمتها الرئيسية والأساسية التي أنشئت وبنيت من أجلها فلم تبن المساجد من أجل العبادة فقط، حيث إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (1) » وإنما مهمة المسجد أن يكون مدرسة ومعهدا ومعملا لتخريج القادة والدعاة، والذين بمقدورهم أن يأخذوا على عاتقهم إصلاح المجتمع وجعله صالحا يرضى عنه الله ورسوله.
فلقد حيل في عصرنا الحاضر بين المسجد وبين أهدافه هذه، فلم يعد يقوم بالدور الرائد في توجيه وتوعية الناس؛ وذلك لأن المسجد لم يعد يضم بين جنباته معظم أصحاب الفكر وكبار القوم ومن بيدهم مقاليد الأمور، لأن هؤلاء الطبقة من المجتمع باتوا في معزل عن المسجد، لأن واجباتهم اليومية وأعمالهم الحيوية، ومصالحهم المادية قد سيطرت على تفكيرهم.
ولعل من الإنصاف أن نقول: أن من استطاع الجمع بين واقع العمل المزدحم بالمسئوليات وبين الواجب الديني الملقى على عاتقه، أي من استطاع الجمع بين أمر الدين وأمر الدنيا هم قلة وليسوا بكثر، بل هم من الندرة بمكان، وهذا النادر يدفعنا للتفكير والتنهيج لدراسة الحلول الزمنية المقتضية لحل مثل هذه الأزمة ألا وهي إعادة المسجد لعالميته ورسالته في نشر هداية القرآن ودعوة الإسلام ألا وهي: العمل على استدراك عودة القوى العملاقة الاقتصادية وسواها القادرة على النهوض بأعباء المسجد وضرورياته ولوازمه، وترك ما هو ضروري للأجيال الصاعدة في ميدان الاقتداء والاهتداء، وما هو حري بالالتزام على أقل شئون الافتراض بدل غيبة هذه القوى، أو ما جرى عليه البعض من اللامبالاة.
__________
(1) رواه البخاري.(2/551)
ولو قيل ألا فيذهب المعلم الناصح الحامل لرسالة المسجد إلى هؤلاء ولينصحهم في عقر دارهم، فلو قدر لهذا الناصح الدخول مثلا على منحه الاقتصاد قوة القفز العالي لأرقى قمم الثروة المصرفية أو العمل الصناعي الضخم الفخم لرأيت ذهاب هذا المصلح ضائعا إلى حد كبير. ذلك أن المهام الحيوية ذات الأوزان الثقيلة التي يباشرها هذا الثري لم تعطه الوقت الكافي، فانظر إلى واقعه، إلى جانبه المستشارون حولهم المكاتب والآلات الحاسبة، إلى يمين مكتبه وشماله أجراس الهاتف، وحاجبه يناديه لتلبية التكلس (1) ويتعاكس مردود هذه القوى حتى يقول الناظر بحق: هذا الغريق في الثروة ما العمل؟ . . ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، أيكون لهذا قلوب تنازعتها الأعمال، أم هو يحمل فوق طاقته فليس عنده من الزمن في نظره ما يجلس به مع هذا المعلم، فضلا عن تثاقله في الذهاب إلى المسجد، فضلا عن التفرغ للتخطيط والتنهيج والتفكير بحاجات المسجد، فهو في عمل رتيب ليل نهار قد أخذ عليه العمل ساحات تفكيره، ونهب قواه واستولى عليه أخطبوط الفتنة بالمال والثروة، فهو غني بماله فقير بمشاريع الخير.
ولئن سلم البعض من هذا الأخطبوط، ولكن لم يسلم الكثير والكثير. . . فمن الذي ينزل إلى المسجد ويرى ضرورة تزويد المسجد بالطاقات الاقتصادية البناءة، لنجعل المسجد محور النشاط ومركز التوجيه الفكري والإعلامي لتأدية رسالته على الصعيدين المحلي والعالمي.
من منا أيها السادة لا يرى الضرورة الملحة بتقدير هذا الهدي النبوي «نعما بالمال الصالح للرجل الصالح (2) » من منا لا يرى ضرورة تنفيذ هذا البيان النبوي الرائع المعجز إذ يقول صلوات الله وسلامه عليه «لا بد للمؤمن في آخر الزمان من الدرهم والدينار يقوم بهما أمر دينه» .
من الذي سيعير جناحه الاقتصادي لرجل المسجد ولرسالة المسجد حي يلتقي الداعي إلى الله مع أفراد المجتمع بالدواء والبلسم الشافي على مراحل وئيدة ومناهج بعيدة عن الشدة والغلظة طبق المناهج التي هدانا إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مراحل الدعوة المختلفة فنجت الأمة العربية بفضلها بعد أن كانت على شفا جرف هار وبلغت السبق وخلفت وراءها كل سابق في القديم أو الحديث.
لقد ضاق وقت هذا الثري عن ولده وأهله وخويصة نفسه، فرأيت البيت مهيض الجناح، مكسور الخاطر، مهضوم الحقوق، حتى لتكاد صحة هذا الاقتصادي تشكو إلى بارئها ضعف صاحب هذا المال عن مراعاة قواعد الصحة والسلوك في تأمين بعض الوقت لراحته، والإفراج عن نفسه بعض الوقت أيضا لاسترداد قوته فعلى ضوء هذا القلم الإحصائي لمسيرة وقته ومسار عمله أتراه هذا حاملا لرسالة المسجد؟ . . .
__________
(1) Telex
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك، وابن سدر والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان - عن عمرو بن العاص والحديث بمجموعه يا عمرو إني أريد أن أبعثك على جيش فيغنمك الله ويسلمك، وأرغب لك في المال رغبة صالحة، يا عمرو نعما بالمال الصالح للرجل الصالح.(2/552)
نماذج أخرى على غير هذا الطراز، من الناس من ضاقت به كل المشاريع الخيرة وفرت من وجهه، فوظف المال في ملهاة النعيم، وسقى نفسه كأس اللهو، وعزف عن الرحيل إلى المسجد وعن رسالة المسجد، وعن رجل المسجد، اشتغالا بما هو في نظره موضع الصدارة، ورأيت برنامج عمله السفر من بلد على بلد ومن قطر إلى قطر فمن يسقيه كأس العلم والمعرفة؟ .
درس في أحضان المستعمرين، واستقى من أفكارهم وتتلمذ عليهم فراح يستخف بالمسجد وأهله ونماذج. . . ونماذج. . .
وقال الدين مقالته الصريحة، قال الله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (1) وأوصلتهم فتنة المال إلى هذا الواقع الأليم {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (2)
__________
(1) سورة النساء الآية 78
(2) سورة محمد الآية 24(2/553)
الحلول لهذه الأزمة
ما يمكن أن أراه وأعرضه بين أيديكم أيها السادة للمشورة والمذاكرة وأنتم أعلم بالحلول، ولكن نلتقي لاستعراض ما لدى كل واحد منا من رأي وفكر فأقول:
تأسيس معاهد تستطيع هذه المعاهد أن تنتج في رحابها رجال الدعوة الذين يلتزمون مبادئ القرآن وهدى الإسلام، ويكون في رحاب هذه المعاهد تزكية النفوس وتهذي الطباع ووضع الأسس السيكولوجية (1) والمقاييس التربوية لفحص الفطنة والذكاء ومقدار الموهبة ومقاييس القوة ومناط العبقرية، فليس كل من عن على خاطره أن يتحكم في رسالة المسجد تركناه على رغبته فلم يستطع أن يتسنم هذا المركز العلمي الخطير، وعلى ضوء هذا الهدي العلمي جعلنا التدريس في رحاب هذه المعاهد قائما على العلم ومكارم الخلاق، قائما على القرآن والتخلق بأخلاق سيد الأنام.
وقد لجأ الغرب إلى المدارس والمعاهد وجعلوها حجر الزاوية في نضج الأفكار وتربية الاتجاهات وحضانة المستقبل، وأفلحوا في إنتاج طائفة من المبشرين الذين كانوا بمثابة معول هدام لعقيدة الأمة وأخلاقها وضربة موجعة ما زلنا نئن من وطئتها وآثارها.
مشاريع تحرسها الدولة، لها ميزان القوى وهي مشاريع تخطيطية تحمل اسم مشروع السنوات لرسالة المسجد لتأتي هذه المشاريع بالطاقات الاقتصادية ذات الوفر المتعاظم عاما بعد عام بحيث يكون مردود هذا المشروع بعد السنة الأولى غير هذا المردود بعد عشرات السنين.
__________
(1) Psycology(2/553)
فإن لم تكن الدولة قد قامت بها جندنا أصحاب الطاقات الذين لهم أهداف المسجد، فوحدنا لهم الصف وجعلنا منهم حقل تكثير، ورغبنا رواد المساجد في العالم الإسلامي باقتناء وشراء هذه المنتوجات التي تحمل اسم سمة خاصة مميزة (كرسم مئذنة أو قبة جامع مثلا) على السلعة ويقوم التعاون على تسويقها ورواجها حيث يستفيد المسجد بقسم معين من ريع هذه المشاريع.
توفير أعمال تعاونية يحرص على إقامتها إمام المسجد بين رواد المسجد تكون لبنة الأساس في إنقاذ المساجد وأئمتها من ضائقة اقتصادية محيقة، لا بجدران المساجد ولكن كابوسها الثقيل يتناول أيضا الأعمال الإصلاحية التي تطلب من الجهة العاملة العامة لإصلاح المجتمع وتقويم ما اعوج في العالم الإسلامي من تقاليد وعادات خرجت بها عن أهداف الشرع المطهر.
مثل مشروع الليرة وسواها من المشاريع المعلن عنها في الصحف يوميا ككل المشاريع العامة.
وضع طابع مالي رسم عليه مسجد أو مئذنة يلصق على أي استدعاء أو طلب رخصة في الأوقاف أو عند افتتاح أي عمل تجاري أو عمل خيري أو دنيوي يلصق عليه طواعية من القائم على متابعة العمل بحيث يكون مردود هذا الطابع قوة نقدية تدعم مشاريع المسجد، بدل الوقوف على أبواب المساجد واستعطاف المارة والغريب والقريب لمثل هذه المساعدات التي تظهر كأنها سؤال الممقوت، بينما لا نجد مشروعا من مشاريع العالم إلا ويقوم على أسس اقتصادية محترمة، لا مجال فيها للسؤال ومد يد العوز والفاقة والذلة والمسكنة، ونظام الطابع الديني هذا يكون على وتيرة طوابع نقابة الأطباء أو المحامين وغيرهم.
المسجد الجوال المتنقل وإمامه العالم والداعي الحكيم حيث يهتم بعرض الأفكار النبيلة الخيرة وتوعية الجماهير لخطر السموم الفتاكة من التقليد الأعمى، وإزاحة كابوس الجهل بالدين وميوعة الأخلاق الذي ابتلي بها عامة المسلمين إلا من حرم الله، ولفت نظر عامة المسلمين إلى العناية والاهتمام بالمسجد وإمامه والتحذير من الاستخفاف برسالة المسجد، أو بالأحرى التحذير من عقوق المساجد.
وفي الختام لا يسعني إلا أن أتوجه بالشكر إلى الدولة المضيفة المملكة العربية السعودية التي تعمل جادة على خدمة المسلمين ورفع مستواهم وتمكين دينهم، ولا يفوتنا أن نبارك جهود أولئك الأفاضل الذين سعوا وبذلوا الجهد لجعل هذا المؤتمر على حيز الوجود ويتابعون العمل على إنجاحه.
والله أسأل أن يكلل جميع أعمالنا بالخير والنجاح، ويجعلها خالصة مخلصة لوجهه الكريم والله ولي التوفيق.
والحمد لله رب العالمين.(2/554)
التوصيات
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. . وبعد. .
ففي رحاب البيت العتيق الذي قال فيه الله سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (1) وفي {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (2)
ثم. . . في مقر الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي التي كانت منها أول دعوة لأول مؤتمر قمة إسلامي، وصدرت عنها أول دعوة لانعقاد أول مؤتمر لرسالة المسجد في العالم الإسلامي. . وعقد بها أول مؤتمر للمنظمات الإسلامية بالعالم.
في هذا المناخ الإيماني الكريم، انعقد أول مؤتمر لرسالة المسجد في الفترة ما بين الخامس عشر والثامن عشر من شهر رمضان المبارك سنة 1395 الموافق العشرين من شهر سبتمبر (أيلول) سنة 1975 م. وشهده ممثلو ثمانين شعبا ودولة هي:
الأرجنتين، الأردن، أسبانيا، أفغانستان، ألمانيا الغربية، الإمارات العربية المتحدة،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 96
(2) سورة البقرة الآية 185(2/555)
أندونيسيا، أوغندا، إيران، إيطاليا، باكستان، البحرين، البرازيل، البرتغال، بلجيكا، بنغلاديش، بوتسوانا، تايلاند، تشاد، تشيلي، تونس، جامبيا، جزائر ريونيون، جزائر القمر، جنوب أفريقيا، الداهومي، رواندا، روسيا، زامبيا، سنغافورا، السنغال، السودان، سوريا سويرنام، سويسرا، سيريلانكا، الصين، العراق، عمان، غانا، غويانا، غينيا، الفلبين، فلسطين، فنزويلا، فنلندا، فولتا العليا، قطر، كندا، كنغو برازفيل، كنغو زائير كينشاسا، كوريا، الكويت، كينيا، لبنان، ليبيريا، مالي، ماليزيا، مصر، المغرب، موريتانيا، موريشس، النيجر، نيجيريا، الولايات المتحدة الأمريكية، الهند، هولندا، اليابان، اليمن، يوغسلافيا، اليونان، التبت، المملكة العربية السعودية، ولفيف من الشخصيات الإسلامية.
وبعد أن تدارس المؤتمرون جدول أعمال هذا المؤتمر، انتهوا إلى التوصيات التالية:(2/556)
أولا: فيما يتعلق بموضوع رسالة المسجد
يوصي المؤتمر بما يلي:
1 - العناية بوضع مناهج إسلامية للدعوة تتلاءم مع واقع الحركة الإسلامية لكل منطقة، ومراجعتها بين الحين والآخر لإضافة مزيد من الخبرات الميدانية التي تكونت للدعاة من خلال ممارستهم ميدانيا وعمليا.
2 - التنسيق بين كليات الدعوة في الوطن العربي ليكون لكل منها عناية خاصة بمساحة جغرافية معينة.
3 - ضرورة التنسيق بين المسجد والوسائل الإعلامية والمؤسسات التربوية حتى تخدم جميعها عقيدة المسلم وتصحيح سلوكه حسب تعاليم الشريعة الإسلامية الغراء.
4 - التوسع في إنشاء المساجد المتعددة الخدمات بحيث توفر لروادها إشرافا ثقافيا واجتماعيا وتربويا.
5 - تنويع وسائل الدعوة بالكلمة المكتوبة والمسموعة وغيرها.
6 - من الضروري أن ينهض المسجد برسالته في جميع الأماكن التي توجد فيها تجمعات إسلامية حيث يصبح وجود المسجد ضرورة في كل مكان يتجمع فيه المسلمون: كالمدارس والجامعات والمصانع والأندية والثكنات(2/556)
والمعسكرات وغيرها.
7 - من الضروري أن يلقى الشباب في المسجد عناية خاصة بتوجيهه بالأسلوب الذي يتفق وعمر الشباب من ناحية وروح العصر من ناحية ثانية.
8 - العناية بالمرأة حتى تنال نصيبها من الثقافة الإسلامية وأحكام دينها.
9 - عقد اجتماعات دورية لأئمة المسجد في كل منطقة لتبادل الخبرات والتجارب ودراسة المشاكل التي تعترض مهمة المسجد ووضع الحلول المناسبة لعلاجها بما يتفق مع صالح المسلمين ضمن الإطار الإسلامي الصحيح.
10 - إحياء الرسالة التعليمية للمساجد الإسلامية العريقة كجامع الزيتونة، والقرويين، والأزهر، وضرورة استمرار وظيفة تلك المساجد التعليمية بما يجدد ماضيها التاريخي الذي أدى دورا هاما في الحياة الإسلامية.
11 - أهمية إعداد الأئمة ومساعديهم حيث يتوقف الجزء الأهم في رسالة المسجد على كفاءتهما.
12 - ضرورة العناية بالمسجد من ناحية بنائه وسائر متطلباته ومطابقة وظائفه وتخطيطه بما يخدم الهدف الأساسي من وجوده وتطهيره من كل ما يخالف شرع الله.
13 - استنفار المسلمين لاستنفاذ المقدسات الإسلامية وعلى الأخص المسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمي والدعوة إلى تحريرهما.
14 - يوصي المؤتمر بأن تكون للإمام حصانة تكفل له استقلاله الفكري ورأيه الحر في تناول مشاكل المسلمين وقضاياها في إطار الشريعة الإسلامية.(2/557)
ثانيا: فيما يتعلق بموضوع إعداد الأئمة والخطباء والدعاة
يوصي المؤتمر بما يلي:
فيما يتصل باختيار الإمام والخطيب يوصي المؤتمر بمراعاة ما يأتي:
1 - أن يكون قوي الصلة بربه وقدوة لغيره، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر قادرا على الجهر بكلمة الحق.
2 - أن يقصد بما يقدمه من أعمال وجه الله والدار الآخرة وأن يبتعد عن الرياء والمجاملة في الحق وأن يكون زاهدا في مدح الناس وثنائهم.(2/557)
3 - أن يكون دائم الصلة بالأصلين الأساسيين والينبوعين الصافيين: كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- دراسة وتأملا واستنباطا وعملا يستمد من نورهما ويقف عند حدودهما.
4 - أن يكون دقيق الفهم واسع الإطلاع محيطا بالبيئة التي يعيش فيها إحاطة تامة بأحوالها وظروفها والتيارات والتحديات التي تتعرض لها.
5 - أن يدرس التاريخ الإسلامي والإنساني وأن يكون ملما بقسط كبير من علوم الكون والحياة.
6 - أن يكون له ثروة طائلة من النصوص واللغة وأن يكون على علم ببعض اللغات غير العربية ليتمكن من الإطلاع على ما يكتبه الأصدقاء والأعداء عن الإسلام ومن إفهام وإقناع من يتكلم بغير العربية من المسلمين وغير المسلمين.
7 - أن يكون على مستوى المسئولية والكفاية العلمية حتى يستطيع أن يعالج ما يعرض له بحجة قوية وأسلوب مقنع.
8 - أن يكون ذا خلق كريم وسلوك مستقيم ليكون محبوبا لقومه فيؤمنوا عن صدق بما يقول ويستجيبوا لما يرشدهم إليه.
9 - أن يكون حليما صبورا حريصا على إفادة أهل حيه وتنوير بصائرهم.
10 - أن يزهد بما عند الناس ويقنع بما أعطاه الله حتى يكون عزيزا بينهم أهلا لاحترامهم ومودتهم بعيدا عن التعرض لإهانتهم.
11 - أن يكون حسن التلاوة لكتاب الله عالما بأحكام التجويد.
12 - أن يكون حسن المظهر ذا ذي يتسم بالوقار.
وفيما يتصل بإعداد الأئمة يوصي المؤتمر:
- إنشاء معاهد متخصصة في تخريج الأئمة والدعاة وفق مناهج يضعها الخبراء من الأساتذة وكبار الدعاة، وذلك بناء على المشروع المقدم للأمانة العامة للرابطة.
- إعداد البحوث الواسعة والدارسات التوجيهية المتنوعة في بيان واجبات الإمام وإنشاء مجلة متخصصة لمساعدة الأئمة في مهمتهم ومدهم بالبحوث التي تتصل بأعمالهم.(2/558)
- عقد الدورات التدريبية الإقليمية للاستماع من الأئمة إلى ما يصادفهم من مشكلات ومعاونتهم على حلها مع تزويدهم دائما بما يجدد ثقافتهم وينشط معلوماتهم.
- تكوين هيئة عليا للإشراف على الأئمة ومعاونتهم على أداء مهمتهم على الوجه المطلوب على أن تنسق هذه الهيئة العليا عملها مع الأمانة العامة للرابطة.
- إحاطتهم علما بأحدث الوسائل في خدمة الدعوة وتبليغ الكلمة بأحسن الوسائل.(2/559)
ثالثا: فيما يتصل بموضوع خطبة الجمعة
يوصي المؤتمر بما يلي:
أولا. ينبغي أن تهدف خطبة الجمعة إلى تحقيق الأغراض التالية:
(أ) الوعظ والتذكير بالله تعالى وبحسابه وجزائه في الآخرة، وبالمعاني الربانية التي تحيا بها القلوب، والدعوة على الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(ب) تفقيه المسلمين وتعليمهم حقائق دينهم من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- مع العناية بسلامة العقيدة من الخرافات، وسلامة العبادة من المبتدعات، وسلامة الأخلاق والآداب من الغلو والتفريط.
(ج) تصحيح المفاهيم المغلوطة عن الإسلام، ورد الشبهات والأباطيل التي يثيرها خصومه لبلبلة الأذهان، بأسلوب مقنع حكيم، بعيد عن المهاترة والسباب، ومواجهة الأفكار الهدامة والمضللة بتقديم الإسلام الصحيح باعتباره منهج الأمة الأصيل الذي ارتضاه الله لها، وارتضته لنفسها دينا، مع إبراز خصائصه من الشمول والتوازن والعمق والإيجابية.(2/559)
(د) ربط الخطبة بالحياة، وبالواقع الذي يعيشه الناس، وذلك بالتركيز على علاج أمراض المجتمع، وتقديم الحلول لمشكلاته من الشريعة الإسلامية الغراء، مع إعطاء عناية لشئون المرأة والأسرة المسلمة نظرا لما نتعرض له من فتنة يحرك تيارها أعداء الإسلام.
(هـ) مراعاة المناسبات الإسلامية المختلفة التي تتكرر على مدار العام مثل رمضان والحج والهجرة وغيرها، مما يشغل أذهان المستمعين ويشوقهم إلى معرفة تنير لهم الطريق بشأنه.
(و) تثبيت معنى أخوة الإسلام ووحدة أمته الكبرى، ومقاومة النزعات والعصبات العنصرية والمذهبية والإقليمية وغيرها، المفرقة للأمة الواحدة. والاهتمام بقضايا المسلمين داخل العالم الإسلامي وخارجه، حتى لا ينفصل المسلم فكريا وشعوريا عن إخوانه المسلمين في كل مكان «ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» .
(ز) إحياء روح الجهاد والقوة في نفوس الأمة، وإشعال جذوة الحماس لحماية حرمات الإسلام ومقدساته، وأوطانه. وصون دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم والدفاع عن عقيدة الإسلام وشريعته، والعمل على إزالة الطواغيت المعوقين لسير دعوته.
ثانيا. يجب أن تنزه خطبة الجمعة من أن تتخذ أداة للدعاية لشخص أو حزب أو نظام، وأن تكون خالصة لله تعالى ولدينه، وتبليغ دعوته وإعلاء كلمته {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1)
ثالثا. ينبغي ألا تفرض على الخطيب خطبة موجهة من قبل السلطات، يرددها ترديدا آليا لا روح فيه، وأن تترك له الحرية لاختيار موضوعه وإعداده وأدائه بالطريقة التي يرضاها عقله وضميره، وفقا لما درسه من كتاب ربه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
رابعا. على العلماء والدعاة الأكفاء أن يضعوا أمثلة رفيعة لموضوعات إسلامية متنوعة، تشتمل على المواد الأساسية لبناء الخطبة، في صورة أدلة وشواهد من الكتاب والسنة والسيرة والتاريخ الإسلامي، والأقوال المأثورة، والشعر البليغ لتكون في أيدي الخطباء، في شتى الأقطار الإسلامية، ليستعين بها من يحتاج إليها في إعداد الخطبة.
خامسا. يجب أن يعتمد في إعداد الخطبة على مصادر المعرفة الإسلامية الموثقة، وأن تترفع عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة، والإسرائيليات المدسوسة والحكايات المكذوبة، والمبالغات المذمومة،
__________
(1) سورة الجن الآية 18(2/560)
وكل ما لا يسنده نقل صحيح، أو عقل صريح.
سادسا. يجب أن تكون لغة الخطبة في البلاد العربية هي الفصحى السهلة المفهومة وأن تبعد عن العامية، وعن تكلف الأسجاع، والألفاظ الغريبة على الأسماع.
أما في غير البلاد العربية فيكفي أن تكون مقدمة الخطبة وأركانها باللغة العربية، وأما موضوع الخطبة فيجب أن يكون باللغة العربية التي يفهمها الحاضرون.
سابعا. ينبغي أن يكون أداء الخطبة طبيعيا، بعيدا عن التغني والتشدق والصياح وكل مظاهر التكلف المنفر.
ثامنا. ينبغي ألا يطيل الخطيب إلى حد يثقل على المستمعين وينفرهم من سماع الخطبة، وألا يقصر إلى حد يخل بموضعه ويبتره.
تاسعا. خطبة العيد ينطبق عليها ما يسبق بالنسبة لخطبة الجمعة، مع وجوب رعاية المناسبة الخاصة بكل عيد من عيدي الإسلام، وأن يكون لها طابع الشمول والتذكير العام بمبادئ الإسلام.(2/561)
رابعا: فيما يتصل بموضوع:
الإشراف على المسجد
يوصي المؤتمر بما يلي:
بما أن المسجد مؤسسة ذات مركز عظيم وله استقلاله الذاتي حكوميا أو أهليا فهو يحتاج في النهوض برسالته إلى جهاز يتولى ما يلي:
(أ) 1- الإشراف على أداء الصلوات في أوقاتها المعلومة.
2 - تفقد أحوال المسلمين الموجودين في محيط المسجد وتقديم العون لهم، وتشجيعهم على أداء الصلاة جماعة وحل مشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية وإصلاح ذات بينهم.
3 - جمع التبرعات وتوجيهها في مستلزمات المسجد أو إعانة المحتاجين من المسلمين.
4 - يتم تكوين هذه اللجنة بطريق الاختيار من قبل المصلين في محيط المسجد.(2/561)
5 - تشارك لجنة الإشراف على المسجد في اختيار الإمام بالتشاور مع أهل الحي.
(ب) أن يكون هناك تنسيق وتعاون بين لجان التوجيه والإشراف في القرية والمدينة والقطر ليتم التعاون مع المجلس الأعلى العالمي للمساجد.(2/562)
خامسا: فيما يتعلق بموضوع المجلس الأعلى العالمي للمساجد
يوصي المؤتمر بما يلي:
تكوين مجلس أعلى باسم " المجلس الأعلى العالمي للمساجد ". . تكون أهدافه:
1 - تكوين رأي إسلامي عام في مختلف القضايا والموضوعات الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة.
2 - محاربة الغزو الفكري والسلوك المنحرف في حياة المسلمين وبناء الشخصية الإسلامية فكرا وعقيدة وسلوكا.
3 - العمل على تأكيد حرية الدعاة إلى الله وأئمة المساجد والخطباء في الدعوة والتبليغ في إطار الكتاب الكريم والسنة الشريفة والعمل على حمايتهم من أي اضطهاد وتمكينهم من أداء رسالة المسجد.
4 - حماية المساجد من كل اعتداء يقع عليها أو على ممتلكاتها ومن أي انتهاك لحرماتها وإعادة المساجد التي حولت عن طبيعتها إلى أوضاعها الأصلية كمسجد أيا صوفيا وغيره.
5 - الحفاظ على الأوقاف الإسلامية واسترجاع ما عطل أو صور منها وتنميتها.
6 - الدفاع عن حقوق الأقليات الإسلامية في أداء شعائرهم الدينية في المساجد وإيقاف المضايقات التي يتعرضون لها.(2/562)
الاختصاصات
1 - وضع الخطط العامة لإحياء دور المسجد في التوجه والتربية والتعليم ونشر الدعوة وتقديم الخدمات الاجتماعية.(2/562)
2 - إصدار مجلة دورية باسم (رسالة المسجد) تعنى برفع كفاية الأئمة والخطباء الثقافية والفنية وتضع بين أيديهم نماذج رفيعة من الخطب والدروس المدعمة بالنصوص من الكتاب والسنة.
3 - إصدار المؤلفات والنشرات التي تشرح مبادئ الإسلام وتوضح مزاياه.
4 - أ- ضرورة تخصيص إذاعة من مكة المكرمة باسم (رسالة المسجد) باللغات المختلفة وتكون قوية بحيث تسمع في جميع أنحاء العالم.
ب- العمل على تخصيص ركن في كل إذاعة إسلامية لرسالة المسجد.
ج- العمل على إيقاف الإذاعات المسيحية الصليبية في البلاد الإسلامية وتسليمها للمسلمين لنشر دعوة الإسلام.
5 - القيام بمسح شامل للمساجد في العالم وتدوين المعلومات اللازمة عنها وضبطها في سجل خاص وتفريغها في كتب ونشرات دورية بين حين وآخر.
6 - اختيار مجموعة من الدعاة القادرين على مهمة الدعوة والخطابة بعد إعدادهم للقيام بجولات توجيهية في مساجد العالم الإسلامي.
7 - إقامة دورات تدريبية مستمرة لأئمة المساجد وخطبائها مركزية وإقليمية تثري ثقافتهم وترفع كفايتهم.
8 - تشكيل هيئة أو مجلس إدارة لكل مسجد تتولى الإشراف المباشر على المسجد ومرافقه وملحقاته وإدارته وتنظيم شئونه.
9 - دراسة الأفكار وأنماط السلوك التي تتعارض مع تعاليم الإسلام وتفنيدها.(2/563)
تكوين المجلس
فيما يتعلق بتشكيل المجلس الأعلى العالمي للمساجد يوصي المؤتمر بما يلي:
أولا يعين المؤتمر هيئة تأسيسية تضع النظام الأساسي للمجلس الأعلى العالمي للمساجد، وتسمي أعضاء المجلس لفترة تحددها. ويكون أعضاء المجلس مسئولين أمامها.
وتتكون الهيئة التأسيسية من التالية أسماؤهم:(2/563)
شيخ الأزهر مصر (1) فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود رئيس الجامعة الإسلامية السعودية (2) سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الإشراف الديني بالحرم المكي السعودية (3) سماحة الشيخ عبد الله بن حميد الأمين العام للرابطة السعودية (4) معالي الشيخ محمد صالح القزاز رئيس مؤتمر العالم الإسلامي سوريا (5) دولة الدكتور معروف الدواليبي أمين عام جمعية الإصلاح الاجتماعي الكويت (6) سعادة الأستاذ عبد الله العلي المطوع عضو المجلس التأسيسي للرابطة العراق (7) معالي اللواء محمود شيت خطاب عضو المؤتمر الإسلامي العام الأردن (8) سعادة الأستاذ كامل الشريف مفتي لبنان لبنان (9) سماحة الشيخ حسن خالد رئيس مكتب التوجيه والإرشاد اليمن (10) فضيلة الشيخ عبد المجيد الزنداني رئيس ندوة العلماء الهند (11) فضيلة الأستاذ أبو الحسن الندوي أمير الجماعة الإسلامية الهند (12) فضيلة الشيخ محمد يوسف أمير الجماعة الإسلامية باكستان (13) سعادة الأستاذ الطفيل محمد رئيس المجلس الإسلامي الأعلى للدعوة الإسلامية أندونيسيا (14) دولة الدكتور محمد ناصر رئيس المنظمة الإسلامية العالمية أندونيسيا (15) معالي الأستاذ أحمد شيخو رئيس وزراء ولاية صباح ماليزيا (16) دولة تون مصطفى رئيس الجامعة الإسلامية بأم درمان السودان (17) فضيلة الدكتور كامل الباقر قاضي القضاة نيجيريا (18) فضيلة الشيخ أبو بكر جومي رئيس الجمعية الإسلامية غينيا (19) معالي الشيخ يوسف النبهاني رئيس جمعية الدعوة الإسلامية ليبيا (20) فضيلة الشيخ محمود صبحي إمام المسلمين في تشاد تشاد (21) فضيلة الشيخ موسى إبراهيم رئيس المجلس الأعلى الإسلامي الجزائر (22) فضيلة الشيخ أحمد حماني أمين عام المجلس الإسلامي الأوربي أوربا (23) سعادة الأستاذ سالم عزام مدير مكتب الرابطة أمريكا (24) سعادة الدكتور أحمد صقر رئيس اتحاد الجمعيات الإسلامية في أمريكا أمريكا (25) سعادة الأستاذ داود أسعد رئيس جمعية الأسجا أمريكا الجنوبية (26) فضيلة الشيخ شفيق الرحمن(2/564)
يكون لأعضاء الهيئة التأسيسية الحق في إضافة أعضاء جدد إليها تختارهم.
ينشأ مكتب أمانة عامة في رابطة العالم الإسلامي للهيئة والمجلس.(2/565)
سادسا: فيما يتعلق بموضوع تمويل المساجد
يوصي المؤتمر أن تكون مصادر تمويل المساجد كما يلي:
1 - ما تقدمه حكومات الدول الإسلامية من دعم مادي في تمويل ورعاية شئون المسجد في كافة أنحاء العالم.
2 - ما يتبرع به أغنياء المسلمين لتعمير بيوت الله.
3 - ما يوصي به الموسرون لهذا الغرض.
4 - الأوقاف التي يقفها المسلمون على المساجد.
5 - ما تتبرع به المنظمات الإسلامية الشعبية لهذا الغرض.
6 - المشروعات الاستثمارية التي يقوم بها صندوق التمويل بالطرق الشرعية لصالح المسجد.
7 - يتم إنشاء " صندوق للتمويل " يتولى جمع هذه التبرعات والإنفاق منها على شئون المسجد محليا.
8 - ينشئ المجلس الأعلى العالمي للمساجد " صندوقا " تكون مهمته التنسيق بين احتياجات المساجد في أنحاء العالم.
9 - من الأهمية بمكان أن يتولى المجلس الأعلى العالمي للمساجد عملية تنسيق التبرعات لتعمير بيوت الله بحيث لا يتكرر التبرع لواحد منها بينما يبقى غيره في أشد الحاجة إلى التمويل.(2/565)
نفقات المساجد ورسالتها
تغطى نفقات المساجد ورسالتها كما يلي:
(أ) نفقات انعقاد مؤتمر المساجد ورسالتها في مختلف دوراته. ونفقات انعقاد المجلس الأعلى العالمي للمساجد تقوم بها وتغطيها الدولة التي تدعو لعقده بمساعدة رابطة العالم الإسلامي.(2/565)
(ب) نفقات تنفيذ قرارات المؤتمر ومهمات المجلس الأعلى العالمي تغطى من الصندوق المركزي للمساجد، ومما تأخذه الرابطة على عاتقها من هذه النفقات في هذا المجال.
(جـ) نفقات المساجد المحلية في كل بلد تغطى كما يلي:
1 - إنشاء المساجد في محل الحاجة وترميمها وصيانتها تقوم بنفقاته وزارات الأوقاف وفروعها الإدارية بحسب ميزانيتها، وتعاون فيه أيضا الصناديق المحلية للمساجد.
2 - أما نشاطات المساجد المحلية وأداء رسالتها فما كان من قبيل الشعائر والوظائف الأساسية كالأئمة والخطباء والمدرسين والمؤذنين وسائر موظفي المساجد وكمفروشات هذه المساجد مما يقع عادة على عاتق وزارات الأوقاف وفروعها الإدارية فتلتزم به وتتحمله ميزانياتها كالمعتاد. وما كان من نشاطات أخرى كالمحاضرات وتسجيلاتها وتأسيس المكتبات وسائر وجوه النشاط الذي يدخل في رسالة المسجد ووسائلها المتطورة فيتحمله الصندوق المحلي مما يقدمه إليه الصندوق المركزي لهذه الغايات.(2/566)
سابعا: فيما يتصل بموضوع التخطيط الهندسي للمساجد
يوصي المؤتمر بما يلي:
1 - اعتبار المسجد مركزا لحياة المجتمع الإسلامي حيث الواجبات الاجتماعية هي امتداد للواجبات الدينية. وعلى هذا الأساس يجب أن يكون موقع المسجد في قلب المدينة أو الحي بارزا سواء كان في القرية أو الحي أو مقر العمل.
2 - البساطة في التصميم والتنفيذ ومراعاة البيئة التي يشيد فيها المسجد مع استخدام الأساليب الحديثة في مجالات الهندسة والتشييد.
3 - أن يصمم المسجد ليخدم مجموعة من الأغراض اللازمة لحياة المسلمين مثل:
(أ) أن يكون المصلى مستوفيا للشروط الصحية من تهوية وإضاءة وتدفئة.
(ب) أن يكون للنساء قسم خاص من المصلى يمكن الوصول إليه والخروج منه بدون الحاجة إلى الاختلاط مع الرجال.
(جـ) أن يشمل المسجد إلى جانب المصلى مكتبة وقاعة للمطالعة والمحاضرات وصالات للاجتماعات.(2/566)
(د) أن يحتوي المسجد على مكان لتعليم القرآن ولمساعدة الطلاب في دروسهم.
(هـ) أن توجد إلى جوانبه ملاعب وصالات لرعاية الصغار أثناء أوقات فراغهم وخاصة العطلات الصيفية.
(و) أن يجهز قسم بالمعدات الخاصة لتعليم النساء أمور التدبير المنزلي.
(ز) أن يلحق به مستوصف لمعالجة الحالات البسيطة وكذلك غرفة معدة لتغسيل وتكفين الموتى.
(ح) من الضروري عند التصميم مراعاة حرمة المساجد بحيث لا تجاور أماكن اللهو وما من شأنه أن ينال من حرمة بيوت الله.
(ط) - وجود أماكن للضيافة ملحقة بالمسجد.
4 - 1- أن تقوم رابطة العالم الإسلامي بحث الجهات المسئولة عن بناء المساجد في العالم الإسلامي على تحسين وتطوير الأجهزة الفنية التي تشرف على بناء المساجد بها وعلى إعطاء العناية اللائقة بأعمال تصميم المساجد.
2 - أن تقوم رابطة العالم الإسلامي بحث الجهات المسئولة عن بناء المساجد في العالم الإسلامي على طرح تصميمات المساجد الرئيسية التي تزمع تشييدها في مسابقات بين المعماريين المسلمين.
3 - أن تتبنى رابطة العالم الإسلامي مسابقات معمارية في مجال تصميم المساجد على اختلاف مستوياتها وذلك على مستوى المعماريين المسلمين.(2/567)
ثامنا: فيما يتعلق بموضوع المسجد الأقصى
يوصي المؤتمر بما يلي:
أولا. العمل على تقوية روح الجهاد عند المسلمين، وبذل الجهود في سبيل تشكيل كتائب الجهاد الإسلامية لاستنقاذ المقدسات بالتعاون مع المجاهدين من أجل فلسطين.
ثانيا. العمل الجاد على تسخير جميع ما يملكه المسلمون من إمكانات وغيرها في سبيل استرداد مقدساتهم الإسلامية. ورفض جميع القرارات التي تفرط بأي جزء من أجزاء الأراضي المغتصبة أو أي حق من حقوق شعبها.(2/567)
ثالثا. تدريب الجيل الناشئ تدريبا عسكريا إسلاميا، وجعل هذا التدريب جزءا أساسيا من مناهج التعليم في المرحلة الإعدادية وما تليها من مراحل دراسية في البلاد الإسلامية التي لا يكون التدريب العسكري فيها إلزاميا وتعميم فكرة حركة الأشبال التي تعمل على إعداد أشبال الأمة إعدادا عسكريا وذلك لتخريج أفواج من المجاهدين المخلصين.
رابعا. شرح القضية التي نكب بها المسلمون في المسجد الأقصى وغيره من البقاع السليبة شرحا وافيا لأبناء الأمة الإسلامية وغيرهم، ويمكن تحقيق هذا الهدف إذا تعاونت وسائل الإعلام مع منابر المساجد ومناهج التعليم على تحقيقه.
خامسا. العمل على وقوف المسلمين صفا واحدا في وجه أي دولة يثبت أنها قد انتهكت حرمة مسجد من مساجد المسلمين، ومقاومة هذه الدولة بكل ما يستطيع المسلمون فرضه عليها من عقوبات.
سادسا. تشكيل لجنة دائمة تحمل اسم " لجنة المسجد الأقصى " يكون مقرها رابطة العالم الإسلامي، وتكون مهمتها متابعة تنفيذ هذه التوصيات.(2/568)
تاسعا: توصيات عامة
1 - مطالبة الحكومات الإسلامية بتحكيم الشريعة الإسلامية وتطبيقها في جميع أمور الدين والدنيا {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1)
2 - مطالبة الحكومة التركية بفتح جامع أيا صوفيا وإعادته للعبادة باعتباره أول مسجد صلى به المسلمون بعد فتح استانبول على يد القائد البطل محمد الفاتح.
3 - رجاء الرابطة بطبع موسوعة لجميع المساجد في العالم الإسلامي تحوي كل المتطلبات التي تلزم الباحث.
4 - حث الحكومات الإسلامية على فتح بيوت للطلبة المسلمين في البلدان الأجنبية والعناية بالطالبات المسلمات وعدم السماح بسفرهن إلا في الضرورة القصوى مع ذي محرم.
5 - إن مؤتمر رسالة المسجد يتابع بقلق الأحداث الدامية في لبنان، وبدافع مع إيمانه برسالة الإسلام السمحة يتوجه إلى جميع اللبنانيين بنداء أخوي لإيقاف الاقتتال.
وفي ختام هذه التوصيات يحرص المؤتمرون على أن يؤكدوا التزامهم بالعمل - كل في محيطه - على وضع هذه التوصيات موضع التنفيذ على المستويين الحكومي والشعبي، إيمانا منهم بأن رسالة المسجد في أمتنا هي رسالة الإسلام.
__________
(1) سورة المائدة الآية 50(2/568)
كما يحرص المؤتمرون على أن يعربوا عن تقديرهم العميق للبلد الإسلامي الشقيق المضياف المملكة العربية السعودية، وعلى رأسها جلالة خادم الحرمين الشريفين الملك خالد بن عبد العزيز وولي عهده سمو الأمير فهد بن عبد العزيز.
ولا ينسى المؤتمرون أن يسجلوا بالشكر والتقدير الجهود الموفقة التي تبذلها الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي، ويخصون بالشكر معالي أمينها العام الشيخ محمد صالح القزاز وجميع العاملين معه لمبادراتهم الكريمة إلى مثل هذه الدعوات.
والله وحده المسئول أن يهدينا سواء السبيل ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. .
مكة المكرمة
15 - 18 رمضان 1395 هـ(2/569)
كتب من التراث
إصلاح المساجد
من
البدع والعوائد
للشيخ العلامة محمد جمال الدين القاسمي
تقديم: ناجي الطنطاوي(2/570)
من
البدع والعوائد
للشيخ العلامة محمد جمال الدين القاسمي
في غمرة الحديث عن المسجد ورسالته ومكانته الرفيعة في الإسلام، أود أن أتحدث إلى القراء الكرام عن كتاب من الكتب القيمة التي تتحدث عن جانب هام من جوانب هذا الموضوع، أطلق عليه مؤلفه اسم (إصلاح المساجد من البدع والعوائد) ألفه علامة الشام الشيخ (محمد جمال الدين القاسمي) -عليه رحمة الله-، وهو كما يقول مقدم الكتاب الأستاذ الكبير (محب الدين الخطيب) -رحمه الله تعالى- (مصباح من مصابيح الإصلاح الإسلامي، التي ارتفعت فوق دياجير حياتنا الحاضرة) ويقول عن الكتاب بعد ذلك: (ونظنه الكتاب الوحيد المعروف بالعربية في هذا الموضوع) .
ولا أحسب أن في هذا الوصف مغالاة ولا شططا في الإطراء، ذلك لأن الموضوع في حد ذاته مبتكر، ولأن الكتاب حافل بالحديث عن المساجد في شتى النواحي ومختلف المجالات.
وقال المؤلف في آخر الكتاب: (تم جمعا وتسويدا في (24) رمضان عام (1323) بمنزلنا بدمشق الشام ثم زاد المؤلف عليه زيادات كثيرة بعد التاريخ المذكور حتى عام (1330) .
ويقول الأستاذ خير الدين الزركلي في (الأعلام) عن المؤلف أنه (إمام الشام في عصره علما بالدين، وتضلعا(2/571)
في فنون الأدب، مولده في دمشق عام (1283) ووفاته فيها عام (1332) كان سلفي العقيدة لا يقول بالتقليد، اتهمه حسدته بتأسيس مذهب جديد في الدين، فقبضت عليه الحكومة وسألته فرد التهمة فأخلى سبيله واعتذر إليه (والي دمشق) فانقطع في منزله للتصنيف وإلقاء الدروس في التفسير وعلوم الشريعة الإسلامية والأدب) ثم يقول صاحب الأعلام: (اطلعت له على اثنين وسبعين مصنفا منها كتاب: دلائل التوحيد، وكتاب الفتوى في الإسلام، وشرح لقطة العجلان، وكتاب موعظة المؤمنين، وكتاب تنبيه الطالب إلى معرفة الفرض والواجب، وكتاب قواعد التحديث في فنون مصطلح الحديث، وكتاب إصلاح المساجد، وكتاب محاسن التأويل اثنا عشر مجلدا في تفسير القرآن الكريم وأكثرها مطبوع وبعضها لا يزال مخطوطا) .
وقام بنشر الكتاب المكتب الإسلامي في بيروت، وطبعه طبعة أنيقة للمرة الثانية عن نسخه مكتوبة بخط المؤلف محفوظة عند ولده صديقنا الأستاذ ظافر القاسمي، وكتب مقدمته الباحث الإسلامي الكبير محب الدين الخطيب، -رحمه الله-، وقام بتخريج أحاديثه والتعليقات عليه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وتمت طباعته عام (1390) .
ويضم الكتاب (272) صفحة بالحجم المتوسط، وهو يدور حول الدعوة إلى إصلاح حال المساجد في الشام، وفي كثير من بلاد الإسلام الأخرى، وتنقيتها من البدع والخرافات، وكثير من الزيادات المخالفة للدين التي أدخلت على المساجد عبر عصور الجهل السابقة. . فتراكمت فيها وكثرت والتزم كثير من العوام بها وراحوا يقاتلون كل داع يدعو إلى إزالتها.
ويقتضي واجب الإقرار بالحق هنا أن أصرح بأن المساجد في أنحاء المملكة خالية بحمد الله من البدع الكثيرة التي ابتليت بها بلاد المسلمين، ولا ريب أن هذه نعمة من نعم الله عليها.
وقبل أن يتحدث المؤلف عن البدع التي شاهدها في المساجد، عقد فصلا ضافيا تكلم فيه على الابتداع في الدين، وما ورد من الترهيب فيه والنهي عنه، وعن تقسيم البدع إلى حسنة وسيئة، وعن حدود كل منهما، وما يجب على العلماء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعما استحدث في الدين مما يخالف أحكامه، ومما قاله في هذا الصدد " لا يخفي أن مدار العبادات إنما هو على المأثور في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة مع الإخلاص في القلب وصحة التوجه إلى الله تعالى، ولكل مسلم الحق في إنكار كل عبادة لم ترد(2/572)
في الكتاب والسنة في ذاتها أو صورتها، فقد أخبرنا الله تعالى في كتابه لنا ديننا وأتم علينا به نعمته، فكل من يزيد فيه شيئا فهو مردود عليه. . لأنه مخالف للآية الشريفة والحديث الصحيح: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » وكل البدع التي منها حسن ومنها سيئ فهي الاختراعات المتعلقة بأمور المعاش ورسائله ومقاصده وهي المراد بحديث: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة (2) » ولولا ذلك لكان لنا أن نزيد في ركعات الصلاة أو سجداتها. ثم شرع المؤلف من بعد ذلك في الحديث عن البدع والمحدثات التي ابتكرها الناس في صلاة الجمعة وذكر منها دعاء المؤذن بين الخطبتين إثر جلوس الخطيب عقب الخطبة الأولى، والتمسح بالخطيب إذا نزل عن المنبر، وما يفعله جماعة المؤذنين عند صعود الخطيب المنبر من الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- جهرا، وما يتكلفه الخطيب من رفع صوته في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في أثناء الخطبة.
وعقد فصلا عما أحدثه الناس في الصلاة، كالجهر بالنية قبل تكبيرة الإحرام، إذ يحدث تشويشا على الناس وهو مكروه لأن محلها القلب، ومثل إساءة الصلاة بترك الطمأنينة في الركوع والسجود وكثرة الحركات في الصلاة وهو مبطل للصلاة، ومثل رفع الجماعة الأولى لانتظار الثانية وذلك في المساجد التي تتعدد فيها الجماعات الحنفية والشافعية وغيرهما لأنه ورد في الحديث الصحيح: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة (3) » وأن الذي يجلس أثناء صلاة الجماعة يعتبر معرضا عنها ومخالفا للجماعة. ومنها صلاة جماعتين فأكثر في وقت واحد ومكان واحد ويشوش بعضهم على بعض، وهو ينافي غرض الشارع في مشروعية الجماعة. . الذي هو جمع قلوب المؤمنين، وتأليفهم. وقد ورد في الحديث الصحيح «ستكون بعدي هنات وهنات، فمن رأيتموه فارق الجماعة أو يريد تفريق أمة محمد وهم جميع فاقتلوه كائنا من كان (4) » .
ومنها ما اعتاده بعض الجهلة من أئمة المساجد في صلاة التراويح من تخفيفها إلى هيئة يقعون بسببها في الإخلال بأركان الصلاة وسننها. . كترك الطمأنينة في الركوع والسجود وسرد القراءة وإدماج حروف التلاوة بعضها ببعض رغبة في العجلة. وهذا كله من مكايد الشيطان، ومنها انفراد بعض المقتدين بصلاة الوتر بعد التراويح عند مخالفة مذهبهم لمذهب الإمام، والسبب في ذلك هو أن الحنفية يرون صلاة الوتر ثلاث ركعات موصولة بتسليمة واحدة خلافا للشافعي مع أن كلا الوجهين صواب، وأن الصلاة وراء المخالف في المذهب مطلوبة لما فيها من وحدة جماعة المسلمين وتجنب التفرقة والمخالفة.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (512) .
(3) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (710) ، سنن الترمذي الصلاة (421) ، سنن النسائي الإمامة (865) ، سنن أبو داود الصلاة (1266) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1151) ، مسند أحمد بن حنبل (2/455) ، سنن الدارمي الصلاة (1448) .
(4) صحيح مسلم الإمارة (1852) ، سنن النسائي تحريم الدم (4021) ، سنن أبو داود السنة (4762) ، مسند أحمد بن حنبل (4/341) .(2/573)
وعقد فصلا عن البدع المادية في المساجد كزخرفتها وإنفاق الأموال على تزيينها، ونقل عن بعض العلماء قوله في هذا الشأن " إنكم تبذلون أموالكم لإحالة الدين إلى العبادات الصورية كما حصل في إشراك كل الأمم السابقة التي اعتاضت عن جمال العقيدة بجمال جدران المعابد، وعن نور الإيمان بأنوار الهياكل، حتى جعلوا شعائر الدين أشبه باحتفالات الولائم وأقرب لاجتماعات المآدب لشدة ما تلتهي الأذهان بالنقوش والزخارف " وتحدث عن تنوير المساجد في الأشهر رجب وشعبان ورمضان، وعن زيادة التنوير ليلة أول جمعة من رجب وفي ليلة النصف من شعبان وما يفعله الناس في الليلة من نشر فضائلها وقراءة الأدعية فيها وبخاصة دعاؤها المشهور وهو لم يرد من طريق صحيح ويتضمن بعض الأحاديث الموضوعة، وروي عن زيد بن أسلم قوله ما أدركنا أحدا من مشايخنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النصف من شعبان ولا يرون لها فضلا عن سواها، وقيل لابن أبي مليكة إن زيادا النميري يقول: أجر ليلة النصف من شعبان كأجر ليلة القدر. فقال: لو سمعته وبيدي عصا لضربته، ومنها الزيادة في تنوير المساجد في رمضان ولم يكن ذلك من فعل السلف مع ما فيه من السرف وإضاعة المال، خاصة وأنه من مال الوقف الذي لا يختلف أحد في منعه ولو شرطه الواقف.
وعقد فصلا عن الأدعية والأذكار والقصص في المساجد، إذ يقوم المنشدون في المسجد فينشدون القصائد الملحونة والموشحات المحرفة بأنغام منوعة تتخللها زعقات مزعجة وصيحات مهولة بأدعية وأذكار مختلفة، ثم يرقصون بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة، معتقدين أن ذلك من صالح الأعمال، ويضربون بالدف وغيره من آلات، وهذا كله من المنكرات والضلالات، ويستحق فاعله الطرد والتأديب لأنه استخف بما أمر الله بتعظيمه، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (1) وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن رفع الصوت في المسجد ولو بالذكر والقراءة ونهى عن إنشاد الضالة فيه. وورد في الحديث: «من رأيتموه ينشد ضالة في المسجد فقولوا لا وجدتها ثلاث (2) » وحمل الإمام الشافعي -رضي الله عنه- أحاديث الجهر على من يريد التعليم والوعظ والإرشاد، ومنها الاحتفال بقراءة قصة المولد النبوي في ربيع الأول والاجتماع لها وما يحدث في هذا الاجتماع من المخالفات والاختلاط والمنكرات مع عدم صحة القصة، وقد عد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذا العمل من البدع التي لم يستحسنها السلف ولم يفعلوها، ومنها ما يفعله كثير من الناس من الجلوس في المسجد على شكل حلقات والتحدث فيها بأمور الدنيا، وقد ورد في الحديث الصحيح: «إنه يأتي على الناس زمان يحلقون في مساجدهم وليس همهم إلا الدنيا وليس لله فيهم حاجة فلا تجالسوهم» .
ومنها جلوس جماعة القصاص في المساجد في حلقات كحلقات الدروس ويعظون الناس ويمزحون كلامهم بالبدعة ويكذبون في إيراد الأحاديث الموضوعة والأخبار المزيفة ويأتون بالعجائب التي يبرأ منها الدين وينكرها
__________
(1) سورة النور الآية 36
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (568) ، سنن الترمذي البيوع (1321) ، سنن أبو داود الصلاة (473) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (767) ، مسند أحمد بن حنبل (2/349) ، سنن الدارمي الصلاة (1401) .(2/574)
الشرع، وهم يتعلقون بحبال الأباطيل والخرافات والأوهام ويذكرون الأحاديث الموضوعة ويختلقون على النبي -صلى الله عليه وسلم- ما تسول لهم أنفسهم من الأكاذيب، ويركبون لها الأسانيد الملفقة. وقد ورد «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (1) » . . .
وفي فصل الأذان ذكر بدعة وجود أذانين بين يدي الخطيب في بعض الجوامع يقوم أحدهما أمام المنبر والثاني على السدة العليا، لأن الأذان المشروع بين يدي الخطيب، ومن ذلك إنشاد الشعر عند الصلاة على الجنازة والنياحة وذكر الأوصاف التي يكون أكثرها كذبا. ومنها التبليغ جماعة خلف الإمام، ومنها مسح العينين بالسبابتين عند قول المؤذن أشهد أن محمدا رسول الله، ومنها التسبيح والنشيد ورفع الصوت بهما قبل أذان الفجر وقبل أذان الجمعة وهو ما يسمى بالتذكير، ومنها زيادة الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- عقب الأذان جهرا، وليس لذلك أصل في الشرع ولم يكن في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا في عهد أصحابه، ومنها ما يفعله بعض المؤذنين بالزعق بالتأمين عقب بعض الصلوات، ويجهر بعض المقتدين بالذكر والصلوات عقب تسليم الإمام، قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (2) ومنها أناشيد وداع رمضان حيث يجتمع المؤذنون وينشدون الأشعار في التأسف والتحسر على قرب انتهاء رمضان بألحان مختلفة وأصوات مرتفعة وزعيق وصياح، ويجتمع حولهم النساء والرجال والولدان والرعاع، ويكثر الاختلاط والهرج وينشأ عن ذلك هتك حرمة المسجد مما لو رآه السلف لضربوا على أيدي من ابتدعه.
وفي فصل نعي الموتى ورثائهم في المساجد والمآذن يذكر ما يفعله الناس من رفع الأصوات أمام الميت بالأناشيد عند دخول المسجد وفي داخله، ويرفع المؤذنون أصواتهم بنعي الميت ورثائه بألفاظ الحزن والنوح فيشوشون على المصلين والقارئين وقد ورد في الحديث «إياكم والنعي فإن النعي من عمل الجاهلية (3) » واستفتى الإمام النووي -رحمه الله- في القراءة على الجنائز بالتمطيط والتغني فأجاب أن هذا منكر ظاهر مذموم فاحش وهو حرام بإجماع العلماء. ومنها الجلوس للتعزية في المسجد، مع أن الاجتماع للعزاء مكروه ولو كان خارج المسجد، ومنها دفن الميت في المسجد أو بناء مسجد عليه، وقد ذكر الإمام ابن القيم في زاد المعاد عدم جوازه وأفتى بوجوب هدم المسجد إذا بني على قبر، ونبش الميت إذا دفن في المسجد كما نص عليه الإمام أحمد -رحمه الله- وغيره فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر ولعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من اتخذ القبر مسجدا أو أوقد عليه سراجا.
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1291) ، صحيح مسلم مقدمة (4) ، مسند أحمد بن حنبل (4/252) .
(2) سورة الأعراف الآية 55
(3) سنن الترمذي الجنائز (984) .(2/575)
ومنها نعي الإمام الشهيد الحسين عليه السلام على المنابر في جمعة عاشوراء.
ثم يتحدث المؤلف عما ينبغي أن يفعله الماكث في المسجد من الإكثار من العبادة والتلاوة والعمل الصالح، ومنع بعض الناس عن سكنى المساجد والاعتزال عن طلب الكسب واتخاذها تكايا للفقراء وللصوفية، ووجوب منع المجاذيب والصبيان من دخولها، ومنع التكسب وسؤال الناس فيها والاجتماع فيها لرفع الوباء.
ثم يتحدث في فصل آخر عما هو مشروع في زيارة المساجد الثلاثة: المسجد الأقصى والحرم المكي والحرم المدني والمزارات الموجودة فيها.
ثم يتكلم عن النذر للمساجد والنذر لإسراج الأضرحة والقبور ولقراءة المولد فيها وعدم جواز ذلك، ويختم كتابه بذكر الأحكام الفقهية الواردة في بناء المساجد وتنظيفها وصيانتها عن الأذى، والعناية بها وعدم زخرفتها وعدم جواز البيع والتكسب فيها، ومنع ما يؤذي المصلين فيها وإباحة المناظرة في مسائل الفقه فيها، وعقد النكاح ومجالس القضاء وتعليم العلم فيها، وكراهة الخوض في أمور الدنيا وفضول الكلام فيها، ويفصل القول في أحكام الوقف المتعلقة بالمساجد، ولولا خوف الإطالة لأوردنا طرفا منها.
وعلى الجملة فالكتاب يعتبر من الكتب القيمة، ومن اطلع عليه عرف الجهد الذي بذله مؤلفه فيه، وعرف منزلته في العلم وأحكام الشرع وهو جدير بالإطلاع عليه وقراءته لأنه فريد في موضوعه، رحم الله مؤلفه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.(2/576)
كتب تصدر قريبا
نظام الأسرة عند ابن تيمية
في
الزواج وآثاره
الدكتور محمد أحمد الصالح
يصدر قريبا كتاب نظام الأسرة عند ابن تيمية في الزواج وآثاره، لفضيلة الشيخ " الدكتور " محمد بن أحمد الصالح الذي نال به درجة العالمية " الدكتوراه " في الفقه المقارن مع مرتبة الشرف الأولى، وكانت اللجنة مشكلة من الأساتذة: الشيخ " الدكتور " محمود شوكت العدوي، والشيخ " الدكتور " عبد العال أحمد عطوة، والشيخ عبد الغني محمد عبد الخالق، وقد ناقشت هذه الرسالة موضوع الكتاب في الثالث والعشرين من شهر شعبان 1395 (30 \ 8 \ 1975) بقاعة الشيخ محمد عبده بإدارة جامعة الأزهر.
وتقع الرسالة (موضوع الكتاب) في مجلدين كبيرين، وسفرين عظيمين، عدد صفحاتهما نحو 688 صفحة.
وأن مؤلفه الفاضل قد اهتم في مقدمته بشرح أهمية موضوعه وقيمته، وبالغ خطورته، وجميل عائدته، وجليل فائدته، وتنوع ثمرته. وأشاد بفضل ابن تيمية وعلمه، واجتهاده وفقهه، وأن الله قد وفقه وفتح عليه(2/577)
حتى استقل بالاجتهاد في كثير من المسائل الفقهية الخلافية، التي اشتد خلافه فيها، وامتحن بسببها. حتى أصبح من أفاضل المجتهدين، وأماثل المجددين.
وبين خطته وطريقته في بحث قضايا هذا الموضوع ومسائله، وإظهار آراء ابن تيمية فيها. كما بين كيفية التعبير عنها، وكيفية تبويبها وترتيبها.
وذكر أهم عناصرها، ورءوس مباحثها. وأشار إلى طبيعة الكتب التي تمثل هذا الفقه وتعبر أصدق التعبير عنه. وإلى الصعوبة التي صادفها في البحث عن مطبوعها ومخطوطها، والجهد الذي بذله في سبيل الوصول إلى حقائقها، ثم عرضها في الصورة الكريمة السليمة، الدقيقة الأمينة.
أما القسم الأول فتاريخي فقهي: وهو مشتمل على المقدمة والباب الأول
أما المقدمة فقد عقدها في التعريف بابن تيمية والكلام على حياته من جوانبها المتعددة
وقد مهد لذلك بكلام مختصر مفيد، عن حياة المسلمين الدينية في عصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعصر أصحابه وكبار من أتى بعدهم وبخاصة الأئمة الأربعة الذين كان ابن تيمية متمذهبا على مذهب رابعهم، وإن كان غير متعصب له ولا مقيد بموافقته، إذا ما تبين له - عن طريق اجتهاده - أن مخالفته متعينة. وعن بعض أحوالهم السياسية، وبخاصة الحروب الصليبية قبل ابن تيمية الذي أدركها قبل انتهائها بنحو تسع وعشرين سنة.
ثم تكلم - كلاما مقتصدا جيدا - عن عصر ابن تيمية (الذي تناول جزءا كبيرا من القرن السابع، وجزءا غير يسير من القرن الثامن) ، من الناحية السياسية والاجتماعية والفكرية والعلمية.
شرع يتكلم عن حياة ابن تيمية خاصة.
فبين اسمه ونسبه، وكنيته ولقبه، والبلدة (حران) التي ولد بها، وانتسب إليها. وقام بالتعريف بأسرته، وذكر تاريخ ولادته، وتبيين نشأته وتربيته، وأبرز صفاته وعاداته.(2/578)
وتكلم عن طلبه للعلوم الشرعية والعربية، وغيرها: مما يتصل بها، ويعين على طلبها. وعن رحلته في سبيل أخذها ومعرفتها، وتلقيها عن كبار الشيوخ وأئمتها حتى بلغ في ذلك الغاية، وأدرك المنزلة السامية، وصار من كبار أئمة الأمة.
وترجم لشيوخه وأساتذته، وعلى رأسهم والده الأجل: شهاب الدين عبد الحليم بن عبد السلام، الفقيه الكبير الحنبلي، المتوفى سنة 682 هـ. تراجم صحيحة، مركزة مفيدة.
ثم تكلم عن مكانة ابن تيمية العلمية والدينية، وجهاده المشرف لأهل البدع والمنكرات، ومحاربته لأهل الزيغ والفساد، وطوائف الشرك والإلحاد. وبخاصة التتار ودخلاء الصوفية. وعن المحن القاسية التي صادفته، والمصائب التي ألمت به، فتحملها وصبر عليها. فنال عظيم الأجر بصبره، وصار من أشهر المكافحين في عصره.
ثم تكلم عن تاريخ وفاته، ومكان دفنه. وعن أثر هذه الوفاة على أهل دمشق وغيرهم: من المحبين له، المقدرين فضله، المعجبين بآرائه، المنتفعين بآثاره.
وتعرض للكلام عن آراء ابن تيمية في الدولة والخلافة، وذكر بعض آرائه الفقهية التي عرف بها، ولاقى العديد من المحن بسببها.
ثم ذكر أهم آثار ابن تيمية العلمية، وأعظم مؤلفاته الفنية. وختم هذه المقدمة العظيمة، ببيان أشهر تلاميذ ابن تيمية، والتعرف بأجل أصحابه.(2/589)
الباب الأول
عقد الزواج
وقد اشتمل على تمهيد مفيد: بين فيه أن الزواج أساس الأسرة ودعامتها، والقاعدة التي يقوم المجتمع السليم عليها، وأن الشريعة الإسلامية قد عنيت بأمره، أكثر من عناية الشرائع السابقة به. وبين فيه كذلك الصفات الشريفة التي تؤهل المرأة للزواج المثالي الذي يستقر أمره، ويتحقق أثره. ثم اشتمل على فصول سبعة على أكبر جانب من الأهمية، وأوفر قدر من الفائدة، بين فيها آراء شيخ الإسلام ابن تيمية في أحكامه وآراء غيره ممن وافقه أو خالفه، مع الموازنة بينها. وتقرير أدلتها ومناقشتها:
(1) الفصل الأول: في أحكام الخطبة في نظر الشيخ تقي الدين بن تيمية وغيره.
وقد مهد لبيان ذلك، بأمر لا بد منه ويجب تقديمه، وهو:
تعريف الخطبة وشرح حقيقتها، وبيان مدى أهميتها في نظر الشارع. وقد تضمن هذا الفصل بيان حكم النظر للمخطوبة وأهميته ودقته، وما يجوز النظر إليها منها. وحكمة مشروعيته. وبيان شروط الخطبة، وحكم خطبة المعتدة. وبيان ما تحصل به الخطبة. ثم بيان حكم الخطبة على خطبة الغير، وحكم العقد للخاطب الثاني. وبيان حكم ما يبذله الخاطب: من الهدايا والنفقة.
