ـ[مجلة البحوث الإسلامية]ـ
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
المؤلف: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عدد الأجزاء: 88 جزءا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي ومعه ملحق بتراجم الأعلام والأمكنة](/)
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1)
سورة فاطر الآية 28
__________
(1) سورة فاطر الآية 28(1/1)
لجنة الإشراف سماحة الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ
فضيلة الشيخ محمد بن عودة
فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
فضيلة الشيخ عثمان الصالح
أشرف على التحرير جمال النهري
عبد الله البعادى
عبد العزيز الفارس
المراسلات: رئيس التحرير
مجلة البحوث الإسلامية
المملكة العربية السعودية - شارع الرياض
جنوب شارع عسير
تليفون: 4359712 - 4596062(1/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض
رئيس التحرير
عثمان الصالح
الإشراف الفنى
جمال النهري
مجلة فصلية تصدر كل ثلاثة أشهر
رجب شعبان رمضان
1395 هـ(1/3)
الفهرس
1 كلمة جلالة الملك فيصل رحمه الله
2 كلمة جلالة الملك خالد بن عبد العزيز حفظه الله
3 كلمة سمو الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد والنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية
4 رسالة إلى العلماء والمفكرين المسلمين في العالم سماحة الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ
رئيس ادارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
5 سلاح العصر يحمل لواء الدعوة فضيلة الشيخ محمد بن عودة
الأمين العام لهيئة كبار العلماء
6 دعاء أمناء لرسالة عظمى
عقيدة يحميها سيف، وسيف تحميه عقيدة فضيلة الشيخ عثمان الصالح
رئيس التحرير
7 القدس والفيصل.. والإسلام التحرير
8 تقديم التحرير
9 الدين والتدين الشيخ محمد حسين الذهبي
10 وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية الشيخ مناع خليل القطان
11 اللغة العربية: لسان وكيان الأستاذ أحمد محمد جمال
12 مقارنة بين أسلوب الحديث النبوي وأسلوب القرآن الكريم دكتور مصطفى أحمد الزرقا
13 كعب بن مالك: شاعر السيف والقلم دكتور محمد محمد خليفة(1/4)
14 مسلمة بن عبد الملك دكتور أحمد الشرباصي
15 حركة الإصلاح الديني في القرن الثاني عشر الشيخ عبد الله خياط
16 المفتي في الشريعة الإسلامية الأستاذ عبد العزيز عبد الرحمن الربيعة
17 حكم السعي فوق سقف المسعى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
18 حكم الأوراق النقدية اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
19 حكم تمثيل الصحابة في فيلم أو مسرحية اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
20 تراجم الفقهاء الأستاذ عبد الفتاح محمد الحلو
21 كتاب العدد: أبو داود؛ حياته وسننه الشيخ محمد الصباغ
22 المؤتمر العربي لشئون المخدرات، الدورة السادسة التحرير
23 مؤتمر رسالة الجامعة التحرير
24 المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي التحرير
25 حوار مع الأمين العام لهيئة كبار العلماء التحرير
26 حوار مع سعادة الأمين العام للأمانة التحرير
27 متنوعات التحرير
28 أخبار إسلامية دولية - وثائق التحرير(1/5)
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153(1/6)
من كلمات جلالة الملك فيصل رحمه الله
إننا في حاجة كبرى إلى التفقه في ديننا
وإلى التعمق في أصول شريعتنا. .
لنعلم المزايا التي تحتوي عليها هذه الشريعة المطهرة
فحينما نتعلم ونتفقه في ديننا وشريعتنا نعلم ويتبين لنا أننا الحائزون على كل فضيلة
وعلى كل شرف. . وأن شريعتنا هي المحققة
للعدالة. . والحرية. . والمساواة. .
وللمحبة. . وللأخوة. .(1/7)
من كلمات جلالة الملك خالد بن عبد العزيز حفظه الله
كانت الشريعة الإسلامية. .
وستظل إن شاء الله. .
الراية التي نستظل بها. .
والمنطلق الذي نسير منه. .
والهدف الذي نسعى إليه. .
نحتكم لمبادئها. .
ونستضيء بنبراسها. .
ونعض عليها بالنواجذ. .
لا تأخذنا فيها لومة لائم. .
ولا تصدنا عنها عراقيل الزمن. .
نجد فيها جوهر العدل. .
والعدل أساس الحكم
خالد بن عبد العزيز حفظه الله(1/8)
لن نحتمي إلا بالله. . ثم محبة الناس. .
من كلمات سمو ولي العهد. . الأمير فهد بن عبد العزيز حفظه الله:
إنها ليست مجرد تقاليد. .
بل هي فلسفة حكم. .
فإما أن ينعزل الحاكم ويغلق بابه عن الشعب. .
وفي ذلك خطر موت للناس. . واغتيال حقوقهم. .
وغفلة الحاكم عن المظالم والانحراف. . لأن المظلوم لا يستطيع أن يرفع شكواه، لولي الأمر. . والمنحرف لا يخشى المحاسبة.
وإما أن يسقط الحجاب بين الراعي والرعية
ولقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ينهى الحكام عن إغلاق الأبواب.. وقتل عمر -رضي الله عنه-.. وقيل فتح موته ثغرة في الإسلام. .
وفي اعتقادي:
أن احتجاب الحكام. .
وعزلتهم عن الشعب. .
وقيام نظام بوليسي. .
أكثر خطرا على الأمم. .
وعلى قيمنا. .
ثم. . هل حمت تلك الإجراءات؟ أو ردت قضاء!!
سيستمر بابنا مفتوحا
ولن نحتمي إلا بالله. .
ثم محبة الناس. .
فهد بن عبد العزيز(1/9)
رسالة إلى العلماء والمفكرين المسلمين
في العالم
يوجهها
سماحة الشيخ
إبراهيم بن محمد آل الشيخ
رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
العلماء ورثة الأنبياء وهم المسؤولون عن تبليغ الرسالة
نحتاج للتخطيط والتنظيم لنشر الدعوة
أعداء الإسلام سلكوا في كل السبل ويضعون في الحاضر المخططات
والتنظيمات للكفر والإلحاد مستغلين المنافقين والمأجورين
واجب خدمة الشريعة بروح العصر
الجهاد بالكتابة والإقناع
والدعوة في عصر بعد عن العاطفة، واقترب من العقل(1/10)
شريعة الإسلام
وواجب العلماء نحوها
الحمد لله: الشريعة الإسلامية شريعة مطهرة كاملة ضمنت مصالح البشرية في دنياها وأخراها.
وهي الصراط المستقيم الذي من سار عليه نجا. من حاد عنه وسار في طريق آخر سواه هلك وهوى. معصومة من الباطل. بعيدة عن الجور والظلم. كفيلة بعلاج مشاكل البشرية والأخذ بيدها إلى ما فيه سعادتها وفلاحها. وقد وفق الله ممن اختارهم من العلماء المخلصين صفوة بذلوا جهودهم. وسخروا أقلامهم لخدمتها وإبراز محاسنها. وشرح أحكامها. وبيان معانيها وإحاطتها بجميع شئون الناس في العقائد والعبادات والمعاملات والسياسة والحكم وغير ذلك. وإنها هي المنظمة لصلة الأفراد في داخل الأمة. وصلة الأمة بغيرها في حالة السلم والحرب.
* * *
يجب علينا في هذا الزمان أن نسير على ما سار عليه سلفنا الصالح وأئمتنا المهتدون من خدمة هذه الشريعة. وبيان هذه المعاني. بالأسلوب الذي يعرفه أبناء(1/11)
هذا العصر وشرح هذه الأحكام بالطريقة التي يفهمونها. والتي لا تخرجها عما أراده الله منها. وإبراز محاسنها للبشرية وأن فيها علاج أدوائها ودحض شبه أعدائها والمتربصين بها.
إنا لنأمل أن تكون مجلتنا هذه منبرا لعلمائنا ومفكرينا يضيئون بواسطته طريق الحق ومشعل الهداية وسبيل الرشاد وأن تكون ميدانا فسيحا للبحث والمناقشة في سائر العلوم وفي شتى المجالات والعلماء هم ورثة الأنبياء فهم الذين ورثوا عنهم العلم وأتمنهم الله عليه.
وهم المسئولون عن تبليغه للأمة صافيا نقيا. بعيدا عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين. وتأويل الجاهلين. ورد شبهات أعداء الله وشرعه من الكفار والمنافقين الذين مرضت قلوبهم فلم يخالط الإيمان بشاشتها ولم يستضيئوا بنورها الساطع.
ولم يهتدوا بهديها القويم فنصبوا من أنفسهم أعداء ألداء لها. وسلكوا شتى الطرق. وبذلوا كل الجهود. واستعملوا مختلف الوسائل لمصادمتها والنيل منها. وتفضيل الحكم بغيرها على الحكم بما جاءت به من تشريعات سامية وأحكام عادلة.
لقد حرص أعداء الإسلام حديثا كما حرص أسلافهم قديما على الكيد للإسلام وشريعة الإسلام فسلكوا في الماضي كل السبل لصد المسلمين عن دينهم وإبعادهم عن معينه الصافي وتشريعه الحكيم. وحاولوا أن يصرفوا المسلمين عن دينهم وكتابهم ويسلكوا تلك السبل التي تستوجب غضب الله وعقابه. حاولوا ذلك بكل ما أوتوا من قوة وخبث ولكن الله حفظ دينه وكتابه ورد كيد أعداء هذا الدين والمتربصين به من الكفار والمنافقين في نحورهم وبقيت شريعة الله محفوظة لم يؤثر فيها كيد الكائدين ومكر الماكرين.
* * *
وقد سلك هؤلاء الأعداء طرقا أخرى يرون أنها أجدى لبلوغ أهدافهم ونيل مآربهم الخبيثة واستغلوا كافة الوسائل التي لم تكن موجودة عند أسلافهم(1/12)
وخططوا ونظموا للدعوة إلى باطلهم وكفرهم وإلحادهم ووجدوا من ضعاف النفوس وقليلي الإيمان ممن ينتسبون للإسلام من المنافقين والمأجورين من يدعو إلى باطلهم وينفذ مخططاتهم واتخذوا منهم معاول هدم للإيمان والأخلاق الفاضلة والمثل العليا التي جاءت بها الشريعة السمحة العادلة الكفيلة بمصالح البشرية في معاشها ومعادها.
إننا بحاجة إلى تنظيم وتخطيط لنشر دعوتنا وبيان أحكام شريعتنا للناس. وبحاجة إلى بذل الجهود في الكفاح والذود عن حياض هذه الشريعة بكل ما أوتينا من قوة.
وللجهاد مراتب فتارة يكون بالسيف والسنان وتارة باللسان والبيان.
والجهاد عن طريق الكتابة والإقناع والدعوة له تأثير كبير وخاصة في زمننا الذي بدأ كثير من الناس فيه يبعدون عن العاطفة ويبحثون عن الحقيقة ويتلمسون ما يقنع عقولهم ويخرجهم من حيرتهم ويقودهم إلى شاطئ السلامة والنجاة.
* * *
الصحافة الإسلامية وحشد الطاقات العلمية الصالحة
والصحافة الإسلامية القوية من أنجح الوسائل لتحقيق هذه الغاية ومن أكثرها تأثيرا إذا ما أحسن استعمالها واشتملت على علاج الأدواء التي اجتاحت مجتمعات البشرية واستمدت هذا العلاج من هدي القرآن ومن معين السنة النبوية.
وهذا العلاج يتطلب حشد جميع الطاقات العلمية الصالحة التي تفهم معاني النصوص وفق ما أراده الله منها لإصلاح البشرية في معاشها ومعادها. وهذا هو الوسيلة المثلى للدعوة إلى الله والرد على أعداء الإسلام الذين يزعمون أن أحكام الشريعة لا تفي بمتطلبات العصر ولا تصلح لمعالجة المشاكل التي لم تكن موجودة في زمن سلفنا الصالح(1/13)
فبحشد الطاقات العلمية التي أشرنا إليها يتبين للمعاندين والمغرضين صلاحية هذه الشريعة لكل زمان ومكان.
وإني لأرجو أن يجد قارئ هذه المجلة في هذا المجال ما يثلج صدره ويكشف عما قد يعرض له من شبهات. أرجو من الله أن يوفق القائمين على هذه المجلة الإسلامية لإبرازها على المستوى اللائق بها والذي قصده المسئولون من إصدارها وأن فيما يبذله رئيس تحريرها الأستاذ الكريم عثمان الصالح من جهود مشكورة واهتمام بالغ نحوها لأعظم وسيلة لنجاحها بإذن الله والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(1/14)
سلاح العصر يحمل لواء الدعوة
فضيلة الشيخ
محمد بن عودة
الأمين العام لهيئة كبار العلماء
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: فبين يدي العدد الأول من مجلة (البحوث الإسلامية) يطيب لي أن أتحدث إليك أيها القارئ الكريم عن موضوع إيجاد هذه المجلة ويشرفني أن أكون الأمين العام لهيئة كبار العلماء وأن يكون لي دور في صدور المجلة وانتظامها بحول الله وقوته تحت إشراف وتوجيه سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ الذي أولاها كبير عنايته وفائق رعايته وأريد بحديثي هذا أن أدعوك للمساهمة في تغذية هذه المجلة ولتكون عضوا في أسرتها فمن أجلك يكتب الكاتب ويسهر الإداري ومن حقك إذا أن تعلم بما دار في مراحل الإعداد والإصدار وما تعتزم المجلة اتباعه - إن شاء الله - مع نبذة مختصرة عن هيئة كبار العلماء.(1/15)
المجلة بين الكتاب والصحيفة اليومية
ومن موازنة بسيطة نلحظ أن العبارة المسموعة موقوتة الغرض منتهية بانتهاء مجالها وزمن التلفظ بها أما العبارة المقروءة فهي أبقى على الزمن وأعيا على الفناء في متناول الباحث عن الفائدة في كل وقت ثم إن المجلة تأتي - في نظرنا - في الدرجة الأولى بين ما يحمل العبارة المقروءة من وسائل الإعلام ذلك أنها جاءت وسطا بين الكتاب وبين الصحيفة اليومية فالكتاب سجل يبقى زمنا ولا يفقد من جدته الشيء الكثير والصحيفة تحمل بريد الصباح أو أنباء المساء وهي تطبع في اليوم الواحد مرات متعددة.
وفي كل طبعة تحمل الصفحة الأولى آخر الأنباء أو أهمها ومع ذلك كثيرا ما تتضمن الصحيفة اليومية مقالات قيمة أو أنباء حاضرة عاجلة ولها أصداء تتجاوب في يوم تال أو في أيام تجيء ومن ثم ابتدع المنظمون أوضاعا تلائم هذه الحال منها إنشاء (الأرشيف) الذي يبتنى من قصاصات الصحف اليومية ثم يصنف(1/15)
ويبوب ويقوم على خدمته موظفون متخصصون ومع تقدم الأيام يتحول هذا الأرشيف المكون من قصاصات الصحف إلى مكتبة زاخرة بالمادة الجديرة بالمراجعة من وقت لآخر وقد تحفظ هذه المادة في أشرطة فوتوغرافية وقد يدخل عليها من الأجهزة المكتبية ما يجعل الكشف عن الواقعة أو الخبر أمرا ميسورا بأجهزة إليكترونية بأسرع مما يتصوره الناس عادة لأن هذه كلها مستحدثات في أجهزة الإعلام تجعل نفعها للرأي العام أقرب وأعلى من حيث الكفاءة فالمجلة إذا هي أداة العصر لا سيما في ميدان الدعوة وما كانت العناية اليوم بالعبارة المقروءة بدعة. لهذا ستكون هذه المجلة إن شاء الله قوة تحمل لواء الدعوة وستقدم البحوث العلمية الناضجة مع الحرص على إضافة الكلمات والتعقيبات النافعة وستعنى بنشر الوعي والثقافة الإسلاميين وسيكون فيها التوجيه الذي يخرج إلى القارئ من مادتها توجيها سليما وسوف لا نألو جهدا في رفع قدرتها على الإفادة وندعو الله أن نكون جميعا ممن قال الله تعالى في حقهم: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} (1)
__________
(1) سورة الحج الآية 24(1/19)
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (1)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 1(1/20)
دعاة أمناء لرسالة عظمى
عقيدة يحميها سيف وسيف تحميه عقيدة
فضيلة الشيخ عثمان الصالح
رئيس التحرير
بسم الله نبدأ وبحمده نضرع وبه نستعين وعليه نعتمد وبعد.
فإن الإسلام الذي رضيه الله لنا دينا وللبشر سعادة وللمجتمعات هناء وجعل من الرسول الكريم مبلغا هذه الرسالة للأحمر والأسود والأبيض والأصفر. . . . . .
وجعل حملة الرسالة وواعيها ومبلغيها ورثة الأنبياء ويقومون بالهداية والإصلاح جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن ويؤدون هذه المهمة منة من الله على عباده ونعمة منه عليهم.
ومن هذه الجزيرة " المملكة العربية السعودية " انطلق دعاة أمناء أخيار وعلماء أبرار هدي النبوة مشكاتهم ونبراس الرسالة العظمى ضياؤهم. .
واتخذوا من هذه الأسرة الكريمة الأسرة السعودية سيوفا تحمي هذه الغاية وعرينا يتحصنون فيه لحراسة الحق ونصره. .(1/21)
وهؤلاء الدعاة المخلصون في التبليغ لا تأخذهم في الله لومة لائم في أن يكون هذا الدين كما أراد الله ورسوله.
قوة في محاربة الانحراف في المبدأ والفساد في العقيدة هداية للعباد وليحملوا راية الإصلاح والصلاح إلى يوم المعاد وليجعلوا من الأخلاق الإسلامية والخصال الكريمة. . أخلاقا وخصالا مغروسة في ناشئة الشعوب ونابتة البلاد في كافة ديار الإسلام ومواطنه وليجتثوا فساد المجتمعات.
ومن " المملكة العربية السعودية " ومن أقداسها ينطلق كل مصلح ويجاهد كل مناد للسلام والإسلام وما زالت ولا تزال ولن تزال هذه الدولة بقيادتها الرائدة وآمالها الصاعدة ونظراتها الصائبة لسانا وسيفا: -
لسانا يوضح الحق بالأدلة والبراهين. . .
وسيفا يجندل المعتدين والبغاة
ويفتت الباطل الذي يقف أمام جيش الإسلام وجنوده المخلصين
ولهذا
ومن أجله. . .!
بزغت شمس التضامن الإسلامي وأطلت أعلامه يقدمها النصر
يحملها صاحب الجلالة الملك فيصل رحمه الله
والذي كان الصوت المدوي
وله المكانة العظمى والمنزلة العليا في كل شبر من الأرض يرفرف عليها لواء الإسلام
وله الاحترام والإجلال في كل مكان من الدنيا لما له من الحكمة والحجى الذي به يستضاء بهما ويستنار بهداهما
ثم كان له من حسن الاختيار من المنابع الأصيلة ومعادننا الجليلة في هذا البلد الكريم(1/22)
وفيها العلماء الأجلاء والرجال الصلحاء الذين هم نبع صاف سداه التقى ولحمته الصدق. .
على قاعدة سميكة من الإيمان والدعوة إلى الله بالكلمة الحق والجهاد في سبيل الله وإلى دينه القويم وشريعته الغراء في هذا الزمان الذي يقوم مقام الجهاد فيه بالسيف والسنان.
ومن هذه المعاقل التي تذب عن حمى الدين وهو منها في حصن حصين ومعقل أمين هذه الرئاسة للدعوة والإرشاد والإفتاء والبحوث العلمية التي جعل جلالته عليها سماحة الشيخ إبراهيم سليل محمد بن إبراهيم آل الشيخ المفتي الكبير للديار السعودية الراحل وحفيد الشيخ والإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب ومن هذه الإدارات ومن مناهلها العذبة ومن أفكار رجالها المؤمنين ودعاتها الأفذاذ ينطلق صوت مسموع يهفو له المسلم في أنحاء العالم وينجذب إليه المفكر المصلح في أرجاء الدنيا.
يشرف على ذلك هيئة كبار العلماء الذين اختيروا من ذوي التحقيق والوعي والإدراك ولهم البحث العميق والكلمة الراشدة والمقالة السديدة والفتوى التي تعتمد على ضوء القرآن ونور الحديث.
كل ذلك وأكثر منه من هؤلاء وأولئك ينبثق من " مجلة البحوث الإسلامية " - العدد الأول - يحمل بين طياته أقباسا من الهدى والإيمان استضاء بكتاب الله وسنة رسوله تطبيقا وفهما واستنباطا وقياسا بجانب ما يجلى من علوم القرآن والحديث وأصول الفقه والتراجم آملين أن يكون من ذلك الفائدة التي تعود بالخير العميم على مجتمعنا والهداية التي تنعم بها نفس المسلم ويسعد بها المؤمن.
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) صدق الله العظيم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110(1/23)
الشيخ عثمان الصالح
* ولد عام 1335 في مدينة المجمعة قاعدة منطقة سدير بنواحي " الرياض " عاصمة المملكة العربية السعودية.
* تلقى العلم في كتابها الوحيد حيث تعلم المبادئ الأولية للقراءة على يدي الشيخ أحمد الصانع -رحمه الله-.
* وفي عام 1347 انتقل إلى " عنيزة " إحدى مدن القصيم الكبرى ومن أثقف المدن النجدية.
* درس على يدي الشيخ الأديب " صالح الناصر الصالح " مدير المدرسة الأهلية التي تضم الأقسام الثلاثة الابتدائي والمتوسط والثانوي.
* تخرج منها في عام 1354 هـ بعد أن تدرب على التدريس فيها لمدة عامين دارسا ومدرسا.
* افتتح في مسقط رأسه مدرسة أهلية.
* انتقل عام 1356 إلى أول مدرسة سعودية بالمنطقة حيث كان فيها أول مدرس وطني.
* ترفع عام 1358 إلى معاون مدير المدرسة.
* وفي 1359 انتقل مديرا لمدرسة أبناء الأمير عبد الله عبد الرحمن.
* وفي عام 1365 طلبته الدولة لتأسيس " مدرسة الأنجال " وليكون مديرا لها.
* تطورت المدرسة التي ظلت تحت إدارته 26 عاما حتى شملت أقسام الروضة والابتدائي والمتوسط والثانوي.
* بلغ تعداد المدرسة خلال ربع القرن الذي أمضاه مديرا لها ألفي طالب وشغلت مساحتها مليون متر مربع " حاليا تسمى معهد العاصمة " النموذجي. .
* رغب في الإحالة على التقاعد عام 1390
* شغل في عالم الصحافة منصب المدير العام لمؤسسة الجزيرة ورئيس تحريرها.
* يشغل حاليا منصب رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية كما يشغل إلى جانب ذلك:
- عضو مجلس الأوقاف الأعلى بالمملكة العربية السعودية
- رئيس مجلس الأوقاف الفرعي " بالرياض ".
- عضو مجلس إدارة الهلال الأحمر السعودي
- عضو مؤسس في مؤسسة الجزيرة الصحافية.(1/24)
القدس. . والفيصل. . والإسلام
ثمة ما هو أهم من " القدس "
أهم من " ثاني القبلتين "
ذلك أن الأرض تذهب وتجيء؟
هذا هو السؤال
لماذا تصيبنا النكبات؟
لماذا نتعرض للعدوان؟ (1) .
هذا هو السؤال. . وهكذا تساءل الفيصل حيث يقول -رحمه الله-
" هذا ما سببناه لأنفسنا نحن "
" ولم يرضه الله سبحانه وتعالى لنا "
هكذا أجاب الفيصل رحمه الله
لا بد أن هناك " فينا "
__________
(1) من خطبة جلالة الملك فيصل رحمه الله في حج عام 1390 هـ(1/25)
" وفي أنفسنا "
" ما يستوجب أن نصاب بهذه النكبات "
وهو سبحانه وتعالى " إنما رضي لنا
" العزة. .
" والكرامة. .
والقوة. .
إذا نحن أخلصنا العبادة وتمسكنا بما أمرنا به سبحانه وتعالى
" واتبعنا سبيل نبيا صلوات الله وسلامه عليه (1) هكذا أجاب الفيصل رحمه الله. .!!
* * *
لقد كان العرب والناس معهم على شفا " حفرة من النار "
متشاكسون. . . . . . .
متنافرون. . . . . . . . . . .
متحاربون سنين طويلة. . من أجل " ناقة "!!
فتنزلت الآيات
قيل لهم تحابوا. . . فتحابوا
قيل لهم تآخوا. . . فتآخوا
ثم قيل لهم انفروا. . . فهبوا خفافا وثقالا.
تنزلت الآيات. . . .
فقالوا: سمعنا وأطعنا. . . .
* * *
مؤمني مكة على اختلاف قبائلهم - ما عرفنا لهم اسما في التاريخ إلا " المهاجرين " و " مؤمنو المدينة " - على اختلاف قبائلهم - ما عرفنا لهم اسما في التاريخ إلا " الأنصار " تمسكوا بحبل الله المتين. فإذا بالفرقاء المتشاكسين " دولة ".
وإذا بالدولة التي خرجت من بيضة الجزيرة الطاهرة طائر عظيم حمل " دولة عالمية " رفعت الإنسانية دون تمييز بين أجناسها إلى أعلى عليين.
__________
(1) من خطبة جلالة الملك فيصل -رحمه الله- في حج عام 1384 هـ(1/26)
دقت أبواب مدائن الدولتين العظميين - الفرس والروم - فأخرجتهم من عبادة الناس إلى عبادة الله.
وإذا بالقوة الإسلامية - قوة السلام والعدالة - تلون خريطة العالم فتزهر بلونها الأخضر النامي من شرقه إلى غربه. . من الولايات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي حتى المغرب العربي على المحيط الهادي.
ومن شماله إلى جنوبه. . من القسطنطينية. . وعلى مشارف " باريس " حتى أندونيسيا وجزر ماليزيا تلك حقيقة عظمى ترتكز على مجموعة حقائق ساطعة صافية.
* * *
وإذا كانت المملكة العربية السعودية قد روعت بفقد عاهلها العظيم في الحادث الأثيم ثم امتدت دوائر الحزن والألم من مركزها الروحي لتغلف العالم الإسلامي.
بل العالم أجمع. .
وإذا كانت أمنية الفيصل -رحمه الله- التي همس بها فترددت في آذان العالم.
" أريد أن أصلي في القدس ركعتين. . "
فإنها كانت أمنية موجهة للمسلمين قبل أن توجه إلى أعدائهم
" ودعاء " و " دعوة " لهم أن يتمسكوا بقانون القوة والعزة والكرامة.
وأسمع الملك الراحل يقول بحق
" لقد مرت على الإسلام والمسلمين حقب تناسى الناس فيها ما هو مطلوب منهم تجاه ربهم "
" وتساهلوا فيما يجب عليهم "
" وتهاونوا وتغافلوا "
" ولهذا. . . .
" فإننا نرى اليوم أن الشعوب الإسلامية في كل الأقطار قد ينظر إليها نظرة احتقار أو ازدراء "
وهذا أيها الأخوة، ما سببناه لأنفسنا نحن. . .!
ولم يرضه الله سبحانه وتعالى لنا. . .
وإنما. . . رضي لنا
العزة. . .
والكرامة. . .
والقوة. . .(1/27)
إذا نحن أخلصنا العبادة. . .
وتمسكنا بما أمرنا به سبحانه تعالى.
واتبعنا سبيل نبينا صلوات الله وسلامه عليه (1) .
هل ثمة ما هو أوضح من ذلك تبيانا لطريق القوة وأسباب فقدانها؟
وإذا كان ثمة من أسباب لضياع القدس. . أو غيرها مما يصيبنا من نكبات فاسمعوا تساؤلاته واضحة -رحمه الله-:
" أيها الأخوة
إننا في حاجة قصوى إلى محاسبة أنفسنا
يجب علينا أن نعود إلى أنفسنا
ونحاسبها لماذا تصيبنا النكبات؟ ؟ ؟
ولماذا نتعرض للعدوان من أعداء الإسلام؟ ؟ ؟
وأعداء البشرية. . .
وأعداء الإنسانية. . .
علينا أن نحاسب أنفسنا. . .
فلا بد أن هناك " فينا "
وفي " أنفسنا "
ما يستوجب أن نصاب بهذه النكبات
فإننا نرى اليوم في عالمنا الإسلامي من يتنكب عن " الإيمان "، وعن " العقيدة الإسلامية " (2) .
هل ثمة محاسبة ذاتية للنفس أشد من هذه المحاسبة؟ ؟
تربط النكبات بأسبابها. . .
وترد العدوان إلى أسبابه فنرى فينا وفي أنفسنا الأسباب الحقيقية لهذا العدوان.
هل ثمة شك أن منابع القوة مصدرها الوحدة والتآخي؟
وهل يجوز شك في أن الخلافات والأحقاد والتنابذ. . طريق الضياع والتمزق؟
__________
(1) خطبة الحج عام 1384 هـ.
(2) خطبة الحج عام 1390 هـ(1/28)
ألا يتحتم كما يقول جلالته -رحمه الله- على " كل دولة أن تترك خلافاتها ومشاكلها على الرف. .
" ويسعون إلى توحيد صفوفهم.
وابتداء من " البلد الواحدة " عليه أن يوحد صفوفه.
" وتحل فيه
" الوحدة "
و" التعاطف "
و" الإخاء " بين أبنائه
ثم الوحدة الإسلامية للجهاد في سبيل الله (1) .
* * *
هذا. . . وسواء كنا ننشد " مكة "
أم كنا نستهدف " القدس "
" فلا طريق إليهما. . إلا عن طريق قلوبنا ثم عقولنا. . نطهرهما ونثقفهما بما سنه الدين الحنيف من المبادئ فهما منبع الداء وأصل الدواء.
" نتجه إلى أنفسنا فنربيها " فحين نتعلم ونتفقه في ديننا وفي شريعتنا نعلم ويتبين لنا
" أننا الحائزون على كل فضيلة
" وعلى كل شرف
" وأن شريعتنا هي المحققة للعدالة وللحرية والمساواة وللمحبة والأخوة (2) ، بحسب كلام جلالته -رحمه الله-.
هذا ما أحب البعض أن يطلق عليه مؤخرا طريق " الفيصل " أو الفيصلية " وهو ذاته طريق الإسلام الذي جدد الدعوة إليه الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- وأبناؤه وأحفاده من بعده هداهم الله وهدى بهم.
* * *
ولقد شاءت حكمته تبارك وتعالى أن لا تغيب شمس القائد الكريم -رحمه الله- إلا بعد أن هيأ لنا من مدرسته رجالا في السياسة والكياسة والقيادة وبعد أن تمت البيعة قام جلالة الملك خالد بن عبد العزيز -حفظه الله- وسمو ولي عهده الأمير فهد بن عبد العزيز -وفقه الله- ليحملا زمام القيادة في فترة من أدق الفترات في تاريخ المملكة وتاريخ العالم العربي والإسلامي وذلك على هدى من كتاب الله وشريعته التي عاشها وأحياها معهم أستاذهم الراحل جلالة الفيصل -رحمه الله-.
__________
(1) خطبة الحج عام 1388 هـ.
(2) خطبة الحج عام 1384 هـ.(1/29)
وذلك - وكما يقول جلالة الملك خالد -حفظه الله- في بيان نعي القائد إلى أمته " بعد أن انتقل بالمملكة العربية السعودية إلى مصاف الدول المتطورة في كل المجالات مع الحفاظ على ديننا ومثلنا وتقاليدنا ".
وكما يقول جلالته في الخطاب الذي ألقاه سمو ولي عهده:
" وعلى الرغم من أن سياسة الملك الراحل الداخلية والخارجية معروفة للقاصي قبل الداني، فإن حكومتنا تجد من واجبها أن تعيد ذكر أهم أركانها وأسسها.
مؤمنة أن في تطبيقها والاستمرار في تنفيذها عزاء لنفوس المؤمنين الصابرين على فقده وسعادة لروح الفيصل -رحمه الله - عند بارئها:
وفي المجال الداخلي كانت الشريعة الإسلامية، وستظل -إن شاء الله-، الراية التي نستظل بها، والمنطق الذي نسير منه، والهدف الذي نسعى إليه، نحتكم لمبادئها ونستضيء بنبراسها. ونعض عليها بالنواجذ لا تأخذنا فيها لومة لائم، ولا تصدنا عنها عراقيل الزمن.
نجد فيها
جوهر العدل. . .
والعدل أساس الملك (1) .
* * *
وإذا كان لنا أن نلملم أحزاننا ونكفكف دموعنا فإنما نفعل ما هدانا إليه الإسلام.
ثم نسارع كما يقول سمو الأمير فهد ولي العهد الأمين " إلى رضى الله، الله أولا وقبل كل شيء " ثم إلى أداء الواجب كما رسمه لنا مؤسسا هذه الدولة جلالة المغفور له الملك عبد العزيز وجلالة المغفور له الملك فيصل -رحمه الله - ".
ولي العهد الذي سئل عما يتمناه لأكبر أبنائه وهو ما يتمناه لأبناء أمته.
" أريده كأبيه، كجده، كأعمامه، كسيوف أسرته، كلها مشهرة لخدمة الله، والأرض، والناس، وأريد منه أن ينقل ذلك لأبنائه ".
فإذا سئل هل في كل ذلك ما أرضاك، أو ما يرضيك عن نفسك؟
أجاب:
" رضاي من رضا ربي علي
وويلي وويل أبي - كما كان يدعو الله عمر بن الخطاب خليفة المسلمين - إن لم يغفر لي ربي أو لم يرض عني "
فيقال له: نحس بأنك تصبو صوب (عمر) أو يهفو بك الشوق إلى ذكراه؟
فيقول:
" وهل مثل عمر في عدله وإنصافه؟ ؟
__________
(1) من حديث جلالة الملك خالد بن عبد العزيز حفظه الله في الرياض 20 \ 4 \ 1395 هـ.(1/30)
إنه أقرب الخلفاء المسلمين إلى قلبي.
بل هو مثل عمر في حزمه وحسن إدارته؟ إنه عبقري. .!
ويسأل عمن هو أقرب إليه من قادة فتوحات المسلمين
فيقول:
" رواد الأندلس وبناة امبراطورية المسلمين في دنيا أسبانيا: موسى بن نصير. وطارق بن زياد (1) وهكذا تلتف الأمة الإسلامية فيه حول قيادة تتخذ الإسلام مثلا أعلى لحياتها وفي سلوكها.
وهكذا تدعم الأمة الإسلامية قيادتها.
وهنا تكون الأمة على موعد مع ينابيع قوتها.
" في وقت حرج تكالبت فيه قوى الشر على العرب وعلى قضيتهم.
ولكن ما هو الواجب علينا في هذه الفترات التاريخية؟ ؟
إن الواجب " على كل فرد من أفراد هذه الأمة أن يخلصوا في أعمالهم ويشعروا بالمسئولية نحو دينهم ومليكهم وبلادهم وأمنهم حتى تصل هذه البلاد إلى ما يحبه الله لها في دينها ودنياها حتى تصل إلى الهدف الذي سعى الفقيد الراحل -رحمه الله- إلى أن يوصلها إليه. . ".
". . إن هذه البلاد هي مركز الإسلام وهي الدعامة القوية لنشر العقيدة والدعوة إليها وإن أعداء الإسلام ما فتئوا ولا يزالون كذلك لينالوا من هذه البلاد لقصد القضاء على الإسلام أو إضعافه ولكنهم بحول الله فشلوا في الماضي.
وسيفشلون في المستقبل. . .!
وسيبقى الإسلام صامدا في وجوه أعدائه رغم كل المحاولات والدسائس والمؤامرات.
ونحن في هذه البلاد المقدسة مؤمنون حقا ".
" نقابل هذه الفادحة والمصاب بنفوس واثقة بأن الله -سبحانه وتعالى- حفظ لهذه الأمة كيانها وللأمة الإسلامية مجدها وعزتها ".
" نعم: إننا خسرنا فيصلا رحمه الله في أحلك الساعات وأدق الظروف. .
" وإنه وإن ترك فراغا في قلوبنا ولوعة في نفوسنا فإنه لم يترك فراغا في بلاده ولا ثغرة في دولته وإنه وإن ترك فإن خليفته
__________
(1) الحوادث 18 \ 10 \ 1974.(1/31)
العظيم خالد بن عبد العزيز -حفظه الله- وولي عهده العظيم فهد بن عبد العزيز -رعاه الله- يحملان الأمانة التي كان فيصلنا رحمه الله الراحل يحملها.
يحملانها بجدارة وقدرة وكفاية يشرف دولتنا وترفع مستوى شعبنا إلى أعلى مراقي العظمة بين الأمم.
* * *
ولا نجد ما نختم به تعليقنا على الحادث الأثيم الذي وقع والمجلة ماثلة للطباعة أفضل من إجابة سمو ولي العهد الأمير فهد بن عبد العزيز على سؤال كان قد وجه إليه حول الحادث.
قال: " لعلك عرفت الجواب من البيعة العامة التي حضرتها الكل دخل والكل صافح الملك إنها ليست تقاليد. .
بل هي فلسفة حكم. .
فأما أن ينعزل الحاكم ويغلق بابه عن الشعب وفي ذلك خطر موت الناس واغتيال حقوقهم وغفلة الحاكم عن المظالم والانحراف لأن المظلوم لا يستطيع أن يرفع شكواه لولي الأمر والمنحرف لا يخشى المحاسبة.
وأما أن يسقط الحجاب بين الراعي والرعية وقد كان عمر بن الخطاب ينهى الحكام عن إغلاق الأبواب وقتل عمر -رضي الله عنه-
وقيل: قد فتح ثغرة في الإسلام
وفي اعتقادي إن احتجاب الحكام وعزلتهم عن الشعب وقيام نظام بوليسي أكثر خطرا على الأمم وعلى قيمنا.
ثم هل حمت تلك الإجراءات أو ردت قضاء؟
سيستمر بابنا مفتوحا. .
ولن نحتمي إلا بالله.
ثم محبة الناس.
وقد لمسها كل من عاش معنا هذه الأيام الحزينة (1)
__________
(1) تصريح سمو ولي العهد الأمير فهد بن عبد العزيز للأنوار اللبنانية في 20 \ 3 \ 1395 هـ.(1/32)
مجلة
البحوث الإسلامية
تقديم
لعله توفيق الله سبحانه أن هدانا لاختيار اسم لهذه المجلة " البحوث الإسلامية " وأن هذا الاسم لم يأت رمية من غير رام وإنما قد استلهمنا فيه روح العصر حتى نتمكن من مخاطبته.
العصر الذي اقتضت طبيعته البحث والتخصص.
تخصص استوجبه تنوع في فروع المعرفة حتى كل فرع يتعمق في معالجة شئون فرعه ليتمكن من حل معضلاته ومشاكله.
ولقد شهدنا ذلك أوضح ما تكون الشهادة في عصرنا هذا. .!
شهدناه في مجال الهندسة. ذهبوا للتخصص فيها: عمارة، وميكانيكا، وكهرباء، وإليكترونات وهندسة فضاء.
وشهدناه أيضا في مجال الطب. حتى لقد أصبحت إجازة الطب العامة لا تعني في مفهوم صاحبها بل حتى في مفهوم العامة من الناس إلا مجرد خطوة في طريق الطب الطويل.
خطوة ينبغي أن نتبعها خطوات أخرى يتخصص بها الطبيب في معالجة هذا الجزء أو ذاك من أجزاء الجسد فتخصص هذا في " شئون القلب ".(1/33)
وذاك " للأعصاب ". وآخر " للعظام ". بل لقد أصبح للعالم بعد إطلاق " سفن الفضاء ". . طب متخصص لرواد الفضاء. .؟
هكذا اقتضت طبيعة العصر. .!
وأصبح " للتقدم أحكام وشروط لا بد من استيفائها. وكان خلف هذا التقدم تخصص قدم أبحاثا، وأبحاث تراكمت بنظام حقق وثبات شاهقة في مختلف المجالات.
فإذا سألوك عن معجزة خلف هذه الوثبات فقل ليس في الأمر أسرار ومعجزات ولكنه النظام. . . والتخصص والأبحاث. .!
جعلت عبور مئات الآلاف من الكيلومترات في زمن يسير أمرا ممكنا. .
* * *
ولقد عجب بعض الناس للتطور الهائل الذي طرأ على العلم ولكن الراسخين في العلم كانوا يتجهون بعقولهم إلى " القاعدة " التي طورت هذا العلم فأوسعوا هذه القاعدة بحثا وتأملا. . ولقد علموا أن هذه القاعدة قد احتوت: علماء وأبحاثا وزمنا وتفرغا وجهدا متفانيا ومالا. . وقبل ذلك كله إيمان قد انعقد على اكتشاف كون سخره الله للإنسان.
ولقد عرفنا نحن التخصص منذ فتحنا الكتاب الكريم وسمعنا موسى -عليه السلام- يدعو الله سبحانه فيقول: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} (1) ويستجيب له سبحانه فيقول: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} (2)
* * *
ونحن قد عرفنا قيمة " الكلمة ".
وعرفنا قيمة " الإقناع " بها. .!
عرفناه. . ثم كان من بعد المعرفة وعي باستخدامها.
وافتح المصحف الذي بين يديك. ورتل ما شاء الله لك أن ترتل من آياته ثم تعال إلى هذه الآيات الكريمة من سورة طه تدرك ذلك معنا أكثر وأكثر. .
فها هي المعجزات تتوالى يؤيد بها الله سبحانه موسى -عليه السلام-.
{قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى} (3) ! "
__________
(1) سورة القصص الآية 34
(2) سورة القصص الآية 35
(3) سورة طه الآية 19(1/34)
{فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} (1)
{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} (2) !
{تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} (3) " حتى إذا أمره الله سبحانه: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (4) قال موسى -عليه السلام- {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} (5) {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} (6) {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} (7) !! {يَفْقَهُوا قَوْلِي} (8) ! {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} (9) {هَارُونَ أَخِي} (10) و " هارون " هو الذي أخبرناك بأمره من قبل حين وصفه موسى عليه السلام بقوله: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} (11) يوظف بذلك الكفاءات المتخصصة لصالح الرسالة ولأجل إعلاء كلمة الله. .!
يطلب موسى تأييد " الكلمة " وهو المؤيد " بالمعجزات "!
* * *
وهكذا كان الدرس. . .
نتلقاه من قديم في الإعلام فما تفوت حكمته على المؤمن حين تمر السنين فتمر بالمئات. . والآلاف!
إننا في أمس الحاجة لارتياد الكلمات المقدسة التي تنزلت بها عقيدتنا بأعماقها الحكيمة وكما يقول جلاله الملك فيصل -رحمه الله -: في إشارته التاريخية لتحديد مسارات الثقافة الإسلامية.
أرى أن أول شيء يجب القيام به أن نثقف أنفسنا.
في عقيدتنا. . .
في شريعتنا. . .
وديننا. . .
فالكثير منا " الآن ". . يجهل مزايا الشريعة الإسلامية، والعقيدة الإسلامية لأننا نمر عليها مرورا " سطحيا. . .!
لم نتعمق في مزاياها، ومنافعها، وخيراتها للدنيا والدين.
وأنا على يقين ثابت أن إخواننا المسلمين في جميع الأقطار إذا تثقفوا بالثقافة الإسلامية وتفهموا معاني شريعتهم
__________
(1) سورة طه الآية 20
(2) سورة طه الآية 22
(3) سورة طه الآية 22
(4) سورة طه الآية 24
(5) سورة طه الآية 25
(6) سورة طه الآية 26
(7) سورة طه الآية 27
(8) سورة طه الآية 28
(9) سورة طه الآية 29
(10) سورة طه الآية 30
(11) سورة القصص الآية 34(1/35)
وعقيدتهم، فلن ينصاعوا إلى أي شعارات أو كلمات رنانة " (1) .
* * *
وكما يشير سماحة الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ في خطابه العميق إلى علماء المسلمين ومفكريهم فيقول إن. " للجهاد مراتب. .
فتارة يكون بالسيف والسنان
وتارة باللسان والبيان.
والجهاد عن طريق الكتابة والإقناع والدعوة له تأثير كبير وخاصة في زمننا الذي بدأ كثير من الناس فيه يبعدون عن العاطفة ويبحثون عن الحقيقة ويتلمسون ما يقنع عقولهم ". .
ثم يتحدث عما يحتاجه العلاج فيقول إنه " يتطلب حشد جميع الطاقات العلمية الصالحة. .! " " فبحشد الطاقات العلمية التي أشرنا إليها يتبين " للمعاندين " و " المغرضين " صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان " ولهذا يقول سماحة الشيخ محمد بن عودة الأمين العام لهيئة كبار العلماء في كلمته الدقيقة وهو يجيب على ذلك التساؤل الملح:
" هل الأمة الإسلامية تحتاج اليوم إلى مزيد من الكلام المقروء والمسموع عبر وسائل الأعلام؟
فيجيب: " الحق ان الداعية اليوم - هو كأي مؤمن ضالته الحكمة أينما وجدها فهو أحق بها - بحاجة إلى النوعين من الاتصال المباشر لأنهما اليوم جانبان متكاملان يدعم كل منهما الآخر.
إذا استعمال هذا السلاح - أعني أجهزة الاعلام - مهم في معركتنا وأهم من ذلك أن نستعمل هذا السلاح بكل مقدرة وحنكة وذكاء. "
ويقول في موقع آخر " ليس من الحكمة في شيء أن يهملها الداعي ويترك للأعداء فرصة الانفراد بالاستفادة بها ".
* * *
وينطلق الدعاة.. حاملين مشكاة النبوة لا تأخذهم في الله لومة لائم..
كما يقول فضيلة رئيس التحرير الشيخ عثمان الصالح ومن "المملكة العربية السعودية" ومن أقداسها ينطلق كل مصلح ويجاهد كل مناد للسلام والإسلام وما زالت
__________
(1) من خطبة جلالة الملك فيصل وفقه الله في موسم حج 1389 هـ.(1/36)
ولن تزال هذه الدولة بقيادتها الرائدة وآمالها الصائبة ونظراتها لسانا وسيفا. . " كما اتخذ الدعاة " من هذه الأسرة الكريمة - الأسرة السعودية - سيوفا تحمي هذه الغاية وعرينا يتحصنون فيه لحراسة الحق ونصره. . ".
وهكذا كان الأمر حينما فكرنا إصدار " مجلتكم البحوث الإسلامية " في عصر تتصارع فيه أجهزة الإعلام على عقل الإنسان وروحه.
وهكذا اقتضى أمر النزول إلى حلبة الصراع دفاعا عن الإسلام وكلمة الله إلى خلقه. . حتى تكون هي العليا وهكذا كان ميلاد " الخطة " أو قل " فكرة الخطة " لهذه المجلة.
نرجو أن تتكامل ملامحها خلال الأعداد المقبلة من خلال جهد نبذله فنخلص في بذله ما وسعنا الجهد.
" وشورى " نسعى إليها ونتلمس حكمتها أنى وجدناها. .
" وتخصص " نطالب أصحابه بالكتابة إلينا ونحن ندرك ما يحتاجه التخصص من بحث متفان يتطلب جهدا ومراجعة وإخلاصا ومشغلة. .
تلك أمور لا نغفلها ولا نبخل عليها ولا تخرج عن دائرة اهتماماتنا المتصلة.
ثم نحن نأتي بالأبحاث فنعرضها ثم نخرجها في ثوب يليق بالعصر الذي نعيشه. .(1/37)
مجلة
البحوث الإسلامية
وفي البحث الأول من العدد الأول من مجلتكم تعرضنا " للدين والتدين " وهو أمر غرسه الله في فطرة الإنسان منذ وجد آدمي على أرضنا. . وهي باقية فينا ما شاء الله لنا أن تبقى على هذه الأرض. .
ثم هي في " أنسالنا " حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (1)
هذه بداية منطقية. . بدأنا بها.
فما من جماعة بشرية على مدى التاريخ الطويل. . وعلى خلاف بينها كان في بداوة أم حضارة وتخلف أو ارتقاء إلا عرفت الدين.
فهناك من عبد " الشمس ". . . . . . . . . . . . . . .
وذاك من عبد " القمر ". . . . . . . . . . . . . . .
ووجد من عبد " النار "
بل عرفت البشرية من عبد " الشجر " و " البقر ". . و " الثور ". .!!
__________
(1) سورة الأعراف الآية 172(1/38)
وقبل هذا. . وبعده. .! عبد الناس الناس حتى لقد قالها فرعون يوما: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (1) وقال لوزيره هامان: {فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} (2) ؟ " ثم علمت العقول من بعد أن هذه كلها " مخلوقات ". لا تملك لهم " ضرا " ولا " نفعا " ولا " موتا " ولا " حياة " ولا نشورا. ومع ذلك فإن العقول التي وصلت بفطرتها إلى الله، لا تستطيع أن تستقل استقلالا تاما بمعرفة الله لهذا اقتضت حكمته تعالى أن يرسل للناس رسلا مبشرين ومنذرين. فكان هؤلاء بالنسبة لأممهم بمنزلة العقول من الأشخاص. ولكن على أي صورة بدأت العقيدة الدينية؟ وهل بدأت الديانات السماوية واستمرت تنزل ديانة إثر ديانة على نمط واحد ثم انتهت وهي على هذا النمط دون تغير ولا تطور؟
أم أنها بدأت على نمط خاص ثم تطورت إلى أنماط مختلفة، ثم انتهت بنمط آخر هو نسيج وحده؟
ثم. . . لماذا اتحدت الشرائع السماوية في أصولها واختلف في فروعها؟
ثم. . . لم كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم للناس كافة، بل وللإنس والجن جميعا؟
وما موقف البشر من الديانات ومدى تمسكهم بها؟
وهنا يقدم لنا فضيلة الشيخ محمد حسين الذهبي إجاباته باسترسال منطقي مركز وأسلوب علمي يتماشى مع إيقاع العقل خطوة بخطوة. . في بحثه عن الدين والتدين.
* * *
وإذا تأملنا ما أصاب حياتنا البشرية سواء في تاريخها المتناهي قدما أم في تاريخها الحديث من شرور عظمى في اجتماعها أو اقتصادها أو طريقة حكمها أم في حروبها الضارية الفتاكة.
إذا تأملنا كل ذلك فأحسنا تأمله فلا بد أنا رادوه لعدم تطبيق شريعة الله في خلق الله فالله سبحانه وتعالى أدرى بخلقه وما يصلح لهم.
وما من مصيبة تحيق بالناس إلا وهم قد وضعوا بذرتها فأنزلت عليهم حجارة من سجيل وما جرى في حياة الناس من شر ثم استوى فاستغلظ إلا لأنهم ابتعدوا عن تحكيم شريعته.
تلك عمومية لا بد من استقرارها وإقرارها في الأنفس. . ثم تأتي من بعد كل التفاصيل على مهل.
ولذلك يؤكد فضيلة الشيخ مناع القطان في بحثه القيم " وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية " ما حدده الإسلام
__________
(1) سورة القصص الآية 38
(2) سورة القصص الآية 38(1/39)
من أن غاية الإنسان في الحياة تتضح من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1)
والعبادة نوع من الخضوع لا يستحقه إلا المنعم بأعلى أجناس النعم. .
كالحياة. . . . . .
والسمع. . . . . .
والبصر. . . . . .
وكما يعرف الإمام الجليل ابن تيمية العبادة فيقول " العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ".
إنها الإذعان لله. بينما يعني الخضوع لأي سلطة أخرى خضوعا للطاغوت.
وبهذا يكون " الحكم " بغير ما أنزل الله طاغوتا. .
ويكون " الحاكم " الذي يحكم بغير ما أنزل الله طاغوتا. .
ويكون الخضوع لهذا الحاكم أو لذلك الحكم " عبادة للطاغوت. .
* * *
ولا يغرب عن البال أن فهم أمور ديننا يرتبط ارتباطا وثيقا بحسن فهم اللغة العربية فقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم بلسان عربي مبين. . وكان الحديث النبوي بأفصح بيان عربي.
من هنا تفهم خطورة المحافظة على اللغة العربية. . ومن هنا أيضا تفهم كل المحاولات التي تبذل من أنصار " العامية " للقفز على سور اللغة الإستراتيجي يريدونها خطوة. .!
يعقبها خطوات لهدم هذا الدين وتفريق اللسان العربي الواحد ألسنة شتى. وحاشا لله أن يصلوا لأغراضهم ولهذا فإن النشاط المعادي للإسلام عمد إلى الترويج للهجات العامية لتصبح لغة التأليف والكتابة وخاصة في وسائل المخاطبة الحديثة التي توجه للملايين من جماهير المسلمين. في الصحافة والإذاعة والتليفيزيون وهذا النشاط المعادي إنما " يعمل لهدم اللغة العربية بحسبانها لسان الدين الإسلامي " كما يقول الأستاذ الفاضل أحمد محمد جمال كما أن هؤلاء الأعداء كانوا يفهمون " حقيقة التلازم القوي بين انتشار الإسلام بالعربية وانتشار العربية بالإسلام ". ولقد عدد الكاتب في بحثه خمسة عشر محاولة بين مستشرق ومن سماهم بحق من " العرب المستغربة " للقضاء على " لغة القرآن " و " لغة السنة النبوية ".
* * *
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56(1/40)
ومن نفس المنطق اللغوي نقرأ بحث الأستاذ الدكتور مصطفى الزرقا في التفرقة بين أسلوب القرآن الكريم وأسلوب الحديث النبوي.
وهو يتحدث عن هذا التمايز فيقول: إنه إذا كان من المسلم به لدى أهل البصر الأدبي أنه يتعذر على الشخص الواحد أن يكون له أسلوبان في بيانه يختلفان اختلافا كبيرا فإن ذلك يرد على زعم بعض الأجانب الذين يدعون أن القرآن هو مجموعة من تأليف النبي -عليه الصلاة والسلام-.
* * *
ولقد أنزل الله هذا الكتاب الكريم على قلب نبيه. . فهل أنزله ليكون كتابا للجدل والمناقشة؟ أم جاء ليكون هدى للناس كافة. . يعيشون به نماذج تمشي على الأرض تسكب في جنباتها العدالة والبر والتقوى. لقد جاء القرآن ليتمثل الناس آياته أخلاقا عملية وفي الحديث عن السيدة عائشة أنها سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت «كان خلقه القرآن (1) » . رواه مسلم. كما في تفسير القرطبي للآية الكريمة {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (2) وإذن فالقضية قضية أتباع واتباع. . أناس يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وبلغة العصر يعيشون في المعامل والجامعات وفي المزارع والمصانع. . ويسلكون في شئون العلوم والإدارة وفي السلم والحرب وفي المالية والاقتصاد بأخلاق القرآن وتعاليم القرآن.
من هنا تأتي أهمية التراجم:
وكعب بن مالك هذا الذي نقدمه أو قل الذي يقدمه لنا الدكتور محمد محمد خليفة قد أسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وافتدى الإسلام بسيفه قبل قلمه. .
فمنذ التقى بالرسول صلى الله عليه وسلم وعرفه به العباس قائلا: هذا كعب بن مالك! !
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: الشاعر! ؟
منذ ذلك التاريخ وكعب مع حركة المد الإسلامي حتى وفاته. .
ولكن شاعرنا هذا بطل السيف والقلم لما جرت به الحياة كما تجري بالناس وقعت الدنيا في قلبه. .!
وكان أن تخلف عن غزوة تبوك. .
وهو إذا تخلف كان بارزا. . بارزا في صدقه. . يقول: -
ما تخلفت عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أني كنت قد تخلفت في غزوة بدر، وكانت غزوة لم يعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا تخلف عنها، وتخلفت في تبوك و " كنت قويا ميسورا! "
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (746) .
(2) سورة القلم الآية 4(1/41)
فانظر - وإنا لنتأمل معك - كيف يكون النموذج الصادق مع نفسه ومجتمعه. إنه لا يتسربل برداء الإسلام ثم يزيد من إحكام مظاهره حول نفسه كلما بعد عن تطبيقه في نفسه وسلوكه. .! ؟
ولقد استمعت إلى حواره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأني أشهد مجلسهما بعد عودته صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك يقول: يا رسول الله. . لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بضرر ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب لترضين عني وليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه، إني لأرجو عقباي من الله ".
وإننا لنتلفت من حولنا، ونتأمل ما يجري في عالمنا فنزداد يقينا - نعتقد أنكم تشاركوننا فيه - بأن المجتمع العالمي لا يمكن أن تصلح حاله إلا بمثل هذه التربية تغوص وتستقر في أعماق الضمائر.
* * *
ثم تنتقل بنا الرؤيا إلى درة من الدرر التي صاغها الإسلام في عقده الفريد.
" مسلمة بن عبد الملك ".
جندي. . قائد جيش. . تربى وروى الحديث عن عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين. . فإذا اقترن اسمه باسمه عمر. . فكيف تظنون سيرته بعد ذلك؟
ظل أبو سعيد مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم القرشي الأموي الدمشقي يحمل سلاحه أكثر من خمسين عاما يصون به حرمات المسلمين. وكان كما يقول الدكتور أحمد الشرباصي نقلا عن ابن كثير " كان في زمانه نظير خالد بن الوليد في أيامه، وحينما أوصى عبد الملك بن مروان أولاده وفيهم مسلمة قال عنه " يا بني أخوكم مسلمة، نابكم الذي تفترون عنه، ومجنكم الذي تستجنون به، أصدروا عن رأيه ".
وقبل أن نعد المعارك التي دخلها وهي كثيرة لا بد لنا أن نتأمل حقيقة الصلة التي ربطت بينه وبين الخليفة الراشد فقد كانت السبب الجوهري في تكوينه على هذا المنوال. حتى آخر لقاء بينه وبين عمر -رضي الله عنه- على فراش موته.
* * *
وتمر الأيام. . يداولها الله بين الناس فيتلقى منهم من شاء له الله الهداية من مرورها وتداولها ما شاء من الحكمة. . {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} (1) ! وكان من فضله علينا ألا يعامل هذه الأمة
__________
(1) سورة البقرة الآية 269(1/42)
كما عامل اليهود حين قست قلوبهم. . إذ حملوا التوراة ثم لم يحملوها. .؟ فيرسل الله من يذكر هذه الأمة بدينها. . ففي بلدة العينية ومن بيت علم محافظ ولد الشيخ المصلح محمد بن عبد الوهاب عام 1115 هـ 1703 ميلادية حتى إذا شب نهل المعرفة وطلب العلم في الحجاز والعراق. ويشب فيلقى ما يلقى من عنت واضطهاد وهو يصلح ما أفسده تقادم العهد على شريعة السماء. ويضيق عليه وتصادر حريته حتى ينزح بعد سلسلة الاضطهادات إلى بلدة الدرعية عاصمة ملك آل سعود (شمال الرياض) ويتعاقد مع أميرها محمد بن سعود على نشر تعاليمه التي هي في الواقع تعاليم الإسلام الصحيح وكانت النتيجة المنطقية لهذا التحالف بين السيف والكتاب أن اتسع نطاق الإصلاح تحت ظلال العلم الأخضر الذي يحمل شعار الإسلام وكلمته.
وإذ يتوفى المصلح سنة 1206 هـ - 1787 م تستمر الدعوة على يد ذريته من بعده بأفضل شريعة جاءت من السماء. ويشاء الله سبحانه إذ يتوفى رأس الدولة السعودية الأولى محمد بن سعود أن يظل سيف الله مسلولا بيد أبنائه من بعده يناصرون به الحركة الإصلاحية الدينية. ويعاضدون خلفاء المصلح حتى الوقت الحاضر. رافعين رايات الإسلام في زمن يتطلع فيه أكثر من سبعمائة مليون مسلم إلى مكانتهم في عالم تجتاحه الردة والإلحاد والأنشطة المعادية للإسلام.
* * *
وقبل أن تقوم المجلة بعرض مجموعة الفتاوي القيمة الصادرة عن هيئة كبار العلماء في ثلاثة أقسام رئيسية.
* في العبادات.
* في الاقتصاد.
* في الفنون والآداب.
فإننا نعرض للبحث القيم الذي قام به وأعده الأستاذ عبد العزيز الربيعة المدرس بكلية اللغة العربية حول المفتي في الشريعة الإسلامية. " ذلك المنصب العظيم، الذي يتصدى صاحبه لتوضيح ما يغمض على العامة من أمور دينهم، ويرشدهم إلى المناهج المستقيمة، التي في سلوكهم لها فلاحهم ونجاحهم، ولهذا سموا أولي الأمر، وأمر الناس بطاعتهم. . . ولكي يتبعهم الناس فإنه ينبغي أن يتحلوا بحسن السيرة والورع والعفة عن كل ما يخدش الكرامة وأن يكون المفتي كما يقول الإمام القرافي (-رحمه الله-) . . .
" قليل الطمع. .
كثير الورع. .
فما أفلح مستكثر من الدنيا، ومعظم أهلها وحطامها ".(1/43)
بل إنه ينبغي له أن يتجاوز صفاء الجوهر إلى حسن المظهر وجمال الزي الذي يتناسب مع الوضع الشرعي إذ الخلق مجبولة على تعظيم الصورة الظاهرة. .! ورحم الله عمر بن الخطاب إذ يقول: " أحب إلي أن أنظر القارئ أبيض الثياب. . أي ليعظم في نفوس الناس، فيعظم في نفوسهم ما لديه من الحق. . أما من ناحية التطبيق فمن البديهي أن يبدأ المفتي بنفسه في كل خير يفتي به فذلك أدعى لقبول أقواله لدى سامعيه.
وليس أدل على أهمية موضوع المفتي من قول الأستاذ عبد العزيز الربيعة: " كان الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية في أفرادها، ومن يتصدر للفتيا في دين الله، سبب قوي جعلني أفكر في موضوع هذا البحث. . . كما كان لبعض جوانبه أثر في نفس أقوى من الجوانب الأخرى، تلك هي ما يتصل بالأسس الأصيلة التي ينبغي عليها تكوين المفتي، والمطالب الهامة التي ينبغي أن يتصف بها ويترسمها في حياته العامة. . "
* * *
وبهذا يكون قد آن الأوان لنقدم لك مجموعة الفتاوي الهامة التي تقدمها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية وهي ثلاثة رتبناها على النحو التالي.
البحث الأول في العبادات: عن حكم السعي فوق سقف المسعى.
والبحث الثاني في الاقتصاد: عن حكم الأوراق النقدية.
والبحث الثالث في الفنون والآداب: ويتناول حكم تمثيل الصحابة في فيلم أو مسرحية.
* * *
والسعي فوق سقف المسعى يأخذ حكمه من الآتي: إذا كان حكم أعلى الأرض وأسفلها تابع لحكمها في التملك والاختصاص فيمكن أن يقال تبعا لذلك أن السعي فوق الطابق الذي جعل سقفا لأرض المسعى له حكم السعي على أرض المسعى.
ويستفاد من رواية أم سلمة حين اشتكت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: «طوفي وأنت راكبة (1) » وغير ذلك من الأدلة التي ساقها البحث. فإنه إذا جاز للحاج أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة راكبا لعذر باتفاق. بل إذا جاز لغير المعذور أن يسعى راكبا وإن كان المشي له أفضل وفيها خلاف إن كان يجزئه وعليه شيء أو لا شيء عليه فمن باب أولى القول بجواز السعي فوق سقف المسعى. .
وهكذا يستطرد البحث في سرد الأدلة على جواز السعي على هذه الصورة.
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الصلاة (464) ، صحيح مسلم الحج (1276) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2925) ، سنن أبو داود المناسك (1882) ، سنن ابن ماجه المناسك (2961) ، مسند أحمد بن حنبل (6/319) ، موطأ مالك الحج (832) ، سنن الدارمي الطهارة (742) .(1/44)
وأما البحث الثاني فيتناول ما قيل من أقوال فقهية في حقيقة الأوراق النقدية من حيث اعتبارها أسنادا أو عروضا أو فلوسا أو بدلا عن ذهب أو فضة أو نقدا مستقلا وما يترتب على ذلك من أحكام شرعية. كما استمعت هيئة كبار العلماء إلى آراء بعض المتخصصين في النقد والعلوم الاقتصادية.
وقد انتهت الهيئة بأكثريتها من ذلك إلى القول بأن الورق النقدي يعتبر نقدا قائما بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان. ويترتب على ذلك أحكام هامة انتهى إليها البحث وعلى سبيل المثال فإننا نذكر منها: -
1 - جريان الربا بنوعيه فيها كما يجري في الذهب والفضة وما يترتب على ذلك من أحكام.
2 - وجوب زكاتها إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة وكانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها.
* * *
إذ ننتهي من ذلك البحث القيم فإننا ننتقل لبحث كثر فيه الجدل وتناولته أجهزة الإعلام وتداوله الناس في مجالسهم. . عن حكم تمثيل الصحابة في شكل رواية أو مسرحية أو فيلم سينمائي. فيتعرض البحث لمكانة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويتحدث عن مشاهدة التمثيل. وحال محترفي التمثيل. وأغراض التمثيل والمؤلفات التاريخية كما يتعرض لفتاوي الشيخ رشيد رضا -رحمه الله-. وقرار رابطة العالم الإسلامي. وحكم اشتغال المرأة المسلمة بالتمثيل ثم تطرق إلى السؤال: هل يمكن تمثيل الأنبياء؟
كما ورد في البحث فتوى لجنة الفتوى بالأزهر الشريف عن حكم تمثيل الشخصيات الإسلامية.
وتبتدي أهمية البحث لما له من اتصال يومي عملي بمصالح ملايين المسلمين في مواجهة " الغزو الإعلامي المنظم للنفسية الإسلامية ". .
الأمر الذي دعا أحد الديبلوماسيين المصريين وكان قد شاهد بعض الأفلام المصرية في أندونيسيا إلى القول لقد " كان لتفاهتها أسوأ الأثر في نفوس الذين شاهدوها لدرجة اضطرت معها سفارتنا هناك إلى التدخل والنصح باتباع سياسة معينة في هذا الشأن ".
ويقول الأستاذ محمد علي ناصف (1) " إن بعض الأفلام الدينية التي رخصنا بصنعها ولا تزال تعرض حتى الآن لا يرغب أعداء المسلمين في أكثر من الحصول على حق توزيعها. . فقد نلنا من شخصية خالد بن الوليد في هذا الفيلم ما عجز عن نيله الروم والفرس. . .! ! ".
بل لقد بلغ الأمر أن المخرج سيسيل دي ميل كان يبحث عن ممثل يسند إليه القيام بتسجيل " صوت الله " باللغة
__________
(1) مجلة الأزهر المحرم 1382 (قصص الأنبياء في السينما)(1/45)
العربية في الطبعة التي ستوزع من فيلم الوصايا العشر في البلاد الإسلامية. . .؟ ؟
* * *
فإذا انتهينا من ذلك فإننا نقدم موضوعا للأستاذ عبد الفتاح الحلو عن تراجم الفقهاء. . يعقبه كتاب العدد عن الفقيه الإمام أبو داود. . فعن طريق معرفة حياة الفقيه الخاصة والعلمية وما لقيه في حياته من يسر أو عسر، وأساتذته الذين درس عليهم، ورحلاته. . . إلخ. عن طريق كل ذلك كما جاء في موضوع تراجم الفقهاء. . تتاح لنا الرؤية الصحيحة لعلم الفقيه، كما تكشف في نفس الوقت المصدر الأصلي لكل قول في المسائل الفقهية التي ندرسها، كما أن هذه الكتب تعرض فيما تعرض مثلا عليا عاش عليها الفقهاء، وسلوكا رائعا في مواجهة من يريدون طمس الحق، أو تزوير العدالة وفي تقديم مثل هذه التراجم - وهو ما حدث في كتاب العدد الذي قام به فضيلة الشيخ محمد الصباغ خير قيام ما ينشئ الأجيال على أسس راسخة قوية لا تستغني أمة تريد البقاء عنها.
* * *
ورغبة من المجلة في تسجيل أهم الأحداث العلمية في المملكة حتى يتسنى للعلماء المسلمين خارج المملكة أن يطلعوا عليها وأن يتصلوا بمصادرها الأصلية إن شاءوا دراسة كاملة لها. فقد حرصنا أن نقدم موجزا عن ثلاثة مؤتمرات:
1) المؤتمر العربي لشئون المخدرات وقد انعقد في الفترة من 25 - 30 شوال بالرياض.
2) مؤتمر رسالة الجامعة من 2 - 11 - 1394 إلى 5 - 11 - 1394هـ.
3) المؤتمر الاقتصادي العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي وينعقد في شهر ربيع الأول 1395 بجامعة الملك عبد العزيز.
ويكفي للدلالة على النهضة العلمية التي تضطرم بها جنبات المملكة في عهد جلالة الملك فيصل -رحمه الله -.
إن مؤتمر المخدرات قد اشترك فيه ست وعشرون دولة وأربع عشرة منظمة عربية ودولية وثماني جامعات عربية ومركز للأبحاث عدا سبع جامعات من المملكة وحدها وقد استضافته المملكة رغم أنه " لا تزال ظاهرة استعمال(1/46)
المخدرات لدينا محدودة بفضل ما تتمتع به المملكة من وضع اجتماعي مستقر ومن تطبيق للشريعة الإسلامية السمحة ". كما صرح بذلك صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز نائب وزير الداخلية في حفل افتتاح مؤتمر المخدرات.
أما مؤتمر رسالة الجامعة فقد اشترك فيه 249 عضوا من أساتذة الجامعات والباحثين وكبار الموظفين في مختلف وزارات الدولة وأجهزتها وبفضل الإخلاص والتنظيم العلمي فقد بحثت موضوعات على جانب كبير من الأهمية واستطاع المؤتمرون أن يخرجوا بمائة وست وثلاثين توصية سوف يكون لها أثرها العميق في تطوير رسالة الجامعة وفي تقدم المملكة العربية السعودية في ظل رائدها القائد الإسلامي المحنك جلالة الملك فيصل -رحمه الله -.
أما المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي فيكفي للدلالة على أهميته أنه يعتبر المؤتمر الأول من نوعه في العالم.
وأنه يقوم بعبء رسالة من أجل الرسالات وفي مقر الرسالة الأول ومبعثها في مكة المكرمة نسأل الله التوفيق.
ونسأله أن نكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
التحرير(1/47)
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} (1)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 58(1/48)
محمد حسين الذهبي (1)
الدين والتدين
مفهوم الدين
لفظ الدين يطلق في اللغة العربية على معان متعددة:
فيطلق تارة ويراد منه الجزاء، ومنه قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (2) أي يوم الجزاء، وهو يوم القيامة.
ويطلق تارة ثانية ويراد منه الحكم والسلطان، ومنه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} (3) أي في حكمه وسلطانه.
ويطلق ثالثة ويراد منه العادة والشأن، ومنه قول الشاعر:
تقول وقد ذرأت لها وضيني ... أهذا دينه أبدا وديني؟
__________
(1) أمين عام مجمع البحوث الإسلامية -أستاذ بكلية أصول الدين- جامعة الأزهر
(2) سورة الفاتحة الآية 4
(3) سورة يوسف الآية 76(1/49)
أي شأنه وشأني.
ويطلق رابعة ويراد منه الطاعة والانقياد، يقال: دان له دينا وديانة: أي خضع، وذل، وأطاع.
ويطلق خامسة ويراد منه ما يتدين به الإنسان، يقال: دان بكذا، أي اتخذه دينا وتعبد به (1) .
وكلامنا في هذا البحث عن الدين بالمعنى الأخير، وهو ما يتدين به الإنسان، ولا شك أنه بهذا المعنى يدخل في مفهومه المعنى الذي قبله مباشرة، وهو الخضوع والذل والطاعة؛ لأن من دان بدين يخضع لتعاليمه، وينقاد لها، ولا يحيد عنها، كما أنه ليس بعيدا عن سائر المعاني الأخرى؛ لأنها كلها تدور حول معنى واحد، هو الانقياد والخضوع لسلطان معين.
أما الدين في نظر علماء الأديان، فقد عرفه بعضهم بأنه: " وضع إلهي سائق لذوي العقول - باختيارهم إياه - إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل، وهذا يشمل العقائد والأعمال " (2) .
ومعنى هذا، أن لفظ الدين عند هؤلاء، لا يتناول إلا الأديان السماوية: كاليهودية والمسيحية والإسلام، أما غيرها من الأديان التي اصطلح عليها بعض الناس دون أن يكون لها صلة بالسماء، فليست دينا في نظرهم.
ويرى فريق آخر من العلماء: أن الدين هو " عبارة عن الإيمان والعبادة مهما كانا، فإيمان الوثنيين دين. أو هو عبارة عن الإيمان بقوة أو قوات سائدة تحكم الأرض، وعن عبادة تلك القوة أو القوات، فيقال: دين حق، ودين باطل " (3) .
ومعنى هذا: أن الدين عند هؤلاء يشمل الأديان السماوية وغيرها من الأديان التي هي من صنع البشر، ولا تمت إلى الله بسبب، وقد يشهد لهذا، أن الله سمى الديانات غير الحقة دينا فقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين} (4) ، وقال: فيما أمر به نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله لكفار قريش: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين} (5) . والواقع أنه لا خلاف بين الفريقين: فالفريق الأول نظر نظرة خاصة، والفريق الثاني نظر نظرة عامة، ونحن في بحثنا عن الدين والتدين كظاهرة اجتماعية لا نقصد المعنى الخاص، لا موسعا بحيث يشمل الأديان السماوية كلها، ولا مضيقا بحيث يقتصر على الإسلام وحده، وإنما نقصد المعنى العام الذي يشمل الأديان كلها: سماويها وأرضيها.
__________
(1) انظر مادة (دين) في القاموس المحيط، والمعجم الوسيط.
(2) دائرة المعارف للبستاني مادة (دين) .
(3) المرجع السابق.
(4) سورة آل عمران الآية 85
(5) سورة الكافرون الآية 6(1/50)
مفهوم التدين
أما التدين، فهو التمسك بعقيدة معينة، يلتزمها الإنسان في سلوكه، فلا يؤمن إلا بها، ولا يخضع إلا لها، ولا يأخذ إلا بتعاليمها، ولا يحيد عن سننها وهديها. ويتفاوت الناس في ذلك قوة وضعفا، حتى إذا ما بلغ الضعف غايته، عد ذلك خروجا عن الدين وتمردا عليه.
الدين والتدين كظاهرة اجتماعية:
وظاهرة الدين والتدين، وجدت في المجتمعات الإنسانية من أول وجود الإنسان، وبقيت إلى يومنا هذا، وستبقى بعد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وإذا أردنا أن نعرف كيف بدأت هذه الظاهرة؟ وكيف تطورت؟ وإلى أي وضع انتهت؟ فلست أجد خيرا - في هذا الباب - من كلمة أنقلها عن رسالة التوحيد، للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، لتنير أمامنا الطريق لمعرفة هذا كله، ولتكون ركيزة نعتمد عليها في تجلية هذا الموضوع وتوضيحه.
قال -رحمه الله- " كل إنسان - مهما علا فكره وقوي عقله، أو ضعفت فطنته وانحطت فطرته - يجد من نفسه أنه مغلوب لقوة أرفع من قوته وقوة من أنس منه الغلبة عليه مما حوله، وأنه محكوم بإرادة تصرفه وتصرف ما هو فيه من العوالم في وجوه قد لا تعرفها معرفة العارفين، ولا تتطرق إليها إرادة المختارين، تشعر كل نفس أنها مسوقة لمعرفة تلك القوة العظمى، فتطلبها من حسها تارة، ومن عقلها أخرى، ولا سبيل لها إلا الطريق التي حددت لنوعها، وهي طريق النظر، فذهب كل في طلبها وراء رائد الفكر: فمنهم من تأولها ببعض الحيوانات، لكثرة نفعها، أو شدة ضررها، ومنهم من تمثلت له في بعض الكواكب لظهور أثرها، ومنهم من حجبته الأشجار والأحجار لاعتبارات له فيها، ومنهم من تبدت له آثار قوى مختلفة في أنواع متفرقة تتماثل في أفراد كل نوع، وتتخالف بتخالف الأنواع، فجعل لكل نوع إلها ".
" ولكن كلما رق الوجدان، ولطفت الأذهان، ونفذت البصائر، ارتفع الفكر وجلت النتائج، فوصل من بلغ به علمه المنازل من ذلك إلى معرفة هذه القدرة الباهرة، واهتدى إلى أنها قدرة واجب الوجود، غير أن من أسرار الجبروت ما غمض عليه فلم يسلم من الخبط فيه، ثم لم يكن له من الميزة الفائقة في قومه ما يحملهم على الاهتداء بهديه، فبقي الخلاف ذائعا، والرشد ضائعا ".
" اتفق الناس في الإذعان لما فاق قدرهم، وعلا متناول استطاعتهم، لكنهم اختلفوا في فهم ما تلجئهم الفطرة إلى الإذعان له اختلافا كان أشد أثرا في التقاطع بينهم، وإثارة أعاصير الشقاق فيهم، مع اختلافهم في فهم النافع والضار لغلبة الشهوات عليهم ".(1/51)
إن كان الإنسان قد فطر على أن يعيش في جملة، ولم يمنح من تلك الفطرة ما منحه النحل وبعض أفراد النمل - مثلا - من الإلهام الهادي إلى ما يلزم لذلك، وإنما ترك إلى فكره يتصرف به على نحو ما سبق، كما فطر على الشعور بقاهر تنساق نفسه بالرغم عنها إلى معرفته، ولم يفض عليه - مع ذلك الشعور - عرفانه بذات ذلك القاهر ولا صفاته، وإنما ألقي به في مطارح النظر تحمله الأفكار في مجاريها، وترمي به إلى حيث يدري ولا يدري، وفي كل ذلك الويل على جامعته، والخطر على وجوده ".
" أفهل مني هذا النوع بالنقص، ورزئ بالقصور عن مثل ما بلغه أضعف الحيوانات وأحطها في منازل الوجود؟ نعم هو كذلك، لولا ما أتاه الصانع الحكيم من ناحية ضعفه ".
" الإنسان عجيب في شأنه: يصعد بقوة عقله إلى أعلا مراتب الملكوت، ويطاول بفكره أرفع معالم الجبروت، ويسامي بقوته ما يعظم أن يسامي من قوى الكون الأعظم، ثم يصغر ويتضاءل إلى أدنى درك من الاستكانة والخضوع متى عرض له أمر ما لم يعرف سببه ولم يدرك منشأه، ذلك لسر عرفه المستبصرون، واستشعرته نفوس الناس أجمعين ".
" من ذلك الضعف قيد إلى هداه، ومن تلك الضعة أخذ بيده إلى شرف سعادته. . فأقام (الله) (1) له من بين أفراده مرشدين هادين، وميزهم من بينها بخصائص في أنفسهم لا يشركهم فيها سواهم، وأيد ذلك - زيادة في الإقناع - بآيات باهرات، تملك النفوس، وتأخذ الطريق على سوابق العقول، فيستخذي الطامح، ويذل الجامح، ويصطدم بها عقل العاقل، فيرجع إلى رشده، وينبهر لها بصر الجاهل فيرتد عن غيه، يطرقون القلوب بقوارع من أمر الله، ويدهشون المدارك ببواهر من آياته، فيحيطون العقول بما لا مندوحة عن الأذهان له، ويستوي في الركون لما يجيئون به المالك والمملوك، والسلطان والصعلوك، والعاقل والجاهل، والمفضول والفاضل، فيكون الإذعان لهم أشبه بالاضطراري منه بالاختياري النظري، يعلمونهم ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم، وما أراد أن يعلموه من شؤون ذاته وكمال صفاته، وأولئك هم الأنبياء والمرسلون (2) .
* * *
__________
(1) زدنا على النص لفظ الجلالة ليستقيم الكلام بعد حذف بعض عبارات رأينا إمكان الاستغناء عنها.
(2) رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده ص 80 - 83.(1/52)
معنى هذا باختصار
أولا: أن ظاهرة الدين والتدين ظاهرة عامة تشترك فيها كل الجماعات البشرية على مدى تاريخها الطويل،(1/52)
وعلى اختلاف ما بينها من بداوة وحضارة، وتخلف وارتقاء.
ثانيا: أن مبعث هذه الظاهرة، إحساس كل فرد في جماعة بأن هناك قدرة أو قدرا تتصرف فيه وفيما حوله تصرفا يلفت النظر ويبهر العقل، فيستشعر من نفسه ميلا قويا لمعرفة مصدر هذه القدرة التي لها عليه وعلى غيره هذا الأثر العجيب.
ثالثا: أن العقول حينما تبحث عن الحقيقة دون أن يكون لها مدد من السماء، لا يمكن أن تتفق على شيء واحد تؤمن به وتخضع له، وإنما تتشعب بها السبل، فإذا هي مختلفة في ذلك اختلافا كبيرا:
هناك عقول مشت على فطرتها فوصلت إلى معرفة الله، وهناك عقول مشت على غير فطرتها فنظرت نظرة ساذجة إلى ما حولها من مصادر القوة والتأثير فيها أو فيما يحيط بها، فإذا بجماعة تعبد الشمس وأخرى تعبد القمر، وثالثة تعبد النار، ورابعة تعبد الشجر، وخامسة تعبد البقر. . وغير هؤلاء كثيرون يعبدون آلهة شتى، وكلها مخلوقات لله، لا تملك لهم ضرا ولا نفعا، ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا.
رابعا: أن هذه العقول التي وصلت بفطرتها إلى الحقيقة الحقة وهي الله، لا تستطيع - مهما سمت وارتقت - أن تستقل استقلالا تاما بمعرفة كل ما يتصل بالله، وما غيبه عنها من عالم الآخرة التي نوقن أنه نهاية المطاف بعد هذه الحياة الدنيا، كما أنها لا تستقل بمعرفة الخير والشر، وما يجب أن يلتزم به الإنسان في حياته الدنيا: من عبادات، ومعاملات، وأخلاق، حتى لا يضل ولا يشقى.
خامسا: لما تقدم، اقتضت حكمة الله - تعالى - ورحمته بعباده، أن يرسل إليهم رسلا مبشرين ومنذرين، يدعونهم إلى الدين الحق، وإلى الطريق المستقيم.
هؤلاء الرسل بالنسبة لأممهم - كما يقول الأستاذ الإمام - بمنزلة العقول من الأشخاص (1) ، وأزيد على هذا فأقول: إنها العقول الهادية التي لا تضل، والواعية التي لا تغفل، لأنها عقول أعدها الله وهيأها لتخليص البشرية من أباطيلها وأوهامها، وإنقاذها من شرورها وآثامها، وهدايتها إلى ما فيه خيرها وسعادتها.
* * *
ولكن على أية صورة بدأت العقيدة الدينية؟ هل بدأت ساذجة فكانت خرافة ووثنية؟ أو بدأت واعية مدركة للحقيقة الإلهية؟
لقد افترق الباحثون في تاريخ الأديان في ذلك إلى فريقين:
__________
(1) رسالة التوحيد ص 91.(1/53)
* فريق منهم " يذهب إلى أن الدين بدأ في صورة الخرافة والوثنية، وأن الإنسان أخذ يترقى في دينه على مدى الأجيال حتى وصل إلى الكمال فيه بالتوحيد، كما تدرج نحو الكمال في علومه وصناعته.
هذه النظرية نادى بها أنصار مذهب (التطور التقدمي أو التصاعدي) الذي ساد في أوربا في القرن التاسع عشر في أكثر من فرع من فروع العلوم، وحاول تطبيقه على تاريخ الأديان عدد من العلماء (1) ".
* وفريق آخر " يقرر بالطرق العلمية بطلان هذا المذهب، ويثبت بالعكس أن عقيدة الخالق الأكبر هي أقدم ديانة ظهرت في البشر، مستدلا بأنها لم تنفك عنها أمة من الأمم في القديم والحديث، فتكون الوثنيات إن هي إلا أعراض طارئة، أو أمراض متطفلة بجانب هذه العقيدة العالمية الخالدة.
وهذه هي نظرية (فطرية التوحيد وأصالته) التي انتصر لها جمهور من علماء الأجناس، وعلماء الإنسان، وعلم النفس (2) ". ولا نريد أن نطيل بذكر مناقشة هذا المذهب أو ذاك، فقد تولى هذه المناقشة أستاذنا الفاضل المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (الدين) ص103 - 108 بأسلوب شيق ومنطق بارع. وكلمة الفصل في هذا الموضوع هي قوله في نهاية المطاف:
" هكذا عجزت وسائل العلوم أن تقدم لنا بيانا شافيا يطمئن إليه القلب عن ديانة الإنسان الأول.
أما من أحب أن يسترشد بنصوص الكتب السماوية، فإنه سوف يجد فيها ما يشد أزر القائلين بأولية العقيدة الإلهية الصحيحة، لا في الغريزة فحسب {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (3) بل في التطور الزماني كذلك، فهذه النصوص تنادي بأن الناس بدأوا حياتهم مستقيمين على الحق، مؤتلفين عليه، وأن الانحراف والاختلاف إنما جاء عرضا طارئا بعد ذلك {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} (4) ، وأن استمرار هذا الاختلاف واتساع شقته إنما كان بتأثير الوراثة، وتلقين كل جيل عقيدته للناشئين فيه «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (5) » إلى ذلك كله فإن الكتب السماوية متفقة على أن الجماعة الإنسانية الأولى لم تترك وشأنها، تستلهم غرائزها وحدها بغير مرشد ومذكر، بل تعهدتها السماء بنور الوحي من أول يوم، فكان أبو البشر هو أول الأفذاذ الملهمين، وأول المؤمنين الموحدين، وأول المتضرعين الأوابين (6) .
* * *
__________
(1) الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص 102.
(2) المرجع السابق.
(3) سورة الروم الآية 30
(4) سورة يونس الآية 19
(5) صحيح البخاري في كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين جـ3 ص 491.
(6) الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص 108.(1/54)
وإذا كانت النتيجة هي أن الديانات السماوية هي الأصل، وأن لها السبق في الوجود الديني، وأن ما اعتراها من شوب أو خلل وما زاحمها من ديانات وضعية باطلة، إنما هو محض شذوذ وانحراف صدر عن فئات ضالة مضلة. . إذا كانت النتيجة هي هذا، فلنا أن نتساءل:
هل بدأت هذه الديانات السماوية واستمرت تتنزل ديانة إثر ديانة على نمط واحد، ثم انتهت وهي على هذا النمط دون تغير ولا تطور؟
أو أنها بدأت على نمط خاص، ثم تطورت إلى أنماط مختلفة، ثم انتهت بنمط آخر هو نسيج وحده؟
الواقع أن الأديان السماوية كلها جاءت متفقة ومختلفة: متفقة في أصولها، مختلفة في فروعها، كلها يتفق على الجوهر والحقيقة. . على أصول العقيدة، وأصول الشريعة: فهي جميعا تدعو إلى الإيمان بالله وحده، والإيمان بكل ما جاء عنه، والأخذ بكل ما يصل بالإنسان إلى الخير ويباعد بينه وبين الشر.
والقرآن الكريم يصرح بوحدة الديانات السماوية كلها في الأصل والجوهر، فيقول:
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (1) .
أما فروع الشرائع وتفاصيلها، وسورها وطقوسها، فتختلف فيها الديانات السماوية اختلافا ظاهرا.
فمثلا فريضة الصلاة، جاءت بها كل الشرائع السماوية، ولكنها تختلف صورها من شريعة إلى شريعة: فهي في الشريعة الإسلامية قيام، وقراءة، وركوع، وسجود على كيفية معروفة، وفي الشريعة المسيحية ترانيم وتراتيل تتلى على هيئة خاصة.
ومثلا فريضة الصيام: جاءت بها كل الشرائع السماوية، كما يصرح بذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} (2) ، ولكنها تختلف صورتها من شريعة إلى شريعة، فالصوم في الشريعة الإسلامية: إمساك عن الطعام والشراب والنساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وفي الشريعة المسيحية: إمساك عن أكل كل ذي روح من الحيوان وما يتولد منه في وقت معين. . . .
وهكذا تختلف الشرائع السماوية في أمور كثيرة كلها فرعية غير أصلية وذلك في الحقيقة - كما أوضحناه - اختلاف في الأسلوب والمنهج لا في الجوهر والهدف، وقد جاء ذلك صريحا في قوله تعالى:
__________
(1) سورة الشورى الآية 13
(2) سورة البقرة الآية 183(1/55)
{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (1) .
أما لماذا اتحدت الشرائع السماوية في أصولها واختلفت في فروعها؟ فذلك لأن الأصول ثابتة لا تتغير بحال من الأحوال، فالله - سبحانه - هو الله بذاته وصفاته لا يتغير ولا يتحول أبدا، والرسل - في كل أمة - هم الرسل بما يجب لهم وما يجوز في حقهم، والكتب المنزلة - على مدى تاريخ الرسالات - هي الكتب المنزلة بما لها من قداسة وتعظيم، وكل ما جاء عن الله حق ثابت، وصدق لا ينقض، وأصول الأخلاق، والعبادات، والمعاملات، أدب متبع وطاعة ملتزمة، ولا يحيد عن ذلك إلا ضال هالك.
أما الفروع: فهي التي يعتريها التغير والتبديل، ويتناولها التعديل والتطوير، لأنها ليست أكثر من تطبيق للأصول في صور شتى، ولا بد لهذه الصور أن تختلف تبعا لاختلاف أحوال المكلفين واستعدادهم، وما يحيط بهم من عوامل وظروف كثيرا ما يكون لها دخل في التكاليف: فما يصلح لزمان قد لا يصلح لزمان آخر، وما يلائم طبيعة قوم قد لا يلائم طبيعة قوم آخرين.
وإذا نحن تتبعنا الأطوار التي مرت بها البشرية في مراحلها المختلفة، نجد أنها أشبه ما تكون بالأطوار التي يمر بها الإنسان في حياته، فهو يبدأ بمرحلة الطفولة، ثم يتدرج في مراحل أخرى، ينمو فيها جسمه وعقله حتى يصل إلى مرحلة الرجولة الكاملة والنضج التام.
والبشرية في أول مراحلها بدأت كالطفل: فيها ما فيه من الضعف وعدم الاحتمال، فكان لا بد لها في هذه المرحلة من غذاء روحي يتناسب مع طبيعتها وقدرتها على تقبل هذا الغذاء وهضمه، ثم هي بعد ذلك تمر - متدرجة في مراتب الكمال - بمراحل متتابعة كل مرحلة تزيد فيها عن سابقتها نموا وقدرة وتقبلا، وهي في كل مرحلة من هذه المراحل تحتاج إلى نوع من الغذاء الروحي يتناسب مع ما هي عليه من درجة النمو والقدرة والتقبل. . . وأخيرا تبلغ البشرية تمام نضجها وغاية رشدها فتحتاج في هذه المرحلة الأخيرة إلى غذاء روحي يلائمها كما ونضجا.
هذا الغذاء الروحي الذي أمد الله به البشرية في أطوارها ومراحلها المختلفة هو الدين، وحملة هذا الدين إلى البشرية هم الأنبياء والمرسلون، ومجموعة هذه الرسل - كما صورهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في حديث له - بناة بيت واحد يؤسس سابقهم للاحقهم، ويشيد لاحقهم على أساس سابقهم (2) ". .
صورهم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا في حديث له فقال: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة. قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين (3) » .
__________
(1) سورة المائدة الآية 48
(2) الإسلام عقيدة وشريعة للمرحوم الأستاذ الشيخ محمود شلتوت ص 37.
(3) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، واللفظ لمسلم.(1/56)
ومعنى هذا: أن الديانات السماوية تكون في مجموعها صرحا واحدا، اشترك الأنبياء جميعا في بنائه، فما من نبي بعث إلا وقد وضع فيه لبنة، حتى إذا شارف البنيان النهاية ولم يبق منه إلا موضع لبنة بها يتم صلاحه ويكمل حسنه، بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم مبشرا بالإسلام وداعيا له، فكان -عليه الصلاة والسلام- بما جاء به من الدين الإسلامي - اللبنة المتممة للبناء، المكملة لحسنه وجماله، وبه أتم الله صرح الديانات التي تعاقبت جيلا بعد جيل.
* * *
وهكذا شاءت حكمة الله تعالى أن يرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بدين أعلى ما يكون هداية وإرشادا، وأسمى ما يكون تشريعا وتبصيرا، وختم الله برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الرسالات، وجعلها للناس كافة ولم تكن لقومه خاصة.
ولكن لم كانت رسالة محمد هي خاتم الرسالات؟ ولم كانت للناس كافة ولم تكن لقومه خاصة؟ . . نجيب على ذلك فنقول:
أما لم كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسالات؟
فذلك أمر بدهي وطبعي، فما دمنا قد عرفنا أن الإسلام قد بلغ الغاية في هدايته وتشريعه، ضرورة أنه جاء لإسعاد البشرية في أرقى مراحلها وأوج كمالها، فأي شئ يرجى للبشرية بعد ذلك؟ . . .
أي شئ يرجى لها بعد الكمال الذي لا كمال بعده؟ . . . لا شيء إلا أن تمشي البشرية معتصمة به إلى نهايتها إذ ليس بعد الكمال غاية، ولا بعد بلوغ المنتهى نهاية، والله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} (1) .
وفي تقرير أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين يقول الله عز وجل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّين} (2) . ويقول -عليه الصلاة والسلام-: «إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي (3) » .
وأما لم كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم للناس كافة، بل وللإنس والجن جميعا؟ فذلك لعدة أمور:
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة الأحزاب الآية 40
(3) رواه الإمام أحمد بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه.(1/57)
أولا:
أن الإسلام جاء دينا وسطا بين غيره من الأديان السماوية، فيه من كل دين أيسره وأحسنه، وأكثره ملائمة وتمشيا مع الطبائع المختلفة لبني الإنسان، فمثلا عقوبة القتل العمد في الشريعة اليهودية القصاص ولا بد، وفي الشريعة المسيحية العفو، وأكاد أقول ولا بد، فجاءت شريعة الإسلام تخير ولي الدم بين القصاص والعفو، وكان هذا أمرا وسطا، يتمشى مع الطبائع المختلفة: فمن طبائع الناس طبائع لا يشفي غلها إلا القصاص، ومنها طبائع هينة لينة، تميل إلى التسامح وتأخذ بالعفو، وفي شريعة الإسلام ما يساير طبيعة هؤلاء وأولئك.
ومثلا: الزواج، أطلقته الشريعة اليهودية، ولم تقيده التوراة بعدد معين من النساء، وقصرته الشريعة المسيحية على امرأة واحدة، لأن الأصل فيها هو التبتل، فإذا كان ولا بد فزوجة واحدة تكفي.
أما الشريعة الإسلامية، فقد جاءت بتشريع وسط بين هذا وذاك، تشريع يرضي رغبة من يريد التعدد، ولكن بحدود وقيود، فأباحت له أن يجمع بين أربع زوجات ولا يزيد، بشرط أن يعدل بينهن ولا يجور، وقصرت من لا يأمن على نفسه الجور على زوجة واحدة فقط.
ولقد يشهد لوسطية الإسلام في تشريعه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (1) وقوله {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس} (2) مع ما استقر في العقول من أن خير الأمور أوسطها.
ثانيا:
أن البشرية - كما قلنا - قد بلغت رشدها فأصبحت تقاد بالعقل وحده، ولم يعد ينفع معها مجرد الخوارق والقوارع الملجئة أو شبه الملجئة، فجاء الإسلام دينا منطقيا، رفع من قيمة العقل، وأعطى للإنسان الحرية التامة في التأمل والتدبر في كل ما يكلف به، فلا يؤمن بعقيدة يدعى إليها إلا بعد ترو واقتناع، ولا يتبع تشريعا يشرع له إلا بعد نظر يهديه إلى سلامة التشريع واستناده إلى المنطق السليم والدليل القويم، ثم هو بعد ذلك يذم التقليد وينعي على المقلدين لآبائهم وأحبارهم ورهبانهم، فيقول عز من قائل:
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) سورة آل عمران الآية 110(1/58)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} (1) ويقول عن بعض أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه} (2) ولا يعني باتخاذهم أربابا إلا طاعتهم طاعة عمياء والتسليم لهم في كل ما يأمرونهم به ويوجهونهم إليه، فكأنهم - في نظرهم - آلهة تأمر فتطاع، لأنها تصيب دائما ولا تخطئ.
وليس من شك في أن دينا هذا شأنه وذلك منهجه، يصلح لكل جيل وقبيل من لدن نزوله وإلى أن تقوم الساعة.
ثالثا:
أن الدين الإسلامي دين واسع الأفق، وفيه من المرونة واليسر ما يجعله صالحا لكل الجامعات الإنسانية على اختلاف ألوانها، وأجناسها وبيئتها، وظروفها " فهو يتسع للحرية الفكرية العاقلة، ولا يقف - فيما وراء عقائده الأصلية وأصول تشريعه - على لون واحد من التفكير، أو منهج واحد من التشريع، وهو بتلك الحرية يساير جميع أنواع الثقافات الصحية، والحضارات النافعة، التي يتفتق عنها العقل البشري في صلاح البشرية وتقدمها مهما ارتقى العقل ونمت الحياة " (3) .
وعلى الجملة فالإسلام - كما يقول أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة - " دين العقل، فما من أمر جاء به إلا كان موافقا للعقل يدركه ويصدقه. . سئل أعرابي: لماذا آمنت بمحمد؟ فقال: ما رأيت محمدا يقول في أمر: افعل، والعقل يقول: لا تفعل، وما رأيت محمدا يقول في أمر: لا تفعل، والعقل يقول: افعل. . . وإن النظم التي سنها الإسلام لا تزال برونقها وصفائها أعدل من كل ما اهتدى إليه العقل البشري من نظم، سواء أكان ذلك في نظام الحكم، أم في نظام المال، أم في نظام الأسرة. . . فالإسلام هو الدين الوحيد الذي يصلح لحكم الإنسانية، وفيه علاج أدوائها (4) ".
ومما يشهد للدين الإسلامي بأنه دين عام للثقلين جميعا قوله تعالى مخاطبا نبيه محمدا -عليه الصلاة والسلام-: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (5) وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (6) . وقوله على لسان نبيه: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ} (7) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 170
(2) سورة التوبة الآية 31
(3) الإسلام عقيدة وشريعة ص 11 مع تصرف يسير في عبارة الأصل.
(4) المجتمع الإنساني في ظل الإسلام للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة.
(5) سورة الأعراف الآية 158
(6) سورة سبأ الآية 28
(7) سورة الأنعام الآية 19(1/59)
هذا، ولا ينبغي أن يفهم بحال من الأحوال، أن قولنا عن الإسلام: إنه أرقى الأديان السماوية وأسماها، وأكملها وأوفاها، وأن تشريعاته وتوجيهاته قد بلغت القمة التي لم تبلغها شريعة من قبل، فيه انتقاص لغيره من الشرائع السماوية، معاذ الله أن يكون ذلك قصدنا، فليس مؤمنا ولا مسلما من ينتقص شريعة سماوية أنزلها الله على رسول من رسله، الله تعالى: يخاطب أمة محمد صلى الله عليه وسلم بقوله:
{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (1) . ويقول مثنيا على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى من اتبعه من المؤمنين:
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (2) .
والذي يجب أن يفهم: هو أن كل شريعة من الشرائع السماوية تعتبر في وقتها - بالنسبة لأتباعها - في منتهى الكمال؛ لأنه لا يصدر عن الله تعالى إلا الكمال المطلق، ولأن كل شريعة - كما قلنا - جاءت مطابقة لحاجات المخاطبين بها، ولو أنها انحطت عن مستواها، لعد ذلك قصورا فيها، لأنها تكون دون الحاجة، كما أنها لو ارتفعت إلى مستوى شريعة تجيء بعدها لعد ذلك مجافيا للحكمة والصواب، لأنها تكون فوق الحاجة، والحكمة كل الحكمة هو الملاءمة بين احتياجات كل أمة وما يشرع لها، كما يلائم الطبيب الماهر بين علة المريض وما يصف له من دواء.
* * *
__________
(1) سورة البقرة الآية 136
(2) سورة البقرة الآية 285(1/60)
موقف البشر من الديانات ومدى تمسكهم بها
وبعد فما هو موقف البشر من الديانات، وما مبلغ تمسكهم بها؟
هل استجابت كل أمة لرسولها؟
وهل وقف أتباع كل دين عند حدوده والتزموا بتعاليمه التي دعا إليها، وتشريعاته التي نص عليها؟
أو أنهم ارتكسوا في حمأة الغي والضلال، ونكصوا على أعقابهم عائدين إلى نزعات أهوائهم ونزوات شهواتهم؟
الواقع: أن البشر أمام هذه الديانات فرق شتى:
ففريق لزم الجادة
فاتخذ دينه الذي هداه الله إليه سبيله في الحياة، لا يحيد عنه ولا يميل، فسعد وشق طريقه إلى ما فيه خير الدنيا وسعادة الآخرة.(1/60)
وفريق ثان
آمن بدينه الذي أرشده الله إليه، ولكنه رغم إيمانه به انحرف عنه في سلوكه ظاهرا وباطنا، وجاهر بالمخالفة، وبارز الله بالمعصية في غير مبالاة ولا حياء، فشقي في حياته الدنيا، وعرض نفسه لسخط الله وعقابه.
وفريق ثالث
آمن بدينه الذي ارتضى الله له، ولكنه نافق واتخذ التدين شعارا زائفا يموه به على العامة، ويخدع به من ينطلي عليهم زوره وبهتانه، وقد تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الصنف من المنافقين، وبين مآلهم وعاقبة أمرهم فقال.
«يخرج في آخر الزمان رجال يختلون - أي يطلبون - الدنيا بالدين يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله عز وجل. أبي يغترون؟ أم علي يجترئون؟ فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم حيران (1) » .
وفريق رابع
جحد الأديان كلها، وزعم أنها جميعا أوهام وأباطيل مستحدثة، يقول أستاذنا المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (الدين) ص 73 وما بعدها:
" ذهب بعض كتاب القرن الثامن عشر الذين مهدوا للثورة الفرنسية إلى أن الديانات والقوانين ما هي إلا منظمات مستحدثة، وأعراض طارئة على البشرية،
حتى قال (فولتير) : إن الإنسانية لا بد أن تكون قد عاشت قرونا متطاولة في حياة مادية خالصة، قوامها الحرث، والنحت، والبناء، والحدادة، والنجارة. . . قبل أن تفكر في مسائل الديانات والروحانيات، بل قال: إن فكرة التأليه إنما اخترعها دهاة ماكرون، من الكهنة، والقساوسة الذين لقوا من يصدقهم من الحمقى والسخفاء ".
ثم بين -رحمه الله- أن هذه النظرة الساخرة إلى الأديان ليست مبتكرة، وإنما هي ترديد لصدى مجون قديم كان يتفكه به أهل السفسطة من اليونان، وكانوا يروجونه فيما روجوه من المغالطات والتشكيكات.
ثم قال: " إنه لم ينقض القرن الثامن عشر حتى ظهر خطأ هذه المزاعم: حيث كثرت الرحلات إلى خارج أوربا، واكتشفت العوائد، والعقائد، والأساطير المختلفة، وتبين من مقارنتها أن فكرة التدين
__________
(1) رواه الترمذي عن أبي هريرة.(1/61)
فكرة مشاعة لم تخل عنها أمة من الأمم في القديم والحديث، رغم تفاوتهم في مدارج الرقي ودركات الهمجية ".
ثم قال: ". . . ولسنا ننكر أن تكون هناك عقيدة معينة قد استحدثت في عصر ما، أو أن يكون ثمة وضع خاص من أوضاع العبادات قد جاء مجلوبا مصنوعا، فذلك سائغ في العقل، بل واقع بالفعل، أما فكرة التدين في جوهرها، فليس هناك دليل واحد على أنها تأخرت عن نشأة الإنسان ".
. . . وأخيرا هناك فريق خامس.
هو فريق العلمانيين الماديين، الذين لم يستطيعوا أن ينكروا أن هناك ديانات عريقة في القدم، ولكنهم زعموا - زورا وبهتانا - أنها شاخت بمرور الزمن، ولم تعد صالحة في وقت بلغت البشرية فيه ما بلغت من تقدم في العلم ورقي في الحضارة.
يقول أصحاب هذا المذهب وعلى رأسهم (أوجست كونت) : " إن العقلية الإنسانية قد مرت بأدوار ثلاثة: دور الفلسفة الدينية، ثم دور الفلسفة التجريدية، ثم دور الفلسفة الواقعية، وهذا الدور - في نظره - هو آخر الأطوار وأسماها، فبعد أن كان الناس يعللون الظواهر الكونية بقوة أو قوى إرادية خارجة عنها، انتقلوا إلى تفسيرها بمعان عامة، وخصائص طبيعية كامنة فيها، كقوة النمو، والمرونة، والحيوية. . . إلخ، ثم انتهوا إلى رفض كل تفسير خارجي أو داخلي، واكتفوا بتسجيل الحوادث كما هي، ومعرفة ما بينها من ترابط وجودي، بقطع النظر عن أسبابها وغاياتها، وعلى هذا يكون دور التفكير الديني يمثل الحال البدائية التي تلهت بها الإنسانية في مرحلة طفولتها، فلما شبت عن الطوق خلعتها لتستبدل بها ثوبا وسطا في دور مراهقتها، حتى إذا بلغت أشدها، واكتمل رشدها أخذت حلتها الأخيرة من العلوم التجريبية " (1) .
ويعلق على هذا المذهب أستاذنا المرحوم الشيخ محمد عبد الله دراز فيقول: " نقطة الخطأ البارزة في هذا المذهب التطوري، هي أن أنصاره جعلوا منه قانونا يستوعب التاريخ كله في شوط واحد، قطعت الإنسانية ثلثيه بالفعل، ونفضت أو كادت تنفض يدها منهما إلى غير رجعة، فلن تعود إليهما إلا أن يعود الكهل إلى طفولته وشبابه " (2) .
ثم يمضي في مناقشة هذا المذهب مبينا أن الأدوار الثلاثة المذكورة " لا تمثل أدوارا تاريخية متعاقبة، بل تصور نزعات وتيارات متعاصرة في كل الشعوب، وليست كلها دائما على درجة واحدة من الازدهار أو الخمول في شعب ما، ولكنها تتقلب بها الأقدار بين بؤسى ونعمى، ونحوس وسعود (3) ".
__________
(1) الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص 77.
(2) الدين ص 77.
(3) المرجع السابق ص 78.(1/62)
مستحيل أن تزول الديانات وتتلاشى ظاهرة التدين أمام تيار المادية
كل ما يقوله الماديون من أن الديانات سوف تزول، وأن ظاهرة التدين سوف تتلاشى أمام تيار المادية الجارف، وإعصار العلم العاصف، ليس إلا وهما باطلا وخيالا صوره لهم خداع الغرور العلمي الذي غطى على كثير من العقول.
قال العلماء الماديون ما قالوا في تقرير هذه الفكرة الحمقاء وتبريرها، ونقول لهم: أي دليل مادي أو عقلي أمكنكم أن تقيموه على صحة ما تدعون؟ ليس هناك إلى اليوم دليل واحد يؤيد ما تقولون من أن العلم والدين نقيضان لا يجتمعان فلا بد أن يزول الثاني بوجود الأول، بل على العكس من ذلك قامت أدلة كثيرة مادية وعقلية على أن الدين يساير العلم ولا يناقضه.
بل كلما تقدم العلم خطوة كان الدين عندها، وكلما كشف العلم عن سر من أسرار الكون، كلما برزت حقيقة الألوهية المبدعة جلية واضحة، وازداد العقلاء المتدينون إيمانا فوق إيمانهم، بل وكثيرا ما رجع المفتونون بالعلم والمادة عن فتونهم فآمنوا بأن للكون مبدعا يجب أن تتعلق به القلوب وتذل له الجباه.
ولقد أشار القرآن في وضوح إلى أنه لا تنافي بين العلم والدين، بل نراه في أكثر من آية يوقظ العقول من رقدتها، وينبه القلوب من غفلتها ويصيح بالناس في لهجة الآمر الصارم أو المنكر اللائم {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1) .
{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} (2) {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (3) .
{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (4) .
وأخيرا يفتح أمامها كتاب الكون بما حواه من أسرار العلم وعجائب المعرفة التي لا يزال يظهر منها كل يوم جديد وغريب فيقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (5) .
ولقد أنصف بعض علماء الغرب وفلاسفتهم فأكدوا أن هذه النظرية القائلة باضمحلال الدين والتدين أمام تقدم العلم، نظرية باطلة، وقرروا أن العلم يخدم الدين ويدعمه، يقول الدكتور (ماكس نوردوه) عن الديانات: " أنها ستبقى ما بقيت الإنسانية، وستتطور بتطورها، وستتجاوب دائما مع درجة الثقافة العقلية التي تبلغها الجماعة (6) ".
ويقول (آرنست رينان) : " إن من الممكن أن يضمحل كل شيء نحبه، وأن تبطل حرية استعمال
__________
(1) سورة يونس الآية 101
(2) سورة الذاريات الآية 20
(3) سورة الذاريات الآية 21
(4) سورة الأعراف الآية 185
(5) سورة فصلت الآية 53
(6) الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص 80(1/63)
العقل والعلم والصناعة، ولكن يستحيل أن ينمحي التدين، بل سيبقى حجة ناطقة على بطلان المذهب المادي الذي يريد أن يحصر الفكر الإنساني في المضايق الدنيئة للحياة الأرضية (1) ".
ويعلق المرحوم الأستاذ محمد فريد وجدي على قول رينان السابق فيقول:
" نعم مستحيل أن تتلاشى فطرة التدين في الإنسان، لأنها أشرف ميول النفس، وأكرم عواطفها،. . . ففطرة التدين ستلازم الإنسان ما دام ذا عقل يعقل به القبح والجمال، وروية يجيلها في الكون والكائنات، وستزداد فيه هذه الفطرة حياة وقوة على نسبة علو مداركه، وسمو معارفه (2) ". . . .
وبعد فقد انتهى المبشرون بالمذهب المادي إلى الحقيقة الناصعة، وقعدوا يلهثون بعد ما أتعبوا أنفسهم في تدعيم مذهبهم والترويج له، وإذا بهم يرون أنفسهم وعلومهم لا شيء أمام هذا المذهب المحجب بحجب كثيفة وكثيرة، فلا يكاد العلم يرفع لهم حجابا إلا ويجدون من ورائه حجبا، ولا ينفك البحث يصل بهم إلى حقيقة إلا ويلمحون من وراء الغيب حقائق أخرى وأعظم. . . وأخيرا يستسلمون أخيرا لمن هو وراء هذه الحجب والمغيبات، يديرها بعلمه وعلى مقتضى حكمته.
نعم رأينا زعماء هذا المذهب المادي يستسلمون أخيرا لواهب الوجود، ويلوذون برواق الدين هربا من ماديتهم المتخبطة، وعلمانيتهم المحيرة، فهذا (كونت) الذي كان يتنبأ بأن فناء الديانات سيكون هو النهاية الحتمية لتقدم العلوم، قد عاد في آخر أمره متصوفا عجيبا، وكلل حياته بوضع ديانة جديدة طبعها على غرار النظام الكنسي للديانة الكاثوليكية: في عقائدها، وطقوسها، وأعيادها، وطبقات قساوستها، رواية كاملة أعاد فصولها ولم يغير إلا أشخاصها " (3) .
" وهذا سبنسر، ينتهي بأن يقول عن المجهول: (إنه تلك القوة التي لا تخضع لشيء في العقول، بل هي مبدأ كل معقول، وهي المنبع الذي يفيض عنه كل شيء في الوجود) . . أليس هذا المجهول هو بعينه موضوع الديانات، يجيئنا الآن باسم آخر على لسان العلم؟ " (4) .
__________
(1) الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص 80
(2) دائرة معارف القرن العشرين للأستاذ محمد فريد وجدي، في مادة (دين) .
(3) الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص 87.
(4) المرجع السابق.(1/64)
أثر الدين في حياة الفرد والمجتمع.
قلنا فيما تقدم: أن نزعة الدين في النفوس نزعة فطرية، ونقول الآن: إن ما فطرت عليه النفوس لا يمكن لها بسهولة أن تنفك عنه، ولو انفكت عنه لكان معنى ذلك أنها انتكست وتردت إلى مستوى الحيوان الأعجم الذي لا يملك عقلا ولا نظرا ولا بصيرة.(1/64)
وإذا كنا نرى أناسا قد انحرفوا عن الدين، فليس معنى ذلك أنهم انسلخوا من فطرتهم، وإنما هو مجرد ضعف طارئ أمام مغريات المال أو الجسد تارة، ونزعات العقل تارة أخرى، ووساوس الوهم تارة ثالثة، ثم لا يلبث أن يزول هذا العرض الطارئ عن جوهر الفطرة فإذا بها نقية طاهرة على نحو ما فطر الله الناس عليها.
ولقد نعلم أن القرآن الكريم أشار في أكثر من آية إلى أصالة هذه الفطرة في جميع بني الإنسان وأن ما طرأ عليها ليس إلا انحرافا، لا يلبثون أن يرجعوا عنه عندما تكتنفهم الخطوب، وتنزل بهم الكروب، يقول الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} (1) ".
ويقول: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (2) {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (3) .
معنى ذلك أن الدين يحقق الكمال الإنساني للبشرية، فإذا هي حادت عنه، أو تنكرت له فقد حادت عن الكمال إلى النقص، وتنكرت لما هو مصدر خيرها ومورد سعادتها.
نعم إن الدين يحقق الكمال ويوفر الخير والسعادة للبشرية كلها أفرادا وجماعات، ونوضح ذلك فيما يلي:
أما بالنسبة للفرد.
1 - فالدين عنصر ضروري لتكميل القوة النظرية في الإنسان، فهو يخرج بالعقل والفكر عن سجن الماديات والمحسوسات إلى مجال الغيب الفسيح الذي يجد العقل فيه متعته ولذته من غير حدود ولا قيود، وبهذا تتسع مدارك الإنسان ويتفتح عقله على معارف شتى تشق أمامه الطريق إلى ما فيه خيره وسعادته.
2 - والدين عنصر ضروري لتكميل الوجدان، حيث يدعو إلى تعلق المخلوق بالخالق، وعرفان ماله عليه من فضل ومنه، ومراقبته في السر لاعتقاده أنه يراه، وبهذا تقوى عند الإنسان عاطفة الحب، والشكر، والإخلاص، والحياء، والأمل، وغيرها من العواطف التي قد لا تجد لها في دنيا الناس معينا يغذيها وينميها. وبهذا تسمو عاطفة الإنسان نحو الخير دائما، فيستقيم على الجادة، ويمضي في حياته طاهر القلب نقي الوجدان.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 67
(2) سورة يونس الآية 22
(3) سورة يونس الآية 23(1/65)
3 - والدين عنصر ضروري لقوة الإرادة عند الإنسان، فهو يمدها بأعظم البواعث والدوافع لعمل الواجب، ويحصنها بأقوى الوسائل لدفع اليأس ومقاومة القنوط، وبهذا يمضي الإنسان في طريقه إلى ما تطمح له نفسه من أماني وآمال وهو لا يلوي على شيء.
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانبا
وأما بالنسبة للمجتمع.
1 - فالدين بما حواه من هداية إلهية وتشريعات سماوية، يكفل للمجتمع الإنساني كل عوامل السعادة والأمن والاستقرار، ولا يكون ذلك أبدا عن تشريع وضعي وضعه فرد أو جماعة لأمة معينة؛ ذلك لأن الإنسان مهما سما فكره ونضج عقله لا يمكن أن يحيط خبرا بكل ما يوفر للإنسانية سعادتها وأمنها واستقرارها، لأنه - لاعتبارات وملابسات شتى- قد يرى الحسن قبيحا، والقبيح حسنا، وقد يظن النافع ضارا، والضار نافعا، وقد يشرع على وفق ميوله وهواه دون مراعاة للمصلحة العامة، وينتهي به الأمر إلى تشريع يقوض ولا ينظم، ويدمر ولا يعمر، ومن وراء ذلك ضياعه وضياع الجماعة التي يعيش بينها.
والله الذي خلق الإنسان، وركب فيه طبائعه ونوازعه، وآماله وآلامه، وإيثاره وأثرته، ورغباته وشهوته، هو الخبير بكل علله وأدوائه، والعليم بوسائل شفائه، وناجع دوائه، فهو وحده الذي يقدر أن يضع للجماعات الإنسانية من الشرائع والقوانين ما يحقق لها أسباب السعادة، ويوفر لها عوامل العزة والمنعة، ويهيئ لها كل وسائل الأمن والاستقرار، وذلك يكون في نطاق دين يدعوها إليه على لسان رسول منها، ويتعبدها به على أنه الدين الحق الذي لا يحيد عنه إلا هالك.
2 - والدين بعد ذلك هو السلطان المهيمن على نفوس المؤمنين به، يحملهم على الأخذ بتعاليمه، ويدفعهم إلى القيام بما سنه لهم من تشريع وتنظيم، ويدفعهم إلى التحلي بالفضائل، ويحول بينهم وبين ارتكاب الرذائل، وليس هناك وراء الدين شيء يهيمن على النفوس، فلا العقوبات المادية تغني، ولا سلطان الحاكمين يجدي، وحرمة النظم والقوانين أيا كانت لا يكفلها شيء من ذلك، وإنما يكفلها ويرعاها شيء واحد هو الضمير الديني الذي ينبع من قرارة النفوس المؤمنة التي تراقب الله في سرها وعلنها.
3 - والدين يجعل الجماعة الإنسانية على قلب رجل واحد، يجمعهم على الخير والبر، ويؤلف بين قلوبهم حتى يكونوا إخوة متحابين متناصحين، متعاونين، متكافلين، كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.(1/66)
هذه الأخوة الدينية هي الأخوة الشاملة الكاملة، التي تجمع بين أجناس شتى: تباعدت أوطانهم، وتباينت لغاتهم، وتعددت ألوانهم. . .
أما الأخوة التي تقوم على وحدة الوطن أو وحدة اللغة، أو وحدة اللون أو الجنس فتلك أخوة ضئيلة هزيلة، بل هي في الواقع محض عصبية وعنجهية، ومجرد تكاتف على الأثرة والأنانية وحب الذات وكراهية الغير!! .(1/67)
الخلاصة
والخلاصة: " أن الدين - كما يقول أستاذنا الدكتور محمد عبد الله دراز - " يضع للإنسانية المنهج السوي الذي يجب أن يسير عليه الفرد والجماعة، ويضفي عليه صبغة القدسية، بحيث يصبح سلوك هذا المنهج ضربا من ضروب الدين، وبابا من أبواب القربات والعبادات، فضلا عن كونه تحقيقا لمبدأ العدالة، وتلبية لداعي الفطرة السليمة ".
" وليست قوانين الجماعات، ولا سلطان الحكومات بكافيين وحدهما لإقامة مدينة فاضلة، تحترم فيها الحقوق، وتؤدى الواجبات على وجهها الكامل، فإن الذي يؤدي واجبه رهبة من السوط، أو السجن، أو العقوبة المادية، لا يلبث أن يهمله عن اطمئنان إلى أنه سيفلت من طائلة القانون ".
" ومن الخطأ البين أن نظن أن في نشر العلوم والثقافات وحدها ضمانا للسلام والرخاء، وعوضا عن التربية والتهذيب الخلقي، ذلك أن العلم سلاح ذو حدين: يصلح للهدم والتدمير، كما يصلح للبناء والتعمير، ولا بد في حسن استخدامه من رقيب أخلاقي، يوجهه لخير الإنسانية وعمارة الأرض، لا إلى نشر الشر والفساد، ذلكم الرقيب هو العقيدة والإيمان ".
" غير أن الإيمان على ضربين: إيمان بقيمة الفضيلة، وكرامة الإنسانية، وما إلى ذلك من المعاني المجردة، التي تستحيي النفوس العالية من مخالفة دواعيها ولو أعفيت من التبعات الخارجية والأجزية المادية.
وإيمان بذات علوية رقيبة على السرائر، يستمد القانون سلطانه الأدبي من أمرها ونهيها، وتلتهب المشاعر بالحياء منها، أو بمحبتها، أو بخشيتها، ولا ريب أن هذا الضرب هو أقوى الضربين سلطانا على النفس الإنسانية، وهو أشدهما مقاومة لأعاصير الهوى وتقلبات العواصف وأسرعهما نفاذا في قلوب الخاصة والعامة ".
" من أجل ذلك كان هذا الدين خير ضمان لقيام التعاون بين الناس على قواعد العدالة والنصفة، وكان ذلك ضرورة اجتماعية، كما هو فطرة إنسانية (1) ".
__________
(1) الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص 92 -93(1/67)
لا إله إلا الله محمد رسول الله(1/68)
مناع خليل القطان
وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية
في شئون الحياة كلها
لقد وردت آيات كثيرة في وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية في كل شأن من شئون الحياة البشرية وهي نصوص قطعية صريحة لا مجال للرأي فيها. واقترنت هذه الآيات ببيان المبادئ والأسس التي تقتضي التحاكم إلى شرع الله، واعتبار هذا من مقتضيات عقيدة الإيمان، كما اقترنت ببيان بواعث الخروج عن تحكيم الشريعة الإسلامية.
أولا: المبادئ والأسس التي تقتضي التحاكم إلى شرع الله.
تحقيق معنى العبودية لله تعالى.
حدد الإسلام غاية الإنسان في الحياة بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وإذا عرفنا معنى العبادة في اللغة أمكننا أن ندرك تمام الإدراك أن حياة المسلم لا ينبغي أن تخرج عن معنى العبودية بحال من الأحوال.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56(1/69)
فالعبادة معناها: الخضوع والتذلل والاستكانة وكل خضوع ليس فوقه خضوع فهو عبادة - طاعة كان للمعبود أو غير طاعة - وكل طاعة لله على وجه الخضوع والتذلل فهي عبادة، والعبادة نوع من الخضوع لا يستحقه إلا المنعم بأعلى أجناس النعم كالحياة والسمع والبصر والعقل، وأي نوع من أنواع العبادة مهما كان في نظر الإنسان يسيرا فإنه لا يستحقه إلا من كان له أعلى جنس من النعمة، فذلك لا يستحق العبادة إلا الله.
قال الراغب: العبودية إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل ولا يستحقها إلا من له غاية الأفضال. وهو الله تعالى، ولهذا قال:
{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) وذكر الطبري عند تأويل قوله تعالى في استكبار فرعون وملائه على موسى وهارون {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} (2) يعنون أنهم لهم مطيعون متذللون، يأتمرون بأمرهم ويدينون لهم. والعرب تسمي كل من دان لملك عابدا له، وذكر عند تأويل قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (3) أي اتخذتهم عبيدا لك.
ويعرف ابن تيمية العبادة فيقول: (العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة) .
فمقتضى العبادة على هذا أن يذعن العبد لله إذعانا كاملا في كل ما يأتي وما يذر في ذلة وخضوع، وأن يجعل حياته كلها رهن أوامر الله ونواهيه، وهي دعوة الأنبياء والمرسلين.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (4)
ويذكر القرآن الكريم في مقابل هذا الانقياد لله الانقياد للطاغوت {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (5) وهذه المقابلة تعني أن الخضوع لأي سلطة أخرى خضوع للطاغوت، سواء كان هذا الخضوع للأهواء والشهوات، أم لقوة أرضية أخرى، عاقلة كانت كبني الإنسان ممن يعطون لأنفسهم صفة التشريع لأمتهم، أو غير عاقلة كاتخاذ الأصنام والأوثان. وهذا ما فسر به الطبري كلمة الطاغوت حيث يقول بعد أن ذكر طائفة من أقوال العلماء (والصواب من القول عندي أن كل ذي طغيان على الله فعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة من عبده له إنسانا كان ذلك المعبود.
أو شيطانا أو وثنا أو صنما أو كائنا ما كان من شيء.
وبهذا يكون " الحكم " بغير ما أنزل الله طاغوتا. . .
ويكون " الحاكم " الذي يحكم بغير ما أنزل الله كذلك طاغوتا. . .
ويكون " الخضوع " لهذا الحاكم أو لذلك الحكم عبادة للطاغوت،
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (6)
__________
(1) سورة يوسف الآية 40
(2) سورة المؤمنون الآية 47
(3) سورة الشعراء الآية 22
(4) سورة الأنبياء الآية 25
(5) سورة النحل الآية 36
(6) سورة النساء الآية 60(1/70)
التسخير الكوني والتسخير الشرعي:
الانقياد لله تسخيرا طوعا أو كرها في كائنات الله يقتضي انقياد الناس لدينه حتى يتم التناسق بين الخلائق في الكون كله.
إنك إذا نظرت إلى كائنات الله في السماء من شمس وقمر ونجوم وما أودعه الله في قوى العالم السماوي وجدتها تسير على سنن الله المحكمة. لا يختل توازنها، ولا يعتريها اضطراب، تؤدي وظائفها في الحياة على نهج دقيق يدهش العقول، وتخر لعظمته الجباه صاغرة إكبارا للخالق المدبر، ذلك لأنها مسخرة بأمر الله {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} (2) {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} (3)
وإذا نظرت إلى الأرض وما عليها من كائنات مختلفة الخلق سوى الإنسان كالنبات والطير والأنعام والدواب واليابس والماء والسهول والجبال وما في العالم الأرضي من قوى متنوعة، وجدت هذه العوالم كلها تسير على سنن الله المحكمة كذلك، مسخرة لأداء وظائفها في عمارة الأرض والانتفاع بخيراتها، بما يشهد لله الخالق بالكمال والإجلال.
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4)
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} (5) {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (6)
وهذا الإنسان إذا استثنينا أعماله الاختيارية وجدناه كذلك خاضعا لله تسخيرا في جهازه العصبي وجهازه التنفسي، وحركته الدموية، وأفعاله الاضطرارية بالقيام بوظائفه العضوية قياما ينطق بالعبودية لله.
{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} (7) {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (8) {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (9)
وما كان للعالم السماوي، أو العالم الأرضي، أو الجانب الاضطراري في الإنسان أن يخرج عن سنة الله في إرادته الكونية.
__________
(1) سورة النحل الآية 12
(2) سورة النور الآية 43
(3) سورة النور الآية 44
(4) سورة النور الآية 45
(5) سورة النحل الآية 10
(6) سورة النحل الآية 11
(7) سورة السجدة الآية 7
(8) سورة السجدة الآية 8
(9) سورة السجدة الآية 9(1/71)
ولكن الجانب الإرادي في الإنسان - وإن كان خاضعا لقدر الله - هو وحده الذي تمرد على شرع الله.
فإن الله سبحانه وتعالى قد بعث رسله وشرع شرائعه لتكون أفعال الإنسان الاختيارية خاضعة لأمر الله الشرعي حتى يتم انقياد الخلائق كلها لله قدرا وشرعا {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1)
وهدف الشريعة الإسلامية أن ترد الناس من هذا التمرد الكفري إلى الله وحده بخضوع شئون حياتهم كلها اعتقادا وسلوكا لشرعه عز وجل، وبهذا يتحقق معنى شهادة (لا إله إلا الله) بإفراده سبحانه بالربوبية والألوهية، والتشريع من خصائص الألوهية، وسبيل ذلك ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا معنى شهادة (أن محمدا رسول الله) أما أن ينتسب المرء إلى الإسلام، ثم يدين لغير الله في أفعاله الاختيارية، وشئون حياته الإرادية بالخضوع للقوانين الوضعية، فتلك هي انتكاسة الفطرة البشرية التي بعث رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - من أجلها حتى يصير الكون خالصا لله.
إنه لا بد من خضوع الناس في أفعالهم الاختيارية لشرع الله حتى يتم التناسق في الكون كله بخضوع الكائنات كلها لله، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (2)
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة آل عمران الآية 83(1/72)
تحكيم شريعة الله من أركان الإيمان
الإيمان عقيدة وعمل، إذ لا أثر للعقيدة يدل على صدق صاحبها إلا إذا أقام سلوكه عليها، ووقف عند حدودها، والتزم بما فيها، وبقدر ما يكون العمل تكون درجة الإيمان قوة وضعفا، وزيادة ونقصا.
والشريعة الإسلامية تنبثق من عقيدة الإسلام تنظيم حياة الفرد وحياة الأمة، والعمل بها من أركان الإيمان ومقتضيات توحيد الله عز وجل، وما كان للمؤمنين في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتصفوا بالإيمان وهم لا يتحاكمون إلى رسول الله في كل أمر من الأمور يستوي في هذا ما يتعلق بالعبادات، وما يتعلق بالمعاملات، فإن تحكيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل شأن من شئون الحياة مع التسليم والرضا من صميم الإيمان، ويكون هذا بعد مماته بتحكيم شريعته، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1)
__________
(1) سورة النساء الآية 65(1/72)
ويأتي بيان هذه الحقيقة في صورة القسم المؤكد بالنفي، فإن دخول لا النافية على القسم إذا كان جواب القسم منفيا يؤكد نفي الجواب، والجواب هنا نفي الإيمان (لا يؤمنون) .
كما سيأتي شاملا لأي شجار، فإن (ما) في قوله تعالى: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (1) من صيغ العموم فتشمل أي خلاف في أي شأن من الشئون، والتقييد بعدم الحرج يؤكد ضرورة الرضا حتى يكون التحاكم من صميم القلب {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} (2)
ويجب أن يكون الانقياد لحكم الشريعة ظاهرا وباطنا، فيأتي التعبير بالتسليم مؤكدا بالمصدر في قوله: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه ذلك.
وإذا كان تحكيم الشريعة الإسلامية بهذه المثابة اتباعا لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فإن الوقوف عند ذلك هو سبيل المؤمنين، لأنه دينهم، أما مخالفة ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن ظهرت البراهين الدالة على رسالته وسلوك طريق غير طريق المؤمنين وما هم عليه من دين الإسلام والعمل بأحكامه فهو موالاة للضلال وخروج عن الدين يصلى أصحابه نار الجحيم، يستوي في هذا أن تكون المخالفة عامة في كل شيء أم في بعض الأمور دون بعض، حيث تكون المشاقة، فإن أصل معناها كونك في شق غير شق صاحبك، وهذا هو معنى قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (4)
ذلك لأن التشريع من خصائص الألوهية. فإقرار تشريع لسلطة بشرية في فرد أو جماعة شرك بالله، وهذا ما يدل عليه تعليل مصير المشاقين في الآية السابقة بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (5) وقد قال الله في اليهود والنصارى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (6)
ولم يكونوا عبدوهم مع الله، وإنما اعترفوا لهم بحق التشريع من دون الله فأحلوا لهم وحرموا عليهم:
عن عدي بن حاتم قال: «سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية الآية فقلت له: إنا لسنا نعبدهم.
قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه. ويحلون ما حرمه الله فتحلونه؟
فقلت: بلى.
قال: فتلك عبادتهم (8) » .
ونفى الله تعالى الإيمان عن اليهود الذين جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متحاكمين إليه
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) سورة النساء الآية 65
(3) سورة النساء الآية 65
(4) سورة النساء الآية 115
(5) سورة النساء الآية 116
(6) سورة التوبة الآية 31
(7) سنن الترمذي تفسير القرآن (3095) .
(8) سورة التوبة الآية 31 (7) {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}(1/73)
طمعا في أن يوافق حكمه أهواءهم وتحريفهم للتوراة، فلما حكم بينهم بالحق تولوا وأعرضوا، إذ لا يجتمع الإيمان مع عدم تحكيم شريعة الله، بل مع عدم الرضا بحكمها كذلك، لأن عدم الرضا من التولي قال تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (1)
إن حقيقة الإيمان هي التصديق القلبي الذي يظهر أثره في السلوك العلمي، ودعوى الإيمان باللسان مع التولي والإعراض عن تحكيم الشريعة دعوى كاذبة لدى المنافقين. {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (2)
أما سلوك الإيمان لدى ذويه فهو السمع والطاعة لما جاء عن الله وما جاء عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - انقيادا لحكم الشريعة، وهؤلاء المؤمنون الذين يتصفون بذلك هم المفلحون، لأن سبيل الفلاح هو الاستقامة على مناهج الله وشرعه {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3)
فمنطق الإيمان هو منطق التسليم المطلق لقضاء الله وقضاء رسوله، وعلى هذه القاعدة يجب على الأمة المسلمة أن تبني منهجها في الحياة بكل شأن من شئونها، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإلا كانت عاصية ضالة، ولا خيرة للمؤمنين في سلوك منهج آخر ما داموا متصفين بالإيمان.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (4)
فالإيمان بوحدانية الله، يعني أنه لا عبودية إلا لله، فلا عبودية لصنم أو وثن، أو مخلوق، أو هوى، أو قانون وضعي، أو نحو ذلك مما يكون الخضوع فيه لغير الله، وتكون الطاعة فيه لغير شريعة الله ذلك لأن العبودية لله وحده تفترض الاهتداء بهديه وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه كما جاءت على لسان رسل الله إلى البشر.
__________
(1) سورة المائدة الآية 43
(2) سورة النور الآية 47
(3) سورة النور الآية 51
(4) سورة الأحزاب الآية 36(1/74)
ثانيا: النصوص القرآنية الدالة على تحكيم الشريعة الإسلامية
يحسن قبل استعراض النصوص القرآنية الدالة على وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية أن نقف على ما يأتي:
أ - إن الدين يطلق على كل ما جاء عن الله تعالى من الأوامر والنواهي وكل ما ثبت عن السنة النبوية الصحيحة(1/74)
حيث أخبر الله تعالى عن نبيه بقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (1) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) وأمر باتباعه وطاعته {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (4) وحذرنا من مخالفته {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (5) وفرض على المؤمنين طاعته لأنها من طاعة الله {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (6)
والدين بهذا يشمل العقائد والعبادات والمعاملات وشئون الحكم والقضاء وسائر ما يسمى تشريعا.
ب - إن اتباع الدين يعني العمل به، وإذا استبدلت أمة بما جاء في الدين قانونا من القوانين الوضعية، أو مذهبا من مذاهب الناس في الحياة فقد اتخذت غير الإسلام دينا لها، لأن الدين يشمل ما جاء عن الله وما جاء عن رسوله في شئون الحياة كلها، والأمر بطاعة الله وطاعة الرسول يقتضي العمل بالدين كله.
جـ - وقد عرف أكثر علماء الأصول الأمر بأنه: القول المقتضي طاعة المأمور به، وعرفه آخرون بأنه: طلب الفعل على جهة الاستعلاء.
وليست صيغة الأمر قاصرة على صيغة واحدة فإن أساليب طلب الفعل في القرآن كثيرة منها:
1 - صريح الأمر كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} (7) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (8)
2 - الإخبار بأن الفعل مكتوب على المخاطبين كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (9) وقوله {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (10)
3 - الإخبار بأن الفعل على الناس عامة أو على طائفة خاصة كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (11)
4 - حمل الفعل المطلوب على المطلوب منه كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (12)
5 - أن يطلب الفعل بالصيغة الطلبية، وهي فعل الأمر، أو المضارع المقرون باللام، كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (13) وقوله {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (14)
6 - التعبير بفرض، كقوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (15)
7 - اقتران الفعل بألا، كقوله تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} (16)
8 - الاستفهام التعجبي والإنكاري مقرونا بترك الفعل، كقوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} (17)
9 - الإخبار بأن ترك الفعل كفر أو ظلم أو فسق، كقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (18)
__________
(1) سورة النجم الآية 3
(2) سورة النجم الآية 4
(3) سورة الحشر الآية 7
(4) سورة المائدة الآية 92
(5) سورة النور الآية 63
(6) سورة النساء الآية 80
(7) سورة النحل الآية 90
(8) سورة النساء الآية 58
(9) سورة البقرة الآية 178
(10) سورة النساء الآية 103
(11) سورة آل عمران الآية 97
(12) سورة البقرة الآية 228
(13) سورة البقرة الآية 238
(14) سورة الحج الآية 29
(15) سورة الأحزاب الآية 50
(16) سورة التوبة الآية 13
(17) سورة آل عمران الآية 83
(18) سورة المائدة الآية 44(1/75)
وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2)
10 - الإخبار بأن إتيان الفعل من الإيمان أو أن تركه يناقض الإيمان، كقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (3) وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (4)
قال الغزالي في المستصفى: (إن قول الشارع أمرتكم بكذا، وأنتم مأمورون بكذا، أو قول الصحابي أمرت بكذا، كل ذلك صيغ دالة على الأمر، وإذا قال: أوجبت عليكم، أو فرضت عليكم، أو أمرتكم بكذا أو أنتم معاقبون على تركه فكل ذلك يدل على الوجوب) .
وأساليب الطلب تدل على الوجوب إذا عريت من القرائن الصارفة لها عن ذلك. وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية بأساليب الطلب المتعددة، فمنها صريح الأمر كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (5) فقد توجه الخطاب بالأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وهذا عام في جميع الأمانات، فالدين أمانة، والشريعة أمانة، والحكم بالشريعة أمانة وتوجه الخطاب بالأمر بالحكم بالعدل بين الناس جميعا، والحكم بالعدل بين الناس يستوجب الحكم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأن حقيقة العدل هي الفصل في الحكومة على ما في الكتاب والسنة.
ومنها ما ورد بالصيغة الطلبية، وهي فعل الأمر، أو المضارع المقرون باللام كقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (6)
والأمر باتباع ما أنزل عام في جميع ما أنزله الله تعالى بالقرآن الكريم من الأوامر والنواهي؛ وآيات العقوبات في القصاص والحدود وآيات العلاقات الدولية في الحرب والسلم؛ وآيات المال ذلك كله ونظائره مما أنزله الله فهو واجب الاتباع {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (7) {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (8) {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (9) {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (10) {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (11) {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (12) {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (13) {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (14) {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} (15) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (16) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (17)
__________
(1) سورة المائدة الآية 45
(2) سورة المائدة الآية 47
(3) سورة النساء الآية 65
(4) سورة الأحزاب الآية 36
(5) سورة النساء الآية 58
(6) سورة الأعراف الآية 3
(7) سورة البقرة الآية 178
(8) سورة النور الآية 2
(9) سورة المائدة الآية 38
(10) سورة الأنفال الآية 60
(11) سورة البقرة الآية 193
(12) سورة محمد الآية 4
(13) سورة الأنفال الآية 41
(14) سورة الأنفال الآية 61
(15) سورة الأنفال الآية 58
(16) سورة النساء الآية 29
(17) سورة البقرة الآية 278(1/76)
والناس في الحياة إما أن يتبعوا ما أنزل الله فهذا هو الإسلام، والاعتراف بالحكم والتشريع لله، وإما أن يتبعوا من دونه أولياء فهذا هو الشرك، سواء رجع الضمير في قوله: من دونه إلى الرب، أو إلى (ما) في قوله: {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (1) فإن معنى الآية، هو نهي الأمة عن أن يتبعوا من دون الله أولياء يعبدونهم ويجعلونهم شركاء لله في خصائص الألوهية، ومنها التشريع، أو النهي عن أن يتبعوا من دون كتاب الله أولياء من أصحاب السلطة والرئاسة والتقنين كما كان يفعله أهل الجاهلية وأهل الكتاب من طاعة الرؤساء والأحبار والرهبان فيما يحللونه لهم ويحرمونه عليهم.
ويأمرنا الله تعالى باتباع صراطه المستقيم وينهانا عن اتباع سواه. وصراط الله المستقيم هو سبيل دينه، وما شرعه لعباده من أحكام، فهو وحده الذي يجب اتباعه، وما سواه من الملل والنحل والمذاهب والقوانين لا تلتقي معه، بل تميل عنه، لأن الحق واحد لا يتعدد، والخط المستقيم بين نقطتين لا يكون إلا خطا واحدا قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وعن ابن مسعود قال: «خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ: (4) »
وأمرنا الله تعالى بطاعة رسوله، وذلك عام في كل ما جاء عن الله أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أمر ونهي، وتشريع وقضاء، حتى تتنزه سلطة الحكم من الجهالة والهوى وسائر ما ركب في الطبيعة البشرية من نقص، وما يعرض من المشكلات والأقضية التي لا نص فيها، وتختلف العقول في إدراكها، ويحصل عليها التنازع فإن الأمر فيها يرد إلى الله وإلى الرسول، أي إلى كتاب الله، وإلى الرسول في حياته، وإلى سنته بعد مماته، وهذا هو شرط الإيمان بالله واليوم الآخر، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (5)
وقد ذكر الأمر بالطاعة صريحا مع الله، ومع رسوله وجاءت طاعة أولي الأمر معطوفة دون التصريح بالفعل، لأن الطاعة المطلقة لا تكون إلا لله، وللرسول، أما طاعة أولي الأمر فإنها تأتي تبعا لطاعة الله وطاعة رسوله إذ «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (6) » .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 3
(2) سورة الأنعام الآية 153
(3) صحيح البخاري الرقاق (6417) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2454) ، مسند أحمد بن حنبل (1/465) .
(4) سورة الأنعام الآية 153 (3) {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}
(5) سورة النساء الآية 59
(6) صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) .(1/77)
وتقرر الأديان السماوية وجوب الحكم بما أنزل الله حتى يستقيم أمر الحياة البشرية، فإنه لا يستقيم إلا بالدين، عقيدة وعبادة وتشريعا وحكما، فليس الدين صلة روحية لإشراقة النفس وبعدا عن التحاكم إليه في شئون الدنيا، وبهذا جاء الأمر في التوراة والإنجيل والقرآن ففي التوراة يقول تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} (1) وصيغة الخبر في مثل هذا الموضع {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} (2) إخبار عن القيام بالأمر الواجب.
وكما أمر أهل التوراة بتحكيم شريعة الله أمر أهل الإنجيل كذلك بالمضارع المقرون بلام الأمر {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (3) وينتهي أمر الرسالات السماوية إلى الشريعة الإسلامية التي جاءت مهيمنة على ما قبلها، حتى تحتكم البشرية إليها في شئون حياتها كلها إلى يوم الدين، يقول تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (4) ثم تكرر صيغة الطلب في قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (5)
وقد أخبر الله تعالى في نهاية آيات الحكم بما أنزل الله أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر وظلم وفسق وذلك في سورة المائدة يقول تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (6) {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (7) {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (8) {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (9)
وإذا كانت هذه الآيات قد نزلت في أهل الكتاب فإن المذهب الحق الذي ذهب إليه الجمهور أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ، وقد أجمع الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة لعموم هذه الآية {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (10)
__________
(1) سورة المائدة الآية 44
(2) سورة المائدة الآية 44
(3) سورة المائدة الآية 47
(4) سورة المائدة الآية 48
(5) سورة المائدة الآية 49
(6) سورة المائدة الآية 44
(7) سورة المائدة الآية 45
(8) سورة المائدة الآية 46
(9) سورة المائدة الآية 47
(10) سورة المائدة الآية 45(1/78)
وعندما طلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القصاص في سن كسرت، قال: «كتاب الله يقضي بالقصاص (1) » ، وليس في القرآن قصاص السن إلا ما حكى عن التوراة في قوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (2) وأدلة ترجيح هذا الرأي مبسوطة في كتب الأصول.
هذا وإن الجمل الثلاث {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (3) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (4) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (5) قد جاء التعبير فيها بلفظ (من) و (من) من صيغ العموم فيفيد أن هذا غير مختص بطائفة معينة، بل بكل من ولي الحكم.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، عن حذيفة: أن هذه الآيات ذكرت عنده {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (6) - و - الظالمون - و - الفاسقون ".
فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل.
فقال حذيفة: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة، كلا، والله لتسلكن طريقهم قد الشراك ".
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4500) ، سنن أبو داود الديات (4595) ، سنن ابن ماجه الديات (2649) ، مسند أحمد بن حنبل (3/167) .
(2) سورة المائدة الآية 45
(3) سورة المائدة الآية 44
(4) سورة المائدة الآية 45
(5) سورة المائدة الآية 47
(6) سورة المائدة الآية 44(1/79)
الكفر العملي والكفر الاعتقادي
فالألفاظ الثلاثة: (الكفر والظلم والفسق) التي سجلها الله عن الحاكمين بغير ما أنزل الله محمولة على إطلاقها فلا يسمي الله الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا ولا يكون كذلك. وما روي عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1) قال: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه وإنه ليس كفر ينقل من الملة بل دون كفر، وما روي عن عطاء أيضا في قوله:
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) - هم الظالمون - هم الفاسقون "
قال: " كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق ".
ما روي عن ابن عباس وعن عطاء بن أبي رباح في ذلك محمول على ما يسمى بالكفر العملي، وذلك بأن تحمله أهواؤه وشهواته على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاده بأن حكم الله وحكم رسوله هو الحق، واعترافه بأنه في هذا الحكم قد أخطأ وجانب الهدى، وعصى الله ورسوله.
أما أن يكون أساس نظام الحكم في الأمة قائما على غير ما أنزل الله بتحكيم القوانين الوضعية، فهذا ليس من الكفر العملي، بل من الكفر الاعتقادي، ولا تفسير له سوى ذلك. لأن الدول التي عدلت عن تحكيم الشريعة الإسلامية إلى تحكيم القوانين الوضعية عدلت عن ذلك باختيارها.
والكفر الاعتقادي في الحكم بغير ما أنزل الله أنواع:
__________
(1) سورة المائدة الآية 44
(2) سورة المائدة الآية 44(1/79)
أحدها: أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله حكم الله وحكم رسوله.
كأولئك الذين يزعمون أن الدين صلة بين العبد وربه. ولا علاقة له بشئون التشريع والحكم والقضاء فإن الأحكام الشرعية في الكتاب والسنة من أصول الدين المعلوم بالضرورة وإجماع الأمة، وقد اتفق أهل العلم على أن من جحد أصلا من أصول الدين، أو فرعا مجمعا عليه، أو أنكر حكما قطعيا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه كافر الكفر الناقل من الملة.
الثاني: أن يضاهي الحاكم بغير ما أنزل الله حكم الله وحكم رسوله معاندة للشريعة، فيتخذ القوانين الوضعية ومصادرها أساسا للحكم. يستمد منها القوانين والنظم، وتؤسس لها المحاكم في البلاد، وتتحاكم إليها الأمة. فتحكم بين الناس بما يخالف الكتاب والسنة، وتجعل حكمها ملزما لهم لا مفر لهم منه، كما هو الشأن في معظم البلاد الإسلامية، التي استبدلت بالشريعة الإسلامية القانون الوضعي المستمد من القوانين الغربية، الفرنسية والبلجيكية وغيرها، أو من مذاهب بعض المبتدعين الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، فهذا النوع كفر كذلك يخرج من الملة، وشرك بالله يتنافى مع عقيدة التوحيد التي نعبر عنها بقولنا: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ومن مقتضاها أن يكون الحكم لله ولرسوله، فإن التشريع من خصائص الألوهية.
الثالث: أن يعتقد المسلم أو الحاكم بغير ما أنزل الله أن تحكيم القوانين الوضعية أولى وأحسن من تحكيم الشريعة الإسلامية، لأن الحياة متجددة، وتتجدد الحوادث والأقضية بتجددها، ولا تشمل الشريعة الإسلامية مشاكل الحياة المتجددة. إنما تشملها القوانين الوضعية. فينبغي الرجوع إليها لأنها أحسن في تناولها للحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال، وهذا كفر كذلك. لما فيه من تفضيل لأحكام المخلوقين على حكم الله الخالق وحكم رسوله، واتهام لشريعة الإسلام بالقصور والنقص والعجز.
إن الشريعة الإسلامية تفي بمتطلبات الحياة البشرية في كل عصر، ومصادرها الثرة تغني الناس عن التماس حل فيما سواها من قوانين البشر، ولن يعدم حاكم أن يجد حكم حادثة من الحوادث، أو قضية من القضايا في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - نصا أو ظاهرا أو استنباطا.
وقد اشتمل القرآن الكريم على أصول الشريعة وقواعدها في الحلال والحرام، وجاءت أكثر أحكامه مجملة تشير إلى مقاصد الشريعة، وتضع بيد الأئمة والمجتهدين المصباح الذي يستطيعون في ضوئه استنباط أحكام جزئيات الحوادث في كل زمان ومكان، وهذا سر خلود الشريعة وشمول قواعدها الكلية ومقاصدها العامة لما يحدث في الناس من أقضيات.(1/80)
وإنما فصل القرآن ما لا بد فيه من التفصيل فيما يجب أن يسمو عن مواطن الخلاف والجدل، كما في العقائد وأصول العبادات أو لأنه يبني على أسباب لا تختلف ولا تتغير إلا بتغير الأزمنة والأمكنة، وذلك كما في تشريع المواريث، ومحرمات النكاح، وعقوبة بعض الجرائم.
الرابع: أن يعتقد المسلم أن تحكيم القوانين الوضعية كتحكيم الشريعة الإسلامية. وأن الحكم بالقوانين كالحكم بالشريعة. ومن اعتقد هذه المماثلة فإنه يكفر كفرا يخرجه من الملة لأنه يسوي بين الخالق والمخلوق. ويجعل ما شرعه الله مماثلا لما شرعه المخلوق، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فقد تفرد سبحانه بالكمال، وتنزه عن مماثلة المخلوقين في الذات والصفات والأفعال والحكم {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1)
الخامس: أن يعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله وحكم رسوله، فهذا يكفر كذلك، لأنه يعتقد جواز ما علم تحريمه من الدين بالضرورة. للنصوص الصحيحة الصريحة التي تقطع بتحريم الحكم بغير ما أنزل الله تعالى ولا تنافي بين أوصاف الكفر والظلم والفسق في الآيات الثلاث:
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) - والظالمون - والفاسقون) فإنها جميعا صفات لموصوف واحد باعتبارات مختلفة.
فالحكم بغير ما أنزل الله من حيث إنه جحود للشريعة يكون كفرا، ومن حيث إنه مجاوزة لحق الإنسان واعتداء على حق الله في التشريع يكون ظلما، ومن حيث إنه خروج عن شرع الله يكون فسقا.
وفي مفردات الراغب: الكفر في اللغة: ستر الشيء، ووصف الليل بالكافر لستره الأشخاص، والزراع لستره البذر في الأرض،. . . وكفر النعمة وكفرانها: سترها بترك أداء شكرها، قال تعالى: {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} (3) وأعظم الكفر جحود الوحدانية أو الشريعة أو النبوة، والكافر على الإطلاق متعارف فيمن يجحد الوحدانية، أو النبوة أو الشريعة، أو ثلاثتها.
والظلم يقال في مجاوزة الحق، وهو ثلاثة:
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة المائدة الآية 44
(3) سورة الأنبياء الآية 94(1/81)
الأول:
ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وأعظمه الكفر والشرك والنفاق، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (1)
والثاني:
ظلم بينه وبين الناس.
والثالث:
ظلم بينه وبين نفسه.
والفسق: من فسق فلان: أي خرج عن حجر الشرع، وذلك من قولهم: فسق الرطب: إذا خرج عن قشره وهو أعم من الكفر، والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير لكن تعورف فيما كان كثيرا، وأكثر ما يقال الفاسق. لمن التزم حكم الشرع وأقربه، ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضه.
ويصف الله تعالى الكفار والمشركين بالظلم {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (2) {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (3) {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} (4) {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (5) {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ} (6) وجعل جحود آياته ظلما {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} (7)
كما يصف سبحانه المشركين والكفار بالفسق، يقول تعالى في خطاب المشركين بعد أن ذكر لهم دلائل ربوبيته وتوحيده: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (8) ويقابل الإيمان بالفسق قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} (9) {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (10) {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} (11)
ويصف الذين يكفرون بآيات الله ويكذبون الرسل بالفسق {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} (12) {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (13) {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (14) {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (15)
ويجمع الله للكافرين بين الظلم والفسق، قال تعالى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (16)
__________
(1) سورة لقمان الآية 13
(2) سورة لقمان الآية 13
(3) سورة الشعراء الآية 10
(4) سورة هود الآية 37
(5) سورة هود الآية 67
(6) سورة هود الآية 68
(7) سورة العنكبوت الآية 49
(8) سورة يونس الآية 33
(9) سورة السجدة الآية 18
(10) سورة السجدة الآية 19
(11) سورة السجدة الآية 20
(12) سورة البقرة الآية 99
(13) سورة التوبة الآية 84
(14) سورة الزخرف الآية 54
(15) سورة الذاريات الآية 46
(16) سورة البقرة الآية 59(1/82)
ومن أساليب القرآن في طلب تحكيم شريعة الله الإخبار بأن الحكم بغير ما أنزل الله ينافي الإيمان ويقود أصحابه إلى الضلال المبين {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (1) ولفظ (ما كان) هنا معناه: المنع والحظر من الشيء، والإخبار بأنه لا يحل أن يكون شرعا، وقد يكون لما يمتنع عقلا كقوله تعالى: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} (2) وهذا هو المراد بقولهم في تفسير الآية: ما صح ولا استقام، فإن ما لا يصح شرعا يكون مخالفا للشرع، فمعنى الآية، أنه لا يحل لمن يؤمن بالله إذا قضى الله ورسوله أمرا في أي شأن من الشئون أن يختار سواه من مذاهب الناس. مخالفا أمر الله وأمر رسوله، وإلا كان العصيان والضلال المبين.
ومن ذلك ما جاء بصيغة الاستفهام التعجبي والإنكاري مقرونا بالإعراض عن تحكيم الشريعة {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (3) {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (4)
ويقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (5) وإذا كان ذلك التعجب لإرادة التحاكم إلى الطاغوت، فكيف بالتحاكم نفسه والوقوع فيه؟
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(2) سورة النمل الآية 60
(3) سورة الأنعام الآية 114
(4) سورة آل عمران الآية 23
(5) سورة النساء الآية 60(1/83)
ثالثا: بواعث الخروج عن تحكيم الشريعة الإسلامية
يتعلل المتردون على شريعة الله والتحاكم إليها بتعلات فارغة ومن وراء ذلك بواعثهم النفسية:
أ - باعث النفاق:
تحت سلطة الشعور الإسلامي العام لدى جماهير شعوبنا المسلمة تختفي فئة من المرائين المنافقين الذين نهلوا من معين المستشرقين، وأرضعوا لبان الثقافة الغربية، التي توهن من شأن الشريعة الإسلامية، وتصم المعتصمين بها بالتأخر والرجعية، وهؤلاء يرون أن الغرب لم ينهض من كبوته إلا بعد أن نفض يده من الدين وأهله، حيث وقف رجال الكنيسة حجر عثرة في سبيل العلم والتقدم والمدنية، ويعتقدون أنه لا سبيل لنهضة أمتهم إلا بالعلمانية، أي الانسلاخ من الدين وتركه جانبا أسوة بالحضارة الغربية، متجاهلين الفوارق الواضحة بين طبيعة الإسلام وطبيعة المسيحية، فالإسلام يدعو إلى العلم والمعرفة وإقامة الحضارة الإنسانية المتكاملة في جوانب الحياة المتعددة المادية والروحية والعقلية على أساس من توحيد الله تعالى والنظرة السديدة الصائبة إلى الكون والإنسان والحياة بما يحقق السعادة للبشرية كلها.(1/83)
إن هؤلاء يتسنمون مراكز القيادة في الأمة بهذه العقيدة ويضعون نصب أعينهم الانسلاخ من شريعة الإسلام، أو من الدين كله، ويعتبرون أن إقامة الحدود وحشية لا تلائم عصر المدنية، ولا يجرءون على إعلان ردتهم وكفرهم حتى لا تنقم عليهم جماهير الشعوب المسلمة التي يحكمونها، وهم في حاجة إلى أن يتملقوها باسم الإسلام.
وحين يعاتبهم أحد يحتجون بأنهم ما أرادوا تحكيم القوانين الوضعية إلا لمصلحة الأمة، حرصا على تقدمها وازدهارها، ويبلغ بهم النفاق مبلغه حيث يحلفون كاذبين أنهم ما أرادوا بصنيعهم هذا إلا الإحسان وذلك هو ما حكاه القرآن الكريم عن المنافقين؛ لأن النفاق هو النفاق في كل عصر {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (1) {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} (2) {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} (3)
إنه لا مجال للعدول عن القرآن الكريم إلى كتاب آخر فضلا عن نظام للبشر، وإلا كان الامتراء {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (4)
خشية الناس والطمع في أعراض الدنيا
يتعارض الحكم بما أنزل الله مع شهوات المستبدين ورغبات الظالمين، وكثيرا ما يستولي هؤلاء على أزمة الحكم، ويقبضون بأيديهم على كل مرفق من المرافق للاستبداد بالأمور كلها، ويضربون بيد من حديد على الرأي الحر والفكر المستنير ما دام يتعارض مع أهوائهم ومصالحهم. ويضعف أهل الحق عن المجاهرة به والصمود في سبيله ويخشون بأس الظالمين، فيستكينون لهم وينصاعون لرغباتهم ويكتمون شريعة الله التي استحفظوا عليها، وقد يبلغ الضعف بهم مبلغه طمعا في عرض من أعراض الحياة الدنيا فيتملقون الطغيان، ويمالئون ذوي الشهوات، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويصدرون الفتاوى التي تبرر خروج الحكام عن شرعة الله، وتلتمس لهم المعاذير، ولذا نهى الله علماء اليهود الذين تهاونوا في تحكيم التوراة تحت تأثير هذه الدوافع: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (5)
وفي ظل ذلك الجو الخانق يكثر سواد المضللين، وتختل موازين الحق، وتفسد قيم الحياة، وتقرير الحق والباطل، والهدى والضلال، لا يرجع إلى موازين الناس وأهوائهم، أو اصطلاحات المجتمع وقيمه،
__________
(1) سورة النساء الآية 61
(2) سورة النساء الآية 62
(3) سورة النساء الآية 63
(4) سورة الأنعام الآية 114
(5) سورة المائدة الآية 44(1/84)
وإنما ذلك إلى الله وحده {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (1) {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (2)
اتباع الهوى والتماس المعاذير
إن الوقوف عند حدود الشريعة جهاد لهوى النفس لا يصبر عليه إلا أهل الإيمان، وللنفس أهواؤها المختلفة، ونزعاتها المتباينة، وشريعة الإسلام تكبح جماح الأهواء والنزعات، ليستقيم سلوك المسلم على ما فيه خيره وخير الإنسانية، وأهواء الحكم أشد تسلطا على النفس وبعدا عن الحق، ومهما التمس الناس المعاذير لتبرير الخروج عن شريعة الله وتحكيم القوانين الوضعية، فإن باعث ذلك هو الهوى، والهوى وحده، وقد جرت سنة الله على اختلاف الناس في اتجاهاتهم ومذاهب حياتهم وسلطان الحق هو الذي يجمعهم على كلمة سواء، وليس سلطان الهوى وترضية النفوس، ولذا حذر الله تعالى رسوله من ذلك حتى لا يفتن عن شيء من حكم الله {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (3) ثم قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (4) {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (5)
كراهية الحق والرغبة في الظلم
عندما تمرض النفس وتقع أسيرة الهوى والشهوة، تعمى بصيرتها، فلا تنظر إلا بمنظار هواها، وهوى النفس لا يأتي عن طريق الحق والحكم بما أنزل الله، لأن الهوى غي وظلم، وقد فند القرآن الكريم أسباب كبرياء حكم الجاهلية، وإعراض ذويه عن حكم الله وحكم رسوله، وأبطل شبهها، وأرجع ذلك إلى كراهيتهم للحق، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} (6) {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (7) {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} (8)
وذكر سبحانه وتعالى في موضع آخر طبيعة النفاق، واحتمالات سبب إعراض المنافقين عن حكم رسول الله إذا كان الحق عليهم، وأشارت الآيات إلى أن السبب الحقيقي هو رغبتهم في الظلم وهم يعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقضي إلا بالحق {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (9) {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} (10) {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} (11) {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (12)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 116
(2) سورة الأنعام الآية 117
(3) سورة المائدة الآية 48
(4) سورة المائدة الآية 49
(5) سورة المائدة الآية 50
(6) سورة المؤمنون الآية 68
(7) سورة المؤمنون الآية 69
(8) سورة المؤمنون الآية 70
(9) سورة النور الآية 47
(10) سورة النور الآية 48
(11) سورة النور الآية 49
(12) سورة النور الآية 50(1/85)
وطواغيت الأرض الذين يتحكمون في عباد الله بأهوائهم ومطامعهم وتعسفهم واستبدادهم يكرهون الإسلام لأنه الدين الحق ويتمردون على حكمه لأنه لا يقضي إلا بالعدل. وهم متجبرون ظالمون.(1/86)
رابعا: آثار الحكم بغير ما أنزل الله
وللحكم بغير ما أنزل الله آثاره السيئة في حياة الفرد وحياة الأمة، وفساد الحياة كلها.
أ - له آثاره في حياة الفرد بفراغ النفس وانحراف السلوك، فإن النفس البشرية إذا لم تكن عامرة بالإيمان بالله وحده، خاضعة لشريعة مزقتها الأهواء والشهوات، وأورثتها الاضطراب والخلل، والحيرة والفراغ، فالعبد المؤمن يدين لإله واحد، يطيع أمره، ويخضع لسلطانه، فهو يعرف طريقا واحدا يسلكه، ولا تتنازعه قوة أخرى تشده إليها كالعبد الذي يملكه سيد واحد، يتلقى منه أوامره فيتمثلها، يعمل ما يرضيه، ويسير في اتجاه واحد لا ينازعه فيه منازع، فهو مستقر النفس مستريح البال {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} (1) إنهما لا يستويان، فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد يتعلق بإله واحد، يهتدي به ويسير على شرعه ويؤمن بأنه مصدر ما في الحياة من نفع وضر، فإليه يتجه في كل أحواله، ومنه يستمد العون، إنه يسلك اتجاها واحدا لا يزيغ عنه، فيحقق بذلك الاستقامة والطمأنينة والاستقرار.
وخواء النفس من الدين، في فراغها من الانصياع لشريعة الله يبعث فيها الضجر والملل فتنفس عن ضيقها بالانحرافات السلوكية، والشذوذ في المجتمع، وتلك حقيقة يسجلها واقع العالم الحديث، فهذه الدول الراقية. قد استطاعت أن تحقق للإنسان متعة المادة، ولكنها جعلته فارغ الروح، يطارده هذا الفراغ، فيهرب من الحياة الناعمة التي يعيشها، بل يهرب من نفسه التي بين جنبيه، فيلجأ إلى التخلص من ذلك الشقاء بالانتحار الذي يفقده الحياة إلى الأبد، أو بإدمان المخدرات والخمور حتى ينسى الحياة وينسى نفسه بالسكر فترة من الزمن، وتدل إحصائيات هذه الدول على أن الأمراض العصبية وحوادث الانتحار، ونسبة الجريمة والشذوذ ترتفع من سنة إلى أخرى وتزداد من عام لآخر، وحين يفقد أحدهم وسيلة الهرب من الحياة يلجأ إلى الشذوذ والخروج عن مظاهر المجتمع، وليست ظاهرة " الهيبز " و " الخنافس " سوى التعبير عن هذه الحقيقة المرة.
ب - وللحكم بغير ما أنزل الله آثاره السيئة في حياة الأمة، وكيان المجتمع، لأن الأمة التي تعيش بلا ضمير ديني لا يحول القانون الوضعي بينها وبين ارتكاب الجريمة والفساد في الأرض.
__________
(1) سورة الزمر الآية 29(1/86)
لقد تقدمت الدراسات النفسية، والدراسات الاجتماعية، والدراسات القانونية لتحد من تفاقم الشر وانتشار الجريمة ولكنها باءت بالفشل، ففي طبيعة البشر أن يتمرد على البشر إنه يشعر إزاء سائر الناس أنه إنسان وأنهم أناس وأن هذا الاشتراك في البشرية يقتضي أن يكون الجميع سواء في الحقوق كلها، فعلام يدين بالولاء والطاعة لقانون من وضع البشر؟
أيدين له فرارا من جزاء مخالفة بحرمان دنيوي؟ أو عقوبة دنيوية؟ إذا فالخطب غير عسير، ففي استطاعته أن ينقض عرى هذا القانون عروة عروة، ويهدم بناءه لبنة لبنة في غفلة من حراسة القانون ورجال الأمن ولا يمتلك القانون عقوبة في الدار الآخرة، ولا يعلم أسرار الناس وبواطنهم.
أما التشريع السماوي فإنه يستمد سلطته من الله الذي خلق الخلق، وهو يعلم السر وأخفى {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (1) وهذا يبعث في نفس المسلم مراقبة الله والحفاظ على شريعته في الغيب والشهادة، بل يغرس فيها الإخلاص الذي يرعى حرمات الله عن صدق، ظاهرا وباطنا، فطاعة التشريع السماوي من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يكفي في تحقيقها السلوك الظاهري في مرأى الناس، بل لا بد فيها من خشوع القلب، واطمئنان النفس، والانقياد لها بين حنايا الضلوع، والإفلات من عقوبة الدنيا بالتستر والمخاتلة لا يغني فتيلا عن عقوبة الحياة الآخرة، ولذا قرن الله في أحكام الشريعة الجزاء الأخروي بالجزاء الدنيوي، فإن أفلت المرء من هذا لم يفلت من ذاك. يقول تعالى في القتل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (2) ويقول في المحاربة {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3)
وفي القذف: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (4)
وبهذا يتربى الضمير المؤمن الحي الذي يسهر على رعاية حرمات الله، فإن القضاء لا يحل حراما ولا يحرم حلالا.
سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خصومه بباب حجرته فخرج إليهم، فقال: «أيها الناس إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك فمن قضيت له بحق أخيه فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها (5) » .
__________
(1) سورة غافر الآية 19
(2) سورة النساء الآية 93
(3) سورة المائدة الآية 33
(4) سورة النور الآية 23
(5) صحيح البخاري المظالم والغصب (2458) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن النسائي آداب القضاة (5401) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، موطأ مالك الأقضية (1424) .(1/87)
والأمة التي تحيد عن شريعة الله بعد أن أكرمها الله تعالى بها تستحق عقاب الله، وإذا كان الله قد أكرم هذه الأمة فلم يعاقبها عقوبة إبادة كما عاقب الأمم المكذبة السابقة، فإنه يعاقبها بكوارث الحياة، ونوازل الدهر، فيتخلى عن نصره لها، وتتوالى عليها أحداث الزمن، ويذيقها عدوها بأسه، فتطحنها نكبات الهزيمة، وتسام الذل والهوان، وينوء كاهلها بمصائب الخوف والفقر، ويومئذ لا تنفعها المعذرة حتى تفيء إلى شرع الله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (1) {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} (2) {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (3) ويقول تعالى في تهديد من تسول لهم نفوسهم الخروج على شريعة الله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (4)
ويذكر الله تعالى أنه حيث كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمته في حياته، أو كانت شريعته فيها بعد مماته، فإن الخروج عن طاعته وطاعة شريعته يورث الضعف والمشقة والهلاك، ولكن حب الإيمان وجمال معانيه في القلب وكراهة المخالفة - لكن هذا العاصم من الخروج عن الطاعة الذي فيه الكفر والفسوق والعصيان {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (5) {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (6)
ولقد استبدلت كثير من دول الإسلام بشريعة الله قوانين البشر ومذاهبهم ورفعت شعارات براقة، وأوهمت شعوبها بأن هذا هو سبيل رخائها وعزها فماذا كانت النهاية؟ كانت عار الهزيمة، وذل الخيانة، ومأساة التضليل، وانهيار الاقتصاد، وفساد المجتمع، وضياع الفضيلة، وإهدار القيم، ووأد الحريات، وتلك هي سنة الله في أمة أنزل الله في كتابها قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (7) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (8)
جـ - وللحكم بغير ما أنزل الله آثاره السيئة في فساد الحياة كلها:
لقد استخلف الله الإنسان على الأرض ليعمرها بهداية السماء، وسخر له ما في السماوات والأرض جميعا منه، ووفقه إلى الاستفادة من طاقات الكائنات وما أودعه الله فيها من قوى، واستطاع الإنسان في العصر
__________
(1) سورة النساء الآية 61
(2) سورة النساء الآية 62
(3) سورة النحل الآية 112
(4) سورة المائدة الآية 49
(5) سورة الحجرات الآية 7
(6) سورة الحجرات الآية 8
(7) سورة الأنفال الآية 53
(8) سورة الرعد الآية 11(1/88)
الحديث أن يبتكر ويبدع، وأن يأتي بعجائب الحياة، ويستحوذ على طاقات هائلة في الكون، وحسن استخدام هذه الطاقات هو الذي يحقق للبشرية الرخاء والأمن، وسبيل ذلك هو الوقوف في استخدامها عند شرع الله بالحكمة والعدل وحماية الحق والذود عن حياضه، ورفع لوائه، وهذا يعني أن تكون تلك القوى بيد مؤمنة أمينة مهتدية، وإلا كانت وسائل هدم وخراب ودمار وفساد.
هذه حقيقة يدركها الناس اليوم، وهم يشاهدون التقدم العلمي الباهر في الاستفادة من طاقات الأرض والماء والهواء، وقد تحول إلى صراع دولي مدمر، يوشك أن يأتي على بنيان الحضارة الإنسانية من القواعد، ويحيل الحياة إلى جحيم لا يطاق، ولو اشتعلت حرب ذرية نووية لأصبح الهواء سموما قاتلة والعمران براكين ثائرة، والجو نارا متقدة.
فإذا أضفنا إلى ذلك كله ما تحمله المذاهب والقوانين البشرية من تدمير للأخلاق، وانهيار للمجتمع أدركنا كيف يكون فساد السماوات والأرض على يد الإنسان المتمرد على شريعة الله الذي يجعل الحق تبعا لهواه، وهذا هو ما ذكره الله تعالى في قوله {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} (1) {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} (2)
إن الحق هو ناموس الله للوجود كله، وهو ثابت لا يتغير ولا تتخلف سنته، وأهواء الناس متعارضة متضاربة، ولو ساير الحق أهواءهم لفسدت أوضاع الحياة كلها، تفسد حياة المكلفين بفساد أهوائهم وأعمالهم، وتفسد سائر الكائنات لأنهم قائمون عليها بالتدبير تسخيرا من الله، فالكون كله لا يكون متناسق الأجزاء حتى يكون خاضعا لله شرعا وتسخيرا.
والأمة التي أشرقت فيها رسالة الإسلام هي أولى الأمم لاتباع هذه الرسالة لما في ذلك من مجد لها وشرف، وقد ظلت الأمة العربية لا ذكر لها في التاريخ حتى جاء الإسلام فارتفع شأنها، وذاع صيتها، وظل هذا الذكر يدوي في آذان الدنيا ما استمسكت به، وتضاءل بقدر تخليها عنه، ولن يعود لها ذكر مرة أخرى إلا به. فهل من مجيب؟
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 70
(2) سورة المؤمنون الآية 71(1/89)
الشيخ مناع خليل القطان
1 - ولد في قرية " شنشور " إحدى قرى المنوفية بمصر سنة 1925 م.
2 - حفظ القرآن الكريم في مكتب القرية، وأنهى دراسة المرحلة الابتدائية.
3 - التحق بالأزهر - معهد شبين الكوم - وتخرج من كلية أصول الدين، ثم التحق بتخصص التدريس وحصل على العالمية مع إجازة التدريس.
4 - عمل في التدريس بمصر، ثم قدم إلى المملكة العربية السعودية معارا للتدريس بالمعاهد العلمية سنة 1373هـ - 1953 م.
5 - عمل مدرسا في معهد الرياض العلمي، ثم في معهد عنيزة، ثم في معهد الأحساء.
6 - رقي مدرسا بكلية الشريعة سنة 1377 هـ ثم كان محاضرا في المعهد العالي للقضاء منذ تأسيسه سنة 1385 هـ وعضوا في مجلس المعهد.
7 - عين مديرا للمعهد العالي للقضاء سنة 1393 هـ ولا يزال، وعضو المجلس الأعلى لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. ومجلس الجامعة.
8 - عضوا للجنة الفرعية لسياسة التعليم ومقررها، ويشرف على مواد التشريع الإسلامي في كلية قوى الأمن الداخلي.
9 - حضر عدة مؤتمرات إسلامية في دورات: رابطة العالم الإسلامية، ومؤتمر القدس، ومؤتمر كراتشي، ومنظمات الشباب المسلم العالمية، والمنظمات الإسلامية، ومؤتمر مكافحة المخدرات، ومؤتمر رسالة الجامعة.
10 - مؤلفاته:
1 - مباحث في علوم القرآن.
2 - تفسير آيات الأحكام.
3 - نظام الأسرة في الإسلام.
4 - الدعوة إلى الإسلام.
5 - الإسلام رسالة الإصلاح.
6 - نظرية التملك في الإسلام.
11 - له نشاط إعلامي في الإذاعة، وأبحاث منشورة في المجلات الإسلامية.(1/90)
اللغة العربية
لسان وكيان
أحمد محمد جمال
قبل أن نتحدث عن (اللغة العربية) كلسان للأمة العربية خاصة، وللعالم خاصة، وللعالم الإسلامية الأكبر بصفة عامة، وأثرها العميق الوثيق في تكوين كيان الأمة الإسلامية عقيدة وشريعة، وخلقا وتعاملا وارتباطا. .
قبل ذلك لا بد من مقدمة وجيزة عن " اللغة " من حيث الاصطلاح الأدبي والاجتماعي:
اختلف الباحثون في نشوء اللغات: هل هو توقيفي؟ أم تواضعي؟ ويقول ابن فارس في كتابه " فقه اللغة ": أن لغة العرب توقيف، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (1) أي الأسماء التي يتعارفها الناس من دابة وأرض وجبل وسهل وأشباه ذلك. . ويوضح ابن فارس معنى أن اللغة توقيف بقوله: " وليس معنى ذلك أن اللغة كلها جاءت جملة واحدة، وإنما المعنى أن الله علم آدم ما شاء، ثم علم بني آدم بعده ما شاء أيضا حتى انتهى الأمر إلى نبينا " - صلى الله عليه وسلم - "، فآتاه الله ما لم يؤت أحدا من قبله.
أما ابن جني فيقول: في كتابه " الخصائص ": إن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة، وذلك بأن يضع حكيمان أو ثلاثة لكل واحد من الأشياء سمة ولفظا ".
ويرى علماء الاجتماع أن " اللغة " تجعل من الأمة الناطقة بها كلا متراصا يخضع لقانون واحد، وأنها الرابطة الحقيقية الوحيدة بين عالم الأذهان وعالم الأبدان. وهي نظرية تصدق على لغتنا العربية
__________
(1) سورة البقرة الآية 31(1/91)
كما يقول الدكتور عثمان أمين - أكثر مما تصدق على أية لغة أخرى. فاللغة العربية عظيمة الأثر في تكوين عقليتنا، وهداية سلوكنا، وتصريف أفعالنا. ذلك أنها تمتاز على اللغات الأخرى " بمثالية " عميقة صريحة، تحسب حساب الفكرة والمثال وتضعهما مكان الصدارة والاعتبار. . أي أن لغتنا العربية تفترض دائما أن شهادة الفكر أصدق من شهادة الحس، ويكفي في التعبير بها إنشاء علاقة ذهنية بين المسند والمسند إليه، دون حاجة إلى فعل الكينونة الذي هو لازمة ضرورية في اللغات " الهندو - أوربية " ودون الحاجة إلى التصريح بضمير المتكلم أو المخاطب أو الغائب، لأن الذات متصلة دائما بالفعل في نفس تركيبه الأصلي.
ويقول ابن خلدون: الملكات الحاصلة للعرب أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات على كثير من المعاني، مثل الحركات التي تعين الفاعل من المفعول والمجرور - أي المضاف - ومثل الحروف التي تفضي بالأفعال إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى. . ولا يوجد ذلك إلا في لغة العرب. وأما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لا بد من ألفاظ تخصه بالدلالة، ولذلك نجد كلام العجم في مخاطبتهم أطول مما نقدره بكلام العرب. . ".(1/92)
حقيقة التلازم بين الإسلام والعربية
والآن نتحدث عن حقيقة الارتباط الوثيق بين اللغة العربية والإسلام، وأسراره وآثاره. .
إن الواقع التاريخي للغة العربية وللدين الإسلامي - خلال أربعة عشر قرنا - يثبت حقيقة التلازم والارتباط بين انتشار كل منهما وازدهاره بمساعدة الآخر.
هذا إلى جانب حقيقة أخرى واضحة وثابتة هي: إن في كل من الدين الإسلامي واللغة العربية من القوة الذاتية والاستعداد الأصيل ما يكفل له الغلبة والانتصار.
فاللغة العربية - ذاتها - لغة حية أدت رسالتها في الحياة خير أداء، وعبرت في عصورها الأولى عن حاجات المجتمعات التي تتخذها لغة لها تعبر بها عن مطالبها وآلامها وعلومها وآدابها وفنونها، وما زالت مستعدة للتعبير عن الحياة وما جد فيها، ومستعدة أن تتسع أكثر من ذي قبل لكل جديد مبتكر ومخترع حديث كما يقول الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار في كتابه " الفصحي والعامية ".
واللغة العربية أيضا - من أغنى لغات البشر ثروة لفظية تستوعب حاجات الأمة الحسية والمعنوية - كما يقول الأستاذ مصطفى السقا في مقدمة كتاب " المعجم العربي " للدكتور حسين نصار.
والعرب منذ أواخر العصر الجاهلي مهتمون بلغتهم معتزون بتراثها الأدبي، وقد قيل: " الشعر ديوان(1/92)
العرب " ولكن اهتمامهم واعتزازهم بها ازداد مع ظهور الإسلام لأن الله عز وجل اختارها لغة لدينه قرآنا وسنة وعبادة وتشريعا. وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد، ثم تضاعف الاهتمام والاعتزاز باللغة العربية وحفظ التراث اللغوي وتنقيته من الدخيل الأعجمي أثناء الفتوحات الإسلامية وبعدها. وعلى الرغم من أن الاستعمار الغربي كان يعمل لهدم اللغة العربية بحسبانها لسان الدين الإسلامي الذي ما يزال يحاول هدمه بالدعوة إلى استخدام اللهجات العامة لغة للتأليف والكتابة كما فعل اللورد " دفرين " السياسي البريطاني حين طالب بتدوين العلوم باللغة العامية المصرية. وكما حاول المستعمرون الفرنسيون في الجزائر، إلا أن هذه الدعوات والمحاولات الاستعمارية قد باءت بالخيبة والفشل والخسران المبين.
وننتقل الآن إلى الحديث عن أثر الإسلام في انتشار اللغة العربية، وسنروي أقوال بعض أئمة اللغة والأدب مختصرة عن حقيقة التلازم القوي بين انتشار الإسلام بالعربية وانتشار العربية بالإسلام.
ونبدأ بالأزهري الإمام اللغوي المشهور، فهو يقول في مقدمة كتابه " تهذيب اللغة ":
" الحمد لله، على ما أسبغ علينا من نعمه الظاهرة والباطنة، وهدانا إلى تدبر تنزيله، والتفكر في آياته والإيمان بمحكمه ومتشابه، والبحث عن معانيه، والفحص عن اللغة العربية التي نزل بها الكتاب والاهتداء بما شرع فيها، ودعا الخلق إليه وأوضح الصراط المستقيم به، وهداهم إلى ما فضلنا به على كثير من أهل هذا العصر في معرفة لغة العرب التي نزل بها القرآن ووردت سنة المصطفى النبي المرتضى عليه السلام.
هذا النص من مقدمة " التهذيب " لأحد أئمة اللغة الإعلام كاف لأن نتبين الباعث الأساسي على الاهتمام باللغة العربية، وتدوينها وتصحيحها ونشرها ألا وهو " الإسلام " قرآنا وسنة وعبادة وتشريعا.
والقرآن نفسه، قبل كلام الأزهري وأمثاله من علماء اللغة، يؤكد حقيقة هذا الباعث الأساسي للاهتمام باللغة العربية والاعتزاز بتراثها العلمي والأدبي. فقد من الله تبارك وتعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى العرب الذين بعث فيهم ومنهم بقوله عز وجل:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1)
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (2)
{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (3)
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (4) إلخ. . .
فنزول القرآن الكريم بالعربية - كما يتضح من آيات القرآن نفسه - دليل أهميتها وأفضليتها وباعث نهضتها، وصاحب الفضل الأكبر والأثر الأظهر في نشرها وخلودها. وهي - أيضا - لأنها أغنى اللغات بيانا وأقواها برهانا كانت ولا تزال عاملا مساعدا لنشر الإسلام، والإقبال عليه. ويكفي تدليلا على ذلك
__________
(1) سورة يوسف الآية 2
(2) سورة الأنبياء الآية 10
(3) سورة الزخرف الآية 44
(4) سورة النحل الآية 44(1/93)
اختيار الله لها لسانا لدينه العام والأخير، وهو الإسلام ومنه بذلك على العرب خاصة والمسلمين عامة.
وقد روى الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: (لسان العرب أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها ألفاظا، والعلم بها عند العرب كالعلم بالسنن عند أهل الفقه) .
كما نقل عن الإمام ابن تيمية قوله: " إن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا باللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ".
ويقول الأزهري في مقدمته: إن تعلم العربية التي يتوصل بها إلى تعلم ما تجزئ به الصلاة من تنزيل وذكر فرض على عامة المسلمين. وإن على الخاصة التي تقوم بكفاية العامة فيما يحتاجون إليه لدينهم الاجتهاد في تعلم لسان العرب ولغاتها التي بها التوصل إلى معرفة ما في الكتاب (القرآن) ثم في السنة والآثار وأقاويل أهل التفسير من الصحابة والتابعين من الألفاظ الغربية، فإن الجهل بذلك جهل بجملة علم الكتاب إلخ.
ثم يذكر الأزهري أن من أسباب قيامه بتأليف كتابه: النصيحة الواجبة على أهل العلم لجماعة المسلمين كما جاء بها التوجيه النبوي: «الدين النصيحة (1) » أي أن دينه حمله على أن يضع كتابه في اللغة العربية لإفادة الناس ما يحتاجون إليه، والدفاع عن لغة العرب التي جاء بها القرآن، وجاءت بها السنن والآثار. .
ويقول الأستاذ العقاد رحمه الله في مقدمة كتاب " الصحاح " للأستاذ العطار: (ولقد قيل كثيرا إن اللغة العربية بقيت لأنها لغة القرآن. وهو قول صحيح لا ريب فيه، ولكن القرآن الكريم إنما أبقى اللغة لأن الإسلام دين الإنسانية قاطبة وليس بالدين المقصور على شعب أو قبيل. وقد ماتت العبرية وهي لغة دينية أو لغة كتاب يدين به قومه، ولم تمت العبرية إلا لأنها فقدت المرونة التي تجعلها لغة إنسانية، وتخرجها من حظيرة العصبية الضيقة بحيث وضعها أبناؤها منذ قرون) .
ثم يضيف الأستاذ العقاد: " إن هذه الفضيلة الإنسانية التي لا تفرق بين العربي والأعجمي ولا بين القرشي والحبشي، لهي التي أنهضت لخدمة اللغة أناسا من الأعاجم غاروا عليها من حيف الأعجمية - أي أنهم غاروا عليها من لغة أمهاتهم وآبائهم، لأنها لغتهم على المساواة بينهم وبين جميع المؤمنين بالقرآن الكريم كتاب الإسلام ".
ويقول العقاد أيضا: " وستبقى اللغة العربية ما دام لها أنصار يريدون لها البقاء. ولم ينقطع أنصارها في عصرنا الحاضر بل نراهم بحمد الله يزدادون ويتعاونون. ويتلاقى أبناء البلاد المختلفة على خدمتها ودعمها، لأنهم مختلفون بمواقع البلاد متفقون بمقاصد الضمائر والألسنة والأفكار ".
__________
(1) سنن الترمذي البر والصلة (1926) ، سنن النسائي البيعة (4199) .(1/94)
إن العقاد يعني بما قدم: أن إنسانية الإسلام وعالمية تشريعه الحكيم هي التي ساعدت على انتشار اللغة العربية التي هي لغة كتابه " القرآن " الذي وحد في المؤمنين به " مقاصد " الضمائر والألسنة والأفكار، على الرغم من اختلافهم في مواقع البلاد. .
ويقول الدكتور حسين نصار في " المعجم العربي " لم تنهر اللغة العربية بانهيار الدولة الأموية وذلك بفضل القرآن الذي أحاط اللغة العربية بهالة من القداسة والجلال غمرت كل مسلم مهما كان جنسه ومهما كانت لغته، فاستمرت حية تتوارثها ألسنة جيل بعد جيل. وأن السبب المباشر الذي أظهر الدراسات اللغوية هو ارتباطها بالدراسات الدينية، واتحادها في النشأة. . . فقد أنزل القرآن كتاب العربية الأعظم على الرسول العربي الكريم ليدعو قومه إلى سبيل الرشاد فكان بلغتهم وعلى أساليب كلامهم.
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم الصحابة من بعده المرجع في تفسير القرآن، ثم جاءت الحركة العلمية الأولى عند المسلمين التي شملت في مدة وجيزة جميع العلوم التي عرفها العالم القديم، فما اتصل بالقرآن كان أولها ظهورا حيث ظهرت كتب (غريب الحديث) وكان آخر الظواهر التي أمدت الدراسات اللغوية بالروافد ظاهرة التدوين العلمي حيث وضعت معظم العلوم العربية في أواخر العصر الأموي وأوائل العهد العباسي: كعلوم القرآن والحديث والفقه والنحو والرياضة والمنطق والكلام والفلسفة إلخ. . ".
ويقول الأستاذ سيد قطب في كتابه " المستقبل لهذا الدين ": إن انتصار الصليبين في الأندلس وانتصار اليهود في فلسطين. . أعظم شاهد على أنه حين يطرد الإسلام من أرض، فإنه لا تبقى لغته ولا قوميته بعد اقتلاع الجذر الأصيل) .
ويقول أيضا: " إن المماليك - وهم من جنس التتار - حموا من التتار بلاد العرب، مع أنهم ليسوا من جنس العرب، فصمدوا في وجه بني جنسهم المهاجمين دفاعا عن الإسلام، لأنهم كانوا مسلمين. . صمدوا بإيحاء من العقيدة الإسلامية، وبقيادة روحية إسلامية من الإمام المسلم (ابن تيمية) الذي قاد التعبئة الروحية وقاتل في مقدمة الصفوف. . وكذلك حمى صلاح الدين الأيوبي هذه البقعة من اندثار العروبة والعرب واللغة العربية وهو كردي لا عربي. . وهو إنما حفظ لها عروبتها ولغتها حين حفظ لها إسلامها من غارة الصليبيين، لقد كان الإسلام في ضمير صلاح الدين هو الذي كافح الصليبيين، كما كان الإسلام في ضمير المظفر قظز والظاهر بيبرس والملك الناصر هو الذي كافح التتار المتبربرين ".(1/95)
ولغير العرب وغير المسلمين شهادات مماثلة:
يؤكد جورجي زيدان في كتابه (آداب اللغة العربية) تأثير القرآن في أخلاق أهله وعقولهم وقرائحهم ومعاملاتهم. فالصبغة القرآنية أو الإسلامية - كما يقول - تظهر في مؤلفات المسلمين، ولو كانت في موضوعات علمية. . كالفلسفة والفلك والحساب، فضلا عن العلوم أو الآداب الشرعية.
وبعد أن يشير جورجي زيدان إلى تأثير القرآن في حياة المسلمين المعاشية والاجتماعية يقول: ". . وهذا ما لا نراه في الأناجيل - مثلا - فإنها كتب تعليمية لمصلحة الآخرة فقط. ولا نجد فيها شرعا، ولا حكومة ولا أحوالا شخصية. . أو نحو ذلك ". ثم يضيف: " وبالجملة فإن للقرآن تأثيرا في آداب اللغة العربية، ليس لكتاب ديني مثله في اللغات الأخرى ". وجورجي زيدان هذا - كما نعلم - كاتب مسيحي معروف. . فاعترافه بتأثير القرآن على المسلمين خلقا وأدبا ولغة وثقافة، وخلو الكتب الأخرى، ومنها الأناجيل، من هذا التأثير - اعترافه هذا له قيمته الكبيرة، ودلالته الخاصة.
وفي كتاب " اللغات السامية " لأرنست رينان تأكيد آخر لأثر الإسلام في انتشار اللغة العربية، فهو يقول: " إن من أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب حل سره: انتشار اللغة العربية. . حيث بدت فجأة في غاية السلامة والغنى والكمال، فليس لها طفولة ولا شيخوخة. ولم يمض على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم إلى اللغة العربية ليفهمها النصارى ".
كما يقول المستشرق برنارد لويس في كتابه " العرب في التاريخ ":
" إن موجات الفتح الكبرى التي تلت موت محمد - صلى الله عليه وسلم - وإقامة الخلافة على أرس الأمة الإسلامية الناشئة قد سطرت بحروف كبرى كلمة " عرب " على خريطة القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا، وجعلت منها عنوانا لفصل حاسم رغم قصره، في تاريخ الفكر والأعمال البشرية ".
نكتفي بهذه الآراء والنظريات الحاسمة، لبعض أئمة اللغة والأدب والتاريخ - في القديم والحديث - مسلمين وغير مسلمين. . كحجة ساطعة قاطعة على مدى التلازم الوثيق والارتباط الشامل بين انتشار الإسلام بالعربية، وانتشار العربية بالإسلام، لأنها لسانه المبين، ولغته الساحرة، ولأنه هو روحها النافذ وعقلها الرشيد.(1/96)
تآمر الأعداء على اللغة العربية
الذين كادوا للغة العربية كثيرون، من مستشرقين ومستغربين. وغايتهم من ذلك القضاء على وحدة المسلمين التي هي ثمرة التقائهم على لغة واحدة هي لغة " القرآن " ولغة " السنة النبوية " ولغة التراث الحضاري الإسلامي المجيد. .
من المستشرقين المتآمرين على اللغة العربية:
القاضي الإنجليزي " دلمور " الذي عاش في مصر وألف سنة 1902 م كتابا سماه (لغة القاهرة) ووضع فيه قواعد اقترح اتخاذها لغة للعلم والأدب، كما اقترح كتابتها بالحروف اللاتينية. وفي سنة 1926 م دعا " وليم ويلكوكس " مهندس بالري حينذاك في مصر إلى هجر اللغة العربية، وخطا باقتراحه خطوة عملية، فترجم الإنجيل إلى ما سماه باللغة المصرية.
وممن أعلنوا آراءهم في أهمية اللغة وأثرها في وحدة المسلمين وقوتهم: القس زويمر " 1906 " الذي دعا أيضا إلى القضاء عليها تمهيدا للقضاء على الإسلام ووحدة المسلمين، ومثله " وليم جيفورد بالجراف " الذي يقول: " متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في قبول الحضارة المسيحية التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه ".
ويزعم " أرنولد توينبي ": أن اللغة العربية لغة دينية لا تصلح إلا للطقوس والشعائر كالصلاة، وتلاوة القرآن والدعاء.
وهناك المستشرق الألماني " سبيتا " الذي بدأ الدعوة إلى استعمال اللغة العامية لتحل محل العربية سنة 1880 م.
أما العرب المستغربون:
الذين حطبوا في حبل أعداء الإسلام، وكالوا بصاعه فمنهم:
عبد العزيز فهمي عضو المجمع العلمي المصري. . الذي تقدم سنة 1943 م باقتراح لاستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، وشغل المجمع ببحث اقتراحه(1/97)
ثلاث سنوات حتى خصص المجمع جائزة مالية لمن يتقدم بأحسن اقتراح لتيسير الكتابة العربية. .
وسلامة موسى، الكاتب المصري المسيحي المعروف بعدائه للإسلام، الذي أيد اقتراح " ولكوكس " أن تكون هناك لغة مصرية للكتابة والتأليف، وقال: " إن اللغة العربية لغة بدوية، وأنها لغة رجعية متخلفة ".
ورفاعة الطهطاوي. . الذي دعا بعد عودته من فرنسا سنة 1285 هـ إلى استعمال اللغة العامية وتصنيف الكتب بها. ومثله الدكتور لويس عوض الكاتب المصري.
وكذلك سعيد عقل الكاتب اللبناني. . دعا إلى استخدام اللغة العامية، وكتابتها بالحروف اللاتينية قائلا في وقاحة عجيبة: " من أراد لغة القرآن فليذهب إلى أرض القرآن ".
وأحمد لطفي السيد - من مصر - دعا إلى التسامح في قبول المسميات الأجنبية، وإدخالها في اللغة العربية، زاعما أن استعمال المفردات العامية وتراكيبها: إحياء للغة الكلام والخطاب، وأننا بذلك نجعل العامة يتابعون كتابة الحاصة، وخطبهم وأحاديثهم.
ولئلا نطيل نحيل القارئ إلى كتاب " الاتجاهات الوطنية " للدكتور محمد حسين - وكتاب " أباطيل وأسمار " للأستاذ محمد محمود شاكر - وكتاب " تاريخ الدعوة إلى اللغة العامية " للدكتورة نفوسة زكريا سعيد - وكتاب " التبشير والاستعمار " للأستاذين عمر فروخ ومصطفى الخالدي. .(1/98)
لغة عربية جديدة
وفي عام 1393 هـ " 1973 م " انعقد في برمانا في لبنان مؤتمر ضم عددا من أساتذة الجامعات في أمريكا وأوروبا والبلاد العربية. وبحث فيه اقتراح فرنسي قدمه جاك بيول، وأندريه رومان، ورولان مانيه. . بإيجاد لغة عربية جديدة تكون مفرداتها هي المفردات الأكثر تداولا بين الناطقين بالضاد. . أي استعمال اللهجات العامية الدارجة، وذلك بحجة أن " الاستعمال هو السيد الذي يفرض نفسه ".
وهكذا يتكرر الزعم الفاسق بأن الفصحى لا تستجيب للحضارة الحديثة، ولا تستوعبها، وأنها عسيرة على الذين يتعلمونها، ولا بد من استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، وكتابتها باللهجات العامية الدارجة. . وقد قام فريق من الأدباء العرب بتأليف الكتب، ونظم الأشعار، وكتابة القصص باللهجات(1/98)
العامية تطبيقا لهذه الدعوة الماكرة، ومظاهرة لدعاتها الكائدين للإسلام والعربية، ومحاولة لإقناع الجماهير بأن اصطناع اللغة العامية في الأدب العربي والصحافة العربية. . إنما هو اعتراف بحقها - أي الجماهير - في العلم والفهم، وفي التأثر بالرأي العام والتأثير فيه.
والدعاة الآخرون إلى الشعر الحر، والشعر المرسل. . المنتقدون لقواعد القصيد العربي ونظام الوزن والقافية - ليسوا بعيدين عن ميدان التآمر على اللغة العربية وبلاغتها المؤثرة، وأدبها الممتع.
وليس أدل على خطأ هذه الدعوات والمحاولات، وخداع حملتها وافترائهم وزروهم، من الحقائق والتجارب العلمية والتربوية التالية: -
أولا: أن ما تتهم به العربية من تقصير ليس في ذاتها، وإنما التقصير الحقيقي هو في نفر من المدرسين الذين يتولون تدريسها للطلاب في المعاهد والكليات، ويؤلفون فيها كتبهم ومراجعهم (كما يقول الدكتور عمر فروخ) .
ثانيا: أن أحد أسباب الصعوبة التي يجدها الأطفال في تعلم اللغة العربية: هو فرض لغة أجنبية عليه في المدرسة في سن مبكرة، وأن ازدواجية اللغة في هذه السن الباكرة هي الخطر الحقيقي الذي تتجنبه كل دول العالم، فاللغة الأجنبية يمكن تعلمها عند الحاجة إليها في ثلاث شهور، كما يقول أحد رجال التربية في لبنان " في مجلة الحوادث عام 1973 م ".
ثالثا: أن اللغة العربية حفظت التراث العالمي، والعلمي بالذات، واستوعبتهما قرونا طويلة من الزمن؛ فكيف تعجز الآن عن القيام بنفس الدور؟ .
رابعا: إن ثمة مصاعب تواجه كل لغة في العالم، وثمة طرق وأساليب للتغلب على تلك المصاعب، أهمها: بالتأكيد تطوير طرق تدريس اللغة وتعلمها.
خامسا: يقول الكاتب الإنجليزي " هكسلي ": إن كتابة العلوم والآداب باللغة العامة يضعف المواهب العلمية، ويقضي على ملكة الإنشاء الفصحى. لذلك ينبغي أن نرقي بعقول العامة إلى فهم لغة العلم والأدب العالية. . لا أن ننزل بالعلماء والأدباء إلى مستوى العامة.
ومع يقيننا الثابت بخسران هذه المحاولة اللئيمة في معركتها الفاشلة ضد اللغة العربية، لغة القرآن ولغة(1/99)
الدين الإسلامي، خسرانها اليوم وغدا كما خسرت بالأمس القريب والبعيد، إلا أننا لا نجد بدا من وقفة قصيرة، نرد فيها الشبهة التي يختلقها الدعاة المتآمرون، حول مقدرة اللغة العربية وكفايتها وبلاغتها، وتفضح - إلى جانب ذلك - ما تقتضيه دعوتهم المنكرة من تخريب للمجد الأدبي العربي، وتذويب للشخصية العربية الأصيلة لغة وأدبا وتاريخا وحضارة.
إن الدفاع عن اللغة العربية الفصحى: هو دفاع عن القرآن، وعن الدين الإسلامي: قرآنه، وحديث رسوله، وتاريخه، وتراثه الفقهي، وذخائره الفكرية والأدبية الخالدة الماجدة. .
واللغة العربية التي حملت هذا الميراث الضخم الفخم المتطاول على الزمن من حضارة الإسلام الدينية والفكرية والعلمية منذ أربعة عشر قرنا - لا يعجزها بل لم يعجزها فعلا أن تمضي في رسالتها البيانية والتاريخية وإلى الأبد الأبيد.
أما أنها عسيرة على الذين يتعلمونها، فهذا شأن كل لغة أجنبية يتعلمها من هو من غير أهلها. فاللغة الإنجليزية أو الفرنسية - مثلا - عسيرة على الذين يتعلمونها من العرب لكثرة ما فيها من شواذ في القاعدة، والنطق، والكتابة. . وهو ما لا يوجد في العربية مثيله أو نظيره.
أما عواقب التذويب والتخريب، التي يقتضيها استعمال اللغة العامية في كل قطر عربي، بديلا عن اللغة الفصحى - فيأتي في مقدمتها الانفصال التام بين شعوب البلاد العربية، لأن كل شعب منها سيقتصر على لغته المحلية تفاهما وتعاملا، وتعليما وصحافة وتأليفا، فيتعذر اللقاء بين الشعوب العربية على علم أو أدب أو تعامل أو فكر أو عمل. وهذا ما تريده " الصليبية الاستعمارية " فصما للوحدة العربية التي وسيلتها اللسان العربي، وقوامها الدين الإسلامي.
ونقول: إن قوام الوحدة العربية: هو الدين الإسلامي، لأنه لا يمكن فصل الإسلام عن اللغة العربية ولا عن الأمة العربية التي أعزها الله بالإسلام، والتي لا يمكن أن تحيى مجيدة سعيدة إلا في ظله الكريم العزيز.
ومن عواقب التخريب والتذويب، لهذه المؤامرة الماكرة الخاسرة: إهمال جميع الكتب العربية القديمة والحديثة - المؤلفة بالفصحى بما في ذلك مراجع العقيدة والشريعة، وعلى رأسها القرآن والسنة، والقيام - من جديد - بوضع كتب باللغة العامية أو بالحرف اللاتيني، والتدريس في المدارس والمعاهد والكليات، على الطريقة الجديدة، بعد إلغاء المناهج الحالية، وتخريج معلمين ومدرسين على النظام العامي أو النظام اللاتيني! !(1/100)
وبعد فإن اللغة العربية التي وسعت كتاب الله (لفظا وغاية) كما قال " حافظ إبراهيم " ووسعت أيضا حضارة الإسلام خلال أربعة عشر قرنا: علما وأدبا وفكرا وتاريخا، واستطاع علماء العرب ومفكروهم ومترجموهم - قديما - أن يستولدوها كلمات ومعاني جديدة من لغات أخرى، عن طريق التعريب والاشتقاق. . .
هذه اللغة الولود الودود، الغنية السخية ليست عاجزة عن مسايرة ركب العلم الحديث، وإنما أبناؤها العاقون هم العاجزون. وهم الذين يخربون بيوتهم بأيديهم، ويطفئون نور حضارتهم بأفواههم، ويطمسون معالم شخصيتهم العربية الإسلامية الأصلية بآرائهم المنحرفة.
إلا أن المتآمرين على الإسلام، ولغته، وتراثه الحضاري المجيد الرشيد: هم الخاسرون. . .(1/101)
الأستاذ أحمد محمد جمال
عضو مجلس الشورى. . بالمملكة العربية السعودية.
أستاذ الثقافة الإسلامية في جامعة الملك عبد العزيز منذ تأسيسها عام 1387 هـ.
عضو اتحاد المنظمات الإسلامية العالمية.
عضو اللجنة الثقافية العاملة برابطة العالم الإسلامي.
من مؤلفاته:
محاضرات في الثقافة الإسلامية
مفتريات على الإسلام
على مائدة القرآن أربعة أجزاء
مكانك تحمدي
استعمار وكفاح
نحو سياسة عربية صريحة
كرائم النساء.
من مواليد عام 1343 هـ.(1/102)
مقارنة بين أسلوب الحديث النبوي
وأسلوب القرآن الكريم
مصطفى أحمد الزرقا (1)
الفرق عظيم جدا بين أسلوب الحديث النبوي وأسلوب القرآن في طريقة البيان العربي. فبينهما شقة واسعة لا يشبه أحدهما الآخر لدى أهل البصر باللغة وأساليبها، وبالمأثور المألوف من بيانها قديمه وحديثه.
وإن هذا التفاوت الكبير في الأسلوبين إذا أنعم الإنسان فيه النظر وكان ذا ملكة بيانية لا يترك لديه مجالا للشك والريبة في أن الحديث النبوي والقرآن صادران عن مصدرين مختلفين.
فالحديث النبوي كما سنرى في نصوصه التي سنعرض أمثلتها قريبا جاء كله على الأسلوب المعتاد للعرب في التخاطب، تتجلى فيه لغة المحادثة والتفهم والتعليم والخطابة في صورها ومناهجها المألوفة لدى العرب، ويعالج جزئيات القضايا والمسائل ويجيب عنها، ويحاور ويناقش كما يتخاطب سائر الناس بعضهم مع بعض. ولكن يتميز من الكلام العربي المألوف بأن فيه لغة منتقاة غير نابية. وأن فيه إحكاما في التعبير وجمعا للمعاني المقصودة بأوجز طريق وأقربه دون حشو، مما استحق به التسمية بجوامع الكلم. فهو كلام عربي من الطراز المعتاد المألوف ولكنه على درجة عليا من أساليب البلغاء المعهودة.
أما أسلوب القرآن فهو أسلوب مبتكر لا يجد الناظر فيه والسامع شبيها له فيما يعرف من كلام العرب
__________
(1) تعريف. .: الدكتور مصطفى أحمد الزرقاء رئيس الموسوعة الإسلامية بالكويت سابقا.(1/103)
وأساليبهم. يعالج الكليات، ويفرض الأحكام، ويضرب الأمثال، ويوجه المواعظ، في عموم لا تشبهه العمومات المألوفة، وخطاب فيه من التجريد ما يجعل له طابعا منقطع النظير.
وإذا أخذ كتاب تاريخ وقورن بما في القرآن من قصص تاريخي لما وجد أيضا بينهما شبه في الأسلوب ولو أنهما عالجا قصة واحدة.
ولو أخذ كذلك كتاب مواعظ وأخلاق وقورن بما في القرآن من مواعظ لما كان بينهما أيضا شبه أصلا في الأسلوب ولو اتحد الموضوع.
وهكذا لا يمكن أن يجد الباحث كلاما أو كتابا في اللغة العربية يمكن أن يتحد أو يتشابه أسلوبه وأسلوب القرآن. فهو صورة جديدة مبتكرة في البيان العربي جارية على قواعد العرب وطريقتهم في التركيب، ولكنه يختلف عنها كل الاختلاف فيما نسميه بالأسلوب، بحيث إنك لو خلطت سورة أو جملة آيات بمجموعة أخرى من كلام العربي لاستطعت أن تميزها منها بسهولة.
(أما الحديث النبوي فأسلوبه يختلف كل الاختلاف عن أسلوب القرآن ويمكن أن يشتبه أسلوبه بأساليب البلغاء ولذلك كثيرا ما توضع الأحاديث كذبا على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث لفظها ومعناها على السامع العادي ولهذا كان التحقق عن صحتها لدى رجال الحديث يكاد ينحصر في البحث عن السند) .
ومن المسلم به لدى أهل البصر الأدبي أنه من المتعذر على الشخص الواحد أن يكون له أسلوبان في بيانه يختلفان اختلافا كبيرا أحدهما عن الآخر ويجري كل منهما في ذاته على نسق متشابه لا يختلف في درجة بلاغته وطريقته، ويختلف عن أسلوبه الآخر اختلافا كليا، فهذا مما لم يعهد في التاريخ الأدبي المعروف. بل إذا أراد أحد الكتاب أن يخرج عن الأسلوب الذي هو متميز فيه إلى أسلوب آخر فلا بد أن يظهر فيه التكلف، ولا يمكن أن يتقن ذلك الأسلوب الثاني، فما بالك بهذا التفاوت الكلي بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث؟ .(1/104)
فمن يتوهم من الأجانب أن القرآن هو مجموعة من تأليف النبي عليه السلام إلى جانب أحاديثه إنما منشأ وهمهم هذا عدم إمكانهم أن يتذوقوا الفارق العظيم بين الأسلوبين لكي يعرفوا إمكان وحدة المصدر فيهما أو اختلافه.
هذا الاختلاف الواسع المدى بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي الذي يوجب الحكم باختلاف مصدرهما يتجلى واضحا لكل ذي إدراك في الأسلوب العربي وذوق في لسان العرب من المقارنة بالأمثلة الواردة منهما في موضوع واحد.
فلو أننا أخذنا من القرآن آيات، ومن الحديث النبوي أحاديث في موضوع تلك الآيات نفسه، لرأينا بهذه المقارنة من اختلاف الأسلوبين الحاكم باختلاف المصدر ما فيه البرهان الكافي:
1 - فلنأخذ مثلا قول الحق جل وعلا في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1)
ولننظر مقابله في المعنى نفسه قول النبي عليه الصلاة والسلام.
«لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم (2) » .
2 - ولنأخذ مثلا في موضوع الإخاء في الدين قول الله العظيم في سورة الحجرات:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3)
ولننظر مقابله في نفس المعنى قول النبي عليه السلام.
«المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه (4) » .
ومعنى (يسلمه) أن يتركه لعدوه فلا يحميه ولا يمنعه منه.
3 - ولنأخذ أيضا قول الخالق العظيم في موضوع الإخاء الإنساني العام والتآلف والتفاضل والصلاح، لا بالعرق والنسب، ولا بالمال والنسب:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (5)
ولننظر في المعنى نفسه أقوال النبي عليه السلام التالية.
«أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/390) .
(3) سورة الحجرات الآية 10
(4) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) ، مسند أحمد بن حنبل (2/91) .
(5) سورة الحجرات الآية 13(1/105)
لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر (2) » .
«من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه (3) » .
«المؤمن آلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف (4) » .
4 - ولنأخذ أيضا قول الله سبحانه في ارتباط صلاح الحياة الاجتماعية بنظام العقوبة على الجنايات:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (5)
ولننظر في مقابله قول النبي - عليه السلام.
«إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين صباحا (6) » .
5 - ولنأخذ أيضا قوله سبحانه في وجوب أداء الأمانة والحكم بالعدل:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (7)
ولننظر في مقابلة أقوال النبي عليه السلام.
«أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك (8) » .
«ما من أحد يكون على شيء من أمور هذه الأمة فلم يعدل فيهم إلا كبه الله في النار» .
«لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق ولا يأخذ الضعيف حقه من القوي غير متعتع (9) » .
وهكذا إذا تقصينا الموضوعات والمعاني التي وردت في القرآن وفي الحديث معا نجد بينهما في الأسلوب العربي هذا البون الكبير الذي يجزم معه كل ذي بصر وإنصاف أن شخصا لا يمكن أن يصدر عنه هذان الأسلوبان معا، ولكل منهما طابعه الخاص البعيد كل البعد عن الآخر، وكل منهما في ذاته وفي جميع أمثلته ونصوصه متشابه لا يختلف، بل يجري على غرار واحد فيحافظ على طريقته المتميزة، وعلى اختلافه عن غيره ذلك الاختلاف الكبير.
وإنه ليتجلى من هذه الأمثلة المقارنة ومن نظائرها ما أشرنا إليه آنفا من أن أسلوب الحديث النبوي هو أسلوب التخاطب العادي المألوف بين العرب في بيانهم وأحاديثهم ومحاوراتهم وحكمهم وأحكامهم ووصاياهم، ونصائحهم، لا يخرج عن هذا السنن المألوف بينهم، وإنما يمتاز بأنه من جوامع الكلم ومن حكيم البيان
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/411) .
(2) (1) على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (2/400) .
(5) سورة البقرة الآية 179
(6) سنن النسائي قطع السارق (4905) ، سنن ابن ماجه الحدود (2538) ، مسند أحمد بن حنبل (2/402) .
(7) سورة النساء الآية 58
(8) سنن أبو داود البيوع (3534) ، مسند أحمد بن حنبل (3/414) .
(9) القدس بضمتين: الطهر (المصباح المنير) أي لا تطهر وتتنزه من العلل والمفاسد.(1/106)
وفصيح اللغة، وبخلوه من الحشو ومن الصور الخطابية العاطفية التي تعتمد على العاطفة وحدها دون العقل.
وبتعبير آخر: أنه يتجلى في أسلوب الحديث النبوي العقل الناطق بأبلغ وأوجز تعبير معتاد. أما أسلوب القرآن فيتجلى فيه الابتكار الذي لم يعهد له مثيل، ولا يشبهه شيء من كلام العرب في طرائق بيانه ومناهج خطابه.(1/107)
اختلاف الأسلوب ينم عن اختلاف الذاتية
هذا وإذا كان كل أسلوب بياني يشف عن ذاتية وشخصية في المتكلم فمن وراء ذلك التفاوت العظيم في أسلوبي القرآن والحديث النبوي من الوجهة البيانية يستشف القارئ والسامع تفاوتا أعظم منه في هذه الذاتية التي ينبئ عنها الكلام.
فعندما تسمع القرآن تتجلى لك من خلال آياته ذاتية تتكلم من جو علو وقوة، وسطوة، وقدرة، وحكمة ورحمة. وهذه الذاتية القوية العظمى التي تتجلى من وراء أسلوب القرآن لا تضعف حتى في المواطن التي تعبر فيها عن الرحمة، وأن قوتها واحدة في جميع سوره وآياته. فهي دائما ذاتية جبارة قادرة منتقمة عادلة حكيمة رحيمة، آخذة بزمامين من الترغيب والترهيب، ذات سلطان مطلق.
فانظر وتصورها مثلا من خلال نحو الآيات التالية:
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (1)
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (2)
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (3)
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (4)
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (5)
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (6)
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} (7) {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (8)
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (9) {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (10) {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (11)
__________
(1) سورة البقرة الآية 257
(2) سورة الإسراء الآية 16
(3) سورة الإسراء الآية 23
(4) سورة الحجر الآية 9
(5) سورة البقرة الآية 255
(6) سورة الأنبياء الآية 107
(7) سورة فاطر الآية 44
(8) سورة فاطر الآية 45
(9) سورة الحشر الآية 22
(10) سورة الحشر الآية 23
(11) سورة الحشر الآية 24(1/107)
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} (1) {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (2) {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (3)
أما الحديث النبوي فإنك تشعر من وراء أسلوبه بشخصية بشرية، وذاتية يعتريها الضعف والقوة فكثيرا ما تشعر من أسلوب الحديث النبوي بشخصية تعتز بهذا الضعف الذاتي أمام الله، إلى جانب اعتزازها بقوة الأمانة والثقة بالحق، ففيها ضراعة البشر وتواضع الزهاد، إلى جانب حكمة العلماء وقوة المبلغين الأمناء. فانظر وتصور هذه الشخصية في لون قوتها من خلال قول الرسول عليه السلام لعمه أبي طالب حينما هددته قريش فنصحه بترك الدعوة.
قال - صلى الله عليه وسلم: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما فعلت حتى يظهره الله أو أهلك دونه» .
وتصورها في شعورها بالضعف الذاتي من خلال الأدعية المأثورة عن النبي عليه الصلاة والسلام في مناجاة ربه، كقوله بعدما خرج لدعوة ثقيف وعاد بالأذى والخذلان؟
وقال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السماوات والأرض، وأشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن تحل علي غضبك أو تنزل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» .
وقال: «اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها شملي وتلم بها شعثي وترد بها الفتن عني (4) » .
وبعد فهذه مقارنة بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي إنما نقصد بها الموازنة بين الأسلوبين من الناحية العربية البيانية فقط، وما توحي به من اختلاف الذاتية والشخصية مما يدل على اختلاف المصادر دون النظر إلى النواحي التي يذكرها العلماء والأدباء الباحثون في وجوه إعجاز القرآن المتعددة لأنها تخرج عن موضوعنا هنا.
__________
(1) سورة يس الآية 77
(2) سورة يس الآية 78
(3) سورة يس الآية 79
(4) (أقضية الرسول) للقرطبي ص 123.(1/108)
محمد محمد خليفة
كعب بن مالك
شاعر السيف والقلم
كلمة بين ضجيج معاركنا الضارية مع الصهيونية، وفي غمرة الكفاح الرهيب لاسترداد المقدسات، وإعلاء كلمة الله، واسترجاع ما اغتصب من الأرض، ومع خفقات الألوية التي جمعتها كلمة التوحيد والتقت تحتها أصداء أصوات المجاهدين: الله أكبر الله أكبر، بين ذلك ومع هذا نقدم شاعرنا الذي جمع بين السيف والكلمة المثيرة المصورة في جهاده تحت راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبلى بلاءه مع الغازين في فتوحات الإسلام لتكون كلمة الله هي العليا.
نسبه: هو كعب بن مالك بن أبي كعب، واسم ابن أبي كعب عمرو بن القين بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة ويكنى: أبا عبد الله وأبا عبد الرحمن، وأمه ليلى بنت زيد بن ثعلبة من بني سلمة، وينتهي نسبه إلى الخزرج، والخزرج والأوس الذين سكنوا المدينة ينتهي نسبهم إلى ثعلبة العنقاء بن عمرو بن عاص بن ماء السماء. وفي عامر بن ماء السماء يلتقي نسبهم مع قبيلة خزاعة التي سكنت مكة، ومع الغساسنة الذين ملكوا الشام، ومع المناذرة الذين ملكوا الحيرة. وكل أولئك نزحوا من اليمن واستوطنوا بعض جزيرة العرب. وهم من أصل قحطاني. فشاعرنا هذا من أصل يمني قحطاني.(1/109)
ولد كعب بن مالك في المدينة قبل هجرة الإسلام إليها، وكان مولده في فترة اشتعلت فيها الحروب بين الأوس والخزرج، فتفتحت عين الوليد أول ما تفتحت على غبار المعارك يملأ دروب المدينة وتغص به بطاحها، وعلى منظر الدم تسفكه الأحقاد، وتشتفي به الأنانية، وسمع أول ما سمع صليل السيوف وصهيل الخيول وصيحات الإهابة والتحريض والإثارة وأناشيد الفخر ومقطوعات المراثي وأنات الثكالى وبكاء اليتامى.
واشتد عوده بين الملاحم التي شهدها أو سمع أقاصيصها من أيام الأوس والخزرج وما أكثرها ومن بينها يوم بعاث، ويوم سميحة، ويوم الدرك، ويوم الربيع، ويوم البقيع.
وكم سمع من أبيه مالك بن أبي كعب الشاعر صورا لتلك الأيام وما قيل فيها، وكم سمع من عمه قيس بن أبي كعب ما جادت به عبقريته الشاعرة في تلك المعارك.
فلم يكن بدعا وقد نشأ في بيت الشعر والفروسية وبين تلك الملاحم أن يكون أحد أرباب السيف والقلم من شعراء العروبة.
ولم يكن بدعا وهذا بيته أن نرى ابنه عبد الرحمن شاعرا وأن نرى ابن ابنه بشير بن عبد الرحمن شاعرا كذلك فهو واسطة العقد في بيت الشعر.
ولم يكن بيت كعب وحده في المدينة هو الذي اختص بين بيوتها بقول الشعر، بل كل البيوت تفيض بالمشاعر والأحاسيس، وتتدفق بالقوافي، وذلك ما يرويه أنس بن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول: قدم علينا الرسول عليه الصلاة والسلام وما في الأنصار بيت إلا وهو يقول الشعر، فقيل له: وأنت أبا حمزة؟ قال: وأنا.
فكعب وهو ينشأ ويعيش في المدينة في وسط هذا المجتمع الشاعر وبين الملاحم المثيرة خليق به أن يكون شاعرا بل أن يكون مجيدا لأن للبيئة والوراثة أثرهما.
دين المجتمع المدني:
تقاسمت ذلك المجتمع الوثنية واليهودية فالوثنية يدين بها العرب من الأوس والخزرج وغيرهما ممن يعيشون في يثرب من القبائل العربية، واليهودية يدين بها بنو النضير وبنو قريظة، وبنو المصطلق وغيرهم من اليهود الذين يعيشون في المدينة وحولها.
ودان كعب كقومه بالوثنية.(1/110)
ظهور الإسلام وانتشاره في المدينة
ظهر الإسلام أول ما ظهر في مكة ودعا محمد - صلى الله عليه وسلم - قومه فآمن بدعوته من شرح الله صدره للإسلام ثم راح يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج (وكان العرب يقدمون الكعبة ويحجون إليها في كل عام بعد مواسم الأسواق التي كانوا يشهدونها) ، وشاء الله أن يلتقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة بستة من الخزرج عند العقبة فعرض عليهم دعوة الإسلام فقبلوها، ولما قدموا المدينة عرضوها على أقوام ففشت بينهم حتى كانت أحاديث بيوت المدنيين.
وفي العام الذي يليه التقى في الموسم في مكة (عند العقبة) اثنا عشر رجلا من الأوس والخزرج برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعوه وكانت هذه بيعة العقبة الأولى، وأرسل معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف ليقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، ويصلي بهم.
وأمن بالإسلام في هذه السنة الكثير من الأوس والخزرج ومن بينهم شاعرنا (كعب بن مالك) .(1/111)
أول لقاء الشاعر برسول الله
ولما كان العام التالي خرج اليثربيون إلى الحج وبينهم كثرة من المسلمين فلما استقر بهم المقام خرج كعب بن مالك في صحبة البراء بن معرور يسألان عن (محمد) وما كانا يعرفانه فلقيهما رجل من أهل مكة فسألاه عنه فقال لهما: هل تعرفان العباس بن عبد المطلب؟ قالا: نعم، حيث كان يقدم على المدينة تاجرا، قال المكي: إذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس، قال كعب: فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس معه، فسلمنا، ثم جلسنا إليه.
فقال رسول الله للعباس: هل تعرف الرجلين يا أبا الفضل؟ .
قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك.
قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم: الشاعر؟
قال: نعم (وهذه شهادة لشاعرية كعب يشهد له بها من أوتي جوامع الكلم) .
ثم واعد المسلمون من الأوس والخزرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على اللقاء عند العقبة ليلا في أواسط أيام التشريق فلما كانت الليلة الموعودة خرجوا يتسللون إلى العقبة وعددهم ثلاثة وسبعون رجلا ومعهم امرأتان هما: نسيبة بنت كعب وأسماء بنت عمرو، ووافاهم الرسول مع عمه العباس (وكان على دين قومه) .(1/111)
وتكلم العباس فقال: إن محمدا منا في عز من قومه ومنعه في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه.
فقالوا له: سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله.
فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.
فأخذ البراء بن معرور يده، ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنك مما تمنع منه أزرنا (كناية عن النساء) فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة (السلاح) ورثناها كابرا عن كابر.
فقال أبو الهيثم بن التيهان: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها (يعني اليهود) فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا، فتبسم الرسول وقال: بل الدم الدم والهدم الهدم (أي ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم) أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم.
ثم هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكد يقر قراره في المدينة حتى آخى بين المهاجرين والأنصار وكان نصيب كعب بن مالك (شاعرنا) من تلك المؤاخاة أخوته لطلحة بن عبيد الله.(1/112)
الغزوات التي شهدها كعب
وحينما بدأ الرسول صلوات الله وسلامه عليه غزواته ليحق الحق ويبطل الباطل، كان كعب بن مالك واحدا من أولئك البواسل الذين خاضوا مع الرسول غزواته في سبيل الله إلا غزوة بدر وتبوك، وذلك ما يحدث به كعب نفسه فيقول: ما تخلفت عن غزوة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط غير أني كنت قد تخلفت في غزوة بدر، وكانت غزوة لم يعاقب رسول الله أحدا تخلف عنها، وتخلفت في تبوك وكنت قويا ميسورا. .!
وشهد كعب بن مالك غزوة أحد وأبلى فيها أحسن البلاء، وكان قد لبس لأمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولبس الرسول لأمته، وقد جرح كعب في أحد أحد عشر جرحا وثبت على الرغم من جراحه وحينما صاح الكفار: قتل محمد، ودقت الصيحات أسماع كعب راح يفتقد القتلى والجرحى فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - ورأى عينيه تزهران (تضيئان) من تحت المغفر، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا(1/112)
هذا رسول الله، فأشار إليه الرسول: أن أنصت، فلما عرف المسلمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهضوا به.(1/113)
ما نزل فيه من القرآن
لقد أنزل الله في شأن كعب بن مالك قرآنا بعد تخلفه عن غزوة تبوك التي كانت بين المسلمين والروم، وكانت في الصيف حيث الحر والجدب، وحيث يهيم الناس بالأفياء ويهرعون إلى الظلال.
وقد روى ابن إسحاق عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، وكان يقود أباه حين أصيب بصره فحدثه حديث تخلفه عن تبوك قال:
كان من خبري حين تخلفت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك: أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، وتجهز رسول الله وتجهز المسلمون معه، وجعلت أغدو لأتجهز معهم فأرجع ولم أقض حاجة، ثم يقول: وجعلت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطفت فيهم يحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا (مطعونا عليه) في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك.
فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟
فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه.
فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا منه إلا خيرا.
فسكت رسول الله فلما قفل الرسول من تبوك دخل المسجد وصلى ركعتين، ثم جاءه المخلفون، فجعلوا يحلفون له ويعتذرون فيقبل منهم، حتى جلس كعب بين يديه.
فقال له الرسول: ما خلفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك؟
قال كعب: قلت: يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم كذبا لترضين عني، وليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديثا صدقا تجد علي فيه، إني لأرجو عقباي من الله.
فقال الرسول: قم حتى يقضي الله فيك، وكان معه في مثل موقفه: مرارة بن الربيع، وهلال بن أبي أمية.(1/113)
وكان كعب بن مالك بعد ذلك يخرج إلى الصلوات، ويطوف بالأسواق، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام قد نهى المسلمين عن كلام هؤلاء الثلاثة، ولكن كعب بن مالك كان يصلي في المسجد مع الرسول، ويسارقه النظر والرسول يعرض عنه، وطالت مقاطعة المسلمين لهم.
ولما علم ملك غسان بذلك أرسل إلى كعب يطلب منه النزوح إلى الشام ليعيش في كنفه حيث يلتقي بملك غسان نسبا في عامر بن ماء السماء، ولكن كعبا أحرق الرسالة.
وبعد انقضاء أربعين يوما على تلك المقاطعة جاءه رسول رسول الله يبلغه أن الرسول يأمره باعتزال زوجته، فاعتزلها، وبعد انقضاء خمسين يوما من بدء المقاطعة ضاقت فيها نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وكان قد ابتنى خيمة له في ظهر سلع.
سمع صوتا يناديه: يا كعب بن مالك أبشر، فخر ساجدا لله، ثم نزل إلى المسجد فتلقاه الناس في طريقه بالفرح والتهنئة حتى سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فقال له الرسول: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك.
قال كعب: قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟
قال الرسول: بل من عند الله.
قال كعب: يا رسول الله إن توبتي إلى الله أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله.
قال الرسول: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك، ثم تلا الرسول:
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (3)
وبهذا تاب الله على كعب بن مالك وصاحبيه بعد عذاب نفسي قضوا فيه خمسين يوما بل عانوا منه منذ خروج الرسول إلى تبوك وتخلفهم عنه حتى ضاقت عليهم الأرض وضاقت عليهم أنفسهم، وكانت توبة الله عليهم فأخرجتهم من الضيق إلى فرج الحياة يعيشون فيه مع الصادقين المتقين.
__________
(1) سورة التوبة الآية 117
(2) سورة التوبة الآية 118
(3) سورة التوبة الآية 119(1/114)
روايته الحديث
روى كعب بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا من الأحاديث، وكل بني كعب قد روى عنه ما سمعه وما رآه من أفعال الرسول.
ومما رواه حفيده عن أبيه أن كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال.
«والذي نفسي بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل بما تقولون لهم من الشعر (1) » .
(وكأنما يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن هجاء كعب وحسان وابن رواحة لقريش - حين عبأت شعراءها لهجائه فعبأ الرسول لهم هؤلاء - كأنما يرى في هجائهم لقريش قوة فتك النبال في النيل من النفوس) .
وربما كان طعن النفس أشد أثرا من طعن الجسد.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/456) .(1/115)
مواقفه من الفتنة الكبرى
كانت الفتنة التي مني بها المسلمون في عهد عثمان أخطر فتنة مزقت وحدة المسلمين في بدء قيام أمتهم الكبيرة.
وكان بين كعب وعلي حوار في أمر عثمان وقتله، ولم يقتنع برأي علي فاعتزله:
وله شعر يحرض فيه الأنصار على نصرة عثمان ويؤنبهم على خذلانهم له ومنه قوله:
فلو حلتم من دونه لم يزل لكم ... مدى الدهر عز لا يبوح ولا يسري
ولم تقعدوا والدار كاب دخانها ... يحرق فيها بالسعير وبالجمر
وكان كعب أحد من عاون عثمان على المصريين وشهر سلاحه، فلما ناشد عثمان الناس أن يغمدوا سيوفهم انصرف كعب، ولم ير أن الأمر يخلص إليه، ولا يجترئ القوم على قتله، فلما قتل وقف كعب على مجلس الأنصار في مسجد الرسول فأنشد:
من مبلغ الأنصار عني آية ... رسلا تقص عليهم التبيانا
حتى يقول:(1/115)
حتى إذا خلصوا إلى أبوابه ... دخلوا عليه صائما عطشانا
الله يعلم أنني لم أرضه ... لكم صنيعا يوم ذاك وشانا
والله لو شهد ابن قيس ثابت ... ومعاشر كانوا له إخوانا
وأبو دجانة وابن أقرم ثابت ... وأخو المشاهد من بني عجلانا
قوم يرون الحق نصر أميرهم ... ويرون طاعة أمره إيمانا
وقد عمر كعب حتى مات في خلافة معاوية.(1/116)
كعب بن مالك أحد شعراء الرسول
كان كعب بن مالك أحد الشعراء المخضرمين وهو من شعراء المدر الذين عاشوا في المدينة فتأثروا، بأجوائها وطبيعتها وما في مجتمعاتها، وما اكتسبته من وقوعها في طريق تجارة الجزيرة العربية والشام وكان واحدا ممن شدوا بالشعر من أهل المدينة، فلما أسلم كان أحد شعراء الرسول الذين نافحوا ووهبوا ألسنتهم للذود عنه وهم حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، وتولى ابن رواحة تعيير قريش بالكفر وعبادة ما لا يضر ولا ينفع، أما حسان وكعب فقد أخذا يعارضان شعراء قريش، ويردان على ما يقولون في المعارك والأيام، ويذكران مثالب قريش، وكانت قريش قد عبأت لهجاء الرسول: عبد الله بن الزبعرى، وأبا سفيان بن الحارث وضرار بن الخطاب، وعمرو بن العاص.
ولم تنم شاعرية كعب عن هجاء قريش قبل إسلامها، كما لم تهدأ عن هجاء يهود المدينة بعد أن نقضوا عهودهم وغدروا وخانوا، كما كان لشاعرية كعب أثرها في إرهاب قبائل العرب التي لم تسلم.
ومن شر ما قيل في قريش قول كعب:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... فليغلبن مغالب الغلاب
(والسخينة طعام من اللبن أغلظ من الحساء) وقد عيرت به قريش حتى سموا سخينة، ولما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت قال: لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا.
وقد حدثوا أن قبيلة دوس أسلمت خوفا من المسلمين حينما بلغها قول كعب:
قضينا من تهامة كل وتر ... وخيبر ثم أغمدنا السيوفا
نخيرها ولو نطقت فقالت ... قواطعهن: دوسا أو ثقيفا(1/116)
موضوعات شعره في الإسلام
كان أهم ما خاضت فيه شاعرية كعب من موضوعات شعره في الإسلام هو الغزوات والمراثي، وخلال هذين الغرضين ساق الفخر والرد على المعارضين من شعراء قريش وتناول الهجاء وإن كان لم يصل فيه إلى الأعماق كما وصل حسان، كما توعد وهدد الشانئين، وحينا نراه في بعض أبياته مؤرخا، وحقائق التاريخ لا تجتمع مع الجمال الفني الذي يتطلبه الشعر، وكثيرا ما حرض، وأثار النفوس إلى البذل وذلك في تصويره للغزوات، وقدم في مراثيه مشاعر النفس الحزينة الجريحة حين يبكي أخا مسلما وأروع ما قدم في ذلك السبيل مراثيه في حمزة وقتلى مؤتة.
وإليكم بعض النماذج لما قدمته شاعرية كعب بن مالك في الموضوعات المختلفة وعقب كل قطعة شرح بعض المفردات اللغوية التي قد لا تدرك مع تعليق موجز يوضح بعض ما تناولته الأبيات، وذلك إذا كان فيها شيء من الغرابة على أجيالنا، وقد يضطرنا الموقف إلى ذكر بعض أبيات لشاعر قرشي يستدعيها رد شاعرنا عليه.(1/117)
الفخر والرد
لقد آوى الأنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه ومن ثم نرى كعب بن مالك يفخر كثيرا بقومه الأوس والخزرج وبمواقفهم حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنهم كانوا معقلا له يحميه من كل عدوان، وكثيرا ما تصدى للرد على شعراء قريش فيما يقولون، فحين يدعي ضرار بن الخطاب شاعر قريش أن نصر المسلمين في بدر كان مرجعه إلى القرشيين المهاجرين وعلى رأسهم محمد ليطعن بذلك المنزلة الحربية التي كانت للأنصار فيقول:
فإن تظفروا في يوم بدر فإنما ... بأحمد أمسى جدكم وهو ظاهر
وبالنفر الأخيار هم أولياؤه ... يحامون في اللأواء والموت حاضر
بعد أبو بكر وحمزة فيهم ... ويدعى علي وسط من أنت ذاكر
ويدعى أبو حفص وعثمان فيهم ... وسعد إذا ما كان في الحرب حاضر
أولئك لا من نتجت في ديارها ... بنو الأوس والنجار حين تفاخر
ولكن أبوهم من لؤي وغالب ... إذا عدت الأنساب كعب وعامر(1/117)
اللأواء: الشدة.
فيجيبه كعب بن مالك من قصيدة طويلة:
قضي يوم بدر أن نلاقي معشرا ... بغوا وسبيل البغي بالناس جائر
وقد حشدوا واستنفروا من يليهم ... من الناس حتى جمعهم متكاثر
وسارت إلينا لا تحاول غيرنا ... بأجمعها كعب جميعا وعامر
وفينا رسول الله والأوس حوله ... له معقل منهم عزيز وناصر
وجمع بني النجار تحت لوائه ... يمشون في الماذي والنقع ثائر
الماذي: بتشديد الياء: الدرع، النقع: الغبار.
بهذه الأبيات يبين كعب بغي قريش، وأنها حشدت واستنفرت وسارت بكل من تناسل من كعب وعامر تريد بذلك القضاء على الأوس والخزرج، وقد كانت الأوس المعقل الذي احتمى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم الذين آزروه ونصروه، وقد استظلت جموع بني النجار (وهم من الخزرج) بلوائه ومشوا في دروعهم وسط الغبار المتكاثف يصدون الجموع الكثيفة التي ألقت بها إليهم لؤي: من كعب وعامر.
وسكت كعب عن ذكر الأبطال القرشيين المسلمين الذين ذكرهم ضرار فلم يتناول مواقفهم وبطولاتهم بل لم يذكر للمهاجرين موقفا في قصيدته هذه، ولم يكن كعب يقصد بهذا السكوت الغض من شأن المهاجرين أو الإنقاص من مواقفهم في بدر ولكن الرد على ضرار هو الذي فرض على كعب هذا الموقف.
وفي أبيات أخرى يفخر بالقوة الضاربة للمسلمين تلك القوة التي ضربت عظماء لؤي وحلفاءهم فهووا لمناخرهم حيث يكر المسلمون، وداس المسلمون بالصوارم أبناء لؤي وحلفاءهم فقال:
ضربناهم حتى هوى في مكرنا ... لمنخر سوء من لؤي عظيمها
فولوا ودسناهم ببيض صوارم ... سواء علينا حلفها وصميمها
الحلف: الحليف، والصميم: من يرجع إلى لؤي أصلا.
ويسترسل كعب في مفاخره فيفخر بالفضائل التي عرف بها الأنصار: فهم لا يرون القتل عارا على من يحمي حماه، وهم صبر على الحوادث لا يبكون على هالك يموت في المعارك، وهم أبناء الحرب لا يجزعون مما تجره من ويلات.(1/118)
ولا يفحشون إن ظفروا ولا يتوجعون إن مسهم قرح فيقول:
ونحن أناس لا نرى القتل سبة ... على كل من يحمي الذمار ويمنع
جلاد على ريب الحوادث لا نرى ... على هالك عينا لنا الدهر تدمع
بنو الحرب لا نعيا بشيء تقوله ... ولا نحن مما جرت الحرب نجزع
بنو الحرب إن نظفر فلسنا بفحش ... ولا نحن من أظفارها نتوجع
وكم من صورة أزجتها شاعرية كعب تتدفق بمفاخر الأنصار، وتحمل ما تحمل من تهديد للمشركين بالضربات السريعة التي يلاقونها من أولئك المحيطين برسول الله ممن أعدوا للحروب سرابيل تقيهم وهم من أصل الغساسنة (وكثيرا ما افتخر كعب بهذا النسب) وقد طالت حمائل سيوفهم، وهم ليسوا بالجبناء، ولا ممن فقدوا التروس والرماح وإنهم ليمشون في ظلمات غبار المعارك كما تمشي فحول الإبل البيض التي يمشي بعضها إثر بعض، أو كما تمشي أسود الطل وقد بللها الرذاذ الذي أثارته ريح الشمال، وهم في دروع سابغة محكمة تلمع كالغدير والقائم بها كالنهر الأبيض، تلك هي الصور التي يقدمها فيفخر بها ويهدد ويرهب، ويثير الرعب في قلوب المناوئين فيقول:
ولو هبطتم ببطن السيل كافحكم ... ضرب بشاكلة البطحاء ترعيل
تلقاكم عصب حول النبي لهم ... مما يعدون للهيجا سرابيل
من جذم غسان مسترخ حمائلهم ... لا جبناء ولا ميل معازيل
يمشون تحت عمايات القتال كما ... تمشي المصاعبة الأدم المراسيل
أو مثل مشي أسود الطل ألثقها ... يوم رذاذ من الجوزاء مشمول
في كل سابغة كالنهي محكمة ... قيامها فلج كالسيف بهلول
الشاكلة: الطرف، الترعيل: الضرب السريع، الهيجاء: الحرب وقصر للضرورة الشعرية، السرابيل: جمع سربال: القميص أو الدرع أو كل ما يلبس، الجذم بكسر الجيم: الأصل، الحمائل: علائق السيوف، الميل بكسر الميم جمع أميل: وهو من لا ترس له، والمعازيل: من لا رماح معهم، العمايات: الظلمات، المصاعبة: فحول الإبل، الأدم بضم الهمزة: الإبل البيض، المراسيل: التي يمشي بعضها إثر بعض، الطل: المطر الخفيف، ألثقها: بللها، الرذاذ: المطر الضعيف، الجوزاء: نجم، المشمول: الذي هبت فيه ريح الشمال، السابغة: الدرع، النهي: بكسر النون المشددة: النهر، قيامها: القائم بها، الفلج: النهر، البهلول: بضم الباء: الأبيض.(1/119)
وما أكثر ما تغنى الشاعر ببسالة قومه في الغزوات حتى وهو في موطن الرثاء ففي إحدى مرثياته لحمزة شهيد أحد يقول:
غداة أجابت بأسيافها ... جميعا بنو الأوس والخزرج
فما برحوا يضربون الكماة ... ويمضون في القسطل المرهج
القسطل: الغبار، المرهج: الذي علا في الجو.
ولم يقصر كعب فخره بقومه على مواقفهم في الحروب بل افتخر بهم في السلم حين تجدب الأرض ويجف الزرع والضرع فتراهم الكرماء وذلك في قوله:
فإن تسألي ثم لا تكذبي ... يخبرك من قد سألت اليقينا
بأنا ليالي ذات العظام ... كنا ثمالا لمن يعترينا
تلوذ البجود بأذرائنا ... من الضر في أزمات السنينا
الليالي ذات العظام: ليالي الجوع التي تجمع فيها العظام وتطبخ لاستخراج ودكها فيؤتدم به، الشمال: الغياث، يعترينا: يزورنا، تلوذ: تلجأ، البجود: جماعات الناس، الأذراء: الأكناف، الأزمات: الشدائد.
وهكذا يخاطب من يخاطب محبوبة أو غير محبوبة أنها إذا سألت عن قومه هنالك لا تكذب بل تخبر باليقين الذي تعرفه عن قومه، فهم الغوث لكل من يزورهم في تلك الليالي القاسية التي يجمع فيها الناس العظام ليطبخوها حيث فقدوا اللحم، وما أشد هذه الأيام التي تلجأ فيها جموع الناس إلى أكناف بيوتهم خوفا من الضر الذي يحيق بهم في السنين الشديدة التي لا تحتمل مجاعاتها.
حسبنا ما قدمنا من نماذج فخر كعب بقومه.(1/120)
شعر الوعيد والتهديد
كان لانتصار المسلمين في أول غزوة التقوا فيها بالمشركين أثره في رفع معنوية المسلمين، فانطلق شعراؤهم على أثرها يهددون ويتوعدون أعداء الله.
وكم جاش هذا اللون خلال القصائد التي سيقت في مختلف الأغراض، وهذا نموذج من الوعيد يسوقه كعب فيهدد قريشا بجيوش المسلمين التي ستغزوهم في عقر دورهم وتطلع عليهم من (كداء) وهو موضع(1/120)
بمكة وبين الجيوش جبريل وميكال وأشراف القوم وكأنه بهذا يخيف قريشا ويبين لها أنها لا تحارب المهاجرين والأنصار وحدهم بل معهم ملائكة السماء. وأنى لقريش أن تتصدى لمعارك فيها ملائكة الله، وهو بهذا يشير إلى ما جاء في القرآن في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} (2) {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (3) فيقول كعب:
فلا تعجل أبا سفيان وارقب ... جياد الخيل تطلع من كداء
بنصر الله روح القدس فيها ... وميكال فيا طيب الملاء
الملاء: الملأ وهم أشراف القوم.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 123
(2) سورة آل عمران الآية 124
(3) سورة آل عمران الآية 125(1/121)
الهجاء
لقد كان الجبن منقصة عند العرب، وكان الرضا بالذل وصمة، وكان عدم كسب مواقف البطولة معرة ومن تلك الأبواب يلج الشعراء إلى هجاء من يريدون هجاءه وذلك ما اتجه إليه كعب في هجاء ابن الزبعري في قوله:
فسل عنك في عليا معد وغيرها ... من الناس من أخزى مقاما وأشنع
ومن هو لم تترك له الحرب مفخرا ... ومن خده يوم الكريهة أضرع
الكريهة: الحرب، الأضرع: الذليل.
وقدمنا قوله في هجاء قريش:
جاءت سخينة كي تغالب ربها ... فليغلبن مغالب الغلاب(1/121)
إبراز صفات المسلمين في المعارك وإعدادهم لها
اتسم المسلمون في معاركهم مع عدو الله تحت راية رسول الله بصفات عني الشعراء بإبرازها، وشغل الحديث عنها مشاعرهم وقوافيهم.(1/121)
(أ) وكان الصبر في المواقف وعدم الفرار حين يستحر القتال من الصفات التي عرف بها المسلمون وصورها كعب في قوله:
صبرنا لهم والصبر منا سجية ... إذا طارت الأبرام نسمو ونرتق
على عادة تلكم جرينا بصبرنا ... وقدما لدى الغايات نجري فنسبق
الأبرام: اللئام، نرتق: نصلح.
(ب) حب الاستشهاد في سبيل الله والحق، وفي ذلك يقول كعب:
إن تقتلونا فدين الحق فطرتنا ... والقتل في الحق عند الله تفضيل
وقوله:
فخرتم بقتلى أصابتهم ... فواضل من نعم المفضل
فاعتبر القتل في سبيل الله نعمة تفضل الله بها على الشهداء.
وبين مكانة شهيد الإسلام وقتيل الكفر في قوله:
شتان من هو في جهنم ثاويا ... أبدا ومن هو في الجنان مخلد
(جـ) ملاقاة الشجعان وبذل الغالي من الأموال في الدفاع عن الأحساب، فقال:
جلاد الكماة وبذل التلاد ... عن جل أحسابنا ما بقينا
(د) إعداد العدة:
عرف العرب في جاهليتهم بالغارة وحب الفتك، وكثيرا ما تغنوا ببطولاتهم، فلما جاء الإسلام هذب طباعهم ونظم شمائلهم، فتجلت ضروب الشجاعة ولكنها لم تكن لحب الفتك وإراقة الدم للتشفي بل لخير الإنسان والإنسانية، ومن ثم أعدوا للمعارك الإسلامية العدة من سلاح وعتاد قبل خوضها ولم يجبنوا عند لقاء الأعداء، أو يفروا عند الزحف.
ومن أروع ما قيل في التقدم في المعارك قول كعب بن مالك:
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ... قدما ونلحقها إذا لم تلحق
فترى الجماجم ضاحيا هاماتها ... بله الأكف كأنها لم تخلق
ونعد للأعداء كل مقلص ... ورد ومحجول القوائم أبلق(1/122)
تردي بفرسان كأن كماتهم ... عند الهياج أسود طل ملثق
صدق يعاطون الكماة حتوفهم ... تحت العماية بالوشيج المزهق
أمر الإله بربطها لعدوه ... في الحرب إن الله خير موفق
الجماجم: الرءوس، ضاحيا: بارزا للشمس، بله: اسم فعل بمعنى: اترك، المقلص: الفرس الخفيف، الورد من الخيل: بين الكميت والأشقر، التحجيل: بياض في قوائم الفرس كلها ويكون في رجلين ويد وفي رجلين فقط وفي رجل فقط ولا يكون في اليدين خاصة، البلق: سواد وبياض وارتفاع التحجيل إلى الفخذين، تردي بفتح التاء: تسرع، الكماة: الشجعان، الطل: المطر الضعيف، ملثق: فيه زلق وطين والأسود عند ذاك تكون أشد هياجا، العطو: التناول، الحتف: الموت، العماية: سحابة الغبار وظلمته، الوشيج: الرماح، المزهق: المذهب للنفوس.
وحول الإعداد للمعارك يدور كثير من شعر كعب بن مالك فيقول في إحدى قصائده:
أجيبونا إلى ما نجتديكم ... من القول المبين والسداد
والإ فاصبروا لجلاد يوم ... لكم منا إلى شطر المذاد
نصبحكم بكل أخي حروب ... وكل مطهم سلس القياد
وكل طمرة خفق حشاها ... تدف دفيف صفراء الجراد
وكل مقلص الآراب نهد ... تميم الخلق من أخرى وهادي
ينازعن الأعنة مصغيات ... إذا نادى إلى الفزع المنادي
الاجتداء: الطلب، الشطر: الناحية، المذاد: موضع بالمدينة، المطهم: الفرس التام الخلق، الطمرة: بتشديد الطاء المكسورة وتشديد الراء المفتوحة: الفرس الجواد، دف الطائر: حرك جناحيه، المقلص: الشديد الآراب: قطع اللحم، النهد بتشديد النون المفتوحة: الغليظ، الهادي: العنق، الأعنة: اللجم.
يطلب الشاعر من الأعداء الصبر على جلاد يوم يجتمعون فيه ناحية المذاد حيث يصبحون هناك بكل مؤاخ للحروب مدرب على أهوالها وبكل جواد سلس وبكل فرس كذلك تتحرك كأنها الجراد وبكل شديد اللحم مكتنز ضخم العنق، وكل تلك الخيول تنازعنا الأعنة وهي مصغية حينما تسمع صوت المنادي وكأنما دربت على الانطلاق حينما تسمعه إلى حيث مصدره.(1/123)
شعر الغزوات
بين جيوش المؤمنين الذين عاهدوا الله ورسوله على البذل، وتحت ألوية التوحيد غزا كعب بن مالك وشهد غزوات الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير بدر وتبوك، غزا ومعه سيفه الصارم ولسانه البتار وقلمه المصور، غزا فأبلى وأحسن البلاء فكما أرسل مهنده وسنانه أرسل لسانه يصور، ويتحدث عن الإسلام وما جاء به، وما يدعو إليه، وتوعد الجاحدين بالقوة الإلهية التي تجتاح المعاندين، وفي بعض شعره في الغزوات تراه المؤرخ الذي يذكر أسماء القتلى في المعارك. وما كان يهدأ غبار المعارك حتى يسترجع خواطره وما فيها من صور ثم يترجم الصور والمشاهد شعرا عاش على الزمن حيا ينقل للأجيال صور المعارك الإسلامية وما كان فيها من بطولات، وكثيرا ما هزته نشوة الانتصار في بدر فرجع إليها يستثير بها الهمم، ويكشف ظفر القلة المؤمنة على الكثرة الباغية، ومما قال في بدر وتعرض فيه لذكر أسماء رءوس الكفر الذين صرعهم المسلمون قوله:
وقد عربت بيض خفاف كأنها ... مقاييس يزهيها لعينيك شاهر
فكب أبو جهل صريعا لوجهه ... وعتبة قد غادرنه وهو عاثر
وشيبة والتيمي غادرن في الوغى ... وما منها إلا بذي العرش كافر
فأمسوا وقود النار في مستقرها ... وكل كفور في جهنم صائر
تلظى عليهم وهي قد شب حميها ... بزبر الحديد والحجارة ساجر
وكان رسول الله قد قال اقبلوا ... فولوا وقالوا إنما أنت ساحر
البيض: السيوف، تلظى: تلهب، شب: أوقد، زبر الحديد: قطعه، الساجر: الموقد.
وفي الأبيات الثلاثة الأخيرة ساق معاني قرآنية لا تخفى على القارئ.
ومن قصيدة طويلة له في أحد قال:
فجئنا إلى موج من البحر وسطه ... أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن نصية ... ثلاث مئين إن كثرنا وأربع
نغاورهم تجري المنية بيننا ... نشارعهم حوض المنايا ونشرع
تهاوي قسي النبع فينا وفيهم ... وما هو إلا اليثربي المقطع
ومنجوفة حرمية صاعدية ... يذر عليها السم ساعة تصنع
تصوب بأبدان الرجال وتارة ... تمر بأعراض البصار تقعقع(1/124)
وخيل تراها بالفضاء كأنها ... جراد صبا في قرة يتريع
فلما تلاقينا ودارت بنا الرحي ... وليس لأمر حمه الله مدفع
ضربناهم حتى تركنا سراتهم ... كأنهم بالقاع خشب مصرع
النصيحة: خيار القوم، المناورة: المداولة، نشارعهم: نشاربهم، ونشرع: نشرب، النبع: شجر تصنع منه القسي، اليثربي: الأوتار نسبة إلى يثرب، المنجوفة: السهام، الحرمية: نسبة إلى الحرم وأهله، الصاعدية: نسبة إلى صاعد صانعها، البصارة: حجارة لينة، تقعقع: تصوت، الصبا: ريح شرقية، يتريع: يجيء ويذهب، حمه الله: قدره، سراتهم: خيارهم، القاع: ما انخفض من الأرض.
في هذه الأبيات يصور الشاعر جيش قريش في كثرته الزاخرة، وكأن المسلمين لقوا به بحرا مائجا يتوسطه الأحابيش من عبيدهم بين حاسر ومقنع، وكان عدد المشركين ثلاثة آلاف (وهذا نص شعري يتلاقى مع النص التاريخي) أما المسلمون فكانوا ثلاث مئين وأربع من خيار القوم.
وصور الشاعر حركة المعركة بين الجيشين وهما يتداولان التقدم والتقهقر والمنية تجري بينهم فتنهش أظفارها من تناله، والمسلمون يسوقون أعداء الله إلى أحواض المنايا تارة ويساقون تارة، والقسي تعمل عملها بين هؤلاء وأولئك، وللأوتار اليثربية والسهام الحرمية الصاعدية التي ذر عليها السم أثناء صنعها عملها في الأجساد وهي تقع تارة بأبدان الرجال فتمزقها وتارة تخيب فتنطلق بين الأحجار اللينة تصوت، والخيل تنطلق كأنها جراد ريح شرقية تجيء وتذهب في بردها، وحينما دارت الرحى والتقى الجيشان ونزل بالقوم أمر الله الذي لا عاصم منه ضرب المسلمون المشركين حتى تركوا أخبارهم وهم خشب مصرعة.
وله في أحد كثير من القصائد بل الروائع وحسبنا مما قال الأبيات التالية:
ويوم له وهج دائم شديد التهاول حامي الأرينا
طويل شديد أوار القتال ... تنفي قواحزه المقرفينا
تحال الكماة بأعراضه ... ثمالا على لذة منزفينا
تعاور أيمانهم بينهم ... كئوس المنايا بحد الظبينا
شهدنا فكنا أولي بأسه ... وتحت العماية والمعلمينا
بخرس الحسيس حسان رواء ... وبصرية قد أجمن الجفونا
فما ينفللن وما ينحنين ... وما ينتهين إذا ما نهينا(1/125)
الوهج: الحرب، التهاول: الهول، الأرين: جمع إرة: مستوقد النار، الأوار: لهب الحرب، القواحز من القحز: وهو القلق، المقرفون: اللئام، الكماة جمع كمن وهو الشجاع المستتر في سلاحه، الأعراض: النواحي، الثمال: السكارى، المنزفون: الذين أنزفت الخمر عقولهم، التعاور: التداول، الظبينا: جمع ظبة: وهي حد السيف، العماية: السحابة أو ظلمة الغبار، المعلمون: من يعلمون أنفسهم في الحرب بعلامة تحديا للأعداء، الخرس: التي لا صوت لها ويقصد السيوف والرواء بالراء المشدودة المكسورة: الممتلئة بالدم، بصرية منسوبة إلى بصرى وهي مشهورة بصنع السيوف، أجمن: مللن، الجفون جمع جفن: وهو غمد السيف.
بهذه الأبيات من قصيدة طويلة يقدم الشاعر صورة ليوم من أيام الكفاح الإسلامي (يوم أحد) فالمعارك الدامية فيه اشتد هولها، وحمي موقدها وقد طال ذلك اليوم واشتد لهبه، ونفي القلق الذي ساد في ذلك اليوم اللئام عن القتال فلم يبق القلق بين الساحة لئيما، وإنك لتحسب الشجعان في نواحيه سكارى ذهبت عقولهم وتداولت أيمانهم مع الأعداء كئوس الموت بحد السيوف، فكل يقدم كأس المنية لمن ينازله.
ولقد شهدنا ذلك اليوم فكنا أصحاب بأسه وقوته، وكنا تحت ظلماته، وكنا المعروفين بما نحمل من علامات تميزنا وكأنها تشير إلينا، وقد شهدناه بسيوف حسان تعمل ولا صوت لها وقد امتلأت بالدم وبسيوف كذلك من صنع بصرى قد ملت الأغماد وهي لا تقل ولا تنحني ولا تنتهي عن الضرب إذا نهيت وهكذا قدم الشاعر صورة اليوم والشجعان وهم يتعاورون كئوس الموت، وصور قوة سيوفهم وكرهها للأغماد ومتانتها من حيث إنها لا تفل ولا تنحني ولا تكف.(1/126)
إجلاء بني النضير
خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني النضير يستعينهم في دية قتيلين من بني عامر، فتآمروا على إسقاط صخرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فوق البيت الذي يجلس إلى جانب جداره فجاءه الخبر من السماء بما دبروه، فقام وقفل راجعا إلى المدينة، وأمر الناس بالتهيؤ للحرب وخرج إليهم فتحصنوا بالحصون، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقطع نخيلهم وإحراقها، فلما رأوا ما حاق بأموالهم سألوا رسول الله أن يجليهم ويكف عن دمائهم، ولهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فخرجوا إلى خيبر، وسار بعضهم إلى الشام، وخلوا الأموال لرسول الله ونزل في بني النضير سورة الحشر.
وتناول كعب بن مالك في قصيدة طويلة إجلاء بني النضير ومقتل كعب بن الأشرف، وقد كانت أم كعب بن الأشرف من بني النضير، ولما سمع بنصر المسلمين في بدر هاله ذلك وخرج إلى مكة وأخذ يبكي(1/126)
قتلي بدر من المشركين في شعر ثائر يحرض به القرشيين على المسلمين، ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة وأخذ يشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم، فقال الرسول: من لي بابن الأشرف؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، ثم اتفق معه سلكان بن سلامة (وهو أخو كعب بن الأشرف من الرضاعة) وعباد بن بشر، والحارث بن أوس، وأبو عبس بن جبر، وخرجوا، واستدرجه سلكان من حصنه فمشى به ساعة، ثم حمل عليه وحمل أصحابه معه فقتلوه، وفزع اليهود حينما علموا بمقتله.
وهذه أبيات من تلك القصيدة التي يسوق فيها الشاعر كمؤرخ مصرع كعب بن الأشرف وإجلاء بني النضير، وليس في القصيدة شيء من الجمال الفني السامي لأن الشاعر كان فيها قصاصا يسرد فيها كيفية قتل كعب وإجلاء بني النضير في أسلوب لا يعدو أن يكون نظما للحوادث حيث يقول:
فغودر منهم كعب صريعا ... فذلت بعد مصرعه النضير
على الكفين ثم وقد علته ... بأيدينا مشهرة ذكور
بأمر محمد إذ دس ليلا ... إلى كعب أخا كعب يسير
فماكره فأنزله بمكر ... ومحمود أخو ثقة جسور
فتلك بنو النضير بدار سوء ... أبارهم بما اجترموا المبير
غداة أتاهم في الزحف رهوا ... رسول الله وهو بهم بصير
فذاقوا غب أمرهم وبالا ... لكل ثلاثة منهم بعير
وأجلوا عامدين لقينقاع ... وغودر منهم نخل ودور
والمشهرة الذكور: السيوف المسلولة من أغمادها، أبارهم: أهلكهم، المبير: المهلك، الرهو: السير السهل، غب: عاقبة، الوبال: العذاب.
وأشار بقوله: لكل ثلاثة منهم بعير إلى الكيفية التي خرجوا عليها حيث ركب كل ثلاثة منهم بعيرا، وكان اتجاههم إلى قينقاع وهم قبيلة يهودية كذلك.(1/127)
بدر الآخرة
كان أبو سفيان توعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أحد في لقاء آخر في بدر فخرج الرسول وأقام في بدر ثماني ليال ينتظر أبا سفيان على رأس جيشه، وخرج أبو سفيان إلى عسفان أو الظهران، ثم أمر الناس بالرجوع، فرجعوا(1/127)
وسماهم أهل مكة جيش السويق حيث قالوا لهم: إنما خرجتم تشربون السويق وفي ذلك يقول كعب بن مالك:
وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد ... لميعاده صدقا وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا ... لأبت ذميما وافتقدت المواليا
آب: رجع، افتقدت: فقدت، الموالي: قصد بها القرابة.(1/128)
غزوة الخندق أو الأحزاب
وقدم نفر من اليهود على قريش ودعوهم إلى حرب محمد واستئصال قوته، وكان ذلك في شوال سنة خمس، فخرجت قريش وعلى رأسها أبو سفيان، وخرجت غطفان وعلى رأسها عيينة بن حصن، فلما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخروجهم ضرب الخندق حول المدينة، وأقبلت قريش في عشرة آلاف ومعهم الأحابيش وأهل كنانة وتهامة فنزلوا بمجتمع الأسيال وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد فنزلوا إلى جانب أحد، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فجعلوا ظهورهم إلى سلع (جبل بالمدينة) وكان عدتهم ثلاثة آلاف، واشتد خوف المسلمين حين أتاهم أعداؤهم في تلك الجموع الكثيفة من فوقهم ومن أسفل منهم، وطال الحصار ولم يقع خلاله إلا بعض مبارزات بين أفراد من المشركين اقتحموا الخندق وبين بعض أبطال المسلمين.
وأوقع الله الفتنة بين قريش وغطفان من جانب وبين بني قريظة (اليهود) من جانب آخر، ثم بعث الله عليهم الريح في ليال شاتية البرد فكفأت قدورهم وأطارت خيامهم فطاروا مع الريح وطارت معها شوكتهم، وشتت الله شملهم ثم خرج الرسول صلوات الله وسلامه عليه إلى بني قريظة فحاصرهم ثم حكم فيهم سعد بن معاذ، فحكم بقتلهم، وقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.
وقد صور كعب بن مالك غزوة الخندق في قصيدة مطلعها:
وسائلة تسائل ما لقينا ... ولو شهدت أرتنا صابرينا
ومنها:
بباب الخندقين كأن أسدا ... شوابكهن يحمين العرينا
إلى قوله:
كما قد ردكم فلا شريدا ... بغيظكم خزايا خائبينا(1/128)
خزايا لم تنالوا ثم خيرا ... وكدتم أن تكونوا دامرينا
بريح عاصف هبت عليكم ... فكنتم تحتها متكمهينا
* الشوابك: التي يتشبث بها فلا يفلت * الفل: المنهزمون * الشديد: الطريد * الدامر: الهالك * المتكمه: الأعمى الذي لا يبصر.
بهذا النص يكشف الشاعر عن حقيقة رواها التاريخ وهي رجوع الأحزاب دون حرب، وقد شردوا في الآفاق وكادوا يهلكون، ويلتقي البيت الأخير مع قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (1)
ويصور الشاعر في الشطر الأخير حالة الأحزاب وقد عميت أبصارهم حينما هبت عليهم الريح العاصفة.
* * *
وقال كعب في غزوة الخندق كذلك من قصيدة طويلة:
من سره ضرب يمعمع بعضه ... بعضا كمعمعة الأباء المحرق
فليأت مأسدة تسن سيوفها ... بين المذاذ وبين جزع الخندق
دربوا بضرب المعلمين وأسلموا ... مهجات أنفسهم لرب المشرق
في كل سابغة تخط فضولها ... كالنهي هبت ريحه المترقرق
بيضاء محكمة كأن قتيرها ... حدق الجنادب ذات شك موثق
* المعمعة: صوت التهاب النار * الأباء: العصب * المأسدة: موضع الآساد * المعلمون: الذين ميزوا أنفسهم في الحروب بعلامة * السابغة: الدرع * تخط فضولها: ينجر على الأرض ما فضل منها * النهي: بتشديد النون المكسورة الغدير * المترقرق: الذي تصفقه الريح فيجيء ويذهب * القتير: مسامير الدرع * الجنادب: ذكور الجراد * الشك: إحكام السرد.
قدم الشاعر في هذه الأبيات صورة لبعض ما وقع من ضروب المبارزة بين الشجعان الأقوياء، ورأى أن ذلك الضرب العنيف يسر الشجعان حيث يشد أنظارهم وأسماعهم صليل السيوف وحركتها، وفي قعقعة أصواتها ما يشبه قعقعة القصب حين تلتهمه ألسنة اللهب، فمن شاء رؤية ذلك فليأت تلك المأسدة التي تسن سيوف أصحابها بين مراتع الخيول والوادي الذي لا شجر فيه عند الخندق، فأولئك تدربوا على ضرب الذين علموا أنفسهم بعلامة يعرفون بها وكأنهم دربوا على ضرب من يتحداهم وقد أسلموا أرواحهم لربهم وإنهم ليلبسون الدروع السابغة التي انحطت فضولها حتى انجرت على الأرض وهي تروح وتجيء كأمواج الغدير التي حركتها الريح، وإنها محكمة النسج وكأن مساميرها حدق ذكر الجراد، وهي ذات إحكام وتوثيق.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 9(1/129)
وله في الخندق قصيدة مطلعها:
ألا أبلغ قريشا أن سلعا ... وما بين العريض إلى الصماد
ومنها:
فلم نر عصبة فيمن لقينا ... من الأقوام من قار وباد
أشد بسالة منها إذا ما ... أردناه وألين في الوداد
إذا ما نحن أشرجنا عليها ... جياد الجدل في الأرب الشداد
قذفنا في السوابغ كل صقر ... كريم غير معتلث الزناد
أشم كأنه أسد عبوس ... غداة بدا ببطن الجزع غادي
يغشى هامة البطل المذكى ... صبي السيف مسترخي النجاد
لنظهر دينك اللهم إنا ... بكفك فاهدنا سبل الرشاد
سلع: جبل بالمدينة * العريض: واد بالمدينة * الصماد: جبل * القاري: من كان من أهل القرى والباد من كان من أهل البادية * البسالة: الشجاعة * أشرجنا: ربطنا * الجدل: الدروع المحكمة * الأرب: العقدة الشديدة * السوابغ: الدروع * اعتلث الرجل زندا: أخذه من شجر لا يدري أيوري أم لا؟ * الأشم: العالي العزيز * المذكى: الذي بلغ الغاية في القوة * صبي السيف: وسطه، * النجاد: حمائل السيف.
إن الشاعر ليفخر بقومه حيث لا يرى بسالة أشد من بسالتهم بين القرى والبوادي إذا ما أرادوا الضرب الذي تحدث عنه في أبيات سابقة وهم إلى جانب سطوتهم وقوتهم ألين في حبهم من غيرهم فهم البسلاء إذا ما ضربوا واللينون إذا ما أحبوا، وبسالتهم تتجلى حين يربطون الدروع ويشدون عقدها، وكأنهم يقذفون في الدروع كل صقر كريم مستعد للحرب عالي الأنف، كأنه الأسد في عبوسه حين يغدو ببطن الجزع، وحين يضرب بوسط سيفه هامة البطل الذي بلغ غاية قوته، وقد بدا نجاده الطويل المسترخي إلى جانبه يشير إلى طوله، كل ذلك يكون لإظهار دين الله وإعلاء كلمته، ثم ختم قصيدته بالدعاء إلى الله أن يهديهم في حياتهم ومعاركهم سبل الرشاد.
* * *
وقد تناول كعب بن مالك تصوير يوم ذي قرد وخيبر والطائف، ونسوق بعض أبيات من قوله في غزوة الطائف:
قال منها:
قضينا من تهامة كل ريب ... وخيبر ثم أجممنا السيوفا(1/130)
نخيرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهن: دوسا أو ثقيفا
ومنها:
فلست لحاضن إن لم تروها ... بساحة داركم منا ألوفا
ويأتيكم لنا سرعان خيل ... يغادر خلفه جمعا كثيفا
إذا نزلوا بساحتكم سمعتم ... لها مما أناخ بها رجيفا
بأيديهم قواضب مرهفات ... يزدن المصطلين بها الحتوفا
ومنها:
وكم من معشر ألبوا علينا ... صميم الجذم منهم والحليفا
أتونا لا يرون لهم كفاء ... فجدعنا المسامع والأنوفا
بكل مهند لين صقيل ... نسوقهم بها سوقا عنيفا
وتنسى اللات والعزى وود ... ونسلبها القلائد والشنوفا
* * *
الريبة: الشك * أجممنا: أرحنا ومنه الاستجمام * نخيرها: نعطيها الخيرة * الحاضن: المرأة التي تحضن ولدها * السرعان: المتقدمون * الكثيف: الملتف: الرجيف: الصوت المضطرب * القواضب: السيوف القواطع * المرهفات: الحادة القاطعة * المصطلون بها: الذين باشروها واصطلوا بحرها * الحتوف جمع حتف: الموت * ألبوا: جمعوا * الصميم: الخالص * الجذم: بكسر الجيم: الأصل * الجدع: القطع * المهند: السيف * اللين مخفف لين بتشديد الياء * الصقيل: المصقول * الشنوف جمع شنف بفتح الشين وهو قرط يعلق في أعلى الأذن، وما يعلق في أسفلها هو القرط، واللات والعزى وود (آلهة كانت تعبد. . .) . .
بين الشاعر في هذه الأبيات أنهم انتهوا من معارك تهامة وخيبر ثم أراحوا السيوف حينا، ثم خيروها بمن تبدأ بعد ذلك، ولو نطقت لهتفت: أريد دوسا أو ثقيفا، وبعد أبيات بدأ تهديده لهم فقال لست لامرأة حضنتني وربتني أو لحاصن بالصاد وهي العفيفة أي: لست ابن عفيفة راشدة إن لم تفاجئكم السيوف وإن لم تروا بأفناء دوركم ألوفها تجز الأعناق والنواصي، واستطرد في وعيده بأنهم ستأتيهم طلائع الخيل ووراءها الجموع الكثيفة من جيوش المسلمين فإذا نزلوا ستسمع الساحة اضطرابا شديدا، يشير بذلك إلى الكثرة التي تتهددهم ثم كشف عن قوة سيوفهم التي تزير كل من يتصدى للمسلمين ساحة الموت.
ثم راح الشاعر يخوفهم فعرض عليهم صورة القبائل التي جمعت جموعها وألقت في المعارك بأصولها وحلفائها وظنوا حين شنوا غاراتهم علينا بأننا لسنا أكفاء لهم فلم يقتلوا بأيدينا فحسب، بل قطعنا آذانهم وأنوفهم (لم يرو التاريخ أن المسلمين مثلوا بجثث قتلاهم في معركة من المعارك الإسلامية، أتراها مبالغة شعرية من شاعرنا؟ أم تراه التهديد والإرهاب؟ أم تراها القافية حكمت بهذا التخيل؟ حيث لم يثبت في التاريخ الإسلامي ذلك التمثيل) . وقد ساقوهم سوقا عنيفا بكل سيف لين مصقول وأنسوهم آلهتهم التي طالما(1/131)
عبدوها وهي اللات والعزى وود، وطالما قدموا لها القرابين والهدايا وعلقوا بها القلائد والشنوف، ولكن المسلمين سلبوا ذلك الذي قدمه الموسرون السذج لهذه الآلهة.(1/132)
المراثي
لقد رثى كعب بن مالك وترجم في مراثيه عن الأحزان والآلام، وكان رثاؤه في حمزة وقتلى مؤتة من أجود ما قال في الرثاء وقد تناول رثاء شهداء أحد وبينهم حمزة في قوله:
فكلهم مات حر البلاء ... على ملة الله لم يحرج
كحمزة لما وفى صادقا ... بذي هبة صارم سلجج
فلاقاه عبد بني نوفل ... يبربر كالجمل الأدعج
فأوجره حربة كالشهاب ... تلهب في اللهب الموهج
* حر البلاء: خالص الاختيار * لم يحرج: لم يأثم، بذي هبة: يقصد السيف وهبة السيف وقوعه بالعظم * الصارم: القاطع * السلجج: المرهف * عبد بني نوفل: وحشي قاتل حمزة * يبربر: يصيح * الأدعج: الأسود، أوجره: طعنه * الشهاب: القطعة من النار، الموهج: الموقد.
وبهذه الأبيات بين أن أولئك الذين استشهدوا في أحد أخلصوا وماتوا على ملة الله بلا إثم وبينهم حمزة الذي وفى بسيفه الصارم المرهف في هذه المعركة، ولكن عبد بني نوفل صاح كالجمل الأسود فطعنه طعنة تلهبت فيه كاللهب الموقد فقضت عليه.
* * *
وفي قصيدة أخرى كشف عن مشاعره حيال فقد حمزة فقال:
ولقد هددت لفقد حمزة هدة ... ظلت بتات الجوف منها ترعد
ولو أنه فجعت حراء بمثله ... لرأيت رأسي صخرها يتبدد
قرم تمكن في ذؤابة هاشم ... حيث النبوة والندى والسؤدد
والعاقر الكوم الجلاد إذا غدت ... ريح يكاد الماء منها يجمد
والتارك القرن الكمي مجدلا ... يوم الكريهة والقنا يتقصد
وتراه يرفل في الحديد كأنه ... ذو لبدة شثن البراثن أربد
عم النبي محمد وصفيه ... ورد الحمام فطاب ذاك المورد
* بتات الجوف: القلب والأحشاء * ترعد: تضطرب، حراء: جبل * الراسي: الثابت * القرم:(1/132)
السيد الشريف * ذؤابة هاشم: أعاليها * الكوم: جمع كوماء وهي العظيمة السنام من الإبل * الجلاد: القوية * القرن: النظير * الكمي: الشجاع * مجدلا: مطروحا * الكريهة: الشدة والحرب * يتقصد: ينكسر * يرفل: يتبختر * ذو لبدة: الأسد * شثن: غليظ * البراثن: للسباع: كالأصابع للإنسان * الأربد: الأغبر يخالطه سواد * الحمام: الموت.
وقال أيضا:
صفية قومي ولا تعجزي ... وبكى النساء على حمزة
ولا تسأمي أن تطيلي البكا ... على أسد الله في الهزة
فقد كان عزا لأيتامنا ... وليث الملاحم في البزة
يريد بذاك رضا أحمد ... ورضوان ذي العرش والعزة
* الهزة: الاهتزاز والاختلاط في الحرب، الملاحم: جمع ملحمة وهي الحرب، البزة: السلاح.
* * *
وفي قتلى مؤتة أرسل نفثات قلبه الجريح حيث قضى هنالك القواد الثلاثة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة الأنصاري الشاعر، وتلك أبيات من قصيدة في قتلى مؤتة، قال:
نام العيون ودمع عينك يهمل ... سحا كما وكف الطباب المخضل
في ليلة وردت علي همومها ... طورا أحن وتارة أتململ
واعتادني حزن فبت كأنني ... ببنات نعش والسماك موكل
وكأنما بين الجوانح والحشى ... مما تأوبني شهاب مدخل
وجدا على النفر الذين تتابعوا ... يوما بمؤتة أستدوا لم ينقلوا
صلى الإله عليهم من فتية ... وسقى عظامهم الغمام المسبل
صبروا بمؤتة للإله نفوسهم ... حذر الردى ومخافة أن ينكلوا
فمضوا أمام المسلمين كأنهم ... فنق عليهن الحديد المرفل
* همل، همل الدمع: سال * السح: الصب * * وكف: قطر * الطباب جمع طبابة وهي سير بين خرزتين في المزادة فإذا لم يكن محكما قطر منه الماء * المخضل: السائل * التململ: التبرم والقلق.(1/133)
* بنات نعش الكبرى: سبعة كواكب * السماك: برج في السماء * المدخل: النافذ إلى الداخل * أستدوا: حاربوا تحت رايات شتى * لم ينقلوا: لم تتغير حالهم * الغمام: المسبل: الممطر * الردى: الموت * ينكلوا: يرجعوا هائبين من عدوهم * الفنق: فحول الإبل الواحد فنيق * المرفل الذي تنجر أطرافه على الأرض.
* * *(1/134)
نظرة في شعر كعب
تستطيع بعد أن قدمنا الكثير من النماذج لشعر كعب والتي أردنا بها أن نضع ذلك الشاعر في المكان الملائم لتلك الشاعرية، تستطيع عندئذ أن تدرك «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم إليه كعب لأول مرة في الكعبة فقال: كعب الشاعر؟» فقضى له بالشاعرية لم يكن ليقضي بذلك لولا أنه بلغه من شعره قبل إسلامه ما رآه أهلا للحكم بأنه الشاعر، وحسبه شهادة الرسول ومع هذا فتلك النماذج بين يديك ودون التأثر بحكم تستطيع أن تقرأ في دقة وتمحيص لتخرج كما خرجنا بالحكم له بأنه مصور دقيق يتخذ من الكلمات المناسبة مادة للصورة، وتلك صورة لجيش المشركين وقوامه ثلاثة آلاف سوى الأحابيش يرى الشاعر في ذلك العدد العظيم، والعدد التي يموج فيها من الدروع والسيوف والحراب وكلها يلمع تحت أضواء الشمس ما يشبه البحر المائج فيقول:
فجئنا إلى موج من البحر وسطه ... أحابيش فيهم حاسر ومقنع
فيكشف بذلك عن صورة تصطخب فيها الكثرة والحركة واللون، وفي وسط الموج المتقلب صورة أشبهتها صورة الأحابيش وهم بين حاسر تجلى سواده الفاحم ومقنع ستر سواده بقناع أبيض، وقدم في نفس القصيدة صورة السهام وهي تقع تارة بأبدان الرجال وتارة لا تصيب الهدف فتنطلق في الحجارة اللينة ترعد أصواتها في قوله:
تصوب بأبدان الرجال وتارة ... تمر بأعراض البصار تقعقع
ويقدم صورة للخيل تسبح في الفضاء كأنها جراد ماجته ريح الصبا الباردة هنا وهناك فهو يذهب ويجيء، وهكذا تكون صورة الخيل حين يكر بها الفرسان حينا ثم يرجعون ليهتبلوا فرصة للكر، فهي كذلك تتريع وتجيء وتذهب وذلك في قوله:
وخيل تراها بالفضاء كأنها ... جراد صبا في قرة يتريع(1/134)
ويقدم في نفس القصيدة صورة للصحاري والجبال وكأن سوادها يتراءى من البعد كغبار ساكن منقطع وذلك في قوله:
صحار وأعلام كأن قتامها ... من البعد فقع هامد متقطع
* * *
وإن: شاعرنا هذا صادق كل الصدق في التصوير، فهو ابن بيئته ترجم كل ما ألهمته له البيئة في صور كأنها لوحات مصور تفنن في إضفاء الألوان والظلال عليها فعاشت على الأجيال يرى فيها المسلمون أمجادهم ويرى فيها العرب صور البادية في صحاراها وأعلامها وعينها وآرامها ونعامها، تلك البادية التي أنجبته، وكأننا ونحن نردد شعر كعب نعيش معه في عصره، ونلحظ بأبصارنا روائع المشاهد التي ألهمته الصور. وكأننا نرى صورة سلع والعريض والصماد، وحدائق النخيل التي تروى بالنضح والآبار الضيقة التي حفرت من عهد عاد، وهي ثابتة دائمة يعلو فيها نهر المرار، وكأننا نرى الغاب والبردي الغليظ الصوت الذي اصفر للحصاد، كأننا نرى ذلك كله حين نقرأ له:
ألا أبلغ قريشا أن سلعا ... وما بين العريض إلى الصماد
نواضح في الحروب مدربات ... وخوص ثقبت من عهد عاد
رواكد يزخر المرار فيها ... فليس بالجمام ولا الثماد
كأن الغاب والبردي فيها ... أجش إذا تبقع للحصاد
* سلع والصماد: جبلان * العريض: واد * النواضح: النخيل التي تسقى بالنضح * الخوص: الآبار * المرار: نهر، الجمام جمع جمة وهي البئر الكثيرة الماء * والثماد: الماء القليل: أجش: عالي الصوت، تبقع: اصفر.
* * *
وليس: ثمت من شاعر عربي جاهلي أو مخضرم لم يتحدث عن الخيل؛ لأنها العماد الثاني لذلك المجتمع الذي عاش في جاهليته وصدر إسلامه، بين غبار المعارك الذي لا يخمد إلا ليشتعل، ومن ثم اعتمدوا على الخيل في تلك الحروب، واعتمادهم ذلك دعا شعراءهم إلى الحديث عنها في أشعارهم كسلاح هام من أسلحة القتال أو كعدة من عدده؛ ولأننا قلنا إن شاعرنا ابن بيئته المصور المعبر عنها نرى أنه لابد قبل أن نختتم الحديث عنه أن نقدم صورة للخيل في شعره: قال في قصيدة مطلعها:
أبقى لنا حدث الحروب بقية ... من خير نحلة ربنا الوهاب(1/135)
.
ونزائعا مثل السراح نمى بها ... علف الشعير وجزة المقضاب
قودا تراح إلى الصياح إذا غدت ... فعل الضراء تراح للكلاب
وتحوط سائمة الديار وتارة ... تردي العدا وتئوب بالأسلاب
* النزائع: الخيل العربية التي حملت من أرضها إلى أرض أخرى * السراح: الذئاب جمع سرحان * جزة المقضاب: ما يجز من النبات ويقطع * قود: طوال * تراح بفتح التاء: تنشط * الضراء: الكلاب الضارية في الصيد، والكلاب بتشديد اللام الصائد صاحب الكلاب * السائمة: الماشية المرسلة للرعي * تردي: تهلك، تئوب: ترجع. كأننا بالشاعر يقدم الحديث عن الخيول التي غنمت أو التي اشتريت ثم نقلت لتعيش في أرباض المدينة، وشبهها بالذئاب في سرعة عدوها وخفة حركتها، وذكر الشاعر أن نموها كان بسبب علف الشعير وما يجز لها من النبات بالمقضاب، ثم صور جسدها فوصفه بالطول في قوله: قود وهو جمع أقود وقوداء، ثم صور نشاطها وحركتها حين تسمع الصياح فتفعل فعل كلاب الصيد حين تنشط وتنطلق وقد سمعت صوت الكلاب (صاحبها) وهو يهيب بها نحو الفرائس وكأن الخيول دربت على الاندفاع حين تسمع الصياح.
وهذه الخيول ينتفع بها في السلم والحرب، فهي في السلم تحوط السوائم وترعاها من سطوة الذئاب، وأما في الحرب فهي مهلكة للأعداء وتئوب بالغنائم والأسلاب.
وإنا حين نلقي نظرة على هذه الأبيات من تلك القصيدة الطويلة نلمس قوة (لبيد) وأسلوب لبيد وروح لبيد وكأن انطباعات الجاهليين تنعكس على شعره فهو متأثر إلى حد كبير برءوس شعراء الجاهلية وإن كان مخضرما وفي شعره الكثير من المعاني التي جاء بها القرآن والإسلام.
وقد لا نجد في هذا اللون الكثير من الوهن الذي ربما نراه في شعر غيره من شعراء صدر الإسلام الذين اتهموا بضعف شعرهم الإسلامي؛ لأنه مرتجل أو لأنه يحمل حقائق إسلامية صادقة.
وقد قيل: إن أعذب الشعر أكذبه: والحقائق تجافي الكذب، وربما كان سبب ضعف شعرهم، ذلك السرد التاريخي وقد لا يكون من إسراف القول إذا قلنا: إن كعب بن مالك قمة شعراء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحسبه من بين الصحابة أن يكون واحدا من اثنين حملا في سبيل الدعوة السيف والقلم هما: كعب وابن رواحة، فكان كعب صاحب السيف الذي نافح عن الإسلام ورسوله ونصر كلمته وكان صاحب القلم الذي ذاد عن الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - هجمات شعراء قريش بل طعن فأدمى ووخز فأخزى " جزاه الله وأحسن بين المجاهدين مثواه ".(1/136)
أحمد الشرباصي (1)
مسلمة بن عبد الملك
مجاهد على الدوام
روى الإمام البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: «جعل رزقي تحت ظل رمحي (2) » . والنفس تفهم من هذا الحديث الكريم معنى ترجو أن يكون صوابا من الله: وإلا فالخطأ منها ومن الشيطان، أن الحق لا بد له من قوة تحرسه وتصونه، وإلا ضاع تحت جبروت الباطل، والعامة تقول: المال السايب يعلم السرقة وكذلك قيل: من لم يتذأب أكلته الذئاب.
فرزق المسلم وهو يتمثل في داره وعقاره، وسكنه ووطنه، وزرعه وضرعه، وكل ما يحوزه ويملكه - يجب أن يكون محروسا بعدته وعتاده، مستظلا بسلاحه ورماحه، ومن هنا قال الله في القرآن الكريم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (3)
وليست الحرب في الإسلام غاية مقصودة لذاتها، ولكنها خطة يدفع إليها بغي الباغين وظلم الظالمين، ولذلك قال الله تعالى في التنزيل المجيد: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (4) وقال أيضا: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (5)
__________
(1) د. أحمد الشرباصي. أستاذ بجامعة الأزهر
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/92) .
(3) سورة الأنفال الآية 60
(4) سورة البقرة الآية 190
(5) سورة البقرة الآية 194(1/137)
وصيانة الحق والرزق تستلزم أن يكون أبناء الإسلام دائما على إعداد واستعداد، وأن تكون طائفة منهم على الدوام في حالة رباط، أو على أرض الميدان، حتى يظل الجهاد فريضة قائمة باقية، وصلوات الله وسلامه على رسوله حين مجد شأن المؤمن المجاهد الموصول النضال، فقال: «خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها (1) » .
* * *
وهذا: واحد من أبناء الإسلام، وأتباع محمد - عليه الصلاة والسلام - يظل أكثر من خمسين عاما يحمل سلاحه، ويسدد رماحه، ويذود عن حمى الدين، ويصون حرمات المسلمين، ويتقرب بالجهاد إلى الله رب العالمين: إنه البطل القائد، الأمير الفاتح أبو سعيد مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم القرشي الأموي الدمشقي، وإليه تنسب جماعة بني مسلمة التي كانت بلدتهم هي الأشمونين وفيها منازلهم، وهي بلدة بالصعيد الأعلى في مصر غربي نهر النيل.
وكان مسلمة بن عبد الملك من أبطال عصره، بل من أبطال الإسلام المعدودين، حتى كانوا يقولون عنه أنه خالد بن الوليد الثاني، لأنه كان يشبه سيف الله المسلول في شجاعته وكثرة معاركه وحروبه، ويقول عنه المؤرخ يوسف بن تغري: روى صاحب كتاب النجوم الزاهرة هذه العبارة: كان شجاعا صاحب همة وعزيمة، وله غزوات كثيرة (2) . ويقول عنه ابن كثير: وبالجملة كانت لمسلمة مواقف مشهورة، ومساع مشكورة، وغزوات متتالية منثورة، وقد افتتح حصونا وقلاعا، وأحيا بعزمه قصورا وبقاعا، وكان في زمانه في الغزوات نظير خالد بن الوليد في أيامه، وفي كثرة مغازيه، وكثرة فتوحه، وقوة عزمه، وشدة بأسه، وجودة تصرفه في نقضه وإبرامه، وهذا مع الكرم والفصاحة (3) ، ويقول عنه صاحب العقد الفريد: ولم يكن لعبد الملك ابن أسد رأيا، ولا أزكي عقلا، ولا أشجع قلبا، ولا أسمع نفسا، ولا أسخى كفا من مسلمة (4) .
ولذلك أوصى عبد الملك بن مروان أولاده، وفيهم مسلمة، فكان مما قاله لهم عنه: يا بني، أخوكم
__________
(1) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1652) ، سنن النسائي الزكاة (2569) ، موطأ مالك الجهاد (976) ، سنن الدارمي الجهاد (2395) .
(2) المرجع السابق
(3) البداية والنهاية ج9ص328و329
(4) العقد الفريد، ج7 ص145(1/138)
مسلمة، نابكم الذي تفترون عنه، ومجنكم الذي تستجنون به، أصدروا عن رأيه (1) .
ومع أن إخوة لمسلمة تولوا الخلافة دونه، ظل هو بينهم النجم المتألق الثاقب بجهاده وكفاحه، وقال عنه مؤرخ الإسلام الذهبي: كان مسلمة أولى بالخلافة من إخوته. وليست العبرة بالمناصب والمراتب، ولكنها بالإرادة والعزيمة، والإقدام، وعمق التفكير، وحسن الخلق.
وكانوا يلقبون مسلمة بلقب الجرادة الصفراء، لأنه كان متحليا بالشجاعة والإقدام، مع الرأي والدهاء؛ ومع أنه تولى إمارة أذربيجان وأرمينية أكثر من مرة وإمارة العراقين (2) ، ظل يواصل الجهاد، ويتابع المعارك، منذ تولى والده الخلافة سنة خمس وستين وظل مسلمة على هذه الروح البطولية حتى لحق بربه سنة إحدى وعشرين ومائة.
* * *
__________
(1) مروج الذهب للمسعودي ج3ص161
(2) العبر ج1ص154(1/139)
وهذه إشارات سريعة إلى سلسلة المعارك التي خاضها:
* في سنة ست وثمانين غزا مسلمة أرض الروم. وفي سنة سبع وثمانين غزا أرض الروم، ومعه يزيد بن جبير، فلقي الروم في عدد كثير بسوسنة من ناحية المصيصة، ولاقى فيها ميمونا الجرجماني، ومع مسلمة نحو من ألف مقاتل من أهل أنطاكية عند طوانة، فقتل منهم بشرا كثيرا، وفتح الله على يديه حصونا.
*وفي سنة ثمان وثمانين فتح مسلمة حصنا من حصون الروم تسمى طوانة، في شهر جمادى الآخرة، وشتوا بها، وكان على الجيش مسلمة والعباس بن الوليد بن عبد الملك، وهزم المسلمون أعداءهم، ويروى أن العباس قال لبعض من معه: أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة، فقال له: نادهم يأتوك. فنادى العباس: يا أهل القرآن. فأقبلوا جميعا، فهزم الله أعداءهم.
*وفي سنة ثمان وثمانين أيضا غزا مسلمة الروم مرة أخرى، ففتح ثلاثة حصون، هي حصن قسطنطينية وحصن غزالة، وحصن الأخرم (1) . *وفي سنة تسع وثمانين غزا مسلمة أرض الروم مرة أخرى، حيث فتح حصن سورية، وقصد عمورية، فوافق بها للروم جمعا كثيرا، فهزمهم الله، وافتتح هرقلة وقمودية.
__________
(1) انظر تاريخ الطبري، ج6 ص426، 429، 434، 436 على التوالي(1/139)
*وفي سنة تسع وثمانين أيضا غزا مسلمة الترك، حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح حصونا ومدائن هناك.
*وفي سنة اثنتين وتسعين غزا مسلمة، ومع عمر بن الوليد، أرض الروم، ففتح الله على يدي مسلمة ثلاثة حصون، وجلا أهل سوسنة إلى جوف أرض الروم.
*وفي سنة ثلاث وتسعين غزا مسلمة أرض الروم، فافتتح ماسة، وحصن الحديد، وغزالة، وبرجمة من ناحية ملطية (1) .
*وفي سنة ست وتسعين غزا مسلمة أرض الروم صيفا، وفتح حصنا يقال له: حصن عوف.
*وفي سنة سبع وتسعين غزا مسلمة أرض الروم، وفتح الحصن الذي كان قد فتحه الوضاح صاحب الوضاحية.
*وفي سنة ثمان وتسعين حاصر مسلمة القسطنطينية، وطال الحصار، واحتمل الجنود في ذلك متاعب شديدة.
*وفي سنة ثمان ومائة غزا مسلمة الروم حتى بلغ قيسارية وفتحها.
*وفي سنة تسع ومائة غزا الترك والسند، وولاه أخوه يزيد بن عبد الملك إمارة العراقيين ثم أرمينية.
*وفي سنة عشر ومائة غزا مسلمة الترك، وظل يجاهد شهرا في مطر شديد حتى نصره الله (2) .
*وفي سنة عشر ومائة أيضا قاتل مسلمة ملك الترك الأعظم خاقان، حيث زحف إلى مسلمة في جموع عظيمة فتوافقوا نحوا من شهر، ثم هزم الله خاقان زمن الشتاء، ورجع مسلمة سالما غانما، فسلك على مسلك ذي القرنين في رجوعه إلى الشام، وتسمى هذه الغزوة غزاة الطين، وذلك أنهم سلكوا على مفارق ومواضع غرق فيها دواب كثيرة، وتوحل فيها خلق كثير، فما نجوا حتى قاسوا شدائد وأهوالا صعابا وشدائد عظاما (3) .
*وفي سنة ثلاث عشرة غزا مسلمة بلاد خاقان، وبث فيها الجيوش، وفتح مدائن وحصونا، وقتل منهم وأسر ودان لمسلمة من كان وراء جبال بلنجر (4) .
__________
(1) تاريخ الطبري ج 6 ص439وص441وص469 على التوالي
(2) تاريخ الطبري ج7 ص43 و 54:
(3) البداية والنهاية: ج9 ص 259
(4) تاريخ الطبري ج 7 ص 88(1/140)
*وفي سنة ثلاث عشرة أيضا توغل مسلمة في بلاد الترك، فقتل منهم خلقا كثيرا، ودانت له تلك الممالك من ناحية بلنجر وأعمالها (1) .
*وفي سنة إحدى وعشرين ومائة غزا مسلمة الروم، ففتح حصن مطامير (2) .
__________
(1) البداية والنهاية ج9 ص304:
(2) : البداية ج9 ص326:(1/141)
رواية الحديث عن الخليفة الخامس
أرأيت. . . إنها سلسلة طويلة من المعارك والغزوات والحروب، وإنها لسلسلة كثيرة الحلقات. وكأنما نذر مسلمة نفسه للجهاد والقتال، واتخذ مسكنه في ساحات الكفاح والنضال، ومع ذلك كان عالما محدثا، روى الحديث عن خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز، وروى عنه الأحاديث جماعة منهم: عبد الملك بن أبي عثمان، وعبد الله بن قرعة، وعيينة والد سفيان بن عيينة، وابن أبي عمران، ومعاوية بن خديج، ويحيي بن يحيي الغساني (1) .
ويظهر أن اتصال مسلمة بن عبد الملك بالحاكم العادل، المخلص الأمين، خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز كان من أقوى الأسباب في تكوين شخصية مسلمة، تكوينا باهرا رائعا؛ لأني أومن بأن عمر بن عبد العزيز كان رجلا تتمثل فيه نفحات إلهية من الخير والبر والتوفيق، وأن الذين اتصلوا به وأخذوا عنه واقتبسوا منه هداهم الله، ووهبهم توفيقا ورشادا. ولعل مسلمة قد عبر عن شيء من هذا القبيل حينما دخل على عمر بن عبد العزيز وهو في ساعاته الأخيرة فقال له في تأثر عميق بليغ: جزاك الله، يا أمير المؤمنين عنا خيرا، فقد ألنت لنا قلوبا كانت قاسية، وجعلت لنا في الصالحين ذكرا (2) .
وهذه عبارة تدل على أن ملامح من شخصية مسلمة كان الفضل فيها لخامس الراشدين رضوان الله تبارك وتعالى عليه.
__________
(1) البداية والنهاية ج9 ص328
(2) العقد الفريد ج3 ص183:(1/141)
على فراش الموت بين مسلمة وعمر بن عبد العزيز
ومن: المواقف الخالدة الباقية بين مسلمة وعمر ما رواه ابن عبد ربه، وهو أن مسلمة بن عبد الملك، دخل على عمر بن عبد العزيز في المرض الذي مات فيه، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنك فطمت أفواه ولدك عن هذا المال، وتركتهم عالة، ولا بد لهم من شيء يصلحهم، فلو أوصيت بهم إلي أو إلى(1/141)
نظرائك من أهل بيتك لكفيتك مئونتهم إن شاء الله.
فقال عمر: أجلسوني، فأجلسوه، فقال:
الحمد لله، أبالله تخوفني يا مسلمة؟ . أما ما ذكرت أني فطمت أفواه ولدي عن هذا المال وتركتهم عالة، فإني لم أمنعهم حقا هو لهم. ولم أعطهم حقا هو لغيرهم، وأما ما سألت من الوصاة إليك أو إلى نظرائك من أهل بيتي، فإن وصيتي بهم إلى الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، وإنما بنو عمر أحد رجلين: رجل اتقى الله، فجعل الله له من أمره يسرا، ورزقه من حيث لا يحتسب، ورجل غير وفجر فلا يكون عمر أول من أعانه على ارتكابه، ادعوا لي بني. فدعوهم، وهم يومئذ اثنا عشر غلاما، فجعل يصعد بصره فيهم ويصوبه، حتى اغرورقت عيناه بالدمع، ثم قال:
بنفسي فتية تركتهم ولا مال لهم. يا بني، إني قد تركتكم من الله بخير، إنكم لا تمرون على مسلم ولا معاهد إلا ولكم عليه حق واجب إن شاء الله، يا بني، ميلت رأيي بين أن تفتقروا في الدنيا، وبين أن يدخل أبوكم النار، فكان أن تفتقروا إلى آخر الأبد خيرا من دخول أبيكم يوما واحدا النار. قوموا يا بني عصمكم الله ورزقكم.
فما احتاج أحد من أولاد عمر ولا افتقر (1) .
وكان مسلمة يظهر نعمة الله تعالى، ومن شواهد ذلك أنه دخل على عمر بن عبد العزيز وعليه ريطة من رياط مصر (أي ثوب رقيق ناعم) . فقال له عمر: بكم أخذت هذا يا أبا سعيد؟
أجاب مسلمة: بكذا وكذا.
قال عمر: فلو نقصت من ثمنها ما كان ناقصا من شرفك.
فأجاب مسلمة: إن أفضل الاقتصاد ما كان بعد الجدة، وأفضل العفو ما كان بعد القدرة، وأفضل اليد ما كان بعد الولاية (2) .
ولقد كان مسلمة رجلا معطاء، ولقد قال يوما لنصيب الشاعر: سلني. قال: لا، قال: ولم؟ قال نصيب:
لأن كفك بالجزيل أكثر من مسألتي باللسان.
وكان مسلمة مع تقواه وحرصه على الصلاة رجلا يحب العفو ويحبب فيه، ولقد حدث بين الخليفة هشام بن عبد الملك وبين ابن هبيرة ما دعا إلى إهدار دمه، ولكن خادما لمسلمة يحدثنا فيقول:
__________
(1) العقد الفريد ج5 ص 203
(2) : العقد الفريد ج5 ص198(1/142)
كان مسلمة بن عبد الملك يقوم الليل فيتوضأ ويتنفل حتى يصبح، فيدخل على أمير المؤمنين، فإني لأصب الماء على يديه من آخر الليل وهو يتوضأ، إذ صاح صائح من وراء الرواق: أنا بالله وبالأمير:
فقال مسلمة (في دهشة) : صوت ابن هبيرة، اخرج إليه.
فخرجت إليه ورجعت فأخبرته، فقال: أدخله، فدخل فإذا رجل يميد نعاسا، فقال: أنا بالله وبالأمير.
قال: أنا بالله، وأنت بالله.
ثم قال: أنا بالله، وأنا بالأمير.
قال مسلمة: أنا بالله، وأنت بالله.
حتى قالها ثلاثا، ثم قال: أنا بالله. فسكت عنه، ثم قال لي: انطلق به فوضئه وليصل، ثم اعرض عليه أحب الطعام إليه فأته به، وافرش له في تلك الصفة - لصفة بين يدي بيوت النساء - ولا توقظه حتى يقوم متى قام. فانطلقت به فتوضأ وصلى، وعرضت عليه الطعام فقال: شربة سويق، فشرب، وفرشت له فنام، وجئت إلى مسلمة فأعلمته، فغدا إلى هشام فجلس عنده، حتى إذا حان قيامه قال: يا أمير المؤمنين، لي حاجة. قال هشام: قضيت، إلا أن تكون في ابن هبيرة. قال قال مسلمة: رضيت يا أمير المؤمنين.
ثم قام مسلمة منصرفا، حتى إذا كاد أن يخرج من الديوان رجع فقال: يا أمير المؤمنين، ما عودتني أن تستثني في حاجة من حوائجي، وإني أكره أن يتحدث الناس أنك أحدثت علي الاستثناء.
قال هشام: لا أستثني عليك.
قال مسلمة: فهو ابن هبيرة.
فعفا عنه هشام (1) .
* * *
ومن ملامح شخصية مسلمة أنه كان يعرف للفصحى مكانتها، وللبيان السليم منزلته، وكان يقول:
اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه (2) . وكان يقول أيضا: مروءتان ظاهرتان: الرياسة والفصاحة (3) .
ومن كلماته قوله: ما أخذت أمرا قط بحزم فلمت نفسي فيه، وإن كانت العاقبة علي، ولا أخذت أمرا قط، وضيعت الحزم فيه، فحمدت نفسي وإن كانت لي العاقبة (4) .
__________
(1) العقد الفريد ج2 ص57 و 58
(2) : عيون الأخبار ج2 ص 158:
(3) : عيون الأخبار ج1 ص296:
(4) العقد الفريد ج1 ص 194(1/143)
وكان مسلمة يحب أهل الأدب، وأوصى لهم بثلث ماله، وقال: إنها صنعة جحف أهلها (1) أي سلبهم الناس حقهم.
وكذلك كان يعرف للشعراء مكانتهم وحقهم، ولقد تحدث كثير عزة فقال: شخصت أنا والأحوص ونصيب إلى عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وكل واحد منا يدل عليه بسابقة وإخاء قديم، ونحن لا نشك أن سيشركنا في خلافته، فلما رفعت لنا أعلام خناصرة (2) لقينا مسلمة بن عبد الملك، وهو يومئذ فتى العرب، فسلمنا فرد، ثم قال: أما بلغكم أن إمامكم لا يقبل الشعر؟ قلنا: ما توضح إلينا خبر حتى انتهينا إليك. ووجمنا وجمة عرف ذلك فينا.
قال: إن يكن ذو دين بني مروان قد ولي وخشيتم حرمانه، فإن ذا دنيانا قد بقي، ولكم عندي ما تحبون، وما ألبث حتى أرجع إليكم، وأمنحكم ما أنتم أهله.
فلما قدم كانت رحالنا عنده بأكرم منزل عليه (3) .
وكان مسلمة يعرف للعلماء كذلك أقدارهم، ويهدي إليهم، وكان يهدي إلى الحسن البصري، وأهدى إليه ذات مرة خميصة لها أعلام، فكان الحسن يصلي فيها (4) .
وكان يتقدم بالنصيحة في موطنها، ولقد لاحظ على أخيه يزيد بن عبد الملك نوعا من اللهو وهو في الخلافة، فنصحه وذكره بسيرة عمر بن عبد العزيز وقال له فيما قال: إنما مات عمر أمس، وقد كان من عدله ما قد علمت، فينبغي أن تظهر للناس العدل، وترفض هذا اللهو، فقد اقتدى بك عمالك في سائر أفعالك وسيرتك (5) .
* * *
ومن أروع المشاهد المأثورة المذكورة في سيرة البطل الفاتح: مسلمة بن عبد الملك. والتي يجب أن نطيل فيها التأمل والاعتبار، إن كنا من أصحاب القلوب والأبصار، أن مسلمة كان يحاصر ذات يوم حصنا، وما أكثر الحصون التي حاصرها، وما أكثر الحصون التي اقتحمها باسم الإسلام والمسلمين. . . واستعصى فتح الحصن على الجنود، فوقف مسلمة يخطب بينهم ويقول لهم ما معناه: أما فيكم أحد يقدم فيحدث لنا نقبا في هذا الحصن؟ .
وبعد قليل تقدم جندي ملثم، وألقى بنفسه على الحصن، واحتمل ما احتمل من أخطار وآلام، حتى أحدث في الحصن نقبا كان سببا في فتح المسلمين له، وعقب ذلك نادى مسلمة في جنوده قائلا: أين صاحب النقب؟ .
__________
(1) البداية والنهاية ج9 ص329
(2) خناصرة: بلدة من أعمال حلب
(3) : العقد الفريد ج1 ص314:
(4) العقد الفريد ج1 ص211: والخميصة ثوب من الخز
(5) : مروج الذهب ج3 ص196(1/144)
فلم يجبه أحد، فقال مسلمة: عزمت على صاحب النقب أن يأتي للقائي، وقد أمرت الآذن بإدخاله علي ساعة مجيئه.
وبعد حين أقبل نحو الآذن شخص ملثم، وقال له: استأذن لي على الأمير. فقال له: أأنت صاحب النقب؟ .
فأجاب: أنا أخبركم عنه، وأدلكم عليه. فأدخله الآذن على مسلمة، فقال الجندي الملثم للقائد:
إن صاحب النقب يشترط عليكم أمورا ثلاثة: ألا تبعثوا باسمه في صحيفة إلى الخليفة، وألا تأمروا له بشيء جزاء ما صنع، وألا تسألوه من هو؟ . فقال مسلمة: له ذلك، فأين هو؟ فأجاب الجندي في تواضع واستحياء أنا صاحب النقب أيها الأمير. ثم سارع بالخروج.
فكان مسلمة بعد ذلك لا يصلي صلاة إلا قال في دعائها: اللهم اجعلني مع صاحب النقب يوم القيامة (1) .
وبعد ما يزيد عن نصف قرن من الزمان قضاها مسلمة بن عبد الملك في قتال ونضال، وكفاح وحمل سلاح. مضى إلى ربه سنة إحدى وعشرين ومائة، لينال ثوابه مع أهل التقوى وأهل المغفرة: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} (2) {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} (3) وهو الذي سأله أخوه هشام: هل دخلك ذعر قط لحرب أو عدو؟ فقال: ما سلمت في ذلك من ذعر ينبه على حيلة، ولم يغشني ذعر سلبني رأيي. فقال هشام: هذه والله البسالة (4) .
توفي مسلمة يوم الأربعاء لسبع مضين من المحرم سنة إحدى وعشرين ومائة، في موضع يقال له الحانوت، وقيل سنة عشرين ومائة، وقيل سنة ثنتين وعشرين ومائة.
ومن العجيب أن صاحب (النجوم الزاهرة) ذكر خبرين عن وفاته فذكر أولا أنه مات سنة عشرين ومائة.
ثم عاد بعد قليل فذكر أنه مات سنة ثنتين وعشرين ومائة، ولكن القول الأول أصح.
ولقد رثى الوليد بن يزيد بن عبد الملك عمه البطل مسلمة بن عبد الملك فقال في رثائه هذه الأبيات:
أقول - وما البعد إلا الردى ... أمسلم , لا تبعدن , مسلمة
فقد كنت نورا لنا في البلاد ... مضيئا , فقد أصبحت مظلمة
ونكتم موتك نخشى اليقين ... فأبدى اليقين لنا الجمجمة!
رضوان الله تبارك وتعالى عليه.
__________
(1) : عيون الأخبار ج1 ص 172:
(2) سورة القمر الآية 54
(3) سورة القمر الآية 55
(4) العقد الفريد ج1 ص 82(1/145)
الدكتور أحمد الشرباصي
تاريخ الميلاد: 17 نوفمبر سنة 1918 م في بلدة البجلات بمحافظة الدقهلية - جمهورية مصر العربية.
العمل: أستاذ بجامعة الأزهر - كلية اللغة العربية.
التخصص: العلوم الإسلامية والعربية.
المؤهل العلمي الأخير: درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى في الدراسات الأدبية والنقدية سنة 1967 م.
المؤلفات: له عشرات من الكتب في الدين والتاريخ والأدب والاجتماع.
عنوان المراسلات: 15 شارع أبو حازم - شارع الأهرام - الجيزة - مصر.(1/146)
عبد الله خياط
حركة الإصلاح الديني
في القرن الثاني عشر
في كل فترة من الزمن، وكلما تقادم العهد على إشعاع نور العرفان على الإنسانية، وأخذت الشموع بعد طول اتقادها تذبل وتتلاشى، يبدأ إشراق جديد لنجوم أخرى تلمع في سماء البشرية، فيستضيء البشر بلألائها، ويهتدي إلى الطريق بسطوع أنوارها، فتحيا في نفوس أفراده المعرفة بعد اضمحلالها وينتبه الوعي بعد خموله.
ولقد كان مصلح القرن الثاني عشر الشيخ محمد بن عبد الوهاب نجما من تلك النجوم اللامعة التي استضاءت بنورها الإنسانية بعد ما خبت فيها جذوة التفكير، وأظلم أمامها سبيل الحق وغشيتها غاشية من الجهل فجاء ظهوره في الوقت المناسب.
ميلاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب
ولد هذا المصلح عام 1115 هـ - 1703 م في بلدة العيينة وفي قلب الجزيرة العربية من بيت علم محافظ متمسك، وترعرع في أحضان العلم حيث كان أبوه وجده علمين من أعلام زمانهما، وارتشف من(1/147)
مناهل العلم على والده ثم سعى إلى طلب المعرفة في الحجاز والعراق وبلغ من طموحه أن فكر في التطواف في البلاد رغبة في الكشف عن معالم الحقيقة، ولكن إمكانياته وقفت به عند هذا الحد، وقد حصل على رصيد كبير في علوم الدين وما يتصل بها من علوم اللغة العربية، مما هيأه للاضطلاع بمهمة الزعامة الدينية والقيام بواجب المصلح، الذي ينير السبيل ويهدي إلى النور ويحمل على الرجعية، ويصلح ما أفسده تقادم العهد على شريعة السماء، التي جاء بها رسول الإنسانية محمد - صلى الله عليه وسلم - ويبعد عنها الزيف. ويبرزها واضحة المعالم، وإن المصلحين والمجددين في كل زمان ومكان كثيرا ما يصطدمون - بأطماع المغرضين وأصحاب النزوات الطائشة الذين يكرهون الحد من أطماعهم ونزواتهم فيحتالون بكل الوسائل لإحباط مجهود المصلحين وإيقاف حملة الإنقاذ التي يقودها المجددون، وقد لقي مصلح القرن الثاني عشر من العنت والإرهاق والتضييق ومصادرة الحرية، لقي من ذلك كله الشيء الكثير فصبر وجالد شأن كل مؤمن بمبدئه مقتنع بسلامة قضيته وصحة نظرياته.
لقد خشي خصوم المصلح من امتداد مبادئه وذلك طبيعي ومنطقي أيضا إذ أن البقاء للأصلح فجندوا له كل الإمكانيات للقضاء عليه حتى رموه بالأطماع السياسية ليوغروا الصدور عليه في داخل الجزيرة وخارجها ولدى سلاطين الدولة العثمانية، ووصفوا دعوته (بالوهابية) إمعانا في التنفير منها لاعتبارها خارجة على تعاليم الإسلام ونظريات أئمة المذاهب الإسلامية المجتهدين.
وفي ظروف غير اعتيادية، وتحت تأثير سلسلة من الاضطهادات المتعاقبة قرر المصلح النزوح إلى بلدة الدرعية عاصمة ملك آل سعود شمال الرياض (العاصمة الحالية للمملكة العربية السعودية) وتعاقد المصلح مع أميرها محمد بن سعود على نشر تعاليمه التي هي في الواقع تعاليم الإسلام الصحيح، وكان للأمير محمد ولأولاده من بعده مع المصلح وأبنائه وأحفاده مواقف حميدة اتسع بها نطاق الإصلاح حيث تضامن السيف مع الكتاب لإظهار الحق تحت ظلال علم الدولة الأخضر الذي يحمل شعار الإسلام وكلمة الإسلام.
* * *
لا إله إلا الله محمد رسول الله: هذا الشعار في هذا العلم البارز الخفاق اجتذب إليه القلوب ونبه الوعي الإسلامي فأدرك بعد طول سبات أن هذا الصوت المدوي المنبعث من قلب الجزيرة مهد الفطرة هو صوت الحرية، صوت النذير باضمحلال سحب الباطل، صوت التحرير يقود حملته مصلح الجزيرة في القرن الثاني عشر الشيخ محمد بن عبد الوهاب - ومات المصلح سنة1206 هـ - 1787 م - بعد أن قرت عينه بانتشار تعاليمه إلى أبعد مدى أمكن أن تنتشر إليه في الجزيرة وبعد أن خلفه من ذريته من حمل على عاتقه القيام بالدعوة إلى مبادئه التي هي في الواقع مبادئ(1/148)
أفضل شريعة جاءت من السماء عن طريق منقذ البشرية محمد صلى الله عليه وسلم. والذي بشرت به الكتب السماوية.
ومات قبل المصلح رأس الدولة السعودية الأولى محمد بن سعود - رحمه الله تعالى - ولكن سيفه لم يزل مسلولا - بيد أبنائه من بعده يناصرون به الحركة الإصلاحية الدينية ويعاضدون خلفاء المصلح حتى الوقت الحاضر.(1/149)
النظريات التي قامت عليها الدعوة
النظرية الأولى
تنظيم: العلاقة بين الخالق والمخلوق. بحيث يعترف المخلوق بسلطان الإله والهيمنة عليه في جميع أموره وله في عنقه حق التقديس والتأليه والعبودية المطلقة، فلا يلتفت إلا إليه ولا يتعلق إلا به ولا يعترف لسلطة غيبية وقدرة فعالة إلا لسلطته وقدرته. حتى السلطة التنفيذية التي تكون عادة للملوك والهيئات التنفيذية يجعلها الشيخ خاضعة لنظام التشريع الإلهي فلا يجوز الانصياع والإذعان لهذه السلطات ولا يحقق رغباتها إلا في حدود تشريع السماء وهذه هي نظرية الإسلام حيث يقول رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (1) » ولا يجوز الشيخ أن تتطامن النفوس إلا لخالقها أو تذل وتستكين إلا لمن له حق الهيمنة عليها والتصرف المطلق فيها وهو الله ويؤيد هذه النظرية بقول رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - في خطبته التي قرر فيها قواعد العدالة الإنسانية يقول.
«إن دينكم واحد، وإن أباكم واحد، الناس من آدم، وآدم من تراب» .
وتمشيا مع واقع هذه النظرية وتحقيقا لأهدافها طالب الشيخ بما يأتي:
1 - الإخلاص: في عبادة الواحد الأحد، المالك لأمور عباده، فهو وحده الذي يستحق التأليه والتوجه إليه، وقصده في جلب النفع ودفع الضر.
2 - الإعراض: عن عبادة الطواغيت، وكل ما توجه إليه الناس بلون التقديس والعبادة فهو طاغوت، سواء كان قبرا أو شجرا أو حجرا أو جنيبا أو غير ذلك.
3 - قطع: الصلة بالقبور والمقبورين إلا في زورات خاصة، يقوم بها الرجال لا تتقيد بزمن ولا تتحدد بوقت معين، والغرض من هذه الزيارة مصلحة الأموات؛ لاستنزال الرحمة لهم، والدعاء والاستغفار، ولأخذ العبرة من مصيرهم لا لغرض التبرك بهم، والتمسح بقبورهم وطلب العون منهم.
4 - التنكر: لمبدأ اتخاذ الموتى من صالحين وأولياء وأنبياء شفعاء ووسطاء بين الخالق والمخلوق قياسا على الوساطة المعروفة بين المخلوقين بعضهم مع بعض لدى الملوك والعظماء، إذ أن ذلك قياس مع الفارق وباطل لا تقره التعاليم الإسلامية.
5 - تسوية: القبور المشرفة بالأرض، لا فرق في ذلك بين قبر نبي أو ولي أو رجل صالح أو غيره - ذلك لأن في رفع القبور والبناء عليها وإشعال السرج عندها تحذيرا شديدا من حامي
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) .(1/149)
حمى الدين النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ ولأن هذا الصنيع خطوة للوثنية.(1/150)
النظرية الثانية
تركيز: النشاط الإنساني للقيام بأداء الشعائر الإسلامية المفروضة بكل دقة دون زيادة أو نقص فالصلاة والزكاة والصوم والحج والأذان وغير ذلك من شرائع الإسلام، التي جاءت بها شريعة السماء عن طريق رسول الإسلام النبي محمد - صلى الله عليه وسلم.
وكل ذلك يجب عدم الإخلال به كفريضة، ويجب الانصياع إليه عن طيب نفس واقتناع واستسلام تام وإذعان شامل بحيث تعتقد القلوب وجوب الإيمان بهذه الشعائر وبحيث تعمل الجوارح على أدائها دون ضجر أو ملل وسآمة.(1/150)
النظرية الثالثة:
إقامة: الحدود التي فرضتها شريعة السماء على المخالفات التي تصدر من بعض أفراد الجماعة الإسلامية، كعقوبة زاجرة، أو كضمان لحفظ التوازن، وصيانة الحقوق الفردية، وتقويم المعوج من الأخلاق، والترفع عن الرذيلة في كل مجالاتها - فالمجترئ على سفك الدم الحرام يقتل إذا ثبتت إدانته - والذي يعتدي على الغير ويسرق المال تقطع يده إذا ثبتت إدانته، واستوفيت شروط القطع. والخيانة الزوجية في شتى ملابساتها ترتفع فيها العقوبة لدرجة الرجم بالحجارة وتنخفض فيكتفى فيها بالضرب البسيط مع الاعتقال أو بدونه، حسب مقياس الجرم وبقدر ثبوت الإدانة، وهكذا كل مخالفة رتبت عليها الشريعة الإسلامية عقوبة يجب أن تطبق العقوبة بكل دقة، ويستوي في تطبيقها الشريف والوضيع والأمير والمأمور دون فرق أو محاباة.
ذلك لأن الناس سواسية كأسنان المشط لا فرق في نظر العدالة بين أبيض وأسود ولا بين شريف ووضيع وتلك هي تعاليم رسول الإسلام محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد قطع يد امرأة شريفة في سرقة سرقتها رغم الوساطات المتكررة لديه، والشفاعات في قضيتها من أحب الناس إليه، بل قال: للشفعاء «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها (1) » على هذه النظريات الثلاث قام البرنامج الإصلاحي لحركة التجديد في القرن الثاني عشر هـ 18 م، أما النظرية المذهبية فلم تكن للمصلح نظرية مستقلة ينفرد بها عن نظريات أئمة المذاهب المعترف بها لدى الجماعة الإسلامية، فهو محتضن مذهب الإمام أحمد بن حنبل رابع الأئمة المتبوعين والمشهور بإمام أهل السنة؛ لأن مذهبه يرتكز على الأدلة النقلية من (القرآن) أو على أحاديث رسول الإسلام المدونة الصحيحة والمجموعة في أشهر كتب الحديث - فالشيخ في هذه الناحية متبع لا متبوع ومنتسب لا ينسب إليه أحد.
أما الوهابية المزعومة فهي صفة وصف بها كل من يدين بالدين الصحيح، والغرض منها تضليل الرأي
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3475) ، صحيح مسلم الحدود (1688) ، سنن الترمذي الحدود (1430) ، سنن أبو داود الحدود (4373) ، سنن ابن ماجه الحدود (2547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/162) ، سنن الدارمي الحدود (2302) .(1/150)
العام والتلبيس على ضعاف التفكير وحجب الحقيقة عن الظهور، فقد وصف بهذه الصفة ابن تيمية وهو مصلح القرن السادس هـ - 12 م - وهو يبعد كثيرا عن عهد حركة الإصلاح في القرن الثاني عشر، ووصف بها كل مصلح يقوم بعملية التطهير ودفع الزيف عن الإسلام لمجرد التنفير منه واعتباره صاحب نظريات متطرفة تناهض الإسلام.
1 - تفاعل النفوس مع دعوة الشيخ في البلاد السعودية.
2 - تأثر بعض البلدان بها خارج الجزيرة.
أما تفاعل النفوس مع دعوة الشيخ فالحديث عنه طويل مديد وقصارى ما يمكن أن يقال عن ذلك: أن ما كان بالأمس خيالا لا يصدق به، أصبح بعد نجاح حركة الإصلاح وفي أخريات أيام المصلح وفي عهد الحكام المتعاقدين من آل سعود وعلى يد خلفاء المصلح أصبح حقيقة واقعة فلم يكن أحد يحلم أن تعود للإسلام جدته، وتزاح عنه الأضاليل ويطهر من البدع، ثم تقام الشعائر الإسلامية في طول البلاد التي شملتها حركة الإصلاح كما كانت في عهد رسول الله - عليه السلام - وعهد خلفائه الراشدين، ومن تلك البلاد مكة المكرمة التي يحج إلى بيت الله فيها كل عام مئات الألوف من المسلمين من أقاصي الدنيا، والمدينة التي تضم قبر النبي محمد - صلى الله عليه وسلم. - وما ذاك إلا أثر من آثار تفاعل النفوس مع دعوة الشيخ وهضم التعليمات الإسلامية التي قام بنشرها بعد دروسها وإهمال الكثير منها، وما كان يجول في تفكير أحد أن هذه الحركة سوف تتأثر بها الأوساط الإسلامية خارج الجزيرة فتقوم في مصر والهند وإندونيسيا وغيرها من أقاصي البلاد تقوم جمعيات إسلامية تدعو إلى دعوة الشيخ باسم العقيدة السلفية نسبة إلى السلف في صدر الإسلام ومن تبعهم على نهجهم - يقول المؤرخ الأمريكي لوثروب صاحب كتاب حاضر العالم الإسلامي (قد استطاع الوهابيون أن يبذروا بذورا تلاها الاختصار الشديد للثورة الوهابية في كل فج إسلامي حتى بلغت دعوتهم الدينية أقصى المعمور) .
وهكذا استمر التفاعل مع دعوة الشيخ حتى غدت المبدأ الثابت الذي لا يتزعزع بعد أن كانت منبوذة مقهورة يعتبرها دعاة الرجعية آراء متطرفة، وأصبحت العقيدة الراسخة التي لا تنفك عن القلوب، وأخذت الأيدي تعمل لنشرها والجهود تتضافر على إذاعتها عن طريق وسائل الإعلام، وتغذية الأطفال بها منذ نعومة أظفارهم في شكل مقررات تدرس في المدارس ويحتضنها الشباب كدين، وليتحصن بها من أعاصير الباطل ومن المبادئ الهدامة الخطرة.(1/151)
آراء بعض المستشرقين في حركته الإصلاحية
قال المؤرخ الأمريكي لوثر ستودارد صاحب كتاب حاضر العالم الإسلامي:
(. . . فالدعوة الوهابية إنما هي دعوة إصلاحية خالصة بحتة. غرضها إصلاح الخرق ونسخ الشبهات وإبطال الأوهام ونقض التفاسير المختلفة والتعاليق المتضاربة التي وضعها أربابها في عصور الإسلام الوسطى ودحض البدع وعبادة الأولياء، وعلى الجملة هي الرجوع إلى الإسلام والأخذ به على أوله وأصله ولبابه وجوهره، أي: أنها الاستمساك بالوحدانية التي أوحي الله بها إلى صاحب الرسالة صافية نقية، والاهتداء والائتمام بالقرآن المنزل مجردا، وأما ما سوى ذلك فباطل وليس في شيء من الإسلام) .
وقال وليمز ارمسترونج في كتاب (ابن سعود. . .) : كذلك لما شاع الفساد في بلاد المسلمين قام في جزيرة العرب محمد بن عبد الوهاب يحارب البدع ويدعو إلى جمع الصفوف لإعادة مجد الإسلام وعبادة الله بقلب سليم ولكنه كغيره من المصلحين اضطهد واتهم بالإلحاد والزندقة.(1/152)
كتابات عن الحركة لقادة الفكر في الشرق
قال: الأستاذ أحمد أمين - رحمه الله - زعماء الإصلاح في العصر الحديث - أهم مسألة شغلت ذهنه (يقصد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله) في درسه ورحلاته مسألة التوحيد التي هي عماد الإسلام والتي تبلورت في (لا إله إلا الله) والتي تميز الإسلام بها عما عداه والتي دعا إليها محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصدق دعوة وأحرها فلا أصنام ولا أوثان ولا عبادة آباء وأجداد ولا أحجار ولا نحو ذلك، ومن أجل هذا سمي هو وأتباعه أنفسهم (بالموحدين) أما اسم الوهابية فهو اسم أطلقه عليهم خصومهم واستعمله الأوروبيون ثم جرى على الألسن.
وقال الدكتور طه حسين في كتابه - الحياة الأدبية في جزيرة العرب -: إن هذا المذهب جديد وقديم معا. والواقع أنه جديد بالنسبة إلى المعاصرين ولكنه قديم في حقيقة الأمر، لأنه ليس إلا الدعوة القوية إلى الإسلام الخالص النقي المطهر من كل شوائب الشرك والوثنية. هو الدعوة إلى الإسلام كما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - خالصا لله وحده ملغيا لكل واسطة بين الله والناس.
هو إحياء للإسلام وتطهير له مما أصابه من نتائج الجهل ومن نتائج الاختلاط بغير العرب فقد أنكر محمد بن عبد الوهاب على أهل نجد ما كانوا قد عادوا إليه من جاهلية في العقيدة والسيرة.(1/152)
مراجع عن الحركة
... الكتب ... إيضاحات
* ... روضة الأفكار والأفهام ... لحسين بن غنام وهو أقدم كتاب وأصح مرجع لحياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فقد كان مؤلفه من تلامذة المصلح وممن شاهد كثيرا من الحوادث.
* ... عنوان المجد في تاريخ نجد ... لعثمان بن بشر النجدي وقد أدرك المؤلف أولاد المصلح.
* ... مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد ... لرشيد بن علي الحنبلي وقد أشار المستشرق " كارلمان " في دائرة المعارف الإسلامية إلى هذا الكتاب.
* ... البدر الطالع ... لمحمد بن علي الشوكاني اليمني الزبيدي.
* ... تاريخ نجد ... للألوسي.
* ... حاضر العالم الإسلامي ... للوثر ستودارد الأمريكي.
* ... الدعوة الوهابية ... لعبد الله بن علي القصيمي.
* ... الوهابيون والحجاز ... للسيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار.
* ... تاريخ نجد ... لأمين الريحاني.
* ... جزيرة العرب في القرن العشرين ... للشيخ حافظ وهبه.
* ... قلب الجزيرة ... لفؤاد حمزة.
* ... أثر الوهابية في جزيرة العرب ... للأستاذ حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة بمصر.
* ... زعماء الإصلاح ... للأستاذ أحمد أمين.
* ... الحياة الأدبية في جزيرة العرب ... للدكتور طه حسين.
* ... إتحاف النبلاء ... لصديق حسن خان (باللغة الفارسية) .
* ... رحلة نيبور ...(1/153)
وهو أول رحالة أوروبي تعرض لحركة المصلح ورحلته أقدم مصدر أوروبي عن تاريخ المصلح إلا أنها لا تخلو من بعض الأخطاء لأنه استقى معلوماته من كتب الأولين.
* ... رحلة باديا ... وهو أول رحالة أوروبي تكلم عن حركة الوهابية في نجد وعن عاصمتهم الدرعية بإسهاب.
* ... رحلة بوركهات ... كتب هذا الرحالة بحثا جغرافيا مفصلا عن نجد وبلدة الدرعية وإقليم العارض.
* ... مختصر تاريخ الوهابية ... لهارفورد جون برجس وهو ضابط بريطاني وقد وصل إلى بلاد العرب في حياة المصلح واستطاع أن يشاهد فتوحات سعود بن عبد العزيز عن كثب.
* ... مستقبل الإسلام ... ل ولفود.
* ... قاموس الإسلام ... لتوماس ب. وهذا المؤلف مبشر بروتستاني.
* ... الجزيرة مهد الإسلام ... لزويمر وقد حاول فيه رغم تعصبه فهم حقيقة الدعوة التي قام بها الشيخ فوصف حالة العرب في الجزيرة قبل الدعوة وصفا دقيقا.
* ... اختراق الجزيرة العربية ... لداود جورج.
* ... البلاد العربية ... مستر فلبي.
* ... مقالة مورت مان ... مستشرق ألماني وردت مقالته في دائرة المعارف الإسلامية.
* ... مركز العرب في الشمس ... ريتشارد كوك.(1/154)
كتب صنفها الشيخ رحمه الله وأبناؤه وأحفاده
الكتب ... إيضاحات
* كتاب الأصول الثلاثة ... للمصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب
* كتاب كشف الشبهات ... للمصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب
* كتاب التوحيد فيما يجب من حق الله على العبيد ... للمصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب
* رسالة رسائل الجاهلية ... للمصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب
* رسالة تفسير كلمة التوحيد ... للمصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب
* رسالة الأربع القواعد في الدين ... للمصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب
* رسالة في معنى الطاغوت ... للمصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب
* كتاب مجموعة الحديث على أبواب الفقه ... للمصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب
* مختصر الشرح الكبير والأنصاف ... للمصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب
* كتاب السيرة المطولة ... للمصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب
* كتاب مختصر الهدي النبوي ... للمصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب
* أربع رسائل في الأحكام العملية والردة وبعض فوائد التفسير ... للمصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب
* تفسير سور أجزاء من القرآن ... للمصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب
* رسالة فوائد الفاتحة ... للمصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب
* رسالة أصل دين الإسلام ... للشيخ عبد الرحمن بن حسن حفيد المصلح
* كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ... للشيخ عبد الرحمن بن حسن حفيد المصلح.
* قرة عيون الموحدين تعليقات على كتاب التوحيد ... للشيخ عبد الرحمن بن حسن حفيد المصلح.
* كتاب الكلمات النافعة ... للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد
* رسالة أوثق عرى الإيمان ... للشيخ سليمان بن عبد الله حفيد الشيخ.
* رسالة أنواع التوحيد وأنواع الشرك ... للشيخ عبد الرحمن بن حسن حفيد الشيخ.
* رسالتان في معنى كلمة التوحيد ... للشيخ عبد الله بن بطين من علماء نجد.
* أربعة مجلدات ضخمة تسمى مجموعة الرسائل والمسائل النجدية تجمع أصنافا من الرسائل في العقائد والفقه والفتوى وغير ذلك. ... وهي لجماعة من المؤلفين بما فيهم الشيخ وأبناؤه وأحفاده وتلامذتهم.(1/155)
{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} (1)
__________
(1) سورة يونس الآية 106(1/156)
عبد العزيز بن عبد الرحمن الربيعة
المفتي في الشريعة الإسلامية
لا: يخلو أي عصر من العصور - مهما كان ما يسير عليه من أنظمة دينية وسياسية واقتصادية، وغيرها من ظواهر اجتماعية: تبرز في محيطه، ويكون لها الأثر القوي في سلوكه، والهيمنة الكاملة في توجيه طاقاته نحو ما يعود عليها بالخدمة، للحفاظ عليها وتنميتها إن كانت ظواهر محمودة، وبإزالتها إن كان يمكن ذلك - أو إيجاد ما قد يحد من خطرها - حين لا يمكن ذلك - إن كانت ظواهر سيئة.
والباحث النابه يكون واجبه تجاه ذلك، ملاحقة تلك الظواهر، والتحدث فيها، والمشاركة في بحثها على النحو الملائم لها، شأنه في ذلك شأن الطبيب الماهر الذي يتتبع الأمراض البدنية ليطبق عليها ما جد في دنيا الطب من علاج، ويعصر ذهنه بالمقارنة والتجربة لما لم يجد له قبل ذلك نظيرا، ويتتبع الظواهر الصحية، فيهديها لمجتمعه، ويعين على تنميتها إلى أرفع مستوى يستطيع الوصول إليه بها.
ومن هذه الظواهر الاجتماعية غير المحمودة، التي برزت في المجتمعات الإسلامية في هذا العصر، الجهل بكثير من أحكام دينها، حتى صار كثير من الناس يسير في أمور دينه على غير هدى، وصار الحصيف فيهم من يسأل العلماء عما يحتاج إليه في ذلك.
ومن هنا برزت قضية الفتوى من العالم للجاهل، علاجا لتلك الظاهرة، أو مواجهة لها بما قد يحد من آثارها على المتصف بها.(1/157)
غير أن هذا العلاج - وإن كان هو العلاج الوحيد لهذه الظاهرة - لم يسر سيره الذي ينبغي أن يسيره في كثير من الشعوب الإسلامية؛ حيث تصدى للفتوى كثير ممن لا تتوفر فيهم شروط المفتي، ولا تكتمل فيهم كثير من الأمور التي ينبغي لمن نصب نفسه لهذا المنصب أن يتفطن لها، وذلك ناتج في كثير من الأحوال عن قلة من هو أهل لهذا المنصب، وانغماره في خضم هذه الأمواج الهائلة من الجهلة بأحكام دينها؛ وحب كثير ممن شدا بقسط قليل من العلم للظهور والتبوء للمكان الذي لم يتأهل بعد لأن يتسنم ذروته.
ومن أجل ذلك كله آثرت أن يكون هذا البحث متناولا للمفتي في الشريعة الإسلامية.
ولن يخفى على رواد هذا الميدان أن الإلمام به، والتعمق في جزيئاته - في بحث قصير كهذا - بعيد، إن لم يكن مستحيلا.
لذا فإنني سأقتصر فيه على:
التعرف على المفتي.
أقسام المفتين.
منزلة المفتي في الشريعة الإسلامية.
شروط من يتصدى لهذا المنصب العظيم.
وجملة أمور مما ينبغي له أن يتفطن لها حينما يمارس الفتوى، وأختمه بخاتمة ألخص فيها ما أنتهي إليه من نتائج، مذيلة باقتراحات تهدي إليها تلك النتائج، وتؤكد ضرورتها، سائلا الله (سبحانه) أن يمدني بعونه فيما أترسمه من خطوات، وإلهامه فيما أقرره من حقائق، وتوفيقه فيما أصل إليه من نتائج ومقترحات.
