سماحة، فأدى شكره، وقلت شكايته في الناس [يعني] (1) فهو سيد (2).
الحجة العاشرة: ما ثبت في الصحيح (3) أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للأوس: " انظروا إلى سيدكم ما يقول " وذلك في قصة اللعان.
الحجة الحادية عشرة: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث قيس بن عاصم: " اتقوا الله، وسودوا أكبركم " (4).
الحجة الثانية عشرة: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقولوا للمنافق سيد " (5).
الحجة الثالثة عشرة: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قيل له: من السيد؟ فقال: " يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " (6)، وهذه الأحاديث المتأخرة ذكرها صاحب .................................
_________
(1) زيادة من (أ).
(2) أخرجه الطبراني في " الأوسط " كما في " مجمع الزوائد " (8/ 202) وقال الهيثمي: رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه نافع أبو هرمز وهو متروك، وهو حديث ضعيف.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قيل: يا رسول الله، من السيد؟ قال: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " قالوا: فما من أمتك سيد؟ قال: " بلى رجل أعطي مالا، ورزق سماحة، وأدنى الفقير، وقلت شكايته في الناس ".
(3) أخرج مسلم في صحيحه رقم (16/ 1498) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه: " اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني ".
(4) تقدم تخريجه.
(5) أخرجه أحمد في " مسنده " (5/ 347) وأبو داود رقم (4977) والبخاري في " الأدب المفرد " (760) والنسائي في " عمل اليوم والليلة " رقم (244) والبيهقي في " الشعب " رقم (4883) وابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (364) والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " رقم (5987) وابن السني في " عمل اليوم والليلة " (391).
من حديث بريدة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يك سيدا، فقد أسخطتم ربكم عز وجل ". اللفظ لأبي داود، وهو حديث صحيح.
(6) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف.(11/5652)
النهاية (1).
[الحجة الرابعة عشرة: ذكر السبكي في طبقاته (2) في ترجمة أحمد بن عمرو بن السرح (3) شيخ مسلم وغيره ما لفظه: وتفرد عن ابن وهب بحديث فقال: حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث، عن أبي يونس، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كل بني آدم سيد، الرجل سيد أهله، والمرأة سيدة بيتها " قال السبكي (4) هذا حديث صحيح غريب. انتهى] (5).
فهذا ما خطر من الحجج عند جري القلم بهذه الأحرف، والمجال [واسع جدا] (6) ومن تتبع وجد أضعاف أضعاف ذلك، بل قد صرح بذلك الكتاب العزيز، قال الله تعالى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} (7)، فهذا [فيه] (8) إطلاق لفظ السيد على البشر، وهذه الآية الكريمة ينبغي أن تجعل من الحجج المتقدمة، فتكون الحجة الرابعة عشرة.
وقد جرى على ألسن الصحابة والتابعين وتابعيهم من إطلاق ذلك على البشر نظما ونثرا ما لا يأتي عليه الحصر، ومن ذلك قول عائشة [رضي الله عنها] (9) لما سألتها امرأة عن الخضاب فقالت: " كان سيدي رسول الله [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (10) يكره ريحه " (11).
_________
(1) (2/ 417).
(2) في " طبقات الشافعية الكبرى " (2/ 26).
(3) (2/ 26).
(4) في " طبقات الشافعية الكبرى " (2/ 26).
(5) زيادة من (أ).
(6) في (أ) واسعا جدا. وما أثبتناه من (ب).
(7) [آل عمران: 39].
(8) زيادة من (ب).
(9) زيادة من (ب).
(10) زيادة من (ب).
(11) أخرجه أبو داود رقم (4164) والنسائي رقم (5093).
أن امرأة أتت عائشة - رضي الله عنها - فسألتها عن خضاب الحناء فقالت: لا بأس به، ولكني أكرهه، كان حبيبي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكره ريحه "، وهو حديث ضعيف.(11/5653)
وقول أم الدرداء: " حدثني سيدي أبو الدرداء "، وقول عمر: " تفقهوا قبل أن تسودوا " (1)، وقول ابن عمر: " ما رأيت بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسود من فلان " (2).
فقد ثبت مما قدمنا عدم دلالة ذلك الدليل على المطلوب؛ لاقترانه بما يدل على أنهم أرادوا بالسيد معنى يتضمن بعض الغلو الذي لا تريده العرب وأهل الإسلام [2ب] عند إطلاقه على البشر؛ ولهذا جعله [4] صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من استجرار [الشيطان] (3) واستهوائه.
وثبت أيضًا بما ذكرناه من الحجج أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أثبت لنفسه أن سيد بني آدم على العموم (4) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (5). وأثبت لبعض أفراد البشر أنه سيد مطلق من غير تقييد (6)، وأثبت لبعض آخر أنه سيد شباب الجنة، ولبعض آخر أنه سيد كهول أهل الجنة [ولبعض أنه سيد قبيلة من القبائل] (7) ولبعض
_________
(1) أخرجه الدارمي في سننه (1/ 79) بسند صحيح، قلت: وأخرجه ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " رقم (508، 509) وأبو خيثمة في " العلم " رقم (9) ووكيع في " الزهد " رقم (102) والخطيب في " الفقيه والمتفقه " (2/ 78) وغيرهم من طرق.
(2) أخرجه الطبراني في " الأوسط " رقم (6759) وفي " الكبير " (12/ 387 رقم 13432).
وقال الهيثمي في " المجمع " (9/ 357) رواه الطبراني في " الأوسط " و" الكبير " وفي رجاله خلاف.
وأورده ابن الأثير في " النهاية " (2/ 418) ولفظه: " ما رأيت بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسود من معاوية قيل: ولا عمر! قال: كان عمر خيرا منه، وكان هو أسود من عمر " قيل: أراد أسخى وأعطى للمال، وقيل: أحلم منه.
(3) زيادة من (أ).
(4) تقدم تخريجه.
(5) [النجم: 3 - 4].
(6) انظر " فتح الباري " (5/ 177) باب رقم 17، كراهية التطاول على الرقيق وقوله: عبدي أو أمتي. وقوله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وإمائكم}، وقال: {عَبْدًا مَمْلُوكًا}، {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ}، وقال: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}، وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قوموا إلى سيدكم "، {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} سيدك، و" من سيدكم ".
(7) " زيادة من (ب).(11/5654)
أنه سيد قبائل متعددة.
فدل مجموع ذلك إلى أنه يجوز أن يقال لفرد من أفراد بني آدم أنه سيد ذلك [القائل] (1)، أو سيد قوم معينين كأن يقول: يا سيدي أو يا سيد القبيلة الفلانية، أو سيد أهل القرية الفلانية، أو نحو ذلك من التخصيص والتعميم الجائزين الخاليين عن الغلو الممنوع.
ولا فرق بين أن يكون ذلك في مخاطبة أو مكاتبة، فالكل جائز، والأمر واسع، فإن السيد في لغة العرب يرد [لمعان] (2) منها [من ثبتت] (3) له رئاسة عامة أو خاصة، وأهل الشرع إلى عصرنا هذا إذا أطلقوه على فرد من الأفراد لا يريدون إلا هذا المعنى، أما حقيقة، أو ادعاء [وتأدبا] (4). وما في إطلاق مثل هذا من ضير، فقد أذن به الشرع، ولم يرد فيه ما يمنعه لا بتصريح ولا بتلويح، بل كما يجوز أن يقال: الرئيس أو رئيس بني فلان، أو رئيسي، كذلك يجوز أن يقال: السيد أو سيد بني فلان أو سيدي (5).
قال في النهاية (6) والسيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم، [ومتحمل أذى قومه] (7) والزوج والرئيس والمقدم، وأصله من ساد يسود فهو سؤدد، فقلبت الواو ياء لأجل الياء الساكنة قبلها، ثم أدغمت. . . انتهى بلفظه.
ومن علم أن هذه المعاني ثابتة للفظ السيد في لغة العرب (8)، ولسان أهل الشرع،
_________
(1) في (ب): القبائل.
(2) في (ب): لغتان.
(3) في (ب): ما ثبت.
(4) زيادة من (أ).
(5) تقدم في تعليقة سابقة.
(6) (2/ 418).
(7) زيادة في (ب).
(8) قال الراغب الأصفهاني في " مفردات ألفاظ القرآن " (ص 432): السيد المتولي للسواد: أي الجماعة الكثيرة، وينسب إلى ذلك فيقال: سيد القوم، ولا يقال: سيد الثوب، وسيد الفرس، ويقال: ساد القوم يسودهم، ولما كان من شرط المتولي للجماعة أن يكون مهذب النفس، قيل: لكل من كان فاضلا في نفسه: سيد. وعلى ذلك قوله: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39]، وقوله: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا} [يوسف: 25] فسمي الزوج سيدا لسياسة زوجته. وقوله: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا} [الأحزاب: 64]، أي: ولاتنا وسائسينا.(11/5655)
فكيف ينكر إطلاق لفظ السيد أو سيدي على واحد منها! فمن قال للرئيس أو الشريف أو الفاضل أو الكريم أو الحليم السيد أو سيدي، فقط أطلق ذلك اللفظ العربي على المعنى الذي وضعته [له] (1) العرب، ولم يرد المنع منه في الشرع.
والحاصل أن لفظ السيد مشترك في لسان العرب بين تلك المعاني، موضوع لكل واحد منها [5]، ومن جملتها أنه موضوع للرب سبحانه فيجوز إطلاقه عليه - عز وجل (2) - ويجوز إطلاقه على سائر تلك المسميات، وليس بمختص بالرب سبحانه [3أ] حتى لا يجوز إطلاقه على غيره (3). ومن زعم هذا فقد ادعى على لغة العرب، بل
_________
(1) في (ب): لها.
(2) قال القرطبي: إنما فرق بين الرب والسيد؛ لأن الرب من أسماء الله تعالى اتفاقا، واختلف في السيد، ولم يرد في القرآن أنه من أسماء الله تعالى.
فإن قلنا: إنه ليس من أسماء الله تعالى فالفرق واضح؛ إذ لا التباس، وإن قلنا: إنه من أسمائه فليس في الشهرة والاستعمال كلفظ الرب، فيحصل الفرق بذلك.
" فتح الباري " (5/ 180).
وقال الأصبهاني في " الحجة في بيان المحجة " (1/ 155 - 156): ومن أسمائه " السيد "، وهذا اسم لم يأت به الكتاب، وإنما ورد في الخبر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ذكر الخبر.
قال ابن القيم في " النونية " (2/ 231 - 232):
وهو الإله السيد الصمد الذي ... صمدت إليه الخلق بالإذعان
الكامل الأوصاف من كل الوجو ... ه كماله ما فيه من نقصان
وقال: السيد إذا أطلق عليه - تعالى - فهو بمعنى: المالك والمولى والرب، لا بالمعنى الذي يطلق على المخلوق، والله سبحانه وتعالى أعلم.
" الفوائد " (3/ 213).
(3) قال القرطبي: إنما فرق بين الرب والسيد؛ لأن الرب من أسماء الله تعالى اتفاقا، واختلف في السيد، ولم يرد في القرآن أنه من أسماء الله تعالى.
فإن قلنا: إنه ليس من أسماء الله تعالى فالفرق واضح؛ إذ لا التباس، وإن قلنا: إنه من أسمائه فليس في الشهرة والاستعمال كلفظ الرب، فيحصل الفرق بذلك.
" فتح الباري " (5/ 180).
وقال الأصبهاني في " الحجة في بيان المحجة " (1/ 155 - 156): ومن أسمائه " السيد "، وهذا اسم لم يأت به الكتاب، وإنما ورد في الخبر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ذكر الخبر.
قال ابن القيم في " النونية " (2/ 231 - 232):
وهو الإله السيد الصمد الذي ... صمدت إليه الخلق بالإذعان
الكامل الأوصاف من كل الوجو ... ه كماله ما فيه من نقصان
وقال: السيد إذا أطلق عليه - تعالى - فهو بمعنى: المالك والمولى والرب، لا بالمعنى الذي يطلق على المخلوق، والله سبحانه وتعالى أعلم.
" الفوائد " (3/ 213).(11/5656)
على الشرع ما ليس فيهما، وهذه كتب اللغة، وكتب الشريعة المطهرة إلى ظهر البسيطة، وقد نقلنا في هذا ما فيه كفاية لمن كانت له هداية، والله ولي التوفيق (1).
وظهر [بهذا [(2) النقل الذي نقلناه عن صاحب النهاية صحة ما قدمنا من تأويل قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " السيد الله " كما تقدم بيانه وإيضاحه، وحسبي الله ونعم الوكيل. . . ولنقتصر على هذا القدر وإن كان المقام [محتملا] (3) للتطويل والبسط، فليس المراد إلا التنبيه على دفع ما يظن أن من قال لفرد من أفراد البشر السيد أو سيدي [قد] (4) خالف الشريعة، وفعل محرما من محرماتها، فإن هذا غلط على الشريعة، والحمد لله أولى وأخرى. . .
[حرر] (5) ضحوة يوم الأربعاء لعله ثامن شهر جمادى الأولى سنة 1219.
[بقلم المؤلف - عافاه الله - ونقلته من خطة ثاني يوم تحريره - دامت إفادته - والله حسبي بلغ قصاصه، ويرد من الحجج قوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} تمت] (6).
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2546) وطرفه (2550) ومسلم رقم (1664) من حديث ابن عمر قال: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " العبد إذا نصح سيده وأحسن عبادة ربه كان له أجره مرتين ".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2549) ومسلم رقم (1667) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نعم ما لأحدهما، يحسن عبادة ربه وينصح سيده ".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (3754) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: كان عمر يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، يعني بلالا ".
وانظر: " فتح الباري " (7/ 99).
(2) في (ب): هذا.
(3) في (ب): متحمل.
(4) في (ب): فقد.
(5) زيادة من (أ).
(6) زيادة من (ب).(11/5657)
(185) 17/ 3
هذه مناقشة للبحث السابق لبعض الهنود الساكنين في تهامة
تحقيق الرباني للعالم الصمداني على رسالة الشوكاني
[العرف الندي في جواز لفظ سيدي]
تأليف
السيد عبد الغفار بن محمد الحسني
عفا الله عنه وعن أسلافه وعن المسلمين آمين
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(11/5659)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: هذه مناقشة للبحث السابق لبعض الهنود الساكنين في تهامة على رسالة الشوكاني.
[العرف الندي في جواز لفظ سيدي]
2 - موضوع الرسالة: آداب.
3 - أول الرسالة: " رب يسر، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى. . .
4 - آخر الرسالة: تمت الرسالة المسماة بتحقيق الرباني العالم الصمداني على رسالة الشوكاني تأليف العالم العلامة السيد عبد الغفار بن محمد الحسني، غفر الله له ولكاتبه وللمسلمين أجمعين، آمين.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 5 صفحات + صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 28 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 1 - 25 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5661)
رب يسر.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، لا سيما المصطفى وآله المجتبى.
أما بعد:
فيقول الفقير إلى لطف ربه الستار الصمد أبو التائب عبد الغفار بن محمد الحسني - بصره الله بعيوب نفسه، وجعل يومه خيرا من أمسه - أنه وصلت إليه من بعض خيار الأعلام، علم الإسلام، نبذة تامة وأرجوزة ضامة في رد على من لا يرى إطلاق لفظ سيدي أو سيدنا في المكاتبات والمخاطبات، تأليف العالم النحرير، والعلامة البحر الغزير، سلالة المحققين على ظهر الدحية، خصوصا ما بين صنعاء واللحية، (1) القاضي الرباني محمد بن علي الشوكاني، متع الله المسلمين بطول بقائه، ورفع بين الأولوية لواءه.
ولقد أفاد وأجاد، ونصح في ظنه للعباد، وإنما لكل امرئ ما نوى، ولما كانت الأنظار قليلة القرار بالإضافة إلى الأغيار؛ لاختلاف الأوضاع الدالة على تعدد الأوطار، خلج في خلدي أن أرشد لمنشد الضالة حسبة مني أنه من حكماء الديار، فهو أحق للوقاية عن البوار، لكن قلة بضاعتي تأخذ كشحي عن مهالك البحث، ولندرة الإنصاف والاعتبار، ولم يزل يخط ذلك عدة ليالي والأنهار، حتى اقتحمت معتصما بحبل التوفيق لمن أقر الفلك الدوار، ولعا على إظهار الحق حبك الشيء، يصم ويعمي من غير إنكار،
_________
(1) اللحية: بلدة تهامية على ساحل البحر الأحمر شمالي الحديدة، وهي من الموانئ الصغيرة، وبها مغاصات اللؤلؤ والمرجان، ويرجع تاريخ عمارة اللحية إلى أوائل القرن الثامن الهجري، وإلى أراضيها يصب وادي مور أكبر أودية تهامة.
" معجم البلدان والقبائل اليمنية " (ص 548)، " هجر العلم ومعاقله " (4/ 1929).(11/5665)
ورمت الإيجاز جدا لعدم الفرصة لمدة الأطوار، وجعلت كالحاشية على هامشها لحصول البغية بذلك بأدنى اعتبار، وخير الكلام ما قل ودل، مع أنه ليس الغرض إلا إخراج الأسرار من كلام المؤلف، وأما المقدمات فأكثرها لصاحب النهاية رئيس الأحرار، اللهم كن لي في دار الفناء ودار القرار.
قوله: ولا شك ولا ريب - تنبه أيها النائم بسنة الغفلة - قد أفاد العلامة أنه قد خلت عن نحو تلك الاستعمالات القرون الثلاثة المحمودة المزكاة بتزكية المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو كان فيها حسن لأتوا بها؛ لوفور الوله لهم لاكتساب أنواع الحسنات، فإنهم أحدثوا أمورا جمة لما عرفوا الحسن فيها فلما يقدموا عليه مع جد طلب وجوه الحسنات، علم أنه لا حسن فيها، وحدوثها في القرون التالية التي أخبر الرسول بقلة الديانة والأمانة حيث قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ثم فشى الكذب، فيسبق حلفهم شهادتهم وشهادتهم حلفهم " (1) مع عدم شهدة (2) ذلك في القرن الرابع والخامس أيضًا المبني على زيادة القبح المستفاد من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما من عام إلا الذي بعده شر منه (3) دال على أنها من البدعة القبيحة المعضودة قباحتها بإنكاره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنفسه الكريمة، الآتي ذكره.
وقد صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (4)، وفي لفظ آخر: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (5)، وأيضا: " كل بدعة ضلالة،
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (2652) ومسلم رقم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته ".