(2) الفصل الثاني: في حقيقة لفظ " النكاح " وصفته، وبيان المراد منه. وبيان أهمية النكاح ومدى الحاجة إليه.
(3) الفصل الثالث: في بيان أركان النكاح: من صيغة العقد، واتصال الإيجاب والقبول، وأهلية المتعاقدين. وما يتعلق بذلك كله.
(4) الفصل الرابع: في بيان شروط النكاح اللازمة له: من الولي، والرضا بالزواج، وإعلان النكاح وإظهاره أو الإشهاد عليه، وكفاءة الزوج للزوجة. وهو أخطر فصول هذا الباب وأجلها فائدة.
(5) الفصل الخامس: في الكلام على الشروط في عقد النكاح، وبيان ما يحل منها ويحرم، وما يصح ويفسد. مع بيان ما يترتب على عقد الزواج المطلق، وحكم تعليقه على شرط.
(6) الفصل السادس: في الكلام على الأنكحة المحرمة، وبيان المختلف في صحته من هذه الأنكحة: من نكاح التحليل، ونكاح الشغار، ونكاح المتعة.(2/580)
(7) الفصل السابع: في الكلام على المحرمات في النكاح.
وقياس مهد لذلك بتمهيد جميل، يبن فيه قيود حرية الفرد في اختيار الزوجة التي ترجع إلى الدين، أو إلى أجناس الشعوب، أو إلى القرابة. في نظر القوانين السابقة.
ثم بين أن التحريم إما تحريم مؤبد، وإما تحريم مؤقت. وأفاض في بيان ذلك وتفضيل القول فيه، وفي سائر ما يتصل به، إفاضة بالغة.
القسم الثاني: فقهي صرف
وهو عبارة عن الباب الثاني الذي عقده للكلام على الآثار المترتبة على عقد الزواج، في نظر ابن تيمية وغيره من الفقهاء، مع الموازنة بين هذه الآراء. وقد احتوى فصولا خمسة مهمة، تضمنت فوائد جمة، وأمورا يجهل الكثيرون حقائقها وأحكامها، أو لا يعرفون شيئا صحيحا عنها:
(1) الفصل الأول: في بيان أحكام الصداق المختلفة، والتي يمكن تطبيقها عليها، والتي تتعلق به. وذلك بعد التعريف به، وشرح حقيقته.
(2) الفصل الثاني: في بيان حقوق كل من الزوجين قبل الآخر.
(3) الفصل الثالث: في الكلام عن أحكام نفقة الزوجة والأقارب.
(4) الفصل الرابع: في مبحث النسب وما يثبت به.
(5) الفصل الخامس: في بيان أحكام الحضانة وتطبيقها وشروطها وسائر ما يتعلق بها. بعد شرح حقيقتها.
نقد تكلم فيها عن فقه ابن تيمية واجتهاده، وأصول استبيانه. وعن الكثير من آرائه، وأشهر اختياراته. وعن مكانته الفقهية والاجتماعية ومنزلته بين مجتهدي الأمة.(2/581)
وقد تضمنت بعض التفصيل المفيد فائدة جيدة، لبعض ما سبق أن ذكره وتكلم عنه، في مقدمة القسم الأول من رسالته. وبعد أن انتهى الباحث من الكلام على مباحث الرسالة كلها: مقدماتها ومقاصدها. . قام بوضع فهارس خمسة جيدة نافعة: (1) الفهرس الأول: خاص بالآيات القرآنية التي ورد اقتباسها أو الاستشهاد بها.
(2) الفهرس الثاني: خاص بالأحاديث النبوية، وآثار الصحابة، التي دار معظم الاستدلال والاحتجاج عليها.
(3) الفهرس الثالث: خاص بالأعلام الواردة بالرسالة، وقد رتبها على حروف المعجم، وجعلها قسمين: قسما خاصا بالرجال، وقسما خاصا بالنساء.
(4) الفهرس الرابع: خاص بمصادر البحث ومراجعه، التي رجع إليها، واعتمد في كتابته عليها، مطبوعة أو مخطوطة، متداولة أو نادرة.
وقد أجاد في صنعه إجادة فائقة، حيث رتب هذه المصادر حسب الفنون، ثم على الحروف. وذكر أسماءها التي اشتهرت بها، ومكان طبعها وتاريخه، أو مكان وجودها والرقم الدال عليها. كما ذكر أسماء مؤلفيها ونسبهم، وأرخ وفاة أكثرهم.
(5) الفهرس الخامس: خاص بموضوعات الرسالة ومباحثها، الكلية والجزئية، أو الاحتمالية والتفصيلية. وهو جامع لها، ويعطي قارئه صورة صحيحة عنها.
هذا بيان موجز عن محتويات هذا الكتاب، القوي في موضوعه، الجيد في صنعه، الحسن في طبعه، الجليل في نفعه، الذي امتاز بوفرة معلوماته وصحتها، وكثرة مراجعه ومصادره. ودقة إحالاته وسلامتها.
والذي رتبت مباحثه العامة ترتيبا لا بأس به في الجملة، ونظمت مباحثه الخاصة تنظيما في غاية الحسن والدقة.(2/582)
ولقد بذل صاحبه الفاضل جهدا عظيما ظاهرا في جميع عناصره، وضم شتاتها، وتكوين مباحثه، وترتيب مسائله، وتفصيل القول فيما تناوله وتعرض لبحثه: من حقائق تاريخية، ومباحث لغوية أو اصطلاحية، ومسائل فقهية أو أصولية أو غيرها من المسائل العلمية. وفي التعبير عن معلوماته الجمة بالعبارات العلمية الدقيقة، والصيغ الفنية السليمة، أو الإشارات الحسنة الطريفة. وفي شرح الخلاف في: جميع المسائل الخلافية، وتحرير محل الخلاف فيها، وتبيين سائر الأقوال المتعلقة بها، وتقرير أقوى أو أصح الأدلة التي استند أصحابها إليها، وتوجيه دلالتها، والتصريح بالمذاهب المختارة منها، مع تقويتها، وتفنيد أدلة غيرها وقد عنى عناية فائقة بتخريج شواهد الرسالة القرآنية والحديثية وما إليها، على كثرتها تخريجا في غاية السلامة، ونهاية الصحة. يشهد له بالكفاءة الممتازة، والقدرة على التتبع والإحاطة. كما عني بالتعريف بسائر الطوائف والفرق الإسلامية وغير الإسلامية الذين ورد لهم ذكر في الأمور التاريخية، أو المباحث الفقهية. وبالترجمة الصحيحة الصادقة لجميع الأعلام الذين استشهد بأقوالهم، أو ذكروا في بعض الأحاديث النبوية أو الآثار أو النصوص العلمية، وهم كثرة بالغة، وقد أتى في هذه التراجم بالأشياء المفيدة، وذيل كل ترجمة بأهم مراجعها الوثيقة.
ولقد ناقشت اللجنة صاحب هذه الرسالة، مناقشة معتدلة هادئة، بناءة مثمرة، موجهة مرشدة، تهدف إلى تصحيح الخطأ، أو تقويم زلل، أو تكميل نقص، أو سد خلل، أو كشف غامض، أو إزالة لبس، إن كان قد وقع فيها شيء من ذلك. كما تهدف إلى اختيار عقلية، والتأكد من صحة نظرية، أو ثبوت بعض الحقائق العلمية. وهذا هو الواجب في كل مناقشة مخلصة.
والكتاب يدل على إخلاص المؤلف للعلم، ونصحه للدين، ورغبته الصادقة في التجويد والتوثيق، كما يتميز بتصحيح العبارة واتقانها، وتأكيد المعلومات وتثبيتها.
كما يتبين - من تعقيب المؤلف على شيخ الإسلام ابن تيمية، ومناقشته للكثير من أقواله، ونقضه لبعض أدلته - أنه عاقل مفكر، وعالم منصف، وباحث مخلص وكاتب حر: يرجو الوصول إلى الحق، ولا يهمه مخالفته للغير، متى تبين له - في وضوح وجلاء - أن الحق قد جانبه، وأن الصواب في رأي غيره. والحق أحق أن يتبع، والصواب أولى أن يعتقد. فابن تيمية عظيم بلا شك، ولكن الحق أعظم منه، على حد قول القاضي عبد الجبار المعتزلي الشافعي، الذي كان يخالف بعض آراء إمامه الأصولية والفقهية، ويقول: " الشافعي عظيم، ولكن الحق أعظم منه ". وهكذا تكون الشجاعة الأدبية، والصراحة الإسلامية.(2/583)
هذه مجرد لمحات من كتاب تربو صفحاته على 688 صفحة نرشحه للقراءة على مستوى العالم الإسلامي. كما نرجو لمثل هذا الكتب أن يترجم إلى اللغة الإنجليزية ليتمكن من قراءته كثير من أبناء الشعوب الإسلامية الناطقة بهذه اللغة وغيرهم من أبناء الشعوب والجنسيات والأديان المختلفة، لعله يرشدهم إلى عمق الفقه الإسلامي قديمه وحديثه.(2/584)
كتب أجنبية
محمود لطفي السراميجي (1) .
كيف صرت مسلما
استرعى انتباهي وأنا أطالع كتيبا صغير الحجم كبير المعنى أصدرته رابطة العالم الإسلامي بالإنجليزية وعنوانه " Islam Our Choice " الإسلام الذي اخترناه. استرعى انتباهي مقال كتبه العالم المستشرق المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس، والدكتور جرمانوس لم يكن اسمه الأول عندما ولد في المجر عبد الكريم، وإنما كان اسمه " جوليوس " وقد درس الأستاذ الدكتور اللغات التركية والفارسية والعربية التي قادته لدراسة الاستشراق وشئون العالم الإسلامي، وقد أدت به إجادته لهذه اللغات إلى البحث عن الحقيقة، فهو وإن كان عالما كبيرا إلا أن روحه ظمأى إلى الحقيقة - الحقيقة الكلية التي تبحث عن سر هذا الكون وسر الخالق العظيم، وسر رسالة الإسلام وكنهه وجوهره، فإن روح هذا الباحث المفكر قد أدت به في النهاية إلى اعتناق الإسلام وتسمى باسم عبد الكريم فمرحبا به وأكرم به وأنعم، وأكثر الله من أمثاله من العلماء الذين جمعوا بين نور العقل ونور القلب، بين نور البصر ونور البصيرة - أقول: إن هذه المقالة قد شدتني، وبهرني صدق هذا الرجل، وروحانيته وصفاء سريرته، فرأيت أن أترجمها من الإنجليزية إلى العربية
__________
(1) الأستاذ محمود لطفي السراميجي: المترجم بالمجلة.(2/585)
وقد أكون قد سبقت إلى هذا الفضل، ولكن التكرار للشيء الجميل ليس عيبا، بل هو فضيلة ولقد رأينا أن نستزيد منها ونستضئ بنورها خدمة للحق وللحقيقة - هدانا الله جميعا إلى الإيمان وزادنا الله منه فهو خير زاد. يقول الدكتور جرمانوس:
كان ذلك في ظهيرة يوم مطير وكنت بعد مراهقا، إنني كنت أتابع سجلا مصورا - أحداث معاصرة ممزوجة بروح القصص، ووصف لبلاد بعيدة كانت تملأ صفحاته، قلبت الصفحات بغير ما اكتراث وفجأة وقعت عيناي على لوحة محفورة من الخشب، فشدت هذه اللوحة انتباهي وكانت الصورة تمثل منازل ذات أسقف مسطحة (1) وكانت تبرز بين هذه الأسقف بين الحين والآخر قباب ترتفع خفيفا ويزينها هلال في أعلاها، وكان منظر الرجال فوق هذه الأسطح وهم يجلسون القرفصاء متشحين بملابس غريبة وهم جالسون في صفوف منتظمة تثير الاستغراب ولقد شدتني الصورة بشكل غير عادي. لقد كانت شيئا مختلفا عن الشكل العام للمدينة الأوربية. لقد كان منظرا شرقيا في مكان ما في الشرق العربي حيث كان الراوي في الصورة يحكي قصصا خيالية لقوم يتشحون من قمم رأسهم لأخمص قدميهم، ولقد خيل لي أني أسمع حديث هذا القاص وأتابع مع مستمعيه العرب حديثه هذا، وأنا بعد فتى يجلس على كرسي وثير في المجر ولقد استبد بي حنين طاغ أن أعرف سر هذا النور الذي بدد الظلام في هذه الصورة.
وبدأت أدرس التركية وبدا لي أن أدب اللغة التركية لا يحتوي إلا القليل من الكلمات التركية، فالشعر التركي غني بعناصر فارسية، والنثر غني بمصادر عربية، ولقد حاولت أن أتمكن من هذه اللغات الثلاث حتى أدخل هذا العالم الروحاني الذي أشرق بنوره على الإنسانية.
وخلال عطلة من عطلات الصيف أسعدني الحظ أن أسافر إلى البوسنة أقرب إقليم شرقي إلينا، وبعدما وضعت متاعي في أحد الفنادق اندفعت خارجا لأرى هؤلاء المسلمين الذي عرفت لغتهم التركية خلال الكتابة العربية المعقدة في صفحات من كتب النحو - ولقد كان ذلك في الليل وفي الشوارع الضعيفة الإضاءة استطعت أن اكتشف مقهى متواضعا كان يجلس فيه رجلان من أهل البوسنة على مقاعد منخفضة من القش يستمتعان بشراب القهوة، وكانا يلبسان السراويل التقليدية المنتفخة التي كانت مشدودة إلى الوسط بأحزمة عريضة رصعت بالخناجر اللامعة، ولقد أعطاني منظر غطاء رأسيهما وزيهما الغريب شعورا بالخوف من مظهرهما المرعب، وبقلب تزداد سرعة دقاته خوفا، دخلت المقهى وجلست بخجل شديد في ركن بعيد، ولقد نظر الرجلان لي بعين محبة للاستطلاع، فتذكرت حينئذ القصص الدموية التي قرأتها في الكتب المتعصبة التي تتحدث عن تعصب المسلمين وقد
__________
(1) منازل أوربا معظمها ذات سقوف مثلثة الشكل مغطاة بالقرميد حتى ينزلق عليها المطر (المترجم) .(2/586)
لاحظت أنهما يهمسان لبعضهما البعض، وكان حديثهما بالطبع هو حضوري الذي لم يكن متوقعا، فامتلأت خيالاتي الصبيانية بمشاعر الهلع، فقد تصورت أنهما يريدان أن يغمدا خنجريهما في صدر الكافر المتطفل، ولقد وددت لو خرجت سالما من هذا المكان المخيف ولكني لم أجرؤ على الحركة.
وبعد ثوان أحضر لي النادل فنجانا من القهوة ذات الرائحة القوية النفاذة، وأشار إلى الرجلين اللذين أرعبني منظرهما، فنظرت إليهما بوجه مذعور فحياني أحدهما بسلام جميل وتبعه بإشارة ودية، وبتردد اغتصبت ابتسامة مرتعشة من بين شفتي المرتعشتين، فقام الرجلان اللذان خلتهما عدوان لي واقتربا من مائدتي الصغيرة وماذا بعد؟ لقد كان قلبي الذي يزداد خفقانه يسأل - هل جاءا لقتلي؟ وتبع ذلك سلام ثان وجلسا حولي، وأعطاني أحدهما سيجارة اكتشفت في ضوئها الخافت أن مظهرهما العسكري يخفي روحا مضيافة عطوفة، وعندئذ جمعت قواي وخاطبتهما بالتركية الركيكة التي أعرفها، فكان لذلك فعل السحر فأضاء وجهاهما بمودة تفيض بالحنان ودعياني إلى منزليهما، وبدلا من الخناجر التي تصورتها تخترق أحشائي فقد غمراني بكرمهما - ولقد كان ذلك أول لقاء لي مع المسلمين.
وجاءت السنون ومرت الأعوام تفيض بالعديد والكثير من الأحداث من رحلات ودراسات تفتح أمام عيني المتطلعة مشاهد وتجارب جديدة، وقد عبرت كل أقطار أوربا ودرست في جامعة اسطنبول واستمتعت بروائع الآثار التاريخية لآسيا الصغرى وسوريا، ولقد درست التركية والفارسية والعربية، واستطعت أن أكون أستاذا للدراسات الإسلامية في جامعة بودابست، وبكل ما حصلته من معرفة حسية تراكمت على مدى القرون وآلاف الكتب لكثير من العلماء قرأتها بكل شغف، فإن روحي رغم ذلك بقيت ظمأى ولقد وجدت خيطا رفيعا جافا في كتب العلم والمعرفة، ولكن روحي كانت تتطلع إلى الجنة الدائمة الخضرة من التجربة الروحية، لقد ارتوى عقلي ولكن روحي بقيت ظمأى ولقد كان علي أن أجرد نفسي من كل ما تعلقت به حتى أستطيع أن أستعيد ذلك عن طريق التأمل والتجربة الباطنية لتصفو روحي بنار المعاناة كما يستحيل الحديد الغفل صلبا مرنا بتعريضه لصدمة شديدة من الماء البارد.
وذات ليلة تمثل لي الرسول محمد في مخيلتي وكانت لحيته الطويلة مخضبة بالحناء، وكان رداؤه بسيطا ولكنه مناسب وجميل وتنبعث منه رائحة طيبة وكانت عيناه تلمع بالنور الرائق وخاطبني بصوت كله رجولة: " علام القلق؟ الطريق أمامك. . الطريق القويم مفتوح أمامك مأمون كوجه البسيطة فلتسر فيه بخطى ثابتة بنور الإيمان ".
وصحت في حلمي الجليل باللغة العربية " يا رسول الله إنه لسهل بالنسبة لك يا من سما وعلا ويا من قهرت كل الأعداء ووضعتك العناية الإلهية على طريقك، ولقد كللت جهودك بالمجد ولكن علي أنا أن أعاني ومن يدري متى أجد الراحة؟ ".(2/587)
فنظر إلي في ثبات وغاب في تفكير عميق، وبعد برهة تكلم ثانية ولقد كانت كلماته بالعربية واضحة ترن كأنها أجراس الفضة فألقى إلي لسانه النبوي الذي حمل أوامر الله فملأ صدري وقلبي بحمل ثقيل {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} (1) {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} (2) {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} (3) {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} (4)
غمغمت في ألم. . . " أنا لا أستطيع أن أنام. أنا لا أستطيع أن أفهم الأسرار التي غلفت بحجب كثيفة، وصحت من أعماقي. . . يا محمد يا رسول الله خذ بيدي " واندفعت من حلقي شهقة عنيفة متقطعة - لقد كنت ثقل ثقل كابوس شديد - كنت أخشى غضب الرسول الكريم وعندئذ شعرت كما لو كنت قد غبت في الأعماق وفجأة صحوت كانت عروق صدغي تنبض بالألم، وكان جسدي يسبح في عرق كثيف، وكانت كل أطرافي تئن من الألم، ولفني سكون الموتى وشعرت أني حزين ووحيد.
وشهد يوم الجمعة التالي منظرا غريبا في مسجد الجمعة الكبير في دلهي. كان رجل أجنبي أصفر الشعر شاحب الوجه يشق طريقه مصحوبا ببعض كبار العلماء - كان يشق طريقه خلال الجمع الحاشد من المؤمنين - كنت أرتدي رداءا هنديا وغطاء رأس هندي، وعلقت على صدري الأوسمة التي منحنيها السلاطين الأتراك، وحلق في المؤمنون بدهشة واستغراب شديدين، وشقت مجموعتنا الصغيرة الطريق مباشرة إلى المنبر الذي كان يحوطه كبار العلماء الأجلاء الذين استقبلوني بعطف شديد وسلام عال، وجلست بجوار المنبر وتركت عيناي تتجولان في قبلة المسجد الجملية الزخرفة، وفي وسط الباحة كانت ضبابير النحل البرية قد بنت بيوتها وكانت تطير دون أن يزعجها أحد حولنا.
وفجأة تلي الآذان ونقل المكبرون الواقفون في أماكن مختلفة من المسجد - نقلوا الآذان إلى كل ركن بعيد من أركان المسجد وقام ما يقرب من أربعة آلاف من الرجال كالجنود عند سماعهم هذا النداء السماوي تجمعوا واقفين في صفوف منتظمة وأدوا الصلاة في خشوع عميق وكنت واحدا منهم وكانت لحظة جليلة وبعد أن ألقيت الخطبة أخذني الشيخ عبد الحي من يدي وقادني على درجات المنبر وبدأ الحشد الكبير من الناس يتحرك - آلاف من العمائم البيضاء كانت أشبه بحقل من الورود البيضاء يتطلعون مهمهمين إلي، وأحاطني العلماء الكبار ذوو اللحى الرمادية الوقورة بعيون تفيض عطفا وتشجيعا، فأمدني عطفهم بثبات غير عادي ودون تشنج أو خوف صعدت ببطء إلى الدرجة السابعة من المنبر ومن فوق المنبر نظرت إلى هذا الجمع الحاشد الذي كان يموج تحتي كأنه بجر حي وهؤلاء الذين وقفوا بعد ذلك مادين أعناقهم نحوي، الشيء الذي جعل الممر كله حركة ما شاء الله، صاح واحد من الواقفين حولي وصافحتني العيون كلها بحرارة ومودة.
أيها السادة الكرام - هكذا بدأت بالعربية - لقد حضرت من بلاد بعيدة لأحوز علما لا يتيسر لي في وطني، ولقد أتيت ملتمسا منكم الإلهام ولقد لبيتم ندائي وتابعت قولي فبدأت أتحدث عن الإسلام ودوره الذي أداه في تاريخ العالم، وعن المعجزة التي طوعها الله لرسوله وشرحت أسباب تأخر المسلمين المعاصرين وعن الأسباب التي
__________
(1) سورة النبأ الآية 6
(2) سورة النبأ الآية 7
(3) سورة النبأ الآية 8
(4) سورة النبأ الآية 9(2/588)
تمكنهم من استعادة أمجادهم، إنه لحكمة إسلامية أن كل شيء بأمر الله ولكن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) وبنيت حديثي على هذه الآية القرآنية وأردفتها بثناء على إحياء التقوى ومحاربة الرذيلة.
وبعدها جلست وصحيت من لحظة الجاذبية المغناطيسية التي بعثتها كلمتي على صيحة " الله أكبر " تبعث من كل ركن من أركان المسجد، وكان التأثير بالغا ولا أستطيع أن أتذكر سوى أن الشيخ إسلام قد أخذني من فوق المنبر متأبطا ذراعي وجرني جرا خارج المسجد.
وسألته: لماذا هذه العجلة؟
ووقف الرجال أمامي يحتضنوني وكان كثير من الأخوة الذين طحنتهم الدنيا ينظرون إلي بعيون يملؤها الأمل - لقد كانوا يسألونني البركة ويريدون أن يقبلوا يدي. يا إلهي لا تدع النفوس الطاهرة ترفعني أكثر مما استحق، أنا لست إلا حشرة بين آلاف الكائنات فوق ظهر الأرض، لست إلا باحثا عن النور، لست إلا إنسانا ضعيفا كغيري من الكائنات البائسة "! ولقد أخجلتني تنهدات وآمال أولئك الأبرياء كما لو كنت قد غششتهم أو سرقتهم وقلت: كم هو حمل ثقيل به حمل رجل الدولة الذي يثق فيه الناس ويرجون منه الأمل والمعونة ويعتبرونه خيرا منهم! ولقد حررني الشيخ إسلام من أحضان إخوتي الجدد ودفعني في عربة وقاد بي إلى البيت.
وفي اليوم التالي والأيام التالية له تجمع الناس حولي يهنئونني ويباركونني، ولقد جمعت من حرارة محبتهم وشدة عواطفهم دفئا يكفيني لعمري كله ".
__________
(1) سورة الرعد الآية 11(2/589)
إعداد: إسماعيل راجي الفاروقي.
المسلمون في أمريكا
إن أهمية أمريكا للإسلام لا يمكن المبالغة فيها، فأمريكا أعظم قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية في العالم. وهي رأس الرمح للحضارة الغربية والمسيحية، كما أنها الأم المولدة لحركات العصر الحديث. لذلك لا تستطيع أية حركة إسلامية إغفالها، فإن كانت الحركة الإسلامية حقا، لا بد لها من أن تكون عالمية وأن تستهدف الأرض كلها. إذ لا بد لها من مواجهة أمريكا وتصفية الحساب معها.
ومن جهة أخرى فإن العالم الإسلامي يعتمد بالضرورة على أمريكا لمساعدته في التنمية. وقد مرت عشرات من السنين والعالم الإسلامي يقذف بآلاف من أبنائه للتعلم والدرس والتمرين في علوم الغرب وفنونه الحديثة. فالعالم الإسلامي إذا لا يرتبط بأمريكا من حيث هي قوة وكيان خارجي فحسب، بل من حيث إنها قوة داخلية تزدهر وتنمو.
فما هي رؤيا المسجد لأمريكا؟ وعلى أية أسس تعتمد؟ .
حقا، إن أعظم فتح في التاريخ لهو الفتح الذي يدخل أمريكا في الإسلام. ولكن هل فتح مثل هذا ممكن؟ .(2/590)
هل يجوز لنا أن نأمل أن أمريكا، بكل ما لها من سلطة وديناميكية، بكل ما فيها من خبرات كانت بالفعل أم بالقوة، ستدخل يوما ما في الإسلام وتصبح ركنا من أركان الإسلام؟ هل يجوز لنا أن نتطلع إلى اليوم الذي يدخل فيه الشعب الأمريكي بمئات ملايينه في الإسلام فتصبح أمريكا دولة إسلامية وأرضا تعلو فيها كلمة الله وشعبا يجاهد في سبيل الله، ويسير في خطى رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-؟ .
نعم، بالتأكيد، هذه رؤيا ليست فقط مرغوبة بل هي ممكنة. بل ضرورية.
هذه الرؤيا ممكنة لأسباب ثلاثة:
أولا. إن المسيحية بفرعيها الكاثوليكي والبروتستنتي، تضمحل باستمرار منذ قرون. فنشأة العلمانية، والمادية، والعلوم الطبيعية والعقلانية، والحرية الشخصية، رافقها سقوط معاكس في المسيحية. ذلك أنها تؤمن بما يناقض هذه الحركات جميعا. فهي تؤمن بسلطة عرفية للكنيسة وبعلم لاهوت لا عقلاني، وباحتكار الحياة الدينية عن طريق القداس. وهي تتنكر للحياة والأرض بإيمانها بمملكة أخرى غير الأرض وخارج الزمان والمكان الذي نعرف، وهي المملكة التي تصبو إليها دون الدنيا. أما فصل المسيحية للروح عن المادة فقد أدى في العهد الحديث إلى ثورة العرب ضد الدين وانغماسه في طلب اللذة والسعادة المادية. وكذلك، أدى إصرار المسيحية الغالي على الخلاص الفردي والقيم الشخصية إلى حرية مبالغ فيها أصبحت فوضى وانعدامية. لهذه الأسباب، يرفض الإنسان الغربي أن يستمد وحيه من المسيحية. سواء فيما يتعلق بحياته الشخصية أو بحياته الاجتماعية، أو بحياة المجتمع ككل.
ثانيا. إن سعي الغرب للسيطرة على الطبيعة عن طريق العلوم أحرز أعظم المكاسب وحقق أبعد الأهداف. فقد أخذت هذه العلوم الإنسان إلى القمر، واستكشف ما وراء ذلك، وأشفت معظم الأمراض واستعمرت الأرض مستغلة قوى الطبيعة ومسخرة إياها لخدمة الإنسان. إلا أن جميع هذه المنجزات حصلت استنادا على التفريق والفصل النهائي بين " ما يكون " و " ما يجب أن يكون "، بين الظاهرة أو الواقعة من جهة، والقيمة من جهة أخرى. وهذا الفصل هو الذي حرر السعي العلمي من جميع القيود ولكنه أفلت منه زماما شيطانيا جديدا. وبالتالي، فسد المسعى وتحولت النعمة إلى نقمة، وتملك الإغلال الخلقي من كل سعي مادي.
فاليوم، الرجل الغربي ثائر ضد تغلبه على الطبيعة وقواها. وهو مثقل بشعوره بالإثم، لا يعرف أين يتجه؟ يوشك أن يستسلم لقدر لا يقوى على فهمه، ويعرف أنه لا شر يكن له إلا المآسي.(2/591)
ثالثا إن عدم أخلاقية العلوم الطبيعية في الغرب، وإفلاس المسيحية كدين، حرما الرجل الغربي من تحقيق ذاته الروحية وإحلال السعادة في حياته، لهذا تراه يقدم على الأديان الأخرى الغريب منها، كالهندوكية والبوذية والصينية واليابانية والبدائية، والمعروف لديه كالمسيحية يرجع بها إلى تفهمات الأوائل البدائيين. كل هذا دون جدوى. لأن الإنسان الغربي متعلق بالأرض والحياة تعلقا لا ينفصم ولا يكل، بينما تقوم الحياة والأرض بخدعة وإفساد مساعيه. والمسيحية، تتنكر لمسعاه الدنيوي تماما كما تقضي الأديان الجديدة عليه وتحمله إثمها. فضميره ممزق وشخصيته مفصومة، لا ينفعه دينه ولا تدينه بل يزيدانه شقاء على شقاء.
هذه الأسباب الثلاثة تجعل استمرار الواقع الديني في الغرب أمرا مستحيلا، لا سيما أمريكا. وهذه الاستحالة هي نفسها إمكانية الدخول في دين الله.
فالإسلام قادر على حل مشكلة الإنسان الغربي. وهو قادر على نشله من الحرج الوجودي الذي يتخبط فيه، فالإسلام يبارك سعيه الدنيوي وتسخيره للطبيعة، ولكنه أيضا يتحكم بهذا السعي والتسخير وإخضاعه إياهما الزمات الأخلاق. ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي سخر الطبيعة وقواها للإنسان ومنحه أن ينتفع منها ما أراد وما استطاع سبيلا، وذلك أيضا أن الله الذي سخر وبارك المسعى هو مصدر الأخلاق والقيم، وهو الذي عرفنا بأوامره وإرادته عن طريقي الوحي والعقل. فالإسلام يستطيع أن يوحد شطري الشخصية الغربية وهو الذي يقدر على توجيه الإنسان الغربي لحياة السعي ولحياة التقوى وذلك بتوجيه الحياتين لله تعالى.
إلا أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يستطيع هذا، وهذا هو معنى ضرورة دخول أمريكا في الإسلام. لا يوجد دين ولا نعرف مذهبا سوى الإسلام يقوى على إعطاء الرجل الغربي كلا المادة والروح، كلا تسخير الطبيعة والانتفاع بالروح، كلا الدنيا والآخرة، كلا السعادتين.
حقا إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يقدر على إيقاف الاضمحلال والتدهور في أمريكا. وهو وحده يقوى على بعث روح جيدة فيها تحركها نحو الدنيا والأخلاق معا. . فالإسلام وحده يزكي أموالها وثرواتها وذلك بنقض العنصرية والاستغلال والاستعمار وتصفيتها، وذلك بضمها على خطوط الإنسانية تحت عالمية الإسلام.
أي كسب هذا وأي فتح للحق والأخلاق! أي تقدم في التاريخ البشري! وأي تحقيق لإرادة الله تعالى ووعده! دخول أمريكا في الإسلام! .(2/592)
أو ليس إذا من مشيئة الله تعالى أن الأمر في أمريكا لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بعد أن قام المسلمون بزرع الإسلام في أمريكا؟ أو ليس من مشيئته تعالى أن يحصل هذا عندما وجد المسلمون بين أيهدهم المال الكافي لتزويد اكبر وأعظم موجة دعوة دينية في التاريخ؟ .
ومع هذا فما نحن صانعوه تجاه تحقيق هذا الوعد التاريخي الهائل؟ ألا يحقق دخول أمريكا في الإسلام إعلاء كلمة الله في الدنيا؟ كي يكتب الله لنا نصرا أكيدا وفتحا مبينا، ما الذي نبذله من جهد ونقوم به من عمل؟ .
إياكم والظن أن قضية الإسلام تحقق ببناء غرفة أو إضافة حائط لمسجد. إياكم والظن أن إعلاء كلمة الله تحقق بمنح مبلغ من مال لهذا المسجد أو تلك الجماعة. إن قضية الإسلام تحقق فقط بتحقيق رسالته، وتحقق رسالته فقط بالدعوة إليها، لكن الدعوة المطلوبة اليوم ليست دعوة العجزة، ولا دعوة الشعائر ولا دعوة التأخر بل هي دعوة الآلاف من الدكاترة في العلوم الإسلامية، دكاترة في لغات وتاريخ الأمم المدعوة، دكاترة في الأديان وعلوم النفس، دكاترة في ثقافات وعادات الأمم المدعوة. فأين نحن من هذه الآلاف من الدكاترة، هذه الآلاف من جنود الله يقيمون الإسلام في حياتهم كما أقامه صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ .(2/593)
عبد العزيز صالح العناني (1) .
تقارير
البرازيل
إن الحديث عن المسجد ورسالته حديث طويل ممتد من أعماق التاريخ البعيد إلى وقتنا الحاضر، ويظل بآفاقه وخصوبته ما بقي على الأرض إسلام ومسلمون حتى يرث الله الأرض ومن عليها. . وفي مثل هذا المقام بين أهل العلم والتخصص تكفي اللمحة الدالة كي نعبر منها إلى جوهر الموضوع وفائدته؟ .
ويكفي المساجد تيها وفخارا أن ينسبها الحق تبارك وتعالى إليه فتكون أشرف البقاع بهذا النسب حيث يجعلها بيوته ويعتبر عمارها وزوارها والقائمين فيها وعليها ضيوفه المكرمين وعباده المقربين (2) عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله تعالى: إن بيوتي في الأرض المساجد وإن زواري فيها عمارها.
رواه أبو نعيم " الاتحافات السنية بالأحاديث القدسية " ص 32.
ويقفها على ذاته يذكر فيها اسمه ولا يشاركه فيها غيره {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3)
ولا عجب - بعد ذلك - أن تكون تلك النوعية المتجردة هي المنطلق لذوي الخير والراغبين فيه، الباحثين عن الحق يرجون وصله ورضاه.
__________
(1) مبعوث رابطة العالم الإسلامي في البرازيل
(2) انظر نصوص الحديث في الملحق بالأرقام التسلسلية
(3) سورة الجن الآية 18(2/593)
ولا غرابة - بعد ذلك - في أن يكون إنشاء ذلك الحقل التربوي هو العمل الأول الذي أسس عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دولته وبدأ فيه جولته وانطلاقته فور هجرته المباركة.
ومن خلال هذه الأهمية الهامة للمسجد نراه وقد أحيط بسياج عجيب من الرعاية التي تضفي عليه من الجلال والهيبة ما يجبر على إعظامه وتوقيره والتعاطف معه بأجمل المشاعر.
فهو يحس ويؤمن أن مجرد الاتجاه إلى هذا البيت الكريم يقتضيه أن يتطهر وأن يسكن ويتوقر، وأن مجرد السعي نحوه يحط من سيئاته ويكثر من حسناته ويرفع من درجاته، وأن مجرد الوقوف على أبوابه يتطلب منه المناجاة والدعوات، بل وتنظيم الخطوات في تقديم يمينه، فما أن يسعد بالدخول حتى يشرع في تحية مولاه بالخشوع والصلاة، ثم هو في صلاة ولو كان ينتظر الصلاة، وحسبه أن أصبح في وجود له حصانته وحرمته، فلا يجرؤ أحد أن يمر يبن يديه، ولا أن يرفع صوته بالتشويش عليه، بل تنقطع جميع المحادثات ولو كانت عادية إلا ما كان منها علما أو ذكرا أو خيرا من أمور تعبدية. ويكفي المؤمن شعورا أنه في مجال: عمارته دليل الإيمان وبرهان الفلاح والهدى، سواء في ذلك العمارة الإنشائية أو العمارة الاستعمالية بالتردد والعبادة والإفادة وفصل القول: إنه بهذا التعلق القلبي الزكي يصل إلى درجة وهي غاية الغايات، حين يسمع بشرى نبيه -صلى الله عليه وسلم- «ورجل قلبه معلق بالمساجد (1) » ضمن الأنواع السبعة النادرة التي يظلها الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
ومن خلال هذا الطهر والصفاء يتعرف الإنسان على نفسه، وفي هذا الإطار الروحي الكريم يتعرف على إخوانه المسلمين، بل وفي هذه الضيافة المباركة يتعرف على ربه. . وفي ظلال تلك السماوات يدرك المؤمن ما عليه من واجبات وماله من حقوق فينسجم في جميع أحواله مع نفسه ومجتمعه ودينه في وحدة متناسقة يتحقق فيها بوصف المؤمنين الذين {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (2) .
وإذا توفر هذا الوعي الراشد في أفراد المجتمع وأدركوا بالتطبيق العملي أن " المسجد " محراب صلاة ولقاء بالله وعز ومناجاة وموضع ذكر وفكر ومكان علم وتعليم ودار اعتكاف وتربية وميدان جندية وقيادة وضبط ودقة وإحكام، وأنه دار إفتاء ومجلس شورى وصالة قضاء ينصف فيها المظلوم ويستوي لديها الحاكم والمحكوم، وأنه دار لقاء وتعارف وحب وإيثار وتعاطف. يربط الأواصر ويصلح الباطن والظاهر.
فماذا تبتغي المجتمعات من سعادة حين تدرك الحسنى وزيادة.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (660) ، صحيح مسلم الزكاة (1031) ، سنن الترمذي الزهد (2391) ، سنن النسائي آداب القضاة (5380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، موطأ مالك الجامع (1777) .
(2) سورة البقرة الآية 285(2/595)
ما يجب أن يكون
هذا الذي عرضنا إثارة من أثارة ما يريده الله ورسوله للأمة القدوة خير أمة أخرجت للناس، وهو ما كانت عليه المساجد بالفعل في الصدر الأول حتى أشعت على العالمين الخير كله، وهو ما كان ينبغي أن تستمر عليه تلك التجارب المثمرة، ولسنا بحاجة إلى استعراض ما آلت إليه الأمور من فوارق ندت به الفروع عن أصولها شكلا وموضوعا. فتلك أمور توافقت منها الشكوى حيث عمت بها البلوى، ولله در الداعين لهذا الخير والإصلاح يرتقون به فتوق هذه الأمة، ويردونها إلى ماضيها المجيد وتجاربها الإيجابية الرائدة، وقد حالفهم التوفيق حيث يجمعون مسئولية المساجد من أطراف الأرض في رحاب المسجد الإمام بيت الله الحرام أول بيت وضع للناس هدى للعالمين، عسى أن تعمنا بركاته وخيراته والله الهادي إلى سواء السبيل.
ولعل فيما سبق لمسا إجماليا للأثر التاريخي والروحي والفكري من " رسالة المسجد ".(2/596)
إعداد الأئمة
وهذا موضوع له خطره وأهميته، فإن القيادة غير المعدة ربما ضرت أكثر مما نفعت وكما يقال: " إن زلة العالم يزل بها عالم "، وحين يضعف الإعداد فما أكثر الزلل ورب زلة واحدة تفتح أبواب فتنة، وأرجو أن تسمح الفرصة بتقديم نموذج يتضح فيه مقصدي: فقد طالعتنا الصحافة بعجائب في الأشهر الماضية تتحدث عن الإسلام بألسنة بعض دعاته تجافي روح الإسلام وأصوله وأسلوبه وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وإن توفر حسن النية لا يعفي من المسئولية على طول المدى.
ذلك أن خلال موجات الحوار المتبادلة بين رجالات الدين المسلمين والمسيحيين قد عرض بعض دعاتنا موضوعا أسماه (توحيد الإسلام والمسيحية) في لقاء ضم أربعة منهم: عالمان مسلمان وقسان مسيحيان. ونافح فيه ودافع وكرر فكرة " التوحيد بين الديانتين " خلال حديثه خمس مرات فضلا عن العنوان والحوار البناء الذي يكشف عن جوهر الإسلام بالبيان لمن جهل بعض حقائقه أو خفيت عليه بعض حكمه وتشريعاته. والذي يدفع عنه بعض الشبهات التي ألصقها به خصومه يكون جميلا بل هو واجب المسلمين ومسئولية العلماء نحو الحقائق التي شرفهم الله بحمل أمانتها. الحوار الذي أجراه علماؤنا المجاهدون في الرياض وباريس والفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي في جنيف، والمجلس الأوربي في ستراسبورغ حول حقوق الإنسان ومصادر التشريع وموقف الإسلام من العلم وقضية السلام العالمي وقضايا المرأة والأحوال الشخصية وأسلوبه في " وحدة الأسرة البشرية إلخ. . .(2/596)
أما أن تتمتع القضايا الأم تحت عناوين مستحيلة يسمح الداعية فيها لنفسه أن يسوي بين القرآن والإنجيل كمرجع للبحث متناسيا الفروق الجوهرية كي نصل - على حد تعبيره - إلى " أن الديانتين واحدة في الأصل والمبدأ والغاية ".
ثم ينطلق من مطالبة القرآن لنا أن نؤمن بالرسالات السابقة ورسلها وكتبها إلى القول " فكل مسلم مسيحي وزيادة، وعليه فأي غضاضة على مسيحي العرب في هذا المشرق أن يكونوا مسلمين مسيحيين كما نحن مسلمون مسيحيون، إذ لا يخرج المسيحي لو أسلم عن مسيحيته الحقيقية أصلا ولا عن نصرانيته الحقة أبدا ".
ونحن بحمد الله مؤمنون بالرسل جميعا ولا نفرق بين أحد منهم، ولكننا لسنا مسيحيين لأننا آمنا بعيسى عليه السلام رسولا، ولسنا يهودا لأننا آمنا بموسى عليه السلام رسولا، فإن قضية الإيمان قضية تصديق، ارتباطها بالقلب وما اعتبرنا مسلمين إلا بالانقياد التطبيقي لما جاء به رسولنا -صلى الله عليه وسلم- من تشريع، وهذا مجاله الجوارح عملا وتركا تجاوبا مع الأمر والنهي، وهذا سبيل تباينت فيه الأديان {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} (1) 48 المائدة.
وكيف ينسى الداعية - مهما حسنت نيته - أن الشرائع ينسخ اللاحق منها السابق، وهذا نص كريم {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (2)
ثم كيف يوصف المسلمون بأنهم " مسلمون مسيحيون " وقد ناداهم ربهم في قالب المنة والتكريم {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3) 3 المائدة.
ورب الأديان الذي أنزلها لم يعتمد في كتابه الخاتم سواه {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (4) 19 آل عمران. . . بل حسم الأمر غاية حيث يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (5) 85 آل عمران. . . ظن أخونا الداعية أنه بهذا يستميلهم أو ينال رضاهم، ونسي أن القضية مطروقة وقديمة وأن الله تبارك وتعالى خاطب سيد المرسلين بقوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (6) 120 البقرة. ثم ينادي داعيتنا الكريم باسم الإسلام " مسيحيي العرب في هذا الشرق " أن يتبعوا سيدا من قومهم وسلالة أجدادهم وآثارها جنسية وقومية ووطنية إلخ. وفاته أن معتنقي المسيحية في العالم أضعاف العرب وكذلك الحال في المسلمين، وفاته أن هذا الأسلوب يتجافى مع روح الإسلام الحقة ويخالف طبيعة رسالته العامة، وأن مهمة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- كما حكاها القرآن الكريم {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (7) 9 الصف. . . وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أدى ذلك البلاغ وسجل القرآن له {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (8) 158 الأعراف.
__________
(1) سورة المائدة الآية 48
(2) سورة البقرة الآية 106
(3) سورة المائدة الآية 3
(4) سورة آل عمران الآية 19
(5) سورة آل عمران الآية 85
(6) سورة البقرة الآية 120
(7) سورة الصف الآية 9
(8) سورة الأعراف الآية 158(2/597)
وأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يعطي هذا الجانب (أعني عرض الدعوة وإبلاغها) أعظم الاهتمام والعناية في إطار من أربعة أضلاع تكون سياجا منيعا لحماية الحق وحفظ كيانه والاعتراف بفضله حتى من معارضيه.
الأول: (الحسنى) في ظلال {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) 6 العنكبوت.
الثاني: (العدل والمساواة) في ظلال {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) 64 آل عمران. . . ولم يقل مسلمون مسيحيون.
الثالث: (رفض الهوى والمساومات) في ظلال {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (3) 15 الشورى.
الرابع: (الحسم الواضح) في ظلال {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (4) وإذا استدعى الأمر {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (5)
وبهذا المسلك الموقن سد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الثغرات دون أهل الهوى والغرض، لكن العرض الضعيف يطمع ويفتح أبواب الفتنة والحق، أقول لقد قرأت الحوار وطالعته كما طالعت بعض التعليقات حوله بشعور أليم وقلب أسيف لما أثار من فرص موهومة بدا فيها الباطل صاحب وجهة نظر، وجرأت أهله على الرفض الصريح بل وعلى الغمز أحيانا. . {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (6)
ومن أجل ذلك وأمثاله أركز كل التركيز على موضوع إعداد الداعية شكلا وموضوعا علما وسلوكا. . والله المستعان.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 46
(2) سورة آل عمران الآية 64
(3) سورة الشورى الآية 15
(4) سورة البقرة الآية 256
(5) سورة الكافرون الآية 6
(6) سورة الممتحنة الآية 5(2/598)
مقترحات
1 - طبع رسائل جيب متتابعة تعرض تاريخ المسجد هنا وهناك من لطائف وقصص ونوادر حتى تكون نماذج تحتذى في رفق.
2 - الاستعانة في مجال الوسائل بالفيلم السينمائي لعرض أفلام تصاغ خصيصا في التربية الصالحة وشرح بعض الغزوات وبعض العبادات في مراحلها كمناسك الحج وتعليم الصلاة للصغار وتقديم بعض الصور الأخلاقية ومقاومة الانحراف والجريمة بإعداد وإخراج مناسب، وإذا نجح فسوف يخرج تلقائيا إلى مجالات خارج المسجد وربما تبناه الإعلام العام مثل التلفزيون فيغزو كل بيت وكل أسرة.
3 - من الوسائل الناجحة التي لجأ إليها التبشير الأمريكي الاهتمام بالصحة بين الطبقات الكادحة وهو موضوع إنساني يستميل القلوب والمشاعر فلا بأس أن نفيد منه.
4 - من وسائل إعداد الأئمة أن تسجل بعض الخطب الجيدة وتوزع عليهم أو يستمعوا إليها في ندوات تجمعهم حسب ظروفهم وإمكاناتهم.
5 - أيضا جولات تدريبية لا بأس أن تنتهي بإجراء مسابقة بينهم في الموضوعات أو الكتب التي طرحت عليهم في التدريب مع شيء من التشجيع الأدبي والمادي للمتفوقين أو للجميع.
6 - معسكرات عمل وتطبيق وممارسة يختلط فيها الأئمة ويتفاعلون. . إلخ.
7 - أصبح من الضروري في المرافق الملحقة بالمسجد بعض وسائل الترفيه المفيد من مكتبات وندوات بل وبعض الملاعب بالقدر المتاح للشباب، وبعض المدارس أو الفصول الدراسية الملحقة، أيضا شيء من الجانب العلاجي كالمستوصفات أو المشافي حسب ظروف المكان والبيئة والطاقة.
8 - ربط مصالح الناس بالمسجد كإجراء عقود الزواج وما شابه.
9 - وجوب تحذير المسلمين من طغيان الاهتمام بالبنيان على الجانب الروحي من بناء الإنسان في مثل الحديث التالي: عن أبي قلابة. . قال أنس: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «سيأتي على الناس زمان يتباهون في المساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلا» رواه البخاري. . انظر نيل الأوطار ج 2 - 169 باختصار. هذا وبالله التوفيق.(2/599)
صفحة فارغة(2/599)
أنباء إسلامية دولية
استقبل معالي وزير الإعلام السعودي: الدكتور محمد عبده يماني في شهر صفر من عام 1369 هـ الماضي رواد الفضاء الأميركيين يرافقهم الدكتور فاروق الباز عالم الفضاء المصري، وقد وجه معاليه إليهم هذه الكلمة القيمة.
إننا في المملكة العربية السعودية نشعر بسعادة كبيرة لما وفق الله إليه من تحقيق هذه النتائج التي كان فيها الخير الكثير للإنسانية جمعاء، ولا شك أن النتائج التي جاءت لمشروعات الفضاء. . كان بها آثار إيجابية على الإنسانية بصورة عامة، ونحن أيضا نفخر بهذا العمل لأننا جزء منه. فلقد ساهم أجدادنا كما تعلمون في هذا العمل وكانوا حلقة من الحلقات الأساسية، التي ساهمت في وضع أول إنسان على القمر، فقد كان هناك اهتمام كبير بعلوم الفضاء في البلاد الإسلامية. . كان لنا مراصد في طليطلة، وسمرقند، وبغداد، ومناطق كثيرة من العالم الإسلامي وبدأت هذه الجهود كما تعلمون عبر عصور تاريخية، وساهموا في وضع أجزاء أساسية من علوم الفضاء وعلم الفلك، منهم: أبو الحسن عبد الرحمن الرازي، فقد رصد ما يزيد عن ألف نجم، وحدد أماكنها جميعا بالنسبة لمبادرة الاعتداليين، وعين أقدار النجوم بدقة، قبل أن يوجد الحاسب الإلكتروني، ولا تختلف حساباته، كما تعلمون، عن ما هو معتمد لديكم اليوم، وهو الذي ذكر سديم المرآة المسلسلة قبل موبوس بأكثر من ستة قرون، وهو الذي حدد دائرة البروج ومبادرة الاعتداليين بدرجة كل ستة وستين عاما، وهو أيضا من الذين تحدثوا عن النجوم(2/602)
الخفية والنجوم الظاهرة، وهناك أيضا له مجموعة من الكتب. وأيضا هناك ابن النديم، وابن القفطي، وابن العبري، ومجموعة من علماء العرب. . أثنى على جهودهم علماء كثيرون - كتسارطون وشبلاب والأردغون، ومن أشهر مؤلفاته: كتاب الكواكب الثابتة - كتاب التذكرة - كتاب مطارح الشعاعات، أيضا هناك أبو قاسم الأندلسي المجريطي وكان مقيما في قرطبة. وكان متقدما في الفلك والرياضيات. والمجريطي رصد الكثير من الكواكب واهتم بأزياج الخوارزمي، كما وضع أوساط الكواكب لأول تاريخ الهجرة وجعل نقطة الابتداء هي منتصف النهار، واعترف له الكثيرون من علماء الغرب، وتعتبر الجداول المجريطية اليوم أساسا هاما في كثير من المؤلفات الفلكية المأخوذة عنها خصوصا في أوربا. ومن كتبه الهامة كتاب الأسطرلاب الذي تعلمونه. .
أيضا هناك العالم المسلم الغ بك محمد بن شاه، كان ذا نبوغ كبير في علم الفلك، وكان على صلة كبيرة بالعاملين في هذا الوسط، وقد اخترع بعض الآلات الفلكية الهامة وزود بها المراصد الشهيرة حيث انتفع بها الباحثون في تلك المراصد. وقد كان مرصده أعجوبة في ما يحتويه من أدوات والطريقة التي عمل بها داخليا. وقد وضع زيج السلطاني وقسمه إلى أقسامه الشهيرة. ولا شك أن مدرسة علم الفلك في بغداد التي يرجع تاريخها إلى ولاية العالم أبي جعفر المنصور، قد حققت مراصدها الكثير من النجاح، ورصدت دراسات مختلفة وهكذا نحس بأننا كما ذكرت لكم نفخر بعملكم لأننا نعتبر أنفسنا جزءا متمما لهذا العمل - بدأنا به ونفخر بما حققتموه اليوم لأن فيه خيرا للإنسانية.(2/603)
أنباء إسلامية دولية
المؤتمر الدولي للمسكرات والمخدرات
انعقد المؤتمر الدولي للمسكرات والمخدرات في البحرين في الفترة كم 29 \ 11 إلى 5 \ 12 \ 1975 وقد تشكل وفد المملكة العربية السعودية على النحو التالي:
1 - محمود ماريني مدير إدارة المخدرات - ممثلا لوزارة الداخلية.
2 - إبراهيم الناصر المحقق القضائي بوزارة العدل - ممثلا لوزارة العدل.
3 - محمد أبو بكر مدير عام إدارة التنمية - ممثلا لوزارة العمل والشئون الاجتماعية.
وقد شارك أعضاء الوفد في جميع جلسات ذلك المؤتمر كما اشترك في مناقشات اللجان المتفرعة عنه.
وقد ساهم في المؤتمر أيضا ممثلون آخرون من مؤسسات علمية في المملكة حضروا بدعوة خاصة من المنظمة الداعية لعقد ذلك المؤتمر وهم:
الدكتور: محمد السعد الرشيد - مندوبا عن جامعة الملك عبد العزيز.
الدكتور: جمال الشرقاوي - مندوبا عن جامعة الرياض.(2/604)
الدكتور: أسامة الراضي - مدير مستشفى الأمراض النفسية والعصبية بالطائف.
الدكتور: مالك بدري - من جامعة الرياض الذي وجهت إليه دعوة خاصة للاشتراك في المؤتمر وتقديم بحث خاص بعنوان " الإسلام ومعالجته لمتعاطي الكحوليات ".
وقد تكاتف وفد المملكة الرسمي مع بقية الأعضاء المذكورين لإبراز دور الشريعة الإسلامية في مكافحة المسكرات والمخدرات ونجاحها في معالجة تلك المشكلة العالمية - موضحين مدى نجاح المملكة العربية السعودية في مكافحة هذا الداء الخطير بسبب تطبيقها للشريعة الإسلامية دعوة وإرشادا وتوجيها ثم عقابا.
وقد اتسمت كثير من مناقشات المؤتمر بالطابع الإسلامي وأبدى كثير من المشتركين فيه وخاصة الذين هم من غير البلاد العربية تفهما كبيرا لما عرضنا، وتحمسا للطريقة الإسلامية فيما يتعلق بوقاية المجتمع من التردي في تلك المآزق التي يصعب إنقاذ أفراده منها، وقد ركزنا على أهمية الوقاية وسبقها للعلاج الذي لاحظنا تركيز المؤتمر عليه في كثير من بحوث المشتركين فيه.
فحسم الداء قبل استفحاله بل ومنعه قبل وقوعه أولى وأهم من معالجته بعد الوقوع مع عدم إغفال ناحية العلاج لمن أصيب بذلك الداء.
وأخيرا فقد توصل المؤتمر إلى توصيات تحمل في طياتها كثيرا مما أثير في المؤتمر وتعكس الأثر الذي تركه وفد المملكة وبعض الوفود الإسلامية على مناقشات المؤتمر مما يبشر باتجاه جاد إلى ضرورة الاستفادة من الشريعة الإسلامية في مكافحة المسكرات والمخدرات حتى في غير البلاد التي تطبقها. . . وفيما يلي تلك التوصيات: -
اعترافا بحجم المشاكل المتعلقة بالمسكرات والمخدرات والإدمان على المخدرات وشعورا بالاحتياجات الملحة في مجالات الوقاية والمكافحة والعلاج والتي تتطلب مزيدا من الإجراءات الفعالة يوصي المؤتمر بما يلي:
1 - مناشدة جميع الحكومات المعنية وخاصة في الدول النامية لنشر الدراسات المنظمة - ميدانية كانت أو تجريبية - لبحث مشاكل الإدمان وتدعيم أوجه النشاط التي تعين على مكافحته وإنشاء المؤسسات الكفيلة بتولي تنسيق الجهود بين العاملين لإيجاد أفضل الأساليب في العلاج والوقاية.(2/605)
2 - نظرا لما لعلم الكيمياء من دور هام في التعرف على المركبات المختلفة التي قد تسبب التعود أو الاعتماد (الإدمان) وبالنسبة لضرورة ربط الصفات الكيميائية لهذه المركبات بالطرق التي يمكن بها أن تتحدد الوقاية والعلاج. . . يوصي المؤتمر وقد استمع إلى البيانات التي أدلى بها مدير عام المكتب الدولي العربي لشئون المخدرات، ووقف على ما وصلت إليه مشكلة زراعة القنب الهندي (الحشيش) بمحافظة البقاع في لبنان، والصعوبات التي تعترض طريق مشروع إحلال الزراعات المفيدة بدلا عنها وتأكيدا لتوصيات المؤتمر الإقليمي السادس للمخدرات الذي عقد بالرياض عام 1974 م. يناشد المؤتمر الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة بأن تقدم للبنان المعونات المادية والفنية التي تعينه على المضي في مشروع التنمية الشاملة الذي بدأه بهدف القضاء على زراعات الحشيش بأراضيه، وتنفيذ نصوص الاتفاقية المبرمة بينه وبين الصندوق الخاص (لعام 1973 م) ووضع هذه النصوص موضع التنفيذ من جانب جميع الأطراف، كما يدعو المؤتمر المكتب العربي لشئون المخدرات مواصلة الاتصالات بطريقة مكثفة بالسلطات اللبنانية والمنظمات العربية والدولية المعنية لتحقيق هذه الأهداف.
3 - إن المؤتمر وقد استعرض الظروف التي مرت بزراعات خشخاش الأفيون بدول الشرقين الأدنى والأوسط وبين الإلغاء والإبقاء يناشد الدول التي تزرع خشخاش الأفيون بهذه المنطقة، بأن تفرض رقابة فعالة على الأفيون الناتج منها لتحول دون تسربه إلى الأسواق العربية والدولية للاتجار غير المشروع حماية للمجتمع الإنساني من ويلاته، ويدعو لجنة المخدرات الدولية إلى مواصلة رقابتها لهذه الزراعات بهذه المنطقة من العالم من خلال لجنتها الفرعية للاتجار غير المشروع للشرقين الأدنى والأوسط وإعطاء أولوية خاصة لما تصدره من توصيات.
4 - يناشد المؤتمر الدول الأعضاء بلجنة الاتجار غير المشروع (تركيا - إيران - أفغانستان - باكستان، بالإضافة إلى الهند) إلى عقد اجتماعات دورية لمديري أجهزة المكافحة بها مع نظائرها في الدول العربية التي يتأثر إنتاجها؛ لتبادل المعلومات وتوثيق الروابط وتدعيم التعاون المشترك من الجانبين، كما يدعو المؤتمر السيد مدير عام المكتب الدولي العربي لشئون المخدرات للحرص على الاشتراك في اللجنة الفرعية للجنة المخدرات الدولية للاتجار غير المشروع للشرقين الأدنى والأوسط تدعيما لجهودها في هذه المنطقة من العالم.
5 - إن المؤتمر وقد استعرض التطورات التي مرت بها مشكلة المخدرات تعاطي القات في بعض دول الجزيرة العربية والساحل الشرقي لأفريقيا، والمدرجة حاليا في جدول أعمال لجنة المخدرات الدولية، يناشد منظمة الصحة العالمية وخبير قسم المخدرات بجنيف بالوصول بأبحاثها حول أوراق هذا النبات إلى غايتها لتحديد خصائصها وتأثيراتها على الكيان البشري، وتقديم النتائج إلى لجنة المخدرات الدولية لرفعها إلى المجلس(2/606)
الاقتصادي والاجتماعي لحسم الموقف الدولي بالنسبة لهذا النبات على ضوء ما اتضح من هذه الأبحاث.
كما يناشد المؤتمر الدول المنتجة للقات أو التي تستهلك فيها بضرورة العمل على تبصير المواطنين على مختلف مستوياتهم بالقدر المتيقن عن أضراره الصحية والاقتصادية والاجتماعية عن طريق وسائل الإعلام المختلفة، وتيسير السبل أمام المنظمات العربية والدولية لإجراء المزيد من الدراسات اللازمة حول هذه المشكلة في حدود إمكاناتها وتبني ما تضعه من برامج لعلاجها والعمل على تنفيذها.
كما يدعو الدول العربية والمنظمات الدولية المعنية إلى تقديم المساعدات العلمية والفنية والمالية للجمهوريتين اليمينيتين والصومال التي تساعدها على التغلب على هذه المشكلة وتنفيذ البرامج التي توضع لعلاجها على المدى القصير والبعيد.
وكذلك يناشد المؤتمر المكتب الدولي العربي لشئون المخدرات ومديره العام أن يواصل مختلف الجهود المشكورة التي بذلها على الصعيدين العربي والدولي لعلاج هذه المشكلة، حتى تحقق غايتها المرجوة.
وفي مجال الوقاية العامة الشاملة يوصي المؤتمر بما يلي:
6 - الاستفادة من تطبيق الشريعة الإسلامية وكيفية علاجها لمشكلة تعاطي المسكرات والمخدرات.
7 - الاهتمام بالأسرة لتنشئة أفرادها التنشئة الصالحة لوقاية المجتمع من مشاكل تعاطي المسكرات والمخدرات.
8 - توفير الضمان والرعاية الاجتماعية لأسر المدمنين والعمل على حماية أفرادها.
9 - أن تتضمن المناهج الدراسية في كافة مرحلها التوعية الفعالة بالأضرار الناجمة عن تعاطي المسكرات والمخدرات ونشر الوعي بين فئات الشعب المختلفة، لتحصينهم ضد ذلك التعاطي، وإعطاء الشباب عناية خاصة وقاية لهم وحفاظا على طاقاتهم ومستقبلهم.
10 - تجنيد وسائل الإعلام لتبصير الناس بالمضار المؤكدة علميا للمسكرات والمخدرات.
11 - يناشد المؤتمر الدول التي تسمح بتعاطي المسكرات باتخاذ الإجراءات اللازمة للوصول إلى منع ذلك التعاطي أو الحد منه والاجتهاد الصادق في هذا السبيل وفقا لظروف كل بلد.
12 - إلزام المصانع المنتجة للمسكرات بوضع عبارة بارزة " بأن محتويات هذه العبوة قد تدمر صحتك " وذلك باللغات المناسبة أسوة بما يحدث مع الشركات المنتجة للسجائر.
كما يجب منع الدعاية للمنتجات الكحولية منعا باتا في أي من وسائل الإعلام من صحافة وإذاعة وتليفزيون وسينما وغيرها.(2/607)
وفي حقل العلاج الطبي والنفسي يوصي المؤتمر بما يلي:
13 - العمل على تشكيل وحدات متخصصة في حقل العلاج الطبي والنفسي وتمثيل كافة الاختصاصات في لجان العمل وخاصة من رجال الدين والمتخصصين في الكيمياء إلى جانب الفريق الطبي المتكامل، وتوفير سبل العلاج المختلفة على أساس الرغبة الاختيارية وما تحيله السلطات المختصة مع التقيد التام بالقسم الطبي والحفاظ على أسرار المهنة.
14 - من أجل الاستفادة القصوى من الخبرات والتجارب التي أجرتها بعض الدول والجمعيات الطبية والخيرية والخبراء المختصين، يوصي المؤتمر أن يبادر المجلس الدولي للمسكرات والمخدرات ومكافحة الإدمان على المخدرات إلى إجراء الدراسات اللازمة على ضوء تلك التجارب وإعدادها للعرض على مؤتمر بغداد القادم والذي سيعقد في عام 1976 بإذن الله.
وختاما يوصي المؤتمر برفع خالص الشكر لدولة البحرين أميرا وحكومة وشعبا على استضافة المؤتمر في تلك البلاد الطيبة وتقديم كل عون لهذا النجاح.
ووفد المملكة إذ يتشرف بتقديم هذا التقرير يرجو أن يكون قد وفق لأداء الرسالة التي حمل إياها والله الهادي إلى سواء السبيل.
مندوب الشئون الاجتماعية ... مندوب وزارة العدل ... مندوب وزارة الداخلية
محمد إبراهيم أبو بكر ... إبراهيم عبد الله الناصر ... محمود محمد مارديني(2/608)
أنباء إسلامية دولية
تم في المحرم من عام 1369 وضع حجر الأساس للجامعة الإسلامية لغرب أفريقيا، وستقوم منظمة المؤتمر الإسلامي بتمويل هذه الجامعة، التي تقرر بناؤها في مؤتمر القمة بلاهور عام 1974. تقدر تكاليف المرحلة الأولى من الجامعة التي ستضم كلية للدراسات الإسلامية، وكلية للهندسة بـ 400 مليون فرنك أفريقي (8 ملايين فرنك فرنسي) .
وصرح الرئيس سيني كونتش رئيس النيجر الذي قام بوضع حجر الأساس. . أن الإسلام والثقافة العربية حقائق حية في النيجر، وأعرب عن أمنيته في أن تكون هذه الجامعة بناء إضافيا للمعرفة الإسلامية.
وأضاف قائلا: إن جامعة النيجر الإسلامية ستحترم أماني مؤسسيها في العمل على تدعيم الإسلام والتضامن بين الدول التي أدت إلى وجودها، وستكون أبوابها مفتوحة أمام جميع كل الطلبة أو الباحثين في العالم. . الذين يرغبون في معرفة الإسلام أو خدمته.
وقد حضر الحفل بصفة خاصة: كريم جاي، سكرتير عام منظمة المؤتمر الإسلامي، وصالح عبد الله الصقير، رئيس اللجنة الدائمة لصندوق التضامن الإسلامي، وعدد من ممثلي الدول الأعضاء في المؤتمر الإسلامي.