* * *(1/158)
تعريف المفتي
الحروف: الأصلية التي قامت عليها هذه الكلمة، هي الفاء، والتاء، والحرف المعتل، ولها مدلولان:
أحدهما: الطراوة والجدة، والآخر: تبين الحكم، والذي يناسب هذه الكلمة في موضوعنا المدلول الأخير، وإذن فالمفتي اسم فاعل على وزن " مفعل " مشتق من الإفتاء بمعنى الإبانة، يقال: " أفتاه في(1/158)
الأمر، أبانه له (1) ويقال: " أفتى الفقيه في المسألة، إذا بين حكمها (2) .
وأما في الإصلاح، فقد اختلف العلماء في تعريفه على آراء أهمها:
1 - أن المفتي هو المجتهد المطلق، وهو الفقيه، على حد تعبير صاحب " تحرير الكمال " (3) ، ولهذا يقول " الصيرفي " (4) إنه " موضوع لمن قام للناس بأمر دينهم، وعلم جمل عموم القرآن، وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، وكذلك في السنن والاستنباط، ولم يوضع لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها " ويقول " ابن السمعاني " (5) : " هو من استكمل فيه ثلاثة شروط: الاجتهاد، والعدالة، والكف عن الترخيص والتساهل. وللمتساهل حالتان: إحداهما: أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام، ويأخذ ببادئ النظر وأوائل الفكر، وهذا مقصر في حق الاجتهاد، ولا يحل له أن يفتي ولا يجوز. والثانية: أن يتساهل في طلب الرخص وتأول السنة، فهذا متجوز في دينه، وهو آثم من الأول ".
2 - ويذهب بعض العلماء إلى أن المفتي يكفي فيه أن يكون متبحرا في مذهب إمامه، فاهما لكلامه، عالما لراجحه من مرجوحه، خبيرا بالمرجوع عنه من المرجوع إليه، فلا يشترط فيه أن يكون مستطيعا لاستنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية، ولا متبحرا في الكتاب والسنة، عالما بوجوه مباحثهما.
وقد أيد أصحاب هذا القول كلامهم بأن اشتراط الاجتهاد المطلق في المفتي، يفضي إلى حرج عظيم، واسترسال الخلق في أهوائهم (6) ، ثم إن المفتي حينما يكون متبحرا في مذهب إمامه يكون ذلك كافيا؛ حيث إنه يغلب على ظن العامي أنه حكم الله عنده (7) ، والقضاء - وهو مركز عظيم - قد أطبق الناس فيه على تنفيذ أحكام من تولاه دون مراعاة لحصول شرط الاجتهاد فيه (8) ، فليكن للمفتي ما للقاضي من حيث عدم اشتراط الاجتهاد فيه، بل إنه قد انعقد الإجماع على جواز الإفتاء لمن يتوفر فيه هذا الشرط، فقد قال الشيخ " تاج الدين السبكي (9) ": " وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا ".
وإذا أضفنا إلى ما تقدم ما يحدثنا به التاريخ من أن أناسا برزوا في العصور الزاهية للإسلام وملأوا الدنيا بعلومهم وآرائهم الصائبة، وادعوا الاجتهاد المطلق تبعا لذلك، ومع ذلك لم يسلم لهم أهل عصرهم به،
__________
(1) '' الفيروز آبادي، القاموس المحيط، مصر، مطبعة السعادة سنة 1332 هـ مادة '' الفتاء ''
(2) '' ابن فارس، المصدر السابق مادة '' فتى ''.
(3) محمد علي بن حسين، تهذيب الفروق، مطبعة دار إحياء الكتب العربية، ط أولى سنة 1344 هـ 2 \ 116
(4) المصدر نفسه والصفحة نفسها:
(5) المصدر نفسه ص 116- 117
(6) ابن السبكي، توشيح الترشيح، اقتبسه محمد علي بن حسين في كتابه (الفروق) 2 \ 117
(7) المصدر نفسه والصفحة نفسها
(8) المصدر نفسه والصفحة نفسها
(9) المصدر نفسه والصفحة نفسها(1/159)
وإذا أضفنا - أيضا - إلى ذلك، ما نشاهده في واقع الأمة الإسلامية، من كثرة الجهل بأحكام الدين في كثير من أفرادها، وكثرة المشاغل التي تنتاب الفئة المتخصصة في أحكام الشريعة الإسلامية مما قد يحول بينهم وبين الوصول إلى درجة الاجتهاد المطلق في أحكام شريعتها، إذا أضفنا ذلك كله إلى ما تقدم، تبين لنا أنه لا يشترط لمن يتبوأ هذا المنصب أن تتوفر فيه صفة الاجتهاد المطلق.
ولعل من نافلة القول أنه جاز لمن هذه صفته أن يتصدى للفتيا، فإنه يجوز بالأولى لمن كان مجتهدا مطلقا، أو مجتهدا مقيدا في مذهب من ائتم به " بأن يعرف قواعده، وتفصيل مذهبه، ويقوى على استخراج الأحكام فيما لم ينص عليه إمامه، مراعيا قواعد إمامه، وعلى ترجيح قول على آخر داخل المذهب، حينما يجهل المتقدم منها من المتأخر " (1) .
ولهذا نرى الإمام " ابن القيم " (المتوفى سنة 751 هـ رحمه الله) (2) حين تحدث عمن يجوز لهم أن ينتصبوا للفتيا، ويجوز للعامة أن يتجهوا إليهم بالأسئلة عن أحكام دينهم - يقسمهم إلى أربعة أقسام:
أحدهم: العالم بكتاب الله، وسنة رسوله، وأقوال الصحابة، فهو المجتهد في أحكام النوازل، يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت، ولا ينافي اجتهاده تقليده لغيره أحيانا. فلا تجد أحدا من الأئمة إلا هو مقلد من هو أعلم منه في بعض الأحكام. . .
النوع الثاني: مجتهد مقيد في مذهب من ائتم به، فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومأخذه وأصوله، عارف بها، متمكن من التخريج عليها، وقياس ما لم ينص من ائتم به عليه على منصوصه، من غير أن يكون مقلدا لإمامه لا في الحكم ولا في الدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا، ودعا إلى مذهبه، ورتبه، وقرره، فهو موافق له في مقصده وطريقه معا. . .
النوع الثالث: من هو مجتهد في مذهب من انتسب إليه، مقرر له بالدليل، متقن لفتاويه، عالم بها، لكن لا يتعدى أقواله وفتاويه، ولا يخالفها إذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره ألبتة. . .
النوع الرابع: طائفة تفقهت في مذهب من انتسبت إليه، وحفظت فتاويه وفروعه، وأقرت على أنفسها بالتقليد المحض من جميع الوجوه، فإن ذكروا الكتاب والسنة يوما في مسألة، فعلى وجه التبرك والفضيلة، لا على وجه الاحتجاج والعمل، وإذا رأوا حديثا صحيحا مخالفا لقول من انتسبوا إليه، أخذوا بقوله،
__________
(1) شيخنا الشيخ (عبد الرزاق عفيفي) ، من أماليه، كان يقرر لنا هذه القضية
(2) أعلام الموقعين، ت محي الدين عبد الحميد، مصر مطبعة السعادة ط أولى 1374هـ 4 \ 212-214 -(1/160)
وتركوا الحديث، وإذا رأوا أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وغيرهم من الصحابة (رضي الله عنهم) قد أفتوا بفتيا، ووجدوا لإمامهم فتيا تخالفها، أخذوا بفتيا إمامهم، وتركوا فتاوى الصحابة قائلين: الإمام أعلم بذلك منا، ونحن قد قلدناه، فلا نتعداه ولا نتخطاه، بل هو أعلم بما نذهب إليه منا، ومن عدا هؤلاء، فمتكلف متخلف، قد دنا بنفسه عن رتبة المشتغلين، وقصر عن درجة المحصلين، فهو مكذلك مع المكذلكين، وإن ساعد القدر واستقل بالجواب، قال: يجوز بشرطه، ويصح بشرطه، ويجوز ما لم يمنع منه مانع شرعي، ويرجع في ذلك إلى رأي الحاكم، ونحو ذلك من الأجوبة، التي يستحسنها كل جاهل، ويستحي منها كل فاضل ".
* * *(1/161)
منزلة المفتي
والإفتاء: منصب عظيم، به يتصدى صاحبه لتوضيح ما يغمض على العامة من أمور دينهم، ويرشدهم إلى المناهج المستقيمة، التي في سلوكهم لها فلاحهم ونجاحهم، ولهذا سموا أولي الأمر، وأمر الناس بطاعتهم بل قرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) حيث يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) .
بل هو المنصب الذي تولاه الله (سبحانه) بنفسه حيث يقول (تعالى) : {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} (2) ، ويقول أيضا: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} (3) ، وكفى بهذا المنصب عظما وجلالة أن يتولاه رب السماوات والأرض، وكفى بمن يتولاه شرفا ومنزلة عالية أن يكون نائبا عن الله في هذا المنصب (4) والمفتي - أيضا - قائم مقام النبي (صلى الله عليه وسلم) في وراثته لعلم الشريعة منه (صلى الله عليه وسلم) ، وإبلاغها للناس، وتعليمها للجاهل بها، والإنذار بها.
فأما قيامه مقامه (صلى الله عليه وسلم) في وراثة الشريعة، فيدل له قوله (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه عنه أبو داود والترمذي بسنديهما: «إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ولكن ورثوا العلم (5) » ، وما رواه عنه البخاري ومسلم بسنديهما: «بينا أنا نائم، أتيت بقدح من لبن فشربت حتى أني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم (6) » ، وقال الله (تعالى) :
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة النساء الآية 127
(3) سورة النساء الآية 176
(4) ابن القيم، أعلام الموقعين 1 \ 11
(5) سنن أبو داود العلم (3641) ، سنن الدارمي المقدمة (342) .
(6) صحيح البخاري العلم (82) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2391) ، سنن الترمذي الرؤيا (2284) ، مسند أحمد بن حنبل (2/147) ، سنن الدارمي الرؤيا (2154) .(1/161)
{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} (1) .
وأما قيامه مقامه (صلى الله عليه وسلم) في إبلاغها للناس، وتعليمها للجاهل، فيدل له قوله (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه البخاري بسنده: «ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب (2) » ، وما رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: «بلغوا عني ولو آية (3) » ، وما رواه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عباس، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «تسمعون، ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم (4) » .
وأما قيامه مقامه (صلى الله عليه وسلم) في الإنذار بها، فيدل له قول الله (تعالى) : {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} (5) مع قوله (تعالى) : {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (6) .
وبهذا يتضح لنا ما للمفتي في الشريعة الإسلامية من منزلة عظمى، حيث كان يتبوأ مقام النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما قدمناه من أمور، ويخبر عن الله (سبحانه) ، ويوقع شريعته على أفعال المكلفين (7) .
* * *
__________
(1) سورة التوبة الآية 122
(2) صحيح البخاري العلم (105) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) .
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461) ، سنن الترمذي العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (2/159) ، سنن الدارمي المقدمة (542) .
(4) سنن أبو داود العلم (3659) ، مسند أحمد بن حنبل (1/321) .
(5) سورة هود الآية 12
(6) سورة التوبة الآية 122
(7) ينظر الشاطبي، الموافقات، ت عبد الله دراز، مصر، المطبعة الرحمانية، 4 \ 244- 246.(1/162)
شروط المفتي
يشترط العلماء في المفتي بمعناه الاصطلاحي - الذي رجحناه فيما مضى - شروطا كثيرة، وأهمها ما يأتي:
1 - الإسلام: فلا يمكن لأحد أن يتبوأ منصب الإفتاء إلا حين يكون مسلما، وهذا الشرط مما أجمع الناس عليه (1) ؛ إذ أنه يخبر عن الله، وينوب عن رسوله (صلى الله عليه وسلم) ويتلقى الناس ما يقوله على أنه دين الله (تعالى) ، ولا يتصف بذلك إلا من كان مسلما.
2 - التكليف: وذلك بأن يكون المتولي لهذا المنصب بالغا عاقلا، وهذا الشرط مما أجمع عليه أيضا (2) ، فإن الصبي لا حكم لقوله في مثل هذا، والمجنون مرفوع عنه القلم، فلا يتسنى له أن يحتل مكانة الإفتاء.
__________
(1) أحمد بن حمدان الحراني، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، مشق، نشر المكتب الإسلامي ط أولى، ص13
(2) المصدر نفسه والصفحة نفسها(1/162)
3 - العلم: وهو شرط أساسي لمن تقلد هذا المنصب؛ إذ أنه مبلغ عن الله أحكامه، ولا يبلغ عنه من جهل أحكامه، ولهذا يروي الخطيب البغداي (المتوفى سنة 462 هـ) بسنده (1) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «من أفتى بغير علم لعنته الملائكة» ، ويروى أيضا (2) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «من أفتى بفتيا بغير ثبت، فإنما إثمه على من أفتاه (3) » .
4 - العدالة: في الأقوال والأفعال وذلك بأن يكون مستقيما في أحواله، محافظا على مروءته، صادقا فيها بقوله، موثوقا به، ويفسر لنا الشيخ " أحمد بن حمدان الحراني الحنبلي " (4) (المتوفى سنة 695 هـ) المتصف بالعدالة، فيقول: " والعدل من استمر على فعل الواجب والمندوب والصدق وترك الحرام والمكروه والكذب، مع حفظ مروءته ومجانبة الريب والتهم. . . " وهذا الشرط قد دل عليه الإجماع؛ حيث إن المفتي يخبر عن الله (تعالى) بحكمه، ولا يكون ذلك إلا لمن اتصف بالعدالة (5) ، ثم إن " علماء المسلمين لم يختلفوا في أن الفاسق غير مقبول الفتوى في أحكام الدين، وإن كان بصيرا بها " كما صرح بذلك الخطيب البغدادي (6) وأما حين تظهر عليه صفة " العدالة "، لكن باطنه مجهول في ذلك، فلعلمائنا (رحمهم الله) قولان في وصفه بالعدالة أو عدم وصفه بها أظهرهما عدم وصفه بها (7) .
5 - حسن الطريقة، وسلامة المسلك، ورضا السيرة: فلا بد لمن تقلد هذا المنصب أن يتصف بذلك، فيكون حسن الطريقة، سليم المسلك، مرضي السيرة، حتى يثق الناس بأقواله، ويقبلوا ما يقوله لهم؛ حيث إنهم يتلقون منه أمورا هي أعظم شيء في نفوسهم، وهي أحكام الدين، ومن المعلوم أنهم لا يتلقون ذلك إلا ممن تحروا فيه هذه الأوصاف، وأما من يتحلى بها، فهم يعرضون عنه مهما كانت درجته الكبرى في الناحية العلمية، لذلك نرى الإمام القرافي (المتوفى سنة 684 هـ) يؤكد هذا الشرط ويوضحه أتم إيضاح حيث يقول " وينبغي للمفتي أن يكون. . . حسن السيرة. . . ويقصد بجميع ذلك التوسل إلى تنفيذ الحق وهداية الخلق، فتصير هذه الأمور كلها قربات عظيمة، وإليه الإشارة بقوله (تعالى) حكاية عن إبراهيم (عليه السلام) : {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (8) . قال العلماء:
__________
(1) الفقيه والمتفقه، مطابع القصيم، سنة 1389 هـ، 2 \ 155
(2) المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
(3) سنن ابن ماجه المقدمة (53) ، سنن الدارمي المقدمة (159) .
(4) صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، ص 13
(5) المصدر نفسه - والصفحة نفسها
(6) الفقيه والمتفقه، 2 \ 157
(7) صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص13
(8) سورة الشعراء الآية 84(1/163)
معناه، ثناء جميل، حتى يقتدي بي الناس. . "
6 - الورع والعفة عن كل ما يخدش الكرامة، والحرص على استطابة المأكل:
فحري بمن انتصب لهذا الأمر العظيم ألا يقوم به حق القيام إلا حين يكون متصفا بالورع، جاعلا نصوص الوعيد والتهديد لمن خالف أوامر الله بين عينيه، وحري به ألا يقوم به حق القيام إلا حين يكون عفيفا عما في أيدي الناس، وعما يعتبر في عرفهم من صفات الدناءة والضعة، وإلا حين يكون حريصا أشد الحرص على أن يكون مكسبه حلالا، وطرق معاملته مع الناس قائمة في أصولها وفروعها على وفق منهج الله، وفي حدود ما رسمه في شرعه، وأن يكون مأكله حلالا خالصا؛ بأن يكون قد عرف طرق حصوله وأيقن بحلها؛ فهذه صفات لا بد من حصولها في المفتي كي يوفق في أداء رسالته؛ إذ أن من لا يتورع عن الشبهات، ولا يعف عما في أيدي الناس، ولا يرعى العرف في تقويم الأمور وتنزيلها منازلها، من حيث الإقدام عليها، أو الإحجام عنها، ولا يحرص على أن يكون ما يتناوله طيبا وحلالا خالصا، إن من لا يرعى ذلك كله حري به ألا يوفق فيما يفتي به، وألا يصيب حكم الله فيما يسأل عنه، وألا يسمع منه حين يفتي، ولا يستجاب لقوله حين يقول، ولهذا نرى الخطيب البغدادي (1) يؤكد اشتراط هذه المعاني، فيقول في معرض ذكره لما يشترط في المفتي: " وينبغي أن يكون المفتي. . . حريصا على استطابة مأكله، فإن ذلك أول أسباب التوفيق، متورعا عن الشبهات ". ويتابعه القرافي (رحمه الله) (2) في ذلك فيقول: ". . . وأن يكون (المفتي) قليل الطمع، كثير الورع، فما أفلح مستكثر من الدنيا، ومعظم أهلها وحطامها ".
7 - رصانة الفكر وجودة الملاحظة، والتأني في الفتوى، والتثبت فيما يفتي به:
فهذه صفات يلزم وجودها فيمن يتصدى للفتيا؛ إذ أن من كان ناقصا في فهمه، أو متصفا بالغفلة، أو معروفا بالعجلة في فتواه والتسرع بالإجابة عما يسأل عنه - دون أن يتثبت من ذلك - إذ أن من كانت أوصافه كذلك، قد فقد أول أسباب التوفيق، وحري بمن فقد أولها ألا يحالفه الحظ في وجدان آخرها، وألا ينال في آخر المطاف غايته التي قصدها (3) .
8 - طلب المشورة من ذوي الدين والعلم والرأي:
وهذا شرط مأخوذ من عمومات الشريعة في غير موضوع الفتوى، ومما درج عليه السلف الصالح فيها، حيث كانوا يستشيرون حين تعرض لهم المشكلة، أو يسألون عنها، ودليل ما نقوله أن الله (سبحانه وتعالى) أثنى على المؤمنين؛ حيث كان أمرهم شورى بينهم، وأمر نبيه (صلى الله عليه وسلم) بأن يشاورهم في الأمر، وما كان من شأن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ، حيث كانت المسألة تنزل عليه، فيستشير فيها من حضر من الصحابة
__________
(1) الفقيه والمتفقه، 2 \ 158
(2) الأحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، ص 274
(3) الخطيب البغدادي، الفقيه والمتفقه، 2 \ 158(1/164)
بل ربما جمعهم وشاورهم، حتى كان يشاور ابن عباس (رضي الله عنهما) وهو إذ ذاك أحدث القوم سنا.
وينبغي أن يعلم أن هذا الشرط مقيد بما إذا " لم يعارضه مفسدة؛ من إفشاء سر السائل، أو تعريضه للأذى، أو مفسدة لبعض الحاضرين " (1) ؛ فإنه إن عارضه ذلك، فلا ينبغي أن يرتكب؛ دفعا لتلك المفاسد.
9 - رؤيته لنفسه بأنه أهل لهذا المنصب، وشهادة الناس له بالأهلية له:
فهذا شرط يورثه اليقين بصلاحيته للفتيا فيمضي فيها، ويرشحه في نظر العامة لهذا المقام، فيقدمون عليه يتلقون عنه أحكام دينهم، وما لم يعزز الإنسان بهذين الوصفين، فلن يكون صالحا لتبوء هذا المنصب، ولن يكون موثوقا بما يفتي به، ولا مقبولا عند العامة في سماع ما يقوله لهم في أمر دينهم، ولمالك بن أنس (رحمه الله) نصوص تدل لذلك، فقد ذكر القرافي عنه (2) ، أنه قال: " لا ينبغي للعالم أن يفتي حتى يراه الناس أهلا لذلك، ويرى هو نفسه أهلا لذلك، يريد تثبت أهليته عند العلماء، ويكون هو بيقين، مطلعا على ما قاله العلماء في حقه من الأهلية؛ لأنه قد يظهر من الإنسان أمر على ضد ما هو عليه، فإذا كان مطلعا على ما وصفه به الناس، حصل اليقين في ذلك، وما أفتى مالك حتى أجازه أربعون محنكا " (3) ، كما روى الخطيب البغدادي (4) بسنده، أن مالك بن أنس يقول: " ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك " وروى (5) بسنده أيضا إلى خلف بن عمر - صديق كان لمالك - قال: " سمعت مالكا يقول: " ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني: هل تراني موضعا لذلك؟ ؛ سألت ربيعة، وسألت يحيى بن سعيد، فأمراني بذلك، فقلت له: يا أبا عبد الله: لو نهوك؟ قال: كنت أنتهي؛ لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلا لشيء، حتى يسأل من هو أعلم منه ".
* * *
__________
(1) ابن القيم إعلام الموقعين 4 \ 257
(2) الفروق، مطبعة دار إحياء الكتب العربية، ط أولى سنة 1344 هـ 2 \ 110
(3) لأن التحنك هو شعار العلماء، انظرالمصدر نفسه، والصفحة نفسها
(4) الفقيه والمتفقه، 2 \ 154
(5) المصدر نفسه، والصفحة نفسها(1/165)
أمور ينبغي للمفتي أن يتفطن لها
هناك أمور كثيرة ينبغي لمن تقلد منصب الإفتاء أن يتفطن لها، وأن يأخذ نفسه بها؛ إذ هي لا تقل أهمية عما ذكرناه من الأمور التي تشترط له كي يتقلد هذا المنصب العظيم. ومن العسير جدا أن نلم بها في بحث كهذا - في قصره -، ولكن حسبنا من ذلك معظمها مما نرى أنه يحتل المكانة الكبرى بالنسبة لغيره.(1/165)
ومن هنا يمكننا أن نلخصها فيما يأتي:
1 - جمال المظهر وحسن الزي على الطريقة التي تتناسب مع الوضع الشرعي:
وإنما كان هذا الأمر مطلوبا؛ لأن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ولأن الخلق مجبولون على تعظيم الصور الظاهرة، والمفتي مطلوب منه أن يعمل ما يجعله عظيما في قلوب العامة حتى يقتدوا به، ويستنيروا بأقواله، ولهذا كان اتصافه بهذا الأمر قربة لله ينال بها الثواب حيث قصد بذلك التوسل إلى تنفيذ الحق وهداية الخلق (1) ولهذا قال عمر (رضي الله عنه) : " أحب إلى أن أنظر القارئ أبيض الثياب. أي ليعظم في نفوس الناس، فيعظم في نفوسهم ما لديه من الحق " (2) .
ويدخل في هذا الأمر اتصافه بالسكينة والوقار، وظهوره بمظهر الاحتشام والأدب؛ فإن ذلك مما يؤدي إلى أن يرغب المستمع في قبول ما يقول " (3) ، ومما يكون سببا فيما يقصده من وصول القول الحق إلى العامة وعملهم به.
2 - البداءة بالنفس في كل خير يفتي به: فذلك أمر مطلوب من المفتي؛ إذ هو علامة صدقه في فتواه، وهو السبيل لوضع البركة في قوله، وتيسير قبوله في نفوس مستمعيه، ولذا نجد القرآن يعتبر في الصدق مطابقة القول والفعل، وفي الكذب مخالفته له، وذلك كقول الله (تعالى) :
{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (4) ويقول (تعالى) : {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (5) {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (6) {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (7) وقد سلك الرسول (صلى الله عليه وسلم) هذا المسلك، فجاءت أقواله مطابقة لأفعاله، وسيرته ممتلئة بالشواهد لذلك.
ومنها ما أخرجه " مسلم " من أن «عمر بن أبي سلمة " سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن تقبيل الصائم.
فقال له: " سل هذه (لأم سلمة) فأخبرته أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يفعل ذلك، فقال: يا رسول الله: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
__________
(1) القرافي، الأحكام، ص271
(2) المصدر نفسه، والصفحة نفسها
(3) الآمدي، الأحكام في أصول الأحكام، 4 \ 222
(4) سورة الأحزاب الآية 23
(5) سورة التوبة الآية 75
(6) سورة التوبة الآية 76
(7) سورة التوبة الآية 77(1/166)
فقال له: والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له (1) » (2) ، وروى مسلم، أيضا أنه (صلى الله عليه وسلم) لما نهى عن الربا في خطبة حجة الوداع، قال: «وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب (3) » ، وروى الخمسة (4) ، أنه (صلى الله عليه وسلم) قال «حين شفع عنده في حد السرقة: " وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها (5) » ، فهذا منه (صلى الله عليه وسلم) ظاهر في المحافظة على مطابقة القول للفعل بالنسبة إليه وإلى قرابته، وهكذا ينبغي لمن تصدى لأحكام الله من الناس.
كما جاء الشرع ذاما للفاعل بخلاف ما يقول، فقال الله (تعالى) : {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} (6) وقال أيضا -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (7) {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا} (8) .
ومما ينبغي التنبيه إليه، أن هذا الأمر يعتبر وجوده أكمل في انتفاع المستفتي، وقبوله لما يقوله المفتي وليس معناه أنه لا بد من وجوده من أجل صحة الفتوى من الناحية الشرعية، اللهم إلا إذا سقطت درجة المفتي إلى مرحلة الفسق، فإنه حينئذ لا تقبل فتواه؛ لاختلال شرط العدالة فيه، ولهذا يقول الشاطبي (المتوفى سنة 790 هـ) في ذلك (9) : " والمراد بما سقنا من عدم مخالفة المفتي لما يفتي به، أن هذا أكمل في الانتفاع ولا يعني هذا عدم صحة الفتوى من الناحية الشرعية، ما لم ينحط المفتي إلى رتبة الفسق بالمخالفة ".
3 - معرفة أحوال الناس والتفطن لتصرفاتهم، واليقظة التامة للطرق التي يسلكونها:
وذلك لينكشف للمفتي مكر بعض المستفتين وخداعهم، فلا يغتر بظواهر ما يدلون به فيفتيهم تبعا لها، كما ينبغي له أن يسلك الطريق المستقيم، فيفتي في القضية حيث ظهر له أنه جوابها، دون أن يسلك طريقا معوجا، يحتال به على إسقاط واجب، أو تحليل محرم؛ فإن ذلك مكر وخداع، وقد عاقب الله من فعل ذلك أشد العقاب، وأحل عليهم لعنته، وتوعدهم بالنار، فقد قال (تعالى) :
{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (10) {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} (11) وفي صحيح مسلم عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «ملعون من ضار مسلما أو مكر به (12) » وقال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» وقال: «المكر والخديعة في النار» .
__________
(1) صحيح مسلم الصيام (1108) .
(2) أبو البركات ابن تيمية، منتقى الأخبار، باب ''الرخصة في القبلة للصائم إلا لمن يخاف على نفسه ''.
(3) مسند أحمد بن حنبل (5/73) ، سنن الدارمي البيوع (2534) .
(4) ابن الديبع، تيسير الوصول إلى جامع الأصول، باب ''حد السرقة ''.
(5) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3475) ، صحيح مسلم الحدود (1688) ، سنن الترمذي الحدود (1430) ، سنن النسائي قطع السارق (4898) ، سنن أبو داود الحدود (4373) ، سنن ابن ماجه الحدود (2547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/162) ، سنن الدارمي الحدود (2302) .
(6) سورة البقرة الآية 44
(7) سورة الصف الآية 2
(8) سورة الصف الآية 3
(9) الموافقات، 4 \ 256.
(10) سورة النمل الآية 50
(11) سورة النمل الآية 51
(12) سنن الترمذي البر والصلة (1941) .(1/167)
4 - الكف عن النظر في الفتوى حينما يكون مع المستفتي فتوى قد كتبها من لا يصلح لذلك، وعدم الكتابة معه حينما يكون الأمر كذلك، ولو كان جواب المفتي له صحيحا؛ إذ أن في الكتابة معه والحالة هذه تقريرا لصنيعه، وتساهلا عظيما في شأن الفتوى؛ حيث يتصدى لها ناقص العلم أو الدين أو غيرهما مما يشترط في المفتي (1) .
5 - النظر في السؤال والسائل قبل الفتوى، وعقد المقارنة بين مستوى السؤال من الناحية العلمية ومستوى السائل، فإن كان السائل على مستوى السؤال، أجابه المفتي بما يراه الحق، وإن كان السؤال أعلى مستوى من مستوى السائل من الناحية العلمية؛ حيث يكون من العوام، أو يكون السؤال من المعضلات، أو من دقائق الأمور، أو متشابه الآيات، ونحو ذلك مما لا يخوض فيه إلا أكابر العلماء (2) ، فينبغي للمفتي أن ينظر في حال المستفتي: هل هذا السؤال منه نتيجة شبهة عرضت له، يريد إزالتها، أو أن ذلك نتيجة ترف فكري وفراغ وقتي جعلاه يتأمل في أشياء ليس هو من أهلها؟ فإن كان الأول وجب على المفتي أن يقبل على مستفتيه ويتلطف معه، ويحاول بقدر ما أمكنه أن يزيل ما اشتبه عليه، وإن كان الثاني، فينبغي له أن يمتنع عن إجابته، بل ينبغي له أن ينكر عليه سؤاله، ويوجهه نحو ما ينفعه، ويقول له: " اشتغل بما يعنيك من السؤال عن صلاتك وأمور معاملاتك ولا تخض فيما عساه يهلكك؛ لعدم استعدادك له (3) .
6 - الشعور بالافتقار إلى الله (سبحانه) في إلهام الصواب، والدعاء بما يناسب
فينبغي للمفتي أن ينبعث من قلبه شعور صحيح بالافتقار إلى الله في أن يلهمه الصواب، ويوفقه لطريق الخير، ويهديه للجواب الصحيح.
وحري بمن اتصف بذلك أن يوفقه الله في مراده، وأن يدله على طريق الخير، كما ينبغي له - أيضا - أن يدعو بما يناسب المقام، ومن ذلك الحديث الصحيح.
«اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم (4) » .
وقد كان ابن تيمية (المتوفى سنة 728 هـ رحمه الله) كثير الدعاء بذلك، وكان إذا أشكلت عليه المسائل، يقول: يا معلم إبراهيم علمني. . . " (5) .
__________
(1) ينظر القرافي، الأحكام، ص266.
(2) ينظر أمثله لذلك في تعليق الشيخ '' عبد الفتاح أبو غده '' على القرافي، الأحكام ص283
(3) '' القرافي، الأحكام، ص283.
(4) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (770) ، سنن الترمذي الدعوات (3420) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1625) ، سنن أبو داود الصلاة (767) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) ، مسند أحمد بن حنبل (6/156) .
(5) ابن القيم، أعلام الموقعين، 4 \ 257(1/168)
7 - مراعاة العرف والعادة؛ إذ إن اختلافهما له أثر في اختلاف الحكم (1) :
وهذا يستوجب من المفتي أن يسأل - أول ما يسأل _ المستفتي - حين يجهل بلده عنها، وعن عرف أهلها في مثل هذا اللفظ، وعلى ضوء ذلك يجيب عما سأله " وهذا (السؤال من المفتي) أمر متعين واجب لا يختلف فيه العلماء، وأن العادتين متى كانتا في بلدين ليستا سواء، أن حكمهما ليس سواء " (2) .
وأما حين يكون اللفظ صريحا في مدلوله من جهة اللغة، فقد اختلف العلماء في مراعاة العرف في ذلك، حيث يكون له مدلول غير مدلول اللغة، فقيل: يقدم المدلول اللغوي للفظ، وقيل يقدم العرف عليه، وقد رجح الإمام القرافي (3) تقديم العرف قائلا: " والصحيح تقديمه؛ لأنه ناسخ، والناسخ مقدم على المنسوخ إجماعا، فكذلك هاهنا ".
8 - التريث في الفتوى حين يشتمل اللفظ على بعض الملابسات التي تجعل المفتي يغلب على ظنه أن صيغة السؤال لا تعبر عن حقيقة الواقع تماما:
وذلك كأن يكون السائل عاميا لا يدري مدلول اللفظ، فنجده يطلق اللفظ الصريح على غير مدلوله، ويأتي باللفظ الخاص على مدلول عام، فينبغي للمفتي إذا غلب على ظنه أن مثل ذلك لا يقع له، أن يتأنى في شأن الفتيا حتى يتفقد قرائن أحوال المستفتي، وحتى ينكشف له واقع الحال، فيفتيه في ضوء ما تبين له، لا في حدود ما أطلقه من لفظ، وإن لم يصل المفتي إلى كشف الواقع، فلا يحل له أن يفتيه (4) .
ومن الملابسات التي تجعل المفتي يغلب على ظنه أن صيغة السؤال لا تعبر عن حقيقة الواقع، أن يكون المسئول عنه ما مثله لا يسأل عنه، فالغالب على الظن حينئذ أنه يقصد بالسؤال أمر لو صرح به، لامتنعت الفتيا به، ولهذا ينبغي للمفتي أن يتأنى في الفتيا، ويستكشف حال المستفتي ويبحث عن حقيقة سؤاله.
ويروي لنا القرافي (5) ، قصة حصلت له، تمثل ذلك أتم التمثيل، فيقول: " ولقد سئلت مرة عن عقد النكاح بالقاهرة: هل يجوز أم لا؟ فارتبت وقلت له: ما أفتيك حتى تبين لي: ما المقصود بهذا الكلام؟ فإن كل أحد يعلم أن عقد النكاح بالقاهرة جائز، فلم أزل به حتى قال: إنا أردنا أن نعقده خارج القاهرة فمنعنا؛ لأنه استحلال، فجئنا للقاهرة (فعقدناه) ، فقلت له: هذا لا يجوز بالقاهرة، ولا بغيرها ".
9 - النصح والشفقة على المستفتي: ولذلك صور كثيرة، ووجوده متعددة؛ إلا أن أبرزها دلالته على الأمر المباح، وتوجيهه للطريق المستقيم، وذلك حين يستفتي عن أمر محرم فيمنعه المفتي منه وحاجته
__________
(1) القرافي، الأحكام، ص249
(2) المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
(3) المصدر نفسه والصفحة نفسها.
(4) المصدر نفسه، ص244، 246، 352.
(5) لمصدر نفسه، ص252، 253(1/169)
تدعوه إليه، ومصلحته تستدعي أن يكون مباحا تناوله، فمن تمام النصح والشفقة للمستفتي، أن يدله المفتي على الأمر المباح، الذي يكون عوضا عن الممنوع، وقائما في سد الحاجة مقام ذلك المحرم، وهو حين يسلك هذا المسلك، يكون مثله مثل طبيب الأبدان: يحمي العليل مما يضره، ويصف له ما ينفعه.
وقد جاءت أقوال الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأحكامه بهذا، ففي الصحيح أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم (1) » ، كما يروي البخاري أنه (صلى الله عليه وسلم) منع عامله على خيبر من شراء الصاع من التمر الجيد بالصاعين من الرديء، ثم دله على الطريق المباح؛ فقال: «بع الجمع بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيبا (2) » .
وكان العلماء (رحمهم الله) يسلكون ذلك الطريق، ويتحرونه في فتاويهم " ومن تأمل فتاوى ابن تيمية، وجد ذلك ظاهرا فيها " (3) .
10 - مراعاة الحكم الشرعي الذي يتفق مع مقاصد الشريعة، وحمل المستفتي على الأخذ به: ومعلوم أن الذي يتفق مع مقاصد الشريعة، ما كان من الأحكام جاريا على المعهود والوسط بين الشدة والخفة؛ فلا يحمل المستفتي على الشديد، ولا يفتح له باب الخفة المفضي إلى التحلل من أحكام الشرع.
ودليل قولنا، أن من تتبع الشريعة في مصادرها ومواردها، وجدها تنحو المنحي الوسط في الأمور، وتقصد الاعتدال في كل ما يقوم به المكلفون من أعمال، فالخروج عن ذلك إلى التشديد والتخفيف المفرط، خروج عن مقصد الشريعة.
ثم إن ذلك مفهوم من أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه (رضي الله عنهم) ، والوقائع الصحيحة التي وصلت إلينا أخبارها مما لا يحصيه العد، تدل على صحة ما ذكر، ومن ذلك ما رواه البخاري وأحمد ومسلم من " أنه (صلى الله عليه وسلم) «رد على عثمان بن مظعون التبتل (4) » ، (5) وما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من " أنه (صلى الله عليه وسلم) «قال لمعاذ: أفتان أنت يا معاذ (6) » ، وما رواه البخاري من أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: «إن منكم منفرين (7) » وما رواه البخاري (8) من أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: «سددوا وقاربوا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة (9) » . إلى غير ذلك مما يدل على أن الشريعة، قد بنيت على القصد والاعتدال، وروعي فيها اجتناب التشديد، أو التخفيف الذي يؤدي إلى التحلل من أحكام الإسلام.
ولما تقدم " كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء والراسخين (10) .
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1844) ، سنن النسائي البيعة (4191) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4248) ، سنن ابن ماجه الفتن (3956) ، مسند أحمد بن حنبل (2/191) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1593) ، سنن النسائي البيوع (4553) ، موطأ مالك البيوع (1314) .
(3) ابن القيم، أعلام الموقعين، 4 \ 159.
(4) صحيح البخاري النكاح (5074) ، صحيح مسلم النكاح (1402) ، سنن الترمذي النكاح (1083) ، سنن النسائي النكاح (3212) ، سنن ابن ماجه النكاح (1848) ، مسند أحمد بن حنبل (1/183) ، سنن الدارمي النكاح (2169) .
(5) أبو البركات بن تيمية، منتقى الأخبار، كتاب النكاح.
(6) صحيح البخاري الأدب (6106) ، صحيح مسلم الصلاة (465) ، سنن النسائي الإمامة (835) ، سنن أبو داود الصلاة (790) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (986) ، مسند أحمد بن حنبل (3/308) .
(7) صحيح البخاري الأذان (702) ، صحيح مسلم الصلاة (466) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/118) ، سنن الدارمي الصلاة (1259) .
(8) الصحيح، كتاب الإيمان.
(9) صحيح البخاري الإيمان (39) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5034) .
(10) الشاطبي، الموافقات، 4 \ 258.(1/170)
11 - حسن النية، وسلامة القصد من المفتي: وذلك بأن يكون الهدف الأساسي له في فتواه الإرشاد إلى الحق، وهداية العامة طريق الرشاد، والعمل بأحكام الشرع الحنيف،
فلا يداخله رياء أو سمعة، أو حب للظهور بين الناس بمظهر العالم الجليل، أو الغيرة على شريعة الله، دون أن يكون لذلك رصيد في قلبه: من حسن في النية، وحب لإسداء الخير للناس، كما لا يجوز أن يداخله قصد لحطام الدنيا أو عرض من أعراضها (1) .
12 - الاحتراز وأخذ الحيطة في الفتوى: ويتجلى ذلك في صور متعددة، تختلف في مقاصدها لكنه يجمعها معنى الاحتراز والحيطة اللذين تشتمل عليها.
ومن هذه الصور أن يكون السؤال محتملا لصور متعددة، ولا يخلو الأمر في هذه الحالة من أن يكون المفتي عالما بالصورة التي يقصدها المستفتي بسؤاله أو لا؟ فإن لم يكن عالما بذلك لم يجب عن أي صورة منها (2) ، وإن كان عالما بما يقصده المستفتي، فقد اختلف العلماء (رحمهم الله) في الطريقة التي يسوغ للمفتي أن يسلكها في إجابته. فذهب بعضهم إلى أنه يسوغ له أن يخصها وحدها بالجواب، ولكن يحتاط في نفي توهم أن الإجابة عن غيرها؛ بأن يضع قيودا تدل دلالة واضحة على أنها هي المقصودة بالجواب، وأنها المخصوصة به دون غيرها، كأنه يقول: " إن كان الأمر كيت وكيت، أو كان المسئول عنه كذا وكذا، فالجواب كذا وكذا " (3) ، كما يسوغ له عند هؤلاء طريق آخر، وذلك بأن يذكر جميع الصور المحتملة في المقام، ثم يذكر حكم كل صورة من هذه الصور على حدة. ويرى فريق آخر من العلماء، أنه لا يسوغ للمفتي إلا أن يتبع الطريقة الأولى - طريقة تخصيص الصورة المسئول عنها بالجواب - ولا يسوغ له ذكر جميع الصور، وذكر أحكامها.
ويعضد رأيه بما يأتي:
أولا:
أن في ذلك تعليما للحيل، وفتح أبواب كثيرة، يستطيع المستفتي أن يدخل ويخرج من أيها شاء.
ثانيا:
أن ذلك قد يؤدي إلى ضياع مقصود من سؤاله؛ إذ أنه يقصد به الوصول إلى جواب يعمل به في واقعته التي سأل عنها، فإذا وجد نفسه أمام أحكام متعددة لصور مختلفة لا تعنيه ولا يهمه أمرها، ازدحمت عنده الأحكام، وصعب عليه فهمها، واستخلاص ما يحتاج إليه منها، ومن هنا يكون هذا المسلك
__________
(1) ينظر الآمدي، الأحكام 4 \ 222.
(2) ابن القيم، أعلام الموقعين 4 \ 255.
(3) المصدر نفسه، والصفحة نفسها(1/171)
سببا لفوات مقصوده.
وبينما نجد العلماء يختلفون فيما بينهم على هذا النحو الذي بينا، نجد الإمام ابن القيم يرى مذهبا وسطا بين المذهبين، فيقول (1) : " والحق التفصيل؛ فيكره حيث استلزم ذلك (ضياع مقصود العامي) ولا يكره - بل يستحب - إذا كان فيه زيادة إيضاح وبيان إزالة لبس ".
وأيد رأيه (2) بما ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) من التفصيل في كثير من أجوبته بقوله: إن كان كذا، فالأمر كذا، وذكر من ذلك قصة الذي وقع على جارة امرأته، فقال (صلى الله عليه وسلم) : " إن كان استكرهها فهي حرة، وعليه لسيدتها مثلها، وإن كانت مطاوعة، فهي له، وعليه لسيدتها مثلها ".
ومن هذه الصور التي يتجلى فيها معنى الاحتراز والحيطة ما إذا كانت الفتوى قد يفهم منها أنها بنيت على معنى من المعاني، فقد يذهب نظر المستفتي إلى أنه هو العمدة في هذا الحكم، فيراعيه في القضايا التي يوجد فيها، وحين يكون هناك مانع يمنع من هذا، ينبغي التنبيه إليه، والاحتراز مما قد يؤدي إليه الفهم منه، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها (3) » (4) ، ففي النهي عن الجلوس عليها نوع تعظيم لها، وحيث خشي (صلى الله عليه وسلم) أن يراعى تعظيمها فيعمل كل ما كان من شأنه خدمة هذا المعنى، ومن ذلك الصلاة إليها - لما خشي ذلك، صرح بالنهي عن المبالغة في تعظيمها، حتى تجعل قبلة يصلى إليها (5) .
ومن هذه الصور أيضا أن المفتي حينما يلقي الحكم على المستفتي، فمن اللائق به أن يذكر دليل الحكم ومأخذه؛ فإن في هذه الطريقة احتياطيا لكسب ثقة المستفتي بمفتيه، واطمئنان نفسه بالحكم الذي تلقاه منه، وفيها احتياطيا للمفتي بحيث يبرهن لغيره أنه إنما أفتاه عن علم ويقين لا عن تخرص وتخمين (6) .
والناظر في فتاوى النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي قوله حجة بنفسه، لا يحتاج إلى شيء يعضده ويسانده، يجدها مشتملة على التنبيه إلى حكمة الحكم، ووجه مشروعيته، ونظيره من الأحكام حتى يتأيد بها.
__________
(1) المصدر نفسه والصفحة نفسها.
(2) المصدر نفسه، 4 \ 256.
(3) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) .
(4) أبو البركات بن تيمية، منتقى الأخبار، باب ''المواضيع المنهي عنها والمأذون فيها للصلاة ''.
(5) ابن القيم، أعلام الموقعين 4 \ 160.
(6) المصدر نفسه، 4 \ 161(1/172)
ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد والنسائي وأبو داود وابن ماجة عن سعد بن أبي وقاص قال: «سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يسأل عن اشتراء التمر بالرطب، فقال لمن حوله: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهى عن ذلك (1) » (2) فمن المعلوم يقينا أنه (صلى الله عليه وسلم) يعلم نقصان الرطب بعد يبسه، ولكنه أراد بهذا السؤال أن ينبههم إلى علة تحريم بيعه بالتمر.
ومن ذلك ما رواه أحمد وأبو داود من «قوله (صلى الله عليه وسلم) لعمر حين سأله عن حكم تقبيل الصائم لامرأته: " أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس بذلك؟ قال (صلى الله عليه وسلم) : ففيم (3) » ؛ فهو أتى بين يدي الفتوى بمقدمة الشرب للصائم وهي المضمضة، وسأله عن حكمها ليتوصل من هذا إلى نقل مثل هذا الحكم إلى تقبيل الصائم لامرأته؛ إذ هما نظيران فكل واحد منهما مقدمة لمحظور، ولا يلزم من ذلك أن يكونا محظورين.
ومن هذه الصور - أيضا - أن المسألة حينما يكون في حكمها خلاف بين العلماء، فإن المفتي ينظر فيها على أساس من الاحتياط والاحتراز، فإن رأى أن الفتوى فيها ستثير استنكار بعض العلماء، وتوقع في التنازع، وتؤدي إلى الطعن فيه، فإن الاحتراز من ذلك يقضي بأن يحكى ما فيها من خلاف، ويورد ما لكل مذهب من أدلة، وينقل من الكتب ما يلائم المقام من نصوص. وبذلك يبين وجه الصواب لغيره ممن نازعه من العلماء، ويصون عرضه مما قد يحتمل من الطعن فيه.
وإن رأى أن الفتوى لا يقصد بها إلا مجرد الاسترشاد، ولا يحتمل من ورائها أن تثير استنكارا، ولا أن توقع في نزاع، أو تؤدي إلى طعن، فإنه يقتصر حينئذ على الجواب عن السؤال مجردا عن ذكر الخلافات وما يصاحبها من أدلة متباينة ونقول مختلفة، وهذا هو ما تقضي به مراعاة الاحتراز في الفتوى عن التشويش على المستفتي، والخوف من وقوعه في بلبلة فكرية من كثرة الآراء التي ألقيت عليه، فلا يدري بأيها يأخذ (4) . ومن صور الاحتراز التي ينبغي للمفتي التفطن لها أن لا يترك شيئا مما تلفظ به المستفتي مما له تأثير في الحكم إلا كتبه؛ وذلك أن المستفتي قد يأتي بفتوى محررة، لكنه يتلفظ بأمور ليست مكتوبة، وهي لها أثر في الحكم، فحينئذ ينبغي للمفتي أن يكتبها " بخطه بين الأسطر، أو يقول: قال المستفتي من لفظه كذا " (5) ؛ لأن في ترك ذلك - مع أنه قد راعاه في الفتيا - طعنا عليه في فتياه، فينبغي له أن يتحرز من هذا الطعن.
كما ينبغي له أن يتفقد أسطر الورقة تفقدا تاما، فإذا رأى في السطر بياضا سدده، وإذا رأى في السطر الأخير نقصا أكمله بخطه بما يكتبه في الفتيا؛ وذلك لأن مثل هذه الفراغات تكون مجالا للتوصل للباطل
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1225) ، سنن أبو داود البيوع (3359) ، سنن ابن ماجه التجارات (2264) ، مسند أحمد بن حنبل (1/179) ، موطأ مالك البيوع (1316) .
(2) أبو البركات بن تيمية، منتقى الأخبار.
(3) المصدر نفسه، باب ''الصائم يتمضمض أو يغتسل من الحر''.
(4) القرافي، الأحكام، ص268.
(5) المصدر نفسه، ص255.(1/173)
والتتميم بما يخالف الحكم، فينشأ عن ذلك فتن عظيمة بين العلماء، وطعن أليم على المفتين، ويروي " القرافي " (1) قصة حصل فيها هذا المحذور؛ بسبب إهمال هذا المفتي لهذه الفراغات، وإكمال المستفتي لها بما يخالف حكم المفتي، فيقول " وقد استفتي بعض العلماء المشهورين عن رجل مات وترك أما وأخا لأم، وترك الكاتب في آخر السطر بياضا ثم قال: وابن عم، فكتب المفتي: للأم الثلث، وللأخ لأم السدس، والباقي لابن العم، فلما أخذ المستفتي الفتيا، كتب في ذلك البياض: وأبا، ثم دور الفتيا على الناس بالكوفة، وقال انظروا فلانا كيف حجب الأب بابن العم، فقال له أصحابه: مثله ما يجهل هذا، فقال: هذا خطه شاهد عليه، فوقعت فتنة عظيمة بين فئتين عظيمتين من الفقهاء ".
وأمثال هذه القصة كثير بسبب ما تزين للمستفتي نفسه أن يضيفه حين يجد المجال مفتوحا أمامه للإضافة، ولهذا فإنه ينبغي للمفتي التفطن التام لذلك " فإذا رأى فرجة يمكن أن يكتب فيها شيء، فليملأها بلفظ " صح، صح " ونحوها مما يشغل به تلك الفرجة، وإذا بقيت فرجة في آخر السطر، فليسدها بمثل " والحمد لله " أو " حسبنا الله "، ولينو بها ذكر الله تعالى. . . " (2) .
13 - تأدبه في صورة وضع الفتيا، حين يكون قد أفتى في القضية غيره ممن هو أعلى منه منزلة في العلم: ذلك أن في هذا تواضعا، والله يحب من اتصف بهذه الصفة، وفيه احتراما لذوي المنزلة العلمية، واعترافا بفضلهم ومكانتهم.
والتأدب في صورة وضع الفتيا له ناحيتان: ناحية من حيث التلفظ بالفتوى، وناحية من حيث الموضع الذي يكتبها فيه، ولكل من الناحيتين درجات تختلف قربا وبعدا عن التواضع.
وقد أوضح " القرافي " (3) هذه الدرجات مبينا علل قربها أو بعدها عن التواضع، فقال: " فإن كان الذي تقدمه، في غاية الجلالة، فليقل: " كذلك جوابي " إن كان يعتقد صحة ما قاله من تقدمه، ودون ذلك في التواضع " جوابي كذلك "؛ لأن تقديم لفظ الجواب قبل التشبيه، تقديم لجوابه على جواب من تقدمه الكائن في التشبيه، وإن قال: " كذلك جوابي "، فالإشارة ب " ذلك " الذي دخلت عليه كاف التشبيه، هو جواب من تقدمه، فيكون قد قدم جواب السابق عليه قبل ذكر جوابه، والتقديم تعظيم واهتمام، فهو أدخل في الأدب.
ودون هاتين المرتبتين في التواضع، وأقرب إلى الترفع أن يكتب مثل الجواب بعبارة أخرى، ولا يشبه جوابه بجواب من تقدمه أصلا، وأرفع من ذلك وأبعد عن التواضع، أن يقول: " الجواب صواب " أو " الجواب صحيح " وهذا لا يستعمل إلا لمن يصلح للثاني أن يجيزه في الفتيا أو يزكيه في
__________
(1) المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
(2) ابن فرحون، تبصرة الحكام، ط البهية، سنة 1302هـ، 1 \ 209.
(3) الأحكام، ص264- 265.(1/174)
قوله، وأن يكون معه في معنى التلميذ والتبع؛ لأنه أظهر أن جواب السابق في صورة من يشهد له هو بالصحة، أو بالصواب من جهة الثاني، وهذه أدنى الرتب لخلو اللفظ عن التعظيم بالكلية.
هذا من حيث اللفظ.
وأما من حيث الموضع الذي يكتب فيه، فإن اتضع، كتب خطه تحت خط الأول، وإن ترفع، كتب قبالته في يمين الخط أو شماله، وكذلك الجهة اليمنى أشرف من الجهة اليسرى، فالمتواضع يضع في اليسرى، والذي لا يقصد التواضع، ويقصد التعظيم للجهة اليمنى لكونها يمنى يضع فيها ".
* * *(1/175)
خاتمة
كان للواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية في أفرادها، ومن يتصدر للفتيا في دين الله، سبب قوي جعلني أفكر في موضوع هذا البحث، وأطلب العون من الله في استجلاء كثير من حقائقه كما كان لبعض جوانبه أثر في نفسي أقوى من الجوانب الأخرى، تلك هي ما يتصل بالأسس الأصيلة، التي ينبنى عليها تكوين المفتي، والمطالب الهامة التي ينبغي أن يتصف بها ويترسمها في حياته العامة وأثناء قيامه بمهمة الفتيا، والمكانة العظيمة التي قد منحها مما يدل على عظم شأنه، وعلو منزلته.
لذلك حاولت - بقدر ما أمدني الله به من عون - أن أستجلي من هذه الجوانب ما رأيته في المنزلة الأولى بين جوانبه المتعددة.
ومن هنا جاء البحث قائما على الحقائق التالية:
الحقيقة الأولى: أن قدمت له بتمهيد؛ بينت فيه مكانة هذا البحث في ميدان البحوث العلمية، والمدى البالغ لأهميته في عصرنا الحاضر؛ حيث فشا الجهل في أفراد الأمة بأحكام دينها وصار الكثير ممن يتصدر الفتيا لا ينطبق عليهم ما هو مشترط لمن يتصدى لهذا المنصب العظيم.
الحقيقة الثانية: أن أوضحت معناه في اللغة، وعرضت الخلاف بين العلماء في تعريفه اصطلاحا، ورجحت بالأدلة ما تبين لي رجحانه، وذيلت هذه الحقيقة بعرض لأقسام المفتين، وتعريف مختصر بهم.
الحقيقة الثالثة: أن بينت المنزلة الرفيعة التي يحتلها المفتي؛ حيث كان قائما مقام النبي (صلى الله عليه وسلم) في وراثته لعلم الشريعة منه (صلى الله عليه وسلم) ، وإبلاغها للناس، وتعليمها للجاهل بها، والإنذار بها، وأقمت الأدلة الناصعة لذلك من الكتاب العزيز، والسنة المطهرة.(1/175)
الحقيقة الرابعة: أن ذكرت الشروط التي ينبغي أن تتوفر فيمن اصطلحنا سابقا على تسميته بالمفتي الذي تؤخذ الفتوى عنه، وإن كان غيره ممن هو أعلى مرتبة في العلم، وأرسخ قدما في الفهم والاستنباط، تؤخذ عنه من باب أولى؛ فكانت على النحو التالي:
الإسلام والتكليف، والعلم، والعدالة، وحسن الطريقة ورضا السيرة، والورع والعفة والحرص على استطابة المأكل، ورصانة الفكر وجودة الملاحظة، والتأني في الفتوى والتثبت فيما يفتى به، وطلب المشورة، ورؤية المفتي لنفسه بأنه أهل لهذا المنصب، وشهادة الناس له بذلك.
وقد ذكرت بعد كل شرط ما يدل على اشتراطه، فبان بذلك تحتم وجودها فيمن نصب نفسه للإفتاء " وتحتم امتناع من لم تتوفر فيه عن ذلك.
الحقيقة الخامسة: أن سجلت في هذا البحث أهم الأمور التي ينبغي لمن تصدى للفتيا بأن يتحلى بها، ويأخذ نفسه بها، فاجتمع لنا منها ما يأتي:
جمال المظهر وحسن الزي على الطريقة التي تتناسب مع الوضع الشرعي، والبداءة بالنفس في كل خير يفتى به، ومعرفة أحوال الناس والتفطن لتصرفاتهم، والكف عن النظر في الفتوى حينما يكون مع المستفتي فتوى قد كتبها من لا يصلح لذلك، وعدم الكتابة مع المستفتي حينما تكون حاله مثل ذلك، والنظر في سؤال السائل من حيث مطابقته لمستوى السائل وعدم مطابقته لذلك، وإعطاء كل حالة حكمها المناسب لها؛ من حيث إفتاؤه وعدم إفتائه، والشعور بالافتقار إلى الله (سبحانه) في إلهام الصواب، والدعاء بما يتناسب مع هذا المقام، ومراعاة العرف والعادة في الفتوى حيث تختلف بلدان المستفتين، وعرض الخلاف حين يتعارض العرف مع المدلول اللغوي للفظ الصريح، والتريث في الفتوى حين يشتمل اللفظ على بعض الملابسات التي تجعل المفتي يغلب على ظنه أن صيغة السؤال لا تعبر عن حقيقة الواقع تماما، والنصح والشفقة على المستفتي؛ إما بتوجيهه للطرق المباحة حين يستفتي عن أمر محرم، فيمنعه المفتي منه، وإما غير ذلك مما يدخل في معنى النصح والشفقة، ومراعاة الحكم الشرعي الذي يتفق مع مقاصد الشريعة، وهو ما كان جاريا على المعهود الوسط بين الشدة والخفة، وحسن النية، وسلامة القصد من المفتي، والاحتراز وأخذ الحيطة في الفتوى - وقد ذكرت لذلك صورا كثيرة متنوعة بجمعها هذا المعنى - وختمت هذه الأمور بأمر يتصل بالتواضع المشروع في الإسلام، وهو تأدب المفتي في صورة وضع الفتيا حين يكون قد أفتى في القضية غيره ممن هو أعلى منه منزلة في العلم.
وقد سلكت في بحث هذه الأمور ذكر الأدلة الشرعية لها، وعرض الخلاف حيث يوجد فيها، وتفصيل الحالات المحتملة حيث يوجد الاحتمال، وإيراد الحكم لكل حالة مقرونا بدليله.(1/176)
تلك: هي مكانة المفتي في الإسلام، وهذه هي الحقائق التي ينبغي لمن تصدى للإفتاء بأن تتوفر فيه، ويتجلى بها.
فما مدى انطباقها على المفتين في العالم الإسلامي المعاصر؟ إننا نقرر - والأسى يحز في نفوسنا - واقعا مريرا تعيشه الأمة الإسلامية في هذا الجانب؛ ذلك أن كثيرا من أولئك المفتين لا تتوفر فيه تلك الشروط، ولا تجتمع فيه الأمور التي ينبغي لمن أفتى أن يتحلى بها، ولا شك أن هذا كان له الأثر السيئ في المجتمع الإسلامي؛ فأحكام الدين تؤخذ - في كثير من الأحيان - عن أفواه من لا يصلح للفتيا، والثقة بما يقال في ذلك انتزعت؛ لكون القائل ليس أهلا لما يقول، والاضطراب في الفتاوي بين العامة انتشر حتى صار سببا للفوضى بينهم، والتشويش عليهم فيما يأخذون أنفسهم به.
والشيء الذي يتبادر إلى الذهن اقتراحه إزاء هذه المشكلة؛ للقضاء عليها، أو الحد من خطرها، أن لا يترك الباب للإفتاء مفتوحا لمن أراد أن يلج منه، بل ينبغي لولاة الأمور ومن يعنيهم هذا الشأن أن يضعوا قواعد أساسية بها يقومون الشخص، ويعلمون مدى صلاحيته لذلك، فيرشحوه لهذا الأمر، ويوجهوا عامة الناس نحوه في أخذ الأحكام، حين يحتاجون لذلك، وأن يمنعوا عن الإفتاء من لا يصلح لذلك، وينذروه إن لم ينته عنه، ويعاقبوه بما يتناسب مع حاله حين يتصدى له، ولو أصاب في ذلك، فإن إصابته مرة سيتبعها خطؤه مرات كثيرة في حالات أخرى، وليس فيما نقول تحجير لواسع؛ فإنه لا مانع من أن يختار في كل بلد من يصلح لذلك؛ حتى يفتيها في أمور دينها، ويخلصها مما قد ينبهم عليها في صلتها مع ربها، كما أنه ليس فيما نقول ابتكار لقول لم نسبق إليه وإلى العمل به؛ فقد قال الخطيب البغدادي (1) : " قلت ينبغي لإمام المسلمين، أن يتصفح أحوال المفتين؛ فمن كان يصلح للفتوى، أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها، وتقدم إليه بأن لا يتعرض لها، وأوعده بالعقوبة، إن لم ينته عنها ".
ويستأنس في عرض رأيه هذا بما حصل من خلفاء بني أمية في تعيينهم من يتصدى للفتيا بمكة، ومنعهم لغيرهم منها، فيقول (2) : " وقد كان الخلفاء من بني أمية ينصبون للفتوى بمكة في أيام الموسم قوما يعينونهم، ويأمرون بأن لا يستفتي غيرهم (ويروي بسنده) إلى أبي يزيد الصنعاني عن أبيه قال: كان يصيح الصائح في الحاج: لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح، فإن لم يكن فعبد الله بن أبي نجيح ".
__________
(1) الفقيه والمتفقه، 2 \ 153.
(2) المصدر نفسه، 153- 154.(1/177)
ويتابع " ابن الجوزي " (المتوفى سنة 596 هـ) الخطيب البغدادي فيقول: " يلزم ولي الأمر منهم كما فعل بنو أمية " (1) .
كما أن من يتصدرون الفتيا - ممن كانوا أهلا لها - ينبغي لهم توعية العامة بهذا الشأن، والعمل على صرف الناس عمن لا يصلح للفتيا، والحد من نشاطهم، والمنع من نفوذهم بكل الوسائل التي تخدم هذه المقاصد.
ولهذا نرى القرافي يعرض رأيا، هو في نفسه أحد هذه الوسائل، فيقول: (2) " وينبغي للمفتي متى جاءته فتيا، وفيها خط من لا يصلح للفتيا، ألا يكتب معه؛ فإن كتابته معه تقرير لصنيعه، وترويج لقوله الذي لا ينبغي أن يساعد عليه، وإن كان الجواب في نفسه صحيحا؛ فإن الجاهل قد يصيب، ولكن المصيبة العظيمة، أن يفتي في دين الله من لا يصلح للفتيا؛ إما لقلة علمه، أو لقلة دينه، أو لهما معا ".
نسأل الله (عز وجل) أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يوفق القائمين على شئون المسلمين لما فيه خير دينهم، وصلاح من تحت رعايتهم؟
__________
(1) أحمد بن حمدان الحرافي الحنبلي صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص24.
(2) الأحكام، ص266.(1/178)
مجلة
البحوث الإسلامية
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
العبادات
حكم
السعي فوق سقف المسعى(1/179)
العبادات
الحمد لله
وبعد: فبناء على خطاب سمو نائب وزير الداخلية للمملكة العربية السعودية رقم 26 \ 10612 وتاريخ 21 \ 3 \ 1393 هـ. المتضمن رغبة وزارة الداخلية في دراسة موضوع السعي فوق سقف المسعى من قبل هيئة كبار العلماء بالمملكة، وبناء على ما تقتضيه لائحة سير عمل الهيئة من قيام اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بإعداد بحث علمي فيما يحتاج إلى بحث من المواضيع التي تتجه الرغبة إلى دراستها في الهيئة. قامت اللجنة بإعداد بحث في حكم السعي فوق سقف المسعى، وفيما يلي ما تيسر إعداده من النصوص والنقول التي يمكن أن يستعان بها في هذا الموضوع: -
الحمد لله وحده
والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
وبعد: - فإنه قد عرض على هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في
دورتها الرابعة المنعقدة ما بين 29 \ 10 \ 93 هـ و 12 \ 11 \ 1393 هـ موضوع حكم السعي فوق سقف المسعى ليكون وسيلة لعلاج ازدحام الناس في السعي أيام موسم الحج، وأطلقت الهيئة على البحث المقدم عنه من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. . . ورغبة في إطلاع القراء الكرام على هذا البحث القيم تقدمه بكامله
وهذا نصه.(1/180)
الفهرس
يمكن
أن يرجع في حكم السعي بين الصفا والمروة فوق سقف المسعى إلى الأمور الآتية:
إن من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أرضين " 1 ".
الطواف والسعي على بعير ونحوه.
استقبال الكعبة في الصلاة.
رمي الحاج الجمرات وهو راكب.(1/181)
حكم
السعي فوق سقف المسعى(1/182)
أما الأمر الأول
قال البخاري في صحيحه حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال: حدثني طلحة بن عبد الله أن عبد الرحمن بن عمرو بن سهل أخبره أن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ظلم من الأرض شيئا طوقه من سبع أرضين (1) » قال ابن حجر: وفي الحديث تحريم الظلم والغصب وتغليظ عقوبته وإمكان غصب الأرض وأنه من الكبائر قاله القرطبي وكأنه فرعه على أن الكبيرة ما ورد فيه وعيد شديد وأن من ملك أرضا ملك أسفلها إلى منتهى الأرض وله أن يمنع من حفر تحتها سربا أو بئرا بغير رضاه وفيه أن من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها بما فيه حجارة ثابتة وأبنية ومعادن وغير ذلك وأن له أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بمن يجاوره. اهـ (2) .
وقال العيني بعد أن ساق حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ظلم من الأرض شيئا طوقه من سبع أرضين (3) » .
ذكر ما يستفاد منه، فيه دليل على أن من ملك أرضا ملك أسفلها إلى منتهاها وله أن يمنع من حفر
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2452) ، صحيح مسلم المساقاة (1610) ، سنن الترمذي الديات (1418) ، مسند أحمد بن حنبل (1/190) ، سنن الدارمي البيوع (2606) .
(2) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري جـ5 ص38.
(3) صحيح البخاري مع شرحه عمدة القاري جـ12 ص298.(1/182)
تحتها سربا أو بئرا سواء أضر ذلك بأرضه أو لا قاله الخطابي، وقال ابن الجوزي: لأن حكم أسفلها تبع لأعلاها، وقال القرطبي: وقد اختلف فيها إذا حفر أرضه فوجد فيها معدنا أو شبهه فقيل هو له وقيل بل للمسلمين، وعلى ذلك فله أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بجاره وكذلك له أن يرفع في الهواء المقابل لذلك القدر من الأرض من البناء ما شاء ما لم يضر بأحد. اهـ.
وقال الأبي (1) : قوله «من ظلم شبرا من الأرض (2) » . . . . واستدل بعضهم على أن من ملك ظاهر الأرض يملك ما تحته مما يقابله فله منع من يتصرف فيه أو يحفر، وقد اختلف العلماء في هذا الأصل فيمن اشترى دارا فوجد فيها كنزا أو وجد في أرضه معدنا فقيل له وقيل للمسلمين، ووجه الدليل من الحديث أنه غصب شبرا فعوقب بحمله من سبع أرضين. . . . . إلى أن قال: وكذلك يملك ما قبل ذلك من الهواء يرفع فيه من البناء ما شاء ما لم يضر بأحد. اهـ.
فدل ما تقدم على أن حكم أعلى الأرض وأسفلها تابع لحكمها في التملك والاختصاص ونحوهما وعلى ذلك يمكن أن يقال أن السعي فوق الطابق الذي جعل سقفا لأرض المسعى له حكم السعي على أرض المسعى.
__________
(1) صحيح مسلم مع شرحه إكمال المعلم جـ4 ص313، 314.
(2) صحيح البخاري بدء الخلق (3198) ، صحيح مسلم المساقاة (1610) ، سنن الترمذي الديات (1418) ، مسند أحمد بن حنبل (1/187) ، سنن الدارمي البيوع (2606) .(1/183)
أما الأمر الثاني
وقد جاءت أحاديث في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عباس أن «النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت وهو على بعير (1) » . ومن رواية أم سلمة: «شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال: " طوفي وأنت راكبة (2) » . وقد بوب البخاري في صحيحه فقال: " باب المريض يطوف راكبا " ثم ساق الحديثين السابقين حديث ابن عباس وحديث أم سلمة، قال ابن حجر (3) : أن المصنف حمل سبب طوافه صلى الله عليه وسلم راكبا على أنه كان عن شكوى وأشار بذلك إلى ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس بلفظ «قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته (4) » ووقع في حديث جابر عند مسلم أن «النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ليراه الناس وليسألوه (5) » .
«طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه ليراه الناس ويشرف ليسألوه "» .
فيحتمل أن يكون فعل ذلك لأمرين وحينئذ لا دلالة فيه على جواز الطواف راكبا لغير عذر، وكلام الفقهاء يقتضي الجواز إلا أن المشي أولى والركوب مكروه تنزيها، والذي يترجح المنع لأن طوافه صلى الله عليه وسلم
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1632) ، سنن أبو داود المناسك (1885) ، مسند أحمد بن حنبل (1/215) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1845) .
(2) صحيح البخاري كتاب الصلاة (464) ، صحيح مسلم الحج (1276) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2925) ، سنن أبو داود المناسك (1882) ، مسند أحمد بن حنبل (6/319) ، موطأ مالك الحج (832) .
(3) صحيح البخاري مع شرحه الفتح جـ3 ص460.
(4) تمام الحديث: كلما أتى على الركن استلم الركن بمحجنه فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين سكت عنه أبو داود وقال المنذري في إسناده يزيد بن أبي زياد ولا يحتج به وقال البيهقي في حديث يزيد بن أبي زياد لفظة لم يوافق عليها وهي قوله: '' وهو يشتكي '' مختصر السنن جـ2 ص277 ''
(5) صحيح مسلم الحج (1273) ، سنن النسائي مناسك الحج (2975) ، سنن أبو داود المناسك (1880) .(1/183)
وكذا أم سلمة كان قبل أن يحوط المسجد ووقع في حديث أم سلمة طوفي من وراء الناس وهذا يقتضي منع الطواف في المطاف. وإذا حوط المسجد امتنع داخله إذ لا يؤمن التلويث فلا يجوز بعد التحويط بخلاف ما قبله فإن كان لا يحرم التلويث كما في المسعى وعلى هذا فلا فرق في الركوب إذا ساغ بين البعير والفرس والحمار. وأما طواف النبي صلى الله عليه وسلم راكبا فللحاجة إلى أخذ المناسك عنه ولذلك عده بعض من جمع خصائصه فيها. اهـ.
وفي صحيح البخاري بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن (1) » .
قال العيني: وأخرج مسلم عن أبي الطفيل: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن (2) » ، وروى مسلم عن جابر: «طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه ليراه الناس وليشرف ليسألوه» . . . . قال ذكر معناه قوله: «طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير (3) » . قال ابن بطال استلامه بالمحجن راكبا يحتمل أن يكون لشكوى به. . . إلى أن قال: وقال النووي قال أصحابنا الأفضل أن يطوف ماشيا ولا يركب إلا لعذر من مرض ونحوه أو كان يحتاج إلى ظهوره ليستفتي ويقتدي به فإن كان لغير عذر جاز بلا كراهة لكنه خلاف لأولى. . . إلى أن قال: وقال مالك وأبو حنيفة: إن طاف راكبا لغير عذر أجزأ ولا شيء عليه وإن كان لغير عذر فعليه دم قال أبو حنيفة وإن كان بمكة أعاد الطواف. اهـ (4) .
وقال السرخسي: وإن طاف راكبا أو محمولا فإن كان لعذر من مرض أو كبر لم يلزمه شيء، وإن كان لغير عذر أعاده ما دام بمكة فإن رجع إلى أهله فعليه الدم عندنا، وعلى قول الشافعي لا شيء عليه لأنه صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف للزيارة يوم النحر على ناقته واستلم الأركان بمحجنه (5) .
ولكنا نقول المتوارث من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا الطواف ماشيا، وهذا على قول من يجعله كالصلاة لأن أداء المكتوبة راكبا من غير عذر لا يجوز فكان ينبغي أن لا يعتد بطواف الراكب من غير عذر، ولكنا نقول المشي شرط الكمال فيه فتركه من غير عذر يوجب الدم لما بينا - فأما تأويل الحديث فقد ذكر أبو الطفيل - رحمه الله - أنه طاف راكبا لوجع أصابه وهو أنه وثبت رجله فلهذا طاف راكبا، وذكر أبو الزبير عن جابر أن «النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا لكبر سنه» ، وعندنا إذا كان لعذر فلا بأس به وكذلك إذا طاف بين الصفا والمروة محمولا أو راكبا وكذلك لو طاف الأكثر راكبا أو محمولا فالأكثر يقوم مقام الكل على ما بينا. اهـ (6) .
وقال ابن الهمام على قول صاحب الهداية " وإن أمكنه أن يمس الحجر شيئا في يده " كالعرجون وغيره ثم قبل ذلك فعل، لما روى أنه عليه السلام «طاف على راحلته واستلم الأركان بمحجنه (7) » .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1608) ، صحيح مسلم الحج (1272) ، سنن النسائي المساجد (713) ، سنن أبو داود المناسك (1877) ، سنن ابن ماجه المناسك (2948) .
(2) صحيح مسلم الحج (1275) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1879) ، سنن ابن ماجه المناسك (2949) ، مسند أحمد بن حنبل (5/454) .
(3) صحيح البخاري الحج (1608) ، صحيح مسلم الحج (1272) ، سنن النسائي المساجد (713) ، سنن أبو داود المناسك (1877) ، سنن ابن ماجه المناسك (2948) .
(4) صحيح البخاري مع شرحه عمدة القاري جـ6 ص252.
(5) المصدر نفسه
(6) المبسوط جـ4 ص45
(7) صحيح مسلم كتاب الحج (1273) ، سنن النسائي مناسك الحج (2975) ، سنن أبو داود المناسك (1880) .(1/184)
وقوله وإن أمكنه أن يمس الحجر شيئا في يده، أو يمسه بيده ويقبل ما مس به فعل أما الأول فلما أخرج الستة إلا الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن «النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه لأن يراه الناس ويشرف وليسألوه فإن الناس غشوه (1) » .
وأخرجه البخاري عن جابر إلى قوله: «لأن يراه الناس (2) » . ورواه مسلم عن أبي الطفيل «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على راحلته ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن (3) » ثم أورد إشكالا حديثيا وهو أن الثابت بلا شبهة أنه عليه السلام رمل في حجة الوداع وطوافه راكبا على البعير ينافي ذلك - إلى أن قال - والجواب أن في الحج للآفاقي أطوفة فيمكن كون المروي من ركوبه كان في طواف الفرض يوم النحر ليعلمهم ومشيه كان في طواف القدوم وهو الذي يفيده حديث جابر الطويل لأنه حكى ذلك الطواف الذي بدأ به أول دخوله مكة كما يفيده سوقه للناظر فيه: فإن قلت فهل يجمع بين ما عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما إنما طاف راكبا ليشرف ويراه الناس فيسألوه، وبين ما عن سعيد بن جبير أنه إنما طاف كذلك لأنه كان يشتكي. كما قال محمد أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان أنه «سعى بين الصفا والمروة مع عكرمة فجعل حماد يصعد الصفا وعكرمة لا يصعد ويصعد حماد المروة وعكرمة لا يصعد فقال حماد يا أبا عبد الله ألا تصعد الصفا والمروة فقال هكذا كان طواف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حماد فلقيت سعيد بن جبير فذكرت له ذلك فقال: إنما طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وهو شاك يستلم الأركان بمحجن فطاف بين الصفا والمروة على راحلته فمن أجل ذلك لم يصعد» . اهـ (4) .
وقال الدسوقي (قوله إذ هو واجب. إلخ) حاصله أن المشي في كل من الطواف والسعي واجب على القادر عليه فلا دم على عاجز طاف أو سعى راكبا أو محمولا، وأما القادر إذا طاف أو سعى محمولا أو راكبا فإنه يؤمر بإعادته ماشيا ما دام بمكة لا يجبر بالدم حينئذ كما يؤمر العاجز بإعادته إن قدر ما دام بمكة وإن رجع لبلده فلا يؤمر بالعودة لإعادته ويلزمه دم فإن رجع وأعاده ماشيا سقط الدم عنه ثم قال: وهذا في الطواف الواجب، وأما الطواف غير الواجب فالمشي فيه سنة وحينئذ فلا دم على تارك المشي فيه قاله عج. اهـ (5) . .
قال النووي: والأفضل أن يطوف راجلا لأنه إذا طاف راكبا زاحم الناس وآذاهم وإن كان به مرض يشق معه الطواف راجلا لم يكره الطواف راكبا لما روت «أم سلمة أنها قدمت مريضة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " طوفي وراء الناس وأنت راكبة (6) » ، وإن كان راكبا من غير عذر جاز لما روى جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ليراه الناس ويسألوه (7) » . حديث أم سلمة رواه البخاري وحديث جابر رواه مسلم وثبت طواف النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أيضا من رواية ابن عباس وثبت أيضا
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1632) ، صحيح مسلم الحج (1272) ، سنن الترمذي الحج (865) ، سنن النسائي المساجد (713) ، سنن أبو داود المناسك (1877) ، سنن ابن ماجه المناسك (2948) ، مسند أحمد بن حنبل (1/248) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1845) .
(2) صحيح مسلم كتاب الحج (1273) ، سنن النسائي مناسك الحج (2975) ، سنن أبو داود المناسك (1880) .
(3) صحيح مسلم الحج (1275) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1879) ، سنن ابن ماجه المناسك (2949) ، مسند أحمد بن حنبل (5/454) .
(4) شرح فتح القدير ج2 ص147.
(5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2 ص40
(6) صحيح البخاري كتاب الصلاة (464) ، صحيح مسلم الحج (1276) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2925) ، سنن أبو داود المناسك (1882) ، مسند أحمد بن حنبل (6/319) ، موطأ مالك الحج (832) .
(7) صحيح مسلم الحج (1273) ، سنن النسائي مناسك الحج (2975) ، سنن أبو داود المناسك (1880) .(1/185)
من رواية غير هؤلاء، ولفظ حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم «طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن (1) » رواه البخاري ومسلم، وفي حديث «طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته يستلم الركن بمحجنه لأن يراه الناس وليشرف فيسألوه فإن الناس غشوه (2) » رواه مسلم. وعن عائشة قالت «طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعير يستلم الركن كراهة أن يضرب عنه الناس (3) » رواه مسلم.
وأما الأحكام
فقال أصحابنا الأفضل أن يطوف ماشيا ولا يركب إلا لعذر مرض أو نحوه أو كان ممن يحتاج الناس إلى ظهوره ليستفتى ويقتدى بفعله فإن طاف راكبا بلا عذر جاز بلا كراهية لكنه خالف الأولى كذا قاله جمهور أصحابنا - إلى أن قال - " فرع " قد ذكرنا مذهبنا في طواف الراكب، ونقل الماوردي إجماع العلماء على أن طواف الماشي أولى من طواف الراكب. اهـ (4) . وقال أيضا: أما سنن الطواف وآدابه فثمان، أحدها -: أن يطوف ماشيا فإن طاف راكبا لعذر يشق معه الطواف ماشيا أو طاف راكبا ليظهر ويستفتى ويقتدى بفعله جاز ولا كراهة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا في بعض أطوافه وهو طواف الزيارة ولو طاف راكبا بلا عذر جاز. اهـ. .
وقال ابن حجر الهيثمي في حاشيته على الشرح قوله: وهو طواف الزيارة أما ما أشار إليه من ركوبه صلى الله عليه وسلم فيه أنما كان ليظهر فيستفتى هذا ما رواه مسلم.
قال السبكي وهذا أصح من رواية من روى أنه طاف راكبا لمرض أشار بذلك إلى ما رواه أبو داود على أن في إسناده من لا يحتج به، وقال البيهقي في حديثه لفظة لم يوافق عليها وهي قوله «وهو يشتكي (5) » . ومن ثمة قال الشافعي لا أعلم أنه صلى الله عليه وسلم فعله ماشيا، وخبر مسلم «أنه طاف في حجة الوداع راكبا على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة (6) » لا ينافي ذلك وإن كان سعيه في تلك الحجة إنما كان مرة واحدة وعقب طواف القدوم لأن الواو لا تقتضي ترتيبا. اهـ (7) . وقال في الإيضاح أيضا: ويجوز الطواف في أخريات المسجد وفي أروقته وعند بابه من داخله وعلى أسطحته ولا خلاف في شيء من هذا لكن قال بعض أصحابنا يشترط في صحة الطواف أن يكون البيت أرفع بناء من السطح كما هو اليوم حتى لو رفع سقف المسجد فصار سطحه أعلى من البيت لم يصح الطواف على هذا السطح وأنكره عليه الإمام أبو القاسم الرافعي. اهـ (8) .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1608) ، صحيح مسلم الحج (1272) ، سنن النسائي المساجد (713) ، سنن أبو داود المناسك (1877) ، سنن ابن ماجه المناسك (2948) .
(2) صحيح مسلم كتاب الحج (1273) ، سنن النسائي مناسك الحج (2975) ، سنن أبو داود المناسك (1880) .
(3) صحيح مسلم الحج (1274) ، سنن النسائي مناسك الحج (2928) .
(4) المهذب مع شرحه المجموج للنووي ج8 ص29- 30.
(5) سنن أبو داود المناسك (1881) .
(6) صحيح مسلم الحج (1273) ، سنن النسائي مناسك الحج (2975) ، سنن أبو داود المناسك (1880) .
(7) متن الإيضاح في مناسك الحج للنووي مع شرحه لابن حجر الهيثمي ج11 ص255.
(8) الإيضاح للنووي ج1 ص239 مع شرحه للهيثمي.(1/186)
وقال ابن قدامة: لا نعلم خلافا في صحة طواف الراكب إذا كان له عذر. . . إلى أن قال - فصل - فأما الطواف راكبا أو محمولا لغير عذر فمفهوم كلام الخرقي أنه لا يجزئ وهذا هو إحدى الروايات عن أحمد لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطواف بالبيت صلاة (1) » . ولأنها عبادة تتعلق بالبيت فلم يجز فعلها راكبا لغير عذر كالصلاة.
والثانية يجزئه ويجبره بدم، وهو قول مالك، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه قال: يعيد ما كان بمكة فإن رجع جبره بدم لأنه ترك صفة واجبة من واجبات الحج فأشبه ما لو وقف بعرفة نهارا ودفع قبل غروب الشمس.
والثالثة يجزئه ولا شيء عليه اختارها أبو بكر وهي مذهب الشافعي وابن المنذر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالطواف مطلقا فكيفما أتى به أجزأه ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل ثم قال: فصل فأما السعي راكبا فيجزئه لعذر ولغير عذر لأن المعنى الذي منع الطواف راكبا غير موجود فيه. اهـ (2) .
وقال البهوتي (3) : ومن طاف أو سعى راكبا أو محمولا لغير عذر لم يجزئه الطواف ولا السعي لقوله صلى الله عليه وسلم «الطواف بالبيت صلاة (4) » (ولأنه عبادة تتعلق بالبيت فلم يجز فعلها راكبا كالصلاة والسعي كالطواف والطواف أو السعي راكبا أو محمولا لعذر يجزئ لحديث ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن (5) » ، وعن أم سلمة قالت «شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال: " طوفي من وراء الناس راكبة (6) » . متفق عليه. ولأن طوافه صلى الله عليه وسلم راكبا لعذر كما يشير إليه قول ابن عباس «كثر عليه الناس يقولون هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا تضرب الناس بين يديه فلما كثروا عليه ركب (7) » . رواه مسلم، واختار الموفق والشارح يجزئ السعي راكبا ولو لغير عذر. اهـ.
مما تقدم يتبين أنه يجوز للحاج والمعتمر أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة راكبا لعذر باتفاق ولا شيء عليه - أما غير المعذور فله أن يسعى راكبا لكن المشي له أفضل، وفي طوافه راكبا خلاف فقيل يجزئه ولا شيء عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف الزيارة راكبا، وقيل يجزئه وعليه دم جبرا، لأن الطواف له حكم الصلاة في الجملة، والمفترض لا يصلي محمولا، ولأن ركوبه صلى الله
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (2922) ، مسند أحمد بن حنبل (4/64) .
(2) المغني والشرح الكبير جـ2 ص415.
(3) كشاف القناع جـ2 ص433.
(4) سنن النسائي مناسك الحج (2922) ، مسند أحمد بن حنبل (4/64) .
(5) صحيح البخاري الحج (1608) ، صحيح مسلم الحج (1272) ، سنن النسائي المساجد (713) ، سنن أبو داود المناسك (1877) ، سنن ابن ماجه المناسك (2948) .
(6) صحيح البخاري كتاب الصلاة (464) ، صحيح مسلم الحج (1276) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2925) ، سنن أبو داود المناسك (1882) ، مسند أحمد بن حنبل (6/319) .
(7) صحيح مسلم الحج (1264) .(1/187)
عليه وسلم في الطواف كان لوجع في رجله أو ليراه الناس فيسألوه وقيل لا يجزئه لحديث «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام (1) » والمفترض لا تصح صلاته راكبا لغير عذر، وطواف النبي صلى الله عليه وسلم راكبا كان لعذر كما تقدم،.
وعلى هذا يمكن أن يقال بإجزاء السعي على سقف المسعى بل بجوازه وإن كان المشي أفضل لشبهه بالسعي راكبا بعيرا ونحوه، إذ الكل غير مباشر للأرض في سعيه وخاصة أنه لم يرد في السعي ما يلحقه بالصلاة في حكمها بل أنه أولى من الطواف راكبا بالإجزاء فإذا صح الطواف راكبا لعذر صح السعي فوق سقف المسعى لعذر، وفي سعيه فوقه لغير عذر يكون فيه الخلاف في جوازه وإجزائه، وأخيرا إن اعتبر في إجزاء السعي فوق سقف المسعى أو جوازه وجود العذر نظر في زحام السعاة في الحج والعمرة، هل يقوم عذرا أو لا. والله الموفق.
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (2922) ، مسند أحمد بن حنبل (4/64) .(1/188)
وأما الأمر الثالث
وقد يسترشد فيه بالقرآن وأقوال الفقهاء قال الله تعالى {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ} (1) في هذه الآية خطاب من الله للناس في كل مكان أن يولوا وجوههم قبل المسجد الحرام سواء منهم من كان بأرض منخفضة عن المسجد الحرام فيكون مستقبلا في صلاته لتخوم أرضه ومن كان منهم بمكان مرتفع عن سطح الكعبة، فيكون مستقبلا لما فوق الكعبة من الهواء، فدل ذلك على أن حكم ما تحت البيت الحرام من تخوم الأرض وما فوقه من الهواء في استقبال القبلة في الصلاة حكم استقبال البيت نفسه. وفيما يلي نقول عن بعض أهل العلم في الموضوع:
قال السرخسي: ومن صلى على سطح الكعبة جازت صلاته عندنا وإن لم يكن بين يديه ستره، وقال الشافعي: لا يجوز إلا أن يكون بين يديه سترة بناء على أصله أن البناء معتبر في جواز التوجه إليه للصلاة ثم قال: وعندنا القبلة هي الكعبة فسواء كان بين يديه سترة أم لم يكن فهو مستقبل القبلة، وبالاتفاق من صلى على أبي قبيس جازت صلاته وليس بين يديه شيء من بناء الكعبة فدل على أنه لا معتبر للبناء. اهـ (2) .
وقال المرغيناني (3) : " ومن كان غائبا ففرضه إصابة جهتها هو الصحيح لأن التكليف بحسب الوسع.
وقال ابن الهمام تعليقا على قول المرغيناني: إصابة جهتها. قال: قوله " إصابة جهتها " في الدراية عن شيخه ما حاصله أن استقبال الجهة أن يبقى شيء من سطح الوجه مسامتا للكعبة أو لهوائها لأن المقابلة إذا قعت في مسافة بعيدة لا تزول بما يزول به من الانحراف لو كانت مسافة قريبة، وبتفاوت ذلك بحسب تفاوت
__________
(1) سورة البقرة الآية 149
(2) المبسوط ج2 ص79.
(3) الهداية وعليها فتح القدير ج1 ص189.(1/188)
البعد وتبقى المسامتة مع انتقال مناسب لذلك البعد فلو فرض خط من تلقاء وجه المستقبل للكعبة على التحقيق في بعض البلاد، وخط آخر يقطعه على زاويتين قائمتين من جانب يمين المستقبل وشماله لا تزول تلك المقابلة والتوجه بالانتقال إلى اليمين والشمال على ذلك الخط بفراسخ كثيرة. . اهـ.
وقال الدسوقي: (1) " قوله وبطل فرض على ظهرها " أي على ظهر الكعبة " قوله فيعاد أبدا " أي على المشهور ولو كان بين يديه قطعة من حائط سطحها بناء على أن المأمور به استقبال جملة البناء لا بعضه ولا الهواء وهو المعتمد، وقيل إنما يعاد بناء على كفاية استقبال هواء البيت أو استقبال قطعة من البناء ولو من حائط سطحه. اهـ.
وقد ذكر نحوا من ذلك الحطاب (2) .
وقال الشيخ محمد عرفة الدسوقي: ملخصا حكم الصلاة على ظهر الكعبة " فتحصل من كلام الشارح أن الفرض على ظهرها ممنوع اتفاقا، وأما النفل ففيه أقوال ثلاثة، الجواز مطلقا، والجواز إن كان غير مؤكد، والمنع وعدم الصحة مطلقا، قال شيخنا: وهذا الأخير هو أظهر الأقوال، " تنبيه " سكت المصنف عن حكم الصلاة تحت الكعبة في حفرة، وقد قدم أن الحكم بطلانها مطلقا، فرضا أو نفلا، لأن ما تحت المسجد لا يعطى حكمه بحال، ألا ترى أن الجنب يجوز له الدخول تحته، ولا يجوز له الطيران فوقه، كذا قرره شيخنا. .
وكتب الشيخ محمد عليش في تقريره على حاشية الدسوقي والشرح الكبير للشيخ أحمد الدردير ما نصه: " وإنما جاز على جبل أبي قبيس مع أنه أعلى من بنائها لأن المصلي عليه مصل إليها وأما المصلي على ظهرها فهو فيها، انتهى ضوء الشموع " اهـ.
وقال النووي (3) : أما حكم المسألة فقال أصحابنا لو وقف على أبي قبيس أو غيره من المواضع العالية على الكعبة وبقربها صحت صلاته بلا خلاف لأنه يعد مستقبلا وإن وقف على سطح الكعبة نظر إن وقف على طرفها واستدبر باقيها لم تصح صلاته بالاتفاق لعدم استقبال شيء منها وهكذا لو انهدمت - والعياذ بالله - فوقف على طرف العرصة واستدبر باقيها لم تصح صلاته ولو وقف خارج العرصة واستقبلها صح بلا خلاف، وأما إذا وقف في وسط السطح أو العرصة فإن لم يكن بين يديه شيء شاخص لم تصح صلاته على الصحيح المنصوص، وبه قال أكثر الأصحاب، وقال ابن سريج تصح وبه قال أبو حنيفة
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج1 ص229.
(2) مواهب الجليل على مختصر خليل ج1 ص511- 513.
(3) المهذب مع شرحه المجموع للنووي جـ3 ص198.(1/189)
وداود، ومالك في رواية عنه كما لو وقف على أبي قبيس، وكما لو وقف خارج العرصة واستقبلها، والمذهب الأول والفرق أنه لا يعد هنا مستقبلا بخلاف ما قاس عليه، وهذا الوجه الذي لابن سريج جاز في العرصة والسطح كما ذكرنا كذا نقله عنه إمام الحرمين وصاحب التهذيب وآخرون، وكلام المصنف يوهم أنه لا يقول به في السطح وليس الأمر كذلك. اهـ.
وقال ابن قدامة: ولو صلى على جبل عال يخرج من مسامتة الكعبة صحت صلاته، وكذلك لو صلى في مكان ينزل عن مسامتتها لأن الواجب استقبالها وما يسامتها من فوقها وتحتها بدليل ما لو زالت الكعبة - والعياذ بالله - صحت الصلاة إلى موضع جدارها. اهـ (1) .
وقال البهوتي: ولا يضر علو على الكعبة كما لو صلى على أبي قبيس، ولا نزوله عنها كما لو صلى في حفيرة تنزل عن مسامتتها لأن العبرة بالبقعة لا بالجدران. اهـ (2) . مما تقدم يتبين أن من صلى على مكان مرتفع عن سطح الكعبة مستقبلا ما فوق سطحها من هواء صحت صلاته إجماعا. كمن صلى فوق جبل أبي قبيس أو في بلاد سطح أرضها أعلى من سطح الكعبة، ومن صلى الفريضة فوق الكعبة مستقبلا ما أمامه من هوائها أو مستقبلا سترة بين يديه ففي صحة صلاته خلاف، بناء على الاكتفاء باستقبال جزء من بناء الكعبة أو جزء من هوائها في صحة الصلاة، وعدم الاكتفاء بذلك بل لا بد من شاخص أو استقبال جملة البناء أو جملة الهواء أما من على سطحها أو في جوفها فيقال فيه أنه مستدير الكعبة أو هواءها باعتبار كما يقال أنه مستقبل باعتبار آخر فلم يتحقق فيه شرط الاستقبال بإطلاق، فلا تصح صلاته. ومن صلى على طرفها وجعل هواءها وراءه بطلت صلاته لأنه لم يستقبل شيئا من بنائها ولا من هوائها، وعلى هذا يمكن أن يقال: إذا كان استقبال ما فوق الكعبة من هواء في الصلاة كاستقبال بنائها فالسعي فوق سقف المسعى في حكم السعي على أرض المسعى.
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير ج1 ص463.
(2) متن الإقناع مع شرح كشاف القناع ج2 ص79.(1/190)
وأما الأمر الرابع
فروى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر ويقول لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه (1) » . رواه أحمد ومسلم والنسائي (2) .
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) .
(2) المنتقى مع شرح للشوكاني ج5 ص70.(1/190)
وما روى أبو داود وابن ماجه في سننهما عن يزيد بن أبي زياد عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أمه قالت «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو راكب يكبر مع كل حصاة ورجل خلفه يستره فسألت عن الرجل فقالوا الفضل بن عباس وازدحم الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضا وإذا رأيتم الجمرة فارموا بمثل حصى الحذف (1) » سكت أبو داود عن الحديث وقال المنذري في إسناده يزيد بن أبي زياد (2) .
وقال الشوكاني: قوله على راحلته استدل به على أن رمي الراكب لجمرة العقبة أفضل من رمي الراجل، وبه قالت الشافعية، والحنفية، والناصر، والإمام يحيى، وقال الهادي والقاسم: إن رمي الراجل أفضل. اهـ (3) .
وقال ابن عابدين: وقوله " وجاز الرمي راكبا - إلخ " عبارة الملتقى أخص وهي جاز الرمي راكبا وغير راكب أفضل في جمرة العقبة. انتهى، وفي اللباب، والأفضل أن يرمي جمرة العقبة راكبا وغيرها ماشيا في جميع أيام الرمي - إلى أن قال: والضابط أن كل رمي يقف بعده فإنه يرميه ماشيا وهو كل رمي بعده رمي كما مر ومالا فلا ثم هذا التفصيل قول أبي يوسف وله حكاية مشهورة ذكرها (ط) وغيره وهو مختار كثير من المشايخ كصاحب الهداية والكافي والبدائع وغيرهم، وأما قولهما فذكر في البحر أن الأفضل الركوب في الكل على ما في الحاشية، والمشي في الكل على ما في الظهيرية وقال: فتحصل إن في المسالة ثلاثة أقوال - ثم قال: " قوله ورجحه الكمال " أي بأن أداءها ماشيا أقرب إلى التواضع والخشوع وخصوصا في هذا الزمان فإن عامة المسلمين مشاة في جميع الرمي فلا يؤمن من الأذى بالركوب بينهم - بالزحمة، ورميه عليه السلام راكبا إنما هو ليظهر فعله ليقتدى به كطوافه راكبا. اهـ.
قال في البحر: " ولو قيل بأنه ماشيا أفضل إلا في رمي جمرة العقبة وفي اليوم الأخير لكان له وجه لأنه ذاهب إلى مكة في هذه الساعة كما هو العادة وغالب الناس راكب فلا إيذاء في ركوبه مع تحصيل فضيلة الاتباع له عليه الصلاة والسلام. اهـ (4) . وقال السرخسي: وإن رماها راكبا أجزأه لحديث جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم " رمى الجمار راكبا (5) » . اهـ (6) .
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1966) ، سنن ابن ماجه المناسك (3031) ، مسند أحمد بن حنبل (6/379) .
(2) مختصر سنن أبي للمنذري ج2 ص415.
(3) نيل الأوطار ج5 ص71.
(4) رد المحتار على الدر المختار ج1 ص254.
(5) سنن الترمذي الحج (899) ، سنن ابن ماجه المناسك (3034) ، مسند أحمد بن حنبل (1/232) .
(6) المبسوط ج4 ص69.(1/191)
وفي المدونة الكبرى: قلت فهل يرمي الرجل الجمار راكبا أو ماشيا قال: قال مالك أما الشأن يوم النحر فيرمي جمرة العقبة راكبا كما يأتي على دابته يمضي كما هو يرمي، وأما في غير يوم النحر فكان يقول يرمي ماشيا قلت فإن ركب في رمي الجمار في الأيام الثلاثة أو مشي يوم النحر إلى جمرة العقبة فرماها ماشيا هل عليه لذلك شيء؟ قال: ليس عليه لذلك شيء. اهـ (1) .
وقال الدسوقي: " قوله وإن راكبا " أي هذا إذا وصل إليها ماشيا بل إن وصل إليها راكبا وهذا من تعليقات الندب أي أنه يندب أن يرميها حين وصوله على الحالة التي وصل عليها من ركوب أو مشي فلا يصبر حتى ينزل إذا وصل راكبا ولا يصبر حتى يركب إذا وصل إليها ماشيا لأن فيه عدم الاستعجال برميها. اهـ (2) .
وقال الشافعي: ولا يرمي يوم النحر إلا جمرة العقبة وحدها ويرميها راكبا وكذلك يرميها يوم النفر راكبا ويمشي في اليومين الآخرين أحب إلي ثم قال: وإن ركب فلا شيء علي - ثم ساق رواية قدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة على ناقته الصهباء وليس ضرب ولا طرد ولكن قيل إليك إليك (3) » . اهـ (4) .
وقال النووي: (5) (فرع) مذهبنا أنه يستحب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا إن كان دخل منى راكبا ويرمي في أيام التشريق ماشيا إلا يوم النفر فراكبا، وبه قال مالك، قال ابن المنذر: وكان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمون مشاة واستحبه أحمد وكره جابر الركوب إلى شيء من الجمار إلا لضرورة. قال وأجمعوا على أن الرمي يجزئه على أي حال إذا وقع في المرمى دليلنا الأحاديث الصحيحة السابقة «أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة راكبا يوم النحر (6) » والله أعلم.
وقال ابن قدامة (7) : ويرميها راكبا أو راجلا كيفما شاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماها على راحلته رواه جابر وابن عمر وأم أبي الأحوص وغيرهم قال جابر: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول خذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتى هذه (8) » .
وقال نافع: كان ابن عمر يرمي جمرة العقبة على دابته يوم النحر وكان لا يأتي سائرها بعد ذلك إلا ماشيا ذاهبا وراجعا وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأتيها إلا ماشيا ذاهبا وراجعا رواه أحمد في المسند.
ثم قال وفي هذا بيان للتفريق بين هذه الجمرة وغيرها. اهـ.
__________
(1) المدونة الكبرى جـ1 ص235.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير جـ2 ص45
(3) سنن الترمذي الحج (903) ، سنن النسائي مناسك الحج (3061) ، سنن ابن ماجه المناسك (3035) ، مسند أحمد بن حنبل (3/413) ، سنن الدارمي المناسك (1901) .
(4) الأم للشافعي جـ2 ص213.
(5) المجموع للنووي جـ8 ص183.
(6) سنن الترمذي الحج (899) ، سنن ابن ماجه المناسك (3034) ، مسند أحمد بن حنبل (1/232) .
(7) المغني مع الشرح الكبير جـ3 ص449.
(8) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) .(1/192)
وقال البهوتي (1) : فإذا وصل إلى منى. . . بدأ بها راكبا إن كان راكبا الحديث «ابن مسعود أنه انتهى إلى جمرة العقبة فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات وهو راكب يكبر مع كل حصاة. . - إلى أن قال -: ههنا كان يقوم الذي أنزلت عليه سورة البقرة (2) » . رواه أحمد. وظاهر كلام الأكثر ماشيا وإلا أي لم يكن راكبا رماها ماشيا. اهـ.
مما تقدم يتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة راكبا وأن الفقهاء اتفقوا على أنه يجزئ الرمي راكبا وماشيا، واختلفوا في الأفضل منهما، هل هو الرمي ماشيا، لأنه أقرب للتواضع والبعد عن إيذاء المشاة، وإنما رماها صلى الله عليه وسلم راكبا ليراه الناس ويسألوه ويقتدوا به، أو الرمي راكبا اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا يمكن أن يقال: إذا جاز رمي الجمرات راكبا جاز السعي فوق سقف المسعى، فإن كلا منهما نسك أدي من غير مباشرة مؤديه للأرض التي أدى عليها، بل السعي فوق السقف أقرب من أداء أي شعيرة من شعائر الحج أو العمرة فوق البعير ونحوه لما في البناء من الثبات الذي لا يوجد في المراكب.
ونظرا إلى أن السعي فوق سقف المسعى لم نقف فيه على نصوص للفقهاء وأن ما يرجع إليه من أقوالهم للاسترشاد بها على هذه المسألة ليس بكثير وليس الخلاف فيه كثيرا اكتفينا بما نقلناه سائلين الله التوفيق للجميع، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم،،،،،،
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) كشاف القناع ج2 ص 449
(2) صحيح مسلم الحج (1296) ، سنن الترمذي الحج (901) ، سنن النسائي مناسك الحج (3073) ، سنن أبو داود المناسك (1974) ، سنن ابن ماجه المناسك (3030) ، مسند أحمد بن حنبل (1/427) .(1/193)
الخلاصة
وبعد اطلاع الهيئة على البحث المتقدم، ودراستها للمسألة، واستعراض أقوال أهل العلم في حكم الطواف والسعي والرمي راكبا والصلاة إلى هواء الكعبة أو قاعها، وكذا حكم الطواف فوق أسطحة الحرم وأروقته، وحكمهم بأن من سلك أرضا ملك أسفلها وأعلاها. وبعد تداول الرأي والمناقشة انتهى المجلس بالأكثرية إلى الإفتاء بجواز السعي فوق سقف المسعى عند الحاجة بشرط استيعاب ما بين الصفا والمروة وإن لا يخرج عن مسامتة المسعى عرضا لما يأتي: -
1 - لأن الحكم أعلى الأرض وأسفلها تابع لحكمها في التملك والاختصاص ونحوهما فللسعي فوق سقف المسعى حكم السعي على أرضه.
2 - لما ذكره أهل العلم من أنه يجوز للحاج والمعتمر أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة راكبا لعذر باتفاق ولغير عذر على خلاف من بعضهم، فمن يسعى فوق سقف المسعى يشبه من يسعى راكبا بعيرا ونحوه إذ الكل غير مباشر للأرض في سعيه وعلى رأي من لا يرى جواز السعي راكبا لغير عذر فإن ازدحام السعاة في الحج يعتبر عذرا يبرر الجواز. . .
3 - أجمع أهل العلم على أن استقبال ما فوق الكعبة من هواء في الصلاة كاستقبال بنائها بناء على أن العبرة بالبقعة لا بالبناء، فالسعي فوق سقف المسعى كالسعي على أرضه. .
4 - اتفق العلماء على أنه يجوز الرمي راكبا وماشيا واختلفوا في الأفضل منهما، فإذا جاز رمي الجمرات راكبا جاز السعي فوق سقف المسعى فإن كلا منهما نسك أدي من غير مباشرة مؤديه للأرض التي أداه عليها بل السعي فوق السقف أقرب من أداء أي شعيرة من شعائر الحج أو العمرة فوق البعير ونحوه لما في البناء من الثبات الذي لا يوجد في المراكب. .(1/194)
5 - لأن السعي فوق سقف المسعى لا يخرج عن مسمى السعي بين الصفا والمروة ولما في ذلك من التيسير على المسلمين والتخفيف مما هم فيه من الضيق والازدحام.
وقد قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) مع عدم وجود ما ينافيه من كتاب أو سنة بل أن فيما تقدم من المبررات ما يؤيد القول بالجواز عند الحاجة وقد ذكر ابن حجر الهيثمي رحمه الله رأيه في المسألة فقال في حاشية على الإيضاح لمحيي الدين النووي ص (131) ولو مشى أو مر في هواء السعي فقياس جعلهم هواء المسجد مسجدا صحة سعيه. اهـ.
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) سورة الحج الآية 78(1/195)
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153(1/196)
مجلة البحوث الإسلامية
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الاقتصاد
حكم
الأوراق النقدية(1/197)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه.
وبعد: فقد عرض على هيئة كبار العلماء رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد -المملكة العربية السعودية- موضوع " الورق النقدي " حيث تم إدراجه في جداول أعمال الهيئة لدورتها الثالثة المنعقدة في شهر ربيع الثاني عام 1393 هـ.
وفي تلك الدورة قدمت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع هذا نصه:. . .(1/198)
الفهرس
تعريف النقد
نشأة النقود وتطورها
قاعدة النقد الورقي
سر القابلية العامة لاعتبار النقد واسطة تعامل
آراء فقهية في حقيقة الأوراق النقدية
الأوراق النقدية أسناد
الأوراق النقدية عروض
الأوراق النقدية فلوس
الأوراق النقدية متفرعة عن ذهب أو فضة، وأجناس تتعدد بتعدد جهات إصدارها
علة الربا في النقدين
الأوراق النقدية نقد قائم بنفسه(1/199)
حكم الأوراق النقدية
تعريف النقد
يقول علماء الاقتصاد: إن للنقد ثلاث خصائص متى توفرت في مادة ما اعتبرت هذه المادة نقدا.
الأولى: أن يكون وسيطا للتبادل.
الثانية: أن يكون مقياسا للقيم.
الثالثة: أن يكون مستودعا للثروة.
وعلى هذا الأساس قيل إن النقد هو أي شيء يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل مهما كان ذلك الشيء وعلى أي حال يكون، وفي أقوال بعض أهل العلم الشرعي، ما قد يؤيد هذا التعريف، ففي المدونة الكبرى ما نصه:
ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة. اهـ (1) .
__________
(1) انظر كتاب الصرف من المدونة.(1/200)
قد يقال إن كراهة مالك لذلك من باب الاحتياط، لا لأنه أنزلها منزلة الذهب والفضة حقيقة بدليل ما جاء في المدونة الكبرى من كتاب الزكاة، قال ابن القاسم: سألت مالكا عن الفلوس تباع بالدراهم والدنانير نظرة ويباع الفلس بالفلسين، قال مالك: إني أكره ذلك وما أراه مثل الذهب والورق في الكراهية.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح، وذلك لأن في الأصل لا يتعلق المقصود به بل الفرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد بنفسها بل هي وسيلة إلى التعامل بها، ولهذا كانت أثمانا بخلاف سائر الأموال، فإن المقصود الانتفاع بها نفسها فلهذا كانت مقدرة بالأموال الطبيعية أو الشرعية، والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت. أهـ (1) .
وبهذا يمكن القول بأن النقد شيء اعتباري سواء كان ذلك الاعتبار ناتجا عن حكم سلطاني أو عرف عام، وقد يقال إن النقد ليس شيئا اعتباريا محضا ناتجا عن حكم سلطة الإصدار بل يتوقف اعتباره نقدا على قيمة ذاتية أو غطاء كامل مع اعتبار السلطة لنقديته أو جريان العرف بذلك.
__________
(1) انظر ص 241 - 252 من الجزء التاسع عشر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.(1/201)
نشأة النقود وتطورها
الإنسان مدني بطبعه، قليل بنفسه كثير بغيره، فكل محتاج إلى ما عند غيره، ومن طبيعة الإنسان أن يضن ببذل ما عنده إلا بعوض، لذا نشأت الحاجة إلى ما يسمى بالمقايضة، ويذكر أن نظام المقايضة قد ساد وقتا ما إلا أن تطور الحياة، وما في الأخذ بالمقايضة من صعوبات أدى إلى الأخذ بوسيط آخر يكون أيسر، ويصلح وحده للمحاسبة، ومقياسا للقيم، وخزانة للثروة وقوة شرائية غير محدودة، إلا أن كل أمة اختارت وسيطا يناسب البيئة التي تعيشها، ولم يعد هذا الوسيط أن يكون سلعا متنوعة من الأصداف، والخرز، والرياش، وأنياب الفيلة، ونحوها، ولما تطورت الحياة البشرية ظهر عجز السلع عن مسايرة هذا التقدم فاتجه الفكر إلى وسيط سهل الحمل عظيم القيمة له من المميزات ما يحفظه من عوامل التلف والتأرجح بين الزيادة والنقصان، فاتخذوا الوسيط للتبادل من المعادن النفيسة على شكل سبائك وقطع غير مسكوكة، غير أن اختلاف أنواعها وعدم وجود سكة لها أدى إلى التلاعب في وزنها، وإلى صعوبات في تقديرها عند التبادل، فتدخل ولاة الأمر ورأوا احتكار إصدار الوسيط(1/201)
وأن يكون قطعا متنوعة من المعادن معلومة الوزن مختوما على كل قطعة ما يدل على مسئولية الحاكم عنها، وبهذا تحقق في النقد الثقة والاطمئنان إليه والقدرة على إدارة التعامل به، إلا أن هذه القدرة غير تامة للصعوبة النسبية في حمله ونقله من مكان إلى آخر، لذلك اتجه الفكر إلى الأخذ بالعملات الورقية، على أن الأخذ بالعملات الورقية لم يكن دفعة واحدة، وإنما كان على مراحل، فخوفا على ضياع النقد في الأسفار التجارية اختار التجار طريق التحويل لمن يريدون التعامل معه، ثم رأوا عدم تعيين أشخاصهم في الحوالة، ولما كثر التعامل بهذه الطريقة، ووجدت الأوراق التحويلية قبولا أصدر الصيارفة أوراقا مصرفية جديدة بقدر الجزء المتداول في الأسواق، وبهذا صارت جزءا من النقود لها قبول عام، وصارت خزائن للثروة ومقياسا للقيم، وقوة شرائية مطلقة. لكن إصدارها كان مشوبا بالفوضى والتلاعب فساءت سمعة هذه الأوراق وضعفت الثقة بها فتدخل ولاة الأمور في الإصدار ومراقبته وتحديده وتعيين شكل للورقة النقدية فاكتسبت بذلك قوة الإبراء التام، ثم جرى العمل على أن من طلب من جهة الإصدار والاستعاضة عما تعهدت به في الورقة بنقود معدنية دفع إليه، ثم تخلف الوفاء بهذا التعهد إلا إذا كان ما طلب استرجاعه كثيرا، وأخيرا تخلف الوفاء بما تعهد به إلا بمثله من الورق، وبذلك انقطعت العلاقة بين الورقة النقدية والنقد المعدني وصارت قيمة وحدة النقود الورقية قيمة مستقلة.(1/202)
قاعدة النقد الورقي
لا شك أن أي نقد قابل للتداول العام كوسيط للتبادل لا بد أن يكون له ما يسنده ويدعو إلى الثقة به كقوة شرائية لا حد لها، هذا السند إما أن يكون في ذات النقد نفسه كالذهب والفضة، إذ فيهما قيمتها المقاربة لما يقدران به، أو يكون ركيزة تدعم النقد وتوحي بالثقة به، ثم إن هذه الركيزة قد تكون شيئا ماديا محسوسا كالغطاء الكامل للأوراق من ذهب أو فضة أو عقار أو أوراق مالية من أسهم وسندات، وقد تكون التزاما سلطانيا باعتبارها وضمان قيمتها، وتكون بذلك أوراقا وثيقية، وقد تكون الركيزة المستند عليها النقد شيئا ماديا محسوسا والتزاما سلطانيا معا، فيغطي بعض النقد الورقي بقيمتها المادية عينا، ويلتزم السلطان في ذمته بقيمة باقية دون أن يكون لهذا الباقي غطاء مادي محفوظ، وقد يمثل هذا الباقي غالب النقد الورقي (1)
* * *
__________
(1) انظر مبادئ الاقتصاد السياسي للدكتورين رأفت المحبوب، وعاطف صدقي وكتاب قصة النقود لوهيب مسيحه.(1/202)
سر القابلية العامة لاعتبار النقد واسطة تعامل
لعلماء الاقتصاد ثلاث نظريات في سر قابلية النقد للتبادل العام، قد تكون كل منها صحيحة في فترة ما.
الأولى: النظرية المعدنية:
إن النقد مادة لها قيمة في نفسها قبل اتخاذها وسيطا للتبادل، كذلك حصلت الثقة بها وكانت ذات قابلية عامة للوساطة في التبادل، وهذه النظرية صحيحة حينما كان النقد معدنيا، أما اليوم فإن النقد كلما لقي من الناس قبولا عاما وثقة في اعتباره وسيطا للتبادل فيدخل في ذلك النقد الورقي سواء أكان له غطاء حسي أم كان من اعتبار الحاكم له وسيطا وضمانه له.
الثانية: النظرية السلطانية:
وهذه النظرية تقول بأن أمر السلطان هو الذي أكسب النقد قبولا عاما وثقة به، ولا شك أن مجرد أمر السلطان لا يكفي في ذلك دون أن يستند إلى مبرر يضمن اطمئنان الأمة إلى هذا الوسيط لتقف إلى جانب السلطان طائعة مختارة.
الثالثة: النظرية النفسانية:
بأن النقد هو الذي تطمئن النفس إلى اعتباره قوة شرائية مطلقة ثقة به واطمئنانا إليه، سواء أكان له غطاء أم لا، وسواء أكانت له قيمة ذاتية أم لا، وسواء أمر السلطان باعتباره أم حصل التراضي والتعارف على استعماله وقبوله.
مما تقدم يمكن أن يستنتج ما يلي:
1 - النقد هو كل شيء يلقى قبولا عاما كوسيط متبادل.
2 - التعهد المسجل على كل ورقة نقدية بتسليم حاملها قيمتها عند الطلب كان سابقا في وقت ما لاعتبار خاص بالأوراق النقدية، أما الآن فليس له من واقع التعامل به نصيب، وإنما هو الآن يحكي ما مضى ويعني التذكير بمسئولية الجهات المختصة تجاه قيمتها والحد من إصدارها بلا تقدير.
3 - من الجائز وجود كميات من الأوراق النقدية رعاية عن الغطاء العيني إلا أن الغالب ألا تزيد هذه الكميات عن 65 % من مجموع الأوراق النقدية المتداولة.
4 - ليس متعينا أن تكون القاعدة للورق النقدي ذهبا أو فضة إذ لا مانع أن تكون من غيرها كعقار أو أوراق مالية.(1/203)
5 - القابلية العامة للنقد من حيث هو نقد في الجملة ليس ناتجا عن قيمة ذاتية في النقد أو عن وازع سلطاني يفرض التعامل به فقط، وإنما هو الثقة العامة به كقوة شرائية مطلقة، سواء أكانت هذه الثقة صادرة عن تغطيتها بالمعدن النفيس أو عن الانقياد إلى حكم سلطاني باعتبارها أو عن أي اعتبار آخر يضمن هذه الثقة.
هذه الأمور المستنتجة يمكن أن تكون عونا في إدراك حقيقة الأوراق النقدية والقدرة على تكييفها فقهيا.
* * *(1/204)
آراء فقهية في حقيقة الأوراق النقدية
لم تكن الأوراق النقدية معروفة عند قدماء فقهاء الإسلام لعدم تداولها في زمنهم فلذا لم نجد منهم من تعرض لحكمها، ولما كثر تداولها في البلاد الإسلامية بعد ذلك بحثها الفقهاء من حيث الحقيقة والحكم واختلفت أنظارهم في ذلك تبعا لاختلاف تصورهم لحقيقتها، وجملة ذلك خمسة أقوال:
الأوراق النقدية أسناد
القول الأول: أن الأوراق النقدية إسناد بدين على جهة إصدارها، ويوجه أصحاب هذا القول قولهم بما يأتي:
أ - التعهد المسجل على كل ورقة نقدية بتسليم قيمتها لحاملها عند طلبه.
ب - ضرورة تغطيتها بذهب أو فضة أو بهما معا في خزائن مصدريها.
ج - انتقاء القيمة الذاتية لهذه الأوراق حيث إن المعتبر ما يدل عليه من العدد لا قيمتها الورقية.
د - ضمان سلطات إصدارها قيمتها عند إبطالها ومنع التعامل بها.
مستلزمات هذا القول:
إن القول باعتبار الأوراق النقدية أسنادا على مصدريها يستلزم الأحكام الشرعية الآتية:(1/204)
أ - منع السلم بها فيما يجوز السلم فيه إذ يشترط في صحة السلم قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، وقبض البائع الأوراق النقدية والحال أنها أسناد يعتبر حوالة بها على مصدريها.
ب - عدم جواز صرفها بنقد معدني من ذهب أو فضة ولو كان يدا بيد لأن الورقة النقدية على رأي أصحاب هذا القول وثيقة بدين غائب عن مجلس العقد ومن شروط الصرف التقابض في مجلس العقد.
ج - يعتبر التعامل بالأوراق النقدية بموجب هذا القول من قبيل الحوالة بالمعاطاة على الجهة التي أصدرتها وفي القول بصحة العقود بالمعاطاة خلاف بين أهل العلم فالمشهور في مذهب الشافعي -رحمه الله- عدم صحتها مطلقا لاشتراط أن يكون الإيجاب والقبول فيها لفظيين، وعلى فرض أن القول باعتبار المعاطاة موضع اتفاق بين أهل العلم فمن شروط الحوالة أن يستطيع المحال استيفاء حقه من المحال عليه وفي مسألتنا لا يمكن أن يستوفي المحال مقابل الورقة من رصيدها كما يدل على ذلك التطبيق العملي فتعتبر الحوالة بذلك باطلة.
د - القول باعتبارها أسنادا بديون على مصدريها يخضعها للخلاف بين أهل العلم في زكاة الدين هل تجب زكاته قبل قبضه أم بعده، وبالتالي عدم وجوب زكاتها لدى من يقول بعدم وجوبها قبل قبض الدين لامتناع قبض مقابل هذه الأسناد.
هـ - بطلان بيع ما في الذمة من عروض أو أثمان بهذه الأوراق لكونها وثائق بديون غائبة؛ لأن ذلك من قبيل بيع الكالئ بالكالئ، وقد «نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ» .
مناقشة هذا القول: المبررات التي وجه بها أصحاب هذا القول قولهم يمكن الإجابة عنها بما يلي: -
أولا: أن التعهد القاضي بتسليم المبلغ المرقوم على الورقة لحاملها وقت الطلب ليس له من حقيقة معناه نصيب؛ إذ لا يختلف اثنان أن المرء لو تقدم لمؤسسة النقد السعودي أو لغيرها من البنوك المركزية المختصة بإصدار الأوراق النقدية بورقة نقدية صادرة ممن تقدم إليه طالبا منه الاستعاضة عنها بما تحتويه من ذهب أو فضة لما وجد استجابة لذلك ولا وفاء لهذا التعهد، وإنما يرجع الإبقاء على هذا المتعهد -بالرغم من أن الوفاء به لا يتم- إلى تأكيد مسئوليته على جهات إصداره.(1/205)
ثانيا: أما الاستدلال على سنديتها بضرورة تغطيتها جميعا بذهب أو فضة أو بهما معا فقد سبق القول بأن الحاجة إلى تغطيتها جميعها ليست ملحة، وإنه يكفي تغطية بعضها، فإنا نجد أن الغالب في النقد الورقي أنه غير مغطى بنقد معدني، وإنما غطاؤه التزام سلطاني بضمان قيمته في حال تعرضه للبطلان، وإذن فلا يصلح هذا الدليل سندا لهذا القول.
ثالثا: أما انتفاء القيمة لهذه الأوراق فقد سبق لنا تعريف النقد بأنه أي شيء يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل كما سبقت الإشارة إلى بعض أقوال أهل العلم الشرعي المؤيدة لهذا التعريف، وعليه فمتى ثبت للأوراق النقدية القابلية العامة لتكون وسيطا فلا فرق بين أن تكون قيمتها في ذاتها أو في خارج عنها، ويؤيد هذا أن سلطات سك النقود المعدنية جرت على أن تجعل للنقود المعدنية قيما أكثر من قيمتها الذاتية حفاظا على بقائها ومنعا من صهرها سبائك معدنية، ومتى كنا نرى جزءا من قيمة النقد المعدني ليس له مقابل إلا الالتزام السلطاني ولم نقل بأن الزيادة على قيمته الذاتية سند على الدولة فليبطل القول بأن الأوراق النقدية سند على الدولة على أن هذا القول لا يعني انتفاء مسئولية الدولة عن الهيمنة على ثبات قيمتها في حدود المستوى الاقتصادي العام أو ضمان قيمتها في حال إبطالها.
رابعا: أما ضمان سلطات إصدارها قيمتها وقت إبطالها وتحريم التعامل بها فهذا سر اعتبارها والثقة بتمولها وتداولها، إذ أن قيمتها ليست في ذاتها، وإنما هي في ضمان السلطات لها وليس في هذا دلالة على اعتبارها أسنادا بديون على مصدريها ما دام الوفاء بسدادها نقدا معدنيا عند الطلب مستحيلا.
على أن القول بسنديتها من الحرج والضيق وإيقاع الناس في مشقة عظيمة في معاملاتهم ما يتنافى مع المقتضيات الشرعية لا سيما بعد أن عم التعامل بهذه الأوراق بين الشعوب الإسلامية وأصبحت هي العملة الوحيدة الرائجة السائدة وما عداها من أنواع النقود فقد كاد ترك استعمالها وسيطا للتبادل يسلبها صفة النقد وأحكامه.
ومن الأصول العامة في الشريعة الإسلامية أن الأمر الذي لم ينص على حكمه إذا دار بين ما يقتضي التشديد على الناس وما يقتضي التخفيف عليهم في عباداتهم ومعاملاتهم ترجح جانب التخفيف على جانب التشديد {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1) وقوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2) وقوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} (3) وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد في مسنده والنسائي
__________
(1) سورة الحج الآية 78
(2) سورة البقرة الآية 185
(3) سورة النساء الآية 28(1/206)
وابن ماجه عن أنس بن مالك ورواه البخاري وغيره عن أبي موسى الأشعري «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على سواه (2) » وفي لفظ «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (3) » وفي الترمذي وغيره: «ما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما (4) »
* * *
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1732) ، سنن أبو داود الأدب (4835) ، مسند أحمد بن حنبل (4/412) .
(2) صحيح مسلم السلام (2165) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2701) ، سنن ابن ماجه الأدب (3698) ، مسند أحمد بن حنبل (6/199) ، سنن الدارمي الرقاق (2794) .
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/222) .
(4) صحيح البخاري الحدود (6786) ، صحيح مسلم الفضائل (2327) ، سنن أبو داود الأدب (4785) ، مسند أحمد بن حنبل (6/130) ، موطأ مالك الجامع (1671) .(1/207)
القول الثاني
هذا القول أن الأوراق النقدية عرض من العروض لها ما للعروض من الخصائص والأحكام ويوجهه القائلون به بتوجيهات نلخصها فيما يلي: -
أ - الورق النقدي مال متقوم مرغوب فيه ومدخر ويشترى وتخالف ذاته ومعدنه ذات الذهب والفضة ومعدنهما.
ب - الورق النقدي ليس بمكيل ولا موزون وليس له جنس من الأجناس الربوية المنصوص عليها.
جـ - ما كتب عليها من تقدير قيمتها وتعيين اسمها يعتبر أمرا اصطلاحيا مجازيا لا تخرج به عن حقيقتها من أنها مال متقوم ليست من جنس الذهب والفضة ولا غيرهما من الأموال الربوية.
د - انتفاء الجامع بين الورق النقدي والنقد المعدني في الجنس وإمكان التقدير والمماثلة أما الجنس فالورق النقدي قرطاس والنقد المعدني معدن نفيس من ذهب أو فضة أو غيرهما من المعادن، وأما إمكان التقدير فالنقد المعدني موزون، أما القرطاس فلا دخل للوزن ولا للكيل فيه.
هـ - الأصل في المعاملات الحل حتى يرد دليل المنع، وليس عندنا دليل يمنع ذلك.
مستلزمات هذا القول:
إن القول بعرضية الأوراق النقدية يستلزم الأحكام الشرعية التالية: -
أ - عدم جواز السلم بها لدى من يقول باشتراط أن يكون رأس مال السلم نقدا من ذهب أو فضة أو غيرهما من أنواع النقد؛ لأن الأوراق النقدية بمقتضى هذا القول عروض، وليست أثمانا.(1/207)
ب - عدم جريان الربا بنوعيه فيها، فلا بأس ببيع بعضها ببعض متفاضلة فيجوز بيع العشرة بخمسة عشر أو أقل أو أكثر كما يجوز بيع بعضها ببعض أو بثمن من الأثمان الأخرى كالذهب أو الفضة أو البرنز أو غيرها من المعادن النقدية نسيئة.
جـ - عدم وجوب الزكاة فيها ما لم تعد للتجارة؛ لأن من شروط وجوب الزكاة في العروض إعدادها للتجارة.
مناقشة هذا القول:
1 - أن في القول بعرضية الأوراق النقدية تفريطا تنفتح به أبواب الربا على مصاريعها وتسقط به الزكاة عن غالب الأموال المتمولة في زماننا هذا يتضح ذلك بالمثال الآتي:
مسلم يملك مليون جنيه إسترليني أودعه بأحد المصارف بفائدة قدرها 8 % لم يقصد بهذا المبلغ التجارة، وإنما يريده باقيا عند البنك بصفة مستمرة على أن يأخذ فائدته ليقوم بصرفها على نفسه في شئون حياته مثلا، فلا بأس بمقتضى هذا القول بصنيعه هذا؛ لأن هذا المبلغ ليس نقدا فيجري فيه الربا ولا زكاة فيه لكونه عرضا لم يقصد به التجارة.
2 - إذا عمدت الجهات المختصة إلى نوع من جنس الورق فأخرجت للناس منه قصاصات صغيرة مشغولة بالنقش والصور والكتابات وقررت التعامل بها وتلقاها الناس بالقبول فقد انتقل هذا الورق من جنسه باعتبار وانتفى عنه حكم جنسه لذلك الاعتبار لانتفاء فوائد الانتفاع به ورقا يكتب فيه وتحفظ فيه الأشياء فإذا كان الناس يحرصون على الحصول عليه ويرضونه ثمنا لسلعهم سواء أكانت سلعا عينية أم خدمات فليس لأنه مال متقوم مرغوب فيه بعد تقطيعه قصاصات صغيرة مشغولة بالنقش والكتابة والصور، بل لأنه انتقل إلى جنس ثمني بدليل فقده قيمته كليا في حال إبطال السلطان التعامل به.
أما مخالفة ذاته ومعدنه ذات النقدين الذهب والفضة ومعدنهما فالجواب عن ذلك فرع عن تحقيق القول في علة الربا في النقدين هل هي الثمنية كما هو رأي المحققين من أهل العلم فينتفي الفارق المؤثر بينهما لاشتراكهما فيها أم أن العلة غيرها.
3 - أما القول بأن قيمتها النقدية وتعيين اسمها اصطلاح مجازي لا تخرج به عن حقيقتها من أنها مال متقوم ليس له جنس الذهب ولا الفضة ولا غيرهما من الأموال الربوية فيمكن أن يجاب عن ذلك بأن تسمية هذه الوراق بريال أو جنيه أو دولار أو دينار أو غيرها تعتبر حقائق عرفية لا مجازية لا سيما في وقتنا هذا الذي اختفى فيه الذهب والفضة عن الأسواق كنقد سائد في التداول وحلت هذه المسميات(1/208)
محلها في الثمنية.
4 - وأما القول بانتفاء الجامع بينهما في الجنس وإمكان التقدير فيمكن أن يجاب عنه بعد تحقيق القول في علة الربا في النقدين فإذا كانت العلة في ذلك الثمنية كما سيأتي بيانه وتوضيحه فالجامع موجود.
5 - وأما القول بأن الأصل في المعاملات الحل حتى يرد دليل المنع فيجاب بالتسليم بهذه القاعدة إلا أن دليل المنع وارد بناء على أن علة الربا في النقدين الثمنية.
* * *(1/209)
القول الثالث
الأوراق النقدية فلوس
يتلخص هذا الرأي في أن الأوراق النقدية كالفلوس في طروء الثمنية عليها فما ثبت للفلوس من أحكام الربا والزكاة والسلم وغيرها ثبت للأوراق النقدية مثلها، ويوجه أصحاب هذا القول رأيهم بأن الأوراق النقدية عملة رائجة أعيانها بما رقم عليها رواج النقدين بقيمتها المرقومة عليها، وليست ذهبا ولا فضة، وإنما هي كالفلوس، ولكنهم اختلفوا في مقتضيات هذا القول فمنهم من لم يلحقها بالنقدين مطلقا، فلم يوجب فيها الزكاة إلا بنية التجارة، ولم يجر فيها الربا بنوعيه، ومنهم من فصل فألحقها بالنقدين في وجوب الزكاة وجريان ربا النسيئة فيها للإجماع على حرمته واعتراف من حرم ربا الفضل بأن حرمة ربا النسيئة أشد إثما من ربا الفضل ولدخول النسيئة في الأنواط في عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (1) ولأن مفسدة بيع عشرة أنواط باثني عشر منها بأحد النقدين إلى أجل لا تقل عن مفسدة بيع عشرة دنانير ذهبا باثني عشر دينارا، وتكاد معرفة الفساد فيهما تكون ضرورية.
وأباح هؤلاء ربا الفضل في الأنواط فأجازوا بيع بعضها ببعض أو بأحد النقدين مع التفاضل إذا كان ذلك يدا بيد؛ لأن ربا الفضل حرم تحريم الوسائل، ولكونها غير نقود حقيقية ولموضع الحاجة، ونظير هذا أن بعض العلماء أجاز بيع الفلوس بعضها ببعض أو بأحد النقدين مع التفاضل إذا كان يدا بيد ومنع من ذلك مؤجلا، ولأن ربا الفضل أبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كبيع العرايا، ولأن بعض العلماء أجاز بيع الحلي من الذهب بالدنانير وبيع الحلي من الفضة بالدراهم متفاضلا يدا بيد فجعلوا للصنعة أثرا.
مناقشة هذا القول:
1 - إن قياس الأوراق النقدية بالفلوس قياس مع الفارق، ويتبين ذلك فيما يأتي:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 130(1/209)
أ - الأوراق النقدية بمزيد قبولها وكثرة رواجها في المعاملات وطغيانها على سائر الأثمان في سوق المعاوضات صارت موغلة في الثمنية إيغالا لا تقصر دونه الفلوس بل نقود الذهب والفضة بعد ندرة التعامل بهما في المعاوضات.
ب - في انتقال الأوراق النقدية من أصلها العرضي إلى الثمنية قوة أفقدتها القدرة على رجوعها إلى أصلها في حال إبطالها بخلاف الفلوس فهي إذا كسدت أو أبطل السلطان التعامل بها فلها قيمة في نفسها كسائر العروض.
جـ - الأوراق النقدية في غلاء قيمتها كالنقدين بل إن بعضا من الورق النقدي يعجز عن اللحاق بقيمته أكبر قطعة نقدية من ذهب أو فضة.
د - تستخدم الفلوس في تقييم المحقرات من السلع، وهذه المحقرات مما تعم الحاجة إليها فالتخفيف في أحكامها أمر حاجي تقتضيه المصلحة العامة كالعرايا والتجاوز عن يسير الغرر والجهالة.
هـ - نظرا لتفاهة قيمة الفلوس فإن الصفقات ذات القيمة العالية لا تتم بها، وإنما تتم بالنقدين أو بالأوراق النقدية، والربا في الغالب لا يكون إلا في صفقات ذات قيمة عالية نسبيا.
هذه الفروق لها أثرها في إعطاء الأوراق النقدية مزيد فضل على الفلوس تختلف به عنها في الأحكام وتجعلها في معنى النقدين الذهب والفضة في الثمنية وفي جريان الأحكام.
2 - على فرض التسليم بإلحاق الأوراق النقدية بالفلوس فقد بحث العلماء -رحمهم الله- مسألة الفلوس، واختلفوا في تكييفها، وانقسموا في ذلك الاختلاف قسمين تبعا لعاملين يتجاذبانها: عامل أصلها وهو العرضية، وعامل ما انتقلت إليه وهو الثمنية، فبعضهم اعتبر أصلها وهو العرضية ففرق بينها وبين النقدين فأثبت لها أحكام أصلها ومنع عنها أحكام النقدين في الربا والصرف والسلم والزكاة وغيرها، والبعض الآخر اعتبرها نقدا وأثبت لها ما للنقدين من أحكام في الربا والصرف والسلم والزكاة وغيرها وبمزيد من العمق في دراسة مسألة الفلوس والموازنة بين الرأيين يظهر وجاهة القول باعتبارها نقدا لها ما للنقدين الذهب والفضة من أحكام.(1/210)
القول الرابع(1/210)
الأوراق النقدية متفرعة عن ذهب أو فضة
يتلخص هذا القول في أن الأوراق النقدية بدل لما استعيض بها عنه وهما النقدان الذهب والفضة وللبدل حكم المبدل عنه مطلقا، ويوجهه أصحابه بأن هذه الأوراق النقدية قائمة في الثمنية مقام ما تفرعت عنه من ذهب أو فضة حالة محلها جارية مجراها معتمدة على تغطيتها بما تفرعت عنه منهما والأمور الشرعية بمقاصدها يؤيد القول بثمنيتها أنه إذا زالت عنها الثمنية أصبحت مجرد قصاصات ورق لا تساوي بعد إبطالها شيئا مما كانت تساويه قبل الإبطال، ويلزم سلطة الإصدار تعويض حاملها إما بمقابلها من جنس رصيدها وإما بأوراق أخرى تقوم مقام مقابلها من الرصيد ما تراه الدولة من المصلحة.
مستلزمات هذا الرأي:
يستلزم هذا الرأي ما يأتي: -
أ - جريان الربا بنوعيه في الأوراق النقدية.
ب - ثبوت الزكاة فيها متى بلغت قيمتها مائتي درهم فضة أو عشرين مثقالا ذهبا إذا استكملت شروط وجوب الزكاة في النقدين، مع ملاحظة أن ما كان بدلا عن ذهب فلا تجب زكاته حتى تبلغ ثمنيته نصاب الذهب، وما كان بدلا عن فضة فلا تجب زكاته حتى تبلغ ثمنيته نصاب الفضة.
ج - جواز السلم بها.
د - اعتبارها بغض النظر عن أشكالها وأسمائها وجنسياتها متفرعة عن جنسين هما الذهب والفضة فما كان عن ذهب فله حكم الذهب وما كان عن فضة فله حكم الفضة.
هـ - إذا بودل بين نوعين من الورق النقدي متفرعين عن ذهب أو فضة امتنع التفاضل بينهما، وإذا بودل بين جنسين من الورق أحدهما متفرع عن ذهب والثاني متفرع عن فضة جاز فيهما التفاضل إذا كان يدا بيد، وامتنع فيهما التأخير.
مناقشة هذا القول:
هذا الرأي مبني على افتراض أن الأوراق النقدية مغطاة غطاء كاملا بذهب أو فضة، وحيث إن الواقع خلاف ذلك وأن غالب الأوراق النقدية مجرد أوراق وثيقية مستمدة من سن الدولة التعامل بها وتلقي الناس إياها بالقبول، وأن القليل المغطى لا يلزم أن يغطى بالذهب أو الفضة بل قد يغطى بغيرهما من عقار أو أوراق مالية من أسهم أو سندات لا تقدر قيمتها بذهب ولا فضة، وإنما تقدر بعمل ورقية، فضلا عن الحرج والمشقة في القول بهذا الرأي في مسائل الصرف عند اشتراط المماثلة في الجنس وذلك إذا صح ما قيل بانتقاء أي نقد ورقي غطاؤه فضة، ويمكن أن يورد على هذا النقاش ما يلي: -(1/211)
إن رصيد الأوراق النقدية وإن كان مختلفا، فبعضه ذهب أو فضة وآخر منه عقار أو أوراق مالية من أسهم وأسناد إلا أن ما كان منه عقارا أو أوراقا مالية لم يعتبر رصيدا بنفسه، وإنما اعتبر بما قدر به من العمل المتعامل بها سابقا في دولة الإصدار، ذهبا كانت أم فضة، وكذا ما كان أوراقا وثيقية عمادها التزام سلطة الإصدار ليست قيمتها من مجرد سن الدولة التعامل بها، لما سبق في بيان السبب الثاني من أسباب سر قابلية النقد وسيطا في التبادل، وإنما كسبت الأوراق الوثيقية ثقة الناس بها وقبولها إياها وسيطا في التعامل من ملاءة سلطة الإصدار القائمة مقام الذهب أو الفضة مع سنها التعامل بها، فعاد الأمر إلى قيم ما كان به مليئا من ذهب أو فضة أو ما يقدر بهما، وبذلك كان بعض الرصيد ذهبا أو فضة بالفعل، وبعضه الآخر في حكم الذهب أو الفضة تبعا لنوع العمل المتعارف عليها في الدولة قبل إصدار الأوراق النقدية أما ما قيل من أن هذا الرأي يستلزم الحرج والمشقة في مسائل الصرف؛ لاشتراط المماثلة في الجنس فغير مسلم، فإن ما اشترط من المماثلة في حال معاوضة بديل الذهب مثلا بعضه ببعض قد اشترط في حال معاوضة الذهب نفسه بعضه ببعض ولم يعتبر ذلك حرجا، فكذا لا يعتبر اشتراط المماثلة في حال المعاوضة في البديل حرجا، ويؤيد ما ذكر من البديلة واعتبار الرصيد قائما أن قيمة الأوراق النقدية لا تخضع في صعودها وهبوطها لحالة السوق التجارية عرضا وطلبا فقط، بل تخضع في ذلك أيضا لحالة رصيدها قوة وضعفا، فإن كان لها نسبة معتبرة من الرصيد مع ملاءة الدولة أو ارتبطت بعملة لدولة أخرى مليئة معتبرة، كعملة الدولار أو الإسترليني في الوقت الحاضر أثبتت وجودها وعلت قيمتها، وإلا تزلزلت وهبطت قيمتها، ومن هنا قيل هذه عملة صعبة وقيل في أخرى ليست صعبة ويشهد لذلك حالة الورق النقدي في بعض الدول العربية حينما انفصل عن الإسترليني فهبط بعد أن كان صاعدا مرتفعا سعره في السوق العالمية، ويؤيد اعتبار الرصيد أيضا، وأنه لم يزل قائما أن الدولة إذا أبطلت نوعا من الأوراق النقدية لزمها تعويض من بيده الأوراق إما بأصل الرصيد أو بأوراق أخرى تقوم مقام نصيبها من الرصيد، وإنما منعت الدولة التعويض عن الأوراق بما يقابلها من نفس الرصيد محافظة على خاماتها الثمينة وحماية لها من تلاعب الناس فيها أو تهريبها إلى غير هذا من أنواع العبث، وقد يكون احتفاظها بالرصيد لمعنى اقتصادي جعل الدولة تحل الأوراق محل الذهب أو الفضة.
* * *(1/212)
الأوراق النقدية نقد قائم بنفسه
القول الخامس: يتلخص هذا القول في أن الورق النقدي نقد قائم بنفسه كالذهب والفضة وغيرهما من الأثمان مما يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل بين الناس، وإن العملات الورقية أجناس تتعدد بتعدد جهات إصدارها.(1/212)
توجيه هذا القول:
ويمكن أن يوجه هذا القول بما يأتي:
1 - ما عليه البلاد من حال اقتصادية.
2 - ثقة الناس بها ثقة تامة جعلتها صالحة لتكون مستودعا عاما للادخار، وقوة للشراء، ومقياسا للقيم (1) .
3 - قانونيتها بسن الدولة لها وحمايتها إياها والاعتراف بذلك أكسبها قوة الإبراء العام (2) .
4 - لا يحتم قانون إصدار الأوراق النقدية تغطيتها جميعها، فيكفي تغطية بعضها بغطاء مادي له قيمة في نفسه ولو لم يكن ذهبا ولا فضة، على أن يكون الباقي أوراقا وثيقية لا غطاء لها إلا التزام سلطة الإصدار بما سجل عليها عند إبطالها.
5 - التعهد المسجل على هذه الأوراق لا يقصد إلا تذكير المسئولين عن مسئوليتهم تجاهها والحد من الإفراط في الإصدار دون استكمال أسباب الثقة بها، وإذن فليست أسنادا وليس التعهد بها سر قبولها.
6 - ليس للأوراق النقدية قيمة في نفسها، وإنما قيمتها في أمر خارج عنها فليست عروضا.
7 - رجحان القول بأن علة الربا في النقدين الثمنية مع الاعتراف بثمنية الأوراق النقدية.
8 - تحقق الشبه بينها وبين الذهب والفضة المسكوكتين في الثمنية وفي وقوع الظلم والعدوان والاضطراب في المعاملات إذا جعل كل من هذه الأثمان سلعا كالعروض تباع وتشتري فأعطيت حكمها لا حكم العروض.
9 - اختلاف جهات الإصدار فيما تتخذه من أسباب الثقة بالأوراق النقدية لتحل محل الذهب والفضة وتكسب قبولا عاما وإبراء تاما، واختلاف هذه الجهات أيضا قوة وضعفا وسعة وضيقا في الاقتصاد والسلطان، وغير ذلك مما يقضي بأنها أجناس مختلفة باختلاف جهات إصدارها، فكما أن الذهب والفضة جنسان لاختلاف كل منهما عن الآخر في القيمة الذاتية فكذلك العملات الورقية أجناس لاختلاف كل منها عن الأخرى بما تقدرها به جهات إصدارها وفيما تتخذه من أسباب لقبولها وإحلال الثقة بها.
10 - في القول بتفرع الأوراق النقدية عن الذهب والفضة مجانبة للواقع، وفي العمل به حرج ومشقة حينما تعتبر الأوراق النقدية جنسا واحدا، وحيث كان سر قبول الأوراق النقدية ثقة الناس به لا التعهد المسجل على كل ورقة بتسليم حاملها ما سجل
__________
(1) انظر ص 6 و 7 من الموجز في اقتصاديات النقود للأستاذ جـ. ف. كراوذ.
(2) انظر ص 98 و 99 من كتاب قصة النقود.(1/213)
عليها وقت الطلب، ولا أن جميعها مغطى بذهب أو فضة، ولا لأن سلطة الإصدار ألزمت الناس التعامل بها، وحيث إنها أشبهت الذهب والفضة في الثمنية وتقويم الأشياء بها، واطمئنان النفوس إلى تمولها وادخارها، وفي اضطراب أحوال المعاملات وانتشار الظلم والعدوان باتخاذها سلعا تباع وتشترى، وكان الراجح في علة جريان الربا في الذهب والفضة الثمنية، وتبين أنها ليست أسنادا ولا عروضا وأن الفلوس جارية مجرى الذهب والفضة في أحكامها، وأنها ليست متفرعة عن الذهب والفضة، وإن قيمة الأوراق الثمنية وقوتها الشرائية تختلف باختلاف جهات الإصدار في حالتها الاقتصادية وقوتها وضعفها، وسعتها وضيقها في الاحتياط لحفظ كيان هذه الأوراق وفي نوع ما تسندها ثبت أنها نقد قائم بنفسه، وأنها أجناس مختلفة تبعا لاختلاف جهات إصدارها، وأن لها ما للذهب والفضة من أحكام.
مستلزمات هذا القول:
يستلزم هذا القول الأحكام الشرعية الآتية:
أ - جريان بنوعيه فيها كما يجري الربا بنوعيه في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان.
ب - عدم جواز بيع الجنس الواحد بعضه ببعض أو بيع جنس منها بغيره من الأجناس الثمينة الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما نسيئة.
جـ - عدم جواز بيع الجنس الواحد بعضه ببعض متفاضلا سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد.
د - جواز بيع الأوراق النقدية بعضها ببعض متفاضلا إذا اختلف الجنس وكان يدا بيد فيجوز بيع الريال الفضة بريالين من الورق مثلا وبيع الليرة بريال سعودي فضة كان أو ورقا، وبيع الدولار بخمسة ريالات أو أقل أو أكثر إذا كان يدا بيد.
هـ - وجوب زكاتها إذا بلغت أدنى النصابين من ذهب أو فضة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها وحال عليها الحول.
وجواز السلم بها.
مناقشة هذا القول:
ويمكن أن تناقش هذه التوجيهات بما يأتي:
أما الأول فيناقش بأن تغير أسعار الورق النقدي ونحوه ارتفاعا وانخفاضا لا يخضع فقط لحالة السوق(1/214)
التجارية وعرضا وكثرة الإنتاج وقلته وكثرة الأثمان وقلتها بل يخضع أيضا لحالة رصيد هذه الأوراق قوة وضعفا، فإذا كان لها نسبة معتبرة من الرصيد مع ملأة الدولة أو ارتبطت بعملة أخرى مليئة، ولها رصيد معتبر كعملة الدولار والإسترليني في الوقت الحاضر أثبتت وجودها وغلت قيمتها وإلا تزلزلت وهبط سعرها في الأسواق العالمية، ومن هنا قيل عملة صعبة وعملة ليست صعبة، ويشهد لذلك واقع الورق النقدي في بعض الدول العربية حينما انفصل عن الإسترليني فهبط بعد أن كان مرتفعا سعره في السوق العالمية.
ويناقش الثاني والثالث بأن ثقة الناس بها، وقانونيتها بسن الدولة لها وحمايتها والاعتراف بذلك إنما أكسبها قوة الشراء والإبراء العام وجعلها مقياسا للقيم من أجل ما استندت إليه من رصيد لا يزال اعتباره قائما يدل على ذلك ما جاء في التوجيه الرابع والخامس والسادس والتاسع وما تقدم في بيان سر قابلية النقد الورقي للتبادل والإبراء العام.
ويناقش الرابع بأنه وإن لم يتعين تغطية الأوراق النقدية بالذهب أو الفضة، لكن لا بد من التغطية ولو بعقار يقدر بالعملة المتعارف عليها في دولة الإصدار حتى يمكن الوقوف عند حد معقول اقتصاديا في إصدار الأوراق النقدية يتناسب مع الرصيد، وما كان غير مغطى منها قام فيه التزام جهة الإصدار المليئة مقام الغطاء بالعملة المتعارف عليها سابقا، وبذلك كان الغطاء من عقار والتزام مثلا في حكم الذهب والفضة وكانت ثقة الناس بهذه الأوراق وكانت قوة الشراء والإبرام العام.
(انظر التعليق على مناقشة القول الرابع) :
ويناقش الخامس بأنه يحمل رده في طيه حيث ذكر فيه أن مما يقصد بالتعهد المسجل على الأوراق الحد من الإفراط في الإصدار دون استكمال أسباب الثقة، واستكمال أسباب الثقة إنما يكون بزيادة الرصيد بنسبة ما يراد زيادة إصداره من الأوراق النقدية، وبذلك يتبين أن اعتبار الرصيد ولو اختلف نوعه لا يزال قائما، وإنما لم يسلم العوض ذهبا أو فضة عند إبطال عملة الأوراق، واكتفى بتسليم عملة أخرى من الأوراق لمصلحة رآها ولي الأمر كالمحافظة على المعادن النفيسة من تهريبها مثلا أو الرغبة في الانتفاع بها فيما يعود على الدولة بالخير مع قيام أوراق نقدية لا تكلفه شيئا سوى إصدارها مع دعمها بالتزام الوفاء ورصيد يتصرف فيه رجاء فائدة تعود إلى الحكومة والأمة.
ويناقش السادس بأنه يحمل رده في طيه أيضا كالخامس بل هذا أوضح، حيث صرح فيه بأن قيمة الأوراق النقدية في أمر خارج عنها لا في نفسها، فدل ذلك على اعتبار الرصيد قائما وإن لم يستجب إلى من طلبه من حملة الأوراق النقدية ولم يدفع إليه شيء من الرصيد بعينه لما تقدم بيانه في رد الوجه الخامس.(1/215)
ويناقش السابع والثامن بأنه إن صح القول بأن الثمنية علة الربا في النقدين وصح قياس الأوراق النقدية عليها دل ذلك على أنها فرع عنهما لا على استقلالها جنسا أو أجناسا قائمة بنفسها، فما كان منها متفرعا عن الذهب ألحق به وما كان منها متفرعا عن الفضة أعطي حكمها في كل ما يتعلق بالربا والزكاة ونحوهما.
ويناقش التاسع بأمرين:
الأول: أن فيه التصريح باتخاذ رصيد لهذه الأوراق، وأنه سبب الثقة بها وحلولها محل الذهب أو الفضة وكسبها القبول العام والإبراء التام فدل على أنها فرع عما دعمت به من ذهب أو فضة أو ما يقدر بهما من عقار ونحوه فكانت بدلا عن أصلها الذي حلت محله لا جنسا أو أجناسا مستقلة بنفسها.
الثاني: أن اختلاف جهات الإصدار قوة وضعفا وسلطانا وسعة وضيقا واختلافها في نوع ما تدعم به عملتها الورقية لا تأثير له في اختلاف رصيده منهما أو مما قدر بهما فيكون بعض الورق تبعا للفضة وبعضها تبعا للذهب لا غير، يدل على ذلك أن جهات إصدار نقد من الذهب أو الفضة لا يؤثر اختلافها ولا وحدتها في جنس كل من الذهب والفضة بل هما جنسان اتحدت الجهة أو اختلفت.
ويناقش العاشر بأنه لا حرج ولا مشقة في القول بتفرعها عن الذهب والفضة، فإن ما اشترط فيها من المماثلة في بيع الجنس الواحد منها بعضه ببعض قد اشترط فيما هي بديل عنه من الذهب أو الفضة، ولم يعتبر ذلك جرحا، فهكذا لا يعتبر اشتراط المماثلة في حال المعاوضة في البديل حرجا.
* * *(1/216)
علة الربا في النقدين
نظرا إلى أن الأوراق النقدية أصبحت تلقى قبولا عاما في دنيا المعاوضات كوسيط للتبادل، وأنها بذلك حلت محل الذهب والفضة في الثمنية وحيث إن السنة النبوية نصت على جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة، ونظرا إلى أن أهل العلم اختلفوا في تعيين علة لجريان الربا فيهما.
نظرا إلى ذلك كله كان من المناسب أن يشتمل هذا البحث على بيان أقوال أهل العلم في علة الربا في النقدين ونقاش ما استند إليه كل قول مما يقبل النقاش.
لقد اختلف العلماء في تعليل تحريم الربا في النقدين الذهب والفضة، فمن نفى التعليل أو تعذر عليه إقامة دليل يرضاه لإثبات علة التحريم: قصر العلة فيهما مطلقا سواء كان تبرا أو مسكوكين أو مصنوعين وهذا مذهب أهل الظاهر ونفاة القياس، وابن عقيل من الحنابلة حيث إنه يرى العلة فيهما ضعيفة لا يقاس عليها، فلا ربا عند هؤلاء في الفلوس ولا في الأوراق النقدية ولا في غيرها مما يعد نقدا، وتحريم الربا فيهما عندهم تعبدي، وأما غيرهم فقد استنبط مناطا تنضبط به قاعدة ما يجري فيه الربا إلا أنهم اختلفوا في(1/216)
تخريج المناط ويمكن حصر آرائهم في ثلاثة أقوال.
* * *
الأول:
يتلخص القول الأول في أن علة الربا في النقدين الوزن لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن (1) » . ولقوله: «الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل (2) » وقوله: «ما وزن مثلا بمثل (3) » وقوله: «بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا، (4) » وقال في الميزان مثل ذلك (5) فجعل ضابط ما يجري فيه الربا وتجب فيه المماثلة الوزن في الموزونات، وطرد أصحاب هذا القول القاعدة في جريان الربا في كل ما يوزن كالحديد والنحاس والرصاص والصفر والصوف والقطن والكتان، وهذا القول هو المشهور عن الإمام أحمد وهو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي، ويمكن أن يورد على هذا القول ما يلي:
أ - الوزن وصف طردي محض لا مناسبة فيه (6) .
ب - العلماء متفقون على جواز إسلام النقدين في الموزنات وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل وفي جواز ذلك نقد للعلة.
جـ - أن حكمة تحريم الربا ليست مقصورة على ما يوزن، بل هي متعدية إلى غيره مما يعد ثمنا ولا يتعامل به وزنا كالفلوس والورق النقدي فإن الظلم المراعى إبعاده في تحريم الربا في النقدين واقع في التعامل بالورق النقدي وبشكل واضح في غالبه تتضاءل معه صورة الظلم الواقع في التعامل بالذهب والفضة متفاضلا في الجنس أو نسيئة في الجنسين نظرا لارتفاع القيمة الثمنية في بعضها كفئات المائة ريال والألف دولار.
* * *
الثاني
ويتلخص هذا القول في أن علة الربا في النقدين غلبت الثمنية، وهذا القول هو المشهور عن الإمامين مالك والشافعي، فالعلة عندهما قاصرة على الذهب والفضة، والقول بغلبة الثمنية احتراز عن الفلوس إذا راجت رواج النقدين، فالثمنية طارئة عليها فلا ربا فيها، ويمكن أن يورد على هذا الرأي ما يلي: -
__________
(1) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.
(2) أخرجه أحمد والنسائي ومسلم.
(3) رواه الدارقطني.
(4) صحيح البخاري البيوع (2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1593) ، سنن النسائي البيوع (4553) ، موطأ مالك البيوع (1314) .
(5) صحيح البخاري.
(6) انظر الجزء الثاني ص 137 من إعلام الموقعين.(1/217)
أ - أن العلة القاصرة لا يصح التعليل بها في اختيار أكثر أهل العلم منقوضة طردا بالفلوس؛ لأنها أثمان وعكسا بالحلي (1) .
ب - إن حكمة تحريم الربا في النقدين ليست مقصورة عليهما بل تتعداهما إلى غيرهما من الأثمان كالفلوس والورق النقدي.
* * *
الثالث:
ويتلخص في أن علة الربا في النقدين مطلق الثمنية، وهذا القول إحدى الروايات عن الإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة قال أبو بكر من أصحاب أحمد روى ذلك عن أحمد جماعة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم -رحمهما الله- وغيرهما من محققي أهل العلم (2) .
وقد أورد ابن ملفح على هذا القول إيرادا ملخصه: بأن التعليل بالثمنية تعليل بعلة قاصرة لا يصلح التعليل بها في الأكثر منقوضة طردا بالفلوس لأنها أثمان وعكسا بالحلي (3) .
ويمكن أن يجاب عن هذا الإيراد بأنه لا يتجه إلا على القائلين بغلبة الثمنية، أما القائلون بمطلق الثمنية فلم يخرجوا الفلوس الرائجة عن حكم النقدين بل اعتبروها نقدا يجري فيه الربا كما يجري فيهما، كما أنهم لم يقولوا بجريان الربا في الحلي المصنوع من الذهب أو الفضة؛ لأن الصناعة قد نقلته من جنس الثمنية إلى أجناس السلع والثياب، ولهذا لا تجب فيه الزكاة على القول المشهور في مذهب الإمام أحمد مع أنه من الذهب والفضة. كما يمكن أن يورد على القائلين بمطلق الثمنية إيراد ملخصه بأن إجماع العلماء منعقد على جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة سواء أكانا سبائك أو مسكوكين، فما سك منهما نقدا فلا إشكال في جريان الربا فيه لكونه ثمنا، وإنما الإشكال في جريان الربا في سبائكهما مع أنهما في حال كونهما سبائك ليسا ثمنا، ويمكن أن يجاب عن هذا الإيراد بأن الثمنية موغلة في الذهب والفضة وشاملة لسبائكهما بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدا قبل سكها نقودا، وقد كان تقدير ثمنيتها بالوزن ومن ذلك ما رواه الخمسة وصححه الترمذي «عن سويد بن قيس قال جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي فساومنا سراويل فبعناه وثم رجل يزن بالأجرة فقال له زن وأرجح، (4) » ومثله حديث
__________
(1) انظر الجزء التاسع من مجموع النووي ص 445، وانظر الجزء الثاني من الفروع ص 545.
(2) انظر جـ 29 من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ص 473 وص 474 وانظر جـ 2 ص 137 من إعلام الموقعين.
(3) انظر جـ 2 ص 545 من الفروع وتصحيحه.
(4) سنن الترمذي البيوع (1305) ، سنن النسائي البيوع (4592) ، سنن أبو داود البيوع (3336) ، سنن ابن ماجه التجارات (2220) ، مسند أحمد بن حنبل (4/352) ، سنن الدارمي البيوع (2585) .(1/218)
جابر في بيعه جمله على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال يا بلال أقضه وزده فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا.
هذا ما تيسر إيراده وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. . . . . .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(1/219)
الخلاصة
وبعد استعراض الهيئة للبحث المذكور، وما فيه من أقوال فقيهة قيلت في حقيقة الأوراق النقدية من اعتبارها إسنادا أو عروضا أو فلوسا أو بدلا عن ذهب أو فضة أو نقدا مستقلا بذاته وما يترتب على تلك الأقوال من أحكام شرعية. . جرى تداول الرأي فيها ومناقشة ما على كل قول منها من إيرادات.
كما استمع أعضاء الهيئة إلى آراء بعض الخبراء المتخصصين في النقد الورقي والعلوم الاقتصادية حول هذا الموضوع، بعد ذلك رأى مجلس الهيئة بالأكثرية ما يلي:
بناء على أن النقد هو كل شيء يجري اعتباره في العادة أو الاصطلاح بحيث يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها بل هي وسيلة إلى التعامل بها، ولهذا كانت أثمانا -إلى أن قال- والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت اهـ \ جـ (29) ص: 251 من مجموع الفتاوى.
وذكر نحو ذلك الإمام مالك في المدونة من كتاب الصرف حيث قال: ولو أن الناس اجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نسيئة. اهـ.
وحيث إن الورق النقدي يلقى قبولا عاما في التداول ويحمل خصائص الأثمان من كونه مقياسا للقيم ومستودعا للثروة وبه الإبراء العام، وحيث ظهر من المناقشة مع المتخصصين في إصدار الورق النقدي والعلوم الاقتصادية أن صفة السندية فيها غير مقصودة، والواقع يشهد بذلك ويؤكده كما ظهر أن الغطاء لا يلزم أن يكون شاملا لجميع الأوراق النقدية، بل يجوز في عرف جهات الإصدار أن يكون جزء من عملتها بدون غطاء وأن الغطاء لا يلزم أن يكون ذهبا بل يجوز أن يكون من أمور عدة كالذهب والعملات الورقية القوية، وأن الفضة ليست غطاء كليا أو(1/220)
جزئيا لأي عملة في العالم، كما اتضح أن مقومات الورقة النقدية قوة وضعفا مستمدة مما تكون عليه حكومتها من حال اقتصادية فتقوى الورقة بقوة دولتها وتضعف بضعفها، وأن الخامات المحلية كالبترول والقطن والصوف لم تعتبر حتى الآن لدى أي من جهات الإصدار غطاء للعملات الورقية.
وحيث إن القول باعتبار مطلق الثمنية علة في جريان الربا في النقدين هو الأظهر دليلا والأقرب إلى مقاصد الشريعة وهو إحدى الروايات عن الأئمة مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، قال أبو بكر: روى ذلك عن أحمد جماعة كما هو اختيار بعض المحققين من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما. . وحيث إن الثمنية متحققة بوضوح في الأوراق النقدية لذلك كله فإن هيئة كبار العلماء تقرر بأكثريتها:
أن الورق النقدي يعتبر نقدا قائما بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرها من الأثمان، وأنه أجناس تتعدد بتعدد جهات الإصدار بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، وأنه يترتب على ذلك الأحكام الشرعية الآتية: -
أولا: جريان الربا بنوعيه فيها كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرها من الأثمان كالفلوس، وهذا يقتضي ما يلي:
أ - لا يجوز بيع بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما نسيئة مطلقا، فلا يجوز مثلا بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر نسيئة.
ب - لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلا سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد، فلا يجوز مثلا بيع عشرة أريلة سعودية ورق بأحد عشر ريالا سعوديا ورقا. .
جـ - يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقا إذا كان ذلك يدا بيد(1/221)
فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ورقا كان أو فضة أو أقل من ذلك أو أكثر وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر، إذا كان ذلك يدا بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة أريلة سعودية ورق أو أقل أو أكثر يدا بيد؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة.
ثانيا: وجوب زكاتها إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها.
ثالثا: جواز جعلها رأسمال في السلم والشركات. .(1/222)
مجلة
البحوث الإسلامية
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الآداب والفنون
حكم
تمثيل الصحابة(1/223)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد أحيل إلى هيئة كبار العلماء رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوى والإرشاد بالمملكة العربية السعودية في دورتها الثالثة المنعقدة في شهر ربيع الثاني عام 1393 هـ وهو تصوير حياة " بلال " مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في
فيلم سينمائي.
وفي تلك الدورة قدمت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع هذا نصه:
الحمد لله وحده
والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه، وبعد: -
فهذا بحث يتعلق بمسألة حكم تمثيل الصحابة في شكل رواية مسرحية أو فيلم سينمائي قامت اللجنة الدائمة بالبحوث العلمية والإفتاء بإعداده تمهيدا لعرض المسألة على مجلس هيئة كبار العلماء في دورتها القادمة إنفاذا لأمر المقام السامي رقم 24 \ 93 وتاريخ 1 \ 1 \ 1393 هـ
والله الموفق. . . . . . . .(1/224)
الفهرس
خطاب إحالة إلى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية
اعتبارات خمسة
قرار رابطة العالم الإسلامي بشأن تمثيل الرسول صلى الله عليه وسلم في فيلم سينمائي
قرار المنظمات الإسلامية في مكة المكرمة
فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا
قرار لجنة الفتوى بالأزهر
مفاسد تمثيل الأنبياء
قصص الأنبياء في السينما
قرارات هيئة كبار العلماء(1/225)
حكم
تمثيل الصحابة
في مسرحية أو فيلم سينمائي
يحسن بنا قبل تقديم ما تيسر الحصول عليه من أقوال أهل العلم في حكم تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم أن نشير إلى اعتبارات تحسن ملاحظتها أثناء بحث المسألة.
الأول: ما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المكانة العليا في الإسلام بحكم معاصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامهم بواجب نصرته وموالاته والتفاني في سبيل الله ببذلهم أموالهم وأولادهم ونفوسهم، فقد اتفق أهل العلم على أنهم صفوة هذه الأمة وخيارها، وأن الله شرفهم بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليهم في كتابه الكريم بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (1) الآية، وجاءت الأحاديث الصحيحة بتسجيل فضلهم وأن لهم قدم صدق عند الله، ففي صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال حدثنا أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان فيغزوا فئام من الناس فيقال هل فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة الفتح الآية 29(1/226)
فيقولون نعم فيفتح لهم: ثم يأتي على الناس زمان فيغزوا فئام من الناس فيقال هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم (1) »
وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يفون ويظهر فيهم السمن (2) » .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في شأن بعض أصحابه رضوان الله عليهم «لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه (3) » .
الثاني: النظرة العامة إلى مشاهدة التمثيل: -
من أنه حال من أحوال اللهو والتسلية وشغل فراغ الوقت، فمشاهده في الغالب لا يريد من المشاهدة ما فيه مجال للعظة والتأمل، وإنما يقصد من ذلك إشباع غرائزه بما يشرح النفس وينسي الهموم، وينقل المرء من حال الجد إلى حال العبث والهزل.
الثالث: حال محترفي التمثيل من المناحي المسلكية: -
إن المتتبع لحياة الممثلين يخرج بنتيجة هي أن غالبهم سقط من الناس ليس للصلاح والتقوى مكان في حياتهم العامة ولا للأخلاق الإسلامية والعربية محل في دائرة أخلاقهم، ولا للقيم الإنسانية اعتبار عندهم، فإذا تقمص أحدهم شخصية صالح أو نبيل أو شهم أو عفيف أو جواد فذلك لأجل ما سيتقاضاه ثمنا لذلك، ثم يعود إلى سيرته الأولى ضاحكا لاهيا ساخرا معرضا عن الجوانب المشرقة في حياتهم.