وقد تقدم بألفاظ.
(2) كذا في المخطوط، ولعلها شهادة.
(3) أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (2206) من حديث أنس بن مالك، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وهو حديث صحيح.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2697) ومسلم رقم (1718) وأبو داود رقم (4606) وابن ماجه رقم (14) من حديث عائشة، وقد تقدم.
(5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2697) ومسلم رقم (1718) وأبو داود رقم (4606) وابن ماجه رقم (14) من حديث عائشة، وقد تقدم.(11/5666)
وكل ضلالة في النار " (1).
قوله: وتلبس بغير شعار الإسلام، أنت خبير بأنه تقرر سابقا أنها بدعة قبيحة، وكل بدعة قبيحة فهي غير شعار الإسلام، فكيف يصح إنكار العلامة على قائله! كيف ولا يبعد أن يقال هذا في شعائر الجاهلية وأمورها [1]! ولذا لم يوجد ذلك في إسلام السلف رأسا، فلا هذا الوفد الذين هم قريب عهد من الإسلام يؤيد إنكاره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم، وعدم حدوثه إلا حين ضَعْفِ الإسلام وشبوب الشرك في الناس، إما باستدعاء الخلف إلى عبادتهم كبعض المتعلمين وبعض المتصوفين، أو بإغرائهم إلى عبادة أربابهم كبعض التلامذة وبعض المريدين، حتى شاع الشرك في أكثر البلاد مع وقوع الخلق في الغلط، فصار ذلك عندهم من شعائر الإسلام ومستحسناته؛ فلذا ترى مشركي زماننا يذكرون عند ذكر آلهتهم سيدي فلان، أو سيدنا. فوضح أن ذلك من أمور الجاهلية، ما وجدت إلا عند عود الجاهلية.
قوله: فالخطب يسير، والخطر في ذلك حقير، فيها إيهام استصغار المعصية، وقد صرح أهل الدين أن استصغار المعصية ولو كانت صغيرة تصير كبيرة (2)، فلا يتصور صدور مثل ذلك عن العلامة إلا ذهولا عن تلك المقدمة، أو قصدا لأمر آخر في باله الشريف، ثم إنك قد عرفت مما سردنا أنه من البدعة القبيحة ومن أمور الجاهلية، وقد صح إنكاره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على مرتكبيه، فلا يلام من قال بأنه حرام أو مكروه تحريما.
قوله: يتعذر تلافيها. قد أدركت إنحاء دفعنا لإنحاء رده ابتداءً، وسترى أحسن من
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) منها ما أخرجه أبو داود رقم (4990) والترمذي رقم (2315) والنسائي في " السنن الكبرى " رقم (11655) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول الله تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14].(11/5667)
ذلك انتهاء - بحول الله تعالى وحسن توفيقه - فصح أن يقال ذلك من طرفنا.
قوله: فهذا حجتهم. فيه تلويح بأنه لا مستند لهم غير هذا الحديث، ولعمري أن العلامة خلط الحديثين (1)، ولعل وجهة ادعائه على اتحاد القصة بالتاريخ فهو مؤاخذ بتصحيح ذلك، أو وصلت إليه الرواية بتلك الطريق على نحو ما ذكره، أو غير ذلك من البواعث، وإلا فقد أخرج أبو داود (2) بإسناد جيد عن عبد الله بن الشخير قال: انطلقت في وفد [بني] عامر إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلنا: أنت سيدنا، فقال: " السيد الله تبارك وتعالى " قلنا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا، قال: " قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرنكم الشيطان ".
وأخرج النسائي (3) عن أنس بسند حسن أن أناسا قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، يا سيدنا وابن سيدنا، فقال: " يا أيها الناس قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله - عز وجل - " ثم اعلم أنه يفهم من سياق كلام العلامة وسياقه أن الإنكار على ذلك إنما حدث بين قوم معين لا غير، وليس الأمر كذلك، بل الإنكار لم يبرح من لدن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا على مباشرة من العلماء الراسخين الأبرار المتقدمين الأحرار، فإن طائفة من أمته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تزال على الحق ظاهرين ومنصورين كما ورد حتى تقوم الساعة (4)، وذلك واضح لمن له أدنى إلمام بالسير في
_________
(1) انظر التعليقة الآتية.
(2) في " السنن " رقم (4806)، وهو حديث صحيح.
(3) في " عمل اليوم والليلة " رقم (248) وأخرجه أحمد (3/ 241، 249).
(4) أخرج البخاري رقم (7311) ومسلم رقم (1921) من حديث المغيرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ".
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (1924) من حديث عقبة مرفوعا: " لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون عن أمر الله قاهرين لعدوهم، ولا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك ".(11/5668)
أحوال المشائخ الكمل القائمين الذين لم يخافوا لومة لائم، لكن السيف المفرق للمفارق لم يكن وضع على أعداء الدين إلا باستقامة تلك القوم المنصورة، فلا يرفع عنهم - إن شاء الله تعالى - إلى قيام القيامة كما ورد، وأظن أن [2] هذه القوم هي المبشرة بها.
قوله: فما قال غير خاف على ذي الفطنة القويم، وصاحب الطبع المستقيم أن مدار القياس هو مماثلة المقيس والمقيس عليه، فيبطل القياس بدونه، فإذا قياس العلامة قول الرجل: أنت سيدنا على قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قياس مع الفارق، وذلك باطل كما في محله، فإن السيد في موضع التخاطب والتكاتب يراد به المالك (1)، فلا يصح إطلاقه على هذه الحيثية إلا على المالك حقيقة كالواحد القهار، أو مجازا كملاك العبيد؛ ولذا أباح - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للعبيد ذلك دون غيرهم، ونهاهم عن إطلاق لفظ الرب (2).
_________
(1) انظر " فتح الباري " (5/ 179 - 180).
(2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2552) ومسلم في صحيحه رقم (2249) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يقل أحدكم: أطعم ربك وضئ ربك، وليقل: سيدي مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي ".
قال الحافظ في " الفتح " (5/ 179): وفيه نهي العبد أن يقول لسيده: ربي، وكذلك نهي غيره، فلا يقول له أحد: ربك، ويدخل في ذلك أن يقول السيد ذلك عن نفسه، فإنه قد يقول لعبده: اسق ربك، فيضع الظاهر موضع الضمير على سبيل التعظيم لنفسه، والسبب في النهي أن حقيقة الربوبية لله تعالى؛ لأن الرب هو المالك والقائم بالشيء، فلا توجد حقيقة ذلك إلا لله تعالى.
قال الخطابي: سبب المنع أن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد لله وترك الإشراك معه، فكره له المضاهاة في الاسم؛ لئلا يدخل في معنى الشرك، ولا فرق في ذلك بين الحر والعبد، فأما ما لا تعبد عليه من سائر الحيوانات والجمادات فلا يكره إطلاق ذلك عليه عند الإضافة كقوله: رب الدار ورب الثوب.
قال ابن بطال: لا يجوز أن يقال لأحد غير الله رب، كما لا يجوز أن يقال له إله.
قال الحافظ ابن حجر: والذي يختص بالله تعالى إطلاق الرب بلا إضافة، أما مع الإضافة فيجوز إطلاقه في قوله تعالى حكاية عن يوسف - عليه السلام -: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} وقوله: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ}، وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أشراط الساعة: " أن تلد الأمة ربها " فدل على أن النهي في ذلك محمول على الإطلاق، ويحتمل أن يكون النهي للتنزيه.(11/5669)
وأما قول القائل: أنا سيد بني فلان، وأنت سيد أهل الوبر، أو فلان سيد القبيلة، فمعناه على هذا الاستعمال هو المتقدم عليهم، فمعنى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنا سيد ولد آدم " (1) أي: المتقدم عليهم، فكيف يصح القول: " أنت سيدنا " حملا على قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعدم الجامع. ولو كان الجامع بينهما لما نهى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه الوفد الوافد، فأين الحديث حجة لكم؟
واعلم أنا لا نمنع إطلاق لفظ السيد على الله وعلى غيره، حيث ثبت أنه يستعمل لمعان متعددة، لكنا نمنع إطلاقه عليه تعالى إذا أريد به معنى الزوج والخادم ونحوهما مما يجب تنزيهه تعالى عن مثله؛ ولذا ذهبت طائفة من المتكلمين إلى منع ذلك مطلقا حيث كان مشتركا ولم تقم قرينة مطردة دالة على معنى مناسب له تعالى.
ونحن لم نتبع تلك الطائفة، وقلنا بالجواز مع شرط إرادة معنى لائق به؛ لإطلاقه على لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونمنع إطلاقه في المكاتبات والمخاطبات قطعا؛ لأنه لا يراد في هذه المواضع إلا المالك، والمؤيد نهي الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للوفد وإباحته للعبيد، فكان ذلك مخصوصا عن العام، فإنا مجوزون في غير ذلك المقام بالكتاب والسنة، فالمخصص له حديث عبد الله بن الشخير، وحديث أنس، وإجماع القرون الثلاثة، وأنه من أمور الجاهلية كما سبق، وأنه بدعة قبيحة، ولقوله تعالى: {لَا تَغْلُوا في دِينِكُمْ} (2).
وهذا أبلغ غلو؛ لأنه يجعل المخلوق مثله مالكا له، وهو شأن الباري تعالى فإنه مالك الرقاب من غير شراء، ولقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو " (3)، ولقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هلك المتنطعون. . . ثلاثا " (4) وغيرها من الأحاديث. فهذه تسعة حجج مخصصة للعموم المستفاد مما ذكر العلامة وغيره ونحوه، ولا يمكن أن يراد
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) [النساء: 171، المائدة 77].
(3) تقدم تخريجه.
(4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (7/ 2670) من حديث عبد الله بن مسعود.(11/5670)
عند الإطلاق في تلك المواضع معنى صالحا كالرئيس ونحو؛ لأنه مهجور شرعا فلا يسع إلا تركه فيها، وأما إذا قال: من فلان إلى السيد الشريف، أو: يا سيد بني فلان، أو: يا سيد أئت - من غير إضافة - فلا بأس به. . .
قوله: كما يقول القائل: أنت الرجل علما. قد أسلفنا أن القياس مع الفارق باطل (1) وهنا كذلك، بل هنا أبطل؛ لعدم تعين ما شرحه العلامة من قصد القوم الوافد، مع قيام القرينة بأنهم أرادوا المالك الذي كانوا يقصدون ذلك عند الإطلاق لآلهتهم، ونهي الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذلك، وأباح للعبيد لوجود الملك مجازا، ولعدم صدور مثل ذلك عن الرسول [3]، فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قال: الله سيادة، وما قال القوم أيضا: " أنت نبي أو رسول سيادة " حتى يقال: أرادوا هذا المعنى، أو أراد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا المعنى، بل (للأمة) في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحصة المشخصة في الخارج التي هي في الأصل في وضعها، كما حقق ذلك صدر الشريعة بيانه أنهم لما قالوا: " أنت سيدنا " وأرادوا المعنى الذي عهد عندهم وهو المالك، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " السيد " أي: الذي قلتم لي هو الله - سبحانه وتعالى - لا غير، فاعتبر الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيضًا هذا المعنى في مثل هذا المقام؛ ولذا لم يبح إلا للعبيد، فكان ذلك معناه في مثل هذا الموضع لغة وشرعا، وعرف بقرينة الإنكار وعدم الإباحة، وعدم الاستعمال في القرون المحمودة، وحدوث ذلك في الأزمنة التي عادت فيها الجاهلية أنه لا يجوز الإطلاق في مثل هذا المقام ولو بإرداة معنى آخر، ولله الحمد، وقد كشفنا الغطاء في التبيان، فأين أرباب الجنان المشتاقون للقاء الرحمن (2)؟
قوله: ولهذا كانت هذه العلوم. وقد ذهل العلامة عن خصلة أخرى هي أحرى بكونها ملاك الاجتهاد، وترى أصحاب الفن قاطبة ضموها مع الشرائط، وهي ملكة الاستنباط،
_________
(1) انظر " إرشاد الفحول " (ص 656)، " البحر المحيط " (5/ 6) و" شروط القياس " (ص 678) وما بعدها، " اللمع " (ص 57)، " تيسير التحرير " (3/ 276).
(2) سيأتي رد الشوكاني على ذلك.(11/5671)
وهي البصيرة في القلب كالبصر للعين، فإنه لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب.
قال تعالى: {ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (1)، وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " استفت قلبك. . . ثلاثا " (2)، ثم قال: " وإن أفتاك المفتون " فما لم تكن في قلبه بصيرة يضيء له الحق بها لم يعرف الحق أصلا، فيخبط في البحث خبط عشواء، ويصير كمن ركب متن عمياء ...
قوله: لأنه قد فهم من مقصدهم. قد أنصف العلامة هنا، لكنه لم يصرح بأن ذلك المعنى هو المعهود في مثل هذا المقام حتى يتضح عنده الحق كما اتضح مبدؤه، فإن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء (3).
قوله: ولم يريدوا به المعنى الذي يطلقه البشر على الأنبياء وغيرهم. أي: في غير هذه المواضع كالتوصيف بأنه عالم سيد، أو الإعلام بأن فلان سيد بني فلان وأشباهه.
قوله: فعرفت بهذا أن ذلك الحديث لا يدل على مطلوب المستدل. أي: الذي تمسك به لعدم جواز إطلاقه على البشر مطلقا، فإن ذلك باطل بالكتاب والسنة دلالة وصراحة.
وأما الذي تثبت به للتخصيص به مقام الخطاب مع الإضافة فهو أدل دليل لا بطريق المغالطة التي ارتكبها العلامة، بل بوجه الإنصاف والاعتبار، وقد سلف. . .
قوله: فالدليل حجة عليهم لا لهم يعني الذين منعوا مطلقا.
قوله: فإن في هذا الحديث وذلك ما ننكره أصلا. . .
قوله: وهذه الأحاديث كلها، ومع ذلك كلها دالة على جواز إطلاقه على البشر في غير المقام المتنازع فيه بخصوصه، حتى يتصور التعارض، وتعارض العموم مع كونه غير
_________
(1) [ق: 37].
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم توضيحه.
انظر " فتح الباري " (5/ 175)، " المفهم " (6/ 48 - 49).(11/5672)
صالح له؛ لكونه ظني الدلالة مرفوعًا بالتخصيص، ثم إطلاقه في تلك الأحاديث بمعنى الرئيس والمتقدم ونحوه، وهو ظاهر [4].
قوله: فالرجل السيد هنا بمعنى الخادم المدبر لما ساد عليه.
قوله: فهو سيد، أي كريم حليم شريف، وهذه كلها من معانيه.
قوله: وسودوا أي قدموا.
قوله: لا تقولوا للمنافق سيد أي: شريفا كريما وما يساويه.
قوله: من السيد، أي: من الكريم. وقد ورد في رواية أخرى.
قوله: فهذا حضر لا يخفى على ذهنك الثاقب وقلبك الراقب أنه لم يأت بحديث يدل على خصوص محل التنازع، بل وليس في شيء منها مستعملا بمعنى المالك البتة، فعلم أنه لا يطلق على البشر إلا بمعنى يليق [غير] (1) الرب والمالك، وإذا وجد الملك ولو مجازا يطلق عليه أيضًا كما جيز للعبيد (2).
قوله: والمجال واسع، أي: في جميع أمثاله مما يجديه نفعا.
قوله: وقد جرى. واعلم أنه لم يجر على لسان أحد من الصحابة، ولا من التابعين، وتابعيهم في المقام المتنازع لفظ سيدي.
وأما الذي بصدده العلامة من إطلاقه على البشر مطلقا فذلك لا ننكره، فلا ينبغي لنا الاشتغال لجواب كلامه؛ لأنه مما لا يعني، وهو أثر حسن الإسلام كما ورد على أن أقوال هؤلاء ليست بحجج فضلا عن الأعمال، وقول عائشة وإن كان فيه الإضافة فليس في مقام الخطاب، على أنه يمكن أن يقال: إنه مجاز من الحب الذي ورد في رواية مشهورة عنها (3). وقول أم ..........................................
_________
(1) كذا في المخطوط، ولعلها (بغير).
(2) انظر هذه المعاني في " النهاية " (1/ 417 - 418).
" اللسان " (6/ 424).
(3) تقدم تخريجه.(11/5673)
الدرداء (1) ليس في مقام الخطاب، مع أنه ليس بحجة، وفيه احتمال المجاز أيضا.
قوله: قبل أن تسودوا في الرياسة، أي: تقدموا عليهم.
قوله: أسود، أي: أكرم وأشرف أو نحوهما.
قوله: على المطلوب أي: عدم الجواز مطلقا.
قوله: لأن يقول: يا سيدي أو سيد القبيلة الفلانية، والقياس المذكور مع فارق وقد أبطلناه، ومبنى قياسه أنه ليس في قوله: " يا سيدي " غلو، وليس كذلك كما قدمنا.
قوله: ولا فرق. وقد سقنا الفرق سابقا، فتذكر.
قوله: وأهل الشرع إلى عصرنا هذا إذا أطلقوه على فرد من أفراد لا يريدون إلا هذا المعنى، أي في غير المقام المتنازع، وأما فيه فلم يطلق الشارع - عليه أفضل الصلاة والسلام - بل أنكره، وكذا ما بعده، ما دام لم يختل أمر التوحيد، وأما بعد الاختلال فقد صار في ذلك من أعظم الحسنات وأوفر للكرامات: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} (2)، {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (3)، {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} (4)، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (5)، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (6) فيجب على كل ورع أن يستقصي في الأمور المشتبهة، فإنه قد صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن كثيرا من الناس لا يعلمونها، فإن لم يكن معه قلب سليم يلتمس من أرباب الإيقان وأهل العرفان: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (7)، ولا
_________
(1) ذكره ابن الأثير في " النهاية " (1/ 418).
(2) [محمد: 14].
(3) [الجاثية: 45].
(4) [النمل: 24].
(5) [الكهف: 104].
(6) [الروم: 59].
(7) [النحل: 43، الأنبياء: 7].(11/5674)
يجتري على الفتوى؛ فإنه: " أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار " (1).
قوله: فقد أذن به الشرع، هذا موضع اقشعرار جلود العارفين، فإنه جرأة عظيمة، وإنما الأعمال بالنيات و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) فإن ذات العلامة في نظري في غاية القصوى من الكمال، وما فوق الطاقة معفو عنه ..