وتعد مدينة ساي التي اختيرت لكي تقام فيها الجامعة مركزا إسلاميا هاما، وتقول الروايات الشفهية المتناقلة: إنها كانت بمثابة مدينة مكة بالنسبة لأفريقيا في القرن الثامن عشر.(2/609)
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3) {وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4)
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة الإخلاص الآية 3
(4) سورة الإخلاص الآية 4(3/1)
لجنة الإشراف سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
فضيلة الشيخ محمد بن عودة
فضيلة الشيخ عثمان الصالح
أشرف على التحرير جمال النهري
عبد الله البعادي
محمد بن عبد الرحمن آل إسماعيل
المراسلات: رئيس التحرير
مجلة البحوث الإسلامية
المملكة العربية السعودية - شارع الرياض
جنوب شارع عسير
تليفون: 4359712 - 4596062(3/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض
رئيس التحرير
عثمان الصالح
الإشراف الفني
جمال النهري
مجلة فصلية تصدر كل ثلاثة أشهر
رجب شعبان رمضان
شوال ذو القعدة ذو الحجة 1397(3/3)
الفهرس
1 التضامن الإسلامي سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 6
2 دور عالمي لرسالة عالمية فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
نائب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 16
3 تصدير العدد فضيلة الشيخ عثمان الصالح
رئيس التحرير 23
أبحاث هيئة كبار العلماء
4 حكم طلاق الثلاث بلفظ واحد هيئة كبار العلماء 27
5 حكم النشوز والخلع هيئة كبار العلماء 174
6 حكم الشفعة بالمرافق الخاصة هيئة كبار العلماء 229
7 الدعوة الإصلاحية في الجزيرة العربية الدكتور محمد المعتصم 265
8 الحرب والصلح في الإسلام الشيخ عبد العزيز المسند 272(3/4)
9 افتراء مغرض حول سعد بن معاذ الدكتور محمد رجب البيومي 281
10 الأمومة والطفولة في الإسلام الأستاذ محمد العزب 289
11 تاريخ نشيد الفرح بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم الشيخ إسماعيل الأنصاري 297
كتاب العدد
12 تعيين مواقيت الصلاة في أي زمان ومكان على سطح الأرض الدكتور حسين كمال الدين 304
13 من ملفات الإفتاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 359
14 في المؤتمر السادس لجمعية التعليم لعموم الهند لفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع
نائب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 382
15 حول الطلاق - كتب تصدر قريبا الشيخ محمد الصالح العثيمين 389
16 أساليب القسم والشرط في القرآن الدكتور أحمد رجب عبد العزيز اللهيب 395(3/5)
التضامن الإسلامي
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد. فإن الله سبحانه إنما خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له كما قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بهذه العبادة وبعث الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتاب لبيان هذا الحق وتفصيله والدعوة إليه كما قال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (3) وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (4) ومعنى قضى في هذه الآية أمر ووصى وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (5)
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة النساء الآية 36
(4) سورة الإسراء الآية 23
(5) سورة البينة الآية 5(3/6)
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) وقال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (3) {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} (4) وقال تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (5) .
ففي هذه الآيات الكريمات الأمر بعبادته سبحانه والتصريح بأنه خلق الثقلين لهذه العبادة وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيانها والدعوة إليها، وحقيقة هذه العبادة هي طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالإخلاص لله في جميع الأعمال والامتثال لأوامره والحذر من نواهيه والتعاون في كل ذلك، وتوجيه القلوب إليه سبحانه في كل ما يهمها، وسؤاله عز وجل جميع الحاجات عن ذل وخضوع وإيمان وإخلاص وصدق وتوكل عليه سبحانه، ورغبة ورهبة مع القيام بالأسباب التي شرعها لعباده وأمرهم بها وأباح لهم مباشرتها، وبهذا كله يستقيم أمر الدنيا والدين وتنتظم مصالح العباد في أمر المعاش والمعاد، ولا صلاح للعباد ولا راحة لقلوبهم ولا طمأنينة لضمائرهم إلا بالإقبال على الله عز وجل والعبادة له وحده والتعظيم لحرماته والخضوع لأوامره والكف عن مناهيه والتواصي بينهم بذلك والتعاون عليه والوقوف عند الحدود التي حد لعباده كما قال عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (6) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (7) .
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) سورة هود الآية 1
(4) سورة هود الآية 2
(5) سورة إبراهيم الآية 52
(6) سورة النساء الآية 13
(7) سورة النساء الآية 14(3/7)
ومن المعلوم أنه لا يتم أمر العباد فيما بينهم، ولا تنتظم مصالحهم ولا تجتمع كلمتهم ولا يهابهم عدوهم إلا بالتضامن الإسلامي الذي حقيقته التعاون على البر والتقوى والتكافل والتناصر والتعاطف والتناصح والتواصي بالحق والصبر عليه. ولا شك أن هذا من أهم الواجبات الإسلامية والفرائض اللازمة وقد نصت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على أن التضامن الإسلامي بين المسلمين أفرادا وجماعات حكومات وشعوبا من أهم المهمات ومن الواجبات التي لا بد منها لصلاح الجميع وإقامة دينهم وحل مشاكلهم وتوحيد صفوفهم وجمع كلمتهم ضد عدوهم المشترك، والنصوص الواردة في هذا الباب من الآيات والأحاديث كثيرة جدا، وهي وإن لم ترد بلفظ التضامن فقد وردت بمعناه وما يدل عليه عند أهل العلم، والأشياء بحقائقها ومعانيها لا بألفاظها المجردة، فالتضامن معناه التعاون والتكاتف والتكافل والتناصر والتناصح والتواصي وما أدى هذا المعنى من الألفاظ، يدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله سبحانه وإرشاد الناس إلى أسباب السعادة والنجاة وما فيه صلاح أمر الدنيا والآخرة.
ويدخل في ذلك أيضا تعليم الجاهل وإغاثة الملهوف، ونصر المظلوم ورد الظالم عن ظلمه، وإقامة الحدود وحفظ الأمن والأخذ على أيدي المفسدين المخربين، وحماية الطرق بين المسلمين داخلا وخارجا، وتوفير المواصلات البرية والبحرية والجوية والاتصالات السلكية واللاسلكية بينهم لتحقيق المصالح المشتركة الدينية والدنيوية، وتسهيل التعاون بين المسلمين في كل ما يحفظ الحق ويقيم العدل وينشر الأمن والسلام في كل مكان. ويدخل في التضامن أيضا الإصلاح بين المسلمين وحل النزاع المسلح بينهم وقتال الطائفة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله عملا بقول الله عز وجل: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (1)
__________
(1) سورة الأنفال الآية 1(3/8)
وقوله سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) .
ففي هذه الآيات الكريمات أمر الله المسلمين بتقواه سبحانه والقيام بالإصلاح بينهم عموما وبالإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين منهم خصوصا وقتال الطائفة الباغية حتى ترجع عن بغيها، وأن يكون الصلح على أسس سليمة قائمة على العدل والإنصاف لا على الميل والجور، وفيها التصريح بأن المؤمنين جميعا إخوة وإن اختلفت ألوانهم ولغاتهم وتناءت ديارهم فالإسلام يجمعهم ويوحد صفوفهم ويوجب عليهم العدل فيما بينهم والتصافي والكف عن عدوان بعضهم على بعض ويوجب على إخوانهم الإصلاح بينهم إذا تنازعوا، ثم ختم الله سبحانه هذه الآية بالأمر بالتقوى وعلق الرحمة على ذلك فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) فدل ذلك على أن تقوى الله في كل الأمور هي سبب الرحمة والعصمة والنجاة وصلاح الأحوال الظاهرة والباطنة. ويدخل في التضامن أيضا تبادل التمثيل السياسي أو ما يقوم مقامه بين الحكومات الإسلامية لقصد التعاون على الخير وحل المشاكل التي قد تعرض بينهم بالطرق الشرعية واختيار الرجال الأكفاء في علمهم ودينهم وأمانتهم لهذه المهمة العظيمة. ويدخل في التضامن أيضا توجيه وسائل الإعلام إلى ما فيه مصلحة الجميع وسعادة الجميع في أمر الدين والدنيا وتطهيرها مما يضاد ذلك، ومما ورد في هذا الأصل وهو التضامن الإسلامي والتعاون على البر والتقوى قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (4) أمر الله - سبحانه - في هذه الآية الكريمة عباده المؤمنين بأن يتقوه حق تقاته ويستمروا على ذلك ويستقيموا عليه حتى يأتيهم الموت وهم على ذلك، وما ذاك إلا لما في تقوى الله عز وجل من صلاح الظاهر والباطن وجمع الكلمة وتوحيد الصف وإعداد العبد لأن يكون صالحا مصلحا وهاديا مهديا باذلا النفع لإخوانه كافا للأذى عنهم معينا لهم على كل خير، ولهذا أمر الله المؤمنين بعد ذلك بالاعتصام بحبله فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (5) وحبل الله سبحانه هو دينه الذي أنزل به كتابه الكريم وبعث به رسوله الأمين محمدا - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2) سورة الحجرات الآية 10
(3) سورة الحجرات الآية 10
(4) سورة آل عمران الآية 102
(5) سورة آل عمران الآية 103(3/9)
والاعتصام به هو التمسك به والعمل بما فيه والدعوة إلى ذلك والاجتماع عليه حتى يكون هدف المسلمين جميعا ومحورهم الذي عليه المدار ومركز قوتهم هو اعتصامهم بحبله وتحاكمهم إليه وحل مشاكلهم على نوره وهداه وبذلك تجتمع كلمتهم ويتحد هدفهم ويكونون ملجأ لكل مسلم في أطراف الدنيا وغوثا لكل ملهوف وقلعة منيعة وحصنا حصينا ضد أعدائهم، وبهذا الاجتماع وهذا الاتحاد وهذا التضامن تعظم هيبتهم في قلوب أعدائهم ويستحقون النصر والتأييد من الله عز وجل ويحفظهم سبحانه من مكائد العدو مهما كانت كثرته، كما وقع ذلك بالفعل لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام - رضي الله عنهم - وأتباعهم بإحسان في صدر هذه الأمة ففتحوا البلاد وسادوا العباد وحكموا بالحق وحقق الله لهم وعده الذي لا يخلف كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وقال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (3) وقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (4) وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (5) وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (6) .
ففي هذه الآيات الكريمات حث المسلمين وتشجيعهم على التمسك بدينهم والقيام بنصره وذلك هو نصر الله فإنه سبحانه وتعالى في غاية الغنى عن عباده وإنما المراد بنصره هو نصر دينه وشريعته وأوليائه والله ناصر من نصره وخاذل من خذله وهو القوي العزيز. وفي هذه الآيات أيضا البشارة العظيمة
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الحج الآية 40
(3) سورة الحج الآية 41
(4) سورة الروم الآية 47
(5) سورة النور الآية 55
(6) سورة آل عمران الآية 120(3/10)
بأن الله عز وجل ينصر من نصره ويستخلفه في الأرض ويمكن له ويحفظه من مكائد الأعداء فالواجب على المسلمين جميعا أينما كانوا هو الاعتصام بدين الله والتمسك به والتضامن فيما بينهم والتعاون على البر والتقوى ومناصحة من ولاه الله أمرهم والحذر من أسباب الشقاق والخلاف والرجوع في حل المشاكل إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - والتواصي في ذلك كله بالحق والصبر عليه مع الحذر من طاعة النفس والشيطان وبذلك يفلحون وينجحون ويسلمون من كيد أعدائهم ويكتب الله لهم العز والنصر والتمكين في الأرض والعاقبة الحميدة ويؤلف بين قلوبهم وينزع منها الغل والشحناء وينجيهم من عذابه يوم القيامة وفي هذا المعنى يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم (1) » أخرجه مسلم في صحيحه.
ومما ورد في التضامن الإسلامي قوله جل وعلا: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) وهذه الآية الكريمة من أصرح الآيات في وجوب التضامن الإسلامي الذي حقيقته ومعناه التعاون على البر والتقوى كما سلف بيان ذلك وفيها تحذير المسلمين من التعاون على الإثم والعدوان لما في ذلك من الفساد الكبير والعواقب الوخيمة والتعرض لغضب الله سبحانه وتسليط الأعداء وتفريق الكلمة واختلاف الصفوف، وحصول التنازع المفضي إلى الفشل والخذلان نسأل الله للمسلمين العافية من ذلك، وفي قوله سبحانه في ختام الآية: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3) تحذير للمسلمين من مخالفة أمره وارتكاب نهيه فينزل بهم عقابه الذي لا طاقة لهم به، ومن الآيات الواردة في التضامن أيضا قوله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (4)
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1715) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) ، موطأ مالك الجامع (1863) .
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة المائدة الآية 2
(4) سورة التوبة الآية 71(3/11)
وهذه الصفات العظيمة هي جماع الخير وعنوان السعادة وسبب صلاح أمر الدنيا والآخرة ولهذا علق سبحانه وتعالى رحمتهم على هذه الصفات الجليلة فقال: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) .
فتبين بذلك أن الرحمة والنصر على العدو وسلامة العاقبة كل ذلك مرتب على القيام بحق الله وحق عباده، ولا يتم ذلك إلا بالتناصح والتعاون والتضامن والصدق في طلب الآخرة والرغبة فيما عند الله والإنصاف من النفس وتحري سبيل العدل وفي هذا المعنى يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (2) ويقول عز وجل في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (3) وفي هاتين الآيتين أمر المؤمنين أن يقوموا لله بالقسط وأن يشهدوا له بذلك في حق العدو والصديق والقريب والبعيد وتحذيرهم من أن يحملهم الهوى أو البغضاء على خلاف العدل، وأوضح سبحانه أن العدل هو أقرب للتقوى فدل ذلك على أنه لا صلاح للمسلمين فيما بينهم ولا استقامة ولا وحدة كلمة إلا بالعدل وإعطاء كل ذي حق حقه ولما أخل المسلمون بهذا الأمر العظيم حصل بينهم من الشحناء والفرقة والاختلاف اليوم ما لا يخفى على أحد ولا علاج لذلك ولا دواء له إلا بالرجوع إلى دين الله والاعتصام به والعمل به وتحكيمه والتحاكم إليه في كل ما شجر بينهم كما قال الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (4) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة النساء الآية 135
(3) سورة المائدة الآية 8
(4) سورة النساء الآية 65(3/12)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) .
ومما ورد من الأحاديث الشريفة في التضامن الإسلامي وهو التعاون على البر والتقوى، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة "، قيل لمن يا رسول الله؟ قال: " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (2) » أخرجه مسلم في صحيحه وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (3) » وشبك بين أصابعه وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر (4) » أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحيهما فهذه الأحاديث وما جاء في معناها تدل دلالة ظاهرة على وجوب التضامن بين المسلمين والتراحم والتعاطف والتعاون على كل خير وفي تشبيههم بالبناء الواحد والجسد الواحد ما يدل على أنهم بتضامنهم وتعاونهم وتراحمهم تجتمع كلمتهم وينتظم صفهم ويسلمون من شر عدوهم. ومما يبشر بخير ومستقبل أفضل أن جلالة الملك فيصل - رحمه الله - قد تبنى الدعوة لهذا الأمر الجليل وهو تضامن المسلمين وتعاونهم على كل ما فيه إقامة دينهم وحفظ كيانهم وحصول مصالحهم المشتركة وحل مشاكلهم وقد بذل جلالته في هذا السبيل جهودا مشكورة وقام باتصالات موفقة بعدد من الملوك والزعماء لشرح هذه الفكرة العظيمة والغرض النبيل وقد تكللت بحمد الله هذه الاتصالات بنجاح كبير وحصل لها في الأوساط الإسلامية آثار حسنة وانتشرت هذه الدعوة بين المسلمين وتناقلتها أجهزة الإعلام في كل مكان، ولا ريب أن جلالته يشكر شكرا جزيلا على ما بذله في هذا السبيل من الجهود المباركة التي أدرك كل منصف آثارها الصالحة ونتائجها الطيبة نسأل الله أن يجزل مثوبته وأن يرفع درجته في المهديين وأن يتغمده بعفوه ورحمته وقد سار على أثره في هذا السبيل جلالة الملك خالد وولي عهده سمو الأمير فهد أجزل الله مثوبتهما وكلل جهودهما الطيبة بالنجاح وجعل التوفيق حليفهما وحليف العاملين معهما في هذا الواجب العظيم.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سنن الترمذي البر والصلة (1926) ، سنن النسائي البيعة (4199) .
(3) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .
(4) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .(3/13)
ولا ريب أن الدعوة إلى هذا الأمر أعني التضامن الإسلامي وبذل ما يمكن من الجهود في تحقيقه من أهم الأمور ومن الواجبات المشتركة المتأكدة على حكومة هذه البلاد وعلى غيرها من ملوك المسلمين وزعمائهم وعلمائهم وأعيانهم ولكن حكومة هذه البلاد أولى الناس بالقيام بهذا الأمر وتحمل أعبائه وتكريس الجهود الممكنة في تحقيقه؛ لأن الله سبحانه قد أكرمها بخدمة الحرمين وجعلها محل آمال المسلمين بعد الله عز وجل ولديها من كرم الله وجوده من الإمكانات ما يعينها على ذلك، والمسلمون في كل مكان يرجون منها مضاعفة الجهود في هذا السبيل والصبر على ذلك حتى يحقق الله للمسلمين على يديها ما يرجون من عزة وكرامة وجمع كلمة واتحاد صف وحفظ كيان وانتشار للحق وإقامة للعدل ونشر للأمن والسلام في أرجاء المعمورة ويرجو المسلمون أيضا من سائر ملوكهم وزعمائهم وعلمائهم وأعيانهم بأن يضموا أصواتهم إلى صوت هذه الحكومة وجهودهم إلى جهودها وأن يشاركوها في تحمل عبء هذه الرسالة العظيمة والمسئولية الكبرى التي في تحقيقها سعادة الجميع وعزتهم في الدنيا والآخرة، وأن يبذلوا جميعا ما يستطيعون من الوسائل في نصر هذه الدعوة ومساندة الداعين إليها وشرح محاسنها ومصالحها لجميع الناس على اختلاف طبقاتهم حتى يتحقق للجميع إن شاء الله ما وراء هذه الدعوة المباركة من خير وأمن وسلام للجميع عملا بقول الله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) وقوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) وإمام الجميع في هذه الدعوة الخيرة وقدوتهم في هذا السبيل القيم هو نبيهم وسيدهم وقائدهم الأعظم نبينا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو أول من دعا هذه الأمة إلى توحيد ربها والاعتصام بحبله وجمع كلمتها على الحق والوقوف صفا واحدا في وجه عدوها المشترك وفي تحقيق مصالحها وقضاياها العادلة عملا بقوله تعالى مخاطبا له: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) وقوله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (4) وقد سار على نهجه القويم صحابته الكرام وأتباعهم بإحسان - رضي الله عنهم وأرضاهم - فنجحوا في ذلك غاية النجاح وحقق الله لهم ما وعدهم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة آل عمران الآية 104
(3) سورة النحل الآية 125
(4) سورة يوسف الآية 108(3/14)
به من عزة وكرامة ونصر كما سبق التنبيه على ذلك والإشارة إليه في أول هذه الكلمة.
ولا ريب أن الله عز وجل إنما حقق لهم ما تقدمت الإشارة إليه بإيمانهم الصادق وجهادهم العظيم وأعمالهم الصالحة وصبرهم ومصابرتهم وصدقهم في القول والعمل وتضامنهم وتكاتفهم في ذلك، لا بأنسابهم ولا بأموالهم كما قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (1) وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه (2) » وقال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم (3) » أخرجهما مسلم في صحيحه فمن سار على سبيلهم ونهج نهجهم أعطاه الله كما أعطاهم وأيده كما أيدهم فهو القائل - عز وجل - في كتابه المبين: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (4) {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (5) وهو القائل سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} (6) {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} (7) {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (8) وهو القائل عز وجل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (9) والله عز وجل المسئول أن يجمع كلمة المسلمين على الهدى وأن يفقههم في دينه وأن يصلح ولاة أمرهم ويهديهم جميعا صراطه المستقيم وأن يمنحهم الصدق في التضامن بينهم والتناصح والتعاون على البر والتقوى وأن يعيذهم من التفرق والاختلاف ومضلات الفتن وأن يعينهم على تحكيم شريعته والتحاكم إليها وأن يشرح صدورهم لذلك وأن يحفظهم من مكائد الأعداء إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى اللهم وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. . .
__________
(1) سورة سبأ الآية 37
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) .
(4) سورة غافر الآية 51
(5) سورة غافر الآية 52
(6) سورة الصافات الآية 171
(7) سورة الصافات الآية 172
(8) سورة الصافات الآية 173
(9) سورة الروم الآية 47(3/15)
دور عالمي لرسالة عالمية
فضيلة الشيخ
عبد الله بن سليمان بن منيع
نائب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
وعضو هيئة كبار العلماء
لا أدري بم أستهل كلمتي هذه إلى مجلتنا الحبيبة مجلة البحوث الإسلامية هل أبدأ بشكر وتقدير فضيلة رئيسها الكريم الشيخ عثمان الصالح على ما قام به من جهود لها اعتبارها وثقلها في الأخذ بيد مجلتنا الحبيبة إلى أن تكون في مصاف المجلات العالمية من حيث الحجم والإخراج وأرجو أن يكون للمادة نصيب كبير في ذلك، أم أعترف بتقصيري في المساهمة في الكتابة لهذه المجلة التي تربطني بها أكثر من رابطة حتى لقد صرت أخجل من الاجتماع بفضيلة رئيسها الكريم وأنا أرى في فضيلته ضميرا يؤنب وكريما يلح وثقة تجعل من شخصي المزجاة بضاعته في العلم والبيان شخصا ذا علم واسع وبيان فصيح.
على أي حال فمعذرة للقارئ الكريم عن هذا المدخل الذي لا حاجة له به وأظن أن الحديث عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد التي تعتبر هذه المجلة ثمرة من ثمارها وجهدا متواضعا من أعمالها قد يكون موضوعا شيقا يغطي كثيرا من التساؤلات عن هذه الرئاسة وعن مدى ما تتحمله من مسئولية(3/16)
في سبيل الدعوة إلى الله بشتى الطرق.
لقد أنشئت الرئاسة العامة عام 1374 هـ باسم دار الإفتاء والإشراف على الشئون الدينية تحت رئاسة سماحة المغفور له الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية ورئيس قضاتها وأسند إليها أمر الإفتاء ومراقبة المطبوعات وترشيح أئمة المساجد والجوامع والإذن بإقامة الجمعة فيما يتقدم إليها بطلب إقامة الجمعة فيه وإدارة المكتبة السعودية وتوزيع الكتب العلمية وطباعة ما يستحق الطباعة منها على نفقتها أو تحت إشرافها ونظرا إلى أن سماحة رئيسها إذ ذاك رئيس للقضاة فقد أعطاها سماحته مسئولية ممارسة تمييز الأحكام الصادرة من القضاة قبل تشكيل هيئتي التمييز في مكة والرياض والنظر فيما يختلف فيه أعضاؤها أو يكون موضع نظر من المقام السامي بعد تشكيلهما ولذلك فقد كان سماحته رحمه الله بالاشتراك مع الإفتاء حينذاك يمارسون الفتوى والتمييز منذ تشكيل الإفتاء حتى انتقل إلى رحمة الله في 24 - 9 - 1389 هـ ثم بعد ذلك تغير مسماها إلى " الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد " وتوسعت صلاحياتها وأسندت رئاستها إلى معالي وزير العدل الحالي فضيلة الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ فصارت على النحو التالي:
أولا: صدر الأمر السامي بتسميتها باسم الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
ثانيا: تشكلت هيئة كبار العلماء بموجب الأمر الملكي رقم أ - 137 في 8 - 7 - 1391 هـ لتقوم بمزاولة الأعمال الآتية:
أ - إبداء الرأي فيما يحال إليها من ولي الأمر من أجل بحثه وتكوين الرأي المستند إلى الأدلة الشرعية فيه.
ب - التوصية في القضايا الدينية المتعلقة بتقرير أحكام عامة ليسترشد بها ولي الأمر وذلك بناء على بحوث يجري تهيئتها وإعدادها للهيئة.(3/17)
ثم صدر الأمر الملكي رقم أ - 138 في 8 - 7 - 1391 هـ بتعيين أصحاب المعالي والسماحة والفضيلة الآتية أسماؤهم أعضاء فيها على أن تكون رئاسة الدورات بالتعاقب بين خمسة من أكبر أعضاء الهيئة سنا وفيما يلي أسماء الأعضاء.
1 - الشيخ عبد العزيز بن باز
2 - الشيخ عبد الله بن حميد
3 - الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
4 - الشيخ سليمان بن عبيد
5 - الشيخ عبد الله خياط
6 - الشيخ محمد الحركان
7 - الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ
8 - الشيخ عبد الرزاق عفيفي
9 - الشيخ عبد العزيز بن صالح
10 - الشيخ صالح بن غصون
11 - الشيخ محمد بن جبير
12 - الشيخ عبد المجيد حسن
13 - الشيخ راشد بن خنين
14 - الشيخ صالح بن لحيدان
15 - الشيخ محضار عقيل
16 - الشيخ عبد الله بن غديان
17 - الشيخ عبد الله بن منيع.
وتشكلت من الهيئة لجنة فرعية سميت باسم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وقد تشكلت بموجب أمر ملكي من المشائخ سماحة الرئيس العام رئيسا لها، فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي نائبا للرئيس، فضيلة الشيخ عبد الله بن غديان عضوا،(3/18)
فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع عضوا وقد انتقل الأخير إلى منصب نائب الرئيس العام للرئاسة. ومنذ تشكيلها وهي تقوم بأعمالها التي خصصتها لها المادة الرابعة من الأمر الملكي رقم أ - 137 في 8 - 7 - 1391 هـ والتي تنص على ما يلي:
تتفرع عن الهيئة لجنة دائمة متفرغة يختار أعضاؤها من بين أعضاء الهيئة بأمر ملكي وتتكون مهمتها إعداد البحوث وتهيئتها للمناقشة منن قبل الهيئة وإصدار الفتاوى في الشئون الفردية وذلك بالإجابة على أسئلة المستفتين في شئون العقائد والعبادات والمعاملات الشخصية وتسمى اللجنة الدائمة للبحوث والفتوى ويلحق بها عدد من البحاث المعاونين.
وقد قامت الهيئة بمواصلة جلساتها ودرست كثيرا من المواضيع العلمية أذكر منها الأوراق النقدية والشرط الجزائي والطلاق الثلاث والطلاق المعلق وأوقات رمي الجمار ومسائل في الشفعة والقسامة والغيلة والديات والتشريح لأغراض تشريحية تحقيقية أو طبية أو وقائية والخلع والنشوز والمعاملات المصرفية والتأمين وأصدرت في كثير منها فتاوى صدرت الموافقة السامية بتعميمها على المحاكم للأخذ بها كما قامت الأمانة العامة للهيئة بتنفيذ مقتضى المادة الحادية عشر من لائحة سير العمل في هيئة كبار العلماء فأصدرت مجلة علمية هي هذه المجلة وكم كانت الأمانة تتمنى أن تكون الإمكانيات مكتملة من حيث الطباعة والقدرة البشرية المواطنة حتى تستطيع أن تصدرها شهرية وإذا كانت تتمنى فهي الآن تعمل على تحقيق أمنيتها والأمل في فضيلة رئيسها العامل ومن ورائه المسئولون في الرئاسة كبير في أن يحققوا تلك الأمنية.
ثالثا: توسعت الرئاسة في مجال الدعوة والإرشاد في الداخل والخارج والتوعية الإسلامية في مواسم الحج فصارت تزاول في سبيل ذلك الوسائل التالية:
أ - تعيين دعاة ومدرسين على مستوى علمي يضمن النتائج الحسنة في سبيل التوعية الإسلامية ونشر الإسلام بين طبقات تدين بأديان مختلفة من يهودية ونصرانية وبوذية ووثنية وغيرها وقد كان لذلك أحسن الأثر في إسلام مجموعة كبيرة ممن كانوا يدينون بغير الإسلام دينا في أفريقيا وآسيا وأمريكا وغيرها من بلدان العالم، وأمامي الآن(3/19)
تقرير من أحد مبعوثي الرئاسة مؤيدا من الملحق الديني بنيجيريا يشير إلى أن بلدا في شرق نيجيريا أسلم أهله كلهم بقيادة قس وحولوا كنيستهم إلى مسجد فأمدتهم الرئاسة بالمساعدات المادية والدعاة. وقد توسعت الرئاسة في هذا المجال حتى بلغ عدد الدعاة والمدرسين التابعين للرئاسة قرابة أربعمائة موزعين على أماكن كثيرة داخل البلاد وخارجها.
ب - بذل المساعدات المادية للمدارس والجمعيات الإسلامية والمساهمة في بناء المساجد والمدارس والمراكز الإسلامية ومعونة الطلاب ممن تقتضي أحوالهم ذلك.
جـ - نشر الكتب الإسلامية بمختلف اللغات بين الطبقات المسلمة وعن طريق الدعاة بالطبع والترجمة والشراء وتوزيعها في مواسم الحج وبشحن كميات كبيرة منها إلى مراكز الدعوة في مختلف أنحاء العالم.
د - التوسع في مجال التوعية الإسلامية في موسم الحج فلقد تجاوز أعضاء التوعية الإسلامية التابعون للرئاسة المائتي عضو كلهم والحمد لله من تتوافر فيهم الكفاءة والمقدرة وفيهم عدد كبير يجيد أكثر من لغة. وللرئاسة رغبة ملحة ولعلها تستطيع إنفاذها العام القادم تلك الرغبة التعاون مع المطوفين في أن يكون مع حجاج كل مطوف عضوان أو أكثر ممن يجيدون لغتهم ليقوما بإرشاد الحجاج وتعليمهم أصول دينهم وما يستشكلونه في تطبيق تعاليم الإسلام ليرجعوا إلى أهليهم وذويهم بشيء مما كانت ترجع به الوفود من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهليهم ليتحقق لهم ما يتحقق من منافع الحج بعد شهودهم إياها.(3/20)
ولدى الرئاسة مخطط توسعي في مجال الدعوة إلى الله تحاول جاهدة تطبيقه بأقصى سرعة ممكنة بعد أن صدرت الموافقة السامية على اعتباره وقد قدرت تكاليفه بقرابة مائة مليون ريال نسأل الله أن يعين على تطبيقه وأن يجعل لتطبيقه من الثمار ما فيه عزة الإسلام والمسلمين.
وبصفتي أحد المسئولين في هذه الرئاسة فإني لا أقول ذلك للفخر به وإنما للتحدث بنعمة الله تعالى أن هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وأؤكد بلسان سماحة رئيسها وبلسان كل مسئول في الرئاسة أننا غير مقتنعين بهذه الجهود فإن المسئولية عظيمة والأمانة ثقيلة والشعور بواجب القيام بذلك يتزايد لعدة أمور أهمها:
1 - الإيجابية والمرونة اللذان لمسناهما من ولاة أمورنا وعلى رأسهم جلالة الملك خالد بن عبد العزيز أيده الله بنصره وتوفيقه - وولي عهد الأمين الأمير فهد بن عبد العزيز وفقه الله وأخذ بناصيته إلى ما يحبه ويرضاه. فهم دائما يحثون ويعقبون ويتعقبون نشاطات الدعوة الإسلامية داخل البلاد وخارجها بوسائل شتى وعن طريق جهات مختلفة.
2 - الآثار المرضية عن نشاطات هذه الرئاسة: فلقد أسلم على يد مبعوثها عدد كبير من أقطار آسيا وأفريقيا وأمريكا وأوربا واستراليا وغيرها منن أقطار المعمورة وكذا التعاون بين الجهات المعنية بنشر الدعوة وبين هذه الرئاسة ومساندة هذه الجهات ومؤازرتها لهذه الرئاسة ونذكر من تلك الجهات رابطة العالم الإسلامي والجامعة الإسلامية وجامعة الإمام محمد بن سعود وجامعتي الرياض والملك عبد العزيز ووزارة المعارف والندوة العالمية للشباب الإسلامي.
3 - اتجاه الأنظار الإسلامية إلى هذه البلاد وإلى الدعوة من هذه البلاد وإلى القبول من أهل هذه البلاد لما لها من مكانة في نفوس المسلمين ففيها قبلتهم ومهابط الوحي ومنها انطلقت الدعوة الإسلامية الأولى.
4 - الإمكانيات المادية والمعنوية المتوفرة لهذه البلاد مما جعلها محط نظر كل ذي همة في نشر الإسلام والدعوة إليه.
رابعا: توسعت الرئاسة في مجال مراقبة المطبوعات الواردة إلى البلاد وأحكمت التنسيق بينها وبين وزارة الإعلام حيث شملت الرقابة(3/21)
كافة المداخل إلى البلاد وتجاوز عدد المراقبين التابعين لهذه الرئاسة ثلاثين مراقبا تفترض في جميعهم الكفاءة العلمية والعملية وقوة الإيمان وسلامة المعتقد في الدين والحياة.
خامسا: توسعت الرئاسة في مجال نشر الكتب وتوزيعها على المكتبات العامة والعلماء وطلبة العلم ومراكز التوعية والدعوة كما توسعت في مجال تشجيع التأليف والترجمة بما تشتريه من المؤلفين والمترجمين مما يعتبر حافزا لهم على مواصلة التأليف والترجمة.
وقد كان معالي رئيسنا السابق الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ يوليها عناية تامة كان لها من الأثر ما جعل صلاحياتها تمتد وتتسع وفي شهر شوال عام 1395 هـ صدرت الإرادة السامية بتعيين معالي الشيخ إبراهيم وزيرا للعدل وتعيين سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيسا عاما لهذه الرئاسة ومنذ تولي سماحته رئاستها وهو يوليها من العناية والرعاية ومواصلة العمل ما جعلها أشبه بخلية نحل يقصدها فئات مختلفة لقضاء حاجاتهم مما هي تحت اختصاصها وفي حدود صلاحياتها وبالجملة فإن للرئاسة أعمالا قد لا تحصيها مثل هذه الكتابة العاجلة كما أن لها آمالا وطموحا نسأل الله تعالى أن يهيئ لها من الرجال العاملين ما يساعدها على تحقيق ما تصبو إليه من توفير خدمات جليلة تعود على الإسلام والمسلمين بالخير والعز استجابة لداعي الله تعالى في بذل النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وصلى الله على نبينا محمد.(3/22)
تصدير
فضيلة الشيخ
عثمان الصالح
رئيس التحرير
رب اشرح لي صدري. .
ويسر لي أمري. . . .
اللهم بك آمنا. .
وعليك اعتمدنا. . فوفقنا لما فيه رضاك. .
وبعد. . فأحمدك اللهم وأصلي وأسلم على رسولك الكريم. .
فإليك أيها القارئ الكريم نهدي مجلتنا آملين أن تكون قبسا من نور على طريق الحق المستقيم.
نطمع أن تتلقاها بمثل ما استقبلت به العدد الماضي من حفاوة وتكريم. .
انعكست علينا منك قارئي العزيز من مختلف أنحاء العالم الإسلامي شرقه وغربه شماله وجنوبه. .(3/23)
فهل تكون كلماتنا هذه أبلغ دليل على الامتنان الشخصي لكل كلمة سطرتها إلينا حيثما كنت حفظك الله ورعى لنا أخوة سقاها الإسلام وأظلها بشجرته العتيدة الوارفة ما بقيت على الأرض أنفاس تترد. .
هؤلاء أمدونا بتلك الروح الخفاقة على مواصلة الجهد. .
فقد أشاروا إلى ما احتوت عليه المجلة من أبحاث هيئة كبار العلماء وهم الكنوز بما يقدمون من علم خدمة لرسالة الإسلام السمحاء. .
ورئاسة البحوث والإفتاء والدعوة والإرشاد التي يتولى رئاستها شخصية علمية عالمية هو سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. .
فبفضل مساندته المستمرة أمكن أن تصدر المجلة مقتربة من الأعمال الموسوعية. . محتوية عدة كتب في مجلد واحد.
وإن كنا نعتذر لآلاف الرسائل التي وردتنا من مختلف أنحاء العالم الإسلامي وكثير منها مرفقة بقيمة الاشتراكات لسنة أو أكثر. . نظرا لمحدودية العدد الذي كنا قد قمنا بطباعته آملين أن نتوسع إلى أكثر من ضعف العدد السابق وإن كان لن يغطي كل الطلبات التي بلغتنا فسوف ننظر بعين الاعتبار إلى تواريخ ورودها إلينا. .
أما هؤلاء الكتاب الذين أمدونا بعونهم. . . وأولئك الذين ينعقد الأمل عليهم بعد الله وبعونه في توجيه عالمنا الإسلامي وجهته الصحيحة. .
هؤلاء الكتاب الذين نحن بهم فإنهم هم الذين يتولون في ظننا حراسة العالم الإسلامي في مواجهة الثغرات التي تطل منها الأخطار. . وتتسلل إلى " روح " المسلم المعاصر(3/24)
و" عقله ". .
هؤلاء الذين أدوا إلينا الكثير. . ونطمع أن يؤدوا أكثر وأكثر خاصة في هذه الجوانب التي لم يغطها الفكر الإسلامي تغطية كافية.
وأود أن أقول: إننا في حاجة لمراجعة كل ما تكتبه المجلات الإسلامية المتخصصة وحصره لمعرفة ما بين أيدينا من فكر علماء المسلمين. .
وفي الخطوة التالية علينا أن نكتشف ما ينقصنا لتتم مواجهته. .
هذه إشارة وددت أن أثبتها. . وأتمنى لو أن بعض بحاثنا أو جامعاتنا قامت بتبويب المنشور في مجلاتنا وفهرسته وأن تخلص من ذلك بنتائج تنشرها علينا لتتم خطط مدروسة للبحث في مختلف المجلات الإسلامية. .
ولا شك أننا نود - كما كتب إلينا عديد من القراء والكتاب - أن تتحول المجلة إلى مجلة شهرية. . ذلك أمل نتطلع إليه ونعد به قراءنا ما توفرت لنا أسبابه. .! والله سبحانه وتعالى خير معين.
كما أننا نأمل في أن يتم الإعداد لإصدار ملحق لها باللغة الإنجليزية لتكون عونا لكثير من المسلمين الذين شاءت الأقدار أن يتعاملوا بهذه اللغة. .
مؤمنين أن اليوم الذي سوف يتحدث فيه العالم الإسلامي قاطبة باللغة العربية آت لا ريب فيه.
لا أقول هذا من منطلق الموقع الذي صدرت منه المجلة. .
ولكن لأن العربية كانت لسان القرآن الكريم كما تحدث به للناس. .
وكما سيتحدث إليهم دوما: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (2) {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (3) {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (4) .
__________
(1) سورة الشعراء الآية 192
(2) سورة الشعراء الآية 193
(3) سورة الشعراء الآية 194
(4) سورة الشعراء الآية 195(3/25)
ولقد أوتيت هذه اللغة من الخصائص والسعة ما يوفر لها المكانة العالمية التي كانت لها عبر مئات من سنين الحضارة والتقدم العلمي والأخلاقي على مر خلافاتنا العظيمة المتعاقبة. .
هذا وسوف تظل هذه البلاد التي نذرت نفسها - برعاية مليكها حفظه الله وسمو ولي عهده الأمين - لخدمة الإسلام وفية بعهدها معبئة كافة جهودها لخدمة الإسلام والمسلمين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي قياما بالأصول التي أنزلها الله وبمقتضى قانون الأخوة الشامل بين المسلمين.(3/26)
مجلة
البحوث الإسلامية
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
حكم
الطلاق الثلاث
بلفظ واحد
هيئة كبار العلماء(3/27)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وبعد:
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء مسألة " حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد " وبناء عليه أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، بحثا في الموضوع ونصه:
الحمد لله وحده، وبعد: فبناء على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء، في دورته الثالثة المنعقدة في شهر ربيع الثاني، عام 1393هـ من البحث في الدورة الرابعة عن حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد، وبناء على ما تقتضيه لائحة عمل الهيئة من قيام اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء بإعداد بحث علمي عن المسألة التي تقرر عرضها على الهيئة، قامت اللجنة الدائمة بإعداد بحث في مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد، اشتمل على ما يلي:
1 - حكم الإقدام على جمع الطلاق الثلاث بلفظ واحد، مع الأدلة ومناقشتها.
2 - ما يترتب على إيقاع الطلاق ثلاث بلفظ واحد، مع الأدلة ومناقشتها.
وبالله التوفيق. . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(3/28)
حكم
الطلاق الثلاث
بلفظ واحد
المسألة الأولى حكم الإقدام على جمع الثلاث بكلمة واحدة وفيه قولان:
القول الأول: إنه محرم، وهو مذهب الحنفية والمالكية، وإحدى الروايتين عن أحمد، وقول شيخ الإسلام وابن القيم. . أما المذهب الحنفي، فقال الكاساني في الكلام على طلاق البدعة (1) : وأما الذي يرجع إلى العدد فهو إيقاع الثلاث أو الثنتين في طهر واحد لا جماع فيه، سواء كان على الجمع: بأن أوقع الثالث جملة واحدة، أو على التفاريق واحدا، بعد أن كان الكل في طهر واحد، وهذا قول أصحابنا. . ولنا الكتاب والسنة والمعقول:
أما الكتاب فقوله عز وجل {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) . أي في أطهار عدتهن، وهو الثلاث في ثلاثة أطهار كذا فسره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما ذكرنا فيما تقدم أمر بالتفريق، والأمر بالتفريق يكون نهيا (عن الجمع، ثم إن كان الأمر أمر إيجاب، كان نهيا) عن ضده، وهو الجمع نهي تحريم، وإن كان أمر ندب، كان نهيا عن ضده، وهو الجمع نهي ندب، وكل ذلك حجة على المخالف، لأن الأول يدل على التحريم، والآخر يدل على الكراهة، وهو لا يقول بشيء من ذلك.
__________
(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 3 \ 93 وما بعدها.
(2) سورة الطلاق الآية 1(3/29)
وقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (1) أي دفعتان، ألا ترى أن من أعطى آخر درهمين، لم يجز أن يقول أعطاه مرتين حتى يعطيه دفعتين.
وجه الاستدلال: أن هذا وإن كان ظاهر الخبر، فإن معناه الأمر، لأن الحمل على ظاهره يؤدي إلى الخلف في خبر من لا يحتمل خبره الخلف، لأن الطلاق على سبيل الجمع قد يوجد، وقد يخرج اللفظ مخرج الخبر على إرادة الأمر، قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} (2) أي ليرضعن ونحو ذلك، كذا هذا، فصار كأنه سبحانه وتعالى قال: طلقوهن مرتين إذا أردتم الطلاق، والأمر بالتفريق نهي عن الجمع، لأنه ضده، فيدل على كون الجمع حراما أو مكروها على ما بينا.
فإن قيل: هذه الآية حجة عليكم، لأنه ذكر جنس الطلاق، وجنس الطلاق ثلاث، والثلاث إذا وقع دفعتين، كان الواقع في دفعة طلقتان، فيدل على كون الطلقتين في دفعة مسنونتين.
فالجواب: أن هذا أمر بتفريق الطلاقين من الثلاث لا بتفريق الثلاث، لأنه أمر بالرجعة عقب الطلاق مرتين أي دفعتين بقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} (3) أي وهو الرجعة وتفريق الطلاق وهو إيقاعه دفعتين لا يتعقب الرجعة، فكان هذا أمرا بتفريق الطلاقين من الثلاث، لا بتفريق كل جنس الطلاق وهو الثلاث والأمر بتفريق طلاقين من الثالث يكون نهيا عن الجمع بينهما.
وأما السنة فما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن (4) » نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الطلاق، ولا يجوز أن يكون النهي عن الطلاق لعينه، لأنه قد بقي معتبرا شرعا في حق الحكم بعد النهي، فعلم أن ههنا غيرا حقيقيا ملازما للطلاق يصلح أن يكون منهيا عنه، فكان النهي عنه لا عن الطلاق، ولا يجوز أن يمنع من الشرع لمكان الحرام الملازم له، كما في الطلاق في حالة الحيض، والبيع وقت النداء، والصلاة في الأرض المغصوبة، وغير ذلك.
وقد ذكر عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثا إلا أوجعه ضربا وأجاز ذلك عليه. وذلك بمحضر من الصحابة - رضي الله عنهم - فيكون إجماعا.
وأما المعقول: فمن وجوه:
أحدها: أن النكاح عقد مصلحة لكونه وسيلة إلى مصالح الدين والدنيا، والطلاق إبطال له، وإبطال المصلحة مفسدة، وقد قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (5) وهذا معنى الكراهة
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 233
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) رواه ابن عدي في الكامل من طريق علي بن أبي طالب، وقال السيوطي في الجامع الصغير: ضعيف.
(5) سورة البقرة الآية 205(3/30)
الشرعية عندنا، وأن الله تعالى لا يحبه ولا يرضى به، إلا أنه قد يخرج من أن يكون مصلحة لعدم توافق الأخلاق وتباين الطبائع، أو لفساد يرجع إلى نكاحها، بأن علم الزوج أن المصالح تفوته بنكاح هذه المرأة، أو أن المقام معها يسبب فساد دينه ودنياه، فتنقلب المصلحة في الطلاق، ليستوفي مقاصد النكاح من امرأة أخرى، إلا أن احتمال أنه لم يتأمل حق التأمل، ولا ينظر حق النظر في العاقبة قائم، فالشرع والعقل يدعوانه إلى النظر، وذلك في أن يطلقها طلقة واحدة رجعية، حتى إن التباين والفساد إذا كان من جهة المرأة تتوب وتعود إلى الصلاح إذا ذاقت مرارة الفراق، وإن كانت لا تتوب نظر في حال نفسه، أنه هل يمكنه الصبر عنها؟ فإن علم أنه لا يمكنه الصبر عنها يراجعها، وإن علم أنه يمكنه الصبر عنها يطلقها في الطهر الثاني.
ثانيا: ويجرب نفسه، ثم يطلقها فيخرج نكاحها من أن يكون مصلحة ظاهرا وغالبا، لأنه لا يلحقه الندم غالبا، فأبيحت الطلقة الواحدة أو الثلاث في ثلاثة أطهار على تقدير خروج نكاحها من أن يكون مصلحة، وصيرورة المصلحة في الطلاق، فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة في حالة الغضب، وليست حالة الغضب حالة التأمل، لم يعرف خروج النكاح من أن يكون مصلحة فكان الطلاق إبطال للمصلحة من حيث الظاهر، فكان مفسدة.
والثاني: أن النكاح عقد مسنون، بل هو واجب لما ذكرنا في كتاب النكاح، فكان الطلاق قطعا للسنة وتفويتا للواجب، فكان الأصل هو الحظر أو الكراهة، إلا أنه رخص للتأديب أو للتخليص، والتأديب يحصل بالطلقة الواحدة الرجعية.
لأن التباين أو الفساد إذا كان من قبلها، فإذا ذاقت مرارة الفراق فالظاهر أنها تتأدب وتتوب وتعود إلى الموافقة والصلاح، والتخليص يحصل بالثلاث في ثلاثة أطهار، والثابت بالرخصة يكون ثابتا بطريق الضرورة، وحق الضرورة صار مقضيا بما ذكرنا فلا ضرورة إلى الجمع بين الثلاث في طهر واحد، فبقي ذلك على أصل الحظر.
والثالث: أنه إذا طلقها ثلاثا في طهر واحد فربما يلحقه الندم، وقال تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (1) . قيل في التفسير: أي ندامة على ما سبق من فعله أو رغبة فيها، ولا يمكنه التدارك بالنكاح فيقع في السفاح، فكان في الجمع احتمال الوقوع في الحرام، وليس في الامتناع ذلك، والتحرز عن مثله واجب شرعا وعقلا، بخلاف الطلقة الواحدة لأنها لا تمنع التدارك بالرجعة، وبخلاف الثلاث في ثلاثة أطهار، لأن ذلك لا يعقب الندم ظاهرا، لأنه يجرب نفسه في الأطهار الثلاثة فلا يلحقه الندم. . انتهى المقصود.
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1(3/31)
وقال السرخسي (1) وعلى هذا الأصل - أي توجيه إيقاع الثالث في ثلاثة أطهار - قال علماؤنا رحمهم الله: إيقاع الثلاث جملة بدعة - وبعد أن ساق مذهب الشافعي في إباحته وأدلته، ساق الدليل على تحريمه، وهو قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) قال: معناه دفعتان، كقوله: أعطيته مرتين وضربته مرتين، والألف واللام للجنس، فيقتضي أن يكون كل الطلاق المباح في دفعتين ودفعة ثالثة في قوله تعالى: فإن طلقها أو في قوله عز وجل: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (3) على حسب ما اختلف فيه أهل التفسير، وفي حديث محمود بن لبيد رحمه الله تعالى: أن رجلا طلق امرأته ثلاثا بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - مغضبا فقال: «أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم (4) » .
واللعب بكتاب الله ترك العمل به، فدل أن موقع الثلاث جملة مخالف للعمل بما في الكتاب، وأن المراد من قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (5) تفريق الطلقات على عدد أفراد العدة، ألا ترى، أنه خاطب الزوج بالأمر بإحصاء العدة؟ وفائدته التفريق، فإنه قال: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (6) أي يبدو له فيراجعها، وذلك عند التفريق لا عند الجمع.
وفي حديث عبادة بن الصامت - رضي الله تعالى عنه - أن قوما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: «إن أبانا طلق امرأته ألفا. فقال - صلى الله عليه وسلم -: بانت امرأته بثلاث في معصية الله تعالى، وبقي تسعمائة وسبعة وتسعون وزرا في عنقه إلى يوم القيامة» .
وإن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - لما طلق امرأته في حالة الحيض، أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يراجعها. فقال: «أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكانت تحل لي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا، بانت منك وهي معصية (7) » . وبعد أن بين وجه الرد على استدلال الشافعي - رحمه الله - بقصة لعان عويمر العجلاني، وأنه طلق ثلاثا ولم ينكر عليه - صلى الله عليه وسلم -.
قال: ولنا إجماع الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - فقد روى عن علي، وعمر وابن مسعود وابن عباس وابن عمر، وأبي هريرة، وعمران بن حصين - رضي الله تعالى عنهم - كراهة إيقاع الطلاق الثلاث بألفاظ مختلفة.
وعن أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه قال: لو أن الناس طلقوا نساءهم كما أمروا لما فارق الرجل امرأته وله إليها حاجة، إن أحدكم يذهب فيطلق امرأته ثلاثا ثم يقعد فيعصر عينيه، مهلا مهلا بارك الله عليكم. فيكم كتاب الله وسنة رسوله، فماذا بعد كتاب الله وسنة رسوله إلا الضلال ورب الكعبة. .
وقال الكرخي (8) لا أعرف بين أهل العلم خلافا: أن إيقاع الثلاث جملة مكروه، إلا قول ابن سيرين، وإن قوله ليس بحجة - ثم ساق الرد على ما استدل به الشافعي من الآثار، ثم ذكر بعد ذلك دليلا من جهة المعنى، وقد سبق ما يوافقه عن الكاساني -.
__________
(1) المبسوط 6 \ 4 وما بعدها ويرجع أيضا إلى فتح القدير 3 \ 26 وما بعدها.
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سنن النسائي الطلاق (3401) .
(5) سورة الطلاق الآية 1
(6) سورة الطلاق الآية 1
(7) سنن النسائي الطلاق (3557) .
(8) شرح معاني الآثار الجزء الثاني، ص30.(3/32)
وقال الطحاوي حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة عن ابن أبي نجيح، وحميد الأعرج، عن مجاهد، أن رجلا قال لابن عباس: رجل طلق امرأته مائة فقال: عصيت ربك وبانت منك امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجا، من يتق الله يجعل له مخرجا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) .
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1(3/33)
المذهب المالكي
أما المذهب المالكي فهذه بعض نقول عنه:
قال سحنون وقال محمد بن أحمد بن رشد: قلت لعبد الرحمن بن القاسم: هل كان مالك يكره أن يطلق الرجل امرأته ثلاث تطليقات في مجلس واحد، قال: نعم؟ كان يكرهه أشد الكراهية، وكذلك لا يجوز عند مالك أن يطلقها ثلاثا في كلمة واحدة فإن فعل لزمه ذلك بدليل قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (1) قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (2) وهي الرجعة فجعلها فائتة بإيقاع الثلاث في كلمة واحدة، إذ لو لم يقع ولم يلزمه لم تفته الزوجة ولا كان ظالما لنفسه، انتهى المقصود.
وقال الباجي: فأما العدد فإنه لا يحل أن يوقع أكثر من طلقة واحدة، فمن أوقع طلقتين أو ثلاثا فقد طلق بغير سنة. . والدليل على ما نقوله قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (3) ولا يخلو أن يكون أمرا بصفة الطلاق والأمر يقتضي الوجوب أو يكون إخبارا عن صفة الطلاق الشرعي، ومن أصحابنا من قال: إن - الألف واللام تكون للحصر، وهذا يقتضي أن لا يكون الطلاق الشرعي على غير هذا الوجه.
فإن قيل: المراد بذلك الإخبار عن أن الطلاق الرجعي طلقتان، وأن ما زاد عليه ليس برجعي، قالوا: يدل على ذلك، أنه قال بعد ذلك: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (4) ثم أفرد الطلقة الثالثة لما لم تكن رجعية وفارق حكم الطلقتين فقال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (5)
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة البقرة الآية 229
(5) سورة البقرة الآية 230(3/33)
وإذا كان المراد ما ذكرناه من الأخبار عن الطلاق الرجعي، لم يدل ذلك على أن هذا هو الطلاق الرجعي دون غيره.
فالجواب: أن هذا أمر أضمر في الكلام مع استقلاله دونه بغير دليل، لأنكم تضمرون الرجعي وتقولون: معناه الطلاق الرجعي مرتان، وإذا استقل الكلام دون ضمير لم يجز تعديه إلا بدليل.
وجواب ثان: وهو أنه لو أراد الإخبار عما ذكرتم لقال: الطلاق طلقتان، لأن ذلك يقتضي أنه الطلاق الرجعي أوقعهن مجتمعتين أو مفترقتين، فلما قال مرتان، ولا يكون ذلك إلا لإيقاع الطلاق مفترقا، ثبت أنه قصد الإخبار عن صفة إيقاعه، لا الإخبار عن عدد الرجعي منه.
فإن قالوا إن لفظ التكرار إذا علق باسم أريد به العدد دون تكرار الفعل، يدل على ذلك قوله تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (1) ولم يرد تفريق الأجر وإنما أراد تضعيف العدد.
فالجواب: أن قوله: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (2) حقيقة فيما ذكرناه من تكرار الفعل دون العدد، ولا فرق في ذلك بين أن يعلق على فعل أو اسم يدل على ذلك أنك تقول: لقيت فلانا مرتين فيقتضي تكرار الفعل، وكذلك قوله: دخلت مصر مرتين، فإذا كان ذلك أصله وحقيقته، ودل الدليل في بعض المواضع على العدول به عن حقيقته واستعماله في غير ما وضع له، لم يجز حمله على ذلك في موضع آخر إلا بدليل.
وجواب آخر: وهو أن الفضل قال: معنى {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (3) مرة بعد مرة في الجنة، فعلى هذا لم يخرج اللفظ عن بابه ولا عدل به عن حقيقته، وإن قلنا: إن معناه التضعيف في ماله وأجره: فالفرق بينهما أن قوله تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (4) يفيد التضعيف ويمنع الاقتصار على ضعف واحد ولو كان معنى قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (5) يريد به التضعيف، لمنع من إيقاع طلقة واحدة، وإلا بطل معنى التضعيف، وهذا باطل باتفاقنا.
ودليلنا من جهة السنة ما روى مخرمة بن بكير، عن أبيه، قال: سمعت محمود بن لبيد، قال: أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقال: فعلته لاعبا ثم قال: «تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى (6) » قام رجل فقال: "يا رسول الله ألا أقتله؟ ".
ودليلنا من جهة القياس أن هذا معنى ذو عدد يقتضي البينونة فوجب تحريمه كاللعان.
أما مذهب الحنابلة فقد قال ابن قدامة (7) والرواية الثانية أن جمع الثلاث طلاق بدعة محرم، اختارها أبو بكر وأبو حفص، روي عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وهو قول مالك وأبي حنيفة.
قال علي رضي الله عنه لا يطلق أحد للسنة فيندم، وفي رواية قال: يطلقها واحدة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاث حيض فمن شاء راجعها، وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان إذا أتى برجل طلق ثلاثا أوجعه ضربا.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 31
(2) سورة الأحزاب الآية 31
(3) سورة الأحزاب الآية 31
(4) سورة الأحزاب الآية 31
(5) سورة البقرة الآية 229
(6) سنن النسائي الطلاق (3401) .
(7) المغني ومعه الشرح 8 \ 241.(3/34)
وعن مالك بن الحارث قال: جاء رجل إلى ابن عباس قال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا، فقال: إن عمك عصى الله وأطاع الشيطان فلم يجعل الله له مخرجا.
ووجه ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} (1) إلى قوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (2) ثم قال بعد ذلك: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) . {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (4) ومن جمع الثلاث لم يبق له أمر يحدث، ولا يجعل الله له مخرجا، ولا من أمره يسرا، وروى النسائي بإسناده عن محمود بن لبيد وقد سبق في استدلال المالكية - وفي حديث ابن عمر قال: قلت: «يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا؟ قال: إذا عصيت ربك وبانت منك امرأتك (5) » .
وروى الدارقطني بإسناده عن علي قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا طلق البتة فغضب وقال: «تتخذون آيات الله هزوا، أو دين الله هزوا ولعبا، من طلق البتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره» .
ولأنه تحريم للبضع بقول الزوج من غير حاجة، فحرم كالظهار، بل هذا أولى، لأن الظهار يرتفع تحريمه بالتكفير، وهذا لا سبيل للزوج إلى رفعه بحال، ولأنه ضرر وإضرار بنفسه وبامرأته من غير حاجة، فيدخل في عموم النهي، وربما كان وسيلة إلى عوده إليها حراما أو بحيلة لا تزيل التحريم، ووقوع الندم، وخسارة الدنيا والآخرة، فكان أولى بالتحريم من الطلاق في الحيض الذي ضرره بقاؤها في العدة أياما يسيرة، أو الطلاق في طهر مسها فيه، الذي ضرره احتمال الندم بظهور الحمل، فإن ضرر جمع الثلاث يتضاعف على ذلك أضعافا كثيرة، فالتحريم ثم تنبيه على التحريم.
ولأنه قول من سمينا من الصحابة رواه الأثرم وغيره، ولم يصح عندنا في عصرهم خلاف قولهم، فيكون ذلك إجماعا.
وقال شيخ الإسلام: وأما جمع " الطلقات الثلاث " ففيه قولان:
أحدهما: محرم أيضا عند أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، واختاره أكثر أصحابه، وقال أحمد: تدبرت القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو الطلاق الرجعي - يعني طلاق المدخول بها - غير قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (6)
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 4
(5) سنن النسائي الطلاق (3557) ، مسند أحمد بن حنبل (2/124) .
(6) سورة البقرة الآية 230(3/35)
وعلى هذا القول: فهل له أن يطلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بأن يفرق الطلاق على ثلاثة أطهار، فيطلقها في كل طهر طلقة؟ فيه قولان، هما روايتان عن أحمد " إحداهما " له ذلك، وهو قول طائفة من السلف ومذهب أبي حنيفة. " والثانية " ليس له ذلك وهو قول أكثر السلف، وهو مذهب مالك وأصح الروايتين عن أحمد التي اختارها أكثر أصحابه كأبي بكر عبد العزيز والقاضي أبي يعلى وأصحابه.(3/36)
القول الثاني: أن جمع الثلاث ليس بمحرم، بل هو ترك الأفضل وهو مذهب الشافعي، والرواية الأخرى عن أحمد: اختارها الخرقي.
واحتجوا بأن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها أبو حفص بن المغيرة ثلاثا، وبأن امرأة رفاعة طلقها زوجها ثلاثا، وبأن الملاعن طلق امرأته ثلاثا ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك.
وأجاب الأكثرون: بأن حديث فاطمة، وامرأة رفاعة، إنما طلقها ثلاثا متفرقات، هكذا ثبت في الصحيح أن الثالثة آخر ثلاث تطليقات، لم يطلق ثلاثا لا هذا ولا هذا مجتمعات، وقول الصحابي: طلق ثلاثا. يتناول ما إذا طلقها ثلاثا متفرقات بأن يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها، وهذا طلاق سني واقع باتفاق الأئمة، وهو المشهور على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معنى الطلاق ثلاثا، وأما جمع الثلاث بكلمة فهذا إنما كان منكرا عندهم، إنما يقع قليلا، فلا يجوز حمل اللفظ المطلق على القليل المنكر دون الكثير الحق، ولا يجوز أن يقال: يطلق مجتمعات لا هذا ولا هذا، بل هذا قول بلا دليل، بل هو بخلاف الدليل.
وأما الملاعن فإن طلاقه وقع بعد البينونة، أو بعد وجوب الإبانة التي تحرم بها المرأة أعظم مما يحرم بالطلقة الثالثة، فكان مؤكدا لموجب اللعان، والنزاع إنما هو في طلاق من يمكنه إمساكها، لا سيما والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد فرق بينهما فإن كان ذلك قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها، وإن كان بعدها دل على بقاء النكاح، والمعروف أنه فرق بينهما بعد أن طلقها ثلاثا، فدل ذلك على أن الثلاث لم يقع بها، إذ لو وقعت لكانت قد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره.
وامتنع حينئذ أن يفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما لأنهما صارا أجنبيين، ولكن غاية ما يمكن أن يقال: حرمها عليها تحريما مؤبدا فيقال: فكان ينبغي أن يحرمها عليه لا يفرق بينهما، فلما فرق بينهما دل على بقاء النكاح وأن الثلاث لم تقع جميعا بخلاف ما إذا قيل: إنه يقع بها واحدة رجعية، فإنه يمكن فيه حينئذ أن يفرق بينهما.
وقول سهل بن سعد: طلقها ثلاثا فأنفذه عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دليل على أنه احتاج إلى(3/36)
إنفاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - واختصاص الملاعن بذلك، ولو كان من شرعه أنها تحرم بالثلاث، لم يكن للملاعن اختصاص ولا يحتاج إلى إنفاذ. فدل على أنه لما قصد الملاعن بالطلاق الثلاث أن تحرم عليه أنفذ النبي - صلى الله عليه وسلم - مقصوده، بل زاده، فإن تحريم اللعان أبلغ من تحريم الطلاق، إذ تحريم اللعان لا يزول وإن نكحت زوجا غيره، وهو مؤبد في أحد قولي العلماء لا يزول بالتوبة.
واستدل الأكثرون: بأن القرآن العظيم يدل على أن الله لم يبح إلا الطلاق الرجعي، وإلا الطلاق للعدة، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} (1) إلى قوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (2) {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (3) وهذا إنما يكون في الرجعي، وقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (4) يدل على أنه لا يجوز إرداف الطلاق للطلاق حتى تنقضي العدة أو يراجعها، لأنه إنما أباح الطلاق للعدة: أي لاستقبال العدة، فمتى طلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بنت على العدة، ولم تستأنفها باتفاق جماهير المسلمين، فإن كان فيه خلاف شاذ عن خلاس وابن حزم فقد بينا فساده في موضع آخر، فإن هذا قول ضعيف: لأنهم كانوا في أول الإسلام إذا أراد الرجل إضرار امرأته طلقها حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ليطيل حبسها، فلو كان إذا لم يراجعها تستأنف العدة لم يكن بحاجة إلى أن يراجعها، والله تعالى قصرهم على الطلاق الثلاث دفعا لهذا الضرر، كما جاءت بذلك الآثار، ودل على أنه كان مستقرا عند الله أن العدة لا تستأنف بدون رجعة سواء كان ذلك لأن الطلاق لا يقع قبل الرجعة، أو يقع ولا يستأنف له العدة، وابن حزم إنما أوجب استئناف العدة بأن يكون الطلاق لاستقبال العدة، فلا يكون طلاق إلا يتعقبه عدة، إذا كان بعد الدخول، كما دل عليه القرآن، فلزمه على ذلك هذا القول الفاسد، وأما من أخذ بمقتضى القرآن وما دلت عليه الآثار فإنه يقول: إن الطلاق الذي شرعه الله هو ما يتعقبه العدة، وما كان صاحبه مخيرا فيها بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان، وهذا منتف في إيقاع الثلاث في العدة قبل الرجعة فلا يكون جائزا، فلم يكن ذلك طلاقا للعدة.
ولأنه تعالى قال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (5) فخيره بين الرجعة وبين أن يدعها تقضي العدة فيسرحها بإحسان، فإذا طلقها ثانية قبل انقضاء العدة لم يمسك بمعروف ولم يسرح بإحسان.
وقد قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (6) فهذا يقتضي أن هذا حال كل مطلقة، فلم يشرع إلا هذا الطلاق ثم قال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (7) .
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 1
(5) سورة الطلاق الآية 2
(6) سورة البقرة الآية 228
(7) سورة البقرة الآية 229(3/37)
أي هذا الطلاق المذكور (مرتان) وإذا قيل: سبح مرتين أو ثلاث مرات: لم يجزه أن يقول سبحان الله مرتين، بل لا بد أن ينطق بالتسبيح مرة بعد مرة، فكذلك لا يقال: طلق مرتين إلا إذا طلق مرة بعد مرة، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا، أو مرتين لم يجز أن يقال: طلق ثلاث مرات ولا مرتين، وإن جاز أن يقال طلق ثلاث تطليقات أو طلقتين، ثم قال سبحانه بعد ذلك: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1) فهذه الطلقة الثالثة لم يشرعها الله إلا بعد الطلاق الرجعي مرتين.
وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (2) . الآية، وهذا إنما يكون فيما دون الثلاث، وهو يعم كل طلاق، فعلم أن جمع الثلاث ليس بمشروع، ودلائل تحريم الثلاث كثيرة قوية من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار، كما هو مبسوط في موضعه، وسبب ذلك أن الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قدر الحاجة، كما ثبت في الصحيح عن جابر عن - النبي صلى الله عليه وسلم -: «إن إبليس ينصب عرشه على البحر، ويبعث سراياه فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة فيأتيه الشيطان فيقول: ما زلت به حتى فعل كذا، حتى يأتيه الشيطان فيقول: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه، ويقول: أنت أنت، ويلتزمه (3) » وقد قال تعالى في ذم السحر: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} (4) وفي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات (5) » وفي السنن أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة (6) » .
ولهذا لم يبح إلا ثلاث مرات، وحرمت عليه المرأة بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيرها، وإذا كان إنما أبيح للحاجة، فالحاجة تندفع بواحدة، فما زاد فهو باق على الحظر. اهـ.