الرابع: أغراض التمثيل: -
قد لا يختلف اثنان في أن الهدف الأول لأرباب المسارح في إقامة التمثيل فيها المكاسب المادية ومكاسبهم المادية لا تحصل إلا بمداعبة غرائز المشاهدين، وشهواتهم، فإذا عرفنا أن غالب المشاهدين لا يقصدون من مشاهدتهم التمثيل إلا قضاء فراغ أوقاتهم بما فيه العبث واللهو والتسلية، وفهمنا أن الهدف الأول والأخير من التمثيل الكسب المادي أدركنا أن القائمين على التمثيل سيحرصون على إنماء رصيد مشاهدي مسرحياتهم بتحقيق رغبة المشاهد في إشباع غرائزه العاطفية، وعرض ذلك على شاشات التمثيل وخشبات المسارح.
الخامس: اعتياد كثير من المؤرخين في مؤلفاتهم التاريخية على التساهل في تحقيق الوقائع التاريخية يضاف إلى ذلك أن مجموعة من ذوي الميول المنحرفة والأهواء المغرضة قد نفثوا سمومهم في التاريخ
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3649) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2532) ، مسند أحمد بن حنبل (3/7) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3650) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2535) ، سنن الترمذي الفتن (2222) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3809) ، سنن أبو داود السنة (4657) ، مسند أحمد بن حنبل (4/427) .
(3) صحيح البخاري المناقب (3673) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2541) ، سنن الترمذي المناقب (3861) ، سنن أبو داود السنة (4658) ، سنن ابن ماجه المقدمة (161) ، مسند أحمد بن حنبل (3/55) .(1/227)
الإسلامي ما بين وقائع تاريخية كاذبة وتعليلات للجوانب التاريخية في الإسلام ترمي إلى التقليل من القيمة العليا لتضحية المسلمين في سبيل الله، فإذا كانت مادة التمثيل ستنقل من التاريخ، وليس هناك مرجع غيره أمكن تصور وجود الكذب والافتراء على السلف الصالح لا سيما صفوة هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/228)
قرار رابطة العالم الإسلامي
وقد صدر من رابطة العالم الإسلامي بخصوص تمثيل رسول الله صلى الله عليه وسلم في فيلم استعرض حكم تمثيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نصه:
وكما يحرم ذلك كله في حق الرسول صلى الله عليه وسلم يحرم تمثيل الصحابة الأكرمين رضي الله عنهم أجمعين باتفاق أهل العلم؛ لشرفهم بالصحبة العظيمة واختصاصهم بها دون من عداهم من الناس ولكرامتهم عند الله تعالى وثنائه عليهم في القرآن الكريم قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (1) الآية، فهم أحقاء إجماعا بالتكريم والتعظيم والتوقير، ولذلك أجمع أهل العلم على حرمة تصويرهم في الأفلام أو على المسارح لما فيه من المنافاة الصارخة لكل ذلك. 1 هـ. .
كما صدر قرار من المنظمات الإسلامية العالمية المنعقدة في دورتها في مكة المكرمة في ذي الحجة سنة 1390 هـ، جاء فيه ما نصه: قرر المؤتمر استنكاره الشديد لمحاولة إخراج فيلم سينمائي يمثل فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأية صورة من الصور أو كيفية من الكيفيات كما يستنكر تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم، ويناشد المؤتمر كل الحكومات الإسلامية أن تقضي على هذه المحاولة في مهدها. .
__________
(1) سورة الفتح الآية 29(1/228)
فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا
كما صدر ثلاث فتاوى للشيخ محمد رشيد رضا في حكم التمثيل الأخلاقي الأولى في حكم التمثيل الأخلاقي وهذا نصها مع سؤالها (1) .
من صاحب الإمضاء الحرفي في (دمشق الشام) ع. .
" سيدي الأستاذ صاحب المنار الأغر، ما رأي الأستاذ -حفظه الله- في تمثيل الروايات الأخلاقية التي لا يشوبها ضروب الخلاعة، أو من ظهور النساء حاسرات على المسارح، والتي تحبب الحضور بالفضيلة
__________
(1) انظر فتاوى رشيد رضا - جـ 3 ص 1090، المنار جـ 14 (1991) ص 827 -830(1/228)
وتنفرهم من الرذيلة؟ يجوز لنا أن نعتبر التمثيل غيبة فنحرمه بدعوى أن الغيبة محرمة؟
" هل ورد في النصوص الشرعية تصريحا أو تلميحا ما يدل على حرمة التمثيل الأخلاقي، أو يشير إلى اجتنابه، وعهدنا بهذا النوع من التمثيل أنه خير ما يغرس في النفوس حب الفضائل وكره الرذائل؟ .
أرجو إجابتي على هذه الأسئلة حتى لا يبقى مجال لتغرير المسلمين باسم الشريعة، ورميها بسهام غير سديدة، هدانا الله بمناركم الوضاح إلى أقوم طريق.
الجواب: جاءنا مثل هذا السؤال أيضا من دمشقي آخر أشار إلى اسمه بحرفي (م. ن) وجاء في سؤاله أن السؤال واقعة حال في دمشق، وهي أن تلاميذ المدرسة العثمانية بدمشق مثلوا قصة زهير الأندلسي التي تشرح كيفية انقراض المسلمين من الأندلس، فقام بعض الحشوية من طلاب الشهرة وأصحاب الدعوى يشنعون على المدرسة ويكفرون تلاميذها ومعلميها، ويزعمون أنهم حاولوا هدم الإسلام بتذكير المسلمين بأسباب انقراض المسلمين من مملكة إسلامية كانت زينة ممالك الأرض بالعلوم والفنون والآداب، وخطبوا بذلك على المنابر في رمضان، وصدق فيهم قول من قال: إن لمتعصبي دمشق في كل رمضان ثورة.
أشار السائل الذي نشرنا نص سؤاله إلى ما صرح به السائل الآخر من احتجاج محرمي التمثيل على تحريمه بأنه يتضمن الغيبة وقال هذا المصرح إن بعضهم حرم قراءة الجرائد والمجلات بمثل هذا الدليل.
نقول: إن صح قولهم أن تلك القصة أو الواقعة التي مثلت في دمشق، كانت متضمنة لشيء من الغيبة -هو ما يستبعد جدا- فالمحرم فيها هو الغيبة لا جميع القصة ولا القصص التي تمثل ولا التمثيل نفسه.
وكان الأظهر أن يقولوا إنها تتضمن الكذب في بعض جزئياتها، وكأنهم فطنوا إلى كون الكذب غير مقصود فيها، ولا يتحقق إلا بالنسبة إلى مجموع القصة إذا كان ما تقرره وتودعه في الأذهان من مغزاها المراد غير صحيح، كأن تصور قصة زهير لقرائها، وحاضري تمثيلها أن الإسبانيين اضطهدوا المسلمين وفتنوهم عن دينهم وخيروهم بين الكفر والخروج من الوطن، ويكون هذا الذي تصوره لم يقع أو وقع ضده.
هذه القصص التمثيلية من قبيل ما كتبه علماؤنا المتقدمون من المقامات التي تقرأ في المدارس الدينية وغير الدينية، كمقامات البديع ومقامات الحريري، وقد كان الحريري -رحمه الله تعالى- توقع أن يوجد في عصره أمثال أولئك المتنطعين الذين حرموا قصة زهير الأندلسي، فرد عليهم بقوله في فاتحة مقاماته:(1/229)
" على أني وإن أغمض لي الفطن المتغابي، ونضح عني المحب المحابي، لا أكاد أخلص من غمر جاهل، أو ذي غمر (حقد) متجاهل، يضع مني لهذا الوضع، ويندد بأنه من مناهي الشرع، ومن نقد الأشياء بعين المعقول، وأنعم النظر في مباني الأصول، نظم هذه المقامات، في سلك الإفادات، وسلكها مسلك الموضوعات، عن العجماوات والجمادات، ولم يسمع بمن نبأ سمعه عن تلك الحكايات، وأثم رواتها في وقت من الأوقات، ثم إذا كانت الأعمال بالنيات، وبها انعقاد العقود الدينيات، فأي حرج على من أنشأ ملحا (1) للتنبيه، لا للتموين، ونحا بها منحى التهذيب، لا الأكاذيب، وهل هو في ذلك إلا بمنزلة من انتدب لتعليم، وهدى إلى صراط مستقيم (2) فهو يقول إنه لم يعرف أحد من علماء الأمة إلى زمنه أنه حرم أمثال تلك القصص التي وضعت عن الحيوانات ككتاب كليلة ودمنة وغيره؛ لأن المراد بها الوعظ والفائدة وصورة الخير في جزئياتها غير مرادة وما سمعنا بعده أيضا أن أحدا من العلماء حرم قراءة مقاماته، ولكن اجتهاد بعض المغرورين بالحظوة عند العوام يتجرءون على تحريم ما لم يحرمه الله ورسوله ولا حرم مثله أحد من علماء الملة، وهم مع هذا يتبرءون بألسنتهم من دعوة الاجتهاد واسم الاجتهاد ويشنعون على من يقول إنه يمكننا أن نعرف الأحكام بأدلتها الشرعية، فهم يعترفون بأنهم ليسوا أهلا للاستدلال ولا لمعرفة حكم بدليله، ويدعون أنهم مقلدون لبعض الأئمة المجتهدين رضوان الله عليهم، فليأتونا بنص من أولئك الأئمة على تحريم ما حرموه إن كانوا صادقين.
ثم نقول من باب الدليل قد فسر الحرام في بعض كتب الأصول بأنه خطاب الله المقتضي للترك اقتضاء جازما، فليأتونا بخطاب الله المقتضي بتحريم تمثيل الوقائع الوعظية والتهذيبية، أما أصول المحرمات في الكتاب، فقد بينها الله تعالى بالإجمال في قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (3) .
أفلا يخشى أولئك المتجرئون أن يكونوا من الذين يقولون على الله ما لا يعملون، الذين قال فيهم أيضا: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (4) .
وقال صلى الله عليه وسلم «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس (5) » . الحديث، وهو في الصحيحين والسنن كلها من حديث خيار الآل والصحب علي وولده الحسين والعبادلة الثلاثة وعمار والنعمان بن بشير رضي الله عنهم، فإذا كان الحرام بينا فكيف يخفى منه مثل هذا الحكم على جميع المسلمين في هذه القرون الطويلة، ولا يهتدي إليه إلا أولئك المضيقون في هذا العام؟
__________
(1) وردت في المنار '' مقامات ''.
(2) مقامات الحريري '' تحقيق سلفستر دساسي '' باريس - دار الطباعة الملكية 1822 ص 11 - 12.
(3) سورة الأعراف الآية 33
(4) سورة النحل الآية 116
(5) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .(1/230)
إننا لا نري وجها ما لهذا التحريم، ولو سلمنا أن في القصة الممثلة كلاما يصح أن يعد غيبة أو كذبا فإنا نعلم أن في كثير من كتب الحديث والفقة والوعظ أحاديث موضوعة، ولم يقل أحد أن ذلك يقتضي تحريم تأليف تلك الكتب وقراءتها وطبعها، وفي كتب الحديث طعن في الرجال فهل نحرم علم أصول الحديث، إلا إنه ليحزننا أن يكون لأمثال هؤلاء المفتاتين المتنطعين كلمة تسمع في مدينة دمشق الفيحاء التي هي أجدر البلاد بأن تكون ينبوعا لحياة الدين والعلم والارتقاء في سورية وجزيرة العرب كلها، وما آفتها إلا نفر من المتنطعين قد جعلوا الدين عقبة في طريق الارتقاء العلمي والعملي، فنسأل الله تعالى أن يلهمهم الرشد، ويهديهم طريق القصد، وأن يبصر العامة كالخاصة في تلك المدينة الزاهرة بحقيقة أمرهم حتى لا تتبع كل ناعق منهم.(1/231)
والثانية في حكم تمثيل بعض الصحابة، وهذا نصها مع سؤالها:
السؤال: هل يجوز تمثيل بعض الصحابة على شكل رواية أدبية خلقية تظهر محاسن ذلك الصحابي الممثل لأجل الاتعاظ لسيرته ومبادئه العالية مع التحفظ والتحري لضبط سيرته دون إخلال بها من أي وجهة كانت أم لا.
الجواب: لا يوجد دليل شرعي يمنع تمثيل حياة الصحابة أو أعمالهم الشريفة بالصفة المذكورة في السؤال (1) .
__________
(1) انظر ص \ 2348 \ من الجزء السادس من فتاوى رشيد.(1/231)
والثالثة في حكم التمثيل العربي وتمثيل قصص الأنبياء وهذا نصها (1) .
التمثيل العربي: اشتغال المرأة المسلمة به وتمثيل قصص الأنبياء (2) من صاحب الإمضاء بمصر محمد محمد سعفان طالب بمدرسة القضاء الشرعي
بسم الله الرحمن الرحيم: إلى فضيلة مولانا وراشدنا السيد رشيد رضا. جمعتني النوادي بطائفة من المتعلمين الذين قلما يخلو مجلسهم من البحث وبأية مناسبة دار بيننا ذكر التمثيل العربي، وبسطنا على بساط بحثنا (3) . المرأة المسلمة والتمثيل، تمثيل روايات الأنبياء عليهم السلام عموما وخاتمهم خصوصا فقر رأي فريق منا على جواز ذلك كله إذ لا تتم أدوار التمثيل
__________
(1) انظر جـ '' 4 '' ص 1418 فتاوى رشيد.
(2) المنار ج 20 '' 1917 '' ص 310 - 316.
(3) المنار ج 20 '' 1917 '' ص 310 - 316(1/231)
وفصوله إلا بالمرأة، فإذا جوزنا التمثيل جوزنا ظهور المرأة المسلمة على مسارح التمثيل، وأي مانع يمنع تمثيل روايات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عموما وخاتمهم خصوصا وهو لم يخرج عن كونه درس وعظ على طريقة التأثير النافع الذي ينشده مشاهير الوعاظ، وقل من يصادفه أو يجد له أثرا، ومنع فريق آخر ذلك وعده نوعا من التقليد الإفرنجي الذي يستحوذ على بعض البسطاء فيعدونه مفتاح تمدن الأمة في حين أنه شر عليها وعلى أخلاقها الذاتية، فهذا ما كان من الفريقين أما أنا كاتب هذه السطور فقد أعلنت الحيدة حتى أسترشد برشدكم أو أستنير بفتيا مناركم والسلام.
الجواب: قلت، هدانا الله وإياك بحجة الصواب في الحكم، وعصمنا أن نقفو ما ليس لنا به علم: إن بعض الأندية جمعك بطائفة من المتعلمين الباحثين، وأنهم ذكروا " التمثيل العربي " فاختلفوا في جواز اشتغال المرأة المسلمة به، وفي جواز تمثيل قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عامة وخاتمهم خاصة، فقالت طائفة منهم بجواز الأمرين، وعللوا الأول " بأن أدوار التمثيل وفصوله لا تتم إلا بالمرأة فإذا جوزنا التمثيل جوزنا ظهور المرأة المسلمة على مسارح التمثيل، " وعللوا الثاني بأن " درس وعظ على طريقة التأثير النافع الذي ينشده مشاهير الوعاظ وقل من يصادفه أو يجد له أثرا " وقالت طائفة أخرى بمنع الأمرين وعدوه من التقليد الإفرنجي الضار، الذي يغر به الأغرار وقلت إنك وقفت تستفتي المنار، فهاك ما أفهمه في المسألتين بالاختصار.
لم يأت فريق المجيزين بشيء من العلم، يدل على ما جزموا به من الحكم، فإن سلمنا لهم أن التمثيل لا يتم إلا بالمرأة لا نسلم لهم أن جوازه يستلزم جواز اشتغال المرأة المسلمة به، بل نسألهم ماذا يعنون بهذا التمام؟ ولماذا لا يستغنى فيه بالمرأة غير المسلمة التي تستبيح من أعماله ما لا يباح للمسلمة؟ وبأي حجة جعلوا القول بجواز التمثيل الذي ينقصه وجود المرأة المسلمة أصلا بنوا عليه القول بجواز اشتغالها بالتمثيل، وهل يعدو التمثيل المطلق أن يكون مباحا أو مستحبا بشرط خلوه من فعل الحرام وذرائع الفساد، واشتماله على الوعظ النافع والإرشاد؟ أوليس الصواب أن يقال -والأمر كذلك- إن التمثيل الذي يتوقف على قيام المرأة المسلمة ببعض أعماله على الوجه المعروف في دور التمثيل بمصر غير جائز؛ لأن ما توقف على غير الجائز فهو غير جائز، أو لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؟(1/232)
اشتغال المرأة المسلمة بالتمثيل
اشتغال المرأة المسلمة بالتمثيل يشتمل على منكرات محرمة، منها:
ظهورها على أعين الرجال متبرجة كاشفة ما لا يحل كشفه لهم من أعضائها كالرأس والنحر وأعالي الصدر والذراعين والعضدين، وتحريم هذا مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، فلا حاجة إلى ذكر النصوص فيه.
ومنها الاشتراك مع الرجال الممثلين في أعمال تكثر في التمثيل وإن لم تكن من لوازمه في كل قصة كالمعانقة والمخاصرة والملامسة بغير حائل.
ومنها: غير ذلك من المنكرات التي تشتمل عليها بعض القصص دون بعض كالتشبه بالرجال، وتمثيل وقائع العشق والغرام المحرم بما فيه من الأعمال المحرمة لذاتها أو لكونها ذريعة إلى المحرم لذاته.
ولا أنكر أنه يمكن للكاتب العالم بأحكام الشرع وآدابه أن يكتب قصة تمثيلية يودع بعض فصولها أعمالا شريفة وأقوالا نافعة إذا مثلتها امرأة مسلمة تبرز في دار التمثيل غير متبرجة بزينة ولا مبدية لشيء مما حرم الله إبداءه من بدنها، ولا آتية بشيء من أعمال الفساد ولا من ذرائعه، فإن تمثيلها يكون بهذه الشروط مباحا أو مستحبا، مثال ذلك أن تؤلف قصة في الترغيب في الحروب للدفاع عن الحقيقة وحماية البلاد عند وجوبها باعتداء الأعداء عليها ويذكر فيها ما روي عن الخنساء -رضي الله عنها- في حث أبنائها على القتال بالنظم والنثر فمن ذا الذي يتجرأ على القول بتحريم ظهور امرأة تمثل الخنساء في مثل تلك الحال، التي هي مثال الفضيلة والكمال؟ ولكن إمكان وضع مثل هذه القصة وهو من الممكنات التي لم تقع لا يبنى عليه القول بإطلاق جواز ما هو واقع من التمثيل المشتمل على ما ذكرنا، وما لم نذكر من المنكرات المحرمة والمكروهة شرعا.(1/233)
وأما تمثيل قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد عللوه بأنه درس وعظ مؤثر، يعنون أن كل ما كان كذلك فهو جائز، وهذه الكلية المطوية ممنوعة، وتلك المقدمة الصريحة غير متعينة فإن هذه القصة قد توضع وضعا منفرا، فلا تكون وعظا مؤثرا، وإن من الوعظ المؤثر في النفوس ما يكون كله أو بعضه باطلا، وكذبا وبدعا، أو مشتملا على مفسدة أو ذريعة إليها، ويشترط في جواز الوعظ أن يكون حقا لا مفسدة فيه ولا ذريعة إلى مفسدة، وبناء على هذا الأصل ننظر في هذه المسألة من وجوه:(1/233)
أحدها: أن العرف الإسلامي العام يعد تمثيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إهانة لهم أو مزريا بقدرهم، ومما أعهد من الوقائع في ذلك أن بعض النصارى كانوا أرادوا أن يمثلوا قصة يوسف عليه السلام في بعض المدن السورية فهاج المسلمون لذلك، وحاولوا منعهم بالقوة، ورفع الأمر إلى الأستانة فصدرت إرادة السلطان عبد الحميد بمنع تمثيل تلك القصة وأمثالها، فإن قيل إن بعض مسلمي مصر كأولئك المتعلمين القائلين بالجواز لا يعدون ذلك إهانة ولا إزراء إذ لا يخفى على مسلم أن إهانة الأنبياء أو الإزراء بهم أقل ما يقال فيه إنه من كبائر المعاصي، وقد يكون كفرا صريحا وردة عن الإسلام، نقول إنما العبرة في العرف بالجمهور الذي تربى على آداب الإسلام وأحكامه لا بالأفراد القلائل، ومن غلبت عليهم التقاليد الإفرنجية، حتى صاروا يفضلونها على الآداب الإسلامية، كذلك القاضي الأهلي الذي حكم ببراءة أستاذ مدرسة أميرية غازل امرأة محصنة وتصباها، وكاشفها بافتتانه بجمالها حتى هجره الرقاد، وواصله السهاد.
فشكت المحصنة هذه الوقاحة إلى زوجها فرفع الزوج الأمر إلى قاضي العقوبات طالبا تعزير ذلك العادي المفتات، فكان رأي القاضي أن مغازلة المحصنات الحسان وتصبيهن، يحتمل ذلك الكلام الذي يفسدهن على أزواجهن، ولا يقتضي سجنا ولا غرامة، ولا تأنيبا، ولا ملامة؛ لأنه إظهار لحب الحسن والجمال، وهو من ترقي الذوق وآيات الكمال، ولكن ما رآه هذا القاضي المتفرنج حسنا وكمالا، رآه السواد الأعظم من المسلمين نقصا قبيحا، وأنكره عليه في الجرائد حتى منعتها مراقبة المطبوعات من التمادي في الإنكار، واستأنف الزوج الحكم فنقضه الاستئناف، وحكم بأن كلام ذلك الأستاذ جريمة منافية للآداب، ولو حاول بعض أجواق التمثيل تمثيل قصة أحد الرسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام- لرأوا من إنكار العلماء والجرائد ما لا يخطر ببال أولئك الأفراد الذين يرون جوازه، ولو وقع مثل ذلك في بلد لم تذلل أهله سيطرة الحكام لما كان إلا مثارا للفتنة ولتصدى الناس لصد الممثلين بالقوة، بل يغلب على ظني أن أكثر الناس يعدون تمثيل الأمراء والسلاطين، وكبار رجال العلم والدين، مما يزري بمقامهم، ويضع من قدرهم، وأن أحدا من هؤلاء الكبراء لا يرضى لنفسه ذلك.
الوجه الثاني: إن أكثر الممثلين لهذه القصص من سواد العامة، وأرقاهم في الصناعة لا يرتقي إلى مقام الخاصة، فإن فرضنا أن جمهور أهل العرف لا يرون تمثيل الأنبياء إزراء بهم على إطلاقه أفلا يعدون من الإزراء والإخلال بما يجب لهم من التعظيم أن يسمى (السي فلان) أو (الخواجة فلان) إبراهيم خليل الله أو موسى كليم الله أو عيسى روح الله أو محمدا خاتم رسل الله؟ فيقال له في دار التمثيل: يا رسول الله ما قولك في كذا. . . . . . فيقول كذا. . . . . . ولا يبعد بعد ذلك أن يخاطبه بعض الخلعاء بهذا اللقب في غير وقت التمثيل على سبيل الحكاية أو من باب التهكم والزراية، كأن يراه بعضهم يرتكب إثما فيقول له: مدد يا رسول الله! ألا إن أباحة تمثيل هؤلاء الناس للأنبياء قد تؤدي إلى مثل هذا، وكفى به مانعا لو لم يكن ثم غيره.(1/234)
الوجه الثالث: تمثيل الرسول في حالة أو هيئة تزري بمقامه ولو في أنفس العوام وذلك محظور، وإن كان تمثيلا لشيء وقع، مثال ذلك أن يمثل بعض هؤلاء الممثلين المعروفين يوسف الصديق عليه السلام بهيئة بدوي مملوك تراوده سيدته عن نفسه وتقد قميصه من دبره، ثم يمثله مسجونا مع المجرمين ويتجلى النظر في هذا الوجه ببيان مسألة من أعظم المسائل يغفل عنها أمثال أولئك الباحثين الذين ذكرهم المستفتي، وهي أن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بشر ميزهم الله تعالى بما خصهم به من الوحي، وهداية الخلق إلى الحق، وقد كانت بشريتهم حجابا على أعين الكافرين حال دون إدراك خصوصيتهم، فأنكروا أن يكون الرسول بشرا مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.
وروي عن المسيح -عليه السلام- أن النبي لا يهان إلا في وطنه وقومه، وقال بعض العلماء في المعنى: أزهد الناس في الولي أهله وجيرانه، أي لأنهم قلما يرون منه إلا ما هو مشارك لهم فيه من الصفات والعادات وأما ما يمتاز به من دقائق الورع والتقوى والمعرفة بالله تعالى فمنه ما هو سلبي لا يفطنون له، ومنه ما هو خفي لا يدركونه، ولذلك احتيج في إيمان أكثر الناس بالرسل قبل الارتقاء العقلي إلى الآيات الكونية، وبعده إلى الآيات العلمية، (كالقرآن الحكيم من الأمي) والذين يؤمنون بالرسل من بعدهم يسمعون من أخبار آياتهم وخصائصهم وفضائلهم أكثر مما يسمعون من أخبار عاداتهم وصفاتهم البشرية، وبذلك يكون تعظيمهم وإجلالهم لهم غير مشوب بما يضعف الإيمان بهم من تصور شئونهم البشرية، على أن الواجب أن يعرفوا منها ما يحول دون الغلو في التعظيم والإطراء الذي يدفع به الغلاة الأنبياء إلى مقام الربوبية والإلهية، والتفريط في ذلك كالإفراط.
فتمثيل أحوال الأنبياء وشئونهم البشرية بصفة تعد زراية عليهم وازدراء بهم أو مفضية إلى ضعف الإيمان والإخلال بالتعظيم المشروع مفسدة من المفاسد التي يحظرها الشرع، فكيف إذا أضيف إليها كون التمثيل في حد ذاته يعد في العرف العام تنقيصا أو إخلالا ما بما يجب من التكريم وكون الممثلين من عوام الناس، وقد علمت ما في هذا وذاك؟
الوجه الرابع: إن من خصائص القصص التمثيلية الكذب، وإن الكذب على الأنبياء ليس كالكذب على غيرهم، فإذا جاز أن يسند إلى أسماء لا مسميات لها كلام تقصد به العظة والفائدة كما يحكون مثل ذلك عن ألسنة الطير والوحش، وهو ما احتج به الحريري في فاتحة مقاماته على جواز وضعه لها، وإذا صح أن يقاس على ذلك إسناد مثل ذلك الكلام إلى أناس معروفين من الملوك وغيرهم فيما لا ضرر فيه ولا إفساد في التاريخ ولا غيره من الحقائق، إذا جاز ما ذكر وصح القياس فلا يظهر جواز مثله في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، على أن في المسألة نصا لا محل للقياس مع مورده، قال صلى الله عليه وسلم: «إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1291) ، صحيح مسلم مقدمة (4) ، مسند أحمد بن حنبل (4/252) .(1/235)
رواه الشيخان في الصحيحين وغيرهما من حديث سعيد بن زيد، وروى عجزه -وهو من كذب علي إلخ- متواترا، وروى أحمد من حديث عمر مرفوعا «من كذب علي فهو في النار (1) » وهو مطلق لم يقيد بالتعمد، وإسناده صحيح وقياس الكذب على غيره من إخوانه الرسل عليه الصلاة والسلام جلي، فهو أقرب من قياس الكذب على الرسل على الكذب على العجماوات الذي احتج به الحريري، وأشار إلى اتفاق العلماء على جوازه الكذب عليهم يشمل ما يحكى عنهم من أقوال لم يقولوها، وما يسند إليهم من أعمال لم يعملوها.
فإن قيل: إنه يمكن وضع قصة لبعض الرسل يلتزم فيها الصدق في كل ما يحكى عنه أو يسند إليه، قلنا: إن النقل الذي يعتد به عند المسلمين هو نقل الكتاب والسنة، ولا يوجد قصة من قصص الأنبياء في القرآن يمكن فيها ذلك إلا قصة يوسف، وكذا قصة موسى وقصة سليمان مع ملكة سبأ إذا جعل التطويل فيهن في غير الحكاية عنهم، والأولى هي التي يرغب فيها الممثلون ويرجى أن يقبل على حضور تمثيلها الكثيرون، وفيها من النظر الخاص ما بيناه في الوجه الثالث، أما السنة فليس في أخبارها المرفوعة ولا الموقوفة ما يبلغ أن يكون قصة تصلح للتمثيل إلا وقائع السيرة المحمدية الشريفة، والعلماء بها لا يكاد أحد منهم يقدم على جمع طائفة منها وجعلها قصة تمثيلية. وإذا فتح هذا الباب ووجد منهم من يدخله على سبيل الندرة لا يلبث أن يسبقه إليه كثير من الجاهلين بالسنة المتقنين لوضع هذه القصص بالأسلوب الذي يرغب فيه الجمهور فيضعون من قصص الأنبياء المشتملة على الكذب ما يكون أروج عند طلاب الكسب بالتمثيل فيكون وضع الصحيح ذريعة إلى هذه المفسدة.
فعلم من هذه الوجوه أن جواز تمثيل قصة رسول من رسل الله عليهم السلام يتوقف على اجتناب جميع ما ذكر من المفاسد وذرائعها بحيث يرى من يعتد بمعرفتهم وعرفهم من المسلمين أنه لا يعد إزراء بهم، ولا منافيا لما يجب من تعظيم قدرهم صلوات الله وسلامه عليهم وعلى من اهتدى بهم.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/47) .(1/236)
قرار لجنة الفتوى بالأزهر
كما صدرت فتوى مستفيضة من اللجنة المختصة بالفتوى في مجلة الأزهر في عددها الصادر في رجب عام 1374 في حكم تمثيل الأنبياء قد يكون في مبررات القول بمنع تمثيلهم ما يصلح مبررا للقول بمنع تمثيل الصحابة وهذا نص المقصود منه:
التمثيل
التمثيل في المسرح
تشخيص الأفراد الذين تتألف منهم القصة أو الرواية التي يراد عرضها على النظارة تشخيصا يحكيها طبق(1/236)
أصلها الواقع أو المتخيل، أو هو بعبارة موجزة ترجمة حية للقصة وأصحابها.
وقد تلتقط صورة للمثلين في المسرح على شريط خاص يسمونه " الفلم " ليعرض على النظارة في شاشة السينما.(1/237)
هل يمكن تمثيل الأنبياء؟
لندع القصص المكذوبة على أنبياء الله جانبا، ولنفترض أن التمثيل لا يتناول إلا القصص الحق الذي قدمنا شذرات منه عاجلة، ثم نتساءل: -
1 - كيف يمثل آدم أبو البشر وزوجه وهما يأكلان من الشجرة؟ وما هي هذه الشجرة؟ أهي شجرة الحنطة؟ أم هي شجرة التين؟ أم هي النخلة؟ . . . وعلى أي حال نمثلهما وقد طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة؟ وهل نمثل الله تعالى وقد ناداهما {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} (1) ؟ أو نترك تمثيله تعالى وهو ركن في الرواية ركين؟ سبحانك سبحانك نعوذ بك من سخطك ونقمتك ومن هذا الكفر المبين؟ ؟
2 - وكيف يمثل موسى وهو يناجي ربه؟ وكيف يمثل وقد وكز المصري فقتله؟ بل كيف يمثل وقد أحاط به فرعون والسحرة، ورماه فرعون بأنه مهين، ولا يكاد يبين؟ وكيف تمثل العقدة، التي طلب من الله أن يحلها من لسانه؟ وما مبلغ كفر النظارة والممثلين إذا أفلتت - ولا بد أن تفلت- منهم فلتة مضحكة أو هازلة حينما يتمثلون الرسولين وقد أخذ أحدهما برأس الآخر وجره إليه؟ وما مبلغ التبديل والتغيير لخلق الله الفطري ليطابق هذا الخلق الصناعي وقد عملت فيه أدوات الأصباغ والعلاج عملها؟
3 - وكيف يمثل يوسف الصديق وقد همت به امرأة العزيز، وهم بها لولا أن رأى برهان ربه؟ وما تفسير الهم في لغة الفن؟
4 - وكيف يمثل أنبياء الله وأقوامهم يرمونهم بالسحر تارة، وبالكهانة والجنون تارة أخرى؟ بل كيف يمثلون حينما كانوا يرعون الغنم " وما من نبي إلا رعاها "؟ بل كيف يمثلون وقد آذاهم المشركون ولم يستح بعضهم أن يرمي القذر والنجس على خاتم النبيين وهو في الصلاة والكفار يتضاحكون؟ سيقول السفهاء من النظارة -وما أكثرهم- مقالة المستهزئين الكافرين من قبل {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} (2) ؟ وسيغضب فريق لأنبياء الله ورسوله فيقاتلون السفهاء وينتقمون منهم وتقوم المعارك الدينية لا محالة {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (3)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 22
(2) سورة الفرقان الآية 41
(3) سورة الشعراء الآية 227(1/237)
تمثيل الأنبياء تنقيص لهم
لسنا بحاجة بعد هذا إلى بيان أن من قصص الأنبياء ما لا يستطاع تشخيصه، وأن ما يستطاع تشخيصه من قصصهم فهو تنقيص لهم، وزراية بهم، وحط من مقامهم، وانتهاك لحرماتهم وحرمات الله الذي اختارهم لرسالته واصطفاهم لدعوته. . . لا ريب في ذلك كله ولا جدال. . .
وهذا كله في القصص الحق الذي قصه الله علينا ورسوله، وأما القصص الباطل -وما أكثره- فهو زور على زور وكفر على كفر، وهو البلاء والطامة. . وما نظن أن أحدا يستطيع أن يجادل في هذه الحقائق الناصعة. . وأكبر علمنا أن أول من يخضع لها ويؤمن بها هو أهل الفن أنفسهم فإنهم أرهف حسا وأشد إدراكا لمقتضيات التمثيل وملابساته.
على أنا لو افترضنا محالا، أو سلمنا جدلا بأن تمثيل الأنبياء لا نقيصة فيه ولا مهانة، فلن نستطيع بحال أن نتجاهل أنه ذريعة إلى اقتحام حمى الأنبياء وابتذالهم، وتعريضهم للسخرية والمهانة، فالنتيجة التي لا مناص منها ولا مفر: أن تشخيص الأنبياء تنقيص لهم أو ذريعة إلى هذا التنقيص لا محالة.(1/238)
سد الذرائع
وسد الذرائع ركن من أركان الدين والسياسة. . فقد أجمع العلماء أخذا من كتاب الله وبيان ورسوله على أن من أعمال الناس وأقوالهم ما حرمه الله تعالى؛ لأنه يشتمل على المفسدة من غير وساطة: كالغضب والقذف والقتل بغير حق، وأن من الأعمال والأقوال ما حرمه الله سبحانه؛ لأنه ذريعة إلى المفسدة ووسيلة إليها، وإن لم يكن هو في نفسه مشتملا على المفسدة. . ومن ذلك مناولة السكين لمن يسفك بها دما معصوما، فالمناولة في نفسها عارية عن المفسدة، ولكنها وسيلة إليها، ومن ذلك سب معبودات المشركين وهم يسمعون، فهو في نفسه جائز، ولكنه منع لجره إلى مفسدة، وهي إطلاق ألسنة المشركين بسب الله تعالى، ولهذا نهانا الله سبحانه عن هذا السب فقال: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1)
ومن هذا القبيل تفضيل بعض الأنبياء على بعض، هو نفسه جائز، فقد فضل الله بعضهم على بعض ورفع بعضهم درجات، ولكنه يمنع حينما يجر إلى الفتنة والعصيبة. . وقد تخاصم مسلم ويهودي في العهد النبوي، ولطم المسلم وجه اليهودي؛ لأنه أقسم بالذي اصطفى موسى على العالمين، وأقسم المسلم بالذي اصطفى محمدا على العالمين. . فلما بلغت الخصومة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم عليهم أجمعين غضب حتى عرف الغضب في وجهه، وقال: «لا تخيروني على موسى (2) » . ثم أثنى عليه بما هو أهله ونهاهم أن يفضلوا
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108
(2) صحيح البخاري الخصومات (2411) ، صحيح مسلم الفضائل (2373) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3245) ، سنن أبو داود السنة (4671) ، مسند أحمد بن حنبل (2/264) .(1/238)
بين أنبياء الله تعالى سدا لذريعة الفتن وحرصا على وقارهم صلوات الله وسلامه عليهم. . . وإذا كانت الدول تشدد في سد الذرائع وترى ذلك ركنا من أركان السياسة والأمن والنظام والمعاملات الدنيوية، فإنه في العقائد أخلق، وفي مقام النبوة أوجب وأحق.(1/239)
مفاسد تمثيل الأنبياء
ومفاسد تمثيل الأنبياء كثيرة نكتفي منها بهذه الأمثلة: -
1 - تشكيك المؤمنين في عقائدهم وتبديد ما وقر في نفوسهم من تمجيد هذه المثل العليا، إذ أنهم قبل رؤية هذه المشاهد يؤمنون حقا بعظمة الأنبياء ورسالتهم، ويتمثلونهم حقا في أكمل مراتب الإنسانية وأرفع ذراها -إذا هم بعد العرض قد هانت في نفوسهم تلك الشخصيات الكريمة، وهبطت من أعلى درجاتها إلى منازل العامة والأخلاط، وقد تقمصهم الممثلون في صور وأشكال مصطنعة مما يتقلص معه ظل الدين والأخلاق.
2 - إثارة الجدل والمناقشة والنقد والتعليق حول هذه الشخصيات الكريمة وممثليها من أهل الفن والمسرح تارة، ومن النظارة تارة أخرى، وها نحن أولا نرى صفحات للفن والمسرح ومجادلات في التعليق والنقد، وأنبياء الله ورسله مثل كلام الله عز وجل، فوق النقد والتعليق.
3 - التهاب المشاعر، وتحزب الطوائف، ونشوب الخصام والقتال بين أهل الأديان كما وقع بين المسلم واليهودي في العصر النبوي، وما أحوجنا إلى الأمن والاستقرار وإطفاء الفتن وتسكينها لا إثارتها وإشعالها.
4 - الكذب على الله ورسله؛ لأن التمثيل أو التخيل ليسا إلا لترجمة للأحوال والأقوال والحركات والسكنات، ومهما يكن فيها من دقة وإتقان فلا مناص من زيادة أو نقصان، وذلك يجر طوعا أو كرها إلى الكذب والضلال، والكذب على الأنبياء كذب على الله تعالى، وهو كفر وبهتان مبين والعياذ بالله.
هذه أمثلة من مفاسد تمثيل الأنبياء. . فماذا تفيد الإنسانية من هذا التمثيل إلا الضلال والنكال، وإذا كان الله جلت قدرته قد أعجز الشياطين عن أن يتشبهوا بالأنبياء توقيرا وإعظاما لهم -عليهم الصلاة والسلام- كما يدل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي (1) » وسبق أن قلنا: إن الأنبياء أخوة يمس كل واحد منهم ما يمس أخاه، نقول: إذا كان الله سبحانه قد حال بين الشياطين وبين التمثيل بالأنبياء مع أنه أعطاهم القدرة على التشكيل كما يهوون، فكيف يستبيح الإنسان لنفسه أن يكون أخبث من الشيطان بتمثيل الأنبياء.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (110) ، صحيح مسلم الرؤيا (2266) ، سنن الترمذي الرؤيا (2280) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3901) ، مسند أحمد بن حنبل (2/232) .(1/239)
ثم ماذا يكون الشأن إذا اجترأ إنسان على التمثيل بالنبي محمد أو غيره واهتاج الناس، وأثار شعورهم استياء من الجرأة على قداسة النبوة وخاصة في نفوس المتدينين؟
إن حقا محتوما علينا أن نجل الأنبياء، وأن نجل آل الأنبياء وأصحاب الأنبياء عن التمثيل والتشخيص، واحتراما وإجلالا للأنبياء أنفسهم. . لأن حرمتهم مستمدة من حرمة الأنبياء، كما أن حرمة الأنبياء مستمدة من حرمة الله عز وجل، وهذا بعض حقهم على الإنسانية جزاء ما صنعوا لها من جميل وأدوا إليها من إحسان.
خلاصة البحث
وجملة القول أن أنبياء الله تعالى ورسله معصومون بعصمة الله لهم من النقائص الخلقية والخلقية، وأن تمثيلهم تنقيص لهم أو ذريعة إلى التنقيص لا محالة، وكلاهما مفسدة أو مؤد إلى المفسدة التي من شعبها إثارة العصبيات والفتن التي لا يعلم مداها إلا الله تعالى.
للفن ميدان فسيح
وأن في الأدب والتاريخ وتصوير الفضائل ومكارم الأخلاق لميدانا فسيحا للفن والتمثيل، فليتجه إليها الفن ما شاء له الاتجاه، وليبتكر ما شاء له الابتكار، وليدع أنبياء الله ورسله محفوفين-كما حفهم الله تعالى- بالجلال والوقار، وليعمل على أن يكون مفتاحا للخير مغلاقا للشر، فطوبى لمن كان كذلك، والويل ثم الويل لمن يثير غضب الله وسخطه وانتقامه وغيرته لأنبيائه.
في قصص الأنبياء كفاية
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) وأن العبرة لا تزال ماثلة في مواطنها واضحة في معالمها، ينتفع بها في القرآن الكريم، وصادق الأخبار، ولو شئنا لأطلنا، ولكن في هذا بلاغا.
__________
(1) سورة يوسف الآية 111(1/240)
النتيجة
من أجل ما قدمنا تقرر في ثبات واطمئنان أنه لا ينبغي، ولا يحل بحال أن يشخص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في المسرح ولا على شاشة السينماء. . والله نسأل أن يجمع قلوبنا على محبته وتوقير أنبيائه ورسله، وأن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
10 من جمادي الآخرة سنة 1374 هـ الموافق 3 من فبراير سنة 1955 م
عبد اللطيف السبكي
مدير التفتيش وعضو جماعة كبار العلماء
طه محمد الساكت حافظ محمد الليثي
عبد الكريم جاويش
مفتش العلوم الدينية والعربية(1/241)
كما صدرت فتوى من لجنة الفتوى بالأزهر نشر في مجلة الأزهر في عددها الصادر بتاريخ محرم سنة 1379 هـ عن حكم تمثيل الشخصيات الإسلامية هذا نصه: -
حكم تمثيل الشخصيات الإسلامية، ومن لم يثبت إسلامهم، ولهم عون أكيد للنبي الكريم في دعوته.
السؤال: ما حكم الشريعة الإسلامية فيمن يمثل الشخصيات الآتية على شاشة التليفزيون: -
1 - الصحابة، وهل منهم من يجوز ظهور من يمثله علما بأن بلالا قد ظهر من يمثله في فيلم ظهور الإسلام وخالد بن الوليد في فيلم خالد بن الوليد.
2 - بنات النبي صلى الله عليه وسلم.
3 - أبا طالب ممن لم يثبت إسلامهم، وكان لهم عون أكيد للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، وكذلك التابعين وتابع التابعين.
4 - مسلمين ومسلمات لم تثبت صحبتهم للرسول، وعلى الأخص طالب بن أبي طالب؟
الجواب
إن التمثيل في ذاته وسيلة ثقافية سواء كان على المسارح أو الشاشة أو التلفزيون فإن كثيرا من وقائع التاريخ، وأحداث السياسة ومواقف الأبطال في ساحات الجهاد، والدفاع عن الأوطان ينبغي أن يتجدد ذكرها وينادى بها لتكون فيها القدوة الحسنة للأجيال الحديثة، وخير وسيلة لإحياء تلك الذكريات أن يكون القصص عنها بتمثيلها تمثيلا واقعيا غير أن التمثيل قد يتجاوز الأهداف الجدية، ويتخذ وسيلة للترفيه الممنوع، وبث الدعاية نحو أغراض غير كريمة، وخاصة فيما يتعلق بالتاريخ حول شخصيات من السابقين، والتاريخ يكون مشوبا بما يحتاج إلى تمحيص من العصبيات.
وبما أن السابقين من الصحابة -رضي الله عنهم- لهم مقام كريم، وشأن خاص بين جماعة المسلمين، وبما أن تمثيلهم على المسارح أو الشاشة قد ينحرف بهم إلى ما يمس بشخصياتهم أو عن تاريخهم الحق لما يتعرضون له أحيانا من أكاذيب القصاصين أو أهواء المتعصبين لبعض ضد البعض الآخر من جراء الفتن والخلافات التي قامت حولهم في أزمانهم وانقسام الناس في تبعيتهم إلى طوائف وأشياع بسبب الدسائس بينهم فإن اللجنة إزاء هذه الاعتبارات تفتي بما يأتي: -(1/242)
أولا: عدم جواز ظهور من يمثل كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن والحسين ومعاوية وأبنائهم -رضي الله عنهم جميعا- لقداستهم ولما لهم من المواقف التي نشأت حولها الخلافات وانقسام الناس إلى طوائف مؤيدين ومعارضين. . أما من لم ينقسم الناس في شأنهم كبلال وأنس وأمثالهما فيجوز ظهور من يمثل شخصياتهم بشرط أن يكون الممثل غير متلبس بما يمس شخصية من يمثله.
ثانيا: عدم جواز ظهور من يمثل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وبناته؛ لأن حرمتهم من حرمته عليه الصلاة والسلام، وقد قال الله تعالى في شأن نسائه {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} (1) وبناته بذلك أولى.
ثالثا: من لم تثبت صحبته من الرجال المسلمين، وكذلك التابعين وأتباعهم لا مانع من ظهور من يمثل شخصياتهم متى روعي في التمثيل ما من شأنه ألا يخل بكرامة المسلم، وأما النساء المسلمات فيجب الاحتياط في تمثيلهن أكثر مما يحتاط في تمثيل الرجال المسلمين الذين لم تثبت صحبتهم، وعلى المرأة التي تقوم بالتمثيل ألا يوجد مع تمثيلها اختلاط بأجنبي عنها من الرجال، ولا يصحبه كشف ما يحرم كشفه من جسمها، ولا يكون معه تكسر في صوتها، ولا حركات مثيرة للغرائز، ولو مع ستر الجسم، إذا كان الأمر كذلك فلا حرمة في التمثيل خصوصا إذا كان التمثيل لغرض علمي يعود على الأفراد والأمة بالفائدة.
وأما إن صحبه اختلاط بالرجال الأجانب أو كشف ما لا يحل كشفه من جسمها أو وجد معه تكسر في صوتها أو حركات مثيرة للغرائز بجسمها ولو مع ستره أو كان لباسها يحدد مفاتن جسمها فإن التمثيل حينئذ يكون محرما على من تقوم بهذا التمثيل.
رابعا: من لم يثبت إسلامه كأبي طالب وغيره ممن له عون أكيد في دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام ونصرته لا مانع من ظهور من يمثله إذا روعيت صلة عودته للنبي عليه الصلاة والسلام بحيث لا يكون في تمثيله ما يخدش مقامه تقديرا لما كان منه نحو الرسول عليه السلام من مناصرة وعون أكيد.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 32(1/243)
قصص الأنبياء في السينما
وصدر بحث للأستاذ محمد علي ناصف نشر في مجلة الأزهر في عددها الصادر بتاريخ المحرم عام 1342 بعنوان " قصص الأنبياء في السينما " هذا نصه: -
اعترضت مشيخة الأزهر على فكرة إنتاج فيلم سينمائي يتناول حياة يوسف عليه السلام، وحاول الأستاذ محمد التابعي في مقالين بجريدة الأخبار أن يثبت: -
أولا: أن رأي رجال الدين في هذا الموضوع لم يتطور، ولم يختلف عن آراء لهم قديمة.
ثانيا: أنهم ناقضوا أنفسهم فلم يحتجوا على حديث نشرته صحيفة " الأهرام " في عام 1955 م جاء فيه أن " سيسل دي ميل " يبحث عن ممثل يسند إليه القيام بتسجيل " صوت الله " باللغة العربية في الطبعة التي ستوزع على البلاد الإسلامية في فيلم " الوصايا العشر " الذي يخرجه ويبدو لي أن الأستاذ التابعي على قدر اتصاله بالمشتغلين بصناعة السينما ليس لديه الوقت لمشاهدة إنتاجهم؟ وإلا كان حكمه - وهو الناقد الأريب- أن صناعة السينما عندنا لم تتطور هي الأخرى حتى تتطور الآراء بالنسبة إليها، وحتى يطمئن ويثق رجال الدين والدنيا في مهارة القائمين بها وفي ائتمانهم على إخراج موضوع جدي عن حياة أحد الأنبياء، لقد عاصر الأستاذ التابعي صناعة السينما في مصر خلال الثلاثين سنة الأخيرة، ولعله لا يعترض كثيرا حين أذكر أن تسعين في المائة من الإنتاج الحالي يهبط في مستواه الفني عن أول فيلم أخرجه " ستديو مصر " مثلا وإذا كانت هذه حال السينما عندنا فيجب أن نتردد ونتريث طويلا عن طلب إقحام قصص الأنبياء والرسل في سوق يضرب فيها الفوضى والجهل والارتجال بأوفر سهم.
أن الأفلام الدينية: لا يجب الترخيص بموضوعاتها بمثل البساطة التي ترخص بها لموضوعات الأفلام الأخرى لأسباب كثيرة.
أولها: مكانة مصر في العالم الإسلامي، واعتبار ما يصدر عنها مثلا يحتذى، ولقد سمعت من أحد الدبلوماسيين أن بعض الأفلام المصرية التي عرضت في إندونيسيا كان لتفاهتها أسوأ الأثر في نفوس الذين شاهدوها، لدرجة اضطرت معها سفارتنا هناك إلى التدخل والنصح باتباع سياسة معينة في هذا الشأن، فما بالك إذا كانت هذه الأفلام تعالج موضوعات لها قداستها وجلالها.(1/244)
أفلام دينية يروج لها أعداء الإسلام
إن بعض الأفلام الدينية التي رخصنا بصنعها، ولا تزال تعرض حتى الآن لا يرغب أعداء المسلمين في أكثر من الحصول على حق توزيعها، ولست أشك في إخلاص معظم منتجي هذه الأفلام، ولكن الإخلاص وحسن النية لا يعالج بهما القصور الفني، ولقد حشدنا كل الإخلاص والنيات الحسنة في فيلم " خالد بن الوليد " مثلا: ولكني أعتقد أننا نلنا من شخصية خالد في هذا الفيلم ما عجز عن نيله الروم والفرس، وقد يقال: إن قصة الفيلم مكتوبة في أسلوب وهيكل رائعين، ولكن الكتابة الممتازة لا تكفي وحدها، فمسرحيات " شكسبير " هي هي بنصها على مسرح " الأولد فيك " وعلى مسرح " الانشراح " في بغداد، ولكن الفارق بين الأداءين هو نفس الفارق بين ترجمة حياة ينتجها للسينما كل من ستديو " مترو جولدوين " وستديو " شبرا " والتمثيل الممتاز لا يكفي كذلك وحده ولا يكفي الإخراج، أو التصوير. . إلخ. . فإن العمل السينمائي يتألف من عشرات الحلقات المتصلة التي يجب أن تكون جميعها قوية متماسكة، وفي مستوى متقارب. . ونحن للأسف لم نصل بعد إلى الدرجة التي ننتج فيها فيلما خطيرا تصل نسبة الكمال فيه إلى درجة عالية، ولذلك يجب أن تقتصر تجاربنا على الموضوعات العادية، ولا نقحم الدين في هذه التجارب.
إن أفلام " الوصايا العشر " و " الرداء " و " كوفاديس " التي ضرب الأستاذ التابعي المثل بها قد تكلف الواحد منها بين ستة ملايين و 13 مليونا من الدولارات وعبئت من أجلها أقوى الطاقات الفنية، ولا يزال أناس يتصدون بالقول إنما نصنع أفلاما ممتازة على مستوى الأفلام العالمية، والدليل على ذلك أن أصحاب هذه الأفلام لا يجدون متفرجين لها حتى في بلادنا ويطالبون الحكومة بأن توفر لهم جمهورا بقوة القانون، والدليل الآخر أن فيلما واحدا من هذه الأفلام لم ينل جائزة من الدرجة الثالثة في أي مهرجان دولي أو شبه دولي.
ويقول فريق أكثر اعتدالا: إن علينا أن نستعين بالخبراء الأجانب في إخراج أفلام عن ظهور الإسلام وفتوحاته وحضارته وأبطاله، وهذا رأي غير مدروس، فقد ثبت بالتجربة أن العمل الفني عن دين ما يجب أن يضطلع به رجل يعتنق هذا الدين ويؤمن به في قرارته، ولقد كنت في الولايات المتحدة عند عرض فيلم " الوصايا العشر " والذي لا يعرفه أكثر الناس أن النقاد اليهود قابلوا الفيلم بجفوة، ووصفوه بأنه جنسيا أكثر منه دينيا ونقموا على مخرج الفيلم اختياره لتمثيل دور فرعون نجما محبوبا " يول برينز " أكثر من الذي قام بدور موسى " شارلتون هستون " ولو أن " سيسل دي ميل " كان يهوديا لتلافى هذا النقد، أو لما كان عمله موضع شبهة.
وشبيه بذلك ما قرأته أخيرا عن رفض مدينة سلبي بمقاطعة " يور كشير " الإنجليزية تمثالا ضخما للسيد المسيح(1/245)
من صنع المثال اليهودي " إبشتاين " بحجة أن ملامح التمثال تدل على القسوة والفظاعة، إنني أول من يمني النفس بكتابة قصة عمر رضي الله عنه للسينما، ولكن في الوقت ذاته أعتقد أن قصورنا الفني لن يحقق في الوقت الحالي مثل هذه الأمنية، وحينما نستطيع أن نخرج أفلاما عن أمجادنا الدينية في نفس المستوى الذي يخرج فيه الغرب أمثال هذه الأفلام عن أمجاده، فإن التردد والاعتراض يكونان وقتئذ خطأ كبيرا.
من أجل ذلك أعتقد أن مشيخة الأزهر كانت موفقة في رأيها الخاص في قصة " يوسف الصديق " كما كانت كذلك غير متناقضة مع نفسها حينما لم تبادر فتعترض على حديث نشر في " الأهرام " عام 1955 أن سيسل دي ميل " يبحث عن ممثل يسند إليه القيام بتسجيل " صوت الله " باللغة العربية في الطبعة التي ستوزع من فيلم " الوصايا العشر " في البلاد الإسلامية؛ لأنه ونحن الآن في عام 1959 لم يعرض الفيلم المذكور بعد في أي بلد إسلامي، وأعتقد أنه لن يعرض لي أبدا في جمهوريتنا لأسباب أخرى غير الدين، وأغلب الظن أن " حديث الأهرام " المشار إليه لم يكن صحيحا لأنني -للمصادفة- لازمت " مستر ديميل " خلال السنوات الثلاث التي أنتج فيها هذا الفيلم، ووقفت على خطته ورأيه في هذا الشأن. . 1 هـ.
وقصارى القول أن من جرم تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين نظرا إلى ما لهم من مكانة عالية عند الله بوأهم إياها في محكم كتابه، وبينها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صحيح سنته مع ما هو الشأن في التمثيل من اللهو والمجون، وما عليه أكثر الممثلين من الاستهتار والولع بالخيال الكاذب، وعدم تحري الحقائق التاريخية وما عرف عنهم من مجاراة رواد المسارح وعشاق التمثيل تحقيقا لرغباتهم، وإرضاء لأهوائهم، وإشباعا لميولهم وغرائزهم المنحرفة، أملا في زيادة الكسب بكثرة الوافدين إليهم، ففي تمثيلهم الصحابة مدعاة إلى انتقاصهم والحط من قدرهم، وذريعة إلى السخرية منهم والاستهزاء بهم، وفي هذا منافاة للكرامة التي أكرمهم الله بها، ومناقضة للثناء الذي أثنى به عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفى بهذا مانعا من الدخول لهم هذا المدخل الكريه.
ومن أجاز من العلماء تمثيل الصحابة فإنما بنى فتواه على ما جاء في السؤال من أن القصد إظهار مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب مع التحري للحقيقة وضبط السيرة، وعدم الإخلال بشيء من ذلك بوجه من الوجوه رغبة في العبرة والاتعاظ، ومن عرف حال الممثلين، وما لهم من أغراض وحال الوافدين إلى المسارح، وما يهدفون إليه عرف أن هذا النوع من التصوير للتمثيل مجرد فرض وتقدير يأباه واقع الممثلين وروادهم، وما هو شأنهم في حياتهم وأعمالهم، هذا ما تيسر جمعه وإعداده، والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم،،،،
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(1/246)
قرارات هيئة كبار العلماء
وبعد اطلاع الهيئة على ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ذلك وتداول الرأي فيه قررت الهيئة بالإجماع ما يلي: -
1 - إن الله سبحانه وتعالى أثنى على الصحابة وبين منزلتهم العالية ومكانتهم الرفيعة، وفي إخراج حياة أي واحد منهم على شكل مسرحية أو فيلم سينمائي منافاة لهذا الثناء الذي أثنى الله -تعالى- عليهم به وتنزيل لهم من المكانة العالية التي جعلها الله لهم وأكرمهم بها. .
2 - إن تمثيل أي واحد منهم سيكون موضعا للسخرية والاستهزاء به ويتولاه أناس غالبا ليس للصلاح والتقوى مكان في حياتهم العامة والأخلاق الإسلامية مع ما يقصده أرباب المسارح من جعل ذلك وسيلة إلى الكسب المادي، وأنه مهما حصل من التحفظ فسيشتمل على الكذب والغيبة كما يضع تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم في أنفس الناس وضعا مزريا فتتزعزع الثقة بأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وتخف الهيبة التي في نفوس المسلمين من المشاهدين، وينفتح باب التشكيك على المسلمين في دينهم والجدل والمناقشة في أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ويتضمن ضرورة أن يقف أحد الممثلين موقف أبي جهل وأمثاله ويجري على لسانه سب بلال وسب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وما جاء به من الإسلام، ولا شك أن هذا منكر، كما يتخذ هدفا لبلبلة أفكار المسلمين نحو عقيدتهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
3 - ما يقال من وجود مصلحة، وهي إظهار مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب مع التحري للحقيقة وضبط السيرة وعدم الإخلال بشيء من ذلك بوجه من الوجوه رغبة في العبرة والاتعاظ، فهذا مجرد فرض وتقدير فإن من عرف حال الممثلين وما يهدفون إليه عرف أن هذا النوع من التمثيل يأباه واقع الممثلين ورواد التمثيل وما هو شأنهم في حياتهم وأعمالهم. .(1/247)
4 - من القواعد المقررة في الشريعة أن ما كان مفسدة محضة أو راجحة فإنه محرم وتمثيل الصحابة على تقدير وجود مصلحة فيه، فمفسدته راجحة. فرعاية للمصلحة وسدا للذريعة وحفاظا على كرامة أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، يجب منع ذلك. .(1/248)
عبد الفتاح محمد الحلو
تراجم الفقهاء
شغل الفقه الإسلامي عقول أبناء هذه الأمة منذ هداها الله -عز وجل- إلى دينه، فقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يعرض لهم، وكان الوحي يتنزل عليه من السماء بالقول الفصل والحكم القاطع، وحين انقطع الوحي، ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، كان صحابته رضوان الله عليهم قد فقهوا في دينهم، وكان بعضهم كعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب مرجعا مهما في كثير من المعضلات التي تحدث في الأمة، وهكذا كان العلماء يتسلم الراية بعضهم من بعض، وينظرون فيما يجد في حياتهم من مسائل على هدى من سبقهم، ويعملون الفكر استنباطا من كتاب الله وسنة رسوله، حتى بنوا هذا الصرح الشامخ من الدراسات الفقهية، الذي واكب الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل، ووضع لها القوانين والأحكام الضابطة، وقد أدى اختلاف النظر، وتوسع رقعة البلاد الإسلامية، إلى نشأة المذاهب الفقهية، وتعدد مدارس الفقه، وتبع كل مذهب فريق من رجال الفكر على مر العصور، يمحصون قول صاحب المذهب، ويستدلون له، وقد يخالفه بعضهم في بعض المسائل، وقد أثرى هذا الجهد الرائع حصيلة الفقه الإسلامي، وملأ جوانبه نقاشا ودراسة، مما أتاح له علاج المشكلات، والإفتاء في جميع النوازل التي وقعت.
وإذا كانت كتب الفقه في المذاهب المختلفة قد قامت بتسجيل ذلك كله، وتشعبت مناهجها في تفصيل(1/249)
ذلك من المختصرات إلى الكتب المبسوطة، ومن الكتب التي تعتمد الرأي الراجح إلى الكتب التي تثير مسائل الخلاف وتناقشها، فإن كتب تراجم الفقهاء أضافت جهدا لا يقل عن ذلك في خدمة الفقه الإسلامي، والتعريف به على مر العصور.(1/250)
القيمة العلمية للتراجم
إن تراجم الفقهاء تكشف عن حياتهم الخاصة وحياتهم العلمية، فهي تسجل نسب الفقيه ومولده وموطنه، وما عرض له في حياته من ظروف أعانت على رسم شخصيته، والإفصاح عن نوازعه، وما لقيه في حياته من يسر أو عسر، ووفاته، كما تكشف عن أساتذته الذين أخذ عنهم علمه، ورحلاته العلمية، والرجال الذين لقيهم، والكتب التي قرأها على شيوخه، وحلقات العلم التي تصدرها، وما أتيح له من التدريس والفتوى والقضاء، والطلاب الذين أخذوا عنه، والمناقشات التي شارك فيها، والمؤلفات التي كتبها، ومنزلته بين الفقهاء على مر التاريخ.
وهذا كله يسهم في تكوين فكرة كاملة عن الفقيه، وتتيح لنا رؤية صحيحة لعلمه، وتقويما سليما لأفكاره، كما تكشف لنا عن المصدر الأصلي لكل قول في المسائل الفقهية التي ندرسها، وبذلك نستطيع أن نتتبع التسلسل الزمني للأقوال في المسألة الواحدة، فنعرف السابق من اللاحق والتابع من المتبوع، كما نستطيع أن نضع المسألة في الزمن الذي نبتت فيه المشكلة فنتعرف على الظروف الحضارية والبيئية التي واكبت المشكلة، لنرى إلى أي مدى أمكن لفقهائنا أن يستنبطوا الاستنباط الصحيح، وأن يوفقوا إلى الحكم السليم.
وكتب تراجم الفقهاء تزيل اللبس الذي يقع في أسمائهم، وتكشف عن كناهم وألقابهم، وربما أدى اللبس في أسماء بعض الفقهاء إلى عزو قول إلى من لم يقله، أو نفيه عن صاحبه، أو اتهام من هو بريء من التهمة، فكان لزاما على الفقيه أن يتعرف إلى وجه الحق في ذلك عن طريق كتب التراجم.
وتعرض كتب تراجم الفقهاء فيما تعرض مثلا عليا عاش عليها الفقهاء، ونهجا قويما في حياتهم العامة وحياتهم العلمية، وسلوكا رائعا في مواقفهم ممن يريدون طمس الحق، أو تزوير العدالة، أو الخروج عن أحكام الشرع، وفي ذلك من القدوة ما ينشئ الأجيال على معان كريمة، وأسس راسخة قوية.
* * *(1/250)
معالم مناهج الفقهاء
ولا تكتفي بعض كتب تراجم الفقهاء بإيراد ما سبق الحديث عنه فحسب، وإنما تضيف إلى ذلك معالم لمنهج الفقيه في فقهه، وتثير من المسائل الفقهية والجدلية ما لا غنى عنه لدارس الفقه الإسلامي، وما لا تجده في كتب الفقه المختصرة منها والمبسوطة، بل إن بعض كتب تراجم الفقهاء(1/250)
تضم بين دفتيها رسائل في مسائل بعينها، ضاعت أصولها، وحفظتها لنا هذه الكتب.
ويدل هذا الذي تقدم على مبلغ الفائدة التي يجنيها الفقيه والمتفقه من الرجوع إلى هذه التراجم ودراستها، بل إن المثقف المسلم لا يستطيع التعرف إلى صورة كاملة للفكر الإسلامي عبر قرونه المتطاولة إلا إذا عاد إلى كتب التراجم هذه ينبشها، ويلتقط اللمحة، والفكرة إثر الفكرة، حتى يكتمل تصوره لهذا الفكر في مراحله المختلفة، ولا أجد في نفسي اطمئنانا إلى كاتب يتصدر للفكر الإسلامي، وهو مبتوت الصلة بهذا التراث العظيم، بعيد عما فيه من ثروة فكرية، ونماذج للفكر الإنساني الرفيع، فلا بد من عودة إلى تراثنا في هذا الجانب نستلهمه ونفيد منه، ونيسر قراءته للناس.
أما عن جهود العلماء في تسجيل تراجم الفقهاء، فالحديث عنها يطول، وسأقصر حديثي هنا على ما عرفته من المصنفات لأئمة المترجمين للفقهاء من أتباع المذاهب الأربعة، وهي على الترتيب الزمني: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
ولقد كان الشافعية أسبق رجال المذاهب الفقهية إلى تدوين تراجم رجالهم، وتلاهم في هذا الحنابلة، وتبعهم المالكية أو واكبوهم، ثم جاء الحنفية في آخر المطاف ليسجلوا تراجم رجالهم، ولا ينقص هذا ما ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون (1 \ 28) من أن الشيخ الإمام أبا بكر الحسن بن محمد بن الحسن الزبيدي النحوي المتوفى سنة 379 هـ قد ألف كتابا في أخبار الفقهاء المتأخرين من أهل قرطبة، وأن أبا عمر وأحمد بن محمد قد صنع منتخبا له، فربما كان كتاب الزبيدي في تراجم الفقهاء من المذاهب المختلفة؛ ذلك أننا لا نعرف الشيء الكثير عن المذهب السائد في الأندلس خلال القرن الرابع الهجري، ولا نستطيع القول بأن المذهب المالكي فرض سلطانه على الجزيرة في هذه الفترة المبكرة من حياتها الفقهية.
* * *(1/251)
مصنفات الشافعية
ونبدأ بذكر مصنفات الشافعية في تراجم أهل مذهبهم:
القرن الخامس:
ففي القرن الخامس الهجري تصدى لهذا العمل رجال هم الإمام أبو حفص عمر بن علي المطوعي، المتوفى نحو سنة 440 هـ، حيث صنف للإمام أبي الطيب سهل الصعلوكي كتابا سماه " المذهب في ذكر(1/251)
شيوخ المذهب " (1) والإمام الطيب الطبري القاضي المتوفى سنة 450 هـ، الذي صنف مختصرا ذكر فيه مولد الشافعي رضي الله تعالى عنه، وعد في آخره جماعة من أتباعه (2) والإمام أبو عاصم العبادي المتوفى سنة 458 هـ، حيث ألف كتابه الطبقات (3) ، والإمام أبو إسحاق الشيرازي المتوفى سنة 476 هـ (4) وكتابه في تراجم الفقهاء يضم إلى الشافعية رجال المذاهب الأخرى (المالكية والحنابلة، والحنفية، والظاهرية) والحافظ أبو محمد عبد الله بن يوسف الجرجاني المتوفى سنة 489 هـ، حيث ألف كتابه الطبقات (5) والقاضي أبو محمد عبد الوهاب بن محمد الشيرازي المتوفى سنة 500 هـ، صاحب كتاب تاريخ الفقهاء (6) .
* * *
القرن السادس:
وفي القرن السادس الهجري ألف المحدث أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي المعروف بفندق المتوفى سنة 565 هـ كتابا سماه وسائل الألمعي في فضائل الشافعي (7) ثم جمع الشيخ الإمام أبو النجيب السهروردي المتوفى سنة 563 هـ مجموعات في تراجم الشافعية (8) .
* * *
القرن السابع:
وفي القرن السابع الهجري ألف الشيخ ابن الصلاح المتوفى سنة 643هـ كتابه، ولكن المنية عاجلته والكتاب مسودة، فأخذه الإمام أبو زكريا النووي المتوفى سنة 676هـ، واختصره وزاد أسام قليلة جدا، ومات أيضا وكتابه مسودة، فبيضه الحافظ أبو الحجاج المزي المتوفى سنة 742 هـ (9) . كذلك ألف الشيخ عماد الدين بن باطيش المتوفى سنة 655 هـ، كتابه في تراجم الشافعية (10) .
* * *
القرن الثامن:
وحفل القرن الثامن الهجري بمؤلفات ضخمة في تراجم الشافعية، فقد ألف تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي السبكي المتوفى سنة 771 هـ في طبقات الشافعية ثلاثة كتب: الطبقات الصغرى، وطبقات الفقهاء
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى (الحلبي) 1 \ 216.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.
(4) المرجع السابق.
(5) المرجع السابق.
(6) المرجع السابق.
(7) المرجع السابق.
(8) المرجع السابق 1 \ 217.
(9) المرجع السابق.
(10) المرجع السابق.(1/252)
الشافعيين المعروف بالطبقات الوسطى، وموسوعته الضخمة طبقات الشافعية الكبرى (1) وألف جمال الدين عبد الرحيم بن حسن الأسنوي المتوفى سنة 772 هـ، كتابا في طبقات الشافعية، فرغ من تأليفه سنة 769 هـ، ورتبه على حروف الاشتهار، وذكر في كل حرف فصلين، أوله في رجال الشرح الكبير والروضة، والثاني في الزائد عليهما، ونقل من طبقات التفليسي لموسوي عمر بن بندار المتوفى سنة 672 هـ، وهي في مجلد ضخم ألفه قبل الأسنوي (2) ثم صنف الحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774 هـ، كتابه في طبقات الشافعية (3) ، وصنف محمد بن الحسن بن عبد الله الحسيني الواسطي المتوفى سنة 776 هـ كتابه المطالب العلية في مناقب الشافعية (4) ، وألف شمس الدين محمد بن عبد الرحمن العثماني قاضي صفد المتوفى سنة 780 هـ كتابا في طبقات الشافعية (5) ، كما ألف القاضي شرف الدين أبو عبد الله محمد بن قطب الدين بن عبد الرحمن المتوفى في حدود سنة 800 هـ كتابه الكافي في معرفة علماء مذهب الشافعي (6) ، وصنف سراج الدين عمر بن علي المعروف بابن الملقن المتوفى سنة 804 هـ، كتابا سماه العقد المذهب في طبقات حملة المذهب، من زمن الشافعي إلى سنة 780 هـ، ورتبه على ست وثلاثين طبقة (7) .
القرن التاسع:
كذلك حظي القرن التاسع الهجري بمؤلفات كثيرة في تراجم الشافعية، فقد ألف الفيروزآبادي صاحب القاموس المتوفى سنة 817 هـ كتابه المرقاة الأرفعية (8) ، وجمع الشيخ شهاب الدين بن أرسلان بن أحمد بن حسين الشافعي الرملي المتوفى سنة 844 هـ في ذلك كتابا (9) ، ثم صنف القاضي تقي الدين أبو بكر بن أحمد بن شهبة الدمشقي الأسدي المتوفى سنة 851 هـ مصنفا رتبه على تسع وعشرين طبقة، وذيل عليه الشريف عز الدين حمزة بن أحمد الدمشقي الحسيني المتوفى سنة 874 هـ (10) ، ثم ألف رضي الدين محمد بن أحمد بن عبد الله العزي العامري المتوفى سنة 864 هـ كتابه بهجة الناظرين إلى تراجم المتأخرين من الشافعية البارعين (11) ، وفي أخريات القرن التاسع ألف القاضي قطب الدين محمد بن محمد الخيضري المتوفى سنة 894 هـ كتابا سماه اللمع الألمعية لأعيان الشافعية (12) .
* * *
__________
(1) مقدمة التحقيق لطبقات الشافعية الكبرى 23 - 30.
(2) كشف الظنون 1101، الدرر الكامنة (الهند) 2 \ 354.
(3) كشف الظنون 1101، الدرر الكامنة 1 \ 373.
(4) فهرس مخطوطات جامعة الدول العربية، قسم التاريخ.
(5) كشف الظنون 1101.
(6) فهرس التاريخ بدار الكتب المصرية.
(7) كشف الظنون 1101 الضوء اللامع 6 \ 101 فهرس دار الكتب المصرية
(8) كشف الظنون 1101.
(9) كشف الظنون 1101 الضوء اللامع 1 \ 282.
(10) كشف الظنون 1101 الضوء اللامع 11 \ 21، 3 \ 163 فهرس دار الكتب المصرية.
(11) فهرس جامعة الدول العربية.
(12) كشف الظنون 1101 الضوء اللامع 9 \ 117 - 124.(1/253)
القرن العاشر:
أما القرن العاشر فلم يحظ إلا بمجموع في ست ورقات، كتبه كمال الدين أبو المعالي محمد بن أحمد الشافعي المقدسي المتوفى سنة 906 هـ (1) .
* * *
القرن الثاني عشر:
وفي القرن الثاني عشر الهجري صنف أبو بكر بن هداية الله الحسيني الملقب بالمصنف المتوفى سنة 1014 هـ كتابا في طبقات الشافعية (2) .
وآخر من نعرف ممن ألف في طبقات الشافعية شيخ الإسلام عبد الله الشرقاوي المتوفى سنة 1227 هـ، وقد جمع في كتابه تراجم متأخري الشافعية من سنة 900 إلى سنة 1121 هـ (3) .
__________
(1) فهرس جامعة الدول العربية.
(2) انظر مقدمة التحقيق لطبقات الشافعية.
(3) فهرس دار الكتب المصرية.(1/254)
مصنفات الحنابلة
هذه جهود علماء الشافعية في التعريف برجال مذهبهم أما الحنابلة، فإن أقدم مصنف نعرفه لهم في ذلك ظهر في القرن السادس الهجري.
القرن السادس:
فقد صنف القاضي أبو الحسين محمد بن محمد الحسين أبي يعلى الحنبلي الفراء الشهيد سنة 526 هـ صاحب المجرد في مناقب الإمام أحمد، كتابا في ذلك انتهى فيه إلى سنة 512 هـ، ثم ذيله الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن أحمد المعروف بابن النقيب وبابن رجب المتوفى سنة 795 هـ.
القرن الثامن:
وللشيخ زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب السابق الذكر كتاب في تراجم رجال المذهب وصل فيه إلى سنة 750 هـ، ورتبه على الوفيات، ثم ذيله العلامة يوسف بن حسن بن أحمد الحنبلي المقدسي بكتاب مرتب على الحروف، سماه الجوهر المنضد في طبقات أصحاب أحمد، وقد فرغ من تأليفه سنة 781 هـ، وذيله أيضا الشيخ تقي الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح الراميني الأصل المقدسي الدمشقي الصالحي المتوفى سنة 803 هـ (1) .
القرن العاشر:
وفي القرن العاشر الهجري صنف أبو اليمن مجير الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن العليمي المتوفى سنة 928 هـ كتابه المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد، وقد اختصر هذا الكتاب جميل
__________
(1) كشف الظنون 1593.(1/254)
الشطي من أهل دمشق كما اختصر بعض تراجم الحنابلة من غيره، وتوجد نسخة من كتابه هذا في المكتبة السعودية بحي دخنة بالرياض.
القرن الرابع عشر:
وقد صنع عثمان بن بشر النجدي المتوفى سنة 1288 هـ فهرسا لطبقات الحنابلة لابن رجب وجعل تراجمها على حروف المعجم (1) .
وللشيخ محمد بن عبد الله بن علي بن عثمان بن حميد العامري النجدي المتوفى سنة 1295 هـ كتاب " السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة " ومنه نسخة بدار الكتب المصرية بالقاهرة (المكتبة التيمورية) وله أيضا " النعت الأكمل بتراجم أصحاب الإمام أحمد بن حنبل " ذكره في السحب الوابلة (2) .
القرن الثالث عشر:
وللشيخ عبد القادر بن أحمد بن مصطفى، ابن بدران الدمشقي المتوفى سنة 1346 هـ كتاب في طبقات الحنابلة لم يكمل (3) ، كما أن إبراهيم بن ضويان المتوفى سنة 1353 هـ وهو من أهل الرس في منطقة القصيم، ألف في تراجم الحنابلة كتاب " كشف النقاب في تراجم الأصحاب " (4) .
وقد ذيل محمد بن قاسم العاصمي القحطاني النجدي كتابه " الدرر السنية في الأجوبة النجدية " بجزء خاص في تراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة، هو الجزء الثاني عشر، وجل هؤلاء فقهاء حنابلة.
وللشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ المولود سنة 1332 هـ كتاب علماء الدعوة، وقد طبع بمصر سنة 1386 هـ، وكتاب مشاهير علماء نجد، وقد طبع بإشراف دار اليمامة سنة 1392 هـ، وعلماء الدعوة (الدعوة إلى التوحيد (التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب) ، وعلماء نجد حنابلة.
وللشيخ محمد بن عبد العزيز بن عثيمين (معاصر) كتاب " تسهيل السابلة في تراجم علماء الحنابلة " (5) .
هذا وقد اشتمل كتاب " تذكرة أولي النهى والعرفان " للشيخ إبراهيم بن عبيد آل عبد المحسن، وهو كتاب في تاريخ نجد للسنوات القريبة على تراجم كثيرة مفصلة لعلماء الحنابلة في هذه الديار، وقد طبع في مؤسسة النور بالرياض في أربعة أجزاء.
__________
(1) مقدمة عنوان المجد صفحة 2 (مطابع القصيم بالرياض 1385 هـ)
(2) الأعلام للزركلي 7 \ 121، 122، 10 \ 312.
(3) تذكرة أولي النهى والعرفان 3 \ 192 (مؤسسة النور بالرياض) .
(4) أخبرني بهذا الشيخ عبد الله بن عثمان النجران من علماء الرياض وذكر أن الكتاب مخطوط.
(5) ذكر لي هذا الشيخ عبد الله بن عثمان النجران، وقال: إن الكتاب لا يزال مخطوطا.(1/255)
مصنفات المالكية
القرن السادس:
وكان القاضي عياض بن موسى اليحصبي المالكي المتوفى سنة 544 هـ سابق الحلبة في تسجيل تراجم المالكية، فقد ألف في ذلك كتابه ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام(1/255)
مذهب مالك، جمع فيه المالكية وأحسن، وهو تأليف غريب لم يسبق إليه.
القرن الثاني:
ثم ألف ابن فرحون برهان الدين إبراهيم بن علي بن محمد المدني المتوفى سنة 789 هـ كتابه في طبقات المالكية، وسماه الديباج المذهب في علماء المذهب (1) .
القرن الحادي عشر:
وذيله بدر الدين محمد بن يحيى القرافي المتوفى سنة 1008 هـ بكتابه المسمى بتوشيح الديباج وحلية الابتهاج (2) ، كما ذيله أحمد بابا بن أحمد التنبكتي المتوفى سنة 1036 هـ وسمى كتابه نيل الابتهاج.
__________
(1) كشف الظنون 1106.
(2) المرجع السابق 507، 1106.(1/256)
مصنفات الحنفية
أما علماء الحنفية فقد تأخر بهم القصد إلى القرن الثامن للهجرة، وظلت تراجمهم مضمنة في كتب التاريخ العامة وتواريخ البلدان وطبقات الأدباء واللغويين والفقهاء، ثم نشطوا لهذا الأمر، فحفلت القرون: الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر والثالث عشر، بمؤلفات كثيرة، ترجمت لعلماء المذهب وتضمنت خيارهم، واشتملت على مسائلهم.
* * *
القرن الثامن:
ففي القرن الثامن ألف نجم الدين إبراهيم بن علي بن أحمد الطرطوسي المتوفى سنة 758 هـ كتاب وفيات الأعيان من مذهب النعمان، وجمع صلاح الدين عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن المهندس المتوفى سنة 679 هـ تاريخا كبيرا لفقهاء الحنفية، يذكر ابن حجر أنه تعب عليه، فإنه طالع كتبا كثيرة ببلاد متفرقة (1) ثم جاء أبو محمد محي الدين عبد القادر بن محمد بن نصر الله القرشي المتوفى سنة 775 هـ فأخرج كتابه الجواهر المعنية في طبقات الحنفية (2) .
* * *
القرن التاسع:
وفي القرن التاسع ألف صارم الدين إبراهيم بن محمد بن أيدمر بن دقمان القاهري المتوفى سنة 809 هـ كتاب " نظم الجمان في طبقات أصحاب إمامنا النعمان " (3) ، ويذكر حاجي خليفة أنه في ثلاث مجلدات، الأولى في مناقب أبي حنيفة والثانية والثالثة في أصحابه، وجاء بعد ابن دقمان مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي الشيرازي الشافعي المتوفى سنة 817 هـ، فألف كتاب " المرقاة الوفية في طبقات
__________
(1) الدرر الكامنة 2 \ 387، 388، كشف الظنون 1099.
(2) الدرر الكامنة 3 \ 6 الفوائد البهية 99، كشف الظنون 616، 617، 1097 معجم المطبوعات 33.
(3) الضوء اللامع 1 \ 145 الطبقات السنية 1 \ 260 كشف الظنون 1098، 1961.(1/256)
الحنفية " (1) . ولتقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزي المتوفى سنة 845 هـ تذكرة (2) ، جمع منها قاسم بن قطلو يغا مادة كتابه تاج التراجم، وصنف القاضي بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى العيني المتوفى سنة 855 هـ كتابا في طبقات الحنفية (3) ، كما صنف زين الدين أبو العدل قاسم بن قطلو بغا السوروني الجمال المتوفى سنة 879 هـ كتابا مختصرا أسماه تاج التراجم ويذكر ابن الشحنة في هوامشه على أن الإمام مسعود بن شيبه عماد الدين السندي وابن سابق جمعا طبقات أصحاب أبي حنيفة (4) ، ولابن الشحنة هذا وهو أبو الفضل محمد بن محمد الثقفي الحلبي المعروف بابن الشحنة الصغير المتوفى سنة 890 هـ، كتاب طبقات الحنفية في عدة مجلدات (5) .
* * *
القرن العاشر:
أما القرن العاشر فقد زخر بعدد كبير من كتب تراجم الحنفية؛ فقد ألف شمس الدين محمد بن علي بن أحمد بن طولون الصالحي الدمشقي المتوفى سنة 953 هـ كتاب " الغرف العلية في تراجم متأخري الحنفية " (6) ، وألف شمس الدين بن آجا محمد بن محمد كتابا " في طبقات الحنفية ثلاث مجلدات " (7) ، واختصر إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحلبي المتوفى سنة 956 هـ كتاب صلاح الدين عبد الله بن محمد المهندس الذي سبقت الإشارة إليه، كما اختصر الجواهر المضيئة (8) ، وألف محمد بن عمر حفيد آق شمس الدين المتوفى سنة 959 هـ كتابا في طبقات الحنفية (9) ، وجمع المولى علي بن أمر الله الجنائي المتوفى سنة 979 هـ مختصر على إحدى وعشرين طبقة كتب فيه المشاهير، بدأ فيه بالإمام أبي حنيفة، وختم بابن كمال باشا (10) ، وألف محمود بن سليمان الرومي الكفوي المتوفى سنة 990 هـ كتاب كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار (11) ، كما صنف قطب الدين محمد بن علاء الدين أحمد بن محمد النهرواني (النهروالي) الهندي الحنفي المتوفى سنة 990 هـ كتابا في طبقات الحنفية في أربعة مجلدات، ثم احترق مع كتبه، ثم كان في صدد تجديدها ولم يمهل (12) .
* * *
__________
(1) تاج العروس (الكويت) 1 \ 43 البدر الطالع 2 \ 280 الضوء اللامع 10 \ 79، كشف الظنون 1098، 1657.
(2) تاج التراجم 3، كشف الظنون 269.
(3) الجواهر المضيئة 2 \ 165، الضوء اللامع 10 \ 131، كشف الظنون 1098
(4) كشف الظنون 1099.
(5) البدر الطالع 2 \ 263 الضوء اللامع 9 \ 295 كشف الظنون 1098، 1099.
(6) شذرات الذهب 8 \ 298، كشف الظنون 1098، 1202 الكواكب السائرة 2 \ 52.
(7) كشف الظنون 1098.
(8) المرجع السابق 617، 1099.
(9) المرجع السابق 1098.
(10) ريحانة الألبا (الحلبي) 21 \ 249، 269 العقد المنظوم 2 \ 375، 388، كشف الظنون 1099.
(11) الأعلام 8 \ 49 الفوائد البهية 3.
(12) البدر الطالع 2 \ 57، ريحانة الألبا 1 \ 407، شذرات الذهب 8 \ 420، كشف الظنون 1098.(1/257)
القرن الحادي عشر:
وجاء القرن الحادي عشر الهجري فألف تقي الدين بن عبد القادر التميمي الداري الغزي المصري الحنفي المتوفى سنة 1005 هـ كتابه " الطبقات السنية في تراجم الحنفية "، وهو أكبر موسوعة في تراجم الحنفية، وقد أوعى فيه وأجاد كما يقول حاجي خليفة (1) ، ثم ألف نور الدين علي بن سلطان (محمد سلطان) الهروي القاري المتوفى سنة 1014 هـ كتاب الأثمار الجنية في أسماء الحنفية (2) .
* * *
القرن الثالث عشر:
وفي القرن الثالث عشر الهجري شغل أبو الحسنات محمد بن عبد الحي اللكنوي الهندي المتوفى سنة 1304 هـ بهذا الأمر، ورأى أنه لو جمع رجال المذهب في كتاب فسيصير المجموع أكبر، لا ينتفع به إلا الأندر، ففرقهم في أكثر من كتاب، فصنع لرجال الهداية كتاب " مقدمة الهداية "، وجعل له ذيلا سماه " مذيلة الدراية "، وأفرد لتراجم شراح الجامع الصغير وأرباب المتون المشهورة وأصحاب الكتب المعروفة رسالة سماها " النافع الكبير "، وذكر من له أو لكتابه ذكر في شرح الوقاية كما ذكر شراح الوقاية ومحشى شرح الوقاية وشراح النقابة في مقدمة شرحه لشرح الوقاية المسمى " بالسعاية في كشف ما في شرح الوقاية "، ثم اطلع على كتاب الكفوي ولخص منه تراجم الفقهاء دون حذف ما يتعلق بها، ثم حذف الفوائد الفقهية وزاد بعد ذلك عليها، وسمى عمله هذا " الفوائد البهية في تراجم الحنفية "، فرغ منه سنة 1292 هـ (3) .
* * *
هذا مبلغ ما وصل إليه علمنا من كتاب تراجم الفقهاء، ولعل ما لم يصل إلينا كثير حافل بالتراجم العلمية، والفوائد والنكت الفقهية، وهذا الذي عرفناه من كتب تراجم الفقهاء، كثير منه نعرفه بالاسم فقط أما أصوله فقد عدت عليها العوادي، وفقدناها فيما فقدنا من تراثنا العظيم.
__________
(1) انظر مقدمة تحقيق الطبقات السنية 13 - 16.
(2) البدر الطالع 1 \ 445 خلاصة الأثر 3 \ 185 الفوائد البهية 3، 8.
(3) الفوائد البهية 3، 4، 348، معجم المطبوعات 1595.(1/258)
ولا يتيسر لنا معرفة القيمة الحقيقية للبقية بين أيدينا إلا بدراستها، والتعرف إلى منهجها، ولعل لنا عودة إلى هذا الأمر، يتاح لنا فيها أن ندرس كتب التراجم في كل مذهب من المذاهب الأربعة على حدة، حتى نميز المعالم المشتركة، والخصائص التي يتفرد بها كل كتاب؛ لنستطيع بعد ذلك أن نسجل وصفا تحليليا لتراجم الفقهاء المسلمين، وعسى أن يكون في هذا ما يدفع إلى قراءة هذا التراث ودرسه والإفادة منه، والله من وراء القصد.(1/259)
عبد الفتاح محمد الحلو
كلية اللغة العربية بالرياض(1/259)
الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو
1 - تخرج من كلية العلوم سنة 1961 م.
2 - نال درجة الدكتوراه في الأدب العربي منها سنة 1974 م.
3 - يعمل بمعهد المخطوطات - جامعة الدول العربية، وهو الآن معار إلى كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية بالرياض.
4 - ألف كتاب شعراء هجر عن شعراء المنطقة الشرقية من المملكة في القرون الأربعة الأخيرة.
5 - حقق من الكتب الأدبية: التمثيل والمحاضرة للثعالبي، وديوان ابن المقرب، وريحانة الألبا للشهاب الخفاجي، ونفحة الريحانة للمحبي، ودمية القصر للباخرزي.
6 - حقق في اللغة الجزأين الثالث والعشرين من كتاب تاج العروس للزبيدي.
7 - حقق من كتب تراجم الفقهاء طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (بالاشتراك والطبقات السنية في تراجم الحنفية للتميمي) .
8 - يتابع نشر بعض بحوثه في المجلات العلمية والأدبية.(1/260)
مجلة البحوث الإسلامية
محمد الصباغ
أبو داود
حياته وسننه
الإشراف الفني
جمال النهري(1/261)
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فإن الشريعة المطهرة تقوم على المصدرين الخالدين: كتاب الله وسنة رسوله وفيهما الهدى والفلاح. من تمسك بها لم يضل، ولا يدعهما إعراضا عنهما إلا زائغ هالك.
وقد حفظهما الله عز وجل من عدوان المعتدين، وتحريف المغرضين، فتكفل الله سبحانه بحفظ الذكر الحكيم {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) ، وهيأ للسنة رجالا يذبون عنها افتراء المفترين وينقونها عن الزيف والدخيل حتى استبان الصحيح من السقيم واتضحت معالم الطريق. ووصلت إلينا كتب السنة متواترة لأصحابها بعد أن استغرقوا وسعهم وبذلوا جهدهم ولم يدعوا وسيلة من وسائل التثبت والتيقن إلا سلكوها. فجزاهم الله خير الجزاء وأحسن مثوبتهم في دار كرامته.
وإن مما يحق لنا أن نفخر به أعظم الفخر تلك الإنجازات العظيمة التي حققها أولئك العلماء في ميدان التحقيق والتنقيح حتى غدت قواعد المصطلح مثلا يحتذى.
ومن أهم كتب السنة الكتب الستة، وهي: الصحيحان وسنن النسائي وسنن أبي داود وجامع الترمذي وسنن ابن ماجه.
وقد أصبح لهذه الكتب من المنزلة الرفيعة ما جعل بعض العلماء يطلق عليها اسم الصحاح (2) ، ولم يزاحم هذه الكتب إلا مسند أحمد وموطأ مالك وسنن الدارمي، ولكل منها مزية. . . ومهما يكن من أمر فقد غدت هذه الكتب التسعة من أشهر كتب السنة ومصادر لفهم الدين
__________
(1) سورة الحجر الآية 9
(2) '' كشف الظنون '' 1 \ 1004.(1/262)
أصوله وفروعه ومن أجل ذلك فقد حظيت بعناية المسلمين على مر العصور دراسة وشرحا واستنباطا وتخريجا واختصارا وفهرسة. . . .
وبحثي المتواضع هذا محاولة في دراسة " سنن أبي داود " وبيان منزلة هذا الكتاب وذكر خصائصه والتعريف بمؤلفه.
ويقع في بابين:
الأول: في حياته.
الثاني: في سننه.
وأرجو أن يكون كلامي تذكيرا لأهل العلم بواجب خدمة هذه الكتب وحثا لأولي الأهلية على القيام بهذا الواجب، ولعل من أهم مجالات الخدمة التي نتطلبها تخريج أحاديث هذه الكتب وتحقيق الحكم عليها.
وأنا أعرف أن ذلك مطلب ليس يسيرا ولا هينا، ذلك لأن الحديث الواحد قد يكون مرويا بأسانيد متعددة، فإذا كان سنده في كتاب ضعيفا فليس يبعد أن يكون واردا في كتاب آخر معتمدا بسند قوي.
من أجل ذلك ينبغي أن نقرر أن هذا الحديث بهذا السند يستحق هذا الحكم، والذي يخفف من الحرج أمران:
أولهما: عندما نحكم على حديث بأنه ضعيف بسبب ضعف سنده لا نكون قد أخطأنا.
هذا والمشكلة تكون كبيرة عندما ندخل في الدين ما ليس منه أما أن نحكم على حديث بالضعف بسبب ضعف سنده فهذا أمر طبيعي، ويبقى هذا الحكم ساريا حتى نقف على طريق آخر صحيح له. وإذا بذل المرء جهده ومستطاعه كان مأجورا إن شاء الله ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وثانيهما: أنه مما يخفف من الحرج والمشقة أننا إذا جرينا على هذا النهج في الكتب الأخرى نستطيع بوساطة الفهارس العديدة أن نتبين بسهولة بالغة إن كان هذا الحديث مثلا مرويا في كتاب آخر بسند صحيح.
وأحسب أن العقل الإلكتروني يساعد في هذا المجال إن استخدام مساعدة فعالة.
وأنا أسأل الله أن يشرفني بالانضواء تحت لواء الخادمين لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المدافعين عنها العاملين بها إنه سبحانه خير مسؤول.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (1) وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الرياض في 20 صفر سنة 1394 هـ.
محمد بن لطفي بن عبد اللطيف بن ياسين الصباغ
__________
(1) سورة البقرة الآية 201(1/263)
الباب الأول
أبو داود
حياته
عصره
ولد أبو داود في مطلع القرن الثالث الهجري وتوفي في أواخره.
والقرن الثالث هو العصر العلمي الذهبي في تاريخنا كله، وقد أتيح للمؤلف رحمه الله أن يشهد نضج الحضارة الإسلامية في هذا القرن، كما أتيح له أن يعيش هذا العصر الذي ازدحم بالعبقريات والموهوبين الأفذاذ في شتى شؤون الفكر.
ويكفينا للدلالة على ذلك أن نذكر من أعلام هذا القرن الأسماء الآتية:
ففي الحديث:
كان البخاري ومسلم ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل والترمذي والنسائي.
وفي الفقه:
كان الربيع والمزني صاحبا الشافعي وداود الظاهري وغيرهم.
وفي الشعر:
كان علي بن الجهم وابن الرومي والبحتري وابن المعتز.(1/264)
وفي العلم بالأدب:
كان المبرد وابن قتيبة والجاحظ وثعلب والفراء، وغيرهم كثير. وهكذا. .
ولا شك في أن أبا داود كان واحدا من هؤلاء العمالقة الأفذاذ في هذا العصر.
وكانت الحضارة قد بدأت تؤتي ثمارها وتنضج نضجا رائعا ترك أطيب الأثر في حياة المسلمين والدنيا كلها.
وما نزال معجبين بهذه الحضارة التي أينعت ثمارها وامتدت ظلالها في هذا القرن فكان هذا التراث العظيم الذي ما زالت الأجيال وستبقى تعيش مفيدة من مائدته.
ولد أبو داود سنة 202 في ظل الخليفة العباسي العالم المأمون، وإن استعراض أسماء الخلفاء الذين جاءوا إلى سدة الخلافة خلال حياة أبي داود ليشعرنا بفخامة العصر الذي كان فيه.
فبعد المأمون (ت 218) جاء للخلافة للمعتصم (ت 227) ثم الواثق (ت 232) ثم المتوكل (ت 247) ثم المنتصر (ت 248) ثم المستعين (ت 252) ثم المعتز (ت 255) ثم المهتدي (ت 256) ثم المعتمد على الله (ت 279) .
وهذا الأخير حجر عليه أخوه الموفق واستبد بالأمر دونه، ولم يصبح خليفة، وللموفق مع أبي داود أخبار سنذكر طرفا منها فيما بعد.
ومن المعروف أن اضطراب شؤون الدولة العباسية قد بدأ بمقتل المتوكل سنة 247 هـ، فلقد أراد أن يكفكف من غلواء العسكريين الأتراك الذين بدأ تسلطهم أيام المعتصم فلم يفلح.
وإن عصرا هذا وزنه لا نستطيع أن نلم بجميع الجوانب فيه بكلمة مستعجلة.
ويكفينا أن نذكر بشأنه الأمور المقررة الآتية:
1 - التناحر بين أفراد الأسرة الحاكمة كان على أشده.
2 - سيطرة العناصر الأعجمية عموما والتركية خصوصا كان أمرا واضحا.
3 - الثورات في أطراف الدولة الإسلامية.
4 - الثورة في قلب الدولة وفي العراق بصورة خاصة.
5 - الصراع النصراني - الإسلامي في الحدود الشمالية الغربية.
6 - تسلط رجال الفرق الضالة على بعض الخلفاء وممارسة لون من الاستبداد الفكري ومقاومة العلماء وسجنهم.
7 - قيام نزعات فكرية متعددة، وبعضها هدام خطير.(1/265)
ولولا أن الحياة الاجتماعية كانت تسير بوجه عام على سنن الإسلام العظيم، وأن الحياة الفكرية والعلمية كانت تقوم بمهمتها في الهداية والإرشاد وإقامة الحجة على أحقية الإسلام، لكانت الحياة السياسية تلقى لونا قاتما بعض الشيء على هذا العصر الموار.(1/266)
اسمه. نسبه. نسبته
هو أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران الأزدي السجستاني.
وعمران هذا ذكر ابن عساكر وابن حجر أنه قتل مع علي بن أبي طالب بصفين. وأبو داود عربي صميم من الأزد (1) ، والأزد قبيلة معروفة في اليمن (2) .
والسجستاني نسبة إلى البلد سجستان، وهي بكسر السين وفتحها، والكسر أشهر، والجيم مكسورة فيهما (3) ، ولم يذكر ياقوت في " معجم البلدان " إلا كسر السين (4) .
وقد ذكرت الكتب التي ترجمت له أنها بلد يتاخم أطراف مكران والسند، وقررت أنه ما وراء هراة (5) ، وذكر ياقوت أنها ناحية كبيرة وولاية واسعة وأنها جنوبي هراة، ووصف حسن جوها وثمراتها وسكانها وعاداتهم (6) وقد وهم من زعم أن سجستان قرية من قرى البصرة (7) .
وذكر الأستاذ محب الدين الخطيب رحمه الله في مقدمته لكتاب " موارد الظمآن " أن سجستان هي بلاد الأفغان الآن (8) وهي في الحقيقة القسم الجنوبي من بلاد الأفغان.
__________
(1) انظر في '' أمراء البيان '' لمحمد كرد علي ص 503 تحقيقا في هذا الموضوع.
(2) جاء في '' القاموس '': الأزد أبو حي باليمين، ومن أولاده الأنصار كلهم.
(3) انظر '' تهذيب الأسماء واللغات '' للنووي القسم الأول 2 \ 224.
(4) انظر '' معجم البلدان '' لياقوت 3 \ 190.
(5) انظر '' تذكرة الحفاظ '' للذهبي ص 591.
(6) انظر '' معجم البلدان '' 3 \ 190 - 192.
(7) انظر '' وفيات الأعيان '' و '' تذكرة الحفاظ '' و '' معجم البلدان ''.
(8) انظر '' موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان '' للهيثمي ص 18، 3 \ 191 - 192.(1/266)
ويقال له السجستاني والسجزي وهي نسبة على غير القياس قال فيها المنذري: وهو من عجيب التغيير في النسب (1) .
وقيل: السجزي نسبة إلى سجز وهي سجستان (2) .
__________
(1) '' مختصر المنذري لسنن أبي داود '' 1 \ 12.
(2) '' تهذيب الأسماء واللغات '' للنووي 2 \ 224.(1/267)
نشأته
ولد أبو داود سنة 202 هـ كما ذكرنا وتلقى العلم على علماء بلده، ثم ارتحل وطوف بالبلاد في طلب العلم وتحصيل الرواية فزار العراق والجزيرة والشام ومصر وكتب عن علماء هذه البلاد جميعا. قال الخطيب: (وكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين والمصريين والجزريين) (1) .
وليس من شك في أن هذه الرحلات قد وسعت من أفقه وأطلعته على ألوان الثقافة في عصره في كل أنحاء العالم الإسلامي.
والبلاد التي سكنها كثيرة نذكر منها ما وصل إليه علمنا وهي:
سجستان التي كانت بلده والتي نسب إليها، وخراسان، والري (2) وهراة (3) والكوفة التي دخلها سنة 221 كما ذكر الخطيب - (4) ، وبغداد التي قدم إليها مرات، وآخر مرة زارها كانت سنة 271 هـ، وطرسوس التي أقام بها عشرين سنة (5) ودمشق التي سمع الحديث فيها كما يذكر ابن عساكر (6) ، ومصر أيضا، والبصرة التي انتقل إليها بطلب من الأمير أبي أحمد الموفق الذي جاء إلى منزله في بغداد واستأذن عليه ورجاه أن يتخذ البصرة وطنا ليرحل إليه طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بسببه فإنها قد خربت وهجرت وانقطع الناس عنها لما جرى عليه من فتنة الزنج.
__________
(1) '' تاريخ بغداد '' 9 \ 55.
(2) '' تهذيب الأسماء واللغات '' 2 \ 224.
(3) '' تهذيب تاريخ ابن عساكر '' 6 \ 244
(4) '' تاريخ بغداد '' 9 \ 55.
(5) '' تهذيب الأسماء '' 2 \ 224.
(6) '' تهذيب ابن عساكر '' 6 \ 244.(1/267)
وهذا الخبر يدل على أن شهرة أبي داود قد طبقت الآفاق، فالناس يعرفون له قدره وفضله وشهرته، وأحست الدولة بذلك فطلبت إليه أن يرحل إلى البصرة البلدة المنكوبة لتعود إليها الحياة ولتعمر من جديد.
وفي هذا دلالة على طبيعة حضارتنا ومنزلة العلم والعلماء فيها، فإن سكنى مثل أبي داود فيها كان العلاج لرد العمران إلى بلد مخرب مهجور. وهكذا فقد وفق الله أبا داود أن يكون شخصية علمية مرموقة في عصره كان لها أكبر الأثر على الناس في عصره والعصور التي تلت.(1/269)
علمه
كان أبو داود أحد حفاظ الإسلام، وكان من أوسع العلماء معرفة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقهه وعلله ومتونه ورجاله.
ويبدو أن علماء عصره كانوا يعرفون مكانته العلمية الكبرى ويقدرونه حق قدره؛ يدل على ذلك عدد من الأخبار:
منها ما ذكروا من أن أحمد بن حنبل روى عنه حديثا، وكان أبو داود شديد الاعتزاز به.
ومنها ما ذكروا من أن سهل بن عبد الله التستري جاء إلى أبي داود. فقيل: يا أبا داود هذا سهل جاءك زائرا، فرحب به وأجله.
فقال له سهل: يا أبا داود لي إليك حاجة.
قال: وما هي؟
قال: حتى تقول قد قضيتها مع الإمكان.
قال: قد قضيتها مع الإمكان.
قال: أخرج إلي لسانك الذي حدثت به أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبله، فأخرج إليه لسانه فقبله (1) .
وكان علمه متعدد الجوانب، فهو - مع تخصصه في الحديث - فقيه عظيم، وقد عده الشيخ أبو الحسن الشيرازي في طبقات الفقهاء من جملة أصحاب أحمد بن حنبل، وكذا أبو يعلى في.
__________
(1) '' مختصر المنذري '' 1 \ 7 - 8 و '' تهذيب التهذيب '' 4 \ 172 و '' وفيات الأعيان '' 2 \ 404.(1/269)
وأبو داود ناقد كبير، وليس هذا غريبا على إمام من أئمة الحديث، لأن هذا العلم يربي في أتباعه حاسة النقد، وقد استطاع أن يبلغ مستوى راقيا من رهافة الحس ودقة النقد، وسنرى في دراستنا لكتاب " السنن " نماذج من نقده العميق، ولكنني هنا أود أن أشير إلى مجال سبق إليه أبو داود ويحسب بعض الباحثين أنه جديد وأن الأقدمين لم يعرفوه، وذلك هو نقد الكتابة وتقدير عمرها بالنسبة إلى الحبر القديم والحديث، يدل على ذلك خبر جاء في كتاب " الميزان " للحافظ الذهبي وهو:
(قال زكريا بن يحيى الحلواني: رأيت أبا داود السجستاني قد جعل حديث يعقوب بن كاسب وقايات (1) على ظهور كتبه، فسألته عنه فقال: رأينا في مسنده أحاديث أنكرناها، فطالبناه بالأصول، فدافعنا، ثم أخرجها بعد، فوجدنا الأحاديث في الأصول مغيرة بخط طري؛ كانت مراسيل فأسندها وزاد فيها) (2) .
وتقدير العمر بالنسبة للحبر أمر يتصل بتقدير العمر بالنسبة إلى الورق ولا أستبعد أن تكون هناك حوادث من هذا القبيل في حياة صاحبنا العلمية، والله أعلم.
ومما يدل على مكانته العلمية ثناء العلماء عليه وسنذكر بعضه في الفقرة الآتية:
__________
(1) أي أغلفة يغلف بها الكتب.
(2) '' الميزان '' للذهبي 4 \ 451.(1/270)
ثناء العلماء عليه
كان الثناء عليه من قبل المعاصرين له والذين جاءوا من بعده منصبا على ناحيتين:
سعة علمه ودقة تحقيقه.
وكرم أخلاقه وتقواه.
فلقد كان - رحمه الله - مثلا عاليا في صفتي المحدث القوي وهما العدالة والضبط.
وسنورد شذرات من أقوالهم.
1 - قال أبو بكر الخلال:.
أبو داود سليمان بن الأشعث، الإمام المقدم في زمانه رجل لم يسبقه إلى معرفته بتخريج العلوم، وبصره بمواضعها أحد في زمانه، رجل ورع مقدم (1) .
__________
(1) '' تاريخ بغداد '' 9 \ 57 و '' تهذيب التهذيب '' 4 \ 172 و '' تهذيب ابن عساكر '' 6 \ 244.(1/270)
2 - وقال أحمد بن محمد بن ياسين الهروي:
سليمان بن الأشعث أبو داود السجزي، كان أحد حفاظ الإسلام لحديث رسول الله وعلمه وعلله وسنده، في أعلى درجة النسك والعفاف والصلاح والورع، كان من فرسان الحديث.
3 - وقال إبراهيم الحربي:
ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود النبي عليه السلام الحديد.
4 - وهذه الكلمة رويت أيضا عن أبي بكر الصغاني.
5 - وقال موسى بن هارون الحافظ (1) :
خلق أبو داود في الدنيا للحديث، وفي الآخرة للجنة. ما رأيت أفضل منه (2) .
6 - وقال علان بن عبد الصمد:
كان من فرسان هذا الشأن (3) . 7 - وقال أبو حاتم بن حبان (4) :
كان أحد أئمة الدنيا فقها وعلما وحفظا نسكا وورعا وإتقانا، جمع وصنف وذب عن السنن (5) .
8 - وقال أبو عبد الله بن منده (6) :
الذين أخرجوا وميزوا الثابت من المعلول والخطأ من الصواب أربعة: البخاري ومسلم، وبعدهما أبو داود والنسائي (7) .
9 - وقال الحاكم:
أبو داود إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة (8) .
__________
(1) هو الحافظ موسى بن هارون الحمال البغدادي البزاز توفي سنة 294 هـ، (وانظر '' تذكرة الحفاظ '' 669) .
(2) '' طبقات الشافعية '' 2 \ 293، '' تهذيب التهذيب '' 4 \ 172، '' تهذيب ابن عساكر '' 6 \ 244.
(3) '' تهذيب التهذيب '' 4 \ 172، '' تهذيب الأسماء واللغات '' 2 \ 224.
(4) هو أبو حاتم محمد بن حبان البستي الشافعي صاحب '' الصحيح '' توفي سنة 354 هـ.
(5) '' تهذيب التهذيب '' 4 \ 172، و '' الخلاصة '' للخزرجي ص 127.
(6) هو أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده الحافظ المتوفى سنة 396 هـ.
(7) '' تهذيب التهذيب '' 4 \ 172.
(8) '' تهذيب التهذيب '' 4 \ 172.(1/271)
10 - وقال محمد بن مخلد:
كان أبو داود يفي بمذاكرة مائة ألف حديث وأقر له أهل زمانه بالحفظ (1) .
11 - وقال ابن ماكولا:
هو إمام مشهور (2) .
12 - 13 - وكان إبراهيم الأصبهاني وأبو بكر بن صدقة (3) يرفعان من قدره بما لا يذكران أحدا في زمانه مثله (4) .
14 - وقال الذهبي (5) :
وبلغنا أن أبا داود كان من العلماء حتى إن بعض الأئمة قال: كان أبو داود يشبه بأحمد بن حنبل في هديه ودله وسمته، وكان أحمد يشبه في ذلك بوكيع، وكان وكيع يشبه في ذلك بسفيان، وسفيان بمنصور، ومنصور بإبراهيم، وإبراهيم بعلقمة، وعلقمة بعبد الله بن مسعود. وقال علقمة: كان ابن مسعود يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه ودله (6) .
ولم يرض السبكي في " طبقاته " أن يمضي بالسلسلة إلى نهايتها، بل اختار الوقوف عند ابن مسعود (7) .
ونقل ابن العماد عن الذهبي أيضا قوله في أبي داود:
كان رأسا في الحديث، رأسا في الفقه، ذا جلالة وحرمة وصلاح وورع حتى إن كان يشبه بأحمد (8) .
15 - وقال ابن الجوزي (9) :
كان عالما حافظا عارفا بعلل الحديث، ذا عفاف وورع وكان يشبه بأحمد بن حنبل (10) .
وسيمر بنا عند الكلام على " السنن " مزيد من الثناء على أبي داود وشهادات أهل العلم بفضله.
__________
(1) '' تهذيب التهذيب '' 4 \ 172.
(2) '' تهذيب ابن عساكر '' 6 \ 244.
(3) هو الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الله بن صدقة البغدادي توفي سنة 293.
(4) '' تهذيب ابن عساكر '' 6 \ 244 و '' تهذيب التهذيب '' 4 \ 171.
(5) هو الإمام الحافظ مؤرخ الإسلام الناقد محمد بن عثمان الذهبي الشافعي الدمشقي توفي سنة 748 هـ.
(6) '' تذكرة الحفاظ '' ص 592.
(7) '' طبقات الشافعية '' 2 \ 296.
(8) '' شذرات الذهب '' 2 \ 167.
(9) هو عبد الرحمن بن علي إمام مشهور كثير التصنيف توفي سنة 597.
(10) '' المنتظم '' 5 \ 97.(1/272)
أساتذته
إن الحديث عن أساتذته لا يتسع له صدر هذا المقال لأن عددهم كبير، وقد ذكر ابن حجر أن شيوخه في " السنن " وغيرها من كتبه نحو من 300 نفس (1) .
وقد ألف العلماء في شيوخه المؤلفات، وكل كتب الرجال التي تحدثت عن رجال الكتب الستة تحدثت عن أساتذة أبي داود وسنورد أسماء بعضهم فيما يلي.
فمنهم: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعثمان بن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وأبو عمرو الحوضي، ومسلم بن إبراهيم، وسليمان بن حرب، وأبو الوليد الطيالسي، وموسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي، وعبد الله بن مسلمة القعنبي، وهناد بن السري، ومخلد بن خالد، وقتيبة بن سعيد، ومسدد بن مسرهد، ومحمد بن بشار، وزهير بن حرب، ومحمد بن المثنى، وعمرو بن محمد الناقد، وسعيد بن منصور، وحميد بن مسعدة، وحفص بن عمر وهو أبو عمر الضرير، وتميم بن المنتصر، وحامد بن يحيى، وإسحاق بن إسماعيل الطالقاني.
ولن نستطيع أن نترجم لهؤلاء جميعا وقد تعمدت أن أذكر المشهورين لتغني شهرتهم عن التعريف بهم.
وليس غريبا أن يكون عدد من أساتذته عمالقة علماء أفذاذا لأن طبيعة العصر الذي كان فيه أبو داود تقتضي أن يكون هناك نماذج من هذا النوع، كما سبق أن أشرت إلى ذلك عند حديثي عن عصره. وكثرة الأساتذة أمر معروف معهود في تاريخنا الفكري (2) .
وينبغي أن نخص واحدا من أساتذته بإشارة لا بد منها وهو الإمام أحمد بن حنبل، فقد تكرر ذكره كثيرا في أخبار أبي داود، وقد اتصل به ورافقه، وعرض عليه " سننه " فاستجادها، وكان يسأله أبو داود كثيرا عن أمور الدين وشؤون الحديث، وقد بلغ من اهتمام أبي داود بأجوبة شيخه أحمد أن ألف كتابا جمع فيه الأسئلة التي ألقيت على الإمام أحمد وأجوبته عليها. وقد طبع هذا الكتاب بعنوان " مسائل أحمد ".
وذكر العلماء في ترجمة أبي داود كثيرا من هذه الأسئلة التي كان أبو داود نفسه يتوجه بها إلى الإمام أحمد، أو الأسئلة التي كانت تطرح عليه بحضوره. فمن ذلك ما ذكره أبو يعلى أن أبا داود قال:
سمعت أحمد سئل عن القراءة في فاتحة الكتاب: (ملك) أو (مالك) ؟ يعني: أيهما أحب إليك؟ قال: (مالك) أكثر ما جاء في الحديث (3) فهذا سؤال سمعه فحفظه ورواه.
__________
(1) '' تهذيب التهذيب '' 4 \ 172.
(2) انظر كلامي في فائدة تعدد الأساتذة في مقدمة '' الباعث على الخلاص '' ص 92، 93.
(3) '' طبقات الحنابلة '' 1 \ 161.(1/273)
ونجده يصرح أحيانا بأنه هو الذي سأل الإمام أحمد كما في المثال الآتي:
قال أبو داود: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: أرى رجلا من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة أترك كلامه؟
قال: لا، أو تعلمه أن الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة. فإن ترك كلامه فكلمه، وإلا فألحقه به.
قال ابن مسعود: " المرء بخدنه " (1) .
وكثيرا ما يذكر في كتابه " السنن " مثل هذه الأسئلة التي كان يتوجه بها إلى الإمام أحمد (2) .
وقد ينقل قوله دون أن يكون هذا القول جوابا لسؤال سائل كما ذكر أبو يعلى:
قال أبو داود: سمعت أبا عبد الله يقول: من قال إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر (3) .
وهذا كثير الورود في " السنن " أيضا.
ويظهر أن إعجابه البالغ بأحمد وحبه الكبير له كان يحمله على أن يتشبه به حتى رأينا بعض العلماء يذكر تشبهه بأحمد، وهذا مشاهد عند الطلبة المعجبين بأستاذهم، فتراهم يقلدونه حتى في نبرات صوته وسلوكه، مظهره.
__________
(1) '' طبقات الحنابلة '' 1 \ 160 و '' المنهج الأحمد '' 1 \ 175.
(2) انظر فصل تعليقات أبي داود في دراستنا هذه.
(3) '' طبقات الحنابلة '' 1 \ 161.(1/274)
تلاميذه
روى عنه خلق كثير من العلماء الأئمة؛ نذكر المشهورين منهم، من أمثال الإمام أحمد بن حنبل الذي روى عنه حديثا واحدا كان أبو داود يعتز بذلك جدا (1) .
ومنهم الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، والإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، والإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال، ومنهم إسماعيل بن محمد الصفار، وأبو بكر بن داود الأصفهاني، وحرب بن إسماعيل الكرماني، وأبو عوانة الاسفراييني، وزكريا الساجي، وأبو بشر محمد بن أحمد الدولابي، ومحمد بن نصر المروزي، وأبو بكر محمد بن يحيى الصولي.
__________
(1) '' تاريخ بغداد '' 9 \ 55، و '' الخلاصة '' ص 127.(1/274)
ومن تلامذته رواة السنن عنه وعددهم تسعة ذكر الذهبي (1) والسبكي (2) سبعة منهم. وزاد ابن حجر راويين هما أبو الطيب أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الأشناني، وأبو عيسى إسحاق بن موسى بن سعيد الرملي وراقه. أما الرواة السبعة الذين ذكرتهم معظم المصادر فهم:
- أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي.
- وأبو بكر محمد بن بكر بن عبد الرازق بن داسة التمار.
- وأبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي.
- وأبو الحسن علي بن الحسن بن العبد الأنصاري.
- وأبو أسامة محمد بن عبد الملك الرؤاسي.
- وأبو سالم محمد بن سعيد الجلودي.
- وأبو عمرو أحمد بن علي بن الحسن البصري.
__________
(1) '' طبقات الحفاظ '' 591.
(2) '' طبقات الشافعية '' 2 \ 293.(1/275)
وضعه الاجتماعي والمنزلي
كان الرجل يتمتع بمنزلة اجتماعية مرموقة، وقد اكتسب شهرة قليلة النظير، وشاع كتابه في حياته، وكان الطلبة يؤمون منزله من كل مكان.
وكانت له مخالطة طيبة للعلماء في كل الأمصار، ويكفينا في الدلالة على ذلك ما ذكرناه في مبحث أساتذته، كما كانت له صلة قائمة على الاحترام مع الحكام، ويكفينا في الدلالة على ذلك أن يقوم رجل الدولة الأول الموفق بزيارته وأن يطلب منه ما يطلب لعمارة البصرة كما أشرنا. وكان الرجل متزوجا وله أولاد من أشهرهم ابنه عبد الله.
ويبدو أنه كان حريصا أشد الحرص على أن يطلب أولاده العلم في وقت مبكر، ولذلك فقد كان يأخذهم معه ليحضروا مجالس العلم وليسمعوا.
نقل ياقوت عن ابن عساكر خبرا يرويه عن الحسن بن بندار قال: (كان أحمد بن صالح يمتنع(1/275)
على المرد من رواية الحديث لهم تعففا وتنزها ونفيا للمظنة عن نفسه. وكان أبو داود يحضر مجلسه ويسمع منه، وكان له ابن أمرد يحب أن يسمع حديثه، وعرف عادته في الامتناع عليه من الرواية، فاحتال أبو داود بأن شد على ذقن ابنه قطعه من الشعر ليتوهم أنه ملتح، ثم أحضره المجلس وأسمعه جزءا.
فأخبر الشيخ بذلك، فقال لأبي داود: أمثلي يعمل معه هذا؟
فقال له: أيها الشيخ لا تنكر علي ما فعلته واجمع أمردي هذا مع شيوخ الفقهاء والرواة فإن لم يقاومهم بمعرفته فاحرمه حينئذ من السماع عليك.
قال: فاجتمع طائفة من الشيوخ، فتعرض لهم هذا الأمرد مطارحا، وغلب الجميع بفهمه، ولم يرو له الشيخ مع ذلك من حديثه شيئا. وحصل له ذلك الجزء الأول (1) .
وذكروا في بعض أخباره ما ينبئ عن اتخاذه بعض الخدم، ومنهم أبو بكر بن جابر خادمه الذي روى حديث مقابلة الموفق له.
__________
(1) '' معجم البلدان '' 3 \ 192 طبعة بيروت سنة 1376 هـ - 1957 م.)(1/276)
أخلاقه وصفاته
كان أبو داود رجلا كبيرا ذا خلق كريم. كان صالحا عابدا ورعا، وكان ذكيا مجدا دؤوبا كثير الاحتمال لمشاق الارتحال وطلب العلم، وكان يقظا شديد الانتباه يعرف الناس على حقيقتهم ولا تنطلي عليه وسائل الخداع، وكان أبيا كريم النفس، وكان جريئا في الحق أمينا على رسالة العلم قائما بحق الدين. وسأورد فيما يلي أخبارا تدل على صراحته في الحق وجرأته في قوله، لا يخاف في ذلك لومة لائم، وسيمر بنا أيضا في دراسة " السنن " أمثلة عديدة على ذلك في موضوع جرح الرجال.
وقد خصصت هذا الخلق بالبيان لأنه الخلق الذي أعتقد أنه من أهم صفات العلماء، ولأن الناس يعانون الكثير من فقد الخلق في حياتهم وعند نفر من العلماء، ويشهدون كم تجر المجاملة التي يتصف بها كثير من الناس من الولايات على الدين والعلم والحق.(1/276)
والعلماء يمثلون القيادة الفكرية للأمة، والقوة الموجهة التي تحول بين الجماهير والانحراف والفساد، فإذا فقدوا فضيلة الصراحة في الحق والجرأة في إلقاء الكلمة المؤمنة الصادقة كان إيذاء ذلك شديدا.
وكانت عاقبة ذلك دمارا للأمة ولكل معاني الخير فيها.
فمن أجل ذلك رأيت أن أضرب بعض الأمثلة على أصالة هذا الخلق العظيم في سيرة هذا الإمام العظيم: ذكر أبو يعلى (أن محمد بن علي الآجري قال:
قلت لأبي داود: أيهما أعلى عندك: علي بن الجعد أو عمرو بن مرزوق؟
قال: عمرو أعلى عندنا. علي بن الجعد وسم بميسم سوء قال: " وما يسؤوني أن يعذب الله معاوية "
وقال: " ابن عمر ذاك الصبي ") (1) .
فأبو داود يعلن رأيه بصراحة، ويجرح علي بن الجعد ويذكر سبب الجرح وهو وقوعه في الصحابة، إذ أن كلمته في معاوية تدل على شيء من الكراهية لبعض الصحابة أو عدم اهتمام على أقل تقدير، وذلك عندما يقرر أنه لا يسؤوه أن يعذب الله معاوية رضي الله عنه، وكذلك فإن قوله عن ابن عمر إنه صبي فيه ما يدل على قلة احترام للصحابة وعلى التهوين من شأنهم.
ومن الأمثلة الرائعة على جرأته في الحق ومواجهته الحكام بما يعتقد سواء وافق رغبتهم أم لم يوافق ما رواه خادمه أبو بكر بن جابر الذي قال:
كنت معه ببغداد، فصلينا المغرب إذ قرع الباب، ففتحته فإذا خادم يقول: هذا الأمير أبو أحمد الموفق يستأذن. فدخلت إلى أبي داود فأخبرته بمكانه، فأذن له، فدخل، وقعد، ثم أقبل عليه أبو داود وقال:
ما جاء بالأمير في مثل هذا الوقت؟
فقال: خلال ثلاث.
فقال: وما هي؟
قال: تنتقل إلى البصرة فنتخذها وطنا ليرحل إليك طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بك، فإنها قال خربت، وانقطع عنها الناس لما جرى عليها من محنة الزنج.
__________
(1) طبقات الحنابلة '' 1 \ 159.(1/277)
فقال: هذه واحدة. هات الثانية.
قال: وتروي لأولادي كتاب " السنن "؟
فقال: نعم. هات الثالثة.
قال: وتفرد لهم مجلسا للرواية، فإن أولاد الخلفاء لا يقعدون مع العامة.
فقال: أما هذه فلا سبيل إليها، لأن الناس شريفهم ووضيعهم في العلم سواء.
قال ابن جابر: فكانوا يحضرون بعد ذلك ويقعدون وبينهم وبين الناس ستر فيسمعون مع العامة -.
ومن الأمثلة التي تدل على جرأته وقوله الحق دون مراعاة لقرابة أو صلة موقفه من ابنه أبي بكر عبد الله صاحب التصانيف.
فقد قال عنه: " ابني عبد الله كذاب " - (1)
__________
(1) '' الميزان '' 2 \ 433.(1/278)
ملابسه
يبدو أن الرجل كان يخترع في كيفية خياطة الملابس ما يتلاءم وحياته، فهو قد وقف نفسه على العلم، فكل ما يساعده من اللباس على حمل كتب واصطحابها فهو اللباس الجيد، لأن العلم أضحى عنده هو كل شيء؛ ذكروا أنه كان له كم واسع وضيق، ولما سئل قال: الواسع للكتب والآخر لا نحتاج إليه - (1) .
وما سأله السائل عنه إلا لأنه شيء غريب لم يؤلف.
__________
(1) '' وفيات الأعيان '' 2 \ 404 و '' تهذيب ابن عساكر '' 6 \ 244.(1/278)
أقواله
كان الرجل حكيما، وليس ذلك بمستغرب على من اجتمعت فيه هذه الأوصاف التي أشرنا إليها آنفا، وصاحب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم جدير بأن تفيض الحكمة على لسانه.
وقد ذكرت الكتب التي ترجمت له بعض هذه الجمل المأثورة الجميلة. فمن ذلك قوله:
" الشهوة الخفية حب الرئاسة. -.
وقوله:
خير الكلام ما دخل الأذن بدون إذن (1) .
وقوله:
من اقتصر على لباس دون ومطعم دون أراح جسده - (2) .
وهذه الأقوال وغيرها مما يدل على حكمة رصينة انتهى إليها المؤلف بعد علم ونظر وتمرس بالحياة الفاضلة.
ومما يدل على سيرته وعلى بصره بالعلم العملي وفقهه الحق في الدين قوله متحدثا عن كتابه السنن " جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه وما يقاربه. ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أحاديث أحدها قوله صلى الله عليه وسلم: «الأعمال بالنيات (3) » .
وقوله صلى الله عليه وسلم «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه (4) » .
والثالث قوله صلى الله عليه وسلم «لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه (5) » .
والرابع قوله صلى الله عليه وسلم «الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات (6) » .
__________
(1) '' تذكرة الحفاظ '' ص 591.
(2) '' تهذيب ابن عساكر '' ص 6 \ 44.
(3) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/25) .
(4) سنن الترمذي الزهد (2317) ، سنن ابن ماجه الفتن (3976) .
(5) صحيح البخاري الإيمان (13) ، صحيح مسلم الإيمان (45) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2515) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5016) ، سنن ابن ماجه المقدمة (66) ، سنن الدارمي الرقاق (2740) .
(6) وسيمر بنا هذا القول ص 238؛ والحقيقة أن هذه الأحاديث من النصوص الثابتة التي جمعت صنوف الخير وأصول الأحكام وأسباب السعادة الدينية والدنيوية.(1/279)
وفاته
توفي أبو داود رحمه الله يوم الجمعة 15 شوال من سنة 275 بالبصرة، ودفن إلى جانب قبر سفيان الثوري بعد أن قدم خدمات جليلة لدينه وأمته وللثقافة الإسلامية.(1/279)
كتبه
1 - المراسيل:
وقد طبع في القاهرة سنة 1310 هـ.
ومخطوطاته موجودة في تركيا ومصر وغيرهما، وقد ذكرها سزكين في " تاريخ التراث العربي " - (1) .
2 - مسائل الإمام أحمد:
وهي مرتبة على أبواب الفقه، يذكر فيها أبو داود السؤال الموجه لأحمد وجوابه عليها، وهو كتاب جليل من الناحية الفقهية ينقل لنا بدقة وأمانة آراء الإمام أحمد بن حنبل، وطبع في القاهرة بتحقيق السيد رشيد رضا، وأعيد تصويره في بيروت مؤخرا.
وقد ذكرته معظم الكتب التي ترجمت لأبي داود أو عنيت بإحصاء تراثنا الإسلامي انظر (2) ، وذكر ابن حجر أن أبا عبيد محمد بن علي بن عثمان الآجري الحافظ هو راوي المسائل عنه (3) .
3 - الناسخ والمنسوخ:
ذكر ابن حجر أن راوي هذا الكتاب عنه (4) أبو بكر أحمد بن سليمان النجار. ونقل السيوطي عن هذا الكتاب (5) وذكره إسماعيل البغدادي بعنوان " ناسخ القرآن ومنسوخه " (6) ".
4 - إجاباته عن سؤالات أبي عبيد محمد بن علي بن عثمان الآجري:
قال ابن كثير: ولأبي عبيد الآجري عنه " أسئلة في الجرح والتعديل والتصحيح والتعليل " كتاب مفيد (7) وذكرها سزكين بعنوان: " سؤالات أجاب عنها أبو داود في معرفة الرجال وجرحهم وتعديلهم " وذكر أنها موجودة في كوبريلي وباريس (8) . وذكر أن ابن حجر استخدم هذه الرسالة كثيرا في " تهذيب التهذيب " (9) .
__________
(1) انظر '' تاريخ التراث العربي '' ص 388.
(2) '' هدية العارفين '' 1 \ 395.
(3) '' تهذيب التهذيب '' 4 \ 170.
(4) '' تهذيب التهذيب '' 4 \ 170.
(5) '' تحذير الخواص '' ص 191.
(6) '' هدية العارفين '' 1 \ 395.
(7) '' مختصر علوم الحديث '' لابن كثير ص 41.
(8) '' تاريخ التراث العربي '' لسزكين ص 417.
(9) تاريخ التراث العربي '' لسزكين ص 417.(1/280)
5 - رسالته في وصف كتاب " السنن ":
وحققتها ونشرتها في مجلة أضواء الشريعة في الرياض العدد الخامس سنة 1394 هـ ثم نشرتها مفردة دار العربية في بيروت، وقد سبق أن نشرت في مصر سنة 1369 ومخطوطتها في المكتبة الظاهرية في دمشق (1) .
6 - كتاب الزهد:
وتوجد منه نسخة بالقرويين بفاس كما أشار إلى ذلك الأستاذ سزكين (2) .
7 - تسمية الإخوة الذين روي عنهم الحديث:
وهي رسالة من ثماني ورقات محفوظة في المكتبة الظاهرية بدمشق، وهي من رواية السلفي، ومكتوبة بخط مغربي كما ذكر ذلك الأستاذ ناصر الدين الألباني (3) وذكر الأستاذ أكرم العمري هذه الرسالة بعنوان " تسمية الإخوة من أهل الأمصار " وقال:
(وقد استفاد أبو داود في تصنيف رسالته " تسمية الإخوة " مما قرأه في كتاب علي بن المديني بخطه، كما استفاد من طريقته في تنظيم المادة، فنجده يرتب الإخوة الذين روي عنهم الحديث على المدن، وقد اكتفى أبو داود بتجريد الأسماء ولم يقتصر على ذكر الصحابة، بل ذكر من تلاهم أيضا " (4) .
وذكر الأستاذ العمري في تعليقه في الصفحة نفسها (5) أن الرسالة تقع في 7 ورقات وأن الورقة 24 سطرا وأنها مكتوبة بخط ناعم، وذكر سزكين أنها مكتوبة في القرن السادس الهجري (6) .
8 - أسئلة لأحمد بن حنبل عن الرواة والثقات والضعفاء:
قال الأستاذ الشيخ محمد ناصر الدين الألباني:
(رتبت أسماؤهم على أسماء بلادهم، ثقات مكة، ثقات المدينة. . .، وينتهي بضعفاء المدينة.) " فهرس مخطوطات الظاهرية " ص 161. وهي نسخة ناقصة من أولها، وموجودة في الظاهرية " فهرس مخطوطات الظاهرية " ص 161. .
9 - كتاب القدر:
وذكر ابن حجر في " تهذيب التهذيب " باسم " الرد على أهل القدر " وذكر أن راوي هذا الكتاب عنه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يعقوب المتوثي البصري (7) .
__________
(1) '' فهرس مخطوطات الظاهرية '' للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ص 161.
(2) '' تاريخ التراث العربي '' ص 388.
(3) '' فهرس مخطوطات الظاهرية '' ص 161.
(4) '' بحوث في تاريخ السنة '' ص 65.
(5) '' بحوث في تاريخ السنة '' ص 65.
(6) '' تاريخ التراث العربي '' ص 388.
(7) '' تهذيب التهذيب '' 4 \ 170.(1/281)
وقال سزكين: اقتبس منه ابن حجر في كتابه " الإصابة " (1) .
10 - كتاب البعث والنشور:
ذكره بروكلمان وذكر أنه موجود في دمشق (2) .
11 - المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد:
ذكره سزكين وقال: إنه موجود في دمشق (3) .
12 - دلائل النبوة:
ذكره إسماعيل البغدادي (4) وابن حجر في " تهذيب التهذيب " (5) .
13 - التفرد في السنن:
ذكره إسماعيل البغدادي (6) .
14 - فضائل الأنصار:
ذكره ابن حجر في مقدمة كتابه " تقريب التهذيب " (7) .
15 - مسند مالك:
ذكره ابن حجر في مقدمة كتابه " تقريب التهذيب " (8) .
16 - الدعاء: ذكره ابن حجر في مقدمة " تهذيب التهذيب " (9) .
17 - ابتداء الوحي: ذكره ابن حجر في مقدمة " تهذيب التهذيب " (10) .
18 - أخبار الخوارج: ذكره ابن حجر في مقدمة " تهذيب التهذيب " (11) .
__________
(1) '' تاريخ التراث العربي '' ص 389.
(2) '' تاريخ الأدب العربي '' 3 \ 189.
(3) '' تاريخ التراث العربي '' ص 388.
(4) '' هدية العارفين '' 1 \ 390.
(5) '' تهذيب التهذيب '' 1 \ 6.
(6) '' هدية العارفين '' 1 \ 390.
(7) '' تقريب التهذيب '' 1 \ 7.
(8) '' تقريب التهذيب '' 1 \ 7.
(9) '' تهذيب التهذيب '' 1 \ 6.
(10) '' تهذيب التهذيب '' 1 \ 6.
(11) '' تهذيب التهذيب '' 1 \ 6.(1/282)
الباب الثاني:
سنن أبي داود
هذا الكتاب من أهم كتب الإسلام كما أسلفنا، وهو أحد الكتب الستة التي تقبلتها الأمة بقبول حسن، وسنحاول في هذا الباب دراسته والتعرف لأهم خصائصه وشروحه ومختصراته، ومن ثم نتعرف إلى منزلته.
اسم الكتاب
الاسم المعروف به هو " السنن " ويبدو " أن المؤلف نفسه سماه بهذا الاسم، نستدل على ذلك من قوله في رسالته إلى أهل مكة: (فإنكم سألتم أن أذكر لكم الأحاديث التي في كتاب " السنن " أهي أصح ما عرفت في الباب؟) (1) .
وقوله في الرسالة المذكورة أيضا: (وإن من الأحاديث في كتابي " السنن " ما ليس بمتصل، وهو مرسل. . .) (2) .
وكذلك فإن العلماء على مر العصور كانوا يدعون كتابه بالسنن.
__________
(1) انظر '' رسالة أبي داود '' بتحقيقنا ص 22 نشر دار العربية بيروت.
(2) '' رسالة أبي داود '' ص 30.(1/283)
ومن المفيد أن نتعرف إلى مدلول كلمة " السنن ":
السنن جمع سنة وهي لغة: الطريقة المسلوكة المتبعة. والسنة عند جمهور العلماء ترادف الحديث وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره وصفته، وقد ذهب بعضهم إلى أن هناك فرقا بين الكلمتين، وهو أن السنة هي الواقع العملي لمجتمع الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، ويتضح هذا التفريق في مثل قول عبد الرحمن بن مهدي عندما سئل عن سفيان بن عيينة ومالك والأوزاعي.
فقال: الأوزاعي إمام في السنة وليس بإمام في الحديث، وسفيان إمام في الحديث وليس بإمام في السنة ومالك إمام فيهما.
وقد فرق بعضهم بين الكلمتين تفريقا قريبا من هذا فذهب إلى أن الحديث قول النبي وفعله وتقريره ووصفه.
أما السنة فهي التي تعني حكما تشريعيا سواء روي فيه كلام أم لا.
وهناك استعمال خاص للسنن وهو أوثق صلة بموضوع بحثنا، وقد ذكره الكتاني في كتابه القيم " الرسالة المستطرفة " فقال:
وهي في اصطلاحهم الكتب المرتبة على الأبواب الفقهية من الإيمان والطهارة والصلاة والزكاة، وليس فيها شيء من الموقوف، لأن الموقوف لا يسمى في اصطلاحهم سنة، ويسمى حديثا) (1) .
وهكذا فإن كتب السنن ينبغي أن تتوافر فيها الأمور الآتية:
1 - أن تكتفي بذكر الأحاديث وألا يذكر فيها شيء من الآثار.
2 - أن تكون هذه الأحاديث متعلقة بالأحكام.
3 - أن ترتب الأحاديث على أبواب الفقه (2) .
ومن هنا يتضح لنا لماذا سمي كتابه السنن، فذلك لأنه جمع أحاديثه من وجهة فقهية فلم يضمنه غير أحاديث الفقه والتشريع، مما ورد في الأخلاق والأخبار والزهد ونحو ذلك (3) . قال في " رسالته إلى أهل مكة ":
(وإنما لم أصنف في كتاب السنن إلا الأحكام، ولم أصنف كتب الزهد وفضائل الأعمال وغيرها) (4) .
ونقل بعضهم ممن لا علم لديهم ولا تحقيق عن القرطبي أنه سمى كتاب أبي داود في تفسيره " مصنف أبي داود "، وما أظنه إلا أنه يريد بذلك كتابه وليست تلك تسمية جديدة.
__________
(1) '' رسالة المستطرفة '' ص 32.
(2) '' الحديث النبوي '' ص 199.
(3) '' تاريخ الأدب العربي '' 3 \ 186.
(4) '' رسالة أبي داود '' ص 34.(1/284)
وقد يطلقون على كتاب أبي داود ونحوه لفظ الصحاح، قال حاجي خليفة ينقل عن ابن السبكي قوله في " سنن أبي داود ":
(وهي من دواوين الإسلام، والفقهاء لا يتحاشون من إطلاق لفظ الصحاح عليها وعلى سنن الترمذي، ولا سيما سنن أبي داود) (1) .
وقد جاء في كلام لأبي داود نقله محمد بن صالح الهاشمي ما قد يفيد أنه سماه " المسند " قال أبو داود: (أقمت بطرسوس عشرين سنة أكتب المسند، فكتبت أربعة آلاف حديث) (2) ولعله لا يريد بالمسند الاسم الخاص المصطلح عليه.
__________
(1) '' كشف الظنون '' 2 \ 1004 و '' طبقات الشافعية ''.
(2) '' تهذيب الأسماء واللغات '' للنووي 2 \ 224 وقد سبق أن ورد هذا الخبر ص 228 وسيرد ص 238.(1/285)
هل هو أول من صنف السنن
ذهب بعضهم إلى أن أبا داود هو أول من صنف في السنن قال الأستاذ الكتاني: (وهو أول من صنف في السنن، وفيه نظر يتبين مما يأتي) (1) .
ومهما يكن من أمر فإن من المؤكد أن أبا داود كان من السابقين إلى التأليف في هذا المجال؛ ذلك لأن مجرد اختلاف العلماء في كونه أول من صنف في السنن يدل بوضوح على سبقه في ذلك الصدد.
ومن الصعب دائما الجزم بالأوليات، ويغلب على من يتشدد ويذهب مذهبا معينا في الجزم يغلب عليه أنه يقع في الغلط.
ويذهب الخطابي إلى أن أبا داود لم يسبق إلى الإجادة في جمع السنن فقال: (فأما السنن المحضة فلم يقصد واحد منهم جمعها واستيفاءها ولم يقدر على تخليصها واختصار مواضعها من أثناء تلك الأحاديث الطويلة ومن أدلة سياقها على حسب ما اتفق لأبي داود) (2) .
وقال الخطابي أيضا: (وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدما ما، سبقه إليه ولا متأخرا لحقه فيه) (3) .
__________
(1) '' الرسالة المستطرفة '' ص 11.
(2) '' معالم السنن '' 1 \ 11.
(3) '' معالم السنن '' 1 \ 13.(1/285)
ثناء العلماء على السنن
لن أستطيع الحصر ولا الاستقصاء لو أردت أن أذكر كل ما قيل في الثناء على هذا الكتاب العظيم ولذلك فسأكتفي بإيراد بعض الكلمات لأشهر العلماء:
* قال أبو زكريا الساجي:
كتاب الله أصل الإسلام، وكتاب " السنن " لأبي داود عهد الإسلام. (1) .
* وقال محمد بن مخلد:
لما صنف أبو داود " السنن " وقرأه على الناس صار كتابه لأهل الحديث كالمصحف يتبعونه، وأقر له أهل زمانه بالحفظ فيه (2) .
* وقال ابن الأعرابي وأشار إلى النسخة وهي بين يديه:
لو أن رجلا لم يكن عنده من العلم إلا المصحف الذي فيه كتاب الله ثم هذا الكتاب لم يحتج معهما إلى شيء من العلم البتة. (3) .
وعلق الخطابي على كلمة ابن الأعرابي هذه فقال:
(وهذا - كما قال - لا شك فيه، لأن الله تعالى أنزل كتابه تبيانا لكل شيء وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (4) فأخبر سبحانه أنه لم يغادر شيئا من أمر الدين لم يتضمن بيانه الكتاب، إلا أن البيان على ضربين:
بيان جلي تناوله الذكر نصا، وبيان خفي اشتمل عليه معنى التلاوة ضمنا؛ فما كان من هذا الضرب كان تفصيل بيانه موكولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو معنى قوله سبحانه {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (5) فمن جمع بين الكتاب والسنة فقد استوفى وجهي البيان، وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدما سبقه إليه ولا متأخرا لحقه فيه (6) .
__________
(1) '' تهذيب ابن عساكر '' 6 \ 244 '' طبقات الشافعية '' للسبكي.
(2) تهذيب الأسماء واللغات '' 2 \ 224.
(3) '' معالم السنن '' 1 \ 12.
(4) سورة الأنعام الآية 38
(5) سورة النحل الآية 44
(6) '' معالم السنن '' 1 \ 12 - 13.)(1/286)
وقال الخطابي أيضا:
(كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنف في علم الدين كتابه مثله، وقد رزق القبول من الناس كافة فصار حكما بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم فلكل فيه ورد ومنه شرب، وعليه معول أهل العراق وأهل مصر وبلاد المغرب وكثير من مدن أقطار الأرض. فأما أهل خراسان فقد أولع أكثرهم بكتابي محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج (1) ومن نحا نحوهما في جمع الصحيح على شرطهما في السبك والانتقاد، إلا أن كتاب أبي داود أحسن رصفا وأكثر فقها) (2) .
وقال الخطابي أيضا:
(اعملوا أن الحديث عند أهله على ثلاثة أقسام: حديث صحيح، وحديث حسن، وحديث سقيم.
فالصحيح عندهم ما اتصل سنده وعدلت نقلته، والحسن منه ما عرف مخرجه واشتهر رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء، وكتاب أبي داود جامع لهذين النوعين من الحديث، فأما السقيم منه فعلى طبقات شرها الموضوع ثم المقلوب - أعني ما قلب إسناده - ثم المجهول، وكتاب أبي داود خلي منها برئ من جملة وجوهها، فإن وقع فيه شيء من بعض أقسامها لضرب من الحاجة تدعوه إلى ذكره فإنه لا يألو أن تبين أمره ويذكر علته ويخرج من عهدته. وحكي لنا عن أبي داود أنه قال: ما ذكرت في كتابي حديثا اجتمع الناس على تركه ". وكان تصنيف علماء الحديث - قبل زمان أبي داود - الجوامع والمسانيد ونحوهما، فتجمع تلك الكتب إلى ما فيها من السنن والأحكام أخبارا وقصصا ومواعظ وآدابا، فأما السنن المحضة فلم يقصد واحد منهم جمعها واستيفاءها ولم يقدر على تخليصها واختصار مواضعها من أثناء تلك الأحاديث الطويلة ومن أدلة سياقها على حسب ما اتفق لأبي داود، ولذلك حل هذا الكتاب عند أئمة الحديث وعلماء الأثر محل العجب فضربت فيه أكباد الإبل ودامت إليه الرحل) (3) .
* وقال أبو حامد الغزالي عن " سنن أبي داود ":
" إنها تكفي المجتهد في أحاديث الأحكام ".
* وقال ابن القيم:
(لما كان كتاب " السنن " لأبي داود رحمه الله من الإسلام بالموضع الذي خصه الله به، بحيث صار حكما
__________
(1) وهما البخاري ومسلم.
(2) '' معالم السنن '' 1 \ 10 - 11.
(3) '' معالم السنن '' 1 \ 11.(1/287)
بين أهل الإسلام، وفصلا في موارد النزاع والخصام، فإليه يتحاكم المنصفون، وبحكمه يرضي المحققون، فإنه جمع شمل أحاديث الأحكام، ورتبها أحسن ترتيب ونظمها أحسن نظام، مع انتقائها أحسن انتقاء، واطراحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء) (1) .
__________
(1) '' تهذيب ابن القيم '' 1 \ 8.(1/288)
تأليفه
ألف: أبو داود كتابه " السنن " في وقت مبكر، وعني بتأليفه وترتيبه عناية بالغة، وأعاد النظر فيه مرات متعددة. هذا أمر لا شك فيه.
أما كونه ألفه في وقت مبكر فيدلنا على ذلك ما ذكره مترجمو أبي داود من أن المؤلف روى كتابه " السنن " ببغداد ونقله عن أهلها، ويقال: إنه صنفه قديما وعرضه على أحمد بن حنبل فاستجاده واستحسنه، والإمام أحمد متوفى سنة 241 هـ.
وقد يمكننا هذا النص أن نفهم أنه ألف الكتاب قبل أن يأتي بغداد، ولعله ألفه في طرسوس، لأنه جاء في أخباره أنه ألف المسند بطرسوس ومكث في ذلك مدة طويلة يبذل جهده في الاختيار والانتقاء والتبويب والترتيب. قال محمد بن صالح الهاشمي (1) .
(قال أبو داود: أقمت بطرسوس عشرين سنة أكتب المسند، فكتبت أربعة آلاف حديث، ثم نظرت فإذا مدار الأربعة آلاف على أربعة أحاديث لمن وفقه الله) ثم ذكر الأحاديث.
وواضح أنه يريد بالمسند كتابه " السنن " لأن قريبا من هذا النص نقله عنه ابن داسة مصرحا فيه بذكر السنن (2) ، وعدد أحاديث كتاب " السنن " قريب من هذا الرقم.
ومما يؤكد لنا أن تأليفه كان في وقت مبكر من حياته النظر في مجموع أخباره فهناك ما يدل على أن الرجل بذل به عناية فائقة وأنفق في ذلك مدة طويلة وأنه عرض هذا الكتاب بعد تمامه على الإمام أحمد المتوفى سنة 241 فإذا كان أبو داود قد ولد سنة 202 واستغرق مدة عشر سنوات في تأليفه وافترضنا أنه عرضه عليه قبل وفاته بخمس سنوات، فيكون عمر المؤلف عند ذلك بضعا وعشرين سنة، أي في وقت النشاط والقدرة. وهذا وقت مبكر جدا.
__________
(1) '' تهذيب الأسماء واللغات '' للنووي 2 \ 224.
(2) انظر خبر ابن داسة فيما يأتي ص 238 وقد سبق أن وردت هذه الأحاديث ص 228.(1/288)
وأما كونه عني به عناية بالغة فهذا أمر تدل عليه دلائل كثيرة كلها تقطع بأن المؤلف بذل مجهودا كبيرا وأنه نظر فيه ونقحه وقرأه مرات وكان يزيد فيه وينقص.
من هذه الدلائل ما ذكره راوي هذا الكتاب الإمام الحافظ أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي الذي قال بعد أن روى الحديث 911 ما يلي: (هذا الحديث لم يقرأه أبو داود في العرضة الرابعة) (1) وقال صاحب " عون المعبود " في شرح ذلك: (أي لما حدث وقرأ أبو داود هذا الكتاب في المرة الرابعة لم يقرأ هذا الحديث) (2) .
ومن هذه الدلائل قول علي بن الحسن بن العبد: (سمعت كتاب السنن من أبي داود ست مرار. بقيت من المرة السادسة بقية) (3) وفي تتمة الخبر أنه قرأها في السنة التي مات فيها وهي سنة 275 هـ.
أي أن المؤلف ظل يقرأ الكتاب ويذيعه في الناس مدة تقرب من أربعين سنة فلا عجب أن يكون واحد كعلي بن الحسن قد سمع منه هذا ست مرات.
ومن هذه الدلائل ما نقله أبو بكر بن داسة عن أبي داود حيث يقول:
(كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب - يعني كتاب السنن - جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث ذكرت فيها الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما فيه وهن شديد بينته، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث:
أحدها: قوله (صلى الله عليه وسلم) : «الأعمال بالنيات (4) » .
والثاني: قوله (صلى الله عليه وسلم) : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه (5) » .
والثالث: قوله: (صلى الله عليه وسلم) : «لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه (6) » .
والرابع: قوله: (صلى الله عليه وسلم) : «الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات (7) » .
ومما يدل على عنايته وإجادته لهذا الكتاب تعليق الذهبي على كلام أبي داود الذي نقله ابن داسة والمتضمن وعدا بتبيين الضعيف الظاهر. قال الذهبي: (وقد وفى بذلك فإنه بين الضعيف الظاهر، وسكت عن الضعيف المحتمل) (8) .
__________
(1) '' سنن أبي داود '' 1 \ 331.
(2) '' عون المعبود '' 1 \ 343.
(3) انظر '' رسالة أبي داود '' بتحقيقنا ص 13.
(4) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/25) .
(5) سنن الترمذي الزهد (2317) ، سنن ابن ماجه الفتن (3976) .
(6) صحيح البخاري الإيمان (13) ، صحيح مسلم الإيمان (45) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2515) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5016) ، سنن ابن ماجه المقدمة (66) ، سنن الدارمي الرقاق (2740) .
(7) '' تاريخ بغداد '' 9 \ 57 '' المنتظم '' 5 \ 97 '' طبقات السبكي '' 2 \ 293 '' وفيات الأعيان '' 2 \ 404 '' كشف الظنون '' 2 \ 1004 '' مختصر المنذري '' 1 \ 5 '' المنهج الأحمد '' 1 \ 175 '' جامع الأصول '' 1 \ 111.
(8) طبقات السبكي '' 2 \ 293.(1/289)
رواياته
نتوقع أن يكون هذا الكتاب قد روي من طرق كثيرة، غير أن الرواة الذين ذكرهم العلماء تسعة وقد أوردنا أسماءهم في كلامنا على تلامذته.
والحق أن هؤلاء الرواة الذين عرفناهم - وغيرهم كثير ممن لم نقف على أسماءهم - قد أدوا خدمة جليلة لكتاب أبي داود، وللسنة بوجه عام، فجزاهم الله عن ذلك خير الجزاء.
وقد انتهيت من بحثي إلى كتاب " السنن " متواتر إلى صاحبه دون شك. وأن أولئك الدساسين الذين يريدون أن يشككوا المسلمين بكتب ثقافتهم الدينية وبالأصول الإسلامية قوم دفعهم إلى ذلك التعصب الأعمى والحقد الدفين.
ذكر العلماء أن الروايات عن أبي داود بكتابه " السنن " كثيرة جدا وهذا أمر طبيعي، لأن رجلا ظل يقرئ كتابه مدة تقرب من أربعين سنة لا بد أن يكون عدد الذين رووه عنه كبيرا، لا سيما أن أبا داود - كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في ترجمة حياته - محدث مشهور يقصده الناس لعلمه وفضله حتى إن الدولة رأت في سكناه بالبصرة سببا لإحياء المدينة الميتة وعمارة القرية الخربة. ومن عادة المؤلفين أنهم دائما في تنقيح مستمر لكتبهم، يقدمون ويؤخرون ويزيدون وينقصون، وكلما نظروا في أثر من آثارهم رأوا أنه بحاجة إلى تعديل.
ومن أجل ذلك كان كلام الحافظ ابن كثير عن روايات سنن أبي داود هو الكلام الطبيعي الذي جاء نتيجة لما ذكرنا. قال في " مختصر علوم الحديث ":
(الروايات عند أبي داود بكتابه السنن كثيرة جدا، ويوجد في بعضها من الكلام بل والأحاديث ما ليس في الأخرى) (1) .
ولذلك كان أبو داود يحذف بعض الأحاديث ويزيد بعضا في محاولات تنقيح الكتاب وإحكام تربيته، وقد مر معنا كلام اللؤلؤي الذي يذكر فيه أن أبا داود في المرة الرابعة لم يقرأ حديثا - ذكره - ويحسن بنا أن نتعرف إلى أصحاب هذه الروايات وهم:
1 - أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي:
وهذه النسبة تتصل بالمهنة، فهي نسبة إلى اللؤلؤ لأنه كان يبيعه وقد توفي (2) سنة 333 هـ.
__________
(1) '' الباعث الحثيث '' ص 41.
(2) '' تذكرة الحفاظ '' 3 \ 845.(1/290)
وروايته من أصح الروايات لأنها من آخر ما أملى أبو داود فقد سمع السنن مرات عديدة كانت آخرهن في السنة التي توفي فيها أبو داود: سنة 275 هـ.
وقد روى عن اللؤلؤي هذه السنن القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي أبو عمر، وهو ممن ترجم له الخطيب (1) وذكر أنه من أهل البصرة وعدد أساتذته فذكر منهم اللؤلؤي وعبد الفاخر بن سلامة الحمصي ومحمد بن أحمد الأثرم وعلي بن إسحاق المارديني ويزيد بن إسماعيل الخلال ومحمد بن الحسين الزعفراني الواسطي، وأثنى عليه الخطيب (2) فقال: (" كان ثقة أمينا، ولي القضاء بالبصرة، وسمعت منه بها " سنن أبي داود ") وذكر أنه ولد سنة 322 وتوفي سنة 414 هـ.
وقد روى عن القاسم الهاشمي هذه السنن الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 والخطيب البغدادي إمام ثقة ذائع الصيت (3) .
ورواية الخطيب هي التي اعتمدت بالنسبة للشائع مع نسخ أبي داود برواية اللؤلؤي.
ومن المفيد أن نذكر أن ابن عساكر المتوفى سنة 571 قد ألف كتابه " الإشراف على معرفة الأطراف " (4) الذي جمع فيه أطراف " سنن أبي داود " معتمدا على رواية اللؤلؤي (5) . أما المزي المتوفى سنة 742 هـ فقد جمع في كتابه " تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف " أطراف أحاديث " سنن أبي داود " من الروايات الأربعة وهي روايات: اللؤلؤي، وابن داسة، وابن العبد، وابن الأعرابي، بحيث يورد حديث السنن ثم يقول: أخرجه أبو داود في باب كذا، فإن كان ذلك الحديث موجودا في رواية اللؤلؤي يسكت عنه ولا يقول: إن هذا الحديث من رواية اللؤلؤي سواء كان ذلك الحديث في باقي الروايات الثلاثة موجودا أم لا. وإن لم يكن الحديث من رواية اللؤلؤي، بل من رواية الثلاثة الآخرين أو من رواية واحد منهم فيقول بعد إخراجه: حديث أبي داود في رواية ابن داسة مثلا أو رواية ابن العبد مثلا أو في رواية ابن الأعرابي مثلا أو في رواية هؤلاء الثلاثة أو اثنين منهم (6) .
2 - أبو بكر محمد بن بكر بن عبد الرازق بن داسة التمار:
المتوفى سنة 346 هـ. وروايته مشهورة ولا سيما في بلاد المغرب وتقارب رواية اللؤلؤي. والاختلاف بينهما غالبا بالتقديم والتأخير (7) .
__________
(1) '' تاريخ بغداد '' 12 \ 451.
(2) '' تاريخ بغداد '' 12 \ 451.
(3) انظر ترجمته في '' طبقات الشافعية '' 3 \ 12 و '' وفيات الأعيان '' و '' معجم الأدباء '' 1 \ 248.
(4) '' ومخطوطته موجودة في مصر في دار الكتب المصرية (انظر '' تحفة الأشراف '' 1 \ 4 تعليق رقم 5) .
(5) '' عون المعبود '' 4 \ 548.
(6) '' عون المعبود '' 4 \ 548.
(7) '' المنهل العذب المورود '' لمحمود خطاب السبكي 1 \ 19 و '' عون المعبود '' 4 \ 547.(1/291)
وقد وصلت إلينا بعض المخطوطات برواية ابن داسة وقد اعتمد على واحدة منها صاحب عون المعبود " عون المعبود " 4 \ 547. ونقل عن السيوطي قوله فيها: وروايته أكمل الروايات (1) وقال: إن كثيرا من الروايات موجودة في رواية ابن داسة وليس هو في رواية اللؤلؤي كما نبهت على ذلك في مواضعها من هذا الشرح " عون المعبود " 4 \ 547. كما سنشير إلى ذلك في موضعه إن شاء الله. وقد أتيح لي أن أقف على نسخة مصححة على مخطوطة أثبتت الفروق بين رواية ابن داسة واللؤلؤي.
3 - أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد بن بشر بن درهم البصري المعروف بابن الأعرابي (2) :
صاحب التصانيف، الإمام الزاهد الحافظ شيخ الحرم. كان أبو داود أحد أساتذته وقد سمع منه " السنن ".
ومن شيوخه أيضا الحسن بن محمد الزعفراني ومحمد بن عبد الملك الدقيقي. وروى عنه ابن المقرئ وابن منده وأحمد بن محمد بن مفرج القرطبي.
ولد ابن الأعرابي سنة 246 وتوفي 340 هـ.
وقد سقط من نسخته كتاب الفتن والملاحم والحروف والقراءات والخاتم ونحو النصف من كتاب اللباس، وفاته أيضا من كتاب الوضوء والصلاة والنكاح أوراق كثيرة (3) .
4 - أبو الحسن علي بن الحسن بن العبد الأنصاري المتوفى سنة 328:
ويعرف بأبي الحسن الوراق سمع أبا داود السجستاني وعثمان بن خرزاذ الأنطاكي؛ روى عنه الدارقطني (4) .
وهذه الرواية فيها من الكلام على جماعة من الرواة والأسانيد ما ليس في رواية اللؤلؤي (5) .
وقد جاء في آخر مخطوطة الرسالة التي في وصف السنن نص ينقل عن هذا الراوي (علي بن الحسن بن العبد) وهو قوله:
(سمعت كتاب السنن من أبي داود ست مرار بقيت من المرة السادسة بقية) وقد سبق أن أوردت هذا الكلام (6) .
__________
(1) '' عون المعبود '' 4 \ 547.
(2) انظر '' تذكرة الحفاظ '' 3 \ 852.
(3) ''المنهل العذب المورود'' 1 \ 19 وهذا الذي سقط هو من نسخته الأصلية في الغالب والله أعلم.
(4) '' تاريخ بغداد '' 11 \ 382.
(5) '' المنهل العذب '' 1 \ 19.
(6) انظر ص 237 من هذا البحث وانظر '' رسالة أبي داود إلى أهل مكة '' ص 13 طبع دار العربية بيروت.(1/292)
5 - أبو أسامة محمد بن عبد الملك الرؤاسي لم أجد لهؤلاء الرواة تراجم مفصلة تنقع الغلة، ولعلي أجد ذلك أو شيئا منه في المستقبل. .
6 - أبو سالم محمد بن سعيد الجلودي (1) .
7 - أبو عمرو أحمد بن علي بن الحسن البصري (2) .
8 - أبو الطيب أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الأشناني (3) .
9 - أبو عيسى إسحاق بن موسى بن سعيد الرملي الوراق المتوفى سنة 320 هـ وقالوا: إنه وراق أبي داود (4) .
__________
(1) لم أجد لهؤلاء الرواة تراجم مفصلة تنقع الغلة، ولعلي أجد ذلك أو شيئا منه في المستقبل.
(2) لم أجد لهؤلاء الرواة تراجم مفصلة تنقع الغلة، ولعلي أجد ذلك أو شيئا منه في المستقبل.
(3) لم أجد لهؤلاء الرواة تراجم مفصلة تنقع الغلة، ولعلي أجد ذلك أو شيئا منه في المستقبل.
(4) لم أجد لهؤلاء الرواة تراجم مفصلة تنقع الغلة، ولعلي أجد ذلك أو شيئا منه في المستقبل.(1/293)
تجزئة الكتاب
ذكر: أبو داود في " رسالته إلى أهل مكة " أن عدد كتب هذه السنن 18 جزءا مع المراسيل، منها جزء واحد مراسيل. ويبدو أن النساخ والرواة جزءوا الكتاب إلى أجزاء، ومن أجل ذلك فهذه التجزئة تختلف من إنسان لآخر.
أما تجزئة الخطيب البغدادي وهو الذي روى سنن أبي داود برواية اللؤلؤي فتبلغ تقديرا حوالي 30 جزءا لأنه يفهم من تعليقات المحقق الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد أن عدد أجزاء المقدار المطبوع في الجزأين الأولين بلغ 14 جزءا من تجزئة الخطيب البغدادي (1) .
وقد استعرضت الجزأين الثالث والرابع فلم أجد المحقق ذكر شيئا عن هذه التجزئة.
وفي عصر الطباعة رأينا كتاب أبي داود مطبوعا في جزء مرة، ورأيناه مرة أخرى مطبوعا في جزأين، ورأيناه مطبوعا مرة ثالثة بأربعة أجزاء.
__________
(1) انظر '' السنن '' 2 \ 362.(1/293)
أقسام الكتاب وتبويبه
1 - خلا الكتاب من المقدمة، وهذا موضع تعجب، ذلك لأن مؤلفه كتب رسالة في وصف سننه وهي أحسن ما تكون توضيحا لعمله وعرضا لخطته ووضعا للأمور في نصابها، ولو أن قائلا ذهب إلى أنها تصلح أن تسد مسد المقدمة لما كان مخطئا.(1/293)
وليس أبو داود وحده الذي خلا كتابه من المقدمة، بل شاركه في ذلك غيره، فالبخاري أيضا لم يكتب لجامعه الصحيح مقدمة، لكن الفرق بينهما أن البخاري رحمه الله لم يتح له النظر في كتابه بعد تأليفه (1) ، أما أبو داود فقد بقي يقرأ " السنن " ويذيعها بين الناس أربعين سنة كما أسلفنا.
ولعل الأمر يتعلق بأطوار التأليف، إذ ليس البخاري وأبو داود وحدهما لم يكتبا مقدمات لكتبهما، بل نجد كذلك الإمام أحمد لم يكتب مقدمة لمسنده وابن المبارك لم يكتب مقدمة لكتابيه: الزهد، والجهاد.
2 - ينقسم كتاب " السنن " إلى كتب كبيرة بلغت 36 كتابا هي:
(1) الطهارة - (2) الصلاة - (3) الزكاة - (4) اللقطة - (5) المناسك - (6) النكاح - (7) الطلاق - (8) الصوم - (9) الجهاد - (10) الضحايا - (11) الصيد - (12) الوصايا - (13) الفرائض - (14) الخراج والإمارة والفيء - (15) الجنائز - (16) الأيمان والنذور - (17) البيوع - (18) الإجارة - (19) الأقضية - (20) العلم - (21) الأشربة - (22) الأطعمة - (23) الطب - (24) العتق - (25) الحروف والقراءات - (26) الحمام - (27) اللباس - (28) الترجل - (29) الخاتم - (30) الفتن - (31) المهدي - (32) الملاحم - (33) الحدود - (34) الديات - (35) السنة - (36) الأدب.
3 - وكل كتاب من هذه الكتب ينقسم إلى أبواب، باستثناء ثلاثة كتب لم نجد فيها أبوابا هي:
كتاب اللقطة - وكتاب الحروف والقراءات - وكتاب المهدي. ولا يستوي عدد أبواب الكتب، فبينما نجد كتابا يشتمل على أكثر من مائة باب ككتاب الصلاة - - الذي يشتمل على ثلاثمائة باب وسبعة وستين بابا - نجد كتابا لا تتجاوز أبوابه الثلاثة ككتاب الحمام الذي اشتمل على ثلاثة أبواب فقط.
4 - وقد نجد بابا كبيرا تحته أبواب كثيرة، وذلك كالباب الذي جاء بعنوان " باب تفريع أبواب الجمعة " (2) ، وقد جاء تحته 38 بابا.
وكالباب الذي جاء بعنوان " جماع أبواب الاستسقاء وتفريعها " (3) ، وقد جاء تحته ثلاثة أبواب.
5 - هذا وليست الأبواب متساوية في حجمها وإن كان يغلب على معظمها القصر، فقلما نجد بابا يجاوز الصفحة. بل أكثر الأبواب قصيرة قصرا واضحا، وربما لا يكون في الباب إلا أثر، كما في الباب الآتي:
(باب إخفاء التشهد
حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي، ثنا يونس - يعني ابن بكير - عن محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن
__________
(1) انظر كتابي '' الحديث النبوي '' ص 216.
(2) '' السنن '' 1 \ 377.
(3) '' السنن '' 1 \ 412.(1/294)
بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله قال: من السنة أن يخفي التشهد) (1) .
وقد صرح أبو داود في " رسالته إلى أهل مكة " أنه يعتمد قلة الأحاديث في الباب فقال: (ولم أكتب في الباب إلا حديثا أو حديثين، وإن كان في الباب أحاديث صحاح؛ لأنه يكبر، وإنما أردت قرب منفعته) (2) .
وهذه الخاصة من أبرز خصائص السنن، وكأن أبا داود استخرج من الحديث أو الحديثين أبرز ما فيهما فجعله عنوان الباب، أو كأنه أدخل تحت العنوان أبرز الأحاديث عليه، ولذا يستطيع المرء أن يعثر على الحديث المطلوب بسهولة؛ لأن الباب قليل الأحاديث، ومن هنا قربت منفعته على حد تعبير أبي داود.
وأكد أبو داود حرصه على قلة الأحاديث في الباب فقال في " رسالته إلى أهل مكة ": (وإذا أعدت الحديث في الباب من وجهين أو ثلاثة فإنما هو من زيادة كلام فيه) (3) ، أي من أجل زيادة كلام فيه، على أننا قد نقف على بعض الأبواب الطويلة، وذلك كباب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم الذي استغرق سبع صفحات (4) . ولعل السبب يعود إلى موضوع الباب نفسه.