قوله: فمن قال للرئيس. ترى غلطات العبارات، فإنه إنما يجوز إطلاق سيدي بالمعاني المذكورة في الفاضل والكريم ونحوه؛ ولذا سوى بين قوله: " سيدي " وقوله: " فلان سيد "، وإرادة هذا المعنى في قوله: " سيدي " مهجورة لغة وشرعا، وقد أوفينا الكلام فيه سابقا.
قوله: ومن زعم هذا. أي: لا يجوز إطلاقه على غيره تعالى، ونحن نجوز كما سلف.
قوله: وظهر بهذا. وقد أبطلناه، بناء الكلام عليه، وبناء الفاسد على الفاسد فاسد.
قوله: فإن هذا غلط على الشريعة. الله يعلم بأن إحدى الفريقين مخالفون، وكل يعمل على شاكلته، وربك أعلم بمن هو أهدى سبيلا ..
وهذا آخر ما أوردت إيضاح مخدورات عبارات العلامة، مع حسن الإيجاز، مع إحاطة المطالب والاحتياز، وإنما استهدفت نفسي نصحا للخلق مع إنسداد طريق البحث في هذه الأيام، والقلق ومخافة اندراج النفس في وعيد كتمان الحق، وهو العالم بأسرار القلوب، فهو المسئول - إن زلت القدم أو ضل القلم - أن يستر العيوب، ويعصم لكافة أهل التوحيد من الذنوب؛ فهو غفار الذنوب وستار العيوب ..
تمت الرسالة المسماة بتحقيق الرباني للعالم الصمداني على رسالة الشوكاني ..
تأليف العالم العلامة السيد عبد الغفار بن محمد الحسني، غفر الله له ولكاتبه وللمسلمين أجمعين، آمين [5].
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) [البقرة: 286].(11/5675)
(186) 18/ 3
ذيل العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي جوابا على المناقشة السابقة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(11/5677)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: ذيل العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي جوابا على المناقشة السابقة.
2 - موضوع الرسالة: آداب.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم إياك نعبد، وإياك نستعين، يا من لك الحمد كله، دقه وجله.
4 - آخر الرسالة: المؤثرين لهما على تقليد الرجال وزايفات الأقوال. . . والحمد لله أولا وآخرا. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية إن شاء الله.
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 15 صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 10 - 12 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5679)
بسم الله الرحمن الرحيم
إياك نعبد، وإياك نستعين، يا من لك الحمد كله، دقه وجله، نسألك أن تصلي وتسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.
وبعد: فإني لما حررت بحثا في أيام قد تصرمت، وسنين قد تقدمت، حاصله: أنه يجوز في المكاتبات ونحوها إطلاق لفظ سيدي ونحوه. وقفت بعد أيام طويلة على مناقشات لبعض ما اشتمل عليه ذلك البحث من بعض أهل العلم والفهم - كثر الله في عباده الحاملين للعلم من أمثاله - ورأيت بعض ما اشتملت عليه تلك المناقشات، قد اشتمل على أمور من حق ما يجب على المسلم للمسلم من النصيحة والمحبة التنبيه عليها.
وها أنا قبل الشروع في تعقب تلك المناقشات أوضح لك محل النزاع الذي حررت لأجله ذلك البحث.
فأقول - وبالله الثقة -: إن محل النزاع هو: هل من كتب في رسالة إلى أحد من إخوانه: يا سيدي، أو أيها السيد، أو نحو ذلك قد فعل بهذا محرما عظيما، وارتكب محظورا جسيما أم لا؟ بل لم يحصل منه إلا مجرد المخالفة لما كان الغالب في مكاتبات السلف الصالح من قولهم: من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان.
وقد أوضحت هذا في ذلك البحث الذي ناقشه المناقش - عافاه الله - إيضاحا بليغا فقلت: ولا شك ولا ريب أن هذا العنوان أعني من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان هو الذي كان عليه السلف الصالح.
ثم قلت: فهو من هذه الحيثية سنة حسنة، وخصلة مستحسنة. ثم قلت بعد هذا أن من عنون كتابه بما جرت عليه عادات المتأخرين من لفظ سيدي فلان، ونحو ذلك هل ارتكب عظيما، وفعل جسيما، وتلبس بغير شعار الإسلام، وارتطم في أعظم مهاوي الآثام؟ إلى آخر كلامي في عنوان ذلك البحث، فهذا تصريح بأن محل النزاع ليس هو في كون هذا سنة، فإن الاعتراف بذلك كائن قد أوضحته في عنوان البحث، ولكن محل(11/5683)
النزاع هل يكون المخالف لما كان عليه السلف من قولهم من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان فاعلا لمحرم، ومرتكبا لأمر معظم [1] بل هو يكون متلبسا بغير شعار الإسلام، ومرتطما في أعظم مهاوي الآثام كما صرحت بذلك تصريحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب؟.
وإذا قد تقرر أن هذا هو محل النزاع عرفت أنه لا نزاع في كون ذلك هو عمل السلف الصالح، أعني: قولهم من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان، فأني قد اعترفت بهذا وصرحت به في عنوان البحث، وصرحت بأنه العنوان الذي كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعله في مكاتباته، وهذا الاعتراف لا يستلزم أن تكون المخالفة لذلك محرمة فضلا عن كونها موجبة للخروج من الإسلام، والوقوع في أعظم الآثام.
وقد تقرر عند جميع أهل الملة الإسلامية سابقهم ولاحقهم أن ترك السنن التي ليست بواجبة لا توجب كفرا ولا فسقا، ولا يقال لذلك التارك أنه بتركه قد فعل محرما، وارتكب معظما، بل غاية ما يلزم من ذاك أن التارك حرم نفسه الثواب الذي كان سيحصل له بفعل تلك السنة، لا أنه قد صار بذلك مستحقا للعقاب؛ فإن الشيء الذي يمدح فاعله، ويذم تاركه إنما هو الواجب المفترض على العباد من الله - سبحانه - كما قرر ذلك علماء الأصول على اختلاف مذاهبهم، ولم يقل أحد منهم أن تارك ما ليس بواجب يأثم أو يذم (1).
هذا على فرض أنه لم يرد ما يجوز ترك ذلك الفعل الذي فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أما لو ورد ما يجوز تركه من أقواله أو تقريراته فلا نزاع ولا خلاف في جواز الترك لما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن ذلك الترك كان بدليل هو القول أو التقرير كما كان فعل ذلك الفاعل الموافق لما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدليل هو الفعل، وإلا لزم أن تكون هذه الشريعة المطهرة منحصرة في أفعاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) انظر الرسالة رقم (67). "الكوكب المنير" (1/ 333)، و"المستصفى" (1/ 137)، "الإبهاج" (1/ 43)(11/5684)
دون أقواله وتقريراته، بل ودون القرآن الكريم، وهذا خرق لإجماع أهل الملة الإسلامية، وإهدار لأكثرها، فإن الأحكام الثابتة بالقرآن وبأقوال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقريراته أضعاف [2] أضعاف الأحكام الثابتة بمجرد الأفعال، بل غالب هذه الشريعة المطهرة، بل كلها إلا النادر الشاذ ثابت بالكتاب العزيز، وبأقواله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقريراته. وأما مجرد الأفعال فغالبها بيان لما في القرآن، أو موافق للأقوال (1).
فمن زعم أن ما خلف أفعاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كتاب الله - سبحانه -، أو من أقوال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقريراته ليس بشرع فقد ارتكب أمرا عظيما، وقال قولا وخيما وأبطل الشريعة بأسرها إلا القليل النادر، وخالف كل أهل الملة الإسلامية سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم.
وإذا عرفت هذا وفهمته كما ينبغي فاعلم أني لم أقل في ذلك البحث أن من قال في عنوان كتابه: من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان مخالف للسنة، ولا قلت أن من قال في عنوان كتابه: يا سيدي أو نحوه فقد فعل ما هو أفضل، بل قلت ما حاصله أن من قال يا سيدي أو نحوه فهو لم يفعل محرما، ولا خرج من الإسلام، ولا استحق أعظم الآثام مع اعترافي بأن الذي كان عليه السلف الصالح هو ذلك العنوان، وأنه سنة حسنة، وخصلة مستحسنة. ولكني أنكرت على من يقول أن في خلاف ذلك ما يوجب أعظم الآثام، والتلبس بغير شعار الإسلام، والدخول في المحرمات العظام.
وقلت: أن هذه المخالفة جائزة، وأوردت أدلة تدل على ذلك حسبما أوضحته في ذلك البحث إيضاحا لا يبقى بعده ريب. وأنت خبير بأن المناقشة لهذا الذي قلته في ذلك البحث إنما تكون بإيراد الأدلة الدالة على أن من عدل في عنوان كتابه من ذلك العنوان الذي كان عليه السلف الصالح إلى عنوان آخر يخالفه فقد فعل محرما عظيما، وخرج من
_________
(1) تقدم توضيحه. انظر: "البحر المحيط" (4/ 177)(11/5685)
الإسلام، واستحق أعظم الآثام.
وأما المناقشة بأن ذلك العنوان هو السنة [3]، أو أنه الذي كان عليه السلف الصالح، فإن ذلك لا يجدي نفعا، ولا يرد علي، فإني قد اعترفت به اعترافا صريحا في أول بحثي، والمناقشة بما يعترف به الإنسان هي من تحصيل الحاصل، وإيجاد الموجود، بل لو صح للمناقش القدح في جميع ما أوردته من الأدلة التي ذكرتها لم يأت ذلك بفائدة، فإنه لم يتم للمناقش بمجرد ذلك القدح أن مخالفة ذلك العنوان محرمة ومخرجة من الإسلام، وهو الذي نفيته وأنكرته على قائله، وهو يكفيني الوقوف في موقف المنع قائلا: أنا أمنع كون مخالفة ذلك العنوان موجبة للتحريم فضلاَ عن الكفر، فلا ينفع المناقش إلا إيراد الأدلة الصحيحة الموجبة لدفع ذلك المنع، إن كان ناقلا فعليه تصحيح النقل، وإن كان مدعيا فعليه الدليل كما تقرر في علم المناظرة والجدل.
وأما مجرد القدح في سند المنع فهو لا يوجب أن يكون الحق بيد ذلك القادح، وهذا معلوم عند المحققين، معروف عند جميع المحصلين لا يختلفون فيه، فكيف والقدح في تلك الأدلة التي أوردتها لم يصح شيء منه كما سيأتيك بيانه إن شاء الله. فهذا يزيد محل النزاع، وقد كررته لقصد الإيضاح وللفرار من الوهم الذي قد وقع للمطلع - عافاه الله -.
قوله: دال على أنها من البدعة القبيحة.
أقول: اعلم أن الأدلة الدالة على جواز إطلاق لفظ السيد وسيدي على فرد من أفراد البشر، كما وقع منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير موضع، وكما وقع من جماعة السلف الصالح يرفع ما ذكره من كون ذلك بدعة، بل لقائل أن يقول: إنه لا يخرج عن كونه سنة، فإن القائل لمن له سيادة يا سيد بني فلان، أو يا سيدي قد اقتدى بمثل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قوموا إلى سيدكم " (1)، وبمثل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن ابني هذا سيد " (2)، وبمثل قوله: " هذا سيد أهل
_________
(1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح
(2) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح(11/5686)
الوبر " (1) ونحو ذلك مما سيأتي بيانه.
على أن هاهنا [4] أمرا آخر، وهو أن البدعة القبيحة إنما هي البدعة في الدين، لا في مثل ما يقع به التحاور في المخاطبة والمكاتبة، فإن ذلك ليس من البدعة التي يقول فيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وكل بدعة ضلالة" (2). وبيانه أنه لو كان التخاطب بالقلم أو اللسان المخالف للتخاطب الذي كان يفعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وأهل عصره بدعة لكان التخاطب والتكاتب بغير اللسان العربي بدعة، ولكان رسم الحروف الكتابية على غير الرسم الذي كان يفعله أهل عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدعة، ولكان اللبس للثياب التي لم يلبسها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما هو حلال للابسه بدعة، ولكان أكل الطعام الحلال الذي لم يأكله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدعة. ثم يسري الأمر إلى الأزمنة والأمكنة والأحوال، فيقال إنه لا يكون متسننا إلا إذا فعل فعلا موافقا للفعل الذي فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الزمان والمكان والأحوال، وذلك محال، والتكليف به تكليف بما لا يطاق، ومعلوم أن أكثر أهل الملة الإسلامية، بل أكثر أهل الربع المسكون ليست ألسنتهم بعربية، وهم يتخاطبون ويتكاتبون بغير اللسان العربي، وبغير القلم العربي، فإن كانوا بذلك مبتدعين كان ذلك خرقا للإجماع.
ولا فرق بين من يخالف وصفا من أوصاف ما كانت عليه مكاتباته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كالعنوان الذي فيه من فلان بن فلان إلى العنوان الذي فيه سيدي ونحوه، وبين من يخالف وصفا آخر مثل كون الألفاظ عربية، أو كونها على رسم كذا، أو مثل هذا اختصاص أهل كل بقعة من بقاع الأرض بلبسة مخصوصة، على هيئة مخصوصة، وثياب مخصوصة،
_________
(1) تقدم تخريجه
(2) أخرجه أحمد (4/ 126 - 127) وأبو داود رقم (4607) والترمذي رقم (2676) وقال: حديث حسن صحيح.
وابن ماجه رقم (43) و (44) والدارمي (1/ 44 - 45) وابن حبان في صحيحه رقم (5) من حديث العرباض بن سارية. وهو حديث صحيح(11/5687)
وكذلك ما يأكلونه من الأطعمة، ومثل هذا [5] لا يقال له بدعة قبيحة، ولا يندرج تحت مسمى الابتداع في الدين (1)، ولا يدخل تحت قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وكل بدعة ضلالة" (2).
_________
(1) البدعة: قد اختلف العلماء في تحديد معناها شرعا.
فمنهم: من جعلها في مقابل السنة.
ومنهم: من جعلها عامة تشمل كل ما أحدث بعد عصر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواء كان محمودا أو مذموما ولعل أفضلها وأجمعها: " هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة، يقصد بها التقرب إلى الله تعالى ولم يقم على صحتها دليل شرعي صحيح أصلا أو وصفا ".
"الاعتصام" للشاطبي.
قوله بقصد التقرب إلى الله خرجت البدع الدنيوية: كتصنيف الكتب في علم النحو، وأصول الفقه ومفردات اللغة، وسائر العلوم الخادمة للشريعة كالسيارات، والأسلحة والآلات الزراعية والصناعية.
فكلها وسائل مشروعة، لأنها تؤدي إلى ما هو مشروع بالنص. وهي التي تقبل التقسيم إلى الأحكام الخمسة.
1 - واجبة 2 - ومندوبة 3 - مباحة 4 - مكروهة 5 - محرمة
والبدعة الدينية لا تنقسم إلى الأحكام الخمسة للأدلة الواضحة:
1 - ): قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة، حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره. ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله الله. ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] أي: صدقا في الإخبار، وعدلا في الأوامر والنواهي، فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة، ولهذا قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.
انظر "عمدة التفسير" (4/ 75).
(2) الحديث المتقدم: " كل بدعة ضلالة".
قال ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص274): ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله الكلية، وهي قوله: " كل بدعة ضلالة" بسلب عمومها. وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة. فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل.
قال ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (ص 252): قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل بدعة ضلالة" من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء وهو أصل عظيم من أصول الدين وهو شبيه بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو رد" فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلاله والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة. وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية. . "(11/5688)
وبهذا يتقرر لك صحة ما ذكره كثير من أهل العلم من تخصيص البدعة القبيحة بما كان من الابتداع في الدين، فحينئذ لا يصح الاستدلال على ما نحن بصدده بمثل حديث: " كل بدعة ضلالة" (1)، ولا بمثل حديث: " كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد" (2)، لأن هذه الأمور مختصة بما كان من أمر الدين، لا بمثل التحاور والتكاتب ونحو ذلك.
ولو سلمنا اندراج المكاتبة تحت الأمور الدينية اندراجا مشتملا على جميع الأوضاع التي كانت في عصر النبوة لكان ما ورد عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إطلاق لفظ السيد على فرد من أفراد العباد مخصصا للعمومات، والخاص مقدم على العام باتفاق أهل الأصول، بل بإجماع كل من يعتد به من أهل العلم. .
قوله: فهي غير شعار الإسلام.
أقول: هذا اللفظ يراد به من خلع جلباب الإسلام، وخرج منه إلى غيره، فإن كان المعترض - عافاه الله - يريد هذا المعنى، وأن من لم يكتب في صدر كتابه من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان فقد خرج عن الإسلام إلى الكفر، فهذا أمر لا يقوله مسلم، ولا يستجيزه أحد من أهل هذه الملة؛ فإن التكفير إنما يكون بأمور معروفة، قد ذكرها أهل العلم، ومنها رد ما كان قطعيا من قطعيات الشرع لا مجرد تركه من دون رد ولا إنكار
_________
(1) تقدم تخريجه
(2) تقدم تخريجه(11/5689)
ولا استحقار.
وأما مجرد ترك شيء غاية أمره، ومبلغ وصفه أن يكون سنة غير واجبة، بل مندوبا، بل في صدق أحد هذين المفهومين عليه إشكال قد قدمنا تقريره، فكيف يكون من ترك هذا المسنون، أو المندوب، أو الذي لا يصلح لكونه مسنونا أو مندوبا كافرا! وكيف يجري بمثل هذا قلم، أو ينطق به فم وإن لم يرد هذا المعنى، بل أراد أن من لم يكتب [6] في عنوان كتابه من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان، بل كتب سيدي ونحوه قد فعل خصلة من خصال الجاهلية، وتلبس بها، ولم يكفر ولا فسق فهو غير صحيح، فإن هذه الخصلة - أعني قول الناس في مكاتباتهم: سيدي ونحوه - لم يكن من خصال الجاهلية، ولا كانت الجاهلية تفعلها في المكاتبة، فكيف يقال أن هذا من شعائر الجاهلية!.
نعم قد كانوا يقولون لفرد من أفرادهم السيد وسيدنا حسبما يوجد في كلامهم المنثور والمنظوم، وهذه بمجردها قد قالها الشارع، واستعملها غير مرة، فهي من هذه الحيثية خصلة إسلامية محمدية، فقد سوغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إطلاقها فجاز لنا استعمالها في المخاطبة والمكاتبة، ومن ادعى أنه يجوز استعمالها في البعض دون البعض فهو محتاج إلى الدليل.