وقال ابن القيم (7) فصل في حكمه - صلى الله عليه وسلم - فيمن طلق ثلاثا بكلمة واحدة، قد تقدم حديث محمود بن لبيد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام مغضبا ثم قال: «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم (8) » وإسناده على شرط مسلم، قال ابن وهب: قد رواه مخرمة بن بكير بن الأشج عن أبيه قال: سمعت محمود بن لبيد، فذكره، ومخرمة ثقة بلا شك، وقد احتج مسلم في صحيحه بحديثه عن أبيه.
والذين أعلوه، قالوا: لم يسمع منه، وإنما هو كتاب. قال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل عن
__________
(1) سورة البقرة الآية 230
(2) سورة البقرة الآية 232
(3) صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2813) ، مسند أحمد بن حنبل (3/315) .
(4) سورة البقرة الآية 102
(5) سنن الترمذي الطلاق (1186) .
(6) سنن الترمذي الطلاق (1187) ، سنن أبو داود الطلاق (2226) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2055) .
(7) زاد المعاد الجزء الرابع، ص100 وما بعدها.
(8) سنن النسائي الطلاق (3401) .(3/38)
مخرمة بن بكير فقال: هو ثقة، ولم يسمع من أبيه، وإما هو كتاب مخرمة، فنظر فيه كل شيء، يقول: " بلغني عن سليمان بن يسار " فهو من كتاب مخرمة، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة سمعت يحيى بن معين يقول: مخرمة بن بكير وقع إليه كتاب أبيه ولم يسمعه، وقال في رواية عباس الدوري: هو ضعيف، وحديثه عن أبيه كتاب ولم يسمعه منه، وقال أبو داود لم يسمع من أبيه إلا حديثا وأحدا حديث الوتر، وقال سعيد بن أبي مريم، عن خاله موسى بن سلمة، أتيت مخرمة فقلت: حدثك أبوك فقال: لم أدرك أبي ولكن هذه كتبه.
والجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن كتاب أبيه كان عنده محفوظ مضبوط، فلا فرق في قيام الحجة بالحديث بين ما حدثه به، أو رآه في كتابه، بل الأخذ عن النسخة أحوط، إذا تيقن الراوي أنها نسخة الشيخ بعينها، وهذه طريقة الصحابة والسلف، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث كتبه إلى الملوك، وتقوم عليهم بها الحجة، وكتب كتبه إلى عماله في بلاد الإسلام فعملوا بها، واحتجوا بها، ودفع الصديق كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الزكاة إلى أنس ابن مالك فحمله وعملت به الأمة، وكذلك كتاب إلى عمرو بن حزم في الصدقات الذي كان عند آل عمرو، ولم يزل السلف والخلف يحتجون بكتاب بعضهم إلى بعض، ويقول المكتوب إليه: كتب إلى فلان أن فلانا أخبره.
ولو بطل الاحتجاج بالكتب لم يبق بأيدي الأمة إلا أيسر اليسير، فإن الاعتماد إنما هو على النسخ لا على الحفظ، والحفظ خوان، والنسخة لا تخون، ولا يحفظ في زمن من الأزمان المتقدمة أن أحدا من أهل العلم رد الاحتجاج بالكتاب، وقال: لم يشافهني به الكاتب فلا أقبله، بل كلهم مجمعون على قبول الكتاب والعمل به إذا صح عنده أنه كاتبه.
الجواب الثاني: أن قول من قال: " لم سمع من أبيه " معارض بقول من قال: " سمع منه " ومعه زيادة علم وإثبات، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم، سئل أبي مخرمة بن بكير؟ فقال صالح الحديث. قال: وقال ابن أبي ذئب: - وحدث في ظهر كتاب مالك - سألت مخرمة عما يحدث به عن أبيه سمعها من أبيه، فحلف لي ورب هذه البنية - يعني المسجد - سمعت من أبي.
وقال علي بن المديني: سمعت معن بن عيسى يقول: مخرمة سمع من أبيه، وعرض عليه ربيعة أشياء من رأي سليمان بن يسار، وقال علي: ولا أظن مخرمة سمع من(3/39)
أبيه كتاب سليمان لعله سمع منه الشيء اليسير، ولم أجد أحدا في المدينة يخبرني عن مخرمة بن بكير أنه كان يقول في شيء من حديثه " سمعت أبي " ومخرمة ثقة. . انتهى ويكفي أن مالكا أخذ كتابه فنظر فيه واحتج به في موطئه، وكان يقول: حدثني مخرمة، وكان رجلا صالحا.
وقال أبو حاتم: سألت إسماعيل بن أبي أويس، قلت هذا الذي يقول مالك بن أنس: حدثني الثقة من هو؟ قال مخرمة بن بكير، وقيل لأحمد بن صالح المصري كان مخرمة من ثقات الرجال؟ قال: نعم، وقال ابن عدي عن ابن وهب ومعن بن عيسى عن مخرمة: أحاديث حسان مستقيمة وأرجو أنه لا بأس به.
وفي صحيح مسلم قول ابن عمر للمطلق ثلاثا: حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك وعصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك، وهذا تفسير منه للطلاق المأمور به، وتفسير الصحابي حجة، وقال الحاكم هو عندنا مرفوع.
ومن تأمل القرآن حق التأمل تبين له ذلك وعرف أن الطلاق المشروع بعد الدخول، هو الطلاق الذي تملك به الرجعة، ولم يشرع الله سبحانه إيقاع الثلاث جملة واحدة البتة، قال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (1) ولا تعقل العرب في لغتها وقوع المرتين إلا متعاقبتين، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمده ثلاثا وثلاثين، وكبره ثلاثا وثلاثين (2) » ونظائره، فإنه لا يعقل من ذلك إلا تسبيح وتكبير وتحميد متوال، يتلو بعضه بعضا، فلو قال سبحانه الله ثلاثا وثلاثين، والحمد لله ثلاثا وثلاثين، والله أكبر ثلاث وثلاثين - بهذا اللفظ - لكان ثلاثا مرات فقط، وأصرح من هذا قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (3) فلو قال أشهد بالله أربع شهادات بالله إني لمن الصادقين، كانت مرة، وكذلك قوله: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} (4) فلو قالت أشهد بالله أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين كانت واحدة.
وأصرح من ذلك قوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} (5) فهذا مرة بعد مرة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (597) ، مسند أحمد بن حنبل (2/371) ، موطأ مالك النداء للصلاة (488) .
(3) سورة النور الآية 6
(4) سورة النور الآية 8
(5) سورة التوبة الآية 101(3/40)
ولا ينقض هذا بقوله تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم - «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين (2) » .
فإن المرتين هنا، هما الضعفان، وهما المثلان، وهما مثلان في القدر، كقوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} (3) . وقوله تعالى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} (4) . أي ضعف ما يعذب به غيرها، وضعف ما كانت تؤتى، ومن هذا قول أنس: «انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين (5) » أي شقتين وفرقتين، كما قال في اللفظ الآخر: «انشق القمر فلقتين (6) » وهذا أمر معلوم قطعا: أنه إنما انشق القمر مرة واحدة، والفرق معلوم بين ما يكون مرتين في الزمان وبين ما يكون مثلين وجزأين ومرتين في المضاعفة، فالثاني يتصور فيه اجتماع المرتين في آن واحد، والأول لا يتصور فيه ذلك.
ومما يدل على أن الله لم يشرع الثلاث جملة أنه قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (7) إلى أن قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} (8) فهذا يدل على أن كل طلاق بعد الدخول، فالمطلق أحق فيه بالرجعة، سوى الثالثة المذكورة بعد هذا.
وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (9) . إلى قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (10) فهذا هو الطلاق المشروع، وقد ذكر الله سبحانه أقسام الطلاق كلها في القرآن، وذكر أحكامها فذكر الطلاق قبل الدخول وأنه لا عدة فيه، وذكر الطلقة الثالثة وأنها تحرم الزوجة على المطلق حتى تنكح زوجا غيره، وذكر طلاق الفدا الذي هو الخلع وسماه فدية، ولم يحسبه من الثلاث كما تقدم، وذكر الطلاق الرجعي الذي يحق للمطلق فيه الرجعة وهو ما عدا هذه الأقسام الثلاثة.
وبهذا احتج أحمد والشافعي وغيرهما على أنه ليس في الشرع طلقة واحدة بعد الدخول بغير عوض بائنة وأنه إذا قال لها: أنت طالق طلقة بائنة كانت رجعية وبلغوا بالبينونة، وأنه لا يملك إبانتها إلا بعوض، وأما أبو حنيفة، فقال: تبين بذلك لأن الرجعة حق له وقد أسقطها، والجمهور يقولون: وإن كانت الرجعة حقا له
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 31
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (3011) ، صحيح مسلم الإيمان (154) ، سنن الترمذي النكاح (1116) ، سنن النسائي النكاح (3344) ، سنن ابن ماجه النكاح (1956) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) ، سنن الدارمي النكاح (2244) .
(3) سورة الأحزاب الآية 30
(4) سورة البقرة الآية 265
(5) صحيح البخاري المناقب (3636) ، صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2801) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3285) ، مسند أحمد بن حنبل (1/447) .
(6) صحيح البخاري تفسير القرآن (4864) ، صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2801) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3285) ، مسند أحمد بن حنبل (1/447) .
(7) سورة البقرة الآية 228
(8) سورة البقرة الآية 228
(9) سورة الطلاق الآية 1
(10) سورة الطلاق الآية 2(3/41)
لكن نفقة الرجعية وكسوتها حق عليه، فلا يملك إسقاطه إلا باختيارها، وبذلها العوض، وسؤالها أن تفتدي نفسها بغير عوض في أحد القولين، وهو جواز الخلع بغير عوض، وأما إسقاط حقها من الكسوة والنفقة بغير سؤالها ولا بذلها العوض فخلاف النص والقياس.
قالوا: وأيضا فالله سبحانه شرع الطلاق على أكمل الوجوه وأنفعها للرجل والمرأة، فإنهم كانوا يطلقون في الجاهلية بغير عدد، فيطلق أحدهم المرأة كلما شاء ويرجعها، وهذا - وإن كان فيه رفق بالرجل - ففيه إضرار بالمرأة فنسخ سبحانه ذلك بثلاث، وقصر الزوج عليها وجعله أحق بالرجعة ما لم تنقض عدتها، فإذا استوفى العدد الذي ملكه حرمت عليه، فكان في هذا رفق بالرجل إذ لم تحرم عليه بأول طلقة، وبالمرأة حيث لم يجعل إليه أكثر من ثلاث، فهذا شرعه وحكمته وحدوده التي حدها لعباده، فلو حرمت عليه بأول طلقة يطلقها، كان خلاف شرعه وحكمته، وهو لم يملك إيقاع الثلاث جملة، بل إنما ملك واحدة، فالزائدة عليها غير مأذون له فيه.
قالوا: وهذا كما أنه لم يملك إبانتها بطلقة واحدة إذ هو خلاف ما شرعه، لم يملك إبانتها بثلاث مجموعة إذ هو خلاف ما شرعه، ونكتة المسألة: أن الله لم يجعل للأمة طلاقا بائنا قط إلا في موضعين: أحدهما طلاق غير المدخول بها، والثاني الطلقة الثالثة، وما عداه من الطلاق فقد جعل للزوج فيه الرجعة. هذا مقتضى الكتاب كما تقدم تقريره وهذا قول الجمهور منهم الإمام أحمد والشافعي وأهل الظاهر، قالوا: لا يملك إبانتها بدون الثالث إلا في الخلع، ولأصحاب مالك ثلاثة أقوال فيما إذا قال: أنت طالق طلقة لا رجعة فيها - وساقها رحمه الله - هل هي ثلاث، أو خلع بدون، عرض، أو واحدة بائنة.
وقد أجاب ابن حزم - رحمه الله - في كتابه المحلى عن ذلك بقوله (1) أما الآيات فإنما نزلت فيمن طلق واحدة أو اثنتين فقط، ثم نسألهم عمن طلق مرة ثم راجع ثم مرة ثم راجع ثانية ثم ثالثة، أبدعة أتى؟ فمن قولهم: لا بل سنة، فنسألهم أتحكمون له بما في الآيات المذكورات؟ فمن قولهم: لا بل خلاف فصح أن المقصود في الآيات المذكورات، من أراد أن يطلق طلاقا رجعيا، فبطل احتجاجهم بها في حكم من طلق ثلاثا، وأما قولهم: معنى قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) أن معناه مرة بعد مرة، فخطأ، بل هذه الآية كقوله تعالى:
__________
(1) انظر المحلى الجزء العاشر، ص (167 - 168) .
(2) سورة البقرة الآية 229(3/42)
{نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (1) أي مضاعفا معا وهذه الآية أيضا تصلح لما دون الثلاث من الطلاق وهو حجة لنا عليهم، لأنهم لا يختلفون - يعني المخالفين لنا - في أن طلاق السنة هو أن يطلقها واحدة ثم يتركها حتى تنقضي عدتها في قول طائفة منهم، وفي قول آخرين منهم: أن يطلقها في كل طهر طلقة وليس شيء من هذا في هذه الآية، وهم لا يرون من طلق طلقتين متتابعتين في كلام متصل طلاق سنة فبطل تعلقهم بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) وأما خبر محمود بن لبيد فمرسل ولا حجة في مرسل، ومخرمة لم يسمع من أبيه شيئا ويعني ابن حزم بالإرسال ما قرره الحافظ بن حجر (3) وهو أن محمود بن لبيد، ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يثبت له منه سماع وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية. . وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع.
وقال الحافظ: (4) ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين فيمن ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: سمع من عمر، وتوفي بالمدينة سنة ست وتسعين، وكان ثقة قليل الحديث، كما ذكر الحافظ أن الترمذي قال فيه: " رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو غلام صغير ".
وقال ابن أبي حاتم: قال البخاري: له صحبة فسخط أبي عليه، وقال: لا يعرف له صحبة، روى عن ابن عباس، روى عنه عاصم بن عمر بن قتادة سمعت أبي يقول ذلك. سئل أبو زرعة عن محمود بن لبيد؟ فقال: روى عن ابن عباس، وعنه الحارث بن فضيل، مديني أنصاري ثقة، وفي رواية مخرمة عن أبيه كلام كثير. اهـ.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 31
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) انظر فتح الباري الجزء التاسع، ص297.
(4) انظر تهذيب التهذيب الجزء العاشر، ص66.(3/43)
الثاني: من قولي العلماء في الإقدام على جمع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، أنه ليس بمحرم ولا بدعة، بل سنة، وهو قول الشافعي، وأبي ثور، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه، وجماعة من أهل الظاهر، كما في زاد المعاد، ونكتفي بإيراد كلام الشافعي في الأم، وابن حزم في المحلى، قال الإمام الشافعي: (الخلاف في الطلاق ثلاث) :
عن مالك بن أنس، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، «عن فاطمة بنت قيس، أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة، وهو غائب بالشام فبعث إليها وكيله بشعير فسخطته فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فقال: " ليس لك عليه نفقة (1) » .
قال الشافعي - رحمه الله: وأبو عمرو رضي الله عنهما تطلق امرأته البتة وعلم ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسقط نفقتها لأنه لا رجعة له عليها والبتة التي لا رجعة له عليها ثلاثة، ولم يعب النبي - صلى الله عليه وسلم - طلاق الثلاث، وحكم فيما سواها من الطلاق بالنفقة والسكنى، فإن قال قائل: ما دل على أن البتة ثلاث فهو لو لم يكن سمى أبو عمرو رضي الله عنهما ثلاث البتة، أو نوى بالبتة ثلاثا، كانت واحدة يملك الرجعة وعليه نفقتها.
ومن زعم أن البتة ثلاث بلا نية المطلق، ولا تسمية ثلاث، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يعب الطلاق الذي هو ثلاث، دل على أن الطلاق بيد الزوج، ما أبقى منه أبقى لنفسه، وما أخرج منه من يده لزمه غير محرم عليه، كما لا يحرم عليه أن يعتق رقبة، وألا يخرج من ماله صدقة، وقد يقال له: لو أبقيت ما تستغني به عن الناس كان خيرا لك.
فإن قال قائل: ما دل أن أبا عمرو لا يعدو أن يكون سمى ثلاثا أو نوى بالبتة ثلاثا؟ قلنا: الدليل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
قال الشافعي - رحمه الله -: أخبرنا عمي محمد بن علي بن شافع، عن عبد الله بن علي بن السائب، عن نافع ابن عجير بن عبد يزيد، أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة المزنية البتة، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إني طلقت امرأتي سهيمة البتة والله ما أردت إلا واحدة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لركانة: " والله ما أردت إلا واحدة؟ " فردها إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فطلقها الثانية في زمان عمر، والثالثة في زمان عثمان، رضي الله عنهما (2) » .
قال الشافعي - رحمه الله -: أخبرنا مالك عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد، أنه أخبره أنه تلاعن عويمر وامرأته بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مع الناس فلما فرغا من ملاعنتهما
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1480) ، سنن الترمذي النكاح (1135) ، سنن أبو داود الطلاق (2284) ، سنن ابن ماجه النكاح (1869) ، مسند أحمد بن حنبل (6/373) ، موطأ مالك الطلاق (1234) ، سنن الدارمي النكاح (2177) .
(2) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2208) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) .(3/44)
«قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم (1) » - قال مالك: قال ابن شهاب: فكانت تلك سنة المتلاعبين.
قال الشافعي رحمه الله: فقد طلق عويمر ثلاثا بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو كان ذلك محرما لنهاه عنه، وقال: إن الطلاق وإن لزمك فأنت عاص بأن تجمع ثلاثا، فافعل كذا، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر أن يأمر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حين طلق امرأته حائضا أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فلا يقر النبي - صلى الله عليه وسلم - بطلاق لا يفعله أحد بين يديه، إلا نهاه عنه، لأنه العلم بين الحق والباطل، لا باطل بين يديه إلا يغيره.
قال الشافعي: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار، قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول: أخبرني المطلب ابن حنطب، أنه طلق امرأته البتة ثم أتى عمر فذكر ذلك له.
فقال: ما حملك على ذلك؟
قال: قد فعلته فتلا: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} (2) ما حملك على ذلك؟
قال: قد فعلته، قال: أمسك عليك امرأتك فإن الواحدة تبت.
أخبرنا الربيع، قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن سليمان ابن يسار أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: للتوءمة مثل ما قال للمطلب.
قال الشافعي: أخبرنا الثقة، عن الليث بن سعد، عن بكير عن سليمان، أن رجلا من بني زريق طلق امرأته البتة، قال عمر - رضي الله عه -: ما أردت بذلك؟ قال: أتراني أقيم على حرام والنساء كثير؟ فأحلفه فحلف، قال الشافعي - رحمه الله -: أراه قال فردها عليه.
قال: وهذا الخبر في الحديث في الزرقي، يدل على أن قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للمطلب ما أردت بذلك؟ يريد أواحدة أو ثلاثا؟ فلما أخبره أنه لم يرد به زيادة في عدد الطلاق، وأنه قال: بلا نية زيادة، ألزمه واحدة وهي أقل الطلاق، وقوله {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} (3) لو طلق فلم يذكر البتة، إذ كانت كلمة محدثة ليست في أصل الطلاق تحتمل صفة الطلاق وزيادة في عدده، ومعنى غير ذلك، فنهاه عن المشكل من القول، ولم ينهه عن الطلاق، ولم يعبه ولم يقل له: لو أردت ثلاثا كان مكروها عليك، وهو لا يحلفه على ما أراد إلا ولو
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5259) ، صحيح مسلم اللعان (1492) ، سنن النسائي الطلاق (3402) ، سنن أبو داود الطلاق (2245) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2066) ، مسند أحمد بن حنبل (5/331) ، موطأ مالك كتاب الطلاق (1201) ، سنن الدارمي النكاح (2229) .
(2) سورة النساء الآية 66
(3) سورة النساء الآية 66(3/45)
أراد أكثر من واحدة ألزمه ذلك.
أخبرنا الربيع: قال أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك عن ابن شهاب، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، وكان أعلمهم بذلك، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن عبد الرحمن طلق امرأته البتة وهو مريض فورثها عثمان منه بعد انقضاء عدتها.
قال الشافعي - رحمه الله - أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن ابن سيرين أن امرأة عبد الرحمن نشدته الطلاق فقال: إذا حضت ثم طهرت فآذنيني فطهرت وهو مريض فآذنته فطلقها ثلاثا، قال الشافعي - رحمه الله -: والبتة في حديث مالك بيان هذا الحديث ثلاثا، لما وصفنا من أن يقول طالق البتة ينوي ثلاثا وقد بينه ابن سيرين فقطع موضع الشك فيه.
أخبرنا الربيع، قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس بن بكير، قال: طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها، ثم بدا له أن ينكحها، فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل له، فسأل أبا هريرة، وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - عن ذلك فقالا: لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجا غيرك، قال: إنما كان طلاقي إياها واحدة، فقال ابن عباس: إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل.
قال الشافعي رحمه الله: وما عاب ابن عباس ولا أبو هريرة عليه أن يطلق ثلاثا، ولو كان ذلك معيبا، لقالا له: لزمك الطلاق وبئسما صنعت، ثم سمى حين راجعه فما زاده ابن عباس على الذي هو عليه أن قال له: إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل، ولم يقل بئسما صنعت، ولا حرجت في إرساله.
أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير، عن النعمان ابن أبي عياش الأنصاري عن عطاء بن يسار، قال: جاء رجل يستفتي عبد الله بن عمرو: عن رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يمسها، قال عطاء فقلت: إنما طلاق البكر واحدة، فقال عبد الله بن عمرو إنما أنت قاض الواحدة تبينها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره.
ولم يقل له عبد الله: بئسما صنعت حين طلقت ثلاثا، أخبرنا الربيع: قال أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد، أن بكيرا أخبره عن النعمان بن أبي عياش أنه كان جالسا عند عبد الله بن الزبير، وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن إياس بن البكير فقال: إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فماذا تريان؟ فقال ابن الزبير: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول، اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة، فإني تركتهما عند عائشة فسلهما؟ ثم ائتنا فأخبرنا، فذهب فسألهما؟ فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة، فقد جاءتك معضلة، فقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره.(3/46)
وقال ابن عباس مثل ذلك ولم يعيبا عليه الثلاث ولا عائشة أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرني مالك عن ابن شهاب عن عروة أن مولاة لبني عدي يقال لها: زبراء أخبرته أنها كانت تحت عبد وهي يومئذ أمة، فعتقت فقالت: فأرسلت إلى حفصة فدعتني يومئذ فقالت: إني مخبرتك خبرا ولا أحب أن تصنعي شيئا، إن أمرك بيدك ما لم يمسك زوجك، فقالت: ففارقته ثلاثا، فلم تقل لها حفصة: لا يجوز لك أن تطلقي ثلاثا.
ولو كان ذلك معيبا على الرجل، إذا لكان ذلك معيبا عليها إذا كان بيدها فيه ما بيده.
أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا مالك، عن هشام، عن أبيه، عن جهمان، عن أم بكرة الأسلمية أنها اختلعت من زوجها عبد الله بن أسيد، ثم أتيا عثمان في ذلك فقال: هي تطليقة، إلا أن تكون سميت شيئا فهو ما سميت.
فعثمان - رضي الله عنه - يخبره أنه إن سمى أكثر من واحدة كان ما سمى، ولا يقول له: لا ينبغي لك أن تسمي أكثر من واحدة، بل في هذا القول دلالة على أنه جائز له أن يسمي أكثر من واحدة، أخبرنا الربيع، قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - قال: البتة ما يقول الناس فيها؟ فقال أبو بكر، فقلت له: كان أبان بن عثمان يجعلها واحدة، فقال عمر: لو كان الطلاق ألفا ما أبقت البتة منه شيئا من قال البتة فقد رمى الغاية القصوى.
قال الشافعي: ولم يحك عن واحد منهم على اختلاف في البتة أنه عاب البتة ولا عاب ثلاثا، قال الشافعي قال مالك في المخيرة: إن خيرها زوجها فاختارت نفسها فقد طلقت ثلاثا: وإن قال زوجها: لم أخيرك إلا في واحدة فليس له في ذلك قول، وهذا أحسن ما سمعت.
قال الشافعي: فإذا كان مالك يزعم أن من مضى من سلف هذه الأمة قد خيروا وخير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخيار إذا اختارت المرأة نفسها يكون ثلاثا، كان ينبغي بزعمهم أن الخيار لا يحل، لأنها إذا اختارت كان ثلاثا، وإذا زعم أن الخيار يحل وهي إذا اختارت نفسها طلقت ثلاثا فقد زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أجاز طلاق ثلاث، وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال الشافعي - رحمه الله -: أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج عن عكرمة بن خالد، أن سعيد بن جبير أخبره أن رجلا أتى ابن عباس فقال: طلقت امرأتي مائة فقال ابن عباس - رضي الله عنه - تأخذ ثلاثا وتدع سبعا وتسعين.
قال الشافعي: أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، أن عطاء ومجاهدا قالا: إن رجلا أتى ابن عباس، فقال: طلقت امرأتي مائة، فقال ابن عباس: تأخذ ثلاثا وتدع سبعا وتسعين.
أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء وحده، عن ابن عباس أنه قال: وسبعا وتسعين عدوانا، اتخذت بها آيات الله هزوا، فعاب عليه ابن عباس كل ما زاد عن عدد الطلاق الذي لم يجعله الله إليه ولم يعب عليه ما جعل الله إليه من الثلاث، وفي هذا دلالة على أنه يجوز له عنده أن يطلق ثلاثا ولا يجوز له ما لم يكن إليه. اهـ.(3/47)
المذهب الحنبلي
وأما المذهب الحنبلي فقد. . .
قال ابن قدامة: اختلف الرواية عن أحمد في جمع الثلاث، فروى عنه أنه غير محرم اختاره الخرقي، وهو مذهب الشافعي، وأبي ثور وداود، وروى ذلك عن الحسن بن علي وعبد الرحمن بن عوف، والشعبي، لأن «عويمرا العجلاني لما لاعن امرأته قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم (1) » - متفق عليه ولم ينقل إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وعن عائشة: «أن امرأة رفاعة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي (2) » متفق عليه، وفي حديث فاطمة بنت قيس، أن زوجها أرسل إليها بثلاث تطليقات. ولأنه طلاق جاز تفريقه فجاز جمعه كطلاق النساء.
وقد أجاب ابن قدامة عن أدلة القائلين بالإباحة جوابا إجماليا.
فقال: (3) وأما حديث المتلاعنين فغير لازم، لأن الفرقة لم تقع بالطلاق، فإنها وقعت بمجرد لعان الزوج فلا حجة فيه.
ثم إن اللعان يوجب تحريما مؤبدا، فالطلاق بعده كالطلاق بعد انفساخ النكاح بالرضاعة أو غيره.
ولأن جمع الثالث إنما حرم لما يعقبه من الندم، ويحصل به من الضرر ويفوت عليه من حل نكاحها، ولا يحصل ذلك بالطلاق بعد اللعان لحصوله باللعان.
وسائر الأحاديث لم يقع فيها جمع الثلاث بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون مقرا عليه، ولا حضر المطلق عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أخبر بذلك لينكر عليه.
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5259) ، صحيح مسلم اللعان (1492) ، سنن النسائي الطلاق (3402) ، سنن أبو داود الطلاق (2245) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2066) ، موطأ مالك كتاب الطلاق (1201) ، سنن الدارمي النكاح (2229) .
(2) صحيح البخاري الطلاق (5260) ، صحيح مسلم النكاح (1433) ، سنن الترمذي النكاح (1118) ، سنن النسائي الطلاق (3409) ، سنن ابن ماجه النكاح (1932) ، مسند أحمد بن حنبل (6/38) ، سنن الدارمي الطلاق (2267) .
(3) المغني ومعه الشرح الكبير 8 \ 242.(3/48)
على أن حديث فاطمة قد جاء فيه: أنه أرسل إليه بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها، وحديث امرأة رفاعة جاء فيه أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات متفق عليه، فلم يكن في شيء من ذلك جمع الثلاث. ولا خلاف بين الجميع في أن الاختيار والأولى أن يطلق واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها إلا ما حكينا من قول من قال إنه يطلقها في كل قرء طلقة، والأولى أولى، فإن في ذلك امتثالا لأمر الله - سبحانه - وموافقة لقول السلف، وأمنا من الندم، فإنه متى ندم راجعها فإن فاته ذلك بانقضاء عدتها فله نكاحها.
وقال ابن حزم: وجدنا من حجة من قال: إن الطلاق الثلاث مجموعة سنة لا بدعة، قول الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1) .
فهذا يقع على الثلاث مجموعة ومفرقة ولا يجوز أن يخص بهذه الآية بعض ذلك دون بعض بغير نص.
وكذلك قوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (2) عموم لإباحة الثلاث والاثنتين والواحدة.
وقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (3) فلم يخص تعالى مطلقة واحدة من مطلقة اثنتين ومن مطلقة ثلاثا.
ووجدنا ما رويناه من طريق مالك، عن ابن شهاب، أن سهل بن سعد الساعدي أخبره عن حديث لعان عويمر العجلاني مع امرأته، وفي آخره أنه قال: " كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال أبو محمد - ابن حزم - لو كانت طلاق الثلاث مجموعة معصية لله تعالى، لما سكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيان ذلك فصح يقينا أنها سنة مباحة.
وقال بعض أصحابنا: لا يخلو من أن يكون طلقها وهي امرأته، أو طلقها وقد حرمت عليه ووجب التفريق بينهما، فإن كان طلقها وهي امرأته، فليس هذا قولكم، لأن قولكم إنها بتمام اللعان تبين عنه إلى الأبد، وإن كان طلقها أجنبية فإنما نحن فيمن طلق امرأته لا فيمن طلق أجنبية.
فقلنا: إنما طلقها وهو يقدر أنها امرأته هذا ما لا يشك فيه أحد، فلو كان ذلك معصية لسبقكم رسول الله - صلى
__________
(1) سورة البقرة الآية 230
(2) سورة الأحزاب الآية 49
(3) سورة البقرة الآية 241(3/49)
الله عليه وسلم - إلى هذا الاعتراض، فإنما حجتنا كلها في ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإنكار على من طلق ثلاثا مجموعة امرأة يظنها امرأته: ولا يشك في عصمته فقط.
فإن قالوا: ليس كل مسكوت عن ذكره في الأخبار يكون ترك ذكره حجة، فقلنا: نعم هو حجة لازمة إلا أن يوجد بيان في خبر آخر لم يذكر في هذا الخبر، فحينئذ لا يكون السكوت عنه في خبر آخر حجة.
ومن طريق البخاري، نا محمد بن بشار، نا يحيى هو ابن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر، نا القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: «إن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلق، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتحل للأول؟ قال: " لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول (1) » فلم ينكر - عليه الصلاة والسلام - هذا السؤال، ولو كان لا يجوز لأخبر بذلك، وخبر فاطمة بنت قيس المشهور رويناه من طريق يحيى بن أبي كثير، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن فاطمة بنت قيس أخبرته أن زوجها ابن حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا ثم انطلق إلى اليمن فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت ميمونة أم المؤمنين فقالوا إن ابن حفص طلق امرأته ثلاثا فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس لها نفقة وعليها العدة (2) » وذكر باقي الخبر.
ومن طريق مسلم، نا محمد بن المثنى، نا حفص بن غياث، نا هشام بن عروة، عن أبيه عن فاطمة بنت قيس قالت: قلت: «يا رسول الله إن زوجي طلقني ثلاثا وأنا أخاف أن يقتحم علي قال: فأمرها فتحولت (3) » ومن طريق مسلم، نا محمد بن المثنى، عبد الرحمن بن مهدي، نا سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطلقة ثلاثة قال: «ليس لها سكنى ولا نفقة (4) » .
فهذا نقل تواتر عن فاطمة بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا هي ونفر سواها بأن زوجها طلقها ثلاثا (5) وبأنه - عليه الصلاة والسلام - حكم في المطلقة ثلاثا ولم ينكر - عليه الصلاة والسلام - ذلك ولا أخبر بأنه ليس بسنة، وفي هذا كفاية لمن نصح نفسه.
فإن قيل: إن الزهري روى عن أبي سلمة هذا الخبر فقال فيه: أنها ذكرت أنه طلقها آخر ثلاث طلقات وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها فذكر الخبر وفيه: فأرسل مروان إليها قبيصة بن ذؤيب فحدثته وذكر باقي الخبر.
قلنا: نعم، هكذا رواه الزهري، فأما روايته من طريق عبيد الله بن عبد الله فمنقطعة، لم يذكر عبيد الله ذلك عنها ولا عن قبيصة عنها، إنما قال: إن فاطمة طلقها زوجها وأن مروان بعث إليها قبيصة فحدثته، وأما خبره عن
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5261) ، صحيح مسلم النكاح (1433) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .
(2) صحيح مسلم الطلاق (1480) ، سنن الترمذي النكاح (1135) ، سنن أبو داود الطلاق (2290) ، مسند أحمد بن حنبل (6/373) ، موطأ مالك الطلاق (1234) ، سنن الدارمي النكاح (2177) .
(3) صحيح مسلم الطلاق (1482) ، سنن النسائي الطلاق (3547) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2033) .
(4) صحيح مسلم الطلاق (1480) ، سنن النسائي الطلاق (3404) ، سنن أبو داود الطلاق (2290) ، سنن ابن ماجه النكاح (1869) ، مسند أحمد بن حنبل (6/373) ، موطأ مالك الطلاق (1234) ، سنن الدارمي النكاح (2177) .
(5) كذا في الأصل المنقول عنه.(3/50)
أبي سلمة فمتصل، إلا أن كلا الخبرين ليس فيهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرته هي ولا غيرها بذلك، إنما السند الصحيح الذي فيه أنه - عليه الصلاة والسلام - سأل عن كمية طلاقها؟ وأنها أخبرته فهي التي قدمنا أولا، وعلى ذلك الإجمال جاء حكمه - عليه الصلاة والسلام - وكذلك كل لفظ روي به خبر فاطمة من (أبت طلاقها) و (طلقها البتة) و (طلقها طلاقا باتا) و (طلاقا بائنا) فليس في شيء منه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف عليه أصلا فسقط كل ذلك وثبت حكمه - عليه الصلاة والسلام - على ما صح أنه، أخبر به من أنه طلقها ثلاثا فقط.
وأما الصحابة - رضي الله عنهم - فإن الثابت عن عمر - رضي الله عنه - الذي لا يثبت عنه غيره، ما رويناه من طريق عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، نا زيد بن وهب: أنه رفع إلى عمر بن الخطاب برجل طلق امرأته ألفا فقال له عمر: أطلقت امرأتك؟ فقال: إنما كنت ألعب، فعلاه عمر بالدرة، وقال: إنما يكفيك من ذلك ثلاث، فإنما ضربه عمر على الزيادة على الثلاث، وأحسن عمر في ذلك، وأعلمه أن الثلاث تكفي ولم ينكرها.
ومن طريق وكيع، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال: إني طلقت امرأتي ألفا، فقال له علي: بانت منك بثلاث، وأقسم سائرهن بين نسائك، فلم ينكر جمع الثلاث.
ومن طريق وكيع، عن جعفر بن برقان، عن معاوية بن أبي يحيى قال: جاء رجل إلى عثمان بن عفان فقال: طلقت امرأتي ألفا، فقال: بانت منك بثلاث. . . فلم ينكر الثلاث.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري، عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس: طلقت امرأتي ألفا، فقال له ابن عباس: ثلاث تحرمها عليك، وبقيتها عليك وزرا، اتخذت آيات الله هزوا، فلم ينكر الثلاث، وأنكر ما زاد.
والذي جاء عنه من قوله لمن طلق ثلاثا ثم ندم: لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا، وهو على ظاهره، نعم إن اتقى الله جعل له مخرجا، وليس فيه أن طلاقه الثلاث معصية.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر، عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: إني طلقت امرأتي تسعة وتسعين، فقال له ابن مسعود: ثلاث تبينها، وسائرها عدوان.
وهذان خبران في غاية الصحة، لم ينكر ابن مسعود وابن عباس الثلاث مجموعه أصلا، وإنما أنكر الزيادة على الثلاث.(3/51)
ومن طريق أحمد بن شعيب، أنا عمرو بن علي، نا يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبعي عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: طلاق السنة أن يطلقها طاهرا من غير جماع، وهذا في غاية الصحة عن ابن مسعود فلم يخص طلقة من طلقتين من ثلاث.
فإن قيل: قد روى الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود وفيه: فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى.
قلنا نعم، هذا أيضا سنة، وليس فيه أن ما عدا ذلك حرام وبدعة، فإن قيل: قد رويتم من طريق حماد بن زيد، نا يحيى بن عتيق، عن محمد بن سيرين، قال: قال علي بن أبي طالب: لو أن الناس أخذوا بأمر الله تعالى في الطلاق ما يبيح رجل نفسه في امرأة أبدا يبدأ فيطلقها تطليقة ثم يتربص ما بينها وبين أن تنقضي عدتها فمتى شاء راجعها.
قلنا: هذا منقطع عنه، لأن ابن سيرين لم يسمع من علي كلمة، ثم ليس فيه أيضا أن ما عدا ذلك معصية ولا بدعة لا يعلم عن الصحابة - رضي الله عنهم - غير ما ذكرنا، وأما التابعون فروينا من طريق وكيع عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن الشعبي قال: قال رجل لشريح القاضي: طلقت امرأتي مائة، فقال: بانت منك بثلاث، وسبع وتسعون إسراف ومعصية.
فلم ينكر شريح الثلاث، وإنما جعل الإسراف والمعصية ما زاد على الثلاث، ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال؟ : طلاق العدة أن يطلقها إذا طهرت من الحيضة بغير جماع.
قال أبو محمد: فلم يخص واحدة من ثلاث من اثنتين لا يعلم عن أحد من التابعين أن الثلاث معصية، صرح بذلك، إلا الحسن، والقول بأن الثالث سنة هو قول للشافعي وأبي ذر وأصحابهما.
وقال ابن أبي شيبة (1) : " ومن رخص الرجل أن يطلق ثلاثا في مجلس " حدثنا أبو أسامة، عن هشام قال: سئل محمد عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا في مقعد واحد، قال: لا أعلم بذلك بأسا، قد طلق عبد الرحمن بن عوف امرأته ثلاثا فلم يعب عليه ذلك.
حدثنا أبو أسامة، عن ابن عون عن محمد قال: كان لا يرى بذلك بأسا، حدثنا غندر عن شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي، في رجل أراد أن تبين منه امرأته، قال: يطلقها ثلاثا.
__________
(1) انظر مصنف ابن أبي شيبة الجزء الخامس، ص11.(3/52)
المسألة الثانية
ما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد
وفي ذلك مذاهب
" المسألة الثانية ما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد وفي ذلك مذاهب ".
المذهب الأول أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت ثلاثا دخل بها أو لا.
ذكر من قال بهذا القول:
وقال الكاساني: وأما حكم طلاق البدعة: فهو أنه واقع عند عامة العلماء، وقد ذكر هذا بعد سياقه للألفاظ التي يقع بها طلاق البدعة وذكر منها الثلاث بلفظ واحد (1) .
وقال ابن الهمام: وذهب جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين إلى أنه يقع ثلاثا (2) .
وقال الطحاوي: بعد سياقه لأدلة وقوعها ثلاثا - (3) فهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رحمة الله عليهم أجمعين.
وقال سحنون بن سعيد التنوخي: قلت (4) : أرأيت إن طلقها ثلاثا وهي حامل في مجلس واحد أو مجالس شتى، أيلزمه ذلك أم لا؟ قال: قال مالك يلزمه ذلك.
وقال الحطاب (تنبيه) قال أبو الحسن في شرح كلام المدونة المتقدمة صورته: أن يقول لها أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق في مجلس واحد، فإن كان على غير هذه الصفة كما إذا قال: أنت طالق ثلاثا في كلمة واحدة، فقال عبد الحميد الصائغ: ثلاث تطليقات في كلمة أشد منه في ثلاثة مجالس، وفي ثلاثة مجالس أشد منه في ثلاثة أطهار، وكلما طلق يلزمه. . انتهى. . . " (5) .
__________
(1) بدائع الصنائع 3 \ 96
(2) فتح القدير 3 \ 25
(3) شرح معاني الآثار (3 \ 59) .
(4) المدونة 2 \ 68.
(5) مواهب الجليل 4 \ 39.(3/53)
وقال الباجي: إذا ثبت ذلك (1) أي كلامه على تحريم إيقاع الثلاث بلفظ واحد، فمن أوقع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة لزمه ما أوقعه من الثلاث وبه قال جماعة الفقهاء.
وقال القرطبي: قال علماؤنا: واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول جمهور السلف (2) .
وقد سبق أدلة كثيرة عن الإمام الشافعي - رحمه الله - في الكلام على المسألة الأولى وأنه يوقعها ثلاثا.
وقال الشيرازي: " وإن قال لغير المدخول بها أنت طالق ثلاثا وقع الثلاث لأن الجميع صادف الزوجية فوقع الجميع كما لو قال ذلك للمدخول بها. . . " (3) 4.
وقال ابن قدامة: وإن طلق ثلاثا بكلمة واحدة وقع الثلاث وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين قبل الدخول وبعده، روى ذلك عن ابن عباس، وأبي هريرة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وابن مسعود، وأنس، وهو قول أكثر أهل العلم من التابعين، والأئمة بعدهم (4) .
وقال المرداوي: وإن طلقها ثلاثا مجموعة قبل رجعة مرة واحدة طلقت ثلاثا وإن لم ينوها على الصحيح من المذهب نص عليه مرارا وعليه الأصحاب بل الأئمة الأربعة رحمهم الله وأصحابهم في الجملة (5) .
وقال شيخ الإسلام - في أثناء الكلام على بيان المذاهب في ذلك - الثاني أنه طلاق محرم لازم وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في الرواية المتأخرة عنه، اختارها أكثر أصحابه وهذا قول منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين (6) .
وقال ابن القيم: فاختلف الناس فيها - أي وقوع الثلاث بكلمة واحدة - على أربعة مذاهب: أحدها: أنه يقع وهذا قول الأئمة الأربعة وجمهور التابعين، وكثير من الصحابة. . . (7)
__________
(1) المنتقى 4 \ 3.
(2) تفسير القرطبي 3 \ 129.
(3) المهذب 2
(4) المغني 8 \ 243.
(5) الانصاف 8 \ 453.
(6) مجموع الفتاوى 33 \ 8.
(7) زاد المعاد 4 \ 104.(3/54)
وقال يوسف بن عبد الرحمن بن عبد الهادي: الفصل الأول في أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثا هذا هو الصحيح من المذهب، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره كما سيأتي، وهذا القول مجزوم به في أكثر كتب أصحاب الإمام أحمد كالخرقي والمقنع والمحرر والهداية وغيرهم، من كتب أصحاب الإمام أحمد ولا يعدل عنه.
قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر واحدة بأي شيء تدفعه (1) » ؟ فقال برواية الناس عن ابن عباس أنها ثلاث " وقدمه في الفروع وجزم به في المغني، وأكثرهم لم يحك غيره والله أعلم بالصواب (2) .
وقال أيضا: (3) . الفصل الثاني فيمن قال بهذا القول ومن أفتى به:
قال به ابن عباس غير مرة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعثمان، وعلي، وابن مسعود وهو قول أكثر أهل العلم، وبه قال أحمد، والشافعي، وأبو حنيفة، ومالك، وأنس، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، وقال به من أصحابنا الخرقي، والقاضي وأبو بكر، وابن حامد، وابن عقيل، وأبو الخطاب، والشيرازي، والشيخ موفق الدين، والشيخ مجد الدين - وليس مطلقا كما سيأتي - والشريف حتى أكثر أصحاب الإمام أحمد على هذا القول.
وفي إجماع ابن المنذر ما يدل على أنه إجماع ليس بصريح فيه. وهذا القول اختاره ابن رجب، وقد صنف ردا على من قال بخلافه، والله أعلم بالصواب.
وقال ابن عبد الهادي: قال ابن رجب: أعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من الأئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوي في الحلال والحرام شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة إذا سبق بلفظ واحد (4) .
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: وعلى هذا القول - أي اعتبارها ثلاثا - جل الصحابة وأكثر العلماء منهم الأئمة الأربعة. اهـ (5) وقد استدل لهذا المذهب بالكتاب والسنة والإجماع والآثار والقياس.
أما الكتاب فأولا قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (6) .
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) .
(2) سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث 70
(3) سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث 70
(4) سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث 77
(5) أضواء البيان 1 \ 176.
(6) سورة البقرة الآية 229(3/55)
قال أبو بكر الرازي تحت عنوان: " ذكر الحجاج لإيقاع الطلاق الثلاث معا " قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) . الآية، يدل على وقوع الثلاث معا مع كونه منهيا عنه، وذلك لأن قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) . قد أبان عن حكمة إذا أوقع اثنتين بأن يقول: أنت طالق، أنت طالق في طهر واحد وقد بينا أن ذلك خلاف السنة، فإذا كان في مضمون الآية الحكم بجواز وقوع الاثنتين على هذا الوجه دل ذلك على صحة وقوعهما لو أوقعهما معا، لأن أحدا لم يفرق بينهما.
وفيها الدلالة عليه من وجه آخر وهو قوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (3) فحكم بتحريمها عليه بالثالثة بعد الاثنتين ولم يفرق بين إيقاعهما في طهر واحد أو في أطهار، فوجب الحكم بإيقاع الجميع على أي وجه أوقعه من مسنون أو غير مسنون ومباح أو محظور.
فإن قيل: قد دللت في معنى الآية أن المراد بها بيان المندوب إليه والمأمور به من الطلاق وإيقاع الطلاق الثلاث معا خلاف المسنون عندك، فكيف تحتج بها في إيقاعها على غير الوجه المباح والآية لم تتضمنها على هذا الوجه؟
قيل له: قد دلت الآية على هذه المعاني كلها من إيقاع الاثنتين والثلاث لغير السنة وأن المندوب إليه والمسنون تفريقها في الأطهار وليس يمتنع أن يكون مراد الآية جميع ذلك، ألا ترى أنه لو قال: طلقوا ثلاثا في الأطهار وإن طلقتم جميعا معا وقعن كان جائزا، وإذا لم يتناف المعنيان واحتملتهما الآية وجب حملها عليهما.
فإن قيل: معنى هذه الآية محمول على ما بينه بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (4) وقد بين الشارع الطلاق للعدة، وهو أن يطلقها في ثلاثة أطهار إن أراد إيقاع الثلاث، ومتى خالف ذلك لم يقع طلاقه.
قيل له: نستعمل الآيتين على ما تقتضيانه من أحكامهما فنقول: إن المندوب إليه والمأمور به هو الطلاق للعدة على ما بينه في هذه الآية، وإن طلق لغير العدة وجمع الثلاث وقعن لما اقتضته الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (5) وقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (6) إذ ليس في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ} (7) نفي لما اقتضه هذه الآية الأخرى، على أن في فحوى الآية التي فيها ذكر الطلاق للعدة دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة، وهو قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (8) إلى قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (9) فلولا أنه إذا طلق لغير العدة وقع ما كان ظالما لنفسه بإيقاعه، ولا كان ظالما لنفسه بطلاقه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 230
(4) سورة الطلاق الآية 1
(5) سورة البقرة الآية 229
(6) سورة البقرة الآية 230
(7) سورة الطلاق الآية 1
(8) سورة الطلاق الآية 1
(9) سورة الطلاق الآية 1(3/56)
وفي هذه الآية دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة، ويدل عليه قوله تعالى في نسق الخطاب: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) يعني - والله أعلم - أنه إذا وقع الطلاق على ما أمره الله كان له مخرجا مما أوقع إن لحقه ندم وهو الرجعة، وعلى هذا المعنى تأوله ابن عباس حين قال للسائل الذي سأله وقد طلق ثلاثا: إن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك، ولذلك قال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه -: لو أن الناس أصابوا حد الطلاق ما ندم رجل طلق امرأته.
فإن قيل: لما كان عاصيا في إيقاع الثالث معا لم يقع؛ إذ ليس هو الطلاق المأمور به، كما لو وكل رجل رجلا بأن يطلق امرأته ثلاثا في ثلاثة أطهار لم يقع إذا جمعهن في طهر واحد.
قيل له: أما كونه عاصيا في الطلاق فغير مانع صحة وقوعه لما دللنا عليه فيما سلف، ومع ذلك فإن الله جعل الظهار منكرا من القول وزورا، وحكم مع ذلك بصحة وقوعه، فكونه عاصيا لا يمنع لزوم حكمه والإنسان عاص لله في ردته عن الإسلام، ولم يمنع عصيانه من لزوم حكمه وفراق امرأته، وقد نهاه الله من مراجعتها ضرارا بقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} (3) فلو راجعها وهو يريد ضرارها لثبت حكمها وصحت رجعته.
وأما الفرق بينه وبين الوكيل فهو: أن الوكيل إنما يطلق لغيره وعنه يعبر وليس يطلق لنفسه ولا يملك ما يوقعه. ألا ترى أنه لا يتعلق به شيء من حقوق الطلاق وأحكامه، فلما لم يكن مالكا لما يوقعه، وإنما يصح إيقاعه لغيره من جهة الأمر إذ كانت أحكامه تتعلق بالأمر دونه لم يقع متى خالف الأمر، وأما الزوج فهو مالك الطلاق وبه تتعلق أحكامه وليس يوقع لغيره فوجب أن يقع من حيث كان مالكا للثلاث وارتكاب النهي في طلاقه غير مانع وقوعه كما وصفنا في الظهار والرجعة والردة وسائر ما يكون به عاصيا، ألا ترى أنه لو وطأ أم امرأته بشبهة حرمت عليه امرأته وهذا المعنى الذي ذكرناه من حكم الزوج في ملكه للثلاث من الوجوه التي ذكرنا يدل على أنه إذا أوقعهن معا وقع إذ هو موقع لما ملك. اهـ.
وقال القرطبي: في تفسير قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (4) : ترجم البخاري على هذه الآية باب من أجاز الطلاق الثلاث لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (5) وهذه إشارة منه إلى أن هذا التعديد إنما هو فسحة لهم فمن ضيق على نفسه لزمه. اهـ.
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة البقرة الآية 231
(4) سورة البقرة الآية 229
(5) سورة البقرة الآية 229(3/57)
وقال العيني: وجه الاستدلال به أن قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (1) معناه مرة بعد مرة فإذا جاز الجمع بين اثنتين جاز بين الثلاث وأحسن منه أن يقال، إن قوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (2) عام تناول لإيقاع الثلاث دفعة واحدة، وقال ابن أبي حاتم: أنا يونس بن عبد الأعلى قراءة عليه، أنا ابن وهب، أخبرني سفيان الثوري، حدثني إسماعيل بن سميع، سمعت أبا رزين يقول: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا رسول الله أرأيت قول الله عز وجل: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (3) ، أين الثالثة؟ قال: " التسريح بالإحسان» هذا إسناده صحيح، ولكنه مرسل ورواه ابن مردويه من طريق قيس بن الربيع عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين مرسلا قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحيم، حدثنا أحمد بن يحيى حدثنا عبيد الله بن جرير بن خالد، حدثنا ابن عائشة، عن حماد بن سلمة، عن قتادة عن أنس ابن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا رسول الله ذكر الله الطلاق مرتين، فأين الثالثة؟ قال: " إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان» . اهـ (4) .
وقد سبقت مناقشة ابن القيم لهذه الآية وبين أنها دليل على عدم وقوع الثلاث وذلك عند الكلام عليها في المسألة الأولى.
وقال الشيخ جمال الدين الإمام ردا على الاستدلال بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (5) وبين أنها لا تدل على وقوع الثالث قال (6) : فصل: ومما يبين ويوضح بطلان تركيبهم شرعا ولغة في الطلاق الثلاث وغيره: أن لفظ التعدد فيه منصوب نصب المصدر، فإن تقدير الكلام طلقتك طلاقا ومعنى المصدر في الكلام طلقتك تطليقات ثلاث، ومعنى المصدر في الكلام إنما هو حكاية حال الفعل في صدوره عن الفاعل.
والفعل له حالتان في صدوره عن الفاعل: حالة يكون فيها خبرا عما صدر وقوعه من الفاعل في الماضي وحالة يكون فيها أداة لما يستعمل فيه من إنشاء العقود والفسوخ استعارة أو اشتراكا، فإذا أريد به الحكاية والخبر عن الماضي، فإن أريد به إخبار عن حقيقة الفعل ونفي المجاز عنه اتبع بالمصدر مطلقا.
وأما إذا استعمل الماضي في إنشاء عقد أو فسخ سواء قيل إنه على وجه الاستعارة أو الاشتراك فإن أريد حقيقة العقد أو الفسخ اتبع المصدر مثل: طلقتها تطليقا، وأما إن أريد تعدد العقد أو الفسخ بلفظ واحد في مرة واحدة بمنزلة تعدده بالتكرار مرة بعد مرة وأتبع بالعدد وحده، أو مضافا إلى المصدر المجموع، مثل طلقتك ثلاثا وقصد به التعدد، أو قال في اللعان أشهد بالله خمسا، أو خمس شهادات، أو قال في القسامة أقسم بالله
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) انظر عمدة القارئ الجزء التاسع ص 538.
(5) سورة البقرة الآية 229
(6) بواسطة سير الحاث لابن عبد الهادي 93 \ 94.(3/58)
خمسين يمينا أو قال بعد الصلاة: " سبحان الله " مرة ثم قال: " ثلاثا وثلاثين " وكذا " الحمد لله " وكذا " الله أكبر " وكذا لو قال في اليوم مرة واحدة " سبحان الله وبحمده " وأتبعها مائة مرة لم يكن بتكراره في الأيام والأوقات والعدد: فأما غير الطلاق فلا خلاف فيه، وأما الطلاق فوقع الغلط فيه من بعد الصحابة.
ثانيا: قال النووي: واحتج الجمهور بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (1) .
قالوا: معناه أن المطلق قد يحدث له ندم فلا يمكنه تداركه لوقوع البينونة فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع طلاقه إلا رجعيا فلا يندم (2)
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (3) : ومما يؤيد هذا الاستدلال القرآني ما أخرجه أبو داود بسند صحيح عن طريق مجاهد قال: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال إنه طلق امرأته ثلاثا، فسكت، حتى ظننت أنه سيردها إليه، فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول: يا ابن عباس، الله قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (4) وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت امرأتك. .
وأخرج له أبو داود متابعات عن ابن عباس بنحوه، وهذا تفسير من ابن عباس للآية بأنها يدخل في معناها ومن يتق الله، ولم يجعل الطلاق في لفظة واحدة يجعل له مخرجا بالرجعة، ومن لم يتقه في ذلك بأن جمع الطلقات في لفظ واحد لم يجعل له مخرجا لوقوع البينونة بينها مجتمعة، هذا هو معنى كلامه الذي لا يحتمل غيره، وهو قوي جدا في محل النزاع لأنه مفسر به قرآنا، وهو ترجمان القرآن، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم علمه التأويل (5) » .
ثالثا: قال ابن عبد الهادي: (6) نقلا عن ابن رجب: قوله في سياق آيات {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (7) قال الحسن:
" كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يطلق ويقول: كنت لاعبا، ويعتق ويقول: كنت لاعبا ويزوج ابنه ويقول كنت لاعبا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث من قالهن لاعبا جائزات عليهم: العتاق، والطلاق، والنكاح (8) » فأنز الله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (9) .
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) شرح النووي لصحيح مسلم 10 \ 70 - 71.
(3) أضواء البيان (1 \ 175 - 176.
(4) سورة الطلاق الآية 2
(5) مسند أحمد بن حنبل (1/266) .
(6) سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث 78.
(7) سورة البقرة الآية 231
(8) موطأ مالك النكاح (1166) .
(9) سورة البقرة الآية 231(3/59)
وقال ابن عبد الهادي ردا على ابن رجب في استدلاله بالآيات التي سبقت (1) وأما استدلاله بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) إلى قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) . قال: فليس بمسلم، لأن في حديث ركانة قال له " راجعها " تلا هذه الآية فهذه الآية دليل لنا لا لكم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قضى له بهذا استدل بالآية، فلو كان فيها دليل عليه لم يستدل بها، واستدلاله بالآية يقول ابن عباس، فإن ابن عباس قد صح عنه أنه كان يفتي بهذا القول - أي واحدة - كما تقدم فليس لكم في الآية دليل.
وأما استدلاله بقوله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (4) واستدلاله بالحديث أي حديث الحسن وقد مضى مع الآية - فالآية والحديث ليس فيهما دليل له، لأنه لم يثبت طلاق الثلاث بالكلية، وإنما كان يطلق ويقول كنت لاعبا فنزلت هذه الآية، إن الطلاق لا لعب فيه فليس في هذا دليل.
وأما استدلاله بالآية الآخرى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (5) فليس فيها دليل أيضا، لأن الطلاق هنا لم يذكر أنه بلفظة واحدة، بل الآية فيها إذا أتى بالطلاق مرة بعد أخرى، وليس في الآيات دليل له، بل كلها دليل عليه.
وأما السنة فقد استدلوا بالأدلة الآتية:
الدليل الأول: ما ثبت في الصحيحين (6) في قصة لعان عويمر وزوجته وفيه: فلما فرغا «قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم (7) » - قال ابن شهاب فكانت سنة المتلاعنين. متفق عليه.
قال النووي (8) : واستدل به أصحابنا على أن جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد ليس حراما، وموضع الدلالة أنه لا ينكر عليه إطلاق لفظ الثلاث.
__________
(1) سير الحاث 89 - 90.
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة البقرة الآية 231
(5) سورة البقرة الآية 229
(6) صحيح البخاري وعليه الفتح 9 \ 391 وصحيح مسلم وعليه شرح النووي 10 \ 123.
(7) صحيح البخاري الطلاق (5259) ، صحيح مسلم اللعان (1492) ، سنن النسائي الطلاق (3402) ، سنن أبو داود الطلاق (2245) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2066) ، مسند أحمد بن حنبل (5/331) ، موطأ مالك كتاب الطلاق (1201) ، سنن الدارمي النكاح (2229) .
(8) النووي على مسلم 10 \ 122، ويرجع أيضا إلى الفتح 9 \ 367.(3/60)
وقد يعترض على هذا فيقال: إنما لم ينكره عليه، لأنه لم يصادف الطلاق محلا مملوكا له ولا نفوذا.
ويجاب عن هذا الاعتراض بأنه لو كان الثلاث محرما لأنكر عليه، وقال له: كيف ترسل لفظ الطلاق الثلاث مع أنه حرام، والله أعلم.
وقال ابن نافع من أصحاب مالك: إنما طلقها ثلاثا بعد اللعان، لأنه يستحب إظهار الطلاق بعد اللعان، مع أنه قد حصلت الفرقة بنفس اللعان، وهذا فاسد، وكيف يستحب للإنسان أن يطلق من صارت أجنبية.
وقال محمد بن أبي صفرة المالكي: لا تحصل الفرقة بنفس اللعان، واحتج بطلاق عويمر وبقوله: إن أمسكتها، وتأوله الجمهور كما سبق، والله أعلم، وأما قوله: " قال ابن شهاب فكانت سنة المتلاعنين " فقد تأوله ابن نافع المالكي على أن معناه استحباب الطلاق بعد اللعان كما سبق، وقال الجمهور معناه حصول الفرقة بنفس اللعان.
وقال شيخ الإسلام (1) وأما الملاعن فإن طلاقه وقع بعد البينونة أو بعد وجوب الإبانة التي تحرم بها المرأة أعظم مما يحرم بالطلقة الثالثة، فكان مؤكدا لموجب اللعان، والنزاع إنما هو طلاق من يمكنه إمساكها، لا سيما والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد فرق بينها، فإن كان ذلك قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها، وإن كان بعدها دل على بقاء النكاح، والمعروف أنه فرق بينهما بعد أن طلقها ثلاثا، فدل ذلك على أن الثلاث لم يقع بها، إذ لو وقعت لكانت قد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، وامتنع حينئذ أن يفرق النبي - صلى الله عليه وسلم بينهما لأنهما صارا أجنبيين.
ولكن غاية ما يمكن أن يقال: حرمها عليه تحريما مؤبدا. فيقال: فكان ينبغي أن يحرمها عليه لا يفرق بينهما، فلما فرق بينهما دل على بقاء النكاح، وأن الثلاث لم تقع جميعا، بخلاف ما إذا قيل: إنه يقع بها واحدة رجعية فإنه يمكن فيه حينئذ أن يفرق بينهما.
وقول سهل بن سعد: فأنفذه عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دليل على أنه محتاج إلى إنفاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - واختصاص الملاعن بذلك ولو كان من شرعه أنها تحرم بالثلاث لم يكن للملاعن اختصاص ولا يحتاج إلى إنفاذ، فدل على أنه لما قصد الملاعن بالطلاق الثلاث أن تحرم عليه أنفذ النبي - صلى الله عليه وسلم - مقصوده بل زاده، فإن تحريم اللعان أبلغ من تحريم الطلاق، إذ تحريم اللعان لا يزول وإن نكحت زوجا غيره، وهو مؤبد في أحد قولي العلماء لا يزول بالتوبة.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: بعد ذكره لاستدلال البخاري بحديث عويمر، ووجه الدلالة والاعتراض عليها، والجواب عن الاعتراض من وجهين، وكل ذلك سبق نقله عن النووي إلا الوجه الثاني، قال (2) وبأن الفرقة لم يدل على أنها بنفس اللعان كتاب ولا سنة صريحة ولا إجماع.
__________
(1) مجموع الفتاوى 23 \ 77 - 78 ويرجع أيضا إلى 4 \ 115، زاد المعاد وإغاثة اللهفان 1 \ 314.
(2) أضواء البيان الجزء الأول، ص162 وما بعدها.(3/61)
وبعد أن عرض بعض مذاهب العلماء وأدلتهم ومناقشتها في اللعان هل تحصل به الفرقة أم لا؟ قال: واختلف في هذا اللفظ - أي ما جاء في الحديث المتقدم من قوله: فكانت سنة المتلاعنين - هل هو مدرج من كلام الزهري فيكون مرسلا وبه قال جماعة من العلماء، أو هو من كلام سهل فهو مرفوع متصل، ويؤيد كونه من كلام سهل ما وقع في حديث أبي داود من طريق عياض بن عبد الله الفهري، عن ابن شهاب عن سهل قال: فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ما صنع عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة، قال سهل: «حضرت هذا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان (1) » ، أبدا. هذا الحديث سكت عليه أبو داود والمنذري.
قال الشوكاني في نيل الأوطار ورجاله رجال الصحيح، قال مقيده عفا الله عنه: ومعلوم أن ما سكت عليه أبو داود فأقل درجاته عنده الحسن، وهذه الرواية ظاهرة في محل النزاع، وبها تعلم أن احتجاج البخاري لوقوع الثلاث دفعة بحديث سهل المذكور واقع موقعه لأن المطلع على غوامض إشارات البخاري - رحمه الله - يفهم أن هذا اللفظ الثابت في سنن أبي داود مطابق لترجمة البخاري، وأنه أشار بالترجمة إلى هذه الرواية ولم يخرجها لأنها ليست على شرطه، فتصريح هذا الصحابي الجليل في هذه الرواية الثابتة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنفذ طلاق الثلاث دفعة يبطل بإيضاح أنه لا عبرة بسكوته - صلى الله عليه وسلم - وتقريره له، بناء على أن الفرقة بنفس اللعان كما ترى - وبعد سياقه لبقية المذاهب في الفرقة باللعان قال: وبهذا تعلن أن كون الفرقة بنفس اللعان ليس أمرا قطعيا حتى ترد به دلالة تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - عويمرا العجلاني على إيقاع الثلاث دفعة الثابت في الصحيح، لا سيما وقد عرفت أن بعض الروايات فيها التصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - أنفذ ذلك، وبعد أن عرض مذاهب العلماء في نفقة البائن وسكناها قال:
فإن قيل: إنفاذه - صلى الله عليه وسلم - الثلاث دفعة من الملاعن على الرواية المذكورة لا يكون حجة في غير اللعان، لأن اللعان تجب فيه الفرقة الأبدية، فإنفاذ الثلاث مؤكد لذلك الأمر الواجب بخلاف الواقع في غير اللعان، ويدل لهذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب من إيقاع الثلاث دفعة في غير اللعان، وقال: «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم (2) » كما أخرجه النسائي من حديث محمود بن لبيد.
__________
(1) سنن أبو داود كتاب الطلاق (2248) .
(2) سنن النسائي الطلاق (3401) .(3/62)
فالجواب من أربعة أوجه:
الأول: الكلام في حديث محمود بن لبيد، فإنه تكلم فيه من جهتين:(3/62)
الأولى: أنه مرسل، لأن محمود بن لبيد لم يثبت له سماع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت ولادته في عهده - صلى الله عليه وسلم - وذكره في الصحابة من أجل الرؤية، فقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صريح في السماع.
الثانية: أن النسائي قال بعد تخريجه لهذا الحديث: لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير يعني ابن الأشج عن أبيه، ورواية مخرمة عن أبيه وجادة من كتابه. قال أحمد وابن معين وغيرهما، وقال ابن المديني سمع من أبيه قليلا، قال ابن حجر في التقريب روايته عن أبيه وجادة من كتابه، قاله أحمد وابن معين وغيرهما، وقال ابن المديني: سمع من أبيه قليلا، قال مقيدة عفا الله عنه.
أما الإعلال الأول بأنه مرسل فهو مردود بأنه مرسل صحابي، ومراسيل الصحابة لها حكم الوصل، ومحمود بن لبيد المذكور جل روايته عن الصحابة كما قاله ابن حجر في التقريب وغيره.