6 - وأخيرا فإن مجموع عدد أبواب كتاب " السنن " حسب إحصاء الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد هو 1889 بابا.
__________
(1) '' السنن '' 1 \ 356.
(2) انظر '' رسالة أبي داود '' ص 23.
(3) انظر '' رسالة أبي داود '' ص 23.
(4) '' السنن '' 2 \ 248 حتى صفحة 254.(1/295)
درجات أحاديث الكتاب وأنواعها
يذكر: العلماء كتاب " السنن " لأبي داود على أنه من مظان الحديث الحسن.
قال ابن الصلاح:
(روينا عنه - أي عن أبي داود - أنه قال: ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما كان فيه وهن شديد بينته، وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح، وبعضهما أصح من بعض) (1) ، وعقب ابن الصلاح على ذلك بقوله:
(فعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكورا مطلقا وليس في واحد من الصحيحين ولا نص على صحته أحد عرفنا أنه الحسن عند أبي داود) (2) .
__________
(1) علوم الحديث '' ص 33.
(2) '' علوم الحديث '' ص 33.(1/295)
وسنرى بعد قليل أن هذا الرأي موضع نظر لدى المحققين. هذا وقد حلل البقاعي في " حاشيته على الألفية " كلام أبي داود المتقدم وانتهى إلى أن هناك - على قول أبي داود - ستة أنواع من الأحاديث في كتابه وهي:
1 - الأول الصحيح: ويجوز أن يريد به الصحيح لذاته.
2 - الثاني شبهه: ويجوز أن يريد به الصحيح لغيره.
3 - الثالث مقاربة: ويجوز أنه يريد به الحسن لذاته.
4 - الرابع الذي فيه وهن شديد.
5 - وقوله (وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح) يفهم منه الذي فيه وهن ليس بشديد فهو قسم خامس، فإن لم يعتضد كان قسما صالحا للاعتبار فقط.
6 - وإن اعتضد صار حسنا لغيره، أي للهيئة المجموعة وصلح للاحتجاج وكان قسما سادسا) (1) .
وكذلك فإن الذهبي ذكر في " سير أعلام النبلاء " أن الأحاديث في " سنن أبي داود " ستة أنواع فقال:
1 - إن أعلى ما في كتاب أبي داود من الثابت ما أخرجه الشيخان وذلك نحو شطر الكتاب.
2 - ثم يليه ما أخرجه أحد الشيخين ورغب عنه الآخر.
3 - ثم يليه ما رغبا عنه وكان إسناده جيدا سالما من علة وشذوذ.
4 - ثم يليه ما كان إسناده صالحا وقبله العلماء لمجيئه من وجهين لينين فصاعدا.
5 - ثم يليه ما ضعف إسناده لنقص حفظ راويه، فمثل هذا يسكت عنه أبو داود غالبا.
6 - ثم يليه ما كان بين الضعف من جهة راويه، فهذا لا يسكت عنه بل يوهنه غالبا، وقد يسكت عنه بحسب شهرته ونكارته) (2) .
والحق أن أحاديث أبي داود متفاوتة المراتب ومثل هذا التصنيف يعطي فكرة مناسبة عن أحاديث الكتاب، هذا وقد شهد العلماء بأن أبا داود قد وفى بوعده بتبيين ما فيه وهن شديد.
نقل السبكي عن الذهبي قوله الآتي:
(وقد وفى بذلك فإنه بين الضعيف الظاهر وسكت عن الضعيف المحتمل، فما سكت عنه لا يكون حسنا عنده ولا بد، بل قد يكون مما فيه ضعف) (3) .
وبالغ الحافظ السلفي فزعم أن ما في سنن أبي داود صحيح، فقد ذكر الكتب الخمسة وقال:
(اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب) .
__________
(1) '' كشف الظنون '' لحاجي خليفة 2 \ 1005.
(2) '' قواعد التحديث '' ص 232.
(3) '' طبقات الشافعية '' 2 \ 295.(1/296)
فرد عليه ابن الصلاح وقال: (وهذا تساهل، لأن فيها ما صرحوا بكونه ضعيفا أو منكرا أو نحو ذلك من أوصاف الضعيف، وصرح أبو داود فيما قدمنا روايته عنه بانقسام ما في كتابه إلى صحيح وغيره) (1) .
وكلام ابن الصلاح هذا صحيح، وإن كان المحققون من العلماء - كما رأيت - لا يوافقونه على رأيه الذي ورد آنفا من أن الأحاديث التي سكت عنها أبو داود حسنة. ومن هؤلاء المحققين الذهبي والحافظ العراقي وغيرهما.
والسبب في موقف ابن الصلاح أنه كان يرى أن ليس للمتأخر أن يجرؤ على الحكم بصحة حديث ليس في أحد الصحيحين أو لم ينص على صحته أحد من أئمة الحديث السابقين.
قال الأستاذ أحمد شاكر:
(إن ابن الصلاح يحكم بحسن الأحاديث التي سكت عنها أبو داود ولعله سكت عن أحاديث في السنن، وضعفها في شيء من أقواله الأخرى كإجاباته للآجري في الجرح والتعديل، والتصحيح والتعليل، فلا يصح إذن أن يكون ما سكت عنه في " السنن " وضعفه في موضع آخر من كلامه حسنا، بل يكون عنده ضعيفا.
وإنما لجأ ابن الصلاح إلى هذا اتباعا لقاعدته التي سار عليها من أنه لا يجوز للمتأخرين التجاسر على الحكم بصحة حديث لم يوجد في أحد الصحيحين أو لم ينص أحد من أئمة الحديث على صحته) (2) .
وقال في موضع آخر:
(وقد رد العراقي وغيره قول ابن الصلاح هذا، وأجازوا لمن تمكن وقويت معرفته أن يحكم بالصحة أو بالضعف على الحديث بعد الفحص عن إسناده وعلله، وهو الصواب. والذي أراه أن ابن الصلاح ذهب إلى ما ذهب إليه بناء على القول بمنع الاجتهاد بعد الأئمة، فكما حظروا الاجتهاد في الفقه أراد ابن الصلاح أن يمنع الاجتهاد في الحديث، وهيهات فالقول بمنع الاجتهاد قول باطل لا برهان عليه من كتاب ولا سنة ولا تجد له شبه دليل) (3)
__________
(1) '' علوم الحديث '' 36 - 37.
(2) '' الباعث الحثيث '' ص 42.
(3) '' الباعث الحثيث '' ص 29.(1/297)
الضعيف في سنن أبي داود
في كتاب " السنن " كما اتضح لنا أحاديث ضعيفة، صرح أبو داود نفسه بضعف بعضها ولم يصرح بتضعيف بعضه الآخر؛ إما لأن ضعفها محتمل عنده وليس بشديد، إما لأنه صرح في غير " السنن " بضعفها كما ذكر ذلك الأستاذ أحمد شاكر في النص الذي أوردناه قبل قليل (1) .
فالأحاديث التي صرح بضعفها أمرها هين، وكذلك الأحاديث التي سكت عنها وأخرجها الشيخان أو أحدهما فهي صحيحة، أما الأحاديث التي سكت عنها وليست من هذا القبيل ولا ذاك فإننا نستطيع أن نحكم عليها بالنظر في أسانيدها، فما حكم له سنده بالصحة كان صحيحا وما حكم له سنده بالضعف كان ضعيفا.
ومن الجدير بالذكر أن ننوه هنا بأن المنذري وابن الصلاح وغيرهما ذكروا أن محمد بن إسحاق بن منده الحافظ حكى أن شرط أبي داود والنسائي إخراج حديث أقوام لم يجتمع على تركهم، ويحكون عن أبي داود أنه قال: (ما ذكرت في كتابي حديثا اجتمع الناس على تركه) .
وهذا الذي يحكونه عن أبي داود أدق من كلمته الواردة في رسالته إلى أهل مكة وهي (وليس في كتاب السنن عن رجل متروك الحديث شيء) إذ قد أخرج عن أبي جناب الكلبي (2) ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني (3) وهما من المتروكين وإن وجد من يزكيهما، فلا يعد أمثالهما من المجتمع على تركهم.
وروي عن جابر الجعفي فقد أخرج له الحديث رقم 1036 ونصه «إذا قام الإمام في الركعتين فإن ذكر قبل أن يستوي قائما فليجلس فإن استوى قائما فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو (4) » ثم قال عقبه: (وليس في كتابي عن جابر الجعفي إلا هذا الحديث) (5) .
وقد ترجم الذهبي في " الميزان " لجابر هذا وذكر ما يدل على ضعفه واتهامه (6) وذكر أبو داود في كتابه السنن عمرو بن ثابت (7) وهو رافضي، وقد قرر ذلك أبو داود نفسه فقال بعد أن أورد الحديث رقم 287: (ورواه عمرو بن ثابت عن ابن عقيل. . .) ثم قال: (قال أبو داود: وعمرو بن ثابت رافضي رجل سوء ولكنه كان صدوقا في الحديث) (8) .
__________
(1) وانظر أيضا كلام الحافظ الذهبي الذي أوردته في ص 245.
(2) انظر '' الميزان '' 4 \ 371.
(3) انظر '' الميزان '' 3 \ 617.
(4) سنن الترمذي الصلاة (365) ، سنن أبو داود الصلاة (1036) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1208) ، مسند أحمد بن حنبل (4/247) ، سنن الدارمي الصلاة (1501) .
(5) انظر '' سنن أبي داود '' 1 \ 373 - 374.
(6) انظر '' الميزان '' 1 \ 379.
(7) انظر ترجمته في '' الميزان '' 3 \ 249.
(8) انظر '' السنن '' 1 \ 330.(1/298)
وروى أيضا عن الحارث الأعور (1) الحديث رقم 908 وفي الحارث ما فيه (2) .
__________
(1) انظر '' ترجمته في الميزان '' 1 \ 435.
(2) انظر '' السنن '' 1 \ 330.(1/299)
لماذا أورد في كتابه الضعيف
أورد أبو داود بعض الأحاديث الضعيفة في كتابه للأمور الآتية:
1 - لأن طريقته في التصنيف هي أن يجمع كل الأحاديث التي تتضمن أحكاما فقهية ذهب إلى القول بها عالم من العلماء.
2 - لأنه كان يرى أن الحديث الضعيف إن لم يكن شديد الضعف أقوى من رأي الرجال ومن القياس (حكى ابن منده أنه سمع محمد الباوردي يقول: كان من مذهب النسائي أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه قال ابن منده: وكذلك أبو داود السجستاني يأخذ مأخذه ويخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره لأنه أقوى عنده من رأي الرجال) (1) .
وحكى ابن العربي عن أبي داود أنه قال لابنه:
(إن أردت أن أقتصر على ما صح عندي لم أر من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء، ولكنك يا بني تعرف طريقي في الحديث أني لا أخالف ما يضعف إلا إذا كان في الباب ما يدفعه) (2) .
3 - أما إذا كان الحديث شديد الضعف فإنما يورده ليدل على عدم تبنيه لمضمونه، وكأنه بذلك يرد على الآخرين به قائلا: ليس لكم دليل بهذا الحديث على رأيكم لأن الحديث شديد الضعف. ومثال ذلك ما جاء في باب النهي عن التلقين (3) حيث عقد الباب على حديث ضعيف ولم يورد في الباب غيره، فقد جاء بالحديث رقم 908 فقط وهو: (عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علي! لا تفتح على الإمام في الصلاة (4) » قال أبو داود: أبو إسحاق لم يسمع من الحارث إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها) (5) .
أي أن الحديث منقطع، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الحارث نفسه متهم بالكذب عرفنا أن الحديث شديد الضعف.
__________
(1) '' علوم الحديث '' 33 - 34 تدريب الراوي 97 '' توجيه النظر '' 150.
(2) '' المنهل العذب المورود '' للشيخ محمود خطاب السبكي 1 \ 18.
(3) انظر '' السنن '' 1 \ 330.
(4) سنن أبو داود الصلاة (908) ، مسند أحمد بن حنبل (1/146) .
(5) انظر '' السنن '' 1 \ 330.(1/299)
موازنة بين سنن أبي داود والصحيحين
هذا الموضوع وحده يصلح أن يكون محل دراسة خاصة وعناية تامة ويمكن أن تؤلف فيه رسالة كبيرة، غير أني أرمي من وراء ذكرها هنا أن أشير فقط إلى أن كتاب السنن جليل الشأن عند كثير من العلماء المتقدمين فهو يأتي بعد الصحيحين مباشرة، بل إن الخطابي رحمه الله قدم السنن عليهما كما مر معنا في مبحث (ثناء العلماء على السنن) ويحسن أن نورد قول الخطابي مرة أخرى؛ قال: (فأما أهل خراسان فقد أولع أكثرهم بكتابي محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج ومن نحا نحوهما في جمع الصحيح على شرطهما في السبك والانتقاد إلا أن كتاب أبي داود أحسن رصفا وأكثر فقها) (1) .
وقد أقام عدد من العلماء موازنة بين سنن أبي داود وصحيح مسلم وذكروا أوجه الاتفاق وأوجه الاختلاف، ومنهم من رجح عمل هذا، ومنهم من رجح عمل ذاك، والذي يهمني من هذه الموازنة أن طائفة من العلماء ترى أن " سنن أبي داود " في درجة تقارب درجة الصحيحين أو تفوقها.
__________
(1) '' معالم السنن '' 1 \ 11.(1/300)
زوائد أبي داود
يظهر أن زوائده عما في الكتب الخمسة الأخرى قليلة فقد سبق أن أوردنا أن الذهبي ذكر أن ما في " السنن " مما يوافق ما أخرجه الشيخان يبلغ شطر الكتاب (1) .
وإذا تتبعنا تعليقات الحافظ المنذري تبين أن زوائده عما في الكتب الخمسة قليلة جدا، فما أقل الأحاديث التي لا يذكر المنذري أنها وردت في بعض هذه الكتب.
وقد ألف بعضهم في شيء من ذلك فجمع زوائد أبي داود على الصحيحين وشرحها (2) ويحسن أن نشير هنا إلى أن كتاب أبي داود أجمع هذه الكتب، نعم ليست فيه زيادات كثيرة على ما في هذه الكتب بمجموعها غير أن فيه كثيرا مما ليس في واحد منها على انفراد، هذا وزوائده أحسن حالا من زوائد غيره كابن ماجه مثلا.
__________
(1) '' طبقات الشافعية '' 2 \ 293.
(2) انظر مبحث: دراسات عن سنن أبي داود في آخر هذا المقال.(1/300)
خصائصه
يحسن أن نورد بعض الخصائص المهمة التي نستطيع أن نلمسها في " السنن ".
تعدد الطرق:
هناك أحاديث كثيرة في " السنن " مروية بطريقين أو أكثر، وهو يورد هذين الطريقين أو هذه الطرق في الإسناد قبل أن يأتي بمتن الحديث غالبا، وإذا أراد التحويل من طريق إلى آخر رمز إلى ذلك بالحرف (ح) على عادة المحدثين (1) قال في " رسالته ": (وإذا أعدت الحديث في الباب من وجهين أو ثلاثة فإنما هو من زيادة كلام فيه وربما تكون فيه كلمة زيادة على الأحاديث) (2) .
تكرار الحديث:
في الحديث الواحد من المعاني والأحكام الشيء الكثير، فلقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم (3) . فإذا أورد المؤلف الحديث في باب من الأبواب من أجل معنى وارد فيه، اضطر إلى إعادته في باب آخر من أجل معنى آخر تضمنه الحديث، ومن هنا كان لا مفر من تكرار الحديث في الكتب المصنفة على الأبواب.
وهذا هو السبب الذي جعل أبا داود يكرر الحديث أحيانا. ولكنه لا يبلغ في تكراره مبلغ البخاري في صحيحه. ولا يقطعه تقطيعه.
__________
(1) والأمثلة على ذلك كثيرة لا يفيد حصرها وانظر مثلا على ذلك الحديث رقم 42 في '' السنن '' 1 \ 41.
(2) انظر '' رسالة أبي داود '' ص 23.
(3) انظر كتابي '' الحديث النبوي '': الغنى في المعاني ص 47 والإيجاز ص 85.(1/301)
الدقة في إيراد الروايات
الدقة ظاهرة واضحة تمام الوضوح في " كتاب السنن " ونضرب على ذلك بعض الأمثلة:
- فهو إذا روى الحديث عن طريق رجلين يثبت الرواية التي يرى أنها الصواب ثم يورد رواية الرجل الآخر كما فعل في الحديث رقم 20 الذي رواه عن زهير بن حرب وهناد بن السري وفيه: «أما هذا(1/301)
فكان لا يستنزه من البول (1) » وبعد أن انتهى من رواية الحديث قال: (قال هناد " يستتر " مكان " يستنزه ") .
ومما يدلنا على أن أبا داود يرى الصواب رواية زهير أن عنوان الباب الذي ورد هذا الحديث فيه هو باب الاستبراء من البول (2) .
- وقد يقتصر على رواية أحدهما دون أن يشير إلى الرواية الأخرى، ولكنه ينبه على أنه إنما أورد رواية فلان كما في الحديث 938 قال: (حدثنا الوليد بن عتبة الدمشقي ومحمود بن خالد قالا:. . . . .) وبعد نهاية الحديث قال: (وهذا لفظ محمود) (3) .
- وقد يروي الحديث عن أربعة رجال ولا يثبت واحدة يرجحها ثم ينبه على الروايات الأخرى، وإنما يورد الروايات الأربع مرة واحدة مجموعة على وجه يدل على الدقة والاختصار كالحديث 992 في باب كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة قال:
(حدثنا أحمد بن حنبل، وأحمد بن محمد بن شبويه ومحمد بن رافع ومحمد بن عبد الملك الغزال قالوا:
حدثنا عبد الرازق عن معمر عن إسماعيل عن أبيه عن نافع عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أحمد بن حنبل: «أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده (4) » .
وقال ابن شبويه: «نهى أن يعتمد الرجل على يده في الصلاة (5) » .
وقال ابن رافع: «نهى أن يصلي الرجل وهو معتمد على يده (6) » وذكره في باب الرفع من السجود.
وقال ابن عبد الملك: «نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة (7) » . ولم يرجح المؤلف رواية على رواية.
وقد يأتي بالحديث عن طرق بينها فروق طفيفة لا تؤثر في المعنى، ومع ذلك فهو حريص على ذكر هذه الفروق، كما فعل في الحديث رقم 4 الذي رواه عن مسدد بن مسرهد عن حماد بن زيد وعبد الوارث (عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال:
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (216) ، صحيح مسلم الطهارة (292) ، سنن الترمذي الطهارة (70) ، سنن النسائي الجنائز (2068) ، سنن أبو داود الطهارة (20) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (347) ، مسند أحمد بن حنبل (1/225) ، سنن الدارمي الطهارة (739) .
(2) '' السنن '' 1 \ 34.
(3) '' السنن '' 1 \ 340.
(4) سنن أبو داود الصلاة (992) ، مسند أحمد بن حنبل (2/147) .
(5) سنن أبو داود الصلاة (992) ، مسند أحمد بن حنبل (2/147) .
(6) سنن أبو داود الصلاة (992) ، مسند أحمد بن حنبل (2/147) .
(7) '' السنن '' 1 \ 358.(1/302)
عن حماد - قال: " اللهم إني أعوذ بك (1) » .
وقال - عن عبد الوارث - قال: «أعوذ بالله من الخبث والخبائث (2) » ) (3) .
- ومن الأمثلة على ذلك - وهي كثيرة جدا - حديث البول في المستحم رقم 27 الذي رواه عن أحمد بن حنبل والحسن بن علي وهو.
«لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يغتسل فيه (4) » - قال أحمد: «ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه (5) » ) (6) .
والمؤلف هنا بين الفرق بين الروايتين أثناء الحديث. وهذه الدقة دليل على مدى الحرص في نقل حديث النبي بالتحري الخالص والأداء الأمين. وتلك خصيصة خص الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فوق مجرد نقل أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه. .
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (142) ، صحيح مسلم الحيض (375) ، سنن الترمذي الطهارة (5) ، سنن النسائي الطهارة (19) ، سنن أبو داود الطهارة (4) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (296) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) ، سنن الدارمي الطهارة (669) .
(2) صحيح البخاري الوضوء (142) ، صحيح مسلم الحيض (375) ، سنن الترمذي الطهارة (5) ، سنن النسائي الطهارة (19) ، سنن أبو داود الطهارة (4) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (298) ، مسند أحمد بن حنبل (3/101) ، سنن الدارمي الطهارة (669) .
(3) '' السنن '' 1 \ 29.
(4) صحيح البخاري الوضوء (239) ، صحيح مسلم الطهارة (282) ، سنن الترمذي الطهارة (68) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (398) ، سنن أبو داود الطهارة (70) ، مسند أحمد بن حنبل (2/346) ، سنن الدارمي الطهارة (730) .
(5) سنن الترمذي الطهارة (21) ، سنن النسائي الطهارة (36) ، سنن أبو داود الطهارة (27) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (304) ، مسند أحمد بن حنبل (5/56) .
(6) '' السنن '' 1 \ 36.(1/303)
الاختصار
وفي كتاب أبي داود الاختصار الموفق لأننا نجده مقترنا بالدقة البالغة والوضوح البين، وهذه خاصة من أهم الخصائص التي يمتاز بها كتاب " السنن ".
ومن مظاهر الاختصار ما مر بنا في تبويب الكتاب من قلة الأحاديث في الباب الواحد.
ومن أنواع هذا الاختصار أنه يعمد إلى الحديث الطويل فيختصره فلا يورد منه إلا موضع الفقه منه، وقد أشار أبو داود نفسه إلى هذه الخاصة فقال في رسالته:
(وربما اختصرت الحديث الطويل، لأني لو كتبته بطوله لم يعلم بعض من سمعه ولا يفهم موضع الفقه منه فاختصرته لذلك) (1) .
* ومن أنواع هذا الاختصار أنه يأتي بحديث، ثم بعد ذلك يأتي بسند آخر ويقول: (بمعناه) كما في الحديث (2) رقم 34 فهذه الكلمة أغنته عن إعادة الحديث، ولكي يكون كلامه دقيقا قال: (بمعناه) منبها على أن هناك فرقا لفظيا بين الروايتين لا يؤثر في المعنى.
* ومن أنواع هذا الاختصار أنه إذا وجد روايتين في إحداهما زيادة جاء بالأولى، ثم أورد سند الثانية وجاء بالزيادة ولا يعيد ما سبق ذكره، وإنما يكتفي بقوله: (وذكر الحديث) ومثل هذا كثير الورود في كتابه، فمن ذلك الأحاديث (111 - 112 - 113 - 114. . . . .) .
__________
(1) انظر '' رسالة إلى أبي داود، ص 24.
(2) '' السنن '' 1 \ 38.(1/303)
ففي الأول منها يذكر أبو داود حديث عبد خير الذي يصف وضوء علي رضي الله عنه كما يلي:
(حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن خالد بن علقمة عن عبد خير قال: «أتانا علي رضي الله عنه وقد صلى فدعى بطهور فقلنا: ما يصنع بالطهور وقد صلى؟ ما يريد إلا ليعلمنا فأتي بإناء فيه ماء وطست، فأفرغ من الإناء على يمينه فغسل يديه ثلاثا ثم تمضمض واستنثر ثلاثا فمضمض ونثر من الكف الذي يأخذ فيه ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يده اليمنى ثلاثا وغسل يده الشمال ثلاثا، ثم جعل يده في الإناء فمسح برأسه مرة واحدة ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ورجله الشمال ثلاثا، ثم قال: من سره أن يعلم وضوء رسول الله فهو هذا (1) » .
* وبعد ذلك أورد أبو داود رواية أخرى بسند آخر عن عبد خير هي: «صلى علي رضي الله عنه الغداة ثم دخل الرحبة فدعا بماء فأتاه الغلام بإناء فيه ماء وطست قال: فأخذ الإناء بيده اليمنى فأفرغ على يده اليسرى وغسل كفيه ثلاثا ثم أدخل يده اليمنى في الإناء فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا (3) » . ثم ساق قريبا من حديث أبي عوانة قال ثم مسح رأسه مقدمه ومؤخره مرة ثم ساق الحديث نحوه (4) .
ثم أورد الرواية الثالثة بسند ثالث عن عبد خير أيضا وفيها زيادة: «رأيت عليا رضي الله عنه أتي بكرسي فقعد عليه، ثم أتي بكوز من ماء فغسل يديه ثلاثا ثم تمضمض مع الاستنشاق بماء واحد (5) » وذكر الحديث (6) .
ثم أورد الرواية الرابعة عن زر بن حبيش: أنه «سمع عليا رضي الله عنه وسئل عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث. وقال: مسح على رأسه حتى لما يقطر، وغسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم (7) » .
* وإذا روى حديثا مختصرا نقل قول الراوي باختصاره، كما في الحديث 49 فقد قال بعد أن أورده: (قال أبو داود: قال مسدد: فكان حديثا طويلا ولكني اختصرته) (8) .
__________
(1) انظر '' سنن أبي داود 1 \ 62.
(2) سنن الترمذي الطهارة (48) ، سنن النسائي كتاب الطهارة (95) ، سنن أبو داود الطهارة (111) ، مسند أحمد بن حنبل (1/135) ، سنن الدارمي الطهارة (701) .
(3) جاء في '' عون المعبود 1 \ 42 الرحبة بفتح الراء وسكون الحاء محلة بالكوفة. كذا في '' القاموس ''. (2)
(4) انظر '' سنن أبي داود '' 1 \ 62.
(5) سنن الترمذي الطهارة (48) ، سنن النسائي كتاب الطهارة (95) ، سنن أبو داود الطهارة (111) ، مسند أحمد بن حنبل (1/135) ، سنن الدارمي الطهارة (701) .
(6) انظر سنن أبي داود 1 \ 63.
(7) '' السنن '' 1 \ 63.
(8) '' السنن '' 1 \ 44.(1/304)
طريقته واستقصاؤه
كان أبو داود - كما سلفنا - يريد جمع أحاديث الأحكام التي يحتج بها الفقهاء وكان ذلك همه الأول، وقد استطاع أن يبلغ أكثر ما يريد، وهذا واضح من استعراض كتابه وهذا ما قرره العلماء أيضا.
قال الدهلوي في " حجة الله البالغة ":
(كانت همة أبي داود جمع الأحاديث التي استدل بها الفقهاء ودارت فيهم، وبنى عليها الأحكام علماء الأمصار فصنف " سننه " وجمع فيها الصحيح والحسن واللين والصالح للعمل) (1) .
وقال الدهلوي أيضا في صدد حديثه عن الترمذي وأنه جمع بين طريقة الشيخين الذين بينا وطريقة أبي داود الذي جمع كل ما ذهب إليه عالم من العلماء فقال:
(كان استحسن طريقة الشيخين حيث بينا وما أبهما، وطريقة أبي داود حيث جمع كل ما ذهب إليه ذاهب، فجمع كلتا الطريقتين وزاد) (2) ويدلك على ذلك أنه يعقد بابا في جواز الشيء وكراهته، وهذا كثير جدا، مثل: (باب كراهة استقبال القبلة عند الحاجة) والباب الذي يليه (باب الرخصة في ذلك) (3) ومثل (باب الوضوء من مس الذكر) والباب الذي يليه (باب الرخصة في ذلك) (4) .
وفي جمعه لكل ما ذهب إليه العلماء فوائد منها:
بيان أن بعض الأحاديث أقوى من بعض، لا سيما عندما يعلق على واحد مضعفا إياه ويسكت عن آخر.
ومنها بيان أن الأمر جائز مع الكراهة وليس حراما، أو هو رخصة.
ومنها إتاحة الفرصة للإنسان لكي يوازن بين أقوال العلماء ويرجح ما ينصره الدليل ويعضده.
* وقد ذكر هو في " رسالته إلى أهل مكة " أنه قصد جمع أكبر قدر ممكن من السنن التي عليها مدار الأحكام فقال:
(فإن ذكر لك عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة ليس مما خرجته فاعلم أنه حديث واه إلا أن يكون
__________
(1) '' قواعد التحديث '' ص 331.
(2) '' قواعد التحديث '' ص 332.
(3) '' انظر السنن '' 1 \ 30 - 31.
(4) انظر '' السنن '' 1 \ 84 - 85.(1/305)
في كتابي من طريق آخر، فإني لم أخرج الطرق لأنه يكبر على المتعلم ولا أعرف أحدا جمع على الاستقصاء غيري) (1) .
* ومن حرصه على الاستقصاء في جمع الأحاديث المتصلة بالأحكام أنه قد يورد الحديث دون سند بعد أن يكون قد أورد حديثا مسندا، كما في الحديث 16 وهو:
(حدثنا عثمان وأبو بكر قالا: حدثنا عمر بن سعد عن سفيان عن الضحاك بن عثمان عن نافع عن ابن عمر قال: «مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلم عليه فلم يرد عليه (2) » . قال أبو داود: وروي عن ابن عمر وغيره «أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم ثم رد على الرجل السلام (3) » .
فالزيادة التي في الرواية الثانية قد أوردها هنا دون سند وبصيغة التمريض رغبة منه في الاستقصاء مع الاختصار؛ وذلك لأنه أوردها في باب التيمم بالسند وذلك في الحديث (4) رقم 330، ولكنه ذكر هناك ما يدل على ضعف هذا الحديث.
- ومن طريقته أنه كثيرا ما يروي الحديث عن أكثر من شيخ وتارة عن ثلاثة وتارة عن أربعة.
ففي الحديث 188 روى الحديث عن شيخين وكذا في 1365.
وفي الحديث 185 روى الحديث عن ثلاثة شيوخ.
وفي الحديث 992 روى الحديث عن أربعة شيوخ.
__________
(1) '' رسالة أبي داود '' ص 26.
(2) صحيح مسلم الحيض (370) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2720) ، سنن النسائي الطهارة (37) ، سنن أبو داود الطهارة (16) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (353) .
(3) '' السنن '' 1 \ 33.
(4) '' السنن '' 1 \ 138.(1/306)
عناوينه
للعناوين قيمة كبرى في كتب الحديث، ففيها يتجلى فقه المؤلف وعلمه واستنباطه الدقيق وفهمه، ذلك لأن جهده مقصور على تبويب هذه الأحاديث ووضع عنوان لكل طائفة منها والتعليق على بعضها، إذ كتابه في جمع الأحاديث وليس في شرحها.
وسنذكر بعض الملاحظات حول عناوين أبي داود كما انتهينا إليها بعد شيء من الدراسة والتأمل:
1 - الناحية الفقهية بادية في عناوين أبي داود، وهذا أمر طبيعي، لأن الكتاب مؤلف على أساس فقهي(1/306)
واضح، وهذه العناوين رؤوس مسائل فقهية بحثها الفقهاء. قال الدهلوي في " حجة الله البالغة ": (وترجم (1) على كل حديث بما قد استنبط منه عالم وذهب إليها ذاهب) (2) .
وقد يجد الإنسان في هذه العناوين من المسائل الفقهية ما لا يكاد يجده في مطولات كتب الفقه.
2 - عناوينه يغلب عليها الإيجاز، وتبدو هذه الخاصة واضحة إذا قارنا عناوين " السنن " بعناوين صحيح البخاري.
3 - عناوين " السنن " مصوغة صياغة تغري قارئها وسامعها بقراءة أحاديث الباب التي تندرج تحته، ولنضرب بعض الأمثلة للتوضيح، فعناوين الكتاب كلها تصلح للتمثيل. لنأخذ العنوان الآتي: (باب الرجل ينعس والإمام يخطب) هذا العنوان لا يبين لنا مضمون الباب، ولا بد للإنسان من قراءة ما جاء في هذا الباب حتى يعرف: ما بال هذا الرجل الذي ينعس أثناء خطبة الإمام، والحديث برقم 1119 وهو: (إذا نعس أحدكم وهو في المسجد فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره) (3) .
ولنأخذ العنوان الآتي: (باب من أدرك من الجمعة ركعة) كذلك هذا العنوان لا ينبئ عن مضمونه، ولا بد للراغب في المعرفة من قراءة الباب، والحديث برقم 1121 وهو: «من أدرك من الجمعة ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة (4) » .
وكذلك العنوان: (باب الرد على الإمام) لا يدري قارئ العنوان: أيجوز الرد أم لا يجوز. حتى إذا قرأ ما جاء في الباب عرف، والحديث برقم 1001 وهو (عن سمرة: «أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نرد على الإمام وأن نتحاب وأن يسلم بعضنا على بعض (5) » .
4 - وقد يأتي بعنوان كبير يسميه (جماع أبواب. .) أو (باب تفريع أبواب. .) وذلك كما في (باب تفريع أبواب الجمعة) (6) وتحته 38 بابا، و (جماع أبواب صلاة الاستسقاء وفروعها) (7) وتحته ثلاثة أبواب.
5 - وقد يأتي الباب خاليا من العنوان، ويقتصر المؤلف فيه على ذكر (باب) كما في كتاب " الصلاة " (8) .
6 - وقد يأتي بالعنوان بصيغة الإثبات، والحديث يدل على النفي. كما في الحديث 616 فالعنوان: باب الإمام يتطوع في مكانه. والحديث هو:
__________
(1) أي عنوان.
(2) '' قواعد التحديث '' ص 331.
(3) '' السنن '' 1 \ 400.
(4) '' السنن '' 1 \ 400.
(5) '' السنن '' 1 \ 361.
(6) '' السنن '' 1 \ 377.
(7) '' السنن '' 1 \ 412.
(8) '' السنن '' 1 \ 160.(1/307)
«لا يصل الإمام في الموضع الذي صلى فيه حتى يتحول (1) » .
وربما كان ذلك على تقدير (حكم الإمام. .) وجرى على طريقته في إغراء قارئ العنوان بقراءة ما ورد في الباب، وربما كان ذلك عندما يكون الحديث ضعيفا، فالحديث المثال ضعيف بسبب الانقطاع، بينه أبو داود بقوله: (عطاء الخراساني لم يدرك المغيرة بن شعبة) (2) .
7 - قد يأتي بالعنوان بصيغة الاستفهام، من ذلك مثلا قوله (باب أيصلي الرجل وهو حاقن؟) (3) وقوله (كيف التكشف عند الحاجة؟) (4) وقوله (إذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟) (5) وتختلف دلالة هذا الاستفهام من عنوان إلى عنوان. فهو يدل أحيانا على عدم جزم المؤلف بالحكم، وأحيانا أخرى يدل على الكيفية. وهو كثير جدا (6) .
8 - وربما لا ينطبق العنوان على المضمون أو لا يدل على المقصود إلا بعد طول تأمل: فمن ذلك عنوان (من جهر بها) أي بالبسملة. ففي هذا الباب ثلاثة أحاديث: أولها في عدم وجود البسملة في سورة براءة وثانيها في أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض ولم يبين لنا أنها منها وثالثها في أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم (7) .
وقال صاحب " عون المعبود ": (والاستدلال بهذا الحديث وكذا بكل حديث يدل على أن البسملة من القرآن على الجهر بها ليس بصحيح) (8) وكأنه بذلك يقول: إن حجة القائلين بذلك واهية ولا دليل لهم؛ لأن هذه الأحاديث لا تدل على رأيهم.
9 - وقد يجيء حديث لا يناسب عنوان الباب الذي هو فيه، بينما هو يناسب عنوان الباب الذي قبله. كما في الحديث (887) الوارد في باب مقدار الركوع والسجود (9) ، وليس فيه ما يتصل بموضوع الباب بل هو في موضوع الدعاء في الصلاة لأن فيه «من قرأ منكم فانتهى إلى آخرها فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين (12) » .
وهذا الموضوع يناسب موضوع الباب السابق وهو (باب الدعاء في الصلاة) (13) .
وفي مثل هذه الحالة قد يكون هذا الترتيب المغلوط عائدا إلى أن النساخ نقلوا حديثا أو عنوانا من موضع إلى موضع.
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (616) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1428) .
(2) '' السنن '' 1 \ 237.
(3) '' السنن '' 1 \ 55.
(4) '' السنن '' 1 \ 32.
(5) '' السنن '' 1 \ 141.
(6) انظر '' السنن '' 1 \ 33 - 44 - 78 - 107 - 109.
(7) '' السنن '' 1 \ 290.
(8) '' عون المعبود '' 1 \ 289.
(9) '' السنن '' 1 \ 324.
(10) سنن الترمذي تفسير القرآن (3347) ، سنن أبو داود الصلاة (887) .
(11) سورة التين الآية 1 (10) {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}
(12) سورة التين الآية 8 (11) {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}
(13) '' السنن '' 1 \ 322.(1/308)
تعليقاته
سبق أن تحدثت عن تبويب الكتاب وعن عناوينه وعن المنهج الذي انتهجه أبو داود في اختياره وأود فيما يأتي أن أتحدث عن تعليقاته، وهذه الأمور - كما أسلفت - هي التي تمثل جهد المؤلف وعلمه. ويحسن أن أبادر إلى بيان أني لا أعني بالتعليقات هنا المصطلح الحديثي لها وإنما أريد بها ما يورد أبو داود من كلام له علاقة بالحديث.
مواضعها ومقدارها:
- أما مواضعها فهي إما أن تكون خلال إيراده الحديث، ومن ذلك الحديث رقم 980 فقد مر رجل اشتهر أبوه بحادثة مهمة فعرف بأبيه حرصا على الفائدة: (حدثنا القعنبي عن مالك عن نعيم بن عبد الله المجمر أن محمد بن عبد الله بن زيد - وعبد الله بن زيد هو الذي أري النداء بالصلاة - أخبره عن أبي مسعود. . .) (1) فالتعليق هنا كان في جملة اعتراضية حرصا على إفادة القارئ والسامع. وقد يعترض بجملة معترضة ليزيل الالتباس، كما لو جاء أحد الرواة كنية فيذكر لنا اسم هذا الراوي كما في الحديث رقم 32 ففيه: (حدثني أبو أيوب - يعني الأفريقي - عن عاصم) .
وإما أن تكون التعليقات بعد إيراده الحديث. وهذا هو الغالب عليها. ولا حاجة للتمثيل عليها لأن كل الأمثلة القادمة هي من هذا النوع.
- وأما مقدارها، فهو يتفاوت من حديث إلى آخر. فبينما يكون التعليق جملة مختصرة إذا بنا نراها تبلغ أحيانا ما يقرب من صفحة.
مضمونها:
يمكن أن تصنف هذه التعليقات حسب الموضوع الذي تدور حوله، وسنورد ما وقفنا عليه من دراستنا لكتاب " السنن ":
1 - كلامه حول الرجال:
تعتبر هذه التعليقات من الملاحظات الحديثة بوجه عام، ومقدارها في " السنن " لا بأس به، ولو جمعت هذه الملاحظات في الرجال والمتون ونسقت لتكون منها بحث لطيف.
ونستطيع أن نصنف كلامه في الرجال في زمرتين:
الأولى:
كلامه في التعريف بهم وذكر أنسابهم والتحقيق في المختلف فيه منها وتبيان ما اعتراها من تصحيف وغلط.
__________
(1) '' السنن '' 1 \ 354.(1/309)
والثانية:
كلامه في جرحهم وتعديلهم.(1/310)
التعريف
من الأمثلة على التعريف بالرجال أنه أورد الحديث 1067 وهو عن الصحابي طارق بن شهاب فقال: (قال أبو داود: طارق بن شهاب قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئا) (1) .
ومن ذلك تعريفه قعنب أحد رواة الحديث 2496 فقد عرفه تعريفا مفصلا فقال: (قال أبو داود: كان قعنب رجلا صالحا، وكان أبي ليلى أراد قعنبا على القضاء فأبى عليه، وقال: أنا أريد الحاجة بدرهم فأستعين عليها برجل قال: وأينا لا يستعين في حاجته؟ قال: أخرجوني حتى أنظر، فأخرج، فتوارى. قال سفيان: بينما هو متوار إذ وقع عليه البيت فمات) (2) .
ومن ذلك تعريفه بأبي العباس أحد رواة الحديث 2529 وهو (محمد بن كثير، حدثنا سفيان - عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي العباس عن عبد الله بن عمرو قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أجاهد؟ قال: ألك أبوان؟ قال: نعم. قال: " ففيهما جاهد (3) » .
قال أبو داود: أبو العباس هذا: الشاعر، اسمه السائب بن فروخ) (4) . ومن ذلك تعريفه سليمان أحد رواة الحديث 975 فقد قال بعد أن أورد الحديث: (قال أبو داود: سليمان بن موسى كوفي الأصل كان بدمشق) (5) .
ومن ذلك تفسيره نسبة أبي مصبح المقرائي أحد رواة الحديث 938 فقد قال بعد أن أورد الحديث يفسر هذه النسبة: (قال أبو داود: المقراء قبيل من حمير) (6) .
ومن ذلك تعريفه بأبي زيد أحد رواة الحديث رقم 10 فقد رأى أن ذكر الكنية وحدها لا يكفي فقال بعد أن أورد الحديث: (قال أبو داود: وأبو زيد هو مولى بني ثعلبة) (7) .
__________
(1) '' السنن '' 1 \ 384.
(2) '' السنن '' 3 \ 12.
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (3004) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2549) ، سنن الترمذي الجهاد (1671) ، سنن النسائي الجهاد (3103) ، سنن أبو داود الجهاد (2529) ، مسند أحمد بن حنبل (2/193) .
(4) '' السنن '' 3 \ 25.
(5) '' السنن '' 1 \ 353.
(6) '' السنن '' 1 \ 340.
(7) '' السنن '' 1 \ 31.(1/310)
ومن ذلك تبيينه المراد من أبي شجرة أحد رواة الحديث رقم 666 فقد قال بعد أن أورد الحديث: (قال أبو داود: أبو شجرة كثير بن مرة) (1) .
وقد يبين بالتعليق بلد الراوي كما فعل في جعفر بن يحيى بن ثوبان أحد رواة الحديث 672. فقد قال (قال أبو داود: جعفر بن يحيى من أهل مكة) (2) .
وقد يكون حديثه عن الرجل في هذه التعليقات تصويبا لخطأ وتصحيف أو تحقيقا لاسم اختلف فيه:
فمن ذلك تصويبه لاسم أحد رواة الحديث 2522 وهو رباح بن الوليد الذي ورد مقلوبا مغلوطا كما يلي: (حدثنا أحمد بن صالح، ثنا يحيى بن حسان، ثنا الوليد بن رباح الذماري حدثني عمي نمران بن عتبة الذماري قال: دخلنا على أم الدرداء. . .) فقد قال مصوبا هذا الخطأ: (قال أبو داود: صوابه رباح بن الوليد) (3) .
ومن ذلك إشارته إلى قول آخر في اسم الرجل الوارد في الحديث وقد يكون أحدهما تصحيفا للآخر، كما في الحديث 1007 الذي جاء فيه: «صلى بنا إمام لنا يكنى أبا رمثة فقال: صليت هذه الصلاة أو مثل هذه الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم (4) » . قال أبو داود عقب الحديث:
(قال أبو داود: وقد قيل (أبو أمية) مكان (أبي رمثة) (5) .
ومن ذلك تحقيقه اسم أحد رواة الحديث 63 وهو محمد بن عباد بن جعفر فقد ورد في رواية مغلوطا فذكر القولين ثم رجح الصواب. وهذا الحديث رواه عن ثلاثة شيوخ وهم محمد بن العلاء، وعثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي. وجاء اسم الراوي في سنده هكذا (محمد بن جعفر بن الزبير) ثم قال: (قال أبو داود: وهذا لفظ ابن العلاء. وقال عثمان والحسن بن علي: عن محمد بن عباد بن جعفر. قال أبو داود: وهو الصواب) (6) .
وقد يورد أقوالا مختلفة في اسم راو ولا يرجح. كما في الحديث 888 فقد جاء في سنده اسم أحد الرواة: وهب بن فانوس. وبعد أن أورد الحديث قال: (قال أبو داود: قال أحمد بن صالح: قلت له: مأنوس أو مأبوس. قال: أما عبد الرازق فيقول: مأبوس، وأما حفظي فمأنوس) (7) ولم يرجح.
__________
(1) '' السنن '' 1 \ 252.
(2) '' السنن '' 1 \ 253.
(3) '' السنن '' 3 \ 23.
(4) سنن أبو داود الصلاة (1007) .
(5) '' السنن '' 1 \ 363.
(6) '' السنن '' 1 \ 48.
(7) '' السنن '' 1 \ 325.(1/311)
الجرح والتعديل
إن تعليقات أبي داود التي تتناول الرجال جرحا وتعديلا كثيرة لن نستطيع استقصاءها وسترد أمثلة كثيرة منها الفقرة الآتية التي نتحدث فيها عن كلامه في تضعيف الحديث، ومن أجل ذلك فسأورد بعض الأمثلة هنا اكتفاء بما سيمر بنا في تضعيفه الحديث.
وهو - في جرحه للرجال - إما أن يورد قوله فيهم فقط دون أن ينقل عن بعض العلماء وإما أن يكون الحكم عليهم منقولا عن الأئمة الذين تقدموه.
فمن الأمثلة على جرحه الرجال قوله في (عبد السلام بن حرب) أحد رواة الحديث رقم 14: (وهو ضعيف) (1) .
ومن ذلك قوله في (أبان بن طارق) أحد رواة الحديث رقم 3741: (إنه مجهول) (2) .
وقد يورد الحكم على الرجال منقولا عن العلماء كما فعل في الحكم على (عبد الرحمن بن إسحاق) أحد رواة الحديث 758 فقد نقل عن الإمام أحمد تضعيفه إياه قال: (قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يضعف عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي) (3) .
__________
(1) '' السنن '' 1 \ 32.
(2) '' السنن '' 3 \ 467.
(3) '' السنن '' 1 \ 280 - 281.(1/312)
2 - كلامه في تضعيف الحديث
لو ذهبت أستقصي تعليقاته في تضعيف الحديث لخرجت عن حدود البحث التي رسمتها لكثرتها مع تنوعها، ولكنني أذكر ما يعطي الفكرة النيرة عن تعليقاته في هذا الموضوع.
فمن الأمثلة على تضعيفه للحديث وبيانه سبب الضعف ما رواه عن شيخه محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة البصري في الحديث رقم 704 ونصه:
(عن ابن عباس - قال أحسبه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم إلى غير سترة فإنه يقطع صلاته الكلب والحمار والخنزير واليهودي والمجوسي والمرأة، ويجزئ عنه إذا مروا بين يديه على قذفة بحجر (1) » . ثم قال المؤلف معلقا:
__________
(1) '' السنن '' 1 \ 263.(1/312)
قال أبو داود: في نفسي من هذا الحديث شيء، كنت أذاكر به إبراهيم وغيره، فلم أر أحدا جاء به عن هشام ولا يعرفه، ولم أر أحدا جاء به عن هشام. وأحسب الوهم من ابن أبي سمينة يعني محمد بن إسماعيل البصري مولى بني هاشم. والمنكر فيه ذكر المجوسي، وفيه: على قذفه بحجر، وذكر الخنزير. وفيه نكارة قال أبو داود: ولم أسمع هذا الحديث إلا من محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة، وأحسبه وهم؛ لأنه كان يحدثنا من حفظه) (1) .
ومن الأمثلة على ذلك تعليقه على الحديث 19 فقد بين درجته ثم ذكر سبب الضعف ونصه: (عن همام، عن ابن جريج عن الزهري عن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه (2) » . قال: (قال أبو داود: هذا حديث منكر) ثم قال ذاكرا سبب الضعف: (وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس أن «النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه (3) » . والوهم فيه من همام، ولم يروه إلا همام) (4) .
ومن الأمثلة على ذلك تعليقه على الحديث رقم 132 فقد نقل إنكار أحمد وابن عيينة للحديث؛ وفي سنده (عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده) (قال أبو داود: قال مسدد: فحدثت به يحيى فأنكره، وقال أبو داود: وسمعت أحمد يقول: إن ابن عيينة زعموا أنه كان ينكره ويقول: إيش هذا: طلحة عن أبيه عن جده) (5) .
ومن الأمثلة على ذلك تضعيفه للحديث ببيان انقطاعه أي أن أحد الرواة لم يدرك الآخر، وهذا ما يعبر عنه علماء الحديث بالانقطاع كما في الحديث 616 الذي جاء في سنده: (. . عبد العزيز بن عبد الملك ثنا عطاء الخراساني، عن المغيرة بن شعبة) .
قال أبو داود في تعليقه عليه: (قال أبو داود: عطاء الخراساني لم يدرك المغيرة بن شعبة) (6) .
ومن ذلك تعليقه على الحديث 1978 وقد جاء في سنده أن الحجاج يروي عن الزهري فقال في نقده: (قال أبو داود: هذا حديث ضعيف، الحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه) (7) .
ومن ذلك تعليقه على الحديث رقم 165 وفي سنده (. . أخبرنا ثور بن يزيد عن رجاء بن حيوة. .) فقال أبو داود يضعفه (وقال أبو داود: وبلغني أنه لم يسمع ثور هذا الحديث من رجاء) (8) .
__________
(1) '' السنن '' 1 \ 263.
(2) سنن الترمذي اللباس (1746) ، سنن النسائي الزينة (5213) ، سنن أبو داود الطهارة (19) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303) .
(3) سنن أبو داود الطهارة (19) .
(4) '' السنن '' 1 \ 34.
(5) '' السنن '' 1 \ 68.
(6) '' السنن '' 1 \ 237.
(7) '' السنن '' 2 \ 273.
(8) '' السنن '' 1 \ 79.(1/313)
ومن ذلك تضعيفه للحديث بنقل أقوال بعض العلماء في توهين الحديث كما في الحديث 1004 وهو: " حذف السلام سنة " فقد قال عقبه:
(قال عيسى: نهاني ابن المبارك عن رفع هذا الحديث. قال أبو داود: سمعت أبا عمير عيسى بن يونس الفاخوري الرملي قال: لما رجع الفريابي (وهو أحد رواة الحديث) من مكة ترك رفع هذا الحديث وقال: نهاه أحمد بن حنبل عن رفعه) (1) .
ومن تضعيفه للحديث نقلا عن بعض العلماء تعليقه على الحديث رقم 202 فقد قال عقبه: (قال أبو داود: قوله: الوضوء على من نام مضطجعا هو حديث منكر لم يروه إلا أبو يزيد أبو خالد الدالاني عن قتادة) ثم قال: (قال أبو داود: وذكرت حديث يزيد الدالاني لأحمد بن حنبل فانتهرني استعظاما له وقال: ما ليزيد الدالاني يدخل على أصحاب قتادة؛ ولم يعبأ بالحديث) (2) .
وقد يضعف الحديث بالحكم عليه بأنه وهم دون أن يذكر سبب حكمه كما في فعل في الحديث رقم 944 «التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعد لها» . يعني الصلاة قال أبو داود: هذا الحديث وهم) (3) .
وقد يضعف الحديث بالحكم عليه بأنه ليس بالقوي، كما فعل في الحديث رقم 158 فقد قال في عقبه: (قال أبو داود: وقد اختلف في إسناده، وليس هو بالقوي. ورواه ابن أبي مريم ويحيى بن إسحاق والسليمي عن يحيى بن أيوب، وقد اختلف في إسناده) (4) .
وكما في الحديث رقم 159 فقد قال عقبه:
(قال أبو داود: وروي هذا أيضا عن أبي موسى الأشعري «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الجوربين (5) » وليس بالمتصل ولا بالقوي) (6) .
__________
(1) '' السنن '' 1 \ 361 - 362.
(2) '' السنن '' 1 \ 91 - 92.
(3) '' السنن '' 1 \ 342.
(4) '' السنن '' 1 \ 77.
(5) سنن أبو داود الطهارة (159) .
(6) '' السنن '' 1 \ 77.(1/314)
3 - فوائد حديثية
في تعليقات أبي داود فوائد حديثية أخرى ليست مقصورة على مبحث التصحيح والتضعيف، وسنذكر بعضا منها:(1/314)
فمن هذه الفوائد تعليقه على بعض الأحاديث بأن ينبه بأن رواة هذا الحديث كلهم مثلا من بلد معين، وهذه مزية خاصة للسند ويدعو بعضهم الحديث الذي يكون سنده كذلك بالحديث المسلسل (1) فمن ذلك تعليقه على الحديث رقم 91 حيث قال:
(قال أبو داود: هذا من سنن أهل الشام لم يشركهم فيها أحد) (2) .
ومن ذلك تعليقه على الحديث رقم 155 حيث قال:
(قال أبو داود: هذا مما تفرد به أهل البصرة) (3) .
ومن ذلك تعليقه على الحديث رقم 870 حيث قال بعده:
(قال أبو داود: وهذه الزيادة نخاف ألا تكون محفوظة. قال أبو داود انفرد أهل مصر بإسناد هذين الحديثين: حديث الربيع وحديث أحمد بن يونس) (4) .
ومن هذه الفوائد الحديثية: إشارته إلى أن هذا الحديث لم يسند إلا من هذا الطريق كما جاء في تعليقه على الحديث رقم 15 حيث قال (قال أبو داود: هذا لم يسنده إلا عكرمة بن عمار) (5) .
ومن الفوائد الحديثية ما يجريه من الموازنة بين روايتين يوردهما.
فقد أورد الحديثين 1053 و1054؛ أحدهما في أن كفارة من ترك الجمعة دينار، وهو عن همام. وثانيهما في أن كفارة من ترك الجمعة درهم - وهو عن أبي العلاء أيوب. وقال بعد أن أوردهما.
(قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن اختلاف هذا الحديث فقال: همام عندي أحفظ من أيوب يعني أبا العلاء) (6) .
وكذلك فقد أورد الحديث 1024 وهو:
(حدثنا محمد بن العلاء، ثنا أبو خالد، عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «" إذا
__________
(1) '' الحديث النبوي '' ص 192.
(2) '' السنن '' 1 \ 56.
(3) '' السنن '' 1 \ 76.
(4) '' السنن '' 1 \ 319.
(5) '' السنن '' 1 \ 32.
(6) '' السنن '' 1 \ 380.(1/315)
شك أحدكم في صلاته فليلق الشك وليبن على اليقين، فإذا استيقن التمام سجد سجدتين فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة والسجدتان. وإن كانت ناقصة كانت الركعة تماما لصلاته وكانت السجدتان مرغمي الشيطان (1) » .
قال أبو داود: رواه هشام بن سعد ومحمد بن مطرف عن زيد عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي خالد أشبع) (2) .
واكتفى بهذه الموازنة ولم يورد حديث ابن سعد ولا ابن مطرف.
وقد يعبر عن تفضيله لإحدى الروايتين بأن حديث فلان أتم، كما صنع في الحديث رقم 45 حيث قال:
(قال أبو داود: وحديث الأسود بن عامر أتم) (3) ، وكما صنع في الحديث رقم 62 فقد رواه عن محمد بن يحيى، عن عبد الله بن يزيد، ثم أورد تحويلا فقال: (ح وحدثنا مسدد، ثنا عيسى بن يونس قالا: ثنا عبد الرحمن بن زياد. قال أبو داود: وأنا لحديث ابن يحيى أتقن) وبعد أن أورد الحديث قال:
(قال أبو داود: وهذا حديث مسدد وهو أتم) (4) .
ومن الفوائد الحديثة التي نجدها في التعليقات ما يتصل بمفهوم المصطلحات كالمرسل، فإن المرسل عند جمهور العلماء هو الحديث الذي سقط منه الصحابي ومنهم من يعم فيطلق المرسل على كل حديث سقط منه راو، ويبدو أن أبا داود من هؤلاء؛ يدل على ذلك تعليقه على الحديث 886 وسنده: (حدثنا عبد الملك بن مروان الأهوازي، ثنا أبو عامر وأبو داود عن ابن أبي ذئب عن إسحاق بن زيد الهذلي، عن عون بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود. . . إلخ. .) .
قال أبو داود: (هذا مرسل: عون لم يدرك عبد الله) (5) .
ومن الفوائد الحديثية أنه يذكر أحيانا أن هذا الراوي لم يخرج له في كتابه إلا هذا الحديث كما صنع في الحديث 1036 فقد أخرجه عن جابر الجعفي وهو رافضي كذاب، فقال بعد أن أورده:
(قال أبو داود: وليس في كتابي عن جابر الجعفي إلا هذا الحديث) (6) .
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (571) ، سنن الترمذي الصلاة (396) ، سنن النسائي السهو (1238) ، سنن أبو داود الصلاة (1024) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1210) ، مسند أحمد بن حنبل (3/87) ، موطأ مالك النداء للصلاة (214) ، سنن الدارمي الصلاة (1495) .
(2) '' السنن '' 1 \ 370 قال في '' عون المعبود '' 1 \ 392: أشبع أي وأكمل.
(3) '' السنن '' 1 \ 42.
(4) '' السنن '' 1 \ 48.
(5) '' السنن '' 1 \ 324.
(6) '' السنن '' 1 \ 373 - 374.(1/316)
وكأنه يعتذر بذلك لضعف جابر، وأظن أن مثل هذا التعليق إنما كان من أبي داود في قراءاته المتأخرة للكتاب وليس من تأليفه الأول.(1/317)
4 - التعريف بالأمكنة
ويشغل هذا المقصد حيزا ليس بالقليل من التعليقات، ويبحث أبو داود في هذا الأمر بحثا موضوعيا ميدانيا - على التعبير الشائع - فيقوم بنفسه بقياس الأمكنة المذكورة في الحديث ورؤيتها والبحث في التطورات التي حصلت عليها ويصفها كما رآها.
وهذا تفكير علمي صحيح وأسلوب من التحقيق اليقيني في مثل هذه الموضوعات، ومن الأمثلة على ذلك تحقيقه لموضع (بئر بضاعة) وقياسها ووصفها؛ فهو بعد أن أورد الحديث المشهور عن هذه البئر التي سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء فيها على الرغم مما يطرح فيها من الفضلات فقال صلى الله عليه وسلم: «الماء طهور لا ينجسه شيء (1) » . وبعد أن أورد المؤلف روايتين للحديث قال:
(قال أبو داود: وسمعت قتيبة بن سعد قال: سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها. قال: أكثر ما يكون فيها الماء إلى العانة. قلت: فإذا نقص؟ قال: دون العورة.
قال أبو داود: وقدرت أنا بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته، فإذا عرضها ستة أذرع. وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه: هل غير بناؤها عما كانت عليه؟ قال: لا. ورأيت فيها ماء متغير اللون) (2) فهو أولا يروي ما سمعه عن قتيبة بن سعد ويقره عليه؛ لأنه بعد أن زار البئر لم يذكر لنا خلاف ما روى.
ثم يذكر أنه هو بنفسه قاسها فوجد عرضها ستة أذرع، ويحكي لنا الطريقة التي استخدمها في هذا القياس وهي مد ردائه عليها ثم ذرعه، ويحكي لنا أنه خشي أن يكون بناؤها قد غير عما كان عليه زمن الرسول، فسأل المشرف عليها الذي فتح له باب البستان الذي يضمها. فتأكد من أنها على حالها ثم وصف الماء الذي فيها بأنه متغير اللون.
وهذا صنيع علمي دقيق محمود.
وكذلك فقد عرف المكان الوارد في الحديث 37 وهو حصن باب أليون فقال: (قال أبو داود: حصن أليون بالفسطاط على جبل) (3) .
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (66) ، سنن أبو داود الطهارة (66) .
(2) '' السنن '' 1 \ 49 - 50.
(3) '' السنن '' 1 \ 40.(1/317)
5 - ذكر مناسبة ورود الحديث
من التعليقات إيراده مناسبة الحديث وغالبا ما يفعل ذلك إذا كان فيه تعارض مع حديث آخر.
مثال ذلك أنه أورد حديثا يمنع الالتفات في الصلاة (1) وهو برقم 909 ثم جاء بحديث آخر برقم 916 يرخص في ذلك، وفيه «فجعل رسول الله يصلي وهو يلتفت إلى الشعب (2) » .
قال أبو داود: (وكان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل) (3) وقد أورد الحديث مفصلا (4) برقم 2501 وكأني به يريد أن يقول إن الأصل عدم الالتفات إلا أن يكون هناك داع تحتمه المصلحة كما في هذا الحديث؛ إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل فارسا إلى الشعب ليلا يحرس، فلما وقف صلى الله عليه وسلم لصلاة الصبح جعل يلتفت، لهذا الاعتبار.
ومن المفيد أن نشير إلى أن هناك كتبا ألفت في بيان مناسبات الحديث من أشهرها كتاب " البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف " (5) للعلامة المحدث السيد إبراهيم بن محمد كمال الدين نقيب مصر ثم الشام الشهير بابن حمزة الحسيني الدمشقي المتوفى سنة 1120.
__________
(1) '' السنن '' 1 \ 331.
(2) '' السنن '' 1 \ 332.
(3) '' السنن '' 1 \ 332.
(4) '' السنن '' 3 \ 14.
(5) وقد طبع هذا الكتاب بمطبعة البهاء بحلب سنة 1329 هـ بمجلدين.(1/318)
6 - شرح الكلمات
من أكثر التعليقات ورودا شرحه الكلمات الواردة في الأحاديث وهو على أنواع:
فمنها شرحه المفردة الغريبة دون أن يذكر في الشرح أحدا من العلماء والشراح كما فعل في الحديث 132 حيث قال: (حتى بلغ القذال وهو أول القفا) (1) وكذلك فعل في الحديث 142 قال: (فأتينا بقناع والقناع الطبق فيه تمر) (2) ومن الملاحظ أن هذه الشروح وردت خلال النص، وأحيانا يكون الشرح عقبه، وهكذا فعل في الحديث 947 وهو: (عن أبي هريرة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاختصار في الصلاة (3) » ، قال أبو داود يعني يضع يده على خاصرته) (4) .
وكذلك فعل في الحديث 3715 وهو: «قالت سودة: بل أكلت مغافير. قال: بل شربت عسلا سقتني حفصة. فقلت: جرست نحله العرفط (5) » . (قال أبو داود: المغافير: مقلة، وهي
__________
(1) '' السنن '' 1 \ 68.
(2) '' السنن '' 1 \ 71.
(3) صحيح البخاري الجمعة (1220) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (545) ، سنن الترمذي الصلاة (383) ، سنن النسائي الافتتاح (890) ، سنن أبو داود الصلاة (947) ، مسند أحمد بن حنبل (2/290) ، سنن الدارمي الصلاة (1428) .
(4) '' السنن '' 1 \ 343.
(5) صحيح البخاري الحيل (6972) ، صحيح مسلم الطلاق (1474) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3795) ، سنن أبو داود الأشربة (3714) ، مسند أحمد بن حنبل (6/221) .(1/318)
صمغة. وجرست: رعت، العرفط: نبت من نبت النحل) (1) .
وقد ينقل هذا الشرح عن عالم من علماء غريب الحديث:
كما في الحديث 3685 وهو: «نهى صلى الله عليه وسلم عن الخمر والميسر والغبيراء وقال: " كل مسكر حرام (2) » . قال أبو داود: (قال ابن سلام أبو عبيد: الغبيراء السكركة تعمل من الذرة، شراب يعمله الحبشة) (3) .
وقد تكون الكلمة واضحة المعنى في ذاتها غير أن المراد منها يحتاج إلى إيضاح فيتولى شرح ذلك.
كما في الحديث 666 الذي ورد فيه قوله صلى الله عليه وسلم: «ولينوا بأيدي إخوانكم (4) » فقال في شرحها: (قال أبو داود: ومعنى «لينوا بأيدي إخوانكم (5) » . إذا جاء رجل إلى الصف فذهب يدخل فيه، فينبغي أن يلين له كل رجل منكبيه حتى يدخل في الصف) (6) .
وكما في حديث أنس برقم 413 الذي فيه «حتى إذا اصفرت الشمس (7) » فقد أورد بعد ذلك شرحا لهذه الجملة مسبوقا بسند ينتهي إلى الأوزاعي صاحب الشرح فقال:
(حدثنا محمود بن خالد، ثنا الوليد، قال: قال أبو عمرو - يعني الأوزاعي -: وذلك أن ترى ما على الأرض من الشمس صفراء) (8) .
وقد يكون شرحه للكلمة بيانا للحكم الفقهي. مثال ذلك شرحه لكلمة (عجماء) الواردة في الحديث 4593 من قوله صلى الله عليه وسلم: «العجماء جرحها جبار (9) » . فقال:
(قال أبو داود: العجماء: المنفلتة التي لا يكون معها أحد وتكون بالنهار لا تكون بالليل) (10) .
فهو في هذا الشرح إنما يبين المراد من كلمة العجماء في الحديث ممزوجا بالحكم الفقهي ولا يشرح الكلمة من الناحية اللغوية، فبين أن جرحها جبار عندما تكون منفلتة ليس معها أحد، وهذا خاص بالنهار. أما في الليل فلا بد من مسؤولية تترتب على صاحبها إن فرط.
__________
(1) '' السنن '' 3 \ 458.
(2) سنن أبو داود الأشربة (3685) ، مسند أحمد بن حنبل (2/158) .
(3) '' السنن '' 3 \ 449.
(4) سنن النسائي الإمامة (819) ، سنن أبو داود الصلاة (666) .
(5) سنن النسائي الإمامة (819) ، سنن أبو داود الصلاة (666) .
(6) '' السنن '' 1 \ 252.
(7) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (622) ، سنن الترمذي الصلاة (160) ، سنن النسائي المواقيت (511) ، سنن أبو داود الصلاة (413) ، مسند أحمد بن حنبل (3/185) ، موطأ مالك النداء للصلاة (512) .
(8) '' السنن '' 1 \ 168.
(9) صحيح البخاري الديات (6912) ، صحيح مسلم الحدود (1710) ، سنن الترمذي الزكاة (642) ، سنن النسائي الزكاة (2495) ، سنن أبو داود الديات (4593) ، سنن ابن ماجه الديات (2673) ، مسند أحمد بن حنبل (2/454) ، موطأ مالك العقول (1622) ، سنن الدارمي الديات (2377) .
(10) '' السنن '' 4 \ 273.(1/319)
7 - آراء فقهية
سبق أن رأينا أن آراء الرجل الفقهية نستطيع أن نجدها في عناوين الأبواب من كتابه ونود هنا أن نتحدث عن الآراء الفقهية الكثيرة التي نقف عليها خلال تعليقاته على الأحاديث في كتاب السنن.
ويمكن أن تصنف آراءه أنواعا عدة:
فمن هذه الآراء الفقهية آراء ينسبها لجماعة من الصحابة أو التابعين.
فهو يقول بعد الحديث 159:
(قال أبو داود: ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب وابن مسعود، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك وأبو أمامة، وسهل بن سعد وعمرو بن حريث، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس) (1) وهو في هذا يؤيد القول بالمسح على الجوربين بنقله عن هؤلاء الصحابة الذين يرون هذا الرأي.
ويقول في باب سجود السهو تعليقا على الحديث 1035 (قال أبو داود: وكذلك سجدهما ابن الزبير قام من ثنتين قبل التسليم، وهو قول الزهري) (2) .
وفي باب الاحتباء والإمام يخطب أورد حديثين:
أولهما: برقم 1110
عن معاذ بن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب (3) » ، وفي سند هذا الحديث سهل بن معاذ وأبو مرحوم، وقد تكلم فيها.
ثانيهما: برقم 1111
عن يعلى بن شداد قال: شهدت مع معاوية بيت المقدس فجمع بنا، فنظرت فإذا جل من في المسجد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرأيتهم محتبين والإمام يخطب.
قال أبو داود: كان ابن عمر يحتبي والإمام يخطب وأنس بن مالك وشريح وصعصعة بن صوحان، وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي، ومكحول، وإسماعيل بن محمد بن سعد، ونعيم بن سلامة قال: لا بأس بها.
__________
(1) '' السنن '' 1 \ 78.
(2) '' السنن '' 1 \ 373.
(3) سنن الترمذي الجمعة (514) ، سنن أبو داود الصلاة (1110) ، مسند أحمد بن حنبل (3/439) .(1/320)
قال أبو داود: ولم يبلغني أن أحدا كرهها إلا عبادة بن نسي) (1) . وكأن إيراده ذلك عنهم بعد أن أورد حديثين متعارضين تأييد لأحدهما ورد للآخر، وقد رأينا أنه رد حديث النهي عن الحبوة بأن في سنده رجلين تكلم فيهما.
وكذلك فعل بعد الحديث 152. قال: (قال أبو داود: أبو سعيد الخدري وابن الزبير وابن عمر يقولون من أدرك الفرد من الصلاة عليه سجدتا السهو) (2) .
وقد يورد آراء بعض التابعين، والأمثلة كثيرة يطول ذكرها.
وقد ينقل آراء العلماء التي تتضمن آراء فقهية، فمن ذلك نقله أقوال العلماء في تحديد بعض المقادير. كما فعل بعد أن أورد حديث اغتسال النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصاع ووضوئه بالمد رقم 95 قال: (قال أبو داود: وسمعت أحمد بن حنبل يقول: الصاع خمسة أرطال، وهو صاع ابن أبي ذئب وهو صاع النبي -صلى الله عليه وسلم-) (3) .
ومن أمثلة نقله آراء العلماء الفقهية تعليقه على الحديث 884 قال: (قال أبو داود: قال أحمد: يعجبني في الفريضة أن يدعو بما في القرآن) (4) .
وقد وجدت أبا داود في نقله آراء العلماء الفقهية يغلب عليه الاختصار والإيجاز، وقد وجدته مرة يطيل في نقل ذلك إطالة تلفت النظر، وذلك في باب (من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة) (5) .
ومن هذه الآراء الفقهية آراء اجتهادية تثبت لنا مقدرته الفقهية ووزنه الراجح في ذلك وهذا كثير ونكتفي بالإشارة إلى بعض الأمثلة.
علق على الحديث رقم 342 التعليق الآتي:
__________
(1) '' السنن '' 1 \ 397.
(2) '' السنن '' 1 \ 75.
(3) '' السنن '' 1 \ 57.
(4) '' السنن '' 1 \ 323.
(5) '' السنن '' 1 \ 118.(1/321)
قال أبو داود: إذا اغتسل الرجل بعد طلوع الفجر أجزأه من غسل الجمعة وإن أجنب) (1) .
وأورد حديثين في قراءة صلاة المغرب أحدهما يدل على الإطالة وهو برقم 812 والآخر يدل على التخفيف وهو برقم 813 ثم ذهب إلى أن حديث التخفيف في القراءة نسخ حديث الإطالة فقال: (قال أبو داود: هذا يدل على أن ذاك منسوخ وهذا أصح) (2) .
وأورد عددا من الأحاديث الصحيحة عن عثمان -رضي الله عنه- في مسح الرأس فقال: (قال أبو داود: أحاديث عثمان -رضي الله عنه- الصحاح كلها تدل على مسح الرأس أنه مرة، فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا، وقالوا فيها: (ومسح رأسه) ولم يذكروا عددا كما ذكروا في غيره) (3) .
ففي هذا التعليق رأي أبي داود الفقهي في مسألة مسح الرأس في الوضوء وأنه مرة واحدة.
وفيه طريقة الاستنتاج وهي المقارنة بين المغسول والممسوح، فقد ذكروا العدد في غير المسح ولم يذكروه في المسح.
ومن هذه التعليقات تعليقات أصولية كما ترى في تعليقه على الحديث رقم 720 فقد أورد أبو داود أحاديث متعارضة في قطع الصلاة، وذكر عقب ذلك الخطة التي ينبغي أن ننتهجها إزاء ذلك فقال: (قال أبو داود: إذا تنازع الخبران عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظر إلى ما عمل به أصحابه بعده) (4) وفي التعليقات روايات عن بعض التابعين يعلل فيها حكما منقولا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فقد جاء بحديث عبد الله بن سرجس وهو برقم 29 أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يبال في الجحر. قال (5) : قالوا لقتادة: ما يكره (6) من البول في الجحر؟ قال: كان يقال: إنها مساكن الجن " (7) .
فنحن نرى أن أبا داود يورد كلام قتادة كتعليل للحكم، وقتادة يورده على صيغة لا تدل على الجزم: (كان يقال. . .) .
__________
(1) '' السنن '' 1 \ 144.
(2) '' السنن '' 1 \ 299.
(3) '' السنن '' 1 \ 61.
(4) '' السنن '' 1 \ 268 وهذا شبيه بالأصل الذي يقولون إن الإمام مالكا يأخذ به وهو عمل أهل المدينة.
(5) أي الراوي.
(6) أي لم يكره كما في '' عون المعبود '' 1 \ 12.
(7) السنن '' 1 \ 37.(1/322)
8 - المصطلحات
في تعليقات أبي داود عدد من المصطلحات نذكر منها ما يلي:(1/322)
(وذكر الحديث) (ساق قريبا من حديث فلان) (ساق الحديث نحوه) (بإسناده ومعناه) (بمعناه) .
وانظر الأحاديث 111 - 112 - 113 - 183 - 34 ويبدو أن مقتضى الاختصار مع الدقة والوضوح هو السبب في استعمال المؤلف لهذه المصطلحات؛ لأن هذه المصطلحات إنما يوردها أبو داود بعد أن يأتي بحديث ويريد أن يأتي بآخر.
ورأيته مرة استعمل كلمة (مقصور) بدل كلمة (موقوف) وكلمة (أسنده) بدل (رفعه) .
وذلك في الحديث 1056 وهو: (حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، ثنا قبيصة، ثنا سفيان، عن محمد بن سعيد، عن أبي سلمة بن نبيه عن عبد الله بن هارون عن عبد الله بن عمرو، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «" الجمعة على كل من سمع النداء (1) » . ثم قال: (قال أبو داود: روى هذا الحديث جماعة عن سفيان مقصورا على عبد الله بن عمرو. ولم يرفعوه وإنما أسنده قبيصة) (2) .
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (1056) .
(2) '' السنن '' 1 \ 381.(1/323)
تعليقات غامضة
وهناك بعض التعليقات الغامضة التي لا تفهم إلا بعد طول نظر وتأمل، ومن ذلك التعليق الآتي مع سند الحديث رقم 975.
حدثنا محمود بن داود بن سفيان، ثنا يحيى بن حسان ثنا سليمان بن موسى أبو داود، ثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، حدثني خبيب بن سليمان بن سمرة عن أبيه سليمان بن سمرة. عن سمرة بن جندب أما بعد «أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان في وسط الصلاة أو حين انقضائها فابدءوا قبل التسليم فقولوا: التحيات الطيبات والصلوات والملك لله ثم سلموا على اليمين ثم سلموا على قارئكم وعلى أنفسكم (1) » .
قال أبو داود: سليمان بن موسى كوفي الأصل كان بدمشق.
قال أبو داود: دلت هذه الصحيفة على أن الحسن سمع من سمرة (2) .
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (975) .
(2) '' السنن '' 1 \ 353.(1/323)
وغموض التعليق جاء من أنه لم يرد للحسن ولا للصحيفة ذكر.
وشرح هذا التعليق كما يأتي: قال في " عون المعبود ":
(وفي سنن أبي داود في باب اتخاذ المساجد في الدور: عن سمرة بن جندب أنه كتب إلى بنيه: (أما بعد فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. . .) الحديث فثبت أنه كان عند أبناء سمرة صحيفة من سمرة، وأنهم جمعوا ما كتب إليهم سمرة فصارت هذه المكاتيب بمنزلة الصحيفة والكتاب.
وأما قول المؤلف: (دلت هذه الصحيفة. . .) فوجه دلالتها وتعلقها بالباب أن هذا اللفظ الذي رواه سليمان بن سمرة عن أبيه بقوله (أما بعد فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. .) من ألفاظ الصحيفة التي أملاها سمرة ورواها عنه ولده سليمان، فأراد أبو داود أن سليمان بن سمرة كما صح سماعه من أبيه بهذه الصحيفة وغيرها كذلك الحسن البصري صح سماعه بهذه الصحيفة وغيرها من سمرة؛ لأن كلا منهما أي سليمان بن سمرة وكذا الحسن بن يسار من الطبقة الثالثة، فدل ذلك أن الحسن سمع من سمرة كما أن سليمان بن سمرة سمع من أبيه سمرة؛ لأنهما من الطبقة الثالثة فلما سمع سليمان من أبيه سمرة فلا مانع أن يكون الحسن سمع منه، وأن أبا داود من القائلين بأن الحسن البصري ثبت سماعه من سمرة. .) (1) .
__________
(1) '' عون المعبود '' 1 \ 369 - 370.(1/324)
مخطوطات كتاب سنن أبي داود
ذكر بروكلمان وفؤاد سزكين مواضع وجود مخطوطات كاملة ومخطوطات ناقصة من هذا الكتاب، وقد كدت أنقل ذلك بأرقامه وعدد صفحات الموجود منه، ولكني لم أجد في ذلك كبير فائدة فرأيت أن أشير إلى أماكن وجودها، وبإمكان الراغب في الاطلاع عليها أن يرجع إلى هذين الكتابين:
برلين - ميونخ - باريس - يني جامع - أيا صوفيا - نور عثمانية - كوبريلي - مراد ملا - سليم آغا - شهيد علي - حكيم - الفاتم - جار الله - حسن حسني - الحميدية - خالد أفندي - مهرشاه - لاله لي - فيض الله رئيس الكتاب - مكتبة جامعة إستامبول - عاطف - أنقرة صائب الرباط - تشستر بيتي - منجانا - تيمور - طلعت - بلدية الإسكندرية - الأوقاف ببغداد - عليكرة - سبحان - بريل - بودليانا - الجزائر - دمشق - حلب - داماد زاده - سليمانية - يوسف آغا - تلمسان - مكتبة القرويين بفاس - مكتبة جامع الزيتونة - بنيكيبور - آصفية - رامبور - المتحف البريطاني.(1/324)
وكنت أتمنى لو أنه كان بإمكاني أن أتعرف إلى كل من هذه المخطوطات وبأية رواية هي؟ وهناك مخطوطات أخرى في غير هذه الأمكنة ولكننا لم نقف عليها.
ولعل من أهمها تلك المخطوطة النفيسة التي وقف عليها الصديق العلامة الزميل الدكتور محمد مصطفى الأعظمي وقد أخبرني أنها موجودة في المكتبة المحمودية في المدينة المنورة، وقد ابتدأت بأحاديث من الباب الذي يسبق باب (من ترك القراءة في صلاته) وانتهت بباب (صوم الدهر تطوعا) . وهي برواية أبي بكر محمد بن بكر. . ابن داسة وعليها سماعات وقراءات، وعورضت النسخة بأصل الشيخ أبي الحسن ماسرجسي رحمه الله وذكر الاختلاف بهامش النسخة.
ولعل من أهم هذه المخطوطات مخطوطة نفيسة لا أدري مكان وجودها على وجه اليقين وإن كنت أظن أنها موجودة في مكة وقد وقفت على أمرها من نظري في نسخة سنن أبي داود المطبوعة التي كان يملكها الشيخ عبد الظاهر أبو السمح. إمام الحرم المكي رحمه الله، فقد قابل بعض طلبة العلم نسخة السنن المطبوعة بإشراف محمد محيي الدين عبد الحميد على هذه المخطوطة وقد نظرت فيها وأفدت منها كثيرا.(1/325)
طبعاته
طبع هذا الكتاب مرات عديدة، ولكنه لم يطبع حتى الآن طبعة محققة. ونورد فيما يأتي الطبعات التي ذكرها سركيس وبروكلمان وسزكين وسنزيد عليها ما وقفنا عليه. وكنت أود أن أتكلم على كل طبعة بكلمة وصفية نقدية، غير أن ذلك لم يتيسر لي الآن؛ لأنني لم أستطع رؤية جميع هذه الطبعات وقد تتهيأ لي فرصة في المستقبل لذلك:
1 - طبع بجزأين في المطبعة الكاستيلية بمصر سنة 1280 هـ بعناية الشيخ نصر الهوريني رحمه الله (1) .
2 - وذكر بروكلمان (2) أنه طبع سنة 1271 - 1272 في دهلي بالهند.
3 - وطبع بجزأين مع شروح على الهامش في الهند بدلهي سنة 1283.
4 - وطبع جزء واحد منه مع شروح على الهامش في دهلي سنة 1890 م وعدد صفحاته 168.
5 - وطبع بجزء واحد في لكناو سنة 1840.
6 - وطبع في لكناو سنة 1877 - 1888.
__________
(1) انظر '' مقدمة محيي الدين عبد الحميد '' ص 19.
(2) انظر '' تاريخ الأدب العربي '' 3 \ 187.(1/325)
7 - وطبع في لكناو سنة 1305.
8 - وطبع بجزء واحد في حيدر آباد سنة 1321 هـ وصفحاته 393.
9 - وطبع بجزأين مع شرح لأبي الحسنات محمد الفنجاني وذلك في لكناو سنة 1318 هـ.
10 - وذكر بروكلمان أنه طبع أيضا بهامش شرح الموطأ للزرقاني سنة 1310 هـ - 1320 هـ في القاهرة.
11 - وطبع بأربعة أجزاء مع شرح واسع جيد وهو " عون المعبود " في الهند سنة 1323، وسنتحدث عن هذا الشرح فيما بعد، والذي يهمنا هنا هو متن أبي داود، وأستطيع أن أقرر أن هذه الطبعة هي أصح ما رأيت من الطبعات وأفضلها وأكثرها تحقيقا.
فقد ذكر الشارح الأستاذ العظيم الآبادي أنه ظفر بإحدى عشرة نسخة من سنن أبي داود وكلها من رواية اللؤلؤي إلا نسخة واحدة فهي من رواية ابن داسة.
فقابل هذه النسخ بعضها على بعض ورجع إلى عشرات الكتب الأمهات من كتب الأئمة المتقدمين، واستطاع أن يميز رواية اللؤلؤي وأن يورد كل الروايات التي وصلت إليه وقال: (فصار هذا المتن والشرح جامعا لرواية ابن داسة وابن العبد وابن الأعرابي أيضا، بل فيه بعض رواية الرملي أيضا لكنه قليل جدا) (1) .
ويبدو أنه قد بذل غاية الجهد، ولولا أن هذه الطبعة حجرية على الطريقة التي لا يزال إخواننا الهنود يجرون عليها في الطباعة وأنها خالية من الترقيم لكان ينبغي أن يعتمد عليها جل الاعتماد.
12 - وطبع في مصر سنة 1371 هـ - 1952 م طبعة سقيمة تجارية في مطبعة مصطفى البابي الحلبي وكتب على هذه الطبعة: (تعليقات لفضيلة الأستاذ الشيخ أحمد سعد علي من علماء الأزهر الشريف) كذا كتب على الورقة الغلاف.
والجدير بالذكر أن التعليقات نادرة وهي قليلة القيمة العلمية، والأستاذ المذكور وقع بلقب (رئيس التصحيح بمطبعة مصطفى البابي الحلبي) وهذه الطبعة جمعت مساوئ عدة من رداءة الورق وسوء الحرف وازدحام الصفحات وخلوها من الترقيم والتنقيط وقد ظهرت في جزأين صفحات الأول 595 وصفحات الثاني 680.
13 - طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد طبع هذا الكتاب على ورق صقيل وبحرف جميل بتحقيق الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد رحمه الله.
__________
(1) '' عون المعبود '' 4 \ 549.(1/326)
وكانت طبعته الأولى سنة 1354 هـ - 1935 م. وذكر في المقدمة أنه رجع إلى مخطوطات ومطبوعات ولكنه لم يذكر بالتفصيل ما هي هذه المخطوطات التي رجع إليها وأين مكان وجودها، ويبدو أنه بالغ في ذلك مبالغة ظاهرة، ويكاد يظن المرء أن الرجل لم يرجع إلا إلى مطبوعة اعتمدها وأدخل فيها شيئا من التعديلات التي أخذها عن مطبوعة أخرى؛ لأن الجهد الذي يبذله الإنسان لا بد أن يظهر له أثر ولا سيما بالنسبة لمن عانى أمور التحقيق وقد صدرت هذه الطبعة في أربعة أجزاء مرقمة الأحاديث واستعمل المحقق فيها علامات الترقيم.
ولكننا لا نجد في حواشيها إلا تعليقات يسيرة جدا وليس في هذه التعليقات تخريج للأحاديث النبوية؛ لأنه فيما يبدو لم يكلف نفسه في الطبعة الأولى عناء الرجوع إلى كتاب المنذري الذي أتيح له فيما بعد أن ينقل منه ثم صدرت الطبعة الثانية سنة 1369 هـ - 1950 م.
وفي هذه الطبعة أضاف إلى متن الكتاب إضافات كان يضعها بين معقوفتين ولم يذكر عنها شيئا في المقدمة كما أضاف إلى تعليقاته تخريجا للأحاديث وهو مأخوذ بحذافيره من كتاب المنذري ولم يذكر عنه شيئا في المقدمة، والحق أنني وقفت على كثير من سرقات الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد وادعائه كلام غيره لنفسه وظلم العلماء الأقدمين وكتبت ما واجهته من ذلك في دراسة كنت أعددتها لكتاب شرح قطر الندى لابن هشام من نحو عشرين سنة سقت الأدلة الكثيرة، وما كنت أحب أن أذكر ذلك بعد أن توفي إلى رحمة الله غفر الله لنا وله، ولكن الشيء الذي راعني هو أن ينقل تعليقات الحافظ المنذري بكاملها وبحروفها دون أن يشير إلى ذلك في المقدمة.
ولو أنه فعل ذلك لأعطى لهذه التخريجات من القوة والرجحان والتوثيق شيئا كثيرا ذلك؛ لأن المنذري حافظ عظيم ومن المشتغلين بالسنة فعندما يكون تخريج الحديث منسوبا إليه فإن ذلك أدعى لأن يقبله القارئ ويتبناه عن قناعة لا تتوافر إلا للقلة من العلماء المحققين أمثال المنذري رحمه الله.
ويفيد في هذا المجال أن نقرر أن المنذري رحمه الله ذكر في مقدمة " مختصره " نهجا علميا دقيقا فقال: (وأذكر عقيب كل حديث من وافق أبا داود من الأئمة الخمسة على تخريجه بلفظه أو نحوه) (1) . ولم يذكر الأستاذ المحقق مثل ذلك، فأوهم بإغفاله ذلك أن الحديث مخرج عند من ذكرهم المنذري ونقلهم عنه المحقق مخرج بلفظه وربما لا يكون كذلك أما الشروح التي ذكرها الأستاذ المحقق رحمه الله فعلى الرغم من أنها في غاية الإيجاز فإنها كذلك مأخوذة غالبا من شرح الخطابي بالحرف الواحد ولم ينسبها إليه، فأوهم أنها من عنده.
__________
(1) '' مختصر المنذري '' 1 \ 13.(1/327)
أما تعليقاته بشأن الرجال فليس هناك نهج يحكمه، فبينما هو يذكر لك في بعض الحالات الرأي في بعض الرجال إذا هو يسكت في الغالب ولا يورد شيئا. ويبدو أنه لم يكن يكلف نفسه عناء التنقيب في بطون الكتب، بل كان إذا صادفه شيء في أقرب شرح له ذكره.
ومن ملاحظاتنا أنه لم يلتزم نهجا واضحا في الترقيم. فقد يعطي الخبر المنقول عن عالم من العلماء رقما كما في الحديث 769 وقد نقل فيه رأيا لمالك وهو: (لا بأس بالدعاء في الصلاة في أوله وأوسطه وآخره في الفريضة وغيرها) (1) والنهج السليم في نظري أن لا يعطي لآراء العلماء أرقاما يدخلها في أرقام الأحاديث، وأن يقتصر في الترقيم على الأحاديث. وكذلك فإن ترقيم الأحاديث ينبغي أن يراعى فيه واحد من أمور ثلاثة: فإما أن يكون الترقيم تابعا لمتن الحديث، وإما أن يكون تابعا للصحابي الذي أخرجه وإما أن يكون تابعا لشيخ المؤلف الذي تلقى عنه الحديث، والغالب أن المحقق استخدم الأخير ولكنه لم يلتزم ذلك بدقة.
ففي صفحة 60 أحاديث عدة عن علي -رضي الله عنه- أعطاها أرقاما لاختلاف شيخ المؤلف ولكنه في صفحة 248 لم يعط رواية اختلف الشيخ فيها والصحابي عن الرواية المتقدمة ولم يعط الثانية رقما، ومهما يكن من أمر هذه الطبعة فقد أدت خدمة وسدت ثغرة فجزى الله ناشرها ومحققها خيرا.
__________
(1) '' السنن '' 1 \ 284.(1/328)
الكتب التي ألفت حول السنن
وقفت: على أسماء عدد كبير من الكتب التي ألفت حول السنن وقد أتيح لي أن أطلع على بعض ما وصل إلينا منها، أما الباقي فبين مخطوط ومفقود.
ونستطيع أن نصنف الكتب التي ألفت حول السنن في زمر ثلاث:
1 - شروح. 2 - مختصرات. 3 - دراسات.
الشروح:
شرح السنن كثيرون نذكر أهمهم فيما يأتي:
1 - شرح الخطابي: من أنفع الشروح وأقدمها وعنوانه (معالم السنن) لأبي سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي المتوفى سنة 388 وهو منسوب إلى زيد بن الخطاب.(1/328)
وهو يشرح المفردات الغريبة والكلمات التي تحتاج إلى شرح شرحا لغويا واسعا يدل على معرفة متبحرة باللغة وقد يستشهد لشرحه بأبيات أو جمل مأثورة على العرب. ويشرح المراد من الجملة، ثم يشرح الحديث ويوفق بينه وبين ما روي على وجه قد يظن أن فيه خلافا.
ثم يتحدث عن فقه الحديث ويذكر آراء العلماء في موضوع الحديث، ويرجح الرأي الذي يرتضيه من هذه الآراء. ثم يذكر ما في الحديث من الفوائد والاستنباطات الأخرى مما قد لا يتصل بعنوان الباب.
طبع هذا الكتاب في حلب بأربعة أجزاء بتحقيق العلامة الشيخ محمد راغب الطباخ رحمه الله سنة 1920 - 1924، 1932 - 1934 م. ثم طبع مع كتابين آخرين سنذكرهما في ثمانية أجزاء بتحقيق أحمد محمد شاكر ومحمد حامد الفقي رحمهما الله 1367 هـ - 1948 م \ 1369 هـ - 1950 م.
كتب على الأجزاء الثلاثة الأولى أنها بتحقيقهما. وأما الجزء الرابع فما بعده حتى الثامن فقد كتب عليها أنها بتحقيق محمد حامد الفقي فقط، وقد أثبت في الأعلى من هذه الطبعة تهذيب المنذري ثم تحته معالم السنن وفي الأسفل تهذيب ابن القيم.
وقد لخص العالم الحافظ شهاب الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم المقدسي المتوفى سنة 765 وسماه (عجالة العالم من كتاب المعالم) (1) . 2 - العدد المودود في حواشي سنن أبي داود للحافظ المنذري المتوفى سنة 656 وقد ذكر سزكين (2) مكان وجود مخطوطته. 3 - وشرح " السنن " أيضا شهاب الدين أحمد بن حسين بن أرسلان الرملي المتوفى سنة 744 (3) ومخطوطاته موجودة في تركيا. 4 - وشرح " السنن " قطب الدين أبو بكر بن أحمد بن دعين اليمني الشافعي المتوفى سنة 752 في أربع مجلدات كبار في آخر عمره ومات عنه وهو مسودة (4) .
__________
(1) '' كشف الظنون '' 2 \ 1004.
(2) '' تاريخ التراث '' 1 \ 385.
(3) '' تاريخ التراث '' 1 \ 386.
(4) '' كشف الظنون '' 2 \ 1004.(1/329)
5 - وشرح هذا الكتاب أيضا مغلطاي بن فليج المتوفى سنة 762 ولم يكمله (1) . 6 - وشرح هذا الكتاب أيضا شهاب الدين أبو محمد أحمد بن محمد بن إبراهيم بن هلال المقدسي من أصحاب المزي. المتوفى بالقدس سنة 765 ويبدو أنه هو الذي لخص المعالم المذكور آنفا. وسمي شرحه " انتحاء السنن واقتفاء السنن " (2) ، ومخطوطته محفوظة في مكتبة لاله لي في أربعة مجلدات تحت رقم 498 - 501.
7 - وشرحه أيضا عمر بن رسلان بن نصر البلقيني المتوفى سنة 805. 8 - وشرح السنن أيضا أبو زرعة العراقي ولي الدين أحمد بن عبد الرحيم المتوفى سنة 826 وأطال في شرحه جدا (3) . 9 - وشرح قطعة منه محمود بن أحمد العيني الحنفي المتوفى سنة 855. 10 - وشرحه السيوطي المتوفى سنة 911 هـ وسماه " مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود " وتوجد منه مخطوطات عدة ذكرها سزكين (4) .
وقد اختصره علي بن سليمان الدمني الباجمعوي وهو مطبوع في القاهرة سنة 1298 (5) . 11 - وشرحه أبو الحسن محمد بن عبد الهادي السندي المتوفى سنة 1138 هـ بعنوان " فتح الودود على سنن أبي داود ".
12 - " عون المعبود شرح سنن أبي داود ". تأليف العلامة الشيخ شمس الحق العظيم آبادي، ويقع في أربعة مجلدات كبيرة وقد طبع في الهند في دهلي سنة 1322 وقد أثبت في أعلى الصفحات سنن أبي داود بعد أن بذل جهدا مشكورا في تحقيقه؛ فقد استطاع أن يميز بين رواية اللؤلؤي وغيره من الروايات ورجع في هذه الطبعة إلى إحدى عشرة مخطوطة.
أما شرحه فهو من أفضل الشروح وأكثرها استيعابا لما قاله العلماء من قبله. وهو لا يترك في الحديث شيئا من ترجمة للرجال أو شرح للمفردات أو ذكر لأراء العلماء في المسألة لا يدع من ذلك شيئا. وقال في التنبيه الأول: أكثرت النقل من كلام الحافظ المنذري حتى قلت تحت كل حديث: (قال المنذري كذا وكذا) ؛ لأن الإمام المنذري قد اختصر كتاب " السنن " من رواية اللؤلؤي فأحسن في اختصاره
__________
(1) '' كشف الطنون '' 2 \ 1004.
(2) كشف الظنون 2 \ 1004.
(3) كشف الظنون 2 \ 1004.
(4) تاريخ التراث 1 \ 386.
(5) تاريخ التراث 1 \ 386.(1/330)
وذكر عقيب كل حديث من وافق أبا داود من الأئمة الخمسة على تخريجه ثم بين ضعف الحديث وعلته إن كان الحديث ضعيفا ومعلولا وإن كان الحديث مما اتفق عليه الشيخان أو أحدهما أو أهل السنن الثلاثة أو واحد منهم وليس فيه ضعف فيقتصر على قوله أخرجه فلان وفلان، وهذا تصحيح من المنذري رحمه الله لذلك الحديث، وإن كان الحديث مما تفرد به أبو داود وليس فيه ضعف فيسكت عنه المنذري، وسكوته أيضا تصحيح منه لذلك الحديث وأقل أحواله أن يكون حسنا عنده، وإني نقلت سكوته أيضا ملتزما به، فقلت: والحديث سكت عنه المنذري، إلا في بعض المواضع في أول الكتاب، فقد فاتني هذا الأمر، ومع ذلك فإني نقلت قدرا كثيرا من كلام أئمة الحديث في تنفيذ أحاديث الكتاب من الصحة والضعف وبيان عللها وجرح الرواة وعدالتهم ما يشفي الصدور وتلذ الأعين فصار هذا الشرح بحمد الله تعالى مع اختصاره وإيجازه مغنيا عما سواه، فكل حديث الكتاب فردا فردا من أول (باب التخلي عند قضاء الحاجة) إلى آخر باب (الرجل يسب الدهر) بينت حاله من القوة والضعف إلا ما شاء الله تعالى في أحاديث يسيرة مع أنه ليس في سنن أبي داود حديث اجتمع الناس على تركه) (1) ويقول في آخر التنبيه الخامس:
(فصار هذا المتن والشرح جامعا لرواية ابن داسة وابن العبد وابن الأعرابي أيضا بل فيه بعض رواية الرملي أيضا ولكنه قليل) (2) طبع هذا الشرح كما أشرنا في الهند في دهلي سنة 1322 طبعة حجرية منقحة وفي كل جزء تصحيحات للأغلاط المطبعية بحيث أضحت هذه الطبعة إن صححت من أجود الطبعات.
وأعيد تصوير هذا الكتاب بالأوفست في بيروت. ثم نشره محمد عبد المحسن السلفي صاحب المكتبة السلفية في المدينة المنورة وطبعه في مصر وذكر أنه ضبط وتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، ونشر في الأعلى " سنن أبي داود " ويليه شرح " عون المعبود "، ثم نشر في هامش الصفحات تهذيب ابن القيم وصدر الكتاب في أربعة عشر جزءا، بدأ بطباعته سنة 1388 هـ 1968 م وانتهى 1389 هـ (1969) م في مطابع المجد بالقاهرة.
ويبدو أن هذه الطبعة المتأخرة لا تمتاز إلا بكونها على ورق أبيض وبحرف مألوف. 14 - وكذلك فقد شرح كتاب " سنن أبي داود " عالم معاصر هو الشيخ محمود بن محمد خطاب السبكي وسمى كتابه:
__________
(1) '' عون المعبود '' 4 \ 544-545
(2) '' عون المعبود '' 4 \ 549(1/331)
" المنهل العذب المورود شرح سنن الإمام أبي داود " وذكر في المقدمة أنه شرع في سنة 1343 بقراءة سنن أبي داود مع نفر من الطلبة، فكانت نسخ الكتاب نادرة وقد صعب على الطلبة اقتناؤها، فأراد طبعه ليسهل الحصول عليه وكتب عليه شرحا، وذكر أنه عني ببيان تراجم رجال الحديث وشرح ألفاظه وبيان معناه وما يستفاد منه من الأحكام، وأنه بين أوجه الخلاف وأدلته وذكر من خرج الحديث سواء كان من الأئمة الستة أم غيرهم وبين حال الحديث من صحة أو حسن أو غيرهما وأورد مقدمة تشتمل على نبذة من مصطلح الحديث وترجمة المؤلف كما أورد في المقدمة طرفا من رسالته إلى أهل مكة.
أصدر الشيخ محمود هذا الكتاب في عشرة أجزاء كبيرة وطبعت في مطبعة الاستقامة بمصر سنة 1351 وقد توفي سنة 1352 وكان وصل إلى باب الهدي من مناسك الحج. ولم يكمل الكتاب.
وقد قام مصطفى علي البيومي بوضع مفتاح لهذه الأجزاء العشرة واحتوى هذا المفتاح على الفهارس الآتية:
1 - فهرس الكتب والأبواب. 2 - فهرس أوائل الأحاديث القولية. 3 - فهرس أوائل الأحاديث الفعلية. 4 - فهرس الألفاظ. 5 - فهرس الموضوعات والأعلام والأحكام المستنبطة من الأحاديث. 6 - فهرس جوامع الأعداد. طبع هذا المفتاح عام 1356 هـ (1937 م) .
إذن فكتاب " المنهل العذب المورود " شرح لقطعة من السنن ولم يتح للمؤلف أن يكمله فقام ابنه الشيخ أمين محمود خطاب السبكي بمحاولة إكمال الكتاب، فأصدر منه أربعة أجزاء وسماه " فتح الملك المعبود تكملة المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود ".
طبع الجزء الأول عام 1375 هـ (1955 م) في مطبعة الاعتصام بالخيمية. وطبع الجزء الثاني عام 1375 هـ (1956 م) في مطبعة الاستقامة بالقاهرة. وطبع الجزء الثالث عام 1379 هـ (1959 م) في مطبعة الاستقامة بالقاهرة.(1/332)
وطبع الجزء الرابع عام 1383 هـ (1963 م) في مطبعة السعادة بمصر. وانتهى بباب في تعظيم الزنا. أي ما يعادل قريبا من آخر الجزء الثاني (صفحة 394) من طبعة محيي الدين ورقم الحديث الأخير الذي شرحه في طبعة محيي الدين هو 2312. 15 - وهناك شروح أخرى ذكرتها الكتب التي تعني بإحصاء التراث، وأتوقع أن تكون هناك كتب أخرى لم نعرف من خبرها شيئا.
المختصرات
1 - مختصر المنذري:
وهو أهم المختصرات التي اختصرت سنن أبي داود، والمنذري هو زكي الدين عبد العظيم عبد القوي المنذري المتوفى سنة 656 وعرف مختصره باسم " مختصر سنن أبي داود " للمنذري غير أن حاجي خليفة " (1) زعم أن المنذري قد سماه " المجتبى " وذهب إلى أن السيوطي ألف عليه كتابا سماه " زهر الربى على المجتبى " وتابع حاجي خليفة في هذا الزعم الأستاذ الخولي في كتابه " مفتاح السنة " " مفتاح السنة " ص 86. والأستاذ سزكين في " تاريخ التراث " (2) . وبروكلمان في " تاريخ الأدب " (3) والذي أراه أن حاجي خليفة وهم في هذا الزعم ويؤيد هذا الاتجاه أن كتاب السيوطي " زهر الربى " هو كتاب ألفه على سنن النسائي (4) وليس على مختصر المنذري.
وكذلك فإن مما يؤيد هذا الاتجاه أن المنذري لم يصرح بهذه التسمية في المقدمة ولا لوح بها. وكذلك لم يشر ابن القيم إلى هذه التسمية مع العلم أنه صرح بأن كتابه مبني على كتاب المنذري الأستاذان أحمد شاكر وحامد الفقي إلى هذه التسمية.
ومن نظرنا في الكتاب نجد أنه اختصر كتاب السنن على ما رتبه مصنفه من الكتب والأبواب أي لم يرتب الأحاديث ترتيبا جديدا كما فعل في كتاب مختصر مسلم الذي قال في مقدمته (ورتبته ترتيبا يسرع بالطالب إلى وجود مطالبه في مظنته) (5) .
__________
(1) كشف الظنون '' 2 \ 1004.
(2) تاريخ التراث '' ص 387
(3) '' تاريخ الأدب العربي '' 3 \ 188.
(4) انظر '' تاريخ التراث '' 1 \ 424 و '' تاريخ الأدب العربي '' 3 \ 197.
(5) '' مختصر صحيح مسلم '' 1 \ 5.(1/333)
وذكر عقيب كل حديث من وافق أبا داود من الأئمة الخمسة على تخريجه بلفظه أو نحوه. ويلاحظ أن حذف الأسانيد وكثيرا من تعليقات أبي داود وقد يثبت بعضها كما فعل في تعليقه على بئر بضاعة (1) . والحق أن كتاب المنذري له وجهان وجه يلحقه بالمختصرات ووجه يلحقه بالشروح فهو مختصر وشرح بآن.
قال ابن القيم في وصفه: (وكان الإمام العلامة الحافظ زكي الدين المنذري قد أحسن في اختصاره وتهذيبه وعزو أحاديثه وإيضاح علله وتقريبه فأحسن حتى لم يكد يدع للإحسان موضعا وسبق حتى جاء من خلفه له تبعا) (2) . وقال صاحب " عون المعبود " (3) : (اختصر الإمام المنذري كتاب السنن من رواية اللؤلؤي فأحسن في اختصاره وذكر عقيب كل حديث من وافق أبا داود من الأئمة الخمسة البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه على تخريجه. ثم بين ضعف الحديث وعلته إن كان الحديث ضعيفا أو معلولا، وإن كان الحديث مما اتفق عليه الشيخان أو أحدهما أو أهل السنن الثلاثة (4) أو واحد منهم وليس فيه ضعف فيقتصر على قوله أخرجه فلان وفلان. وهذا تصحيح من المنذري رحمه الله لذلك الحديث، وإن كان الحديث مما تفرد به أبو داود وليس فيه ضعف فيسكت عنه المنذري، وسكوته أيضا تصحيح منه لذلك الحديث وأقل أحواله أن يكون حسنا عنده) .
وقد طبع هذا الكتاب - على ما يذكر بروكلمان (5) في حيدر آباد عام 1342 هـ وطبع في دهلي عام 1891 م. وطبع في القاهرة كما ذكرنا قبل في مطبعة أنصار السنة المحمدية منشورا مع كتابي الخطابي وابن القيم وصدر في ثمانية أجزاء كتب على الثلاثة الأولى أنها بتحقيق أحمد شاكر وحامد الفقي وكتب على الخمسة الباقية أنها بتحقيق حامد الفقي، وهي طبعة جيدة مشكولة مرقمة الأحاديث (6) .
2 - مختصر محمد بن الحسن بن علي البلخي: وقد اختصره أيضا محمد بن الحسن بن علي البلخي من رجال القرن السابع (7) .
__________
(1) '' مختصر المنذري '' 1 \ 74.
(2) '' تهذيب ابن القيم '' 1 \ 9.
(3) '' عون المعبود '' 4 \ 545.
(4) أي النسائي والترمذي وابن ماجه.
(5) '' تاريخ الأدب '' 3 \ 188.
(6) انظر '' حديثنا عن هذه الطبعة عند كلامنا على معالم السنن للخطابي.
(7) '' تاريخ التراث '' لسزكين ص 387.(1/334)
3 - تهذيب ابن القيم:
وابن القيم هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي المتوفى سنة 751 هـ.
وتهذيبه أشبه بالحاشية منه بالتهذيب، فهو قد يسكت عن أحاديث عديدة. ثم تراه يفصل القول في شرح حديث وبيان فقهه وقد يفصل تفصيلا لا تراه في المطولات. وقد ذكر في مقدمته خطته فقال: (فهذبته نحو ما هذب هو به الأصل وزدت عليه من الكلام على علل سكت عنها أو لم يكملها والتعرض إلى تصحيح أحاديث لم يصححها والكلام على متون مشكلة لم يفتح مغلقها وزيادة أحاديث صالحة في الباب لم يشر إليها وبسطت الكلام على مواضع قليلة لعل الناظر المجتهد لا يجدها في كتاب سواه) (1) وقد طبع في دهلي (2) سنة 1891 م، كما طبع في الطبعة التي أشرت إليها قبل قليل وهي طبعة أحمد شاكر ومحمد حامد الفقي.
دراسات عنه:.
لن أستطيع الاستقصاء في مجال الدراسات وسأقتصر على ذكر أسماء بعض هذه الدراسات:
1 - جمع زكريا الساجي المتوفى (3) سنة 307 للسنن ما يوافق معانيها من آيات القرآن الكريم (4) .
2 - ألف أبو علي حسين بن محمد بن أحمد الجياني المتوفى سنة 498 كتابا بعنوان " تسمية شيوخ أبي داود " (5) . 3 - وشرح سراج الدين عمر بن علي بن الملقن الشافعي المتوفى سنة 804 زوائد السنن على الصحيحين وتقع في مجلدين (6) .
__________
(1) '' تهذيب ابن القيم '' 1 \ 9 - 10.
(2) '' تاريخ التراث '' لسزكين 388.
(3) انظر ترجمته في '' تذكرة الحفاظ '' 2 \ 709.
(4) '' تاريخ الأدب العربي '' لبروكلمان 3 \ 186.
(5) '' تاريخ التراث '' لسزكين 388.
(6) '' كشف الظنون '' 2 \ 1004.(1/335)
خاتمة
وبعد فهذا جهد متواضع بذلته في دراسة هذا الكتاب العظيم من كتب سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن أحسنت فبفضل الله وتوفيقه وكرمه وإن أخطأت فهذا شأن البشر {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1) وحسبي أنني كنت جادا في هذه الدراسة التي كانت على زحمة المشاغل وضيق الوقت، ولو لم يكن فيها إلا أنها أطلعت القراء الكرام على صفحة مشرقة وضاءة
__________
(1) سورة البقرة الآية 286(1/335)
من تاريخ رجل من رجالاتنا، وذكرتهم بقيمة كتاب " السنن "، لو لم يكن فيها إلا هذا فقط لكان فيها خير إن شاء الله. جعل الله أعمالنا خالصة لوجهه، ووفقنا للعمل بما نعلم، وأعاذنا من الفتن التي كقطع الليل المظلم تصد الناس عن سبيل الله ولا سيما في زماننا هذا الذي تكالبت فيها قوى الشر والبغي على بلاد المسلمين وتداعت أمم الكفر إليهم تداعي الأكلة إلى قصعتها، وجعلنا ممن يحيون على شريعة الإسلام ويموتون في سبيل الذود عنها لا تنحرف بهم السبل ولا تغويهم المخاوف ولا المطامع، وممن يكونون واعين متيقظين لما يحاك للإسلام وأهله وبلاده من كيد ماكر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (1) {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} (2) وصلى الله على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.
محمد بن لطفي بن عبد اللطيف بن ياسين الصباغ
__________
(1) سورة آل عمران الآية 8
(2) سورة الكهف الآية 10(1/336)
مراجع البحث
1 - الإصابة في تمييز الصحابة لأحمد بن علي. . ابن حجر مطبعة مصطفى محمد بمصر سنة 1358 هـ - 1939 م. 2 - الأعلام لخير الدين الزركلي مطبعة كوستا تسبو ماس بمصر سنة 1373 هـ - 1378 م 3 - أمراء البيان لمحمد كرد علي. مطابع دار الكتب ببيروت ط 3 سنة 1388 هـ - 1969 م. 4 - إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون طبعة الأوفست طهران سنة 1387 هـ. 5 - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث مطبعة محمد علي صبيح بمصر ط 3 سنة 1377 هـ - 1958 م. 6- الباعث على الخلاص من حوادث القصاص لعبد الرحيم العراقي تحقيق محمد الصباغ نشر في العدد الرابع من مجلة أضواء الشريعة بالرياض سنة 1393 هـ. 7 - بحوث في تاريخ السنة المشرفة لأكرم ضياء العمري مطبعة الإرشاد ببغداد سنة 1392 هـ - 1972 م. 8 - البداية والنهاية لإسماعيل بن عمر بن كثير مطبعة السعادة بمصر سنة 1351 هـ - 1358 م. 9 - تاج العروس في شرح القاموس لمحمد مرتضى الزبيدي المطبعة الخيرية بمصر سنة 1306 هـ. 10 - تاريخ الأدب العربي لبروكلمان ترجمة د. عبد الحليم نجار دار المعارف بمصر سنة 1959 م. 11 - تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان دار الهلال بمصر سنة 1957 م. 12 - تاريخ بغداد لأحمد بن علي الخطيب البغدادي مطبعة السعاة بمصر سنة 1931. 13 - تاريخ الخلفاء لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي مطبعة الفجالة الجديدة سنة 1389 هـ - 1969 م. 14 - تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين ترجمة فهمي أبو الفضل المطبعة الثقافية لمصر سنة 1971 م. 15 - تاريخ الطبري لمحمد بن جرير تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم دار المعارف بمصر. 16 - تحذير الخواص من أكاذيب القصاص لعبد الرحمن أبي بكر السيوطي تحقيق محمد الصباغ المكتب الإسلامي بدمشق سنة 1392 هـ - سنة 1972 م. 17 - تحفة الأحوذي لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوري طبع الهند سنة 1343 هـ. 18 - تحفة الأشراف ليوسف بن عبد الرحمن المزي تحقيق عبد الصمد شرف الدين طبع بمباي الهند سنة 1384 هـ - 1965 م. 19 - تدريب الراوي لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي نشر المكتبة العلمية بالمدينة سنة 1379 هـ - 1959 م. 20 - تذكرة الحفاظ لمحمد بن أحمد الذهبي طبع حيدر آباد الهند سنة 1376 هـ - 1959 م. 21 - ترتيب المدارك للقاضي عياض. 22 - التقريب مطبوع أعلى تدريب الراوي نشر المكتبة العلمية بالمدينة سنة 1376 هـ 1959 م. 23 - التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من مقدمة ابن الصلاح للحفاظ العراقي تحقيق راغب الطباخ المطبعة بحلب سنة 1350 هـ - 1931 م. 24 - تهذيب ابن عساكر لعبد القادر بدران طبع دمشق. 25 - تهذيب الأسماء واللغات ليحيى بن شرق النووي - المطبعة المنيرية بمصر. 26 - تهذيب التهذيب لأحمد بن علي بن حجر طبع حيدر آباد الهند سنة 1325 هـ. 27 - توجيه النظر لطاهر بن صالح الجزائري طبع مصر وأعيد تصويره بالأوفست في بيروت.(1/337)
26 - جامع الأصول لمبارك بن محمد بن الأثير مطبعة السنة المحمدية في مصر سنة 1368 هـ - 1949 م. 27 - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم طبع حيدر آباد الهند سنة 1371 هـ. حجة الله البالغة للدهلوي. 28 - الحديث النبوي لمحمد بن لطفي الصباغ المكتب الإسلامي ببيروت سنة 1392 هـ - 1972 م. 29 - الخلاصة لأحمد بن عبد الله الخزرجي المطبعة الخيرية بمصر سنة 1322 هـ. 30 - الدرر الكامنة لأحمد بن علي بن حجر مطبعة المدني بمصر سنة 1385 هـ - 1966 م. 31 - رسالة أبي داود تحقيق محمد الصباغ طبع دار العربية ببيروت سنة 1394 هـ - 1974 م. 32 - الرسالة المستطرفة لمحمد بن جعفر الكتاني دار الفكر بدمشق سنة 1383 هـ. 33 - سنن ابن ماجه لمحمد بن يزيد بن ماجه تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي دار إحياء الكتب العربية سنة 1372 هـ - 1952 م. 34 - سنن أبي داود لسليمان بن الأشعث تحقيق محيي الدين عبد الحميد مطبعة السعادة بمصر سنة 1369 هـ - 1950 م. 35 - سنن الترمذي لمحمد بن عيسى الترمذي المطبوع في أعلى تحفة الأحوذي طبع الهند سنة 1343هـ. 36 - سنن الدرامي لعبد الله بن عبد الرحمن تحقيق محمد أحمد دهمان مطبعة الاعتدال بدمشق سنة 1349 هـ. 37 - سنن النسائي لأحمد بن شعيب المطبعة المصرية بالأزهر بمصر 38 - سير أعلام النبلاء. 39 - شذرات الذهب لعبد الحي بن أحمد بن العماد مكتبة القدسي بمصر سنة 1350 هـ. 40 - شروط الأئمة الخمسة لمحمد بن موسى الحازمي مكتبة القدسي بمصر سنة 1357 هـ. 41 - شروط الأئمة الستة لمحمد بن طاهر المقدسي مكتبة القدسي بمصر سنة 1357 هـ. 42 - صحيح ابن خزيمة لمحمد بن إسحاق تحقيق د. محمد مصطفى الأعظمي مطابع دار القلم سنة 1391 هـ - 1971 م. 43 - صحيح البخاري لمحمد بن إسماعيل مطبعة الفجالة الجديدة سنة 1376 هـ. 44 - صحيح مسلم لمسلم بن الحجاج طبعة محمد علي صبيح. 45 - الضوء اللامع لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي مطبعة القدسي مصر سنة 1352 هـ. 46 - طبقات الحنابلة لمحمد بن أبي يعلى محمد الفقي مطبعة السنة المحمدية. 47 - طبقات الشافعية للسبكي تحقيق الحلو والطنامي مطبعة عيسى البابي بمصر سنة 1383 هـ. 48 - علوم الحديث لعثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح تحقيق العتر مطبعة الأصيل حلب سنة 1386 هـ - 1966 م. 49 - عون المعبود للعظيم آبادي طبع دهلي في الهند سنة 1343 هـ. 50 - فتح المغيث لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي مطبعة العاصمة بمصر سنة 1388 هـ. فتح الملك المعبود تكملة المنهل العذب المورود لأمين محمود خطاب السبكي مطبعة الاعتصام بالقاهرة سنة 1375 هـ - 1955 م. 51 - فهرست ابن خير لأبي بكر محمد بن خير لمكتبات المثنى والخانجي والمكتب التجاري سنة 1963 م. فهرس مخطوطات الظاهرية لمحمد ناصر الدين الألباني طبع دمشق. 52 - القاموس المحيط لمحمد بن يعقوب الفيروز آبادي مطبعة دار المأمون بمصر سنة 1357 هـ -1938 م 53 - قواعد التحديث لجمال الدين بن محمد القاسمي مطبعة ابن زيدون دمشق سنة 1353 هـ - 1935 م. 54 - كشف الظنون لمصطفى بن عبد الله حاجي خليفة طهران سنة 1387 هـ. 55 - الكنى والأسماء للدولابي طبع حيدر آباد سنة 1322 هـ.(1/338)
56 - لسان الميزان لأحمد بن علي الحجر طبع حيدر آباد الهندسة 1325 هـ. 57 - مختصر سنن أبي داود لعبد العظيم بن عبد القوي المنذري مطبعة السنة المحمدية بمصر سنة 1366 هـ. 58 - مختصر صحيح مسلم لعبد العظيم بن عبد القوي المنذري تحقيق الألباني طبع وزارة الأوقاف الكويتية. 59 - المستدرك لمحمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري طبع حيدر آباد الهند سنة 1333 هـ. 60 المسند لأحمد بن حنبل المطبعة الميمنية بمصر سنة 1313 هـ. 61 - معالم السنن للخطابي تحقيق أحمد شاكر وحامد الفقي مطبعة السنة المحمدية بمصر سنة 1366 هـ. 62 - معجم الأدباء لياقوت الحموي مطبعة دار المأمون مصر. 63 - معجم البلدان لياقوت الحموي دار صادر ودار بيروت سنة 1374 هـ - 1955 م. 64 - معجم المطبوعات العربية والمصرية ليوسف البيان سركيس مطبعة سركيس سنة 1346 هـ - 1928 م 65 - المعجم المفهرس لألفاظ الحديث لمجموعة من المستشرقين طبع مكتبة بريل في لندن. 66 - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن لمحمد فؤاد عبد الباقي مطابع الشعب بمصر سنة 1378 هـ. 67 - مفتاح السنة لمحمد عبد العزيز الخولي مطبعة الاستقامة بالقاهرة مفتاح المنهل العذب لمصطفى علي البيومي. 68 - المنتظم لعبد الرحمن بن علي بن الجوزي مطبعة دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد سنة 1358 هـ. 69 - المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد لعبد الرحمن بن محمد العليمي تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد مطبعة المدني بالقاهرة سنة 1393 هـ - 1963 م. 70 - المنهل العذب المورود. لمحمود خطاب السبكي مطبعة الاستقامة بمصر سنة 1351 هـ. 71 - موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان لعلي بن أبي بكر الهيثمي لتحقيق محمد عبد الرازق حمزة المطبعة السلفية بمصر ميزان الاعتدال لمحمد بن أحمد الذهبي تحقيق البجاوي دار إحياء الكتب العربية بمصر. 72 - ميزان الاعتدال لمحمد بن أحمد الذهبي تحقيق البجاوي دار إحياء الكتب العربية بمصر. 73 - هدية العارفين لإسماعيل بن محمد البغدادي طهران سنة 1387 هـ.(1/339)
صفحة فارغة(1/340)
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} (1)
__________
(1) سورة الرعد الآية 17(1/341)
مجلة البحوث الإسلامية(1/342)
أعمال المؤتمرات(1/343)
المؤتمر العربي للمخدرات
الدورة السادسة
الرياض
وثائق قرارات(1/344)
المؤتمر العربي للمخدرات
انعقد المؤتمر الإقليمي للمخدرات بالرياض في الفترة من 25 شوال - 30 شوال 1394 هـ وذلك بعد أن رحبت المملكة العربية السعودية باستضافته في عاصمتها. وتعتبر هذه المرة هي المرة الأولى التي ينعقد فيها مؤتمر عربي للمخدرات خارج مقر الجامعة العربية.
ولقد بذلت وزارة الداخلية بالمملكة العربية السعودية وبرعاية صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز وزير الداخلية وصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز نائب وزير الداخلية كل الجهود العلمية المنظمة؛ لإنجاح هذا المؤتمر الهام.
وقد اشترك في المؤتمر: ست وعشرون دولة. وأربع عشرة منظمة عالمية وعربية. . وثماني جامعات ومركزا للأبحاث. غير سبع جامعات من المملكة العربية السعودية وحدها.(1/345)
الدول المشتركة في المؤتمر
المملكة الأردنية الهاشمية - دولة الإمارات العربية - دولة البحرين - الجمهورية التونسية - الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية - جمهورية السودان الديموقراطية - الجمهورية العربية السورية - جمهورية الصومال الديموقراطية - الجمهورية العراقية - سلطنة عمان - دولة قطر - دولة الكويت - الجمهورية اللبنانية - الجمهورية العربية الليبية - جمهورية مصر العربية - المملكة المغربية - الجمهورية الإسلامية الموريتانية - الجمهورية العربية اليمنية - جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية - منظمة التحرير الفلسطينية (فلسطين) - أفغانستان - إيران - باكستان - تركيا - قبرص.
كما اشتركت فيه المنظمات العربية والدولية الآتية: - منظمة الصحة العالمية - منظمة الأغذية والزراعة - المنظمة الدولية للشرطة الجنائية - منظمة التربية والثقافة والعلوم - قسم المخدرات بالأمم المتحدة - الصندوق الخاص لمكافحة سوء استعمال المخدرات - المجلس الدولي لمكافحة المسكرات والإدمان - المكتب الأمريكي لمكافحة المخدرات والعقاقير الضارة - جامعة الدول العربية - المنظمة العربية للدفاع الاجتماعي - المكتب العربي الدولي لشئون المخدرات - المكتب الدولي العربي للشرطة الجنائية - المكتب الدولي العربي لمكافحة الجريمة - المنظمة العربية للتنمية الزراعية.
وقد ساهمت سبع جامعات من المملكة العربية السعودية هي: - جامعة الرياض - جامعة الملك عبد العزيز - الجامعة الإسلامية - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - المعهد العالي للقضاء - كلية البترول والمعادن.
كما ساهم من الجامعات العربية: - جامعة القاهرة - جامعة الأزهر - جامعة عين شمس - جامعة الإسكندرية - جامعة دمشق - جامعة بغداد - جامعة الكويت - جامعة الزيتونة. والمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة والجمعية المركزية لمعالجة المدمنين بالقاهرة.
وقد احتوت وثائق المؤتمر على جزئين: الجزء الأول: وقد تضمن الموضوعات التي ناقشها المؤتمر وهي: - 1 - تقرير المدير العام للمكتب الدولي العربي لشئون المخدرات. 2 - رفع كفاءة أعمال المكافحة. 3 - التعاون العربي والدولي في مجال المكافحة.(1/346)
الجزء الثاني: وقد اشتمل على الموضوعات التي قدمت إلى المؤتمر: فكانت الندوة الأولى: " المخدرات كعامل معوق للتنمية الاجتماعية والاقتصادية " للدكتور فرج أحمد فرج. والندوة الثانية وموضوعها: " الهجرة الخارجية والداخلية وتأثيرها على مشكلة المخدرات " للدكتور أحمد أبو زيد. والندوة الثالثة وموضوعها: " موقف الشريعة الإسلامية من المخدرات " تقديم الشيخ سعود بن دريب والشيخ إبراهيم الدباس. " والمخدرات في التشريعات العربية " للدكتور حسن صادق المرصفاوي.(1/347)
كلمة صاحب السمو الأمير نايف بن عبد العزيز نائب وزير الداخلية
ولقد سارعت رئاسة إدارة البحوث إلى الاهتمام العميق ببحث مشكلة المخدرات وتوضيح موقف الشريعة الإسلامية خاصة وقد تفاقم خطرها في بلاد عربية وإسلامية كثيرة ورغم أن خطرها ما زال محدودا في المملكة العربية السعودية كما صرح بذلك صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز في حفل افتتاح المؤتمر بقوله: " لا تزال ظاهرة استعمال المخدرات لدينا محدودة بفضل ما تتمتع به المملكة من وضع اجتماعي مستقر ومن تطبيق للشريعة الإسلامية السمحة " وهذا هو نص الكلمة التي ألقاها سموه:
أبعاد المشكلة اجتماعيا واقتصاديا ونفسيا.
التوصيات بدون تنفيذ تبقى حبرا على ورق.
ينبغي تكليف جهة ما بمتابعة التنفيذ والتقرير للمؤتمر القادم.
ظاهرة استعمال المخدرات في المملكة العربية السعودية ما زال محدودا بفضل تطبيق الشريعة الإسلامية.
يسرني باسم المملكة العربية السعودية ووزارة داخليتها أن أرحب بكم أجمل ترحيب وأن أحييكم تحية الإسلام وأتمنى أن تكون أيامكم هنا بالمملكة وفي كل مكان حللتم فيه مفعمة بالسعادة ومكللة بالتوفيق والنجاح.
أيها الضيوف الكرام.
إننا نشعر بكثير من الفخر والسعادة أن ينعقد المؤتمر الإقليمي السادس للمخدرات في رحاب المملكة العربية السعودية وأنه ليزيدنا سرورا أن يكون هذا المؤتمر هو أول مؤتمر عربي للمخدرات يعقد خارج مقر جامعة الدول العربية إذ أن المؤتمرات السابقة كانت جميعها تعقد بالجامعة.
أيها المؤتمرون:
لا أريد أن أتحدث إليكم عن مشكلة المخدرات وأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية على شعوب المنطقة والعالم بأسره فلقد أشبع هذا الموضوع بحثا ولا شك أن الأبحاث التي ستعرض على المؤتمر وما سيصاحب ذلك من نقاش علمي هادف سيكون كافيا لعرض المشكلة وتصور الحلول.(1/347)
ومن هنا تأتي أهمية الواقعية في التصور والرغبة الصادقة في التنفيذ؛ لأن التوصيات بدون تنفيذ تبقى حبرا على ورق.
وانطلاقا من ذلك. فإننا نعتقد أن التعاون الإقليمي والدولي في هذا المجال، والتزام الدول بتنفيذ ما تصادق عليه من اتفاقيات وما تقره من توصيات هو بارقة الأمل في تصور مجتمع إنساني لا يعاني من مشكلة المخدرات إذ أن تقاعس بعض الدول عن تنفيذ ما تلتزم به لا يساعد على تحقيق هذا الهدف الخير. .
ولذلك قد يرى الأخوة أعضاء المؤتمر في مثل هذه المناسبة فرصة سانحة للتوصية بمناشدة دول المنطقة بالاهتمام بما يتخذ من توصيات. وحبذا لو كلفت جهة ما بمتابعة تنفيذ ما يتفق عليه ومعرفة ردود الفعل لدى جميع الأطراف المعنية ووضع تقرير متكامل عن الموضوع لعرضه على المؤتمر القادم.
أيها السادة:
إذا كانت المملكة العربية السعودية تحرص على احتضان مؤتمر كهذا وتشارك في عضوية المنظمات المعنية بموضوع مكافحة المخدرات وتسارع في تقديم المساعدات في هذا المجال؛ فذلك ليس لأن مبادرتها تابعة من استشعارها بخطورة مشكلة المخدرات في نطاقها المحلي إذ لا تزال ظاهرة استعمال المخدرات لدينا محدودة - بفضل الله ثم بفضل ما تتمتع به المملكة من وضع اجتماعي مستقر ومن تطبيق للشريعة الإسلامية السمحة. ولكن إيماننا العميق بأن مشكلة المخدرات هي عالمية الأبعاد والآثار أكثر من كونها محلية، وأن خطرها يتهدد المجتمع الإنساني كله ولأن تعاون الشعوب والأمم كان ولا يزال رمزا لأمنها واستقرارها وتقدمها. فإننا انطلاقا من كل ذلك نتفهم أهمية هذا المؤتمر ونتعرف على واجباتنا في المجالين العربي والدولي. . وبهذه المناسبة فإنه يسرني إبلاغكم بأنه قد صدرت موافقة جلالة الملك المعظم على قرار مجلس الوزراء في المملكة العربية السعودية بالانضمام للاتفاقية الدولية للمواد النفسية لعام 1971 م وهي التي تسعى إلى وضع أسس لأحكام وقاية دولية فعالة على استعمال العقاقير المخدرة.
وإنني في ختام كلمتي هذه لسعيد بأن أكرر الترحيب بكم وأتمنى من المولى القدير أن يحقق بتظافر جهودكم كل ما نحرص جميعا على الوصول إليه. .
والله الموفق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نايف بن عبد العزيز(1/348)
ولقد قام المؤتمر في جلسته الأولى بانتخاب السيد الدكتور إبراهيم العواجي وكيل وزارة الداخلية المساعد في المملكة العربية السعودية رئيسا للمؤتمر والسيد اللواء الدكتور محمد نيازي حتاته مقررا له.(1/349)
وتكشف الجداول المنشورة (1) حجم الخطر التقريبي لظاهرة المخدرات مع وجوب التنبيه أن هذه الكميات تمثل ما أمكن ضبطه مما يجري في التداول الفعلي.
(الجدول رقم 1)
إحصائية بكميات الأفيون المضبوطة في لبنان وسوريا والأردن ومصر
في خلال السنوات من 1969 إلى 1973 م(1/349)
(الجدول رقم 2)
إحصائية عن كميات المخدرات المضبوطة في السودان(1/350)
(الجدول رقم 3)
إحصائية بكميات الحشيش المضبوطة في لبنان وسوريا والأردن ومصر
في خلال السنوات من 1969 إلى 1973 م(1/351)
(الجدول رقم 4)
إحصائية عن كميات المخدرات المضبوطة في ليبيا عام 1969 - 1973 م
(الجدول رقم 5)
أسعار الحشيش بين مناطق الإنتاج والعبور والاستهلاك(1/352)
(الجدول رقم 6)
أسعار الأفيون بين مناطق الإنتاج والعبور والاستهلاك(1/353)
ولا شك أن تتبع ظاهرة تفشي تناول المخدرات سوف يقضي بنا إلى اكتشاف مجموعة من العوامل التي أصابت الأمة الإسلامية وارتبطت بها هذه الظاهرة تاريخيا. ولعل في قول الإمام الفقيه ابن تيمية في بدء ظهور الحشيشة في العالم الإسلامي ما يؤكد الشمول والعمق التي تميزت بها نظراته إلى ذلك الأمر يقول رحمه الله: ". . فإن أول ما بلغنا أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة حين ظهرت دولة التتر وكان ظهورها مع ظهور سيف (جنكيز خان) لما أظهر الناس ما نهاهم الله ورسوله عنه من الذنوب سلط الله عليهم العدو. . .
وإنه إذ تقدر إدارة التحرير بالمجلة كل الجهود التي قامت بالأبحاث القيمة التي قدمت إلى المؤتمر ومع رغبتها في أن تقوم بتقديمها إلى القراء إلا أن ظروف النشر جعلتنا نقتصر على تلخيص البحوث التي قدمت عن موقف ونظرة الشريعة الإسلامية إلى المخدرات.(1/354)
ملخص البحث الأول
نظرة الشريعة الإسلامية إلى المخدرات
تقدمة رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
تقدمت رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والإرشاد ببحث مستفيض في نظرة الشريعة الإسلامية إلى المخدرات يمكن تلخيص أغراضه المهمة فيما يأتي: أولا: مقدمة تناولت أن تسلسل البحث يقتضي الكلام على الفرق بين كل من المسكر والمخدر والمفتر على بدء ظهور المخدرات وانتشارها وعلى مهمة التشريع الإسلامي من ناحية الرحمة بالمكلفين ورعاية مصالحهم مع بيان المقصود بكل من الرحمة ورعاية المصلحة. ثم علاقة المصلحة بالتكاليف فيما يسميه الأصوليون بالضروريات والحاجيات والتحسينيات مع بيان المقصود بكل ذلك.
ثم أدلة تحريم كل ما يزيل العقل في كل من الخمر والمخدرات ووجه الارتباط بين الأمرين بما يدعم الحكم في المخدرات ويجعله واضحا ملموسا لا يحتمل اللبس. ثم النقول المختلفة من كتب الفقه وما تأثر به الفقهاء من الأدلة الشرعية الأصول في أحكامهم على المخدرات.
ثم نظرة العلم الحديث والقانون إلى هذه المخدرات بما يعزز وجهة نظر الشريعة. وقد تناول البحث بعد ذلك الفرق بين حقيقة كل من الخمر والمخدر والمفتر بما يبين أثر كل منهما فيمن يتعاطاه.
ثم تناول البحث مبدأ ظهور المخدرات وأنه كان في أواخر القرن السادس الهجري وأوائل القرن السابع حين ظهرت دولة التتار كما صرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية لما أظهر الناس ما نهاهم الله ورسوله عنه فسلط عليهم العدو ينتقم منهم به.
وقد تناول البحث بعد ذلك تبيين مهمة التشريع الإسلامي في جانب الرحمة وفي جانب المصلحة. فبين جانب الرحمة في هذا التشريع متمثلة فيما جاء به النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- فأخرج الناس من الظلمات إلى النور وأنقذهم مما(1/355)
كانوا يتورطون فيه من المفاسد في العقيدة والسلوك وفيما أحل الله من الطيبات وحرم من الخبائث وفي تدرج التشريع تخفيفا على العباد كما عرف تحريم الخمر على فترات لا مرة واحدة من أول الأمر وأطال في هذا البيان.
وتعرض لجانب مصالح العباد في التشريع الإسلامي فأطنب في بيانه، ومما جاء فيه من عبارات الأصوليين ما جاء في كتاب الموافقات للشاطبي وهو قوله: " والمعتمد أننا استقربنا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه أحد فإن الله تعالى يقول في بعثة الرسل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (1) النساء 165، ويقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2) .
ثم جاء في البحث أن التعاليل لتفاصيل الأحكام تبين جانب المصلحة بما يبعث المكلفين على الامتثال وهي أكثر من أن تحصى منها قوله سبحانه {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} (3) ، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4) وهكذا.
ثم عاد فبين ما تدور التكاليف الشرعية في فلكه مستندا إلى عبارة للشاطبي في موافقاته يقول فيها: " تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق وهي لا تعدو ثلاثة أقسام " أحدها " أن تكون ضرورية. والثاني: أن تكون حاجية. والثالث: أن تكون تحسينية " وشرح كل واحدة منها فبين أن الضرورية هي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة.
ثم بين أن مجموع تلك الضروريات خمسة وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل وبعد أن بين الحاجيات والتحسينيات بما يبين أنها كلها مشروعة للمحافظة على الضروريات أورد أن من تتبع هذه الخمس واحدة واحدة ظهر له جليا أن هذه المخدرات جناية عليها ومقوضة لأركانها وهي أشد ما تكون جناية مباشرة على العقل وأسهب في بيان قيمة العقل ثم في أثر تلك المخدرات عليه وتعريضه للزوال التام في نهاية الأمر.
وتناول بعد ذلك تأثيرها على دين المرء في دينه بصده عن الذكر وعن الصلاة وإيقاع العداوة والبغضاء في الخمر والميسر والمخدرات عامة. ثم عرض البحث للمال وقيمته في نظر الإسلام بما يتجلى في قوله سبحانه في وصف الأموال {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (5)
وبين أن متعاطي المخدرات سفيه مبذر ينفق المال فيما يضره ويفسد حياته، ثم بين بعد ذلك أن مما يدعو إلى إضاعة الأنساب؛ لأنه يدعو إلى الشهوة دون حرص على حفظ الفرج فالطائش بالمخدر لا يتقي ما حرم الله ثم قال وأما حفظ النفس فإنه مفقود عند المدمن؛ لأنه يعرض بدنه للخلل والمفسدة ويلقي به إلى التهلكة.
ثم انتهى في هذه الناحية إلى أن المخدرات محادة لله ولرسوله وللأديان السماوية التي أمرت بحفظ الضروريات الخمس فأرخصتها هذه المخدرات وصيرتها بصدد الآفات وعند الله السلامة والعافية.
__________
(1) سورة النساء الآية 165
(2) سورة الأنبياء الآية 107
(3) سورة المائدة الآية 6
(4) سورة البقرة الآية 183
(5) سورة النساء الآية 5(1/356)
وينتقل البحث بعد ذلك إلى موضوع الأدلة الشرعية على منع المخدرات فبدأ بتمهيد تحدث فيه عن الخمر أولا باعتبار أنها أول ما تعورف بأنه يفسد العقل والبدن والدين وجعل هذا التمهيد ربطا قويا بين الخمر والمخدر يلتقيان به في الوصف الذي من أجله كان تحريم الخمر ولما كان المقصود الأساسي بالبحث هو المخدرات فقد اجتزأ بالإشارة العابرة إلى الخمر وإلى تغليظ الشارع في أمرها بما دل عليه النص القرآني الكريم من التحريم البات في آية المائدة وما اقترن به من بيان صفات الخمر من أنها رجس ومن عمل الشيطان وترتيب الفلاح على تركها واستغلال الشيطان ضعف الإنسان لإغوائه بها وإيقاعه العداوة بسببها وصده عن ذكر الله وعن الصلاة بعد توريط المسكين في تعاطيها. وأشار إلى أنه ورد من الأحاديث في التنفير منها بضعة وستون حديثا أوردها ابن حجر الهيثمي في (الزواجر) على عادته في الاستقصاء وقد أوردها أيضا الشيخ حمود بن عبد الله في كتابه الدلائل الواضحات وأورد البحث بعض هذه أحاديث منها ما رواه الشيخان وغيرهما.
عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- قال: «لا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن (1) » وما رواه أبو داود أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- «لعن الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه (2) » .
وما رواه ابن حبان أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- قال: «من لقي الله مدمن خمر لقيه كعابد وثن (3) » وما إلى ذلك مما هو جدير أن ينفر من هذا الرجس ثم يقول: والله سبحانه ما يريد ليعنت الناس ولكنهم يعنتون أنفسهم فيؤثرون متعا وهمية توقعهم في الخسران المبين.
وينتقل البحث إلى علاقة المخدرات بالخمر فيقول ما خلاصته: إن العلامة ابن حجر وهو يصور الدين وحكمه في هذه المخدرات يقول: إنها مسكرة كما صرح به النووي في بعضها وفسر الإسكار بتغطية العقل ثم قال إن ذلك لا ينافي أنها تسمى مخدرة، وانتقل البحث إلى أنها كلها تؤثر على العقل الذي أمر الشارع بحفظه وإن القليل منها يدعو إلى الكثير بالطبع والتجربة.
فمن قال من الفقهاء بجواز القليل منها فهو ضعيف يشبه القول بإباحة القليل من الأشربة المسكرة على خلاف قوله -صلى الله تعالى عليه وسلم- «وما أسكر كثيره فقليله حرام (4) » فإن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- قاله سدا لذريعة التمادي ومقاومة لمقدمة الشر وأصالة في التشريع ثم نقل البحث ما أورده صاحب عون المعبود في شرح سنن أبي داود عن أبي بكر القسطلاني مما لا يختلف عما أورده ابن حجر الهيثمي. . ثم نقل ما أورده شارح السنن عن الزركشي من أن هذه المخدرات تؤثر في متعاطيها المعنى الذي يدخله في حد السكر وأيد ذلك بما يدل عليه من تعريفات الفقهاء للسكران وانتقال إلى بيان وجه اعتبارها مسكرة بما لا يخرج عما سبق للهيثمي والقسطلاني والزركشي وأضاف إلى ذلك نص اللغة.
وفي غضون هذه الدراسة تعرض البحث لبيان أن طائفة من الفقهاء لا يكتفون في هذه المخدرة باعتبارها مسكرة بل يسمونها خمرا منهم شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ الذهبي، ثم ذكر البحث أن ذلك المعنى صريح في بعض التعبيرات النبوية مثل قوله -صلى الله تعالى عليه وسلم- «كل مسكر خمر (5) » فإذا كان القرآن الكريم قد صرح بحكمه في الخمر التي كانت تشرب حين ينزل القرآن وطلب المسلمون فيها البيان فإن السنة لم تترك البيان الواضح فيما يشبه الخمر في تغطية العقل وأدمجته في الخمر.
ثم أورد البحث أن هذه المخدرات بناء على ذلك لها من شدة الارتباط بالخمر ولهذا قل أن تقرأ كتابا من كتب الفقه إلا وهو يذكر حكمها مع حكم الخمر تارة في حد الشرب وتارة في كتاب الأشربة المحرمة وتارة في أحكام النجاسة وأحيانا في المباح والمحرم من الأشربة.
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2475) ، صحيح مسلم الإيمان (57) ، سنن النسائي قطع السارق (4871) ، سنن أبو داود السنة (4689) ، سنن ابن ماجه الفتن (3936) ، مسند أحمد بن حنبل (2/317) ، سنن الدارمي الأشربة (2106) .
(2) سنن أبو داود الأشربة (3674) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/71) .
(3) سنن ابن ماجه الأشربة (3375) .
(4) سنن الترمذي الأشربة (1865) ، سنن أبو داود الأشربة (3681) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3393) ، مسند أحمد بن حنبل (3/343) .
(5) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) ، سنن الدارمي الأشربة (2090) .(1/357)
ثم انتقل إلى ذكر أقوال الفقهاء في المذاهب الأربعة فبدأ بالفقه الحنبلي لوضوحه وخصوبته في هذا الموضوع، فأورد عدة فتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية نقلا عن مجموع الفتاوى من الجزء الرابع والثلاثين. وكان من بين هذه الفتاوى فتوى وردت بعنوان " باب حد المسكر " (1) . جاء في هذه الفتوى أن اسم الخمر في لغة العرب الذين خوطبوا بالقرآن الكريم كان يتناول المسكر من التمر وغيره - إلى أن قال: اعلم أن اسم الخمر في كتاب الله عام لا يختص بعصير العنب. . . ثم قال وقد استفاضت الأحاديث عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- بأن «كل مسكر خمر (2) » وهو حرام.
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: «قلت: يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن.
قال: فكان رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم- قد أوتي جوامع الكلم بخواتمه. فقال: كل مسكر حرام (3) » . وفي صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- قال: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام (4) » وأطال في ذلك.
ثم قال: وأما الحشيشة الملعونة المسكرة فهي بمنزلة غيرها من المسكرات والمسكر منها حرام باتفاق العلماء بل كل ما يزيل العقل فإنه يحرم أكله ولو لم يكن مسكرا كالبنج فإن المسكر يجب فيه الحد وغير المسكر يجب فيه التعزير.
وأما قليل الحشيشة المسكرة فحرام عند جماهير العلماء كسائر القليل من المسكرات، وقول النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- «كل مسكر خمر وكل خمر حرام (5) » يتناول ما يسكر ولا فرق بين أن يكون المسكر مأكولا أو مشروبا أو جامدا أو مائعا.
فلو اصطبغ الخمر كان حراما ولو أماع الحشيشة وشربها كان حراما ونبينا -صلى الله تعالى عليه وسلم- بعث بجوامع الكلم فإذا قال كلمة جامعة كانت عامة في كل ما يدخل في لفظها ومعناها سواء كانت الأعيان موجودة في زمانه أو لم تكن ثم قال: وكانت هذه الحشيشة الملعونة من أعظم المسكرات وهي شر من الشراب المسكر من بعض الوجوه والمسكر شر منها من وجه آخر، فإنها مع كونها تسكر آكلها حتى يبقى مصطولا تورث التخنث والديوثة وتفسد المزاج فتجعل الكبير كالسفنجة وتوجب كثرة الأكل وتورث الجنون. وكثير من الناس صار مجنونا بسبب أكلها. . .
ثم قال: إن الفقهاء قالوا إنه يجب فيها الحد كما يجب في الخمر، ولكنهم تنازعوا في نجاستها على ثلاثة أوجه في مذهب أحمد وغيره فقيل هي نجسة مطلقا وقيل ليست بنجسة وقيل رطبها نجس كالخمر ويابسها ليس بنجس. والصحيح أن النجاسة تتناول الجميع كما تتناول النجاسة مائع الخمر وجامدها فمن سكر من شرب سكر أو حشيشة مسكرة لم يحل له قربان المسجد حتى يصحو ولا تصح صلاته حتى يعلم ما يقول ولا بد أن يغسل فمه ويديه وثيابه في هذا وهذا والصلاة فرض عليه ولكن لا يقبل منه حتى يتوب أربعين يوما واستدل على ذلك (6) . . .
__________
(1) جـ 34 مجموع فتاوى ابن تيمية
(2) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) ، سنن الدارمي الأشربة (2090) .
(3) صحيح البخاري المغازي (4345) ، صحيح مسلم الأشربة (1733) ، سنن النسائي الأشربة (5604) ، سنن أبو داود الأشربة (3684) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3391) ، مسند أحمد بن حنبل (4/417) ، سنن الدارمي الأشربة (2098) .
(4) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) ، سنن الدارمي الأشربة (2090) .
(5) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) ، سنن الدارمي الأشربة (2090) .
(6) البحث ص 33(1/358)
فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية
ثم أورد البحث بعض فتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية تدور حول تلك المعاني ثم قال: وإن مسلك شيخ الإسلام هنا لمسلك فقهي إسلامي عظيم يعطي صورة تؤكد أنه رجل الإسلام والشريعة وأنه غاص على أسرارها (1) .
ثم يقول البحث: إن هذه الفتاوى التي أفتى بها ابن تيمية صريحة واضحة في حرمة هذه المخدرات جميعها القليل والكثير. . ثم يقول: وجاء الشيخ المصلح محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ومن سلك مسلكه رحمهم الله فأبرزوا ذلك وأفتوا به تمشيا مع قوة الدليل وبالرجوع إلى كتاب الدرر السنية في الأجوبة النجدية جـ 6 ص 452 فما بعدها فتاوى لا تخرج عما أفتى به شيخ الإسلام وما نقله عن الأعلام (2) .
فتوى الإمام محمد بن إبراهيم
ثم أورد البحث فتوى الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم بشأن النبات المسمى (القات) قال فيه: إن هذه المسألة حادثة الوقوع وأورد مضار هذا النبات ثم قال: إنه مقيس على الحشيشة المحرمة لاجتماعهما في كثير من الصفات المقتضية للتحريم واستدل بحديث أحمد وأبي داود «أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- نهى عن كل مسكر ومفتر (3) » . ثم قال: إن هذا النبات لما فيه من المضار حكم العلماء بتحريمه واستدلوا لذلك بما ظهر لهم منها ومنهم الشيخ ابن حجر المكي الذي قاسه على الحشيشة وجوزة الطيب وعد استعمال مثل ذلك من كبائر الذنوب ثم قال: إن ابن حجر ألف فيه كتابا سماه (تحذير الثقات من استعمال الكفنة والقات) واتبع ذلك بعده نقول تؤيد ما ذكر من التحريم وختم المقال بعبارة للعلامة يونس نصها " ظهر القات في زمن قوم لا يحسرون لا تحريم ولا تحليل ولو ظهر في زمن الفقهاء المتقدمين لحرموه ".
__________
(1) البحث ص (38) . .
(2) راجع البحث ص \ 40 فما بعدها. .
(3) سنن أبو داود الأشربة (3686) ، مسند أحمد بن حنبل (6/309) .(1/359)
المخدرات في الفقه الشافعي
وينتقل البحث بعد ذلك إلى بيان الفقه الشافعي في موضوع المخدرات فيقول: إن منهم من حكم بأنه حرام كله مطلقا قليله وكثيره ولا حد فيه بل التعزير فقط لا فرق بين مخدر وآخر.
ونقل ما يبين ذلك عن الخطيب الشربيني في شرحه لكتاب(1/359)
المنهاج للإمام النووي في التعليق على قوله (كل شراب أسكر كثيره حرم قليله وحد شاربه بما يؤيد حرمة المخدر كله مطلقا ونقل مثل ذلك من شرح الشيخ زكريا على متن البهجة لابن الوردي.
ومن الشافعية من يتجه إلى تحريم الكثير من هذه المخدرات إطلاقا من غير تخصيص لصنف دون آخر وهؤلاء يقولون أن القليل مكروه إذا لم يقصد المداومة وإنه يباح للتداوي على خلاف في ذلك.
وقد أورد البحث نقولا أخرى من الفقه الشافعي تدل على ذلك، وقد ذكر عمن قال بالكراهة ففي القليل أو إباحة التداوي قيودا تجعل الفارق قليلا جدا. وقال: إن الحق في ذلك ما قاله ابن تيمية ومن نهج منهجه سدا للذرائع وإغلاقا لباب الفساد.
ثم أشار البحث إلى كتاب الزواجر لابن حجر باعتبار أن مؤلفه فقيه شافعي وقال إنه وإن كان فقيها شافعيا إلا أنه نقل المذاهب الأربعة بما يدل على إجماع فقهائها على التحريم في الجملة وقد اتجه إلى ما يشبه مسلك الحنابلة في التشديد في أمر المخدرات والتغليظ في تعاطيها حتى أنه عدها من الكبائر وقد توسع في عرض أصناف منها بعضها يقبل المعارضة كالعنبر والزعفران ثم نقل عن ابن دقيق العيد أنه قال لا حد على متلف هذه المخدرات كالخمر، ثم نقل عن بعض العلماء أن في أكلها مائة وعشرين مضرة وأورد البحث كثيرا من تلك المضار (1) . ثم ذكر البحث ما أورده ابن حجر في فتاواه عن القات وهو لا يخرج عما نقلناه عن الإمام مفتي المملكة العربية السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم. وانتقل بالبحث بعد ذلك إلى الفقه المالكي:
فبين أنه يتجه إلى تحريم الكثير المسكر من المخدرات وأن الإمام القرافي المالكي يتردد في أمر الحشيشة ولا يعتقد أنها مسكرة إلا أنه يقول: ينبني على إسكارها إن ثبت تحريم القليل منها ونجاسته والحد على تناولها. لكن الواقع الذي ثبت أنها مسكرة كما صرح به النووي وشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن حجر.
__________
(1) البحث ص 44 فما بعدها(1/360)
الفقه المالكي
ومما نقل البحث من عبارات الفقه المالكي ما جاء في كتاب مواهب الجليل للإمام محمد الخطاب المتوفى سنة 954 هـ يقول فيه: قال صاحب الإرشاد إن ما يغطي العقل فلا خلاف في تحريم القدر المغطي من كل شيء وما لا يغطي من المسكر فمثل المغطي في التحريم للحديث «ما أسكر كثيره فقليله حرام (1) » ثم قال وقد اختلف في الحشيشة أهي مسكرة أم مفسدة والمفسد ما يصور خيالات دون تغييب الحواس ولا طرب ولا نشوة ولا شدة ولا خلاف في تحريم القدر المفسد، وذكر أن الأفيون يغيب الحواس ولا يفسد العقل وأن الجوزة من المخدرات، ونقل عن القرافي أنه ينبني على القول بإسكار الحشيشة تحريم القليل وتنجيس العين ولزوم الحد. كما سبق.
ثم نقل البحث ما أورده خليل أول الكتاب في باب النجاسات نقلا عن التوضيح أن هذه الأشياء ثلاثة أقسام - وهو اصطلاح لا يعرف لغير المالكية - ما يغيب العقل دون الحواس مع نشوة وطرب وما يغيب العقل دون الحواس بدون نشوة وما يغيب العقل والحواس.
وأورد أنه ينبني على الإسكار الأحكام الثلاثة السابقة عن القرافي وأورد عبارات عديدة تدور حول ذلك المعنى. . ثم انتهى إلى أن المذهب المالكي في غير المسكر من المخدرات تحريم الكثير منه وأنه غير نجس.
__________
(1) سنن الترمذي الأشربة (1865) ، سنن أبو داود الأشربة (3681) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3393) ، مسند أحمد بن حنبل (3/343) .(1/360)
المخدرات في الفقه الحنفي
ثم انتقل البحث إلى الفقه الحنفي فقال: إن الحنفية يختلفون في الحكم على المخدرات تشديدا وتخفيفا كما اختلف الشافعية على ذلك الوجه وليس في مذهب التخفيف أقل من إباحة القليل بدون قصد اللهو والباطل. وليس في مذهب التشديد عندهم حكم بنجاسة المادة ولا بحد المتعاطي. وكلهم مجمعون على حرمة التخدير والسكر.
وفي كلام بعض الحنفية أن الخلاف في القليل كان قبل ظهور مفاسدها. فلما ظهرت أجمعوا على حرمة القليل والكثير مما يدل على اتساع أفق الفقه ومسايرته لمصالح العباد ثم نقل عدة عبارات من كتبهم لا تخرج عن ذلك.
ثم نقل البحث ما ورد في كتاب الطلاق في الدر المختار شرح تنوير الأبصار من أنه يقع طلاق السكران ولو كان من الحشيش أو الأفيون زجرا للمطلق. . ثم نقل عن الفتح اتفاق مشايخ الحنفية والشافعية على وقوع طلاق من غاب عقله بالحشيش لفتواهم بحرمته بعد أن اختلفوا فيها وكان اختلافهم؛ لأن المتقدمين لم يصرحوا فيها بشيء لعدم ظهور أمرها فيهم.
ثم انتقل البحث إلى تصوير بعض ما جاء في شرح السنة فأشار إلى ما أورده الشيخ محمد عبد الحق في كتابه عون المعبود شرح سنن أبي داود، ومما جاء فيه ما نقله شارع هذه السنن تعليقا على حديث أم سلمة «أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- نهى عن كل مسكر ومفتر (1) » قال الطيبي لا يبعد أن يستدل بالحديث على تحريم البنج والشعتاء ونحوهما مما يفتر ويزيل العقل؛ لأن العلة وهي إزالة العقل مطردة فيها وناقش البحث ذلك بأن هذه الأشياء ما دامت تفتر وتزيل العقل فإنها محرمة بهذا النص فما الداعي إلى القياس.؟ !
ثم أورد الشيخ شمس الحق شارح السنن نقولا عديدة في تعريف المفتر بأنه كل شراب يورث الفتور والرخاوة في الأعضاء وهو مقدمة السكر كما يقول الخطابي نهى عن شربه لئلا يكون ذريعة إلى السكر. . ثم أورد نقولا عن المذاهب المختلفة لا تعدو ما سبقت الإشارة إليه ومما أورده أن زهر القطن قوي التفريح يبلغ الإسكار كما في تذكرة داود الأنطاكي في الطب القديم، ومما أورده صاحب عون المعبود أن الزعفران والعنبر والمسك ليس فيها سكر أصلا ولا تفتير ولا تخدير.
ثم انتقل البحث إلى إبراز وجهة نظر الشرع فيما انتهى إليه النظر الحديث المعاصر في مفاسد هذه الخبائث، فنقل فقرا من كتاب (ظاهرة تعاطي الحشيش) للدكتور سعيد المغربي، ومما اقتبس من هذا الكتاب:
(1) أن الحشيش مما خلفه الاستعمار والحاجة الآن ملحة لإعادة المجتمع الشرقي وتصفيته من تلك المشكلات الحادة والمزمنة، والقانون المصري مهتم بهذه الجريمة اهتماما بالغا مما يدل على خطر هذه السموم ثم قال: إن متعاطي هذه المخدرات قوى معطلة عن العمل والإنتاج.
(2) للحشيشة آثار سيئة في البدن لما تحدثه من الدوار والشعور بالاسترخاء والنوم العميق والهبوط العام والتصلب في الشرايين.
(3) إذا اقترب موعد تعاطي المخدر تنتاب المدمن أعراض من التوتر والشعور بالقلق الشديد والانقباض والهبوط العصبي.
__________
(1) سنن أبو داود الأشربة (3686) ، مسند أحمد بن حنبل (6/309) .(1/361)
وقال في هذا إن معظم المدمنين على وعي تام بآثار مدمرة لهم صحيا ونفسيا وأحيانا يكونون في حالة بكاء تشل الجسد عن الحركة حتى يتعاطى النوبة.
(4) من بين الآثار أن الحشيش يسبب حالة من المرح والتهيج مع اعتماد متعاطيه أنه قادر على كل شيء فضلا عن اتجاهه إلى اختراع أفكار وهمية وأنه يؤدي إلى ارتكاب الجريمة، وكثيرا ما يصير به ذلك إلى التشرد والسرقة والخوف والجبن، ولهذا كانت له ضحايا كثيرة من مرضى العقول والمجانين.
وقد استوفى البحث عشر نقط مما فهمه المصلحون والمعالجون والمتابعون لضحاياها وصرعى إدمانها وفي نهاية هذه الدراسة يقول الدكتور المغربي: إن القانون لم يحل مشكلة تعاطي المخدر وغيره فألحق أن علاجها من وجهة النظر النفسية والاجتماعية بالرجوع إلى حالة سلوك واقعية.
وتلخيص الحل في التفسير الجوهري للعناصر التي يعيش فيها الفرد بحيث تهيأ له الفرص التي يشبع فيها حاجاته في ظل التكافل الصادق الذي يشعر الشخص بالتفاؤل والنجاح. ويا حبذا لو اتجه الباحث وغيره في الموضوع إلى إيقاظ الوعي الديني وقرع أبواب القلوب والعقول به وغرسه في النفوس ليصلح كل شيء في الأفراد والمجتمعات.
ثم انتقل البحث إلى حكم تناول الدخان فرأى أنه ما كان ينبغي أن تضطرب فيه الأقوال بل كان ينبغي أن يأخذ حكم المخدرات فإنه مفتر وربما كان أشد ضررا وفتكا من غيره من المخدرات.
ثم اقتضت الأمانة العلمية أن ينقل أقوال الفقهاء: فأورد أن صاحب كتاب فتح المعين لأبي مسعود جـ 3 ص 425 يذكر عبارات تبين اختلاف علمائهم في أمره ولا تروي غليلا في شأنه، ومما قال: أن صاحب الدر الشيخ الحصكفي الحنفي حكى عن شيخه الغزي الشافعي أنه حرام؛ لأنه مسكر ومفتر ومنهي عنه في عموم النهي وليس من الكبائر شربه المرة والمرتين وإذا نهى عنه ولي الأمر حرم قطعا.
وأما صاحب الأشباه والنظائر فيرى أنه مباح بناء على ما هو الأصل في الأشياء ولكن هذا ضعيف؛ لأن كون الأصل في الأشياء الإباحة مقيد بما إذا لم يدل الدليل على خلاف ذلك وقد علم أنه داخل في عموم النهي عن المفتر فلا معنى لهذا الاستدلال.
وأما المالكية فقد وردت فتوى في شأنه في كتاب تهذيب الفروق نقل فيها عن حاشية ابن حمدون الفقيه المالكي: أن استعمال القدر المؤثر على العقل منه حرام اتفاقا. أما غيره فقد أطبق المغاربة وأكثر المشارقة على تحريمه. . ثم قال وعلة التحريم أنها تورث خورا فتشارك أولية الخمر في نشوته وقال بعض أئمتهم يكفي حديث أم سلمة «نهى رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم- عن كل مسكر ومفتر (1) » دليلا على تحريمه ثم قال وعلى هذا فهو نجس ويحرم القليل كالكثير خشية الوقوع في التأثير، قال وأفتى بعضهم بالإباحة كالشيخ عبد الغني النابلسي بحجة أنه مما سكت الله عنه. هو ضعيف كالاستدلال بالإباحة الأصلية ومعناه أن كل ما سكت الله عنه مما لم يكن في عهد النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- فهو مباح، وإن العمومات التي تشمل كثيرا مما لم ينص عليه تفصيلا. وقد انتهى ابن حمدون إلى القول بحرمته بناء على حديث أم سلمة. ثم نقل البحث عن ابن عابدين في تنقيح الفتاوى الحامدية:
__________
(1) سنن أبو داود الأشربة (3686) ، مسند أحمد بن حنبل (6/309) .(1/362)
مسألة: أفتى أئمة أعلام بتحريم شرب الدخان وقال ابن عابدين بعد ذلك إن ثبت ضرره فيجوز الإفتاء بتحريمه وإلا فالأصل الحل. . وأوضح أن الشق الأول هو الصحيح وهو الذي ركز عليه المحققون في القول بالتحريم.
ثم قال البحث: إن الإمام المصلح محمد بن عبد الوهاب وتلامذته ينكرون بشدة على متعاطيه ويروا أنه مسكر داخل في عموم قوله -صلى الله تعالى عليه وسلم- «كل مسكر حرام (1) » وقوله «ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام (2) » .
وقد كتب في ذلك سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم فتوى أفاض القول فيها بما يثبت خبث الدخان وإسكاره في بعض الأحيان وأدخله في عموم تحريم الخبائث في القرآن الكريم وتحريم كل مسكر في السنة النبوية، وفيه أيضا ما فيه من الإسراف وإضاعة المال بما يزلزل الحياة الاجتماعية.
ثم نقل عن الشيخ محمد العيني من فقهاء الحنفية أنه نص على تحريمه من أربعة أوجه: ضرره الصحي، وكونه مخدرا بلا نزاع، وكراهة رائحته والإسراف في المال بسببه وأطال في بيان تاريخه وأثره السيئ.
ثم نقل فتوى للإمام محمد بن عبد الوهاب تنص على تحريمه بالأدلة الواضحة التي لا تحتمل المناقشة. . ثم نقل البحث إجابة للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي يقول فيها: إن شرب الدخان والاتجار به حرام للأدلة الدالة على ذلك وذكر من مضاره الدنيوية أنه من الخبائث وأنه إلقاء باليد إلى التهلكة وأن أهل الدخان من أعرف الناس بأضراره ولكن إرادتهم ضعيفة ومن المضار الدينية أنه يثقل على العبد العبادات ولا سيما الصيام ويدعو إلى مخالطة الأرذال، ومجانبة الأخيار وأطال في سرد مضاره ثم انتهى البحث إلى أن أقل درجات الدخان أنه مفتر مفسد للمال والبدن والأعصاب والعقل وأي حاجة تدعو المرء إلى ما يفسد حياته في دنياه ودينه. والله ولي التوفيق. . .
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4343) ، صحيح مسلم الأشربة (1733) ، سنن النسائي الأشربة (5604) ، سنن أبو داود الأشربة (3684) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3391) ، مسند أحمد بن حنبل (4/417) ، سنن الدارمي الأشربة (2098) .
(2) سنن الترمذي الأشربة (1866) ، سنن أبو داود الأشربة (3687) .(1/363)
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (1)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153(1/364)
موقف
الشريعة الإسلامية من المسكرات والمخدرات
إعداد الشيخ سعود بن سعد بن دريب
المستشار بمكتب وزير العدل
تضمن هذا البحث ما يلي: - بيان المقصود من الشريعة الإسلامية
فورد أن المقصود من هذه الشريعة مصلحة الإنسان باعتباره خليفة في المجتمع الذي هو منه ويتضح ذلك باستقرائنا لأحكام الله تعالى، وأورد أدلة تؤيد ذلك من القرآن الكريم والسنة النبوية ثم قال: أن التتبع دل على أن الشارع الإسلامي ما قصد إلا حفظ ضروريات الناس وحاجياتهم وتحسيناتهم ثم نقل فقرة عن الشاطبي يقول: وإن الظواهر والعمومات والمقيدات والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة ووقائع في كل أبواب الفقه يؤخذ منها أن التشريع دائر حول هذه الثلاث التي هي أسس مصالح الناس.
ثم تناول محافظة الشريعة الإسلامية على مقاصدها بما يقيم أركانها وذلك بمراعاتها من جانب الوجود، وبما يدرأ عنها الاختلال وذلك بمراعاتها من جانب العدم،. . ثم أوضح ذلك بأن الدين شرع الإيمان والتعلق بالشاهدتين وبقية أركان الإسلام لحفظه وكفالة بقائه، وشرع الجهاد لمحاربة من يقف عقبة في سبيل الدعوة إليه، وشرع الطعام والشراب والمسكن لبقاء الحياة، وشرع القصاص والدية لحفظ النفس من العدوان عليها، وشرع لحفظ النسل من حيث الوجود والنكاح والتناسل، ومن حيث المنع حرمة الزنا والقذف ووضع الحد لمرتكبها.
وشرع لحفظ المال من حيث الوجود الضرب في الأرض بطلب الرزق، ومن حيث المنع حرم السرقة والربا وأكل أموال الناس بالباطل.(1/365)
والعقل شرع لحفظه من حيث الوجود ما شرع لحفظ النفس من تناول الغذاء الذي يتوقف على البقاء كما شرع لحفظه من حيث المنع تحريم المسكرات والمخدرات مع عقوبة من تناول شيئا من ذلك.
ثم قال: لهذا جاءت الشريعة الإسلامية بتحريم المسكرات والمخدرات لمفاسدها بالنسبة إلى الفرد وإلى المجتمع سواء في الدين أو النفس أو العرض، أو العقل أو المال، ثم تناول بيان حقيقة كل من المسكر والمخدر وحقيقة الخمر وقال إنها كل ما اختمر وأسكر من عصير العنب أو التمر أو الشعير أو غير ذلك.
ثم ذكر أن الاصطلاح الفقهي يختلف: -
فالحنفية يعرفون الخمر بأنها ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، وجمهور العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار يقولون: إنها كل شراب يسكر سواء أكان من عصير العنب أو غيره ويدخل في ذلك جميع المواد الكحولية التي تحدث الإسكار وبهذا يقول محمد صاحب أبي حنيفة: وهذا هو الراجح المتمشي مع اللغة والأحاديث الصحيحة، وساق أحاديث كثيرة تدل على ذلك.