وهكذا من زعم أنه يراد بلفظ السيد وسيدي في اصطلاح المتأخرين غير ما يريده المتقدمون فهو أيضًا محتاج إلى دليل كما سيأتيك بيانه.
نعم ظهر من آخر كلام المعترض - عافاه الله - في هذا الاعتراض أنه يريد الجاهلية التي حدثت من عباد القبور المعتقدين في الأموات اعتقادا يخرجون به عن الإسلام، كما كان يقع كثيرا من أهل القطر التهامي، وبعض القطر اليمني، بل ويقع في كثير من البلاد الإسلامية.
ولكن إذا قد تقرر أن الشيء مباح في الشريعة المطهرة فلا يصير باستعمال بعض الطوائف الكفرية له حراما أو مكروها. .
قوله: فيه إيهام باستصغار المعصية. .
أقول: هذا إنما يتم بعد تسليم أن ذلك معصية كبيرة أو صغيرة، وذلك غير مسلم،(11/5690)
بل نحن نقول أن ذلك مباح باعتبارين:
الأول: البراءة الأصلية (1).
الثاني: استعمال الشارع له استعمالا يدل على جوازه كما سيأتي.
فقول المعترض بأن ذلك فيه إيهام استصغار المعصية استدلالا بالمقدمة المتنازع فيها، وهو مصادرة على المطلوب في اصطلاح المحققين. .
قوله: ولعمري أن العلامة خلط الحديثين. .
أقول: حديث عبد الله بن الشخير أخرجه أبو داود في كتاب الأدب (2) من سننه (3) عن مسدد بن مسرهد، عن بشر بن المفضل، عن أبي سلمة سعيد بن زيد، عن أبي نضرة بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه [7]، فذكره. وأخرجه النسائي في اليوم والليلة (4) عن حميد بن مسعدة عن بشر بن المفضل، وعن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة، عن قتادة (5)، وعن حرمي بن يونس بن محمد عن أبيه، عن مهدي بن ميمون بن غيلان بن جرير، كلاهما عن مطرف عن أبيه (6). فحديث عبد الله الشخير روي من هذه الطرق بألفاظ فيها اختلاف (7) أوردنا منها في البحث الذي حررناه بعض الألفاظ، لا
_________
(1) تقدم توضيح معناها.
(2) رقم (35) باب: في كراهية التمادح
(3) رقم (4806). وهو حديث صحيح
(4) في "عمل اليوم والليلة" رقم (248، 251)
(5) رقم (245)
(6) رقم (246)
(7) منها: حديث رقم (245) ولفظه: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أنت سيد قريش فقال: " السيد الله " قال: أنت (أفضلنا) قولا، وأعظمنا فيها طولا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليقل أحدكم بقوله ولا يستجره الشيطان أو الشياطين".
ومنها حديث رقم (246) وفيه: " فقالوا: أنت والدنا، وأنت سيدنا وأنت أفضلنا علينا فضلا، وأنت أطولنا علينا طولا. فقال: " قولوا بقولكم لا تستهوينكم الشياطين".(11/5691)
يقدح في ذلك اتفاق بعض حديث عبد الله بن الشخير وحديث غيره، وليس ذلك من الخلط، وليس المقصود إلا إيراد المتن الذي استدلوا به، سواء كان مرويا من طريق واحد من الصحابة أو أكثر.
قوله: بل الإنكار لم يبرح من لدن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يومنا هذا. .
أقول: المطلوب من المعترض - عافاه الله - تصحيح النقل عن هؤلاء الذين أنكروا ذلك من لدن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يومنا هذا، فهذا أقل ما يجب على الناقل. ثم ليعلم أن الذي نفينا إنما هو قول القائل لآخر في مكاتباته أو مخاطبته: يا سيدي أو يا سيد، أو نحو ذلك يوصف بالتحريم، ويوجب الإثم العظيم، فإن ظفر المعترض بمن يقول بأن ذلك محرم من علماء الإسلام فليهده إلينا، فإنه يقول إنه ما زال الإنكار من لدن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يومنا هذا، فإن كان الذي وقع منهم إنما هو مجرد الإنكار من دون جزم منهم بالتحريم فذلك لا ينفعه ولا يضرنا، فإنما قصدنا في بحثنا إرشاد من يقول أن ذلك محرم، ومع هذا فإنا نطلب منه أن يصحح النقل عن المنكرين، سواء قالوا بالتحريم أم لا، فتلك فائدة تستفاد، فإنا لم نجد في شروح الحديث المعتبرة للمتكلمين على هذا الحديث إلا ما هو من قبيل التأويل.
وقد ذكر بعض علماء القرن الثامن كلاما في هذا الحديث، وهو صحيح، ونحن نوافقه في ذلك. ولكن المطلوب من المعترض - عافاه الله - تصحيح النقل باستمرار الإنكار من عصر النبوة إلى الآن، وإن كان مستنده على استمرار هذا الإنكار هو حديث "لا تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرين" (1)، فهذا لا ينفعه ولا يضرنا، فإنا نقول: إن الطائفة التي هي على الحق ظاهرة لا تقول في شيء ورد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه محرم عظيم، وموجب لخروج فاعله من الإسلام، فإن قال إنهم يقولون بذلك فعليه البيان
_________
(1) تقدم تخريجه(11/5692)
فإنا واقفون في موقف المنع، فمن كان ناقلا فعليه تصحيح النقل، ومن كان مدعيا فعليه الاستدلال على دعواه [8] كما هو دأب المتناظرين (1)، فإن يكن له على ذلك إلا مجرد الدعوى بأن الفرقة الظاهرة على الحق تنكر ذلك فهذه مصادرة على المطلوب، وهي غير مقبولة عند المحققين. .
قوله: فإن السيد في موضع التخاطب والتكاتب يراد به المالك. .
أقول: اعلم أن المعترض - عافاه الله - قد ادعى هاهنا على أهل الاصطلاح - أعني المتكاتبين أو المتخاطبين بلفظ سيدي أو السيد - أنهم يريدون به المالك، وهذا مجرد دعوى، فإن المتكاتبين بذلك، والمتخاطبين به لا يريدون إلا المعنى اللغوي، وهو من ثبتت له الرئاسة حقيقة أو ادعاء على فرد أو أفراد.
أما الحقيقة فظاهر، وذلك بأن يكون رئيسا على فرد أو أفراد. وأما الادعاء فبأن لا تكون له رئاسة لكنه يدعيها له من كاتبه أو خاطبه تأدبا. ومن خاطب أو كاتب بذلك مقتديا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث يقول لقيس بن عاصم: " هذا سيد أهل الوبر" (2)، ويقول في امرئ القيس: " إنه سيد الشعراء "، ويقول في سعد بن معاذ: " إنه سيد الأنصار "، ونحو ذلك، فما عليه من حرج، وماذا يلزمه من إثم.
ولا نعرف أحدا يكاتب أو يخاطب بلفظ السيد مريدا به المالك، ولا قد سمعنا هذا من أحد من أهل العلم، ولا من رجل من أهل الاصطلاح، فإن كان المعترض يقول هذا بدليل على أنهم يريدون بالسيد وسيدي المالك فما هو؟ وإن كان ينقله عن أحد من أهل العلم أو الاصطلاح فمن هو؟ وإن كان يقول من جهة نفسه فما بمثل هذا يؤكل الكتف.
ولا يحل لرجل مسلم أن يقدم على تأويل كلام إلا بسبب يتعين معه التأويل، وإلا كان ذلك مجازفة، وتعسفا، وخروجا عن دائرة الإنصاف. فيا لله العجب حيث يدعي
_________
(1) تقدم ذكرها
(2) تقدم تخريجه(11/5693)
من هو من أهل العلم، وفي عداد حملته أن لفظا من لغة العرب قرره الشرع يحرم استعماله ويوجب ضلال قائله لمجرد دعوى أن المستعمل يريد به معنى هو في الحقيقة لم يرده، ولا خطر بباله! فعلى المعترض - عافاه الله - أن يرجع إلى الإنصاف، فهو أولى من التمادي في الباطل، فإنه ما تم له دفع ما ذكرناه من الأدلة إلا بزعمه أن المستعملين [9] للفظ السيد يريدون منه في المكاتبة والمخاطبة معنى المالك، ولولا هذا الزعم الفاسد لم يتمكن من دفع شيء من الأدلة.
وها نحن نقول له: هؤلاء الذين يتكاتبون ويتخاطبون بهذا اللفظ هم على ظهر البسيطة، فعليك أن تسأل من كان منهم يفهم ما يقول وما يقال له: هل يريدون بلفظ السيد وسيدي هو المالك كما قلته أنت أولا يريدون ذلك؟ فإن أبيت فانظر إلى كتبهم التي يتكاتبون بها في هذه الديار، فإنك تجدهم يجمعون بين لفظ سيدي ومالكي في غالبها، وهذا من أعظم الأدلة، على أنهم لا يريدون بلفظ السيد معنى المالك. وعند هذا تعرف أنه لم يندفع بما قاله شيء من الأدلة التي ذكرناها. . .
قوله: فهذه تسع حجج مخصصة للعموم المستفاد مما ذكره. . .
أقول: أما حديث عبد الله بن الشخير، وما ورد في معناه فقد عرفت في البحث الذي حررناه أنهم أرادوا بلفظ السيد معنى لا يجوز إطلاقه على البشر، وذلك هو سبب النهي (1). وأما كونه من أمور الجاهلية، وكونه بدعة فقد عرفت اندفاعهما مما أسلفنا في هذا الجواب.
وأما الاستلال بقوله تعالى: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (2) فلا نسلم أن هذا من الغلو في الدين، ولا يندرج تحت معنى الآية، على أنه لو سلمنا تنزلا اندراجه لم يصح استدلال المعترض - عافاه الله - بهذه الآية، لأنها أعم مطلقا من الأدلة الدالة على جواز إطلاق
_________
(1) تقدم ذكره
(2) [النساء: 171، المائدة: 77](11/5694)
السيد وسيدي على البشر، ولا يسوغ عند علماء المعقول والمنقول تقديم العام على الخاص، بل الخاص مقدم على العام بالاتفاق.
فنقول: هذا اللفظ أعني: لفظ السيد ونحوه قد استعمله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان مخصصا لما هو أعم منه مطلقا بلا شك ولا شبهة. والمعترض يسلم هذا العموم والخصوص، فإنه يزعم أن الآية المذكورة تشمل هذا اللفظ وغيره، فكيف جعلها مقدمة على ما هو أخص منها مطلقا! فإن هذه لا يطابق عمل أهل الأصول، ولا صنيع علماء المعقول، ولعله لا يخفى عليه مثل هذا، ومثل هذا قوله: "هلك المتنطعون" (1). .
قوله: وأما إذا قال: من فلان إلى السيد الشريف، أو يا سيد بني فلان، أو يا سيد ائت من غير إضافة فلا بأس به.
أقول: قد قرب لنا - المعترض عافاه الله - المسافة، وقلل الاختلاف، وأشار إلى الوفاق. وبيانه أنه لم يبق منه خلاف إلا في إطلاق السيد مضافًا [10] نحو سيدي أو سيدنا، ولم يمنع من كل مضاف، بل خصص ذلك بالمضاف إلى الضمير فقط، ولهذا جوز سيد بني فلان لكونه مضافًا إلى غير الضمير، وحينئذ فالمنع عنده إنما هو من لفظ سيد إذا كان مضافًا إلى الضمير، معللا ذلك بأنه يراد به المالك كما سلف. وقد عرفناك أن ذلك غلط منه على من يتكاتب أو يتخاطب بذلك، ومعلوم أنه إذا أنصف عرف صحة ما ذكرناه من أنهم لا يريدون ذلك المعنى، وإذا ذهب هذا الوهم جاز عنده وعندنا إطلاق لفظ سيدي وسيدنا، لأنه لا يراد عند التكاتب والتخاطب إلا إثبات الرئاسة حقيقة أو ادعاء، ولم يبق حينئذ بيننا وبينه خلاف إن رجع إلى الإنصاف.
ثم اعلم أنه هاهنا قد جوز إطلاق السيد إذا قامت قرينة على أنه يراد به البشر، كما قال بأنه يجوز أن يقال إلى السيد الشريف، وهذا فيه موافقة لنا أيضا؛ فإنا ذكرنا في تأويل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " السيد الله" أنه عرف من مقصدهم أن السيد عندهم هو الله،
_________
(1) تقدم تخريجه. وهو حديث صحيح(11/5695)
وذكرنا أنه يجوز إطلاقه على البشر إذا لم يوجد ذلك المقصد. وهكذا المعترض قد جوزه إذا قامت قرينة تدل على أنه لم يرد الرب - سبحانه - بلفظ السيد. ولهذا جوز السيد الشريف، لأن الشريف قرينة دالة على أنه لم يرد بالسيد الله - سبحانه -، فوافقنا من هذه الحيثية، واعترف بصحة التأويل الذي ذكرناه في ذلك البحث. والحمد لله.
ثم نقول: ليت شعري أي فرق بين قول القائل يا سيد بني فلان، ويا سيدنا، مع كون الخطاب مع فرد من أفراد بني آدم؟ فإن في قوله سيد بني فلان إثبات الرئاسة له على طائفة هم بنو فلان، وفي قول القائل: سيدنا إثبات الرئاسة له على طائفة هم المتكلمون بهذا اللفظ، المخاطبون به، أو المكاتبون لغيرهم. وفي قول القائل: يا سيدي إثبات الرئاسة له على فرد هو المتكلم.
ولا شك ولا ريب أن إثبات الرئاسة لرجل على بطن أو قبيلة أكثر مدحا، وأوسع تعظيما من إثبات الرئاسة له على المتكلم الواحد، أو الاثنين، أو الجماعة. فيا عجبا من تجويز ما هو أمدح وأوسع، ومنع ما هو دون ذلك! فإن كان في الإضافة إلى خصوص الضمير مزيد معنى يوجب المنع فيا ليت شعري ما هو؟! إن قال: هو احتمال كون المتكلم أراد [11] بقوله: يا سيدي أو سيدنا معنى الربوبية فكان قال يا ربي، أو يا ربنا، فهذا الاحتمال كائن في قوله السيد أو سيد بني فلان، فإنه يحتمل أنه أراد الرب أو رب بني فلان.
فإن قال المعترض أنه لم يبق هذا الاحتمال في لفظ السيد أو سيد بني فلان، فنقول له: ما وجه ارتفاع هذا الاحتمال؟ إن قال هو كون الخطاب مع فرد أو أفراد من بني آدم فهكذا نقول: إن الخطاب في قول القائل سيدنا أو سيدي مع فرد أو أفراد من بني آدم، وإن قال إن القرينة هي كونه قد أضيف إلى ضمير فرد أو أفراد من بني آدم، فنقول: وكذلك سيدنا وسيدي قد أضيف إلى ضمير فرد أو أفراد من بني آدم، وإن قال إن لفظ سيد بني فلان مسوغ غير ما ذكرناه فما هو؟ ومع هذا فقد تكلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمضاف إلى الضمير، فقال للأنصار: " قوموا إلى ................(11/5696)
سيدكم " (1) وقال للأوس: " انظروا ما يقول سيدكم" (2) يعني سعد بن عبادة، وهو في الصحيح. فهل ثم فرق بين ضمير وضمير؟ يا لله العجب!. .
وبالجملة. . فالمعترض - عافاه الله - إن كان يرجع إلى صواب الصواب، ويعترف بالحق، ويذعن للإنصاف فهو لا يخفى عليه بعد هذا أن التشديد في هذه المسألة لم يكن عن بصيرة ثاقبة، ولا رأي صائب، ولا أعني بهذا قوما مخصوصين كما وهم المعترض، فإنما عنيت عالما من علماء اليمن، كاتبني مكاتبة ظهر منها أنه يتشدد في ذلك، فكتبت ذلك البحث جوابا عليه، وعلى من يذهب إلى ما يقوله من التشدد، فليعلم هذا المطلع عليه ويتيقنه، ويعرف أنه لا إرب لي إلا الإرشاد إلى الحق، ودعاء الناس إلى العمل بالكتاب والسنة من غير تعصب لمذهب معين، ولا مجادلة عن طائفة مخصوصة.
قوله: مع قيام القرينة بأنهم أرادوا المالك الذي كانوا يقصدون ذلك عند الإطلاق لآلهتهم.
أقول: قد تقرر بهذا أنه لا منع عند المعترض إلا إذا أراد من أطلق السيد على المالك فقط، وحينئذ فلا فرق بين السيد، وسيد بني فلان، وسيدنا، وسيدي، فإنها ممنوعة إن أراد المتكلم بها المالك، وجائزة إن لم يرد بها المالك. ونحن نقول أن أهل العصور المتأخرة لا يريدون بشيء من تلك الألفاظ المالك كما قدمنا تحقيقه فجاز لهم إطلاق ذلك في المخاطبة والمكاتبة، وحصل الوفاق وارتفع الخلاف. وهذا بناء على صحة ما ذكره من أن مراد أولئك القوم الذين وفدوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولهم: أنت سيدنا معنى: أنت مالكنا ولكن الظاهر أنهم ما أرادوا [12] إلا معنى: أنت ربنا كما أوضحنا ذلك سابقا.
وقد اعترف المعترض بأنهم كانوا يقصدون بلفظ السيد ما يقصدونه عند إطلاقه على آلهتم. ومعلوم أنهم لا يقصدون عند خطاب الآلهة بالسيد وسيدنا إلا الرب، فإنهما أرباب عندهم، كما صرح بذلك القرآن. فالقرينة التي جعلها دالة على أنهم أرادوا المالك
_________
(1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح
(2) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح(11/5697)
هي دالة على أنهم أرادوا الرب. فهي على المعترض لا له.
قوله: بل (اللام) في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للحصة المشخصة في الخارج التي هي الأصل في وضعها.
أقول: قد اختلف علماء العربية (1) والبيان والأصول (2) في المعنى الحقيقي للام التعريف فذهب جمع إلى أن المعنى الحقيقي هو العهد. وإلي هذا ذهب جماعة من محققيهم. وذهب آخرون إلي أن المعنى الحقيقي هو الحقيقية من حيث هي هي. وذهب قوم إلى المعنى الحقيقي هو الجنس. وقد استدلت كل طائفة على قولها بأدلة. والحق عندي أن الأصل هو الحقيقة من حيث هي هي. من غير نظر إلى الأفراد. ثم قد يقصد باللام حصة مشخصة توجد الحقيقة في ضمنها. وقد يقصد بها حصة غير معينة توجد الحقيقة في ضمنها أيضا. وقد يقصد بها كل فرد فرد. والحقيقة موجودة في ضمنها أيضا. فكانت (لام) الحقيقة هي الأصل من هذه الحيثية. وهذه هو أولى مما ذهب إليه صدر الشريعة. وجماعة من أهل الأصول والبيان. ومن أهل العربية (الرضي) (3) وغيره. .