والإعلال الثاني بأن رواية مخرمة عن أبيه وجادة من كتابه فيه أن مسلما أخرج في صحيحه عدة أحاديث من رواية مخرمة عن أبيه، والمسلمون مجمعون على قبول أحاديث مسلم إلا بموجب صريح يقتضي الرد، والحق أن الحديث ثابت إلا أن الاستدلال به يرده.
الوجه الثاني: وهو أن حديث محمود ليس فيه التصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - أنفذ الثلاث، ولا أنه لم ينفذها، وحديث سهل على الرواية المذكورة فيه التصريح بأنه أنفذها والمبين مقدم على المجمل كما تقرر في الأصول، بل بعض العلماء احتج لإيقاع الثلاث دفعة بحديث محمود هذا.
ووجه استدلاله به، أنه طلق ثلاثا يظن لزومها، فلو كانت غير لازمة لبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها غير لازمة، لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة.
الوجه الثالث: أن إمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري - رحمه الله - أخرج حديث سهل تحت الترجمة التي هي قوله: " باب من أجاز الطلاق الثلاث " وهو دليل على أنه يرى عدم الفرق بين اللعان وغيره في الاحتجاج بإنفاذ الثلاث دفعة.
الوجه الرابع: هو ما سيأتي من الأحاديث الدالة على وقوع الثلاث دفعة كحديث ابن عمر وحديث الحسن بن علي، وإن كان الكل لا يخلو من كلام. . وبهذا كله تعلم أن رد الاحتجاج بتقريره - صلى الله عليه وسلم - عويمرا العجلاني على إيقاع الثلاثة دفعة، بأن الفرقة بنفس(3/63)
اللعان لا يخلو من نظر، ولو سلمنا أن الفرقة بنفس اللعان فإنا لا نسلم أن سكوته - صلى الله عليه وسلم - لا دليل فيه بل نقول: لو كانت لا تقع دفعة لبين أنها لا تقع دفعة، ولو كانت الفرقة بنفس اللعان كما تقدم.
الدليل الثاني: ثبت في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - «أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلقت فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أتحل للأول؟ قال: " حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول (1) » .
وجه الدلالة: ذكر البخاري هذا الحديث تحت ترجمة " باب من أجاز الطلاق ثلاثا ".
وقال ابن حجر (2) والعيني (3) هو ظاهر في كونه مجموعة.
وقال ابن القيم (4) : في وجه استدلالهم بالحديث: فلم ينكر - صلى الله عليه وسلم - ذلك وهذا يدل على إباحة جمع الثلاث وعلى وقوعها، إذ لو لم يقع لم يتوقف رجوعها إلى الأول على ذوق الثاني عسيلتها، وقد أجاب ابن القيم عن الاستدلال بهذا الدليل (5) فقال: وأما استدلالكم بحديث عائشة - وساق الحديث - فهذا مما لا ننازعكم فيه، نعم، هو حجة على من اكتفى بمجرد عقد الثاني، ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد؟ بل الحديث حجة لنا، فإنه لا يقال: فعل ذلك ثلاثا، وقال ثلاثا إلا لمن فعل وقال مرة بعد مرة، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم، كما يقال: قذفه ثلاثا، وشتمه ثلاثا، وسلم عليه ثلاثا.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (6) : واعترض الاستدلال بهذا الحديث بأنه مختصر من قصة رفاعة وقد قدمنا قريبا أن بعض الروايات الصحيحة دل على أنها ثلاث مفرقة لا مجموعة انتهى. . ومقصوده (7) ببعض الروايات هي رواية مسلم «" أنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات فلم يجعل لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفقة ولا سكنى (8) » . ثم قال:
ورد هذا الاعتراض بأن غير رفاعة قد وقع له مع امرأته نظير ما وقع لرفاعة فلا مانع من التعدد، وكونه الحديث الأخير في قصة أخرى كما ذكر الحافظ ابن حجر في الكلام على قصة رفاعة فإنه قال فيها ما نصه: وهذا الحديث إن كان محفوظا فالواضح من سياقه أنها قصة أخرى، وأن كلا من رفاعة القرظي، ورفاعة النضري وقع له مع زوجه له طلاق فتزوج كلا منهما عبد الرحمن بن الزبير فطلقها قبل أن يمسها، فالحكم في قصتهما متحد مع تغاير الأشخاص.
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5261) ، صحيح مسلم النكاح (1433) .
(2) فتح الباري 9 \ 301.
(3) عمدة القاري 9 \ 541.
(4) زاد المعاد 4 \ 108.
(5) زاد المعاد 4 \ 114.
(6) أضواء البيان 1 \ 167.
(7) أضواء البيان 1 \ 163.
(8) صحيح مسلم الطلاق (1480) ، سنن الترمذي النكاح (1135) ، سنن النسائي الطلاق (3405) ، سنن أبو داود الطلاق (2288) ، مسند أحمد بن حنبل (6/373) ، موطأ مالك الطلاق (1234) .(3/64)
وبهذا يتبين خطأ من وحد بينهما ظنا منه أن رفاعة بن سموءل هو رفاعة بن وهب اهـ.
الدليل الثالث:
ثبت في الصحيح في قصة رفاعة القرظي وامرأته فإن فيه «فقالت: يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي. . " الحديث (1) » ، وقد أخرجه البخاري تحت ترجمة (باب من أجاز الطلاق الثلاث) .
وجه الدلالة: قال الشيخ - محمد الأمين الشنقيطي (2) إن قولها: فبت طلاقي ظاهر في أنه قال لها: أنت طالق البتة.
وأجاب عن ذلك فقال: قال مقيده - عفا الله عنه - الاستدلال بهذا الحديث غير ناهض فيما يظهر، لأنه مرادها بقولها فبت طلاقي أي بحصول الطلقة الثالثة.
ويبينه، أن البخاري ذكر في الأدب المفرد من وجه آخر، أنها قالت: طلقني آخر ثلاث تطليقات وهذه الرواية تبين المراد من قولها فبت طلاقي وأنه لم يكن دفعة واحدة.
وقال شيخ الإسلام (3) وأجاب الأكثرون بأن حديث فاطمة وامرأة رفاعة إنما طلقها ثلاثا متفرقات، هكذا ثبت في الصحيح أن الثالثة آخر ثلاث تطليقات، لم يطلق ثلاثا، لا هذا ولا هذا مجتمعات، وقول الصحابي طلق ثلاثا، يتناول ما إذا طلقها ثلاثا متفرقات بأن يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها، ثم يراجعها ثم يطلقها، وهذا طلاق سني واقع باتفاق الأئمة وهو المشهور على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معنى الطلاق ثلاث وأما جمع الثلاث بكلمة فهذا كان منكرا عندهم إنما يقع قليلا فلا يجوز حمل اللفظ المطلق على القليل المنكر دون الكثير الحق، ولا يجوز أن يقال: يطلق مجتمعات لا هذا ولا هذا بل هذا قول بلا دليل، بل هو خلال الدليل.
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5260) ، صحيح مسلم النكاح (1433) ، سنن الترمذي النكاح (1118) ، سنن النسائي الطلاق (3409) ، سنن ابن ماجه النكاح (1932) ، مسند أحمد بن حنبل (6/38) ، سنن الدارمي الطلاق (2267) .
(2) أضواء البيان: 1 \ 166.
(3) مجموع الفتاوى 33 \ 77.(3/65)
الدليل الرابع
ثبت في الصحيحين من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن «أن فاطمة بنت قيس أخبرته: أن زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا، ثم انطلق إلى اليمن، فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت ميمونة أم المؤمنين فقالوا: إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثا فهل لها نفقة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: " ليس لها نفقة وعليها العدة (1) » .
وفي صحيح مسلم في هذه القصة «قالت فاطمة: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " كم طلقك "؟ قلت ثلاثا. فقال: " صدق، ليس لك نفقة (2) » وفي لفظ له «قالت: يا رسول الله إن زوجي طلقني ثلاثا وإني أخاف أن يقتحم علي (3) » ، وفي لفظ له عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: في المطلقة ثلاثا: " ليس لها نفقة ولا سكنى (4) » .
وفي الصحيحين أيضا عن فاطمة بنت قيس: أنت أبا حفص بن المغيرة طلقها البتة وهو غائب الحديث، وقد جاء تفسير هذه البتة بأنها ثلاث كما سبق. .
وفي المسند أن هذه الثلاث كانت جميعا فروي من حديث الشعبي «أن فاطمة خاصمت أخا زوجها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أخرجها من الدار ومنعها النفقة، فقال: " ما لك ولابنة قيس " قال يا رسول الله إن أخي طلقها ثلاثا جميعا (5) » ، وذكر الحديث
وجه الدلالة: أن لفظ البتة جاء مفسرا بأنه طلقها ثلاثا وأنها مجموعة، فدل على اعتبار وقوع الثلاث مجموعة إذ لو لم يكن ذلك واقعا لبين - صلى الله عليه وسلم - بقاءها في عصمة زوجها فتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه - صلى الله عليه وسلم.
وقد أجاب ابن القيم عن الاستدلال بحديث فاطمة بنت قيس فقال: (6) أما حديث فاطمة بنت قيس فمن أصح الأحاديث مع أن أكثر المنازعين لنا في هذه المسألة قد خالفوه، ولم يأخذوا به، فأوجبوا للمبتوتة النفقة والسكنى، ولم يلتفتوا إلى هذا الحديث ولا عملوا به وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه.
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1480) ، سنن الترمذي النكاح (1135) ، سنن النسائي النكاح (3222) ، مسند أحمد بن حنبل (6/373) ، موطأ مالك الطلاق (1234) ، سنن الدارمي النكاح (2177) .
(2) صحيح مسلم الطلاق (1480) ، سنن الترمذي الطلاق (1180) ، سنن النسائي النكاح (3222) ، سنن أبو داود الطلاق (2290) ، سنن ابن ماجه النكاح (1869) ، مسند أحمد بن حنبل (6/373) ، موطأ مالك الطلاق (1234) ، سنن الدارمي النكاح (2177) .
(3) صحيح مسلم الطلاق (1482) ، سنن النسائي الطلاق (3547) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2033) .
(4) صحيح مسلم الطلاق (1480) ، سنن الترمذي النكاح (1135) ، سنن النسائي النكاح (3244) ، سنن أبو داود الطلاق (2288) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2036) ، مسند أحمد بن حنبل (6/373) ، موطأ مالك الطلاق (1234) .
(5) صحيح مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة (2942) ، سنن الترمذي النكاح (1135) ، سنن النسائي النكاح (3222) ، سنن أبو داود الطلاق (2290) ، مسند أحمد بن حنبل (6/373) ، موطأ مالك الطلاق (1234) ، سنن الدارمي النكاح (2177) .
(6) إغاثة اللهفان: 1 \ 313.(3/66)
وأما الشافعي ومالك فأوجبوا لها السكنى، والحديث قد صرح فيه بأنه لا نفقة لها ولا سكنى فخالفوه ولم يعملوا به، فإن كان الحديث صحيحا فهو حجة عليكم، وإن لم يكن محفوظا بل هو غلط - كما قال بعض المتقدمين - فليس حجة علينا في جمع الثلاث فأما أن يكون لكم على منازعيكم، وليس حجة لهم عليكم فبعيد من الإنصاف والعدل.
هذا مع أننا نتنزل عن هذا المقام، ونقول: الاحتجاج بهذا الحديث فيه نوع سهو من المجتمع به، ولو تأمل طرق الحديث، وكيف وقعت القصة لم يحتج به، فإن الثلاث المذكورة فيه لم تكن مجموعة، وإنما كان قد طلقها تطليقتين من قبل ذلك، ثم طلقها آخر ثلاث، هكذا جاء مصرحا به في الصحيح فروى مسلم في صحيحه عن عبيد الله بن عتبة - أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها - الحديث. . فهذا المفسر يبين ذلك المجمل وهو قوله " طلقها ثلاثا ".
وقال الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس، أنها أخبرته أنها كانت تحت أبي حفص بن المغيرة، وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات، وساق الحديث وذكره أبو داود ثم قال: " وكذلك رواه صالح بن كيسان، وابن جريج، وشعيب بن أبي حمزة، كلهم عن الزهري.
ثم ساق من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الله قال: أرسل مروان إلى فاطمة، فسألها فأخبرته أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على بعض اليمن، فخرج معه زوجها، فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها وذكر الحديث بتمامه، والواسطة بين مروان وبينها هو قبيصة بن ذؤيب، كذلك ذكره أبو داود في طريق أخرى، فهذا بيان حديث فاطمة بنت قيس.
قالوا: ونحن أخذنا به جميعه، ولم نخالف شيئا منه إذ كان صحيحا صريحا لا مطعن فيه ولا معارض له فمن خالفه فهو محتاج إلى الاعتذار، وقد جاء هذا الحديث بخمسة ألفاظ " طلقها ثلاثا " و " طلقها البتة " و " طلقها آخر تطليقات " " وأرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها " و " طلقها ثلاث جميعا " هذه جملة ألفاظ الحديث. . وبالله التوفيق.
فأما اللفظ الخامس وهو قوله: " طلقتها ثلاثا جميعا " فهذا.
أولا: من حديث مجالد عن الشعبي ولم يقل ذلك عن العشبي وغيره، مع كثرة من روى هذه القصة عن الشعبي، فتفرد مجالد على ضعفه من بينهم بقوله: " ثلاثا جميعا " وعلى تقدير صحته فالمراد به أنه اجتمع لها التطليقات الثلاث، لا أنها وقعت بكلمة واحدة، فإذا طلقها آخر ثلاث، صح أن يقال: طلقها ثلاثا جميعا،(3/67)
فإن هذه اللفظة يراد بها تأكيد العدد، وهو الأغلب عليها، لا الاجتماع في الآن الواحد لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (1) فالمراد حصول الإيمان من الجميع، لا إيمانهم كلهم في آن واحد سابقهم ولاحقهم.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بعد سياقه بعض روايات الحديث وتوجيه الاستدلال ورد التوجيه.
قال (2) ورد بعضهم هذا الاعتراض بأن الروايات المذكورة تدل على عدم تفريق الصحابة والتابعين بين صيغ البينونة الثلاث - يعنون لفظ البتة - والثلاث المجتمعة، والثالث المتفرقة، لتعبيرها في بعض الروايات بلفظ طلقني ثلاثا، وفي بعضها بلفظ طلقني البتة، وفي بعضها بلفظ فطلقني آخر ثلاث تطليقات، فلم تخص لفظا منها عن لفظ، لعلمها بتساوي الصيغ، ولو علمت أن بعضها لا يحرم لاحترزت منه.
قالوا: والشعبي قال لها: حدثني عن طلاقك أي عن كيفيته وحاله، فكيف يسأل عن الكيفية ويقبل الجواب بما فيه عنده من إجمال من غير أن يستفسر عنه؟ وأبو سلمة روى عنها الصيغ الثلاث، فلو كان بينها عنده تفاوت لاعترض عليها باختلاف ألفاظها، وتثبت حتى يعلم منها بأن الصيغ وقعت بينونتها فتركه لذلك دليل على تساوي الصيغ المذكورة عنده، هكذا ذكر بعض الأجلاء، والظاهر أن هذا الحديث لا دليل فيه لأن الروايات التي فيها إجمال بينتها الرواية الصحيحة الأخرى، كما هو ظاهر والعلم عند الله تعالى، انتهى وقد سبق في آخر الكلام على الدليل الثالث جواب مشترك لشيخ الإسلام عن الحديث الثالث، وعن هذا الحديث فيرجع إليه.
الدليل الخامس:
ما رواه الشافعي وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم «عن ركانة بن عبد يزيد أنه طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال والله ما أردت إلا واحدة.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " والله ما أردت إلا واحدة؟ ".
__________
(1) سورة يونس الآية 99
(2) أضواء البيان 1 \ 170.(3/68)
قال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم (1) » .
ووجه الاستدلال بهذا الحديث يتضح في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف ركانة، أنه ما أراد بالبتة إلا واحدة، فدل على أنه لو أراد بها أكثر لوقع ما أراده ولو لم يفترق في الحال لم يحلفه، وممن استدل بهذا الحديث لمذهب الجمهور أبو بكر الرازي الجصاص قال: لو لم تقع الثلاث إذا أرادها لما استحلفه بالله ما أردت إلا واحدة. اهـ (2) .
وكذلك ابن قدامة قال: ومتى طلقها ثلاثا بكلمة واحدة أو بكلمات حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره لما روي «أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله طلقت امرأتي سهيمة البتة والله ما أردت إلا واحدة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " والله ما أردت إلا واحدة؟ " فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة فقال: " هو ما أردت " فردها إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم (3) » - رواه الترمذي والدارقطني وأبو داود وقال: الحديث صحيح.
فلو لم تقع الثلاث لم يكن للاستحلاف معنى. اهـ (4) وحديث ركانة هذا وإن تكلم فيه بعض أهل العلم فقد قبله غير واحد منهم، قال أبو الحسن علي بن محمد الطنافسي: " ما أشرف هذا الحديث " (5) .
روى ذلك عنه ابن ماجه في " باب طلاق البتة " من سننه بعد أن ساقه من طريق الزبير بن سعيد عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عن أبيه عن جده.
وقال الحاكم بعد روايته من طريق الزبير بن سعيد هذه (6) قد انحرف الشيخان عن الزبير بن سعيد الهاشمي في الصحيحين.
غير أن لهذا الحديث متابعا من بيت ركانة بن عبد يزيد المطلبي، فيصح به الحديث، حدثناه أبو العباس محمد بن محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعي، أخبرني محمد بن علي بن شافع، عن نافع بن عجير بن عبد يزيد، «أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة، ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني طلقت امرأتي سهيمة البتة والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فطلقها الثانية في زمن عمر، والثالثة في زمن عثمان - رضي الله عنهما - (7) » فقد صح الحديث بهذه الرواية فإن الإمام الشافعي قد أتقنه وحفظه عن أهل بيته والسائب ابن عبد يزيد أبو الشافع بن السائب، وهو أخ ركانة بن عبد يزيد، ومحمد بن علي بن شافع عم الشافعي شيخ قريش في عصره. اهـ. كلام الحاكم وصححه أيضا ابن حبان كما في " التلخيص الحبير " للحافظ ابن حجر هذا بالنسبة لرواية الزبير بن سعيد.
أما رواية نافع بن عجير فقد صححها أبو داود كما جاء في سنن الدارقطني (8) فقد قال بعد أن ساقها: " قال أبو داود هذا حديث صحيح ".
__________
(1) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2206) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) .
(2) أحكام القرآن 1 \ 459.
(3) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2206) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) .
(4) الكافي 2 \ 786.
(5) سنن ابن ماجه 1 \ 632.
(6) المستدرك 1 \ 199 - 200.
(7) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2206) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) .
(8) سنن الدارقطني 2 \ 439.(3/69)
ونقل ذلك عن الدارقطني أبو بكر بن العربي (1) وجزم به في (العارضة) والمنذري في مختصر سنن أبي داود.
والقرطبي في تفسيره (2) واعتمد عليه وتعقب به دعوى الاضطراب في هذا الحديث، وكذلك قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (صححه أبو داود) وممن ارتضى مسلك الإمام أبي داود في هذه الرواية الحافظ أبو عمر بن عبد البر - رحمه الله - فقد قال: كما في تفسير القرطبي (3) رواية الشافعي لحديث ركانة عن عمه أتم، وقد زاد زيادة لا تردها الأصول فوجب قبولها لثقة ناقليها، والشافعي وعمه وجده أهل بيت ركانة كلهم من بني عبد المطلب بن عبد مناف، وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم " اهـ.
وأما الحافظ ابن كثير فيرى: أن الحديث حسن حسبما نقله عنه الشوكاني في " نيل الأوطار " بهذا كله ظهرت قوة رواية نافع بن عجير. . وأما إعلال رواية نافع بن عجير بدعوى جهالته فلا وجه له لأن نافعا هذا بعيد من الجهالة إذ هو نافع بن عجير بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف القرشي، فأخو ركانة ذكره ابن حبان في الثقات، وذكره بعض من صنف في الصحابة قال الحافظ اابن حجر في تهذيب التهذيب: ذكره ابن حبان أيضا في الصحابة، وكذلك أبو القاسم البغوي وأبو نعيم وأبو موسى في الذيل وغيرهم، وقد بينت أمره في مختصري في الصحابة، اهـ. ويعني الحافظ مختصره في الصحابة " الإصابة في تمييز الصحابة " وقد ذكره فيه قال: " ذكره البغوي في الصحابة " وذكره له حديثه في " البتة " وتكلم على رواياته ثم قال: " وذكره ابن حبان في الصحابة " اهـ.
وممن جزم بتصحيح أبي داود لهذا الحديث المجد ابن تيمية في " المنتقى " بشرح نيل الأوطار إلا أنه عزا إليه التحسين والتصحيح معا ونصه (4) " قال أبو داود - أي في حديث نافع بن عجير - هذا حديث حسن صحيح " وفي جزمه هو وابن العربي والمنذري والقرطبي والحافظ ابن حجر بتصحيح أبي داود لهذه الرواية الرد على من قال: بأن أبا داود لم يحكم بصحة حديث نافع ابن عجير، وإنما قال فيه: " هذا أصح من حديث ابن جريج. . . إلخ، وهذا لا يدل على أن الحديث عنده صحيح، فإن حديث ابن جريج ضعيف، وحديث نافع بن عجير ضعيف، وإنما يعني أبو داود أنه أصح الضعيفين عنده " اهـ.
ومما يقوي حديث نافع بن عجير في البتة صنيع الأئمة الذين أوردوه في مصنفاتهم في الحديث، فقد قال الدارمي في مسنده: " باب في الطلاق البتة " وقال أبو داود ما جاء في " البتة " وقال الترمذي: " باب ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتة ".
__________
(1) العارضة على الترمذي 5 \ 135.
(2) تفسير القرطبي 3 \ 132.
(3) تفسير القرطبي 3 \ 132.
(4) نيل الأوطار 6 \ 227.(3/70)
الجواب عن حديث ركانة:
أما حديث ركانة فقد ضعف الإمام أحمد بن حنبل جميع طرقه كما ذكره المنذري، وكذلك ضعفه البخاري قال الترمذي في " باب ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتة " من سننه بعد أن ساقه من طريق الزبير بن سعيد بن عبد الله بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده قال (1) : " وسألت محمدا - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: فيه اضطراب ويروى عن عكرمة عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا " اهـ. وذكر الترمذي في موضع آخر (2) أن حديث ركانة مضطرب فيه، تارة قيل فيه " ثلاثا " وتارة قيل فيه " واحدة ".
فعلى قول هذين الإمامين أحمد بن حنبل والبخاري لا احتجاج برواية " ثلاثا " ولا برواية " البتة " بل غاية ما في الأمر أن تتساقط الروايتان المتعارضتان فيرجع إلى غيرهما كما ذكره الزرقاني، وعلى غير ذلك المسلك الذي سلكه الإمامان أحمد بن حنبل والبخاري نقول: إن لهذا الحديث روايتين:
إحداهما: عند الإمام أحمد بن حنبل " ثنا سعد بن إبراهيم، ثني أبي عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: «طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف طلقتها؟ " قال طلقتها ثلاثا، فقال " في مجلس واحد؟ " قال نعم، قال " فإنما تلك واحدة، فارجعها إن شئت "، قال: فراجعها (3) » فكان ابن عباس يرى إنما الطلاق عند كل طهر.
وقد أجيب عن هذه الرواية فقال البيهقي: " إن هذا الإسناد لا تقوم به الحجة مع ثمانية رووا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فتياه، بخلاف ذلك ومع رواية أولاد ركانة أن طلاق ركانة كان واحدة " يعني البيهقي بأولئك الثمانية الذين رووا فتيا ابن عباس، بخلاف ذلك سعيد بن جبير
__________
(1) مختصر سنن أبي داود 3 \ 122.
(2) جامع الترمذي 5 \ 132.
(3) سنن أبو داود الطلاق (2196) ، مسند أحمد بن حنبل (1/265) .(3/71)
وعطاء بن أبي رباح، ومجاهدا، وعكرمة، وعمرو بن دينار، ومالك ابن الحارث، ومحمد بن إياس ابن البكير ومعاوية بن أبي عياش الأنصاري، وقد ذكر رواياتهم: عنه (1) في " باب من جعل الثلاث واحدة وما ورد في خلاف ذلك " ويعني برواية أولاد ركانة روايتهم أن ركانة إنما طلق امرأته البتة التي جزم أبو داود بأنها أصح، لأنهم أهله وهم أعلم بخبره كما سيأتي.
الثانية: ما أخرجه أبو داود في " سننه " قال: حدثنا أحمد بن صالح، نا عبد الرزاق بن جريج، أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: «طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي - صلى الله عليه وسلم - حمية فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: " أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد، وفلان يشبه منه كذا وكذا؟ ".
قالوا: نعم.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد يزيد " طلقها " ففعل.
قال: " راجع امرأتك أم ركانة وإخوته " فقال: إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله، قال: " قد علمت فراجعها " وتلا: (3) » .
وقد أجيب عن هذه الرواية بما يلي:
1 - إعلالها بجهالة بعض بني أبي رافع: قال الخطابي (4) " في إسناد هذا الحديث مقال، لأن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع ولم يسمه والمجهول لا تقوم به الحجة.
وقال ابن حزم: هذا لا يصح لأنه من غير مسمى من بني أبي رافع، ولاحجة في مجهول، وما نعلم في بني أبي رافع من يحتج به إلا عبيد الله وحده، وسائرهم مجهولون (5) .
وقال ابن القيم: (6) إن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عكرمة، عن ابن عباس، ولأبي رافع بنون، ليس فيهم من يحتج به إلا عبيد الله بن أبي رافع، ولا
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي 7 \ 337.
(2) سنن أبو داود الطلاق (2196) .
(3) سورة الطلاق الآية 1 (2) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}
(4) معالم السنن 3 \ 126.
(5) المحلى - 10 \ 168.
(6) تهذيب سنن أبي داود 3 \ 121.(3/72)
نعلم هل هو هذا أو غيره، ولهذا - والله أعلم - رجح أبو داود حديث نافع بن عجير عليه. اهـ.
وقد يقال، بأن في هذا الإعلال نظرا، لأن كلام أبي داود في غاية التصريح، بأن ترجيحه لحديث نافع ابن عجير إنما هو لأنهم أهل بيت ركانة وأهل بيت الشخص أعلم بخبره. . وقد استجاز الحافظ زين الدين العراقي أن يكون ذلك المجهول الفضل بين عبيد الله بن رافع (1) وتبعه في ذلك ابن حجر في " تقريب التهذيب " والخزرجي في " الخلاصة " لكن ذكر الحافظ ابن رجب في " مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة " أن ذلك الرجل الذي لم يسم في رواية عبد الرزاق: هو محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، قال ابن رجب: وهو رجل ضعيف الحديث بالاتفاق، وأحاديثه منكرة، وقيل إنه متروك فسقط هذا الحديث حينئذ. اهـ.
وأورد له الذهبي في " ميزان الاعتدال " عدة مناكير من روايته عن أبيه عن جده وقال: قال فيه يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء، وقال أبو حاتم: منكر الحديث جدا، وقال ابن عدي: هو في عداد شيعة الكوفة. اهـ.
2 - إن رواية محمد بن ثور الثقة العابد الكبير ليس فيها أنه طلقها ثلاثا وإنما فيها " إني طلقتها " وهي عند الحاكم في تفسير سورة الطلاق قال الحاكم (2) : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الصنعاني بمكة، ثنا علي بن المبارك الصنعاني، ثنا يزيد بن المبارك، ثنا محمد بن ثور، عن ابن جريج، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «طلق عبد يزيد أبو ركانة أم ركانة ثم نكح امرأة من مزينة فجاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها، فأخذت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمية عند ذلك فدعا ركانة وإخوته ثم قال لجلسائه: " أترون كذا من كذا "؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد يزيد " طلقها " ففعل، فقال لأبي ركانة: " ارتجعها " فقال: يا رسول الله إني طلقتها ثلاثا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قد علمت ذلك فارتجعها "، فنزلت (4) » .
ويرى ابن رجب تقديم رواية محمد بن ثور هذه على رواية عبد الرزاق محتجا بأن عبد الرزاق حدث في آخر عمره بأحاديث منكرة جدا في فضائل أهل البيت وذم غيرهم، قال: وكان له ميل إلى التشيع، وهذا الحكم ما يوافق هوى الشيعة.
__________
(1) المستفاد من مبهمات المتن والإسناد: 66.
(2) المستدرك 2 \ 291.
(3) سنن أبو داود الطلاق (2196) .
(4) سورة الطلاق الآية 1 (3) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}(3/73)
3 - أن في حديث ابن جريج غلطا: لأن عبد يزيد لم يدرك الإسلام، نبه على ذلك الحافظ الذهبي في كتابيه " تلخيص المستدرك " و" التجريد لأسماء الصحابة " وقال (1) تعقيبا لقول الحاكم في حديث محمد بن ثور عن ابن جريج المتقدم: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " قال محمد - أي ابن عبيد الله بن أبي رافع - " واه، والخبر خطأ وعبد يزيد لم يدرك الإسلام " وقال (2) عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف: أبو ركانة طلق أم ركانة وهذا لا يصح والمعروف أن صاحب القصة ركانة. اهـ.
4 - حصل الحديث على أنه من قبيل الرواية بالمعنى وذلك أن الناس قد اختلفوا في البتة فقال بعضهم: هي ثلاثة، وقال بعضهم: هي واحدة، وكان الراوي ممن يذهب مذهب الثلاث، فحكى أنه قال: " طلقتها ثلاثا " يريد " البتة " التي حكمها عنده حكم الثلاث ذكر ذلك الخطابي (3) وقال النووي في شرح صحيح مسلم: " ولعل صاحب هذه الرواية الضعيفة اعتقد أن لفظ " البتة " يقتضي الثلاث فرواه بالمعنى الذي فهمه وغلط في ذلك " اهـ.
5 - أن حديث عبد الرزاق لو صح متنه ليس فيه أنه طلقها ثلاثا بكلمة واحدة، فيحمل على أنه طلقها ثلاثا في مرات متعددة، وتكون هذه الواقعة قبل حصر عدد الطلاق في الثلاث، ذكر هذا المسلك الحافظ ابن رجب في كتابه: " مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة ". .
6 - أن قضية ركانة من باب خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن له أن يخص من شاء بما شاء من الأحكام، فقد قال ضمن الأحكام التي خص بها من شاء قال: " وإعادة امرأة أبي ركانة إليه بعد أن طلقها ثلاثا من غير محلل " اهـ.
7 - أن رواية أهل بيت ركانة طلق امرأته البتة أولى بالتقديم، على رواية من يروي أنه إنما طلقها ثلاثا وهذا مسلك أبي داود وابن عبد البر والقرطبي، قال أبو داود في " باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث " (4) " من سننه " حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال «طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها، ففرق بيني وبينه، فأخذت النبي - صلى الله عليه وسلم - حمية. . إلى آخر الحديث (5) » المتقدم ثم قال: وحديث نافع بن عجير وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده، أن ركانة طلق امرأته البتة فردها إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أصح، لأنهم ولد الرجل وأهله أعلم به. إن ركانة إنما طلق امرأته البتة فجعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة. اهـ.
__________
(1) تلخيص المستدرك 2 \ 491.
(2) التجريد 388.
(3) معالم السنن 3 \ 122.
(4) سنن أبي داود 1 / 7، 508.
(5) سنن أبو داود الطلاق (2196) .(3/74)
وأوضح الأمر غاية الإيضاح في " باب في البتة " فقال: حدثنا ابن السرح، وإبراهيم بن خالد الكلبي أبو ثور في آخرين: قالوا ثنا محمد بن إدريس الشافعي، حدثنا عمي محمد بن علي بن شافع، عن عبيد الله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة «أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " والله ما أردت إلا واحدة؟ " فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطلقها الثانية في زمان عمر، والثالثة في زمان عثمان (1) » ، قال أبو داود أوله لفظ إبراهيم، وآخره لفظ ابن السرح، حدثنا محمد بن يونس النسائي، أن عبد الله بن الزبير حدثهم عن محمد بن إدريس، حدثني عمي محمد بن علي عن ابن السائب، عن نافع بن عجير، عن ركانة بن عبد يزيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث.
حدثنا سليمان بن داود العتكي، ثنا جرير بن حازم، عن الزبير بن سعيد، عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده، «أنه طلق امرأته البتة فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: " ما أردت؟ ". قال: واحدة. قال: " آلله "؟ قال: آلله. قال: " هو على ما أردت (2) » . قال أبو داود: وهذا أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثا لأنهم أهل بيته وهم أعلم به، وحديث ابن جريج رواه عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس اهـ.
وقال ابن عبد البر في رواية الشافعي (3) رواية الشافعي لحديث ركانة عن عمه أتم، وقد زاد زيادة لا تردها الأصول فوجب قبولها لثقة ناقليها، والشافعي وعمه وجده أهل بيت ركانة كلهم من بني المطلب بن عبد مناف وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم، اهـ.
وقال القرطبي بعد أن ذكر رواية الدارقطني حديث الشافعي من طريق أبي داود (4) فالذي صح من حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة لا ثلاثا، وطلاق البتة قد اختلف فيه على ما يأتي بيانه فسقط الاحتجاج بغيره والله أعلم. اهـ. . وممن قوي هذا المسلك الحافظ ابن حجر قال (5) : " إن أبا داود رجح أن ركانة إنما طلق امرأته البتة
__________
(1) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2206) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) .
(2) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2208) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) .
(3) تفسير القرطبي: 3 \ 131 - 132.
(4) تفسير القرطبي 3 \ 131.
(5) فتح الباري 9 \ 297.(3/75)
كما أخرجه هو من طريق آل ركانة وهو تعليل قوي لجاوز أن يكون بعض رواته حمل " البتة " على الثلاث فقال " طلقها ثلاثا " فبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس، ولشيخ الإسلام ابن تيمية مناقشة لحديث ركانة هذا، ذكرها في كلامه على المقارنة الإجمالي بين أدلة الفريقين تركنا ذكرها هنا وستذكر في آخر البحث.
وقد أجاب ابن القيم أيضا عن حديث ركانة فقال (1) : وأما حديث نافع بن عجير الذي رواه أبو داود أن ركانة طلق امرأته البتة فأحلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أراد إلا واحدة، فمن العجب تقديم نافع ابن عجير المجهول الذي لا يعرف حاله البتة، ولا يدري من هو " ولا ما هو " على ابن جريج ومعمر وعبد الله بن طاوس في قصة أبي الصهباء، وقد شهد إمام الحديث محمد بن إسماعيل البخاري بأن فيه اضطرابا، هكذا قال الترمذي في الجامع، وذكر عنه في مواضع أنه مضطرب، فتارة يقول: " طلقها ثلاثا " وتارة يقول: " واحدة " وتارة يقول: " البتة " وقال الإمام أحمد: وطرقه كلها ضعيفة، وضعفه أيضا البخاري حكاه المنذري عنه. ثم كيف يقدم هذا الحديث المضطرب المجهول رواته على حديث عبد الرزاق عن ابن جريج لجهالة بعض بني أبي رافع، وأبو رافع هذا وأولاده تابعيون وإن كان عبيد الله أشهرهم، وليس فيه منهم بالكذب؟ !
وقد روى عنه ابن جريج ومن يقبل رواية المجهول، أو يقول رواية العدل عنه تعديل له فهذا حجة عنده، فأما أن يضعفه ويقدم عليه رواية من هو مثله في الجهالة أو أشد فكلا، فغاية الأمر أن يتساقط روايتا هذين المجهولين ويعدل إلى غيرهما، وإذا فعلنا ذلك نظرنا في حديث سعد بن إبراهيم فوجدناه صحيح الإسناد، وقد زالت علة تدليس محمد بن إسحاق بقوله: " حدثني داود بن الحسين " ولكن رواه أبو عبد الله الحاكم في مستدركه وقال إسناده صحيح فوجدنا الحديث لا علة له.
وقد احتج أحمد بإسناده في مواضع، وقد صحح هو وغيره بهذا الإسناد بعينه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ولم يحدث شيئا (2) » وأما داود بن الحصين عن عكرمة فلم تزل الأئمة تحتج به، وقد احتجوا به في حديث " العرايا " فيما شك فيه ولا يجزم به من تقديرها بخمسة أوسق أو دونها، مع كونها على خلاف الأحاديث التي نهى فيها عن بيع الرطب بالتمر فما ذنبه في هذا الحديث سوى رواية ما لا يقولون به وإن قد حتم في عكرمة - ولعلكم فاعلون - جاءكم ما لا قبل لكم به من التناقض فيما احتجتم به أنتم وأئمة الحديث من روايته، وارتضاه البخاري لإدخال حديثه في صحيحه.
__________
(1) زاد المعاد 4 \ 115 - 116. وإغاثة اللهفان 1 \ 315 - 316.
(2) سنن الترمذي النكاح (1143) ، سنن أبو داود الطلاق (2240) ، سنن ابن ماجه النكاح (2009) ، مسند أحمد بن حنبل (1/217) .(3/76)
الدليل السادس
روى الدارقطني من حديث الحسن البصري قال: «حدثنا عبد الله أنه طلق امرأته وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخريين عند القرءين فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا ابن عمر، ما هكذا أمرك الله تعالى، إنك قد أخطأت السنة والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق عند ذلك أو أمسك " فقلت يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: " لا كانت تبين منك وتكون معصية (1) » .
وأجيب بمعارضته بما رواه الدارقطني في سننه: نا محمد بن أحمد بن يوسف بن يزيد الكوفي أبو بكر ببغداد، وأبو بكر أحمد بن دارم، قالا: نا أحمد بن موسى بن إسحاق، نا أحمد بن صبيح الأسدي، نا ظريف ابن ناصح عن معاوية، عن عمار الدهني، «عن أبي الزبير قال: سألت ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثا وهي حائض؟ فقال: أتعرف ابن عمر؟ قلت نعم، قال: طلقت امرأتي ثلاثا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض فردها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السنة (2) » .
ففيه دليل على أنه طلقها ثلاثا بالفعل وردت إلى الواحدة.
وأجاب القرطبي وابن رجب عن حديث تطليق ابن عمر امرأته ثلاثا وهي حائض ورد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك إلى السنة، قال القرطبي: (3) ما نصه: قال الدارقطني - أي في رواته - كلهم من الشيعة، والمحفوظ أن ابن عمر طلق امرأته واحدة في الحيض قال عبيد الله: وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة غير أنه خالف السنة، وكذلك قال صالح بن كيسان، وموسى بن عقبة، وإسماعيل بن أمية، وليث بن سعد، وابن أبي ذئب وابن جريج، وجابر، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن نافع، أن ابن عمر طلق تطليقة واحدة، وكذلك قال الزهري عن سالم، عن أبيه، ويونس بن جبير، والشعبي، والحسن، اهـ كلام القرطبي.
وممن ذكر رواية الليث ابن سعد مسلم بن الحجاج في صحيحه قال: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد، وابن رمح، واللفظ ليحيى قال قتيبة: حدثنا ليث، وقال الآخران: أخبرنا الليث بن سعد، عن
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5332) ، صحيح مسلم الطلاق (1471) ، سنن الترمذي الطلاق (1175) ، سنن النسائي الطلاق (3392) ، سنن أبو داود الطلاق (2185) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2019) ، مسند أحمد بن حنبل (2/124) ، موطأ مالك الطلاق (1220) ، سنن الدارمي الطلاق (2262) .
(2) سنن الترمذي الطلاق (1175) ، سنن النسائي الطلاق (3400) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) .
(3) تفسير القرطبي: 3 \ 130.(3/77)
نافع «عن عبد الله، أنه طلق امرأة له وهي حائض تطليقة واحدة فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض عنده حيضة أخرى ثم يمهلها حتى تطهر من حيضتها، فإن أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء وزاد ابن رمح في روايته وكان عبد الله إذا سئل عن ذلك قال لأحدهم: أما أنت إن طلقت امرأتك مرة أو مرتين فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني بهذا، وإن كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجها غيرك وعصيت الله فيما أمرك من طلاق امرأتك (1) » .
قال مسلم: جود الليث في قوله " تطليقة واحدة " يعني مسلم بذلك كما بينه النووي أن الليث حفظ وأتقن قدر الطلاق الذي لم يتقنه غيره، ولم يهمله كما أهمله غيره، ولا غلط فيه وجعله ثلاثا كما غلط فيه غيره.
وقد أطال الدارقطني في سرد الروايات عن الأئمة المذكورين وأتى في ذلك بما لا يدع مجالا للشك في أن تطليقة ابن عمر لامرأته كانت واحدة، كما صرح النووي في شرح صحيح مسلم، بأن الروايات الصحيحة التي ذكرها مسلم وغيره أن ابن عمر إنما طلق امرأته واحدة.
وقال (2) . الحافظ ابن رجب في الرد على رواية الثلاث أيضا: قد كان طوائف من الناس يعتقدون أن طلاق ابن عمر كان ثلاثا، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ردها عليه لأنه لم يوقع الطلاق في الحيض، وقد روى ذلك عن أبي الزبير أيضا من رواية معاوية بن عمار الدهني عنه، فلعل أبا الزبير اعتقد هذا حقا فروى تلك اللفظة بالمعنى الذي فهمه، وروى ابن لهيعة هذا الحديث عن أبي الزبير فقال عن جابر أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، وأخطأ في ذكر جابر في هذا الإسناد وتفرد بقوله: " فإنها امرأته " ولا يدل على عدم وقوع الطلاق إلا على تقدير أن يكون ثلاثا، فقد اختلف في هذا الحديث على أبي الزبير، وأصحاب ابن عمر الثقات الحفاظ العارفون به الملازمون له لم يختلف عليهم فيه.
فروى أيوب عن ابن سيرين قال: مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهمهم أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثا وهي حائض فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يراجعها، فجعلت لا أتهمهم ولا أعرف الحديث حتى لقيت أبا غلاب يونس بن جبير وكان ذا ثبت، فحدثني أنه سأل ابن عمر فحدثه أنه طلقها واحدة، خرجه مسلم وفي رواية: قال له ابن سيرين: فجعلت لا أعرف للحديث وجها ولا أفهمه، وهذا يدل على أنه كان قد شاع بين الثقات من غير أهل الفقه، والعلم، أن طلاق ابن عمر كان ثلاثا ولعل أبا الزبير من هذا القبيل، ولذلك كان رافع يسأل كثيرا عن طلاق ابن عمر، هل كان ثلاثا أو واحدة؟ ولما قدم نافع مكة أرسلوا إليه من مجلس عطاء يسألونه عن ذلك.
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5332) ، صحيح مسلم الطلاق (1471) ، سنن النسائي الطلاق (3557) ، سنن أبو داود الطلاق (2185) ، سنن ابن ماجه كتاب الطلاق (2022) ، مسند أحمد بن حنبل (2/124) ، موطأ مالك الطلاق (1220) ، سنن الدارمي الطلاق (2262) .
(2) جامع العلوم والحكم (56 - 57) شرح حديث '' من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ''.(3/78)
واستنكار ابن سيرين لرواية الثلاث يدل على أنه لم يعرف قائلا معتبرا يقول: إن الطلاق المحرم غير واقع، وأن هذا القول لا وجه له، قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث، وسئل عمن قال: لا يقع الطلاق المحرم لأنه يخالف ما أمر به فقال: هذا قول سوء رديء ثم ذكر قصة ابن عمر وأنه احتسب بطلاقه في الحيض وقال أبو عبيدة: الوقوع هو الذي عليه العلماء مجمعون في جميع الأمصار حجازهم وتهامهم ويمنهم وشامهم وعراقهم ومصرهم، وحكى ابن المنذر ذلك عن كل من يحفظ قوله من أهل العلم، إلا ناسا من أهل البدع لا يعتد بهم.
وقد أجاب ابن القيم عن حديث ابن عمر من رواية الحسن فقال (1) : وأما حديث الحسن عن ابن عمر فهو أمثل هذه الأحاديث الضعاف، قال الدارقطني: حدثنا علي بن محمد بن عبيد الحافظ، حدثنا محمد بن شاذان الجوهري، حدثنا يعلى بن منصور، حدثنا شعيب بن زريق، أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن عمر - فذكره - وشعيب وثقه الدارقطني، وقال أبو الفتح الأزدي فيه لين وقال البيهقي وقد روى هذا الحديث، وهذه الزيادات انفرد بها شعيب وقد تكلموا فيه.
ولا ريب أن الثقات الأثبات الأئمة رووا حديث ابن عمر فلم يأت أحد منهم بما أتى به شعيب البتة، ولهذا لم يرو حديثه هذا أحد من أصحاب الصحاح، ولا السنن.
الدليل السابع:
روى الدارقطني من حديث إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده، قال: «" طلق بعض آبائي امرأته ألفا فانطلق بنوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا رسول الله إن أبانا طلق امرأته ألفا، فهل له من مخرج؟ فقال: " إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجا، بانت منه بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه» .
قال ابن القيم (2) وأما حديث عبادة بن الصامت الذي رواه الدارقطني فقد قال عقيب إخراجه: رواته مجهولون وضعفاء، إلا شيخنا وابن عبد الباقي.
__________
(1) إغاثة اللهفان 1 \ 318.
(2) إغاثة اللهفان: 1 \ 317.(3/79)
الدليل الثامن:
روى الدارقطني من حديث حماد بن زيد، حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: سمعت أنس بن مالك يقول، سمعت معاذ بن جبل يقول سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا معاذ من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ألزمناه بدعته» .
ورد بأن في إسناده إسماعيل بن أمية الذراع وهو ضعيف.
قال ابن القيم (1) . وأما حديث معاذ بن جبل فلقد وهت مسألة يحتج فيها بمثل هذا الحديث الباطل، والدارقطني إنما رواه للمعرفة وهو أجل من أن يحتج به، وفي إسناده إسماعيل ابن أمية الذراع، يرويه عن حماد قال الدارقطني بعد روايته: إسماعيل بن أمية ضعيف متروك الحديث.
الدليل التاسع:
روى الدارقطني من حديث زاذان عن علي - رضي الله عنه - قال: «سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا طلق البتة فغضب، وقال: أتتخذون آيات الله هزوا، أو دين الله هزوا أو لعبا، ومن طلق البتة ألزمناه ثلاثا، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره» .
__________
(1) إغاثة اللهفان 1 \ 317(3/80)
ورد هذا (1) . الحديث بأن فيه إسماعيل بن أمية القرشي، قال فيه الدارقطني كوفي ضعيف.
وقال ابن القيم: قلت وفي إسناده مجاهيل وضعفاء.
وأما الإجماع فقد نقله كثير من العلماء في مسألة النزاع وقالوا إنه مقدم على خبر الواحد، قال الشافعي: الإجماع أكثر من الخبر المنفرد، وذلك أن الخبر مجوز الخطأ والوهم على رواية بخلاف الإجماع فإنه معصوم، وممن حكى الإجماع على لزوم الثلاث في الطلاق بكلمة واحدة، أبو بكر الرازي، والباجي، وابن العربي وابن رجب.
قال أبو بكر الرازي (2) . فالكتاب والسنة وإجماع السلف توجب إيقاع الثلاث معا وإن كان معصية.
وقال الباجي: من أوقع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة لزمه ما أوقعه من الثلاث وبه قال جماعة الفقهاء وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه عن بعض المبتدعة يلزمه طلقة واحدة، وعن بعض أهل الظاهر لا يلزمه شيء وإنما يروي هذا عن الحجاج بن أرطاة ومحمد بن إسحاق، والدليل على ما نقوله: إجماع الصحابة لأن هذا مروي عن ابن عمر وعمران بن حصين، وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبي هريرة، وعائشة - رضي الله تعالى عنهم - ولا مخالف لهم وما روي عن ابن عباس في ذلك من رواية طاوس، قال فيه بعض المحدثين هو وهم، وقد روى ابن طاوس عن أبيه وكذا عن ابن وهب خلاف ذلك، وإنما وقع الوهم في التأويل اهـ (3) . .
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في ضمن أجوبته عن حديث ابن عباس قال: إنه حديث مختلف في صحته فكيف يقدم على إجماع الأمة، ولم يعرف لما في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين وقد سبق العصران الكريمان، والاتفاق على لزوم الثلاث، فإن رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم نقل العدل عن العدل، ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا، اهـ (4) . .
وقال بعد ما بين أن المراد بالطلاق في الآية الكريمة {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (5) . المشروع، قال: قد نقول بأن غيره ليس بمشروع لولا تظاهر الأخبار (6) . وقال ابن رجب في " بيان مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة ": " اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة إذا سيق بلفظ واحد " اهـ.
__________
(1) إغاثة اللهفان 1 \ 317
(2) أحكام القرآن 1 \ 459
(3) المنتقى 4 \ 3
(4) الناسخ والمنسوخ
(5) سورة البقرة الآية 229
(6) أحكام القرآن 1 \ 81(3/81)
وقد أجاب ابن القيم عن الاستدلال بالإجماع مبينا وجوه نقضه فقال: وبيان هذا من وجوه:
أحدها: ما رواه أبو داود وغيره من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - " إذ قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد، فهي واحدة " وهذا الإسناد على شرط البخاري. . وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب قال: دخل الحكم بن عيينة على الزهري بمكة، وأنا معهم، فسألوه عن البكر تطلق ثلاثا؟ فقال: سئل عن ذلك ابن عباس، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، فكلهم قالوا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، قال: فخرج الحكم وأنا معه فأتى طاوسا وهو في المسجد، فأكب عليه فسأله عن قول ابن عباس فيها، وأخبره بقول الزهري، قال: فرأيت طاوسا رفع يديه تعجبا من ذلك وقال: والله ما كان ابن عباس يجعلها إلا واحدة.
أخبرنا ابن جريج قال: وأخبرني حسن بن مسلم عن ابن شهاب أن ابن عباس قال: " إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا، ولم يجمع، كن ثلاثا، قال: فأخبرت طاوسا، فقال: أشهد ما كان ابن عباس يراهن إلا واحدة ".
فقوله: " إذا طلق ثلاثا ولم يجمع كن ثلاثا " أي إذا كن متفرقات، فدل على أنه إذا جمعهن كانت واحدة، وهذا هو الذي حلف عليه طاوس أن ابن عباس كان يجعله واحدة، ونحن لا نشك أن ابن عباس صح عنه خلاف ذلك، وأنها ثلاث، فهما روايتان ثابتتان عن ابن عباس بلا شك.
الوجه الثاني: أن هذا مذهب طاوس، قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يرى طلاقا ما خالف وجه الطلاق، ووجه العدة، وأنه كان يقول: يطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا إسماعيل بن علية عن ليث عن طاوس وعطاء أنهما قالا: " إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة ".
الوجه الثالث: أنه قول عطاء بن أبي رباح، قال ابن أبي شيبة: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا إسماعيل عن قتادة عن طاوس وعطاء وجابر بن زيد أنهم قالوا: " إذا طلقها ثلاثا(3/82)
قبل أن يدل بها فهي واحدة ".
الوجه الرابع: أنه قول جابر بن زيد كما تقدم.
الوجه الخامس: أن هذا مذهب محمد بن إسحاق عن داود بن الحسين، حكاه عنه الإمام أحمد في رواية الأثرم، ولفظه: حدثنا سعيد بن إبراهيم عن أبيه عن ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس «" أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، فجعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة (1) » قال أبو عبد الله: " وكان هذا مذهب ابن إسحاق، يقول: خالف السنة، فيرد إلى السنة ".
الوجه السادس: أنه مذهب إسحاق بن راهوية في البكر، قال محمد بن نصر المروزي في كتاب " اختلاف العلماء " له: وكان إسحاق يقول: طلاق الثلاث للبكر واحدة، وتأول حديث طاوس عن ابن عباس «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر يجعل واحدة (2) » ، على هذا قال: " فإن قال لها - ولم يدخل بها - أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فإن سفيان وأصحاب الرأي، والشافعي، وأحمد، وأبا عبيد قالوا: بانت منه بالأولى، وليست الثنتان بشيء، لأن غير المدخول بها تبين بواحدة، ولا عدة عليها ".
وقال مالك، وربيعة، وأهل المدينة، والأوزاعي، وابن أبي ليلى " إذا قال لها ثلاث مرات أنت طالق، نسقا متتابعة، حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، فإن هو سكت بين التطليقتين، بانت بالأولى، ولم تلحقها الثانية " فصار في وقوع الثلاث بغير المدخول بها ثلاث مذاهب للصحابة والتابعين، ومن بعدهم:
أحدها: أنها واحدة، سواء قالها بلفظ واحد، أو بثلاثة ألفاظ.
الثاني: أنها ثلاث، سواء أوقع الثلاث بلفظ واحد، أو بثلاثة ألفاظ.
الثالث: أنه إن أوقعها بلفظ واحد فهي ثلاث، وإن أوقعها بثلاثة ألفاظ فهي واحدة.
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2196) .
(2) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) .(3/83)
الوجه السابع: أن هذا مذهب عمرو بن دينار في الطلاق قبل الدخول، قال ابن المنذر في كتابه الأوسط: وكان سعيد بن جبير، وطاوس، وأبو الشعثاء، وعطاء، وعمرو بن دينار يقولون: " من طلق البكر ثلاثا فهي واحدة ".
الوجه الثامن: أنه مذهب سعيد بن جبير، كما حكاه ابن المنذر وغيره عنه، وحكاه الثعلبي عن سعيد بن المسيب وهو غلط عليه، إنما هو مذهب سعيد بن جبير.
الوجه التاسع: أنه مذهب الحسن البصري الذي استقر عليه، قال ابن المنذر: واختلف في هذا الباب عن الحسن، فروى عنه كما رويناه عن أصحاب النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - وذكر قتادة، وحميد، ويونس عنه: أنه رجع عن قوله بعد ذلك، فقال: واحدة بائنة، وهذا الذي ذكره ابن المنذر رواه عبد الرزاق في المصنف، فقال: أخبرنا معمر عن قتادة قال: سألت الحسن عن الرجل يطلق البكر ثلاثا، فقال الحسن (1) . وما بعد الثلاث فقال: صدقت، وما بعد الثلاث، فأفتى الحسن بذلك زمنا، ثم رجع فقال: واحدة تبينها. . ويخطبها، فقال به حياته (2) . الوجه العاشر: أنه مذهب عطاء بن يسار، قال عبد الرزاق: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير عن يعمر بن أبي عياش قال: سأل رجل عطاء بن يسار عن الرجل يطلق البكر ثلاثا، فقال إنما طلاق البكر واحدة، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص أنت قاص، الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره، فذكر عطاء مذهبه، وعبد الله بن عمرو مذهبه.
__________
(1) في المطبوعة '' ويحطها مقالة جناية '' وعلى كل حال فالجملة غير واضحة، فلتحرر.
(2) وقد صحح نص الأثر من نسخة المصنف نفسه 6 \ 332(3/84)
الوجه الحادي عشر: أنه مذهب خلاس بن عمرو، حكاه بشر بن الوليد عن أبي يوسف عنه.
الوجه الثاني عشر: أنه مذهب مقاتل الرازي (1) حكاه عنه المازري في كتابه " المعلم بفوائد مسلم " قال الخطيب: حدث عن عبد الله بن المبارك، وعباد بن العوام، ووكيع بن الجراح، وأبي عاصم النبيل، روى عنه الإمام أحمد، والبخاري في صحيحه وكان ثقة.
الوجه الثالث عشر: أنه إحدى الروايتين عن مالك، حكاها عنه جماعة من المالكية، منهم التلمساني صاحب " شرح الخلاف "، وعزاها إلى ابن أبي زيد: أنه حكاها رواية عن مالك، وحكاها غيره قولا في مذهب مالك، وجعله شاذا. الوجه الرابع عشر: أن ابن مغيث المالكي حكاه في كتاب " الوثائق " وهو مشهور عند المالكية، عن بضعة عشر فقيها من فقهاء طليطلة المفتين على مذهب مالك، هكذا قال، واحتج لهم بأن قوله: أنت طالق ثلاثا كذب؛ لأنه لم يطلق ثلاثا، ولم يطلق إلا واحدة، كما لو قال: حلفت ثلاثا، كانت يمينا واحدة، ثم ذكر حججهم من الحديث.
الوجه الخامس عشر: أن أبا الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم اللخمي المشيطي، صاحب كتاب الوثائق الكبير الذي لم يصنف في الوثائق مثله، حكى الخلاف فيها عن السلف والخلف حتى عن المالكية أنفسهم، فقال: وأما من قال: أنت طالق ثلاثا؛ فقد بانت منه، قال " ألبتة " أو لم يقل، قال: وقال بعض الموثقين - يريد المصنفين في الوثائق - اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق، كما يلزمه من الطلاق؟ فالجمهور من
__________
(1) قوله - مقاتل الرازي - كذا بالأصل المطبوع.(3/85)
العلماء على أنه يلزمه الثلاث، وبه القضاء، وعليه الفتوى، وهو الحق الذي لا شك فيه، قال: وقال بعض السلف: يلزمه من ذلك طلقة واحدة، وتابعهم على ذلك قوم من الخلف من المفتيين بالأندلس، قال: واحتجوا على ذلك بحجج كثيرة، وأحاديث مسطورة أضربنا عنها، واقتصرنا على الصحيح منها، فمنها: ما رواه داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس: «أن ركانة طلق زوجته عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا في مجلس واحد فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما هي واحدة، فإن شئت فدعها، وإن شئت فارتجعها (1) » ثم ذكر حديث أبي الصهباء وذكر بعض تأويلاته التي ذكرناها.
الوجه السادس عشر: أن أبا جعفر الطحاوي حكى القولين في كتاب " تهذيب الآثار " فقال: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا معا - ثم ذكر حديث أبي الصهباء - ثم قال: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا معا، فقد وقعت عليها واحدة، إذا كانت في وقت سنة، وذلك أن تكون طاهرا في غير جماع، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث وقالوا: لما كان الله - عز وجل - إنما أمر عباده أن يطلقوا لوقت على صفة فطلقوا على غير ما أمرهم به لم يقع طلاقهم، ألا ترى لو أن رجلا أمر رجلا أن يطلق امرأته في وقت فطلقها في غيره، أو أمره أن يطلقها على شريطة فطلقها على غير تلك الشريطة أن طلاقه لا يقع إذ كان قد خالف ما أمر به. . .، ثم ذكر حجج الآخرين، والجواب عن حجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدين في إنصاف مخالفيهم والبحث معهم، ولم يسلك طريق جاهل ظالم معتد، يبرك على ركبتيه ويفجر عينيه ويعول بمنصبه لا بعلمه، وبسوء قصده لا بحسن فهمه، وقول: القول بهذه المسألة كفر يوجب ضرب العنق ليبهت خصمه ويمنعه عن بسط لسانه، والجري معه في ميدانه، والله تعالى عند لسان كل قائل، وهو له يوم الوقوف بين يديه عما قاله سائل.
الوجه السابع عشر: أن شيخنا حكى عن جده أبي البركات: أنه كان يفتي بذلك أحيانا سرا، وقال في بعض مصنفاته: هذا قول بعض أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد.
قلت: أما المالكية فقد حكينا الخلاف عنهم، وأما بعض أصحاب أبي حنيفة فإنه محمد بن مقاتل من الطبقة الثانية من أصحاب أبي حنيفة، وأما بعض أصحاب أحمد، فإن كان أراد إفتاء جده بذلك أحيانا، وإلا فلم أقف على نقل لأحد منهم.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/265) .(3/86)
الوجه الثامن عشر: قال أبو الحسن النسفي (1) في وثائقه - وقد ذكر الخلاف في المسألة ثم قال: ومن بعض حججهم أيضا في ذلك: أن الله - سبحانه وتعالى - أمر بتفريق الطلاق بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) وإذا جمع الإنسان ذلك في كلمة، كان واحدة وكان ما زاد عليها لغوا، كما جعل مالك - رحمه الله - رمي السبع الجمرات في مرة واحدة جمرة واحدة، وبني عليها أن الطلاق عندهم مثله، قال: وممن نصر هذا القول من أهل الفتيا بالأندلس: أصبغ بن الحباب، ومحمد بن بقي، ومحمد بن عبد السلام الخشني، وابن زنباع، مع غيرهم من نظرائهم هذا لفظه.
الوجه التاسع عشر: أن أبا الوليد هشام بن عبد الله بن هشام الأزدي القرطبي صاحب كتاب " مفيد الحكام فيما يعرض لهم من النوازل والأحكام " ذكر الخلاف بين السلف والخلف في هذه المسألة حتى ذكر الخلاف فيها في مذهب مالك نفسه، وذكر من كان يفتي بها من المالكية، والكتاب مشهور معروف عند أصحاب مالك، كثير الفوائد جدا.
ونحن نذكر نصه فيه بلفظه، فنذكر ما ذكره عن ابن مغيث، ثم نتبعه كلامه، ليعلم أن النقل بذلك معلوم متداول بين أهل العلم، وأن من قصر في العلم باعه، وطال في الجهل والظلم ذراعه يبادر إلى الجهل والتكفير والعقوبة، جهلا منه وظلما، ويحق له وهو الدعي في العلم وليس منه أقرب رحما.
قال ابن هشام: قال ابن مغيث: الطلاق ينقسم على ضربين: طلاق السنة، وطلاق البدعة، فطلاق السنة: هو الواقع على الوجه الذي ندب الشرع إليه، وطلاق البدعة: نقيضه، وهو أن يطلقها في حيض أو نفاس، أو ثلاثا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق. .، ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق؟ فقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود، يلزمه طلقة واحدة، وقاله ابن عباس، وقال: قوله - ثلاثا - لا معنى له؛ لأنه لم يطلق ثلاث مرات، وإنما يجوز قوله في " ثلاث " إذا كان مخبرا عما مضى فيقول: طلقت ثلاثا، يخبر عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات، كرجل قال: قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات، فذلك يصح، ولو قرأها مرة واحدة، فقال: قرأتها ثلاث مرات لكان كاذبا، وكذلك لو حلف بالله.
__________
(1) في نسخة الواسطي.
(2) سورة البقرة الآية 229(3/87)
تعالى ثلاثا يردد الحلف، كانت ثلاثة أيمان، ولو قال: أحلف بالله ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة فالطلاق مثله، ومثله.
قال الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنهما - روينا ذلك كله عن ابن وضاح، وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع، شيخ هدى، ومحمد بن بقي بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخشني فقيه عصره، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة.
وكان من حجة ابن عباس: أن الله تعالى فرق في كتابه لفظ الطلاق، فقال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) . يريد أكثر الطلاق الذي يمكن بعده الإمساك بالمعروف وهو الرجعة في العدة، ومعنى قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (2) يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضي عدتها، وفي ذلك إحسان إليه وإليها إن وقع ندم منهما، قال الله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (3) . يريد الندم على الفرقة، والرغبة في المراجعة، وموقع الثلاث غير محسن؛ لأنه ترك المندوحة التي وسع الله تعالى بها ونبه عليها، فذكر الله - سبحانه وتعالى - لفظ الطلاق مفرقا؛ فدل على أنه إذا جمع أنه لفظ واحد، فتدبره.
وقد يخرج من غير ما مسألة من الديانة ما يدل على ذلك.
من ذلك قول الرجل: ما لي صدقة في المساكين: أن الثلث من ذلك يجزيه. .، هذا كله لفظ صاحب الكتاب بحروفه، أفترى الجاهل الظالم المعتدي يجعل هؤلاء كلهم كفارا مباحة دماؤهم؟ سبحانك، هذا بهتان عظيم، بل هؤلاء من أكابر أهل العلم والدين، وذنبهم عند أهل العمى، أهل التقليد: كونهم لم يرضوا لأنفسهم بما رضي به المقلدون، فردوا ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله.
" وتلك شكاة ظاهر عنك عارها ".
الوجه العشرون: أن هذا مذهب أهل الظاهر: داود، وأصحابه وذنبهم عند كثير من الناس أخذهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم، ونبذهم القياس وراء ظهورهم، فلم يعبأوا به شيئا، وخالفهم أبو محمد بن حزم في ذلك، فأباح جمع الثلاث وأوقعها.
فهذه عشرون وجها في إثبات النزاع في هذه المسألة بحسب بضاعتنا المزجاة من الكتب، وإلا فالذي لم نقف عليه من ذلك كثير، وقد حكى ابن وضاح وابن مغيث ذلك عن علي، وابن مسعود، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عباس، ولعله إحدى الروايتين عنهم، وإلا فقد صح بلاشك عن ابن مسعود،
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة الطلاق الآية 1(3/88)
وعلي وابن عباس: الإلزام بالثلاث لمن أوقعها جملة، وصح عن ابن عباس أنه جعلها واحدة، ولم نقف على نقل صحيح عن غيرهم من الصحابة بذلك؛ فلذلك لم نعد ما حكي عنهم في الوجوه المبينة للنزاع، وإنما نعد ما وقفنا عليه في مواضعه، ونعزوه إليها، وبالله التوفيق.
وأما الآثار ففتاوي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
قال ابن أبي شيبة في مصنفه: نا علي بن مسهر، عن شقيق بن أبي عبد الله، عن أنس قال: كان عمر إذا أتى برجل قد طلق امرأته ثلاثا في مجلس أوجعه ضربا وفرق بينهما.
نا وكيع، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن زيد بن وهب، أن رجلا بطالا كان بالمدينة طلق امرأته ألفا فرجع إلى عمر فقال: إنما كنت ألعب؛ فعلا عمر رأسه بالدرة وفرق بينهما.
نا وكيع، والفضل بن دكين، عن جعفر بن برقان، عن معاوية بن أبي يحيى، قال: جاء رجل إلى عثمان فقال: إني طلقت امرأتي مائة، قال: ثلاث تحرمها عليك، وسبعة وتسعون عدوان.