ثم قال: يستنتج من الأحاديث أن الشارع لم يحرم الخمر لكونها من نوع معين من المأكولات ولا نحو ذلك إنما لأثرها الذي تحدثه وهو الإسكار كما أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- قد أعطانا قاعدة نستطيع أن نميز بها الخمر من غيرها من قوله «كل مسكر خمر وكل خمر حرام (1) » وأنه يدخل في ذلك ما ثبت إسكاره من أي مادة ولو كانت خبزا أو ماء كما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت (لا أحل سكرا وإن كان خبزا أو ماء) .
وقال الحافظ ابن رجب: كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يستدلون بقول النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- «كل مسكر حرام (2) » على تحريم جميع أنواع المسكرات ما كان على عهد النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- وما حدث بعده، وساق أثرا لابن عباس في هذا المعنى، ثم ساق أنواعا من الخمر التي كانت معروفة في القديم أو عرفت في الحديث كالنبع والمرار والجفه والبيرة والغبيراء والبوظة والفصيح وغير ذلك، ثم قال: ومنها الحشيشة التي كان أول حدوثها في أواخر المائة السادسة أو قريبا من ذلك كما قال ابن تيمية ص 9 - ومنها الأفيون (معروف) .
وقد تبين بما لا يدع مجالا للشك أن تعاطي الأفيون لأغراض الكيف وتحقيق الشعور والنشوة والراحة في غاية الخطر على حياة الفرد والجماعة وظاهرة تعاطي المخدرات، ثم ذكر أنواعا من الخمور مثل البراندي والوسكي وغيرهما وأورد نسبة الكحول في كل منها وأنها تخالف الخمر في الأسماء وتتفق معها في الخصائص فهي محرمة مثلها.
ثم ذكر تعريفا باسم المخدرات أو المفترات. عرف المخدرات بأنها المواد التي تسبب في الإنسان الاسترخاء وفقد الوعي مع التفاوت وقد تؤدي إلى الوفاة. . والمفتر بمعنى المخدر وذكر كلام بعض العلماء في ذلك، وذكر من المخدرات ورق الشيش والبنج وجوزة الطيب وقال إن الأنواع كثيرة جدا كالخمور ثم أورد البحث تشديد الإسلام في تحريم المسكرات والمخدرات.
وأوضح ذلك بأنها تتنافى مع المحافظة على الضروريات الخمس السابقة، وأضاف أن الشارع جاء بتعليمات تستهدف إيجاد أمة قوية في إيمانها وأبدانها وعقولها. والمسكرات والمخدرات من عوامل الضعف وأورد آية التحريم البات للخمر. ثم قال: أجمعت الأمة الإسلامية قديما وحديثا على تحريم الخمر وأن علماء الإسلام نصوا على تحريم طائفة من المخدرات في عصورهم واعتبروا بأن
__________
(1) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) ، سنن الدارمي الأشربة (2090) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4343) ، صحيح مسلم الأشربة (1733) ، سنن النسائي الأشربة (5604) ، سنن أبو داود الأشربة (3684) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3391) ، مسند أحمد بن حنبل (4/417) ، سنن الدارمي الأشربة (2098) .(1/366)
استحلالها كاستحلال الخمر. . ثم نقل من بعض الكتب الفقهية نصوصا تفيد تحريم الحشيش وما أشبهه من المخدرات، وبين بعد ذلك أن موقف الإسلام كان حاسما في تحريم القليل والكثير من هذه المخدرات التي تنحدر إلى مهابط الرذيلة وأورد بعض الأحاديث الدالة على تحريم القليل وأن الخطابي قال إن في هذه الأحاديث أبين البيان على أن الحرمة شاملة لجميع أنواع الشراب المسكر (نقلا من الدلائل الواضحات) .
ثم بين أن حسم الإسلام في التحريم اقتضى حرمة التداوي بالخمر وخلطها مع الدواء وقال -صلى الله تعالى عليه وسلم- في ذلك «إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها» رواه أحمد وأبو يعلى وابن حبان وغيرهم.
ولا عجب في ذلك فإن تحريم الشيء يقتضي مقاطعته وفي اتخاذه دواء ترخيص في ملابسته وهذا ضد مقصود الشارع. . أما في حالة الإضطرار الطارئ كمن غص بالطعام فلا حرج أن يدفعه الأكل بجرعة من الخمر إذا لم يوجد غيرها في أضيق الحدود الممكنة دفعا للحرج كما قال سبحانه وتعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1)
ثم كرر الحكمة في تحريم الخمر من زاوية الضرورات الخمس وأضاف إلى ذلك بيان ما في الخمر من المضار البينة بالنسبة إلى تلك الضرورات.
فأورد في مضارها الدينية أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن أعرض عن ذكر الله وعن الصلاة فإن حياته حياة قلق وإفلاس فكيف والخمر أم الخبائث فهي سبيل إلى جميع المحظورات ومن أضرارها على النفس ما أورده الأطباء بالبحث والتحليل الدقيق من أنها تفسد المعدة وتفقد الشهية وتسبب جحوظ العين وتسبب في إسراع الهرم حتى قالوا إن السكير ابن الأربعين يكون نسيج جسمه كنسيج جسم ابن الستين.
وعلى الجملة هي نذير خطير للجسم إذ تعوق دورة الدم وقد توقفها أحيانا فيموت السكير فجأة ولهذا فقد دلت الإحصاءات الطبية أن المدمنين حياتهم أقصر من غيرهم.
وقد أورد من مضارها على العرض والنسل ما يصاب به الجهاز التناسلي فهي تضعف الفاعلية الجنسية في الرجال وهي في النساء تقل ويكاد يتوقف الطمث أو توقفه وتضعفه وتؤثر على الرغبة الجنسية فيقل الحمل ولهذا يصاب كثير من المدمنين بالعقم والعنة مع أنها تضعف النسل إذا قدر وتشوهه وتجعله عرضة لمختلف الأمراض، ثم إن المسكرات تجرد المرء من الحياء وتدفع متعاطيها إلى ارتكاب الزنا فربما زنا بمحارمه وروى الطبراني إلى أن رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم- قال: «الخمر أم الفواحش وأكبر الكبائر من شربها وقع على أمه وخالته وعمته» .
ومن أضرارها على العقل أنها تستره وتغطيه كما هو أول أثر واضح وهو اللطيفة الربانية التي أنعم الله بها على الإنسان ثم يقع مع الإدمان ضعف القوة العقلية وقد ينتهي الأمر بشاربها إلى الجنون، ومن أضرارها المالية فليس هناك ما يدعو إلى إقامة الدليل عليها فالمدمنون للمسكرات أو المخدرات ينفقون الأموال الطائلة التي ربما كانوا أحوج ما يكون إليها لإصلاح شئونهم وشئون أبنائهم ومن يلونهم ثم إنهم يسخون أكثر ما يكون السخاء حال الغيبوبة.
وينتقل من ذلك إلى أن ضرر المسكرات والمخدرات لا تقتصر على المتعاطي وحده بل يتعدى إلى المجتمع واقتصاده وأمنه وسلامته. ويتجلى ذلك في هتك الأعراض وفي المشاجرات والخصومات كما أشار إليه القرآن الكريم {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2)
__________
(1) سورة البقرة الآية 173
(2) سورة المائدة الآية 91(1/367)
وهنا صورة توضح ما يخل بأمن الدولة تتمثل في إفشاء السر وهو أمر خطير جدا إذا كان متصلا بالحكومة وسياسة الدولة وشئونها العسكرية، ولهذا يعتمد الجواسيس على المسكرات والمخدرات في إنجاح مهمتهم.
أخطار على أمن الدولة
أما مضارها الاقتصادية على البلاد فيمثل في أمرين: الأول: - شل الحركة الإنتاجية لبعض أفراد المجتمع فإنهم يقضون جل أوقاتهم في حالة غيبوبة لا تمكنهم من العمل مع أن كثيرا منهم يشغلون الأطباء من الدولة لمعالجتهم.
الثاني: - تلك المبالغ الطائلة التي ينفقها هؤلاء التعساء في المسكرات والمخدرات فيما يؤثر على ثروة الدولة؛ لأنهم من هذا المجتمع وخصوصا مع حالات التهريب التي تستهلك كثيرا من العملة الصعبة التي تحتاج إليها البلاد، ثم انتقل إلى ناحية مكافحة الإسلام لتلك الجرائم.
أولا: من الناحية الروحية التهذيبية بالوعيد على تعاطيها والوعظ الناجع الذي يحول دون التورط فيها ثم عقوبة الجلد لكل متعاط للخمر بمثل قوله -صلى الله تعالى عليه وسلم- «من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه (1) » وواضح أن هدف الشارع من العقوبة تقويم الشارب ومنعه من استرسال مع تكفير ما خطئته، وقد علم الشارع أن الشارب يحاول الهروب من الحقائق إلى سعادة التخيلات فحارب ذلك بالعقوبات الرادعة التي ترده إلى مواجهة الحقيقة في ذلك العذاب الأليم وكان مع ذلك عذاب نفسي يتجلى في الذي يقع على الشارب بعد الجلد.
ثم قال: إن جمهور العلماء متفقون على وجوب جلد الشارب ولو شرب قطرة واحدة من الخمر لغذاء أو غيره إذا قامت البينة العادلة أو اعترف وكان مسلما عاقلا بالغا مختارا للشرب لا مكرها عليه، وتناول مقدار الجلد فقال روي أن رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم- جلد في الخمر إلى حد الأربعين ثم تجرأ الناس على الشرب في عهد عمر فأشاروا عليه بأن يصل به إلى الثمانين جلدة وهو حد القذف ونقل أن الصحابة أجمعوا على ذلك لكن يرى بعض الأئمة ومنهم الشافعي أنه لا يزاد على الأربعين.
وأما عقوبة من يتعاطى المخدرات بأي طريقة كان المتعاطي فما ثبت أنه مسكر مثل الحشيش والأفيون فإنه يلحق بالخمر وما ليس مسكرا بحكم الأطباء فعقوبته التعزير (عن مجموع الفتاوى) وقد حرص الإسلام على مقاطعة المتعاطين ونهى عن ارتياد مجالس أهل الشرب وفي الخبر «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة زاد عليها الخمر (2) » ، وكان عمر بن عبد العزيز فيما أثر عنه يجلد من شهد مجلس الخمر وإن لم يشرب، ويستدل على ذلك بالآية الكريمة {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} (3) الآية.
ثم تناول تعريف بعض الفقهاء للسكر والسكران تمهيدا لرأي الفقهاء في تصرفاته ثم قال إن للعلماء قولين في ذلك، الأول: - أن السكران يؤاخذ مؤاخذة كاملة فعقوده نافذة وطلاقه واقع ولو زنى فعليه الحد ويقتص منه إذا قتل سواء ارتكب عامدا أو مخطئا.
__________
(1) سنن الترمذي كتاب الحدود (1444) ، سنن أبو داود الحدود (4482) ، سنن ابن ماجه الحدود (2573) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) .
(2) سنن الترمذي الأدب (2801) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) ، سنن الدارمي الأشربة (2092) .
(3) سورة النساء الآية 140(1/368)
والقول الثاني أنه لا يسأل عن تصرفاته مطلقا؛ لأنه فاقد الإدراك الذي هو أساس المسئولية. والقول بالمؤاخذة هو الراجح؛ لأنه لا أثر للشرب في إسقاط التكليف، وتناول البحث أن الشارع حرم الاتجار بالخمر ولو مع غير المسلم كما في الحديث «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والأصنام (1) » .
وكذلك حرم الشارع العمل في حوانيت الخمر وصناعتها؛ لأن كل ذلك وسيلة للشرب، ومن أجل ذلك لعن رسول الله تعالى عليه وسلم الأطراف المتعاملة في الخمر ودعا عليهم بالطرد. وعن أنس رضي الله تعالى عنه «لعن رسول الله تعالى عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له (2) » رواه الترمذي وابن ماجه ورواته ثقات.
وبمقتضى ما مر من أن اسم الخمر يتناول المسكرات والمخدرات فإن ذلك يتناول تحريم الاتجار بالمخدرات. وقد نص العلماء على عدم جواز بيع العنب لمن يعمله خمرا منعا من الإعانة على المعصية وقد حرم الشارع أيضا إهداء هذه الأشياء ولو لغير المسلم، وتكلم في زراعة الحشيش والأفيون والقات ونحوها فقال إنها إعانة على المعصية ثم هي معصية من جهة أخرى لما فيها من مخالفة ولي الأمر وطاعة ولي الأمر واجبة في غير المعصية.
وبناء على ذلك يكون ثمن هذه المسكرات والمخدرات وأرباحها حرام وهي داخلة في أكل أموال الناس بالباطل وقد نص العلماء على أن من يبيع العنب لمن يعصره خمرا حرم عليه ثمنه مثل السلاح إذا بيع لمن يقاتل به مسلما.
وبناء على ذلك فهو مال خبيث وإنفاقه في القربات والصدقات غير مقبول ثم قال إن ما يحز في النفس أن قوانين بعض الدول الإسلامية خال من النص على تحريم الخمر وهي تعمل على مكافحة المخدرات والمخدرات فرع والخمور أصل فكيف وكيف يستقيم لها ذلك وهي لا تحارب الأصل؟ .
ثم قال إن خير ما يوصى به في ختام البحث تأكيد الاهتمام بالنص في جميع القوانين على تحريم الخمر وبجميع أنواعها والاتجار بها مع دراسة إمكان بذل معونات الدول التي تقوم ببعض اقتصاديات على زراعة المخدرات تعويضا لها حتى يتحول نشاطها إلى النافع المثمر هذا مع إقامة برامج توعية لتوضيح مضار المسكرات والمخدرات من جميع النواحي والتوجيهات. . والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2236) ، صحيح مسلم المساقاة (1581) ، سنن الترمذي البيوع (1297) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4256) ، سنن أبو داود البيوع (3486) ، سنن ابن ماجه التجارات (2167) ، مسند أحمد بن حنبل (3/326) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1295) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3381) .(1/369)
التوصيات
وبعد عرض ومناقشة البحوث والتقارير المقدمة للمؤتمر وبعد الاستماع إلى كلمات ممثلي المنظمات والهيئات المشتركة فيه انتهى الأعضاء المشتركون إلى التوصيات الآتية:
التعاون الدولي في مكافحة المخدرات:
(1) يهيب المؤتمر بالدول العربية التي لم تنضم إلى المبادرة للانضمام إلى الاتفاقية الوحيدة للمخدرات لعام 1961 م والبروتوكول المعدل لها لعام 1972 م واتفاقية المواد النفسية لعام 1971 م. ويدعو المؤتمر الدول العربية المنضمة إلى هاتين الاتفاقيتين الوفاء بجميع الالتزامات المترتبة عليهما. (2) يناشد المؤتمر تأييدا لجهود اللجنة الفرعية للاتجار غير المشروع للشرقين الأدنى والأوسط كلا من تركيا وإيران وباكستان وأفغانستان والدول العربية المجاورة لها إلى وضع نظام ثابت يكفل تعاونا أكثر فعالية بين أجهزة المكافحة في هذه الدول وأن يتولى المكتب الدولي العربي لشئون المخدرات العمل على تحقيق هذا الغرض. (3) يؤكد المؤتمر أن التعاون الدولي في مكافحة المخدرات لا يتحقق بصورة فعالة إلا بتنظيم دقيق للاتصال السريع عند الحدود وتيسيرات(1/369)
لتبادل المعلومات عن طريق الشبكات اللاسلكية الإقليمية أو الشبكة اللاسلكية للشرطة الدولية الجنائية، ولا يجوز أن تقف أية حواجز دون تسهيل انتقال وحركة أجهزة المكافحة وتبادل المعلومات في إطار نظام معين يتفق عليه وفي ظل إرادة حقيقية للتضامن المشترك لصالح كل الأطراف المعنية.
ومن أجل ذلك يدعو المؤتمر الدول العربية غير المشتركة في شبكة الشرطة الدولية الجنائية أن تبادر إلى الاشتراك فيها. (4) نظرا لما اتضح من أن الهجرة الخارجية إلى بعض الدول العربية ولا سيما دول الخليج العربي تسهل تهريب المخدرات إليها. لذلك يهيب المؤتمر بهذه الدول أن تعمل على تنظيم الهجرة إليها أو فرض رقابة عليها تضمن منع هذا التهريب. (5) نظرا لما ثبت من قيام السلطات الإسرائيلية بتهريب وترويج المخدرات بين أوساط الفلسطينيين وغيرهم من العرب في المناطق التي يقيمون فيها وفي داخل السجون الإسرائيلية التي يودعون فيها بقصد تدمير العنصر العربي عامة والفلسطيني خاصة وشل حركته في المقاومة. فإن المؤتمر يستنكر هذه الأعمال الوحشية الهمجية ويندد بتصرفات القائمين بها.(1/370)
مكافحة الزراعة والإنتاج!
(1) يعلق المؤتمر أهمية كبرى على تنفيذ الاتفاق الذي تم بين الجمهورية اللبنانية من ناحية والصندوق الخاص لمكافحة سوء استعمال المخدرات ومنظمة الأغذية والزراعة من ناحية أخرى بشأن التنمية الشاملة في قضائي بعلبك والهرمل في لبنان ويناشد كلا من الجانبين في الاتفاق بالإسراع في تنفيذه والوفاء بالالتزامات الواردة فيه حتى يمكن أن يحقق في أقرب وقت أهدافه في القضاء على زراعة الحشيش في هذين القضاءين. ويرى المؤتمر تدعيما لمشروع التنمية الشاملة المشار إليها ضرورة إسهام الدول العربية في تكاليف المشروع حتى يمكن تنفيذه على أحسن وجه وفي أقرب وقت.
(2) يدعو المؤتمر - وقد اتضح له الأضرار الجسيمة التي تترتب على زراعة وإنتاج وتعاطي القات من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية - الدول العربية إلى تقديم المعونات المادية والفنية والعلمية إلى الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية حتى تتمكنا من مواجهة مشكلة القات والقضاء عليها من خلال برنامج شامل للتنمية.
ولتحقيق هذه الغاية يدعو المؤتمر المكتب الدولي العربي لشئون المخدرات إلى استمرار الاتصال بالصندوق الخاص لمكافحة سوء استعمال المخدرات والمنظمة الدولية للأغذية والزراعة والمنظمة العربية للتنمية الزراعية والمنظمات الدولية الأخرى المعنية بقصد دعوتها إلى إجراء الدراسات اللازمة لتحديد حجم مشكلة القات بالجمهوريتين المذكورتين وما تتطلبه مواجهة هذه المشكلة من إمكانات على المدى القصير والبعيد حتى تستطيع الدول العربية تقديم معوناتها على أساس مدروس.
ويهيب المؤتمر بهاتين الجمهوريتين أن تيسرا كل إجراءات البحث والدراسة وأن تعملا على تنفيذ البرامج والمشروعات التي تتقرر بناء على هذه الدراسة.
(3) إن المؤتمر يوصي بحزم بضرورة أن تقتصر زراعة النباتات المخدرة على الاحتياجات الطبية والعلمية وذلك وفقا لأحكام الاتفاقية الوحيدة الخاصة بالمخدرات لعام 1961 م ويطالب الدول العربية إلى تدعيم الجهود التي يبذلها المكتب الدولي العربي لشئون المخدرات والمنظمات(1/370)
الدولية المنبثقة من هيئة الأمم المتحدة على المستوى الإقليمي والعالمي في هذا السبيل. (4) يوصي المؤتمر الدول العربية بالإسهام في تمويل الصندوق الخاص لمكافحة سوء استعمال المخدرات وذلك حتى يتسنى لهذا الصندوق القيام بالتزاماته في مكافحة المخدرات في مناطق زراعتها وإنتاجها واستهلاكها في الوطن العربي(1/371)
رفع الكفاءة في مكافحة المخدرات:
(1) نظرا للجهود الكبيرة التي يبذلها المكتب الدولي العربي لشئون المخدرات في مكافحة المخدرات. لذلك يوصي المؤتمر جامعة الدول العربية بزيادة الاعتمادات المالية المقررة لهذا المكتب حتى يستطيع مضاعفة نشاطه. (2) يؤكد المؤتمر أن المكافحة المستمرة للمخدرات لا بد أن تعتمد على قاعدة عريضة من المعلومات والبيانات المتعلقة بمنتجيها ومروجيها والمتجرين فيها ووسائلهم في ذلك وتعاونهم في داخل الدولة وخارجها.
وأن تحفظ وتصنف المعلومات بطريقة فنية تضمن سرعة الاستفادة منها ولن تكتمل لهذه المعلومات عناصرها الضرورية إلا بتبادلها بين الدول المعنية وبين هذه الدول والمكتب الدولي لعربي لشئون المخدرات والمنظمات الدولية المختصة كالمنظمة الدولية للشرطة الجنائية على أن يتولى حفظها وتصنيفها مختصون على درجة عالية من الكفاءة وبأسلوب موحد بين الدول العربية. ويوصي المؤتمر في هذا الصدد بالعمل على تكملة البطاقات الفنية الخاصة بتجار المخدرات التي تضعها المنظمة الدولية للشرطة الجنائية حتى يمكن أن تستفيد منها عند استكمالها كل أجهزة مكافحة المخدرات. (3) يوصي المؤتمر تدعيما لرفع مستوى الأداء في المكافحة الاستفادة من نظام إعداد الخبراء في شئون المخدرات الذي يتولاه قسم المخدرات بهيئة الأمم المتحدة ومن المنح الدراسية التي يقدمها هذا القسم وأن يواصل المكتب الدولي العربي لشئون المخدرات اتصالاته المستمرة بهذا القسم للحصول على شروط وكيفية هذه الاستفادة وتبصير الدول العربية بها.
(4) يؤكد المؤتمر أن استخدام مهربي المخدرات والمتجرين فيها للوسائل المستحدثة في تحقيق أغراضهم يتطلب مواجهة أكثر فعالية من جانب أجهزة المكافحة. ولذلك يهيب المؤتمر بالدول العربية ألا تضن بالإمكانات المادية والفنية على أجهزة المكافحة وأن تهيئ لها القدرة المستمرة في الاستعانة بكل الوسائل منها، كالطائرات وشبكات الرادار والكلاب الشرطية وغيرها من أدوات كشف المخدرات والمتجرين فيها ومطاردتهم. (5) يوصي المؤتمر بضرورة تدعيم وسائل المكافحة بالإمكانات التي يقدمها قسم المخدرات بهيئة الأمم المتحدة كالمنشورات العلمية والمعدات الفنية وبالإرشادات التي تنشرها المنظمة الدولية للشرطة الجنائية والوسائل السمعية والبصرية التي تقدمها والرسوم البيانية التي تصدرها متضمنة بأسلوب فني تبصير رجال المكافحة بواجباتهم والكتالوجات التي تنشرها عن المعدات الضرورية لأجهزة المكافحة وكذلك الخبرة الفنية التي أظهرت المنظمة العربية للتنمية الزراعية استعدادها لتقديمها لكل الدول والهيئات التي تطلبها. (6) يقدر المؤتمر الجهود التي يبذلها رجال المكافحة وما يتعرضون له من أخطار جسيمة في أداء واجباتهم. ولذلك يوصي المؤتمر بتمكين هؤلاء من ممارسة عملهم عن طريق منحهم سلطات واختصاصات تتفق مع الحيل التي يلجأ إليها المتجرون في المخدرات والمخاطر التي يتعرضون لها عند مطاردتهم وعن طريق مميزات مادية وأدبية يتمتعون بها وتؤمنهم وتؤمن أسرهم ضد الأخطار التي تصيبهم. (7) يدعو المؤتمر المكتب الدولي العربي لشئون المخدرات لوضع خطة إعداد وتدريب مثلى شاملة لأجهزة مكافحة المخدرات تمكن العاملين في حقل المكافحة من اكتساب الكفاءات اللازمة علمية وعملية تسترشد به الدول العربية في تدريب الموظفين المختصين بالمكافحة. (8) يوصي المؤتمر بضرورة الاهتمام باختيار وإعداد أفراد الشرطة أو غيرهم من الموظفين الذين يخصصون لمكافحة المواد المخدرة وضرورة(1/371)
اجتيازهم دورات تدريبية متدرجة في التعمق أثناء الخدمة وأن تتاح لهم أطول مدة في ممارسة اختصاصهم حتى تنمو خبراتهم وتعلو كفاءاتهم في أداء واجبهم. ولا يجوز أن يحول التدريب التخصصي للعاملين في المكافحة دون إدخال برامج تدريبية هامة في برامج مدارس ومعاهد وكليات الشرطة إذ أن كل أجهزة الشرطة تتعاون في مكافحة المخدرات. كما يوصي المؤتمر الدول العربية التي لم تنشئ أجهزة متخصصة للمكافحة أن تبادر بإنشائها (9) يطالب المؤتمر الدول العربية والمنظمات الدولية المعنية بتخصيص منح دراسية للفلسطينيين الذين تعينهم منظمة التحرير الفلسطينية لتدريبهم على مكافحة المخدرات وتوقي الأضرار الناتجة عنها.(1/372)
مكافحة تعاطي المخدرات:
1 - يرى المؤتمر أن تعاطي المخدرات هو مشكلة متعددة الجوانب وأن القضاء عليها يستلزم العمل في ميادين شتى اجتماعية ونفسية وطبية بحيث يتوفر المناخ الصحي الكفيل بصرف الناس عن تعاطي المخدرات.
أ) نشر التعاليم الدينية ومبادئ الأخلاق الكريمة وتطوير برامج التعليم في كل مراحله إذا اقتضى الأمر حتى يتلاءم مع هذه الغاية.
ب) العمل على شغل أوقات الفراغ بين صفوف الشباب وخصوصا الطلبة والعمال ببرامج إنتاجية أو تثقيفية حتى لا تؤدي أوقات الفراغ الطويلة إلى الفساد.
جـ) تقديم توعية للجماهير على أساس علمي مدروس ضد أضرار المخدرات مع استخدام كل الوسائل السمعية والبصرية التي تقدمها المنظمات المتخصصة لتحقيق هذه التوعية.
د) تنظيم شامل لشئون وحياة الشباب في ظل إرشاد كامل تهيمن عليه الدولة أو أحد مجالسها المتخصصة والعمل على تهيئة ألوان النشاط الهادف المثمر لهم حتى يمكن استفادة أمتهم بالطاقات الخلاقة فيهم. هـ) علاج المدمنين علاجا طبيا ونفسيا واجتماعيا، إما عن طريق مصحات أو عيادات متخصصة أو في أقسام خاصة مستقلة داخل المصحات أو المستشفيات.
و) اعتبار متعاطي المخدرات مجرما يستحق العقاب وينبغي التشدد في ملاحقته مع جواز الاقتصار على تدابير إصلاحية أو علاجية في شأنه إذا ما استوجبت ظروفه والعوامل الدافعة إلى تعاطي ذلك.
2 - يعتبر المؤتمر التوصيات الصادرة عنه في دورته السادسة امتدادا للتوصيات السابق صدورها عن المؤتمرات والندوات العربية السابقة ولا سيما ما تعلق منها بدور المؤسسات الاجتماعية التعليمية والمهنية والإنتاجية والدينية والترويحية وأجهزة الإعلام والصحة النفسية في الوقاية من المخدرات ومكافحتها.
3 - يؤكد المؤتمر أن القضاء على تعاطي المخدرات لا يمكن أن يتحقق طالما كانت مصادر إنتاجه قائمة. ولذلك يرى المؤتمر أن العمل على مكافحة التعاطي ينبغي أن يسير جنبا إلى جنب مع العمل على القضاء على مصادر الإنتاج. ولهذا يوصي المؤتمر بالتركيز في المكافحة على الناحيتين معا ويرجو من منظمة اليونسكو والمنظمة الدولية للصحة العالمية أن تنظر في إقامة يوم كل عام على المستوى العالمي يطلق عليه (يوم مكافحة المخدرات) يخصص للتوعية ضد أضرار المخدرات وكيفية الواقية منها.(1/372)
4 - نظرا للتطور في أساليب إنتاج وتصنيع المواد المخدرة وتهريبها وتعاطيها والاتجار فيها ونظرا لما يكشف عنه العلم بصفة مستمرة من آثار ضارة للمخدرات - لم تكن معروفة من قبل - فإن المؤتمر يوصي بضرورة مواصلة البحوث العلمية ولا سيما البحوث الكيمائية البيولوجية والبحوث الاجتماعية والنفسية في مجال المخدرات وآثارها وأن تشترك في ذلك الجامعات العربية بجانب المراكز العلمية. ويمكن لتعميم الفائدة من نتائج هذه البحوث الاستعانة بما ينشره قسم المخدرات في هيئة الأمم المتحدة والمنظمة الدولية للشرطة الجنائية ومنظمة الصحة العالمية وغيرها من معلومات ودراسات في هذا الشأن.
5 - يوصي المؤتمر بعقد ندوة علمية تقوم بدراسات متعمقة على المواد المخدرة من حيث تركيبها وآثارها البيولوجية والاجتماعية والنفسية والعوامل المؤدية إلى تعاطيها بغية الوصول إلى الحقائق العلمية التي يمكن على أساسها وضع الحلول الكفيلة بالقضاء على ظاهرة تعاطي المخدرات والاعتماد عليها.
6 - نظرا لأهمية المعلومات والبيانات المتعلقة بالمخدرات يوصي المؤتمر بإنشاء مركز توثيق للمادة العلمية المتعلقة بالمخدرات من جميع نواحيها على أن يقوم هذا المركز بإعداد دليل يضم البيانات المنشورة باللغة العربية والمراجع الأجنبية وترجمتها إلى اللغة العربية لينتفع بها المختصون بمكافحة المخدرات والوقاية منها والباحثون في شتى مجالاتها.
7 - يوصي المؤتمر بإقامة ندوة علمية تختص لدراسة كيفية تعليم الشباب أضرار المواد المخدرة وتوعيته بالوقاية منها ويدعو المكتب الدولي العربي لشئون المخدرات ومنظمة اليونسكو إلى التعاون في إقامة هذه الندوة.
8 - يدعو المؤتمر الصندوق الخاص لمكافحة سوء استعمال المخدرات إلى تقديم المعونة المالية للدول والهيئات التي تعمل على علاج المعتمدين على المواد المخدرة لتمكينها من إنشاء أو تدعيم المصحات والعيادات والمؤسسات المخصصة لعلاج هؤلاء وإلى تقديم المعونة المالية للدول التي تحتاج إليها لتقوية قدرة الأجهزة التي تكافح المخدرات في أداء واجبها.(1/373)
موقف التشريع الوضعي:
1 - نظرا لما لاحظه المؤتمر من استغلال أوجه التفاوت والاختلاف بين أحكام التشريعات الوضعية في الدول العربية وتهريب المخدرات والاتجار فيها وتعاطيها. فإن المؤتمر يدعو الدول العربية إلى مراجعة تشريعاتها في شأن المخدرات بقصد توحيد التجريم والعقاب والتدابير تمشيا مع أحكام الاتفاقية الوحيدة للمخدرات لسنة 1961 للوصول إلى حد أدنى مشترك في هذا الشأن يمكن أن يكون أساسا للسياسة التشريعية الفعالة فيها جميعا.
ولتحقيق هذا الغرض يدعو المؤتمر المكتب الدولي العربي لشئون المخدرات إلى الاتصال بالدول العربية لتنظيم كيفية الوصول إلى هذه الغاية.
2 - نظرا لما يعوق إجراءات كشف المخدرات وملاحقة تجارها ومهربيها ومتعاطيها بين الدول العربية من صعوبات ترجع إلى التشريعات المكافحة في هذه الدول. لذلك يوصي المنظمة الدولية العربية للدفاع الاجتماعي بالدعوة إلى عقد مؤتمر دولي عربي لوضع اتفاقية ضمن مزيد عن التعاون القانوني والقضائي والإجرائي بين هذه الدول.(1/373)
موقف الشريعة الإسلامية:
1 - لما كانت الشريعة الإسلامية تحرم المخدرات فينبغي أن تتخذ تعاليم الدين الإسلامي أساسا لتوعية الجماهير ضد أضرار المخدرات وأن يتولى هذه التوعية قادرون عليها عالمون بأحكام الشريعة. لذلك يوصي المؤتمر باتخاذ الدين الإسلامي أساسا للتربية والتعليم والتوجيه والإرشاد.(1/373)
2 - نظرا لما اقتنع به المؤتمر من أن تعاطي المواد المخدرة يؤدي إلى الأضرار بالبدن والعقل ويؤثر عليها تأثيرا مشابها لتأثير المواد المسكرة بل يجاوزها خطرا. لذلك يرى المؤتمر التسوية بين المخدرات والمسكرات في الأضرار الناتجة عنها وبالتالي يوصي بتحريمهما معا وعدم الاقتصار على تحريم إحداها دون الأخرى. ويهيب المؤتمر بالدول العربية التي لا تحرم المسكرات أو بعض المخدرات أن تبادر إلى تحريمها.
(اعترض وفدا جمهورية مصر العربية والجمهورية اللبنانية على هذه التوصية وتحفظ وفد جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية على نص التوصية) .
* متابعة تنفيذ التوصيات:
يؤكد المؤتمران تنفيذ التوصيات الصادرة عنه وعن المؤتمرات السابقة تحتاج إلى متابعة من جانب المكتب الدولي العربي لشئون المخدرات حتى يمكن لهذه التوصيات تحقيق أغراضها. ولذلك يدعو المؤتمر مدير عام المكتب إلى وضع تنظيم يكفل تنفيذ هذه المتابعة بصورة فعالة وأن يعرض على كل مؤتمر مماثل النتائج التي تسفر عنها المتابعة.(1/374)
مجلة البحوث الإسلامية(1/375)
مؤتمر رسالة الجامعة
ليس: عصا سحرية. . . لن يكون إكسيرا للحياة. في النشرة التي أصدرها مؤتمر رسالة الجامعة (الرياض 2 \ 11 - 5 \ 11 \ 94 الموافق 16 \ 11 - 19 \ 11 \ 1974) كدليل له وفي معرض حديثها عن أهداف المؤتمر التي يرمي إلى تحقيقها قالت النشرة إن " مؤتمر رسالة الجامعة في المملكة العربية السعودية " شأنه شأن كل مؤتمر آخر - لن يكون " إكسيرا " للحياة يقضي على سائر العيوب. وليس عصا سحرية، تحل المشكلات، وتتغلب على الصعوبات وإنما المؤتمر محاولة جادة للتعرف على المشكلات، واقتراح حلول مناسبة لها ".
وهذا حق. . . ولكن الذي لا شك فيه أن التعرف على المشكلة هو أول الطريق الناجح لحلها. مثلما كان تشخيص المرض هو الخطوة الأولى للبرء والشفاء بالناجع من الدواء. ولا شك أن " الجامعة السعودية " - أي مؤسسات التعليم العالي - تخطو هذه الخطوة إيمانا منها بدورها في النهوض بالمجتمع في مرحلة نهضة شاملة تحمل فيها المملكة بقيادة عاهلها جلالة الملك فيصل -رحمه الله - لواء التضامن الإسلامي في العالم مما يتطلب من الجامعة أن تسهم بدورها بدعم هذه النهضة وعلى هذا الضوء في جنبات المملكة ومن ثم في أنحاء العالم الإسلامي.
وقد استهدف المؤتمر تحقيق الأهداف التالية:(1/376)
أهداف المؤتمر
التعريف برسالة الجامعة وبالدور الذي تؤديه في خدمة المجتمع السعودي وأبعاد هذا الدور. التعرف على أنسب الاتجاهات العلمية، والنظم التي ينبغي أن تأخذ بها الجامعة لتحقيق رسالتها على خير وجه تستطيعه.
دراسة المشكلات والصعوبات ذات التأثير السلبي في قيام الجامعة بخدمة، ومحاولة وضع حلول لها. التعرف على حاجات المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية، والصور التي يمكن أن تستجيب بها الجامعة لهذه الحاجات. التعرف على الدور الذي يمكن أن تقوم به:
المؤسسات الاجتماعية.
المؤسسات الاقتصادية.
المؤسسات الثقافية.
المؤسسات التعليمية.
ولا شك أن هذا المؤتمر هو نموذج من النماذج قد يدفع الجامعات العربية والإسلامية الأخرى إلى احتذائه. . . والأمل معقود في أن يعقد مؤتمر دولي للجامعات الإسلامية يبحث رسالتها مجتمعة.(1/377)
وهذا الجدول يمثل الجهات التي دعمتها الجامعة إلى المؤتمر (1)
الجهة ... الأعضاء ... الجهة ... الأعضاء
الأفراد وممثلو الصحافة ... 7 ... وزارة التجارة ... 1
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ... 2 ... وزارة الحج والأوقاف ... 1
جامعة الإمام محمد بن سعود ... 9 ... وزارة الداخلية ... 1
وفد جامعة الملك عبد العزيز ... 13 ... وزارة الدفاع والطيران ... 22
وفد كلية البترول والمعادن ... 6 ... وزارة الزراعة ... 5
وزارة المعارف ... 13 ... وزارة الصحة ... 3
الرئاسة العامة لتعليم البنات ... 7 ... وزارة العدل ... 2
مركز الأبحاث والتنمية الصناعية ... 4 ... وزارة العمل والشئون الاجتماعية ... 5
معهد الإدارة العامة ... 1 ... وزارة المالية ... 4
الحرس الوطني ... 11 ... وزارة المواصلات ... 3
ديوان الموظفين العام ... 4 ... كلية قوى الأمن الداخلي ... 6
رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ... 3 ... المجلس الأعلى للجامعات ... 2
الرئاسة العامة لرعاية الشباب ... 3 ... جامعة الرياض \ إدارة الجامعة ... 13
رابطة العالم الإسلامي ... 1 ... كلية التربية ... 23
الغرفة التجارية ... 3 ... كلية الطب ... 13
المؤسسات العامة للبترول والمعادن ... 1 ... كلية التجارة ... 13
الهيئة المركزية للتخطيط ... 3 ... كلية العلوم ... 11
وزارة الإعلام ... 3 ... كلية الهندسة ... 12
وزارة البترول والثروة المعدنية ... 1 ... كلية الآداب ... 17
__________
(1) انظر نشرة أعضاء المؤتمر الصادرة في مؤتمر رسالة الجامعة.(1/378)
وبذلك يكون عدد الذين اشتركوا في المؤتمر 239 عضوا. وقد انبثقت من الموضوع الرئيسي للمؤتمر وهو: " رسالة الجامعة في المملكة العربية السعودية " ستة موضوعات، اختص بكل حلقة من حلقات المؤتمر لها مدير ومقررون. وهي الموضوعات الآتية:
1 - التعليم الجامعي، خططه، ومناهجه والأسس التي يقوم عليها.
2 - التفاعل بين الجامعة وهيئات الدولة ودور كل منها في دعم الآخر.
3. دور الجامعة في حفظ التراث الإسلامي والحضارة العربية.
4 - دور الجامعة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
5 - دور الجامعة في التقدم العلمي والتقني في مختلف المجالات.
6 - دور الجامعة في تطوير الفكر التربوي.(1/379)
أولا: حلقة الخطط والمناهج الجامعية
مدير الحلقة
الأستاذ الدكتور كامل الباقر
المقرران
1) الأستاذ الدكتور أبو الفتوح رضوان 2) الأستاذ الدكتور أسعد عبده
ولقد كان الموضوع المطروح للبحث هو " أسس التعليم الجامعي وخططه ومناهجه في المملكة العربية السعودية وذلك على ضوء:
1 - سياسة التعليم في المملكة العربية السعودية. 2 - الإطار الحضاري الإسلامي والعربي. وعلى ضوء مقتضيات العصر وتطوراته وطبيعة المجتمع السعودي واحتياجاته. وقد احتوت الورقة المطروحة للنقاش الموضوعات الآتية: - ما هي الوظائف التي يجب أن تقوم بها الجامعة - بوجه عام - في مرحلة النهوض التي تعيشها المملكة؟ ! * نقل المعارف لذاتها * تطوير المعارف وجعلها في خدمة المجتمع تحويل المعارف إلى تقنيات * إعداد القوى البشرية في المستويات العليا * وظائف أخرى تنوع التعليم الجامعي في المملكة:
* الإشراف عليه * نواحي القوة والضعف فيه * وسائل التقلب على نواحي الضعف. هيئات التدريس:
* كيفية استقطاب العناصر الصالحة * كيفية الاحتفاظ بها وبولائها للجامعة. السعوديون! المسلمون! العرب! الأجانب. القبول في الجامعة:
* فتح الأبواب للجميع * نسب معينة في درجات النجاح * وفقا لاختيارات نوعية في الكليات * وفقا لطاقة الكليات وإمكاناتها * قبول دارسين للتثقيف والتجديد والتدريب دون التقيد بمؤهلات! .(1/379)
مستويات الدراسة الجامعية:
* دراسة جامعية! دراسات عليا! في كل كلية! في كل كلية مستقلة خاصة! . * كليات متوسطة! * مدى مسئولية الجامعة عنها! * مراكز البحوث! التوسع في التعليم الجامعي:
مدى الحاجة إليه. * مدى ارتباطه بخطط التنمية. * مدى الحاجة إلى كليات متعددة ذات طبيعة واحدة. مدى الحاجة إلى كليات جديدة في تخصصات غير قائمة. مدى الحاجة إلى تحديد وظيفة كل كلية. * ما الوظائف التي يقترح أن تقوم بها كل كلية! * مدى عمل خريجي الجامعات في نطاق تخصصاتهم. * مدى ملائمة الإعداد الجامعي لحاجات الوظائف العامة. الهيكل الجامعي:
كليات تضم أقساما مختلفة! * أقسام متخصصة تخدم كليات مختلفة! . التنظيم الإداري القائم: مدى فعاليته في سرعة إصدار القرارات. سرعة الإجراءات. المرونة والدقة في التصرف. ما درجة المرونة التي يجب أن تمنح الجامعات من حيث:
الاستقلال المالي * الاستقلال الإداري. المناهج:
مدى الحاجة إلى التطوير المستمر للخطط والمناهج الجامعية! . مدى مسايرتها لمثيلاتها في البلاد المتقدمة. التركيز على التخصص المبكر! * العناية بالثقافة العامة إلى جانب التخصص! مناهج محددة للجميع! * إباحة الاختبار في بعض المقررات! مداه! * النشاط اللاصفي! أهميته! . الطرق:
محاضرات فقط! مدى فعاليتها! * هل تؤدي إلى إكساب الطلبة مهارات التفكير! * هل تساعدهم على الابتكار والإبداع! * هل تساعد على التحليل والنقد! . بحوث فردية! جماعية! . تعيينات! مقررات مبرمجة! حلقات مناقشة. التقويم:
تدريس فريق " يغطي فريق من الأساتذة موضوعا معينا، ثم يوزع الطلاب أقساما صغيرة للمناقشة ". التقويم:
امتحان تحريري * اختبارات موضوعية! * امتحانات شفوية! * اختبارات عملية! * امتحانات الكتاب المفتوح * البحوث والمشروعات الفردية * البحوث والمشروعات الفردية. رعاية الطلاب:
مساكن خاصة * خدمات صحية! * خدمات ترفيهية! خدمات اجتماعية! * إرشاد نفسي! * إرشاد علمي! موضوعات ترى الحلقة إضافتها للمناقشة.(1/380)
وقد قدمت الحلقة تسعة أبحاث وهي:
مقتبسات من سياسة التعليم في المملكة
الدكتور محمد عبده يماني
الدكتور عبد العزيز جلال
الدكتور كامل الباقر
الأستاذ حسن الدجيلي
ترجمة الدكتور أحمد مهدي عبد الحليم
إعداد: د. صلاح حوطر
إعداد: فهد عبد الرحمن الحسيني
د. إبراهيم الصويغ
سياسة التعليم العالي في المملكة العربية السعودية رسالة الجامعة في الدول النامية تطور الجامعة في منظور تاريخي مقارن الجامعة الإسلامية ودورها في مواكبة تطورات العصر نظرة جديدة لقبول الطلاب في مؤسسات التعليم العالي رسالة الجامعة في بريطانيا أضواء على المؤتمر الثاني لوزارة التربية بالدول الأوروبية لتبادل الآراء والخبرات في مجال التعليم العالي التنسيق بين الجامعات السعودية في مجال البحث العلمي والتعليم أضواء على جوانب من رسالة الجامعة وضوء على كلية الصيدلة(1/381)
ثانيا: حلقة الدعم المتبادل
رئيس الحلقة:
الأستاذ منصور الدخيل
المقرران:
الأستاذ الدكتور صلاح حوطر الأستاذ: عثمان الأحمد
وكان الموضوع الذي طرح أمامها للمناقشة " التفاعل بين الجامعات والهيئات الأخرى ودور كل منها في دعم الآخر " على أن تكون ثمرة النقاش الخروج بتوصيات لجميع الأطراف تكشف الواجبات والمسئوليات التي ينبغي أن يلزم بآرائها كل طرف. وقد احتوى الموضوع على العناصر الآتية: -
ما طبيعة العلاقات القائمة بين الجامعة وأفراد المجتمع وهيئاته! هل الدعم متكامل ومتبادل! ما هي صور هذا الدعم! هل هو ضروري! .
ما طبيعة العلاقات التي يجب أن تأخذ مكانها بين هذه الأطراف!
الدعم المعنوي! ما وسائله! الدعم المادي! ما صوره! ما وسائله! . تقديم الاستشارات: ما أنواعها! كيف تتم! تقديم الخبرات: ما ميادينها! . تنفيذ المشروعات: ما صورها! الإعداد والتدريب: قبل الخدمة! أثناء الخدمة! . هيئات التخطيط في المجتمع، وفي الجامعة!
ما دورها! * ما علاقة كل منها بالآخر! كيف ينبغي أن تكون العلاقات في مجال التخطيط! على أي صورة يكون الدعم المتبادل! * استشارات! * دراسات! * مشروعات! وسائل أخرى! على من تقع مسئولية المبادرة بإيجاد هذا الدعم! ما هي المجالات التي تدخل في هذا النطاق! الاقتصاد! * الزراعة! * التجارة! * الصناعة! * الاجتماع! * الثقافة! * العلوم! * الآداب! * التربية! * مجالات أخرى! .
ما الصعوبات التي تعوق الدعم المتبادل! - مالية! - إدارية! - روتينية! . إلى أي مدى يمكن الاستفادة من الخبرات الجامعية! ومتى يمكن استقدام خبراء أجانب! إيجاد أفكار جديدة للبحوث والعمل! . كيف تدعم الثقة بين الجامعات وهيئات المجتمع! موضوعات أو نقاط أخرى ترى الحلقة إضافتها.(1/381)
وقد قدمت الحلقة ثمانية أبحاث:
دكتور أسامة عبد الرحمن
دكتور محمد تركي التركي
دكتور عبد الله حسين باسلام
العقيد طيار صادق إسماعيل جوهرجي
إدارة التعليم والتدريب الصحي بوزارة الصحة
دكتور عبد الرحمن الشبيلي
دكتور أبو الفتوح علي فضالة
دكتور حسين محمد العروسي
1 - المقومات الأساسية لكي تؤدي الجامعة دورها في التقدم والإصلاح الإداري.
2- أسس التعاون بين كلية الطب والمؤسسات الصحية الخاصة في المملكة لخدمة المجتمع.
3- أسس التعاون بين كلية الطب والمؤسسات الصحية الحكومية بالمملكة.
4- لمحات عن التحديث مدى مساهمة الجامعة في التدريب الفني بالقوات الجوية.
5- دور الجامعة في إعداد وتدريب القوى البشرية اللازمة لتقديم الخدمات الصحية.
6- الجامعة ووسائل الإعلام.
7- دور الجامعة في تنمية الوعي المحاسبي بالمجتمع.
8- أهمية الزراعة ودور الجامعة في البحث عن مصادر جديدة للغذاء
* * *(1/382)
ثالثا: حلقات التراث والحضارة
مدير الحلقة
فضيلة الأستاذ مناع القطان
المقرران
دكتور أحمد العسال الأستاذ أحمد يوسف الشيخ
وقد ناقشت الحلقة " دور الجامعة فيما يتعلق بالتراث الإسلامي والحضارة العربية، وتحديد الإمكانات المادية والبشرية التي تمكن الجامعة من أداء هذا الدور على أفضل وجه ممكن ". وقد احتوت المناقشات على الموضوعات الآتية: -
ما المراد بكل من: " التراث الإسلامي والحضارة العربية والإسلامية! رأي الإسلام في كل من: الانتماء العرقي * الانتماء القومي * التعقل * العلمية.
دور الجامعة فيما يتعلق بالتراث الإسلامي والحضارة العربية * حفظ ونقل! * فحص وتنقية! - تطوير وتنمية (فيما عدا أمور العقيدة) صياغة عصرية! .
دور الجامعة في وضع التراث الإسلامي، والحضارة العربية، في مواجهة أيديولوجيات العصر؟
كيف يتأتى للجامعة أن تدعم القيم والمبادئ والمثل العليا في الإسلام! . المؤتمرات الإسلامية المقررات الدراسية التالية: أ - التاريخ الإسلامي ب - الثقافة الإسلامية * لمن يجب أن ندرس هذه المقررات! ما مكانة كل منها وحجمه في المناهج الجامعية! ما مقررات الثقافة الإسلامية! * هل توحد! * وتنوع! * وكيف يتم هذا! * وما أفضل الطرق في تدريس مقرر الثقافة الإسلامية! . كيف تدبر الإمكانات المادية والبشرية اللازمة لتحقيق ذلك! .
ما دور الجامعة في كشف التراث الثقافي ونشره؟
* التنقيب عن الآثار وصيانتها وعرضها. * التعرف على أماكنها وجمعها وإعادة نشرها وفقا لمعايير محددة. *(1/382)
المنح الدراسية للمسلمين في بلاد العالم المختلفة. * تبادل الأساتذة بين الجامعات الإسلامية والجامعات في العالم. * العلاقات التي ينبغي أن تقوم بين الجامعة والمجامع والروابط الإسلامية. * الترجمة إلى اللغات الأجنبية * كيف تدبر الإمكانات المادية والبشرية اللازمة لتحقيق ذلك؟
ما دور الجامعة في إعداد الدعاة للإسلام؟ * لماذا يعدون؟ * ما هي مقومات البرنامج الناجح لإعداد الدعاة؟ * ما الخصائص التي يجب أن تتوافر في الداعية بعد تخرجه؟ هل يوكل إعداد الدعاة لجامعة معينة؟ أو يكون إعدادهم جهدا مشتركا؟ وكيف ينظم؟
ما العلاقات التي يجب أن تقوم بين الجامعة وهيئات الدعوة الإسلامية *؟
* كيف تدبر الإمكانات المادية والبشرية اللازمة لتحقيق ذلك؟
ما دور الجامعة في حفظ اللغة العربية وتنميتها؟
* وضع المقررات والدراسات اللغوية والأدبية في الكليات المعنية باللغة والأدب (حجمها - مستواها) . * مدى الحاجة لتدريس مقررات اللغة العربية في سائر الكليات الجامعية. * دور الجامعة في تعريب المصطلحات العلمية المختلفة. * دور الجامعة في تطوير مناهج اللغة العربية في مدارس التعليم العام. * ما العلاقات التي يجب أن تقوم بين الجامعة والمجامع والهيئات اللغوية في العالم العربي وفي الخارج؟ كيف تدبر الإمكانات المادية والبشرية اللازمة؟ موضوعات أو نقاط أخرى ترى الحلقة إضافتها.
* * *
وقد قدمت الحلقة الأبحاث التالية:
1 - طبيعة العلاقات التي يجب أن تقوم بين الجامعة ورابطة العالم الإسلامي ... رابطة العالم الإسلامي
2 - تراثنا الإسلامي ودور الجامعة في حفظه ... . د حسن محمد باجودة
3 - مسئولية جامعاتنا تجاه تراثنا المخطوط ... . د عبد الستار الحلوجي
4 - دور الجامعة في الحفاظ على الحضارة الإسلامية ... . د محمد عبد الله البيانوني
5 - رسالة الجامعة السعودية نحو لغة القرآن الكريم ... الشيخ محمد المجذوب
6 - دور الجامعات في مواجهة تحدي اللغات الأجنبية للغة العربية
7 - دور الجامعة في حفظ التراث الإسلامي ... . د عبد الرحمن عبد العزيز القاسم
8 - دور الجامعة في توجيه الشباب الجامعي نحو القيم الدينية
9 - دور الجامعات السعودية في توجيه الدعوة الإسلامية ... أحمد بخيت.
* * *(1/383)
رابعا: حلقة التنمية والتطوير
مدير الحلقة:
الأستاذ تركي السديري
المقرران:
د. عبد الله البنيان د. صالح المالك
وكان محور الحلقة الأساسي هو: " دور الجامعة وهيئات المجتمع في تحقيق أهداف التنمية، واقتراح الإجراءات العملية التي تيسر أداء هذا الدور ".(1/383)
وقد احتوت ورقة العمل في هذه الحلقة على هذه النقاط: ما هي المتطلبات البشرية والمادية التي تلزم الجامعة لآداء دورها في كشف مصادر الثروة بالمملكة وتنميتها؟
* * *
الثروة الزراعية والحيوانية. * الثروة المائية. * ثروة الطاقة (النفطية والشمسية) . * الثروة المعدنية.
* كيف تسهم الجامعة في التغلب على الصعوبات التي تواجهها التنمية الاقتصادية في المملكة؟
ما هي معوقات التنمية الاقتصادية في المملكة؟ وكيف تسهم الجامعة في التغلب عليها؟
ما طبيعة العلاقات التي ينبغي أن تقوم بين الجامعة، والوزارات، والغرف التجارية، ومراكز البحوث المعنية بالتنمية الاقتصادية؟
* ما وسائل القيام بهذه العلاقات؟ * استشارات فنية: كيف تتم؟ * مراكز بحوث: مستقلة أو مشتركة؟ * كيف تمول؟ * كيف تنظم؟ مشروعات مشتركة للتنمية في القطاعات المختلفة: كيف تمول؟ وكيف تنظم؟ * دورات تدريبية: أنواعها؟ * أهدافها؟ * تمويلها *؟
تلبية حاجات المجتمع: * مدى كفاية من تعدهم الجامعة للوفاء بهذه الحاجات في قطاعات: * الزراعة والثروة الحيوانية. (المهندسون الزراعيون - الأطباء - البيطريون - علماء الزراعة في جوانبها المختلفة) .
* الصناعة: (* الصناعات الاستخراجية * صناعة المعادن * الصناعة التحويلية * الصناعات الاستهلاكية) .
* الخدمات الطبية: * الروائية، * التعليمية، * الاجتماعية، * خدمات التعليم: * النقل، * المواصلات، * المرافق العامة،.
القطاع الإداري في مستوياته العليا.
* القوات المسلحة، * قوى الأمن الداخلي، * رعاية الشباب.
علاقة التنمية البشرية بالتنمية الاقتصادية.
التنمية الاقتصادية عن طريق التنمية البشرية: * التعليم المستمر دون التقيد بمنح شهادات، * برامج الخدمات العامة، * برامج الدراسات الحرة، * برامج التثقيف الشعبي، * التعليم بالمراسلة، * برامج خدمة البيئة، * المحاضرات العامة: * كيف تدبر احتياجاتهم البشرية والمادية؟
مكافحة الأمية بالمملكة. * المشاركة في وضع الخطط، * إجراء البحوث، * إعداد أنماط جديدة من البرامج والمواد التعليمية، * تدريب القيادات العليا في مجال محو الأمية.
ما العلاقات القائمة بين الجامعة ووسائل الاتصال؟
ما الصلات التي يجب أن تقوم بينها؟ * الإذاعة * التلفاز - الصحافة * وسائل أخرى.
* تدريب العاملين قبل الخدمة وأثناءها! * تقديم برامج أنواعها وأهدافها! * استخدام هذه الوسائل في أغراض محددة للتعليم والتدريب.
إجراء البحوث الاجتماعية والنفسية لتدعيم مشروعات التنمية. * بحوث، * مشروعات مشتركة، تجارب في مجالات تنمية المجتمع.
تطوير أسلوب الحياة في المجتمعات البدوية والريفية. موضوعات أخرى أو نقاط ترى الحلقة إضافتها.(1/384)
وقد قدمت إلى الحلقة الموضوعات الآتية:
(دور الجامعة في مساندة عمليات التنمية الصناعية ... مركز الأبحاث والتنمية
2) دور الجامعة في التنمية الإدارية ونشر الوعي الإداري ... د. حسين محمد علي علوي
3) دور التعليم العالي في التنمية الاجتماعية ... د. صالح المالك
4) دور كلية الطب في تحقيق أهداف خطة التنمية في الحقل الطبي ... د. زهير السباعي
5) رسالة الجامعة في الطب الوقائي والعلاجي ... د. حسن محمد عياف
6) رسالة الجامعة في مجال التثقيف الشعبي ... محمد عبد العزيز قاسم
7) أ - التنمية الاجتماعية. ب - التثقيف الشعبي ودور وسائل الإعلام ... . فاطمة المصري
8) دور الجامعة في تثقيف البادية ... جميل أحمد أبو سليمان
9) رسالة الجامعة في المجتمع ... وطه الفرا.
* * *(1/385)
خامسا:
حلقة العلوم والتكنولوجيا.
مدير الحلقة: الأستاذ الدكتور جعفر الصباغ.
المقرران: د. عبد العزيز أبو زنادة.
الأستاذ مصطفى نوري عثمان.
وقد قامت الحلقة بمناقشة " دور الجامعة وهيئات المجتمع في مواكبة التقدم العلمي والتقني في جميع المجالات وبخاصة مجالات الطب والعلوم والصناعة والهندسة والزراعة والمحاسبة. . . إلخ ".
الخروج من الحلقة بالتوصيات التي تحدد الواجبات والمسئوليات بعد التعرض للعناصر الآتية.
هل تبدو سمة التكنولوجيا والتقدم العلمي التي تميز المجتمعات الحديثة: في مجالات: * الطب، * العلوم، * الصناعة، * الهندسة، * الزراعة، * المحاسبة، * في الجامعات، * في هيئات المجتمع الأخرى.
هل تتوافر إمكانات الاستفادة من التقدم العلمي والتكنولوجي في كل الكليات؟
وسائل * أدوات * مختبرات. . . إلخ.
ما الصعوبات التي تعترض إسهام الكليات الجامعية في التقدم العلمي؟
ما كيفية التغلب على هذه الصعوبات؟ إلى أي مدى تستطيع الجامعات والهيئات إدراك التقدم في هذه المجالات؟ ما واجب كل جامعة أو هيئة؟ ما الإمكانات المتاحة لها؟ كيف يمكن توفير الأسباب للإسهام في التقدم العلمي والتقني؟
الأبحاث العلمية: ما مستوى أداء الأبحاث العلمية في الكليات الجامعية؟ * من يقوم بها؟ * ما مجالاتها؟ * ما وسائلها؟ * ما طريقة تنظيمها؟ * كيف تمول؟
ما أنواع البحوث التي يجب التركيز عليها في الكليات الجامعية؟
ما أفضل الوسائل لتنظيم البحث في مجالات العلوم والتكنولوجيا؟ مركز لكل كلية، * مركز للكليات المتشابهة، * أكاديمية للبحث العلمي والتكنولوجي، * وسائل أخرى.
خدمة البيئة:(1/385)
اجتماعيا، * اقتصاديا، * صحيا، * صناعيا، * زراعيا، * تجاريا.
كيف توثق الجامعة علاقاتها بمراكز البحث العلمي والتقني في العالم؟
ما وسائل استفادة الجامعة من المنظمات الدولية في مجالات البحث العلمي والتقدم التكنولوجي؟
ما وسائل تنمية العاملين في الجامعة في مجالات البحث العلمي؟
الطب الوقائي، * العلاجي، * نواح أخرى.
إلى أي مدى يمكن ربط الجهود التي تبذل في مجالات العلوم والتكنولوجيا، بالعقيدة الإسلامية؟
* موضوعات أو نقاط أخرى ترى الحلقة إضافتها.
* * *
وقد قدمت للحلقة الأبحاث التالية:
1 - رسالة الجامعة، أهدافها ودورها ... د. محمود فوزي محمد
2 - دور الجامعة إزاء النهضة الصناعية في البلاد ... د. محمود محمد خليفة
3 - التعليم التقني المتكامل في الجامعة ... د. محمد عبد المغيث القديم
4 - دور الجامعة في تطوير استخدام الطاقة الشمسية في المملكة العربية السعودية ... د. عبد العلي الصائغ
5 - دور الجامعة في تنمية البحث العلمي ودور كلية التجارة في هذا المجال ... د. أحمد سرور محمد(1/386)
سادسا: حلقة التربية والتعليم
مدير الحلقة:
د. إبراهيم عباس نتو
المقرران:
دكتور حامد شاكر الأستاذ عبد الرحمن العبدان
وقد قامت هذه الحلقة بدراسة " دور الجامعة وهيئات المجتمع في تطوير الفكر التربوي وإعداد رجال التربية لتنشئة أبناء هذه الأمة ".
فناقشت الموضوعات الآتية: مدى وفاء نظم التعليم الحالية، بتحقيق سياسة التعليم في المملكة.
المناهج: هل في المناهج الحالية عيوب؟ ما هي؟
* مدى ملاءمتها لمقتضيات العصر! * هل يتعارض الأخذ بروح العصر، مع الاحتفاظ بالأصالة الإسلامية والعربية؟ * هل تحقق المناهج الحالية سياسة التعليم وأهدافه؟ * ما مدى مسايرة مناهج العلوم والرياضيات لمثيلاتها في البلاد المتقدمة؟ * هل تحتاج المناهج إلى تغيير أو تعديل؟ * إلى أي مدى؟ * وعلى من تقع مسئوليته؟ * ما دور الجامعة في تطوير مناهج الدراسة بالمدارس؟ * دور كليات التربية * دور الكليات الأخرى! .
نظم التعليم: * تنوع أجهزة الإشراف على التعليم. * هل نظم التعليم متمشية مع سياسة التعليم؟ * هل هي مناسبة للجميع؟ * هل تحتاج نظم التعليم *(1/386)
* إلى تعديل أو تغيير؟ * في أي النواحي؟ * ما دور الجامعة ودور الهيئات الأخرى في هذا المجال؟
الطرق والأساليب: ما مدى التنويع والتطوير في طرق التعليم وأساليبه؟ * هل تحقق الطرق الحالية أهداف التعليم؟ * كيف يمكن الاستفادة من الابتكارات والمخترعات والتكنولوجيا الحديثة في طرق التدريس وأساليبه؟ * على من تقع مسئولية إحداث طرق وأساليب جديدة؟ * ما دور الجامعة في هذا المجال؟ * ما دور هيئات المجتمع الأخرى؟
وسائل التقويم: * هل تحقق الامتحانات بوضعها الحالي - دقة الحكم على قدرات الطلاب، وصلاحيتهم للدراسات التي يوجهون إليها؟ * هل تحتاج لتعديل أو تغيير؟ * على من تقع مسئولية التعديل أو التغيير؟ * ما هي البدائل التي يمكن اقتراحها في مجال التقويم؟ * ما دور الجامعة في التعرف على قدرات الطلاب في المدارس؟ * وفي ابتكار وسائل جديدة للحكم على صلاحيتهم! ولتوجيههم في مساري الحياة! ما دور الهيئات الأخرى؟
المعلمون: هل يعتبر المدرس - في الوقت الحاضر - في المستوى الذي يحقق آمال الشعب في تربية أبنائه وإعدادهم للحياة؟ * هل الأخذ بأسباب التقدم العلمي والتقني في جميع مجالات الحياة يستلزم إعداد " درس من نوع خاص؟ * ما هي المميزات التي يلزم توافرها في هذا المدرس؟ هل الحاجة إلى أعداد كبيرة من المدرسين تبرر سرعة تخرجهم؟ ما هو المستوى الذي ينبغي ألا ينزل عنه المدرس في كل مرحلة من مراحل التعليم؟ * ما العمل في مجالات التخصص التي لا يتوافر لها مدرسون؟ * ما دور الجامعة في إعداد المدرسين؟ * ما دور الجامعة في تدريب المدرسين الحاليين، وتحسين أوضاعهم العلمية؟ * ما دور الهيئات الأخرى في كل هذه المجالات؟
البحوث التربوية: هل تجري أبحاث ودراسات تربوية في الوقت الحاضر؟ ما نوع هذه الدراسات والأبحاث؟ * من الذي يقوم بها؟ الجوانب التي تتناولها: * هل تتناول جوانب الحياة التعليمية، وتدرس ظروف الطالب السعودي وواقعه، وتوائم بينها وبين مقتضيات الحياة الحاضرة *؟ كيف ينبغي أن تكون الأبحاث والدراسات؟ * لجان في الكليات * مركز بحث في الجامعة * مركز قومي للبحوث! * نظم أخرى. مسئولية من؟ على من تقع نفقاتها؟
* ما دور الجامعة في إجراء البحوث التربوية؟ * ما دور الهيئات الأخرى في هذه المجالات؟ * موضوعات أخرى ترى الحلقة إضافتها.
* * *
وقد قدمت للحلقة الأبحاث التالية:
1 - الجامعات وأهداف التعليم في المملكة العربية السعودية ... : د. إبراهيم عباس نتو
2 - تطوير التربية ودور الجامعة فيه ... : د. أحمد المهدي
3 - رسالة الجامعة حيال إعداد المعلمين وتدريبهم ... : د. علي بن محمد التويجري
4 - الجامعة وإعداد مدرسي اللغات الأجنبية ... : د. علي القاسمي
5 - دور الجامعة في ميدان تربية وتعليم المعوقين ... : المديرية العامة لبرامج التعليم الخاص بوزارة المعارف
6 - التربية الإسلامية عن طريق مناهج اللغة الإنجليزية
7 - البحث العلمي ورسالة الجامعة ... : د. سيد خيري
8 - اتجاهات طلبة كلية التربية نحو مهنة التدريس ... : د. عبد الحميد عمران.(1/387)
التوصيات
وبعد أن انتهى المؤتمر من مناقشة مختلف الموضوعات في الحلقات التي عرضناها أصدر التوصيات الآتية: وظائف الجامعة:
1 - أن تنبثق رسالة الجامعة في المملكة أساسا، من العقيدة الإسلامية، وتعاليم الإسلام، وذلك انطلاقا من الطبيعة الإسلامية للمجتمع السعودي، ومن سياسة التعليم التي تقرر التزام الجامعة بالإسلام، عقيدة وفكرا، وإطارا للتربية والتعليم.
2 - أن تعنى الجامعة بتنمية شخصية الطالب، وغرس القيم والمبادئ الإسلامية فيه بما يحقق تكاملها جسميا، وروحيا، وفكريا، واجتماعيا، وأن توفر له وسائل هذا النمو، بحيث يكون قادرا على ممارسة مسئولياته الفردية والاجتماعية باعتباره مواطنا مسلما.
3 - أن تعنى الجامعة بتكوين الشخصية الإسلامية، القيادية، المزودة بوضوح الرؤية والعقيدة السليمة وبالعلوم والمعارف العصرية، بما يجعل الشباب الجامعي السعودي قادرا على التفاعل الإيجابي مع مجتمعه وعلى النهوض بأساليب العمل، والإنتاج والحياة في هذا المجتمع، إعلاء لكلمة الله وعزة الأمة ورفاهيتها.
4 - أن تعني الجامعة بالبحث العلمي، وتطوير المعرفة الإنسانية، وتطويعها لخدمة المجتمع، كما تعنى بالجوانب التطبيقية للعلم، بما يخدم حاجات الأمة والإنسانية.
5 - أن تعنى الجماعة بإعداد القوى البشرية اللازمة لخدمة المجتمع، وتطوير إمكاناته، وتحقيق أهدافه، من التنمية في مجالي الإنتاج، والخدمات، حسب الاحتياجات المتطورة للبلاد.
6 - أن تعنى الجامعة بنشر المعرفة، والثقافة، بين أفراد المجتمع، وتوفير كافة السبل المحققة لذلك، من نشر، ومحاضرات، وندوات، ومؤتمرات، وغير ذلك، من وسائل نشر المعرفة والتنور.
7 - أن تعنى الجامعة بخدمة التراث الإسلامي: ودراسته، وتجليته، وعرضه بأساليب العصر، ووسائله، ونشره، بحيث يظهر أثره في مجرى الحضارة الإنسانية العاملة، في الماضي، والحاضر، ويتضح سبقه مضمار التقدم العلمي.
8 - أن يبذل مزيد من الجهود، في تهيئة، وتوسيع فرص التعليم الجامعي، للفتاة السعودية، بما يتلاءم(1/387)
مع فطرتها، ودينها، وبما يمكنها من أن تؤدي دورها الكامل في المجتمع في إطار السياسية التعليمية في المملكة.
المناهج وطرق التعليم:
9 - أن تنطلق المناهج الجامعة، من إطار العقيدة والفكر الإسلامي ومناهجه المتميزة بالمعرفة والبحث العلمي. وأن تعيد الجامعات النظر في مناهجها، ومقرراتها، كلما دعت الحاجة منعا للتناقض الذي يسببه الفكر المادي، وحتى تظل متمشية مع هذا الإطار الثقافي الإسلامي.
10 - أن تزود الجامعة طلابها، بأساس مناسب، من الثقافة العامة، يوثق صلتهم بدينهم وبثقافة مجتمعهم، وبأساسيات المعرفة الإنسانية في عصرهم، بما يمكنهم من سلامة التفاعل مع المجتمع.
11 - أن تهتم الجامعة، في مناهجها، وعلى الأخص مقررات الدراسات الإسلامية، والتاريخ، بتجلية الفكر الحربي الإسلامي، وإبراز البطولات الحربية الإسلامية، إذكاء روح الجهاد، والعزة، والفداء في نفوس الشباب السعودي، في سبيل الله ثم الملك والوطن. وأن تتعاون الجامعات مع الجهات المعنية في تنمية المهارات الحربية التقنية.
12 - أن تراعى المرونة في المناهج الجامعية، وقابليتها للتطوير، كلما دعت الحاجة إلى ذلك، في ضوء التقدم العلمي، والتربوي المعاصر، والتطور الاجتماعي للمجتمع السعودي.
13 - أن يبذل مزيد من الجهد، لتأكيد التعاون بين الجامعة وبين جهات التعليم الأخرى بالبلاد، في مجال تطوير المناهج، والتنسيق بين مناهج التعليم العام، ومناهج الجامعة.
14 - أن تولي الجامعات مزيدا من الاهتمام، بمناهج النشاط غير الصفي، نظرا لضرورته في تحقيق النمو المتكامل، لشخصية الطالب، من النواحي الروحية، والجسمية والاجتماعية، والعقلية.
15 - أن تزيد عناية التعليم الجامعي بالوسائل التي تؤدي إلى تنمية قدرة الطالب على التفكير والاستقلال والاعتماد على النفس والابتكار. وذلك مثل: طرق التدريس القائمة على المناقشة والحوار، وتكليف الطلاب بإجراء البحوث الجمعية والفردية، مع توفير وسائل البحث في المختبرات الجامعية والمكتبات. . . إلى غير ذلك من الوسائل التي تتفق مع تكنولوجيا التعليم.
16 - أن تعمل الجامعات على إتمام تعريب المصطلحات، والكتب الجامعية، وبخاصة في مجال العلوم، وتطبيقاتها، بحيث تصبح العربية لغة التعليم، في كافة كليات الجامعة، وفي جميع المواد.
التقويم:
17 - أن يكون الهدف الأساسي لتقويم الطلاب هو معرفة قدرة الطالب على التحصيل، ومدى نمو قدراته العقلية والتحليلية، وأن يعتمد التقويم على الثقة المتبادلة بين الطالب والأستاذ. وأن يتم التقويم بوسائل متعددة خلال العام الدراسي.
18 - أن تتعاون الجامعة مع الجهات التي يعمل فيها الخريجون على متابعة الخريجين لتشخيص نواحي القدرة والضعف في المناهج والطرق الجامعية.(1/389)
تنويع التعليم الجامعي
19 - أن تتعدد الجامعات والكليات المتخصصة وتتنوع لما في ذلك من إثراء لبنية التعليم الجامعي، وتنافس هادف، نحو الأصلح، مما يدعم التعليم الجامعي، ويرفع مستواه.
20 - أن تولي كل جامعة وكل كلية اهتماما بحاجات المجتمع في المملكة بوجه عام، وأن تراعي احتياجات المنطقة والبيئة التي تقوم فيها الجامعة أو الكلية بوجه خاص.
هيئات التدريس
21 - أن تبذل الجامعة مزيدا من العناية في اختيار أعضاء هيئة التدريس الجامعية وذلك بأن تقوم الأقسام المختصة بوضع صفات دقيقة لما يجب أن يتوافر في عضو هيئة التدريس.
22 - أن يؤخذ في الاعتبار عند تعيين عضو هيئة التدريس أو التعاقد معه الصفات الدينية والسلوكية اللازم توافرها فيمن يعمل بجامعات المملكة بحيث لا يكون المؤهل العلمي هو المقياس الوحيد.
23 - أن تهتم الجامعة بتوفير الحوافز المناسبة التي تساعد على استقطاب العناصر الصالحة من أعضاء هيئة التدريس وبخاصة العناصر الإسلامية.
24 - أن يعاد النظر في (كادر) أعضاء هيئة التدريس السعوديين بحيث يتساوون مع مماثليهم في الألقاب الأكاديمية.
25 - أن تتوسع الجامعة في تعيين المعيدين، مع التدقيق في اختيارهم، وأن يعتنى بالمبتعثين من حيث تلبية حاجاتهم وارتباطهم ببلادهم مع الاهتمام الكافي بالإشراف الاجتماعي والعقدي عليهم.
التوسع في التعليم الجامعي
26 - أن تستمر سياسة التوسع في التعليم الجامعي نظرا لشدة حاجة المملكة إلى الخريجين على أن توضع خطة محكمة للتوسع وربط التعليم الجامعي بمتطلبات التنمية مستقبلا.
27 - أن تبادر الجامعة إلى إنشاء كليات جديدة تسد الحاجة إلى التخصصات النادرة وغير المتوفرة.
28 - أن تتوسع الجامعات والكليات في قبول الطلاب وفق خطة مرسومة، على ألا يؤثر ذلك في مستوى نوعية الطلاب الملتحقين بالجامعة، ومع مراعاة طاقة الكليات وإمكاناتها.
29 - أن تشمل المكافآت المالية طلاب جميع الكليات دون تمييز بينهم وذلك لمعاونتهم على الاستقرار الضروري لمواصلة الدراسة.
30 - أن تتوسع الجامعة في الدراسات العليا وأن تحرص على توفير كافة الإمكانات اللازمة لطلابها، من أعضاء هيئة التدريس والمختبرات والمراجع وغير ذلك، وعلى أن تخصص مكافآت مالية لهم.
الهيكل الجامعي:
31 - أن يكون النظام الإداري في الجامعة نموذجا طيبا لما يجب أن تكون عليه الكفاءة الإدارية، وأن تحرص الجامعة باستمرار على تطوير(1/390)
جهازها الإداري وأساليب العمل به.
32 - أن يستمر العمل بوحدة القسم في الجامعة الواحدة لما لهذا النظام من مزايا علمية وإدارية.
33 - أن تولي الجامعة طلابها مزيدا من الرعاية فتزودهم بقدر كاف من الخدمات في مجالات الانتقالات والإسكان والصحة تيسيرا عليهم في أمر التفرغ للدراسة والتفوق فيها.
34 - أن توفر الجامعات للطلاب مزيدا من الإعانات المالية ومن الخدمات الفردية والاجتماعية، كالإرشاد النفسي والإشراف العلمي والتوجيه المهني.
العلاقات بين الجامعة والمجتمع:
35 - أن توفر هيئات المجتمع المختلفة، ما يلزم الجامعة، من دعم، ييسر لها أداء ما تتطلبه منها المؤسسات الحكومية والأهلية، وأن يكون هذا الدعم متمشيا في قوته، مع مقدار التزايد المطرد، في متطلبات التنمية الشاملة بما في ذلك الموارد البشرية والمادية بالمملكة، حتى تستطيع الجامعة الوفاء بدورها، في الاستجابة لتلك المتطلبات.
36 - أن تهتم المؤسسات الحكومية الأهلية اهتماما بالغا بتمويل البحوث التي تجرى في الجامعة، وذلك لتنشيط البحوث الميدانية. وأن تشارك الجامعة في بحث المشكلات، التي لها أولوية خاصة، لدى الجهات الحكومية والأهلية، حتى تستفيد هذه الجهات من عائد المبالغ التي تنفقها على البحوث.
37 - أن تستأنس الجهات الحكومية والأهلية، ما أمكن بمشورة الجامعة، قبل أن تستقدم هيئات استشارية.
وأن تشرك الجامعة مع الهيئات الاستشارية، في القيام ببحوث مشتركة، لما في ذلك من تدعيم معنوي للجامعة، فضلا عما تتيحه هذه الاستشارات من التعرف على المشكلات المحلية، وإتاحة الفرصة لتقديم أنسب الحلول.
38 - أن تشكل لجان مشتركة، من كليات الجامعة، والجهات الحكومية، والأهلية لتنشيط التفاعل بينها، ولمواجهة المشكلات المشتركة، وللاستفادة من تبادل الرأي والخبرة، ولضمان توثيق التعاون بينهما، في مختلف المجالات.
39 - أن تتوسع الجامعة، في عقد حلقات تدريبية، لمنسوبي الوزارات، وأن تتيح الفرصة للدراسات المسائية، وأن تدعو رجال الأعمال والمسئولين بالوزارات، لمشاركتها في الأمور المتصلة بهم، وأن تحرص على إقامة علاقات وثيقة بأولياء الأمور، وأن تهتم بالإعلام عن أنشطتها، فإن ذلك كله، يحقق لها دعما معنويا فعالا.
40 - أن تقوم الجامعة بمساعدة الجهات الحكومية، والأهلية، في التخطيط، وذلك بإجراء البحوث والدراسات اللازمة، على ضوء الخطوط العريضة التي تضعها الهيئة المركزية للتخطيط.(1/391)
العوامل المساعدة على الدعم المتبادل:
41 - أن يتحقق مزيد من الاستقلال الفعلي للجامعة، حتى تتوافر لها المرونة الكافية، في وضع الإجراءات، واللوائح المالية، والإدارية، ولوائح الموظفين بها.
42 - أن يعاد النظر في تعديل بعض نصوص نظام الجامعة، بما يحقق مرونة اللوائح المعمول بها حاليا. وعلى الجامعة أن تستفيد من القدر المتاح لها من الاستقلال، بوضع لوائح جديدة، تتيح لها قدرا مناسبا، من مرونة التصرف.(1/391)
43 - أن يكون تمويل الدولة للجامعة على شكل إعانة، تقوم الجامعة بالصرف منها، حسب متطلبات العمل، في مرونة تسهل على الجامعة أداء أعمالها.
الاستفادة من الخبرات الجامعية:
44 - أن توفر الجامعة الخبرات العلمية، في مختلف الحقول، والتخصصات النظرية والعملية، للهيئات والمؤسسات الحكومية، وغيرها، حتى تستفيد من هذه الخبرات، في الوفاء بمسئوليتها، مع توفير الحوافز اللازمة لذلك.
45 - أن تستعين الجامعة بالعناصر الوطنية، المؤهلة تأهيلا عاليا، والتي تتوافر لديها خبرة كافية، من العاملين في بعض الهيئات، والمؤسسات الحكومية، وأن توفر لهم الحوافز التشجيعية.
46 - أن تقوم الهيئات، والجامعات، بنشر ما يمكن نشره من التقارير، التي يقدمها الخبراء، للاستفادة منها.
47 - أن تقوم الجامعة، بالتعاون مع الهيئات المختصة، بتهيئة الدارسين، في المراحل النهائية بالجامعة، للقيام بدورهم العملي في المجتمع، وذلك باطلاعهم على المعلومات الخاصة بمتطلبات العمل.
48 - أن تتوسع الجامعة في تشجيع اشتراك الطلاب في الخدمات الاجتماعية، مثل: حملات مكافحة الأمية - خدمة الحجاج - الإرشاد الزراعي. . . إلخ، وأن يحسب ذلك ضمن المنهج الدراسي الاختياري للطالب، ما دام في مجال تخصصه.
المؤتمرات الإسلامية:
49 - أن تعقد الجامعة المؤتمرات التي تتضمن الأنواع الآتية:
- أ - مؤتمرات علمية خاصة، لمناقشة موضوعات محددة، معينة، تناقش فيها الأوراق، وتنشر، على أن تعطي الأولوية للمسائل التي تساعد الدول الإسلامية على أن تحول مجتمعاتها إلى مجتمعات إسلامية حقيقية. كأن يعقد مؤتمر لبحث كيفية تطبيق الشريعة الإسلامية، ودراسة المعوقات التي قد تحول دون ذلك.
ب - مؤتمرات جامعية عامة، تناقش فيها سبل تحويل الجامعات القائمة في الدول الإسلامية، إلى جامعات إسلامية حقيقية، وذلك: - ببحث أحسن السبل لتدريس المواد في إطار الفكر الإسلامي.
- فحص الفكر الغربي، العلمي، والفلسفي، من زاوية النظر الإسلامية.
جـ - مؤتمرات عالمية، يقصد منها تقديم فكرنا الإسلامي، إلى ذوي الفكر، والاختصاص، في العالم، بغية إقناعهم، أو تفنيد شبهاتهم. وتقوم الجامعة بتكوين لجنة للتنسيق مع الجهات الأخرى التي يعنيها عقد مثل هذه المؤتمرات.(1/392)
في المقررات الدراسية الإسلامية:
50 - أن تحقق دراسة التاريخ الإسلامي الارتباط الوثيق بتاريخ أمتنا، وحضارة ديننا الإسلامي، والإفادة من سير أسلافنا؛ ليكون ذلك نبراسا لنا، في حاضرنا ومستقبلنا.
51 - أن يدرس التاريخ دراسة منهجية، مع استخلاص العبرة منه، وبيان وجهة نظر الإسلام فيما يتعارض معه، وإبراز المواقف الخالدة في تاريخ الإسلام، وحضارة أمته، حتى تكون نبراسا لأجيالنا المسلمة.
52 - أن يبصر الطلاب بما لوطنهم من أمجاد إسلامية تليدة، وحضارة عالمية إنسانية عريقة، ومزايا جغرافية، وطبيعية، واقتصادية، وبما لمكانته من أهمية بين الأمم.
53 - أن يدرس في الكليات الجامعية، والمعاهد العالية، تاريخ العلوم في الإسلام، والحضارة الإسلامية، بما يوافق اختصاص هذه المؤسسات، تعريفا لطلابها - في ميادين تخصصهم - بما أنجزه المسلمون.
54 - أن يعاد بناء مادة التاريخ، وصياغته، على أساس من فهم مواقف الصراع، التي كانت بين الأمة الإسلامية وأعدائها.
الثقافة الإسلامية:
55 - أن تكون الثقافة الإسلامية مادة أساسية في جميع سنوات التعليم العالي، ومراحله، تنفيذا للمادة (11) من سياسة التعليم في المملكة العربية السعودية.
56 - أن يكون هدف دراسة الثقافة الإسلامية في المرحلة الجامعية بناء التصور الإسلامي الشامل، في مرحلة النضج عند الطلاب، وإقدارهم على مواجهة تحديات الفكر المادي، ومقارنة المنهج الإسلامي بالمناهج الأخرى، والرد على الشبهات التي تثار، وتقويم ما هو واقع فعلا في العالم الإسلامي، ثم رسم الطريق الصحيح لنهضته.
57 - أن يتحقق التعاون بين المتخصصين في الثقافة الإسلامية، والمتخصصين في المواد الأخرى؛ لإبراز الجانب الإسلامي، مع اهتمام كل كلية بما يناسبها من المواد الأساسية، على أن يكون هناك قدر مشترك من الثقافة الإسلامية، تقوم بتدريسه جميع الكليات لطلابها، بجانب قدر آخر في كل كلية بما يناسب تخصصها، بمعدل لا يقل عن ساعتين أسبوعيا في الفصل الدراسي.(1/393)
إمكانات الثقافة الإسلامية:
58 - أن ينشأ قسم الثقافة الإسلامية في الكليات المتخصصة في الدراسات الشرعية، يفضي إلى الدراسات العليا فيها.
59 - أن يكون الأساتذة في هذه الأقسام، ممن عرف عنهم التبريز، والامتياز في الدراسات الإسلامية، والتيارات المعاصرة.
60 - استقدام أساتذة زائرين، لهم كفايتهم في هذه الدراسات للاستفادة بعلمهم ودراساتهم.
61 - انتقاء الطلاب لهذه الأقسام، انتقاء دقيقا، يقوم على الرغبة، والتحلي بالسلوك الإسلامي، وتتاح الفرصة بهذه الأقسام لمن لديهم رغبة واستعداد لهذه الدراسات من الكليات الأخرى غير المتخصصة فيها، كخريجي الطب والصيدلة والزراعة. . . إلخ.(1/393)
62 - أن يكون في مكتبة كل جامعة، أو كلية فرع خاص بالثقافة الإسلامية، تجمع فيه المصادر الضرورية لهذه الثقافة، حتى يسهل على الأساتذة والطلاب الرجوع إليها.
القرآن الكريم والسنة النبوية:
63 أن تنشأ دار القرآن والسنة، لمراجعة طبعات القرآن الكريم الحالية، وأصول الطبعات الجديدة من المصحف الشريف، ولتقديم معونات مالية لمن يطبعون القرآن الكريم والسنة النبوية، تيسيرا لتداولها واقتنائها.
التعريف بالتراث:
64 - أن تدرس المصادر العربية في مختلف كليات الجامعة، وأقسامها.
65 - أن تشترك المكتبات الجامعية في مجلات الاستشراق التي تعنى بتراثنا، لننتفع بخير ما ينشر عن هذا التراث، ولنصحح الأخطاء التي قد يقع فيها المستشرقون.
حفظ التراث: 66 - أن تقوم المكتبة الجامعية، بجمع النسخ الخطية من التراث التي تستطيع جمعها، وصيانتها؛ لتكون في متناول الأجيال الحاضرة، والمستقبلة.
67 - أن تقوم هذه المكتبات بتصوير ما لا يمكن الحصول عليه من هذا التراث، بما تضعه المكتبات الأجنبية.
68 - أن تقوم كل جامعة بإنشاء قسم التصوير، مزود بأحدث الأجهزة، والآلات، التي تساير تطورات العصر.
69 - أن تقوم المكتبات الجامعية، باقتناء نسخ من كتب التراث، النادرة، المطبوعة، والتي نفدت طبعاتها، أو اقتناء صور لها.
تحقيق التراث
70 - أن تشتمل مناهج الأقسام التي تتصل الدراسة فيها بتراثنا المخطوط على مادة " توثيق النصوص ونشر الكتب ".
71 - أن يشجع طلاب الدراسات العليا، على أن يكون من رسائلهم، للدرجات الجامعية، تحقيق النصوص ونشرها.
72 - أن تنشأ إدارة للنشر بكل جامعة، تتولى نشر النصوص، المحققة، التي أجازتها الهيئات المشرفة على التحقيق بها.
73 - أن يفرغ الأساتذة القادرون على التحقيق - ما أمكن - وتيسر مهمتهم، للقيام بهذا الواجب.
التراث الفقهي الإسلامي
74 - أن تقوم الجامعات المعنية بالدراسات الفقهية بتدوين أحكام الفقه الإسلامي، بأسلوب عصري، ونشره.
الترجمة 75 - أن ينشأ مركز للترجمة، يتولى إعداد شباب، يجيدون اللغة العربية، واللغات الحية، لترجمة نفائس الكتب من اللغة العربية، وإليها.(1/394)
الآثار:
76 - أن تقوم الجامعة بمسح أثري للأماكن الإسلامية، وإعداد خرائط تاريخية، ولا سيما للعهد النبوي، وعهد الخلفاء الراشدين.
المنح الدراسية: 77 - أن تتوسع الجامعة في قبول أكبر عدد ممكن من أبناء المسلمين عربا وغير عرب، وبخاصة أبناء الأقليات الإسلامية، وأن تخصص الجامعة منحا دراسية لهم تتناسب مع إمكاناتها.
78 - أن تنشئ المملكة مؤسسات تعليمية في البلاد الإسلامية الفقيرة، والتي بها أقليات إسلامية، وتتولى الإشراف عليها، وأن تقدم إعانة للمعاهد الإسلامية القائمة، في خارج المملكة.
79 - أن يعنى بنوعية الطلاب المختارين للمنح الدراسية من حيث دينهم، وأخلاقهم، واستعدادهم العلمي.
دائرة المعارف الإسلامية:
80 - أن تنشئ لجنة لإصدار موسوعة إسلامية، تتناول جميع العلوم الإسلامية بالتعريف والدراسة، يختار لها عدد من الأساتذة المتخصصين.
موسوعة الفقه الإسلامي:
81 - أن تتبنى الجامعة إحياء مشروع " موسوعة الفقه الإسلامي " حفاظا على الثروة الفقهية، وتيسيرا لتناولها على نمط علمي سليم.
إعداد الدعاة:
82 - أن يؤهل الداعية، الذي يبلغ رسالة الإسلام بعلمه وعمله، حسب مستوى من يدعوهم، وتستطيع الجامعة أن تسهم في إعداد كل أنواع الدعاة، بإقامة دورات تدريبية، لرفع مستوى الدعاة الحاليين، وتخريج نوع جديد من الدعاة المؤهلين لسد الفراغ في مجالات خطباء المساجد، وفي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي إرشاد الحجيج.
83 - أن يقوم منهج إعداد الدعاة على مستويات ثلاث:
1 - دعاة لعامة الناس.
2 - دعاة للبلاد الإسلامية غير العربية.
3 - دعاة للمثقفين داخل البلاد الإسلامية وخارجها.
ويستحسن للمستوى الثالث من الدعاة إجادة لغة أجنبية.
84 - أن تتعاون الجامعة مع وزارة الإعلام، في أن تلتزم وسائل الإعلام، مسموعة ومرئية، ومقروءة، بخدمة القيم والمثل الإسلامية.(1/395)
مركز عالمي للدراسات الإسلامية:
85 - أن تتعاون الجامعات في المملكة على إنشاء مركز عالمي للدراسات الإسلامية، تتوافر له الإمكانات البشرية، والمادية، اللازمة.
الدراسات الحربية:
86 - أن يعنى في الكليات الحربية بالاهتمام بدراسة السيرة النبوية والغزوات والمعارك الإسلامية، وأهم المواقع الحربية في تاريخ الإسلام كحرب التتار والحروب الصليبية، وأن تعطى مادة الثقافة الإسلامية حقها في الكليات الحربية بكل سنة من سنوات الدراسة، وأن يعنى في مناهج التاريخ، والنصوص، والأدب، في التعليم العام، بإذكاء روح الجهاد في سبيل الله تعالى.
87 - أن يعنى في كافة أنواع التعليم في المملكة، بما في ذلك التعليم الجامعي، بالدراسات التي تذكي روح الجهاد في نفوس المواطنين؛ للدفاع عن الدين، والأمة، وكذلك الدراسات التي توفر القوى البشرية، والفنية اللازمة، لحاجات الجهاد الحربية، كالتربية الحربية، وهندسة الطيران، واستخدام أجهزة الاتصال، والمعدات الحربية.
88 - أن تنشأ مكتبة مسموعة في الجامعات، والهيئات المعنية بالقرآن الكريم، كوزارة الإعلام، ووزارة الحج والأوقاف، ورئاسة إدارة البحوث العلمية والدعوة والإرشاد، لتسجيل النص القرآني ونصوص الحديث الشريف، وتسهيل اقتناء هذه التسجيلات لمن يريد اقتناءها، تقويما للنطق السليم بالعربية.
89 - أن تعنى الجامعة بالدعوة إلى تأليف مجمع لغوي في المملكة العربية السعودية يتعاون مع المجامع اللغوية الأخرى.
90 - أن يكون هناك تعاون بين الجامعات ورابطة العالم الإسلامي، في مجالي التخطيط للدعوة، والعمل على نشرها.
تنمية القوى البشرية:
91 - أن تنشأ كليات متوسطة مختلفة التخصصات، مدة الدراسة فيها سنتان، وتعطى الأولويات في اختيار المكان للمدن الصغيرة.
92 - أن تتعاون الجامعة مع الجهات المعنية الأخرى، بدراسة أسباب مشكلة التسرب، وطرق علاجها.
التنمية الاجتماعية:
93 - أن تقوم الجامعة بدور إيجابي فعال في مكافحة الأمية.
94 - أن تتعاون الجامعة مع وزارة المعارف، والأجهزة الحكومية الأخرى، في استغلال طاقات الشباب خلال العطل الصيفية في مجالات التنمية، والخدمات الاجتماعية.
التنمية الاقتصادية والإدارية:
95 - أن تعقد الجامعة ندوات علمية في حقوق الاقتصاد، والإدارة، في المجالين الأهلي والحكومي، لدراسة النظريات، ومجالات التطبيق، وتبادل وجهات النظر، حول المشكلات الإدارية التي تواجه المجالين.
96 - أن تنظم الجامعة دورات تدريبية، قصيرة الأجل، ذات طابع عملي، على مختلف المستويات الإدارية، تقوم بها الكليات المختصة في الجامعات.
97 - أن تشترك الجامعة مع فريق عمل يتكون من مندوبين من الجامعات الأخرى، ووزارة المعارف، وزارة المالية، وديوان الموظفين العام، والهيئة المركزية للتخطيط، لدراسة العوامل والمشاكل التي عاقت ولا زالت تعوق الجامعة عن تخريج العدد الكافي من(1/396)
الشباب، لمقابلة احتياجات ومتطلبات التنمية التي تشهدها المملكة، ومن ثم وضع الحلول العملية الإيجابية اللازمة لمساعدة الدولة على القيام بدورها الحيوي في هذا المجال.
تنمية الموارد الزراعية والحيوانية والطبيعية:
98 - أن تتعاون الجامعة مع وزارة الزراعة في تأهيل الفنيين، للنهوض بالثروة الزراعية، والحيوانية، وتثقيف البدو، والمزارعين، فيما يتعلق بطرق تنمية الموارد الرعوية، والزراعية، والحيوانية، والمحافظة عليها.
99 - أن تقوم الجامعة بالمساهمة في دراسة أفضل السبل للري، والمحافظة على موارد المياه المتوفرة في البلاد، وإنشاء معاهد لعلوم البحار، والبحوث المائية، ومراكز للعلوم الصحراوية، لدراسة جميع الموارد الطبيعية، وطرق الاستفادة منها.
100 - أن تقوم الجامعة بالمساهمة مع الجهات المعنية بسن الأنظمة واللوائح اللازمة للحد من تلويث البيئة، وهدر مواردها الطبيعية.
101 - أن تقوم الكليات المختصة بالجامعة، بإجراء البحوث، والدراسات المتعلقة بالأعشاب، وخاصة النباتات الطبية، التي تنمو بكثرة في المملكة العربية السعودية، لاستخلاص العناصر الفعالة من هذه الأعشاب، ودراسة تأثيراتها الطبية والفسيولوجية.
102 - أن تقوم الجامعة بالتعاون مع مؤسسة بترومين، ووزارة البترول والثروة المعدنية بالعمل على تحقيق الخطوات الآتية:
أ - المساعدة في الأبحاث العلمية، والحقلية، فيما يتعلق بالخامات المعدنية الموجودة بالمملكة.
ب - تقويم التقارير المقدمة من الشركات الاستشارية، وربطها عمليا بعضها ببعض.
ج - الاستفادة من طلبة الأقسام العلمية في مجالات تخصصاتهم.
103 - أن تتعاون الجامعة ومراكز البحوث والمؤسسات الحكومية في الوصول إلى أحسن الطرق، للاستفادة من الثروة البترولية، واستخراج مشتقات البترول، والاستفادة من الغازات. وأن تقوم الجامعة، بتشجيع البحوث، والدراسات المتعلقة باستغلال الطاقة النووية والشمسية، وبخاصة في مجالات توليد الكهرباء وتحلية المياه.
تنظيم خدمات على مستوى المملكة، لخدمة البحث العلمي، والتنسيق بين مراكز البحث
104 - أن تنشأ هيئة مركزية على مستوى المملكة - لوضع السياسة العامة، لتنظيم البحوث، وتمويلها، وربطها بخطة التنمية بالدولة، والتنسيق بين جهات البحث المختلفة، والجهات المستفيدة منه.
105 - أن تنشأ جمعيات علمية إسلامية متخصصة - على مستوى المملكة - تهدف إلى رفع مستوى العلوم الاجتماعية، والطبيعية، والتقنية، والتنسيق بين الباحثين، وتسهيل الاتصال العلمي بينهم، عن طريق عقد المؤتمرات، والندوات العلمية المتخصصة.
106 - أن تعقد مؤتمرات وندوات علمية في مجال العلوم والتقنية، للمناقشة والتدارس في المجالات العلمية المختلفة.
107 - أن ينشأ معهد لتخريج الفنيين، ذوي المهارة الجيدة، القادرين على صيانة وتصنيع أجهزة البحث العلمي، على أن يمنحوا الحوافز المالية الكافية.
108 - أن يبدأ في إنشاء مركز لصيانة أجهزة البحث العلمي وتصنيعها.
109 - أن تنشأ مكتبة علمية مركزية - على مستوى المملكة - تضم المراجع والدوريات التي يحتاجها الباحثون، ويلحق بها مركز توثيق، لنشر الأبحاث، والدراسات وملخصات للأبحاث التي تجرى في العالم باللغات المختلفة.(1/397)
110 - أن يوجد نظام لتشجيع الأبحاث، وذلك عن طريق:
أ - تشجيع الباحثين، من أعضاء هيئة التدريس بالجامعة على إجراء البحوث العلمية، وذلك بتخفيض نصاب عضو هيئة التدريس، والمعيدين، الذين يقومون بإجراء الأبحاث، وإيجاد حوافز مادية لهم.
ب - العمل على تشجيع الأساتذة الباحثين، وتهيئة سبل الاستقرار لهم.
ج - التوسع في إرسال أعضاء التدريس، لحضور المؤتمرات العلمية، وزيارة مراكز البحوث العلمية.
د - العمل على استكمال إنشاء الدراسات العليا، في جامعات المملكة، وبخاصة في مجالات العلم والتكنولوجيا، التي تهيئ الخريج لأداء عمله، مع زيادة الاعتمادات المخصصة للبحث العلمي في الجامعة.
111 - أن تنشأ وحدات للأبحاث المتخصصة في كل كلية من كليات الجامعات، ويدعم الموجود منها حاليا.
تعزيز دور الجامعة في خدمة المجال العلمي للمجتمع:
112 - أن تحصر الإمكانات العلمية المتوفرة في جامعات المملكة من كفاءات بشرية وإمكانات معملية، كخطوة لتعريف الهيئات المختلفة بالدولة، بما يمكن أن تقدم الجامعات من خدمات في مجال البحوث العلمية، والدراسات، والاستشارات.
113 - أن تشترك الجامعة في وضع الخطط العلمية والتقنية، وخطط التنمية مع الجهات المختصة بالدولة.
114 - أن تشترك الجامعة في محاولة حل المشكلات، التي تواجهها أجهزة الدولة، عن طريق ربط الأبحاث العلمية بخطة التنمية.
115 - أن تدعم البحوث المشتركة التي يقوم بها باحثون من الجامعة، وأجهزة الدولة المختلفة.
116 - أن تشارك الجامعة في تهيئة مناخ علمي في المجتمع، بمختلف الوسائل والأساليب، وذلك عن طريق:
أ - إصدار سلسلة من الكتب العلمية المبسطة.
ب - إقامة متاحف للعلوم والتكنولوجيا.
ج - المساهمة في مناهج التعليم الثانوي والمتوسط.
د - عقد دورات تنشيطية للخريجين.
هـ - إيجاد جهاز للخدمات الإرشادية في الجامعات، ومراكز للبحوث، وذلك للتعاون مع الهيئات المختصة.
117 - أن يكون منطلق تفكير العالم والباحث، هو عقيدته الإسلامية، التي تزخر بالحوافز، والمشجعات على الدراسة، والبحث، والاستفادة مما يحتويه القرآن من الدعوة إلى استخدام المنهج التجريبي للبحث.
118 - أن تشكل لجنة من الجامعات والقوات المسلحة؛ لاستطلاع أوجه التعاون ومجالاته بين الطرفين.(1/398)
التعليم العام:
119 - أن يوكل إلى لجنة مؤلفة من الجامعات، والجهات التعليمية المختصة في البلاد مراجعة الهيكل العام لنظام التعليم العام، (فنيا وإداريا) ، واقتراح التعديلات المناسبة.
120 - أن تتعاون الجامعة مع الجهات المسئولة عن التعليم في ابتكار شتى الوسائل، التي تضمن تنفيذ السياسة التعليمية المرسومة للمملكة على أفضل وجه ممكن.
المناهج:
121 - أن تسهم الجامعات في وضع مناهج التعليم العام وتطويرها، بالاشتراك مع المسئولين عن العملية التعليمية في المدارس، والمختصين في(1/398)
الجهات التعليمية ذات العلاقة.
122 - أن تحذو الجامعات في المملكة حذو جامعة الرياض في وضع المناهج الخاصة؛ لتعليم العربية لغير العرب، وإعداد المدرسين المؤهلين للقيام بهذه المهمة.
123 - أن تتعاون الجامعات مع وزارة المعارف، لجعل اللغة العربية مادة أساسية في المدارس الأجنبية بالمملكة، وذلك رغبة في تعريف طلاب هذه المدارس بلغة المجتمع الذي يعيشون فيه، وبتراثه.
الطرق والأساليب:
124 - أن تهتم الجامعة، والجهات المسئولة عن التعليم بالبحوث التربوية، والتجارب التعليمية التي تهدف إلى الاستفادة من التقنية الحديثة للتعليم في أساليب الدراسة.
البحوث التربوية:
125 - أن تسهم الجامعة مع الهيئات التعليمية الأخرى في إنشاء مركز للبحوث، والتنمية التربوية على مستوى المملكة.
126 - أن تقوم كليات التربية في المملكة بمراجعة مناهجها، بإفساح المجال لدراسة مقررات أكثر فعالية في تنمية مهارات طلابها في ميدان البحث، والتنمية التربوية.
127 - أن تلحق بكل كلية من كليات التربية مدرسة تجريبية، تضم أقساما للتعليم الابتدائي، والمتوسط والثانوي.
128 - أن تنظم كليات التربية دورات تدريبية خاصة بالبحث، والتنمية التربوية للعاملين في إدارات البحوث التربوية، في الجهات المشرفة على التعليم، ولبعض المعلمين من ذوي الاستعداد، والميل لمثل هذه الدراسات.
المعلمون:
129 - أن تتوسع كليات إعداد المعلمين والمعلمات للمرحلتين المتوسطة، والثانوية، في قبول الحاصلين على شهادة معاهد المعلمين، والمعلمات الثانوية، وفق قواعد يتفق عليها مع الجهات التعليمية المختصة.
130 - أن تتوسع كليات التربية في تنظيم دورات تربوية، تجديدية للمعلمين، هدفها رفع كفايتهم.
131 - أن تسهم كليات التربية في إعداد المتخصصين، في مجال تعليم، وتربية المعوقين بمختلف المستويات.
132 - أن يتم التنسيق بين الجامعة والجهات المختصة، بتربية، وتعليم، وتأهيل، ورعاية المعوقين، لوضع خطة يتم على أساسها التدريب، والابتعاث، للتخصص في مجال المعوقين.
التقويم:
133 - أن تتعاون الجامعة مع الجهات التعليمية المختلفة في وضع توصيات المؤتمر الأول لإعداد المعلمين، الذي عقد بمكة المكرمة عام 1394 هـ، موضع التنفيذ.
134 - أن تتعاون الجامعة مع الجهات التعليمية المختصة في مراجعة، وتطوير أساليب التقويم، المعمول بها حاليا، في معاهد إعداد المعلمين، والمعلمات، ومراكز الدراسات التكميلية.
135 - أن تتعاون الجامعة، مع الجهات التعليمية المختلفة في توجيه طلبة السنة النهائية بالمرحلة المتوسطة إلى نوع الدراسة الثانوية، المناسبة لقدراتهم واستعداداتهم.(1/399)
136 - أن تتعاون كليات التربية مع الجهات التعليمية المختصة في تطوير أساليب جديدة، لتقويم طلبة المدارس، وطالباتها، على أن توجه عناية خاصة إلى تجريب هذه الأساليب للتأكد من مدى صلاحيتها.
لجنة المؤتمر: ولقد كان للدور الفكري والتنظيمي الذي قامت به لجنة المؤتمر فضل كبير في نجاح هذا المؤتمر الهام الذي يعتبر خطوة رائدة في معرفة الجامعات الإسلامية لدورها في النهضة الإسلامية في ظلال التطورات الحديثة والتخطيط العلمي في القرن العشرين.
أعضاء اللجنة:
1 - الدكتور عبد الله المبارك.
2 - الدكتور محمد الأحمد الرشيد: رئيس اللجنة.
3 - الأستاذ الدكتور أحمد المهدي عبد الحليم.
4 - الأستاذ الدكتور محمد حامد الأفندي (المقرر) .
لجنة النظام: كما استطاعت لجنة النظام التي أوكل إليها الإعداد التنفيذي لمكان المؤتمر أن توفر الأدوات ووسائل الراحة التي تمكن أعضاء المؤتمر من أداء واجبهم. كما قامت بواجب الإعلام خير قيام أثناء انعقاد المؤتمر.
أعضاء اللجنة: 1 - دكتور فايز إبراهيم حبيب.
2 - دكتور صالح المالك.
3 - السيد \ عبد العزيز المسعود.
4 - السيد \ خالد مطر.
5 - السيد \ إبراهيم عبد اللطيف.
لجنة الإعلام: وقد استطاعت لجنة الإعلام برئاسة الدكتور حمود البدر أن تقوم بتغطية أعمال المؤتمر والاتصال بكافة أجهزة الإعلام وإمداد العاملين فيه بالمعلومات والدراسات التي تمكنهم من إبراز نشاط المؤتمر وأهدافه وتوصياته.
أعضاء اللجنة:
1 - دكتور حمود البدر \ رئيس اللجنة.
2 - دكتور طلال جمجوم.
3 - دكتور زهير السباعي.
4 - دكتور أنور خورشيد.
5 - دكتور حسن رجب.
6 - دكتور طه مقلب.
7 - السيد \ أحمد إسماعيل محمود.
8 - السيد \ أسامة السباعي.
9 - السيد \ عبد الله الماجد.
10 - السيد \ محمد محمود شلبي.(1/400)
المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي.(1/401)
المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي.
في: مهبط الوحي. . وفي مكة المكرمة. . " حيثما تكونت الماسة الصافية ونواة العالم الإسلامي الأولى ينعقد أول مؤتمر عالمي للاقتصاد الإسلامي.
ففي شهر ربيع الأول 1395 هـ، الموافق أبريل 1975 م يجتمع المختصون بالدراسات الاقتصادية الإسلامية من مختلف أنحاء العالم الإسلامي تحت إشراف كلية الاقتصاد والإدارة بجامعة الملك عبد العزيز وبرئاسة عميدها الدكتور حسن أبو ركبة، الذي يبذل مع الهيئة المنظمة للمؤتمر كافة الجهود لإنجاحه.
وكانت فكرة هذا المؤتمر قد انبثقت في ندوة الشباب العالمية للدعوة الإسلامية وصدرت كتوصية من توصياته.
وتبعا للسياسة الإسلامية البناءة التي اختطتها المملكة العربية السعودية لنفسها تحت قيادة الملك فيصل حفظه الله فقد صدرت موافقة جلالته بانعقاد هذا المؤتمر الدولي الهام في مكة المكرمة.
الهدف من إقامة المؤتمر: يهدف المؤتمر العالمي للاقتصاد الإسلامي إلى دراسة النظم الاقتصادية الإسلامية وعمل البحوث اللازمة لإيضاحها وتطبيقها مما يتفق ومتطلبات المجتمع الإسلامي.
فلقد جاء الإسلام لتنظيم الحياة في المجتمع الإسلامي بالعقيدة الإسلامية يهيئ له المناخ لتقبل أحكامه، وضمان قوة تنفيذها من مختلف شعوب العالم الإسلامي بما يكفل القضاء على مشاكل الأمة الإسلامية. فبعض المجتمعات الإسلامية أصبحت الآن تلتمس الحلول المختلفة لمشاكلها الاقتصادية خارج نطاق الشريعة الإسلامية من نظريات وقواعد تبعد في تطبيقها عن الواقع الملموس في هذه المجتمعات. ويتطلع العالم الإسلامي اليوم إلى حلول سريعة للمشاكل الاقتصادية، على أساس الشريعة الإسلامية. وكلية الاقتصاد والإدارة بجامعة الملك عبد العزيز وهي تتبنى إقامة المؤتمر الأول للاقتصاد(1/402)
الإسلامي، تأمل في أن ينتج عن هذا التجمع الكبير لعلماء الاقتصاد الإسلامي ما يعود بالخير كله على الأمة الإسلامية، التي تسعى لإيجاد الحلول الإسلامية لمختلف مشكلات العصر الاقتصادية، كالبنوك والتأمين والزكاة وغير ذلك.
* * *
بصدور الموافقة السامية على إقامة المؤتمر عملت كلية الاقتصاد والإدارة على اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للإعداد للمؤتمر، الذي حدد موعد انعقاده في الفترة من 5 إبريل 1974 ومكان انعقاده بمكة المكرمة. وأعدت قوائم بأسماء المختصين بالدراسات الاقتصادية الإسلامية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وتم توجيه الدعوة إليهم للمشاركة بالأبحاث في مواضيع رئيسية محددة.
* * *
وقد وصل إلى الكلية الآن عدد من الاستجابات من قبل المختصين بالدراسات الاقتصادية الإسلامية، وتم تحديد مواضيع بحوثهم في نطاق طبيعة المؤتمر.
وتم تشكيل لجنة للإعداد للمؤتمر انبثقت منها عدد من اللجان الفرعية تشمل: سكرتارية المؤتمر.
لجنة الإعلام والنشر.
لجنة العلاقات العامة.
لجنة طباعة وترجمة بحوث المؤتمر.
اللجنة المالية.
لجنة البحوث.
لجنة إدارة قاعة المؤتمر.
لجنة الصياغة.
وحددت اختصاصات هذه اللجان النوعية، وأعطيت لها مسئوليات محددة لتنفيذها.
بحوث المؤتمر: لقد حددت بحوث المؤتمر للباحثين لتشمل: 1 - مفهوم ومنهج الاقتصاد الإسلامي.
2 - حصر المراجع المعاصرة في الاقتصاد الإسلامي.
3 - سلوك المستهلك والمنشأة في الإطار الإسلامي.
4 - دور الدولة الإسلامية في الاقتصاد الحديث.
5 - التنمية الاقتصادية في الإطار الإسلامي.
6 - الزكاة.
7 - بنوك بلا فوائد.
8 - التأمين في إطار الشريعة الإسلامية.
9 - التعاون الاقتصادي بين الدول الإسلامية.
وأعطي الباحث حرية الاختيار من بين هذه المواضيع، كما أسندت أبحاث معينة لباحثين مختصين. . وتعمل الكلية على اجتذاب أكبر عدد ممكن من الباحثين بمختلف الجامعات الإسلامية، وتهتم كذلك بالبحوث التي تقدم من الباحثين بجامعات المملكة العربية السعودية.(1/403)
الإعداد للمؤتمر: يعتبر هذا المؤتمر الأول من نوعه للاعتبارات التالية: 1 - مؤتمر عالمي - سيدعى فيه الباحثون من مختلف أنحاء العالم في مجال الاقتصاد الإسلامي.
2 - مؤتمر علمي: ستتبناه كلية الاقتصاد والإدارة وسيكون الطابع العلمي أساسا لأبحاثه المقدمة.
3 - مؤتمر للاقتصاد الإسلامي - لم يسبق أن أقيم مؤتمر في أية دولة من دول العالم الإسلامي يهدف إلى دراسة النظم الاقتصادية الإسلامية على أساس من البحث العلمي.
وكانت المؤتمرات السابقة في هذا المجال تختلف في طبيعتها عن هذا المؤتمر مثل: أسبوع الفقه الإسلامي الدولي الأول (باريس 1951) .
أسبوع الفقه الإسلامي الثاني (دمشق - أبريل 1961) .
أسبوع الفقه الإسلامي الثالث (القاهرة - مارس 1967) .
مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية الأول (القاهرة - مارس 1964) .
ولا شك أن الأمل كبير أن يعقب هذا المؤتمر خطوات أخرى تمكن من انعقاد مجمع علمي دولي دائم للاقتصاد الإسلامي تمثل فيه الجامعات الإسلامية والبنوك الإسلامية والمنظمات الإسلامية ذات الطابع الاقتصادي.
كان مؤملا أن ينعقد المؤتمر في حينه، لكن الحادث الجلل الذي أصيبت به الأمة العربية والإسلامية في وفاة قائدها ورائدها الراحل جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز -رحمه الله - دعا إلى تأجيل انعقاد المؤتمر، وستحدد جامعة الملك عبد العزيز الوقت المناسب لانعقاده، وتأمل المجلة أن توافيكم بوثائقه لدى انعقاده.
* * *(1/404)
حوار(1/405)
حوار مع الأمين العام
لهيئة كبار العلماء
نظرا للأهمية الكبرى للدور الذي تقوم به هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في توضيح أحكام الشريعة الإسلامية الغراء فيها، وما يرد إليها من مختلف بقاع العالم، وما يترتب على ذلك من مكانتها في العالم الإسلامي المستمدة من المكانة الدينية والتاريخية للمملكة العربية السعودية، فقد رأت المجلة أن تجري هذا الحوار مع فضيلة الأمين العام لهيئة كبار العلماء فضيلة الشيخ محمد بن عودة.
* * *
1 - متى وممن تتألف هيئة كبار العلماء؟
* * *
ألفت هيئة كبار العلماء بأمر ملكي بالمرسوم رقم 1 - 137 في 8 - 7 - 1391 هـ وتتكون من سبعة عشر عضوا:(1/406)
الشيخ عبد العزيز بن باز ... الشيخ عبد الله بن حميد
الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ... الشيخ سليمان بن عبيد
الشيخ عبد الله خياط ... الشيخ صالح بن لحيدان
الشيخ عبد الرزاق عفيفي ... الشيخ صالح بن غصون
الشيخ محضار عقيل ... الشيخ محمد الحركان
الشيخ عبد العزيز بن صالح ... الشيخ محمد بن جبير
الشيخ عبد الله بن غديان ... الشيخ عبد الله بن منيع
الشيخ راشد بن خنين ... الشيخ عبد المجيد حسن
الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ
* * *
2 - نظرا للمكانة الدينية الدولية للمملكة العربية السعودية، والتي تتمتع بها في قلوب الشعب الإسلامي في مختلف بقاع العالم.
فهل يجوز اشتراك العلماء والمفكرين المسلمين من مختلف بلاد العالم الإسلامي كأعضاء في هيئة كبار العلماء، بحيث تتحول لمجمع فقهي وفكري دولي إسلامي بمرور السنوات؟
* * *
لقد استشعر الأمر الملكي في الواقع هذه المسألة فأجاز عند الاقتضاء وبأمر ملكي إلحاق أعضاء بالهيئة غير السعوديين ممن تتوفر فيهم صفات العلماء السلفيين؛ حيث نص الأمر السالف الذكر أنه يجوز عند الاقتضاء وبأمر ملكي إلحاق أعضاء بالهيئة من غير السعوديين ممن تتوفر فيهم صفات العلماء السلفيين.
* * *
3 - نود لو شرحتم المهمات التي تضطلع بها الهيئة؟ ومتى تنعقد جلساتها؟
* * *(1/407)
مهمة هذه الهيئة هو إبداء الرأي فيما يحال إليها من ولي الأمر لأجل بحثه وتكوين الرأي المستند إلى الأدلة الشرعية فيه، كما تتولى التوصية في القضايا الدينية المتعلقة بتقرير أحكام عامة ليسترشد بها ولي الأمر، وذلك بناء على بحوث يجرى تهيئتها وإعدادها، وتنعقد جلساتها كل ستة أشهر مرة.
* * *
4 - هل تتقيد الهيئة ببحث ما يحال إليها من مسائل، أم أن لها أن تتعرض ابتداء لما تراه من مسائل عامة تحتاج لتوضيح أحكام الشرع فيها؟
* * *
لقد نصت المادة السابعة من لائحة سير العمل في هيئة كبار العلماء على ما يلي:
مع الأخذ في الاعتبار ما يطلب ولي الأمر بحثه وإبداء الرأي فيه يتم اختيار البحوث التي يجرى إعدادها للعرض على الهيئة، إما بناء على توصية منها أو من أمينها العام، أو من رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، أو من اللجنة الدائمة المتفرعة عن الهيئة.
* * *
5 - ولكن كيف يتم إصدار هذه الأبحاث ودراستها؟
* * *
يتفرع عن هيئة كبار العلماء لجنة دائمة متفرعة اختير أعضاؤها من بين أعضاء الهيئة بأمر ملكي أيضا من مهمتها إعداد البحوث وتهيئتها للمناقشة من قبل الهيئة.
* * *
6 - هل يقتصر دور اللجنة على إعداد البحوث المشار إليها، أم يجوز لمن شاء من الأفراد أن يستفتيها في مختلف الشئون؟
* * *
تتولى اللجنة إصدار الفتاوى في الشئون الفردية وذلك بالإجابة على أسئلة المستفتين في شئون العقائد والعبادات والمعاملات الشخصية، وتتلقى الاستفتاءات من سائر أنحاء العالم لحل أي مشكلة(1/408)
تتعلق بحياتهم الدينية والاجتماعية وتسمى " اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء " ويلتحق بها عدد من البحاث المعاونين كما أن بالإمكان أن تتلقى اللجنة مثل هذه الأسئلة عن طريق مجلة البحوث الإسلامية.
* * *
7 - نود أن نتعرف بشكل عام على التشكيل الإداري للهيئة؟
* * *
للهيئة أمين عام وسكرتارية وجهاز إداري متكامل، وترتبط بسماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ.
* * *
8 - ما هي الموضوعات التي أصدرت الهيئة قرارات بشأنها؟
* * *
لقد مضى للهيئة حتى الآن ست دورات بحثت خلالها عددا من المسائل الهامة واتخذت بشأنها القرارات اللازمة منها ما يلي:
1) موضوع حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد، ورميها في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق، وكذا حكم تقديم الرمي أيام التشريق قبل الزوال.
وحكم الرمي ليالي أيام التشريق.
2) موضوع إثبات الأهلة.
3) اقتطاع المقبرة أو جزء منها للمصالح العامة.
4) حكم إحياء أراضي ديار ثمود.
5) حكم الأوراق النقدية.
6) حكم تصوير حياة أحد من الصحابة.
7) حكم الطلاق المعلق على شرط.
8) حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد.(1/409)
9) حكم توسعة المطاف.
10) حكم البناء في منى.
11) حكم السعي فوق المسعى.
12) حكم مصارف الزكاة في سبيل الله.
13) الشرط الجزائي في المقاولات.
14) حكم القاضي بفسخ الزوجة عند طول الشقاق وتعذر الوفاق.
وقد صدرت بشأنها القرارات اللازمة.
9 - هل ثمة مسائل أخرى تهم الباحثين والأمة الإسلامية مدرجة على جدول أعمال الهيئة في دوراتها القادمة.
* * *
هناك مسائل هامة تحت النظر مدرجة في جدول أعمال الهيئة لبعض الدورات القادمة، منها المسائل المصرفية والقسامة وحكم قتل الغيلة وغير ذلك.
* * *
وتود مجلة البحوث الإسلامية من جانبها أن تعلن للباحثين والأفراد في مختلف البلاد الإسلامية عن استعدادها لتلقي مختلف الرسائل والأسئلة والبحوث لتقديمها للمختصين؛ حيث تتولى المجلة نشر الإجابات تباعا في أعدادها القادمة.(1/410)
حوار مع الأمين العام للأمانة العامة للدعوة الإسلامية
نظرا للأهمية البالغة التي تترتب على تعريف المسلمين على المستوى الدولي بطبيعة وأهداف ومكانة الأجهزة التي تقوم بخدمة الدعوة الإسلامية، سواء في داخل المملكة العربية السعودية أو خارجها. وما ينبني على ذلك التعريف من اختصار الزمن وسهولة الاتصال لأجل خدمة الهدف الواحد. ونظرا لأهمية الدور الذي أسندت مهمة القيام به للأمانة العامة للدعوة الإسلامية، فقد أجرت المجلة هذا الحوار مع فضيلة الأمين العام للدعوة الإسلامية الشيخ محمد بن ناصر العبودي الأمين العام للجامعة الإسلامية في المدينة الإسلامية في المدينة المنورة لمدة اثني عشر عاما، ثم تولى منصب وكيل الجامعة الإسلامية لمدة عام واحد.(1/411)
السؤال الأول - فضيلة الشيخ. . تتعدد الأجهزة العاملة في حقل الدعوة الإسلامية - وهو بطبيعته حقل فسيح - في المملكة، ولذا فإننا نود أن تعرف لنا الأمانة العامة للدعوة الإسلامية ومكانها من بين هذه الأجهزة، بحيث تتضح للمسلمين عبر مختلف الأقطار الإسلامية؟
* * *
ج - الأمانة العامة للدعوة الإسلامية جهاز خاص منبثق عن الهيئة العليا للدعوة الإسلامية، ويرتبط إداريا وماليا بسماحة الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، كما يرتبط من الناحية الفنية بالهيئة العليا للدعوة.(1/412)
السؤال الثاني - في إجابتكم السابقة تفضلتم بالإشارة إلى الهيئة العليا للدعوة الإسلامية فنرجو أن تحددوا لنا تاريخ إنشائها؟ ولمن تكون؟ والأهداف التي تسعى لتحقيقها والوسائل والإمكانات التي سوف تسخرها لتحقيق هذه الأهداف؟
* * *
الهيئة العليا للدعوة الإسلامية أنشئت بالأمر السامي الكريم وتتألف من خمسة أعضاء برئاسة صاحب السماحة معالي وزير العدل الشيخ: محمد بن علي الحركان، وعضوية معالي وزير المعارف الشيخ: حسن بن عبد الله آل الشيخ، وسماحة الشيخ: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، ومعالي السيد حسن كتبي وزير الحج والأوقاف، وسعادة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الشيخ: محمد صالح قزاز، وقد حدد الأمر السامي الكريم القاضي بتأليف الهيئة العليا للدعوة الإسلامية مهمتها، ومنها ما يلي:
1 - دراسة السبل التي يتم بها نشر الدعوة الإسلامية الصحيحة في جميع أرجاء العالم وخاصة القارتين الإفريقية والآسيوية.
2 - إعداد برنامج لإرسال بعثات دورية لنشر الدعوة في مختلف الأقطار التي يقطنها مسلمون.
3 - التنسيق بين مختلف الأجهزة الحكومية التي تعمل في حقل نشر الدعوة الإسلامية، والتي يمكن الاستفادة منها لتحقيق هذا الغرض.
4 - متابعة أعمال البعثات الإسلامية للدعوة وتقييم النتائج التي حصلت عليها والوقوف على العقبات التي اعترضت سبيلها لتذليلها.(1/412)
5 - دراسة التقارير الواردة من مختلف الجهات والاقتراحات التي ترسل للهيئة بخصوص الدعوة الإسلامية، واقتراح السبل الكفيلة بدعمها وتقويتها.
6 - تنظيم المعلومات المتعلقة بشئون المسلمين التي تساعد على نشر الدعوة الإسلامية.
وبهذا تعلمون أن الأمانة العامة للدعوة الإسلامية: هي في الواقع أمانة للهيئة العليا للدعوة، ويعرض الأمين العام على الهيئة العليا ما يراه من اقتراحات كفيلة بتحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها الأمانة. ومن المقرر أن تعقد الهيئة العليا للدعوة اجتماعاتها في مقر الأمانة العامة للدعوة لبحث الأمور الإسلامية المشار إليها، ومن ثم ترفع قراراتها إلى جلالة الملك المعظم حفظه الله للأمر بما يراه جلالته نحو تلك القرارات.(1/413)
السؤال الثالث - إن الأمر الملكي الكريم بتحديد مهام الهيئة العليا للدعوة الإسلامية، والذي أشرتم إليه في الإجابة السابقة يتناول ست نقاط بارزة:
الأولى: دراسة سبل نشر الدعوة.
الثانية: إعداد برامج البعثات.
الثالثة: التنسيق بين الأجهزة العاملة في نفس الحقل.
الرابعة: المتابعة والتقييم.
الخامسة: دراسة تقارير مختلف الأجهزة عن مختلف المشاكل واقتراح الحلول.
السادسة: تنظيم المعلومات المساعدة لنشر الدعوة.
ولا شك أننا إذا ما رددنا النظر للنقاط الست، واستشعرنا أهميتها، فإننا نود أن نسأل فضيلتكم: هل وضعت خطة زمنية على منوال " الخطة " التي تضعها المملكة بأسرها توضح ما تحتاج إليه الأمانة؛ لكي تضع هذه النقاط موضع التنفيذ؟
الواقع أن هذه الفكرة موجودة في أذهان المسئولين عن الأمانة، وسوف نعمل على إعدادها بإذن الله حالما تستكمل الأمانة تعيين الموظفين فيها، ثم نعرضها على الهيئة العليا للدعوة الإسلامية لتقرر ما تراه بشأنها.(1/413)
السؤال الرابع - ولكن ألا يوجد ثمة تداخل بين مهمة الأمانة العامة للدعوة الإسلامية والمهام الموكولة لبعض الدوائر الأخرى المختصة بالعمل على نشر الدعوة الإسلامية؟(1/413)
لا يوجد التداخل الذي أشرتم إليه؛ لأن اللائحة الداخلية للأمانة العامة للدعوة الإسلامية قد حددت مهمة الأمانة بعبارات يمكن تلخيصها بأنها التخطيط لنشر الدعوة الإسلامية والعمل على التنسيق بين الأجهزة العاملة في الدعوة في المملكة ومتابعة القرارات والأوامر المتعلقة بنشر الدعوة، ولا بد من التذكير هنا بأن الأمانة العامة للدعوة الإسلامية منبثقة عن الهيئة العليا للدعوة، كما أسلفت ومرتبطة بها، وهي تتلقى منها التوجيه وترفع إليها ما تراه محققا للغرض الذي من أجله أنشئت الأمانة.
إن إنشاء الأمانة العامة للدعوة الإسلامية وبروزها إلى أرض الواقع شاهد من شواهد شتى على اهتمام صاحب الجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز حفظه الله بالدعوة الإسلامية والعمل على إعلاء كلمة الله ورفع راية الإسلام في العالم!
هذا هو عين الواقع، وتعلمون أن من أهم أسباب النجاح لعمل ما أن يوجد له جهاز خاص يقوم بالتخطيط له، وجعل إجراءاته تقوم على أساس مدروس من قبل أشخاص متخصصين ومتفرغين لذلك.
هل نفهم من ذلك أن جهاز الأمانة العامة للدعوة الإسلامية يشتمل على خبراء في هذا الميدان؟
نعم يضم جهاز الأمانة العامة للدعوة الإسلامية عددا من وظائف الخبراء يجري الآن العمل على ملئها بأشخاص ذوي كفاية ومقدرة واتجاه إسلامي حميد، وتضم تلك الوظائف عدة خبراء في مجال الدعوة الإسلامية والتعليم الإسلامي والإعلام والنشر وشئون المسلمين في الأقطار النائية.
ولكن متى بدأت الأمانة العامة للدعوة الإسلامية في مباشرة نشاطها الفعلي؟
الحقيقة أن الأمانة العامة للدعوة الإسلامية حديثة النشأة إذ لم يمض على صدور قرار مجلس الوزراء الموقر بتعيين الأمين العام للدعوة الإسلامية إلا مدة قليلة، وبالتحديد كان ذلك في الرابع والعشرين من شهر شعبان الماضي؛ ولذلك فإن الأمانة لم تستكمل بعد تعيين الموظفين اللازمين لها.(1/414)
السؤال الثامن - يترأس جهاز الأمانة العامة للدعوة الإسلامية الأمين العام. . فما هي الوظائف الرئيسية التي يحتويها الهيكل التنظيمي للأمانة والتي تمكنها من إنجاز المهام الضخمة الموكولة إليها؟
الوظائف الإدارية الرئيسية منها وظيفة مساعد الأمين العام ووظيفة مدير وحدة التخطيط، ووظيفة مدير وحدة التنفيذ والمتابعة، وهذه بطبيعة الحال غير وظائف الخبراء التي تقدم الكلام عليها، وغير الوظائف الإدارية الثانوية.(1/415)
السؤال التاسع - نعلم أنكم قمتم أثناء توليكم منصب الأمين العام للجامعة الإسلامية بزيارة معظم أقطار العالم الإسلامي في مهام تتعلق بالدعوة الإسلامية. . وقد كان للميدان الأفريقي نصيب بارز في هذه الزيارات وضح لنا من كتابكم " في أفريقية الخضراء " وما حواه من معلومات طيبة. فما هي الملاحظات الشاملة أو الانطباعات التي تركت في نفسكم أثرا بارزا وخرجتم به من هذه الزيارات؟
الواقع أن الملاحظات عن أحوال المسلمين في أقطار كثيرة كالأقطار التي زرتها لا يمكن حصرها في كلمات قليلة إلا بشيء من التجوز في القول والاختصار في الفكرة، وإذا يمكن أن أقول إن أهم شيء يلاحظه المرء في كل تلك الأقطار، هو حاجة المسلمين إلى أن يفهموا الإسلام فهما سليما مطابقا لما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحاجة غير المسلمين في الوقت نفسه إلى الإسلام الصحيح، الذي هو كفيل بحل مشكلاتهم في هذه الحياة.(1/415)
السؤال العاشر - الحق أن الحياة إضافات متراكمة للخبرات خاصة ما كان منها في حقل متصل. . ولقد توليتم منصب الأمين العام للجامعة الإسلامية. . فهل ترون الاستفادة من الجامعة فيما يحقق أهداف الأمانة وكيف يمكن أن يتم ذلك.
الجامعة الإسلامية هي إحدى الجهات الهامة في ميدان الدعوة الإسلامية ومسئوليتها عظيمة في هذا الشأن، فهي المسئولة عن توفير أكبر عدد ممكن من فرص الثقافة الإسلامية على المستوى التعليمي الجامعي لأبناء المسلمين في كافة أنحاء العالم، كما أنها مسئولة عن رعاية أبناء المسلمين الذين يلتحقون بها من حيث تربيتهم تربية إسلامية(1/415)
صحيحة، وأن تهيئ لهم العيش مدة دراستهم في هذا الوسط الإسلامي في المدينة المنورة مهبط الوحي، ومنطلق الرسالة المحمدية على أساس إسلامي أخوي بحيث تذوب فيه الفوارق المظهرية وتتهاوى الحواجز اللونية الإسلامية الصافية وتشبع بروح الإخاء الإسلامي. وهذا من أهم الأعمال على طريق الوحدة في المشاعر والأهداف والأعمال بين المسلمين جميعا، وهو بالتالي من أهم أغراض الدعوة الإسلامية كما هو ظاهر. وقد حققت الجامعة جزءا كبيرا من أهدافها وهي سائرة بإذن الله على هذا السبيل الحميد، نسأل الله تعالى للمسئولين فيها المزيد من التوفيق إلى الخير والمثوبة على ما بذلوه ويبذلونه من جهد صادق في هذا الميدان.
السؤال الحادي عشر: هل من كلمة يود فضيلتكم قولها في ختام هذا الحديث؟
* * *
نعم: أولا أريد أن أحمد تعالى وأشكره على أن رزق هذه البلاد بملك عادل كريم يعرف واجبات الإمام المسلم نحو إخوانه في الدين ويعمل على مساعدتهم بما يستطيع، ومن أهم ذلك الدعوة إلى تضامنهم وتآخيهم، والعمل على ما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم، ثم أرجو من جميع إخواني المسلمين أن يتذكر كل واحد منهم أن الإسلام ليس بالقول فقط، بل هو عقيدة وقول وعمل؛ ولذلك يجب عليه أن يحاسب نفسه عندما يعمل شيئا أو يتركه بأن يكون عمل ما يعمله طاعة لأمر الله واجتناب ما يجتنبه انتهاء عما نهى عنه الله، وأن يذكر كل مسلم أن عليه واجب الدعوة إلى الله بقدر استطاعته، سواء بلسانه أو بماله أو بقلمه، كما قال الله تعالى مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (2)
وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} (3) نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمع قلوب المسلمين على ما يرضيه، ويوفقهم إلى ما فيه صلاحهم ونجاحهم في أمور دينهم ودنياهم.
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة فصلت الآية 33(1/416)
عبد الله بن محمد بن حميد
الدعوة إلى الله
الحمد لله الذي أرسل رسوله مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، دعا إلى الله على بصيرة وبحكمة ولين فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة وفتح الله به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا. . أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الحيرة والضلال إلى طريق الحق والهدى (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين) .
(أما بعد) : فلا شك أن الدعوة إلى (توحيد الله، وعبادته، وإرشاد الخلق إلى الصراط السوي) : هي وظيفة (المرسلين) وأتباعهم (الهداة المصلحين، والدعاة الناصحين) ، الذين يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون (بكتاب الله) الموتى ويبصرون (بنور الله) أهل العمى. . فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه؟ وكم من ضال تائه قد هدوه؟
فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم. . . دعوا الناس إلى ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم، ودعوهم إلى ما فيه الخير والسعادة، وحذروهم من السقوط في مهاوي الشرور والشقاء، وحرروا العقول من رق الأهواء والشهوات، وطهروا النفوس من أدران النقائص والرذائل. . . .
ومعلوم أنه ما قام (دين من الأديان - ولا انتشر مذهب من المذاهب) ، ولا ثبت مبدأ من المبادئ(1/417)
إلا بالدعوة، ولا هلكت أمة في الأرض إلا بعد أن أعرضت عن الدعوة، أو قصر عقلاؤها في الأخذ على يد سفهائها، وما تداعت أركان ملة بعد قيامها، ولا درست رسوم طريقة بعد ارتفاع أعلامها إلا بترك الدعوة.
* فإذا أهملت (الدعوة) فشت الضلالة وشاعت الجهالة وخربت البلاد وهلك العباد. . فنعوذ بالله أن يندرس من هذا القطب عمله وعلمه وأن ينمحي حقيقته ورسمه. . .
وقد علم بالاضطرار من دين (الرسول صلى الله عليه وسلم) ، واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك (معاذا) حين بعثه إلى (اليمن) . . . .
فبذلك يصير الكافر مسلما والعدو وليا، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال. . . وقد قام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إلى الله صابرا محتسبا كما أمره الله بقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (1) وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2) فكان يغشى الناس في مجالسهم في أيام المواسم ويتبعهم في أسواقهم فيتلو عليهم القرآن ويدعوهم إلى الله عز وجل ويقول: " من يؤويني ومن ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة "، فلا يجد أحدا ينصره ولا يؤويه ولم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة وكان المستجيب له خائفا من عشيرته وقبيلته يؤذى غاية الأذى وينال منه وهو صابر على ذلك صلى الله عليه وسلم. . . وأقام صلوات الله وسلامه عليه على هذا بضع عشرة سنة: قال أبو قيس (صرمة بن أبي أنس الأنصاري) رضي الله عنه:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا
فلما أتانا أظهر الله دينه ... فأصبح مسرورا بطيبة راضيا
* والقرآن الكريم ينزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبينا حال الرسل المتقدمين مع أممهم، وكيف جرى لهم من المحاجاة والخصومات وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى، وكيف نصر الله حزبه المؤمنين وخذل أعداءه الكافرين؛ ليكون له بهم أسوة فتتسلى نفسه ويطيب قلبه وتهون عليه جميع المصاعب. .
{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (3) وقال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (4) ومعلوم من سنة الله في خلقه: أن الحق يتصارع مع الباطل وأنه لا بد أن يقيض الله
__________
(1) سورة الحجر الآية 94
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة هود الآية 120
(4) سورة الأنعام الآية 34(1/418)
للحق أعوانا يدافعون عنه ويكتب لهم الغلبة والفوز مهما كان للباطل من صولة. . .
* كما أن من أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين وبيان حقيقة أنباء المرسلين: ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (1) {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} (2)
وذلك أن الحق إذا جحد وعورض بالشبهات أقام الله تعالى على يد من يشاء من عباده مما يحق به الحق ويبطل به الباطل من الآيات والبينات بما يظهره من أدلة الحق وبراهينه الواضحة وفساد ما عارضه من الحجج الداحضة.
فبالدعوة إلى الله يتبين الهدى من الضلال، والصدق من المحال، والغي من الرشاد، والصلاح من الفساد، والخطأ من السداد.
ذلك أن الدين الحق كلما نظر فيه الناظر، وناظر عنه المناظر ظهرت له البراهين وقوي به اليقين، وازداد به إيمان المؤمنين، وأشرق نوره في صدور العالمين.
(الباطل) إذا جادل عنه المجادل ورام أن يقيم عوده - المائل - أقام الله تبارك وتعالى من يقذف بالحق على الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق، ويبين أن صاحبه الأحمق (كاذب مائق) ، وظهر فيه من القبح والفساد والتناقض ما يظهر به لعموم الرجال أن أهله من أهل الضلال، حتى يظهر به من الفساد ما لم يكن يعرفه أكثر العباد، وينتبه بذلك من كان غافلا من سنة الرقاد ممن لا يميز الغي من الرشاد.
وكان (الخاصة من الصحابة) : (متكاتفين في نشر الدعوة وتبليغ الرسالة ممتثلين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية (3) » . . . وقوله صلى الله عليه وسلم: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع (4) » .
قال (البغوي) : والأمر عام في حق أهل زمانه وما جاء بعدهم، ولا وصول إلى من بعدهم إلا بالتبليغ) . . اهـ.
فألقوا إلى من بعدهم ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصا صافيا قائلين: هذا عهد نبينا إلينا وقد عهدنا إليكم، وهذه وصية ربنا وفرضه علينا وهي وصيته وفرضه عليكم) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 112
(2) سورة الأنعام الآية 113
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461) ، سنن الترمذي العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (2/159) ، سنن الدارمي المقدمة (542) .
(4) صحيح البخاري العلم (105) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) .(1/419)
أسلوب الدعوة وما يجب أن يكون عليه الداعي
وينبغي (للداعي) أن يكون قوله للناس لينا ووجهه منبسطا طلقا، فإن تليين القول مما يكسر سورة عناد (العتاة) ويلين عريكة (الطغاة) . . فالداعي: أيا كانت منزلته، وأيا كان عقله وعلمه ليس بأفضل من موسى - وهارون) ، ومن وجهت إليه الدعوة ليس (بأخبث) من (فرعون) ، وقد أمرهما الله (باللين) معه في قوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (1) وقال في موضع آخر: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} (2) {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (3)
ويقول (الرب) تبارك وتعالى في حق سيد المرسلين: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (4) أي لو كنت خشنا جافيا في معاملتهم لتفرقوا عنك ونفروا منك ولم يسكنوا إليك، ولم يتم أمرك من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط السوي.
ذلك أن المقصود من (الدعوة إلى الله) : تبليغ (شرائع الله إلى الخلق ولا يتم ذلك إلا إذا مالت القلوب إلى (الداعي) ، وسكنت نفوسهم لديه، وذلك إنما يكون إذا كان الداعي (رحيما كريما) ، يتجاوز عن ذنب المسيء ويعفو عن زلاته، ويخصه بوجوه البر والمكرمة والشفقة) .
كما ينبغي (للداعي) أن لا يعنف على أحد أو يعلن له بالفضيحة ويشهر باسمه على رءوس الملأ فإن ذلك أبلغ في قبول الدعوة وأحرى إلى الاستجابة والانصياع.
* * *
__________
(1) سورة طه الآية 44
(2) سورة النازعات الآية 18
(3) سورة النازعات الآية 19
(4) سورة آل عمران الآية 159(1/420)
نماذج من دعوة الرسول
لقد: كان صلوات الله وسلامه عليه لا يواجه أحدا بما يكره. وكان إذا بلغه عن أحد من أصحابه شيئا يقول: «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ وما بال رجال يفعلون كذا (1) » . (ولا يعينهم خشية أن يحصل لهم خجل أو استحياء بالتعيين بين الناس ويكفيهم ذلك في النهي) .
أخرج الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد: عن أبي أمامة - رضي الله عنه -: «أن غلاما شابا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنى؟ فصاح الناس به؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ادن: فدنا حتى جلس بين يديه فقال: أتحبه لأمك؟ قال: لا - جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لابنتك؟ قال: لا - جعلني الله فداك. قال: كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم. أتحبه لأختك؟ - (وزاد ابن عوف أحد رواة الحديث) أنه ذكر العمة والخالة وهو يقول في ذلك: لا - جعلني الله فداك. وهو - صلى الله عليه وسلم - يقول كذلك الناس لا
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5063) ، صحيح مسلم النكاح (1401) ، سنن النسائي النكاح (3217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .(1/420)
يحبونه. . فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على صدره وقال: اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه وحصن فرجه، فلم يكن شيء أبغض منه إليه (يعني الزنى) (1) » .
(قال شيخ الإسلام) : وينبغي أن يكون الداعي حليما صبورا على الأذى، فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح كما قال (لقمان لابنه) : {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (2)
ولهذا أمر الله الرسل وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصبر، كقوله لخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (3) فقرن الصبر ببدء تبليغ الرسالة، فإن أول ما أنزلت عليه سورة (المدثر) بعد أن أنزلت عليه (اقرأ) التي بها نبئ فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (4) {قُمْ فَأَنْذِرْ} (5) {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (6) {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (7) {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (8) {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} (9) {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (10)
فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة وختمها بالصبر. . ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فعلم أنه يجب بعد ذلك الصبر وقال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (11) {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} (12) وقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (13) وفي قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (14) (. . أي: ادع إلى سبيل ربك بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهو: الدليل الموضح للحق المزيح للشبهة. والموعظة الحسنة: أي: العبر اللطيفة، والوقائع المخيفة ليحذروا بأسه تعالى. وجادلهم بالتي هي أحسن: أي: جادل معانديهم بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين وحسن الخطاب من غير عنف، فإن ذلك أبلغ في تسكين لهبهم، وفي الآية الحث على الإنصاف في المناظرة واتباع الحق، والرفق والمداراة على وجه يظهر منه أن القصد إثبات الحق وإزهاق الباطل، وأن لا غرض للداعي سواه. .
(قال ابن القيم - رحمه الله تعالى) على هذه الآية: ذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها (ثلاثة أقسام) بحسب حال المدعو: فإنه إما أن يكون طالبا للحق محبا له مؤثرا له على غيره إذا عرفه. . فهذا يدعي بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظة وجدال، وإما أن يكون مشتغلا بضد الحق لكن لو عرفه آثره واتبعه، فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب، وإما أن يكون معاندا معارضا، فهذا يجادل بالتي هي أحسن، فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجدال إن أمكن.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/257) .
(2) سورة لقمان الآية 17
(3) سورة المدثر الآية 7
(4) سورة المدثر الآية 1
(5) سورة المدثر الآية 2
(6) سورة المدثر الآية 3
(7) سورة المدثر الآية 4
(8) سورة المدثر الآية 5
(9) سورة المدثر الآية 6
(10) سورة المدثر الآية 7
(11) سورة المزمل الآية 10
(12) سورة النحل الآية 127
(13) سورة الأحقاف الآية 35
(14) سورة النحل الآية 125(1/421)
قال (بعضهم) : ينبغي للداعي أن يكون حديثه مع العامة في حال مخالطته ومجالسته لهم في بيان الواجبات والمحرمات ونوافل الطاعات وذكر الثواب والعقاب على الإحسان والإساءة، ويكون كلامه معهم بعبارة قريبة واضحة يعرفونها ويفهمونها، ويزيد بيانا للأمور التي يعلم أنهم ملابسون لها. كما كان حال الرسل مع أممهم، فإنهم بعد دعوتهم قومهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له كانوا يعالجون الأمراض الاجتماعية الفاشية في أممهم، فنرى نوحا وهودا وصالحا وإبراهيم يهتمون كثيرا بالتوحيد والقضاء على الشرك بشتى الوسائل. . لأن (الوثنية) كان متسلطة على عقول قومهم. . . ونرى لوطا عليه السلام جعل همه في القضاء على الفاحشة اللواطة لافتتان القوم بها وفشوها عندهم حتى ألفها الناس وأصبح التنزه منها معدوما بينهم وذلك منتهى الانحطاط والانحلال الخلقي، وترى شعيبا عليه السلام بعد دعوة قومه إلى التوحيد ينهاهم عن نقص الكيل والوزن ويأمرهم بإيفائها لانتشار الغش بينهم، وهكذا بقية الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(1/422)
وجوب تبليغ الدعوة والقيام بها
جاءت الآيات الكثيرة والأحاديث الشهيرة بالحث على (الدعوة إلى الله) ، وبيان وجوبها، وما للداعي فيها من الأجر، والآيات القرآنية الدالة على الدعوة أكثر من آيات الصوم والحج - الذين هما ركنان من أركان الإسلام الخمسة. فالدعوة إلى الله - من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها بها يكمل نظام الشريعة ويرتفع شأنها، والله سبحانه وتعالى جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين (كما في قوله تعالى) : {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} (1) ثم قال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2)
فدل على أن (أخص أوصاف المؤمن: - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - (ورأسها) : الدعوة إلى الإسلام) .
وقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا في الأمم المتقدمة كما في قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (3) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (4)
(أي) : لا ينهى بعضهم بعضا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر من ارتكاب مثل الذين ارتكبوه - فقال: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (5) مؤكدا (بلام القسم) تقبيحا لصفتهم وتحذيرا من سوء فعلهم. . . . وقوله سبحانه في صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (6)
__________
(1) سورة التوبة الآية 67
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة المائدة الآية 78
(4) سورة المائدة الآية 79
(5) سورة المائدة الآية 79
(6) سورة الأعراف الآية 157(1/422)
هو بيان لكمال رسالته، فإنه - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أمر الله على لسانه - بكل معروف ونهي عن كل منكر وأحل كل طيب وحرم كل خبيث - وكذلك وصف الأمة بما وصف به نبيها حيث قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1)
قال (أبو هريرة) رضي الله عنه: كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في القيود والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة.
فبين سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس فهم أنفعهم لهم وأعظمهم إحسانا إليهم؛ لأنهم كملوا كل خير ونفع للناس بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. . . فهذه الخيرية لا تثبت لهذه الأمة إلا إذا حافظت على هذه الأصول الثلاثة، فإذا تركتها لم تكن لها هذه المزية، وقد أكد الأمر بهذه الفريضة في آيات كثيرة بما لم يعرف له نظير في الكتب السابقة. . . وقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على (الإيمان) بالله في الذكر مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات؛ لأنهما سياج الإيمان وحفاظه، فكان تقديمها في الذكر موافقا للمعهود عند الناس في جعل سياج كل شيء مقدما عليه.
وقال تعالى: * {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2)
ففي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن قوله تعالى (ولتكن) : أمر وظاهر الأمر: الإيجاب، وفيها بيان أن الفلاح منوط به إذ حصر، وقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ} (4) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (5) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (6)
فحكم الرب تبارك وتعالى بالخسار على جميع الناس إلا من كان آتيا بهذه الأشياء الأربعة وهي: الإيمان - والعمل الصالح - والتواصي بالحق - والتواصي بالصبر.
فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور، وأنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه، فكذلك يلزمه في غيره أمور منها - الدعوة إلى (الدين) والنصيحة (للمسلمين) .
قال (ابن القيم) : وبيان ذلك: أن المراتب (أربعة) وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة آل عمران الآية 104
(3) سورة آل عمران الآية 104
(4) سورة العصر الآية 1
(5) سورة العصر الآية 2
(6) سورة العصر الآية 3(1/423)
إحداها: معرفة الحق.
الثانية: عمله به.
الثالثة: تعليمه من لا يحسنه.
الرابعة: صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه.
فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة وأقسم سبحانه في هذه السورة (بالعصر) إن كل أحد في خسر إلا الذين آمنوا: وهم: الذين عرفوا الحق وصدقوا به، فهذه مرتبة، وعملوا الصالحات: وهم: الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه أخرى، وتواصوا بالحق: وصى به بعضهم بعضا تعليما وإرشادا: فهذه مرتبة ثالثة، وتواصوا بالصبر: صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات، فهذه مرتبة رابعة. . . وهذا نهاية، فإن الكمال أن يكون الشخص كاملا في نفسه مكملا لغيره، وكماله بإصلاح قوتيه - العلمية والعملية: فصلاح القوة العلمية: بالإيمان، وصلاح القوة العملية: بعمل الصالحات، وتكميله غيره بتعليمه إياه وصبره عليه، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل. . . (وأما السنة) : فقد رغب الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - أمته إلى الهدى والدلالة على الخير والنصح للمسلمين كما في (صحيح مسلم) ، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (1) » . وفي (صحيح مسلم) أيضا عن أبي هريرة - رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئا (2) » .
وفي (الترمذي) عن: بلال بن الحارث: أنه قال: «من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من الناس لا ينقص ذلك من أجورهم (3) » .
أيها الأخوة الكرام والعلماء الأفاضل: ما مدح الله (أهل العلم) بما مدحهم به إلا لأنهم ورثة الأنبياء، يبلغون الشرائع للناس ويوضحون طرق الفلاح والنجاح وأسباب السعادة والعزة في هذه الدار {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (4)
أيها العلماء: لقد علمتم ما قال الله في (ذم من لم يقم بواجبه) ، ولم يؤد ما عليه لدينه وأمته من الدعوة والإرشاد والعظة والتذكير والإنذار بسوء العاقبة، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (5) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (6) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (7)
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(2) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(3) سنن الترمذي العلم (2677) ، سنن ابن ماجه المقدمة (210) .
(4) سورة المنافقون الآية 8
(5) سورة آل عمران الآية 187
(6) سورة البقرة الآية 159
(7) سورة البقرة الآية 160(1/424)
فإذا هم فعلوا ذلك كثر في الأمة الخير وندر فيها وقوع الشر وائتلفت قلوب أهليها وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وسعدوا في دنياهم وآخرتهم. . . ولن يتم ذلك إلا إذا أعد أهلها للأمر عدته وكملوا أنفسهم بالمعارف والعلوم التي تحتاج إليها الأمم، التي تبغي السعادة والرقي وتخلقوا بفاضل الأخلاق وحميد الصفات، حتى يكونوا مثلا عليا تحتذى.
هذا وأسأل الله لنا ولكم الإعانة والتوفيق والدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يثبتنا وإياكم على الحق إلى أن نلقاه.
* * *(1/425)
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} (1)
__________
(1) سورة الرعد الآية 15(1/426)
هيئة التوعية في الحج
تستقبل ملايين الحجاج
يهتدي اليوم ملايين الحجاج - الذين يأتون من كل فج عميق إلى الأراضي المقدسة - إلى معرفة الأماكن والشعائر المقدسة والمزارات والمواقيت بوسائل لم تتيسر من قبل.
ففي 18 \ 7 \ 1392 هـ صدرت الموافقة الكريمة على إنشاء هيئة التوعية في الحج، ومنذ ذلك التاريخ والعمل العلمي الجاد المتصل ترى نتائجه.
والذين يعرفون طبيعة هذا التجمع الدولي للمسلمين من مختلف بقاع العالم يدركون جسامة وتعقيد المهام الموكلة إلى هيئة التوعية.
فهناك اختلاف اللغات باختلاف جنسيات الحجيج.
وهناك المدة الزمنية القصيرة التي ينبغي أن يتم خلالها تقديم مختلف الخدمات الإرشادية للحجاج.
كما يواجه المشاركون في التوعية عقبة اختلاف المستويات الثقافية اختلافا شاسعا بين مختلف نوعيات الحجيج.
ولذا فقد عمدت الهيئة إلى تقييم النشاطات التي قامت بها عقب كل موسم، وذلك لتتمكن من تطوير نشاطاتها في الأعوام التالية لخدمة الحجيج. هذه الخدمة التي تعتبرها المملكة العربية السعودية تحت رعاية الفيصل -رحمه الله - من أوجب الخدمات عليها للعالم الإسلامي.(1/427)
وكان آخر هذه الاجتماعات الذي انعقد في المدة ما بين 21 \ 12 \ 1394 هـ حتى يوم 10 \ 1 \ 1395 لإقرار التقرير النهائي.
في 12 \ 10 \ 1394 هـ انعقدت أولى اجتماعات اللجنة في مكة المكرمة وقد استمرت هذه الاجتماعات حتى ختام الموسم في 10 \ 1 \ 1395 ولم تكتف اللجنة بذلك، بل قامت بعقد جلسات فرعية في المدن الآتية: المدينة المنورة. جدة. منى ز
وكان الغرض من عقد هذه الجلسات في هذه المدن الحرص على التأكد من أداء الخدمات المقررة للحجيج على الوجه الأكمل في مواقع نشاط الهيئة التي سبق تقريرها.
* * *
وتبعا للزيادة الهائلة في أعداد حجاج هذا العالم، ولما تلاقيه من أعباء جديدة على هيئة التوعية، فقد تم اختبار 111 داعية من رجال الدعوة من داخل المملكة، كما وقع الاختيار على ستة من رجال الدعوة الإسلامية في الخارج.
* * *
ولما كانت مخاطبة هذا التجمع الدولي الذي تتعدد ألسنته وأجناسه يحتاج إلى كفاءات لغوية عديدة، فقد بذلت الهيئة جهدها حتى تمكنت من اختيار ثلاثين مترجما من الجامعة الإسلامية وجامعة الملك عبد العزيز لتولي هذه المهام المختلفة في مدة قصيرة.
***
وقد راعت الهيئة تلبية مختلف الاحتياجات المكانية فقامت بتوزيع دعاتها على الأماكن الرئيسية الآتية: - الحرم المكي.
- الحرم المدني.
- مدينة حجاج الجو.
- مدينة حجاج البحر.
- منافذ المملكة والمواقيت.
- المساجد والمزارات بمكة المكرمة.(1/428)
- المساجد والمزارات في المدينة المنورة.
- المشاعر المقدسة في عرفات.
- المشاعر المقدسة في منى.
- المشاعر المقدسة في مزدلفة.
* * *
النشاط الإذاعي
قامت الهيئة بإعداد برنامج إذاعي ضخم تبلغ مدته الزمنية 1800 دقيقة تم تقسيمه إلى 40 حلقة تستغرق كل منها 45 دقيقة، وذلك للتوعية الإسلامية للحجيج.
ونظرا لأهميته فقد قامت الإذاعة ببثه وإرساله إلى جدة والمدينة والرياض. كما تمت ترجمة هذا البرنامج الكبير إلى عشر لغات يتفاهم بها عدد كبير من حجاج العالم الإسلامي.
* * *
النشاط التليفزيوني
أعدت الهيئة برنامجا يستغرق 400 دقيقة وذلك للإرسال التليفزيوني تحت عنوان: " وأذن في الناس بالحج "، وذلك في 20 حلقة يستمر كل منها 20 دقيقة.
الكتب والمحاضرات
باللغة العربية أما في عالم الكتب فبعد أن قدمت هيئة التوعية في الحج توصياتها إلى الرئاسة العامة للبحوث العلمية والفئات والدعوة والإرشاد للطباعة محاضرات التوعية لعام 1393 هـ، فقد قامت الرئاسة بطباعتها باللغة العربية وتم توزيعها في موسم الحج الحالي.
اللغات العربية والأردية والإنجليزية والفرنسية
وقد قامت الهيئة أيضا بتوزيع أكثر من 60000 كتاب إسلامي بلغات مختلفة كالعربية والأردية والإنجليزية والفرنسية.
المحاضرات
وقد أعد برنامج خاص للمحاضرات الإسلامية قام بإعداده أعضاء الهيئة مقرها " بمنى "، وتم تنفيذه طبقا لخطة مسبقة.
وإذا كانت الخطوط الجوية السعودية تمثل شريانا حيويا يربط المملكة بالعالم الإسلامي خاصة في موسم الحج، فقد قامت اللجنة بالاطلاع على مطبوعاتها ثم أصدرت توصياتها خاصة بطباعتها كي توزع على الحجيج(1/429)
قبل مقدمهم إلى المملكة بوقت كاف.
* * *
الزيارات الشخصية
وإذا كانت الصلات الشخصية تلعب دورا هاما في توثيق الصلة بين أطراف العالم الإسلامي، فقد عمدت اللجنة إلى إقرار برنامج لزيارة كبار الشخصيات من الحجاج وبعثات الحج ومخيمات بعض المطوفين.
وكان لذلك أثر بالغ في النفوس. كما قامت على أثره كثير من الوفود والشخصيات برد هذه الزيارات في مخيم الهيئة بمنى؛ حيث قدمت لهم هدايا من المصاحف الشريفة والكتب الإسلامية.
النشرات
وقد ارتأت اللجنة إعداد نشرة مختصرة تتناول كثيرا من المسائل الهامة التي ينبغي أن يحافظ عليها الحاج ويلتزم بها أثناء حجه.
وتتناول صفة الحج - العمرة - أداء الزيارة.
كما أصدرت نشرة أخرى تتناول - الهدي - النحر - الذبح - وما يتعلق بها من أحكام.
3 - أعيد طبع هذه النشرات بعدة لغات أخرى وتم توزيعها في الموسم.
* * *
ونظرا لأهمية تدارس العقبات التي واجهت أعمال التوعية في العام الماضي والأعوام التي سبقته، فقد قامت اللجنة باستعراضها ومناقشة المقترحات التي قدمت بهذا الصدد.
كان من أهم المقترحات تنظيم الجانب الزمني وإفساح المجال قبل موسم الحج بوقت كاف لوضع المخطط الشامل للعمل وتنفيذه.
ولذا فقد اقترح: العنصر الزمني:
1 - أن تعقد الاجتماعات التمهيدية في النصف الأول من شهر شعبان لاختيار الدعاة، وذلك بعد إقرار المخطط الشامل.
العنصر المكاني: 2 - أن يختار مقر دائم لهيئة التوعية في مكة المكرمة بالقرب من الحرم المكي ما أمكن ذلك، ولا يخفى أن قرب المقر من الحرم ييسر حركة المشتركين في التوعية لصعوبة الحركة من وإلى الحرم خلال الموسم.(1/430)
كما اقترح أن يتوفر في المبنى الشروط الآتية:
أ - أن يكون مناسبا للأهداف التي تضطلع بها الهيئة.
ب - أن يتسع المبنى لقاعة للمحاضرات والندوات، والمؤتمرات، ومكتبة مناسبة للمطالعة، ومكاتب للموظفين.
بالنسبة للمدينة المنورة.
وبعد دراسة واستعراض أوضاع مكتب الهيئة في " المدينة المنورة " فقد اقترح تطوير ذلك المكتب بحيث تتوفر فيها الإمكانيات الإدارية بزيادة عدد الموظفين. وأن يتوفر مكان قريب للحرم النبوي. . لتيسير أداء مهمة هيئة التوعية الإسلامية.
إذاعات الدول الإسلامية
وقد اقترحت اللجنة للاستفادة من إذاعات الدول الإسلامية في نشر التوعية بمناسك الحج وأخلاقه، وذلك بتشكيل لجان خاصة من العلماء المتخصصين وأساتذة الجامعات؛ لتسجيل أشرطة خاصة بتوضيح مناسك الحج وشرح آدابه وأخلاقه.
على أن تكلف هذه اللجان بهذه الأعمال قبل حلول الإجازة الصيفية. كما تقوم أيضا بترجمتها إلى اللغات المطلوبة؛ بحيث تتوفر هذه الأشرطة قبل الموسم طبقا لبرنامج زمني محدد. وعلى أن يتم توزيعها تحت إشراف الهيئة بالتعاون مع وزارة الإعلام في المملكة على الجهات الآتية: أ - إذاعات الدول الإسلامية.
ب - شركات البواخر الناقلة للحجاج.
جـ - شركات الطائرات الناقلة للحجاج.
شركة الطيران السعودية وكان من ضمن المقترحات تطوير دليل الخطوط السعودية بإضافة المعلومات اللازمة للحاج أثناء إقامته بالمملكة، كطرق المملكة والمستشفيات والمراكز الصحية وفئات العملات والفنادق وأحوال المناخ. . . على أن تتم ترجمته إلى عدة لغات. . بالإضافة إلى اللغة العربية والإنجليزية على أن يتم توزيع هذا الدليل على السفارات وشركات الطيران. . إلخ.
* * *
كما اقترح فيما يختص بتوزيع النشرات الآتي:(1/431)
سفارات المملكة في الخارج
أن تقوم السفارات بتوزيع كتب المناسك ونشرات الحج بلغة البلد التي تقوم بها السفارة، والتي يفد منها عدد كبير من الحجاج، ولدى إعطاء الحاج تأشيرة الحج.
شركة الطيران السعودية
وتقوم بنفس المهمة لدى تسليم التذاكر للراغبين في الحج.
مداخل المملكة
وذلك في " عمار " " الخفجي " " سلوى " منطقة الجنوب ويقوم بمهمة التوزيع فيها مكاتب الدعوة.
* * *
التعريف بـ " عرفة "
وذلك بوضع لوحات داخل مسجد نمرة تبين الجزء الداخل في عرفة والجزء الخارج منها؛ حيث إن بعض الحجاج يتخذ من المسجد موضع إقامة ظنا منه أن كله من عرفة.
مراكز موسمية جديدة
إنشاء مراكز موسمية جديدة للتوعية في كل من بدر كدى، رابغ، الجحفة، الطائف، سلوى، الجنوب غار ثور، غار حراء، جبل أبي قبيس، جبل عرفة.
تفرغ الدعاة
وحتى يتمكن الدعاة من مباشرة الأعمال التي أوكلت إليهم، فقد اقترح التأكيد على الجهات الحكومية التي يرشح منها الدعاة على تفريغ مرشحيها للدعوة في المدة المحددة ابتداء من 20 ذي القعدة بالنسبة لمن ينتدبون للعمل خارج مقر عملهم، واعتبارا من العاشر من ذي القعدة لمن يعمل في مقر عمله.
توسعة مسجد السيدة عائشة
وقد أصبحت الحاجة ماسة بعد الزيادة الهائلة في عدد الحجاج. . والمنتظرة في السنوات القادمة أن تتم توسعة مسجد السيدة عائشة رضي الله عنها بالتنعيم، وتخصيص جانب منه للنساء، وزيادة دورات المياه بصورة كافية ويخصص قسم منها للرجال وآخر للنساء.(1/432)
توزيع المخيمات
ولا شك أن تعميم الفائدة يقتضي حسن توزيع أماكن المخيمات، فقد لوحظ تجمع مخيم جامعة الملك عبد العزيز والجامعة الإسلامية ومخيم التوعية في منطقة واحدة، وكلها تقوم ببرنامج محاضرات طيلة أيام منى، ونرى توزيع هذه المخيمات على مناطق مختلفة متباعدة في جهات متعددة منعا للتشويش؛ ولذا تقرر العناية بذلك لرئيس لجنة الحج العليا.
وزارة الحج والأوقاف
وقد أوصت اللجنة بالكتابة لوزارة الحج والأوقاف بإعادة طباعة كتاب (ماذا يجب أن يعرفه المسلم عن دينه باللغات التي طبع بها مع إعادة النظر في طباعة بعض اللغات وخاصة التركية؛ وترجمته إلى اللغات التي لم يترجم بها، كالفارسية وبعض اللغات الأفريقية، كالهوسا واليوربا والسواحلية، وفي حالة عدم استعداد وزارة الحج لذلك نرى أن تقوم رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بنفس المهمة.
الاستضافة
وقد بدا للجنة أن من الأمور الهامة استضافة عدد من رجال الدعوة الإسلامية لدى رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من مختلف البلاد الإسلامية للمشاركة في التوعية، الأمر الذي سيمكن من توسيع رقعة التفاهم بين الحجيج من مختلف الدول الإسلامية.