قوله: وهي ملكة الاستنباط. .
أقول: الملكة التي يتمكن بها من عرف علوم الاجتهاد من استنباط المسائل الفرعية عن أدلتها التفصيلية هي الأمر الحاصل لمن جمع تلك العلوم. فلا يصح جعلها معدودة من علوم الاجتهاد. لأنها صادرة عنها. إلا إنها جزء منها. هذا إن أراد بالملكة ما أراده علماء الظن من كونها تحصل لمن جمع تلك العلوم مع سلامة الفطرة. وإن أراد أمرا خلقيا فلا أعرف قائلا من أهل الأصول جعل أمرا من الأمور الخلقية الجبلية جزءا من أجزاء العلوم الاجتهادية. ولا أظن محققا يقول بمثل هذا؛ فإن ذلك مادة من الله - سبحانه-
_________
(1) انظر "شرح الكافية" (1/ 331 - 332).
(2) انظر "اللمع" (ص15). "البحر المحيط" (3 - 87).
(3) انظر: "شرح الكافية" (1 - 87).(11/5698)
يجعلها فيمن يشاء من عباده. وليست مما يكسبه العبد من العلوم. ولسنا بصدد تعداد ما يخلقه الله في عباده من الاستعداد والفهم. بل بصدد ما يصير به العالم مجتهدا من العلوم المدونة فما معنى قول المعترض أنه ذهل العلامة [13] عن خصلة أخرى هي أحرى؟ ثم إن ما ذكرناه من قولنا: ولهذا كانت هذه العلوم هي المقدمة في العلوم الاجتهادية تصريح واضح بأن تلك العلوم التي ذكرناها هي المقدمة في علوم الاجتهاد (1). لا أنها جميع علوم الاجتهاد. ولو كان في كلامنا يفيد أنها جميع علوم الاجتهاد لكان الاستدراك بعلمي الكتاب والسنة واردا ورودا صحيحا. لا ما ليس من العلم في شيء. بل هو أمر خلقي يضعه الله فيمن يشاء من عباده. ويقذفه في قلبه. فما معنى هذا الاستدراك الذي جاء به المعترض في هذا الموضوع؟.
قوله: لا بطريق المغالطة التي ارتكبها. بل بوجه الإنصاف.
أقول: قد فوضت المعترض - عافاه الله - بأن يعرض هذا البحث على من يوثق بعلمه وتحقيقه. ممن بقي من أهل العلم في تلك المدينة. لينظروا فيما حررته أولا. وفيما حرره من الاعتراض. وفيما حررته في هذه الورقات. حتى يعلموه من هو الذي ارتكب في بحثه الغلاط والغلط. وجاء في تأويله للأدلة بأعظم الشطط. فالمسلم أخو المسلم. والمؤمن مرآه أخيه. ونحن أعوان على الحق. .
قوله: هذا موضوع اقشعرار جلود العارفين. فإنه جرأة عظيمة.
أقول: هذا ليس موضوع الاقشعرار. فإنه لم ينهدم ركن من أركان الإسلام، ولا هتكت حرمة من محارمه. ولا تعدي حد من حدود الله. بل قال قائل لمن يخاطبه أو يكاتبه: يا سيدي وسيدنا. وهذا لفظ عربي ورد الإذن به عن الشارع، وجرى على لسانه بقوله: "سيد أهل الوبر". "سيد الشعراء". "سيد الأوس". "سيد الخزرج". "إن ابني هذا سيد". "أنا سيد ولد آدم". وقد عرفناك ما في الفرق بين
_________
(1) تقدم ذكر علوم الاجتهاد.(11/5699)
غير المضاف من ألفاظ السيد. وبين المضاف. وبين ما كان مضافًا إلى المضمر. وما كان مضافًا إلى المظهر. وأوضحنا لك أن الاغترار بذلك والاحتجاج به والوقوف عنده من ضيق الفطن (1). .
وإني أظن أن المعترض - ثبته الله - بعد اطلاعه على هذا الجواب يذهب الله عنه تلك القشعريرة. ويفرج روعه. ويتيقن أن ما حصل عنده [14] من استعظام هذا الأمر، وما خالجه من الخوف والوجل لم يكن عن سبب يوجب ذلك. ولا لمقتض يقتضيه. بل لمجرد تقليد بحت. واعتقاد لم يكن عن بصيرة - فتح الله علينا وعليه أبواب معارفه. وألهمنا وإياه رشدنا، وجعلنا من فريق الحق وجماعة الرشد، وكشف عن قلوبنا عمى التقليد وعشى الريب، وعمش الشك. وغشاوة التعصب، وجعلنا من العاملين بكتابه وسنة نبيه، الواقفين على حدودهما، المؤثرين لهما على تقليد الرجال وزايفات الأقوال -. . .
والحمد لله أولا وآخرا.
وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية - إن شاء الله -. .
حرره مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. . .
_________
(1) تقدم ذكره. انظر"فتح الباري" (5/ 178 - 179).(11/5700)
(187) (41/ 4)
جواب سؤالات وصلت من كوكبان
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(11/5701)
وصف المخطوط
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: جواب سؤالات وصلت من كوكبان.
2 - موضوع الرسالة: آداب.
3 - أول الأسئلة: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله المطهرين وبعد: فإن قصير الباع يسيء الاطلاع المتطفل.
آخر الأسئلة: التوهمات المخلة وشرعنا بحمد الله لا ضيق فيه. أمتع الله بحياتك المسلمين آمين.
4 - أول الأجوبة: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الطاهرين. وصحبه الأكرمين. وبعد: فإنه ورد هذا السؤال. . .
5 - آخر الأجوبة: والحمد لله أولا وآخرا. وظاهرا وباطنا والصلاة والسلام على خير الأنام وآله الكرام. حرره المجيب غفر الله له في شعبان سنة 1230.
6 - نوع الخط: خط نسخي رديء للأسئلة. وخط نسخي جيد للأجوبة.
7 - عدد الصفحات: 3 صفحات للأسئلة و (7) صفحات للأجوبة.
8 - عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 4 أسطر.
9 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.
10 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5703)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله المطهرين.
وبعد:
فإن قصير الباع يسيء الاطلاع المتطفل على مشاركة أهل العلم في الأخذ عنهم، لا أنه متجهم لم يزل في نفسه مسألة من منحه الله من علم الشريعة ما يهدي به الضال. ويزيل عنه بتحقيقه عنهم الإشكال. فصيرت في خاطري علماء العصر الذين يحويهم الحصر؛ إذ هم النجوم النيرة في داجي الظلام وملاح سفن النجاة عند اضطراب أمواج البدع في الأنام. منهم العالم الرباني محمد بن علي الشوكاني الصنعاني فهو في عصره الشهير. فاستجديته غرفة من ثم بقلمة النهير. وإن كان هو إلي حري بالإهمال [خلا إن] (1) لطلب [نفعه] (2) فؤاد سقيم من الداء العضال.
أول مسألة عن الأعراف الجارية في إقليم اليمن وتهامة مشى عليها الخلف بعد السلف أحسب ذلك من قرون متعددة. فمن الأعراف ما تفعله العامة عند الأعراس، والختان، وقدوم الآيب من سفر الحج، واجتماع أهل الميت في مسجد أو مسكن لمواجهة من يصل إليهم للعزاء. فالعرف عند العرس أن يدعو صاحب العرس أقاربه، ومن أحب من أهل بلده، ويقري المدعوين وهم يدفعون إليه من الغنم والشمع كل على قدر يساره، ويحضر في هذه المواقف العلماء ومن دونهم، ويقع في ذلك الموقف إنشاد القصائد من أشعار العرب والمولدين والممادح والغزليات، وغير ذلك بأصوات محسنة لسماع الشعر من غير شائبة مذمومة في تلك المواقف. بل قد يقع في ذلك الموقف مباحث علمية، ومراجعات في معرفة معاني ألفاظ القصائد، وعند الختان يقع مثل هذا، ولكل جهة عرف يعملون عليه، فجهتنا المخلاف السليماني (3) يميزون الختان عن أعراف الأعراس باجتماع أهل الخيل
_________
(1) غير واضحة في المخطوط.
(2) غير واضحة في المخطوط.
(3) المخلاف في التاريخ مصطلح كان يطلق على وحدة إدارية، قد تكون مقاطعة أو إقليما أو محافظة بمصطلح اليوم وقد يتألف المخلاف من عدد من المقاطعات إذ كان واسعا. وكان للوحدة الإدارية أو المخلاف مركز يضم الدواوين الرئيسية التي تنظم أمور الإقليم.
وتشير المصادر العربية إلى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل اليمن ثلاثة مخاليف: مخلاف الجند ومركزه مدينة الجند، ومخلاف صنعاء ومركزه مدينة صنعاء، ومخلاف حضرموت ومركزه مدينة حضرموت.
وقد ذكر ياقوت الحموي وغيره أن أكثر ما يقع في كلام أهل اليمن - مخلاف - والمخلاف السليماني: هو المنطقة الممتدة من (حلي ابن يعقوب) شمال تهامة اليمن إلى (الشرجة) جنوبا. نسب إلى سليمان بن طرف الحكمي الذي كان عاملا (لبني زياد) عليها ثم استقل بحكم هذا المخلاف بتدهور الإمارة الزيادية أواخر حكم أبي الجيش إسحاق بن إبراهيم (ت 371هـ - 981م) واتخذ من (عثر) عاصمة لحكمه الذي استمر عشرين عاما وحد فيه تلك المنطقة كمخلاف نسب فيما بعد إليه.
"الموسوعة اليمنية" (2 - 846).(11/5709)
يسرجون عليها ويرتقون في ميادين معدة لذلك. والرماة يرمون بالبندق. هكذا مدة أسبوع أو أقل. ويحصل الختان بعد هذه المدة. ثم من عرف جهتنا أن الجعل الذي يدفعه المدعو لوليمة العرس أو الختان يسمح به صاحب الدعوة للمزين الذي يتولى الخدمة ويعد ويروح للمدعو للضيافة، وأهل القادم من سفر الحج يتلقونه في أطراف البلد، ويحصل من الاجتماع والضيافة والإنشاد ما يقع في الأعراس والختان.
وأما أهل الميت فإنهم يجتمعون في مسجد أو مسكن من بيوتهم لمواجهة من يصل إليهم ويتلون من كتاب الله ما قدر لهم، ويختمون التلاوة لموعظة فيها ذكر البرزخ والاستغفار والدعاء للميت وسائر المؤمنين، يفعلون هذا ثلاث أيام، هكذا جرت الأعراف والعمل بها من وجود العلماء ذوي الورع الشحيح، والنسك الصحيح، ولم يقع منهم إنكار مع التمكن من ذلك لو لم يكن إلا على أهل بيته وأقاربه [1أ].
ولما قامت الدعوة النجدية في عصرنا القريب، واقترب يد سلطانها على التهائم والحجاز حصل الإنكار من أمير كل بلد على هجر تلك الأعراف، وبالغ ولاحق أشد ملاحقة، وعاقب فيها عقوبة تلحق بعقوبة مرتكب معظم الذنب، وجعلوا هذه الأعراف(11/5710)
من بدع الضلالة، وحصل الغلو في أمور الحق فيها لله أنه لم يجر في تركها، وشرعنا - ولله الحمد - محفوظ، وما زال الخاطر مشغولا من طريق التأول لغالب الأعصر المتقادمة في عدم النكير منهم، بل كونهم ممن يباشر الدخول في هذه الأعراف، وهي من البدع المحذر منها المنهي عنها في هذه الدعوة بأقرب ما باذلته لهم مع قصوري وجهلي بحقائق الشريعة أنه لم يثبت عندهم بدعية هذه الأعراف، وإن هي لم تؤثر عن أهل القرون الممدوحة بالخيرية على لسان خير البرية، فعلها أقل أن تكون من الفعل المباح لا يعاقب فاعله، ولا يثاب تاركه، وأن البدعة المحذر منها، المنهي عنها هو أن يقع من المبتدع زيادة في الدين، أو نقص منه كنفي ما ذكره الله ورسوله، أو إثبات ما لم يذكره الله ورسوله؛ لأن الشرع قد ورد بحصر الواجبات والمحرمات والبدعة التي هي الضلالة المخالفة لما جاء به الكتاب والسنة في العقائد، وتفاصيل الفرائض، وسائر أركان الإسلام فالزيادة في الدين كتفاسير أهل الغلو، وبدع المشبهة، والنقص كرد النص الظاهر.
فهذه البدع ذات الخطر العظيم؛ لأن معرفة البدعة غامض، فما لم يرد في بدعيته الموبقة لفظ مأثور ينبغي التوقف عن الجزم ببدعيته المحذر منها المنهي عنها، وقد يكون من البدع الصلوات التي لم يرد فيها أثر صحيح، ويجعلونها سنة كصلاة النصف من شعبان (1)
_________
(1) قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في "لطائف المعارف" (ص144): كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها.
وقيل: أنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك، فمنهم من قبله منهم ووافقهم على تعظيمها، منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم، وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز، ومنهم عطاء وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة وهو قول أصحاب مالك وغيرهم وقال: ذلك كله بدعة.
واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:
1 - ): أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد، كان خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن الثياب ويتبخرون ويكتحلون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال في قيامها في المساجد جماعة: "ليس ذلك ببدعة" نقله عنه حرب الكرماني في "مسائلة".
2 - ): أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعي - إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم - وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى".
وهناك أحاديث ولكنها موضوعة في إحياء ليلة النصف من شعبان.
قال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتاب " ما جاء في شهر شعبان ".
قال أهل التعديل والتجريح: ليس في حديث ليلة النصف من شعبان حديث يصح.
انظر "الباعث على إنكار البدع والحوادث " (ص52).
وقد ذهب المحدث الألباني إلى تصحيح الحديث الوارد في فضل ليلة النصف من شعبان بمجموع طرقه، ولفظه: " يطلع الله تبارك وتعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشرك أو مشاحن".
انظر: "الصحيحة" رقم (1144).(11/5711)
سموها العامة في أرض الشام ليلة الوقيد؛ لأنهم يكثرون فيها وقيد النيران، ويتوجهون في صلاتهم إليها، فأشبهوا عباد النار، وهي حدثت في زمن البرامكة، وأما الأعراف التي ذكرنا فأحسب لها أصل في الشريعة.
أما الأعراس فورد في الأثر ندبية الإشاعة بطبل أو دف، والحكمة في ذلك المعاكسة للنكاح المحرم؛ لأن صاحبه يطلبه في الخفاء، فوقعت الإشاعة للحلال عكسه، وإنشاد القصائد من شعر العرب والمولدين، فقد سمع - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الشعر من كعب (1)، والنابغة، والعباس، وأجاز علي ذلك، وكان عمر يروي الشعر ويسترويه،
_________
(1) انظر "فتح الباري" (1/ 548).
قال كعب بن مالك ردا على ضرار بن الخطاب بن مرداس يوم الخندق:
وكان لنا النبي وزير صدق ... به نعلو البرية أجمعينا
ثم قال:
بباب الخندقين كأن أسدا ... شوابكهن يحمين القرينا
فوارسنا إذا بكروا وراحوا ... على الأعداء شوسا معلمينا
لننصر أحمدا والله حتى ... نكون عباد صدق مخلصينا
ويعلم أهل مكة حين ساروا ... وأحزاب أتوا متحزبينا
بأن الله ليس له شريك ... وأن الله مولى المؤمنينا
"السيرة النبوية" لابن هشام (3/ 354 - 355).(11/5712)
واستنشد متمم بن نويرة مراثيه في أخيه (1)، ويقربه لأجل ذلك، وهو فضيلة لا رذيلة؛ لأن أول من قاله أبونا آدم يوم رثى ولده قابيل (2) ويبالغ عليه أشراف ولده وملوكهم من
_________
(1) أن عمر بن الخطاب استنشد متمم بن نويرة قوله في أخيه فأنشده:
لعمري وما دهري بتأبين مالك ... ولا جزع مما أصاب فأوجعا
لقد كفن المنهال تحت ثيابه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا
حتى بلغ إلى قوله:
وكنا كندماني جديمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
فقال عمر: هذا والله التأبين. . . .
"الشعر والشعراء" لابن قتيبة (1/ 345)، "الإصابة" (5/ 566 - 567)
(2) أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره (4\ج6/ 190) وابن كثير في تفسيره (3/ 91) قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم فقال:
تغيرت البلاد ومن عليها ... فلون الأرض مغبر قبيح
تغيرت البلاد ومن عليها ... وقل بشاشة الوجه المليح
فأجيب آدم عليه السلام:
أبا هابيل قد قتلا جميعا ... وصار الحي كالميت الذبيح
وجاء بشرة قد كان منها ... على خوف فجاء بها يصيح
*وقد طعن في نسبة هذه الأشعار إلى نبي الله آدم الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال، وقال الآفة فيه من المحزمي وشيخه، وما الشعر الذي ذكروه إلا منحول مختلق، والأنبياء لا يقولون الشعر.
وقال الزمخشري: " روي أن آدم مكث بعد قتل ابنه مائة سنة لا يضحك وأنه رثاه بشعر، وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون، وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر.
قال تعالى (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ).
انظر: "الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير" (ص183).(11/5713)
بني عدنان، ويعرب بن قحطان إلى الخلفاء الأربعة، وأكثر الصحابة.
ولا يعني من ذكرنا بما فيه رد له، ومنعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن الشعر ليس هو لرد البتة، بل لئلا يتهم إلى أن ما جاء به من القرآن شعر، كما منع من الكتابة، وهي فضلة للعلة التي منع عن الشعر [فعلها] (1) قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} (2) فإن سلب الشعر والكتابة عن منصب النبوة لنقصهما بل لفضيلتهما، فإنشاؤه في مجامع المسرة والأفراح ما تهش له الأفئدة الصحاح، وليس في المجامع شائبة مذمومة [1ب]، وربما تدور مراجعة علمية عند سماع الإنشاد، والبحث عن معاني بعض ألفاظ الشعر.