نا وكيع عن الأعمش عن حبيب قال: جاء رجل إلى علي فقال: إني طلقت امرأتي ألفا، قال: بانت منك بثلاث، وأقسم سائرها بين نسائك.
نا ابن فضيل، عن الأعمش، عن حبيب، عن رجل من أهل مكة، قال: جاء رجل إلى علي فقال: إني طلقت امرأتي ألفا، قال: الثلاث تحرمها عليك، واقسم سائرهن بين أهلك.
نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: أتاه رجل فقال: إني طلقت امرأتي تسعة وتسعين مرة، قال: فما قالوا لك قال: قالوا قد حرمت عليك، قال: فقال عبد الله: لقد أرادوا أن يبقوا عليك، بانت منك بثلاث وسائرهن عدوان.
نا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة تطليقة؟ قال: حرمتها ثلاث، وسبعة وتسعون عدوان.
نا وكيع، عن سفيان عن منصور والأعمش، عن إبراهيم عن علقمة، قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إني طلقت امرأتي مائة، فقال: بانت منك بثلاث، وسائرهن معصية.
نا محمد بن فضيل، عن عاصم، عن ابن سيرين، عن علقمة عن عبد الله، قال: أتاه رجل فقال: إنه كان بيني وبين امرأتي كلام فطلقتها عدد النجوم، قال: تكلمت بالطلاق؟ قال: نعم، قال: قال عبد الله قد بين الله الطلاق فعمن أخذته؟ فمن طلق كما أمره الله فقد تبين له، ومن لبس على نفسه جعلنا به لبسه، ولا تلبسوا على أنفسكم ونتحمله عنكم هو كما تقولون.(3/89)
نا أسباط بن محمد، عن أشعث، عن نافع، قال: قال ابن عمر: من طلق امرأته ثلاثا فقد عصى ربه، وبانت منه امرأته.
نا محمد بن بشر أبي معشر قال: نا سعيد المقبري قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر وأنا عنده فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنه طلق امرأته مائة مرة، قال: بانت منك بثلاث، وسبعة وتسعون يحاسبك الله بها يوم القيامة.
نا ابن نمير، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن ابن عباس، أتاه رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا؛ فقال: إن عمك عصى الله فأندمه، فلم يجعل له مجرجا.
نا عباد بن العوام عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: كنت جالسا عند ابن عباس فأتاه رجل فقال: يا ابن عباس، إنه طلق امرأته مائة مرة، وإنما قلتها مرة واحدة فتبين مني بثلاث أم هي واحدة؟ فقال: بانت بثلاث، وعليك وزر سبعة وتسعين.
نا وكيع عن سفيان قال: حدثني عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني طلقت امرأتي ألفا ومائة، قال: بانت منك بثلاث، وسائرهن وزر اتخذت آيات الله هزوا.
نا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب عن عمرو، سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته عدد النجوم؟ فقال: يكفيك من ذلك رأس الجوزاء.
نا سهيل بن يوسف عن حميد عن واقع بن سحبان قال: سئل عمران بن حصين عن رجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس؟ فقال: أثم بربه، وحرمت عليه امرأته.
نا غندر، عن شعبة عن طارق، عن قيس بن أبي حازم، أنه سمعه يحدث عن المغيرة بن شعبة أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة فقال: ثلاث يحرمنها عليه وسبعة وتسعون فضل.
وقال سعيد بن منصور (1) : نا خالد بن عبد الله بن سعيد الجريري، عن الحسن أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري: لقد هممت أن أجعل إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس أن أجعلها واحدة، ولكن أقواما جعلوا على أنفسهم فألزم كل نفس ما ألزم نفسه، من قال لامرأته أنت علي حرام؛ فهي حرام، ومن قال لامرأته: أنت بائنة؛ فهي بائنة، ومن قال: أنت طالق ثلاثا؛ فهي ثلاث. اهـ.
وقال ابن عبد الهادي (2) : وقد جعل ابن رجب في آخر كتابه هذا في إحداث عمر للطلاق، وأنه مقبول قوله فقال: فصل - أخرج البخاري من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن
__________
(1) سنن سعيد بن منصور القسم الأول المجلد الثالث \ 259.
(2) سير الحاث \ 79، 80.(3/90)
يكن في أمتي أحد فإنه عمر (1) » وفي رواية ذكرها تعليقا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يتكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر (2) » وأخرج مسلم من حديث أبي سلمة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر بن الخطاب (3) » ، وعنده قال ابن وهب محدثون " ملهمون "، وقال الترمذي عن ابن عيينه: قال يعني مفهمين، وعن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وزاد فيه «يا رسول الله، كيف محدث؟ قال: " الملائكة على لسانه» ، والله أعلم.
فصل: قال ابن رجب في آخر كتابه: اعلم أن ما قضى به عمر على قسمين:
أحدهما: ما لا يعلم للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه قضاء بالكلية، وهذا على نوعين:
ما جمع فيه عمر الصحابة وشاورهم فيه فأجمعوا معه عليه؛ فهذا لا يشك أنه الحق كهذه المسألة، والعمريتين، وكقضائه فيمن جامع في إحرامه أنه يمضي في نسكه وعليه القضاء والهدي ومسائل كثيرة.
الثاني: ما لم يجمع الصحابة فيه مع عمر بل مختلفين فيه في زمنه، وهذا يسوع فيه الاختلاف كمسائل الجد مع الإخوة.
ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه قضاء بخلاف قضاء عمر، وهو على أربعة أنواع:
أحدهما: ما رجع فيه عمر إلى قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا لا عبرة فيه بقول عمر الأول.
الثاني: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه حكمان، أحدهما: ما وافق لقضاء عمر؛ فإن الناسخ من النصين ما عمل به عمر.
الثالث: ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رخص في أنواع من جنس العبادات، فيختار عمر للناس ما هو الأفضل والأصلح ويلزمهم به، فهذا يمنع من العمل بغير ما اختاره.
الرابع: ما كان قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلة، فزالت العلة فزال الحكم بزوالها ووجد ما نع يمنع من ذلك الحكم.
قال: فهذه المسألة، إما أن تكون من الثاني، وإما أن تكون من الرابع.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3689) ، مسند أحمد بن حنبل (2/339) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3689) ، مسند أحمد بن حنبل (2/339) .
(3) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2398) ، سنن الترمذي المناقب (3693) ، مسند أحمد بن حنبل (6/55) .(3/91)
وقال: لا يعلم من الأمة أحد خالف في هذه المسألة مخالفة ظاهرة، ولا حكما ولا قضاء ولا علما ولا إفتاء، ولم يقع ذلك إلا من نفر يسير جدا، وقد أنكره عليهم من عاصره غاية الإنكار، وكان أكثرهم يشخص بذلك ولا يظهره، فكيف يكون إجماع الأمة على أخفى (1) دين الله الذي شرعه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم؟ - واتباعهم اجتهاد من خالفه برأيه في ذلك، هذا لا يحل اعتقاده ألبتة، وهذه الأمة كما أنها معصومة من الاجتماع على ضلالة فهي معصومة من أن يظهر أهل الباطل منهم على أهل الحق، ولو كان ما قاله عمر في هذا حقا (2) للزم في هذه المسألة ظهور أهل الباطل على أهل الحق في كل زمان ومكان، وهذا باطل قطعا.
وقد أجاب ابن القيم - رحمه الله - عن فعل عمر - رضي الله عنه -، وكذلك عن فتاوي الصحابة في ذلك فقال: (3) ولكن رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة؛ فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل فإنه كان من أشد الناس فيه، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق، فرأى عمر أن هذه مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كان عليه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصديق وصدر من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا فيه، وكانوا يتقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا، فلما تركوا تقوى الله، وتلاعبوا بكتاب الله، وطلقوا على غير ما شرعه الله، ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم، فإن الله تعالى إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله وظلم نفسه ولعب بكتاب الله؛ فهو حقيق أن يعاقب، ويلزم بما التزمه ولا يقر على رخصة الله وسعته، وقد صعبها على نفسه ولم يتق الله ويطلق كما أمره الله وشرعه له، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه رحمة منه وإحسانا ولبس على نفسه واختار الأغلظ والأشد، فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان.
وعلم الصحابة - رضي الله عنهم - حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك؛ فوافقوه على ما ألزم به وصرحوا لمن استفتاهم بذلك.
فقال عبد الله بن مسعود: من أتى الأمر على وجهه فقد بين له، ومن لبس على نفسه جعلنا عليه لبسه، والله، لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله منكم هو كما تقولون.
فلو كان وقوع الثلاث ثلاثا في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لكان المطلق قد أتى الأمر على وجهه، ولما كان قد لبس على نفسه، ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن فعل ذلك «تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم (4) » ولما توقف عبد الله بن الزبير في الإيقاع وقال للسائل: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول فاذهب
__________
(1) في الهامش لعل صوابه '' إخفاء ''.
(2) قوله '' حقا '' كذا في المطبوعة.
(3) أعلام الموقعين 3 \ 29 - 31.
(4) سنن النسائي الطلاق (3401) .(3/92)
إلى عبد الله وأبي هريرة، فلما جاء إليهما قال ابن عباس لأبي هريرة: أفته فقد جاءتك معضلة، ثم أفتياه بالوقوع.
فالصحابة - رضي الله عنهم - ومقدمهم عمر بن الخطاب لما رأوا الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وأرسلوا ما بأيديهم منه، ولبسوا على أنفسهم، ولم يتقوا الله في التطليق الذي شرعه لهم، وأخذوا بالتشديد على أنفسهم ولم يقفوا على ما حد لهم؛ ألزموهم بما التزموا، وأمضوا عليهم ما اختاروه لأنفسهم من التشديد الذي وسع الله عليهم ما شرعه لهم بخلافه، ولا ريب أن من فعل هذا حقيق بالعقوبة بأن ينفذ عليه ما أنفذه على نفسه إذ لم يقبل رخصة الله تعالى وتيسيره ومهلته.
ولهذا قال ابن عباس لمن طلق مائة طلقة: عصيت ربك وبانت منك امرأتك، إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) .
وأتاه رجل فقال إن عمي طلق ثلاثا فقال: إن عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا، فقال: أفلا تحللها له؟ فقال: من يخادع الله يخدعه، فليتدبر العالم الذي قصده معرفة الحق واتباعه من الشرع والقدر في قبول الصحابة هذه الرخصة والتيسير على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقواهم ربهم - تبارك وتعالى - في التطليق فحرمت عليهم رخصة الله وتيسيره شرعا وقدرا.
فلما ركب الناس الأحموقة وتركوا تقوى الله ولبسوا على أنفسهم، وطلقوا على غير ما شرعه لهم، أرى الله على لسان الخليفة الراشد والصحابة معه شرعا وقدرا إلزامهم بذلك وإنفاذه عليهم، وإبقاء الإصر الذي جعلوه في أعناقهم كما جعلوه.
وهذه أسرار من أسرار الشرع والقدر لا تناسب عقول أبناء الزمان.
وقال أيضا مبينا عذر عمر - رضي الله عنه - (2) الناس طائفتان: طائفة اعتذرت عن هذه الأحاديث لأجل عمر - رضي الله عنه - ومن وافقه - وطائفة اعتذرت عن عمر - رضي الله عنه - ولم ترد الأحاديث فقالوا: الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة - وساق - رحمه الله - طائفة من الأمثلة، ثم قال: ومن ذلك أنه - رضي الله عنه - لما رأى الناس قد أكثروا من الطلاق والثلاث
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) إغاثة اللهفان 1 \ 330 وما بعدها.(3/93)
ورأى أنهم لا ينتهون عنه إلا بعقوبة، فرأى إلزامهم بها عقوبة لهم ليكفوا عنها، وذلك إما من التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة، كما كان يضرب في الخمر ثمانين، ويحلق فيها الرأس وينفي عن الوطن، وكما منع النبي - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة الذين خلفوا عنه عن الاجتماع بنسائهم، فهذا له وجه.
وإما ظنا أن جعل الثلاث واحدة كان مشروعا بشرط، وقد زال كما ذهب إلى ذلك في متعة الحج إما مطلقا وإما متعة الفسخ فهذا وجه آخر.
وإما لقيام مانع قام في زمنه، منع من جعل الثلاثة واحدة، كما قام عنده مانع من بيع أمهات الأولاد، ومانع من أخذ الجزية من نصارى بني تغلب وغير ذلك، فهذا وجه ثالث.
ومضى إلى أن قال: فلما رأى أمير المؤمنين أن الله - سبحانه - عاقب المطلق ثلاثا، بأن حال بينه وبين زوجته وحرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره، علم أن ذلك لكراهته الطلاق المحرم، وبغضه له فوافقه أمير المؤمنين في عقوبته لمن طلق ثلاثا جميعا بأنه ألزمه بها وأمضاها عليه.
فإن قيل: فكان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث ويحرمه عليهم، ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله؛ لئلا يقع المحذور الذي يترتب عليه؟ قيل: لعمر الله! قد كان يمكنه ذلك؛ ولذلك ندم عليه في آخر أيامه وود أنه كان فعله، قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في مسند عمر: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا صالح بن مالك، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه قال: قال عمر - رضي الله عنه - " ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح ".
ومن المعلوم أنه - رضي الله عنه - لم يكن مراده تحريم الطلاق الرجعي الذي أباحه الله تعالى، وعلم بالضرورة من دين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جوازه، ولا الطلاق المحرم الذي أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق في الحيض وفي الطهر المجامع فيه، ولا الطلاق قبل الدخول الذي قال الله تعالى فيه: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (1) . هذا كله من أبين المحال أن يكون عمر - رضي الله عنه - أراده فتعين قطعا أنه أراد تحريم إيقاع الثلاث، فعلم أنه إنما كان أوقعها لاعتقاده جواز ذلك، ولذلك قال: " إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟ " وهذا كالتصريح في أنه غير حرام عنده، وإنما أمضاه لأن المطلق كانت له فسحة من الله تعالى في التفريق، فرغب عما فسح الله تعالى له إلى الشدة والتغليظ، فأمضاه عمر - رضي الله عنه - عليه فلما تبين له ما فيه من الشر والفساد، ندم على أن لا يكون حرم عليهم إيقاع الثلاث ومنعهم منه، وهذا هو مذهب الأكثرين: مالك وأحمد وأبي حنيفة - رحمهم الله -.
__________
(1) سورة البقرة الآية 236(3/94)
فرأى عمر - رضي الله عنه - أن المفسدة تندفع بإلزامهم، فلما تبين له أن المفسدة لم تندفع بذلك وما زاد الأمر إلا شدة، أخبر أن الأولى كان عدوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها، واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وأول خلافة عمر - رضي الله عنهما - أولى من ذلك كله، ولا يندفع الشر والفساد بغيره ألبتة، اهـ. ولشيخ الإسلام ابن تيمية جواب عن فعل عمر - رضي الله عنه - وكذلك من وافقه من الصحابة - ترك ذكره هنا، وسيأتي كلامه في آخر البحث.
وأما القياس فقال ابن قدامة (1) : ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقا فصح مجتمعا كسائر الأملاك اهـ.
وقد أجاب ابن القيم عن هذا القياس فقال (2) : وقولكم إن المطلق ثلاثا قد جمع ما فسح له في تفريقه: هو إلى أن يكون حجة عليكم أقرب، فإنه إنما أذن له فيه وملكه متفرقا لا مجموعا؛ فإذا جمع ما أمر بتفريقه فقد تعدى حدود الله وخالف ما شرعه، ولهذا قال من قال من السلف: " رجل أخطأ السنة، فيرد إليها فهذا أحسن من كلامكم وأبين وأقرب إلى الشرع والمصلحة "، ثم هذا ينتقض عليكم بسائر ما ملكه الله تعالى العبد، وأذن فيه متفرقا، فأراد أن يجمعه، كرمي الجمار الذي إنما شرع له مفرقا، واللعان الذي شرع كذلك، وأيمان القسامة التي شرعت كذلك، ونظير قياسكم هذا أن له أن يؤخر الصلوات كلها ويصليها في وقت واحد؛ لأنه جمع ما أمر بتفريقه، على أن هذا قد فهمه كثير من العوام يؤخرون صلاة اليوم إلى الليل ويصلون الجميع في وقت واحد، ويحتجون بمثل هذه الحاجة بعينها، ولو سكتم عن نصرة المسألة بمثل ذلك لكان أقوى لها.
وقال القرطبي: (3) وحجة الجمهور من جهة اللزوم من حيث النظر ظاهرة جدا: وهو أن المطلقة ثلاثا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعا، وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشارع اتفاقا في النكاح والعتق والأقارير، فلو قال الولي: أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد، كما لو قال أنكحتك هذه وهذه وهذه، وكذا في العتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام، نقله عنه ابن حجر العسقلاني (4) .
ويرد عليه بأن (5) من قال: أحلف بالله ثلاثا لا يعد حلفه إلا يمينا واحدة فليكن المطلق مثله، وتعقب باختلاف الصيغتين فإن المطلق ينشئ طلاق امرأته وقد جعل أمر طلاقها ثلاثا، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا فكأنه قال أنت طالق جميع الطلاق، وأما الحلف فلا أمد لعدد أيمانه، فافترقا اهـ.
__________
(1) المغني ومعه الشرح الكبير 8 \ 243.
(2) إغاثة اللهفان 1 \ 306.
(3) فتح الباري 9 \ 365.
(4) فتح الباري 9 \ 365.
(5) فتح الباري 9 \ 365.(3/95)
المذهب الثاني
إن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت واحدة دخل بها أو لا.
قال ابن الهمام (1) : وقال قوم يقع به واحدة، وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وبه قال إسحاق، ونقل عن طاوس وعكرمة أنهم يقولون خالف السنة فيرد إلى السنة.
قال الباجي (2) : وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه عن بعض المبتدعة يلزمه طلقة واحدة. . .، وإنما يروى هذا عن الحجاج بن أرطأة ومحمد بن إسحاق. انتهى المقصود.
قال شيخ الإسلام - في أثناء الكلام على ذكر المذاهب في ذلك (3) الثالث أنه محرم ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة، وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل: الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان، وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم مثل: طاوس، وخلاس بن عمرو، ومحمد بن إسحاق، وهو قول داود وأكثر أصحابه، ويروى ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر بن محمد، ولهذا ذهب إلى ذلك من ذهب من الشيعة، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل. اهـ.
قال ابن القيم: (4) : وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. اهـ.
قال المرداوي (5) : وحكى - أي شيخ الإسلام ابن تيمية - عدم وقوع الطلاق الثلاث جملة بل واحدة، في المجموعة أو المتفرقة عن جده المجد وأنه كان يفتي به سرا أحيانا. اهـ.
قال ابن القيم (6) : المثال السابع: أن المطلق في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمن خليفته أبي بكر، وصدر من خلافة عمر كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة. . .، وكل صحابي من لدن خلافة الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر كان على أن الثلاث واحدة فتوى أو إقرارا أو سكوتا؛ ولهذا ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة ولله الحمد على خلافه. بل لم يزل
__________
(1) فتح القدير 3 \ 65.
(2) المنتقى شرح الموطأ 4 \ 3.
(3) مجموع الفتاوى 33 \ 8.
(4) زاد المعاد 4 \ 105.
(5) الإنصاف 8 \ 453.
(6) أعلام الموقعين 3 \ 34، 28، 29.(3/96)
فيهم من يفتي به قرنا بعد قرن إلى يومنا هذا.
فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن: عبد الله بن عباس، كما رواه حماد بن زيد، عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس، إذ قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة، وأفتى أيضا بالثلاث، أفتى بهذا وهذا، وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، حكاه عنهما ابن وضاح، وعن علي - كرم الله وجهه - وابن مسعود روايتان كما عن ابن عباس.
وأما التابعون فأفتى به عكرمة رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عنه، وأفتى به طاوس.
وأما أتباع التابعين فأفتى به محمد بن إسحاق، حكاه الإمام أحمد وغيره عنه، وأفتى به خلاس بن عمرو والحارث العكلي.
وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه، حكاه عنهم أبو العكلي وابن حزم وغيرهما.
وأفتى به بعض أصحاب مالك حكاه التلمساني في شرح تفريع ابن الجلاب قولا لبعض المالكية.
وأفتى به بعض الحنفية حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل، وأفتى به بعض أصحاب أحمد، حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه قال: وكان يفتي به أحيانا.
وأما الإمام أحمد نفسه فقد قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر واحدة (1) » بأي شيء تدفعه، قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه، ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس أنها ثلاث، فقد صرح بأنه إنما ترك القول به لمخالفة رواية له.
وأصل مذهبه وقاعدته التي بنى عليها أن الحديث إذا صح لم يرده لمخالفة رواية، بل الأخذ عنده بما رواه كما فعل في رواية ابن عباس وفتواه في بيع الأمة، فأخذ بروايته أنه لا يكون طلاقا وترك رأيه، وعلى أصله يخرج له قول: أن الثلاث واحدة، فإنه إذا صرح بأنه إنما ترك الحديث لمخالفة الراوي، وصرح في عدة مواضع أن مخالفة الراوي لا توجب ترك الحديث. خرج له في المسألة قولان، وأصحابه يخرجون على مذهبه أقوالا دون ذلك بكثير. اهـ.
7 - قال يوسف بن حسن بن عبد الرحمن بن عبد الهادي (2) : الفصل الرابع في أنه إنما يقع بالثلاث للفظ الواحد واحدة، وهذه رواية عن أحمد، روايتها باطلة، لكنها قول في المذهب حكاه الشيخ شمس الدين ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين، وذكره في الفروع، وقال: إنه اختيار شيخه، وهو اختياره بلا خلاف، وهو الذي إليه جنح الشيخ شمس الدين ابن القيم في كتبه " الهدى وأعلام الموقعين، وإغاثة اللهفان "، وقواه جدنا جمال الدين الإمام، وقد صنف فيه مصنفات، وهو اختيار شيخه الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وحكاه
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) .
(2) سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث ضمن مجموعة عليه: 81.(3/97)
أيضا عن جده الشيخ مجد الدين وغيره، اهـ.
وقال أيضا (1) : الفصل الخامس فيمن قال بهذا القول وأفتى به، وبعد أن ذكر ما سبق ذكره عن ابن القيم من أعلام الموقعين، قال: قلت وقد كان يفتي به فيما يظهر لي ابن القيم، وكان يفتي به شيخ الإسلام ابن تيمية - رضي الله عنه - بلا خلاف، وكان يفتي به جدنا جمال الدين الإمام، ولم يرو عنه أنه أفتى بغيره.
قلت: وقد كان يفتي في زماننا الشيخ علي الدواليبي البغدادي، وجرى له من أجله محنة ونكاية فلم يدعه وقد سمعت بعض شيوخنا يقويه، وظاهر إجماع (2) ابن حزم أنه إجماع لكن لم يصرح به. اهـ.
وقد استدل لهذا المذهب بالكتاب والسنة والإجماع والأثر والقياس.
الدليل الأول قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (3) . إلى قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (4) .
وجه الاستدلال: قال ابن عبد الهادي (5) : قال الشيخ جمال الدين الإمام في أول أحد كتبه: فقد حكم الله تعالى في هذه الآيات الكريمات في هذه المسألة ثلاثة أحكام، فمن فهمها وتصورها على حقيقة ما هي عليه - وقد أراد الله هدايته إلى قبول الحق إذا ظهر له - صح كلامه.
واعلم أن كتاب الله نص صريح. . . أن الطلاق الثلاث واحدة شرعا لا يحتمل خلافا صحيحا، وهذا هو النص شرعا، فإن كل كلام له معنى لا يحتمل غيره فهو نص فيه، فإن كان لا يحتمل غيره لغة فهو نص لغة، وإن كان لا يحتمل غيره شرعا فهو نص شرعا، وكتاب الله في هذه الآيات لا يحتمل شرعا غير أن الطلاق الثلاث واحدة. . . والألف واللام في قوله {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (6) للعهد والمعهود هنا هو الطلاق المفهوم من قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (7) ، وهو الرجعي بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (8) فصار المعنى: الطلاق الذي الزوج أحق فيه بالرد مرتان فقط، فقد تقيد الرد الذي كان مطلقا في كل مرة من الطلاق بمرتين منه فقط فلم يعرف (9) ، ولا فرق في الآية بين قوله في كل مرة: طلقتك واحدة، أو ثلاثا، أو ثلاثين ألفا.
ثم قال فصل: الكلام هنا على معنى الآيات الكريمات في حكم الطلاق الثلاث جملة سواء كانت ثلاث مرات أو مائة مرة أو ثلاثين ألفا.
__________
(1) سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث ضمن مجموعة علمية 82 - 83.
(2) قبله '' وظاهر إجماع ابن حزم. . الخ '' هكذا بالأصل المطبوع.
(3) سورة البقرة الآية 228
(4) سورة البقرة الآية 230
(5) سير الحاث \ 90 وما بعدها ويرجع إلى ما ذكره ابن القيم في الإغاثة: 1 \ 1.3
(6) سورة البقرة الآية 229
(7) سورة البقرة الآية 228
(8) سورة البقرة الآية 228
(9) قوله '' يعرف '' كذا في الأصل المطبوع.(3/98)
ثم قال: وذلك ضمير الآيات في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} (1) أي: إن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له بعدها، المفهوم من قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) لا يجوز فيه شرعا غير ذلك، وهذا الحكم مختص به شرعا: أي بتحريم المطلقة عليه حتى تنكح زوجها غيره، ويلزم أن يكون التحريم فيما بعد المرتين الأوليين، فإن كل واحدة من الأوليين له فيها الخيار بين الإمساك والتسريح بنص الآية، فيكون التقدير: فإن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له، هذا لا يحتمل خلافا.
قلت: هذه الآية صريحها على هذا: أن الثلاث متفرقات، والله أعلم.
ثم قال: ويدل على التقدير لزوم أنه لا يجوز في الآية أن يقال: فإن طلقها فلا تحل له لا يجوز أن يكون مستقلا بنفسه، منفصلا عما قبله، لما في ذلك من لزوم نسخ مشروعية الرجعة في الطلاق من دين الإسلام ولا قائل به، وذلك لما فيه من عود الضمير المطلق فيه إلى غير موجود في الكلام قبله، معين له، مختص بحكمه، فيكون عاما في كل مطلق ومطلقة، ولا قائل به، وذلك أن قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} (3) جملة مفيدة، والجملة نكرة، وهي في سياق شرط ونفي فتعم كل مطلق ومطلقة، فيكون ذلك ناسخا لمشروعية الرد في الطلاق في دين الإسلام، ولا قائل به، فتعين أن يكون قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} (4) إتماما لما قبله أي متصلا به، ويكون الضمير فيه عائدا على موجود في الكلام قبله، ومعين له، مختص بحكم تحريمه في طلاقه إن طلق، وليس فيما قبله ما يصلح عود هذا الضمير إليه، واختصاصه بهذا الحكم من التحريم شرعا إلا المطلق المفهوم من قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (5) ؛ لأنه لو عاد إلى من يطلق في صورة المفاداة المذكورة قبله كان التحريم مختصا بطلاق المفاداة، ولا قائل به، ولو عاد إلى من يطلق في صورة الإبلاء المذكورة قبل هذه الآيات كان التحريم مختصا بطلاق المولى ولا قائل به، فتعين أن يكون الضمير عائدا إلى المطلق المفهوم من قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (6) وهو في نظم الكلام متعين له شرعا، لا يجوز عوده إلى غيره شرعا، وأن يكون تقدير الكلام: فإن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجها غيره، وقد تبين أن معنى هذا الكلام وتقديره: أن الطلاق الرجعي مرتان، فإن طلقها بعدهما مرة ثالثة فلا تحل له بعدها حتى تنكح زوجها غيره، فلم يشرع الله التحريم إلا بعد المرة الثالثة من الطلاق، والمرة الثالثة لا تكون إلا بعد مرتين شرعا ولغة وعرفا وإجماعا، إلا ما وقع في هذه المسألة بقضاء الله وقدره، انتهى.
وقد سيقت مناقشة هذا الدليل في المسألة الأولى والإجابة عنه في كلام الباجي - ص7 - وما ذكر عنه شيخ الإسلام في - ص11 - وكلام ابن القيم في - ص13، 14.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (7) - إلى قوله - {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (8) .
قال ابن القيم: الاستدلال بالآية من وجوه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 230
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 230
(4) سورة البقرة الآية 230
(5) سورة البقرة الآية 229
(6) سورة البقرة الآية 229
(7) سورة الطلاق الآية 1
(8) سورة الطلاق الآية 2(3/99)
الوجه الأول: أنه - سبحانه وتعالى - إنما شرع أن تطلق لعدتها أي لاستقبال عدتها فتطلق طلاقا يعقبه شروعها في العدة، ولهذا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - لما طلق امرأته في حيضها أن يراجعها، وتلا هذه الآية تفسيرا للمراد بها، وأن المراد بها الطلاق في قبل العدة، وكذلك كان يقرأها عبد الله بن عمر؛ ولهذا قال كل من قال بتحريم جمع الثلاث أنه لا يجوز له أن يردف الطلقة بأخرى في ذلك الطهر؛ لأنه غير مطلق للعدة فإن العدة قد استقبلت من حين الطلقة الأولى فلا تكون الثانية للعدة، ثم قال الإمام أحمد في ظاهر مذهبه ومن وافقه: إذا أراد أن يطلقها ثانية طلقها بعد عقد أو رجعة لأن العدة تنقطع بذلك، فإذا طلقها بعد ذلك أخرى طلقها للعدة، وقال في رواية أخرى عنه: له أن يطلقها الثانية في الطهر الثاني، ويطلقها الثالثة في الطهر الثالث، وهو قول أبي حنيفة، فيكون مطلقا للعدة أيضا؛ لأنها تبني على ما مضى والصحيح هو الأول، وأنه ليس له أن يردف الطلاق قبل الرجعة أو العقد؛ لأن الطلاق الثاني لم يكن لاستقبال العدة بل هو طلاق لغير العدة فلا يكون مأذونا فيه، فإن العدة إنما تجب من الطلقة الأولى لأنها طلاق العدة، بخلاف الثانية والثالثة، ومن جعله مشروعا، قال: هو الطلاق لتمام العدة، والطلاق لتمامها كالطلاق لاستقبالها وكلاهما طلاق للعدة.
وأصحاب القول الأول يقولون: المراد بالطلاق للعدة الطلاق لاستقبالها كما في القراءة الأخرى التي تفسر القراءة المشهورة: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) .
قالوا: فإذا لم يشرع إرداف الطلاق للطلاق قبل الرجعة أو العقد فأن لا يشرع جمعه معه أولى وأحرى فإن إرداف الطلاق أسهل من جمعه؛ ولهذا يسوغ الإرداف في الأطهار من لا يجوز الجمع في الطهر الواحد.
وقد احتج عبد الله بن عباس على تحريم الثلاث بهذه الآية - وساق الأثر عن ابن عباس وقد سبق.
الوجه الثاني: من الاستدلال بالآية، قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} (2) ، وهذا إ نما في الطلاق الرجعي، فأما البائن فلا سكنى لها ولا نفقة لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة التي لا مطعن في صحتها الصريحة التي لا شبهة في دلالتها فدل على أن هذا حكم كل طلاق شرعه الله تعالى ما لم يسبقه طلقتان قبله، ولهذا قال الجمهور: إنه لا يشرع له ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العوض.
وأبو حنيفة قال: يملك ذلك لأنه الرجعة حقه وقد أسقطها.
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 1(3/100)
والجمهور يقولون: ثبوت الرجعة وإن كان حقا له، فلها عليه حقوق الزوجية فلا يملك إسقاطها إلا بمخالصة أو باستيفاء العدد كما دل عليه القرآن.
الوجه الثالث: أنه قال: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (1) ، فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة فقد تعدى حدود الله فيكون ظالما.
الوجه الرابع: أنه سبحانه قال: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (2) ، وقد فهم أعلم الأمة بالقرآن - وهم الصحابة - أن الأمر ههنا هو الرجعة، قالوا: وأي أمر يحدث بعد الثلاث.
الوجه الخامس: قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (3) ، فهذا حكم كل طلاق شرعه الله، إلا أن يسبق بطلقتين قبله، وقد احتج ابن عباس على تحريم جمع الثلاث بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (4) كما تقدم - قصده - رحمه الله - الأثر الذي أشرنا إليه سابقا - وهذا حق؛ فإن الآية إذا دلت على منع إرداف الطلاق الطلاق في طهر أو أطهار قبل رجعة أو عقد كما تقدم لأنه يكوم مطلقا في غير قبل العدة فلأن تدل على تحريم الجمع أولى وأحرى.
ومضى - رحمه الله - إلى أن قال: فهذه الوجوه ونحوها مما بين الجمهور أن جمع الثلاث غير مشروع هي بعينها تبين عدم الوقوع، وأنه إنما يقع المشروع وحده، وهي الواحدة، اهـ. . وقد سبقت مناقشة هذا الدليل في المسألة الأولى.
وأما السنة: فقد استدلوا بالأدلة الآتية:
الدليل الأول: روى مسلم في صحيحه من طريق ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر - رضي الله عنه - إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم (5) » .
وفي صحيحه أيضا عن طاوس: «أن أبا الصهباء قال لابن عباس " هات من هناتك ألم يكن الطلاق
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 1
(5) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .(3/101)
الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر واحدة؟
فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم (1) » وفي لفظ لأبي داود: «أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من إمارة عمر - رضي الله عنهما - فقال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من إمارة عمر - رضي الله عنهما - فلما رأى الناس قد تتابعوه فيها قال: أجروهن عليهم (2) » ، هكذا في هذه الرواية قبل أن يدخل بها.
وفي مستدرك الحاكم من حديث عبد الله بن المؤمل، عن ابن أبي مليكة، «أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: أتعلم أن الثلاث كن يرددن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى واحدة؟ قال: نعم (3) » ، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، وهذه غير طريق طاوس عن أبي الصهباء، وقد أجاب القائلون بأن الثلاث بلفظ واحد تقع ثلاثا عن حديث ابن عباس بأجوبة:
الجواب الأول: أنه منسوخ، وهو قول الشافعي وأبي داود والطحاوي.
قال الشافعي: بعد سياقه لحديث أبي الصهباء وأثر ابن عباس في الذي طلق امرأته ألفا وأفتاه بوقوع الثلاث، والذي طلق مائة وقد سبقت، قال بعد ذلك: فإن كان معنى قول ابن عباس أن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة يعني أنه بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فالذي يشبه - والله أعلم - أن يكون ابن عباس قد علم أن كان شيئا فنسخ (4) .
فإن قيل: فما دل على ما وصفت؟ قيل: لا يشبه أن يكون يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ثم يخالفه بشيء لم يعلمه كان من النبي فيه خلافه.
فإن قيل: فلعل هذا شيء روي عن عمر فقال فيه ابن عباس بقول عمر، قيل: قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر في نكاح المتعة، وبيع الدينار بالدينارين، وفي بيع أمهات الأولاد وغيره، فكيف يوافقه في شيء يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه خلافه؟
فإن قيل: فلم يذكره؟
قيل: فقد يسأل الرجل عن الشيء فيجيب فيه ولا ينقص فيه الجواب، ويأتي على الشيء ويكون جائزا له كما يجوز له، لو قيل: أصلى الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس؟ أن يقول نعم، وإن لم يقل ثم حولت القبلة.
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .
(2) سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .
(3) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2200) .
(4) الأم - اختلاف الحديث: 7 \ 305-310.(3/102)
قال: فإن قيل فقد ذكر على عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر؟ قيل - والله أعلم -، وجوابه حين استفتى يخالف ذلك كما وصفت.
فإن قيل: فهل من دليل تقوم به الحجة في ترك أن تحسب الثلاث واحدة في كتاب أو سنة أو أمر أبين مما ذكرت؟
قيل: نعم. أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأة له فطلقها ثم أمهلها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها ارتجعها ثم طلقها وقال: والله، لا آويك. . ولا تخلين بدا، فأنزل الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ، من كان منهم طلق أو لم يطلق، وذكر بعض أهل التفسير هذا، فلعل ابن عباس أجاب أن الثلاث والواحدة سواء، وإذا جعل الله عدد الطلاق إلى الزوج وأن يطلق متى شاء، فسواء الثلاث والواحدة وأكثر من الثلاث في أن يقضي بطلاقه.
قال الشافعي: وحكم الله في الطلاق أنه مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وقوله: فإن طلقها يعني - والله أعلم - الثلاث، {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2) ؛ فدل حكمه أن المرأة تحرم بعد الطلاق ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره، وجعل حكمه بأن الطلاق إلى الأزواج يدل على أنه إذا حدث تحريم المرأة بطلاق ثلاث وجعل الطلاق إلى زوجها فطلقها ثلاثا مجموعة أو مفرقة حرمت عليه بعدهن حتى تنكح زوجا غيره كما كانوا مملكين عتق رقيقهم، فإن أعتق واحدا أو مائة في كلمة لزمه ذلك كما يلزمه كلها، جمع الكلام فيه أو فرقه مثل قوله لنسوة له: أنتن طوالق، ووالله لا أقربكن، وأنتن علي كظهر أمي، وقوله: لفلان علي كذا، ولفلان علي كذا، ولفلان علي كذا، فلا يسقط عنه بجمع الكلام معنى من المعاني، جميعه كلام فيلزمه بجمع الكلام ما يلزمه بتفريقه.
فإن قال قائل: فهل من سنة تدل على هذا قيل نعم، حدثنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال أخبرنا سفيان عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة أنه سمعها تقول.
«جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله فقالت إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير وأنا معه مثل هدبة الثوب، فتبسم رسول الله، وقال: " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته " قال وأبو بكر عند النبي وخالد بن سعيد بن العاص بالباب ينتظر أن يؤذن له فنادى يا أبا بكر ألا تسمع ما تجهر به هذه عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) » .
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 230
(3) صحيح مسلم النكاح (1433) ، سنن الترمذي النكاح (1118) ، سنن النسائي الطلاق (3409) ، سنن ابن ماجه النكاح (1932) ، مسند أحمد بن حنبل (6/38) ، سنن الدارمي الطلاق (2267) .(3/103)
قال الشافعي فإن قيل: فقد يحتمل أن يكون رفاعة بت طلاقها في مرات. قلت: ظاهره في مرة واحدة، (وبت) إنما هي ثلاث إذا احتملت ثلاثا، وقال رسول الله: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا، حتى يذوق عسيلتك (1) » ولو كانت عائشة حسب طلاقها بواحدة كان لها أن ترجع إلى رفاعة بلا زوج.
فإن قيل: أطلق أحد ثلاثا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل: نعم. عويمر العجلاني طلق امرأته ثلاثا قبل أن يخبره النبي أنها تحرم عليه باللعان فلما أعلم النبي نهاه.
وفاطمة بنت قيس تحكي للنبي: أن زوجها بت طلاقها تعني - والله أعلم - أنه طلقها ثلاثا، وقال النبي: «ليس لك عليه نفقة (2) » ؛ لأنه - والله أعلم - لا رجعة له عليها، ولم أعلمه عاب طلاق ثلاث معا، قال الشافعي: فلما كان حديث عائشة في رفاعة موافقا ظاهر القرآن، وكان ثابتا، كان أولى الحديثين أن يؤخذ به - والله أعلم - وإن كان ليس بالبين فيه جدا.
قال الشافعي: ولو كان الحديث الآخر له مخالفا كان الحديث الآخر يكون ناسخا - والله أعلم - وإن كان ذلك ليس بالبين فيه جدا. اهـ.
وقال أبو داود: في سننه " باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث " حدثنا أحمد بن سعيد المروزي حدثني علي بن حسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي، عن عكرمة عن ابن عباس قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (3) ؛ وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا؛ فنسخ ذلك فقال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (4) ثم أورد أبو داود في نفس الباب حديث ابن طاوس عن أبيه «أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وثلاثا من إمارة عمر قال ابن عباس: نعم (5) » .
وقال الطحاوي: (6) في " باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا معا " حدثنا روح بن الفرج، ثنا أحمد بن صالح قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني ابن طاوس عن أبيه «أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر، قال ابن عباس: نعم (7) » .
وقال الطحاوي: بعد استعراض بعض الآراء في المسألة: وفي حديث ابن عباس ما لو اكتفينا به كانت حجة قاطعة، وذلك أنه قال: فلما كان زمان عمر - رضي الله عنه - قال: أيها الناس قد كانت لكم في الطلاق أناة وأنه من تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إياه، حدثنا بذلك ابن أبي عمران.
__________
(1) صحيح مسلم النكاح (1433) ، سنن الترمذي النكاح (1118) ، سنن النسائي الطلاق (3409) ، سنن ابن ماجه النكاح (1932) ، مسند أحمد بن حنبل (6/226) ، سنن الدارمي الطلاق (2267) .
(2) صحيح مسلم الطلاق (1480) ، سنن الترمذي النكاح (1135) ، سنن النسائي النكاح (3222) ، سنن أبو داود الطلاق (2284) ، مسند أحمد بن حنبل (6/373) ، موطأ مالك الطلاق (1234) ، سنن الدارمي النكاح (2177) .
(3) سورة البقرة الآية 228
(4) سورة البقرة الآية 229
(5) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2200) .
(6) شرح معاني الآثار: 2 \ 32.
(7) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2200) .(3/104)
قال: ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل قال: أخبرنا عبد الرزاق - ح - وحدثنا عبد الحميد بن عبد العزيز قال: ثنا أحمد بن منصور الرمادي قال: ثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس مثل الحديث الذي ذكرناه في أول هذا الباب، غير أنهما لم يذكرا أبا الصهباء ولا سؤاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وإنما ذكرا مثل جواب ابن عباس - رضي الله عنهما - الذي في ذلك الحديث، وذكرا بعد ذلك من كلام عمر - رضي الله عنه - ما قد ذكرناه قبل هذا الحديث، فخاطب عمر - رضي الله عنه - بذلك الناس جميعا وفيهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضي عنهم الذين قد علموا ما تقدم من ذلك في زمن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فلم ينكره عليه منهم منكر، ولم يدفعه دافع فكان ذلك أكبر الحجة في نسخ ما تقدم من ذلك لأنه لما كان فعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - جميعا فعلا يجب به الحجة كان كذلك أيضا إجماعهم على القول إجماعا يجب به الحجة، وكما كان إجماعهم على النقل بريئا من الوهم والزلل كان كذلك إجماعهم على الرأي بريئا من الوهم والزلل، وقد رأينا أشياء قد كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على معاني فجعلها أصحابه - رضي الله عنهم - من بعده على خلاف تلك المعاني، لما رأوا فيه مما خفي على من بعدهم، فكان ذلك حجة ناسخا لما تقدمه، من ذلك تدوين الدواوين، والمنع من بيع أمهات الأولاد، وقد كن يبعن قبل ذلك، والتوقيت في حد الخمر ولم يكن فيه توقيت قبل ذلك، فلما كان ما عملوا به من ذلك ووقفنا عليه لا يجوز لنا خلافه إلى ما قد رأيناه مما تقدم فعلهم له، كان كذلك ما وقفونا عليها من الطلاق الثلاث الموقع معا أنه يلزم لا يجوز لنا خلافه إلى غيره مما قد روى أنه كان قبله على خلاف ذلك. اهـ المراد من كلام الطحاوي.
وقال الطحاوي بعد كلامه في النسخ (1) : " ثم هذا ابن عباس - رضي الله عنهما - قد كان من بعد ذلك يفتي من طلق امرأته ثلاثا معا أن طلاقه قد لزمه وحرمها عليه.
حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا سفيان عن الأعمش عن مالك بن الحارث قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا؟ فقال: إن عمك عصى الله فأثمه الله وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا، فقلت: كيف ترى في رجل يحلها له؟ فقال: من يخادع الله يخادعه. حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب أن مالكا أخبره عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن البكير قال: طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها، فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل له أبا هريرة وعبد الله بن عباس عن ذلك فقالا: لا نرى أن تنكحها حتى تتزوج زوجا غيرك، فقال: إنما كان طلاقي إياها واحدة، فقال ابن عباس: إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل، حدثنا يونس قال أخبرنا ابن وهب أن مالكا أخبره عن يحيى بن سعيد أن بكير بن الأشج أخبره عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري أنه كان جالسا مع عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن إياس بن البكير فقال: إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فماذا تريان؟ فقال ابن الزبير إن هذا الأمر ما لنا فيه من قول، فاذهب
__________
(1) شرح معاني الآثار 3 \ 33.(3/105)
إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة - رضي الله عنهم - فاسألهما ثم ائتنا فأخبرنا، فذهب فسألهما فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة، فقال أبو هريرة: الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره، حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن الزهري عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن البكير، أن رجلا سأل ابن عباس وأبا هريرة وابن عمر عن طلاق البكر ثلاثا وهو معه فكلهم قالوا: حرمت عليك، حدثنا يونس قال أخبرنا سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وابن عباس أنهما قالا في الرجل يطلق البكر ثلاثا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، حدثنا أبو بكرة، قال ثنا مؤمل قال ثنا سفيان عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير أن رجلا سأل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال: ثلاث تحرمها عليه وسبعة وتسعون في رقبته إنه اتخذ آيات الله هزوا حدثنا علي بن شيبة حدثنا أبو نعيم قال ثنا إسرائيل عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله.
حدثنا ابن مرزوق ثنا ابن وهب قال ثنا شعبة عن ابن أبي نجيح وحميد الأعرج عن مجاهد، أن رجلا قال لابن عباس: رجل طلق امرأته مائة فقال: عصيت ربك وبانت منك امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) انتهى المراد من كلام الطحاوي.
وممن ارتضى هذا المسلك الذي هو مسلك النسخ - الحافظ ابن حجر العسقلاني في نهاية بحثة الطويل في هذه المسألة قال: (3) : وفي الجملة فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء أعني قول جابر أنها كانت تفعل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دل إجماعهم على وجود ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك، حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق. اهـ.
واعترض المازري على ذلك قال: " زعم بعضهم أن هذا الحكم منسوخ وهو غلط فإن عمر لا ينسخ ولو نسخ -وحاشاه- لبادر الصحابة إلى إنكاره، وإن أراد القائل أنه نسخ في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يمتنع لكن يخرج عن ظاهر الحديث؛ لأنه لو كان كذلك لم يجز للراوي أن يخبر ببقاء الحكم في خلافه أبي بكر وبعض خلافة عمر قال: فإن قيل فقد يجمع الصحابة ويقبل منهم ذلك، قلنا: إنما يقبل ذلك لأنه يستدل بإجماعهم على ناسخ وأما أنهم ينسخون من تلقاء أنفسهم -فمعاذ الله؛ لأنه إجماع على الخطأ، وهم معصومون عن ذلك، قال: فإن قيل: فلعل النسخ إنما ظهر في زمن عمر، قلنا: هذا أيضا غلط لأنه يكون قد حصل الإجماع على الخطأ في زمن أبي بكر وليس انقراض العصر شرطا في صحة الإجماع على الراجح. هذا ما أورد المازري، وأجاب
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) فتح الباري: 9 \ 299.(3/106)
عليه الحافظ بقوله (1) : " هو متعقب في مواضع:
أحدهما: أن الذي ادعى نسخ الحكم لم يقل إن عمر هو الذي نسخ حتى يلزم منه ما ذكر، وإنما قال ما تقدم " يشبه أن يكون علم شيئا من ذلك نسخ " أي اطلع على ناسخ الحكم الذي رواه مرفوعا؛ ولذلك أفتى بخلافه، وقد سلم المازري في أثناء كلامه أن إجماعهم يدل على ناسخ، وهذا هو مراد من ادعى النسخ.
الثاني: إنكاره الخروج عن الظاهر عجيب، فإن الذي يحاول الجمع بالتأويل يرتكب خلاف الظاهر حتما.
الثالث: أن تغليطه من قال المراد ظهور النسخ عجيب أيضا لأن المراد بظهوره انتشاره، وكلام ابن عباس أنه يفعل في زمن أبي بكر محمول على أن الذي كان يفعله من لم يبلغه النسخ، فلا يلزم ما ذكر من إجماعهم على الخطأ، وما أشار إليه من مسألة انقراض العصر لا يجيء هنا لأن عصر الصحابة لم ينقرض في زمن أبي بكر بل ولا عمر، فإن المراد بالعصر الطبقة من المجتهدين وهم في زمن أبي بكر وعمر بل وبعدهما طبقة واحدة. اهـ كلام الحافظ.
وقد أجاب ابن القيم عن دعوى النسخ فقال: (2) : وأما دعواكم لنسخ الحديث فموقوف على ثبوت معارض مقاوم متراخ فأين هذا؟
وأما حديث عكرمة عن ابن عباس في نسخ المراجعة بعد الطلاق الثلاث فلو صح لم يكن فيه حجة فإنما فيه " أن الرجل كان يطلق امرأته ويراجعها بغير عدد " فنسخ ذلك، وقصر على ثلاث فيها تنقطع الرجعة. فأين في ذلك الإلزام بالثلاث بفم واحد؟ ثم كيف يستمر المنسوخ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر لا تعلم به الأمة، وهو من أهم الأمور المتعلقة بحل الفروج؟ ثم كيف يقول عمر: " إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة " وهل للأمة أناة في المنسوخ بوجه ما؟ ثم كيف يعارض الحديث الصحيح بهذا الذي فيه علي بن الحسين بن واقد وضعفه معلوم.
وقد أجاب عن ذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي فقال (3) : وأوضح دليل يزيل الإشكال عن القول بالنسخ المذكور وقوع مثله واعتراف المخالف به في نكاح المتعة؛ فإن مسلما روى عن جابر - رضي الله عنه - «أن متعة النساء كانت تفعل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا (4) » ، وهذا مثل ما وقع في طلاق الثلاث طبقا. . فمن الغريب أن يسلم منصف إمكان النسخ في إحداهما ويدعى استحالته في الأخرى مع أن كلا منهما روى مسلم فيها عن صحابي جليل أن ذلك الأمر
__________
(1) فتح الباري 9 \ 298.
(2) زاد المعاد 4 \ 117، 118.
(3) أضواء البيان 1 \ 186 - 187.
(4) صحيح مسلم الحج (1217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) .(3/107)
كان يفعل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر في مسألة تتعلق بالفروج ثم غيره عمر، ومن أجاز نسخ نكاح المتعة وأحال جعل الثلاث واحدة، يقال له ما لبائك تجر وبائي لا تجر؟
فإن قيل: نكاح المتعة صح النص بنسخه؟ قلنا قد رأيت الروايات المتقدمة بنسخ المراجعة بعد الثلاث.
وممن جزم بنسخ جعل الثلاث واحدة الإمام أبو داود - رحمه الله تعالى - ورأى أن جعلها واحدة إنما هو في الزمن الذي كان يرتجع فيه بعد ثلاث تطليقات وأكثر، قال في سننه: " باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث " ثم ساق بسنده حديث ابن عباس في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (1) الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك، وقال {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) الآية، وأخرج نحوه النسائي، وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد، قال فيه ابن حجر في التقريب صدوق يبهم.
وروى مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا أشرفت على انقضاء عدتها راجعها، ثم قال: لا آويك ولا أطلقك، فأنزل الله {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (3) فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ من كان طلق منهم أو لم يطلق.
ويؤيد هذا أن عمر لم ينكر عليه أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إيقاع الثلاث دفعة مع كثرتهم وعلمهم وورعهم.
ويؤيده أن كثيرا من الصحابة الأجلاء العلماء صح عنهم القول بذلك كابن عباس وعمر وابن عمر وخلق لا يحصى، والناسخ الذي نسخ المراجعة بعد الثلاث قال بعض العلماء إنه قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (4) كما جاء مبينا في الروايات المتقدمة، ولا مانع عقلا ولا عادة من أن يجهل مثل هذا الناسخ كثير من الناس إلى خلافة عمر، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - صرح بنسخها وتحريمها إلى يوم القيامة في غزوة الفتح وفي حجة الوداع أيضا كما جاء في رواية عند مسلم، ومع أن القرآن دل على تحريم غير الزوجة والسرية بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (5) {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (6) ومعلوم أن المرأة المتمتع بها ليست بزوجة ولا سرية. . والذين قالوا بالنسخ قالوا معنى قول عمر: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، أن المراد بالأناة أنهم كانوا يتأنون في الطلاق فلا يوقعون الثلاث في وقت واحد، ومعنى استعجالهم أنهم صاروا يوقعونها بلفظ واحد، على القول بأن ذلك هو معنى الحديث وقد قدمنا أنه لا يتعين كونه هو معناه وإمضاؤه عليهم إذن هو اللازم، ولا ينافيه قوله فلو أمضيناه عليهم، يعني ألزمناهم بمقتضى ما قالوا،
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة البقرة الآية 229
(5) سورة المؤمنون الآية 5
(6) سورة المؤمنون الآية 6(3/108)
ونظيره قوله جابر عند مسلم في نكاح المتعة فنهانا عنها عمر، فظاهر كل منهما أنه اجتهاد من عمر والنسخ ثابت فيهما كما رأيت، وليست الأناة في المنسوخ، وإنما هي في عدم الاستعجال بإيقاع الثلاثة دفعة. . أما كون عمر كان يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجعل الثلاث بلفظ واحد واحدة فتعمد مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعلها ثلاثا ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فلا يخفى بعده، والعلم عند الله تعالى. انتهى.
الجواب الثاني: حمل الحديث على أن الناس اعتادوا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر إيقاع المطلق الطلقة الواحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها ثم اعتادوا الطلاق الثلاث جملة وتتابعوا فيه، فمعنى الحديث على هذا كان الطلاق الذي يوقعه المطلق الآن ثلاثا يوقعه المطلق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة، فالحديث على هذا إخبار عن الواقع لا عن المشروع.
وهذا جواب أبي زرعة، والباجي، والقاضي أبي محمد عبد الوهاب، ونقل القرطبي عن الكيا الطبري أنه قول علماء الحديث، ورجحه ابن العربي، وذكره ابن قدامة.
أما أبو زرعة الرازي فقد نقله عنه البيهقي بسنده إلى عبد الرحمن بن أبي حاتم قال (1) : سمعت أبا زرعة يقول: " معنى هذا الحديث عندي أما ما تطلقون أنتم ثلاثا كانوا يطلقون واحدة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما.
وأما الباجي فقال (2) : " معنى الحديث أنهم كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس ثلاثة طلقات - قال: ويدل على صحة هذا التأويل أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: " إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة " فأنكر عليهم أن أحدثوا في الطلاق استعجال أمر كان لهم فيه أناة فلو كان حالهم ذلك من أول الإسلام في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قاله وما عاب عليهم أنهم استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، ويدل لصحة هذا التأويل ما روي عن ابن عباس من غير طريق أنه أفتى بلزوم الطلاق الثلاث لمن أوقعها مجتمعة، فإن كان معنى حديث ابن طاوس فهو الذي قلناه، وإن حمل حديث ابن طاوس على ما يتأول فيه من لا يعبأ بقوله فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع. . انتهى كلام الباجي.
__________
(1) السنن الكبرى: 7 \ 338.
(2) المنتقى: 4 \ 4.(3/109)
وأما القاضي فقد نقل عنه القرطبي أنه قال (1) : " معناه أن الناس كانوا يقتصرون على طلقة واحدة ثم أكثر أيام عمر من إ يقاع الثلاث - قال - قال القاضي: وهذا هو الأشبه بقول الراوي إن الناس في أيام عمر استعجلوا الثلاث فعجل عليهم معناه ألزمهم حكمها ". انتهى.
وأما ما نسب إلى علماء الحديث فقد قال القرطبي بعد ذكره تأويل الباجي حديث ابن عباس وما أوله به أبو زرعة، قال: قلت ما تأوله الباجي هو الذي ذكر معناه الكيا الطبري عن علماء الحديث أي أنهم كانوا يطلقون طلقة واحدة هو الذي تطلقون ثلاثا أي ما كانوا يطلقون في كل قرء طلقة، وإنما كانوا يطلقون في جميع العدة واحدة إلى أن تبين وتنقضي العدة، انتهى كلام القرطبي، وأما ترجيح ابن العربي فقد نقله عنه ابن حجر (2) .
وأما ذكر ابن قدامة له فقد قال (3) : قيل معنى حديث ابن عباس أن الناس كانوا يطلقون واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وإلا فلا يجوز أن يخالف عمر ما كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، ولا يسوغ لابن عباس أن يروي هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويفتي بخلافه.
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (4) : وأما قول من قال: إن معناه كان وقوع الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة، فإن حقيقة هذا التأويل كان الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلقون واحدة وعلى عهد عمر صاروا يطلقون ثلاثا، والتأويل إذا وصل إلى هذا الحد كان من باب الألغاز والتحريف لا من باب بيان المراد ولا يصح ذلك بوجه ما، فإن الناس ما زالوا يطلقون واحدة وثلاثا، وقد طلق رجال نساءهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا فمنهم من رد إلى واحدة كما في حديث عكرمة عن ابن عباس، ومنهم من أنكر عليه وغضب وجعله متلاعبا بكتاب الله، ولم يعرف ما حكم به عليهم، وفيهم من أقره لتأكيد التحريم الذي أوجبه اللعان، ومنهم من ألزمه بالثلاث لكون ما أتى به من الطلاق آخر الثلاث، فلم يصح أن يقال: إن الناس ما زالوا يطلقون واحدة إلى أثناء خلافة عمر فطلقوا ثلاثا، ولا يصح أن يقال: إنهم قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فنمضيه عليهم ولا يلائم هذا الكلام الفرق بين عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين عهده بوجه ما. فإنه ماض منكم على عهده بعد عهده، ثم إن في بعض ألفاظ الحديث الصحيحة «ألم تعلم أنه من طلق ثلاثا جعلت واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5) » ولفظ «أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر؟ فقال ابن عباس بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر
__________
(1) تفسير القرطبي: 3 \ 130.
(2) الفتح 9 \ 299.
(3) المغني ومعه الشرح 7 \ 304.
(4) زاد المعاد 4 \ 119.
(5) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .(3/110)
من إمارة عمر فلما رأى الناس - يعني عمر - قد تتابعوا فيها قال أجيزوهن عليهم (1) » هذا لفظ الحديث، وهو بأصح إسناد وهو لا يحتمل ما ذكرتم من التأويل بوجه ما، ولكن هذا كله عمل من جعل الأدلة تبعا للمذهب فاعتقد ثم استدل، وأما من جعل المذهب تبعا للدليل واستدل ثم اعتقد لم يمكنه هذا العمل. اهـ.
الجواب الثالث: حمل الحديث على غير المدخول بها:
فقد سلك أبو عبد الرحمن النسائي في سننه في الحديث مسلكا آخر وقوي جانبها عنده، فقال: باب الطلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة، ثم ساقه فقال: حدثنا أبو داود حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - «فقال: يا ابن عباس، ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر ترد إلى الواحدة، قال: نعم (2) » .
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (3) : وأنت إذا طابقت بين هذه الترجمة وبين لفظ الحديث وجدتها لا يدل عليها ولا يشعر بها بوجه من الوجوه بل الترجمة لون والحديث لون آخر وكأنه لما أشكل عليه لفظ الحديث جملة على ما إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طلق، أنت طالق طلقت واحدة ومعلوم أن هذا الحكم لم يزل ولا يزال كذلك، ولا يتقيد ذلك بزمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر - رضي الله عنه - وبمضي الثلاث بعد ذلك على المطلق فالحديث لا يندفع بمثل هذا ألبتة. اهـ.
وهناك توجيه آخر للحديث قال ابن حجر (4) : وهو جواب إسحاق بن راهوية وجماعة وبه جزم زكريا الساجي من الشافعية.
ووجهوه بأن غير المدخول بها تبين إذا قال لها زوجها: أنت طالق، فإذا قال ثلاثا لغي العدد لوقوعه بعد البينونة.
وتعقبه القرطبي بأن قوله: أنت طالق ثلاثا كلام متصل غير منفصل فكيف جعله كلمتين؟ وتعطي كل كلمة حكما؟ وقال النووي أنت طالق معناه: أنت ذات الطلاق، وهذا اللفظ يصح تفسيره بالواحدة وبالثلاث وغير ذلك. انتهى كلام ابن حجر.
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2199) .
(2) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) .
(3) إغاثة اللهفان: 298.
(4) فتح الباري: 9 \ 363.(3/111)
وأجاب ابن القيم عن الرواية التي فيها ذكر غير المدخول بها فقال (1) : ورواية طاوس نفسه عن ابن عباس ليس في شيء منها قبل الدخول، وإنما حكى ذلك طاوس عن سؤال أبي الصهباء لابن عباس فأجابه ابن عباس بما سأله عنه ولعله إنما بلغه جعل الثلاث واحدة في حق مطلق قبل الدخول، فسأل عن ذلك ابن عباس وقال: " كانوا يجعلونها واحدة؟ " فقال له ابن عباس " نعم " أي الأمر ما قلت وهذا لا مفهوم له فإن التقييد في الجواب وقع في مقابلة تقييد السؤال، ومثل هذا لا يعتبر مفهومه.
نعم لو لم يكن السؤال مقيدا فقيد المسئول الجواب كان مفهومه معتبرا، وهذا كما إذا سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال «إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها وكلوه (2) » لم يدل ذلك على تعيين الحكم بالسمن خاصة، وبالجملة فغير المدخول بها فرد من أفراد النساء فذكر النساء مطلقا في أحد الحديثين، وذكر بعض أفرادهن في الحديث الآخر لا تعارض بينهما.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (3) : وحجة هذا القول أن بعض الروايات كرواية أبي داود جاء فيها التقييد بغير المدخول بها، والمقرر في الأصول هو حمل المطلق على المقيد ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا، قال في مراقي السعود:
وحمل مطلق على ذاك وجب ... إن فيهما اتحد حكم والسبب
وما ذكره الأبي - رحمه الله - من أن الإطلاق والتقييد إنما هو في حديثين، أما في حديث واحد من طريقين فمن زيادة العدل، فمردود بأنه لا دليل عليه، وإنه مخالف لظاهر كلام عامة العلماء ولا وجه للفرق بينهما، وما ذكره الشوكاني - رحمه الله - في نيل الأوطار من أن رواية أبي داود التي فيها التقييد بعدم الدخول فرد من أفراد الروايات العامة وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه، لا يظهر؛ لأن هذه المسألة من مسائل المطلق والمقيد، لا من مسائل ذكر بعض أفراد العام، فالروايات التي أخرجها مسلم مطلقة عند قيد الدخول، والرواية التي أخرجها أبو داود مقيدة بعدم الدخول كما ترى، والمقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إن اتحد الحكم والسبب كما هنا.
نعم لقائل أن يقول: إن كلام ابن عباس في رواية أبي داود المذكورة وارد على سؤال أبي الصهباء، وأبو الصهباء لم يسأل إلا عن غير المدخول بها، فجواب ابن عباس لا مفهوم مخالفة له؛ لأنه إنما خص غير المدخول بها لمطابقة الجواب للسؤال.
وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار دليل الخطاب - أعني مفهوم المخالفة - كون الكلام واردا جوابا لسؤال، لأن تخصيص المنطوق بالذكر لمطابقة السؤال فلا يتعين كونه لإخراج المفهوم عن المنطوق، وأشار
__________
(1) إغاثة اللهفان: 1 \ 285 - 286.
(2) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5539) ، سنن الترمذي الأطعمة (1798) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4260) ، سنن أبو داود الأطعمة (3842) ، مسند أحمد بن حنبل (6/330) ، موطأ مالك الجامع (1815) .
(3) أضواء البيان: 1 \ 196 - 197 - 198.(3/112)
إليه في مراقي السعود في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله:
وجهل الحكم والنطق انجلب ... للسؤال أو جرى على الذي غلب
ومحل الشاهد منه قوله: أو النطق انجلب للسؤال.
وقد قدمنا أن رواية أبي داود المذكورة عن أيوب السختياني عن غير واحد عن طاوس، وهو صريح في أن من روى عنهم أيوب مجهولون، ومن لم يعرف من هو لا يصح الحكم بروايته؛ ولذا قال النووي في شرح مسلم ما نصه: " وأما هذه الرواية لأبي داود فضعيفة، رواها أيوب عن قوم مجهولين عن طاوس عن ابن عباس فلا يحتج بها، والله أعلم "، انتهى منه بلفظه.
وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود بعد أن ساق الحديث المذكور ما نصه: " الرواة عن طاوس مجاهيل "، انتهى منه بلفظه، وضعف رواية أبي داود هذه ظاهر كما ترى للجهل بمن روى عن طاوس فيها، وقال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - في زاد المعاد بعد أن ساق لفظ هذه الرواية ما نصه: " وهذا لفظ الحديث وهو بأصح إسناد "، انتهى محل الغرض منه بلفظ فانظره مع ما تقدم، انتهى كلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي.(3/113)
الجواب الرابع: ليس في الحديث ما يدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي جعل ذلك، ولا إنه علم به وأقر عليه، وهذا جواب ابن المنذر وابن حزم ومن وافقهما.
قال ابن القيم (1) : وأما ابن المنذر فقال: لم يكن ذلك عن علم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أمره، قال: وغير جائز أن يظن بابن عباس أن يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ثم يفتي بخلافه، فلما لم يجز ذلك دل فتيا ابن عباس - رضي الله عنه - على أن ذلك لم يكن عن علم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أمره، إذ لو كان ذلك عن علم النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - ما استحل ابن عباس أن يفتي بخلافه أو يكون ذلك منسوخا استدلالا بفتيا ابن عباس.