حفل نهاية الموسم
كما ترى اللجنة إقامة حفل بعد نهاية الموسم يدعى إليه علماء المسلمين والقائمين بالدعوة من الحجاج، ويختار المكان والزمان بمعرفة سماحة الرئيس العام للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
* * *
وسوف تسعى هيئة التوعية الإسلامية في الحج دوما إلى تحقيق الواجبات السامية التي أنيطت بها لخدمة المسلمين في الحج يحدوها الإيمان العميق بقوله تعالى. . {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1)
وكما قال الفيصل -رحمه الله - " إن سكان هذا البلد ليزيدهم شرفا واعتزازا أن أنعم الله سبحانه وتعالى، عليهم بالقيام على خدمة هذه الأماكن المقدسة، وعلى خدمتكم أيها الإخوان حينما تأتون تؤدون فريضتكم وتقضون مناسككم. وهذا نعتبره أكبر فخر وأكبر نعمة نعتز بها بعد نعمة الإسلام.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110(1/433)
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1)
__________
(1) سورة الرعد الآية 11(1/434)
أحمد فرح عقيلان
تراث من نور
كل شيء بقضاء وقدر ... والليالي عبر أي عبر
أمتي تاريخها ذو خطر ... لو تأملناه ما كان الخطر
أمتي أنشودة علوية ... كلما رتلها المجد افتخر
تتحلى بتراث خالد ... هو في جيد المروءات درر
ولها دين أضاءت شمسه ... فاهتدى في نورها ركب البشر
وكتاب أحكمت آياته ... جل من أحكم هاتيك السور
وبيان يكمن السحر به ... مكمن اللؤلؤ في قاع البحر
أمتي ردت أعاصير الردى ... ما رماها كافر إلا انتحر
الصيبيون طاروا شذرا ... وعلى أسيافنا مات التتر
نحن بالإسلام شدنا عزة ... من على صخرتها الكفر انكسر
ونبينا صرح عدل لم يزل ... يرشد الدنيا بأنوار " عمر "(1/435)
وغرسنا سرحة العلم به ... تتحف الأخلاق طلا وثمر
وسكنا مهج الناس على ... سدة الرحمة والحق الأغر
أمتي حاشاك أن تستبدلي ... بكلام الله تضليل البشر
احذري سما تراءى دسما ... وابتساما خلفه الحقد استتر
واحرسي الأقداس من لص إذا ... غافل القوم تعاطى فعقر
واذكري يوم نبذنا نورنا ... وتبد لنا شعارات أخر
كيف عاث الذئب في أسد الشرى ... واستحال العزم ذلا وخور
وإذا ما الأسد صارت هملا ... نبح الرئبال والكلب زأر
أمتي لا تيأسي من جولة ... تصعق الباطل في لم البصر
وإذا الليل دجا فاستبشري ... أن نور الفجر دان منتظر(1/436)
أخبار إسلامية دولية
إنارة الطريق البري للحجاج
17 مليون ريال لإنارة 29 قرية
يعتبر تعميم الكهرباء على كافة قرى ومدن المملكة من أهم الأهداف العامة التي وضعتها الدولة نصب عينيها وتسعى مصلحة الخدمات الكهربائية لتحقيقه، وذلك انطلاقا من توجيهات حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم " حفظه الله " بأن تعم الكهرباء في كل القرى والمدن بالمملكة.
لذا فقد وضعت هذه المصلحة العديد من البرامج الكهربائية لتحقيق انتشار الخدمات الكهربائية لجميع المواطنين بالمملكة، وقد تضمنت هذه البرامج برنامجا خاصا بإنارة القرى الواقعة على الطرق الرئيسية وخاصة الطرق التي يمر بها الحجيج، وذلك بإقامة تجهيزات توليد وشبكات توزيع مبسطة في جميع القرى التي تقع على هذه الطرق ولا يوجد بها خدمات كهربائية، وتنشأ هذه المشاريع بتمويل كامل من الحكومة لتنفيذها، كما يتم تشغيل المشاريع بواسطة مقاولين محليين حتى تتوفر القدرة لدى أهالي تلك القرى لتشغيلها بأنفسهم، ويتضمن هذا البرنامج أيضا إقامة مستودع مركزي في الرياض وله فروع في موانئ المملكة، كجدة والدمام لصرف مجموعات التوليد ولوازم شبكة التوزيع من المستودع المركزي لأية قرية يتقرر إدخالها في البرنامج.
* * *
ومن المعروف أن الحجاج القادمين إلى المملكة عن طريق البر يستعملون معظم الطرق الرئيسية وأن عددهم في تزايد سنويا؛ وحيث إن حكومة جلالة الملك تحرص على راحة الحجيج وتقدم لهم خدمات عديدة منذ دخولهم أرض المملكة حتى وصولهم إلى البيت الحرام وبالعكس عند الإياب، فلا شك أن إظهار القرى التي يمر بها الحجيج على طول الطرق الرئيسية بالمظهر اللائق وتمكين الحجيج المارين(1/437)
من الانتفاع بمزايا التيار الكهربائي سيترك أثرا عميقا وبعيد المدى في نفوسهم، فضلا عن أن توفير التيار في جميع القرى المذكورة سوف يخدم قوى الأمن والخدمات الصحية والاجتماعية الأخرى اللازمة لوفود الحجاج.
وقد أرسلت هذه المصلحة عدة فرق من مهندسيها لعمل مسح كهربائي للقرى الواقعة على الطرق الرئيسية التي يمر بها الحجيج، والتي تحتاج للتيار الكهربائي وتقدير الطاقة الكهربائية المطلوبة لكل قرية، وقد تم مسح تسعة وأربعون قرية لإنارتها قدرت التكاليف الإجمالية لها 24000000 ريال، وقد تم اختيار تسع وعشرون قرية (مرفق كشف بأسمائها والطرق التي تقع عليها) لإنارتها كمرحلة أولى، وقد اعتمد لها في ميزانية العام المالي 94 \ 85 مبلغ 17000000 ريال لتنفيذها، وقد قامت هذه المصلحة باستدراج عروض من الشركات العالمية وهي قيد البت الآن، كما تقوم فرق أخرى من المهندسين والمساحيين والفنيين في الوقت الحالي بمعاينة القرى الداخلة في المرحلة الأولى والإعداد لعملية التصوير الجوي التي تتم بواسطة إحدى الشركات المتخصصة، والتي تعاقدت معها هذه المصلحة للحصول على الخرائط الجوية لتلك القرى حتى تقوم على ضوءها بالعمل على تصميم المشاريع ومتابعة تنفيذها.
* * *
طريق الأردن - المدينة
1 - بئر هرماس.
2 - القلبية.
3 - الثمد - الخرير.
4 - الصلصلة.
طريق المدينة - جدة - مكة.
5 - الفريش.
6 - المسيجيد.
7 - الخيف.
8 - أم ذيان.
9 - الواسطة.
10 - الحسينية.
11 - العالية.
12 - الفارعة.
13 - خيف الجديد.
14 - مستورة.
15 - صعبر.
16 - عسفان.
طريق المدينة مكة رأسا
17 - جمجوم.
18 - تول.
19 - ذهبان.
طريق الكويت - الدمام 20 - المشعاب.
21 - النابية.(1/438)
طريق المدينة القصيم - الرياض 22 - الصويدرة.
23 - الحناكية.
24 - الضريس.
25 - عقلة الصقور.
26 - ثادج.
27 - النبهانية.
28 - المربع.
29 - الدليمية.(1/439)
كلية القرآن الكريم
كلية القرآن الكريم أقدمت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية على خطوة هامة؛ حيث وافق المقام السامي بكتابه رقم 26511 وتاريخ 6 \ 9 \ 1394 هـ على إنشاء كلية القرآن الكريم، ويسرنا إعطاء القراء الكرام في أرجاء العالم الإسلامي معلومات مفيدة عن هذه الكلية الوليدة والتي نرجو لها اطراد التقدم والنجاح. فقد كتب فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الشيخ عبد المحسن العباد حول هذا الموضوع، ونحن ننقل ما قاله فضيلته في جريدة الدعوة العدد 475 بتاريخ 13 \ 10 \ 1394 هـ لأن فضيلته أقرب إلى الحقيقة بحكم عمله كنائب لرئيس الجامعة.
كتب يقول: تلقت الجامعة كتاب المقام السامي رقم 26511 وتاريخ 6 \ 9 \ 1394 هـ يحمل البشرى بالموافقة على إنشاء كلية جديدة في الجامعة الإسلامية باسم " كلية القرآن الكريم " تضم إلى الكليتين القائمتين في الجامعة، هما كلية الشريعة التي أنشئت منذ تأسست الجامعة في عام 1386 هـ وقد تمت الموافقة على إنشاء كلية القرآن الكريم. . .
في شهر القرآن شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. ومن الجدير بالذكر أن هذه الكلية هي أول كلية من نوعها في العالم الإسلامي، فلم يسبق أحد حكومة المملكة العربية السعودية على إنشاء مثل هذه الكلية. ولا غرو فإن هذه الحكومة أيدها الله سباقة إلى كل خير، وقد شرفها الله بخدمة الحرمين الشريفين والمحافظة على مقدسات الإسلام، وقد حظيت بتوفيق الله تعالى بتحكيم القرآن الكريم والسنة المطهرة، فمبادرتها إلى إنشاء هذه الكلية في الجامعة الإسلامية، محافظة منها على دستورها الذي شرفها الله في(1/440)
الانتماء إليه والسير على نهجه وهو من الحفظ الذي تكفل الله به لكتابه العزيز؛ حيث قال {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) وتجدر الإشارة إلى أن المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة في دورته السادسة المنعقدة في شهر ربيع الثاني الماضي قد أوصى بإنشاء هذه الكلية، وأشاد بأهمية إنشائها، وأقر الخطوط الأساسية لها وخطة الدراسة فيها.
وتتميز هذه الكلية عن كليتي الشريعة والدعوة وأصول الدين بالجامعة بشرط مطلوب، وفي راغبي الالتحاق بها وهو حفظ القرآن العظيم.
* * *
وفيما يلي مواد الدراسة في هذه الكلية وتعريف موجز بكل مادة كما في توصيات المجلس الأعلى الاستشاري - الخاصة بهذه الكلية.
1 - تلاوة القرآن الكريم:
تسميع القرآن حفظا بالقراءات السبع المتواترة على أن يسمع كل طالب في بداية الأمر بالقراءة التي عرفها، وحين يتسنى له معرفة القراءات السبع يسمع بها كلها.
2 - المدخل إلى علم القراءات:
تدرس فيه المبادئ الأساسية لعلم القراءات والأصول التي ينبني عليها عند القراء وعلاقة هذا العلم باللغات العربية الفصحى، مع إعطاء نبذة مفصلة لتاريخ نشأته. . ثم تراجم موجزة للقراء المشهورين.
3 - القراءات السبع:
دراسة لقواعد القراءات السبع في الشاطبية مع حفظ نصها وضبطه والاعتماد - في دراستها على المراجع والشروح المعتبرة.
4 - القراءات الشاذة:
دراسة مفصلة لها مع مقدمة في بيان معنى القراءة الشاذة، وأقسامها، وحكمها، وإعطاء تراجم موجزة لبعض القراء الذين يروونها.
5 - توجيه القراءات وعللها:
وهو علم عظيم يدرس فيه وجه كل قراءة وسبب الاختلاف بينها وبين القراءة الأخرى، مع العناية ببيان العلاقة بين القراءات واللغة.
6 - تاريخ المصحف:
مادة تمهيدية لعلمي الرسم والضبط، وتدرس فيه - بشكل مفصل - كتابة المصاحف وجمعها والأطوار التي مرت بها ابتداء بالعهد النبوي إلى العصر الحاضر مع مناقشة بعض الشبهات الواردة في هذا الموضوع.
7 - علم الوقف والابتداء:
دراسة هذا العلم، نظريا وتطبيقيا، حتى يحصل الطالب على ملكة فيه، مع العناية ببيان علاقته بالتفسير.
8 - الرسم والضبط:
دراسة طريقة كتابة المصحف وإملائه كما جاء في مصحف عثمان رضي الله عنه. وكما هو مبين في كتب هذا الفن المعتمدة.
__________
(1) سورة الحجر الآية 9(1/441)
9 - عد الآي:
دراسة عد الآي واختلاف الكوفيين والمدنيين وغيرهم في ذلك، وكذلك بيان الأوائل. . والأجزاء. . والأحزاب. . والأرباع.
10 - علوم القرآن:
دراسة عامة لعلوم القرآن أقسامها، تاريخ نشأتها، نبذة كافية عن كل علم.
11 - إعجاز القرآن وبلاغته:
تدرس هذه المادة بكل عناية حتى يتضح للطالب وجه الإعجاز وبطلان الشبه التي يلبس بها أعداء الإسلام.
12 - التفسير:
آيات يختارها مجلس الكلية ويوافق عليها مجلس الجامعة، ويتم اختيارها من آيات الأحكام وغيرها.
13 - التوحيد:
يقتصر على دراسة عقيدة أهل السنة والجماعة من خلال آيات القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة.
14 - الحديث الشريف: مختارات من الأحاديث الصحيحة ذات الصلة بعلوم القرآن وفضائله.
15 - النحو والصرف:
يدرسان بعناية لشدة تعلق هذين الفنين بالقراءات.
16 - البحث والمراجع:
يمرن الطلاب على البحث والاستفادة من المراجع.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عبد المحسن بن حمد العباد.(1/442)
وثائق تاريخية(1/443)
بيان الديوان الملكي
نعي صاحب الجلالة المغفور له فيصل بن عبد العزيز -رحمه الله - للأمة الإسلامية
فجع الشعب السعودي والعالم أجمع. . ظهر أمس بخبر وفاة المغفور له حضرة صاحب الجلالة الملك فيصل المعظم -رحمه الله -، بمجرد أن أذاعته إذاعة الرياض في الساعة الثانية والدقيقة الثالثة عشرة من بعد الظهر حسب توقيت الرياض الزوالي.
وكانت الإذاعة قد سبق أن أعلنت بيانا للديوان الملكي في ساعة متقدمة من بعد ظهر أمس. . أوضحت أن اعتداء آثما وقع لجلالته رحمه الله وهو يقوم بأعماله الرسمية في مكتبه صباح أمس.
هذا وقد تضمن بيان النعي الصادر من الديوان الملكي الآتي: ببالغ الأسى والحزن ينعي الديوان الملكي باسم صاحب السمو الملكي ولي العهد وكافة أفراد الأسرة، ونيابة عن الأمة حضرة صاحب الجلالة الملك فيصل المعظم -رحمه الله -؛ حيث وافاه الأجل المحتوم متأثرا بجراحه إثر الاعتداء الأثيم الذي قام به الأمير فيصل بن مساعد بن عبد العزيز المعروف باختلال عقله على جلالته فإنا لله وإنا إليه راجعون. تغمد الله جلالته بسابغ رحمته وغفرانه وأسكنه فسيح جنانه، وخلفه في هذه الأمة بتمسكها بعرى دينها القويم وحفظها به وجزاه الله عن الإسلام وهذه الأمة وأمة الإسلام عامة خير الجزاء.(1/444)
المبايعة
كما صدر بيان آخر من الديوان الملكي جاء فيه: " تقرر إقامة الصلاة على حضرة صاحب الجلالة الملك فيصل المعظم -رحمه الله - غدا الأربعاء بعد إقامة صلاة العصر مباشرة في جامع الرياض الكبير تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جناته. إنه سميع مجيب وإنا لله وإنا إليه راجعون ".
وبعد منتصف ظهر أمس صدر بيان من الديوان الملكي بايع فيه أفراد الأسرة المالكة الكريمة ولي العهد الأمير خالد بن عبد العزيز حفظه الله، ملكا على البلاد.
14 ربيع الأول 1395 هـ
وفيما يلي النص الكامل للبيان: " لقد قام أفراد الأسرة وفي مقدمتهم: 1 - صاحب السمو عبد الله بن عبد الرحمن
2 - والأمير ناصر بن عبد العزيز
3 - والأمير محمد بن عبد العزيز
4 - والأمير سعد بن عبد العزيز
5 - والأمير فهد بن عبد العزيز
بمبايعة ولي العهد الأمير خالد بن عبد العزيز ملكا على البلاد. . وبعد إتمام البيعة أعلن صاحب الجلالة الملك خالد بن عبد العزيز ترشيح صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز وليا للعهد. . وقد أجمع أفراد الأسرة على ذلك وقاموا بمبايعة سموه.
وقد تقرر أن يقوم المواطنون بالبيعة لجلالة الملك خالد المعظم " حفظه الله " ولسمو ولي العهد الأمير فهد بن عبد العزيز في قصر الحكم بالرياض. . غدا الأربعاء (اليوم) ابتداء من الساعة العاشرة صباحا بالتوقيت الزوالي.(1/445)
كلمة جلالة الملك خالد بن عبد العزيز حفظه الله
هذا نص كامل للكلمة التي وجهها جلالة الملك خالد بن عبد العزيز المعظم " حفظه الله " إلى أبناء الشعب السعودي، والتي أذاعها معالي الشيخ إبراهيم العنقري، وزير الإعلام.
بقلب ملئ بالحزن والأسى، ومع تسليم كامل لإرادة الله وقضائه أنعي إلى العالمين العربي والإسلامي وإلى شعبنا المخلص الوفي صاحب الجلالة المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز -رحمه الله -، الذي شاء الله أن ينقله إلى جواره في صباح يوم الثلاثاء 13 \ 3 \ 1395 هـ على أثر حادث اعتداء أثيم - في وقت نحن أشد ما نكون في حاجة إلى قيادته، وحكمته وسداد رأيه، وبعد أن عمل بكل جهوده وطاقاته في سبيل الدعوة إلى الله والدفاع عن دينه، وبعد أن أرسى قواعد نهضتها المعاصرة على دعائم ثابتة، بذل في سبيل إرسائها ما لا يحصى من الجهود والطاقات، وبعد أن انتقل بالمملكة العربية السعودية إلى مصاف الدول المتطورة في كل المجالات مع الحفاظ بإصرار على ديننا ومثلنا وتقاليدنا.
وإننا إذ نتلقى الفاجعة بفقده نسأل الله أن يرحمه رحمة شاملة واسعة وأن يجعله مع الصديقين والشهداء والصالحين بمنه وكرمه وأن يعيننا على إكمال رسالته، والسير على منواله، ولا نقول إلا كما يقول الصابرون {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (1)
14 ربيع الأول 1395 هـ
__________
(1) سورة البقرة الآية 156(1/445)
مجلس الوزراء
صدر البارحة أمر ملكي كريم قضى باستمرار جميع أعضاء مجلس الوزراء الحاليين في مناصبهم، وفيما يلي نص الأمر الملكي: أمر ملكي الرقم أ \ 52 تاريخ 16 - 3 - بعون الله تعالى نحن خالد بن عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية، بعد الاطلاع على المادتين الثامنة والحادية عشرة من نظام مجلس الوزراء الصادر بالمرسوم الملكي رقم 38 وتاريخ 22 \ 10 \ 1377 هـ، وبناء على اقتراح رئيس مجلس الوزراء وبناء على ما تقتضيه المصلحة العامة.
أمرنا بما هو آت: أولا: - يستمر جميع أعضاء مجلس الوزراء الحاليين في مناصبهم.
ثانيا: - على رئيس مجلس الوزراء تنفيذ أمرنا هذا.
التوقيع الملكي
خالد بن عبد العزيز
السبت 17 ربيع أول 1395 هـ
هذا ويستقبل - للمرة الثالثة - حضرة صاحب الجلالة الملك خالد بن عبد العزيز المعظم " حفظه الله "، وصاحب السمو الملكي الأمير فهد ابن عبد العزيز ولي العهد المعظم المواطنين في تمام الساعة العاشرة من صباح اليوم في قلب مدينة الرياض، في قصر الحكم بالديرة. وذلك لكي تتمكن جموع المواطنين من تقديم التعازي في فقيد الأمة العربية والإسلامية حضرة صاحب الجلالة المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز طيب الله ثراه، وتقديم الولاء والطاعة بالبيعة لحضرة صاحب الجلالة الملك خالد بن عبد العزيز المعظم " حفظه الله " وصاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد.
هذا وتواصل وفود مختلف المناطق في المملكة التوجه إلى الرياض منذ أن هز سمعها نبأ وفاة المغفور له صاحب الجلالة الملك فيصل المعظم رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.(1/446)
بسم الله الرحمن الرحيم
أمر ملكي - الرقم: أ \ 53 التاريخ: 17 \ 3 \ 1395 هـ بعون الله تعالى: نحن خالد بن عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية، بعد الاطلاع على الفقرة (ب) من المادة الحادية عشرة من نظام مجلس الوزراء الصادر بالمرسوم رقم (38) وتاريخ 22 \ 10 \ 1377 هـ.
وبناء على اقتراح رئيس مجلس الوزراء، وبناء على ما تقتضيه المصلحة العامة أمرنا بما هو آت: أولا: - يعين صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ووزير الداخلية نائبا أول لرئيس مجلس الوزراء.
ثانيا: - يعين صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز رئيس الحرس الوطني نائبا ثانيا لرئيس مجلس الوزراء.
ثالثا: - على رئيس مجلس الوزراء تنفيذ أمرنا هذا.
التوقيع خالد بن عبد العزيز
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
أمر ملكي - الرقم: أ \ 54 التاريخ: 17 \ 3 \ 1395 هـ بعون الله تعالى: نحن خالد بن عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية، بعد الاطلاع على المادة الحادية عشرة من نظام مجلس الوزراء الصادر بالمرسوم الملكي رقم (38) وتاريخ 22 شوال 1377 هـ.
وبناء على اقتراح رئيس مجلس الوزراء، وبناء على مقتضيات المصلحة العامة نأمر بما هو آت: أولا: - يعين صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز وزير دولة للشئون الداخلية وعضوا في مجلس الوزراء.
ثانيا: - على رئيس مجلس الوزراء تنفيذ أمرنا هذا.
التوقيع خالد بن عبد العزيز
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
أمر ملكي - الرقم: أ \ 55 التاريخ: 17 \ 3 \ 1395 هـ بعون الله تعالى: نحن خالد بن عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية، بعد الاطلاع على المادة الحادية عشرة من نظام مجلس الوزراء الصادر بالمرسوم الملكي الرقم (38) وتاريخ 22 شوال 1377 هـ، وبناء على اقتراح رئيس مجلس الوزراء، وبناء على مقتضيات المصلحة العامة نأمر بما هو آت: أولا: - يعين صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل وزير دولة للشئون الخارجية وعضوا في مجلس الوزراء.
ثانيا: - على رئيس مجلس الوزراء تنفيذ أمرنا هذا.
التوقيع خالد بن عبد العزيز
* * *(1/447)
أصدر جلالة الملك خالد بن عبد العزيز أمس مرسوما ملكيا بتعديل الفقرة " ب " من المادة الحادية عشرة من نظام مجلس الوزراء.
كما أصدر جلالته ثلاثة أوامر ملكية بتعيين كل من صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ووزير الداخلية نائبا أول لرئيس مجلس الوزراء، وصاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز رئيس الحرس الوطني نائبا ثانيا لرئيس مجلس الوزراء، وصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز وزير دولة للشئون الداخلية وعضوا في مجلس الوزراء، وصاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل وزير دولة للشئون الخارجية وعضوا في مجلس الوزراء.
وفيما يلي نص المرسوم والأوامر الملكية:
بسم الله الرحمن الرحيم
مرسوم ملكي - الرقم: م \ 20 التاريخ: 17 \ 3 \ 1395 هـ بعون الله تعالى: نحن خالد بن عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية، بعد الاطلاع على المادتين التاسعة عشرة والعشرين من نظام مجلس الوزراء وبناء على قرار مجلس الوزراء رقم (284) وتاريخ 17 \ 3 \ 1395 هـ، وبناء على ما عرضه علينا رئيس مجلس الوزراء، رسمنا بما هو آت: أولا: - تعدل الفقرة (ب) من المادة الحادية عشرة من نظام مجلس الوزراء الصادر بالمرسوم الملكي رقم (38) وتاريخ 22 شوال 1377 هـ لتصبح كالآتي: (النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ونواب مجلس الوزراء الذين يعينون بأمر ملكي بناء على اقتراح ورئيس مجلس الوزراء) .
ثانيا: - على رئيس مجلس الوزراء تنفيذ مرسومنا هذا.
التوقيع: خالد بن عبد العزيز
18 ربيع أول 1395 هـ(1/448)
ترأس صاحب الجلالة الملك خالد بن عبد العزيز المعظم " حفظه الله " في ديوان المعذر في السعة العاشرة والنصف من صباح أمس اجتماعا لمجلس الوزراء ألقى جلالته في بدايته الكلمة التالية: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، أيها الأخوة أعضاء مجلس الوزراء إن المسئولية التي تحملناها عظيمة وشاقة، وإن واجبنا الاستعانة بالله وحده والحرص على بذل كل الجهود في سبيل إنجاز أعمالنا ومراقبة الله في كل خطوة نخطوها والاهتمام بكل ما من شأنه إسعاد هذه الأمة وحفظ دينها وإصلاح دنياها هذا، وسيتم إن شاء الله إصدار بيان شامل يوضح سياسة المملكة في الداخل والخارج والله الموفق.
وقد رد صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد والنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية بكلمة قال فيها: " أرجو يا جلالة الملك أن أكون وإخواني أعضاء المجلس عند حسن ظن جلالتكم بنا في جميع الأمور سواء ما كان منها ما يتعلق بأمور الدولة، أو ما يتعلق بنا من الناحية الشخصية ".
وأضاف سموه: (إننا نأمل أن نوفق إلى رضا الله أولا وقبل كل شيء، ثم رضا جلالتكم، ونأمل أن نوفق لأداء الواجب كما رسمه لنا مؤسس هذه الدولة جلالة المغفور له الملك عبد العزيز، وجلالة المغفور له الملك فيصل طيب الله ثراه ثم جلالتكم، ونرجو من الله أن يهدينا طريق الصواب وهو القادر على ذلك) .
وتفضل جلالة الملك فعقب بكلمة قال فيها:(1/449)
" إن ثقتي فيكم كاملة، وسأقدم لكم كل الدعم والمساعدة لتمكينكم من أداء مسئولياتكم الجسيمة "، وقال جلالته حفظه الله " إن العالم بأسره يطلع اليوم إلى هذه البلاد لما حباها الله من نعمة في الثروة وتمسك بالشريعة الإسلامية ".
هذا وكان صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني، وصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الدولة للشئون الداخلية، وصاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل وزير الدولة للشئون الخارجية قد أدوا صباح أمس اليمين أمام جلالة الملك خالد بن عبد العزيز في ديوان المعذر.
وقد انتهى الاجتماع في الساعة الحادية عشرة والنصف من صباح أمس.
الاثنين 19 ربيع أول 1395 هـ.(1/450)
بيان جلالة الملك خالد بن عبد العزيز حفظه الله
ألقاه سمو ولي العهد الأمير فهد بن عبد العزيز حفظه الله
ألقى صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد المعظم والنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية بيانا عبر شبكات الإذاعة والتليفزيون من جلالة الملك خالد بن عبد العزيز المعظم " حفظه الله " عن سياسة حكومته في 20 \ 3 \ 1395 هـ فيما يلي نصه: أيها الإخوة المواطنون: نيابة عن صاحب الجلالة الملك خالد المعظم " حفظه الله " أتوجه لكم جميعا بالشكر على مشاعر الولاء لجلالته والتأييد لحكومته في القيام بمسئولياتها الجسيمة. ولقد شاءت إرادة الله أن تفقد الشعوب العربية والإسلامية بصفة خاصة، والعالم بأسره بصفة عامة زعيما، مؤمنا بربه، مناضلا من أجل أمته، مدافعا عن مبادئ الحق والعدل، داعيا إلى التعاون الدولي والسلام العالمي.
ولئن كانت فجيعة العالم بفقد صاحب الجلالة الملك فيصل رحمه الله كبيرة، فإن فجيعة الشعب السعودي بفقدان أبيه البار وزعيمه الرائد أشد ألما وأعمق في النفوس حسرة.
ومهما كان من أمر، فإن مما يخفف من هول الفاجعة وعمق المصيبة أن الفيصل -رحمه الله - وإن غاب عنا بجسمه، فقد ترك لنا خطة سياسية واضحة، ونهجا للبناء مدروسا، وأسلوبا في العمل يكفل لشعبه تحقيق آمال قائده الراحل وللأمة العربية والإسلامية استمرار الدور البناء الذي قام به الفيصل -رحمه الله - حتى آخر لحظة من حياته، ويعطي العالم ضمانا بأن المملكة العربية السعودية جزء من الأسرة الدولية تحس بمسؤوليتها الأدبية والقانونية، وتسعى لإرساء قواعد السلام العالمي المبني على الحق والعدل.
وعلى الرغم من أن سياسة الملك الراحل الداخلية والخارجية معروفة للقاصي قبل الداني، فإن حكومتنا تجد من واجبها أن تعيد ذكر أهم أركانها وأسسها، مؤمنة أن في تطبيقها والاستمرار في تنفيذها عزاء لنفوس المؤمنين الصابرين على فقده وسعادة لروح الفيصل -رحمه الله - عند بارئها، وهي تحس برفاهية أبناء الشعب السعودي واستمرار تقدمه وبلوغ الأمة العربية والإسلامية آمالها.(1/451)
وفي المجال الداخلي كانت الشريعة الإسلامية، وستظل إن شاء الله، الراية التي نستظل بها، والمنطق الذي نسير منه، والهدف الذي نسعى إليه، نحتكم لمبادئها ونستضيء بنبراسها ونعض عليها بالنواجذ لا تأخذنا فيها لومة لائم ولا تصدنا عنها عراقيل الزمن، نجد فيها جوهر العدل، والعدل أساس الملك، وتدفعنا مبادئها إلى النهوض والبناء وتحثنا على التكاتف والتآزر في الداخل والخارج.
من هذا المنطلق الإسلامي سوف تستمر حكومتنا في خطتها للتنمية في كافة القطاعات التي غطاها مشروع الخطة الخمسية الثانية، التي توشك على الصدور في المستقبل القريب إن شاء الله، وترجو أن يصاحب تنفيذها ويتلوه تعديلات ملموسة وجوهرية في مستوى معيشة الشعب ورفاهيته وتحقيق أرقى مستويات الضمان الاجتماعي لأفراده، ومكافحة الأمية، وتيسير التعليم بكافة مراحله لجميع أبناء الشعب حتى تتطور الموارد البشرية إلى المستوى الذي يمكننا من القيام بمسئولياتنا الجسيمة في الغد المشرق الذي يتدفق فيه الرخاء، لا من مصدر واحد، لا هو البترول فحسب، بل من الصناعات بكل أنواعها البترولية والتعدينية والثقيلة والخفيفة، ومن الزراعة التي نكتفي بها ذاتيا عن كثير مما نستورد ومن كافة ثرواتنا الطبيعية التي تكمن في أرض وطننا الكبير. . وسوف تستكمل إن شاء الله كافة التجهيزات الأساسية التي تحتاجها النهضة المباركة كالاستمرار في دعم القوات المسلحة وتوفير جميع الإمكانيات اللازمة لها؛ لتكون درعا لوطننا العزيز وقوة للدفاع عن الأمة العربية وقضيتها الكبرى، ودعم المستشفيات لتوفر للشعب العلاج وتقيه شر الأمراض، ووسائل المواصلات والطرق والموانئ والمطارات وغيرها من المواصلات السلكية واللاسلكية. . وسيجد السعودي إن شاء الله أينما تواجد في هذه المملكة الواسعة مسكنا مريحا تؤمن له فيه الكهرباء والماء.
كل هذه الأهداف تقتضي الاستمرار في تقوية أجهزة الدولة الإدارية وتنمية كفايتها وفعاليتها وتطوير أنظمتها، حتى تؤدي الخدمات بعيدة عن الفوضى خالية من الروتين.
ولقد حرص العاهل الراحل أن يقدم لشعبه نظاما أساسيا للحكم مستمدا من كتاب الله ومبادئ الشريعة الإسلامية الغراء، يرسي للعدل قواعده وينظم علاقات السلطات ببعضها، وصلات الحاكم بالمحكوم. . . يكون من دعائمه مجلس للشورى يضطلع بدوره التنظيمي الهام وأعلن، رحمه الله، عن رغبته تلك، وعمل لتحقيقها بتهيئة الجو الملائم لها، وشرع في مراحل التنفيذ. . وشاءت إرادة الله أن يرحل عنا قبل تحقيق رغبته. . وتجد حكومتنا نفسها ملزمة أمام ذكرى العاهل الراحل بإتمام ما تبقى من الشوط وإبراز هذا العمل الهام؛ ليصبح حقيقة ترسي دعائم الاستقرار وتقوى أجهزة الحكم في بلد وصفه العاهل الراحل بقوله: (إن المملكة العربية السعودية تضم شعبا مؤمنا بربه عاشقا للحرية طموحا إلى مستقبل زاهر) .
ولكي تثبت دعائم النظام الأساسي للحكم على قواعد متينة، فسوف تستكمل إن شاء الله جميع الإجراءات التنفيذية لوضع نظام المقاطعات موضع التنفيذ، ليكون هو الآخر لبنة من لبنات بنائنا الشامخ الكبير.
أما سياسة المملكة العربية السعودية الخارجية فقد تولاها العاهل الراحل من عشرات السنين، وأوضح أسسها في أول خطاب بعد بيعته رحمه الله ملكا على البلاد إذ قال: (ولسنا أيضا في حاجة لتكرار الأساس التقليدي الذي تسير عليه سياستنا الخارجية، فنحن منذ أسس هذه الدولة بانيها وواضع أساس نهضتها المغفور له الملك عبد العزيز قد أثبتنا في المجال الدولي إيماننا بالسلام العالمي ورغبتنا في دعمه وتقويته ونشره في ربوع العالم، وكنا ولا نزال نفعل ذلك بوحي من تعاليم ديننا وتقاليدنا العربية الأصيلة. ونحن نؤيد الآن في سبيل ذلك نزع السلاح وتجنيب البشرية مخاطر الأسلحة الفتاكة وندعو إلى حرية تقرير المصير لكل الشعوب وحل المنازعات الدولية بالوسائل السلمية المرتكزة على الحق والعدل) .
وإن من أهم الركائز التي قامت عليها سياستنا الخارجية هي الدعوة للتضامن الإسلامي لرفع شأنه في أقطارهم وتقوية أواصر التعاون بينهم. . .
وحكومتنا إذ تحرص كل الحرص على مواصلة السير في هذا الاتجاه بذات القوة وبنفس الاندفاع، فإنها تؤكد ما أعلنه صاحب دعوة التضامن الإسلامي زعيمنا الراحل بقوله: (إننا لا نستهدف من وراء ذلك نوايا سيئة تجاه الغير أو أن نكون مصدر خطر أو عدوان أو اضطراب بالنسبة للآخرين، وإننا نعتقد أن المسلمين إذا حققوا مبدأ الإرخاء والتعاون والتقدم، فإن نفع ذلك سوف لا ينحصر في المسلمين فقط، ولكنه سيمتد كذلك إلى غيرهم من الأمم الأخرى) .
والركيزة الثانية للسياسة الخارجية التي وضعها العاهل الراحل دعم وحدة الصف العربي وإقامة تعاون عربي حقيقي وفعال بين مختلف الشعوب(1/452)
العربية للمسلمين في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. . .
وهذا ما عبر عنه رحمه الله عندما قال: (يجب على العرب بصفة خاصة أن يتصلوا ببعضهم وأن يتفاهموا وأن يتحابوا ويعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا، ليدرءوا عن أنفسهم وعن مستقبلهم ما يهددهم من أخطار، سواء من الناحية الدينية أو من النواحي السياسية والمذهبية) .
ولقد أثبتت التجارب أن الفرقة تجلب الأخطار، وأن وحدة الصف تدرأها. وسوف تسعى حكومتنا بإيمان عميق لتطبيق ما قاله العاهل الراحل: (إن المملكة العربية السعودية تعتبر نفسها سندا لكل عربي، في خدمة كل عربي تهدف إلى التعاون وإلى التضامن وإلى الإخاء) .
ومن خلال هاتين الركيزتين التضامن الإسلامي ووحدة الصف العربي تنطلق جهود المملكة لإعادة الحقوق المسلوبة لشعب فلسطين واستعادة الأراضي العربية المحتلة، تجند كل طاقتها المادية والبشرية لإعادة الحق المغصوب، وتعتمد في ذلك بعد الله على عدالة قضيتنا وإيمان الشعب السعودي بها، الذي قال الفيصل -رحمه الله - يخاطبه: (حينما أعمل وأصرح وأتكلم فإنما أعتمد بعد الله عليكم. . ولتخليص فلسطين لن تكونوا في المؤخرة بل في المقدمة) .
وحل قضية فلسطين يبدأ من نقطة جوهرية وأساسية هي تخليص القدس العربية المسلمة من براثن الصهيونية وعودتها كما كانت ترفرف عليها راية الإيمان. . ولئن رحل زعيمنا قبل أن يؤدي الصلاة في أولى القبلتين فسوف يؤديها عنه كل أفراد شعبه، وكل المؤمنين، تنطلق من هناك دعواتهم له بالرحمة والرضوان.
وكما تميزت المملكة العربية السعودية بإسلامها وعروبتها وتحملت مسئوليتها كاملة غير منقوصة، فإنها تتميز أيضا بمخزونها البترولي الكبير الذي حملها نحو شعوب العالم مسئولية خاصة تقدر حكومتنا أبعادها ومداها. ولذلك قامت بدور إيجابي في التعبير عن إحساسها بتلك المسئولية، وستعمل جاهدة على تنفيذ سياسة الراحل العظيم لكي لا تطغى الأنانية على مصالح الشعوب، وليحل التفاهم محل المجابهة، وليسود العالم عهد من الرخاء الاقتصادي تسهم فيه المملكة بدلوها وتنال منه حقها. . وهي تؤيد في هذا الصدد روح ونص البيان الصادر من مؤتمر القمة الأول للدول الأعضاء في أوبك.
وحكومتنا لا تقتصر علاقاتها الدولية على الدول الإسلامية والعربية، بل تمدها إلى كل الشعوب والدول المؤمنة بالله المؤمنة بمبادئ الحق والعدل، ونقول للجميع ما قاله الزعيم الراحل: (نريد عالما تسوده الحرية، يسوده السلام، يسوده التعاون، وتسوده المحبة) . . وما قامت به حكومتنا في الماضي وما قد تقوم به في المستقبل دفاعا عن حقوقها وحقوق الأمة العربية والإسلامية مستخدمة كل إمكانياتها، لا يتناقص مع دعوتها للسلام والمحبة، وإنما هو كما قال الفيصل الراحل -رحمه الله -: (إننا لا نقصد بأن نكون معتدين ولا نقصد بأن نغمط حق أي فرد أو جماعة، ولكننا في نفس الوقت لن نقبل ولن نرضى بأن نكون هدفا للاعتداء؛ لأن الرغبة في السلم والرغبة في الإصلاح ليس معناها الخور) .
هذه هي أهم أركان سياسة جلالة الملك الراحل تتعهد حكومتنا أمام الله بالاستمرار فيها، وتلتزم أمام الشعب السعودي بتطبيقها وتنفيذها طالبة في ذلك العون من الله ثم التأييد من كل أفراد شعبها المخلص الأمين مادة يدها تطلب التعاون مع شعوب العالم قاطبة مسالمة من يسالمها مدافعة عن نفسها ضد الاعتداء والمبادئ الهدامة. . سائلة الله أن يحمينا من الدمار والإلحاد وأن ينعم علينا بالرخاء والاستقرار.(1/453)
بسم الله الرحمن الرحيم
{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (1) {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} (3) {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} (4) {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} (5)
صدق الله العظيم
سورة الرعد
__________
(1) سورة الرعد الآية 18
(2) سورة الرعد الآية 19
(3) سورة الرعد الآية 20
(4) سورة الرعد الآية 21
(5) سورة الرعد الآية 22(2/1)
لجنة الإشراف سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
فضيلة الشيخ محمد بن عودة
فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
فضيلة الشيخ عثمان الصالح
أشرف على التحرير الأستاذ جمال النهري
الأستاذ عبد الله البعادي
المراسلات: رئيس التحرير
مجلة البحوث الإسلامية
المملكة العربية السعودية- الرياض
جنوب شارع عسير
تليفون: 43597152- 4596062(2/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض
رئيس التحرير
عثمان الصالح
الإشراف الفني
جمال النهري
مجلة فصلية تصدر كل ثلاثة أشهر
شوال ذي القعدة ذي الحجة 1395
المحرم صفر ربيع الأول 1396(2/3)
الفهرس
1 - خطاب إهداء من جلالة الملك
خالد بن عبد العزيز خادم الحرمين الشريفين حفظه الله 6
2 - خطاب إهداء من حضرة صاحب السمو الملكي الأمير
فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء 7
3 - التمسك بالإسلام حقا هو سبب النصر
في الدنيا والنجاة في الآخرة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 8
4 - على طريق الجسد الواحد إلى مركز اليابسة
على الأرض مكة المكرمة فضيلة الشيخ عثمان الصالح
رئيس التحرير
15
5 - وفي سبيل الله هيئة كبار العلماء 23
6 - الشرط الجزائي هيئة كبار العلماء 61
7 - من زوايا الدعوة إلى الله فضيلة الشيخ عبد الحليم محمود
شيخ الجامع الأزهر
145
8 - النبوة دراسة من القرآن الكريم الدكتور / منيع عبد الحليم محمود 157
9 - شبهات وشعارات حول تطبيق الشريعة الدكتور / علي محمد جريشة 171
10 - تحول العبادات إلى عادات الدكتور / أبو الفتوح البيانوني 185
11 - أحمد بن حنبل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل 199
12 - حسان بن ثابت الدكتور / محمد محمد خليفة 213
13 - الأمومة والطفولة في الإسلام الأستاذ محمد أحمد العرب 241(2/4)
14 - الحسبة والنظام الإداري الدكتور / مصطفى كمال وصفي 265
15 - الحديث عن لو فضيلة الشيخ ناجي الطنطاوي 277
16 - أبحاث جديدة:
إسقاط الكرة الأرضية بالنسبة لمكة المكرمة وتعيين اتجاه القبلة
الدكتور / حسين كمال الدين 289
17 - مسألة الاحتجاج بالشافعي الدكتور إبراهيم ملا خاطر 339
18 - المؤتمرات
مؤتمر رسالة المسجد التحرير 429
19 - كتب جديدة
نظام الأسرة عند ابن تيمية للدكتور محمد أحمد الصالح - التحرير 577
20 - كتب أجنبية
كيف صرت مسلما ترجمة الأستاذ محموط لطفي السراميجي - التحرير 577
21 - تقارير
المسلمون في أميركا
تقرير من البرازيل التحرير 590
22 - أنباء إسلامية التحرير 602(2/5)
مجلة البحوث الإسلامية
تفضل حضرة صاحب الجلالة الملك خالد بن عبد العزيز المعظم على العدد الأول من مجلة البحوث الإسلامية فأهدى هذه الرسالة القيمة إلى رئيس التحرير.
المملكة العربية السعودية الرقم: 10 / 1
الديوان الملكي التاريخ: 3 / 1 / 1396هـ
المكتب الخاص
سعادة الأستاذ عثمان الصالح رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد اطلعنا على العدد الأول من مجلة البحوث الإسلامية وكان إصدارها جيدا يدل على العمل الجاد والجهد المفيد في خدمة العلم والبحث والثقافة.
ونود أن نشكركم وجميع القائمين معكم على ما تبذلونه من الجهود الموفقة لخدمة العلم ورائديه.
راجين للجميع التوفيق والسداد لما فيه خير ديننا وأمتنا. والله يحفظكم.
خالد بن عبد العزيز(2/6)
مجلة البحوث الإسلامية
ديوان سمو ولي العهد.
يسرني بمناسبة إصدار العدد الثاني من مجلة البحوث الإسلامية. .
أن أشيد بما قدمته المجلة من مواد وبحوث مفيدة في عددها الأول راجيا أن يوفق الله أمتنا الإسلامية لكل ما من شأنه عزتهم وكرامتهم التي تكمن في تمسكهم بعقيدتهم الإسلامية.
وخاصة في هذا الوقت الذي يقف فيه معظم بني الإنسان على مفترق الطرق. بسبب النشاط المتزايد يوما بعد يوم من قوى الإلحاد التي تسيرها الصهيونية. باذلة كل جهد في سبيل التشكيك في القيم الروحية وخاصة العقيدة الإسلامية.
وإنني بهذه المناسبة أهيب بعلماء المسلمين ورجال الفكر. . أن يضاعفوا جهودهم وجهادهم في الدعوة إلى الله في كل مجال ومكان.
امتثالا لقوله تعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" صدق الله العظيم.
راجيا الله تعالى أن يجنب أمتنا كل مكروه وأن ينير بصيرتهم
ليروا الحق حقا ويسلكوه.
ويروا الباطل باطلا ويجتنبوه.
إنه سميع مجيب.
فهد بن عبد العزيز آل سعود
ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء(2/7)
التمسك بالإسلام حقا
هو
سبب النصر والنجاة في الآخرة
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخالق ليعبد وحده لا شريك له، وأنزل كتبه وأرسل رسله للأمر بذلك والدعوة إليه كما قال سبحانه:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وقال عز وجل: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (3) {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} (4) وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (5) الآية.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة هود الآية 1
(4) سورة هود الآية 2
(5) سورة النحل الآية 36(2/8)
وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (1) فهذه الآيات وأمثالها كلها تدل على أن الله عز وجل إنما خلق الثقلين ليعبد وحده لا شريك له، وأن ذلك هو الحكمة في خلقهما، كما تدل على أنه عز وجل إنما أنزل الكتب وأرسل الرسل لهذه الحكمة نفسها، والعبادة هي الخضوع له والتذلل لعظمته بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، عن إيمان به سبحانه وإيمان برسله، وإخلاص له في العمل، وتصديق بكل ما أخبر به ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو أصل الدين وأساس الملة وهو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود حق إلا الله، فجميع العبادات من دعاء وخوف ورجاء وصلاة وصوم وذبح ونذر وغير ذلك يجب أن يكون لله وحده، وأن لا يصرف من ذلك شيء لسواه للآيات السابقات، ولقوله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2) الآية الآية، وقوله عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3) وقوله سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (4) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (5) وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (6) {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (7) وقال عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (8) فأبان سبحانه في هذه الآيات أنه المالك لكل شيء وأن العبادة حقه سبحانه، وأن جميع المعبودين من دونه من أنبياء وأولياء وأصنام وأشجار وأحجار وغيرهم لا يملكون شيئا ولا يسمعون دعاء من دعاهم، ولو سمعوا دعاءه لم يستجيبوا له، وأخبر أن ذلك شرك به عز وجل، ونفى الفلاح عن أهله، كما أخبر سبحانه أنه لا أضل ممن دعاء غيره، وأن ذلك المدعو من دون الله لا يستجيب لداعيه إلى يوم القيامة، وأنه غافل عن دعائه إياه، وأنه يوم
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 25
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة الجن الآية 18
(4) سورة فاطر الآية 13
(5) سورة فاطر الآية 14
(6) سورة الأحقاف الآية 5
(7) سورة الأحقاف الآية 6
(8) سورة المؤمنون الآية 117(2/9)
القيامة ينكر عبادته إياه، ويتبرأ منها، ويعاديه عليها، فكفى بهذا تنفيرا من الشرك وتحذيرا منه، وبيانا لخسران أهله وسوء عاقبتهم، وترشد الآيات كلها إلى أن عبادة ما سواه باطلة، وأن العبادة لله وحده، ويؤيد ذلك صريحا قوله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} (1) الآية من سورة الحج.
* * *
وذكر سبحانه في مواضع أخرى في كتابه أن من الحكمة في خلق الخليقة أن يعرف سبحانه بعلمه الشامل وقدرته الكاملة، وأنه عز وجل سيجزي عباده في الآخرة بأعمالهم كما قال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (2) وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (3) {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (4) .
فالواجب على كل ذي لب أن ينظر فيما خلق له، وأن يحاسب نفسه ويجاهدها لله حتى يؤدي حقه وحق عباده، وحتى يحذر ما نهاه الله عنه ليفوز بالسعادة والعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، وهذا العلم هو أنفع العلوم وأهمها وأفضلها وأعظمها، لأنه أساس الملة وزبدة ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وخلاصة دعوتهم، ولا يتم ذلك ولا يحصل به النجاة إلا بعد أن يضاف إليه الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام، وعلى رأسهم إمامهم وسيدهم وخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومقتضى هذا الإيمان تصديقه - صلى الله عليه وسلم - في أخباره وطاعة أوامره وترك نواهيه، وأن لا يعبد الله سبحانه إلا بالشريعة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام. . .
وهكذا كل أمة بعث الله إليها رسولا، لا يصح إسلامها، ولا يتم إيمانها ولا تحصل لها السعادة والنجاة إلا بتوحيدها لله، وإخلاص العبادة له عز وجل، ومتابعة رسولها - صلى الله
__________
(1) سورة لقمان الآية 30
(2) سورة الطلاق الآية 12
(3) سورة الجاثية الآية 21
(4) سورة الجاثية الآية 22(2/10)
عليه وسلم -، وعدم الخروج عن شريعته، وهذا هو الإسلام الذي رضيه الله لعباده، وأخبر أنه دينه كما في قوله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) وقوله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (2) .
* * *
وبهذا يتضح لذوي البصائر أن أصل دين الإسلام وقاعدته أمران:
أحدهما: أن لا يعبد إلا الله وحده، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
الثاني: أن لا يعبد إلا بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالأول يبطل جميع الآلهة المعبودة من دون الله، ويعلم به أن المعبود هو الله وحده، والثاني يبطل التعبد بالآراء والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، كما يتضح به بطلان تحكيم القوانين الوضعية والآراء البشرية ويعلم به أن الواجب هو تحكيم شريعة الله في كل شيء، ولا يكون العبد مسلما إلا بالأمرين جميعا، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (3) {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (4) وقال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (5) وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (6) وقال عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (7) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (8) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (9) وهذه الآيات تتضمن غاية التحذير والتنفير من الحكم بغير
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة آل عمران الآية 19
(3) سورة الجاثية الآية 18
(4) سورة الجاثية الآية 19
(5) سورة النساء الآية 65
(6) سورة المائدة الآية 50
(7) سورة المائدة الآية 44
(8) سورة المائدة الآية 45
(9) سورة المائدة الآية 47(2/11)
ما أنزل الله، وترشد الأمة حكومة وشعبا إلى أن الواجب على الجميع هو الحكم بما أنزل الله والخضوع له والرضا به، والحذر مما يخالفه، كما تدل أوضح دلالة على أن حكم الله سبحانه هو أحسن الأحكام وأعدلها، وأن الحكم بغيره كفر وظلم وفسق وأنه هو حكم الجاهلية الذي جاء شرع الله بإبطاله والنهي عنه، ولا صلاح للمجتمعات ولا سعادة لها ولا أمن ولا استقرار إلا بأن يحكم قادتها شريعة الله، وينفذوا حكمه في عباده، ويخلصوا له القول والعمل، ويقفوا عند حدوده التي حدها لعباده، وبذلك يفوز الجميع بالنجاة والعز في الدنيا والآخرة، كما يفوز بالنصر على الأعداء والسلامة من كيدهم واستعادة المجد السليب، والعز الغابر كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (2) وقال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (4) ولما حذر سبحانه من اتخاذ الكفار بطانة من دون المؤمنين وأخبر أن الكفار لا يألون المسلمين خبالا، وأنهم يودون عنتهم، قال بعد ذلك: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (5) .
* * *
وهذا الأصل الأصيل والفقه الأكبر هو أولى ما كتب فيه الكاتبون، وعني به دعاة الهدى وأنصار الحق، وهو أحق العلوم أن يعض عليه بالنواجذ، وينشر بين جميع الطبقات حتى يعلموا حقيقته ويبتعدوا عما يخالفه.
وإن مجلة البحوث الإسلامية التي اعتزمت الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء في الرياض إصدارها في كل سنة أربع مرات، وصدر منها العدد الأول فلقي رواجا واستحسانا. . . لجديرة بأن تعنى بهذا العلم وأن تستكتب فيه خواص الكتاب
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الأنفال الآية 29
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة آل عمران الآية 120(2/12)
ونخبة حملة الأقلام، حتى ينتشر ذلك بين الأنام، ويعلمه الخاص والعام، لعظم شأنه وشدة الضرورة إليه، ولما وقع بسبب الجهل به في غالب البلدان الإسلامية من الغلو في تعظيم القبور، ولا سيما قبور من يسمونهم بالأولياء واتخاذ المساجد عليها وصرف الكثير من العبادة لأهلها كالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك، ولما وقع أيضا بسب الجهل بهذا الأصل الأصيل في غالب البلاد الإسلامية من تحكيم القوانين الوضعية والآراء البشرية، والإعراض عن حكم الله ورسوله الذي هو أعدل الأحكام وأحسنها. .
فنسأل الله أن يرد المسلمين إليه ردا حميدا وأن يصلح قادتهم، وأن يوفق الجميع للتمسك بشريعة الله والسير عليها والحكم بها والتحاكم إليها والتسليم لذلك والرضا به والحذر مما خالفه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه ومن سار على طريقه واهتدى بهداه إلى يوم الدين.(2/13)
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الاسم: عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله آل باز.
مولده: ولد ببلدة الرياض عاصمة نجد في ذي الحجة عام 1330 هـ.
مشائخه: أخذ عن عدة مشايخ ودرس على أيدي كثيرين. . منهم:
الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمه الله.
الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل الشيخ قاضي الرياض آنذاك، رحمه الله.
الشيخ سعد بن حمد بن عتيق من آل عتيق قاضي الرياض آنذاك، رحمه الله.
الشيخ حمد بن فارس وكيل بيت المال آنذاك، رحمه الله.
الشيخ سعد وقاص البخاري بمكة المكرمة أخذ عليه التجويد خاصة رحمه الله.
الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية - رحمه الله - أخذ عنه كثيرا من العلوم.
أعماله: ولي القضاء في منطقة الخرج أربعة عشر عاما وأشهرا وذلك من عام 1357 إلى 1371 هـ. ولم يكن عمله محصور فيما ذكر بل كان يعني بالشئون العامة ويرسل المسئولين في الداخل والخارج في كل ما من شأنه الإصلاح.
عمل في المعاهد والكليات أول افتتاحها مدرسا عام 1371 إلى 1380 هـ اضطلع بتدريس ثلاثة فنون هي الفقه، والتوحيد، والحديث في كلية الشريعة بالرياض.
أسندت إلى سماحته نيابة رئاسة الجامعة الإسلامية عام 1381 هـ وحتى عام 1390 هـ حيث تولى رئاسة الجامعة إلى أن صدر المرسوم الملكي الكريم رقم أ - 247 في 14 - 10 - 1395 هـ بتعيين سماحته في منصب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بمرتبة وزير وما يزال.(2/14)
على طريق الجسد الواحد
إلى
مركز اليابسة على الأرض مكة المكرمة
فضيلة الشيخ
عثمان الصالح
رئيس الحرير
تلقف العدد الأول من مجلة البحوث الإسلامية، طلاب العلم والعلماء والأدباء من مختلف أقطار العالم الإسلامي، والمراكز الإسلامية فيما سواها من البلاد.
ولقد فرض منهج الشكر النابع من أخلاق الإسلام، أن نتقبل هذا الفيض من الرسائل بالامتنان والتقدير العميق والفحص المتأني.
راجين أن تعتبر كلمتنا هذه احتفاء بكل رسالة من هذه الرسائل على انفراد. . لأننا هكذا تلقيناها. . وكذلك أعملت آثارها في نفوسنا.
ولقد كنا ندرك أن هذه الحفاوة البالغة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. . إنما تعكس ضمنا تلك العواطف الدفينة المتجذرة التي يحملها الشعب الإسلامي في مختلف أوطانه لما يصدر من العمل الإسلامي من مهبط وحيه وبقرب الأرض التي شهدت خطوات رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومعاناته لنشر الرسالة الكريمة التي يدينون بها ويحسون كلما أخذت الأزمات بخناق العالم بحاجتهم الماسة لتطبيقها في حياتهم. .(2/15)
ولقد: توج هذه الرسائل رسالتان كريمتان من القيادة الإسلامية خادمة الحرمين الشريفين. .
أولاهما: من جلالة الملك خالد بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية.
والثانية: من صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي عهدها الأمين.
وهما يدلان على الاهتمام الأصيل والتوجه الخالص المتعمق لتمتين الترابط بين أجزاء الوطن الإسلامي من المنطلق الديني الأصيل، وبواسطة علمائه ورجال الفكر فيه. .
وتنطلق الدعوة التي تهيب بعلماء المسلمين ورجال الفكر أن يضاعفوا " جهودهم " و " جهادهم " في الدعوة إلى الله في كل مجال ومكان.
تنطلق هذه الدعوة من " المركز " الذي يتجه إليه المسلمون.
ثمانمائة مليون مسلم. . . .
خمس مرات، في خمس صلوات، تجمع أطراف الليل والنهار. . أي زمن الحياة كلها، وتوجه قوى العقل والقلب لمركز واحد.
وهو ليس مركز العالم الإسلامي وحده. .
بل هو " مركز اليابسة على الأرض ". . طوعا أو كرها. . !!
ممثلا في " أم القرى ". . مكة المكرمة. . .
* * *
ولعله من حسن الطالع ومجلتنا تتخذ طريقها كي تصبح منبرا هذا مركزه. . وذلك الوطن والشعب الإسلامي وجهته، أن ينشر فيها هذا البحث يدلل على هذه الحقيقة. .
وهي حقيقة هائلة لها أبعادها الروحية والفكرية والمادية التي سوف تسطع بمرور(2/16)
الأيام. .
إذن فكأنما هذا هو قدر هذه المملكة. .
مركز الإسلام فيها وهو مظلتها. . ومصدر استراتيجيات مستقبلها. تحميه ويحميها وهي راضية به. . رضا المؤمن الواثق.
وهي تسعى إليه ويعلنه قادتها. .
في وقت يقف فيه معظم بني الإنسان على مفترق الطرق. .
بسبب النشاط المتزايد يوما بعد يوم من قوى الإلحاد التي تسيرها الصهيونية باذلة كل جهد في سبيل التشكيك في القيم الروحية، وخاصة العقيدة الإسلامية ".
* * *
ولذا: فلم تكن مصادفة أن ينعقد بهذه الديار المقدسة. . في مكة أو قريبا من بطاحها. .
ثلاثة مؤتمرات إسلامية فيما لا يتجاوز عاما واحدا.
المؤتمر العالمي لرسالة المسجد: عقدته رابطة العالم الإسلامي وعلى رأسها فضيلة الشيخ محمد صالح قزاز، وبتوجيه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز مدير الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة آنذاك، والرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي: الذي دعت إليه جامعة الملك عبد العزيز وعلى رأسها سعادة الدكتور محمد عمر الزبير.(2/17)
المؤتمر العالمي الأول للتضامن الإسلامي في مجالات التكنولوجيا: في مجالات التكنولوجيا الذي نفذته جامعة الرياض وعلى رأسها الدكتور عبد العزيز الفدا.
مؤتمر عالمي للفقه الإسلامي: تسهر عليه الآن جامعة الإمام محمد بن سعود، وعلى رأسها العالم الجليل الدكتور عبد الله التركي. .
* * *
ولو اقتصرت الفائدة في هذه المؤتمرات على هذا التلاقح الفكري بين العلماء المسلمين من مختلف أقطار الأرض - يسرت لهم المملكة العربية السعودية هذا اللقاء - لكان في ذلك الكفاية. . ولكن الفائدة أخطر وأجل.
ذلك أن تلاحم وتمازج عقول النخبة من المفكرين والعلماء، في موضوعات محددة اختيرت بعد دراسة لكي يقدموا أبحاثهم فيها.
ثم هم بعد ذلك يلتقون فيتحاورون في حلقات لقاء العلماء، فيخلصون إلى نتائج. . هذه النتائج تنعكس حتما في بلادهم، وفي برامج جامعاتهم، ومؤلفاتهم، وفي توجيه ما يختار للباحثين للحصول على العالمية " الدكتوراه ".
ثم إن هذه النتائج تنعكس من بعد في دورة الثقافة العامة في جسم الأمة كله.
هذه أمثلة. . وأمثلة أخرى كثيرة يعرفها من يتابع فيقرأ البحوث التي قدمت هذه المؤتمرات ويناقش أعضاءها.
هذا ذكر رأيناه ضرورة شكر على واجب. واجب أداه ويؤديه.(2/18)
كل من فكر في هذه المؤتمرات وحدد غاياتها.
كل من سهر على الإعداد لها.
كل من ساهم بالمشاركة فيها. . قل قدر هذه المشاركة أم كبر.
كل من قام على أمانة تنفيذ توصياتها، أو أنجز شيئا من المشروعات المتولدة عنها.
كل من بذل عطاء مخلصا فأجهد فكره أو أنهك جسده.
ثم هو أيضا للدولة وقادتها المخلصين الذين يشملون هذه المؤتمرات برعايتهم، فكرة وتنفيذا وتوصيات.
* * *
لقد أتى على المسلمين حين من الدهر فقدوا فيه مزايا الجسد الواحد. . فإذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وأحسب أن في هذه المؤتمرات صورة من صور استعادة إحساس " الجسد الإسلامي الواحد " بنفسه. . .
ولقد أتاحت لي الدعوات الكريمة التي تلقيتها بمزيد من الغبطة والسرور لحضور هذه المؤتمرات. . الفرصة المواتية لمتابعة أعمالها وأعمال لجانها.
ولقد وجهت جانبا كبيرا من اهتمامي لمتابعة الروح السائدة في تلك المؤتمرات وكان للقاءات الجانبية العديدة للعلماء من مختلف بقاع الأرض. . أثرها البعيد في إدراكي للأمل الذي يزخر به باطن العالم الإسلامي. .
كما تفتحت في هذا الجو المشبع بالعلم والعمل موضوعات وأهداف تجعل من هذه المجلة " ملتقى " أو " مؤتمرا دائما " للفكر الإسلامي الدولي. .
* * *
ولقد كان للأبحاث التي نشرتها هيئة كبار العلماء صداها العميق في مختلف المجامع العلمية الإسلامية. .(2/19)
الأمر الذي يؤكد دور علماء هذه المملكة إلى جانب إخوانهم من العلماء في مختلف أنحاء الوطن الإسلامي. . في بذل المعرفة ومعالجة ما يستجد من المشاكل في المجتمع الإسلامي، بحيث يتابع الفقه الإسلامي كل جديد من شئون الحياة، على أساس من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
كما لا يسعني إلا أن أوجه الشكر لأصحاب الأقلام الجليلة التي ساهمت في كلا العددين: الأول والثاني، وأحسب أن هذه الرسائل التي تلقيناها إنما هي موجهة أصلا لفكر علمائنا الكرام الذين ساهموا في الكتابة إلينا. . .
* * *
كما أنه يسرني أن أوجه الثناء والتقدير للقالب الجديد للمجلة الإسلامية الذي أبرزه التنسيق والتنظيم والإخراج. . الذي أثبت أن تقدم المادة العلمية لا يتنافى مع هذه اللمسات الجديدة، ذلك أن الجمال عنصر أساسي، أبدعه الحكيم العزيز في صياغته المعجزة للكتاب الكريم (1) فلم تكد تخل آية من الكتاب من الإعجاز في استخدام اللون أو الحركة أو الجرس، سواء في مشاهد القيامة أو عروض السماوات والأرض والجبال والبحار والأشجار والدواب، إلى كل ما يزخر به عالمنا. . ما نعلم منه وما لا نعلم.
* * *
وإذا كنت والمسئولون عن المجلة نذكر لسماحة الشيخ الجليل إبراهيم بن محمد آل الشيخ، مساندته، وعونه وإشرافه وتوجيهه وريادته لإصدار العدد الأول من هذه المجلة وقد تشرف اليوم بوزارة العدل وزيرا فإنني لا أنسى ولن أنسى العون الإيجابي والريادة القوية فكريا وعلميا وموضوعيا لسماحة الرئيس الجليل معالي الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الذي كان معنا ولنا كما كان سلفه الصالح.
وإنني لآمل أن يتحقق على يديه ما نصبو إليه لتكون المجلة المجلة مجلة العالم الإسلامي أجمع لحل المشاكل والإرشاد الواثق في دينهم ودنياهم.
__________
(1) انظر التصوير الفني في القرآن للمرحوم الأستاذ سيد قطب.(2/20)
وبعد: فإن هذه الأسطر تعتبر رسالة ودعوة مفتوحة لكل العلماء والمفكرين والباحثين المسلمين للمشاركة بعلمهم في مجابهة مشاكل عالمهم والعالم الإنساني قاطبة. .
نداء إليهم للقيام بواجب العلماء لأمة كانت أول كلمة أنزلت على رسولها - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ. .
ولا شك أنه مما يزيد حماس العلماء وإحساسهم بثقل الأمانة المفروضة عليهم إدراكهم لنسبة الأمية في هذه الأمة والتي قد تتجاوز 70% على وجه العموم. .
في عالم يتسابق إلى المعرفة.
والمعرفة هي وسيلة الحكم والتحكم.
* * *(2/21)
عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال:
«صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب. فقال رجل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع فأوصنا! فقال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا. . فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين. . تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. . وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (1) »
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(2/22)
وفي سبيل الله
هيئة كبار العلماء(2/23)
بيان المراد من قوله تعالى في آية مصارف الزكاة
{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1)
الحمد لله وحده وبعد:
فقد عرض على هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة المنعقدة بمدينة الطائف فيما بين يوم 5 \ 8 \ 94 هـ ويوم 22 \ 8 \ 94 هـ موضوع بيان المراد من قوله تعالى في آية مصارف الزكاة {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) ورغبة في إطلاع قراء مجلة البحوث الإسلامية على هذا البحث القيم نشره بنصه.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فبناء على ما تقرر من إدراج بيان المراد من قوله تعالى في آية مصارف الزكاة، {وفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (3) في جدول أعمال هيئة كبار العلماء لدورتها الخامسة هل هو خاص بالجهاد في سبيل الله أو عام في كل وجه من وجوه البر، أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا مشتملا على أقوال أهل العلم في ذلك مع ذكر مستند كل قول ومناقشته.
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سورة التوبة الآية 60(2/24)
{وَفِي سَبِيلِ اللَّه} (1)
اختلف العلماء رحمهم الله في تعيين المقصود من قوله تعالى في آية حصر أهل الزكاة {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المقصود بذلك الغزاة في سبيل الله، وقد قال بهذا القول جمهور العلماء من المفسرين والمحدثين والفقهاء، وفيما يلي نقل لبعض أقوالهم.
* * *
قال ابن جرير الطبري: (3) وأما قوله {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4) فإنه يعني: وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده بقتال أعدائه وذلك هو غزو الكفار، وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (5) قال: الغازي في سبيل الله، حدثنا ابن
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) الجامع لأحكام القرآن ج9 ص185
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) سورة التوبة الآية 60(2/25)
وكيع قال حدثنا أبي عن سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل عمل عليها ورجل اشتراها بماله. وفي سبيل الله، وابن السبيل، أو رجل كان له جار تصدق عليه فأهداها له (1) » اهـ.
* * *
وقال القرطبي: الثانية والعشرون قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) هم الغزاة وموضع الرباط يعطون ما ينفقون في غزوهم كانوا أغنياء أو فقراء، وهذا قول أكثر العلماء، وهو تحصيل مذهب مالك رحمه الله (3) . اهـ.
* * *
وقال ابن العربي: (المسألة التاسعة عشر قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4) قال مالك: سبل الله كثيرة ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله هاهنا: الغزو، ومن جملة سبيل الله إلا ما يؤثر عن أحمد وإسحاق فإنهما قالا: إنه الحج، والذي يصح عندي من قولهما أن الحج من جملة السبل مع الغزو. لأنه طريق بر فأعطي منه باسم السبيل، وهذا يحل عقد الباب ويخرم قانون الشريعة وينثر سلك النظر. وما جاء قط بإعطاء الزكاة في الحج أثر. وقد قال علماؤنا: ويعطى منها الفقير بغير خلاف؛ لأنه قد سمي في أول الآية، ويعطى الغني عند مالك بوصف سبيل الله تعالى، كان غنيا في بلده أو في موضعه الذي يأخذ به لا يلتفت إلى غير ذلك من قوله الذي يؤثر عنه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: غاز في سبيل الله (5) » .
وقال أبو حنيفة: لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا، وهذه زيادة على النص. وعنده أن الزيادة على النص نسخ، ولا نسخ في القرآن إلا بقرآن مثله أو بخبر متواتر، وقد بينا أنه فعل مثل هذا في الخمس في قوله {وَلِذِي الْقُرْبَى} (6) فشرط في قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفقر، وحينئذ يعطون من الخمس. هذا كله ضعيف حسبما بيناه.
وقال محمد بن عبد الحكم: يعطى من الصدقة في الكراع والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة؛ لأنه كله في سبيل الغزو ومنفعته، وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصدقة
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) الجامع لأحكام القرآن جـ 9 ص 185.
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(6) سورة الأنفال الآية 41(2/26)
مائة ناقة في نازلة سهل بن حثمة إطفاء للثائرة (1) اهـ.
* * *
وقال الجصاص: قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) روى ابن أبي ليلى عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله أو ابن السبيل أو رجل له جار مسكين تصدق عليه فأهدى له (3) » . واختلف الفقهاء في ذلك فقال قائلون: هي للمجاهدين الأغنياء منهم والفقراء، وهو قول الشافعي.
وقال الشافعي: لا يعطى منها إلا الفقراء منهم، ولا يعطى الأغنياء من المجاهدين فإن أعطوا ملكوها وأجزأ المعطي وإن لم يصرفه في سبيل الله؛ لأن شرطها تمليكه وقد حصل لمن هذه صفته فأجزأ، وقد روي أن عمر تصدق بفرس في سبيل الله فوجده يباع بعد ذلك فأراد أن يشتريه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تعد في صدقتك (4) » فلم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم المحمول على الفرس من بيعها. - إلى أن قال -:
وروي عن أبي يوسف فيمن أوصى بثلث ماله في سبيل الله أنه للفقراء الغزاة.
فإن قيل: فقد أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - لأغنياء الغزاة أخذ الصدقة بقوله: «لا تحل لغني إلا في سبيل الله (5) » .
قيل له: قد يكون الرجل غنيا في أهله وبلده بدار يسكنها وأثاث يتأثث به في بيته وخادم يخدمه وفرس يركبه وله فضل مائتي درهم أو قيمتها فلا تحل له الصدقة، فإذا عزم على الخروج في سفر غزو واحتاج من آلات السفر والسلاح والعدة إلى ما لم يكن محتاجا إليه في حال إقامته فينفق الفضل عن أثاثه وما يحتاج إليه في مصره على السلاح والآلة والعدة، فتجوز له الصدقة، وجائز أن يكون الفضل عما يحتاج إليه؛ من دابة الأرض أو سلاح أو شيء من آلات السفر لا يحتاج إليه في المصر فيمنع ذلك جواز إعطائه الصدقة إذا كان ذلك يساوي مائتي درهم، وإن هو خرج للغزو فاحتاج إلى ذلك جاز أن يعطى من الصدقة وهو غني في هذا الوجه، فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الصدقة تحل للغازي الغني» . اهـ (6) .
__________
(1) أحكام القرآن جـ 1 ص 396 ـ 397 الطبعة الأولى عام 1331 هـ.
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(4) صحيح البخاري الزكاة (1489) ، صحيح مسلم الهبات (1621) ، سنن النسائي الزكاة (2617) ، سنن أبو داود الزكاة (1593) ، مسند أحمد بن حنبل (2/55) ، موطأ مالك الزكاة (625) .
(5) سنن الترمذي الزكاة (653) .
(6) أحكام القرآن جـ 3 / 156 ـ 157 المطبعة البهية عام 1347 هـ.(2/27)
وقال السيوطي: في تفسير قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) قال: هم المجاهدون، وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (3) قال: الغازي في سبيل الله. اهـ (4) .
* * *
وقال الخازن: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (5) يعني وفي النفقة في سبيل الله، وأراد به الغزاة فلهم سهم من مال الصدقات فيعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ما يستعينون به على أمر الجهاد من النفقة والكسوة والسلاح والحمولة فيعطون ذلك وإن كانوا أغنياء. اهـ (6) .
* * *
وقال الشوكاني: في تفسيره: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (7) هم الغزاة والمرابطون يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا أغنياء، وهذا قول أكثر العلماء. اهـ (8) .
* * *
وقال ابن حجر العسقلاني: وأما في سبيل الله فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيا كان أو فقيرا إلا أن أبا حنيفة قال: يختص بالغازي المحتاج (9) .
* * *
وقال بدر الدين العيني: قوله {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (10) وهو منقطع الغزاة عند أبي يوسف ومنقطع الحاج عند محمد. وفي المبسوط {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (11) فقراء الغزاة عند أبي يوسف. وعند محمد فقراء الحاج.
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سورة التوبة الآية 60
(4) الدر المنثور جـ 3 ص 252.
(5) سورة التوبة الآية 60
(6) لباب التأويل في معاني التنزيل جـ 3 ص 92
(7) سورة التوبة الآية 60
(8) فتح القدير جـ 2 ص 373
(9) فتح الباري جـ 3 ص 259.
(10) سورة التوبة الآية 60
(11) سورة التوبة الآية 60(2/28)
وقال ابن المنذر: وفي الأشراف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد: سبيل الله هو: الغازي غير الغني، وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة أنه الغازي دون الحاج، وذكر ابن بطال: أنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، ومثله النووي في شرح المهذب، وقال صاحب التوضيح: وأما قول أبي حنيفة: لا يعطى الغازي من الزكاة إلا أن يكون محتاجا فهو خلاف ظاهر الكتاب والسنة. فأما الكتاب فقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) وأما السنة: فروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لعامل عليها أو لغاز في سبيل الله أو غني اشتراها بماله أو فقير تصدق عليه فأهدى لغني أو غارم (2) » .
(قلت) ما أحسن الأدب سيما مع الأكابر، وأبو حنيفة لم يخالف الكتاب ولا السنة وإنما عمل بالسنة فيما ذهب إليه وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحل الصدقة لغني (3) » وقال: المراد من قوله: لغاز في سبيل الله هو الغازي الغني بقوة البدن والقدرة على الكسب لا الغني بالنصاب الشرعي، بدليل حديث معاذ: وردها إلى فقرائهم. اهـ (4) .
* * *
وقال أبو الحسن المباركفوري: اختلفوا في المراد من سبيل الله في آية المصارف فقيل: المراد به الغزاة وعليه الجمهور، قال الباجي: هو الغزو والجهاد قاله مالك وجمهور الفقهاء، وقال الخرقي: وسهم في سبيل الله هم الغزاة، قال ابن قدامة: هذا الصنف السابع من أهل الزكاة ولا خلاف في استحقاقهم ولا خلاف في أنهم الغزاة في سبيل الله؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق هو الغزو. اهـ. ثم اختلف أهل هذا القول فقال الأكثر: أنهم يعطون ما ينفقون في غزوهم وإن كانوا أغنياء.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا منقطعا به.
قال الحافظ: أما سبيل الله فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيا كان أو فقيرا إلا أن أبا حنيفة قال: يختص بالغازي المحتاج - ثم ذكر الأقوال الأخرى في المراد بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (5) ثم قال: والقول الراجح عندي: هو ما ذهب إليه الجمهور من أن المراد به الغزو والجهاد خاصة لأن سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى كأنه مقصور عليه، قال ابن العربي في أحكام القرآن: قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (6) قال مالك: سبل الله كثيرة ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(3) سنن الترمذي الزكاة (652) ، سنن أبو داود الزكاة (1634) ، مسند أحمد بن حنبل (2/192) ، سنن الدارمي الزكاة (1639) .
(4) عمدة القاري جـ 9 ص 45.
(5) سورة التوبة الآية 60
(6) سورة التوبة الآية 60(2/29)
الله هاهنا الغزو لحديث عطاء بن يسار الذي نحن في شرحه وهو حديث صريح مفسر لقوله: " في سبيل الله " في الآية، فيجب حمله عليه ولم أر عنه جوابا شافيا من أحد، وإليه ذهب ابن حزم إذ قال: وأما سبيل الله فهو الجهاد بحق، ثم ذكر حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد من طريق أبي داود (1) وهو الذي رجحه ابن قدامة حيث قال: وهذا أصح؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق إنما ينصرف إلى الجهاد، فإن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما أريد به الجهاد إلا اليسير فيجب أن يحمل ما في هذه الآية على ذلك؛ لأن الظاهر إرادته به انتهى. وهو الذي صححه الخازن في تفسيره حيث قال: والقول الأول هو الصحيح؛ لإجماع الجمهور عليه ورجحه أيضا العلامة القنوجي اليوناني في تفسيره إذ قال: والأول أولى لإجماع الجمهور عليه، وبه فسر الشوكاني في فتح القدير ورجحه، واختاره أيضا غيرهم من المفسرين. اهـ.
* * *
وقال أبو سليمان الخطابي في معرض تعليقه على حديث عطاء بن يسار: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة (2) » ما نصه: (3) .
قلت: فيه بيان أن للغازي - وإن كان غنيا - أن يأخذ الصدقة ويستعين بها في غزوه وهو من - سهم سبيل الله - وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه، وقال أصحاب الرأي: لا يجوز أن يعطى للغازي من الصدقة إلا أن يكون منقطعا به.
قلت: سهم السبيل غير سهم ابن السبيل وقد فرق الله بينهما بالتسمية وعطف أحدهما على الآخر بالواو الذي هو حرف الفرق بين المذكورين المنسوق أحدهما على الأخرى فقال: (9: 6 {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} (4) والمنقطع به هو ابن السبيل، فأما سهم السبيل فهو على عمومه، وظاهره في الكتاب وقد جاء في الحديث ما بينه ووكد أمره فلا وجه للذهاب عنه. اهـ.
* * *
قال ابن الأثير: (5) وسبيل الله عام يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد، حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه.
__________
(1) حديث عطاء بن يسار: '' لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة '' الحديث وقد تقدم ذكره.
(2) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(3) معالم السنة جـ 2 ص 234 ـ 235
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) النهاية في غريب الحديث ص 145 ج2(2/30)
وقال البابرتي على عبارة الهداية {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) منقطع الغزاة عند أبي يوسف رحمه الله. ولا يصرف إلى أغنياء الغزاة عندنا؛ لأن المصرف هو للفقراء، وقوله: منقطع الغزاة أي فقراء الغزاة. . . ولا يصرف إلى أغنياء الغزاة عندنا؛ لأن المصرف هو للفقراء؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - «خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم (2) » .
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) صحيح البخاري الزكاة (1395) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .(2/31)
وقال الشافعي: يجوز؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة (1) » جملة الغزاة في سبيل الله وتأويله الغني بقوة البدن ومعناه أن المستغني بكسبه لقوة بدنه لا يحل له طلب الصدقة إلا إذا كان غازيا يحل لاشتغاله بالجهاد عن الكسب. اهـ (2) .
* * *
وفي الفتاوى الهندية ما نصه: ومنها في سبيل الله وهم منقطعو الغزاة الفقراء منهم عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وعند محمد رحمه الله تعالى منقطعو الحاج الفقراء منهم. هكذا في التبيين، والصحيح قول أبي يوسف رحمه الله تعالى كذا في المضمرات (3) .
* * *
وقال أبو البركات أحمد دردير في شرحه: وأشار للسابع بقوله: ومجاهد أي: المتلبس به إن كان ممن يجب عليه لكونه حرا مسلما بالغا قادرا، ولا بد أن يكون غير هاشمي، ويدخل فيه المرابط وآلته كسيف ورمح تشترى منها، ولو كان المجاهد غنيا حين غزوه كجاسوس يرسل للاطلاع على عورات العدو يعلمنا بها فيعطى ولو كافرا، ولا تصرف الزكاة في سور حول البلد لتحفظ به من الكفار ولا في عمل مركب يقاتل فيها العدو. اهـ (4) .
وقال المواق: ومجاهد وآلته ولو غنيا. ابن عرفه: من الثمانية الأصناف التي تصرف الزكاة فيها سبيل الله. أبو عمرو: ذلك الجهاد والرباط. اللخمي: ويعطى الغازي
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(2) العناية على الهداية هامش على فتح القدير جـ 2 ص 17 ـ 18.
(3) الفتاوى الهندية جـ 1 ص 188.
(4) الشرح الكبير هامش على حاشية الدسوقي جـ 1 ص 456.(2/31)
الفقير حيث غزوه الغني ببلده ويعطى الغزاة المقيمون في نحر العدو _ وإن كانوا أغنياء _ حيث غزوهم، واختلف إذا كان غنيا بالموضع الذي هو به، فقيل: يعطى؛ لحديث «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة؛ لغاز (1) » الحديث، ولأن أخذه في معنى المعاوضة والأجرة إذا كان أوقف نفسه لذلك، ولأن في إعطائه ضربا من الاستئلاف لمشقة ما يكلفون من بذل النفوس. اهـ (2) .
* * *
وقال الإمام الشافعي: ويعطى من سهم سبيل الله جل وعز من غزا من جيران الصدقة فقيرا كان أو غنيا، ولا يعطى منه غيرهم إلا أن يحتاج إلى الدفع عنهم فيعطاه من دفع عنهم المشركين. اهـ (3) .
* * *
وقال النووي على المهذب: قال المصنف رحمه الله تعالى: وسهم في سبيل الله وهم الغزاة إذا نشطوا غزوا، وأما من كان مرتبا في ديوان السلطان من جيوش المسلمين فإنهم لا يعطون من الصدقة بسهم الغزاة؛ لأنهم يأخذون أرزاقهم وكفايتهم من الفيء. قال النووي: ومذهبنا أن سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة يصرف إلى الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان بل يغزون متطوعين، وبه قال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى. (4) .
وقال النووي أيضا في معرض الاحتجاج بما عليه المذهب الشافعي من أن سهم سبيل الله يصرف إلى الغزاة:
واحتج أصحابنا بأن المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل الله تعالى هو الغزو وأكثر ما جاء في القرآن كذلك، واحتج الأصحاب أيضا بحديث أبي سعيد السابق في فصل الغارمين «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة (5) » فذكر منهم الغارم وليس في الأصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة الذين نعطيهم من سهم سبيل الله تعالى. اهـ (6) .
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(2) التاج والإكليل المختصر خليل هامش على مواهب الجليل لشرح مختصر خليل جـ 2 ص 351
(3) الأم للشافعي جـ 2 ص 60.
(4) المجموع جـ 6 ص 211 الطبعة الأولى.
(5) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(6) المجموع وحاشيته الجزء الأول ص 239.(2/32)
وقال ابن قدامة: السابع في سبيل الله وهم الغزاة لا ديوان لهم ولا يعطى منها في الحج. اهـ. وقال في حاشية المقنع على قوله: السابع في سبيل الله: لا خلاف في استحقاقهم وبقاء حكمهم، ولا خلاف في أنهم الغزاة؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق هو الغزو، وقال الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (2) وإنما يستحق هذا الاسم الغزاة الذين لا ديوان لهم وإنما يتطوعون بالغزو إذا نشطوا، وهم الذين لا ديوان لهم أي لا حق لهم في الديوان؛ لأن من له رزق راتب فهو مستغن به فيدفع إليهم كفاية غزوهم وعودهم - إلى أن قال: قوله: (ولا يعطي منها في الحج) في رواية اختارها في المغني وصححها في الشرح، وقاله أكثر العلماء منهم مالك وأبو حنيفة والثوري والشافعي وأبو ثور وابن المنذر؛ لأن سبيل الله حيث أطلق ينصرف إلى الجهاد غالبا. والزكاة لا تصرف إلا لمحتاج إليها كالفقير أو من يحتاجه المسلمون كالعامل. والحج لا نفع منه للمسلمين ولا حاجة بهم إليه، والفقير لا فرض في ذمته فيسقطه، وإن أراد به التطوع فتوفير هذا القدر على ذوي الحاجة أو صرفها في مصالح المسلمين أولى. اهـ (3) .
* * *
وقال المرداوي في أثناء الكلام على أصناف أهل الزكاة:
قوله السابع: (في سبيل الله وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم.) فلهم الأخذ منها بلا نزاع، لكن لا يصرفون ما يأخذون إلا لجهة واحدة. كما تقدم في المكاتب والغارم.
تنبيه: ظاهر قوله: (وهم الذين لا ديوان لهم) أنه لو كان يأخذ من الديوان لا يعطى منها. وهو صحيح لكن بشرط أن يكون فيه ما يكفيه. فإن لم يكن فيه ما يكفيه فله أخذ تمام ما يكفيه. قاله في الرعاية وغيرها.
- إلى أن قال - قوله: (لا يعطى منها في الحج) هذا إحدى الروايتين. اختاره المصنف والشارع، وقالا: هي أصح. وجزم به في الوجيز. اهـ (4) .
* * *
وقال ابن حزم: وأما سبيل الله فهو الجهاد بحق.
حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا ابن السليم حدثنا ابن الأعرابي حدثنا أبو
__________
(1) سورة البقرة الآية 190
(2) سورة الصف الآية 4
(3) المقنع وحاشيته الجزء الأول ص 249
(4) الإنصاف جـ ص.(2/33)
داود حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: الغازي في سبيل الله، أو العامل عليها أو الغارم، أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهداها للغني (1) » .
وقد روي هذا الحديث من غير معمر فأوقفه بعضهم ونقص بعضهم مما ذكر فيه معمر. وزيادة العدل لا يحل تركها.
فإن قيل: قد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن الحج من سبيل الله. وصح عن ابن عباس أن يعطى منها في الحج.
قلنا: نعم، وكل فعل خير من سبيل الله تعالى، إلا أنه لا خلاف في أنه تعالى لم يرد كل وجه من وجوه البر في قسمة الصدقات فلم يجز أن توضع إلا حيث بين النص، وهو الذي ذكرنا. وبالله التوفيق. . اهـ (2) .
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
(1) بأن سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى كأنه مقصور عليه؛ لأن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما يريد به الجهاد إلا اليسير، فيجب أن يحمل قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (3) عليه؛ لأن الظاهر إرادته، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (4)
(2) بأن حديث عطاء بن يسار «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله (5) » الحديث وهو حديث صريح مفسر لقوله تعالى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (6) فيجب حمله عليه.
(3) بما ورد من الآثار الدالة على أن المقصود بسبيل الله الجهاد، ومن ذلك ما ذكره الطبري في تفسيره قال: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (7) قال الغازي في سبيل الله. وما ذكره السيوطي في تفسيره الدر المنثور قال: أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (8) قال: هم المجاهدون. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (9) قال: الغازي في سبيل الله
* * *
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(2) المحلى جـ 6 ص 151 المطبعة المنيرية
(3) سورة التوبة الآية 60
(4) سورة الصف الآية 4
(5) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(6) سورة التوبة الآية 60
(7) سورة التوبة الآية 60
(8) سورة التوبة الآية 60
(9) سورة التوبة الآية 60(2/34)
والقول الثاني: أن المراد بسبيل الله الغزاة والحجاج والعمار، وقد قال بهذا القول مجموعة من العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء، وفيما يلي بعض من أقوالهم:
وقال ابن كثير: وأما في سبيل الله فمنهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان، وعند الإمام أحمد والحسن وإسحاق من سبيل الله؛ للحديث (1) .
* * *
وقال الخازن في تفسير قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) وقال قوم: يجوز أن يصرف سهم سبيل الله إلى الحج. يروى ذلك عن ابن عباس، وهو قول الحسن وإليه ذهب أحمد ابن حنبل وإسحاق بن راهويه. اهـ (3) .
* * *
وقال الشوكاني في تفسيره قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4) وقال ابن عمر: هم الحجاج والعمار، وروي عن أحمد وإسحاق أنهما جعلا الحج من سبيل الله. اهـ (5) .
* * *
وقال القرطبي: الثانية والعشرون - قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (6) هم الغزاة وموضع الرباط - إلى أن قال - وقال ابن عمر: الحجاج والعمار. ويؤثر عن أحمد وإسحاق رحمهما الله أنهما قالا: سبيل الله الحج. وفي البخاري: ويذكر عن أبي لاس: «حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل الصدقة للحج (7) » . ويذكر عن ابن عباس: ويعتق من (زكاة) ماله ويعطى في الحج. خرج أبو محمد عبد الغني الحافظ حدثنا محمد بن محمد الخياش، حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب عن عبد الرحمن بن أبي نعم - ويكنى أبا الحكم - قال: كنت جالسا مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له: يا أبا عبد الرحمن، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله، قال
__________
(1) تفسير القرآن العظيم جـ 2 ص 366
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) لباب التأويل في معاني التنزيل جـ 3 ص 92.
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) فتح القدير جـ 2 ص 373
(6) سورة التوبة الآية 60
(7) مسند أحمد بن حنبل (4/221) .(2/35)
ابن عمر: فهو كما قال في سبيل الله: فقلت: أما زدتها فيما سألت عنه إلا غما، قال: فما تأمرني يا ابن أبي نعم، آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون فيعتدون في الأرض ويقطعون السبيل؟ قال: قلت فما تأمرها. قال: آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين، إلى حجاج بيت الله الحرام، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، ليسوا كوفد الشيطان، ثلاثا يقولها، قلت: يا أبا عبد الرحمن وما وفد الشيطان؟ قال: قوم يدخلون على هؤلاء الأمراء فينمون إليهم الحديث ويسعون في المسلمين بالكذب فيجازون الجوائز ويعطون عليه العطايا. اهـ (1) .
* * *
وقال الجصاص: وإن أعطى حاجا منقطعا به أجزأ أيضا، وقد روي عن ابن عمر أن رجلا أوصى بماله في سبيل الله فقال ابن عمر: إن الحج في سبيل الله فاجعله فيه، وقال محمد بن الحسن في السير الكبير في رجل أوصى بثلث ماله في سبيل الله أنه يجوز أن يجعل في الحاج المنقطع به، وهذا يدل على أن قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) قد أريد به عند محمد الحج المنقطع به، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الحج والعمرة من سبيل الله. اهـ (3) .
* * *
وقال البخاري: باب قوله تعالى: {الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4) ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعتق من زكاة ماله ويعطى في الحج. وقال الحسن: إن اشترى أباه من الزكاة جاز ويعطى في المجاهدين والذي لم يحج ثم تلا {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (5) الآية في أيهما أعطيت أجزأت. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن خالدا احتبس أدراعه في سبيل الله (6) » ويذكر عن أبي لاسن: «حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل الصدقة للحج (7) » .
* * *
وقال المجد تحت باب الصرف في سبيل الله وابن السبيل: وعن ابن لاس الخزاعي قال: «حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل من الصدقة إلى
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن، ص 185.
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) أحكام القرآن جـ 3 ص 156 المطبعة البهية.
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) سورة التوبة الآية 60
(6) صحيح البخاري الزكاة (1468) ، صحيح مسلم الزكاة (983) ، سنن النسائي الزكاة (2464) ، سنن أبو داود الزكاة (1623) ، مسند أحمد بن حنبل (2/323) .
(7) صحيح البخاري جـ 2 ص 104.(2/36)
الحج (1) » ، رواه أحمد وذكره البخاري تعليقا، وعن أم معقل الأسدية أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله وأنها أرادت العمرة فسألت زوجها البكر فأبى فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له، فأمره أن يعطيها، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحج والعمرة في سبيل الله (2) » رواه أحمد. وعن يوسف بن عبد الله بن سلام عن جدته أم معقل قالت: «لما حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع - وكان لنا جمل - فجعله أبو معقل في سبيل الله، وأصابنا مرض وهلك أبو معقل وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ من حجته جئته فقال: يا أم معقل ما منعك أن تخرجي؟ قلت: لقد تهيأنا فهلك أبو معقل وكان لنا جعل هو الذي نحج عليه فأوصى به أبو معقل في سبيل الله قال: فهلا خرجت عليه فإن الحج من سبيل الله (3) » رواه أبو داود.
قال الشوكاني: حديث ابن لاس سيأتي الكلام عليه. وحديث أم معقل أخرجه بنحو الرواية الأولى أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وفي إسناده رجل مجهول، وفي إسناده أيضا إبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي الكوفي، وقد تكلم فيه غير واحد. وقد اختلف على أبي بكر بن عبد الرحمن فيه. فروي عنه عن رسول الله مروان الذي أرسله إلى أم معقل عنها. وروي عنه عن أم معقل بغير واسطة، وروي عنه عن أبي معقل. والرواية الثانية التي أخرجها أبو داود في إسنادها محمد بن إسحاق وفيه مقال معروف.
قوله: ابن لاس هكذا في نسخ الكتاب الصحيحة بلفظ ابن والذي في البخاري: أبي لاس، وكذا في التقريب من ترجمة عبد الله بن غنيمة. ولاس بسين مهملة خزاعي، اختلف في اسمه فقيل زياد وقيل عبد الله بن عنمه، بمهمله ونون مفتوحتين - وقيل غير ذلك، له صحبة وحديثان هذا أحدهما، وقد وصله مع أحمد ابن خزيمة والحاكم وغيرهما من طريقه، قال الحافظ: ورجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته.
وأحاديث الباب تدل على أن الحج والعمرة من سبيل الله، وأن من جعل شيئا من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحجاج والمعتمرين، وإذا كان شيئا مركوبا جاز حمل الحاج والمعتمر عليه، وتدل أيضا على أنه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من الزكاة إلى قاصدي الحج والعمرة. اهـ (4) .
* * *
وقال المباركفوري في معرض كلامه عن المراد بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (5) وقيل المراد منه منقطع الحاج، وبه قال محمد، وروي عن أحمد وإسحاق أن الحج أيضا في سبيل الله يعني أن الحج من جملة السبل مع الغزو؛ لأنه طريق بر، إلى أن قال:
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/221) .
(2) سنن أبو داود المناسك (1988) ، مسند أحمد بن حنبل (6/406) .
(3) سنن أبو داود المناسك (1989) .
(4) نيل الأوطار جـ 4 ص 180 ـ 181 الطبعة الثانية 1371.
(5) سورة التوبة الآية 60(2/37)
قلت: واحتج للقول الثاني بما روى أبو داود عن ابن عباس أن امرأة قالت لزوجها أحجني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جملك فلان قال: ذاك حبيس في سبيل الله الحديث، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله (1) » وبما روي عن أم معقل الأسدية أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله وأنها أرادت الحج. . الحديث، وفيه: فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيها البكر، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحج من سبيل الله (2) » أخرجه أحمد وغيره، وبما روي عن أبي لاس قال «حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل من الصدقة للحج (3) » . ذكره البخاري تعليقا بصفة التمريض ووصله أحمد وابن خزيمة والحاكم، وقال الشوكاني: حديث أم معقل وحديث أبي لاس يدلان على أن الحج من سبيل الله وأن من جعل شيئا من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحاج، وإذا كان شيئا مركوبا جاز حمل الحاج عليه، ويدلان أيضا على أنه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من الزكاة على قاصدي الحج انتهى. وبما روى أبو عبيد في الأموال عن أبي معاوية، وابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي جعفر؛ كلاهما عن الأعمش عن حسان أبي الأشرس عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا أن يعطى الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق منه الرقبة. وبما روي عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهما في سبيل الله فقيل له: أتجعل في الحج؟ فقال: أما إنه من سبل الله. أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح عنه. اهـ (4) .
* * *
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1990) .
(2) سنن الدارمي الوصايا (3304) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/221) .
(4) المرآة على المشكاة جـ 3 ص 117.(2/38)
وقال الكاساني في معرض كلامه عن المراد من قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) وقال محمد: المراد منه الحاج المنقطع؛ لما روي «أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحمل عليه الحجاج» . اهـ (2) .
* * *
وقال أبو الفرج ابن قدامة في معرض كلامه عن المراد بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (3) وروي عنه أن الفقير يعطى قدر ما يحج به الفرض أو يستعين به فيه يروى إعطاء الزكاة في الحج عن ابن عباس، وعن ابن عمر: الحج من سبيل الله، وهو قول إسحاق؛ لما روي: أن رجلا جعل ناقة له في سبيل الله فأرادت امرأته الحج فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - «اركبيها فإن الحج من سبيل الله (4) » . (5) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) بدائع الصنائع جـ 2 ص 45 الطبعة الأولى.
(3) سورة التوبة الآية 60
(4) سنن الدارمي الوصايا (3304) .
(5) الشرح الكبير جـ 2 ص 702(2/38)
وقال البهوتي: والحج من السبيل أيضا، روي عن ابن عباس وابن عمر؛ لما روي أبو داود أن رجلا جعل ناقته في سبيل الله فأرادت امرأته الحج فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - اركبيها فإن الحج من سبيل الله فيأخذ إن كان فقيرا من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو فرض عمرة أو يستعين به فيه أي في فرض الحج والعمرة؛ لأنه يحتاج إلى إسقاط الفرض، وأما التطوع فله عنه مندوحه، وذكر القاضي جوازه في النفل كالفرض وهو ظاهر كلام أحمد والخرقي وصححه بعضهم؛ لأن كلا من سبيل الله، والفقير لا فرض عليه فهو منه كالتطوع. اهـ (1) .
* * *
وقال النووي - ناسبا القول بكون الحج من سبيل الله إلى الإمام أحمد - ما نصه: وقال أحمد رحمه الله تعالى في أصح الروايتين عنه: يجوز صرفه إلى مريد الحج. وروي مثله عن ابن عمر رضي الله عنهما. واستدل له بحديث أم معقل الصحابية رضي الله عنها قالت: «لما حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع وكان لنا جعل فجعله أبو معقل في سبيل الله وأصابنا مرض فهلك أبو معقل وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ من حجه جئته فقال: يا أم معقل ما منعك أن تخرجي معنا؟ قالت قلت: لقد تهيأنا فهلك أبو معقل وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه فأوصى به أبو معقل في سبيل الله، قال: فهلا خرجت عليه فإن الحج في سبيل الله (2) » .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحج فقالت امرأة لزوجها: أحججني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما عندي ما أحججك عليه، فقالت: احججني على جملك فلان قال: ذلك حبيس في سبيل الله عز وجل. فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله إنها سألتني الحج معك قالت: أحججني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ما عندي ما أحججك عليه. فقالت: أحججني على جملك فلان، فقلت: ذلك حبيس في سبيل الله، فقال: أما إنك لو حججتها عليه كان في سبيل الله وإنها أمرتني أن أسألك ما يعدل حجة معك؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقرئها السلام ورحمة الله تعالى وبركاته وأخبرها أنها تعدل حجة يعني عمرة في رمضان (3) » رواهما أبو داود في سننه في أواخر كتاب الحج في باب العمرة، والثاني إسناده صحيح، وأما الأول حديث أم معقل فهو من رواية محمد بن إسحاق، وقال فيه: وهو مدلس إذا قال: عن، لا يحتج به بالاتفاق. اهـ (4) .
__________
(1) كشاف القناع من متن الإقناع جـ 2 ص 256.
(2) سنن أبو داود المناسك (1989) .
(3) سنن أبو داود المناسك (1990) .
(4) المجموع جـ 6 ص 212 ـ 213 المطبعة المنيرية.(2/39)
واستدل أصحاب هذا الرأي بما استدل به أصحاب القول الأول بالنسبة لإرادة الغزاة من كلمة في سبيل الله.
وأما بالنسبة لدخول الحجاج والعمار في ذلك فقد استدلوا عليه بما روى أبو داود عن ابن عباس أن امرأة قالت لزوجها: أحججني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جملك الفلاني قال ذاك حبيس في سبيل الله. . . الحديث، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله (1) » وبما روي عن أم معقل الأسدية أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله وأنها أرادت الحج - وفيه: فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيها البكر وقال: «الحج في سبيل الله (2) » أخرجه أحمد وغيره. وبما روي عن أبي لاس قال: «حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل من الصدقة للحج (3) » ذكره البخاري تعليقا ووصله أحمد وابن خزيمة والحاكم. وبما روى أبو عبيد في الأموال عن أبي معاوية وابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي جعفر كلاهما عن الأعمش عن حسان أبي الأشرس عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج، وبما روي عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهما في سبيل الله فقيل له: أتجعل في الحج؟ فقال: أما إنه من سبيل الله. أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح عنه.
وقال القرطبي في تفسيره. خرج أبو محمد عبد الغني الحافظ حدثنا محمد بن محمد الخياش حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب عن عبد الرحمن بن أبي نعم - ويكني أبا الحكم - قال: كنت جالسا مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له: يا أبا عبد الرحمن إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله. قال ابن عمر: فهو كما قال في سبيل الله. فقلت: أما زدتها فيما سألت عنه إلا غما، قال: فما تأمرني يا ابن أبي نعم آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون فيعتدون في الأرض ويقطعون السبيل؟ قال: قلت فما تأمرها، قال: آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين إلى حجاج بيت الله الحرام أولئك وفد الرحمن أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن ليسوا كوفد الشيطان. ثلاثا يقولها.
وقد أجيب بما يلي:
1 - بأن المتبادر إلى الأفهام من كلمة (سبيل الله) في آية المصارف هو الغزو.
وقال المباركفوري: وأما الأحاديث التي استدل بها أهل القول الثاني فقد أجيب عنها بوجهين
الأول: الكلام فيها إسنادا، فإن حديث ابن عباس في إسناده عامر بن عبد الواحد الأحول وقد تكلم فيه أحمد والنسائي، وقال الحافظ: صدوق يخطئ، وقد روى الشيخان عن ابن عباس نحو هذه القصة وليس عندهما أنه جعل جملة حبيسا في سبيل الله ولا
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1990) .
(2) سنن الدارمي الوصايا (3304) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/221) .(2/40)
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أحججتها عليه كان في سبيل الله (1) » .
وأما حديث أم معقل ففيه اضطراب كثير واختلاف شديد في سنده ومتنه حتى تعذر الجمع والترجيح، مع ما في بعض طرقه من راو ضعيف ومجهول ومدلس قد عنعن، وهذا مما يوجب التوقف فيه، وذلك لا شك فيه، من ينظر في طرق هذا الحديث في مسند الإمام أحمد وفي السنن مع حديث ابن عباس عند الشيخين وأبي داود وابن أبي شيبة ومع قصة أم طليق عند ابن السكن وابن منده والدولابي وقد حمل ذلك بعضهم على وقائع متعددة، ولا يخفى بعده.
وأما حديث أبي لاس فقال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته. اهـ.
* * *
ويشير بذلك إلى ما حكي عنه أنه قال: إن ثبت حديث ابن لاس قلت بذلك. قال الحافظ: وتعقب بأنه يحتمل أنهم كانوا فقراء وحملوا عليها خاصة ولم يتملكوها انتهى.
وأما أثر ابن عباس فهو أيضا مضطرب صرح به أحمد كما في الفتح، وقد بين اضطرابه الحافظ، ولذلك كف أحمد عن القول بالإعتاق من الزكاة تورعا، وقيل: بل رجع عن هذا القول.
والثاني: أنه لا ينكر أن الحج من سبيل الله بل كل فعل خير من سبل الله لكن لا يلزم من هذا أن يكون السبيل المذكور في هذه الأحاديث هو المذكور في الآية، فإن المراد في هذه الأحاديث المعنى الأعم وفي الآية نوع خاص منه وهو الغزو والجهاد؛ لحديث أبي سعيد، وإلا فجميع الأصناف من سبيل الله بذلك المعنى. قال ابن حزم فإن قيل: قد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الحج من سبيل الله، وصح عن ابن عباس أن يعطى منها في الحج.
قلنا: نعم وكل فعل خير فهو من سبيل الله تعالى إلا أنه لا خلاف في أنه تعالى لم يرد كل وجه من وجوه البر في قسمة الصدقات فلم يجز أن توضع إلا حيث بين النص وهي الذي ذكرنا. انتهى.
وقال ابن قدامة: هذا - أي عدم صرف الزكاة في الحج - أصح؛ لأن الزكاة إنما تصرف إلى أحد رجلين؛ محتاج إليها كالفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم، وابن السبيل أو من يحتاج إليه المسلمون كالعامل والغازي والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين، والحج من الفقير لا نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم إليه ولا حاجة به أيضا إليه؛ لأن الفقير لا فرض عليه فيسقط، ولا مصلحة في إيجابه عليه وتكليفه مشقة قد رفهه الله منها وخفف عنه إيجابها. وأما الخبر (يعني حديث أن «الحج في سبيل الله (2) » فلا يمنع أن يكون الحج من سبيل الله، والمراد بالآية غيره لما ذكرناه. انتهى.
وقال ابن الهمام متعقبا على الاستدلال المذكور، ثم فيه نظر؛ لأن المقصود ما هو المراد بسبيل الله المذكور في الآية والمذكور في الحديث لا يلزم كونه إياه؛ لجواز أنه أراد الأمر الأعم وليس ذلك المراد في الآية بل نوع مخصوص، وإلا فكل الأصناف في سبيل الله بذلك المعنى. انتهى.
وقال صاحب تفسير المنار بعد الكلام في سند حديث أم معقل ما لفظه: وأقول من جهة المعنى
أولا: إن جعل أبي معقل جملة (في سبيل الله) أو وصيته به صدقة تطوع وهي لا يشترط فيها أن تصرف في هذه الأصناف التي قصرتها عليها الآية.
وثانيا: إن حج امرأته عليه ليس تمليكا
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1990) .
(2) سنن الدارمي الوصايا (3304) .(2/41)
لها يخرج الجمل على بقائه على ما أوصى به أبو معقل، ويقال مثل هذا في حديث أبي لاس.
وثالثا: أن الحج من سبيل الله بالمعنى العام للفظ، والراجح المختار أنه غير مراد في الآية. انتهى (1) .
* * *
وقال أبو الفرج ابن قدامة: ولأن الزكاة إنما تصرف لأحد رجلين: محتاج إليها كالفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم، أو من يحتاج إليه المسلمون كالعامل والغارم والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين، والحج للفقير لا نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم إليه ولا حاجة به أيضا؛ لأن الفقير لا فرض عليه فيسقطه، ولا مصلحة له في إيجابه عليه وتكليفه مشقة قد رفهه الله منها وخفف عنه إيجابها، وتوفير هذا القدر على ذوي الحاجة من سائر الأصناف أو صرفه في مصالح المسلمين أولى. اهـ (2) .
القول الثالث: أن المراد بذلك جميع وجوه البر؛ لأن اللفظ عام فلا يجوز قصره على بعض أفراده إلا بدليل صحيح ولا دليل على ذلك؛ ولقد قال بهذا القول مجموعة من العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء، وفيما يلي بعض من أقوالهم:
* * *
قال الفخر الرازي: إن ظاهر اللفظ في قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (3) لا يوجب القصر على الغزاة - ثم قال - فلهذا المعنى نقل القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد؛ لأن قوله: (في سبيل الله) عام في الكل. اهـ (4) .
* * *
وقال الخازن في تفسيره: وقال بعضهم أن اللفظ عام فلا يجوز قصره على الغزاة فقط، ولهذا أجاز بعض الفقهاء صرف سهم سبيل الله إلى جميع وجوه الخير من
__________
(1) المرآة على المشكاة جـ 3ـ ص 117، 118
(2) الشرح الكبير جـ 2 ص 701.
(3) سورة التوبة الآية 60
(4) تفسير الرازي ج 16ص 113.(2/42)
تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك، قال: لأن قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) عام في الكل فلا يختص بصنف دون غيره. اهـ (2) .
* * *
وقال محمد جمال الدين القاسمي: ثم ذكر تعالى الإعانة على الجهاد بقوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (3) فيصرف على المتطوعة في الجهاد ويشترى لهم الكراع والسلاح. وقال الرازي: لا يوجب قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4) القصر على الغزاة. ولذا نقل القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء جواز صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون، وعمارة المساجد؛ لأن قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (5) عام في الكل. انتهى.
ولذا ذهب الحسن وأحمد وإسحاق إلى أن الحج من سبيل الله فيصرف للحجاج منه، قال في الإقناع وشرحه: والحج من سبيل الله نصا. وروي عن ابن عباس وابن عمر؛ لما روى أبو داود: أن رجلا جعل ناقة في سبيل الله فأرادت امرأته الحج فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - «اركبيها فإن الحج من سبيل الله (6) » فيأخذ إن كان فقيرا من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو عمرة أو يستعين به فيه وكذا في نافلتهما؛ لأن كلا من سبيل الله. انتهى.
قال ابن الأثير: وسبيل الله عام يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه. انتهى.
وقال في التاج: كل سبيل أريد به الله عز وجل - وهو بر - داخل في سبيل الله. اهـ (7) .
* * *
وقال أحمد مصطفى المراغي في تفسيره قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (8)
وسبيل الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته ومثوبته، والمراد به الغزاة والمرابطون للجهاد، وروي عن الإمام أحمد أنه جعل الحج من سبيل الله. ويدخل في ذلك جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد ونحو ذلك.
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) لباب التأويل في معاني التنزيل جـ 3 ص 92
(3) سورة التوبة الآية 60
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) سورة التوبة الآية 60
(6) سنن الدارمي الوصايا (3304) .
(7) محاسن التأويل جـ 8 ص 3181 مطبعة الحلبي.
(8) سورة التوبة الآية 60(2/43)
والحق أن المراد بسبيل الله مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد كتأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج وإن لم يوجد مصرف آخر، وليس منها حج الأفراد؛ لأنه واجب على المستطيع فحسب. اهـ (1) .
* * *
وقال الألوسي: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) أريد بذلك عند أبي يوسف منقطعو الغزاة، وعند محمد: منقطعو الحجيج وقيل: المراد طلبة العلم، واقتصر عليه في الفتاوى الظهيرية، وفسره في البدائع بجميع القرب فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله تعالى وسبل الخير. اهـ (3) .
* * *
__________
(1) تفسير المراغي جـ 10 ص 145 مطبعة الحلبي.
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) روح المعاني ج 10 ص 123 المطبعة المنيرية.(2/44)
وقال السيد رشيد رضا في تفسيره المنار بعد استعراضه الأقوال التي قيلت في المراد بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) ما نصه:
والتحقيق أن سبيل الله هنا مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد، وأن حج الأفراد ليس منها؛ لأنه واجب على المستطيع دون غيره، وهو من الفرائض العينية بشرطه كالصلاة والصيام لا من المصالح الدينية الدولية. . . ولكن شعيرة الحج وإقامة الأمة لها منها فيجوز الصرف من هذا السهم على تأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج إن لم يوجد لذلك مصرف آخر. اهـ (2) .
وقال أيضا: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (3) وهو يشمل سائر المصالح الشرعية العامة التي هي ملاك أمر الدين والدولة، وأولاها بالتقديم الاستعداد للحرب بشراء السلاح وأغذية الجند وأدوات النقل وتجهيز الغزاة - إلى أن قال - ومن أهم ما ينفق في سبيل الله في زماننا هذا إعداد الدعاة إلى الإسلام وإرسالهم إلى بلاد الكفار من قبل جمعيات منظمة تمدهم بالمال الكافي. اهـ (4) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) تفسير المنار جـ 10 ص 585
(3) سورة التوبة الآية 60
(4) تفسير المنار جـ 10 ص 587.(2/44)
وقال السيد قطب رحمه الله رحمه الله {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) وذلك باب واسع يشمل كل مصلحة للجماعة تحقق كلمة الله، وفي أولها إعداد العدة للجهاد وتجهيز المتطوعين وتدريبهم وبعث البعوث للدعوة إلى الإسلام وبيان أحكامه وشرائعه للناس أجمعين وتأسيس المدارس والجامعات التي تربي الناشئة تربية إسلامية صحيحة فلا نكلهم إلى مدارس الدولة تعلمهم كل شيء إلا الإسلام ولا مدارس المبشرين تعتدي على طفولتهم وحداثهم وهم لا يملكون رد العدوان. اهـ (2) .
* * *
وقال الحسين السيافي في معرض كلامه على قول زيد رحمه الله:
ولا يعطى من الزكاة في كفن ميت ولا بناء مسجد ولا تعتق منها رقبة. قال: وذهب من أجاز ذلك إلى الاستدلال بدخولهما في صنف سبيل الله إذ هو طريق الخير على العموم وإن كثر استعماله في فرد مدلولاته وهو الجهاد لكثرة عروضه في أول الإسلام كما في نظائره لكن لا إلى حد الحقيقة المعرفية فهو باق على الوضع الأول فيدخل فيه جميع أنواع القرب على ما يقتضيه النظر في المصالح العامة والخاصة إلا ما خصه الدليل وهو ظاهر عبارة البحر في قوله: قلنا ظاهر سبيل الله العموم إلا ما خصه الدليل. اهـ (3) .
* * *
قال صديق حسن خان: أما سبيل الله فالمراد هنا الطريق إليه عز وجل، والجهاد - وإن كان أعظم الطرق إلى الله عز وجل - لا دليل على اختصاص هذا السهم به، بل يصح صرف ذلك في كل ما كان طريقا إلى الله عز وجل، هذا معنى الآية لغة. والواجب الوقوف على المعاني اللغوية حيث لم يصح النقل هنا شرعا. اهـ (4) .
* * *
وقال الصنعاني في الكلام على حديث «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة (5) » الحديث: كذلك الغازي يحل له أن يتجهز من الزكاة وإن كان غنيا؛ لأنه ساع
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) في ظلال القرآن جـ 10 ص 82.
(3) الروض النضير شرح مسند الإمام زيد جـ 2 ص 622 الطبعة الثانية.
(4) الروضة الندية جـ 1 ص 206.
(5) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .(2/45)
في سبيل الله.
قال الشارح: ويلحق به من كان قائما بمصلحة عامة من مصالح المسلمين، كالقضاء والإفتاء والتدريس - وإن كان غنيا -. وأدخل أبو عبيد من كان في مصلحة عامة في العاملين. وأشار إليه البخاري حيث قال: (باب رزق الحاكم والعاملين عليها) وأراد بالرزق ما يرزقه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين كالقضاء والفتيا والتدريس فله الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غنيا. (اهـ المقصود (1) .
* * *
وقال المباركفوري: وقيل اللفظ عام فلا يجوز قصره على نوع خاص، ويدخل فيه جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك. نقل ذلك القفال عن بعض الفقهاء من غير أن يسميه كما في حاشية تفسير البيضاوي لشيخزاده، وإليه مال الكاساني إذ فسره بجميع القرب، قال في البدائع: سبيل الله عبارة عن جميع القرب ويدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجا. وقال النووي في شرح مسلم: وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء أنه يجوز صرف الزكاة في المصالح العامة وتأول عليه هذا الحديث أي ما روى البخاري في القسامة أنه - صلى الله عليه وسلم - وداه - أي الذي قتل بخيبر - مائة من إبل الصدقة. اهـ (2) .
* * *
وقال الكاساني: وأما قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (3) عبارة عن جميع القرب فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجا. اهـ (4) .
* * *
وذكر الشيخ محمود شلتوت رحمه الله أن معنى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (5) أنه المصالح العامة التي لا ملك فيها لأحد، والتي لا يختص بالانتفاع بها أحد، فملكها، ومنفعتها لخلق
__________
(1) سبل السلام جـ 2 ص 198 مطبعة الاستقامة) .
(2) المرآة على المشكاة جـ 3 ص 117.
(3) سورة التوبة الآية 60
(4) بدائع الصنائع جـ 2 ص 45.
(5) سورة التوبة الآية 60(2/46)
الله، وأولاها وأحقها: التكوين الحربي الذي ترد به الأمة البغي وتحفظ الكرامة، ويشمل العدد والعدة على أحدث المخترعات البشرية، ويشمل المستشفيات عسكرية ومدنية، ويشمل تعبيد الطرق، ومد الخطوط الحديدية، وغير ذلك مما يعرفه أهل الحرب والميدان، ويشمل الإعداد القوي الناضج لدعاة إسلاميين يظهرون جمال الإسلام وسماحته. ويفسرون حكمته، ويبلغون أحكامه، ويتعقبون مهاجمة الخصوم لمبادئه بما يرد كيدهم إلى نحورهم، وكذلك يشمل العمل على دوام الوسائل التي يستمر بها حفظة القرآن الذي تواتر - ويتواتر بهم - نقله كما أنزل من عهد وحيه إلى اليوم، وإلى يوم الدين إن شاء الله (1) .
وأفتى من مسأله عن جواز صرف الزكاة في بناء المساجد فكان جوابه:
" إن المسجد الذي يراد انشاؤه أو تعميره " إذا كان هو المسجد الوحيد في القرية أو كان بها غيره ولكن يضيق بأهلها، ويحتاجون إلى مسجد آخر، صح شرعا صرف الزكاة لبناء هذا المسجد أو إصلاحه، والصرف على المسجد في تلك الحالة يكون من المصرف الذي ذكره في آية المصارف الواردة في سورة التوبة باسم سبيل الله.
وهذا مبني على اختيار أن المقصود بكلمة سبيل الله المصالح العامة التي ينتفع بها المسلمون كافة ولا تخص واحدا بعينه، فتشمل المساجد والمستشفيات ودور التعليم ومصانع الحديد والذخيرة وما إليها مما يعود نفعه على الجماعة.
وأحب أن أقرر هنا أن المسألة محل خلاف بين العلماء - ثم ذكر، ما نقله الرازي في تفسيره عن القفال من صرف الصدقات في جميع وجوه الخير ثم قال: وهذا ما أختاره واطمئن إليه وأفتي به، ولكن مع القيد الذي ذكرناه بالنسبة للمساجد، وهو أن يكون المسجد لا يغني عنه غيره وإلا كان الصرف إلى غير المسجد أولى وأحق " (2) اهـ.
* * *
وسئل الشيخ حسين مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق عن جواز الدفع لبعض الجمعيات الخيرية الإسلامية من الزكاة. فأفتى بالجواز، مستندا إلى ما نقله الرازي عن القفال وغيره في معنى سبيل الله (3) .
وقد استدل أصحاب هذا القول على قولهم بما يأتي:
__________
(1) الإسلام عقيدة وشريعة ص 97 ـ 98 الأزهر.
(2) الفتاوى لشلتوت ص 219.
(3) فتاوى شرعية الشيخ مخلوف جـ 2.(2/47)
إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على بعض أفراده دون سائرها إلا بدليل ولا دليل على ذلك، وما قيل بأن حديث عطاء بن يسار: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة (1) » وذكر منهم غاز في سبيل الله يعين أن سبيل الله هو الغزو فغير صحيح، ذلك أن غاية ما يدل عليه الحديث هو أن المجاهد يعطى من سهم سبيل الله ولو كان غنيا، وسبل الله كثيرة لا تنحصر في الجهاد في سبيل الله.
* * *
جاءت الأحاديث والآثار بتطبيق العموم في مدلول قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) فقد اعتبرت السنة الحج والعمرة من سبيل الله، يتضح ذلك من حديث أبي لاس وحديث أم معقل وحديث ابن عباس وفيه «أما أنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله (3) » وقد جاءت الآثار عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باعتبار الحج سبيلا من سبل الله، فقد ذكر أبو عبيد في كتابه الأموال بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لا يرى بأسا أن يعطى الرجل من زكاة ماله للحج. وما أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح إلى ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهما في سبيل الله فقيل له: أتجعل في الحج؟ قال: أما إنه من سبيل الله. وما ذكره القرطبي في تفسيره من أن عبد الرحمن بن أبي نعم قال: كنت جالسا مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له: يا أبا عبد الرحمن إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله - وفيه - آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين إلى حجاج بيت الله الحرام أولئك وفد الرحمن أولئك وفد الرحمن أولئك وفد الرحمن.
كما اعتبرت السنة إشاعة الألفة بين المسلمين وتطييب خواطرهم وحفظ حقوقهم سبيلا من سبل الله. . ففي صحيح البخاري في باب القسامة قال: حدثنا أبو نعيم حدثنا سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار زعم «أن رجلا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلا وقالوا للذي وجد فيهم: قد قتلتم صاحبنا قالوا ما قتلنا ولا علمنا فانطلقوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا قتيلا فقال: الكبر الكبر فقال لهم: تأتون بالبينة على من قتله؟ قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون، قالوا: لا نرضى بأيمان يهود، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطل دمه فوداه من إبل الصدقة (4) » .
* * *
قال ابن حجر: ووقع في رواية ابن أبي ليلى: فوداه من عنده. وقد جمع بعضهم بين الروايتين بأن المراد من قوله: من عنده أي بيت المال المرصد للمصالح. قال
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سنن أبو داود المناسك (1990) .
(4) صحيح البخاري الديات (6898) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4523) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .(2/48)
ابن حجر: وقد حمله بعضهم على ظاهره، فحكى القاضي عياض عن بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المصالح العامة، واستدل بهذا الحديث وغيره. قلت: وقد تقدم شيء من ذلك في كتاب الزكاة، وفي الكلام على حديث أبي لاس قال «حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل الصدقة في الحج (1) » . وعلى هذا فالمراد بالعندية كونها تحت أمره وحكمه، وللاحتراز من جعل ديته على اليهود أو غيرهم. قال القرطبي في " المفهم ": فعل - صلى الله عليه وسلم - ذلك على مقتضى كرمه وحسن سياسته وجلبا للمصلحة ودرءا للمفسدة على سبيل التأليف ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق. اهـ (2) .
وذكر النووي في معرض شرحه حديث القسامة قال: وقال الإمام أبو إسحاق المروزي من أصحابنا يجوز صرفها من إبل الزكاة لهذا الحديث فأخذ بظاهره. اهـ (3) .
ورأى حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه يجوز الإعتاق من الزكاة، ففي صحيح البخاري تحت: باب قول الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4) ويذكر ابن عباس - رضي الله عنهما - يعتق من زكاة ماله ويعطى في الحج. وقال الحسن إن اشترى أباه من الزكاة جاز ويعطى في المجاهدين والذي لم يحج، ثم تلا: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (5) الآية في أيها أعطيت أجزأت. قال ابن حجر: ووصله أبو عبيد في كتاب الأموال من طريق حسان بن أبي الأشرس عن مجاهد عنه أنه كان لا يرى بأسا أن يعطى الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق منه الرقبة.
وأخرج عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: أعتق من زكاة مالك. اهـ (6) .
تعبير النبي - صلى الله عليه وسلم - بمن التبعيضية في حديث أم معقل في قوله: فإن الحج في سبيل الله يشعر أن سبيل الله الوارد في آية مصارف الزكاة على عمومه وأنه يتناول مجموعة من الأمور وأن الحج منها. وبمثل تعبيره - صلى الله عليه وسلم - عبر ابن عمر فقال عن الحج: أما إنه من سبيل الله.
وقد أجيب عن القول بعموم اللفظ بأجوبة، منها ما ذكره المباركفوري حيث قال:
وأما القول الثالث فهو أبعد الأقوال؛ لأنه لا دليل عليه من كتاب ولا من سنة صحيحة أو سقيمة ولا من إجماع ولا من رأي صحابي ولا من قياس صحيح أو فاسد بل هو مخالف للحديث
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/221) .
(2) فتح الباري جـ 12 ص 235 المطبعة السلفية.
(3) شرح صحيح مسلم ج11 ص 147
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) سورة التوبة الآية 60
(6) فتح الباري جـ 3 ص 331 المطبعة السلفية.(2/49)
الصحيح الثابت وهو حديث أبي سعيد، ولم يذهب إلى هذا التعميم أحد من السلف إلا ما حكى القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء المجاهيل، والقاضي عياض عن بعض العلماء غير المعروفين قال صاحب تفسير المنار: أما عموم مدلول هذا اللفظ فهو يشمل كل أمر مشروع أريد به مرضاة الله تعالى باعلاء كلمته وإقامة دينه وحسن عبادته ومنفعة عباده ولا يدخل فيه الجهاد بالمال والنفس إذا كان لأجل الرياء والسمعة. وهذا العموم لم يقل به أحد من السلف ولا الخلف ولا يمكن أن يكون مرادا هنا؛ لأن الإخلاص الذي يكون للعمل في سبيل الله أمر باطني لا يعلمه إلا الله تعالى فلا يمكن أن تناط به حقوق مالية دولية.
وإذا قيل: إن الأصل في كل طاعة من المؤمن أن تكون لوجه الله تعالى فيراعى هذا في الحقوق عملا بالظاهر اقتضى هذا أن يكون كل مصل وصائم ومتصدق وتال للقرآن وذاكر الله تعالى ومميط الأذى عن الطريق مستحق بعمله هذا للزكاة الشرعية فيجب أن يعطى منها ويجوز له أن يأخذ منها وإن كان غنيا، وهذا ممنوع بالإجماع أيضا وإرادته تنافي حصر المستحقين في الأصناف المنصوصة؛ لأن هذا الصنف لا حد لجماعاته فضلا عن أفراده، وإذا وكل أمره إلى السلاطين والأمراء تصرفوا فيه بأهوائهم تصرفا تذهب حكمة فرضية الصدقة من أهلها. انتهى.
* * *
وأما ما يذكر للاحتجاج لذلك من رواية البخاري في دية الأنصاري الذي قتل بخيبر مائة من إبل الصدقة فهو مخالف لما روى البخاري أيضا في قصته أنه رداه من عنده، وجمع بين الروايتين بأنه اشتراه من أهل الصدقة بعد أن ملكوها ثم دفعها تبرعا إلى أهل القتيل حكاه النووي عن الجمهور، وعلى هذا فلا حجة فيه لمن ذهب إلى التعميم. وإذا تقرر هذا فلا يجوز صرف الزكاة في عمارة المساجد والمعاهد الدينية وبناء الجسور وإصلاح الطرق والشوارع وتكفين الموتى وقضاء ديونهم وغير ذلك من أنواع البر؛ لأنه ليس هذا في شيء من المصارف المنصوصة، وهو مذهب أحمد كما يظهر من المغني (667 2) ومالك كما في المدونة (59 \ 2) وسفيان وأهل العراق وغيرهم من العلماء كما في الأموال لأبي عبيد (ص 610) ، هذا وقد ألحق بعض العلماء بالغازي من كان قائما بمصلحة من مصالح المسلمين كالقضاء والإفتاء والتدريس - وإن كان غنيا - وأدخله بعضهم في العاملين فأجاز له الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غينا ولا يخفى ما فيه.
وقال صاحب المنار: إن سبيل الله هنا مصالح المسلمين الشرعية التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد والأشخاص وأن الحج ليس منها. قال: وأولها وأولاها بالتقديم الاستعداد للحرب بشراء السلاح وأغذية الجند وأدوات النقل وتجهيز الغزاة، قال: ويدخل في عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية والخيرية وإشراع الطرق وتعبيدها ومد الخطوط الحديدية العسكرية لا التجارية، ومنها بناء البوارج المدرعة والمنطادات والطيارات الحربية والحصون والخنادق(2/50)
قال: ويدخل فيه النفقة على المدارس للعلوم الشرعية وغيرها مما تقوم به المصلحة العامة، وفي هذه الحالة يعطى منها معلمو هذه المدارس ما داموا يؤدون وظائفهم المشروعة التي ينقطعون بها عن كسب آخر ولا يعطى عالم غني لأجل علمه وإن كان يفيد الناس به انتهى.
قلت: حديث أبي سعيد ينافي هذا التعميم؛ لكونه كالنص في أن المراد بسبيل الله المطلق في الآية هم الغزاة والمجاهدون خاصة فيجب الوقوف عنده. اهـ (1) .
ومنها ما ذكره الشيخ يوسف القرضاوي حيث قال ما نصه:
ولكن الرد الصحيح على القائلين بهذا الرأي يكون بتحديد المراد من (سبيل الله) هل هو خاص بالغزو والقتال - كما هو رأي الجمهور - أم هو عام يشمل كل بر وخير وقربة - كما هو رأي من ذكرنا - وكما يدل عليه عموم اللفظ.
ولكي نحدد هذا المراد تحديدا دقيقا، علينا أن نستعرض موارد هذه الكلمة في القرآن، لنبين ماذا يراد بها حيث وردت، فخير ما يفسر القرآن بالقرآن.
* * *
__________
(1) المرآة على المشكاة جـ 3 ص 118 ـ 119(2/51)
سبيل الله في القرآن
ذكرت كلمة " في سبيل الله " في القرآن العزيز بضعا وستين مرة (1) .
1 - فتارة تجر بحرف في " في سبيل الله " كما في آية مصارف الزكاة هذه، وهو أكثر ما ورد في القرآن، وتارة تجر بحرف " عن " " عن سبيل الله " وذلك في ثلاثة وعشرين موضعا من القرآن.
وفي هذه المواضع جاءت بعد واحد من فعلين؛ إما الصد مثل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا} (2) 167 النساء، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (3) 36 الأنفال. وإما الإضلال مثل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (4) 6 لقمان.
2 - وحينما تجر بـ " في " - وهو أكثر ما ورد في القرآن - يكون ذلك بعد فعل الإنفاق: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (5) أو الهجرة {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (6) أو الجهاد {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (7)
__________
(1) راجع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
(2) سورة النساء الآية 167
(3) سورة الأنفال الآية 36
(4) سورة لقمان الآية 6
(5) سورة البقرة الآية 195
(6) سورة الحج الآية 58
(7) سورة البقرة الآية 218(2/51)
أو القتال أو القتل: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} (1) {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} (2) أو المخمصة أو الضرب وما يشبهها.
* * *
__________
(1) سورة التوبة الآية 111
(2) سورة البقرة الآية 154(2/52)
فما المراد بسبيل الله في القرآن؟
إن السبيل في اللغة هو الطريق. وسبيل الله هو الطريق الموصل إلى رضاه ومثوبته، وهو الذي بعث الله النبيين ليهدوا الخلق إليه، وأمر خاتم رسله بالدعوة إليه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (1) النحل. وأن يعلن في الناس {هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2) يوسف.
وهناك سبيل آخر مضاد هو سبيل الطاغوت. وهو الذي يدعو إليه إبليس وجنوده، وهو الذي ينتهي بصاحبه إلى النار وسخط الله، وقد قال الله تعالى مقارنا بين الطريقين وأصحابهما: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} (3) النساء.
وسبيل الله دعاته قليلون، وأعداؤه الصادون عنه كثيرون {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (4) {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (5) {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (6) هذا إلى أن تكاليف هذا الطريق تجعل أهواء النفوس مخالفة له صادة عنه، ولهذا جاء التحذير من اتباع الهوى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (7)
وإذا كان أعداء الله يبذلون جهودهم وأموالهم ليصدوا عن (سبيل الله) فإن واجب أنصار الله من المؤمنين أن يبذلوا جهودهم، وينفقوا أموالهم في (سبيل الله) وهذا ما فرضه الإسلام، فجعل جزءا من الزكاة المفروضة يخصص لهذا المصرف الخطير (وفي سبيل الله) كما حث المؤمنين بصفة عامة على إنفاق أموالهم في (سبيل الله) .
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة النساء الآية 76
(4) سورة الأنفال الآية 36
(5) سورة لقمان الآية 6
(6) سورة الأنعام الآية 116
(7) سورة ص الآية 26(2/52)
معنى سبيل الله إذا قرن بالإنفاق
والمتتبع لكلمة (سبيل الله) مقرونة بالإنفاق يجد لها معنيين:
1 - معنى عام - حسب مدلول اللفظ الأصلي - يشمل كل أنواع البر والطاعات وسبل الخيرات. وذلك كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) وقوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) فلم يفهم أحد من هذه الآية خاصة أن سبيل الله فيها مقصور على القتال وما يتعلق به، بدليل ذكر المن والأذى. وهما إنما يكونان عند الإنفاق على الفقراء وذوي الحاجة، وبخاصة الأذى. وكذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) فالمراد بسبيل الله في هذه الآية المعنى الأعم - كما قال الحافظ ابن حجر (4) - لا خصوص القتال -، وإلا لكان الذي ينفق ماله على الفقراء والمساكين واليتامى وابن السبيل ونحوها - دون خصوص القتال - داخلا في دائرة الكانزين المبشرين بالعذاب.
وزعم بعض المعاصرين: أن كلمة (في سبيل الله) إذا قرنت بالإنفاق كان معناها الجهاد جزما ولا تحتمل غيره مطلقا (5) وهو زعم غير مبني على الاستقراء التام لموارد الكلمة في الكتاب العزيز، وآيتا البقرة والتوبة المذكورتان تردان عليه.
2 - والمعنى الثاني معنى خاص، وهو نصرة دين الله ومحاربة أعدائه وإعلاء كلمته في الأرض، {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (6) والسياق هو الذي يميز هذا المعنى الخاص من المعنى العام السابق، وهذا المعنى هو الذي يجيء بعد القتال والجهاد مثل: {قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (7) {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (8)
ومن ذلك قوله تعالى بعد آيات القتال في سورة البقرة: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (9) فالإنفاق هنا إنفاق في نصرة الإسلام وإعلاء كلمته على أعدائه المحاربين له الصادين عنه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 261
(2) سورة البقرة الآية 262
(3) سورة التوبة الآية 34
(4) فتح الباري جـ 3 ص 172
(5) النظام الاقتصادي في الإسلام د تقي الدين النبهاني، من منشورات حزب التحرير ص 208 ط ثالثة.
(6) سورة الأنفال الآية 39
(7) سورة آل عمران الآية 167
(8) سورة البقرة الآية 218
(9) سورة البقرة الآية 195(2/53)
ومثل ذلك قوله تعالى في سورة الحديد: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (1) فالسياق يدل على أن الإنفاق هنا كالإنفاق في الآية السابقة.
وفي سورة الأنفال قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (2) .
فالمقام يدل بوضوح على أن سبيل الله في الآية هو محاربة أعداء الله ونصرة دين الله، كما صرح بذلك الحديث الصحيح: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (3) » .
وهذا المعنى الخاص هو الذي يعبر عنه أحيانا بالجهاد والغزو. وتفسيرنا له بنصرة الإسلام أولى، وإلا لكان مضمون معنى {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4) جاهدوا في الجهاد.
* * *
__________
(1) سورة الحديد الآية 10
(2) سورة الأنفال الآية 60
(3) متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري
(4) سورة البقرة الآية 218(2/54)
سبيل الله في آية مصارف الزكاة
وإذا كان لسبيل الله مع الإنفاق هذان المعنيان: العام والخاص - كما ذكرنا - فما المراد به معنا في الآية التي حددت مصارف الزكاة، والإنفاق ملحوظ فيها وإن لم يذكر لفظه؟ إن الذي أرجحه أن المعنى العام لسبيل الله لا يصلح أن يراد هنا؛ لأنه بهذا العموم يتسع لجهات كثيرة، لا تحصر أصنافها فضلا عن أشخاصها، وهذا ينافي حصر المصارف في ثمانية، كما هو ظاهر الآية، وكما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات(2/54)
حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء (1) » كما أن سبيل الله بالمعنى العام يشمل إعطاء الفقراء والمساكين وبقية الأصناف السبعة الأخرى؛ لأنها جميعها من البر وطاعة الله، فما الفرق إذن بين هذا المصرف وما سبقه وما يلحقه؟
إن كلام الله البليغ المعجز يجب أن ينزه عن التكرار بغير فائدة. فلا بد أن يراد به معنى خاص يميزه عن بقية المصارف، وهذا ما فهمه المفسرون والفقهاء من أقدم العصور، فصرفوا معنى سبيل الله إلى الجهاد، وقالوا: إنه المراد به عند إطلاق اللفظ. ولهذا قال ابن الأثير: إنه صار لكثرة الاستعمال فيه كأنه مقصور عليه، كما نقلنا عنه في أول الفصل. ومما يؤيد ما قاله ابن الأثير ما رواه الطبراني: «أن الصحابة كانوا يوما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأوا شابا جلدا، فقالوا: لو كان شبابه وجلده في سبيل الله» ؟ (2) يريدون: في الجهاد ونصرة الإسلام.
وصحت أحاديث كثيرة عن الرسول وأصحابه تدل على أن المعنى المتبادر لكلمة (سبيل الله) هو الجهاد. كقول عمر في الحديث الصحيح: حملت على فرس في سبيل الله يعني في الجهاد. وحديث الشيخين: «لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها (3) » . وحديث البخاري: «من احتبس فرسا في سبيل الله، إيمانا بالله وتصديقا بوعده، فإن شبعه وريه وروثه، وبوله في ميزانه يوم القيامة يعني حسنات (4) » وحديث الشيخين: «ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا (5) » وحديث النسائي والترمذي وحسنه: «من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت بسبعمائة ضعف (6) » وحديث البخاري: «ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله، فتمسه النار (7) » وغيرها كثير.
ولم يفهم أحد من سبيل الله فيها إلا الجهاد.
فهذه القرائن كلها كافية في ترجيح أن المراد من (سبيل الله) في آية المصارف، هو الجهاد، كما قال الجمهور، وليس المعنى اللغوي الأصلي، وقد أيد ذلك حديث لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة. . وذكر منهم الغارم والغازي في "سبيل الله". اهـ (8) .
هذا ما تيسر ذكره، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1630) .
(2) قال المنذري في الترغيب: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، جـ 3 ص 4 ط المنيرية.
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2792) ، صحيح مسلم الإمارة (1880) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1651) ، مسند أحمد بن حنبل (3/264) .
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2853) ، سنن النسائي الخيل (3582) ، مسند أحمد بن حنبل (2/374) ، موطأ مالك كتاب الجهاد (975) .
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2840) ، صحيح مسلم الصيام (1153) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1623) ، سنن النسائي الصيام (2251) ، سنن ابن ماجه الصيام (1717) ، مسند أحمد بن حنبل (3/26) ، سنن الدارمي الجهاد (2399) .
(6) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1625) ، سنن النسائي الجهاد (3186) .
(7) خرج هذه الأحاديث كلها المنذري في الترغيب جـ 3 كتاب الجهاد.
(8) فقه الزكاة جـ 2 ص 652 ـ 657 الطبعة الأولى(2/55)
قرار الهيئة
قرار رقم " 24" وتاريخ 21 \ 8 \ 1394 هـ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه وبعد: فقد جرى اطلاع هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة المعقودة بمدينة الطائف بين يوم 5 8 94 هـ ويوم 22 8 94 هـ على ما أعدته اللجنة للبحوث العلمية والإفتاء من بحث في المراد بقول الله تعالى في آية مصارف الزكاة {وفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) هل المراد بذلك الغزاة في سبيل الله وما يلزم لهم، أم عام في كل وجه من وجوه الخير. وبعد دراسة البحث المعد والاطلاع على ما تضمنه من أقوال أهل العلم في هذا الصدد - ومناقشة أدلة من فسر المراد بسبيل الله في الآية بأنهم الغزاة وما يلزم لهم، وأدلة من توسع في المراد بالآية ولم يحصرها في الغزاة فأدخل فيه بناء المساجد والقناطر وتعليم العلم وتعلمه وبث الدعاة والمرشدين وغير ذلك من أعمال البر. رأى أكثرية أعضاء المجلس الأخذ بقول جمهور
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(2/56)
العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء من أن المراد بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) الغزاة المتطوعون بغزوهم وما يلزم لهم من استعداد. وإذا لم يوجدوا صرفت الزكاة كلها للأصناف الأخرى ولا يجوز صرفها في شيء من المرافق العامة إلا إذا لم يوجد لها مستحق من الفقراء والمساكين وبقية الأصناف المنصوص عليهم في الآية الكريمة، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(2/57)
وعن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
«إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله قالوا: يا رسول الله تخبرنا من هم قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس. وقرأ هذه الآية: (2) »
__________
(1) سنن أبو داود كتاب البيوع (3527) .
(2) سورة يونس الآية 62 (1) {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(2/58)
الشرط الجزائي
هيئة كبار العلماء(2/59)
الحمد لله وحده وبعد:
فقد عرض على هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة المنعقدة فيما بين 5 و 22 8 1394 بمدينة الطائف موضوع الشرط الجزائي، ورغبة في إطلاع قرأة "البحوث الإسلامية" على هذا البحث القيم تنشره بنصه.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فبناء على ما تقرر من إدراج موضوع الشرط الجزائي في جدول أعمال الدورة (الخامسة) لهيئة كبار العلماء فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في موضوع الشرط الجزائي يشتمل على بيان المراد منه ونشأته ونماذج من صوره، وما ذكره بعض أهل العلم من ضوابط للشروط والعقود الصحيحة والفاسدة، وبيان ما يمكن اندراجه تحتها من ذلك، وذكر مسائل وصور يمكن أن يكون الشرط الجزائي نظيرا لها. . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(2/60)
الشرط الجزائي
المراد بالشرط الجزائي والداعي إليه
الشرط الجزائي لم يكن معروفا بهذا الاسم لدى فقهائنا الأقدمين، وإنما جاء ذكره في صور ومسائل فقهية، ولعل أول وجود له في الفقه الإسلامي ما روى البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين أن رجلا قال لكريه: أدخل ركابك، فإن لم أرحل معك يوم كذا أو كذا فلك مائة درهم فلم يخرج، فقال شريح: من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه. وقال أيوب، عن ابن سيرين أن رجلا باع طعاما وقال: إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع فلم يجئ، فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت فقضى عليه. اهـ.
أما الفقهاء المعاصرون فقد تعرضوا لبحثه في كتبهم بهذا الاسم، وبينوا العوامل التي أدت إلى التوسع في الأخذ به، فقال الأستاذ مصطفى الزرقاء (1) :
في أواخر العهد العثماني اتسعت في الدولة التجارة الخارجية مع أوربا وتطورت أساليب التجارة الداخلية
__________
(1) المدخل الفقهي العام 713 ـ 714 ف 386.(2/61)
والصنائع، وتولدت في العصر الحديث أنواع من الحقوق لم تكن معهودة كامتياز المؤلف والمخترع، وكل ذي أثر فني جديد في استثمار مؤلفاته، أو مخترعاته، أو آثاره الفنية مما سمي بالملكية الأدبية والصناعية، واحتاج أصحاب هذه الحقوق والامتيازات إلى بيعها والتنازل عنها لغيرهم من القادرين على استثمارها - إلى أن قال: واتسع مجال عقود الاستصناع في التعامل بطريق الإيصاء على المصنوعات مع المعامل والمصانع الأجنبية، وكذا عقود المتعهد بتقديم اللوازم والأرزاق والمواد الأولية إلى الدوائر الحكومية والشركات والمعامل والمدارس مما سمي " عقود التوريد " وكل ذلك يعتمد على المشارطات في شتى صورها.
وقد ازدادت أيضا قيمة الزمن في الحركة الاقتصادية فأصبح تأخر أحد المتعاقدين أو امتناعه عن تنفيذ التزاماته في مواعيدها المشروطة مضرا بالطرف الآخر في وقته وماله أكثر مما قبل. فلو أن متعهدا بتقديم المواد الصناعية إلى صاحب معمل تأخر عن تسليمها إليه في الموعد المضروب لتعطل العمل وعماله، ولو أن بائع بضاعة لتاجر تأخر في تسليمها حتى هبط سعرها لتضرر التاجر المشتري بخسارة قد تكون فادحة، وكذا تأخر الصانع عن القيام بعمله في وقته. وكل متعاقد إذا تأخر أو امتنع عن تنفيذ عقده في موعده.
ولا يعوض هذا الضرر القضاء على الملتزم بتنفيذ التزامه الأصلي؛ لأن هذا القضاء إنما يضمن أصل الحق لصاحبه وليس فيه جبر لضرر التعطيل أو الخسارة، ذلك الضرر الذي يلحقه من جراء تأخر خصمه عن وفاء الالتزام في حينه تهاونا منه أو امتناعا، وهذا قد ضاعف احتياج الناس إلى أن يشترطوا في عقودهم ضمانات مالية على الطرف الذي يتأخر عن تنفيذ التزامه في حينه، ومثل هذا الشرط يسمى في اصطلاح الفقه الأجنبي: الشرط الجزائي. اهـ.
وذكر الدكتور عبد الرزاق السنهوري تعريف الشرط الجزائي وسبب تسميته بذلك فقال: (1) يحدث كثيرا أن الدائن والمدين لا يتركان تقدير التعويض إلى القاضي كما هو الأصل، بل يعمدان إلى الاتفاق مقدما على تقدير هذا التعويض، فيتفقان على مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن إذا لم يقم المدين بالتزامه، وهذا هو التعويض عن عدم التنفيذ أو على مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن إذا تأخر المدين في تنفيذ التزامه، وهذا هو التعويض عن التأخير. هذا الاتفاق مقدما على التعويض يسمى بالشرط الجزائي، وسمي بالشرط الجزائي؛ لأنه يوضع عادة كشرط ضمن شروط العقد الأصلي الذي يستحق التعويض على أساسه. اهـ.
وفي الموسوعة العربية الميسرة ما نصه: " شرط جزائي ": اتفاق يقدر فيه المتعاقدان سلفا التعويض الذي يستحقه الدائن إذا لم ينفذ المدين التزامه أو إذا تأخر في تنفيذه. اهـ.
* * *
__________
(1) الوسيط القسم الثاني نظرية الالتزام ص 851 ف 477.(2/62)
2 - ما للشرط الجزائي من صور مختلفة
الشرط الجزائي - وإن كان يعني اشتراط التعويض عن الضرر اللاحق في طريقة تنفيذ العقد - إلا أن له صورا مختلفة باختلاف العقود والالتزامات، وقد أشار الدكتور عبد الرزاق السنهوري إلى شيء من هذه الصور فقال: (1) .
والأمثلة على الشرط الجزائي كثيرة ومتنوعة: فشروط المقاولة قد تتضمن شرطا جزئيا يلزم المقاول بدفع مبلغ معين عن كل يوم أو عن كل أسبوع أو عن كل مدة أخرى من الزمن يتأخر فيها المقاول عن تسليم العمل المعهود إليه إنجازه. ولائحة المصنع قد تتضمن شروطا جزائية تقتضي بخصم مبالغ معينة من أجرة العامل جزاء له على الإخلال بالتزاماته المختلفة.
وتعريفة مصلحة السكك الحديدية أو مصلحة البريد قد تتضمن تحديد مبلغ معين هو الذي تدفعه المصلحة للمتعاقد معها في حالة فقد طرد أو فقد رسالة، واشتراط حلول جميع أقساط الدين إذا تأخر المدين في دفع قسط منها هو أيضا شرط جزائي ولكن من نوع مختلف، إذ هو هنا ليس مقدارا معينا من النقود قدر به التعويض، بل هو تحميل أقساط مؤجلة. اهـ.
وقال في الحاشية في الصفحة نفسها ما نصه: " هذا والأصل في الشرط الجزائي هو أن يكون تقديرا مقدما للتعويض كما أسلفنا، ولكن قد يستعمله المتعاقدان لأغراض أخرى: من ذلك أن يتفقا على مبلغ كبير يزيد كثيرا على الضرر الذي يتوقعانه فيكون الشرط الجزائي بمثابة تهديد مالي. وقد يتفقان على مبلغ صغير يقل كثيرا عن الضرر المتوقع فيكون الشرط الجزائي بمثابة إعفاء أو تخفيف من المسئولية. . . وقد يكون الغرض من الشرط الجزائي تأكيد التزام المتعهد عن الغير بتحديد مبلغ التعويض الذي يكون مسئولا عنه إذا لم يقم بحمل الغير على التعهد. وقد يوضع شرط جزائي في الاشتراط لمصلحة الغير لتقدير التعويض المستحق للمشترط في حالة إخلال المتعهد بالتزامه نحو المنتفع، فيمثل الشرط الجزائي في هذه الحالة المصلحة المادية للمشترط في اشتراطه لمصلحة الغير. اهـ.
وجاء في نظام المناقصات والمزايدات السعودي ما نصه:
" إذا تأخر المقاول عن إتمام العمل وتسليمه كاملا في المواعيد المحددة ولم تر اللجنة صاحبة المقاولة داعيا لسحب العمل منه توقع عليه غرامة عن المدة التي يتأخر فيها إكمال العمل بعد الميعاد المحدد للتسليم إلى أن يتم الاستلام المؤقت دون حاجة إلى أي تنبيه للمقاول، ويكون توقيع الغرامة على المقاول كما يلي:
1 % عن الأسبوع الأول، 1. 5 % عن الأسبوع الثاني 2% عن الأسبوع الثالث، 2. 5 % عما زاد عن ثلاثة أسابيع، 3% عن أية مدة تزيد على أربعة أسابيع. اهـ (2) .
__________
(1) الوسيط القسم الثاني نظرية الالتزام ص 852 ف 477.
(2) انظر ص 107 نظام المناقصات.(2/63)
3 - ما يندرج تحته الشرط الجزائي من أنواع الشروط التي تشترط في عقود المعاملات أو إجارة أو نحو ذلك مع بيان وجه الاندراج
نستعرض فيما تحت هذا العنوان ما ورد من الأحاديث والآثار في الشروط المقترنة بالعقود من حيث الجملة، وما ذكره بعض العلماء في تفسيرها وما بنوه عليها من تقسيم الشروط إلى قسمين: شروط صحيحة وشروط فاسدة، وما وضعوه من الضوابط لكل منهما؛ ليتسنى معرفة ما يندرج تحته الشرط الجزائي من هذه الضوابط، وما يلتحق به من المسائل التي يشبهها وأدرجوها تحتها أو جعلوها أمثلة شارحة لها.
روى البخاري في صحيحه تحت باب " ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله ": عن عروة «أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن بريرة جاءت تستفتيها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا. فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت. فذكرت ذلك بريرة لأهلها فأبوا وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: " ابتاعي فأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق. قال: ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن شرط مائة شرط، شرط الله أحق وأوثق (1) » ، وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أرادت عائشة رضي الله عنها أن تشتري جارية لتعتقها فقال أهلها: على أن ولاءها لنا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: «لا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق (2) » .
* * *
قال: ابن حجر في الفتح: قوله: "باب ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله" جمع في هذه الترجمة بين حكمين، وكأنه فسر الأول بالثاني، وأن ضابط الجواز ما كان في كتاب الله، وسيأتي في كتاب الشروط أن المراد بما ليس في كتاب الله ما خالف كتاب الله. وقال ابن بطال: المراد بكتاب الله هنا حكمه؛ من كتابه أو سنة رسوله أو إجماع الأمة. وقال ابن خزيمة ليس في كتاب الله أي ليس في كتاب الله جوازه أو وجوبه، لا أن كل من شرط شرطا لم ينطق به الكتاب يبطل؛ لأنه قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط ويشترط في الثمن شروطا من أوصافه أو من نجومه ونحو ذلك، فلا يبطل، قال النووي: قال العلماء: الشروط في البيع أقسام:
__________
(1) صحيح البخاري كتاب العتق (2561) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(2) صحيح البخاري كتاب البيوع (2169) ، سنن النسائي البيوع (4644) .(2/64)
أحدهما: يقتضيه إطلاق العقد كشرط تسليمه.
الثاني: شرط فيه مصلحة كالرهن. وهما جائزان اتفاقا.
والثالث: اشتراط العتق في العبد، وهو جائز عند الجمهور؛ لحديث عائشة وقصة بريرة.
الرابع: ما يزيد على مقتضى العقد ولا مصلحة فيه للمشتري، كاستثاء منفعته فهو باطل.
وقال القرطبي: قوله: «ليس في كتاب الله (1) » ، أي ليس مشروعا في كتاب الله تأصيلا ولا تفصيلا، ومعنى هذا أن من الأحكام ما يؤخذ تفصيله من كتاب الله كالوضوء، ومنها ما يؤخذ تأصيله دون تفصيله كالصلاة، ومنها ما أصل أصله كدلالة الكتاب على أصلية السنة والإجماع، وكذلك القياس الصحيح، فكل ما يقتبس من هذه الأصول تفصيلا فهو مأخوذ من كتاب الله تأصيلا - إلى أن قال - وقال القرطبي: قوله: «ولو كان مائة شرط (2) » يعني أن الشروط الغير مشروعة باطلة ولو كثرت. اهـ (3) .
وقال البخاري في صحيحه: (باب الشروط التي لا تحل في الحدود) .
عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أنهما قالا: «إن رجلا من الأعراب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر - وهو أفقه منه -: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: قل، قال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: " والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " قال: فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت (4) » .
قال ابن حجر في الفتح: وقد ترجم له في الصلح إذا اصطلحوا على جور فهو مردود. ويستفاد من الحديث أن كل شرط وقع في رفع حد من حدود الله فهو باطل، وكل صلح وقع فيه فهو مردود. اهـ (5) .
وروى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (6) » .
قال ابن حجر: وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده، فإن معناه: من اخترع ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه. قال النووي: هذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك، وقال الطرقي: هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع؛ لأن الدليل يتركب من مقدمتين، والمطلوب بالدليل، إما إثبات الحكم أو نفيه، وهذا الحديث مقدمة كبرى في
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (456) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2168) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(3) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري جـ 5 ص 142.
(4) صحيح البخاري الشروط (2725) ، صحيح مسلم الحدود (1698) ، سنن الترمذي الحدود (1433) ، سنن النسائي آداب القضاة (5411) ، سنن أبو داود الحدود (4445) ، سنن ابن ماجه الحدود (2549) ، مسند أحمد بن حنبل (4/115) ، موطأ مالك الحدود (1556) ، سنن الدارمي الحدود (2317) .
(5) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري جـ 5 ـ 347.
(6) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(2/65)
إثبات كل حكم شرعي ونفيه؛ لأن منطوقه مقدمة كلية في كل دليل ناف لحكم، مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس: هذا ليس من أمر الشرع، وكل ما كان كذلك فهو مردود، فهذا العمل مردود. فالمقدمة الثانية بهذا الحديث، وإنما يقع النزاع في الأول، ومفهومه أن من عمل عملا عليه أمر الشرع فهو صحيح، مثل أن يقال في الوضوء بالنية: هذا عليه أمر الشرع، وكل ما كان عليه أمر الشرع فهو صحيح، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث والأولى فيها النزاع، فلو اتفق أن يوجد حديث يكون مقدمة أولى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لاستقل الحديثان بجميع أدلة الشرع، لكن هذا الثاني لا يوجد، فإذا حديث الباب نصف أدلة الشرع. والله أعلم.
وقوله: (رد) معناه مردود من إطلاق المصدر على اسم المفعول مثل: خلق ومخلوق، ونسخ ومنسوخ، وكأنه قال: فهو باطل غير معتد به. واللفظ الثاني وهو قوله: (من عمل) ، أعم من اللفظ الأول، وهو قوله: (من أحدث) ، فيحتج به في إبطال جميع العقود المنهية وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها.
وفيه رد المحدثات، وأن النهي يقتضي الفساد؛ لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها.
ويستفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر؛ لقوله: (ليس عليه أمرنا) ، والمراد به أمر الدين.
وفيه أن الصلح الفاسد منتقض والمأخوذ عليه مستحق الرد. اهـ (1) .
وذكر الشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة عامة في العقود والشروط منها، فقال: (2) .
القاعدة الثالثة في العقود والشروط فيها، فيما يحل منها ويحرم، وما يصح منها ويفسد: ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدا.
والذي يمكن ضبطه فيها قولان، أحدهما: أن يقال: الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك، الحظر إلا ما ورد الشرع بإجازته. فهذا قول أهل الظاهر، وكثير من أصول أبي حنيفة تنبني على هذا، وكثير من أصول الشافعي، وطائفة من أصول أصحاب مالك وأحمد، فإن أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس، كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه. وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد، ويقولون: ما خالف مقتضى العقد فهو باطل.
أما أهل الظاهر فلم يصححوا لا عقدا ولا شرطا إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع. وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه واستصحبوا الحكم الذي قبله، وطردوا ذلك طردا جاريا. لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم.
وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي أنه يصحح في العقود شروطا يخالف مقتضاها في المطلق. وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه. ولهذا أبطل أن يشترط في البيع خيار، ولا يجوز عنده تأخير تسليم البيع بحال. ولهذا منع بيع العين المؤجرة. وإذا ابتاع شجرة عليها ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته. وإنما جوز الإجارة المؤخرة؛ لأن الإجارة لا توجب الملك إلا عند وجود المنفعة، أو عتق العبد المبيع أو الانتفاع
__________
(1) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري جـ 5 ص 331.
(2) القواعد النورانية ص 184 ـ 220.(2/66)
به، أو أن يشترط المشتري بقاء الثمرة على الشجر وسائر الشروط التي يبطلها غيره. ولم يصحح في النكاح شرطا أصلا؛ لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ، ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب أو إعسار أو نحوهما. ولا يبطل بالشروط الفاسدة مطلقا. وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاثة الأيام للأثر. وهو عنده موضع استحسان.
والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل، لكنه يستثني مواضع للدليل الخاص فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث، ولا استثناء منفعة المبيع ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع، حتى منع الإجارة المؤخرة؛ لأن موجبها - وهو القبض - لا يلي العقد ولا يجوز أيضا ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق إلا العتق؛ لما فيه من السنة والمعنى، ولكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع، كبيع العين المؤجرة على الصحيح في مذهبه، كبيع الشجر مع استيفاء الثمرة مستحقة البقاء ونحو ذلك، ويجوز في النكاح بعض الشروط دون بعض، ولا يجوز اشتراطها دارها أو بلدها، ولا أن يتزوج عليها ولا يتسرى، ويجوز اشتراط حريتها وإسلامها. وكذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه، كالجمال ونحوه. وهو ممن يرى فسخ النكاح بالعيب والإعسار، وانفساخه بالشروط التي تنافيه، كاشتراط الأجل والطلاق ونكاح الشغار، بخلاف فساد المهر ونحوه.
وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول، لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي، كالخيار أكثر من ثلاث، كاستثناء البائع منفعة المبيع، واشتراط المرأة على زوجها أن لا ينقلها ولا يزاحمها بغيرها، ونحو ذلك من المصالح. فيقولون: كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل، إلا إذا كان فيه مصلحة للمتعاقدين.
وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه يجوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي. فقد يوافقونه في الأصل ويستثنون للمعارض أكثر مما استثنى كما قد يوافق هو أبا حنيفة في الأصل ويستثني أكثر مما يستثني للمعارض.
* * *
هؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر، ويتوسعون في الشروط أكثر منهم؛ لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة، ولما يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر، وعمدة هؤلاء: قصة بريرة المشهورة، وهو ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني، فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس فقالت:(2/67)
إني عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء فأخبرت عائشة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق " ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق (1) » وفي رواية للبخاري: «اشتريها فأعتقيها وليشترطوا ما شاءوا فاشترتها فأعتقتها واشترط أهلها ولاءها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم ـ: الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مائة شرط - وفي لفظ: شرط الله أحق وأوثق (2) » وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر، أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية لتعتقها فقال أهلها: نبيعكها على أن ولاءها لنا، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «لا يمنعنك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق (3) » وفي مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أرادت عائشة أن تشتري جارية فتعتقها فأبى أهلها إلا أن يكون لهم الولاء فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «لا يمنعنك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق (4) » .
ولهم من هذا الحديث حجتان:
إحداهما: قوله: «ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل (5) » فكل شرط ليس في القرآن ولا في الحديث، ولا في الإجماع، فليس في كتاب الله، بخلاف ما كان في السنة، أو في الإجماع، فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة والإجماع.
ومن قال بالقياس - وهم الجمهور - قالوا: إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة، أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله: فهو في كتاب الله.
الحجة الثانية: أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشترط الولاء؛ لأن العلة فيه كونه مخالفا لمقتضى العقد، وذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع، فيعتبر تغييرها تغييرا لما أوجبه الشرع، بمنزلة تغيير العبادات. وهذا نكتة القاعدة، وهي أن العقود مشروعة على وجه، فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع. ولهذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي - في أحد القولين - لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطا يخالف مقتضاها. فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الإحلال بالعذر، ومتابعة لعبد الله بن عمر، حيث كان ينكر الاشتراط في الحج. ويقول: " أليس حسبكم سنة نبيكم؟ " وقد استدلوا على هذا الأصل بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (6) سورة المائدة آية: 3. وقوله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (7) البقرة: 229.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2168) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(2) صحيح البخاري كتاب الشروط (2726) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(3) صحيح البخاري كتاب البيوع (2169) ، سنن النسائي البيوع (4644) ، مسند أحمد بن حنبل (2/100) ، موطأ مالك العتق والولاء (1520) .
(4) صحيح البخاري كتاب البيوع (2169) ، سنن النسائي البيوع (4644) ، مسند أحمد بن حنبل (2/100) ، موطأ مالك العتق والولاء (1520) .
(5) صحيح البخاري البيوع (2168) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(6) سورة المائدة الآية 3
(7) سورة البقرة الآية 229(2/68)
قالوا: فالشروط والعقود التي لم تشرع تعد لحدود الله، وزيادة في الدين.
وما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا: ذلك منسوخ كما قاله بعضهم في شروط النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المشركين عام الحديبية. أو قالوا: هذا عام أو مطلق فيخص بالشرط الذي في كتاب الله.
واحتجوا أيضا بحديث يروى في حكاية عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط» وقد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث، وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء، وذكروا أنه لا يعرف أن الأحاديث الصحيحة تعارضه.
وأجمع الفقهاء المعروفون - من غير خلاف أعلمه عن غيرهم - أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه، كاشتراط كون العبد كاتبا أو صانعا، أو اشتراط طول الثوب، أو قدر الأرض، ونحو ذلك: شرط صحيح.
القول الثاني: أن الأصل في العقود والشروط، الجواز والصحة، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله، نصا أو قياسا: وعند من يقول به. وأصول أحمد المنصوصة عنه، أكثرها يجري على هذا القول. ومالك قريب منه، ولكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط. فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه.(2/69)
وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها يشتبه بدليل خاص من أثر أو قياس، لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعا من الصحة، ولا يعارض ذلك بكونه شرطا يخالف مقتضى العقد، أو لم يرد نص. وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة ما لا تجده عند غيره من الأئمة، فقال بذلك وبما في معناه قياسا عليه، وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص، فقد يضعفه أو يضعف دلالته. وكذلك قد يضعف ما اعتمده من قياس، وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب والسنة التي سنذكرها في تصحيح الشروط، كمسألة الخيار من ثلاث مطلقا، فمالك يجوزه بقدر الحاجة، وأحمد في إحدى الروايتين عنه يجوز شرط الخيار في النكاح أيضا. ويجوزه ابن حامد وغيره في الضمان ونحوه. ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود، واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق، فإذا كان لها مقتضى عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط، والنقص منه بالشرط ما لم يتضمن مخالفة الشرع. كما سأذكره إن شاء الله.
فيجوز للبائع أن يستثني بعض منفعة المبيع، كخدمة العبد وسكنى الدار ونحو ذلك، وإذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك الغير، اتباعا لحديث جابر، لما باع النبي - صلى الله عليه وسلم - جمله واستثنى ظهره إلى المدينة.(2/69)
ويجوز أيضا للمعتق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما، اتباعا لحديث سفينة لما أعتقته أم سلمة، واشترطت عليه خدمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما عاش.
ويجوز - على عامة أقواله ـ: أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها، كما في حديث صفية، وكما فعله أنس بن مالك وغيره - وإن لم ترض المرأة - كأنه أعتقها واستثنى منفعة البضع، لكنه استثناها بالنكاح، إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز، بخلاف منفعة الخدمة.
واستمر رحمه الله في ذكر الأمثلة إلى أن قال:
وجماع ذلك: أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة. فكلما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع يجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه، وجوز أيضا استثناء بعض التصرفات.
وعلى هذا فمن قال: هذا الشرط ينافي مقتضى العقد، قيل له: أينافي مقتضى العقد المطلق أو مقتضى العقد مطلقا؟ فإذا أراد الأول: فكل شرط كذلك. وإن أراد الثاني: لم يسلم له، وإنما المحذور، أن ينافي مقصود العقد، كاشتراط الطلاق في النكاح، أو اشتراط الفسخ في العقد، فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم يناف مقصوده. هذا القول هو الصحيح بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار مع الاستصحاب وعدم الدليل المنافي.
أما الكتاب: فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) سورة المائدة آية 1 والعقود هي العهود، وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (2) سورة الأنعام آية 152، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (3) سورة الإسراء آية: 34. وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} (4) سورة الأحزاب آية: 15 فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود، وهذا عام، وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله وبالعهد، وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه، بدليل قوله: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} (5) فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه، وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد، كالنذر والبيع، إنما أمر بالوفاء به.