وأما ركوب الخيل، والسباق عليها، واللهو بها فقد وردت الآثار بذلك (3) كما عرفتم ما جاء فيها (الخيل الفر أسيرات أبيكم إسماعيل فاغتنموها واركبوها، فإنها ميامن (4).
_________
(1) غير واضحة في المخطوط، ولعله ما أثبتناه.
(2) [العنكبوت: 48].
(3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2849) ومسلم رقم (1871) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله " الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2870) ومسلم رقم (1870) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "سابق رسول الله بين الخيل التي قد ضمرت، فأرسلها من الحفياء كان أمدها ثنية الوداع، فقلت لموسى - بن عقبة بن نافع - فكم كان بين ذلك؟ قال: ستة أميال أو سبعة، وسابق بين الخيل التي لم تضمر، فأرسلها من ثنية الوداع، وكان أمدها مسجد بني زريق، قلت: فكم بين ذلك؟ قال: ميل أو نحوه، وكان ابن عمر ممن سابق فيها".
قال القرطبي: " لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب وعلى الأقدام، وكذا الترامي بالسهام، واستعمال الأسلحة لما في ذلك من التدريب على الحرب. . . ".
"فتح الباري" (6/ 71 - 72).
(4) غير واضحة في المخطوط، ولعله ما أثبتناه.(11/5714)
روى الطبراني (1) من حديث صالح بن كيسان مرفوعًا (ستفتح لكم الأرض وتملكونها فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه).
وأما تلقي الآيب من سفر الحج أو غيره وقدومه إلى أهله فقد كان أهل المدينة يتلقون معلم الشريعة إذا أقبل من بعض مغازيه ويهنونه، لا سيما تلقى الحاج، فإنه زيادة في إكرام المحل الذي أقبل منه، هو من التعظيم، وطلب الدعاء منه، وغبار النسك عليه، وأما اجتماع أهل الميت في بيت من بيوت الله، أو مسكن لهم فسنية التعزية لأهل الميت وردت بها السنة من [. . . . . . . . . .] (2) إنما الاجتماع هو ما أحدثه المتأخرون، ولم يكن في الاجتماع غير تلاوة القرآن، والموعظة عند ختم الدرس، والدعاء للميت وعامة المؤمنين، ورأيت نقلا عن ابن الجوزي وهو من أئمة الحديث قال: أصبت بولدي فخرجت إلى المسجد إكراما لمن قصدني من الناس والصدور، فجعل قارئ يقرأ: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} (3) فبكى الناس فقلت: يا هذا إن كان قصدك تهييج الأحزان فهذه نياحة بالقرآن، وهذه عن ابن الجوزي في عصره أحسبه في السادس أو قبل، ولو عرف أن الاجتماع للعزاء من البدع المضللة الدافعة لمرتكبها إلى النار لم يقع منه هذا الخروج إلى المسجد، ثم يرويه لمن بعده، والتطويل في هذا البحث محبة لتأول الماضين
_________
(1) في الكبير" (17/ 330 رقم 913).
* أخرج مسلم في صحيحه رقم (168/ 1918) والترمذي رقم (3083) وأبو يعلى رقم (1742) وسعيد بن منصور في "السنن" (2449) وأبو عوانة (5/ 102) وابن حبان رقم (4697) والبيهقي (10/ 13) والطبراني في "الكبير" (ج 17/ 913) من طرق بإسناد حسن عن عقبة بن عامر أنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال "ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه".
وهو حديث صحيح.
(2) غير واضحة في المخطوط.
(3) [يوسف: 78].(11/5715)
من أهل العلم لئلا يقع الاعتقاد فيهم، فإنهم فارقوا الدنيا على بدعة مهلكة.
وأما الموجود في عصرنا فهو يستعمل - إن شاء الله - بما يحصل من الإرشاد على هذه المسائل، فمن وجهت إليه البحث فالمطلوب منك أيها العالم النحرير الإمداد بجواب يشفي العلة، ويزيل التوهمات المخلة، وشرعنا - بحمد الله - لا ضيق فيه - أمتع الله بحياتك المسلمين - آمين. [2أ].(11/5716)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الطاهرين، وصحبه الأكرمين.
وبعد:
فإنه ورد هذا السؤال من ذلك العلامة المفضال، بقية الأعلام أحمد بن الحسن البهكلي (1) - كثر الله فوائده، وغفر لي وله وللمؤمنين من عباده -.
وأقول - مستعينا بالله عز وجل، ومتكلا عليه -: إن حديث: " الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات" (2) و" المؤمنون وقافون عند الشبهات " وفي لفظ: " فمن تركها - أعني الشبهات - فقد استبرأ لعرضه ودينه " وفي لفظ: " ألا وإن حمى الله محارمه، فمن حام حول الحمى يوشك أن يواقعه (3).
وهذا الحديث بجميع ألفاظه متفق على صحته، ثابت في دواوين الإسلام ثبوتا لا ينكره عارف بالسنة المطهرة، وكذا حديث: " كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد " (4) فإنه حديث متفق على صحته.
وبهذين الحديثين، وما ورد في معناهما كالوعيد لمن تعدى حدود الله كما ثبت ذلك في الكتاب العزيز، وفي السنة المطهرة، والذم لمن غلا في الدين، كما ثبت أيضًا في السنة وكذا حديث: " تركتم على الواضحة، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا جاحد" وهو صحيح (5)، وإن لم يكن في الصحيحين.
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (52) ومسلم رقم (1599) وأبو داود رقم (3329) و (3330) والترمذي رقم (1205) والنسائي (7/ 241) وابن ماجه رقم (3984) من حديث النعمان بن بشير.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (52) ومسلم رقم (1599) وأبو داود رقم (3329) و (3330) والترمذي رقم (1205) والنسائي (7/ 241) وابن ماجه رقم (3984) من حديث النعمان بن بشير.
(4) تقدم مرارا وهو حديث صحيح.
(5) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح [حديث العرباض بن سارية].(11/5717)
وكذلك ما أفاد هذا المعنى، وشهد لمضمونه كقوله - عز وجل -: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1)، {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2)، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (3) وما ورد هذا المورد ثم آيات كثيرة، وأحاديث شهيرة، والكل يدل على أنه يجب على كل فرد من أفراد العباد أن يمشي على الطريقة التي مشى عليها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وصحبه - رضي الله عنهم -، وخير الهدي هدي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
كما ثبت هذا في حديث حسن معروف مشهور (4)، فما وجدناه في كتاب الله - عز وجل -، أو في سنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مما استبان أمره، واتضح حكمه فهو كما هو من كونه حلالا بحتا، أو حراما بحتا.
ويدخل في الحلال المباح بجميع أقسامه، ولا يخرج عنه بعض أنواعه بمجرد تقييده بقيد كونه مكروها كراهة تنزيه، أو بكونه خلاف الأولى على اختلاف العبارات في ذلك [2ب].
كما لا يخرج عنه بعض أنواعه بمجرد تقييده بقيد كونه واجبا، أو مسنونا، أو مندوبا أو مرغبا فيه على اختلاف العبارات في ذلك، فالكل حلال، ولا يجري في مثل هذا الخلاف المحرر في الأصول في جنسية المباح لأقسامه؛ إذ المقصود هنا هو الحكم عليه بالحكم الشامل لأقسامه، وهو كونها حلالا، لا كونه جنسا لها، وهي أنواع له، ولا خلاف بين أهل العلم في كون جميع تلك الأقسام حلالا، وإن تقيد بعضها بقيد عدم
_________
(1) [آل عمران: 31]
(2) [الحشر: 7]
(3) [الأحزاب: 21]
(4) تقدم وهو حديث صحيح(11/5718)
جواز الترك، وبعضها بأولوية الفعل، وبعضها بأولوية الترك، فإنه قد جمعها كلها أنه لا يعاقب فاعلها، وذلك شأن الحلال. ويقابل ذلك ما يعاقب فاعله وهو الحرام البحت، ومنه المكروه كراهة حظر وكراهة تحريم على اختلاف العبارات في ذلك، فإن حكم الجميع التحريم، لكونه يعاقب فاعله، وبهذا تعرف معنى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " الحلال بين، والحرام بين"، أن الأمور المشتبهة هي التي لم يتضح الدليل على حرمتها أو حلها مع ورود دليل يدل في الجملة على ذلك لا على وجه الإيضاح والبيان.
وأما المسكوت عنه بالمرة فهو عفو كما ثبت ذلك عن الشارع - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فإن اتضح الدليل على اتصافها بأحد الوصفين فقد ذهب الاشتباه، وتبين الأمر واتضح الحكم، ومن قسم المشتبه ما تعارضت أدلته، فدل بعضها على جواز الفعل، وبعضها على المنع منه، ولم يأت دليل يدل على ترجيح أحد المتعارضين على الآخر، كما يفيد ذلك ما ورد في بعض ألفاظ الحديث المذكور بعد ذكر الشبهات، ففي لفظ للبخاري (1) "لا يعلمها كثير من الناس"، وفي لفظ للترمذي (2) " لا يدري كثير
_________
(1) رقم (52)
(2) في "السنن" رقم (2105).
قال النووي في "شرحه لصحيح مسلم" (11/ 27) أجمع العلماء على عظم وقع هذا الحديث وكثرة فوائده أنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال جماعة هو ثلث الإسلام، وأن الإسلام يدور عليه وعلى حديث "إنما الأعمال بالنية" وحديث: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وقال أبو داود السختياني يدور على أربعة أحاديث هذه الثلاثة وحديث: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقيل حديث ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد ما في أيدي الناس يحبك الناس.
قال العلماء وسبب عظم - حديث النعمان - أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبه فيه على إصلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها وأنه ينبغي ترك المشتبهات فإنه سبب لحماية دينه وعرضه وحذر من موافقة الشبهات وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى. . .
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحلال بين والحرام بين، أن الأشياء ثلاثة أقسام حلال بين واضح لا يخفى حله كالخبز والفواكه والزيت والعسل والسمن. . . وغير ذلك من المطعومات وكذلك الكلام والنظر والمشي وغير ذلك من التصرفات فهي حلال بين واضح لا شك في حله.
وأما الحرام البين: كالخمر والخنزير والميتة والبول والدم المسفوح وكذلك الزنا والكذب والغيبة والنميمة.
وأما المشتبهات: فمعناه أنها ليست بواضحة الحل ولا الحرمة فلهذا لا يعرفها كثير من الناس لا يعلمون حكمها وأما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن فيها نص ولا إجماع اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي فإذا ألحقه به صار حلالا وقد يكون دليله غير خال عن الاحتمال البين فيكون الورع تركه ويكون داخلا في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. .
انظر: "فتح الباري" (1/ 127)(11/5719)
من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام "، ويستفاد من لفظ كثير أن القليل من الناس يعرف حكمها، وهم المجتهدون، أو البعض منهم.
وقد قيل: إن الشبهات هي ما اختلف فيه العلماء، وقيل: هي قسم المكروه، وقيل: هي المباح المطلق، وكل ذلك مدفوع، وقد أوضحت الدفع له وترجيح ما ذكرته من تفسير الشبهات في مؤلف مستقل جمعته في الكلام على هذا الحديث، وسميته: " تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام" (1).
وإذا عرفت أن المشتبهات هي ما لم يتضح الدليل على حله، أو حرمته أو تعارض دليل الحل والحرمة، فأعلم أن هذا القسم قد بين الشارع - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ [3أ]- أن شأن المؤمنين التوقف عنده، وعدم مجاوزته، وترك التلبس به كما يفيد ذلك قوله: " والمؤمنين وقافون عند الشبهات" وفي لفظ للبخاري (2) ومسلم: " فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله تعالى،
_________
(1) وهي الرسالة رقم (58) من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني"
(2) رقم (2051)(11/5720)
من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه"، وفي لفظ لابن حبان (1) " اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه" وكما يدل هذا الحديث على اجتناب الشبهات كذلك يدل على الاجتناب حديث: " كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد" (2)، فإن أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هو الترك للشبهات، والتوقف عندها، وكذلك يدل على اجتنابها حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (3) أخرجه الترمذي والحاكم، وابن حبان وصححوه جميعا، وكذلك حديث "استفت قلبك وإن أفتاك المفتون" أخرجه أحمد (4)، وأبو يعلى (5)، والطبراني (6)، وأبو نعيم (7)، وحديث: " الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس " (8) وهو حديث معروف.
_________
(1) في صحيحه رقم (5569)
(2) تقدم تخريجه
(3) أخرجه الترمذي رقم (2518) والحاكم (2/ 13) و (4/ 99) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وابن حبان رقم (722) وأبو داود رقم (1178) عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: " دع ما يريبك إلا ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة".
وأخرجه أحمد (3/ 112) والدارمي (2/ 245) والبيهقي (5/ 335) من حديث أنس.
وهو حديث صحيح بشواهده.
(4) في "المسند" (4/ 227 - 228)
(5) في مسنده رقم (1586، 1587)
(6)، في "الكبير" (22\ رقم 403)
(7) في "الحلية" (2/ 24) و (9/ 44) من حديث وابصة مرفوعًا وقد تقدم وله شواهد.
وهو حديث حسن
(8) أخرجه مسلم رقم (2553) وأحمد (4/ 182) والدارمي (2/ 322) والبخاري في "الأدب المفرد" (1/ 110 - 113) والحاكم (2/ 14) من حديث النواس بن سمعان قال: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن البر والإثم فقال: " البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس".(11/5721)
وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده - مما يقع في بعض الولائم، وعند قدوم من كان غائبا في حج أو نحوه إن كان هو الذي يقع في زمن النبوة على الصفة الثابتة إذ ذاك، فهذا من الحلال البين، وإن كان على صفة غير تلك الصفة، فإن تبين حكم حل ذلك الواقع من دليل آخر كركض الخيل، والرمي بالبنادق، والمذاكرة في المسائل العلمية والأدبية، والاجتماع في مجلس من المجالس، أو مسجد لذكر الله، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وذكر ما لا بأس به من أخبار القرون الأولى، وتناشد أشعارهم، ووصف مجرياتهم فهذا ونحوه [3ب] قد جاءت الأدلة الصحيحة المأخوذة من كليات الشريعة وجزئياتها بأنه حلال، وأنه لا بأس به.
وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يجتمعون في مجالسهم، وفي مساجدهم ويتذاكرون العلم، ويتواعظون بمواعظ الأئمة ويذكرون في بعض الأوقات ما كان يجري بين أسلافهم من العرب من الحروب، والتكرمات، والخطب، والمقاولات، وينشدون ما قالوه من الأشعار في ذلك.
بل وقع مثل هذا من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما في حديث أم زرع الثابت في الصحيحين (1)، وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رضي الله عنها -: "أنا لك كأبي زرع لأم زرع" وكذلك ثبت اجتماع أمهات المؤمنين، واجتماع كثير من النساء إليهن، وذكرهن للحوادث والوقائع، كما في حديث المرأة التي كانت تدخل عليهن وتكرر هذا البيت:
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ... ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني
وتذكر قصتها في ذلك كما في ...................................................
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5189) ومسلم رقم (2448) عن عائشة رضي الله عنها قالت وفيه: " جلست إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا. . . قالت عائشة: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كنت لك كأبي زرع لأم زرع"(11/5722)
الصحيح (1)، وكذلك حسان - رضي الله عنه - كان ينشد الصحابة أشعاره في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وقال لما أنكر عليه عمر رضي الله عنه: " قد كنت أنشده وفيه من هو خير منك" (2)، والأمر في مثل هذا كثير يطول تحريره، ويكثر بسطه، وكل عالم يعلمه، فما كان من هذا الجنس مما علم حله بأدلته فهو من الحلال البين، فلا يحل لمسلم إنكاره، ولا يجوز القول بأنه من البدع التي هي ضلالة، وإنما إذا كان ذلك الاجتماع يصحبه فيه شيء من منكرات الشرع، كالتغني بالأشعار بالأصوات المطربة، والتوقيعات المختلفة، وذكر ما لا يحل ذكره من التشوق إلى معاصي الله - عز وجل -، والتنشيط إلى مواقعة محارمه [4أ]، والترغيب إلى تعدي حدوده، وهتك الأعراض بالمقاولات السخيفة، وثلب أعراض المسلمين بالغيبة، والسعي بينهم بالنميمة، وعلى الجملة فإذا اشتملت تلك المجالس والمجامع على شيء مما ورد الشرع بتحريمه فحضورها حرام، والقعود فيها معصية، لأنها من قسم الحرام البين.
ويجب على المسلمين الإنكار على من تلبس بشيء منها، وإن كان ما يقع في تلك المجالس والاجتماعات التي يسمونها ولائم وأعراسا وتعزية لميت، وتسلية لمحزون، وملاقاة لقادم من غيبة، وزيارة لمن يحق له عندهم الزيارة مما لم يتبين كونه حلالا، ولا لكونه حراما، فهو من الأمور المشتبهة، والمؤمنون وقافون عند الشبهات، فاجتناب هذه المجالس هو شأن المؤمنين، ودأب المتمسكين بالدين، فمن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن لابسها وجالس أهلها فقد حام حول الحمى، ورتع في جوانبه، فيوشك أن يواقعه، وهو أيضًا لم يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه، وهو أيضًا دخل في أمر ليس عليه أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ففعله رد عليه فإن أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الوقوف عند الشبهات، واجتناب ملابستها وهو أيضًا لم يترك ما يشتبه عليه من الإثم، فيوشك أن
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (439) وقد تقدم ذكر القصة.
(2) انظر "فتح الباري" (1/ 548).(11/5723)
يواقع ما استبان من الحرام.
وإذا عرفت هذه الأقسام، وتقرر لك حكم كل واحد منها ارتفع الإشكال، واتضح الأمر، وتبين لك ما هو الذي يجوز لك ملابسته من تلك المجامع [4ب] والمجالس، وما هو الذي لا يجوز لك ملابسته منها وما هو الذي ينكر على فاعله وما هو الذي لا ينكر على فاعله، وما هو من البدعة التي هي ضلالة، وما هو من البدعة المشتبهة، وذلك يغنيك عن النظر إلى ما وقع من ذلك في البلد الفلاني، أو في الجيل الفلاني، أو في العصر الذي قبل عصرك، أو في العصور التي قبله بكثير، فإن ذلك مما لا يصح الاحتجاج به، ولا إيراده في موارد الاستدلال، فقد وقع من ذلك في كل عصر من العصور الغث والسمين، والجاري على منهج الشرع والجاري على غيره، وصار كثير من الأشياء المنكرة، والبدع التي هي من قسم الضلالة باستعمال كثير من الناس لها غير مستنكر ولا معدود من الأمور المخالفة للشرع، ولا من الشبهة التي يتوقف المؤمنون عندها.