وقال ابن حزم (2) : وأما حديث طاوس عن ابن عباس الذي فيه أن الثلاث كانت واحدة وترد إلى واحدة " وتجعل واحدة " فليس في شيء منه أنه - عليه الصلاة والسلام - هو الذي جعلها واحدة أوردها إلى واحدة
__________
(1) إغاثة اللهفان: 1 \ 291.
(2) المحلى 10 \ 168، 169.(3/113)
ولأنه - عليه الصلاة والسلام - علم بذلك فأقره، ولا حجة إلا فيما صح أنه - عليه الصلاة والسلام - قاله أو فعله أو علمه فلم ينكره، وإنما يلزم هذا الخبر من قال في قول أبي سعيد الخدري «كنا نخرج زكاة الفطر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعا من كذا وأما نحن فلا (1) » ، انتهى كلام ابن حزم.
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (2) : سبحانك هذا بهتان عظيم أن يستمر هذا الجعل الحرام المتضمن لتغيير شرع الله ودينه وإباحة الفرج لمن هو عليه حرام وتحريمه على من هو عليه حلال على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه خير الخلق، وهم يفعلونه ولا يعلمونه ولا يعلمه هو، والوحي ينزل عليه وهو يقرهم عليه، فهب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكنه يعلمه، وأصحابه يعلمونه ويبدلون دينه وشرعه، والله يعلم ذلك ولا يوحيه إلى رسوله ولا يعلمه به، ثم يتوفى الله رسوله والأمر على ذلك؛ فيستمر هذا الضلال العظيم والخطأ المبين عندكم مدة خلافة الصديق كلها ويعمل به ولا يغيره إلى أن فارق الصديق الدنيا، واستمر الخطأ والضلال المركب صدرا من خلافة عمر حتى رأى بعد ذلك رأيه أن يلزم الناس بالصواب، فهل بالجهل بالصحابة وما كانوا عليه في عهد نبيهم وخلفائه أقبح من هذا؟ وتالله، لو كان جعل الثلاث واحدة خطأ محضا لكان أسهل من هذا الخطأ الذي ارتكبتموه، والتأويل الذي تأولتموه، ولو تركتم المسألة بهيئتها لكان أقوى لشأنها من هذه الأدلة والأجوبة.
وذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (3) : ضعف هذا الجواب لأن جماهير المحدثين والأصوليين على أن ما أسنده الصحابي إلى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - له حكم المرفوع، وإن لم يصرح بأنه بلغه - صلى الله عليه وسلم - وأقره.
الجواب الخامس: ما ذكره المجد قال: وتأوله بعضهم على صورة تكرير لفظ الطلاق بأن يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق؛ فإنه يلزمه واحدة إذا قصد التوكيد، وثلاثا إذا قصد تكرير الإيقاع، فكان الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر على صدقهم وسلامتهم وقصدهم في الغالب الفضيلة والاختيار، لم يظهر فيهم خب ولا خداع، وكانوا يصدقون في إرادة التوكيد فلما رأى عمر في زمانه أمورا ظهرت، وأحوالا تغيرت، وفشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل ألزمهم الثلاث في صورة التكرير إذ صار الغالب عليهم قصدها، وقد أشار إليه بقوله: " إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة " انتهى كلام المجد.
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1506) ، صحيح مسلم الزكاة (985) ، سنن الترمذي الزكاة (673) ، سنن النسائي الزكاة (2512) ، سنن أبو داود الزكاة (1616) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1829) ، مسند أحمد بن حنبل (3/98) ، موطأ مالك الزكاة (628) ، سنن الدارمي الزكاة (1664) .
(2) زاد المعاد 4 \ 120.
(3) أضواء البيان 1 \ 196.(3/114)
وهذا جواب ابن سريج كما قاله (1) . الخطابي والمنذري (2) .
وقال ابن حجر (3) : هذا الجواب ارتضاه القرطبي وقواه بقول عمر: " إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة "، وكذا قال النووي: إنه أصح الأجوبة.
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (4) : وأما حملكم الحديث على قول المطلق: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ومقصوده التأكيد بما بعد الأول فسياق الحديث من أوله إلى آخره، يرده، فإن هذا الذي أولتم الحديث عليه لا يتغير بوفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يختلف على عهده وعهد خلفائه، وهلم جرا. . . آخر الدهر، ومن ينويه في قصد التأكيد لا يفرق بين بر وفاجر، وصادق وكاذب، بل يرده إلى نيته، وكذلك من لا يقبله في الحكم لا يقبله مطلقا برا كان أو فاجرا.
وأيضا فإن قوله: " إن الناس قد استعجلوا وتتابعوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم "، إخبار من عمر بأن الناس قد استعجلوا ما جعلهم الله في فسحة منه وشرعه متراخيا بعضه عن بعض رحمة بهم ورفقا وأناة لهم؛ لئلا يندم مطلق فيذهب حبيبه من يده من أول وهلة فيعز عليه تداركه؛ فجعل له أناة ومهلة يستعتبه فيها ويرضيه، ويزول ما أحدثه الغضب الداعي إلى الفراق ويراجع كل منهما الذي عليه بالمعروف، فاستعجلوا فيما جعل لهم فيه أناة ومهلة وأوقعوه بفم واحد، فرأى عمر أن يلزمهم ما التزموا عقوبة لهم فإذا علم المطلق أن زوجته وسكنه تحرم عليه من أول مرة بجمعه الثلاث كف عنها ورجع إلى الطلاق المشروع المأذون فيه، وكان هذا من تأديب عمر لرعيته لما أكثروا من الطلاق الثلاث. . هذا وجه الحديث الذي لا وجه له غيره فأين هذا من تأويلكم المستنكر الذي لا توافقه ألفاظ الحديث بلا تنبو عنه وتنافره.
ويمكن أن يجاب عن جواب ابن القيم بما قاله الشيخ محمد الأمين الشنقيطي قال (5) : وللجمهور عن حديث ابن عباس هذا عدة أجوبة، الأول - أن الثلاث المذكورة فيها التي كانت تجعل واحدة ليس في شيء من روايات الحديث، التصريح بأنها دفعة بلفظ واحد، ولفظ كلامه الثلاث لا يلزمه منه لغة ولا عقلا ولا شرعا أن تكون بلفظ واحد، فمن قال لزوجته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثلاث مرات في وقت واحد فطلاقه هذا طلاق الثلاث؛ لأنه صريح بالطلاق فيه ثلاث مرات، وإذا قيل لمن جزم بأن المراد في الحديث إيقاع الثلاث بكلمة واحدة من أين أخذت كونها بكلمة واحدة، فهل في لفظ من ألفاظ الحديث أنها بكلمة واحدة؟ وهل يمنع إطلاق الطلاق على الطلاق بكلمة متعددة؟
فإن قال: لا يقال له طلاق الثلاث إلا إذا كان بكلمة واحدة، فلاشك في أن دعواه هذه غير صحيحة،
__________
(1) معالم السنن 3 \ 27
(2) المختصر للمنذري 3 \ 1126.
(3) الفتح 9 \ 298.
(4) زاد المعاد 4 \ 118، 119.
(5) أضواء البيان: 180 - 183.(3/115)
وإن اعترف بالحق وقال: يجوز إطلاقه على ما أوقع بكلمة واحدة وعلى ما أوقع بكلمات متعددة وهو أشد بظاهر اللفظ، قيل له: وإذا فجزمك بكونه بكلمة واحدة لا وجه له، وإذا لم يتعين في الحديث كون الثلاث بلفظ واحد سقط الاستدلال به من أصله في محل النزاع.
ومما يدل على أنه لا يلزم من لفظ طلاق الثلاث في هذا الحديث كونها بكلمة واحدة أن الإمام أبا عبد الرحمن النسائي مع جلالته وعلمه وشدة فهمه ما فهم من هذا الحديث إلا أن المراد بطلاق الثلاث لفظ أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق بتفريق الطلقات؛ لأن لفظ الثلاث أظهر في إيقاع الطلاق ثلاث مرات؛ ولذا ترجم في سننه لرواية أبي داود المذكورة في هذا الحديث، وقد سبق في الوجه الثالث ثم قال: فنرى هذا الإمام الجليل صرح بأن طلاق الثلاث في هذا الحديث ليس بلفظ واحد بل بألفاظ متفرقة، ويدل على صحة ما فهمه النسائي - رحمه الله - من الحديث ما ذكره العلامة ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد في الرد على من استدل لوقوع الثلاث دفعة بحديث عائشة، أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت - الحديث، فإنه قال فيه ما نصه: ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد؟ بل الحديث حجة لنا فإنه لا يقال فعل ذلك ثلاثا، وقال ثلاثا إلا من فعل، وقال مرة بعد مرة، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم، كما يقال: قذفه ثلاثا، وشتمه ثلاثا، وسلم عليه ثلاثا، اهـ بلفظه.
وهو دليل واضح لصحة ما فهمه النسائي - رحمه الله - من الحديث؛ لأن لفظ الثلاث في جميع رواياته أظهر في أنها طلقات ثلاث واقعة مرة بعد مرة كما أوضحه ابن القيم في حديث عائشة آنفا - وبعد أن نقل كلام ابن سريح وأن القرطبي ارتضى هذا الجواب، ونقل عن النووي جوابه عنه وقد سبقت الإشارة إلى ذلك كله في أول الجواب، ثم قال - قال مقيده - عفا الله عنه -: وهذا الوجه لا إشكال فيه لجواز تغيير الحال عند تفسير القصد؛ لأن الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، وظاهر اللفظ يدل لهذا كما قدمنا.
وعلى كل حال فادعاء الجزم بأن معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث بلفظ واحد ادعاء خال من دليل كما رأيت؛ فليتق الله من تجرأ على عزو ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه ليس في شيء من روايات حديث طاوس كون الثلاث المذكورة بلفظ واحد، ولم يتعين ذلك من اللغة، ولا من الشرع، ولا من العقل كما ترى، قال مقيده - عفا الله عنه - ويدل لكون الثلاث المذكورة ليست بلفظ واحد ما تقدم من حديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أحمد وأبي يعلى، من قوله: طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد، وقوله - صلى الله عليه وسلم - «" كيف طلقتها؟ " قال ثلاثا في مجلس واحد (1) » ؛ لأن التعبير بلفظ المجلس يفهم منه أنها ليست بلفظ واحد، إذ لو كان اللفظ واحدا لقال بلفظ واحد، ولم يحتج إلى ذكر المجلس، إذ لا داعي لذكر الوصف الأعم وترك الأخص بلا موجب كما هو ظاهر. انتهى كلام الشيخ الشنقيطي.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/265) .(3/116)
الجواب السادس: عن حديث طاوس عن ابن عباس أن سائر أصحاب ابن عباس رووا عنه إفتاءه بخلاف ذلك، وما كان ابن عباس ليروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ثم يخالفه إلى رأي نفسه، بل المعروف عنه أنه كان يقول: أنا أقول لكم سنة رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وتقولون قال أبو بكر وعمر، قاله في فسخ الحج وغيره، ولهذا اتجه الإمام أحمد بن حنبل إلى دفع حديث طاوس هذا بما رواه سائر أصحاب ابن عباس عن ابن عباس، قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - طلاق الثلاث واحدة (1) » ، بأي شيء تدفعه، قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه، وكذلك نقل عنه ابن منصور، ذكر جميع ذلك الإمام ابن القيم (2) ، وجاء في مسودة آل تيمية ما نصه (3) :
" وفيه - أي معاني الحديث للأثرم - أيضا في حديث ابن عباس: «كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة (4) » ؛ فقال أبو عبد الله: ادفع هذا الحديث بأنه قد روي عن ابن عباس خلافه من عشرة وجوه، أنه كان يرى طلاق الثلاث ثلاثا " اهـ.
وقال البيهقي في " باب من جعل الثلاث واحدة؛ وما ورد في خلاف ذلك " (5) . هذا الحديث أحد ما اختلف فيه البخاري ومسلم فأخرجه مسلم وتركه البخاري، وأظنه إنما تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس. .، ومنها ما أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، نا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا مسلم وعبد المجيد، عن ابن جريج قال: أخبرني عكرمة بن خالد أن سعيد بن جبير أخبره أن رجلا جاء إلى ابن عباس فقال: طلقت امرأتي ألفا، فقال: تأخذ ثلاثا وتدع تسعمائة وسبعة وتسعين، ورواه عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال لرجل طلق امرأته ثلاثا حرمت عليك.
وأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وأبو بكر بن الحسن قالا: نا أبو العباس، نا الربيع، نا الشافعي، نا مسلم بن خالد وعبد المجيد عن ابن جريج عن مجاهد قال: قال رجل لابن عباس: طلقت امرأتي مائة، قال: تأخذ ثلاثا، وتدع سبعا وتسعين.
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ: نا أبو عمرو بن مطر، نا يحيى بن محمد، نا عبيد الله بن معاذ، نا أبي، نا شعبة عن ابن أبي نجيح وحميد الأعرج، عن مجاهد قال: سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة، فقال: عصيت ربك وبانت منك امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجا، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (6) " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن " (7) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وعبيد بن محمد بن محمد بن مهدي قالا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا يحيى بن أبي طالب، أنا عبد الوهاب بن عطاء، أنا ابن جريج، عن عبد
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) .
(2) إغاثة اللهفان 1 \ 158 - 159.
(3) المسودة - 242.
(4) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) .
(5) السنن الكبرى 7 \ 337 - 338
(6) سورة الطلاق الآية 2
(7) قراءة شاذة للآية الأولى من سورة الطلاق.(3/117)
الحميد بن رافع، عن عطاء أن رجلا قال لابن عباس: طلقت امرأتي مائة، فقال: تأخذ ثلاثا وتدع سبعا وتسعين، وأخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ وأحمد بن الحسن القاضي قالا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا محمد بن إسحاق أنا حسين بن محمد، نا جرير بن حازم، عن أيوب عن عمر بن دينار " أن ابن عباس سئل عن رجل طلق امرأته عدد النجوم فقال: إنما يكفيك رأس الجوزاء ".
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا الحسن بن علي بن عفان، نا ابن نمير عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس قال: أتاني رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال: " إن عمك عصى الله فأندمه الله، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا، قال: أفلا يحللها له رجل؟ فقال: من يخادع الله يخدعه ".
أخبرنا أبو أحمد المهرجاني، أنا أبو بكر بن جعفر المزكي، نا محمد بن إبراهيم البوشنجي، نا ابن بكير، نا مالك عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن البكير أنه قال: " طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل له فسأل أبا هريرة وعبد الله بن عباس عن ذلك فقالا له: لا نرى أن تنكحها حتى تزوج زوجا غيرك، قال: فإنما كان طلاق إياها واحدة فقال ابن عباس: إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل ".
فهذه رواية سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس بن البكير، وروية عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري كلهم عن ابن عباس، أنه أجاز الطلاق بالثلاث وأمضاهن. . اهـ. كلام البيهقي - رحمه الله تعالى -.
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال: (1) . " لا يترك الحديث الصحيح المعصوم لمخالفة راويه؛ فإن مخالفته ليست معصومة، وقد قدم الشافعي رواية ابن عباس في شأن بريرة على فتواه التي تخالفها في كون بيع الأمة طلاقها، وأخذ هو وأحمد وغيرهما بحديث أبي هريرة: «من استقاء فعليه القضاء (2) » ، وقد خالفه أبو هريرة وأفتى بأنه لا قضاء عليه - وذكر جملة أمثلة نسبها إلى الحنابلة والحنفية والمالكية والشافعية إلى أن قال - رحمه الله -: والذي ندين الله به ولا يسعنا غيره وهو القصد في هذا الباب أن الحديث إذا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان لا راويه ولا غيره، إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث، أو لا يحضره وقت الفتيا أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا، أو يقوم في ظنه ما يعارضه، ولا يكون معارضا في نفسه الأمر أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه، ولو قدر انتفاء ذلك كله ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه لم يكن الراوي معصوما ولم توجب مخالفته؛ لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له
__________
(1) أعلام الموقعين 3 \ 31 وما بعدها
(2) موطأ مالك الصيام (679) .(3/118)
ذلك. اهـ.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي تعليقا على هذا الوجه (1) : قال مقيده - عفا الله عنه - فهذا إمام المحدثين وسيد المسلمين في عصره الذي تدارك به الإسلام بعد ما كاد تتزلزل قواعده وتغير عقائده أبو عبد الله أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - قال للأثرم وابن منصور: أنه رفض حديث ابن عباس قصدا؛ لأنه يرى عدم الاحتجاج به في لزوم الثلاث بلفظ واحد؛ لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك، وهذا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري - وهو هو - ذكر عنه الحافظ البيهقي أنه ترك الحديث عمدا لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد، ولاشك أنهما ما تركاه إلا لموجب يقتضي ذلك.
فإن قيل رواية طاوس في حكم المرفوع ورواية الجماعة المذكورين موقوفة على ابن عباس والمرفوع لا يعارض بالموقوف، فالجواب أن الصحابي إذا خالف ما روي ففيه للعلماء قولان، وهما روايتان عن أحمد - رحمه الله -، الأولى: أنه لا يحتج بالحديث لأنه أعلم الناس به راويه، وقد ترك العمل به وهو عدل عارف، وعلى هذه الرواية فلا إشكال.
وعلى الرواية الأخرى التي هي المشهورة عند العلماء أن العبرة بروايته لا بقوله، فإنه لا تقدم روايته إلا إذا كانت صريحة المعنى أو ظاهرة فيه ظهورا يضعف معه احتمال مقابله، أما إذا كانت محتملة لغير ذلك المعنى احتمالا قويا فإن مخالفة الراوي لما روى تدل على أن ذلك المحتمل الذي ترك ليس هو معنى ما روى، وقد قدمنا أن لفظ طلاق الثلاث في حديث طاوس المذكور محتمل احتمالا قويا لأن تكون الطلقات مفرقة كما جزم به النسائي، وصححه النووي والقرطبي وابن سريج.
فالحاصل أن ترك ابن عباس لجعل الثلاث بفم واحد واحدة يدل على أن معنى الحديث الذي روى ليس كونها بلفظ واحد، واعلم أن ابن عباس لم يثبت عنه أنه أفتى بالثلاث بفم واحد أنها واحدة، وما روى عنه أبو داود من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة أن ابن عباس قال: إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة فهو معارض بما رواه أبو داود نفسه من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة أن ذلك من قول عكرمة لا من قول ابن عباس، وترجح رواية إسماعيل بن إبراهيم على رواية حماد بموافقة الحفاظ لإسماعيل في أن ابن عباس يجعلها ثلاثا لا واحدة، انتهى.
الجواب السابع: حمل الثلاث فيه على أن المراد بها لفظ ألبتة، وكان يراد بها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أراد بها ركانة ثم تتابع الناس فأرادوا بها الثلاث فألزمهم عمر إياها.
__________
(1) أضواء البيان: 1 \ 189 - 191.(3/119)
وهذا جواب الخطابي وقواه ابن حجر قال الخطابي (1) : ويشبه أن يكون معنى الحديث منصرفا إلى طلاق ألبتة؛ لأنه قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ركانة أنه جعل ألبتة واحدة، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يراها واحدة، ثم تتابع الناس في ذلك فألزمهم الثلاث، وإليه ذهب غير واحد من الصحابة، رضي الله عنهم -، روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - أنه جعلها ثلاثا، وكذلك روي عن ابن عمر، وكان يقول: أبت الطلاق طلاق ألبتة، وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعروة وعمر بن عبد العزيز والزهري، وبه قال مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل، وهذا كصنيعه بشارب الخمر، فإن الحد كان في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر أربعين ثم إن عمر لما رأى الناس تشايعوا في الخمر واستخفوا بالعقوبة فيها قال: أرى أن تبلغ فيها حد المفتري؛ لأنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى، وكان ذلك على ملأ من الصحابة فلا ينكر أن يكون الأمر في طلاق " ألبتة " على شاكلته، انتهى كلام الخطابي.
وقال ابن حجر: (2) . هو قوي ويؤيده إدخال البخاري في هذا الباب الآثار التي فيها " ألبتة " والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث، كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما، وأن " ألبتة " إذا أطلقت حملت على الثلاث إلا إن أراد المطلق واحدة فيقبل، فكأن بعض رواته حمل لفظ " ألبتة " على الثلاث لاشتهار التسوية بينهما فرواها بلفظ الثلاث، وإنما المراد لفظ ألبتة، وكانوا في العصر الأول يقبلون ممن قال: أردت بألبتة الواحدة فلما كان عهد عمر أمضى الثلاث في ظاهر الحكم، انتهى كلام الحافظ ابن حجر.
الجواب الثامن: حمل الحديث على أنه شاذ، وقد حمله على ذلك جماعة من أهل العلم فقال ابن عبد الهادي قال ابن رجب في كتابه " مشكل الأحاديث الواردة أن الطلاق الثلاث واحدة " وساق حديث ابن عباس ثم قال (3) : فهذا الحديث لأئمة الإسلام فيه طريقان:
أحدهما وهو مسلك الإمام أحمد ومن وافقه ويرجع الكلام في إسناد الحديث بشذوذه وانفراد طاوس به، وأنه لم يتابع عليه، وانفراد الراوي بالحديث وإن كان ثقة هو علة في الحديث يوجب التوقف فيه، وأن يكون شاذا ومنكرا إذا لم يروا معناه من وجه يصح وهذه طريقة أئمة الحديث المتقدمين، كالإمام أحمد ويحيى القطان ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم، وهذا الحديث لا يرويه عن ابن عباس غير طاوس، قال الإمام أحمد في رواية ابن منصور: كل أصحاب ابن عباس يعني رووا عنه خلاف ما روى طاوس.
__________
(1) معالم السنن 3 \ 126.
(2) فتح الباري 9 \ 299
(3) سير الحاث - 74.(3/120)
وقال الجوزجاني: هو حديث شاذ، قال وقد عنيت بهذا الحديث في قديم الدهر؛ فلم أجد له أصلا، قال المصنف: ومتى أجمع الأمة على إطراح العمل بحديث وجب إطراحه وترك العمل به، وقال ابن مهدي: لا يكون إماما في العلم من عمل بالشاذ.
وقال النخعي: كانوا يكرهون الغريب من الحديث، وقال يزيد بن أبي حبيب: إذا سمعت الحديث فأنشده كما تنشد الضالة؛ فإن عرف وإلا فدعه، وعن مالك قال: " شر العلم الغريب "، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس، وفي هذا الباب شيء كثير لعدم جواز العمل بالغريب وغير المشهور. . قال ابن رجب: وقد صح عن ابن عباس - وهو راوي الحديث - أنه أفتى بخلاف هذا الحديث ولزوم الثلاث المجموعة، وقد علل بهذا أحمد والشافعي كما ذكره في المغني، وهذه أيضا علة في الحديث بانفرادها فكيف وقد ضم إليها علة الشذوذ والإنكار وإجماع الأمة! .
وقال القاضي إسماعيل في كتاب " أحكام القرآن ": طاوس مع فضله وصلاحه يروي أشياء منكرة منها هذا الحديث، وعن أيوب أنه كان يعجب من كثرة خطأ طاوس.
وقال ابن عبد البر: شذ طاوس في هذا الحديث.
قال ابن رجب وكان علماء أهل مكة ينكرون على طاوس ما ينفرد به من شواذ الأقاويل، انتهى المقصود.
الثاني: أنه منسوخ - وقد سبق ما يغني عن إعادته.
ونقل القرطبي عن ابن عبد البر أنه قال (1) : رواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والمغرب - قال - وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس.
ونقل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عن ابن العربي المالكي ما يختص بحديث ابن عباس هذا، فقال (2) : فإن قيل: ففي صحيح مسلم عن ابن عباس وذكر حديث أبي الصهباء المذكور؟ قلنا: هذا لا متعلق فيه من خمسة أوجه:
الأول: أنه حديث مختلف في صحته فكيف يقدم على إجماع الأمة ولم يعرف لها في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين، وقد سبق العصران الكريمان والاتفاق على لزوم الثلاث، فإن رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم نقل العدل عن العدل، ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا.
الثاني: أن هذا الحديث لم يرد إلا عن ابن عباس ولم يرو عنه إلا عن طريق طاوس فكيف يقبل ما لم يروه من الصحابة إلا واحد وما لم يروه عن ذلك الصحابي إلا واحد، وكيف خفي على جميع الصحابة وسكتوا عنه إلا ابن عباس، وكيف خفي على أصحاب ابن عباس إلا طاوس؟ انتهى محل الغرض من كلام ابن العربي، انتهى.
__________
(1) تفسير القرطبي 3 \ 129
(2) أضواء البيان 192(3/121)
وقال ابن حجر (1) : الجواب الثاني دعوى شذوذ ورواية طاوس وهي طريقة البيهقي، فإنه ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم الثلاث، ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن بابن عباس أن يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ويفتي بخلافه، فيتعين المصير إلى الترجيح والأخذ بقول الأكثر أولى من الأخذ بقول الواحد إذا خالفهم انتهى.
وقال ابن التركماني وطاوس يقول: إن أبا الصهباء مولاه سأله عن ذلك ولا يصح ذلك عن ابن عباس لرواية الثقات عنه خلافه، ولو صح عنه ما كان قوله حجة على من هو من الصحابة أجل وأعلم منه، وهم عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وغيرهم، انتهى.
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال بعد عرضه لهذا المسلك (2) : وهذا أفسد من جميع ما تقدم، ولا ترد أحاديث الصحابة وأحاديث الأئمة الثقات بمثل هذا، فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة لم يروه غيره وقبلته الأمة كلهم فلم يرده أحد منهم، وكم من حديث تفرد به من هو دون طاوس بكثير ولم يرده أحد من الأئمة ولا نعلم أحدا من أهل العلم قديما ولا حديثا قال: إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لا يقبل، وإنما يحكى عن أهل البدع، ومن تبعهم في ذلك أقوال لا يعرف لها قائل من الفقهاء.
قد تفرد الزهري بنحو ستين سنة، لم يروها غيره، وعلمت بها الأمة ولم يردوها بتفرده هذا مع أن عكرمة روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - حديث ركانة وهو موافق لحديث طاوس عنه، فإن قدح في عكرمة أبطل وتناقض، فإن الناس احتجوا بعكرمة، وصحح أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قدح من قدح فيه.
فإن قيل: فهذا هو الحديث الشاذ، وأقل أحواله أن يتوقف فيه ولا يجزم بصحته عن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قيل: ليس هذا هو الشاذ، وإنما الشذوذ: أن يخالف الثقات فيما رووه فيشذ عنهم بروايته، فأما إذا روى الثقة حديثا منفردا به، لم يرو الثقات خلافه فإن ذلك لا يسمى شاذا، وإن اصطلح على تسميته شاذا بهذا المعنى، لم يكن هذا الاصطلاح موجبا لرده، ولا مسوغا له.
قال الشافعي: " وليس الشاذ أن ينفرد الثقة برواية الحديث، بل الشاذ أن يروي خلاف ما رواه الثقات "، قاله في مناظرته لبعض من رد الحديث بتفرد الراوي به، ثم إن هذا القول لا يمكن أحدا من أهل العلم، ولا من الأئمة ولا من أتباعهم طرده، ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم وفتاويهم، والعجب أن الرادين لهذا الحديث بمثل هذا الكلام قد بنوا كثير من مذاهبهم على أحاديث ضعيفة، انفرد بها رواتها لا تعرف عن سواهم، وذلك أشهر وأكثر من أن يعد.
وبعد ما ذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي كلام يتفق مع ما سبق ذكره عن ابن القيم قال (3) : نعم لقائل
__________
(1) الفتح 9 \ 363.
(2) إغاثة اللهفان 1 \ 295 - 296.
(3) أضواء البيان 1 \ 193 - 1956.(3/122)
أن يقول: إن خبر الآحاد إذا كان الدواعي متوفرة إلى نقله ولم ينقله إلا واحد ونحوه، أن ذلك يدل على عدم صحته، ووجهه أن توفر الدواعي يلزم منه النقل تواترا والاشتهار، فإن لم يشتهر دل على أنه لم يقع؛ لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، وهذه قاعدة في الأصول أشار إليها في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما يحكم فيه بعدم صحة الخبر " وخبر الآحاد في السنى ".
حيث دواعي نقله تواترا ... نرى له لو قاله تقررا
وجزم بها غير واحد من الأصوليين، وقال صاحب جمع الجوامع عاطفا على ما يجزم فيه بعدم صحة الخبر والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي إلى نقله خلافا للرافضة، اهـ منه بلفظه.
ومراده أن مما يجزم بعدم صحته الخبر المنقول آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله، وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي مسألة: إذا انفرد واحد فيما يتوفر الدواعي إلى نقله وقد شاركه خلق كثير، كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة فهو كاذب قطعا خلافا للشيعة اهـ. محل الغرض منه بلفظه، وفي المسألة مناقشات وأجوبة عنها معروفة في الأصول.
قال مقيده - عفا الله عنه -: ولاشك أنه على القول بأن معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث بلفظ واحد كانت تجعل واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، ثم إن عمر غير ما كان عليه رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - والمسلمون في زمن أبي بكر وعامة الصحابة أو جلهم يعلمون ذلك، فالدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون من بعده متوفرة توافرا لا يمكن إنكاره؛ لأن (1) يرد بذلك التغيير الذي أحدثه عمر، فسكوت جميع الصحابة عنه، وكون ذلك لم ينقل منه حرف عن غير ابن عباس، يدل دلالة واضحة على أحد أمرين:
أحدهما: أن حديث طاوس الذي رواه عن ابن عباس ليس معناها أنها بلفظ واحد بل بثلاثة ألفاظ في وقت واحد كما قدمنا، وكما جزم به النسائي: وصححه النووي والقرطبي وابن سريج، وعليه فلا إشكال؛ لأن تغيير عمر للحكم مبني على تغيير قصدهم، والنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (2) » فمن قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ونوى التأكيد فواحدة، وإن نوى الاستئناف بكل واحدة فثلاث، واختلاف محامل اللفظ الواحد لاختلاف نيات اللافظين به لا إشكال فيه لقوله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: «وإنما لكل امرئ ما نوى (3) » .
__________
(1) قوله '' لأن '' كذا بالأصل المطبوع.
(2) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(3) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(3/123)
والثاني: أن يكون الحديث غير محكوم بصحته لنقله آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله، والأول أولى وأخف من الثاني، وقال القرطبي في المفهم في الكلام على حديث طاوس المذكور: وظاهر سياقه يقتضي النقل عن جميعهم أن معظمهم كانوا يرون ذلك، والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم وينتشر، فكيف ينفرد به واحد عن واحد؟ قال: فهذا الوجه يقتضي التوقف عن العمل بظاهره إن لم يقتض القطع ببطلانه اهـ. منه بواسطة نقل ابن حجر في فتح الباري عنه، وهو قوي جدا بحسب المقرر في الأصول كما ترى. انتهى.
الجواب التاسع: أن الحديث مضطرب، نقل هذا الجواب ابن حجر عن القرطبي (1) ، وذكر ابن القيم (2) هذا الجواب وناقشه فقال: وسلك آخرون في رد الحديث مسلكا آخر فقالوا هو حديث مضطرب لا يصح؛ ولذلك أعرض عنه البخاري، وترجم في صحيحه على خلافه فقال: " باب فيمن جوز الطلاق الثلاث في كلمة لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (3) ثم ذكر حديث اللعان وفيه: «فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولم يغير عليه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وهو لا يقر على باطل (4) » .
قالوا: ووجه اضطرابه: أنه تارة يروي عن طاوس عن ابن عباس، وتارة عن طاوس عن أبي الصهباء عن ابن عباس، وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس فهذا اضطرابه من جهة السند.
وأما المتن فإن أبا الصهباء تارة يقول: " ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة "، وتارة يقول: " ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة، فهذا يخالف اللفظ الآخر، وهذا المسلك من أضعف المسالك، ورد الحديث به ضرب من التعنت، ولا يعرف أحد من الحفاظ قدح في هذا الحديث ولا ضعفه، والإمام أحمد لما قيل له: بأي شيء ترده؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس خلافه.
ولم يرده بتضعيف ولا قدح في صحته، وكيف يتهيأ القدح في صحته، ورواته كلهم أئمة حفاظ، حدث به عبد الرزاق وغيره عن ابن جريج بصيغة الإخبار، وحدث به كذلك ابن جريج عن ابن طاوس، وحدث به ابن طاوس عن أبيه، وهذا إسناد لا مطعن فيه لطاعن، وطاوس من أخص أصحاب ابن عباس، ومذهبه: أن الثلاث واحدة، وقد رواه حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاوس، فلم ينفرد به عبد الرزاق ولا ابن
__________
(1) فتح الباري 9 \ 364.
(2) إغاثة اللهفان 1 \ 293 - 295.
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) صحيح البخاري الطلاق (5309) ، صحيح مسلم اللعان (1492) ، سنن النسائي الطلاق (3402) ، سنن أبو داود الطلاق (2245) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2066) ، موطأ مالك كتاب الطلاق (1201) ، سنن الدارمي النكاح (2229) .(3/124)
جريج، ولا عبد الله بن طاوس، فالحديث من أصح الأحاديث، وترك رواية البخاري له لا يوهنه وله حكم أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تركها البخاري لئلا يطول كتابه فإنه سماه: الجامع المختصر الصحيح، ومثل هذا العذر لا يقبله من له حظ في العلم.
وأما رواية من رواه عن أبي الجوزاء فإن كانت محفوظة فهي مما يزيد الحديث قوة وإن لم تكن محفوظة - وهو الظاهر - فهي وهم في الكنية انتقل فيها عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة من أبي الصهباء، إلى أبي الجوزاء، فإنه كان سيء الحفظ، والحفاظ قالوا " أبو الصهباء "، وهذا لا يوهن الحديث، وهذه الطريق عند الحاكم في المستدرك، وأما رواية من رواه مقيدا " قبل الدخول " فإنه تقدم أنه لا تناقض رواية الآخرين على أنها عند أبي داود عن أيوب عن غير واحد ورواية الإطلاق عن معمر عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه؛ فإن تعارضها فهذه الرواية أولى، وإن لم يتعارضا فالأمر واضح.
وحديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - صريح في كون الثلاثة واحدة في حق المدخول بها وعامة ما يقدر في حديث أبي الصهباء أن قوله: " قبل الدخول " زيادة من ثقة فيكون الأخذ بها أولى، وحينئذ فيدل أحد حديثي ابن عباس على أن هذا الحكم ثابت في حق البكر، وحديثه الآخر على أنه ثابت في حكم الثيب أيضا، فأحد الحديثين يقوي الآخر ويشهد بصحته، وبالله التوفيق.
الجواب العاشر: أن حديث ابن عباس معارض بالإجماع، والإجماع أقوى من خبر الواحد كما ذكر ذلك الشافعي وغيره، وقد سبق استدلال الجمهور بالإجماع مع ذكر أدلتهم لمذهبهم وبيان من قال به، ومناقشة ابن القيم له، فاكتفى بذلك عن الإعادة هنا.
الدليل الثاني: ما رواه الإمام أحمد في المسند قال: حدثنا سعد بن إبراهيم حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال حدثني داود بن الحصين عن عكرمة - مولى ابن عباس - عن ابن عباس قال: «طلق ركانة ابن عبد يزيد - أخو بني المطلق - امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كيف طلقتها "؟ قال: طلقتها ثلاثا، قال فقال: " في مجلس واحد؟ " قال: نعم، فقال: " فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت " قال: فراجعها (1) » فكان ابن عباس يروي الطلاق عند كل طهر.
قال ابن القيم (2) وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه، فقال في حديث عمرو بن شعيب عن
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/265) .
(2) أعلام الموقعين 3 \ 40.(3/125)
أبيه عن جده، «أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - رد ابنته على ابن أبي العاص بمهر جديد، ونكاح جديد (1) » هذا حديث ضعيف أو قال واه، لم يسمعه الحجاج عن عمرو بن شعيب، وإنما سمعه من محمد بن عبد الله العزرمي، والعزرمي لا يساوي حديثه شيئا، والحديث الذي رواه أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أقرها على النكاح الأول، وإسناده عنده هو إسناد حديث ركانة بن عبد يزيد؟ هذا وقد قال الترمذي فيه: ليس بإسناده بأس، فهذا إسناد صحيح عند أحمد، وليس به بأس عند الترمذي فهو حجة ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، فكيف إذا عضده ما هو نظيره أو أقوى منه؟ ثم ساق رواية أبي داود وستأتي وهي الدليل الثالث، ثم قال ابن القيم: قال شيخنا - رضي الله عنه - وأبو داود لما لم يرو في سننه الحديث الذي في مسند أحمد يعني الذي ذكرناه آنفا، فقال: حديث ألبتة أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثا؛ لأنهم أهل بيته، ولكن الأئمة الأكابر العارفين بعلل الحديث والفقه كالإمام أحمد وأبي عبيد والبخاري ضعفوا حديث ألبتة وبينوا أنه رواية قوم مجاهيل لم تعرف عدالتهم وضبطهم، وأحمد أثبت حديث الثلاث وبين أنه الصواب، وقال حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته ألبتة وفي رواية عنه: حديث ركانة في ألبتة ليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن ركانة طلق امرأته ثلاثا وأهل المدينة يسمون الثلاثة ألبتة. قال الأثرم: قلت لأحمد حديث ركانة في ألبتة فضعفه، انتهى.
وقد سبق الكلام على رواية الإمام أحمد لحديث ركانة، وكذلك رواية الزبير بن سعيد، ورواية نافع بن عجير عند الكلام على الدليل الخامس لمذهب الجمهور في المسألة الثانية.
الدليل الثالث: قال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح، قال حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج، قال أخبرني بعض بني أبي رافع، مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عكرمة مولى ابن عباس قال: «طلق يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة ونكح امرأة من مزينة فجاءت النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي - صلى الله عليه وسلم - حمية فدعى بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: " أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد، وفلانا لابنه الآخر يشبه منه كذا وكذا؟ " قالوا: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد يزيد " طلقها " ففعل فقال: " راجع امرأتك أم ركانة وإخوته " فقال: إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله، قال: وتلا (3) » .
وقد سبقت مناقشة رواية أبي داود عند الكلام على الدليل الخامس لمذهب الجمهور في المسألة الثانية فاكتفي بما هناك عن إعادته هنا.
__________
(1) سنن الترمذي النكاح (1142) ، سنن ابن ماجه النكاح (2010) .
(2) سنن أبو داود الطلاق (2196) .
(3) سورة الطلاق الآية 1 (2) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}(3/126)
الدليل الرابع: ما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر من أنه طلق امرأته في الحيض ثلاثا فاحتسب بواحدة وقد سبقت مناقشة حديث ابن عمر برواياته، وأن الصحيح أنه إنما طلقها واحدة، وذلك عند الكلام على الدليل السادس فاكتفي بما ذكر هناك عن إعادته هنا.
وأما الإجماع فممن ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من العلماء، فقد بينوا أن الأمر لم يزل على اعتبار الثلاث بلفظ واحد واحدة في عهد أبي بكر، وثلاث سنين من خلافة عمر، ويمكن أن يجاب عنه بما ورد من الآثار عن بعض الصحابة في أن الثلاث بلفظ واحد تكون ثلاثا وقد سبقت.
وأما القياس فقد قال ابن القيم: (1) : وأما القياس فإن الله - سبحانه وتعالى - قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} (2) ، ثم قال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (3) فلو قال: أشهد بالله أربع شهادات أني صادق، وقالت: أشهد بالله أربع شهادات أنه كاذب، كانت شهادة واحدة ولم تكن أربعا، فكيف يكون قوله: أنت طالق ثلاثا ثلاث تطليقات، وأي قياس أصح من هذا؟ وهكذا كل ما يعتبر فيه العدد من الإقرار ونحوه؛ ولهذا لو قال المقر بالزنا: إني أقر بالزنا أربع مرات كان ذلك مرة واحدة، وقد قال الصحابة لماعز: " إن أقررت أربعا رجمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلو قال: أقر به أربع مرات كان مرة واحدة فهكذا الطلاق سواء.
وقد أجاب الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عن هذا القياس فقال: (4) : وقياس أنت طالق ثلاثا على أيمان اللعان في أنه لو حلفها بلفظ واحد لم تجز، قياس مع وجود الفارق؛ لأن من اقتصر على واحدة من الشهادات الأربع المذكورة في آية اللعان أجمع العلماء على أن ذلك كما لو لم يأت بشيء منها أصلا، بخلاف الطلقات الثلاث، فمن اقتصر على واحدة منها اعتبرت إجماعا وحصلت به البينونة بانقضاء العدة إجماعا.
وأما الآثار فما جاء عن الصحابة في ذلك، فقد روى طاوس وعكرمة عن ابن عباس الإفتاء بذلك ورواية طاوس عند أبي جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ ورواية عكرمة عند أبي داود من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس، وحكى ابن وضاح وعنه ابن مغيث الإفتاء يكون الطلاق الثلاث في كلمة واحدة واحدة عن علي وابن مسعود والزبير وعبد الرحمن بن عوف، وجاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما رواه الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في مسند عمر قال: أخبرنا أبو يعلى حدثنا صالح بن مالك، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه قال قال عمر - رضي الله تعالى عنه -: ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث أن لا أكون حرمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنحكت الموالي، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح، وكذلك ما نقل من الآثار عن أهل البيت.
__________
(1) إغاثة اللهفان 1 \ 289.
(2) سورة النور الآية 6
(3) سورة النور الآية 8
(4) أضواء البيان 1 \ 195 - 196.(3/127)
ويضاف إلى هذه الآثار ما سبق ذكره من الآثار مما لم يذكر هنا وذلك في الكلام على رد استدلال الجمهور بالإجماع.
وأجيب عن تلك الآثار بما يأتي: أما ما روى طاوس عن ابن عباس أن من قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا إنما تلزمه طلقة واحدة فقد اعتبره أبو جعفر النحاس من مناكير طاوس التي خولف فيها طاوس (1) ، قال: وطاوس وإن كان رجلا صالحا فعنده عن ابن عباس مناكير يخالف عليها ولا يقبلها أهل العلم، منها أنه روى عن ابن عباس أنه قال في رجل قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا إنما تلزمه واحدة ولا يعرف هذا عن ابن عباس إلا من روايته، والصحيح عنه وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - أنها ثلاث كما قال الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} (2) . أي الثالثة.
وأما ما روى حمادي بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: " إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة " فقد تعقبه أبو داود في سننه بقوله: ورواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله، ولم يذكر ابن عباس وجعله قول عكرمة، وعلى فرض ثبوتهما فقد رجع ابن عباس عن ذلك كما صرح أبو داود قال (3) ، وصار قول ابن عباس فيما حدثنا أحمد بن صالح ومحمد بن يحيى، وهذا حديث أحمد قالا: نا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس أن ابن عباس وأبا هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثا فكلهم قالوا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، قال أبو داود وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير بن الأشج عن معاوية بن أبي عياش أنه شهد هذه القصة حين جاء محمد بن إياس بن البكير إلى ابن الزبير وعاصم بن عمر فسألهما عن ذلك فقال: اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة - رضي الله عنها - ثم ساق هذا الخبر، قال أبو داود وقول ابن عباس هو أن الطلاق الثلاث يبينها من زوجها مدخولا بها أو غير مدخول بها، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، هذا مثل خبر الصرف، قال فيه ثم إنه رجع عنه يعني ابن عباس. اهـ (4) .
وقد ساق في الباب الذي أورد فيه ذلك، وهو باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث آثارا عن سائر أصحاب ابن عباس بخلاف ما ذكر عن طاوس وعكرمة حيث قال: حدثنا حميد بن مسعدة، نا إسماعيل أنا أيوب، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق مرأته ثلاثا، قال فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس
__________
(1) الناسخ والمنسوخ 71.
(2) سورة البقرة الآية 230
(3) سنن أبي داود بشرح عون المعبود 2 \ 226 - 227.
(4) سنن أبي داود بشرح عون المعبود: 2 \ 226 - 227.(3/128)
يا ابن عباس وإن الله قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) ، وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، وإن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) ، قال أبو داود: روى هذا الحديث حميد الأعرج وغيره عن مجاهد عن ابن عباس، ورواه شعبة عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وأيوب وابن جريج جميعا عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وابن جريج، عن عبد الحميد بن رافع عن عطاء عن ابن عباس، ورواه الأعمش عن مالك بن الحارث، عن ابن عباس وابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قالوا في الطلاق الثلاث: إنه أجازها، قال: وبانت منك، نحو حديث إسماعيل عن أيوب عن عبد الله بن كثير. . اهـ.
وقال الباجي بخصوص ما نقل عن ابن عباس من فتواه بأن الثلاث بفم واحد واحدة (3) ما نصه: " قد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع " اهـ.
وأما ما نقله أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث الطليطلي عن ابن وضاح، من أن علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم - قد أفتوا بأن من طلق ثلاثا في كلمة واحدة لا يلزمه سوى طلقة واحدة، فيتوقف الاستدلال به على ثبوت السند إليهم بذلك، ولم يثبت.
وقد تعقبه أبو بكر بن العربي في كتابه الناسخ والمنسوخ ونقله عنه ابن القيم قال (4) قال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (5) " زل قوم في آخر الزمان فقالوا: إن الطلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يلزم وجعلوه واحدة، ونسبوه إلى السلف الأول فحكوه عن علي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس، وعزوه إلى الحجاج بن أرطأة الضعيف المنزلة المغموز المرتبة ورووا في ذلك حديثا ليس له أصل، وغوى قوم من أهل المسائل فتتبعوا الأهواء المبتدعة فيه وقالوا: إن قوله: أنت طالق ثلاثا كذب؛ لأنه لم يطلق ثلاثا كما لو قال: طلقت ثلاثا ولم يطلق إلا واحدة وكما لو قال: أحلف ثلاثا كانت يمينا واحدة، ومر أبو بكر بن العربي إلى أن قال: وما نسبوه إلى الصحابة كذب بحت لا أصل له في كتاب ولا في رواية له عن أحد وقد أدخل مالك في موطئه عن علي أن الحرام ثلاث لازمة في كلمة فهذا في معناها فكيف إذا صرح بها، وأما حديث الحجاج بن أرطأة فغير مقبول في الملة ولا عند أحد من الأئمة.
قال ابن العربي لم يعرف في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين وقد سبق العصران الكريمان بالاتفاق على لزوم الثلاث، فإن رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم، نقل العدل عن العدل ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا. اهـ.
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) المنتقى 4 \ 4.
(4) مختصر سنن أبي داود ومعه التهذيب والمعالم ج3 ص128.
(5) سورة البقرة الآية 229(3/129)
وقد ذكر ابن القيم ذلك في إغاثة اللهفان ص179 بقوله: " لعله إحدى الروايتين عنهم، وإلا فقد صح بلاشك عن ابن مسعود وعلي وابن عباس الإلزام بالثلاث إن أوقعها جملة، وصح عن ابن عباس أنه جعلها واحدة ولم نقف على نقل صحيح عن غيرهم، من الصحابة بذلك؛ فلذلك لم نعد ما حكي عنهم في الوجوه المبينة للنزاع، وإنما نعد ما وقفنا عليه في مواضعه ونعزوه إليها، وبالله التوفيق " اهـ كلام ابن القيم.
وقال البيهقي في السنن الكبرى في عزو ذلك إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - (1) أخبرنا أبو سعد أحمد بن محمد الماليني، أنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ، ثنا محمد بن عبد الوهاب بن هشام نا علي بن سلمة اللبقي، ثنا أبو أسامة عن الأعمش قال: كان بالكوفة شيخ يقول سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فإنه يرد إلى واحدة والناس عنقا واحدا إذ ذلك يأتونه ويسمعون منه، قال فأتيته فقرعت عليه الباب فخرج إلي شيخ فقلت له: كيف سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يقول: فيمن طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد؟ قال سمعت علي بن أبي طالب يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فإنه يرد إلى واحدة، قال فقلت له: أين سمعت هذا من علي - رضي الله تعالى عنه -؟ قال: أخرج إليك كتابا فأخرج فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فقد بانت منه ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. قال: فقلت ويحك هذا غير الذي تقول، قال: الصحيح هو هذا، ولكن هؤلاء أرادوني على ذلك " اهـ.
وأما ما روى أبو يعلى عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - من قوله: " ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق " إلخ فلا يصح الاحتجاج به على أن عمر قد ندم آخر حياته على إمضاء الثلاث لأمرين:
أحدهما: أن يزيد بن أبي مالك لم يدرك عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - وقد قال الحافظ الذهبي في " ميزان الاعتدال " في يزيد بن أبي مالك: صاحب تدليس وإرسال عمن لم يدرك، وذكره الحافظ ابن حجر في " تعريف أهل التقديس بالموصوفين بالتدليس " وقال - وصفه أبو مسهر بالتدليس.
الثاني: أن خالد بن يزيد بن أبي مالك وهاه ابن معين، وقال أحمد: ليس بشيء، وقال النسائي: غير ثقة، وقال الدارقطني: ضعيف، وقال ابن عدي عن ابن أبي عصمة عن أحمد بن أبي يحيى: سمعت أحمد بن حنبل يقول: خالد بن يزيد بن أبي مالك ليس بشيء، وقال ابن أبي الحواري سمعت ابن معين يقول بالعراق: كتاب ينبغي أن يدفن: كتاب الديات لخالد بن يزيد بن أبي مالك، لم يرض أن يكذب على أبيه
__________
(1) السنن الكبرى ج \ 7 ص: 339 - 340.(3/130)
حتى كذب على الصحابة، قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت هذا الكتاب من خالد ثم أعطيته العطار فأعطى الناس فيه حوائج، وفي " تهذيب التهذيب " للحافظ ابن حجر، قال ابن حيان: كان صدوقا في الرواية ولكنه كان يخطئ كثيرا وفي حديثه مناكير لا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد عن أبيه، وقال أبو داود: ضعيف، وقال مرة: متروك الحديث، وذكره ابن الجارود والساجي والعقيلي في الضعفاء. اهـ.
وأجيب عما نقل عن أهل البيت النبوي في اعتبار الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، واحدة بما رواه البيهقي (1) قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو عمر وعثمان بن أحمد بن السمان ببغداد، أنا حنبل بن إسحاق بن حنبل، نا محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، نا مسلمة بن جعفر الأحمسي، قال: قلت لجعفر بن محمد: إن قوما يزعمون أن من طلق ثلاثا بجهالة رد إلى السنة يجعلونها واحدة يروونها عنكم؟ قال معاذ الله، ما هذا من قولنا " من طلق ثلاثا فهو كما قال " وأخبرنا أبو عبد الله، نا أبو محمد الحسن بن سليمان الكوفي ببغداد، نا محمد بن عبد الله الحضرمي، نا إسماعيل بن بهرام، نا الأشجعي عن بسام الصيرفي قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: من طلق امرأته ثلاثا بجهالة أو علم فقد بانت منه. اهـ ونقل السيافي عن صاحب الآمالي أنه قال (2) : حدثنا أبو كريب عن حفص بن غياث قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: من طلق ثلاثا فهي ثلاث، وهو قولنا أهل البيت " ثم ذكر رواية البيهقي عن شيخه الحاكم المتقدمة، وقال السياغي من الروض النضير في وقوع الطلاق بائنا بإرساله ثلاثا بلفظ واحد قال (3) وهو مذهب جمهور أهل البيت كما حكاه محمد بن منصور عنهم في الأمالي بأسانيده، وروى في الجامع الكافي عن الحسن بن يحيى قال، رويناه عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وعن علي - عليه السلام، وعلي بن الحسين، وزيد بن علي ومحمد بن علي الباقر، ومحمد بن عمر بن علي، وجعفر بن محمد، وعبد الله بن الحسن، ومحمد بن عبد الله وخيار آل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -، ثم قال الحسن أجمع آل الرسول على أن الذي يطلق ثلاثا في كلمة واحدة أنها قد حرمت عليه وسواء كان قد دخل بها الزوج أو لم يدخل ورواه في (البحر) عن ابن عباس وابن عمر وعائشة وأبي هريرة وعن علي - عليه السلام - والناصر والمؤيد بالله وتخريجه، والإمام يحيى والفريقين ومالك وبعض الإمامية، قال ابن القيم: وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور التابعين وكثير من الصحابة اهـ. وذهب إليه ابن حزم في المحلي وأطال الاحتجاج عليه، اهـ المراد من الروض النضير.
__________
(1) السنن الكبرى 7 \ 340.
(2) الروض النضير 4 \ 387.
(3) الروض النضير 4 \ 379.(3/131)
المذهب الثالث يقع في المدخول بها ثلاثا وبغير المدخول بها واحدة، وذكر ابن القيم أنه أخذ(3/131)
بالحديث الوارد في التفرقة: إسحاق بن راهوية وخلق من السلف جعلوا الثلاث واحدة في غير المدخول بها.
وهذا المذهب مبني على ما رواه أبو داود في سننه أن رجلا يقال له أبو الصهباء وكان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من إمارة عمر - رضي الله تعالى عنهما -، فقال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من إمارة عمر - رضي الله تعالى عنهما -، فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال: أجروهن عليهم.
قال ابن القيم: رأى هؤلاء أن إلزام عمر بالثلاث هو في حق المدخول بها، وحديث أبي الصهباء في غير المدخول بها قالوا ففي هذا التفريق موافقة المنقول من الجانبين وموافقة القياس. انتهى.
وقد سبقت مناقشة هذا الدليل في الجواب الثالث من الأجوبة على حديث ابن عباس، وهو الدليل الأول للمذهب الثاني.(3/132)
المذهب الرابع: عدم وقوع الطلاق مطلقا؛ لأن إيقاع الطلاق على ذلك الوجه بدعة محرمة فهو مردود لحديث: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » ، وقد حكي هذا القول للإمام أحمد فأنكره وقال: هو قول الرافضة، كما نص عليه ابن القيم في زاد المعاد وذكر بأن القول بعدم الوقوع جملة هو مذهب الإمامية، قال: وحكوه عن جماعة من أهل البيت، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة الفرق بين الطلاق الحلال والحرام أن القول بعدم الوقوع محدث مبتدع، قاله بعض المعتزلة والشيعة ولا يعرف عن أحد من السلف. اهـ.
وقال ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم في شرحه لحديث؟ : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث وسئل عمن قال لا يقع الطلاق المحرم لأنه يخالف ما أمر به، فقال: هذا قول سوء رديء ثم ذكر قصة ابن عمر وأنه احتسب بطلاقه في الحيض، وقال أبو عبيد: الوقوع هو الذي عليه العلماء مجمعون في جميع الأمصار حجازهم وتهامهم، ويمنهم وشامهم، وعراقهم ومصرهم، وحكى ابن المنذر ذلك عن كل من يحفظ قوله من أهل العلم إلا ناسا من أهل البدع لا يعتد بهم. اهـ.
وفيما يلي كلام مجمل لابن تيمية في المسألتين: قال (3) : " الأصل الثاني " أن الطلاق المحرم الذي يسمى " طلاق البدعة " إذ أوقعه الإنسان هل يقع، أم لا؟ فيه نزاع بين السلف والخلف، والأكثرون يقولون بوقوعه مع القول بتحريمه، وقال آخرون: لا يقع مثل طاوس، وعكرمة، وخلاس، وعمر، ومحمد بن إسحاق، وحجاج بن أرطأة، وأهل الظاهر كداود وأصحابه، وطائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد، ويروى عن أبي جعفر الباقر، وجعفر بن
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(3) مجموع الفتاوى ج 33 \ 81- 98.(3/132)
محمد الصادق، وغيرهما من أهل البيت، وهو قول أهل الظاهر: داود وأصحابه، لكن منهم من لا يقول بتحريم الثلاث، ومن أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد من عرف أنه لا يقع مجموع الثلاث إذا أوقعها جميعا، بل يقع منها واحدة.
ولم يعرف قوله في طلاق الحائض، ولكن وقوع الطلاق جميعا قول طوائف من أهل الكلام والشيعة، ومن هؤلاء من يقول: إذا أوقع الثلاث جملة لم يقع به شيء أصلا، لكن هذا قول مبتدع لا يعرف لقائله سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وطوائف من أهل الكلام والشيعة، لكن ابن حزم من الظاهرية لا يقول بتحريم جمع الثلاث؛ فلذا يوقعها، وجمهورهم على تحريمها وأنه لا يقع إلا واحدة.
ومنهم من عرف قوله في الثلاث ولم يعرف قوله في الطلاق في الحيض، كمن ينقل عنه من أصحاب أبي حنيفة ومالك، وابن عمر روى عنه من وجهين أنه لا يقع، وروى عنه من وجوه أخرى أشهر وأثبت أنه يقع، وروى ذلك عن زيد.
وأما " جمع الثلاث " فأقوال الصحابة فيها كثيرة مشهورة: روى الوقوع فيها عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة وعمران بن الحصين وغيرهم، وروى عدم الوقوع فيها عن أبي بكر، وعن عمر صدرا من خلافته، وعلي بن أبي طالب وابن مسعود، وابن عباس أيضا، وعن الزبير، وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنهم أجمعين -.
قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث في كتابه الذي سماه: " المقنع في أصول الوثائق وبيان ما في ذلك من الدقائق " وطلاق البدعة أن يطلقها ثلاثا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق. . ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق؟ فقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود - رضي الله تعالى عنهما -: يلزمه طلقة واحدة، وكذا قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -؛ وذلك لأن قوله: " ثلاثا " لا معنى له؛ لأنه لم يطلق ثلاث مرات، لأنه إذا كان مخبرا عما مضى فيقول: طلقت ثلاث مرات، يخبر عن ثلاث طلقات أتت منه في ثلاثة أفعال كانت منه، فذلك يصح، ولو طلقها مرة واحدة فقال: طلقها ثلاث مرات لكان كاذبا.
وكذلك لو حلف بالله تعالى ثلاثا يردد الحلف كانت ثلاثا أيمان، وأما لو حلف بالله تعالى فقال: أحلف بالله تعالى ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة، والطلاق مثله، قال: ومثل ذلك قال الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف روينا ذلك كله عن ابن وضاح، يعني الإمام محمد بن وضاح الذي يأخذ عن طبقة أحمد بن حنبل وابن أبي شيبة ويحيى بن معين وسحنون بن سعيد وطبقتهم، قال: وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدى، ومحمد بن عبد السلام الخشني فقيه عصره، وابن بقي بن مخلد، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة، وذكر هذا عن بضعة عشر فقيها من فقهاء طليطلة المتعبدين على مذهب مالك بن أنس.(3/133)
قلت: وقد ذكره التلمساني رواية عن مالك، وهو قول محمد بن مقاتل الرازي من أئمة الحنفية حكاه عن المازني وغيره، وقد ذكر هذا رواية عن مالك، وكان يفتي بذلك أحيانا الشيخ أبو البركات ابن تيمية، وهو وغيره يحتجون بالحديث الذي رواه مسلم في صحيحه وأبو داود وغيرهما عن طاوس، عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر - رضي الله تعالى عنهما - طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم، وفي رواية: أنا أبا الصهباء قال لابن عباس هات من هناتك ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأمضاه عليهم وأجازه.
والذين ردوا هذا الحديث تأولوه بتأويلات ضعيفة، وكذلك كل حديث فيه: أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ألزم الثلاث بيمين أوقعها جملة، أو أن أحدا في زمنه أوقعها جملة فألزمه بذلك: مثل حديث يروى عن علي، وآخر عن عبادة بن الصامت، وآخر عن الحسن عن ابن عمر، وغير ذلك فكلها أحاديث ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة ويعرف أهل العلم بنقد الحديث أنها موضوعة، كما هو مبسوط في موضعه.
وأقوى ما ردوه به أنهم قالوا: ثبت عن ابن عباس من غير وجه أنه أفتى بلزوم الثلاث، وجواب المستدلين أن ابن عباس روى عنه من طريق عكرمة أيضا أنه كان يجعلها واحدة، وثبت عن عكرمة عن ابن عباس ما يوافق حديث طاوس مرفوعا إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وموقوفا على ابن عباس، ولم يثبت خلاف ذلك عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فالمرفوع «أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، فردها عليه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم (1) » -، قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده حدثنا سعيد بن إبراهيم، حدثنا أبي: عن ابن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: «طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - " كيف طلقتها؟ " قال: فقال طلقتها ثلاثا، قال: " في مجلس واحد "؟ قال: نعم، قال: " فإنها تلك واحدة فارجعها إن شئت " قال: فراجعها (2) » ، وكان ابن عباس يقول: إنما الطلاق عند كل طهر.
قلت وهذا الحديث قال فيه ابن إسحاق حدثني داود، وداود من شيوخ مالك ورجال البخاري، وابن إسحاق إذ قال، حدثني، فهو ثقة عند أهل البيت، وهذا إسناد جيد، وله شاهد من وجه آخر رواه أبو داود في السنن، ولم يذكر أبو داود هذا الطريق الجيد؛ فلذلك ظن أن تطليقة واحدة بائنا أصح، وليس الأمر كما قال، بل الإمام أحمد رجح هذه الرواية على تلك وهو كما قال أحمد، وقد بسطنا الكلام على ذلك في موضع آخر.
وهذا المروي عن ابن عباس في حديث ركانة من وجهين، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس من وجهين عن عكرمة، وهو أثبت من رواية عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، ونافع بن عجير: أنه طلقها ألبتة،
__________
(1) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2208) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/265) .(3/134)
و «" أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - استحلفه، فقال: " ما أردت إلا واحدة؟ (1) » فإن هؤلاء مجاهيل لا تعرف أحوالهم، وليسوا فقهاء، وقد ضعف حديثهم أحمد بن حنبل وأبو عبيد وابن حزم، وغيرهم، وقال أحمد ابن حنبل: حديث ركانة في ألبتة ليس بشيء، وقال أيضا: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته ألبتة؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس " أن ركانة طلق امرأته ثلاثا " وأهل المدينة يسمون " ثلاثا " ألبتة، فقد استدل أحمد على بطلان حديث ألبتة بهذا الحديث الآخر الذي فيه أنه طلقها ثلاثا، وبين أن أهل المدينة يسمون من طلق ثلاثا طلق ألبتة، وهذا يدل على ثبوت الحديث عنده، وقد بينه غيره من الحفاظ، وهذا الإسناد، وهو قول ابن إسحاق: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: هو إسناد ثابت عن أحمد وغيره من العلماء.
وبهذا الإسناد روى: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " رد ابنته زينب على زوجها بالنكاح الأول (2) » ، وصحح ذلك أحمد وغيره من العلماء وابن إسحاق إذ قال: حدثني فحديثه صحيح عند أهل الحديث، إنما يخاف عليه التدليس إذا عنعن، وقد روى أبو داود في سننه هذا عن ابن عباس من وجه آخر، وكلاهما يوافق حديث طاوس عنه، وأحمد كان يعارض حديث طاوس بحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثا، ونحوه.
وكان أحمد يرى جمع الثلاث جائزا، ثم رجع أحمد عن ذلك، وقال: تدبرت القرآن فوجدت الطلاق الذي فيه هو الرجعي، أو كما قال، واستقر مذهبه على ذلك، وعليه جمهور أصحابه، وتبين من حديث فاطمة أنها كانت مطلقة ثلاثا متفرقات لا مجموعة، وقد ثبت عنده حديثان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من جمع ثلاثا لم يلزمه إلا واحدة، وليس عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ما يخالف ذلك، بل القرآن يوافق ذلك، والنهي عنده يقتضي الفساد، فهذه النصوص والأصول الثابتة عنه تقتضي من مذهبه أنه لا يلزمه إلا واحدة، وعدوله عن القول بحديث ركانة وغيره كان أولا لما عارض ذلك عنده من جواز جمع الثلاث، فكان ذلك يدل على النسخ، ثم إنه رجع عن المعارضة وتبين له فساد هذا المعارض، وأن جمع الثلاث لا يجوز: فوجب على أصله العمل بالنصوص السالمة عن المعارض، وليس يعل حديث طاوس بفتيا ابن عباس بخلافه، وهذا علمه في إحدى الروايتين عنه، ولكن ظاهر مذهبه الذي عليه أصحابه أن ذلك لا يقدح في العمل بالحديث، لا سيما وقد بين ابن عباس عذر عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - في الإلزام بالثلاث، وابن عباس عذره هو العذر الذي ذكره عن عمر - رضي الله تعالى عنه -، وهو أن الناس لما تتابعوا فيما حرم الله تعالى عليهم استحقوا العقوبة على ذلك فعوقبوا بلزومه، بخلاف ما كانوا عليه قبل ذلك، فإنهم لم يكونوا مكثرين من فعل المحرم.
وهذا كما أنهم لما أكثروا شرب الخمر واستخفوا بحدها كان عمر يضرب فيها ثمانين، وينفي فيها، ويحلق الرأس، ولم يكن ذلك على عهد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وكما قاتل على بعض أهل القبلة ولم يكن ذلك على عهد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -، والتفريق بين الزوجين هو ما كانوا يعاقبون به أحيانا: إما مع بقاء النكاح، وإما بدونه، فالنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فرق بين الثلاثة الذين خلفوا وبين نسائهم حتى تاب الله عليهم من غير طلاق، والمطلق ثلاثا حرمت عليه امرأته حتى تنكح زوجا غيره عقوبة له ليمتنع
__________
(1) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2206) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) .
(2) سنن الترمذي النكاح (1143) ، سنن أبو داود الطلاق (2240) ، سنن ابن ماجه النكاح (2009) .(3/135)
عن الطلاق.