ولهذا قرنه بالصدق في قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (6) سورة الأنعام آية: 152؛ لأن العدل في القول خبر يتعلق بالماضي والحاضر، والوفاء بالعهد يكون في القول المتعلق بالمستقبل، كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (7) {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (8) {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (9) سورة التوبة الآيات: 75 - 77.
واستمر رحمه الله في ذكر آيات في الحث على الوفاء بالعهود والتحذير من نقضها إلى أن قال:
__________
(1) سورة المائدة الآية 1
(2) سورة الأنعام الآية 152
(3) سورة الإسراء الآية 34
(4) سورة الأحزاب الآية 15
(5) سورة الأحزاب الآية 15
(6) سورة الأنعام الآية 152
(7) سورة التوبة الآية 75
(8) سورة التوبة الآية 76
(9) سورة التوبة الآية 77(2/70)
والأحاديث في هذا كثيرة، مثل ما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر (1) » وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة (2) » وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة (3) » وفي رواية «لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به بقدر غدرته ألا ولا غادر أعظم غدرة من أمير عامة (4) » وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله وفيمن معه من المسلمين خيرا ثم قال: «اغزوا باسم الله وفي سبيل الله وقاتلو من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم (5) » - الحديث. فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول.
وفي الصحيحين عن ابن عباس «عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل عن صفة النبي - صلى الله عليه وسلم ـ: " هل يغدر: فقال: لا يغدر، ونحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة. وقال هرقل في جوابه: سألتك: هل يغدر؟ فذكرت أنه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر (6) » فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين.
وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج (7) » فدل على استحقاق الشروط بالوفاء، أن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها.
وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره (8) » فذم الغادر. وكل من شرط شرطا ثم نقضه فقدر غدر.
* * *
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (34) ، صحيح مسلم الإيمان (58) ، سنن الترمذي الإيمان (2632) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5020) ، سنن أبو داود السنة (4688) ، مسند أحمد بن حنبل (2/189) .
(2) صحيح البخاري الجزية (3188) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1735) ، سنن الترمذي السير (1581) ، سنن أبو داود الجهاد (2756) ، مسند أحمد بن حنبل (2/112) .
(3) صحيح مسلم الجهاد والسير (1738) ، سنن الترمذي الفتن (2191) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2873) ، مسند أحمد بن حنبل (3/61) .
(4) صحيح مسلم الجهاد والسير (1738) ، سنن الترمذي الفتن (2191) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2873) ، مسند أحمد بن حنبل (3/46) .
(5) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731) ، سنن الترمذي السير (1617) ، سنن أبو داود الجهاد (2613) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2858) ، مسند أحمد بن حنبل (5/358) ، سنن الدارمي السير (2439) .
(6) صحيح البخاري بدء الوحي (7) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1773) ، مسند أحمد بن حنبل (1/263) .
(7) صحيح البخاري الشروط (2721) ، صحيح مسلم النكاح (1418) ، سنن الترمذي النكاح (1127) ، سنن النسائي النكاح (3281) ، سنن أبو داود النكاح (2139) ، سنن ابن ماجه النكاح (1954) ، مسند أحمد بن حنبل (4/150) ، سنن الدارمي النكاح (2203) .
(8) صحيح البخاري البيوع (2227) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2442) ، مسند أحمد بن حنبل (2/358) .(2/71)
فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود، وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة، والتشديد على من يفعل ذلك.
ولو كان الأصل فيها الحظر والفساد، إلا ما أباحه الشرع لم يجز أن يؤمر بها مطلقا ويذم من نقضها وغدر مطلقا، كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه، لم يجز أن يؤمر بقتل النفوس ويحمل على القدر المباح، بخلاف ما كان جنسه واجبا، كالصلاة والزكاة، فإنه يؤمر به مطلقا. وإن كان لذلك شروط وموانع، فينهى عن الصلاة بغير طهارة، وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك. كذلك الصدق في الحديث مأمور به، وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض ويجب السكوت أو التعريض.
وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورا به: علم أن الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده. ومقصود العقد: هو الوفاء به، فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود، دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة.
وقد روى أبو داود والدارقطني من حديث سلمان بن بلال، حدثنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، والمسلمون على شروطهم (1) » وكثير بن زيد قال يحيى بن معين في رواية: هو ثقة. وضعفه في رواية أخرى.
وقد روى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما (2) » قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وروى ابن ماجه منه الفصل الأول، لكن كثير بن عمرو ضعفه الجماعة، وضرب أحمد على حديثه في المسند، فلم يحدث به. فلعل تصحيح الترمذي له بروايته من وجوه. وقد روى أبو بكر البزار أيضا عن محمد بن عبد الرحمن السلماني عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: «الناس على شروطهم ما وافق الحق» ، وهذه الأسانيد - وإن كان الواحد منها ضعيفا - فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا.
وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة، وهو حقيقة المذهب، فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله ولا يحرم ما أباحه الله، فإن شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله، وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله، وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه، فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما، وعدم الإيجاب ليس نفيا بالإيجاب حتى يكون المشترط مناقضا للشرع، وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا، فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الأقباض ما لم يكن واجبا، ويباح أيضا لكل
__________
(1) سنن أبو داود الأقضية (3594) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .
(2) سنن الترمذي الأحكام (1352) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2353) .(2/72)
منهما ما لم يكن مباحا، ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراما. وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين. وكذلك إذا اشترط صفة في البيع، أو رهنا، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها، فإنه يجب، ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك.
وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط، قال: لأنها إما أن تبيح حراما، أو تحرم حلالا، أو توجب ساقطا، أو تسقط واجبا، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع. وأوردت شبهة عند بعض الناس حتى توهم أن هذا الحديث متناقض، وليس كذلك، بل كان ما كان حراما بدون الشرط: فالشرط لا يبيحه، كالربا وكالوطء في ملك الغير، وكثبوت الولاء لغير المعتق فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح، أو ملك يمين، فلو أراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك، بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز، وكذلك الولاء، فقد «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء وعن هبته (1) » وجعل الله الولاء كالنسب، يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: «من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا (2) » وأبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبني الرجل ابن غيره، وانتساب المعتق إلى غير مولاه. فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط، فلا يبيح الشرط منه ما كان حراما. وأما ما كان مباحا بدون الشرط، فالشرط يوجبه، كالزيادة في المهر والثمن والرهن، وتأخير الاستيفاء. فإن الرجل له أن يعطي المرأة، وله أن يتبرع بالرهن وبالأنظار، ونحو ذلك، فإذا شرطه صار واجبا، وإذا وجب فقد حرم المطالبة التي كانت حلالا بدونه؛ لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا، فما كان حلالا وحراما مطلقا فالشرط لا يغيره.
وأما ما أباحه الله في حال مخصوصة ولم يبحه مطلقا، فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله. كذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة، ولم يحرمه مطلقا، لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله، وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم، لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب، وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب.
فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب، لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع، وآثار الصحابة توافق ذلك، كما قال عمر رضي الله عنه: " مقطع الحقوق عند الشروط ".
__________
(1) صحيح البخاري الفرائض (6756) ، صحيح مسلم العتق (1506) ، سنن الترمذي الولاء والهبة (2126) ، سنن النسائي البيوع (4657) ، سنن أبو داود الفرائض (2919) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2747) ، مسند أحمد بن حنبل (2/107) ، موطأ مالك العتق والولاء (1522) ، سنن الدارمي البيوع (2572) .
(2) سنن الترمذي الوصايا (2121) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2712) ، سنن الدارمي السير (2529) .(2/73)
وأما الاعتبار فمن وجوه: أحدها: أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية. والأصل فيها عدم التحريم، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل ذلك على التحريم، كما أن الأعيان: فيها عدم التحريم. وقوله {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (1) سورة الأنعام آية: 119 عام في الأعيان والأفعال، الأصل وإذا لم يكن حراما لم تكن فاسدة، وكانت صحيحة.
وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط، إلا ما ثبت حله بعينه، وسنبين إن شاء الله معنى حديث عائشة، وأن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم، فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوا، كالأعيان التي لم تحرم.
وغالب ما يستدل به على أن الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة، والاستصحاب العقلي، وانتفاء الحكم لانتفاء دليله، فإنه يستدل به على عدم تحريم العقود والشروط فيها، سواء سمي ذلك حلالا أو عفوا على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم، فإن ما ذكره الله في القرآن من ذم الكفار على التحريم بغير شرع: منه ما سببه تحريم الأعيان، ومنه ما سببه تحريم الأفعال. كما كانوا يحرمون على المحرم لبس ثيابه والطواف فيها إذا لم يكن أحمسيا ويأمرونه بالتعري، إلا أن يعيره أحمسي ثوبه، ويحرمون عليه الدخول تحت سقف، كما كان الأنصار يحرمون إتيان الرجل امرأته في فرجها إذا كانت مجنبة، ويحرمون الطواف بالصفا والمروة، وكانوا مع ذلك قد ينقضون العهود التي عقدوها بلا شرع، فأمرهم الله سبحانه في سورة النحل وغيرها بالوفاء بها إلا ما اشتمل على محرم.
فعلم أن العهود يجب الوفاء بها إذا لم تكن محرمة، وإن لم يثبت حلها بشرع خاص، كالعهود التي عقدها في الجاهلية وأمر بالوفاء بها، وقد نبهنا على هذه القاعدة فيما تقدم وذكرنا أنه لا يشرع إلا ما شرعه الله ولا يحرم إلا ما حرمه الله؛ لأن الله ذم المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، وحرموا ما لم يحرمه الله، فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل شرعي، كنا محرمين ما لم يحرمه الله. بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله. فإن الله حرم أن يشرع من الدين ما لم يأذن به. فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله، ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله، والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر، وإن كان فيها قربة من وجه آخر، فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع، كالعتق والصدقة.
فإن قيل: العقود تغير ما كان مشروعا؛ لأن ملك البضع أو المال إذا كان ثابتا على حال فعقد عقدا أزاله عن تلك الحال، فقد غير ما كان مشروعا، بخلاف الأعيان التي لم تحرم، فإنه لا يعتبر في إباحتها.
فيقال: لا فرق بينهما. وذلك أن الأعيان إما أن تكون ملكا لشخص أو لا تكون. فإن كانت ملكا فانتقالها بالبيع إلى غيره لا يغيرها، وهو من باب العقود، وإن لم تكن ملكا فملكها بالاستيلاء ونحوه: هو فعل
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119(2/74)
من الأفعال مغير لحكمها، بمنزلة العقود.
وأيضا فإنها قبل الزكاة محرمة. فالزكاة الواردة عليها بمنزلة العقد الوارد على المال. فكما أن أفعالنا في الأعيان من الأخذ والزكاة: الأصل فيه الحل - وإن غير حكم العين - فكذلك أفعالنا في الأملاك في العقود ونحوها: الأصل فيها الحل وإن غيرت حكم الملك.
وسب ذلك: أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع، وملك البضع الثابت بالنكاح نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام، والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا، لم يثبته ابتداء، كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة، فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم، ولم يحرم الشارع علينا رفعه: لم يحرم علينا رفعه. فمن اشترى عينا فالشارع أحلها له وحرمها على غيره، لإثباته سبب ذلك، وهو الملك الثابت بالبيع. وما لم يحرم الشارع عليه رفع ذلك، فله أن يرفع ما أثبته على أي وجه أحب، ما لم يحرمه الشارع عليه. كمن أعطى رجلا مالا: فالأصل أن لا يحرم عليه التصرف فيه. وإن كان مزيلا للملك الذي أثبته المعطي ما لم يمنع مانع. وهذا نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها، وهو أن الأحكام الجزئية - من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو - لم يشرعها الشارع شرعا جزئيا، وإنما شرعها شرعا كليا، مثل قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) سورة البقرة آية: 275، وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (2) سورة النساء آية: 24، وقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (3) سورة النساء آية: 3، وهذا الحكم الكلي ثابت، سواء وجد هذا البيع المعين أو لم يوجد. فإذا وجد بيع معين أثبت ملكا معينا. فهذا المعين سببه فعل العبد، فإذا رفعه العبد فإنما رفع ما أثبته الله من الحكم الجزئي، إنما هو تابع لفعل العبد سببه فقط؛ لأن الشارع أثبته ابتداء.
* * *
وإنما توهم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام، وليس كذلك، فإن الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته الشارع. وأما هذا المعين فإنما ثبت؛ لأن العبد أدخله في المطلق، فإدخاله في المطلق إليه، فكذلك إخراجه، إذ الشارع لم يحكم عليه في المعين بحكم أبدا، مثل أن يقول: هذا الثوب بعه أو لا تبعه، أو هبه أو لا تهبه، وإنما حكمه على المطلق الذي إذا أدخل فيه المعين حكم على المعين.
فتدبر هذا، وفرق بين تغيير الحكم المعين الخاص الذي أثبته العبد بإدخاله في المطلق وبين تغيير الحكم العام الذي أثبته الشارع عند وجود سببه من العبد. وإذا ظهر أن العقود لا يحرم منها إلا ما حرمه الشارع، فإنما وجب الوفاء بها لإيجاب الشارع الوفاء بها مطلقا، إلا ما خصه الدليل، على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل، بل والعقلاء جميعهم، وقد أدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي، ففعلها ابتداء لا يحرم إلا بتحريم الشارع، والوفاء بها وجب لإيجاب الشارع إذن، ولإيجاب العقل أيضا.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة النساء الآية 24
(3) سورة النساء الآية 3(2/75)
وأيضا فإن الأصل في العقود رضا المتعاقدين، وموجبها ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد؛ لأن الله قال في كتابه العزيز: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) سورة النساء آية: 29، وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (2) سورة النساء آية: 4 فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه، فدل على أنه سبب له، وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب فدل على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم، وإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق فكذلك سائر التبرعات، قياسا عليه بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن، وكذلك قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) سورة النساء آية: 29 لم يشترط في التجارة إلا التراضي، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة. وإذا كان كذلك فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة، أو طابت نفس المتبرع بتبرع، ثبت حله بدلالة القرآن، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله، كالتجارة في الخمر ونحو ذلك.
وأيضا فإن العقد له حالان: حال إطلاق، وحال تقييد. ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود، فإذا قيل: هذا شرط ينافي مقتضى العقد، فإن أريد به: ينافي العقد المطلق فكذلك كل شرط زائد، وهذا لا يضره، وإن أريد ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد: احتاج إلى دليل على ذلك. وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد. فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره - وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود - فقد جمع بين المتناقضين؛ بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء. ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق. بل هو مبطل العقد عندنا.
* * *
تعاد الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع، مثل اشتراط الولاء لغير المعتق، فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصود الملك، والعتق قد يكون مقصودا للعقد. فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا، فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه كما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (4) » فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوا. وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا الله ورسوله. فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما، فلم يكن لغوا. ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله، فلا وجه لتحريمه، بل الواجب حله؛ لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه، فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه، ولم يثبت تحريمه فيباح؛ لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج.
وأيضا فإن العقود والشروط لا تخلو، إما أن يقال: لا يحل ولا يصح، إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص، من نص أو إجماع أو قياس عند الجمهور - كما ذكرناه من القول الأول - أو يقال: لا تحل وتصح حتى يدل على حلها دليل سمعي - وإن كان عاما - أو يقال: تصح ولا تحرم إلا أن يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام.
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) سورة النساء الآية 4
(3) سورة النساء الآية 29
(4) صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن النسائي الطلاق (3451) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) .(2/76)
والقول الأول: باطل؛ لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر، وأمر الله بالوفاء إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم، فقال سبحانه في آية الربا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) سورة البقرة آية: 278 فأمرهم بترك ما بقي لهم من الربا في الذمم، ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا، بل مفهوم الآية - الذي اتفق العمل عليه - يوجب أنه غير منهي عنه. ولذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم، ولم يأمرهم برد المقبوض، وقال - صلى الله عليه وسلم ـ: «أيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام (2) » وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية، ولم يستفصل: هل عقد به في عدة أو غير عدة؟ بولي أو بغير ولي؟ بشهود أو بغير شهود؟ ولم يأمر أحدا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأته، إلا أن يكون السبب المحرم موجودا حين الإسلام. . كما أمر غيلان بن سلمة الثقفي الذي أسلم وتحته عشرة نسوة أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن، وكما أمر فيروزا الديلمي الذي أسلم وتحته أختان أن يختار إحداهما ويفارق في الأخرى، وكما أمر الصحابة من أسلم من المجوس أن يفارق ذوات المحارم. ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين، وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن الشارع. ولو كانت العقود عندهم كالعبادات - لا تصح إلا بشرع - لحكموا بفسادها، أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكين فيه بشرع.
فإن قيل: فقد اتفق فقهاء الحديث وأهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام، ثم أسلموا بعد زواله مضت ولم يؤمروا باستئنافها؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، فليس ما عقده بغير شرع دون ما عقدوه مع تحريم الشرع، وكلاهما عندكم سواء.
قلنا: ليس كذلك، بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا اتصل به التقابض، وأما إذا أسلموا قبل التقابض فإنه يفسخ، بخلاف ما عقدوه بغير شرع فإنه لا يفسخ، لا قبل القبض ولا بعده، ولم أر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض، بل سووا بين الإسلام قبل الدخول وبعده؛ لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه، وإن لم يحصل به القبض من المصاهرة ونحوها، كما أن نفس الوطء يوجب أحكاما، وإن كان بغير نكاح، فلما كان كل واحد من العقد والوطء مقصودا في نفسه - ولن يقترن بالآخر - أقرهم الشارع على ذلك. بخلاف الأموال، فإن المقصود بعقودها هو التقابض، فإذا لم يحصل التقابض لم يحصل مقصودها، فأبطلها الشارع لعدم حصول المقصود.
فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم؛ لأنه لا يصححه إلا بتحليل.
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سنن أبو داود الفرائض (2914) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2485) .(2/77)
وأيضا فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها، فإن الفقهاء جميعهم - فيما أعلمه - يصححونها إذا لم يعتقدوا تحريمها، وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد. ولا يقول أحد لا يصح العقد إلا الذي يعتقد العاقد أن الشارع أحله. فلو كان إذن الشارع الخاص شرطا في صحة العقود. لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد، فإنه آثم، وإن كان قد صادف الحق.
وأما إن قيل: لا بد من دليل شرعي يدل على حلها، سواء كان عاما أو خاصا، فعنه جوابان.
أحدهما: المنع كما تقدم.
والثاني: أن نقول: قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشروط جملة، إلا ما استثناه الشارع. وما عارضوا به سنتكلم عليه إن شاء الله، فلم يبق إلا القول الثالث وهو المقصود.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم ـ: «أيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (1) » فالشرط يراد به المصدر تارة، والمفعول أخرى. وكذلك الوعد والخلف. ومنه قولهم: درهم ضرب الأمير، والمراد به هنا - والله أعلم - المشروط لا نفس التكلم. ولهذا قال: «وإن كان مائة شرط (2) » أي: وإن كان قد شرط مائة شرط، وليس المراد تعديد التكلم بالشرط، وإنما المراد تعديد الشرط. والدليل على ذلك قوله: «كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق (3) » أي: كتاب الله أحق من هذا الشرط، وشرط الله أوثق منه. وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه، بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى.
وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله، فلم يخالف كتاب الله وشرطه، حتى يقال: كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق، فيكون المعنى: من اشتراط أمرا ليس في حكم الله ولا في كتابه، بواسطة وبغير واسطة: فهو باطل؛ لأنه لا بد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط، حتى يصح اشتراطه ويجب بالشرط، ولما لم يكن في كتاب الله: أن الولاء لغير المعتق أبدا كان هذا المشروط - وهو ثبوت الولاء لغير المعتق - شرطا ليس في كتاب الله، فانظر إلى المشروط إن كان أصلا أو حكما. فإن كان الله قد أباحه جاز اشتراطه ووجب، وإن كان الله لم يبحه، لم يجز اشتراطه. فإذا شرط الرجل أن لا يسافر بزوجته. فهذا المشروط في كتاب الله؛ لأن كتاب الله يبيح أن لا يسافر بها. فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطا مباحا في كتاب الله.
فمضمون الحديث: أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة، أو يقال: ليس في كتاب الله أي: ليس في كتاب الله نفيه، كما قال: «سيكون أقوام يحدثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم (4) » أي: بما تعرفون خلافه. وإلا فما لا يعرف كثير.
__________
(1) صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(2) صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(3) صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن النسائي الطلاق (3451) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) .
(4) صحيح مسلم مقدمة (6) ، مسند أحمد بن حنبل (2/349) .(2/78)
ثم نقول: إذا لم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة، بمعنى أنه لا يلزم بها شيء، لا إيجاب ولا تحريم. فإن هذا خلاف الكتاب والسنة، بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام، فإن الله قد حرم عقد الظهار في نفس كتابه، وسماه {مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (1) ثم إنه أوجب به - على من عاد - الكفارة، ومن لم يعد: جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء أو ترك العقد. وكذا النذر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر، كما ثبت ذلك عنه من حديث أبي هريرة وابن عمر فقال: «إنه لا يأتي بخير (2) » ثم أوجب الوفاء به، إذا كان طاعة في قوله - صلى الله عليه وسلم - «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (3) » .
فالعقد المحرم قد يكون سببا لإيجاب أو تحريم. نعم لا يكون سببا لإباحة، كما أنه لما نهى عن بيوع الغرر وعن عقد الربا وعن نكاح ذوات المحارم، ونحو ذلك، لم يستفد المنهي بفعله، لما نهي عن الاستباحة؛ لأن المنهي عنه معصية، والأصل في المعاصي أنها لا تكون سببا لنعمة الله ورحمته، والإباحة من نعمة الله ورحمته، وإن كانت قد تكون سببا لعقوبة الله، والإيجاب والتحريم قد يكون عقوبة كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (4) سورة النساء آية: 160 وإن كان قد يكون رحمة أيضا، كما جاءت شريعتنا الحنيفة.
والمخالفون في هذه القاعدة من أهل الظاهر ونحوهم قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص: فهو عقد حرام، وكل عقد حرام فوجوده كعدمه، وكلا المقدمتين ممنوعة، كما تقدم.
وقد يجاب على هذه الحجة بطريقة ثانية، إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد الشروط التي لم يبحها - وإن كان لم يحرمها - باطلة فتقول:
قد ذكرنا ما في الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموما، وإن المقصود هو وجوب الوفاء بها. وعلى هذا التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة، فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة، وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة، وذلك لأن قوله: «ليس في كتاب الله (5) » إنما يشمل ما ليس في كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه إنما دل كتاب الله على إباحته بعمومه، فإنه في كتاب الله؛ لأن قولنا: هذا في كتاب الله يعم ما هو فيه بالخصوص أو بالعموم. وعلى هذا معنى قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (6) سورة النحل آية: 89 وقوله: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (7) سورة يونس آية: 37. وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (8) سورة الأنعام آية: 38 على قول من جعل الكتاب هو القرآن. وأما على قول من جعله اللوح المحفوظ: فلا يجيء ها هنا.
يدل على ذلك: أن الشرط الذي بينا جوازه بسنة أو إجماع، صحيح بالاتفاق فيجب أن يكون في كتاب الله. وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه ولكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المسلمين، فيكون
__________
(1) سورة المجادلة الآية 2
(2) صحيح مسلم النذر (1639) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3801) ، مسند أحمد بن حنبل (2/86) .
(3) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي كتاب الأيمان والنذور (3806) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .
(4) سورة النساء الآية 160
(5) صحيح البخاري الصلاة (456) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(6) سورة النحل الآية 89
(7) سورة يونس الآية 37
(8) سورة الأنعام الآية 38(2/79)
في كتاب الله بهذا الاعتبار؛ لأن جامع الجامع جامع، ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار.
يبقى أن يقال على هذا الجواب: فإذا كان كتاب الله أوجب الوفاء بالشروط عموما، فشرط الولاء داخل في العموم فيقال: العموم إنما يكون دالا إذا لم ينفه دليل خاص، فإن الخاص يفسر العام. وهذا المشروط قد نفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته، وقوله: «من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (1) » ودل الكتاب على ذلك بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (2) {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (3) فأوجب علينا دعاءه لأبيه الذي ولده، دون من تبناه وحرم التبني، ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعى أخاه في الدين ومولاه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لزيد بن حارثة: «أنت أخونا ومولانا (4) » وقال - صلى الله عليه وسلم ـ: «إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليكسه مما يلبس (5) » .
فجل سبحانه الولاء نظير النسب، وبين سب الولاء في قوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} (6) سورة الأحزاب آية: 37. بين أن سبب الولاء هو الإنعام بالإعتاق، كما أن سبب النسب هو الإنعام بالإيلاد. فإذا كان قد حرم الانتقال عن المنعم بالإيلاد، فكذلك يحرم الانتقال عن المنعم بالإعتاق؛ لأنه في معناه، فمن اشترط على المشتري أن يعتق ويكون الولاء لغيره، فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره.
وإلى هذا المعنى أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «إنما الولاء لمن أعتق (7) » .
وإذا كان كتاب الله قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه: لم يدخل في العهود التي أمر الله بالوفاء بها؛ لأنه سبحانه لا يأمر بما حرمه، مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يرد إلا المعنى الأول، وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب الله، والتقدير: من اشترط شيئا لم يبحه الله. فيكون المشروط قد حرمه؛ لأن كتاب الله قد أباح عموما ولم يحرمه، أو من اشترط ما ينافي كتاب الله، بدليل قوله: «كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (8) » فإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط جملة وصحتها أصلين: الأدلة الشرعية العامة، والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب، وانتفاء المحرم. فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة: هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم أم لا؟
أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي: فقد أجمع المسلمون وعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد ويفي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة
__________
(1) سنن الترمذي الوصايا (2121) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2712) ، سنن الدارمي السير (2529) .
(2) سورة الأحزاب الآية 4
(3) سورة الأحزاب الآية 5
(4) صحيح البخاري الصلح (2700) .
(5) صحيح البخاري الإيمان (30) ، صحيح مسلم الأيمان (1661) ، سنن الترمذي البر والصلة (1945) ، سنن ابن ماجه الأدب (3690) ، مسند أحمد بن حنبل (5/161) .
(6) سورة الأحزاب الآية 37
(7) صحيح البخاري البيوع (2156) ، سنن النسائي البيوع (4644) ، مسند أحمد بن حنبل (2/100) .
(8) صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن النسائي الطلاق (3451) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) .(2/80)
إذا كان من أهل ذلك. فإن جميع ما أوجبه الله ورسوله وحرمه الله ورسوله، مفسر لهذا الاستصحاب. فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذاك، وأما إذا كان المدرك هو النصوص العامة: فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به، إلا بعد البحث عن تلك المسألة: هل هي من المستخرج، أو من المستبقي؟ وهذا أيضا لا خلاف فيه، وإنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه، أو علم تخصيص صور معينة فيه: هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له. فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما. وذكروا عن أحمد فيه روايتين، وأكثر نصوصه: على أنه لا يجوز لأهل زمانه ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم، وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره. فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه. فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه. وهذا الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض، سواء جعل عدم المعارض جزءا من الدليل، فيكون الدليل هو الظاهر المجرد عن القرينة - كما يختاره من لا يقول بتخصيص الدليل ولا العلة من أصحابنا وغيرهم، أو يجعل المعارض من باب المانع للدليل فيكون الدليل هو الظاهر، لكن القرينة مانعة لدلالته، كما يقوله من يقول بتخصيص الدليل والعلة من أصحابنا وغيرهم، وإن كان الخلاف في ذلك إنما يعود إلى اعتبار عقلي، أو إطلاق لفظي، أو اصطلاح جدلي، لا يرتفع إلى أمر علمي أو فقهي.
فإذا كان كذلك فالأدلة النافية لتحريم العقود والشروط والمثبتة لحلها مخصوصة بجميع ما حرمه الله ورسوله من العقود والشروط، فلا ينتفع بهذه القاعدة في أنواع المسائل إلا مع العلم بالحجج الخاصة في ذلك النوع، فهي بأصول الفقه - التي هي الأدلة العامة - أشبه منها بقواعد الفقه، التي هي الأحكام العامة.
* * *
نعم من غلب على ظنه من الفقهاء انتفاء المعارض في مسألة خلافية أو حادثة انتفع بهذه القاعدة. فنذكر من أنواعها قواعد حكمية مطلقة.
فمن ذلك: ما ذكرناه من أنه يجوز لكل من أخرج عينا من ملكه بمعاوضة، كالبيع والخلع، أو تبرع كالوقف والعتق - أن يستثني بعض منافعها، فإن كان مما لا يصلح فيه القربة - كالبيع - فلا بد أن يكون المستثنى معلوما؛ لما روى البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي «عن جابر قال: " بعته - يعني بعيره - من النبي - صلى الله عليه وسلم - واشترطت حملانه إلى أهلي (1) » وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف، فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش سيده، أو عاش فلان، ويستثني غلة الوقف ما عاش الواقف.
ومن ذلك: أن البائع إذا شرط على المشتري أن يعتق العبد، صح ذلك في ظاهر مذهب الشافعي وأحمد
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3505) .(2/81)
وغيرهما لحديث بريرة، وإن كان عنهما قول بخلافه.(2/82)
ثم وهل يصير العتق واجبا على المشتري، كما يجب العتق بالنذر بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع، أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه من العتق، كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة في البيع؟ على وجهين في مذهبهما. ثم الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يرون هذا خارجا عن القياس؛ لما فيه من منع المشتري من التصرف في ملكه بغير العتق، وذلك مخالف لمقتضى العقد، فإن مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف طلقا.
قالوا: وإنما جوزته السنة؛ لأن الشارع له إلى العتق تشوف لا يوجد في غيره، ولذلك أوجب فيه السراية، مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره، وإذا كان مبناه على التغليب والسراية والنفوذ في ملك الغير لم يلحق به غيره. فلا يجوز اشتراط غيره.
وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح - وإن كان فيه منع من غيره - قال ابن القاسم: قيل لأحمد: الرجل يبيع الجارية على أن يعتقها؟ فأجازه: فقيل له: فإن هؤلاء - يعني أصحاب أبي حنيفة - يقولون: لا يجوز البيع على هذا الشرط، قال: لم لا يجوز؟ قد اشترى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعير جابر واشترط ظهره إلى المدينة، وأشرت عائشة بريرة على أن تعتقها، فلم لا يجوز هذا؟ قال: وإنما هذا شرط واحد، والنهي إنما هو على شرطين. قيل له: فإن شرط شرطين أيجوز؟ قال: لا يجوز.
فقد نازع من منع منه، واستدل على جوازه باشتراط النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر بعير جابر، وبحديث بريرة، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن شرطين في بيع، مع أن حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع. وهو نقض لموجب العقد المطلق، واشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقص موجب العقد المطلق.
فعلم أنه لا يفرق بين أن يكون النقص في التصرف أو في المملوك، واستدلاله بحديث الشرطين دليل على جواز هذا الجنس كله، ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره، ولا استدل عليه بما يشمله وغيره.
وكذلك قال أحمد بن الحسين بن حسان: سألت أبا عبد الله عمن اشترى مملوكا واشترط: هو حر بعد موتي؟ قال: هذا مدبر، فجوز اشتراط التدبير كالعتق. ولأصحاب الشافعي في شرط التدبير خلاف. صحح الرافعي أنه لا يصح.
وكذلك جواز اشتراط التسري. فقال أبو طالب: سألت أحمد عن رجل اشترى جارية بشرط أن يتسرى بها، تكون نفيسة، يحب أهلها أن يتسرى بها، ولا تكون للخدمة، قال: لا بأس به فلو كان التسري للبائع وللجارية فيه مقصود صحيح جوزه.(2/82)
وكذلك جوز أن يشترط البائع الجارية ونحوها على المشتري أنه لا يبيعها لغير البائع، وأن البائع يأخذها إذا أراد المشتري بيعها بالثمن الأول. كما رووه عن عمر وابن مسعود وامرأته زينب.
* * *
وجماع ذلك: أن المبيع الذي يدخل في مطلق العقد بأجزائه ومنافعه يملكان اشتراط الزيادة عليه. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم ـ: «من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع (1) » فجوز للمشتري اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق، وهو جائز بالإجماع. ويملكان اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق، وهو جائز بالإجماع، ويملكان اشتراط النقص منه بالاستثناء كما «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الثنايا إلا أن تعلم (2) » فدل على جوازها إذا علمت، وكما استثنى جابر ظهر بعيره إلى المدينة.
وقد أجمع المسلمون - فيما أعلمه - على جواز استثناء الجزء الشائع، مثل أن يبيعه الدار إلا ربعها أو ثلثها، واستثناء الجزء المعين إذا أمكن فصله بغير ضرر. مثل أن يبيعه ثمر البستان إلا نخلات بعينها، أو الثياب إلا العبيد، أو الماشية التي قدر رأياها، إلا شيئا منها قد عيناه.
واختلفوا في استثناء بعض المنفعة، كسكنى الدار شهرا، أو استخدام العبد شهرا، أو ركوب الدابة مدة معينة، أو إلى بلد بعينه، مع اتفاق الفقهاء المشهورين وأتباعهم وجمهور الصحابة: على أن ذلك قد يقع. كما إذا اشترى أمة مزوجة، فإن منفعة بضعها التي يملكها الزوج لم تدخل في العقد، كما اشترت عائشة بريرة وكانت مزوجة. لكن هي اشترتها بشرط العتق، فلم تملك التصرف فيها إلا بالعتق، والعتق لا ينافي نكاحها. فلذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما - وهو ممن روى حديث بريرة - يرى أن بيع الأمة طلاقها، مع طائفة من الصحابة تأويلا لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (3) سورة النساء آية: 24. قالوا: فإذا ابتاعها أو اتهبها أو ورثها فقد ملكتها يمينه فتباح له. ولا يكون ذلك إلا بزوال ملك الزوج. واحتج بعض الفقهاء على ذلك: بحديث بريرة.
فلم يرض أحمد هذه الحجة؛ لأن ابن عباس رواه وخالفه. وكذلك - والله أعلم - لما ذكرته من أن عائشة لم تملك بريرة ملكا مطلقا.
ثم الفقهاء قاطبة وجمهور الصحابة على أن الأمة المزوجة إذا انتقل الملك فيها - ببيع أو هبة أو إرث أو نحو ذلك، وكان مالكها معصوم الملك - لم يزل عنها ملك الزوج، وملكها المشتري ونحوه إلا منفعة البضع.
ومن حجتهم: أن البائع نفسه لو أراد أن يزيل ملك الزوج لم يمكنه ذلك فالمشتري الذي هو دون البائع لا يكون أقوى منه، ولا يكون الملك الثابت للمشتري أتم من ملك البائع، والزوج معصوم لا يجوز الاستيلاء
__________
(1) صحيح البخاري الشروط (2716) ، صحيح مسلم البيوع (1543) ، سنن الترمذي البيوع (1244) ، سنن النسائي البيوع (4636) ، سنن أبو داود البيوع (3433) ، سنن ابن ماجه التجارات (2211) ، مسند أحمد بن حنبل (2/82) ، موطأ مالك البيوع (1302) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1290) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3880) .
(3) سورة النساء الآية 24(2/83)
على حقه، بخلاف المسبية، فإن فيها خلافا ليس هذا موضعه، لكون أهل الحرب تباح دماؤهم وأموالهم، وكذلك ما ملكوا من الأبضاع.
وكذلك فقهاء الحديث وأهل الحجاز متفقون على أنه إذا باع شجرا قد بدا ثمره - كالنخل المؤبر - فثمره للبائع مستحق الإبقاء إلى كمال صلاحه، فيكون البائع قد استثنى منفعة الشجر إلى كمال الصلاح. وكذلك بيع العين المؤجرة - كالدار والعبد - عامتهم يجوزه، ويملكه المشتري دون المنفعة التي للمستأجر.
ففقهاء الحديث كأحمد وغيره يجوزون استثناء بعض منفعة العقد، كما في صور الوفاق، كاستثناء بعض أجزائه معينا ومشاعا، كذلك يجوزون استثناء بعض أجزائه معينا، إذا كانت العادة جارية بفصله، كبيع الشاة واستثناء بعضها، سواء قطعها من الرأس والجلد والأكارع، وكذلك الإجارة. فإن العقد المطلق يقتضي نوعا من الانتفاع في الإجارات المقدرة بالزمان، كما لو استأجر أرضا للزرع، أو حانوتا لتجارة فيه، أو صناعة أو أجيرا لخياطة، أو بناء ونحو ذلك، فإنه لو زاد على موجب العقد المطلق، أو نقص عنه: فإنه يجوز بغير خلاف أعلمه في النكاح، فإن العقد المطلق يقتضي ملك الاستمتاع المطلق الذي يقتضيه العرف حيث شاء ومتى شاء، فينقلها إلى حيث شاء إذا لم يكن فيه ضرر، إلا ما استثناه من الاستمتاع المحرم الذي هو مهر المثل، وملكها للاستمتاع في الجملة، فإنه لو كان مجبوبا أو عنينا ثبت لها الفسخ عند السلف والفقهاء والمشاهير، ولو آلى منها ثبت لها فراقه إذا لم يفئ بالكتاب والإجماع، وإن كان من الفقهاء من يوجب عليها الوطء، وقسم الابتداء، بل يكتفي بالباعث الطبيعي، كمذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد. فإن الصحيح من وجوه كثير أنه يجب عليه الوطء والقسم كما دل عليه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والاعتبار.
وقيل: يتقدر الوطء الواجب بمرة في كل أربعة أشهر، اعتبارا بالإيلاء، ويجب أن يطأها بالمعروف كما ينفق عليها بالمعروف. فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره.
والصحيح الذي يدل عليه أكثر نصوص أحمد، وعليه أكثر السلف: أن ما يوجبه العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر، كالنفقة والاستمتاع والمبيت للمرأة، وكالاستمتاع للزوج ليس بمقدار، بل المرجع في ذلك إلى العرف، كما دل عليه الكتاب في مثل قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1) سورة البقرة آية: 228. والسنة في مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف (2) » وإذا تنازع الزوجان فيه فرض الحاكم باجتهاده. كما فرضت الصحابة مقدار الوطء للزوج بمرات معدودة، ومن قدر من أصحاب أحمد الوطء المستحق، فهو كتقدير الشافعي النفقة، إذ كلاهما تحتاجه المرأة ويوجبه العقد. وتقدير ذلك ضعيف عند عامة الفقهاء، بعيد عن معاني الكتاب والسنة والاعتبار. والشافعي إنما قدره طردا للقاعدة التي ذكرناها عنه من نفيه للجهالة في جميع العقود، قياسا على المنع من بيع الغرر، فجعل النفقة المستحقة بعقد النكاح مقدرة: طردا لذلك. وقد تقدم التنبيه على هذا الأصل.
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) صحيح البخاري النفقات (5364) ، صحيح مسلم الأقضية (1714) ، سنن النسائي آداب القضاة (5420) ، سنن أبو داود البيوع (3533) ، سنن ابن ماجه التجارات (2293) ، مسند أحمد بن حنبل (6/206) ، سنن الدارمي النكاح (2259) .(2/84)
وكذلك يوجب العقد المطلق: سلامة الزوج من الجب والعنة عند عامة الفقهاء، وكذلك يوجب عند الجمهور سلامتها من العيوب التي تمنع كماله، كخروج النجاسات منه أو منها أو نحو ذلك في أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره، دون الجمال ونحو ذلك. وموجبه كفاءة الرجل أيضا دون ما زاد على ذلك.
ثم لو شرط أحد الزوجين في الآخر صفة مقصودة، كالمال والجمال والبكارة ونحو ذلك صح ذلك، وملك المشترط الفسخ عند فواته، في أصح الروايتين عند أحمد، وأصح وجهي أصحاب الشافعي وظاهر مذهب مالك. والرواية الأخرى، لا يملك الفسخ إلا في شرط الحرية والدين. وفي شرط النسب على هذه الرواية وجهان، سواء كان المشترط هو المرأة في الرجل، أو الرجل في المرأة. بل اشتراط المرأة في الرجل أوكد باتفاق الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم. وما ذكره بعض أصحاب أحمد بخلاف ذلك: لا أصل له.
وكذلك لو اشترط بعض الصفة المستحقة بمطلق العقد، مثل أن يشترط الزوج أنه مجبوب أو عنين، أو المرأة أنها رتقاء أو مجنونة، صح هذا الشرط باتفاق الفقهاء. فقد اتفقوا على صحة الشرط الناقص عن موجب العقد واختلفوا في شرط الزيادة عليه في هذا الموضع، كما ذكرته لك. فإن مذهب أبي حنيفة: أنه لا يثبت للرجل خيار عيب ولا شرط في النكاح. وأما المهر فإنه لو زاد على مهر المثل أو نقص جاز بالاتفاق.
كذلك يجوز أكثر السلف - أو كثير منهم - وفقهاء الحديث ومالك - في إحدى الروايتين - أن ينقص ملك الزوج، فتشترط عليه أن لا ينقلها من بلدها أو من دارها، وأن يزيدها على ما تملكه بالمطلق صرفوا عليها نفسه (1) فلا يتزوج عليها ولا يتسرى. وعند طائفة من السلف وأبي حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى: لا يصح هذا الشرط، لكنه له عند أبي حنيفة والشافعي أثر في تسمية المهر.
والقياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث: أن اشتراط الزيادة على مطلق العقد واشتراط النقص جائز ما لم يمنع من الشرع. فإذا كانت الزيادة في العين، أو المنفعة المعقود عليها، والنقص من ذلك ما ذكرت. فالزيادة في الملك المستحق بالعقد والنقص منه كذلك. فإذا شرط على المشتري أن يعتق العبد، أو يقف العين على البائع أو غيره، أو أن يقضي بالعين دينا عليه لمعين أو غير معين، أو أن يصل به رحمه ونحو ذلك، فهو اشتراط تصرف مقصود. ومثله التبرع المفروض والتطوع.
وأما التفريق بين العتق وغيره بما في العتق من الفضل الذي يتشوفه الشارع فضعيف، فإن بعض أنواع التبرعات أفضل منه. فإن صلة ذي الرحم المحتاج أفضل منه، كما نص عليه أحمد. فإن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه
__________
(1) كذا في المطبوع.(2/85)
وسلم -، أعتقت جارية لها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم ـ: «لو تركتيها لأخوالك لكان خيرا لك» ولهذا لو كان للميت أقارب لا يرثون كانت الوصية لهم أولى من الوصية بالعتق. وما أعلم في هذا خلافا. إنما أعلم الاختلاف في وجوب الوصية لهم. فإن فيه عن أحمد روايتين:
إحداهما: تجب. كقول طائفة من السلف والخلف.
والثانية: لا يجب. كقول الفقهاء الثلاثة وغيرهم. ولو وصى لغيرهم دونهم، فهل تسري تلك الوصية على أقاربه دون الموصى له، أو يعطى ثلثها للموصى له وثلثاها لأقاربه، كما تقسم التركة بين الورثة والموصى له؟ على روايتين عن أحمد. وإن كان المشهور عند أكثر أصحابه. هو القول بنفوذ الوصية. فإذا كان بعض التبرعات أفضل من العتق لم يصح تعليله باختصاصه بمزيد الفضيلة.
وأيضا فقد يكون المشروط على المشتري أفضل، كما لو كان عليه دين لله من زكاة أو كفارة أو نذر أو دين لآدمي، فاشترط عليه وفاء دينه من ذلك المبيع، أو اشترط المشتري على البائع وفاء الدين الذي عليه من الثمن ونحو ذلك. فهذا أوكد من اشتراط العتق.
وأما السراية فإنما كانت لتكميل الحرية. وقد شرع مثل ذلك في الأموال. وهو حق الشفعة فإنها شرعت لتكميل الملك للمشتري؛ لما في الشركة من الضرار. ونحن نقول: شرع ذلك في جميع المشاركات فيمكن الشريك من المقاسمة. فإن أمكن قسمة العين، وإلا قسمنا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك. فتكميل العتق نوع من ذلك، إذ الشركة تزول بالقسمة تارة، وبالتكميل أخرى.
وأصل ذلك: أن الملك هو القدرة الشرعية على التصرف، بمنزلة القدرة الحسية فيمكن أن تثبت القدرة على تصرف دون تصرف شرعا، كما يثبت ذلك حسا. ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعا، كما أن القدرة تتنوع أنواعا، فالملك التام يملك فيه التصرف في الرقبة بالبيع والهبة، ويورث عنه، ويملك التصرف في منافعه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك، ثم قد يملك الأمة المجوسية، أو المحرمات عليه بالرضاع. فلا يملك منهن الاستمتاع، ويملك المعاوضة عليه بالتزويج، بأن يزوج المجوسية المجوسي مثلا، وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها ولا تورث عنه عند جماهير المسلمين. ويملك وطأها واستخدامها باتفاقهم. وكذلك تملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والإجارة عند أكثرهم، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد.
ويملك المرهون ويجب عليه مئونته، ولا يملك من التصرف ما يزيل حق المرتهن لا بيع وهبة. وفي العتق خلاف مشهور.(2/86)
والعبد المنذور عتقه، والهدي، والمال الذي قد نذر الصدقة بعينه، ونحو ذلك مما استحق صرفه إلى القربة، قد اختلف فيه الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: هل يزال ملكه عنه بذلك أم لا؟ وكلا القولين خارج عن قياس الملك المطلق. فمن قال: لم يزل ملكه عنه - كما قد يقوله أكثر أصحابنا - فهو ملك لا يملك صرفه إلا إلى الجهة المعينة بالإعتاق، أو النسك، أو الصدقة. وهو نظير العبد المشترى بشرط العتق، أو الصدقة، أو الصلة، أو الفدية المشتراة بشرط الإهداء إلى الحرم.
ومن قال: زال ملكه عنه، فإنه يقول: هو الذي يملك عتقه وإهداءه والصدقة به. وهو أيضا خلاف قياس زوال الملك في غير هذا الموضع.
وكذلك اختلاف الفقهاء في الوقف على معين: هل يصير الموقوف ملكا لله. أو ينتقل إلى الموقوف عليه، أو يكون باقيا على ملك الواقف؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره.
وعلى كل تقدير: فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره من الملك في البيع أو الهبة، وكذلك ملك الموهوب له، حيث يجوز للواهب الرجوع، كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء الحديث، كالشافعي وأحمد: نوع مخالف لغيره، حيث سلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده.
ونظيره سائر الأملاك في عقد يجوز لأحد المتعاقدين فسخه، كالمبيع بشرط عند من يقول: انتقل إلى المشتري كالشافعي وأحمد في أحد قوليهما، كالمبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز، وكالمبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة عند جميع المسلمين. فهنا في المعاوضة والتبرع يملك العاقد انتزاعه، وملك الأب لا يملك انتزاعه، وجنس الملك يجمعها. وكذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذي اتبعوا فيه معنى الكتاب وصريح السنة.
وطوائف من السلف يقولون: هو مباح للأب مملوك للابن، بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالاستيلاء، وملك الابن ثابت عليه، بحيث يتصرف فيه تصرفا مطلقا.
فإذا كان الملك يتنوع أنواعا: وفيه من الإطلاق والتقييد ما وصفته وما لم أصفه: لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضا إلى الإنسان، يثبت منه ما رأى فيه مصلحة له، ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة له فيه. والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض. فإذا لم يكن فيه فساد، أو كان فساده مغمورا بالمصلحة لم يحظره أبدا. اهـ.
* * *
وقال ابن حزم - وكل شرط وقع في بيع منهما أو من أحدهما يرضي الآخر فإنهما إن عقداه قبل عقد البيع أو بعد تمام البيع بالتفرق بالأبدان. أو بالتخيير أو في أحد الوقتين - يعني قبل(2/87)
العقد أو بعده - ولم يذكراه في حين عقد البيع فالبيع صحيح تام والشرط باطل لا يلزم (1) ، فإن ذكرا ذلك الشرط في حال عقد البيع (2) فالبيع باطل مفسوخ والشرط باطل أي شرط كان لا تحاش شيئا إلا سبعة شروط فقط فإنها لازمة والبيع صحيح إن اشترطت في البيع، وهي اشتراط الرهن فيما تبايعاه إلى أجل مسمى، واشتراط تأخير الثمن إن كان دنانير أو دراهم إلى أجل مسمى، واشتراط أداء الثمن إلى الميسرة وإن لم يذكر أجلا، واشتراط صفات المبيع التي يتراضيانها معا ويتبايعان ذلك الشيء على أنه بتلك الصفة، واشتراط أن لا خلا به، وبيع العبد والأمة فيشترط المشتري مالهما أو بعضه مسمى معينا أو جزءا منسوبا مشاعا في جميعه سواء كان مالهما مجهولا كله أو معلوما كله أو معلوما بعضه مجهولا بعضه. أو بيع أصول نخل فيه ثمرة قد أبرت قبل الطيب أو بعده، فيشترط المشتري الثمرة لنفسه أو جزءا معينا منها أو مسمى مشاعا في جميعها. فهذه ولا مزيد، وسائرها باطل كما قدمنا، كمن باع مملوكا بشرط العتق أو أمة بشرط الإيلاد، أو دابة واشترط ركوبها مدة مسماة، قلت: أو كثرت أو إلى مكان مسمى قريب أو بعيد، أو دارا واشترط سكناها ساعة، فما فوقها أو غير ذلك من الشروط كلها.
برهان ذلك ما رويناه من طريق مسلم بن حجاج نا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني لا أبو أسامة - هو حماد بن أسامة - لا هشام بن عروة عن أبيه قال: أخبرتني عائشة أم المؤمنين فذكرت حديثا قالت فيه: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد فما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (4) » وذكر باقي الخبر، ومن طريق أبي داود حدثنا القعنبي، وقتيبة بن سعيد قالا جميعا: نا الليث - هو ابن سعد - عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير قال: إن عائشة أم المؤمنين أخبرته «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فقال: ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة مرة، شرط الله أحق وأوثق (5) » فهذا الأثر كالشمس صحة وبيانا يرفع الإشكال كله: فلما كانت الشروط كلها باطلة غير ما ذكرنا، كان كل عقد من بيع أو غيره عقد على شرط باطل باطلا، ولا بد؛ لأنه عقد على أنه لا يصح (6) إلا بصحة الشرط والشرط لا صحة له، فلا صحة لما عقد بأن لا صحة إلا بصحة ما لا يصح.
قال أبو محمد: وأما تصحيحنا الشروط السبعة التي ذكرنا فإنها منصوص على صحتها، وكل ما نص رسول
__________
(1) في النسخة رقم 16 '' فلم يلزم ''.
(2) في النسخة رقم 16 ففي حال العقد.
(3) صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن الترمذي الوصايا (2124) ، سنن النسائي الطلاق (3451) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) ، مسند أحمد بن حنبل (6/213) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(4) الزيادة من صحيح مسلم ج 1 ص 440. (3)
(5) الحديث في سنن أبي داود مطولا اختصره المؤلف.
(6) في النسخة رقم 14 (لأنه عقد ما لا يصح) .(2/88)
الله - صلى الله عليه وسلم - (1) فهو في كتاب الله عز وجل، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2) وقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (4) وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (5) فأما (6) اشتراط الرهن في البيع إلى أجل مسمى فلقوله تعالى: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (7) وأما اشتراط الثمن إلى أجل مسمى فلقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (8) وأما اشتراط أن لا خلا به فقد ذكرنا الخبر في ذلك قبل هذا المكان بنحو أربع مسائل (9) وأما اشتراط الصفات التي يتبايعان عليها من السلامة: أو من أن لا خديعة ومن صناعة العبد، أو الأمة، أو سائر صفات المبيع فلقول الله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (10) فنص تعالى على التراضي منهما، والتراضي لا يكون إلا على صفات المبيع، وصفات الثمن ضرورة. أما اشتراط الثمن إلى الميسرة فلقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (11) وروينا من طريق شعبة أخبرني عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى يهودي - قدمت عليه ثياب -: «ابعث إلي بثوبين إلى الميسرة» وذكر باقي الخبر. وأما مال العبد، أو الأمة واشتراطه. واشتراط ثمر النخل المؤبر، فلما روينا من طريق عبد الرزاق نا معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا إن اشترطه المبتاع، ومن باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع (12) » .
قال أبو محمد: ولو وجدنا خبرا يصح في غير هذه الشروط باقيا غير منسوخ لقلنا به ولم نخالفه، وسنذكر إن شاء الله تعالى حكم هذين الشرطين إذ قد ذكرنا غيرهما والحمد لله رب العالمين. وقد ذكرنا رواية عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: كل بيع فيه شرط فليس بيعا.
قال علي: فإن احتج معارض لنا بقول الله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (13) وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (14) وبما روى: «المسلمون عند شروطهم (15) » قلنا وبالله تعالى التوفيق (16) : أما أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود لا يختلف اثنان في أنه ليس على عمومه ولا على ظاهره، وقد جاء القرآن بأن تجتنب نواهي الله تعالى ومعاصيه، فمن عقد على معصية حرم عليه الوفاء بها، فإذ لا شك في هذا فقد صح أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل والباطل محرم، فكل محرم فلا يحل الوفاء به، وكذلك قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (17)
__________
(1) سقط لفظ (عليه) من النسخة رقم 14.
(2) سورة النحل الآية 44
(3) سورة النجم الآية 3
(4) سورة النجم الآية 4
(5) سورة النساء الآية 80
(6) في النسخة رقم 14 (وأما) .
(7) سورة البقرة الآية 283
(8) سورة البقرة الآية 282
(9) ذكر في ص 376.
(10) سورة النساء الآية 29
(11) سورة البقرة الآية 280
(12) صحيح البخاري المساقاة (2379) ، صحيح مسلم البيوع (1543) ، سنن الترمذي البيوع (1244) ، سنن النسائي البيوع (4636) ، سنن أبو داود البيوع (3433) ، سنن ابن ماجه التجارات (2211) ، مسند أحمد بن حنبل (2/9) ، موطأ مالك البيوع (1302) .
(13) سورة المائدة الآية 1
(14) سورة النحل الآية 91
(15) سنن أبو داود الأقضية (3594) .
(16) الزيادة من النسخة الحلبية.
(17) سورة النحل الآية 91(2/89)
فلا يعلم ما هو عهد الله إلا بنص وارد فيه، وقد علمنا أن كل عهد نهى الله عنه فليس هو عهد الله تعالى بل هو عهد الشيطان فلا يحل الوفاء به، وقد نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل والباطل لا يحل الوفاء به.
وأما الأثر في ذلك فإننا رويناه من طريق ابن وهب حدثني سليمان بن بلال نا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: «المسلمون عند شروطهم» ورويناه أيضا من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي حدثني الحزامي عن محمد بن عمر عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عمر بن عبد العزيز قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: «المسلمون على شروطهم (1) » ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن الحجاج بن أرطاة عن خالد بن محمد عن شيخ من بني كنانة سمعت عمر يقول: المسلم عند شرطه. ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن عيينة عن يزيد بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله عن عبد الرحمن بن غنم قال عمر بن الخطاب: " إن مقاطع الحقوق عند الشروط "، ومن طريق ابن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال: المسلمون عند شروطهم.
قال أبو محمد: كثير بن زيد هو كثير بن عبد الله بن عمر (2) بن زيد هالك متروك باتفاق، والوليد بن رباح مجهول، والآخر عبد الملك بن حبيب هالك، ومحمد بن عمر هو الواقدي مذكور بالكذب، وعبد الرحمن بن محمد مجهول لا يعرف. ومرسل أيضا، والثالث مرسل أيضا، والذي من طريق عمر فيه الحجاج بن أرطاة وهو هالك، وخالد بن محمد مجهول وشيخ من بني كنانة، والآخر فيه إسماعيل بن عبيد الله ولا أعرفه، وخبر علي مرسل، ثم لو صح كل ما ذكرنا لكان حجة لنا وغير مخالف لقولنا؛ لأن شروط المسلمين هي الشروط التي أباحها الله لهم لا التي نهاهم عنها، وأما التي نهوا عنها فليست شروط المسلمين، وقد نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وإن كان مائة شرط أو اشترط مائة مرة، وأنه لا يصح لمن اشترطه، فصح أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فباطل فليس هو من شروط المسلمين، فصح قولنا بيقين. ثم إن الحنيفيين، والمالكيين، والشافعيين أشد الناس اضطرابا وتناقضا في ذلك؛ لأنهم يجيزون شروطا ويمنعون شروطا كلها سواء في أنها باطلة ليست في كتاب الله عز وجل، ويجيزون شروطا ويمنعون شروطا كلها سواء حق؛ لأنها في كتاب الله تعالى، فالحنفيون والشافعيون يمنعون اشتراط المبتاع مال العبد وثمر النخل المؤبر ولا يجيزون له ذلك البتة إلا بالشراء على حكم البيوع، والمالكيون والحنيفيون والشافعيون لا يجيزون البيع إلى الميسرة ولا شرط قول: لا خلابة عند البيع، وكلاهما في كتاب الله عز وجل؛ لأمر النبي (3) - صلى الله عليه وسلم - بهما، وينسون هاهنا (4) «المسلمون عند شروطهم» وكلهم يجيز بيع الثمرة التي لم يبد صلاحها بشرط القطع
__________
(1) سنن أبو داود الأقضية (3594) .
(2) في النسخة رقم 14 (ابن عمر) وهو غلط.
(3) في النسخة رقم 16 (أمر النبي) .
(4) في النسخة رقم 14 هنا.(2/90)
وهو شرط ليس في كتاب الله تعالى بل قد صح النهي عن هذا البيع جملة، ومثل هذا كثير.
قال أبو محمد: ولا يخلو كل شرط اشترط في بيع أو غيره من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها: إما إباحة مال لم يجب في العقد، وإما إيجاب عمل، وإما المنع من عمل، والعمل يكون بالبشرة أو بالمال فقط، وكل ذلك حرام بالنص، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن دماءكم وأموالكم وأبشاركم عليكم حرام (1) » وأما المنع من العمل فإن الله تعالى يقول: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (2) فصح بطلان كل شرط جملة إلا شرطا جاء النص من القرآن أو السنة بإباحته، وهاهنا أخبار نذكرها ونبينها إن شاء الله تعالى؛ لئلا يعترض بها جاهل أو مشغب.
* * *
حدثني محمد بن إسماعيل العذري القاضي بسرقسطة نا محمد بن علي الرازي المطوعي نا محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري نا جعفر بن محمد الخلدي نا عبد الله بن أيوب بن زاذان الضرير نا محمد بن سليمان الذهلي نا عبد الوارث - هو ابن سعيد التنوري -: قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة فسألت أبا حنيفة عمن باع بيعا واشترط شرطا، فقال: البيع باطل والشرط باطل، ثم سألت ابن أبي ليلى عن ذلك، فقال: البيع جائز والشرط باطل، ثم سألت ابن شبرمة عن ذلك، فقال: البيع جائز والشرط جائز. فرجعت إلى أبي حنيفة فأخبرته بما قالا فقال: لا أدري ما قالا - حدثنا عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن بيع وشرط» البيع باطل والشرط باطل، فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بما قالا: فقال: لا أدري ما قالا - حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اشتري بريرة واشترطي لهم الولاء (3) » البيع جائز والشرط باطل. فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بما قالا فقال: لا أدري ما قالا نا مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله «أنه باع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جملا واشترط ظهره إلى المدينة (4) » البيع جائز والشرط جائز، وهاهنا خبر رابع رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا زياد بن أيوب نا ابن علية نا أيوب السختياني نا عمرو بن شعيب حدثني أبي عن أبيه عن أبيه (5) حتى ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: «لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن (6) » . وبه أخذ أحمد بن حنبل فيبطل البيع إذا كان فيه شرطان ويجيزه إذا كان فيه شرط واحد، وذهب أبو ثور إلى الأخذ بهذه الأحاديث كلها فقال: إن اشترط البائع بعض ملكه كسكنى الدار مدة مسماة أو دهره كله أو خدمة العبد كذلك، أو ركوب الدابة كذلك أو لباس الثوب كذلك، جاز البيع والشرط؛ لأن الأصل له والمنافع له فباع ما شاء وأمسك ما شاء، وكل بيع اشترط فيه ما يحدث في ملك المشتري فالبيع جائز والشرط باطل كالولاء ونحوه، وكل بيع اشترط فيه عمل أو مال على البائع أو عمل المشتري فالبيع والشرط باطلان معا.
__________
(1) صحيح البخاري الفتن (7078) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، مسند أحمد بن حنبل (5/39) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .
(2) سورة التحريم الآية 1
(3) صحيح البخاري البيوع (2168) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن النسائي الطلاق (3451) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(4) سنن الترمذي المناقب (3852) .
(5) سقط لفظ (عن أبيه) الثاني من سنن النسائي ج 7 ص 295.
(6) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .(2/91)
قال أبو محمد: هذا خطأ من أبي ثور؛ لأن منافع ما باع البائع من دار أو عبد أو دابة أو ثوب أو غير ذلك فإنما هي له ما دام كل ذلك في ملكه فإذا خرج عن ملكه فمن الباطل والمحال أن يملك ما لم يخلقه الله تعالى بعد من منافع ما باع، فإذا أحدثها الله تعالى فإنما أحدثها الله تعالى في ملك غيره فهي ملك لمن حدثت (عنده) (1) في ملكه فبطل توجيه أبي ثور، وكذلك باقي تقسيمه؛ لأنه دعوى بلا برهان.
وأما قول أحمد فخطأ أيضا؛ لأن تحريم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشرطين (2) في بيع ليس مبيحا لشرط واحد ولا محرما له لكنه مسكوت عنه في هذا الخبر، فوجب طلب حكمه في غيره، فوجدنا قوله صلى الله عليه وسلم «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل (3) » فبطل الشرط الواحد وكل ما لم يعقد إلا به، وبالله تعالى التوفيق.
وبقي حديث بريرة وجابر في الجمل، فنقول وبالله تعالى التوفيق: إننا روينا ما حدثناه محمد بن سعيد بن نبات نا محمد بن أحمد بن مفرج نا عبد الله بن جعفر ابن الورد نا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف نا يحيى بن بكير نا الليث بن سعد عن هشام بن عروة عن عائشة قالت: «جاءتني بريرة فقالت كاتبت أهلي على تسع أواق كل عام أوقية فأعينيني فقالت عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة ويكون لي ولاؤك فعلت، فعرضتها عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك فسألها فأخبرته فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق، ففعلت فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشية في الناس فحمد الله عز وجل ثم قال: ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله عز وجل؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق (6) » وذكر باقي الخبر.
* * *
وأما طريق البخاري نا أبو نعيم نا عبد الواحد بن أيمن نا أبي قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها (7) فقالت: «دخلت بريرة - وهي مكاتبة - وقالت: اشتريني وأعتقيني، قالت: نعم قالت: لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي، فقالت عائشة: لا حاجة لي بذلك، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: اشتريها وأعتقيها ودعيهم يشترطون ما شاءوا فاشترتها عائشة فأعتقتها واشترط أهلها الولاء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: الولاء لمن أعتق وإن كان مائة شرط (8) » .
__________
(1) الزيادة من النسخة رقم 16.
(2) في النسخة رقم 14 (للشرطين) .
(3) صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن الترمذي الوصايا (2124) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) ، مسند أحمد بن حنبل (6/213) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(4) صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(5) في النسخ كلها: أن أحبوا أهلك. (4)
(6) في النسخة رقم 14 أن يكون لهم الولاء. (5)
(7) الزيادة من صحيح البخاري ج3 ص 304 والحديث فيه مطول اختصره المصنف.
(8) صحيح البخاري كتاب العتق (2565) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .(2/92)
قال أبو محمد: فالقول في هذا الخبر هو على ظاهره دون تزيد ولا ظن كاذب مضاف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تحريف اللفظ وهو إن اشترط الولاء على المشتري في المبيع للعتق كان لا يضر البيع شيئا وكان البيع على هذا الشرط جائزا حسنا مباحا وإن كان الولاء مع ذلك للمعتق، وكان اشتراط البائع الولاء لنفسه مباحا غير منهي عنه ثم نسخ الله عز وجل ذلك وأبطله إذ خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك كما ذكرنا، فحينئذ حرم أن يشترط هذا الشرط أو غيره جملة إلا شرطا في كتاب الله تعالى لا قبل ذلك أصلا، وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (1) وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (2)
برهان ذلك أنه عليه السلام قد أباح ذلك وهو عليه السلام لا يبيح الباطل ولا يغر أحدا ولا يخدعه، فإن قيل: فهلا أجزتم البيع بشرط العتق في هذا الحديث؟ قلنا: ليس فيه اشتراطهم عتقها أصلا (3) ولو كان لقلنا به، وقد يمكن أنهم اشترطوا ولاءها إن أعتقت يوما ما أو إن أعتقها إذ إنما في الحديث أنهم اشترطوا ولاءها لأنفسهم فقط ولا يحل أن يزاد في الأخبار شيء لا لفظ ولا معنى فيكون من فعل ذلك كاذبا، إلا أننا نقطع ونبت أن البيع بشرط العتق لو كان جائزا لنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه وبينه، فإذا لم يفعل فهو شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولا فرق بين البيع بشرط العتق وبين بيعه بشرط الصدقة، أو بشرط الهبة، أو بشرط التدبير، وكل ذلك لا يجوز.
ومن حديث جابر، فإننا رويناه من طريق البخاري نا أبو نعيم نا زكريا سمعت عامرا الشعبي يقول: حدثني جابر بن عبد الله «أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فضربه فدعا له فسار سيرا ليس يسير مثله ثم قال: بعنيه بأوقية، قلت: لا ثم قال: بعنيه بأوقية فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي فلما قدمنا أتيته بالجمل ونقدني ثمنه ثم انصرفت فأرسل على أثري فقال: ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك فهو مالك (5) » ومن طريق مسلم: نا ابن نمير نا أبي نا زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن عامر الشعبي حدثني جابر بن عبد الله فذكر هذا الخبر وفيه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: بعنيه فبعته بأوقية واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في أثري فقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك فهو لك (7) » ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن العلاء نا أبو معاوية عن الأعمش عن
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(2) سورة الأحزاب الآية 6
(3) في النسخة رقم 14 عتقا أصلا.
(4) صحيح البخاري الشروط (2718) .
(5) في صحيح البخاري ج4 ص 30 فسار يسير. (4)
(6) صحيح البخاري الجهاد والسير (2967) ، صحيح مسلم المساقاة (715) ، سنن النسائي البيوع (4637) ، مسند أحمد بن حنبل (3/376) .
(7) في النسخة رقم 16 ثم إني رجعت وما هنا موافق لما في صحيح مسلم ج1 ص 470. (6)(2/93)
سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله فذكر هذا الخبر وفيه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: ما فعل الجمل؟ بعنيه قلت: يا رسول الله بل هو لك قال: لا بل بعنيه، قلت: لا: بل هو لك قال: (لا بل) بعنيه قد أخذته بأوقية، اركبه فإذا قدمت المدينة فأتنا به، فلما قدمت المدينة جئته به فقال لبلال (يا بلال) زن له أوقية وزده قيراطا (4) » هكذا رويناه من طريق عطاء عن جابر.
قال أبو محمد: روى هذا أن ركوب جابر للجمل كان تطوعا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختلف فيه على الشعبي وأبي الزبير، فروي عنهما عن جابر أنه كان شرطا من جابر، وروي عنهما أنه كان تطوعا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنحن نسلم لهم أنه كان شرطا ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق: إنه قد صح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد أخذته بأوقية (5) » وصح عنه عليه السلام أنه قال: «أتراني ماكستك لآخذ جملك ما كنت لآخذ جملك ذلك فهو مالك (6) » كما أوردنا آنفا، فصح يقينا أنهما أخذان، أحدهما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والآخر لم يفعله بل انتفى منه. ومن جعل كل ذلك أخذا واحد فقد كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كلامه وهذا كفر محض. فإذا لا بد من أنهما أخذان؛ لأن الأخذ الذي أخبر به عليه السلام عن نفسه هو بلا شك غير الأخذ الذي انتفى عنه البتة، فلا سبيل (7) إلى غير ما يحمل عليه ظاهر الخبر وهو أنه عليه السلام أخذه وابتاعه ثم تخير قبل التفرق ترك (8) أخذه، وصح أن في حال المماكسة كان ذلك أيضا في نفسه عليه السلام؛ لأنه عليه السلام أخبره أنه لم يماكسه ليأخذ جمله، فصح أن البيع لم يتم فيه قط فإنما اشترط جابر ركوب جمل نفسه فقط، وهذا هو مقتضى لفظ الأخبار إذا جمعت ألفاظها، فإذ قد صح أن ذلك البيع لم يتم ولم يوجد في شيء من ألفاظ ذلك الخبر أصلا أن البيع تم بذلك الشرط فقد بطل أن يكون في هذا الخبر حجة في جواز بيع الدابة واستثناء ركوبها أصلا وبالله تعالى التوفيق.
فأما الحنيفيون، والشافعيون فلا يقولون بجواز هذا الشرط أصلا، فإنما الكلام بيننا وبين المالكيين فيه فقط، وليس في هذا الخبر تحديد يوم ولا مسافة قليلة من كثيرة ومن ادعى ذلك فقد كذب، فمن أين خرج لهم تحديد مقدار دون مقدار؟ ويلزمهم - إذ لم يجيزوا بيع الدابة على شرط ركوبها شهرا ولا عشرة أيام، وأبطلوا هذا الشرط وأجازوا بيعها واشتراط ركوبها مسافة يسيرة - أن يحدوا المقدار الذي يحرم به ما حرموه من ذلك المقدار الذي حللوه، هذا فرض عليهم وإلا فقد تركوا من اتبعهم في سخنة عينه وفي ما لا يدري لعله يأتي حراما (9) أو يمنع
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2097) ، صحيح مسلم الرضاع (715) ، سنن النسائي البيوع (4639) .
(2) في سنن النسائي ج 7 ص 299 قلت: بل هو لك يا رسول الله. (1)
(3) الزيادة من سنن النسائي. (2)
(4) الزيادة من سنن النسائي. (3)
(5) مسند أحمد بن حنبل (3/314) .
(6) صحيح مسلم المساقاة (715) .
(7) في النسخة رقم 16 (إذا لا سبيل) .
(8) في النسخة رقم 14 (وترك) .
(9) في النسخة رقم 14 (يأتي محرما) .(2/94)
حلالا، وهذا ضلال مبين. فإن حدوا في ذلك مقدارا ما سئلوا عن البرهان في ذلك إن كانوا صادقين. فلاح فساد هذا القول بيقين لا شك فيه. ومن الباطل المتيقن أن يحرم الله تعالى علينا ما لا يفصله لنا من أوله لآخره لنجتنبه ونأتي ما سواه، إذا كان تعالى يكلفنا ما ليس في وسعنا من أن نعلم الغيب وقد أمننا الله تعالى من ذلك.
(فإن قالوا) : إن في بعض ألفاظ الخبرين ذلك كان حين دنوا من المدينة. قلنا: الدنو يختلف ولا يكون إلا بالإضافة، فمن أتي من تبوك فكان من المدينة على ست مراحل أو خمس فقد دنا منها، ويكون الدنو أيضا على ربع ميل وأقل أو أكثر فالسؤال باق عليكم بحسبه، وأيضا فإن هذه اللفظة إنما هي في رواية سالم بن أبي الجعد وهو إنما روى أن ركوب جابر كان تطوعا من النبي - صلى الله عليه وسلم - وشرطا (1) وفي رواية المغيرة عن الشعبي عن جابر دليل على أن ذلك كان في مسيرهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى غزاة، وأيضا فليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع من ذلك الشرط إلا في مثل تلك المسافة، فإذا لم يقيسوا على تلك المسافة سائر المسافات فلا تقيسوا على تلك الطريق سائر الطرق (2) ولا تقيسوا على اشتراط ذلك في ركوب جمل سائر الدواب وإلا فأنتم متناقضون متحكمون بالباطل. وإذا قستم على تلك الطريق سائر الطرق، وعلى الجمل سائر الدواب، فقيسوا على تلك المسافة سائر المسافات. كما فعلتم في صلاته عليه السلام راكبا متوجها إلى خيبر إلى غير القبلة فقستم على تلك المسافة سائر المسافات. فلاح أنهم لا متعلق لهم في هذا الخبر أصلا وبالله تعالى التوفيق.
* * *
وقد جاءت عن الصحابة رضي الله عنهم آثار في الشروط في البيع خالفوها، فمن ذلك ما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم ـ: وددنا لو أن عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف قد تبايعا حتى ننظر (3) أيهما أعظم جدا في التجارة، فاشترى عبد الرحمن بن عوف من عثمان فرسا بأرض أخرى بأربعين ألفا أو نحوها إن أدركتها الصفقة وهي سالمة ثم أجاز قليلا ثم رجع فقال: أزيدك ستة آلاف إن وجدها رسولي سالمة قال: نعم فوجدها رسول عبد الرحمن قد هلكت وخرج منها بالشرط الآخر، قيل للزهري: فإن لم يشترط؟ قال: فهي من البائع، فهذا عمل عثمان وعبد الرحمن بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وعلمهم، لا مخالف لهم يعرف منهم، ولم ينكر ذلك سعيد، وصوبه الزهري، فخالف الحنيفيون والمالكيون والشافعيون كل هذا وقالوا: لعل الرسول يخطئ أو يبطئ أو يعرضه عارض فلا يدري متى يصل، وهم يشنعون مثل هذا إذا خالف تقليدهم.
ومن طريق وكيع نا محمد بن قيس الأسدي عن عون بن عبد الله عن عتبة بن مسعود قال: إن تميما الداري باع داره واشترط سكناها (4) حياته وقال: إنما مثلي مثل أم موسى رد عليها ولدها وأعطيت أجر رضاعها. ومن
__________
(1) كذا في الأصل ولعله: لا شرطا.
(2) في النسخة رقم 16 (سائر الطريق) .
(3) في النسخة 14 حتى نعلم.
(4) في النسخة 16 سكناه.(2/95)
طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن مرة ابن شراحيل قال: باع صهيب داره من عثمان واشترط سكناها، وبه يأخذ أبو ثور. فخالفوه ولا مخالف لذلك من الصحابة ممن يجيز الشرط في البيع، وقد ذكرنا قبل ابتياع نافع بن عبد الحرث دارا بمكة للسجن من صفوان بأربعة آلاف على: إن رضي عمر، فالبيع تام، فإن لم يرض فلصفوان أربعمائة. فخالفوهم كلهم. ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر أخبرني نافع عن ابن عمر أنه اشترى بعيرا بأربعة أبعرة على أن يوفوه إياها بالربذة. وليس فيه وقت ذكر الإيفاء. فخالفوه ومن طريق حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن النعمان بن حميد قال: أصاب عمار بن ياسر مغنما فقسم بعضه وكتب إلى عمر يشاوره فتبايع الناس إلى قدوم الراكب. وهذا عمل عمار والناس بحضرته فخالفوه. وأما نحن فلا حجة عندنا في أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالله تعالى التوفيق، وحكم علي بشرط الخلاص.
وللحنيفيين والمالكيين والشافعيين تناقض عظيم بما أجازوه من الشروط في البيع وما منعوا منه فيها قد ذكرنا بعضه، ونذكر في مكان آخر إن شاء الله تعالى ما يسر الله تعالى بذكره؛ لأن الأمر أكثر من ذلك وبالله تعالى التوفيق. اهـ (1) .
__________
(1) المحلى ج 8 ص 412 ـ 420 المطبعة المنيرية.(2/96)
ضوابط الشروط المقترنة بالعقد
هذا وقد نقل الدكتور عبد الرزاق السنهوري عن فقهاء الإسلام ضوابط للشروط المقترنة بالعقد صحيحها وفاسدها، وذكر عنهم كثيرا من المسائل وأمثلة للقسمين وقارن بين ما نقله عنهم فاستحسنت اللجنة نقله مع حذف ما يغني عنه غيره مما ذكره.
قال الدكتور عبد الرزاق ما نصه (1) .
__________
(1) مصادر الحق في الفقه الإسلامي جـ 3 ص 117 ـ 153 وص 167 ـ 194.(2/97)
1 - الشرط الصحيح
متى يكون الشرط صحيحا:
يتبين مما قدمناه أن الشرط المقترن بالعقد يكون صحيحا، فيصح معه العقد، إذا كان:
(أ) شرطا يقتضيه العقد.
(ب) أو شرطا يلائم العقد.
(ج) أو شرطا جرى به التعامل بين الناس.
(أ) الشرط الذي يقتضيه العقد
النصوص:
في البدائع (جزء 5 ص 171) : " وأما الشرط الذي يقتضيه العقد فلا يوجب فساده، كما إذا اشترط أن يتملك المبيع، أو باع بشرط أن يتملك الثمن، أو باع بشرط أن يحبس المبيع حتى يقبض الثمن، أو اشترى على أن يسلم المبيع، أو اشترى جارية على أن تخدمه، أو دابة على أن يركبها، أو ثوبا على أن يلبسه، أو حنطة في سنبلها وشرط الحصاد على البائع، ونحو ذلك، فالبيع جائز؛ لأن البيع يقتضي هذه المذكورات من غير شرط، فكان ذكرها في معرض الشرط تقريرا لمقتضى العقد، فلا توجب فساد العقد. اهـ.
وجاء في الخرشي (جزء 5 ص 80) . " وبقي شرط يقتضيه العقد، وهو واضح الصحة، كشرط تسليم المبيع والقيام بالعيب ورد العوض عند انتقاض البيع. وهو لازم دون شرط، فشرطه تأكيد ". اهـ.
وجاء في المهذب (جزء أول ص 268) : " إذا شرط في البيع شرطا نظرت، فإن كان شرطا يقتضيه البيع كالتسليم والرد بالعيب وما أشبههما، لم يبطل العقد؛ لأن شرط ذلك بيان لما يقتضيه العقد، فلم يبطله. اهـ.
وجاء في المغني (جزء 40 ص 285) : " والشروط تنقسم إلى أربعة أقسام (أحدها) ما هو من مقتضى العقد، كاشتراط التسليم وخيار المجلس والتقابض في الحال، فهذا وجوده كعدمه لا يفيد حكما ولا يؤثر في العقد " اهـ.
صحة الشرط الذي يقتضيه العقد أمر بديهي.
ويتبين من النصوص المتقدمة الذكر أن الشرط الذي يقتضيه العقد لا خلاف في صحته، بل إن صحته أمر(2/98)
بديهي، إذ هو محض تقرير لمقتضى العقد، ومقتضى العقد لازم دون شرط، فشرطه تأكيد وبيان.(2/99)
الشرط الذي يلائم العقد
النصوص
جاء في البدائع (جزء 5 ص 171) : " وكذلك الشرط الذي لا يقتضيه العقد، لكنه ملائم للعقد لا يوجب فساد العقد أيضا؛ لأنه مقرر لحكم العقد من حيث المعنى، مؤكد إياه على ما نذكر إن شاء الله تعالى، فيلحق بالشرط الذي هو من مقتضيات العقد.
وذلك نحو ما إذا باع على أن يعطيه المشتري بالثمن رهنا أو كفيلا والرهن معلوم والكفيل حاضر فقبل.
وجملة الكلام في البيع بشرط إعطاء الرهن، أن الرهن لا يخلو إما أن يكون معلوما أو مجهولا. فإن كان معلوما فالبيع جائز استحسانا، والقياس ألا يجوز؛ لأن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في الأصل، وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى العقد فكان مفسدا، إلا أنا استحسنا الجواز؛ لأن هذا الشرط لو كان مخالفا مقتضى العقد صورة فهو موافق له معنى؛ لأن الرهن بالثمن شرع توثيقا للثمن وكذا الكفالة، فإن حق البائع يتأكد بالرهن والكفالة، فكان كل واحد منهما مقررا لمقتضى العقد معنى، فأشبه اشتراط صفة الجودة للثمن وأنه لا يوجد فساد، فكذا هذا. ولو قبل المشتري المبيع على هذا الشرط ثم امتنع من تسليم الرهن، لا يجبر على التسليم عند أصحابنا الثلاثة، وعند زفر يجبر عليه. وجه قوله أن الرهن إذا شرط في البيع فقد صار حقا من حقوقه، والجبر على التسليم من حقوق البيع فيجبر عليه. ولنا أن الرهن عقد تبرع في الأصل، واشتراطه في البيع لا يخرجه عن أن يكون تبرعا، والجبر على التبرع ليس بمشروع، فلا يجبر عليه، ولكن يقال له: إما أن تدفع الرهن أو قيمته أو تؤدي الثمن أو يفسخ البائع البيع؛ لأن البائع لم يرض بزوال البيع عن ملكه إلا بوثيقة الرهن أو بقيمته؛ لأن قيمته تقوم مقامه، ولأن الدين يستوفى من مالية الرهن وهي قيمته، وإذا أدى الثمن فقد حصل المقصود فلا معنى للفسخ، ولو امتنع المشتري من هذه الوجوه فللبائع أن يفسخ البيع لفوات الشرط والغرض. وإن كان الرهن مجهولا فالبيع فاسد؛ لأن جواز هذا الشرط - مع أن القياس يأباه، لكونه ملائما للعقد - مقررا لمقتضاه معنى، لحصول معنى التوثق والتأكد للثمن، ولا يحصل ذلك إلا بالتسليم وأنه لا يتحقق في المجهول، ولو اتفقا على تعيين رهن في المجلس جاز البيع؛ لأن المانع هو جهالة الرهن وقد زال، فكأنه كان معلوما معينا من الابتداء؛ لأن المجلس له حكم حالة واحدة، وإن افترقا عن المجلس تقرر الفساد. وكذا إذا لم يتفقا على تعيين الرهن ولكن المشتري نقد الثمن، جاز البيع أيضا؛ لأن المقصود من الرهن هو الوصول إلى الثمن وقد حصل، فيسقط اعتبار الوثيقة. وكذلك البيع بشرط إعطاء الكفيل؛ لأن الكفيل إن كان حاضرا في المجلس وقبل جاز البيع استحسانا، وإن كان غائبا فالبيع فاسد، وكذا إذا كان حاضرا ولم يقبل؛ لأن الجواز على مخالفة القياس ثبت لمعنى التوثيق وتوكيد الثمن، لما فيه من تقرير موجب العقد على ما بينا، فإذا كان(2/99)
الكفيل غائبا أو حاضرا ولم يقبل، لم تصح الكفالة، فلم يحصل معنى التوثيق، فبقي الحكم على ما يقتضيه القياس. وكذا إذا كان الكفيل مجهولا فالبيع فاسد؛ لأن كفالة المجهول لا تصح. ولو كان الكفيل معينا وهو غائب ثم حضر وقبل الكفالة في المجلس، جاز البيع؛ لأنه جازت الكفالة بالقبول في المجلس، وإذا حضر بعد الافتراق تأكد الفساد. ولو شرط المشتري على البائع أن يحيله بالثمن على غريم من غرمائه، أو على أن يضمن الثمن لغريم من غرماء البائع، فالبيع فاسد؛ لأن شرط الحوالة والضمان شرط لا يقتضيه العقد، والشرط الذي لا يقتضيه العقد مفسد في الأصل إلا إذا كان فيه تقرير موجب العقد وتأكيده. والحوالة إبراء عن الثمن وإسقاط له فلم يكن ملائما للعقد، بخلاف الكفالة والرهن. اهـ
* * *
وجاء في الحطاب (جزء 4 ص 375 - 376) : " قال في البيوع الفاسدة: منها وإن بعته على حميل لم تسمياه ورهن لم تصفاه جاز، وعليه الثقة ورهن وحميل. وإن سميتما الرهن أجبر على أن يدفعه إليه إن امتنع، وليس هذا من الرهن الذي لم يقبض. وكذلك إن تكفلت به على أن يعطيك عبده رهنا فإن امتنع من دفعه إليك أجبراه. قال اللخمي في كتاب الرهن: البيع على رهن غير معين جائز، وعلى الغريم أن يعطيك الصنف المعتاد، والعادة في الخواص أن ترهن ما يغاب عليه كالثياب والحلي وما لا يغاب عليه كالدور وما أشبهها، وليس العادة للعبيد والدواب، وليس على المرتهن قبول ذلك وإن كان مصدقا في تلفه؛ لأن في حفظه مشقة وكلفة. وقال ابن الحاجب في باب الرهن: ويجبر البائع وشبهه في غير معين في التوضيح، يعني من باع سلعة بثمن مؤجل على شرط أن يأخذ منه رهنا به، فإن كان الرهن المشترط غير معين، وأبى المشتري دفعه، خير البائع وشبهه من وارث وموهوب له في فسخ البيع وإمضائه. وهكذا قال ابن الجلاب مقتصرا عليه. والذي نقله ابن المواز عن أشهب ونقله اللخمي وابن راشد أنه يجبر على دفع رهن يكون فيه الثقة باعتبار ذلك الدين. ابن عبد السلام وهو المذهب " اهـ
* * *
وجاء في شرح المنهاج للرملي (جزء 3 ص 436 - ص 438) : " والرهن للحاجة إليه، لا سيما في معاملة من لا يعرف حاله. وشرطه العلم به، إما بالمشاهدة أو الوصف بصفات السلم. ثم الكلام هنا في وصف لم يرد على عين معينه. فهو مساو لما مر من أن الوصف لا يجزي عن الرؤية؛ لأنه في معين لا موصوف في الذمة خلافا لمن وهم فيه، وأن يكون غير البيع، فلو شرط برهنه إياه ولو بعد قبضه فسد؛ لأنه لا يملكه إلا بعد البيع، فهو بمنزلة استثناء منفعة في البيع. فلو رهنه بعد قبضه بلا شرط مفسد صح والكفيل للحاجة إليه أيضا، وشرطه العلم به بالمشاهدة، أو باسمه ونسبه ولا يكفي وصفه بموسر ثقة، إذ الأحرار لا يمكن التزامهم في الذمة لانتفاء القدرة عليهم، بخلاف المرهون فإنه يثبت في الذمة. فإن لم يرهن المشتري ما شرط عليه رهنه وإن أتي(2/100)
برهن غير المعين ولو أعلى قيمة منه، أو لم يتكفل المعين بأن امتنع أو مات قبله وإن أقام المشتري ضامنا غيره ثقة، فللبائع الخيار، ولا يجبر من شرط عليه ذلك على القيام بالمشروط لزوال الضرر بالفسخ، ويتخير أيضا فيما إذا لم يقبضه الرهن لهلاكه أو غيره. اهـ
وجاء في الشرح الكبير للمقنع (جزء 4 ص 48) : " الثاني شرط من مصلحة العقد، كاشتراط صفة في الثمن كتأجيله أو الرهن أو الضمين أو الشهادة. أو صفة في المبيع مقصودة نحو كون العبد كاتبا أو خطيبا أو صانعا أو مسلما، أو الأمة بكرا أو الدابة هملاجة أو الفهد صيودا، فهو شرط صحيح يلزم الوفاء به. فإن لم يف به فللمشتري الفسخ والرجوع بالثمن. اهـ
* * *(2/101)
ما يجب لصحة الشرط الذي يلائم العقد
الأمثلة التي وردت في النصوص المتقدمة عن الشرط الذي يلائم العقد هي: (1) شرط أخذ الرهن بالثمن (2) شرط أخذ الكفيل بالثمن (3) شرط الحوالة بالثمن. وكلها شروط تلائم العقد، فهي وإن كان العقد لا يقتضيها، إلا أنها لا تتعارض معه ولا تتنافى مع أحكامه، بل هي من مصلحة العقد، وتتعلق بها مصلحة العاقدين. والمذهب الحنفي يقتصر - كما رأينا - على القول بأن الشرط يلائم العقد، أما المذاهب الأخرى فالتعبير فيها أقل تحفظا. تقول المالكية: الشرط الذي لا يقتضيه العقد ولا ينافيه وهو من مصلحته. وتقول أيضا: لأن ذلك كله مما يعود على البيع بمصلحة ولا معارض له من جهة الشرع. وتقول الشافعية: شرط لا يقتضيه العقد ولكن فيه مصلحة وتدعو الحاجة إليه. وتقول الحنابلة: شرط من مصلحة العقد وتتعلق به مصلحة العاقدين.
على أن هذه المذاهب تختلف عندما تقرر ما يجب لصحة الشرط الذي يلائم العقد، فأضيقها في ذلك هو المذهب الحنفي، وأوسعها هو المذهب المالكي.
ففي المذهب الحنفي إذا كان الرهن الذي يتوثق الثمن به مجهولا، أو كان الكفيل مجهولا، أو كان غير حاضر في المجلس، أو كان حاضرا ولم يقبل الكفالة، فإن الشرط يكون فاسدا ويفسد معه البيع. أما في الرهن فلأن جواز هذا الشرط، مع أن القياس يأباه - لكونه ملائما للعقد - مقررا لمقتضاه معنى لحصول معنى التوثق والتأكد للثمن، ولا يحصل ذلك إلا بالتسليم وأنه لا يتحقق في المجهول. وأما في الكفيل فلأن الجواز على مخالفة القياس ثبت لمعنى التوثيق وتوكيد الثمن لما فيه من تقرير موجب العقد.
فإذا كان الكفيل غائبا أو حاضرا ولم يقبل، لم تصح الكفالة، فلم يحصل معنى التوثيق، فبقي الحكم على(2/101)
ما يقتضيه القياس. وكذا إذا كان الكفيل مجهولا فالبيع فاسد؛ لأن كفالة المجهول لا تصح. فلا بد إذن لصحة الشرط الملائم للعقد أن يكون تاما نافذ الأثر وقت العقد، فيقبل الكفالة بالثمن، ويسلم المشتري الرهن للبائع، وذلك كله قبل انفضاض مجلس العقد، على أنه يجوز أن يكون الرهن - لا الكفيل - غائبا عن المجلس ما دام معلوما إذا كان عينا معينة، أو ما دام يمكن ضبطه بالوصف إذا كان شيئا غير معين إلا بالنوع، ففي هذه الحالة يصح شرط الرهن ويصح معه العقد، ويجب على المشتري تسليم الرهن أو قيمته إلى البائع بعد العقد، وإلا كان البائع بالخيار - إذا لم ينقد الثمن - بين فسخ العقد أو إبقائه. ولكن لا يجبر المشتري على تسليم الرهن، خلافا لقول زفر إذ يذهب إلى أن الرهن إذا شرط في العقد فقد صار حقا من حقوقه ويجبر المشتري على تنفيذه، والفرق بين الكفالة والرهن في هذا الصدد، إذ يشترط حضور الكفيل وقبوله الكفالة ولا يشترط حضور الرهن على ما بينا، ويوضحه صاحب فتح القدير إذ يقول: " لأن وجوب الثمن في ذمة الكفيل يضاف إلى البيع فيصير الكفيل كالمشتري، فلا بد من حضور العقد، بخلاف الرهن لا تشترط حضرته، لكن ما لم يسلم للبائع لا يثبت فيه حكم الرهن وإن انعقد عقد الرهن بذلك الكلام، فإن سلم معنى العقد على ما عقدا، وإن امتنع عن تسليمه لا يجبر عندنا، بل يؤمر بدفع الثمن، فإن لم يدفع الرهن ولا الثمن خير البائع في الفسخ ".
والظاهر من النصوص أن الشافعية والحنابلة كالحنفية في وجوب تعيين المرهون وتعيين الكفيل بالذات، فلا يكفي وصف الكفيل بموسر ثقة. ولكن يبدو أن الشافعية والحنابلة لا يتشددون تشدد الحنفية في وجوب أن يكون الكفيل حاضرا في مجلس العقد، وأن يقبل الكفالة قبل انفضاض المجلس، فيكفي أن يكون كل من الرهن والكفيل معينا معلوما على الوجه الذي قدمناه، فإن لم يسلم المشتري الرهن للبائع قبل العقد، أو لم يقبل الكفيل الكفالة أو مات قبل القبول، خير البائع إذا لم ينقده المشتري الثمن.
ويقول الرملي في هذا الصدد: فإن لم يرهن المشتري ما شرط عليه رهنه وإن أتى برهن غير معين ولو أعلى قيمة منه. أو لم يتكفل المعين بأن امتنع أو مات قبله وإن أقام المشتري ضامنا غيره ثقة، فللبائع الخيار. . ولا يجبر من شرط عليه ذاك على القيام بالمشروط لزوال الضرر بالفسخ، ويتخير أيضا فيما إذا لم يقبضه الرهن لهلاكه أو غيره.
أما المذهب المالكي فهو - كما قدمنا - أوسع المذاهب في هذه المسألة، فعنده يصح الشرط حتى لو لم يكن الرهن أو الكفيل معينا. ويقول الحطاب: " وإن بعته على حميل لم تسمياه ورهن لم تصفاه، جاز " ليس هذا فحسب، بل أيضا إذا عين الرهن بعد العقد وامتنع المشتري عن تسليمه، أجبر على ذلك، ولا يقتصر الأمر على إعطاء البائع حق الفسخ إذا لم ينقد الثمن. وإذا لم يعين الرهن أجبر المشتري على أن يعطي الصنف المعتاد: ثيابا أو حليا أو دارا أو نحو ذلك، ولا يجبر البائع على قبول ما في حفظه مشقة وكلفة، كالعبيد والدواب. ويقول الحطاب أيضا في ذلك: " وإن سميتما الرهن أجبر على أن يدفعه إليك إن امتنع، وليس هذا من الرهن الذي لم يقبض. . والبيع على رهن غير معين جائز، وعلى الغريم أن يعطيك الصنف المعتاد، والعادة في الخواص أن ترهن ما يغاب عليه كالثياب والحلي، وما لا يغاب عليه كالدور وما أشبهها. وليس العادة العبيد والدواب، وليس على المرتهن قبول ذلك وإن كان مصدقا في تلفه؛ لأن في حفظه مشقة وكلفة. . والذي نقله ابن المواز عن أشهب(2/102)
ونقله اللخمي وابن راشد أنه يجبر على دفع رهن يكون فيه الثقة باعتبار ذلك الدين. . وهو المذهب. "
ونرى من ذلك أن المذهب الحنفي لا يكتفي في صحة الشرط بمجرد التزام المشتري بتقديم رهن أو كفيل، بل يجب أن يكون عقد الرهن أو عقد الكفالة قد انعقد مع انعقاد البيع. وتكتفي الشافعية والحنابلة بمجرد التزام المشتري بتقديم رهن أو كفيل على أن يكون الرهن أو الكفيل معينا وقت العقد. أما المالكية فيكتفون هم أيضا بمجرد التزام المشتري بتقديم رهن أو كفيل. . ويزيدون على ذلك أنهم لا يشترطون أن يكون الرهن أو الكفيل معينا وقت العقد، ثم إنهم في الرهن يجبرون المشتري على تسليمه إذا كان معينا، أو على تسليم الصنف المعتاد إذا كان غير معين.
* * *
بقي شرط الحوالة، ونلاحظ أن كتب الحنفية قد تضاربت في صحة هذا الشرط. فقد جاء في البدائع كما رأينا: " ولو شرط المشتري على البائع أن يحيله بالثمن على غريم من غرمائه، أو على أن يضمن الثمن لغريم من غرماء البائع، فالبيع فاسد؛ لأن شرط الحوالة والضمان شرط لا يقتضيه العقد، والشرط الذي لا يقتضيه العقد مفسد في الأصل إلا إذا كان فيه تقرير موجب العقد وتأكيده، والحوالة إبراء عن الثمن وإسقاط له فلم يكن ملائما للعقد بخلاف الكفالة والرهن ". والفرض أن يرد الشرط في عقد البيع قاضيا بحوالة الثمن الذي في ذمة المشتري حوالة دين إلى ذمة شخص آخر قد يكون مدينا للمشتري (غريما من غرمائه) فيصبح هذا المدين وقد تحمل الدين بالثمن نحو البائع، وتبرأ ذمة المشتري من الثمن. هذا الشرط لا يقتضيه العقد، ثم هو يلائم العقد؛ لأن الحوالة إبراء لذمة المشتري من الثمن كما يقول صاحب البدائع، ولكن إذا كانت الحوالة إبراء عن الثمن وإسقاط له من وجه، فهي من وجه آخر تقرير لوجوب الثمن وتأكيد له. فإن الإبراء لا يكون إلا عن شيء واجب. هذا إلى أن الحوالة ليست إبراء فحسب، إذ هي إبراء لذمة المحيل - إبراء غير كامل - وشغل لذمة المحال عليه، وفي هذا أيضا تقرير لوجوب الثمن وتأكيد له. ولا يختلف الأمر إذا ضمن المشتري الثمن لغريم من غرماء البائع أي لدائن من دائنيه، ولو كان ذلك عن طريق حوالة الدين الذي في ذمة البائع لدائنه إلى ذمة المشتري، فإن المشتري بقبوله هذه الحوالة إنما تؤكد وجوب الثمن في ذمته وبدلا من أن يدفعه للبائع يكون واجبا عليه أن يدفعه لدائن البائع. فالشرط كما نرى ملائم لمقتضى عقد البيع كل الملاءمة، ويعدل في ذلك شرط الرهن وشرط الكفالة. من أجل ذلك نرجح الأخذ بما جاء في فتح القدير من أن " شرط الحوالة كالكفالة " وبما جاء في المبسوط من أن " شرط الحوالة في هذا كشرط الكفالة " لأنه لا ينافي وجود أصل الثمن في ذمة المشتري، فإن الحوالة تحويل، ولا يكون ذلك إلا بعد وجود الثمن في ذمة المشتري، بخلاف ما لو شرط وجوب الثمن ابتداء على غير المشتري بالعقد فإن ذلك ينافي موجب العقد فكان مفسدا للعقد.(2/103)
الشرط الذي يلائم العقد يصح استثناؤه على سبيل الاستحسان عند الحنفية ويصح أصلا في المذاهب الأخرى
لم تجز الحنفية الشرط الذي يلائم العقد إلا استثناء على سبيل الاستحسان، ملحقين إياه في المعنى بالشرط الذي يقتضيه العقد. وإلا فإن الشرط، ولو لاءم العقد ما دام العقد لا يقتضيه لا يجوز على مقتضى القياس عند الحنفية، فإن فيه زيادة منفعة لا يقتضيها العقد، فيكون عقدا في عقد، وهذا لا يجوز، وإنما صح هذا الشرط على سبيل الاستحسان كما قدمنا؛ لأنه مقرر لحكم العقد من حيث المعنى، مؤكد إياه، فاشتراط الرهن أو الكفالة بالثمن يؤكد وجوب استيفاء الثمن، واستيفاء الثمن ملائم للعقد، ومثل هذا الاشتراط يكون بمثابة اشتراط صفة الجودة في الثمن.
جاء في المبسوط (جزء 13 ص 19) : وإن شرط أن يرهنه المبتاع هذا بعينه، ففي القياس: العقد فاسد لما بينا أنه شرط عقد في عقد، وفي الاستحسان: يجوز هذا العقد؛ لأن المقصود بالرهن الاستيفاء، فإن موجبه ثبوت يد الاستيفاء، وشرط استيفاء الثمن ملائم للعقد، ثم الرهن بالثمن للتوثق، فاشتراط ما يتوثق به كاشتراط صفة الجودة في الثمن، وقد رأينا صاحب البدائع يقول في هذا المعنى: " وكذلك الشرط الذي لا يقتضيه العقد، لكنه ملائم للعقد " لا يوجب فساد العقد أيضا؛ لأنه مقرر لحكم العقد من حيث المعنى مؤكد إياه. . فيلحق بالشرط الذي هو من مقتضيات العقد، وذلك نحو ما إذا باع على أن يعطيه المشتري بالثمن رهنا فإن كان معلوما فالبيع جائز استحسانا، والقياس ألا يجوز الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في الأصل، وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى العقد فكان مفسدا، إلا أننا استحسنا الجواز؛ لأن هذا الشرط لو كان مخالفا مقتضى العقد صورة فهو موافق له معنى؛ لأن الرهن بالثمن شرع توثيقا للثمن، وكذا الكفالة، فإن حق البائع يتأكد بالرهن والكفالة، فكان كل واحد منهما مقررا لمقتضى العقد معنى، فأشبه اشتراط صفة الجودة في الثمن وأنه لا يوجب فساد العقد، فكذا هذا.
أما في المذهب الشافعي، فالظاهر أن الشرط الذي يلائم العقد يصح أصلا لا استثناء، بخلاف المذهب الحنفي فالشرط فيه لا يصح إلا على سبيل الاستثناء كما قدمنا.
وأما المذهبان المالكي والحنبلي فيبدو أنهما يجيزان الشرط الملائم للعقد على اعتبار أن هذا الشرط إذا كان العقد لا يقتضيه فإنه لا ينافي مقتضى العقد وهو من مصلحته، وما لا ينافي مقتضى العقد - وإن كان العقد لا يقتضيه -(2/104)
فهو جائز ما دامت فيه مصلحة للعقد وللمتعاقدين. ويظهر أن الفرق بين المذهب الحنفي وهذين المذهبين في هذا الصدد أن الحنفية يوجبون لصحة الشرط في الأصل أن يكون العقد يقتضيه، ثم هم يجيزون استثناء - على سبيل الاستحسان لا على سبيل القياس - الشرط الذي يلائم العقد؛ لأنه يشبه في المعنى الشرط الذي يقتضيه العقد، فيلحق به. أما المذهبان الآخران فعندهما أنه ليس من الضروري لصحة الشرط أن يكون العقد يقتضيه، بل يكفي أن يكون الشرط لا ينافي مقتضى العقد، فيصح الشرط الذي يقتضيه العقد، كما يصح الشرط الذي يلائم العقد؛ لأنه لا ينافي ما يقتضيه، والصحة في هذا الشرط وفي ذاك إنما ترد على سبيل الأصل لا على سبيل الاستثناء. وقد رأينا الخرشي في المذهب المالكي يقول في هذا المعنى: " ولما أنهى الكلام على الشرط المناقض، وترك المؤلف ذكر ما لا يقتضيه العقد لوضوحه، أخذ يذكر ما لا يقتضيه ولا ينافيه وهو من مصلحته، بقوله مشبها له بالحكم قبله: وهو الصحة كشرط رهن وحميل وأجل، يعني أن البيع يصح مع اشتراط هذه الأمور. وليس في ذلك فساد ولا كراهية؛ لأن ذلك كله مما يعود على البيع بمصلحته، ولا معارض له من جهة الشرع ".
ثم رأينا ابن قدامة المقدسي في المذهب الحنبلي يقول في الشرح الكبير: " والثاني شرط من مصلحة العقد. . فهو شرط صحيح يلزم الوفاء به. "
* * *(2/105)
الشرط الذي يجري به التعامل
النصوص:
جاء في المبسوط (جزء 13 ص 14) : " وإن كان شرطا لا يقتضيه العقد وفيه عرف ظاهر، فذلك جائز أيضا، كما لو اشترى نعلا وشراكا بشرط أن يحذوه البائع؛ لأن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، ولأن في النزوع عن العادة الظاهرة حرجا بينا ".
وجاء في البدائع (جزء 5 ص 172) " كذلك إن كان مما لا يقتضيه العقد ولا يلائم العقد أيضا، لكن للناس فيه تعامل، فالبيع جائز، كما إذا اشترى نعلا على أن يحذوه البائع، أو جرابا على أن يخرزه له خفا، أو ينعل خفه، والقياس ألا يجوز، وهو قول زفر رحمه الله.
وجه القياس أن هذا الشرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد العاقدين وأنه مفسد، كما إذا اشترى ثوبا بشرط أن يخيطه البائع له قميصا ونحو ذلك. ولنا أن الناس تعاملوا هذا الشرط في البيع كما تعاملوا الاستصناع فسقط القياس بتعامل الناس كما سقط في الاستصناع ".
ولا يزال الشرط الذي يجري به التعامل إنما تثبت له الصحة في المذهب الحنفي على سبيل الاستحسان. أما في القياس فهو لا يجوز؛ لأن فيه زيادة منفعة لا يقتضيها العقد فيكون عقدا في عقد. وقد رأينا صاحب البدائع يقول: " والقياس ألا يجوز، وهو قول زفر رحمه الله. وجه القياس أن هذا شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة(2/105)
لأحد العاقدين وأنه مفسد، كما إذا اشترى ثوبا بشرط أن يخيطه البائع له قميصا ونحو ذلك، ولنا أن الناس تعاملوا هذا الشرط في البيع كما تعاملوا الاستصناع. فسقط القياس بتعامل الناس، كما سقط في الاستصناع.(2/106)
الشرط الفاسد
المذهب الحنفي والمذاهب الثلاثة الأخرى:
ولما كان المذهب الحنفي هو أضيق المذاهب في إباحة الشروط المقترنة بالعقد كما قدمنا، ومن ثم كان الشرط الفاسد في هذا المذهب واسع المدى، لذلك نبدأ ببحث المذهب الحنفي وحده، ثم نعقب بتأصيل هذا المذهب وتطور الفقه الإسلامي في المذاهب الثلاثة الأخرى وفي المذهب الحنفي نفسه، فهناك اتصال وثيق بين هاتين المسألتين.
* * *(2/106)
أولا - المذهب الحنفي
التمييز بين حالتين:
يجب التمييز في المذهب الحنفي بين حالتين:
(أ) حالة فيها الشرط الفاسد يفسد العقد.
(ب) وحالة فيها الشرط الفاسد يلغو دون أن يفسد العقد، فيسقط الشرط ويبقى العقد.
1 - شرط فاسد يفسد العقد
النصوص
جاء في المبسوط (جزء 13 ص 15 - ص18) : " وإن كان شرطا لا يقتضيه العقد وليس فيه عرف ظاهر، فإن كان فيه منفعة لأحد المتعاقدين فالبيع فاسد؛ لأن الشرط باطل في نفسه والمنتفع به غير راض بدونه، فتمكن المطالبة بينهما بهذا الشرط، فلهذا فسد به البيع. وكذلك إن كان فيه منفعة للمعقود عليه، وذلك نحو ما بينا أنه إذا اشترى عبدا على أنه لا يبيعه، فإن العبد يعجبه ألا تتناوله الأيدي، وتمام العقد بالمعقود عليه حتى لو زعم أنه حر كان البيع باطلا، فاشتراط منفعته كاشتراط منفعة أحد المتعاقدين. . . قال: إذا اشترى عبدا على أنه يعتقه فالبيع فاسد، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أن البيع جائز بهذا الشرط، وهو قول الشافعي، لحديث بريرة رضي الله عنها فإنها جاءت إلى عائشة رضي الله عنها تستعينها في المكاتبة، قالت إن شئت عددتها لأهلك وأعتقك، فرضيت بذلك، فاشترتها وأعتقتها، وإنما اشترتها بشرط العتق وقد أجاز ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها. . ولأن العتق في المبيع قبض. . والقبض من أحكام العقد، فاشتراطه في العقد يلائم العقد ولا يفسده، وحجتنا في ذلك نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وشرط، ولأن في هذا الشرط منفعة للمعقود عليه والعقد لا يقتضيه فيفسد به العقد كما لو شرط ألا يبيع. يوضحه أنه لو شرطه في الجارية أن يستولدها أو في العبد أن يدبره كان العقد فاسدا فإذا كان اشتراط حق العتق لها يفسد البيع فاشتراط حقيقة العتق أولى، ودعواه أن هذا الشرط يلائم العقد لا معنى له فإن البيع موجب للملك والعتق مبطل له، فكيف يكون بينهما ملاءمة؟ ثم هذا الشرط يمنع استدامة الملك فيكون ضد ما هو المقصود بالعقد. وبيع العبد نسمة لا يكون بشرط العتق، بل يكون ذلك وعدا من المشتري، ثم البيع بعقد مطلقا وهو تأويل حديث عائشة رضي الله عنها فإنها اشترت بريرة رضي الله عنهما مطلقا ووعدت لها أن تعتقها لترضى هي بذلك، فإن بيع المكاتبة لا يجوز بغير رضاها. . .(2/107)
وإذا اشتراه على أن يقرض له قرضا أو يهب له هبة أو يتصدق عليه صدقة أو على أن يبيعه بكذا وكذا من الثمن، فالبيع في جميع ذلك فاسد، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وسلف وعن بيعتين في بيعة. . وإن اشترى شيئا وشرط على البائع أن يحمله إلى منزله أو يطحن الحنطة أو يخيط الثوب فهو فاسد؛ لأن فيه منفعة لأحد المتعاقدين والعقد لا يقتضيه؛ لأنه إن كان بعض البدل بمقابلة العمل المشروط عليه فهو إجارة مشروطة في العقد، وإن لم يكن بمقابلته شيء من البدل فهو إعارة مشروطة في البيع وهو مفسد للعقد، وكذلك لو اشترى دارا على أن يسكنها البائع شهرا، فهذه إعارة مشروطة في البيع وهو مفسد للعقد، أو هذا شرط أجل في العين والعين لا تقبل الأجل ".
وجاء في البدائع (جزء 5 ص 169 - ص 173) : " ومنها شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة للبائع أو للمشتري أو للمبيع إن كان من بني آدم كالرقيق، وليس بملائم للعقد، ولا مما جرى به التعامل بين الناس، ونحو ما إذا باع دارا على أن يسكنها البائع شهرا ثم يسلمها إليه، أو أرضا على أن يزرعها سنة، أو دابة على أن يركبها شهرا، أو ثوبا على أن يلبسه أسبوعا أو على أن يقرضه المشتري قرضا، أو على أن يهب له هبة، أو يزوج ابنته منه، أو يبيع منه بكذا، ونحو ذلك، أو اشترى ثوبا على أن يخيطه البائع قميصا، أو حنطة على أن يطحنها، أو ثمرة على أن يجذها، أو ربطة قائمة على الأرض على أن يجذها، أو شيئا له حمل ومؤونة على أن يحمله البائع إلى منزله، ونحو ذلك، فالبيع في هذا كله فاسد؛ لأنه زيادة منفعة مشروطة في البيع تكون ربا؛ لأنها زيادة لا يقابلها عوض في عقد البيع وهو تفسير الربا، والبيع الذي فيه الربا فاسد؛ أو فيه شبهة الربا، وأنها مفسدة للبيع كحقيقة الربا. وكذا لو باع جارية على أن يدبرها المشتري أو على أن يستولدها، فالبيع فاسد؛ لأنه شرط فيه منفعة للمبيع وأنه مفسد، وكذا لو باعها بشرط أن يعتقها المشتري، فالبيع فاسد في ظاهر الرواية عن أصحابنا، وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أنه جائز، وبه أخذ الشافعي رحمه الله. . وكذا لو باع عبدا أو جارية بشرط ألا يبيعه وألا يهبه وألا يخرجه من ملكه، فالبيع فاسد؛ لأن هذا شرط ينتفع به العبد والجارية بالصيانة عن تداول الأيدي فيكون مفسدا للبيع. . ولو اشترى شيئا بشرط أن يوفيه في منزله، فهذا لا يخلو إما أن يكون المشتري والبائع بمنزلهما في المصر وإما أن يكون أحدهما في المصر والآخر خارج المصر، فإن كان كلاهما في المصر، فالبيع بهذا الشرط جائز عند أبي حنيفة وأبي يوسف استحسانا، إلا إذا كان في تصحيح الشرط تحقيق الربا، كما إذا تبايعا حنطة بحنطة وشرط أحدهما على صاحبه الإيفاء في منزله. وعند محمد: البيع بهذا الشرط فاسد وهو القياس؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة للمشتري فأشبه ما إذا اشترى بشرط الحمل إلى منزله أو بشرط الإيفاء في منزله وأحدهما في المصر والآخر خارج المصر. ولهما أن الناس تعاملوا البيع بهذا الشرط إذا كان المشتري في المصر، فتركنا القياس لتعامل الناس ولا تعامل فيها إذا لم يكونا في المصر، ولا في شرط الحمل إلى المنزل فعملنا بالقياس فيه. . وأما بيع الثمر على الشجر بعد ظهوره، وبيع الزرع في الأرض. . إن اشترى بشرط الترك فالعقد فاسد بالإجماع؛ لأنه شرط لا(2/108)
يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين، ولا يلائم العقد، ولا جرى به التعامل بين الناس، ومثل هذا الشرط مفسد للبيع لما ذكرنا؛ لأنه لا يتمكن من الترك إلا بإعارة الشجرة والأرض وهما ملك البائع، فصار بشرط الترك شارطا الإعارة، فكان شرطه صفقة في صفقة وأنه منهي عنه.
ونستعرض استخلاصا من النصوص المتقدمة، مسائل ثلاثا.
(1) الصور المختلفة للشرط الفاسد الذي يفسد العقد.
(2) الأسباب التي دعت المذهب إلى القول بفساد الشرط والعقد في هذه الصور.
(3) العقود التي يكون فيها الشرط الفاسد مفسدا للعقد.
* * *(2/109)
الصور المختلفة للشرط الفاسد الذي يفسد العقد
يمكن القول بوجه عام أن الشرط الفاسد الذي يفسد العقد هو الذي فيه منفعة لها صاحب يطالب بها، وهذه المنفعة إما أن تكون للمبيع إذا كان رقيقا، أو للبائع، أو للمشتري، أو لأجنبي غير المتعاقدين.
فمثل المنفعة التي تكون للمبيع إذا كان رقيقا: أن يشتري عبدا على ألا يبيعه أو يهبه أو يخرجه من ملكه بحال، أو على أن يبيعه من فلان دون غيره، أو على ألا يخرجه من بلد معين، أو على أن يدبره أو يكاتبه، أو على أن يعتقه على خلاف بين المذاهب. أو يشتري أمة على أن يستولدها. ففي هذه الأمثلة نرى الرقيق المبيع قد صارت له منفعة بعقد البيع يستوفيها من المشتري، فمن مصلحة الرقيق ألا يباع أو يخرج من ملك المشتري حتى لا تتداوله الأيدي أو في القليل ألا يباع إلا إلى شخص بالذات فيتحدد بذلك مجال التعامل فيه، أو أن يبقى في بلد معين له في الاستقرار فيه مصلحة، ومن مصلحته أن يدبر أو يكاتب. أو يستولد إذا كان أمة، فهذا هو طريقه إلى العتق. ومن مصلحته بالأولى أن يشترط البائع عتقه.
والمنفعة التي تكون للبائع إما أن تكون منفعة تتعلق بالمبيع ذاته أو منفعة مستقلة عن المبيع، فمثل المنفعة التي تتعلق بالمبيع أن يبيع عبدا ويشترط على المشتري أن يبقى في خدمته وقتا من الزمن. أو يبيع دارا ويشترط أن يسكنها شهرا، أو يبيع أرضا ويشترط أن يزرعها سنة، أو يبيع دابة ويشترط أن يركبها إلى مكان معين، أو يبيع ثوبا ويشترط أن يلبسه أسبوعا، ونرى في هذه الأمثلة أن البيع يتضمن إجارة أو إعارة، فيتضمن إجارة إن كان للشرط مقابل من الثمن، فإن لم يكن له مقابل فالبيع يتضمن إعارة.
ومثل المنفعة المستقلة عن المبيع أن يشترط البائع على المشتري أن يقرضه قرضا، أو أن يهب له هبة، أو أن يتصدق عليه بصدقة، أو أن يشتري(2/109)
منه شيئا آخر، أو أن يبيع له كما اشترى منه، أو أن يزوج منه ابنته، ونرى في هذه الأمثلة أن عقد البيع قد تضمن عقدا آخر. قرضا أو هبة أو صدقة أو بيعا أو زواجا.
والمنفعة التي تكون للمشتري تكون هي أيضا إما منفعة تتعلق بالبيع ذاته أو منفعة مستقلة عن المبيع.
فمثل المنفعة التي تتعلق بالمبيع أن يشتري حنطة ويشترط على البائع أن يطحنها أو ثوبا ويشترط على البائع أن يخيطه، أو محصولا ويشترط على البائع أن يحصده، أو يشترط أن يتركه في الأرض حتى ينضج، أو ربطة قائمة على الأرض ويشترط على البائع أن يجذها، أو يشتري ما له حمل ومؤونة ويشترط على البائع أن يحمل المبيع إلى منزله.
وفي هذه الأمثلة نرى البيع قد اقترن بعقد آخر، هو في أغلبها إجارة عمل البائع. وهو إعارة الأرض أو إجارتها في شرط ترك المحصول في الأرض حتى ينضج. ومثل المنفعة المستقلة عن المبيع أن يشترط المشتري على البائع أن يقرضه قرضا، أو يهب له هبة، أو أن يتصدق عليه بصدقة، أو أن يبيع له شيئا آخر، أو أن يشتري منه كما باع له، أو أن يتزوج ابنته، وهذه هي نفس الأمثلة التي أوردناها في منفعة البائع المستقلة عن المبيع، وإنما جعلناها هنا لمصلحة المشتري لا لمصلحة البائع.
وقد تكون المنفعة لأجنبي غير المتعاقدين، كما إذا باع ساحة على أن يبني المشتري فيها مسجدا، أو باع طعاما على أن يتصدق به المشتري، أو باع دارا واشترط على المشتري أن يهبها لفلان أو يبيعها منه بكذا من الثمن. ويلاحظ أن هذه الصورة في الفقه الإسلامي تعدل في الفقه الغربي صورة الاشتراط لمصلحة الغير، ولما كان الشرط فاسدا في هذه الحالة فقد أقفل باب الاشتراط لمصلحة الغير في الفقه الحنفي.
* * *(2/110)
2 - الأسباب التي دعت المذهب إلى القول بفساد الشرط والعقد في هذه الصور
وقد رأينا النصوص الفقهية المتقدمة تعلل فساد الشرط والعقد في هذه الصور بعلتين مختلفتين:
العلة الأولى: أن الشرط، يتضمن منفعة تجوز المطالبة بها، يكون زيادة منفعة مشروطة في عقد البيع، وهي زيادة لا يقابلها عوض، فهي ربا أو فيها شبهة الربا، والمبيع الذي فيه الربا أو شبهة الربا فاسد.
العلة الثانية: أن الشرط لا يقتضيه العقد حتى يصح قياسا، ولا هو ملائم للعقد أو يجري به التعامل حتى يصح استحسانا، وقد تضمن منفعة تجوز المطالبة بها، فصار في ذاته عقد آخر - إجارة أو إعارة أو بيعا أو قرضا أو هبة أو غير ذلك - تضمنه عقد البيع. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وشرط، وعن بيع وسلف، وعن بيعتين في بيعة واحدة، وعن صفقتين في صفقة واحدة. . ومهما يكن من شأن صحة بعض هذه الأحاديث، فقد أخذ بها المذهب الحنفي، وقد رأينا صاحب المبسوط يقول في هذا المعنى: إن الشرط فيه منفعة لأحد المتعاقدين والعقد لا يقتضيه؛ لأنه إن كان بعض البدل بمقابلة العمل المشروط عليه فهو إجارة مشروطة في العقد، وإن لم يكن بمقابلته شيء من البدل فهو إعارة مشروطة في البيع، وهو مفسد للعقد. . لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وسلف وعن بيعتين في بيعة، ورأينا صاحب البدائع يقول: " إن اشترى بشرط الترك فالعقد فاسد بالإجماع؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين ولا يلائم العقد ولا جرى به التعامل بين الناس، ومثل هذا الشرط مفسد للبيع لما ذكرنا، ولأنه لا يتمكن من الترك إلا بإعارة الشجرة والأرض وهما ملك البائع، فصار بشرط الترك شارطا الإعارة، فكان شرطه صفقة في صفقة وأنه منهي عنه ".
ورأينا صاحب فتح القدير يقول: " وكذلك لو باع عبدا على أن يستخدمه البائع شهرا أو دارا على أن يسكنها، أو على أن يقرضه المشتري دراهم، فهو فاسد؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين وقد ورد في عين بعضها نهي خاص وهو نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وسلف. أي قرض، ثم خص شرطي الاستخدام والسكنى بوجه معنوي، فقال: ولأنه لو كان الخدمة والسكنى يقابلهما شيء من الثمن بأن يعتبر المسمى ثمنا بإزاء المبيع وبإزاء أجرة الخدمة والسكنى يكون إجارة في بيع، ولو كان لا يقابلهما يكون إعارة في بيع، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة ".(2/111)
3 - العقود التي يكون فيها الشرط الفاسد مفسدا للعقد
والظاهر من نصوص فتح القدير التي قدمناها أن الشرط الفاسد لا يفسد العقد إلا إذا كان مبادلة مال بمال، كالبيع والإجارة والقسمة والصلح عن دعوى المال (1) وقد ورد في المادة 323 من مرشد الحيران: " كل ما كان مبادلة مال بمال، كالبيع والشراء والإيجار والاستئجار والمزارعة والمساقاة والقسمة والصلح عن مال، لا يصح اقترانه بالشرط الفاسد ولا تعليقه به، بل تفسد إذا اقترنت أو علقت به. . ومثل ذلك إجارة هذه العقود فإنها تفسد باقترانها بالشرط الفاسد وبتعليقها به ".
أما ما كان مبادلة مال بغير مال كالنكاح والخلع على مال، أو كان من التبرعات كالهبة والقرض، أو من التقييدات كعزل الوكيل والحجر على الصبي من التجارة، أو من الإسقاطات المحضة كالطلاق والعتاق وتسليم الشفعة بعد وجوبها، أو من الإطلاقات كالإذن للصبي بالتجارة وكذلك الإقالة والرهن والكفالة والحوالة والوكالة والإيصاء والوصية، ففي هذه التصرفات كلها إذا اقترن العقد بالشرط الفاسد، صح العقد ولغي الشرط (انظر المواد 324 - 326 من مرشد الحيران) . .
ويتضح مما تقدم أن الشرط الفاسد إذا اقترن بعقد هو مبادلة مال بمال تغلغل في صلبه فأفسده معه. والسبب في ذلك أن الشرط لما كان فاسدا فقد سقط، ولما كان العاقد قد رضي بمبادلة مال بمال المتعاقد الآخر على هذا الشرط - وقد فات عليه - فيكون غير راض بالمبادلة، فيفسد العقد. وفي هذا يقول صاحب المبسوط: " لأن الشرط باطل في نفسه، والمنتفع به غير راض ". وهذا السبب لا يقوم في التصرفات الأخرى، ومن ثم يسقط الشرط؛ لأنه فاسد. ولكن يبقى العقد على صحته.
* * *
__________
(1) اكتفي فيما تقدم عما في فتح القدير بما نقل عن المبسوط والبدائع لاشتمالهما عليه.(2/112)
شرط فاسد يسقط ويبقى العقد
النصوص
جاء في البدائع (جزء 5 ص 170) : " إذا باع ثوبا على ألا يبيعه المشتري أو لا يهبه، أو دابة على ألا يبيعها أو يهبها، أو طعاما على ألا يأكله ولا يبيعه، ذكر في المزارعة ما يدل على جواز البيع، فإنه قال: لو شرط(2/112)
أحد المزارعين في الزراعة على ألا يبيع الآخر نصيبه ولا يهبه فالمزارعة جائزة والشرط باطل، وهكذا روى الحسن في المجرد عن أبي حنيفة رحمه الله.
وفي الإملاء عن أبي يوسف أن البيع بهذا الشرط فاسد. ووجهه أنه شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولا جرى به التعارف بين الناس، فيكون مفسدا كما في سائر الشرائط المفسدة، والصحيح ما ذكر في المزارعة؛ لأن هذا شرط لا منفعة فيه لأحد فلا يوجب الفساد، وهذا لأن فساد البيع في مثل هذه الشروط لتضمنها الربا وذلك بزيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض. ولم يوجد في هذا الشرط؛ لأنه لا منفعة فيه لأحد، إلا أنه شرط فاسد في نفسه لكنه لا يؤثر في العقد، فالعقد جائز والشرط باطل، ولو باع ثوبا على أن يحرقه المشتري، أو دارا على أن يخربها، فالبيع جائز والشرط باطل؛ لأن شرط المضرة لا يؤثر في البيع على ما ذكرنا.
وجاء في فتح القدير (جزء 5 ص 215 - ص 216) : " أما لو كان المبيع ثوبا أو حيوانا غير آدمي، فقد خرج الجواز مما ذكرنا في المزارعة من أن أحد المزارعين إذا شرط في المزارعة ألا يبيع الآخر نصيبه أو يهبه أن المزارعة جائزة والشرط باطل؛ لأنه ليس لأحد العاملين فيه منفعة - وكذا ذكر الحسن في المجرد. قال المصنف: وهو الظاهر من المذهب؛ لأنه إذا لم يكن من أهل الاستحقاق انعدمت المطالبة والمنازعة، فلا يؤدي إلى الربا، وما أبطل الشرط الذي فيه المنفعة للبيع إلا لأنه يؤدي إليه؛ لأنه زيادة عارية عن العوض في عقد البيع وهو معنى الربا.
* * *
شرط لا منفعة فيه لأحد وهو شرط فاسد فيسقط
يتبين مما قدمنا من النصوص أن هناك شرطا لا يقتضيه العقد ولا هو يلائم مقتضى العقد ولم يجر به التعامل، وهو مع ذلك لا منفعة فيه لأحد.
ومن الأمثلة على هذا الشرط التي وردت في النصوص: يبيع ثوبا أو دابة أو حيوانا غير الرقيق ويشترط على المشتري ألا يبيع أو لا يهب ما اشتراه: يشترط أحد المزارعين على المزارع الآخر ألا يبيع أو لا يهب نصيبه من المزارعة، يبيع طعاما ويشترط على المشتري ألا يأكله ولا يبيعه، يبيع ثوبا ويشترط على المشتري أن يحرقه، يبيع دارا ويشترط المشتري أن يخربها.
ففي هذه الأمثلة يذهب الفقه الحنفي إلى أن الشرط المقترن بعقد البيع لا منفعة لأحد، ولما كان هذا الشرط لا يقتضيه العقد، ولا هو يلائم مقتضى العقد، ولم يجر به التعامل، فليس ثمة ما يبرر تصحيحه، ومن ثم كان فاسدا فيسقط. . ولكن العقد يبقى صحيحا.(2/113)
على أن هذا الشرط الفاسد الذي لا منفعة فيه لأحد، لما لم يكن له مطالب لانعدام منفعته -والمطالبة إنما تتوجه بالمنفعة- فهو شرط لم يتمكن في صلب العقد حتى يسري فساده إلى العقد، ومن ثم يبقى العقد صحيحا بالرغم من سقوط الشرط، فالشرط من حيث إنه فاسد يسقط ومن حيث إنه لا منفعة فيه لأحد يستبقى العقد صحيحا. وهذا هو الظاهر في المذهب الحنفي.(2/114)
ويذكر المذهب لهذا الحكم علتين:
العلة الأولى: أن الشرط الذي يفسد العقد إنما أفسده لأن فيه زيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض إذ هو شرط فيه منفعة على النحو الذي بيناه، فكان في ذلك ربا أو شبهة الربا. والربا وشبهته يفسدان العقود. أما الشرط الذي نحن بصدده فليس فيه منفعة لأحد ولا مطالب له، فلم يوجد فيه معنى الزيادة التي يقابلها عوض، فانعدمت فيه شبهة الربا، فلم يعد هناك مبرر لفساد العقد، فيبقى العقد صحيحا، مع سقوط الشرط لفساده.
العلة الثانية: أن الشرط الذي يفسد العقد إنما أفسده من جهة أخرى؛ لأن فيه منفعة لها مطالب، فكان صفقة في صفقة أو عقدا تضمنه عقد آخر، وهذا لا يجوز، أما الشرط الذي لا منفعة فيه لأحد وليس له مطالب، فهو ليس بصفقة أو عقد، فلم يتضمن البيع باقترانه به صفقة في صفقة أو عقدا في عقد، فارتفع سبب الفساد عن البيع، فبقي على صحته، مع سقوط الشرط لفساده.(2/114)
ثانيا - تأصيل المذهب الحنفي وتطور الفقه الإسلامي
أ. سبب فساد العقد في المذهب الحنفي.
ب. السبب الحقيقي في فساد العقد إذا اقترن بالشرط.
ج - علتان تنتهيان إلى علة واحدة - تعدد الصفقة.
رأينا أن الفقه الحنفي يعلل كيف يفسد الشرط الفاسد العقد بعلتين: علة الربا وعلة تعدد الصفقة، وتكاد العلتان تتعادلان في كتب الفقهاء، بل لعل علة الربا هي التي ترجح كفتها.
ولكن المتأمل فيما يورد الفقهاء عادة من أمثلة الشروط الفاسدة يرى أن فكرة الربا إنما اتخذت تكئة لتعزيز فكرة تعدد الصفقة، وإن فكرة تعدد الصفقة هي التي يجب أن نقف عندها. ولكن لما كانت هذه الفكرة إنما تمت إلى محض الصناعة الفقهية، فإن تعليل فساد العقد بها يكاد يكون خفيا. وهو على كل حال لا يبلغ من الوضوح ما يبلغه التعليل بفكرة الربا، فإن الربا في الفقه الإسلامي لا يكاد يلقي ظله على شيء إلا ويفسده. ومن ثم كان الأيسر على الفقهاء أن يلجئوا في تعليل فساد العقد إلى فكرة الربا.(2/115)
والواقع من الأمر أن فكرة تعدد الصفقة هي الفكرة التي تسيطر على فساد العقد المقترن بالشرط، بل إن فكرة الربا نفسها - لو سلمنا بها جدلا - ترد في النهاية إلى فكرة تعدد الصفقة، ذلك أن كل مثل تورده الفقهاء للشرط الفاسد الذي يفسد العقد يتضمن حتما صفقتين في صفقة واحدة ولا يتحتم أن يتضمن فكرة الربا، فالشرط الفاسد هو في ذاته صفقة تضمنها عقد البيع، وقد يكون إجارة أو إعارة أو بيعا آخر أو هبة أو صدقة أو زواجا أو غير ذلك، فإذا ما اقترن البيع بهذا الشرط أصبح صفقتين في صفقة واحدة.
والشرط الفاسد قد لا يكون له مقابل من الثمن أو يكون له هذا المقابل، فإن لم يكن له مقابل من الثمن، فهنا تأتي فكرة الربا، إذ يقول الفقهاء: إن الشرط يكون زيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض، فيفسد العقد للربا، ولكن إذا صح أن تقوم فكرة الربا هنا، فإنه مع ذلك يمكن الاستغناء عنها بفكرة تعدد الصفقة، ويمكن القول بأن العقد الذي تضمن هذه الزيادة المشروطة في المنفعة دون عوض إنما تضمن صفقة أخرى فأصبح صفقتين في صفقة.
أما إذا كان الشرط له مقابل من الثمن، فإن فكرة الربا لا تقوم، إذ تصبح زيادة المنفعة المشروطة في العقد يقابلها عوض. فلا يمكن تعليل فساد العقد عندئذ إلا بفكرة تعدد الصفقة.
ومن هنا نتبين أن فكرة الربا لا تصلح لتعليل جميع الأحوال التي يفسد الشرط فيها العقد، فقد رأيناها لا تصلح إلا لتعليل بعض هذه الأحوال، وحتى في هذا البعض يمكن الاستغناء عنها بفكرة تعدد الصفقة.
أما فكرة تعدد الصفقة فتصلح تعليلا لفساد العقد المقترن بالشرط الفاسد في جميع الأحوال دون استثناء.
على أن هناك ما هو أبعد مدى من ذلك، فإن التعليل بالربا، حتى في بعض الأحوال دون بعض قد لا يستقيم، فالربا لا يكون إلا في الأموال الربوية، وهي المكيلات والموزونات عند الحنفية، فإذا كان البيع الذي اقترن بشرط فاسد لم يقع على مال ربوي، لم تقم علة الربا بشطريها وهما القدر والجنس، فلا يصح تعليل فساد العقد في هذه الحالة بفكرة الربا.
ففكرة تعدد الصفقة تجب إذن فكرة الربا، وهي وحدها - في رأينا - التي ضيقت المذهب الحنفي، وجعلت العقد يفسد إذا اقترن بالشرط. ففي هذا المذهب لا يجوز أن يتضمن العقد الواحد أكثر من صفقة واحدة. فإذا أضيف إلى هذه الصفقة صفقة أخرى، ولو في صورة شرط فإن العقد يضيق بالصفقتين ويفسد، فتسقط الصفقتان معا.(2/116)
السبب في تحريم تعدد الصفقة - وحدة العقد
ويبقى بعد ذلك أن نسأل: ولماذا لا يجوز تعدد الصفقة في العقد الواحد؟ هنا نجد نصوص المذهب الحنفي تتذرع بأحاديث كثيرة عن النبي عليه السلام، فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع وشرط، وعن بيع وسلف.
على أنه فضلا عن أن بعض هذه الأحاديث موقوفة، كالنهي عن صفقتين في صفقة - وقد أمكن على كل حال تأويله على وجه آخر - وكالنهي عن بيع وشرط، فإن هناك أحاديث أخرى صحت عن النبي عليه السلام تجيز اقتران الشرط بالعقد.
ونطالع هنا صفحة من المبسوط، ترددت في كتب كثيرة، نرى فيها كيف تعددت الأحاديث في هذه المسألة، وبعضها يجيز الشرط فيجيز معه العقد، وبعضها يسقط الشرط ويجيز العقد. وبعضها يسقط الشرط والعقد معا.
قال السرخسي في المبسوط (جزء 13 ص 13) : " حكى عبد الوارث بن سعيد قال: حججت فدخلت بمكة على أبي حنيفة وسألت عن البيع بالشرط، فقال باطل. فخرجت من عنده ودخلت على ابن أبي ليلى وسألته عن ذلك، فقال البيع جائز والشرط باطل. فدخلت على ابن شبرمة وسألته عن ذلك فقال: البيع جائز والشرط جائز. فقلت هؤلاء من فقهاء الكوفة، وقد اختلفوا علي في هذه المسألة كل الاختلاف، فعجزني أن أسأل كل واحد منهم عن حجته. فدخلت على أبي حنيفة فأعدت السؤال عليه، فأعاد جوابه، فقلت: إن صاحبيك يخالفانك، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط» . فدخلت على ابن أبي ليلى فقلت له مثل ذلك، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها لما أرادت أن تشتري بريرة رضي الله عنها أبى مواليها إلا بشرط أن يكون الولاء لهم، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال صلوات الله عليه وسلامه: «اشتري واشترطي لهم الولاء؛ فإن الولاء لمن أعتق (1) » ، ثم خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق، والولاء لمن أعتق (2) » فدخلت على ابن شبرمة وقلت له مثل ذلك، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني محارب بن دثار عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله تعالى عنهم- «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى منه ناقة في بعض الغزوات وشرط له ظهرها إلى المدينة» .
فالأحاديث كما نرى مختلفة متضاربة، ولا بد من التوفيق بينها، وكان من الممكن أن يكون هذا التوفيق لمصلحة اقتران الشرط بالعقد لا سيما أن أدلة المانعين الكثيرة منها متكلف. فما الذي جعل المذهب الحنفي يؤثر النهي عن الشرط، ويجعله هو المسيطر في هذه المسألة، ويدع الأحاديث الأخرى؟
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2168) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(2) صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) ، مسند أحمد بن حنبل (6/213) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .(2/117)
والواقع من الأمر أن فكرة النهي عن تعدد الصفقة - فضلا عن أنها وردت في أحاديث عن النبي عليه السلام - هي الفكرة الطبيعية التي تتفق مع تطور القانون. فهي الفكرة الأولى التي يقف عندها نظام قانوني ناشئ، في توخيه الدقة في التعاقد بتحري البساطة في العقد. وتكون وحدة العقد مبدأ جوهريا من مبادئه، ومن ثم لا يجوز أن يتضمن العقد أكثر من صفقة واحدة وإلا أخل ذلك بوحدته، بل لعل الفقه الإسلامي استغنى بهذه الفكرة وأمثالها -كفكرة اللفظية وفكرة مجلس العقد- عن الشكلية في العقود، تلك الشكلية التي بدأت في القانون الروماني رسوما وأوضاعا ساذجة، وجاءت في الفقه الإسلامي ضربا من الشكلية أكثر تهذيبا.
ولعل فكرة وحدة الصفقة في العقد الواحد لم يخلص منها أي نظام قانوني مهذب في مراحله الأولى من التطور، فإنها الفكرة التي تلائم العقل القانوني عندما يبدأ في تشييد صرح من النظم القانونية، فهو يتحرى لها الثبات والاستقرار عن طريق وحدة العقد، إذ أن حاجة القانون إلى الثبات والاستقرار تسبق في تاريخ تطوره حاجته إلى المرونة والتجدد - إلى أن قال ـ:(2/118)
تطور الفقه الإسلامي في الشروط المقترنة بالعقد
تطور الفقه الإسلامي في المذاهب الأربعة
على أن الفقه الإسلامي لم يلبث جامدا عند المرحلة الأولى للفكر القانوني، بل خطا خطوات واسعة في طريق التطور، تطور في المذهب الحنفي نفسه وفي المذهب الشافعي، وتطور تطورا أسرع في المذهبين المالكي والحنبلي.
1 - تطور الفقه الإسلامي في المذهب الحنفي
رأينا مما قدمناه من نصوص الفقه الحنفي أن فقهاء هذا المذهب -بالرغم من أنهم يقررون كمبدأ عام وجوب وحدة الصفقة- يحدثون مع ذلك في هذا المبدأ ثغرات هامة، فيدفعون المذهب إلى طريق من التطور يوطئ أكنافه ويوسع ما ضاق منه، سدا لحاجات التعامل.
1 - فأول ما يقررونه -لا على سبيل الاستثناء من المبدأ، بل مطاوعة لطبائع الأشياء- أن الشرط الذي يقتضيه العقد هو شرط صحيح يصح معه العقد. وبديهي أن ما يقررون من ذلك غني عن أن(2/118)
يذكر، فإن ما يقتضيه العقد صحيح معمول به سواء ذكر في صورة شرط أو لم يذكر أصلا.
ولكنهم لا يقصدون من تقرير هذه القاعدة الحكم في ذاته، بل يقصدون التمهيد بذلك للاستثناءات الحقيقية من مبدأ وحدة الصفقة، فيبنون على هذه القاعدة الأولى قاعدة أخرى.
2 - ومن ثم يقررون أن الشرط يلائم العقد، وإن لم يكن العقد يقتضيه صورة، هو من مقتضى العقد حقيقة، فيلحق بالشرط الذي يقتضيه العقد، ويكون استحسانا شرطا صحيحا يصح معه العقد، وقد سبق بسط هذه المسألة في تفصيلاتها وما ورد فيها من الأمثلة.
3 - ثم ينتقلون بعد ذلك إلى شرط جرى به التعامل، وهذا هو الباب الواسع الذي يدخل منه التطور السريع. فيجيزون شرطا فيه منفعة مطلوبة، دون أن يقتضيه العقد ودون أن يلائم العقد إذا كان التعامل قد جرى به. فيصح الشرط في هذه الحالة استحسانا ويصح معه العقد.
4 - ثم يقررون أن الشرط الذي ليست فيه منفعة مطلوبة لا تتحقق فيه معنى الصفقة، ولا يجعل العقد ينطوي على صفقتين، ومن ثم يلغو الشرط لعدم إمكان المطالبة به. ولكن يبقى العقد صحيحا.
5 - ثم إنهم في الشرط الذي فيه منفعة مطلوبة دون أن يقتضيه العقد ودون أن يلائم العقد -وهذا هو الشرط الفاسد الذي يجعل العقد متعدد الصفقة- ويميزون بين أنواع العقود المختلفة - فيقصرون تحريم الصفقتين في الصفقة الواحدة على عقود المعاوضات المالية دون التبرعات والإسقاطات والإطلاقات والتقييدات على ما قدمنا، ففي المعاوضات المالية يتحقق معنى تعدد الصفقة كاملا، أما في غير المعاوضات المالية فالأمر يختلف، إذ يمكن إلغاء الشرط الفاسد دون أن يمس ذلك كيان العقد الأصلي. فيلغو الشرط ويصح العقد.
هذه هي حلقات متلاصقة في سلسلة من الاستثناءات أوردها المذهب الحنفي على مبدأ ضيق هو مبدأ وحدة الصفقة، فوسع فيه، وأنقذ كثيرا من ضروب التعامل، وخطا خطوات محسوسة في طريق التطور. وكل هذا باسم الاستحسان، هذا المصدر الخصب الذي كان من أهم أسباب تطور المذهب الحنفي.
* * *(2/119)
تطور الفقه الإسلامي في المذهب الشافعي
مذهب الشافعي يقرب كثيرا من المذهب الحنفي في الأصل الذي تمسك به وهو منع تعدد الصفقة، وفي الاستثناءات التي أوردها على الأصل.(2/119)
فالشرط الذي يقتضيه العقد صحيح بداهة؛ لأنه معمول به من غير حاجة إلى أن يذكر:
والشرط الذي يلائم العقد، ويدعى في الفقه الشافعي بالشرط الذي فيه مصلحة للعقد أو الشرط الذي تدعو إليه الحاجة، صحيح أيضا ويصح معه العقد، وليس ذلك سبيل الاستثناء كما هو الأمر في المذهب الحنفي، بل هو أصل يقوم بذاته. وقد تقدم بيان ذلك. ومن أمثلة الشرط الذي فيه مصلحة للعقد اشتراط الإشهاد على العقد واشتراط كتابته في صك، واشتراط الرهن أو الكفيل بالثمن.
ولعل الفقه الشافعي لا يميز بين الشرط الذي يلائم العقد والشرط الذي تدعو إليه حاجة التعامل، فهما عنده شيء واحد، إذ هو يتحدث عن الشرط الذي يلائم العقد تحت اسم الشرط الذي فيه مصلحة للعقد أو الشرط الذي تدعو إليه الحاجة، ولا يورد أمثلة خاصة للشرط الذي تدعو إليه حاجة التعامل.
ثم إن الفقه الشافعي يذهب إلى أن الشرط الذي لا غرض فيه ولا منفعة منه يلغو ويصح العقد.
ويتمسك الفقه الشافعي بعد ذلك بالأصل المعروف، فيمنع البيع والشرط، ما دام الشرط فيه منفعة مطلوبة ولا يقتضيه العقد ولا يلائم مقتضى العقد. فلا يجوز أن يشتري زرعا ويشترط على البائع أن يحصده، أو ثوبا ويشترط على البائع أن يخيطه، ولا يجوز أن يبيع دارا بألف على أن يقرضه المشتري قرضا بمائة. ولا يجوز للعاقد أن يشترط ما ينافي مقتضى العقد، فلا يجوز للراهن أن يشترط على المرتهن ألا يبيع العين المرهونة أصلا.
أو ألا يبيعها حتى يمضي شهر من وقت حلول الدين، أو أن يكون المرتهن أسوة الغرماء، أو أن يضمن المرتهن هلاك العين كلها ولا يقتصر على ضمان ما زاد من قيمتها على الدين، ولا يجوز أن يشترط أحد الشركاء أن يكون له نصيب في الربح دون خسارة، أو أن يكون له مبلغ معين من الربح، فقد تربح الشركة أكثر من هذا المبلغ أو قد لا تربح شيئا، ولا يجوز أن يشترط رب المال في القراض أن يكون رأس المال في يده، أو أن يشترك مع العامل في التجارة، أو أن تكون يد العامل يد ضمان. ويمنع الفقه الشافعي البيعتين في بيعة، ويتأول الحديث الوارد في النهي عن ذلك على وجهين لا يجيز أيا منهما، فلا يصح أن يشتري بألف نقدا أو بألفين نسيئة، كما لا يصح أن يبيع العبد بألف على أن يبيع منه المشتري أو أجنبي الدار بألفين.
ويبدو أن الشرط الذي فيه منفعة مطلوبة دون أن يقتضيه العقد أو يلائم مقتضى العقد يبطل في مذهب الشافعي المعاوضات والتبرعات على السواء.
ويتبين مما تقدم أن مذهب الشافعي قد تطور على نحو يكاد يضاهي فيه المذهب الحنفي وإن كان يتسع عنه في جهة ويضيق دونه في جهة أخرى.(2/120)
3 - تطور الفقه الإسلامي في المذهب المالكي
التطور في المذهب المالكي أبعد مدى من التطور في المذهب الحنفي وفي مذهب الشافعي، وقد تطور الفقه الإسلامي في مذهب مالك تطورا أبعد مدى من تطوره في مذهبي أبي حنيفة والشافعي، فمالك يجيز من الشروط ما يجيزه المذهبان الآخران، ثم هو يجيز منها كثيرا مما لا يجيزانه.
وعنده أن الأصل في الشرط أن يكون صحيحا ويصح معه العقد، وقد يقع الشرط فاسدا على سبيل الاستثناء.
ونستعرض في مذهبه الشرط الصحيح ثم الشرط الفاسد، وذلك في شيء من التنسيق والترتيب لا نجده عادة في كتب المذهب. فهذه تتعدد فيها التقسيمات ويتداخل بعضها في بعض، وقد نوه بذلك ابن رشد في بداية المجتهد.
* * *(2/121)
الشرط الصحيح في مذهب مالك
الشرط الصحيح في مذهب مالك أوسع بكثير من الشرط الصحيح في مذهب أبي حنيفة:
(أ) فكل شرط يقتضيه العقد صحيح، وفي هذا يتفق المذهبان، فيصح الشرط والعقد إذا اشترط البائع أن يدفع المشتري الثمن، أو اشترط المشتري أن يسلم البائع المبيع أو أن يضمن العيب، أو اشتراط الدائن المرتهن أن يكون له الحق في بيع العين المرهونة إذا لم يستوف الدين أو يكون مقدما على سائر الغرماء، أو اشترطت الزوجة أن ينفق عليها الزوج وأن يكسوها.
(ب) ولا يصح فحسب في مذهب مالك كل شرط يقتضيه العقد، بل يصح أيضا كل شرط لا يناقض مقتضى العقد. وفي هذا يتسع مذهب مالك عن مذهب أبي حنيفة، إذ يحل في حكم الصحة عند مالك الشرط الذي يلائم العقد والشرط الذي جرى به التعامل وهما صحيحان في مذهب أبي حنيفة، ويدخل أيضا الشرط الذي فيه منفعة معقولة لأحد المتعاقدين ولو لم يكن العقد يقتضيه أو يلائمه ما دام الشرط نفسه لا يناقض مقتضى العقد، ومثل هذا الشرط يفتح الباب واسعا للتعامل، وهو كما رأينا صحيح عند مالك فاسد عند أبي حنيفة.
فيصح في المذهبين أن يشترط البائع على المشتري تقديم رهن أو كفيل أو محال عليه بالثمن، وهذا شرط يلائم مقتضى العقد ولا يقتصر على عدم مناقضته.(2/121)
ويصح في مذهب مالك دون مذهب أبي حنيفة:
1 - أن يشترط البائع على المشتري أن يعتق العبد المبيع، أو يقف الأرض المبيعة، أو يبني فيها مسجدا، أو غير ذلك مما يتضمن إيقاع معنى في المبيع هو من معاني البر.
2 - أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه أو يعتقه حتى يعطي الثمن المؤجل، وفي هذا إيقاع معنى في المبيع لضمان حق البائع.
3 - أن يبيع الدار ويشترط سكناها مدة معقولة، أو الدابة ويشترط ركوبها ثلاثة أيام أو الوصول بها إلى مكان قريب، أو الثوب ويشترط عليه المشتري أن يخيطه، أو الحنطة ويشترط عليه أن يطحنها، وغير ذلك من الشروط التي فيها منفعة معقولة لأحد المتعاقدين.
* * *(2/122)
الشرط الفاسد في مذهب مالك
ولا يكون الشرط فاسدا عند مالك إلا في موضعين:
إذا كان الشرط يناقض مقتضى العقد، كما إذا اشترط البائع على المشتري ألا يتصرف في المبيع، أو اشترط الزوج على الزوجة ألا ينفق عليها أو ألا ترثه، أو اشترط بائع الرقيق على مشتريه أنه إذا أعتقه كان الولاء للبائع.
وسبب فساد الشرط هنا واضح، فإن العقد لا يسلم مع وجود الشرط ما دام الشرط يناقض مقتضاه، أو كما يقول الخطاب " وهو شرط لا يتم معه المقصود من العقد ".
إذا كان الشرط يخل بالثمن، وذلك كبيع وسلف أي بيع يتضمن قرضا، وكبيع الثنيا، وصورته أن يبتاع سلعة على أن البائع متى ما رد الثمن فالسلعة له (وهذا هو بيع الوفاء في القانون الحديث، وهو بيع معلق على شرط لا مقترن بشرط) وكبيع يشترط البائع فيه أنه إذا باع المشتري السلعة فهو أحق بها بالثمن الذي باع به للمشتري. وسبب فساد الشرط هنا أنه اشترط لمصلحة البائع أو المشتري وقد روعي فيه نقص الثمن بقدر غير معلوم إذا كان لمصلحة البائع كما في بيع الثنيا، أو زيادة الثمن بقدر غير معلوم إذا كان الشرط لمصلحة المشتري كما في بيع وقرض للمشتري من البائع، وفي الحالتين تلحق الجهالة بالثمن، أو كما يقول الخرشي: إن الشرط يعود جهله في الثمن إما بزيادة إن كان الشرط من المشتري، أو بنقص إن كان من البائع.
والشرط الفاسد يبطل في جميع الأحوال، ولا يعمل به. أما أثره في العقد:(2/122)
(1) فتارة يبطله.
(2) وطورا يبطل الشرط وحده ويبقى العقد.
(3) وثالثة يبطل الشرط والعقد معا إلا إذا نزل المشترط عن الشرط فيسقط الشرط ويبقى العقد.
(1) أما أن الشرط الفاسد يبطل العقد فيقع ذلك عادة إذا كان الشرط يناقض مقتضى العقد، بحيث إذا أعمل الشرط كان لا بد للعقد حتما من أن يختل. فيبطل كل من الشرط والعقد إذا اشترط الواهب ألا يقبض الموهوب له الهبة، أو اشتراط المقرض أن يرد له المقترض أحسن مما اقترض، أو اشترط الراهن أن يستبقي الرهن تحت يده أو أنه يخرج من الرهن بعد مدة معلومة أو أن الرهن لا يباع، أو اشترط رب المال في القراض أن يستبقي المال تحت يده أو أن يضمنه العامل أو أن يجعل مع العامل أمينا، أو يشترط الزوج ألا ينفق على الزوجة أو ألا ترثه، أو تشترط الزوجة أنها بالخيار إلى مدة معلومة، أو أن الزوج لم يأت بالمهر في مدة معلومة فلا زواج.
(2) وأما أن الشرط الفاسد يبطل هو وحده ويبقى العقد، فيبدو أن ذلك يقع إذا ناقض الشرط مقتضى العقد ولكن العقد لا يختل إذا أعمل الشرط. فما دام العقد لا يختل بالشرط أو بدونه فإنه يبقى.
أما الشرط فيسقط؛ لأنه شرط فاسد يناقض مقتضى العقد، فهو أقرب إلى أن يكون مخالفا للنظام العام في لغة الفقه الغربي، فيبطل الشرط ويبقى العقد إذا اشترطت الزوجة على زوجها ألا يتزوج عليها أو ألا يطلقها أو ألا ينقلها من بلدها أو من دارها، أو اشترط بائع الرقيق على مشتريه أنه إذا أعتقه كان الولاء للبائع، أو اشترط البائع ألا حق للمشتري في حط جزء من الثمن إذا أصابت الثمار آفة، أو اشترط رب الوديعة على حافظها أن يضمن هلاكها.
(3) وأما أن الشرط الفاسد يبطل هو والعقد معا إلا إذا نزل عنه المشترط فيسقط ويبقى العقد، فإن ذلك يتحقق في حالة ما إذا كان الشرط يخل بالثمن كما رأينا في البيع والسلف وبيع الثنيا والبيع مع اشتراط البائع أنه أحق بالبيع إذا باعه المشتري. ويتحقق ذلك أيضا فيما إذا كان الشرط يناقض مقتضى العقد عن طريق إيقاعه معنى في البيع ليس من معاني البر، وذلك كأن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه، وهذا إذا عمم أو استثني قليلا كقوله: على ألا تبيعه جملة أو لا تبيعه إلا من فلان، وأما إذا خصص ناسا قليلا فيجوز الشرط ويصح البيع.(2/123)
تقدير مذهب مالك
ولا شك في أن الفقه الإسلامي، فيما يتعلق باقتران العقد بالشرط، قد تطور في مذهب مالك تطورا ملحوظا نحو الإباحة. فالمذهب المالكي - خلافا للمذهبين الحنفي والشافعي - يجيز الشرط الذي فيه منفعة مطلوبة فيتخطى بهذه الإباحة العقبة التي ترجح في المذهبين الآخرين إلى مبدأ وحدة الصفقة.
ثم إن الشرط الفاسد عند مالك لا يجاوز في أكثر صورة منطقة معقولة، وهذا واضح في الشرط الفاسد الذي يبطل العقد، والشرط الفاسد الذي يبطل وحده ويبقى العقد.
أما الشرط الفاسد الذي يبطل ويبطل العقد معه إلا إذا نزل عنه المشترط فهو في إحدى صورتيه، وهي صورة المنع من التصرف في البيع، لا يجاوز أيضا حدودا معتدلة، إذ الشرط يصح إذا قيد بقيود معقولة كما إذا نهى البائع المشتري عن التصرف لناس قليلين وترك باب التصرف مفتوحا لأكثر الناس، ويصح كذلك إذا كان له مسوغ مشروع كما إذا اشترط البائع ألا يتصرف المشتري في المبيع حتى يعطي الثمن المؤجل، وكما إذا كان المنع من التصرف يتضمن إيقاع معنى في البيع هو من معاني البر.
وتبقى الصورة الأخرى لهذا الشرط الفاسد، وهي التي يخل بها الشرط بالثمن كما في بيع وسلف، ففي هذه نرى مذهب مالك قد وقف جامدا، ولم يتابع التطور إلى غايته، وكأنه اصطدم هنا بمبدأ وحدة الصفقة فلم يستطع أن يتخطاه في البيع والسلف، فإن العقد الذي يتضمن بيعا وسلفا، لا يتميز في الواقع من الأمر إلا بأنه عقد واحد تضمن صفقتين.(2/124)
تطور الفقه الإسلامي في المذهب الحنبلي
المذهب الحنبلي أبعد المذاهب تطور في تصحيح الشروط
وأبعد تطور للفقه الإسلامي في مسألة اقتران الشرط بالعقد كان في مذهب أحمد بن حنبل، لا سيما إذا استكملنا هذا المذهب بما أضافه إليه ابن تيمية وهو من أكبر فقهائه.
فالمذهب الحنبلي، كالمذهب المالكي، تخطى مبدأ وحدة الصفقة، ولم يتقيد بهذا المبدأ كما تقيد به المذهبان الحنفي والشافعي، ومن ثم استطاع أن يسير أشواطا بعيدة في طريق التطور.(2/124)
والحنابلة، كالمالكية، الأصل عندهم في الشرط أن يكون صحيحا ويصح معه العقد، بل هم يسيرون في هذا الأصل إلى مدى أبعد من المالكية في تصحيح الشروط، ويقع الشرط عند الحنابلة فاسدا، على سبيل الاستثناء، إذا كان ينافي مقتضى العقد، أو كان قد ورد بالنهي عنه نص خاص.
فنستعرض في المذهب الحنبلي الشرط الصحيح، ثم الشرط الفاسد، ثم ننظر ما أضاف ابن تيمية إلى المذهب من مزيد توسعة في تصحيح الشروط.
* * *(2/125)
الشرط الصحيح في مذهب الحنابلة
الأصل في مذهب الحنابلة - كما قدمناه - هو أن يكون الشرط صحيحا. وتساير صاحب المغني في الترتيب الذي جرى عليه في استعراض الشروط:
(أ) فكل شرط يقتضيه العقد صحيح، وفي هذا تتفق المذاهب الأربعة. فيصح اشتراط المشتري التسليم على البائع، والتقابض في الحال، ويصح لكل من المتعاقدين أن يشترط خيار المجلس، فكل هذه الشروط يقتضيها العقد، وهي معمول بها حتى لو لم تشترط.
(ب) ويصح أيضا كل شرط يلائم العقد ويكون من مصلحته، فتتعلق به مصلحة المتعاقدين كالرهن والضمين والشهادة. وفي هذا أيضا تتفق المذاهب الأربعة.
(ج) ويصح أخيرا الشرط الذي ليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته، ولكنه لا ينافي مقتضى العقد. وهنا نلحظ أخيرا المدى البعيد من التطور الذي سار فيه المذهب الحنبلي كما لحظنا ذلك في مذهب مالك، وهذا خلافا لمذهبي أبي حنيفة والشافعي، فما دام الشرط لا ينافي مقتضى العقد فهو في الأصل صحيح سواء كان العقد يقتضيه أو لا يقتضيه، وسواء لاءم مقتضى العقد أو لم يلائمه. والشرط صحيح حتى لو تضمن منفعة مطلوبة، وفي هذا يتخطى المذهب الحنبلي مبدأ وحدة الصفقة كما تخطاه المذهب المالكي، بل هو ينكر صحة الحديث الذي نهى عن بيع وشرط، ثم إنه لا حاجة في صحة الشرط إلى جريان التعامل به، خلافا لما يذهب إليه الفقه الحنفي(2/125)
ومن ثم نرى المذهب الحنبلي، خلافا لمذهبي أبي حنيفة والشافعي، يصحح أكثر الشروط التي فيها منفعة لأحد المتعاقدين كما يصححها المذهب المالكي. ونورد ما جاء في هذا الصدد في الشرح الكبير على المقنع (جزء 4 ص 49 - ص 51) : " والثالث أن يشترط نفعا معلوما في المبيع كسكنى الدار شهرا وحملان البعير إلى موضع معلوم، أو يشترط المشتري نفع البائع في المبيع كحمل الحطب أو تكسيره أو خياطة الثوب أو تفصيله، ويصح أن يشترط البائع نفع المبيع مدة معلومة، مثل أن يبيع دارا ويستثني سكناها سنة، أو دابة ويشترط ظهرها إلى مكان معلوم، أو عبدا ويستثني خدمته مدة معلومة، نص عليه أحمد، وهو قول الأوزاعي وأبي ثور وإسحاق وابن المنذر.
وقال الشافعي وأصحاب الرأي: لا يصح؛ لأنه روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط. . ولنا ما روى جابر «أنه باع النبي - صلى الله عليه وسلم - جملا واشترط ظهره إلى المدينة (1) » . . ولم يصح نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وشرط، وإنما نهى عن شرطين في بيع فمفهومه إباحة الشرط الواحد. ويصح أن يشترط المشتري نفع البائع في المبيع، مثل أن يشتري ثوبا ويشترط على بائعه خياطته قميصا، أو بلغة ويشترط حذوها نعلا، أو حزمة حطب ويشترط حملها إلى موضع معلوم ".
ويتوسع المذهب الحنبلي في إباحة الشروط في عقد الزواج بوجه خاص، ويفوق في ذلك سائر المذاهب وفيها مذهب مالك نفسه. فيجوز في الزواج من الشروط ما يكون فيه للزوجين منفعة مقصودة ما دامت لا تعارض الشرع ولا تنافي المقصود من عقد الزواج، ويقول ابن تيمية (الفتاوى 3 ص 332 - نظرية العقد ص 155) في ذلك " ويجوز أحمد أيضا في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح، لما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج (2) » فلا يقتصر مذهب أحمد على أن يكون لكل من الزوجين أن يشترط في الآخر صفة يصح قصدها، فيشترط الزوج في زوجته البكارة أو الجمال مثلا، وتشترط الزوجة في زوجها المال أو حرفة معينة أو موردا معينا من العيش. ويكون للمشترط أن يفسخ الزواج إذا فات عليه ما اشترطه، ولا فرق في هذا أن يكون المشترط هو الرجل أو المرأة، وهذا هو أصح روايتي أحمد، وأصح وجهي أصحاب الشافعي وظاهر مذهب مالك (ابن تيمية: الفتاوى 3 ص 346 - نظرية العقد ص 156 - 157) بل يجوز أيضا في مذهب أحمد أن تشترط الزوجة على زوجها ألا يخرجها من بلدها أو من دارها، أو لا يتسرى، أو ألا يتزوج عليها. فإن لم يف لها بشرطها كان لها أن تفسخ الزواج (نظرية العقد لابن تيمية ص 16 وص 34 وص 161 - ص 162 والفتاوى 3 ص 327) . وقد رأينا أن هذه الشروط غير جائزة في مذهب مالك.
__________
(1) سنن الترمذي المناقب (3852) .
(2) صحيح البخاري الشروط (2721) ، صحيح مسلم النكاح (1418) ، سنن الترمذي النكاح (1127) ، سنن النسائي النكاح (3281) ، سنن أبو داود النكاح (2139) ، سنن ابن ماجه النكاح (1954) ، مسند أحمد بن حنبل (4/150) ، سنن الدارمي النكاح (2203) .(2/126)
الشرط الفاسد في مذهب الحنابلة
ولا يكون الشرط فاسدا عند الحنابلة إلا في موضعين:
كان الشرط ينافي مقتضى العقد. مثل ذلك أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه أو يعتقه، أو يشترط إن أعتقه أن يكون الولاء للبائع. فهذه الشروط كلها تنافي مقتضى العقد، إذ مقتضى العقد حرية المشتري في التصرف في المبيع بعد أن صار ملكه، يبيعه أو لا يبيعه ويهبه أو لا يهبه، وإذا كان رقيقا فأعتقه فإن الولاء يكون له هو لا للبائع؛ لأنه هو المعتق، والولاء لمن أعتق.
بقي أن يشترط بائع الرقيق على مشتريه أن يعتقه، فهل يصح الشرط؟ في المذهب روايتان، أحدهما: الشرط فاسد؛ لأنه ينافي مقتضى العقد شأنه في ذلك شأن ما قدمناه من الشروط، والرواية الأخرى: الشرط صحيح، لحديث بريرة المعروف.
ومن الشروط التي تنافي مقتضى العقد عند الحنابلة أن يشترط إن أغضبه غاضب أن يرجع على البائع بالثمن. ومنها أن يشترط البائع أن يكون أحق بالمبيع بثمنه إن باعه المشتري؛ لأنه يكون بذلك قد اشترط ألا يبيعه من غيره إذا أعطاه ثمنه، فهو كما لو اشترط ألا يبيعه إلا من فلان، وهذا يقيد المشتري في التصرف فينافي مقتضى العقد. وقيل أيضا في مذهب أحمد أن هذا الشرط يتضمن شرطين، فيكون غير جائز على ما سنرى؛ لأن البائع شرط أن يبيعه إياه وأن يبيعه بالثمن الأول، فهما شرطان (الشرح الكبير على المقنع 4 ص 55) . وقد رأينا أن هذا الشرط غير جائز في المذهب المالكي؛ لأنه يخل الثمن.
ومن الشروط التي تنافي مقتضى العقد أيضا ما جاء في الشرح الكبير على المقنع (جزء 4 ص 58) : " وإذا قال: بع عبدك من فلان بألف على أن علي خمسمائة فباعه بهذا الشرط، فالبيع فاسد؛ لأن الثمن يجب أن يكون جميعه على المشتري، فإذا شرط كون بعضه على غيره لم يصح؛ لأنه لا يملك المبيع والثمن على غيره. ولا يشبه هذا ما لو قال: أعتق عبدك أو طلق امرأتك وعلي خمسمائة؛ لكون هذا عوضا في مقابلة فك الزوجة ورقبة العبد، ولذلك لم يجز في النكاح. أما في مسألتنا فإنه معاوضة في مقابلة نقل الملك، فلا يثبت؛ لأن العوض على غيره. وإن كان هذا القول على وجه الضمان، صح البيع ولزم الضمان.
ولما كان الشرط الذي ينافي مقتضى العقد فاسدا، فإنه يبطل ولا يعمل به، أما حكم العقد الذي اقترن به الشرط ففيه روايتان: الأولى أن العقد صحيح، وهذا هو المنصوص عن أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي، فيسقط الشرط ويبقى العقد، وللبائع الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن، وللمشتري الرجوع بزيادة الثمن إن كان هو المشترط؛ لأن البائع إنما سمح بهذا الثمن لما يحصل له من الغرض بالشرط، والمشتري إنما سمح له بزيادة الثمن من أجل شرطه، فإذا لم يحصل غرضه ينبغي أن يرجع بما سمح به كما لو وجده معيبا. ويحتمل أن يثبت الخيار ولا يرجع بشيء، كمن شرط رهنا أو ضمينا فامتنع الراهن والضمين؛ لأن ما ينقصه الشرط من(2/127)