ومن اطلع على كتب التاريخ وقف من ذلك على العجب العجيب، والنبأ الغريب، فإن كثيرا من المنكرات المعلوم تحريمها بضرورة الشرع قد صارت عند قوم من الأقوام، وفي جيل من الأجيال من المعروف لا من المنكر، حتى إن من أنكر ذلك عد إنكاره منكرا ولا يقوى على القيام في مثل هذه المقامات الصعبة إلا من كان متصلبا في دين الله، شديد الشكيمة على أعداء الله، نافذ البصيرة في الحق، صحيح التصور لما أخذه الله على الذين أوتوا الكتاب من البيان، قوي الفهم بمعنى قوله - عز وجل -: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (1)، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (2).
_________
(1) [آل عمران: 187]
(2) [البقرة: 159](11/5724)
نسأل الله - سبحانه - أن يبصرنا بطرق الهداية [5أ] ويعصمنا عن مزالق الغواية، فلا خير إلا خيره، ولا إله غيره، والحمد أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، والصلاة والسلام على خير الأنام وآله الكرام.
حرره المجيب - غفر الله له - في شهر شعبان سنة 1230.(11/5725)
(188) 17/ 4
الدواء العاجل لدفع العدو الصائل
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه
محفوظة بنت علي شرف الدين
أم الحسن(11/5727)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: الدواء العاجل لدفع العدو الصائل.
2 - موضوع الرسالة: آداب.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، ونصلي ونسلم على رسولك الأمين.
4 - آخر الرسالة: بهذا جاءت الشريعة المطهرة ونطقت كلياتها وجزئياتها، وفي هذا المقدار كفاية، والله ولي التوفيق.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 27 صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 16 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5729)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، ونصلي ونسلم على رسولك الأمين، وآله الطاهرين، وصحبه الراشدين.
وبعد:
فإنها قد دلت الأدلة القرآنية، والأحاديث الصحيحة النبوية أن العقوبات العامة لا تكون إلا بأسباب، أعظمها: التهاون بالواجبات، وعدم اجتناب المحرمات، فإن انضم إلى ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المكلفين به، لا سيما أهل العلم، وأهل الأمر القادرين على إنفاذ الحق، ودفع الباطل كانت العقوبة قريبة الحدوث، ولا حاجة بنا هاهنا إلى إيراد الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، فهي معروفة عند المقصر والكامل.
وإذا عرفت هذا فاعلم أنه يجب على كل فرد لا تعلق له بغيره أن ينظر في أحوال نفسه، وما يصدر عنه من أفعال الخير والشر، فإن غلب شره خيره، ومعاصيه على حسناته، ولم يرجع إلى ربه، ويتخلص من ذنبه فليعلم أنه بين مخالب العقوبة، وتحت أنيابها وأنها واردة عليه، وواصلة عن قريب إليه [1أ].
وهكذا من كان له تعلق بأمر غيره من العباد، إما عموما أو خصوصا، فعليه أن يتفقد أحوالهم، ويتأمل ما هم فيه من خير وشر، فإن وجدهم منهمكين في الشر، واقعين في ظلمة المعاصي، غير مستنيرين بنور الحق، فهم واقعون في عقوبة الله لهم، وتسليطه عليهم، ولا سيما إذا كانوا لا يأتمرون لمن يأمرهم بالمعروف، ولا ينتهون لمن ينهاهم عن المنكر.
هذا على فرض أن داعي الخير لا يزال يدعوهم إليه، والناهي عن الشر لا يزال ينهاهم عنه، وهم مصممون على غيهم، سادرون في جهلهم، فإن كان من يتأهل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معرضا عن ذلك، غير قائم بحجة الله، ولا مبلغ لها إلى(11/5733)
عباده، فهو شريكهم في جميع ما اقترفوه من معاصي الله - سبحانه -، مستحق للعقوبة المؤجلة والمعجلة قبلهم كما صح في قصته من تعدى في السبت من أتباع موسى - عليه السلام (1) -؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - ضرب من ترك الأمر بالمعروف
_________
(1) اعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الأمم السابقة قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة: 78 - 79].
وقال تعالى: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [آل عمران: 63].
قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (4/ 47) دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة.
* ولقد أثنى سبحانه وتعالى على طائفة من أهل الكتاب فقال: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران: 114].
* وجاء في وصية لقمان لابنه: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان: 17].
لذلك يعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات وأجلها وأفضلها، وقد دل على وجوبه الكتاب والسنة، ونقل الإجماع على ذلك النووي في "شرحه لصحيح مسلم " (1/ 22)،
وإذا تأملت نصوص الكتاب والسنة وجدت ذلك قد ورد باستفاضة كبيرة وأساليب متنوعة (منها):
1 - ) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران: 104].
2 - ) جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الصفات اللازمة للمؤمنين.
قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة: 71].
3 - ) جعله سببا للخيرية في هذه الأمة.
قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران: 110].
4 - ) جعل تركه سببا لوقوع اللعن والإبعاد.
قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... ) [المائدة: 78].
5 - ) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للنجاة.
قال تعالى: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ ... ) [هود: 116].
6 - ) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب من أسباب النصر.
قال تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ. .) [الحج: 41].
انظر: "الآداب الشرعية" (1/ 171 - 173)، "تنبيه الغافلين" (ص 185)، "إحياء علوم الدين" (2/ 303 - 308)(11/5734)
والنهي عن المنكر بسوط عذابه، ومسخهم قردة وخنازير، مع أنهم لم يفعلوا ما فعله المعتدون من الذنب، بل سكتوا عن إبلاغ حجة الله، والقيام بما أمر به، من الأمر بالمعروف [1ب] والنهي عن المنكر (1).
والحاصل: أنه لا فرق بين فاعل المعصية، وبين من رضي بها ولم يفعلها، وبين من لم يرض بها لكن ترك النهي عنها مع عدم
_________
(1) يشير إلى الآيات من سورة الأعراف (163 - 167).
قال تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(11/5735)
المسقط (1) لذلك عنه، ومن كان أقدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان ذنبه
_________
(1) متى يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الإنكار بالقلب لا يسقط بحال من الأحوال لكن الإنكار باليد واللسان قد يسقط:
1 - ): إذا تكاثرت الفتن والمنكرات، وهذا على نوعين:
1 - ما يكون في آخر الزمان وهذا النوع هو الذي تحمل عليه كثير من الأحاديث الواردة في العزلة والتي منها:
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه: " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن".
أخرجه البخاري رقم (19و3300 و3600 و6495).
وأخرج أحمد (2/ 212) وأبو داود رقم (4343) والحاكم (4/ 282) بإسناد حسن، عن عبد الله بن عمرو قال: بينما نحن حول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ ذكر الفتنة فقال: " إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا - وشبك بين أصابعه - قال: فقمت إليه، فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟! قال: " الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة".
وفي رواية: " تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم".
وهو حديث صحيح، أخرجه أبو داود رقم (4342) والبخاري تعليقا رقم (479) وابن ماجه رقم (3957).
وانظر: " الإبانة الكبرى" رقم (725 - 774).
النوع الثاني: ما يقع من الفتن في بعض الأوقات دون التي تقع آخر الزمان.
قال الحافظ في "الفتح" (13/ 40) والخبر دال على فضيلة العزلة - حديث أبي سعيد الخدري وقد تقدم - لمن خاف على دينه، وقد اختلف السلف في أصل العزلة.
فقال الجمهور: الاختلاط أولى لما فيه من اكتساب الفوائد الدينية للقيام بشعائر الإسلام وتكثير سواد المسلمين وإيصال أنواع الخير إليهم من إعانة وإغاثة وعبادة غير ذلك.
وقال قوم: العزلة أولى لتحقق السلامة، بشرط معرفة ما يتعين.
قال النووي: المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنه أنه يقع في معصية، فإذا أشكل الأمر فالعزلة أولى.
انظر: "فتح الباري" (11/ 331 - 333)، (باب العزلة راحة من خلاط السوء).
* فمن أشكلت عليه الأمور تعينت عليه العزلة وعليه يحمل اعتزال من ذكر من الصحابة: سعد بن أبي وقاص، محمد بن مسلمة، سلمة بن الأكوع، عبد الله بن عمر، أسامة بن زيد وغيرهم.
وأما من أمكنه معرفة الحق، ولم يتمكن من العمل به، أو أدت مخالطته للناس إلى تكثير سواد أهل الفتنة، أو حملهم له على المشاركة فيلزمه أن يعتزل، ومن عرف الحق ولم يخش تفويت العمل به ولا حملهم إياه في فتنهم ولا إعانتهم عليها، ولم يكثر لهم سوادا، لكنه لو أمر ونهى لم يكن ذلك مؤثرا في حالهم ولا مغيرا لها فالأفضل في حقه العزلة.
أما إذا كان لا يخشى من المخالطة وقوع محظور مما سبق وبقاؤه ينفع الناس فهذا يتعين عليه البقاء وترك العزلة، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المسلم إذا كان مخالطا الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم".
أخرجه أحمد (2/ 43) (5/ 365) وابن ماجه رقم (1338 - 4032) والترمذي رقم (2035، 2507)، وهو حديث صحيح.
وأما الفتن التي لا يعرف الحق فيها من الباطل حيث يلتبس فيها الأمور وهذا الالتباس ناتج عن طبيعة الفتنة وتلونها. . . أو ناتج عن عدم قدرة المعاصر لها من تمييز الحق فيها من الباطل، وأكثر هذا في آخر الزمان، وعلى هذا ننزل كثير من الأحاديث التي. . تحث على العزلة. .
2 - ): يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حالة العجز الحسي فإن من عجز عن القيام بعمل (طولب به) عجزا حسيا لم يكلف به كمن عجز عن الجهاد لمرضه أو عرجه أو لذهاب بصره أو غير ذلك.
3 - ): يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما كان في معنى العجز الحسي.
أ): إذا كان يلحقه من جرأته مكروه معتبر في إسقاط الوجوب عنه، يشير إلى ذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: " إن الله ليسأل العبد يوم القيامة، حتى يقول: ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره؟ فإن لقن الله عبدا حجته قال: يا رب! رجوتك وفرقت من الناس".
أخرجه ابن ماجه رقم (4017) وهو حديث صحيح.
وحديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعا: " لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيقه".
أخرجه ابن ماجه رقم (4016) وهو حديث حسن.(11/5736)
أشد، وعقوبته أعظم، ومعصيته أفظع، بهذا جاءت حجج الله وقامت براهينه، ونطقت(11/5737)
بها كتبه، وأبلغتها إلى عباده رسله.
ولما كان الأمر هكذا بلا شك ولا شبهة عند كل من له تعلق بالعلم وملابسة المطهرة، وكان ذلك من قطعيات الشريعة وضروريات الدين - فكرت في ليلة من الليالي في هذه الفتن، التي قد نزلت بأطراف هذا القطر اليمني، وتأججت نارها، وطار شررها، حتى أصاب كل فرد من ساكنيه منها شواظ، وأقل ما قد نال من هو بعيد عنها ما صار مشاهدا معلوما، من ضيق المعاش، وتقطع كثير من أسباب الرزق، وتحقر المكاسب، حتى ضعفت أحوال الناس، وذهبت تجارتهم ومكاسبهم، وأفضى ذلك إلى كساد كثير من الأملاك، وعدم نفاق نفائس الأموال، وحبائس الذخائر.
ومن شك في هذا، فلينظر [2أ] فيه بعين البصيرة، حتى ترتفع عنه ريب الشك بطمأنينة اليقين، هذا حال من هو بعيد عنها لم تطحنه بكلكلها، ولا وطئته بأخفافها.
وأما من قد وفدت عليه وقدمت إليه، وخبطته بأسواطها، وضغمته بأنيابها، وأناخت بساحته، كالقطر التهامي وما جاوره، فيالله! كم من بحار دم أراقت، ومن نفوس أزهقت، ومن محارم هتكت، ومن أموال أباحت، ومن قرى ومدائن طاحت بها الطوائح، وصاحت عليها، بعد أن تعطلت الصوائح، وناحت بعرصاتها المقفرة النوائح.
فلما تصورت هذه الفتنة أكمل تصور - وإن كان متقررة عند كل أحد أكمل تقرر - ضاق ذهني عن تصورها، فانتقلت إلى النظر في الأسباب الموجبة لنزول المحن، وحلول النقم من ساكني هذا القطر اليمني على العموم من غير نظر إلى مكان خاص أو طائفة معينة، فوجدت أهله - ما بين صعدة وعدن - ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: رعايا يأتمرون بأمر الدولة، وينتهون بنهيها، لا يقدرون على الخروج عن كل ما يرد عليهم من أمر أو نهي، كائنا ما كان.
القسم الثاني: طوائف خارجون عن أوامر الدولة متغلبون [2ب] في بلادهم.
الطائفة الثالثة: أهل المدن، كصنعاء وذمار، وهم داخلون تحت أوامر الدولة، ومن جملة من يصدق على غالبهم اسم الرعية، ولكنهم يتميزون عن سائر الرعايا بما سيأتي(11/5738)
ذكره.
فأما القسم الأول:
وهم الرعايا، فأكثرهم - بل كلهم إلا النادر الشاذ - لا يحسنون الصلاة، ولا يعرفون ما لا تصح إلا به ولا تتم بدونه، من أذكارها، وأركانها، وشرائطها، وفرائضها، بل لا يوجد من يتلو منهم سورة الفاتحة تلاوة مجزئة إلا في أندر الأحوال.
ومع هذا فالإخلال بها والتساهل فيها قد صار دأبهم وديدنهم، فحصل من هذا أن غالبهم لا يحسن الصلاة ولا يصلي.
وطائفة منهم لا تحسن الصلاة، وإنما تصلي صلاة غير مجزئة، فلا فرق بينها وبين من يتركها.
وأما من يحسنها ويواظب عليها: فهو أقل قليل، بل هو الغراب الأبقع (1)، والكبريت الأحمر (2)، وقد صح عن معلم الشرائع: أنه لم يكن: " بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة " (3)، فالتارك للصلاة من الرعايا: كافر، وفي حكمه من فعلها وهو لا يحسن
_________
(1) الغراب الأبقع.
قيل: ما خالط بياضه لون آخر، وغراب أبقع فيه سواد وبياض.
وقيل: الغراب الأسود في صدره بياض.
"لسان العرب" (1/ 461)
(2) الكبريت الأحمر هو من الجوهر ومعدنه خلف بلاد التبت، وادي النمل الذي مر به سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام ويقال في كل شيء كبريت وهو يبسه ما خلا الذهب والفضة فإنه لا ينكسر فإذا صعد أي أذيب ذهب كبريته، والكبريت: الياقوت الأحمر، وهو نادر الوجود.
"لسان العرب" (12/ 16).
قال في "تاج العروس" (3/ 114): عن الليث: الكبريت: عين تجري فإذا جمد ماؤها صار كبريتا أبيض وأصفر وأكدر، وقال شيخنا وقد شاهدته في مواضع، منها هذا الذي قريب من الملاليح ما بين فاس ومكناسة يتداوى بالعوم فيه من الحب الإفرنجي وغيره. . .
(3) أخرجه مسلم رقم (134) وأبو داود رقم (4678) والترمذي رقم (2618) وابن ماجه رقم (1078) وأحمد في "المسند" (3/ 370، 389) من حديث جابر.
قال النووي في "شرحه لصحيح مسلم " (2/ 70): وأما تارك الصلاة فإن كان منكرا لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين خارج من ملة الإسلام إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام ولم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة عليه.
وإن تركها تكاسلا مع اعتقاده وجوبها كما هو حال كثير من الناس فقد اختلف العلماء فيه: فذهب مالك والشافعي رحمهما الله والجماهير من السلف والخلف إلى أنه لا يكفر بل يفسق ويستتاب فإن تاب وإلا قتلناه حدا كالزاني المحصن ولكنه يقتل بالسيف، وذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر وهو مروي عن علي بن أبي طالب وهو أحد الروايتين عن أحمد وبه قال عبد الله وإسحاق بن راهويه وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي.
وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي أنه لا يكفر ولا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي.
انظر تفصيل ذلك في "نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 291 - 292)(11/5739)
من أذكارها وأركانها ما لا تتم إلا به، لأنه أخل بفرض عليه، من أهم الفروض، وواجب من آكد الواجبات، وهو تعلم ما لا تصح الصلاة إلا به، مع إمكان ذلك، ووجود من يعرفه، فهذه الصلاة هي أهم أركان الإسلام الخمسة (1)، وآكدها، وقد صار الأمر فيها عند الرعايا هكذا.
ثم يتلوها الصيام، وغالب الرعايا لا يصومون، وإن صاموا في النادر من الأوقات، وفي بعض الأحوال فربما لا يكمل شهر رمضان صوما إلا القليل من ذلك القليل، ولا شك أن تارك الصيام على الوجه الذي يتركونه كافر، وكم يعد العاد من واجبات يخلون بها، وفرائض لا يقيمونها، ومنكرات لا يجتنبونها وكثيرا ما يأتي هؤلاء الرعايا بألفاظ كفرية (2) فيقول: هو يهودي ليفعلن كذا، أو لأفعلن كذا، ويرتد تارة بالقول،
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (8) ومسلم رقم (21) من حديث عمر قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت "
(2) عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من حلف بملة غير الإسلام كذبا فهو كما قال. . ".
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6652) ومسلم رقم (177/ 110)(11/5740)
وتارة بالفعل، وهو لا يشعر، ويطلق امرأته حتى تبين منه بألفاظ يديم التكلم بها، كقوله: امرأته طالق ما فعل كذا، أو: لقد فعل كذا (1) أو كثير منهم يستغيث بغير الله تعالى من نبي، أو رجل من الأموات، أو صحابي، أو نحو ذلك (2).
ومع هذا البلايا التي تصدر منهم، والرزايا التي هم مصرون عليها لا يجدون من يأمرهم بمعروف، ولا من ينهاهم [3ب] عن منكر، وقد صار الأمر والنهي في كل ولاية منحصرا في ثلاثة أشخاص: عامل، وكاتب، وحاكم.