وعمر بن الخطاب ومن وافقه كمالك وأحمد في إحدى الروايتين حرموا المنكوحة في العدة على الناكح أبدا؛ لأنه استعجل ما أحله الله فعوقب بنقيض قصده، والحكمان لهما عند أكثر السلف أن يفرقا بينهما بلا عوض إذ رأيا الزوج ظالما معتديا، لما في ذلك من منعه من الظلم ودفع الضرر عن الزوجة ودل على ذلك الكتاب والسنة والآثار، وهو قول مالك وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وألزم عمر بالثلاث لما أكثروا منه: إما أن يكون رآه عقوبة تستعمل وقت الحاجة، وإما أن يكون رآه شرعا لازما، لاعتقاده أن الرخصة كانت لما كان المسلمون لا يوقعونه إلا قليلا.
وهكذا كما اختلف كلام الناس في نهيه عن المتعة، هل كان نهي اختيار؛ لأن إفراد الحج بسفرة والعمرة بسفرة كان أفضل من التمتع، أو كان قد نهى عن الفسخ، لاعتقاده أنه كان مخصوصا بالصحابة؟ وعلى التقديرين فالصحابة قد نازعوه في ذلك، وخالفه كثير من أئمتهم من أهل الشورى وغيرهم: في المتعة وفي الإلزام بالثلاث، وإذا تنازعوا في شيء وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، كما أن عمر كان يرى أن المبتوتة لا نفقة لها ولا سكنى، ونازعه في ذلك كثير من الصحابة، وأكثر العلماء على قولهم، وكان هو وابن مسعود يريان أن الجنب لا يتيمم، وخالفهما عمار وأبو موسى وابن عباس وغيرهم من الصحابة، وأطبق العلماء على قول هؤلاء، لما كان معهم الكتاب والسنة، والكلام على هذا كثير مبسوط في موضع آخر، والمقصود هنا التنبيه على ما أخذ الناس به.
والذين لا يرون الطلاق المحرم لازما يقولون: هذا هو الأصل الذي عليه أئمة الفقهاء: كمالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، وهو: أن إيقاعات العقود المحرمة لا تقع لازمة: كالبيع المحرم، والنكاح المحرم، والكتابة المحرمة، ولهذا أبطلوا نكاح الشغار، ونكاح المحلل، وأبطل مالك وأحمد البيع يوم الجمعة عند النداء، وهذا بخلاف الظهار المحرم؛ فإن ذلك نفسه محرم، كما يحرم القذف وشهادة الزور، واليمين الغموس، وسائر الأقوال التي هي في نفسها محرمة: فهذا لا يمكن أن ينقسم إلى صحيح وغير صحيح، بل صاحبها يستحق العقوبة بكل حال، فعوقب المظاهر بالكفارة، ولم يحصل ما قصده به من الطلاق؛ فإنهم كانوا يقصدون به الطلاق، وهو موجب لفظه، فأبطل الشارع ذلك؛ لأنه قول محرم، وأوجب فيه الكفارة.
وأما الطلاق فجنسه مشروع: كالنكاح والبيع، فهو يحل تارة، ويحرم تارة فينقسم إلى صحيح وفاسد، كما ينقسم البيع والنكاح والنهي في هذا الجنس يقتضي فساد المنهي عنه، ولما كان أهل الجاهلية يطلقون بالظهار فأبطل الشارع ذلك؛ لأنه قول محرم كان مقتضى ذلك أن كل قول محرم لا يقع به الطلاق، وإلا فهم كانوا يقصدون الطلاق بلفظ الظهار كلفظ الحرام، وهذا قياس أصل الأئمة مالك، والشافعي، وأحمد.
ولكن الذين خالفوا قياس أصولهم في الطلاق خالفوه لما بلغهم من الآثار، فلما ثبت عندهم عن ابن عمر أنه اعتد بتلك التطليقة التي طلق امرأته وهي حائض قالوا: هم أعلم بقصته، فاتبعوه في ذلك، ومن نازعهم يقول: ما زال ابن عمر وغيره يروون أحاديث ولا تأخذ العلماء بما فهموه منها، فإن الاعتبار بما رووه،(3/136)
لا بما رأوه وفهموه، وقد ترك جمهور العلماء قول ابن عمر الذي فسر به قوله: " فاقدروا له "، وترك مالك وأبو حنيفة وغيرهما تفسيره لحديث «" البيعان بالخيار (1) » مع أن قوله هو ظاهر الحديث، وترك جمهور العلماء تفسيره لقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (2) ، وقوله نزلت هذه الآية في كذا، وكذلك إذا خالف الراوي ما رواه، كما ترك الأئمة الأربعة وغيرهم قول ابن عباس: أن بيع الأمة طلاقها، مع أنه روى حديث بريرة وأن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - خيرها بعد أن بيعت وعتقت، فإن الاعتبار بما رووه، لا ما رأوه وفهموه.
ولما ثبت عندهم عن أئمة الصحابة أنهم ألزموا بالثلاث المجموعة قالوا: لا يلزمون بذلك إلا وذلك مقتضى الشرع، واعتقد طائفة لزوم هذا الطلاق وأن ذلك إجماع، لكونهم لم يعلموا خلافا ثابتا، لا سيما وصار القول بذلك معروفا عن الشيعة الذين لم ينفردوا عن أهل السنة بحق.
تقال المستدلون: هؤلاء الذين هم بعض الشيعة وطائفة من أهل الكلام يقولون جامع الثلاث لا يقع به شيء: هذا القول لا يعرف عن أحد من السلف، بل قد تقدم الإجماع على بعضه، وإنما الكلام هل يلزمه واحدة؟ أو يقع ثلاث؟ والنزاع بين السلف في ذلك ثابت لا يمكن رفعه، وليس مع من جعل ذلك شرعا لازما للأمة حجة يجب اتباعها: من كتاب ولا سنة، ولا إجماع، وإن كان بعضهم قد احتج على هذا بالكتاب، وبعضهم بالسنة، وبعضهم بالإجماع، وقد احتج بعضهم بحجتين أو أكثر من ذلك، لكن المنازع يبين أن هذه كلها حجج ضعيفة، وأن الكتاب والسنة والاعتبار إنما تدل على نفي اللزوم، وتبين أنه لا إجماع في المسألة، بل الآثار الثابتة عمن ألزم بالثلاث مجموعة عن الصحابة تدل على أنهم لم يكونوا يجعلون ذلك مما شرعه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لأمته شرعا لازما، كما شرع تحريم المرأة بعد الطلقة الثالثة، بل كانوا مجتهدين في العقوبة بإلزام ذلك إذا كثر، ولم ينته الناس عنه.
وقد ذكرت أن الألفاظ المنقولة عن الصحابة تدل على أنهم ألزموا بالثلاث لمن عصى الله تعالى بإيقاعها جملة، فأما من كان يتقي الله فإن الله يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (4) . فمن لا يعلم التحريم حتى أوقعها، ثم لما علم التحريم تاب والتزم أن لا يعود إلى المحرم، فهذا لا يستحق أن يعاقب، وليس في الأدلة الشرعية: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، ما يوجب لزوم الثلاث له، ونكاحه ثابت بيقين، وامرأته محرمة على الغير بيقين، وفي التزامه بالثلاث إباحتها للغير مع تحريمها عليه وذريعة إلى نكاح التحليل الذي حرمه الله ورسوله.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2079) ، صحيح مسلم البيوع (1532) ، سنن الترمذي البيوع (1246) ، سنن النسائي البيوع (4464) ، سنن أبو داود البيوع (3459) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) ، سنن الدارمي البيوع (2547) .
(2) سورة البقرة الآية 223
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3(3/137)
و" نكاح التحليل " لم يكن ظاهرا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، ولم ينقل قط أن امرأة أعيدت بعد الطلقة الثالثة على عهدهم إلى زوجها بنكاح تحليل، بل: «" لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له (1) » : «" ولعن آكل الربا، وموكله وشاهديه وكاتبه (2) » ، ولم يذكر في التحليل الشهود ولا الزوجة ولا الوالي؛ لأن التحليل الذي كان يفعل كان مكتوما بقصد المحلل، أو يتواطأ عليه هو والمطلق المحلل له، والمرأة ووليها لا يعلمون قصده ولو علموا لم يرضوا أن يزوجوه؛ فإنه من أعظم المستقبحات والمنكرات عند الناس؛ ولأن عاداتهم لم تكن بكتابة الصداق في كتاب، ولا إشهاد عليه، بل كانوا يتزوجون ويعلنون النكاح، ولا يلتزمون أن يشهدوا عليه شاهدين وقت العقد، كما هو مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإشهاد على النكاح حديث صحيح، هكذا قال أحمد بن حنبل وغيره.
فلما لم يكن على عهد عمر - رضي الله تعالى عنه - تحليل ظاهر، ورأى في إنفاذ الثلاث زجرا لهم عن المحرم: فعل ذلك باجتهاده - أما إذا كان الفاعل لا يستحق العقوبة، وإنفاذ الثلاث يفضي إلى وقوع التحليل المحرم بالنص وإجماع الصحابة، والاعتقاد وغير ذلك من المفاسد، لم يجز أن يزال مفسدة حقيقة بمفاسد أغلظ منها، بل جعل الثلاث واحدة في مثل هذا الحال كما كان على عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بكر أولى، ولهذا كان طائفة من العلماء مثل أبي البركات يفتون بلزوم الثلاث في حال دون حال، كما نقل عن الصحابة، وهذا: إما لكونهم رأوه من " باب التعزير " الذي يجوز فعله بحسب الحاجة، كالزيادة على أربعين في الخمر والنفي فيه، وحلق الرأس، وإما لاختلاف اجتهادهم: فرأوه تارة لازما وتارة غير لازم.
وبالجملة فما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته " شرعا لازما " إنما لا يمكن تغييره لأنه لا يمكن نسخ بعد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -، ولا يجوز أن يظن بأحد من علماء المسلمين أن يقصد هذا، ولا سيما الصحابة، لا سيما الخلفاء الراشدون، وإنما يظن ذلك في الصحابة أهل الجهل والضلال: كالرافضة والخوارج الذين يكفرون بعض الخلفاء أو يفسقونه، ولو قدر أن أحد فعل ذلك لم يقره المسلمون على ذلك، فإن هذا إقرار على أعظم المنكرات، والأمة معصومة أن تجتمع على مثل ذلك، وقد نقل عن طائفة: كعيسى بن أبان وغيره من أهل الكلام والرأي من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة ومالك: أن الإجماع ينسخ به نصوص الكتاب والسنة.
وكنا نتأول كلام هؤلاء على أن مرادهم أن الإجماع يدل على نص ناسخ، فوجدنا من ذكر عنهم أنهم يجعلون الإجماع نفسه ناسخا، فإن كانوا أرادوا ذلك فهذا قول يجوز تبديل المسلمين دينهم بعد نبيهم، كما تقول النصارى من: أن المسيح سوغ لعلمائهم أن يحرموا ما رأوا تحريمه مصلحة، ويحلوا ما رأوا تحليله مصلحة، وليس هذا دين المسلمين، ولا كان الصحابة يسوغون ذلك لأنفسهم، ومن اعتقد في الصحابة أنهم كانوا يستحلون ذلك، فإنه يستتاب كما يستتاب أمثاله، ولكن يجوز أن يجتهد الحاكم والمفتي فيصيب فيكون له أجران، ويخطئ فيكون له أجر واحد.
__________
(1) سنن الترمذي النكاح (1119) ، سنن أبو داود النكاح (2076) ، سنن ابن ماجه النكاح (1935) ، مسند أحمد بن حنبل (1/87) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5962) ، مسند أحمد بن حنبل (4/308) .(3/138)
وما شرعه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - " شرعا معلقا بسبب " إنما يكون مشروعا عند وجود السبب: كإعطاء المؤلفة قلوبهم؛ فإنه ثابت بالكتاب والسنة، وبعض الناس ظن أن هذا نسخ، لما روي عن عمر: أنه ذكر أن الله أغنى عن التآلف، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهذا الظن غلط، ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه لا لنسخه، كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل، والغارم ونحو ذلك.
و" متعة الحج " قد روي عن عمر أنه نهى عنه، وكان ابنه عبد الله بن عمر وغيره يقولون: لم يحرمها، وإنما قصد أن يأمر الناس بالأفضل، وهو أن يعتمر أحدهم من دويرة أهله في غير أشهر الحج؛ فإن هذه العمرة أفضل من عمرة المتمتع والقارن باتفاق الأئمة، حتى أن مذهب أبي حنيفة وأحمد منصوص عنه: أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج وأفرد الحج في أشهره: فهذا أفضل من مجرد التمتع والقران، مع قولهما بأنه أفضل من الإفراد المجرد، ومن الناس من قال: إن عمر أراد فسخ الحج إلى العمرة، قالوا: إن هذا محرم به ولا يجوز، وأن ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من الفسخ كان خاصا بهم، وهذا قول كثير من الفقهاء: كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وآخرون من السلف والخلف قابلوا هذا، وقالوا: بل الفسخ واجب، ولا يجوز أن يحج أحد إلا متمتعا: مبتدئا أو فاسخا، كما أمر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أصحابه في حجة الوداع، وهذا قول ابن عباس وأصحابه ومن اتبعه من أهل الظاهر والشيعة، و " القول الثالث " أن الفسخ جائز، وهو أفضل ويجوز أن لا يفسخ، وهو قول كثير من السلف والخلف: كأحمد بن حنبل وغيره من فقهاء الحديث، ولا يمكن الإنسان أن يحج حجة مجمعا عليها إلا أن يحج متمتعا ابتداء من غير فسخ.
فأما حج المفرد والقارن: ففيه نزاع معروف بين السلف والخلف، كما تنازعوا في جواز الصوم في السفر، وجواز الإتمام في السفر، ولم يتنازعوا في جواز الصوم والقصر في الجملة.
وعمر لما نهى عن المتعة خالفه غيره من الصحابة، كعمران بن حصين، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وغيرهم، بخلاف نهيه عن متعة النساء؛ فإن عليا وسائر الصحابة وافقوه على ذلك، وأنكر علي على ابن عباس إباحة المتعة، قال: «إنك امرؤ تائه، إن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - حرم متعة النساء، وحرم لحوم الحمر الأهلية عام خيبر (1) » ، فأنكر علي بن أبي طالب على ابن عباس إباحة الحمر، وإباحة متعة النساء؛ لأن ابن عباس كان يبيح هذا وهذا، فأنكر عليه علي ذلك، وذكر له: «" أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم حرم المتعة، وحرم الحمر الأهلية (2) » ويوم خيبر كان تحريم الحمر الأهلية. . وأما تحريم المتعة، فإنه عام فتح مكة، كما ثبت ذلك في الصحيح، وظن بعض الناس أنها حرمت، ثم أبيحت، ثم حرمت، فظن بعضهم أن ذلك ثلاثا، وليس الأمر كذلك.
فقول عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -: " إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت له فيه أناة فلو أنفذنا عليهم فأنفذه عليهم: هو بيان أن الناس أحدثوا ما استحقوا عنده أن ينفذ عليهم الثلاث، فهذا
__________
(1) صحيح مسلم النكاح (1406) ، سنن النسائي النكاح (3368) ، سنن أبو داود النكاح (2073) ، سنن ابن ماجه النكاح (1962) ، مسند أحمد بن حنبل (3/405) ، سنن الدارمي النكاح (2195) .
(2) صحيح البخاري النكاح (5115) ، صحيح مسلم النكاح (1407) ، سنن الترمذي النكاح (1121) ، سنن النسائي النكاح (3365) ، سنن ابن ماجه النكاح (1961) ، مسند أحمد بن حنبل (1/142) ، سنن الدارمي النكاح (2197) .(3/139)
إما أن يكون كالنهي عن متعة الفسخ، لكون ذلك كان مخصوصا بالصحابة وهو باطل؛ فإن هذا كان على عهد أبي بكر - رضي الله تعالى عنه -؛ ولأنه لم يذكر ما يوجب اختصاص الصحابة بذلك، وبهذا أيضا تبطل دعوى من ظن ذلك منسوخا كنسخ متعة النساء، وإن قدر أن عمر رأى ذلك لازما فهو اجتهاد منه اجتهده في المنع من فسخ الحج لظنه أن ذلك كان خاصا.
وهذا قول مرجوح قد أنكره غير واحد من الصحابة، والحجة الثانية هي مع من أنكره، وهكذا الإلزام بالثلاث، من جعل قول عمر فيه شرعا لازما قيل له: فهذا اجتهاده قد نازعه فيه غيره من الصحابة، وإذا تنازعوا في شيء وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، والحجة مع من أنكر هذا القول المرجوح.
وإما أن يكون عمر جعل هذا عقوبة تفعل عند الحاجة، وهذا أشبه الأمرين بعمر، ثم العقوبة بذلك يدخلها الاجتهاد من " وجهين " من جهة أن العقوبة بذلك: هل تشرع؟ أم لا؟ فقد يرى الإمام أن يعاقب بنوع لا يرى العقوبة به غيره، كتحريق علي الزنادقة بالنار، وقد أنكره عليه ابن عباس، وجمهور الفقهاء مع ابن عباس، ومن جهة أن العقوبة إنما تكون لمن يستحقها فمن كان من " المتقين " استحق أن يجعل الله له فرجا ومخرجا، لم يستحق العقوبة، ومن لم يعلم أن جمع الثلاث محرم، فلما علم أن ذلك محرم تاب من ذلك اليوم أن لا يطلق إلا طلاقا سنيا فإنه من " المتقين "، فمثل هذا لا يتوجه إلزامه بالثلاث مجموعة بل يلزمه بواحدة منها، وهذه المسائل عظيمة وقد بسطنا الكلام عليها في موضع آخر من مجلدين، وإنما نبهنا عليها هنا تنبيها لطيفا.
والذي يحمل عليه أقوال الصحابة أحد أمرين: إما أنهم رأوا ذلك من باب التعزير الذي يجوز فعله بحسب العادة: كالزيادة على أربعين في الخمر، وإما لاختلاف اجتهادهم فرأوه لازما، وتارة غير لازم، وإما القول بكون لزوم الثلاث شرعا لازما، كسائر الشرائع، فهذا لا يقوم فيه دليل شرعي، وعلى هذا القول الراجح لهذا الموقع أن يلتزم طلقة واحدة ويراجع امرأته، ولا يلزمه شيء لكونها كانت حائضا، إذ كان ممن اتقى وتاب من البدعة.(3/140)
الخلاصة
اتفق الفقهاء على أن طلاق السنة بالنسبة لعدد الطلاق، أن يطلق الرجل زوجته طلقة واحدة مدخولا بها أم غير مدخول بها، ثم له أن يمسك المدخول بها فيراجعها ما دامت في العدة وله أن يتركها فلا يراجعها حتى تنقضي عدتها فتبين منه، وهذا هو التسريح لها بإحسان، واتفقوا أيضا على أنه إذا عاد إلى مطلقته(3/140)
برجعة أو عقد ثم طلقها طلقة واحدة فطلاقه طلاق سنة، ولو فعل مثل هذا مرة ثالثة كان طلاقه طلاق سنة باتفاق.
واختلفوا فيما لو طلق امرأته ثلاثا بأن قال لها: أنت طالق ثلاثا مثلا هل هو طلاق بدعة أو لا؟ واختلفوا أيضا فيما لو طلق المدخول بها طلقة ثم أتبعها أخرى في نفس الطهر أو الطهر الثاني أو الثالث قبل أن يراجعها، هل هو طلاق بدعة أو لا؟
ومحل البحث ما لو قال لها في لفظ واحد: أنت طالق ثلاثا مثلا، هل هو بدعة ممنوعة أو لا؟ وهل يعتد به أو لا؟ فهاتان مسألتان في كل منهما خلاف بين العلماء، وفيما يلي خلاصة القول فيهما:(3/141)
المسألة الأولى: في حكم الإقدام على جمع الثلاث بكلمة واحدة - " وفيه قولان " - 1 - القول الأول: أنه بدعة ممنوعة، وهو قول الحنفية والمالكية وإحدى الروايتين عن أحمد وقول ابن تيمية وابن القيم، وقد استدلوا لذلك بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والمعنى والقياس.
أما القرآن: فمنه قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) . إلى قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (2) قيل المراد الأمر بتفريق الطلقات الثلاث على أطهار العدة الثلاثة، والأمر بالتفريق نهي عن الجمع نهي تحريم أو نهي كراهة فكان جمع الثلاث في طهر واحدة بدعة ممنوعة (3) .
وذكر ابن تيمية أن الله لم يبح في هذه الآية إلا الطلاق الرجعي لقوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (4) . والأمر هو الندم على الطلاق، والرغبة في الرجعة، ولقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (5) ، فخير سبحانه بين الرجعة قبل انقضاء العدة دون مضارة للزوجة وبين تركها حتى تنقضي عدتها فتبين منه، وأنه سبحانه لم يبح فيها إلا الطلاق للعدة، فإرداف الطلاق للطلاق في العدة ولو في طهر آخر ممنوع لقوله تعالى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (6) . إذ المعنى الأمر بطلاقهن مستقبلات عدتهن، ومن طلق زوجته الطلقة الثانية في طهرها الثاني، والثالثة في طهرها الثالث بنت مطلقته على ما مضى من عدتها ولم تستأنف العدة للثاني ولا للثالث، فلم يكن طلاقا للعدة، فكان غير مشروع (7) .
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) ص - من البحث.
(4) سورة الطلاق الآية 1
(5) سورة الطلاق الآية 2
(6) سورة الطلاق الآية 1
(7) ص - من البحث.(3/141)
ومنه قوله تعالى {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (1) ، ووجه الاستدلال أن هذه الجملة خبرية لفظا طلبية معنى، لئلا يلزم الخلف في خبره تعالى، ولهذا نظائر في الكتاب والسنة ولغة العرب، فالمعنى إذا عزمتم الطلاق فطلقوه مرة بعد مرة، إذ لا يقال لمن دفع درهمين لإنسان دفعة أنه أعطاه مرتين إلى غير هذا من النظائر، والأمر بالتفريق نهي عن الجمع فكان ممنوعا (2) .
فإن قيل: إذا كان كل الطلاق في دفعتين كان الواقع منه في دفعة طلقتين، وفي الأخرى طلقة، فكان الجمع بين طلقتين مشروعا، وإذا يكون الجمع بين الثلاث مشروعا، إذ لا فرق.
فالجواب أن الآية أمرت بتفريق الطلقتين من الثلاث لا بتفريق الثلاث، بدليل ما ذكر بعد من مشروعية الرجعة (3) وفي معناه ما قيل: من أن المراد أوقعوا الطلاق الرجعي المذكور في قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (4) الآية، مرة بعد مرة، ومن طلق ثلاثا أو طلقتين دفعة لم يفعل ما أمر به فكان مبتدعا في طلاقه، كما أن من قال: سبحان الله ثلاثا وثلاثين، والحمد لله ثلاثا وثلاثين، والله أكبر ثلاثا وثلاثين عقب المكتوبات مكتفيا بذكر اسم العدد عن تكرار كل من التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين مرة لم يكن آتيا بما أمر به كما أمر، فكان مبتدعا.
وقيل في وجه الاستدلال بالآية: إن المراد الإخبار عن صفة الطلاق الشرعي، والألف واللام في الطلاق للحصر فيقتضي ذلك المنع من الطلاق على غير هذه الصفة، لكونه بدعة مخالفة للشرع.
فإن قيل: المراد الإخبار عن أن الطلاق الرجعي طلقتان، وما زاد فليس برجعي، يدل عليه قوله بعد ذلك {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (5) ، أجيب بأنه لو كان المراد ما ذكرتم لقال: الطلاق طلقتان، سواء أوقعهما الزوج مجتمعتين أم مفترقتين، فلما قال: مرتان - اقتضى إيقاعه مفترقا، وثبت أن المراد الإخبار عن صيغة إيقاعه.
فإن قيل: لفظ التكرار إذا علق باسم أريد به تضعيف العدد دفعة دون تكرار الفعل كما في قوله تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (6) . ونحوها؛ فإن المراد تضعيف العدد لا تفريق الأجر، أجيب بأن المراد نؤتها أجرها مرة بعد مرة كما روي عن بعض السلف، وعلى تقدير أن المراد في الآية تضعيف العدد دفعة يقال: إن الأصل فيما ذكر تكرار الفعل إلا إذا دل دليل على إرادة تضعيف العدد فيعدل إليها استثناء كما في الآية
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) ص - من البحث.
(3) ص - من البحث.
(4) سورة البقرة الآية 228
(5) سورة البقرة الآية 229
(6) سورة الأحزاب الآية 31(3/142)
{نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (1) وما عداه يبقى على الأصل، على أنه لو أريد بقوله تعالى {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) تضعيف العدد دفعة، لمنع الزوج من إيقاع طلقة مفردة، وهذا باطل بإجماع (3) .
وأجيب أيضا بأن الفرق معلوم بين ما يكون مرتين في الزمان فلا يتصور فيه الجمع كآية الطلاق، وبين ما يكون مثلين وجزأين ومرتين في المضاعفة فيتصور فيه الجمع كما في آية {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (4) ، وآية {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} (5) ونحوهما.
ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (6) . الآية، وهذا إنما يكون فيما دون الثلاث، وهو يعم كل طلاق، لوقوعه في حيز الشرط، فعلم أن جمع الثلاث غير مشروع (7) .
ومن السنة حديث «تزوجوا ولا تطلقوا» إلخ - قيل نهى عن الطلاق لأمر ملازم له لا لعينه؛ لأنه بقي معتبرا شرعا في حق الحكم بعد النهي، والمراد - والله أعلم - الجمع بين طلقتين أو أكثر من طهر والطلاق في الحيض، ولكن هذا الحديث ضعيف فلا يشتغل بمناقشته (8) .
ومنها ما روى مخرمة بن بكير عن أبيه: قال سمعت محمود بن لبيد قال «أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاثا تطليقات جميعا فقال " فعلته لاعبا " ثم قال: " تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم " حتى قام رجل، فقال يا رسول الله، ألا أقتله (9) » ؟ وإسناده على شرط مسلم، ودلالة متنه على المنع ظاهرة، واعترض عليه أولا: بأن مخرمة لم يسمع من أبيه، وإنما هو كتاب، وعورض ذلك بقول من قال سمع من أبيه، ومعه زيادة علم وإثبات فيقدم، وعلى تقدير أنه لم يسمع من أبيه، وإنما رواه من كتابه، وكان كتاب أبيه عنده محفوظا مضبوطا، فقد انعقد الإجماع على قبول الكتاب والعمل به إذا صح عند رواية أنه من كتابه شيخه، بل الرواية من الكتاب المصون أوثق، فإن الحفظ يخون والنسخة الثابتة المحفوظة لا تخون، وقد أطال ابن القيم الكلام على توثيق مخرمة واعتبار الرواية من الكتاب، وصحة الاحتجاج بها (10) .
واعترض ثانيا بأن محمود بن لبيد وإن كان صحابيا إلا أنه لم يثبت له سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فروايته عنه مرسلة، وأجيب بأن مرسل الصحابي مقبول، فصح الاحتجاج بالحديث.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 31
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) ص - من البحث.
(4) سورة الأحزاب الآية 31
(5) سورة التوبة الآية 101
(6) سورة البقرة الآية 232
(7) ص - من البحث.
(8) ص - من البحث، ذكره السيوطي في الجامع الصغير وضعفه.
(9) سنن النسائي الطلاق (3401) .
(10) ص - من البحث.(3/143)
ومنها حديث عبادة بن الصامت: أن قوما جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: «إن أبانا طلق امرأته ألفا فقال: " بانت امرأته بثلاث في معصية الله، وبقي تسعمائة وسبعة وتسعون وزرا في عنقه إلى يوم القيامة» ، وأجيب بأن في سنده رجالا مجهولين وضعفاء فلا يصلح للاحتجاج به (1) .
ومنها حديث علي قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا طلق ألبتة فغضب، وقال «أتتخذون آيات الله هزوا أو دين الله هزوا أو لعبا، من طلق ألبتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجها غيره (2) » فدل غضبه على المنع من جمع الثلاث بلفظ صريح أو كناية، وأجاب الدارقطني بأن في سند إسماعيل بن أمية القرشي، وهو ضعيف، وقال ابن القيم في سنده مجاهيل وضعفاء فلا يصح الاحتجاج به.
ومنها «أن ابن عمر لما طلق امرأته في الحيض وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بمراجعتها قال: أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكانت تحل لي، قال: " لا بانت منك وهي معصية (3) » ، وأجيب بان في سنده شعيب بن رزيق وقد تكلموا فيه، وتفرد في هذا الحديث عن الثقات بزيادة قوله: أرأيت لو طلقتها ثلاثا، إلخ. . فلم يأت أحد منهم في روايته لهذا الحديث بما أتى به، ولذا لم يروا حديثه هذا أحد من أصحاب الصحاح ولا السنن (4) .
وأما الإجماع فقد أنذر عمر من يأته وقد طلق امرأته ثلاث تطليقات مجموعة بأن يوجعه ضربا، وحكم كثير من الصحابة بأن من يطلق ثلاثا مجموعة أو أكثر فقد عصى ربه واستنكروا ذلك من فاعله وجعلوه متعديا لحدود الله، وانتشر ذلك عنهم دون نكير، فكان إجماعا على المنع من جمع ثلاث طلقات فأكثر دفعة.
وأما المعنى فمن وجهين:
الأول أن النكاح عقد مصلحة، والطلاق إبطال له، فكان مفسدة، والله لا يحب الفساد.
الثاني: أن النكاح عقد مسنون بل واجب، وفي الطلاق قطع للسنة أو تفويت للواجب، فكان الأصل فيه الحظر أو الكراهة، إلا أنه رخص فيه للدواعي الطارئة كتوقع مفسدة من استمرار النكاح أشد من مفسدة الطلاق، فيرتكب أخف المفسدتين تفاديا لأشدهما (5) ، لكن يقتصر من ذلك على طلقة واحدة، إذ بها تندفع المفسدة، وما زاد عليها فيبقى على الأصل، وهو المنع ويشهد لكون الأصل في الطلاق الحظر حديث: «" أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة (6) » .
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، وأما القياس فلأن التطليق ثلاثا دفعة فيه تحريم البضع من غير حاجة، فأشبه الظهار، فكان ممنوعا، ولأن فيه ضررا وإضرارا بنفسه وبامرأته، فأشبه الطلاق في الحيض فكان ممنوعا.
__________
(1) ص - من البحث.
(2) سنن أبو داود الطلاق (2198) .
(3) صحيح البخاري الطلاق (5252) ، صحيح مسلم الطلاق (1471) ، سنن الترمذي الطلاق (1176) ، سنن النسائي الطلاق (3392) ، سنن أبو داود الطلاق (2185) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2019) ، مسند أحمد بن حنبل (2/59) ، سنن الدارمي الطلاق (2262) .
(4) ص - من البحث.
(5) ص - من البحث.
(6) سنن الترمذي الطلاق (1187) ، سنن أبو داود الطلاق (2226) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2055) .(3/144)
القول الثاني:
أن جمع الطلاق الثلاث في كلمة ليس بمحرم ولا بدعة، وبه قال الشافعي وأبو ثور وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وجماعة من أهل الظاهر، واستدلوا لذلك بالكتاب والسنة والآثار والمعنى.
أما الكتاب فقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1) وقوله تعالى {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (2) ، وقوله تعالى {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (3) ، فهذه تعم إباحة الثلاث والاثنتين فإنه تعالى لم يخص مطلقة طلقة واحدة من مطلقة ثلاثا، فليس لأحد أن يخصها إلا بدليل ويمكن أن يقال: إن المقصود في الجمل الشرطية الحكم بما تضمنه الجواب على تقدير تحقق فعل الشرط، بقطع النظر عن كونه فعل الشرط مطلوب الحصول أو مباحا أو ممنوعا، وعلى هذا يكون القصد من آية {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (4) ، الحكم بتحريم الزوجة على زوجها الذي طلقها المرة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره، وقد يكون طلاقها المرة الثالثة مأذونا فيه كما لو طلقها في طهر لم يمسها فيه طلقة، وقد يكون محرما كما لو طلقها المرة الثالثة في حيض مثلا، ويكون القصد من آية {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (5) ، عدم وجوب العدة على تقدير حصول الطلاق قبل الدخول، أما كون طلاقها مباحا أو محرما فيفهم من أمر آخر، وأما آية {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (6) ، فالقصد منها إثبات المتعة للمطلقة، وجوبا أو ندبا، لا بيان حكم الطلاق، فقد يكون محرما وثبت لها المتعة، وقد يكون مباحا كما تقدم.
وبهذا يتبين أن الآيات الثلاث ليست في محل النزاع.
وأما السنة فمنها «حديث فاطمة بنت قيس، وفيه أن زوجها طلقها ثلاثا أو طلقها ألبتة وهو غائب، وبعث إليها وكيله بشعير نفقة لها، فسخطته، فقال: والله، ما لك علينا من شيء، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال " ليس لك عليه نفقة (7) » فلم يعب - صلى الله عليه وسلم - الثلاث مع الإجمال فيما بلغه من خبر الطلاق، ولم يستفسر عن كيفيته، ولفظ ألبتة هنا مراد به الثلاث، وإلا لم تسقط نفقتها ولا سكناها، وأجيب برواية الزهري هذا الخبر عن أبي سلمة وفيه ذكرت أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات،
__________
(1) سورة البقرة الآية 230
(2) سورة الأحزاب الآية 49
(3) سورة البقرة الآية 241
(4) سورة البقرة الآية 230
(5) سورة الأحزاب الآية 49
(6) سورة البقرة الآية 241
(7) صحيح مسلم الطلاق (1480) ، سنن الترمذي النكاح (1135) ، مسند أحمد بن حنبل (6/373) .(3/145)
وبراوية الزهري أيضا عن عبيد الله بن عبد الله بن مسعود أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها، فذكر الخبر، وفيه أن مروان أرسل إليها قبيصة بن ذؤيب فحدثته. . . وذكر باقي الخبر، فكان هذا تفسير لما في الثلاث أو ألبتة من الإجمال، وأن ذلك لم يكن مجموعا، وأعلى ابن حزم الرواية الثانية بالانقطاع لعدم التصريح بالتحديث أو السماع، ويمكن أن يقال: إن ظاهرها الاتصال، لأنها في حكم الرواية بها لمتعته ونحوها، فصلحت تفسير للإجمال، وقال ابن حزم أيضا: إن كلا الخبرين ليس فيهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك، ويمكن أن يقال: إن الأصل بيان السائل الثقة الورع لواقع أمره، وخاصة الصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك لتطمئن النفس إلى موافقة الجواب للواقع، وعلى تقدير الاحتمال في حديث فاطمة، فحمله على ما كان شائعا كثيرا، وهو إفراد الطلاق أولى من حمله على النادر وهو جمع الثلاث في كلمة، ومنها حديث تلاعن عويمر وامرأته، وفيه أنه طلقها ثلاثا بعد اللعان قبل أن يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - فلو كان جمع الثلاث ممنوعا لبين له النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عاص بجمع الثلاث، وعلمه الطلاق المشروع.
وأجيب بأنه لما لم يصادف طلاقه محلا لم ينكر عليه، فإنها صارت أجنبية منه لا تحل له أبدا بتمام اللعان لا بالطلاق الثلاث، وإلا لحلت له بعد أن تنكح زوجا آخر، وقد أيد ذلك فيما سبق في حديث محمود بن لبيد من إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على من طلق امرأته ثلاثة تطليقات جميعا وبهذا يجمع بين خبري الإنكار والسكوت بحمل أحدهما على طلاق صادف محلا، والآخر على ما إذا لم يصادف محلا، وأما قول سهل: فأنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله: فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما، فسيأتي الكلام عليه في موضعه من المسألة الثانية.
ومنها حديث المرأة التي طلقها زوجها ثلاثا، والأخرى التي بت زوجتها طلاقها وقد تزوجت كلا منهما بعد ذلك ثم طلقت قبل أن يجامعها، وأرادت أن ترجع إلى زوجها الأول فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك (1) » ؛ فدل عدم نقل الإنكار من النبي - صلى الله عليه وسلم - طلاق الرجل امرأته ثلاثا أو بت طلاقها على جواز الجمع بين الثلاث، إذ لو كان ممنوعا لأنكره، ولو أنكره لنقل، أجيب أن اللفظ محتمل أن تكون الثلاث مجتمعة وأن تكون مفرقة، ولفظ ألبتة يعبر به عن الثلاث، وقد ثبت أن كلا منهما قد طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فليس في ذلك دليل لجواز جمع الثلاث.
وأما الآثار: فمنها ما روي أن عمر - رضي الله عنه - استفتى فيمن طلق امرأته ألبتة فاستحلفه عما أراد لحلف أنه أراد واحدة فردها إليه، ولم يقل له لو أردت ثلاثا لعصيت ربك، وأجيب بأن عمر أنكر عليه بقوله: ما حملك على هذا، وبتلاوة قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} (2) . ورد الجواب بأنه أنكر عليه عدوله في الطلاق عن اللفظ الصريح إلى لفظ مشكل محتمل وهو ألبتة.
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2639) ، صحيح مسلم النكاح (1433) ، سنن الترمذي النكاح (1118) ، سنن النسائي الطلاق (3409) ، سنن ابن ماجه النكاح (1932) ، مسند أحمد بن حنبل (6/226) ، سنن الدارمي الطلاق (2267) .
(2) سورة النساء الآية 66(3/146)
ومنها أن عثمان لم ينكر على عبد الرحمن بن عوف طلاقه امرأته ثلاثا، ومنها أن أبا هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمر، وعائشة وعبد الله بن الزبير لم ينكروا على من استفتى في طلاق الثلاث، ولم يعيبوا عليه ذلك، ولم يقل أحد منهم لمن استفتاه في ذلك بئس ما صنعت، وما روي من إنكار ابن عباس وغيره من الصحابة على من طلق امرأته مائة أو ألفا فإنما إنكاره لما زاد عما جعل إليه من الثلاث، وروي ما يوافق ذلك عن شريح والشعبي وغيرهما من التابعين (1) وقد يقال: يرد هذا ما روي عن عمر وابن عمر وابن عباس وعمران بن حصين أنهم أثموا من طلاق ثلاث، وقالوا: إنه عصى ربه، وتوعدوا من يطلق ثلاثا في مجلس واحد بالأذى كما روي عنهم ذلك فيمن تجاوز الثلاث في طلاقه، وإذا فليس الإنكار خاصا بما زاد على الثلاث (2) .
وأما المعنى فإن الشرع قد جعل الطلاق إلى الزوج يمضي منه ما شاء ويبقى ما شاء، دون أن يكون عليه في ذلك حرج، كما أنه لا يحرم عليه أن يعتق ما شاء من عبده ويتصدق بما شاء من ماله، ويبقي من ذلك ما شاء بل له أن يأتي على ذلك كله، وأجيب بأن الأصل فيما ذكر أنه من القربات، فله أن يفعل من ذلك ما شاء، ويؤجر عليه ما لا يضر بنفسه، بخلاف الطلاق فإن الأصل فيه الحظر لما تقدم، ولأنه أبغض الحلال إلى الله، وقد شرع على صفة معينة، فينبغي التزامها في إيقاعه.
__________
(1) ص - من البحث.
(2) ص - من البحث.(3/147)
المسألة الثانية: فيما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد
وفيه مذاهب
المذهب الأول أنه يقع ثلاثا، وهو مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين من بعدهم، وقد استدلوا لذلك بأدلة من الكتاب والسنة والآثار، والإجماع والقياس.
أما الكتاب:
فمنه قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) ؛ فإنه يدل على أنه إذا قال الزوج لامرأته: أنت طالق، أنت طالق، في طهر لزمه اثنتان، وإذا فيلزمه اثنتان إذا أوقعهما معا في كلمة واحدة (2) ؛ لأنه لم يفرق بين ذلك أحد، وأيضا حكم الله بتحريمها عليه بعد الثالثة في قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} (3) الآية، ولم يفرق أحد بين إيقاعها في طهر أو أطهار، فوجب الحكم بإلزامه بالجميع على أي وجه أوقعه، مباح أو محظور، واعترض بأن المراد بالآية الطلاق المأذون فيه، وإيقاع الثلاث معا غير مأذون فيه، فكيف يستدل بها في الإلزام بطلاق وقع على غير الوجه المباح، وهي لم تتضمنه؟
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) وكذا الثلاث إذا أوقعها معا.
(3) سورة البقرة الآية 230(3/147)
وأجيب بأنها دلت على الأمر بتفريق الطلاق، ولا مانع من دلالتها على الإلزام به من جهة أخرى إذا وقع على غير الوجه المأمور به.
واعترض أيضا بأن قوله تعالى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) بين المراد من آية الاستدلال، وأن الطلاق إنما يكون للعدة، فمتى خالف ذلك لم يقع طلاقه.
وأجيب بأنا نثبت حكم كل من الآيتين فنثبت بآية {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) أن الطلاق المسنون ما كان للعدة ونثبت بآية {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (3) أن من طلق لغير العدة أو جمع بين الثلاث لزمه ما فعل، وبذلك تكون قد أخذنا بحكم كل من الآيتين، على أن آخر آية الطلاق للعدة وهو قوله تعالى {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} (4) الآية، يدل على وقوع الطلاق لغير العدة، فإنه لو لم يلزمه لم يكن ظالما لنفسه بإيقاعه ولا بطلاقه، كما أن قوله تعالى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (5) . يدل على ذلك، وسيأتي لهذا زيادة بيان في الدليل الثاني -إن شاء الله.
واعترض أيضا بأن الزوج لو وكل من يطلق طلاقا مفرقا على الأطهار فجمع الثلاث في طهر لم يقع لكونه غير مأمور به فكذا الزوج، وأجيب بالفرق بينهما، فإن الزوج يملك الطلاق الثلاث، وإيقاعه على غير الوجه المشروع لا يمنع من إلزامه به كالظهار والردة، أما الوكيل فلا يملك من الطلاق إلا ما ملكه موكله، ولا يملك إيقاعه إلا على الوجه الذي وصفه له موكله، إذ هو معبر عن موكله وتلزمه حقوق ما يوقعه (6) ، وسيأتي لهذا مزيد بحث، واستدل أيضا بعموم قوله تعالى في الآية: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (7) على أنه يتناول إيقاع الثلاث دفعة، وأجيب عن وجوه الاستدلال بالآية:
أولا: بأن تسريح المطلقة طلاقا رجعيا بإحسان تركها بلا مضارة لها حتى تنقضي عدتها، لإطلاقها مرة أخرى قبل رجعتها، وما روي مرفوعا من تفسير التسريح بالإحسان بطلاقها الثالثة فمرسل.
ثانيا: بأن من العلماء من فرق بين إيقاع الطلاق مفرقا في طهر أو مجموعا وبين إيقاعه مفرقا في أطهار دون سبق رجعة، وإيقاعه مفرقا في أطهار مع سبق كل برجعة، فدعوى عدم الفرق مخالفة للواقع.
ثالثا: بأن الله جعل الطلاق إلى الزوج لكن على أن يوقعه مفرقا مرة بعد مرة على صفة خاصة، ولم يشرع سبحانه إيقاع الطلاق ثلاثا جملة حكمة في تشريعه ورحمة بعباده، فإيقاعه ثلاثا مجموعة مخالف لأمر الله وشرعه، وأما قياس الثلاث مجموعة على الظهار فيبطل قولكم، ويثبت قول مخالفيكم، فإن الله لم يلزم المظاهر بما التزم من تحريم زوجته، وجعلها كأمه أو أخته مثلا بل لم تزل زوجته، وعاقبه بشيء آخر على جريمة الظهار هو الكفارة، فإذا أدى ما شرع من الكفارة حلت له مماستها، فمقتضى قياسكم أن لا يلزم بشيء من الثلاث، ويعاقب بأمر آخر على جريمة الجمع بين الثلاث، وكذا القول في قياسكم جمع الثلاث على الردة، وإذا ليست الآية دليلا على إلزام الثلاث أو الثنتين إذا أوقعها مجموعة، بل تدل على خلافه.
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة البقرة الآية 230
(5) سورة الطلاق الآية 2
(6) ص - من البحث.
(7) سورة البقرة الآية 229(3/148)
ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (1) ، ومن طلق ثلاثا مجموعة فقد تعدى حدود الله، لإيقاعه الطلاق على غير الوجه المشروع، وظلم نفسه بتعجله فيما كانت له فيه أناة، وحرمانه من رجعة زوجته، إذ لو لم يلزم بالثلاث من طلق ثلاثا مجموعة لم يكن ظالما لنفسه ولا محروما من زوجته، لتمكنه من رجعتها.
ويؤيده أن ابن عباس أفتى بإلزام الثلاث من طلق ثلاثا، وعاب على من جمع الثلاث، ورماه بالحماقة، واستشهد بالآية، وأجيب بمنع دلالة الآية على الإلزام بالثلاث، لأن ركانة لما طلق امرأته ثلاثا أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يراجعها، وتلا هذه الآية، ولو كانت دليلا على إلزام الثلاث، من طلق ثلاثا مجموعة لما استدل بها - صلى الله عليه وسلم -، وستأتي مناقشة حديث ركانة.
وكما روي عن ابن عباس الإلزام بالثلاث والاستشهاد بالآية روي عنه اعتبارها واحدة (2) .
ويمكن أن يقال: بحمل تعدي حدود الله في الآية وظلم المطلق لنفسه على الطلاق لغير العدة، وإخراج الزوج مطلقته طلاقا رجعيا من بيتها الذي كانت تسكنه قبل الطلاق وخروجها منه أيام العدة، دون الطلاق الثلاث، وقد يساعد على هذا سابق الكلام ولاحقه، وفي هذا أيضا جمع بين الأدلة.
ومنه قوله تعالى {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (3) ، ذكر عن الحسن أنها نزلت فيمن كان يطلق ويزوج ابنته ويعتق عبده، ويدعي أنه كان لاعبا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ثلاث من قالهن لاعبا جائزات: العتاق والطلاق والنكاح (4) » ، وأجيب بأنه لا دليل في الآية ولا في الحديث على المطلوب؛ لأنه لم يذكر فيهما طلاق الثلاث أصلا، وإنما فيهما النهي عن اللعب في الطلاق ونحوه على أن ما ذكر من مراسيل الحسن.
وأما السنة فأولا: حديث تلاعن عويمر العجلاني وامرأته، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرق بينهما بإنفاذ الطلاق الثلاث لا باللعان، يؤيد هذا قول سهل: فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنفذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلخ، وبهذا يعلم أن طلاق عويمر اعتبر ثلاثا، وبانت منه امرأته بذلك، ثم أكد ذلك بتأبيد تحريمها عليه في اللعان خاصة، وقد يقال: بأن إنفاذ الطلاق الثلاث دفعة على الملاعن خاص باللعان لما فيه من تأبيد التحريم بخلاف غيره، بدليل حديث محمود بن لبيد، ويجاب بأن حديث محمود بن لبيد، وإن صح ليس فيه إنفاذ الثلاث ولا عدم إنفاذها، وحديث اللعان فيه إنفاذها فيقدم، بل قيل إن حديث محمود بن لبيد دليل على اعتبار إيقاع الثلاث دفعة ثلاثا؛ لأن الزوج طلق ثلاثا يظنها لازمة له فلو كانت غير لازمة لبين له - صلى الله عليه وسلم - لعدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة (5) .
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) ص - من البحث.
(3) سورة البقرة الآية 231
(4) موطأ مالك النكاح (1166) .
(5) ص - من البحث.(3/149)
وقد أجيب عن أصل الاستدلال بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنفذ تطليقات عويمر على الوجه الذي كان معروفا في عهده من اعتبارها واحدة رجعية، ثم حرمها عليه تحريما أبديا بدليل قوله في الحديث: فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما، فإن التفريق يتأتى مع بقاء النكاح بخلاف ما إذا اعتبرت تطليقات عويمر ثلاثا، فإنها تكون أجنبية منه بذلك محرمة عليه حتى تنكح زوجا غيره (1) .
وكذا يقال فيما أمضاه على المطلق في حديث محمود بن لبيد، فإن حمله على ما كان معروفا في عهده - صلى الله عليه وسلم - أقرب من حمله على الثلاث، بل هو المتعين.
ثانيا: حديث من طلقها زوجها ثلاثا وأبى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيحها لزوجها الأولى حتى يطأها الثاني، قالوا: الظاهر أنه طلقها ثلاثا مجموعة فأمضاها عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإلا لحلت للأول دون أن تذوق عسيلة الثاني، وأجيب بأنه ورد في بعض الروايات أن الأول طلقها آخر ثلاث تطليقات، وعلى تقدير تعدد القصة وأن هذه الرواية كانت في إحداهما فكل منهما ليس فيها ما يدل على أن التطليقات كانت مجموعة، لجواز أن تكون متفرقة، بل في الحديث ما يدل على تفريقها فإنه لا يقال طلق ثلاثا إلا لمن فعل ذلك مرة بعد مرة كما يقال: سلم ثلاثا، وسبح ثلاثا، ومع هذا فقد كان المشهور في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إيقاع الطلاق متفرقا، أما إيقاعه مجموعا فقد كان قليلا ومنكرا، وحمل اللفظ على الكثير الحق أقرب من حمله على القليل المنكر (2) .
ثالثا: حديث فاطمة بنت قيس، فإن زوجها طلقها ثلاثا مجموعة، وقد تقدم الكلام فيه، وفي مثله توجيها وإجابة، إلا أنه ذكر هنا زيادة في رواية مجالد بن سعيد عن الشعبي أن زوجها طلقها ثلاثا جميعا، وأجيب عنها بأنها قد تفرد بها مجالد عن الشعبي وهو ضعيف، وعلى تقدير الصحة فكلمة جميع في الغالب لتأكيد العدد، فالمعنى حصول الطلاق الذي يملكه جميعه لا اجتماعه، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (3) ، فالمراد حصول الإيمان من جميعهم لا حصوله منهم في وقت واحد (4) . وذكر بعضهم أن تعبير فاطمة بنت قيس عن كيفية طلاقها مختلف الصيغة، ولم يفرق بينها الصحابة في الحكم، وإلا لاستفسروا عما فيها من إجمال، وأجيب بأن الإجمال زال برواية طلقها آخر ثلاث تطليقات، ورواية أرسل إليها بطلقة كانت بقيت لها (5) .
رابعا: حديث ركانة فإنه طلق امرأته سهيمة ألبتة، واستفسره النبي - صلى الله عليه وسلم عما أراد، واستحلفه عليه فحلف ما أراد إلا واحدة، فردها عليه، فدل على أنه لو أراد أكثر لأمضاه عليه،
__________
(1) ص - من البحث.
(2) ص - من البحث.
(3) سورة يونس الآية 99
(4) ص - من البحث.
(5) ص - من البحث.(3/150)
إذ لو لم يفترق الحكم لما استفسره ولا استحلفه، وهذا الحديث وإن تكلم فيه من أجل الزبير بن سعيد فقد صححه بعض العلماء، وحسنه بعضهم، وذكر الحاكم له متابعا من بيت ركانة.
وأجيب بأن الإمام أحمد ضعف حديث طلاق ركانة زوجته ألبتة من جميع طرقه، وضعفه البخاري، وقال مضطرب فيه، تارة قيل فيه ثلاثا، وتارة قيل فيه واحدة، وعلى ذلك تترك الروايتان المتعارضتان، ويرجع إلى غيرهما، هذا وقد روي حديث تطليق ركانة امرأته ثلاثا وجعلها واحدة من طريقين إحداهما: عند الإمام أحمد من طريق سعد بن إبراهيم بسنده إلى ابن عباس مرفوعا، والثانية: في سنن أبي داود من طريق ابن صالح بسنده إلى ابن عباس مرفوعا فوجب المصير إلى ذلك، وأجيب عن الأولى بأنها لا تقوم بها الحجة، لمخالفتها فتيا ابن عباس، وستأتي مناقشة ذلك، وأجيب عن الثانية بأن في سندها مقالا لأن ابن جريج روى هذا الحديث عن بعض بني أبي رافع، ولأبي رافع بنون ليس فيهم من يحتج به إلا عبيد الله، وسائرهم مجهولون، وقد رجح أبو داود في سننه رواية نافع بن عجير في طلاق ركانة زوجته ألبتة على رواية بعض بني أبي رافع أن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثا لذلك، ولفظ ابن جريج تسمية المطلق عبد يزيد مع أن عبد يزيد لم يدرك الإسلام، ولأن أهل بيت ركانة أعلم بحاله.
وقد أجاب ابن القيم بما خلاصته: سقوط رواية كل من نافع بن عجير وبعض بني أبي رافع لجهالة كل منهما، أما أن يرجح أحد المجهولين أو من هو أشد جهالة على الآخر فكلا، ويعدل إلى رواية الإمام أحمد من طريق سعد بن إبراهيم بسنده إلى ابن عباس لسلامته، فإن أحمد وغيره احتجوا به في مسائل النكاح والعرايا وغيرها، وقد ذكر فيه أن ركانة طلق امرأته سهيمة ثلاثا فجعلها - صلى الله عليه وسلم - واحدة (1) . وستأتي لهذا زيادة بحث - إن شاء الله.
خامسا: حديث ابن عمر في تطليق زوجته في الحيض وفي آخره «فقلت يا رسول الله، أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها، قال " لا كانت تبين منك، وتكون معصية» ؛ فإنه ظاهر في إمضاء الثلاث مجموعة، وأجيب أولا: بأن في سنده شعيب بن زريق الشامي عن عطاء الخراساني، وقد وثق الدارقطني شعيبا، وذكره ابن حبان في الثقات، وحكى عنه ابن حجر أنه قال: يعتبر بحديثه من غير روايته عن عطاء الخراساني، وقال الأزدي: فيه لين، وقال ابن حزم: ضعيف أما عطاء الخرساني فقد ذكره البخاري في الضعفاء، وقال ابن حبان كان رديء الحفظ يخطئ ولا يعلم؛ فبطل الاحتجاج به، ووثقه ابن سعد وابن معين وأبو حاتم، ومع ذلك فقد انفرد شعيب عن الأئمة الأثبات بهذه الزيادة؛ فإنه لم يعرف عن أحد منهم ذكرها.
سادسا: حديث عبادة بن الصامت في تطليق بعض آبائه امرأته ألفا فلما سأل بنوه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بانت منه بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه» ، وأجيب بأن في سنده رواة مجهولين وضعفاء.
__________
(1) ص - من البحث.(3/151)
سابعا: بحديث: «من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ألزمناه بدعته» . وأجيب بأن في سنده إسماعيل بن أمية الذراع، وقد قال فيه الدارقطني بعد روايته لهذا الحديث، ضعيف متروك الحديث.
ثامنا: حديث علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا طلق امرأته ألبتة فأنكر ذلك وقال: «من طلق ألبتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجها غيره» وأجيب بأن في سنده إسماعيل بن أمية القرشي، قال فيه الدارقطني، كوفي ضعيف، وقال ابن القيم في إسناد هذا الحديث مجاهيل وضعفاء (1) .
وأما الإجماع فقد نقل كثير من العلماء على إمضاء الثلاث في الطلاق بكلمة واحة منهم: الشافعي وأبو بكر الرازي وابن العربي والباجي وابن رجب وقالوا: إنه مقدم على خبر الواحد، قال الشافعي: الإجماع أكثر من الخبر المنفرد، وذلك أن الخبر مجوز الخطأ والوهم على روايه، بخلاف الإجماع فإنه معصوم، وأجيب بأنه قد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم القول برد الثلاث المجموعة إلى الواحدة منهم: أبو بكر، ومر صدر من خلافته، وعلي وابن مسعود وابن عباس، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وطاوس، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومحمد بن إسحاق، وابن تيمية المجد، وأصبغ بن الحباب، ومحمد بن بقي، ومحمد بن عبد السلام الخشني، وعطاء بن يسار، وابن زنباع، وخلاس بن عمرو، وأهل الظاهر، وخالفهم في ذلك ابن حزم، وغاية الأمر أن يقال: أن بعض من نقل عنهم الإلزام بالثلاث إذا كانت مجموعة نقل عنهم أيضا جعلها واحدة فيكون لهم في المسألة قولان، والقصد أن الخلاف في الإلزام بها مجموعة لم يزل قائما ثابتا، وممن حكى الخلاف في ذلك عن السلف والخلف أبو الحسن علي بن عبد الله اللخمي، وأبو جعفر الطحاوي، في تهذيب الآثار وغيرهم، وبهذا يتبين أنه ليس في المسألة إجماع (2) .
وأما الآثار المروية عن الصحابة وغيرهم في إمضاء الثلاث على من طلق زوجته ثلاثا في مجلس واحد فكثيرة منها، ما روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وعمران بن الحصين وأبي هريرة وغيرهم، فإن سلم اعتبارها في الاحتجاج لكونها أقوال صحابة ثبت المطلوب، وخاصة أن فيهم ثلاثة من الخلفاء: عمر الملهم وعثمان وعلي وحبر الأمة ابن عباس - رضي الله عنهم -، وإلا فالحجة في إجماعهم فإن فتواهم اشتهرت عنهم، ولم يعرف عمن لم يفت بذلك إنكار لفتواهم به، فكان إجماعا وقد تقدم.
__________
(1) ص - من البحث.
(2) ص - من البحث.(3/152)
وأجيب بأن عمر - رضي الله عنه - أمضى عليهم الثلاث عقوبة لهم لما رآه من المصلحة في زمانه ليكفوا عما تتابعوا فيه من جمع الطلاق الثلاث، ويرجعوا إلى ما جعل الله لهم في الفسحة والأناة رحمة منه بهم، ولما علم الصحابة منه حسن سياسته لرعيته وافقوه على ذلك وأفتوا به رعاية لما رآه من المصلحة؛ ولذا صرحوا لمن استفتاهم في هذا الأمر بأنه عصى ربه ولم يتقه فلم يجعل له مخرجا، ولم يجعل ذلك الإمضاء شرعا لازما مستمرا لأنه مما تتغير الفتوى به بتغير الزمان والأحوال بل جعل العقوبة به تقريرا لمن خالف ما أمر به كالنفي، ومنعه - صلى الله عليه وسلم - المخلفين الثالث من نسائهم مدة من الزمن، والضرب في الخمر، ونحو هذا مما يختلف التعزير فيه باختلاف الزمان والأحوال، وكان هذا من الخليفة اجتهادا (1) .
وأما القياس فهو أن النكاح ملك للزوج فتصح إزالته مجتمعا كما صحت إزالته متفرقا، وأن الله جعله بيده يزيل منه ما شاء ويبقى ما شاء، كالعتق وعقد النكاح، وأجيب بأنه قياس مع الفارق فإن الطلاق جعل إليه ليوقعه متفرقا على كيفية معينة، ومنعه من جمعه لما تقدم في المسألة الأولى فلا يصح قياس جمعه على تفريقه ولا على العتق، ولا عقد النكاح على أكثر من واحدة وما أشبهها، مما شرع له إيقاعه مجتمعا ومتفرقا (2) .
__________
(1) ص - من البحث.
(2) ص - من البحث(3/153)
المذهب الثاني
إن الطلاق الثلاث دفعة واحدة يعتبر طلقة واحدة، دخل بها الزوج أم لا، وهو قول أبي بكر وعمر، صدر من خلافته، وعلي وابن مسعود وابن عباس والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، وكثير من التابعين ومن بعدهم كطاوس وخلاس بن عمرو ومحمد بن إسحاق، وداود الظاهري، وأكثر أصحابه، وهو اختيار ابن تيمية، وابن القيم (1) واستدل لهذا المذهب بالكتاب والسنة والآثار، والإجماع، والقياس.
أما الكتاب فأولا قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (2) إلى قوله تعالى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (3) ، وبيانه أن الألف واللام في قوله {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (4) للعهد
__________
(1) ص - من البحث.
(2) سورة البقرة الآية 228
(3) سورة البقرة الآية 230
(4) سورة البقرة الآية 229(3/153)
والمعهود هو الطلاق المفهوم من قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1) ، وهو رجعي لقوله تعالى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (2) ، فالمعنى الطلاق من الذي يكون للزوج فيه حق الرجعة مرتان، مرة بعد مرة، ولا فرق في اعتبار كل مرة منهما واحدة بين أن يقول في كل مرة، طلقتك واحدة أو ثلاثا أو ألفا، فكل مرة منها طلقة رجعية لما سبق ولقوله تعالى بعد {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (3) ، وأما قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (4) ، فالضمير المرفوع والمنصوب فيه عائدان إلى المطلق والمطلقة فيما سبق لئلا يخلو الكلام عن مرجع لهما؛ ولأن الطلاق وقع بعد الشرط والحل بعد النفي فدل على العموم فلو كانت هذه الجملة مستقلة عما قبلها للزم تحريم كل مطلقة ولو طلقة أو طلقتين حتى تنكح زوجا آخر، وهو باطل بإجماع، وإذا فمعنى الآية: فإن طلقها مرة ثالثة بلفظ واحد طلقة أو ثلاثا فلا تحل له حتى تتزوج غيره، وبهذا يدل عموم الآية على اعتبار الثلاث بلفظ واحد طلقة، وقد سبقت مناقشة هذا الدليل.
ثانيا: قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (5) . إلى قوله {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (6) وبيانه أن الجمهور استدلوا بها من وجوه على تحريم جمع الثلاث، وإذا فلا يقع منها مجموعة إلا ما كان مشروعا وهو الواحدة، وأجيب بأن التحريم لا يناقض إمضاء الثلاث فكم من عبادة أو عقد مشروع ارتكب فيه مخالفة، فقيل لصاحبه عصى وصحت عبادته ومضى عقده وعلى تقرير المناقضة فهو يمنع من إمضاء الواحدة أيضا، لوقوع الطلاق على خلاف ما شرع الله، وذلك ما لا يقول به أحد من الجمهور.
وأما السنة: فمنها - أولا - ما رواه مسلم في صحيحه من طريق ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثالث واحدة، فقال عمر - رضي الله عنه -: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم (7) » ، وأجيب عن الاستدلال به بما يأتي:
أولا: أنه حديث منسوخ؛ لأن ابن عباس أفتى بخلافه، فدل ذلك على أنه علم ناسخا له فاعتمد عليه في فتواه، ونوقش بأنه يمكن أن يكون اجتهد فوافق اجتهاده اجتهاد عمر - رضي الله عنهما - في إمضاء الثلاث تعزيرا للمصلحة كما تقدم، وأيضا لو علم ناسخا لذكره، مع وجود الدواعي إليه، ولم يكتف بمثل ما كان
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) سورة البقرة الآية 228
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة البقرة الآية 230
(5) سورة الطلاق الآية 1
(6) سورة الطلاق الآية 2
(7) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .(3/154)
يعلل به في فتواه، وأيضا الصواب أن العبرة بما رواه الراوي لا بقوله، قالوا أيضا يدل على نسخ الحديث ما ذكر في سبب نزول قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (1) من أن المطلق كان له الحق في الرجعة ولو طلق ألف مرة، ما دامت مطلقته في العدة، فأنزل الله الآية منعا لهم من الرجعة بعد المرة الثالثة حتى تنكح زوجا آخر، ونوقش أولا: بأنه روي مرسلا من طريق عروة بن الزبير ومتصلا من طريق عكرمة عن ابن عباس لكن في سنده علي بن حسين بن واقد، وهو ضعيف، وثانيا: بأنه استدلال في غير محل النزاع، فإنه ليس فيه الإلزام بالثالث في لفظ واحد.
وقالوا أيضا يدل على نسخه حديث امرأة رفاعة، وحديث اللعان، وحديث فاطمة بنت قيس وقد سبق الاستدلال بها ومناقشتها (2) .
وقالوا أيضا: يدل على نسخه إجماع الصحابة زمن عمر - رضي الله عنهم - على إمضاء الثلاث؛ فإنه لا يكون إلا عن علم بالناسخ، ونوقش بأنه لا يتأتى مع قول عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فلو كان اعتمادهم على العلم بالناسخ لذكروه ولم يعلل عمر بذلك، وأيضا كيف يستمر العمل بالمنسوخ في عهده - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر - رضي الله عنهما -؟ مع كون الأمة معصومة في إجماعها عن الخطأ، ونوقش استمرار العمل بالمنسوخ في العهود الثلاثة بأنه إنما فعله من لم يبلغه النسخ، فلما كان زمن عمر انتشر العلم بالناسخ فأجمعوا على إمضاء الثلاث كما حصل في متعة النكاح سواء (3) ، ونوقش بأن متعة النكاح كان الخلاف فيها مستمرا بين الصحابة لعدم معرفة بعضهم بالناسخ المنقول نقلا صحيحا إلى أن أعلمهم به عمر في خلافته، ونهاهم عنها، بخلاف جعل الثلاث في لفظ واحد طلقة واحدة، فإنه ثابت في عهده - صلى الله عليه وسلم -، ولم يزل العمل عليه عند كل الصحابة في خلافة الصديق إلى سنتين أو ثلاث من خلافة عمر - رضي الله عنهما - إما فتوى أو إقرار أو سكوتا؛ ولهذا ادعى بعض أهل العلم أنه إجماع قديم، لم تجمع الأمة على خلافه بعد، بل لم يزل في الأمة من يفتي بجعل الثلاث واحدة (4) ولم ينقل حديث صحيح يصلح أن يعتمد عليه في نسخ حديث ابن عباس، ويكون مستندا لما ذكر من الإجماع بل الذي روي في ذلك إما في غير الموضوع، وإما في الموضوع لكنه ضعيف أو مكذوب، ومع هذا فقد ثبت عن عكرمة عن ابن عباس ما يوافق حديث طاوس مرفوعا وموقوفا على ابن عباس، فالمرفوع هو أن ركانة طلق امرأته ثلاثا فردها عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت ما يخالفه مرفوعا وقد سبقت مناقشة حديث ركانة وستأتي بقيتها (5) . ولا نكارة في إمضاء عمر للثلاث باجتهاده، ولا على غيره من الصحابة ممن وافق اجتهادهم اجتهاده في إمضائها، وقد بين عمر وابن عباس وغيرهما وجه ذلك بأن الناس لم تتابعوا فيما حرم الله عليهم من تطليقهم ثلاثا مجموعة وكثر منهم ذلك على خلاف
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) ص - من البحث.
(3) ص - من البحث.
(4) ص - من البحث.
(5) ص - من البحث.(3/155)