فأما العامل:
فلا عمل له، ولا يسعى إلا في استخراج الأموال من يد الرعايا من حلها ومن غير حلها، وبالحق وبالباطل، وقد استعان على ذلك بالمشايخ الذين هم العرفاء المنصوص من معلم الشرائع على أنهم في النار، فيتسلط كل واحد منهم على من تحت يده من المستضعفين، ويصنع به ما أراد وكيف أحب، وهو مفوض في أموالهم من طريق العامل فيأخذ ما شاء، ويدع ما شاء، وليس الأمر والنهي من العامل إلا في هذه الخصلة على الخصوص، ولم نسمع على تطاول الأيام، وتعاقب السنين، أن فردا من أفراد العمال أمر الرعايا بما أوجبه الله من الفرائض التي لا فسحة فيها؛ كالصلاة والصيام، أو نهاهم عن شيء من المنكرات التي يرتكبونها، بل قد جرت عادة كثير من العمال أن يأخذ إلى مقابل ترك الصلاة والصيام شيئا من السحت.
_________
(1) أخرج أبو داود رقم (2194) والترمذي رقم (1184) وابن ماجه رقم (2039) والحاكم في "المستدرك" (2/ 197 - 198) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاث جدهن جد وهزلن جد: النكاح والطلاق والرجعة".
وهو حديث حسن.
(2) انظر الرسالة رقم (24، 25، 26)(11/5741)
وهكذا في الأشياء التي هي منكرات مجمع على تحريمها كالزنا، والسرقة، وشرب المسكرات، إذا وقع بعض الرعية في شيء منها، كانت العقوبة من العامل على ذلك أن يأخذ شيئا من مال من فعل ذلك، بل وقوع [4أ] الرعايا في هذه المعاصي هو أحب الأشياء إلى العامل؛ لأنه يفتح له عند ذلك باب أخذ الأموال.
ويتكاثر عنده السحت، ويتوفر له المقبوض، فانظر أي فاقرة في الدين كانت ولاية مثل هذا العامل! وأي بلاء صب على دين الله، رجل لا يأمر بفعل ما أوجب الله، ولا ينهى عن فعل ما حرم الله، بل يود ذلك ويفرح به لينال حظا من السحت، ويصل إلى شيء من الحرام.
فهل أقلت الأرض، أو أظلت السماء أفسد لدين الله، وأجرا على معاصيه منه؟! وهل مشى على رجلين أخسر صفقة منه، وأخبث سعياً؟! وناهيك برجل لو كفر من تحت ولايته من الرعايا كفر فرعون، لكان يرضيه من ذلك نزر حقير من السحت، بل ذلك أحب إليه من صلاح الرعايا وتمسكهم بدين الإسلام، وقبولهم الشريعة، لأنه لا ينفق سوق ظلمه، ويدر عليه ثدي سحته، إلا بوقوع الرعايا في مخالفة الشرع، وخروجهم عن سبيل الرشاد.
وقد ينضم إلى هذه المخازي منه والفضائح له، أن يرابي على رؤوس الأشهاد ربا مجمعا على تحريمه [4ب]، ويستصحب معه جماعة من المعاملين بالربا، فيأخذ منهم عند الحاجة بزيادة من الربا ويضعها على الرعية ويسلط هؤلاء العاملين بالربا على الضعفاء.
وهل أقبح من هذا الذنب وأشد منه؟! فإنه الذنب الذي توعد الله عليه بالحرب لفاعله منه كما في كتابه العزيز (1)، وليس الحرب من الله نزول الحجارة من السماء، بل تسليط
_________
(1) يشير إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) [البقرة: 278 - 279](11/5742)
بعض عباده على بعض حتى يسحتهم بعذابه، ونزل بهم غضبه، ويسلط عليهم من يسفك دماءهم، وينهب أموالهم، ويهتك محارمهم.
وقد يضم عامل السوء إلى هذه المخازي مخازي أخرى فيظهر بين الرعايا بمحرمات يرتكبها، ومحارم ينتهكها جراءة على الله، فيسن للرعايا سنن الشر، ويفتح لهم أبواب الفجور (1).
_________
(1) لذلك على الحاكم المسلم أو الملك حسن اختيار أعوانه.
وأصل ما يبني عليه قاعدة أمره في اختيار أعوانه وكفاته: أن يختبر أهل مملكته، ويسير لجميع حاشيته، يتصفح عقولهم وآرائهم، ومعرفته همهم وأخلاقهم حتى يعرف باطن سرائرهم وما يلائم كامن شيمهم، فإنه سيجد طباعهم مختلفة، وهمهم متباينة ومنتهم متفاضلة.
* فلا يعطي أحدهم منزلة لا يستحقها لنقص أو خلل، ولا يستكفيه أمر ولايته ولا ينهض بها، لعجز أو فشل، فإنهم آلات الملك، فإذا اختلت كان تأثيرها مختلا وفعلها معتلا.
وقد قيل: من استعان بأصاغر رجاله على أكابر أعماله فقد ضيع العمل وأوقع الخلل.
وقيل: من استوزر غير كفء، خاطر بملكه، ومن استشار غير أمين أعان على هلكه ومن أسر إلى غير ثقة ضيع سره، ومن استعان بغير مستقل أفسد أمره ومن ضيع عاقلا دل على ضعف عقله، ومن اصطنع جاهلا أعرب عن فرط جهله.
انظر: " تسهيل النظر وتعجيل الظفر "الماوردي (ص 194 - 195).
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
أخرجه البخاري رقم (2278، 2416) ومسلم رقم (1829).
قال البغوي في "شرح السنة" (10/ 62): معنى الراعي: الحافظ المؤتمن على ما يليه، أمرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنصيحة فيما يلونه، وحذرهم الخيانة فيه بأخباره أنهم مسؤولون عنه.
فالرعاية: حفظ الشيء، وحسن التعهد، فقد استوى هؤلاء في الاسم ولكن معانيهم مختلفة، رعاية الإمام، وولاية أمر الرعية والحياطة من ورائهم، وإقامة الحدود والأحكام فيهم، ورعاية الرجل أهله بالقيام عليهم بالحق في النفقة وحسن العشرة ورعاية المرأة في بيت زوجها بحسن التدبير في أمر بيته والتعهد لخدمة أضيافه، ورعاية الخادم حفظ ما في يده من مال سيده والقيام بشغله.
وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: " إن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته، وأشقاهم في الدارين من شقوا به " وإنك وإن ترتع عمالك فيكون مثلك مثل البهيمة، رأت أرضا خضرة ونباتا حسنا فرتعت تلتمس السمن، وإنما حتفها في سمنها".
انظر: "الخراج" لأبي يوسف (ص17)، "عيون الأخبار" (1/ 11)(11/5743)
وأما الكاتب:
فليس له من الأمر إلا جمع ديوان يكتب فيه المظالم التي يأخذها العامل من الرعايا، وليس جمعه لهذا الديوان لقد الإنصاف للرعايا، ولا للتخفيف عليهم، بل المقصود من وضعه أن لا يكتم العامل من تلك الأموال التي اجتاحها [5أ] والمظالم التي احتجنها حتى يشاركه فيها غيره، ويواسيه بدينه من نال منها نصيبا ممن يده فوق يده.
وأما ثالث الثلاثة، وهو القاضي:
فهو عبارة عن رجل جاهل للشرائع، إما جهلا بسيطا، أو جهلا مركبا، وإن اشتغل بشيء من الفقه، فغاية ما يظفر به منه هو ما يظفر وكيل الخصومة، ومن يمارس الحضور في مواقف الخصومات من مسائل تدور في الدعوى والإجابة، وطلب اليمين والبينة، وليس له من العلم غير هذا لا يعرف حقا ولا باطلا، ولا معقولا ولا منقولا، ولا دليلا ولا مدلولا، ولا يعقل شيئا من علوم الشرع، فضلا عن غيرها من علوم العقل، ولكنه اشتاق إلى أن يدعى قاضيا، ويشتهر اسمه في الناس، ويرتفع بين معارفه وأهله، فعمد إلى الثياب الجيدة فلبسها، وجعل على رأسه عمامة كالبرج، وأطال ذيل كمه حتى صار كالخرج، ولزم السكينة والوقار واستكثر من قوله: " نعم" و"يعني"، وجعل له سبحة طويلة يديرها في يده.
ثم جمع له من الحطام قدرا واسعا، وذهب به يدور في الأبواب ويتردد في السكك واستعان بالشفعاء [5ب] بعد أن أرشاهم ببعض من ذلك المال ليشتروا له هذا المنصب الجليل (1) الذي هو مقعد النبوة، ومكانا فيه يترجم عن كتاب الله وسنة رسوله، ويفصل
_________
(1) وليحذر أمثال هؤلاء قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة".
أخرجه البخاري رقم (7148) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين" من حديث أبي هريرة.
أخرجه أحمد (2/ 230، 365) وأبو داود رقم (3571، 3572) وابن ماجه رقم (2308) والترمذي رقم (1325) وقال \ حديث حسن غريب، وهو حديث صحيح.
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (1825) من حديث أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: " إنك ضعيف، وإنها أمانة، إنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ".
قال النووي في "شرحه لصحيح مسلم " (12/ 210، 211) هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية لا سيما لمن كان فيه ضعف، وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل فإنه يندم على ما فرط فيه إذا جوزي بالجزاء يوم القيامة وأما من كان أهلا لها وعدل فيها فأجره عظيم كما تضافرت به الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر عظيم ولذلك امتنع الأكابر منها، فامتنع الشافعي لما استدعاه المأمون لقضاء الشرق والغرب، وامتنع منه أبو حنيفة لما استدعاه المنصور فحبسه وضربه. . . ".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (7149) ومسلم رقم (4/ 1733) من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والله لا نولي هذا الأمر أحدا سأله، ولا أحدا حرص عليه ".
وانظر شروط القاضي العادل في "تبصرة الحكام" (1/ 24 - 25)، " الأحكام السلطانية" (ص62) "المجموع" للنووي (18/ 363)(11/5744)
الخصومات عن عباد الله بما أنزله في كتابه المبين، وبينه رسوله الأمين (1)، ثم يذهب هذا الجاهل البائس إلى قطر من الأقطار الوسيعة، فيأتي إليه وأهل الخصومات أفواجا، فيحكم بينهم بحكم الطاغوت في الحقيقة، وهو في الصورة حكم الشرع، وليس بشرع، لأن هذا القاضي المخذول لا يعرف من الشرع إلا اسمه، ولا يدري من العلم بشيء، بل يجهل حده ورسمه، فينتشر عنه في ذلك القطر الواسع من الطواغيت ما تبكي له عيون الإسلام، وتتصاعد عنده زفرات الأعلام.
وكيف يهتدي إلى فصل الخصومات بالحق جاهل اشترى هذا المنصب كما يشتري ما يباع في الأسواق من المتاع؟! فولاية مثل هذا المخذول وتحكمه في الشريعة المطهرة هي جناية على الله، وعلى رسوله، وعلى كتابه، وعلى سنة رسوله، وعلى العلم وأهله،
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.(11/5745)
وعلى الدين والدنيا [6أ].
ولا فرق بين بعث مثله ليحكم بجهله، وبين بعث رجل من أهل الطاغوت العارفين بالمسالك الطاغوتية كابن فرج، وفصيله، والغزي، ونحوهم من حكام الطاغوت، بل بعث هذا القاضي أعظم عند الله ذنبا، وأشد معصية، لأنه لما كان في الصورة قاضيا من قضاة الشرع الشريف، وحاكما من حكامه مولى ممن إليه الولاية العامة، كان في ذلك تغرير على الناس، ومخادعة لهم، فانجذبوا إليه ليحكم بينهم بشرع الله، فحكم بالطاغوت، فقبلوه بناء منهم على أنه حكم الشرع، بخلاف بعث حاكم من حكام الطاغوت، فإنه وإن كان من المعصية والجراءة على الله بالمكان الذي لا يخفى، ولكنه لا تغرير في بعثة على العباد، ولا مخادعة، فربما يجتنبه من يجتنبه إن لم يجتنبوه جميعا، وينفروا عنه ويأبوا منه، وكفى بهذا موعظة وعبرة يقشعر لها جلد من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان، وترتجف منه قلوب قوم يعقلون: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (1).
هذا حال هذا القاضي الذي هو من قضاة النار (2) ومن عصاة الملك الجبار [6ب] فيما يتولاه من الخصومات.
وما سائر ما هو موكول إلى قضاة الشرع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم، وإرشاد الضال، وتعليم الجاهل، والدفع عن الرعية من ظلم من
_________
(1) [الذاريات: 55]
(2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (3573) والترمذي رقم (1322) وابن ماجه رقم (2315) والحاكم (4/ 90).
عن ابن بريدة، عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "القضاة ثلاثة واحد في الجنة، واثنان في النار فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضي به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار".
وهو حديث صحيح.(11/5746)
يظلمها، والمكاتبة لإمام المسلمين بما يحدث في القطر الذي هو فيه مما يخالف الشريعة المطهرة - فلا يقدر هذا القاضي الشقي على شيء من هذه الأمور، سواء أكان حقيرا أو كثيرا، بل غاية أمره، ونهاية حاله أن يبقى في ذلك القطر يشاهد المظالم بعينه، وقد ينفذها بقلمه، وقد يعين عليها بفمه، وهو تارك لما أوجبه الله عليه، وعلى أمثاله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو في الحقيقة ضال مضل، شيطان مريد، بل أضر على عباد الله من الشيطان، ومن أين للشيطان، وأنى له أن يظهر للناس في صورة قاض ثم يفوض في قطر من الأقطار فيه ألوف مؤلفة من عباد الله، فيحكم بينهم بالطاغوت بصورة الشرع [7أ]، ثم يكون شهيدا على ما يحدث بذلك القطر من المظالم، ومعينا عليها، وموسعا لدائرتها من دون أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، بل لا يجري قلمه قط بما فيه جلب خير للرعية أو دفع شر عنهم.
بل هو ما دام في هذا المنصب لا هم له ولا مطلب إلا جمع الحطام من الخصوم، تارة بالرشوة (1) وتارة بالهدية (2)، وتارة بما هو شبيه بالتلصص، ثم يدافع عن المنصب الذي هو فيه ببعض هذا السحت الذي صار يجمعه، ويتوسع في دنياه بالبعض الآخر، فهو أمر لا يقدر عليه الشيطان، ولا يتمكن منه، ولا يبلغ كيده لبني آدم إليه، وفي هذا ما يكفي من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
_________
(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الراشي والمرتشي في الحكم".
أخرجه أحمد (2/ 387، 388) والترمذي في "السنن" (1337) وقال: حديث حسن صحيح، وهو حديث صحيح.
(2) أخرج أبو داود رقم (2963) بإسناد صحيح عن بريدة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال: "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول".
وانظر: "فتح الباري" (6/ 624) رقم الباب 24 - باب هدايا العمال)، و"إعلام الموقعين" لابن القيم (4/ 232).(11/5747)
وإذا كان حال الرعية وما هم عليه، هو ما قدمنا الإشارة إليه، وحال عاملهم وقاضيهم هو هذا الحال، وصفتهم هذه الصفة.
فانظر بعقلك، وأعمل صافي فكرك، هل مثل هؤلاء متعرضون لسخط الله وعقوبته وحلول نقمته، أم مستحقون للطفه وتوفيقه، وصرف العقوبة عنهم [7ب]، ودفع الفتن الذاهبة بالأنفس والأموال منهم؟! {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (1)، {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} (2) {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} (3).
وإذا قد تقرر لك حال هذا القسم الأول من الثلاثة الأقسام التي قدمنا لك ذكرها، فلنبين لك حال القسم الثاني، وهم أهل البلاد الخارجة عن أوامر الدولة ونواهيها، كبلاد القبلة والمشرق ونحو ذلك.
_________
(1) [الكهف: 49]
(2) [الأنعام: 148]
(3) [يس: 45](11/5748)
[القسم الثاني]
اعلم - أرشدك الله - أن جميع ما ذكرنا لك في القسم الأول - وهم الرعايا - من ترك الصلاة، وسائر الفرائض الشرعية إلا الشاذ النادر على تلك الصفة، فهو أيضًا كائن في البلاد الخارجة عن أوامر الدولة ونواهيها، بل الأمر فيهم أشد وأفظع، فإنهم جميعا لا يحسنون الصلاة، ولا القراءة، ومن كان يقرأ منهم فقراءته غير صحيحة، ولسانه غير صالحة، وبالجملة فالفرائض الشرعية بأسرها من غير فرق بين أركان الإسلام الخمسة وغيرها مهجورة عندهم، متروكة، بل كلمة الشهادة التي هي مفتاح الإسلام لا ينطق بها الناطق منهم إلا على [8أ] عوج.
ومع هذا ففيهم من المصائب العظيمة، والقبائح الوخيمة، والبلايا الجسيمة أمور غير موجودة في القسم الأول:
(منها): أنهم يحكمون بالطاغوت (1)، ويتحاكمون إلى من يعرف الأحكام الطاغوتية منهم، في جميع الأمور التي تنوبهم وتعرض لهم، من غير إنكار ولا حياء من الله ولا من عباده، ولا مخافة من أحد، بل قد يحكمون بذلك بين من يقدرون على الوصول إليه من الرعايا، ومن كان قريبا منهم، وهذا الأمر معلوم لكل أحد من الناس، لا يقدر أحد على إنكاره ودفعه، وهو أشهر من نار على علم.
ولا شك ولا ريب أن هذا كفر بالله - سبحانه - وبشريعته التي أنزلها على رسوله، واختارها لعباده في كتابه، وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل كفروا
_________
(1) الطاغوت عبارة عن كل متعبد، وكل معبود من دون الله ويستعمل في الواحد والجمع قال تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) [البقرة: 256] وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) [لزمر: 17] (أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) [البقرة: 257] وقوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) [النساء: 60].
انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" (ص 520 - 521) للراغب الأصفهاني.(11/5749)
بجميع الشرائع من عند آدم عليه السلام إلى الآن، وهؤلاء جهادهم واجب، وقتالهم متعين، حتى يقبلوا أحكام الإسلام ويذعنوا لها، ويحكموا بينهم بالشريعة المطهرة.
ويخرجوا من جميع ما هم فيه من الطواغيت الشيطانية [8ب] ومع هذا فهم مصرون على أمور غير الحكم بالطاغوت والتحاكم إليه، وكل واحد منهم على انفراده يوجب كفر فاعله، وخروجه من الإسلام وذلك مثل إطباقهم على قطع ميراث النساء، وإصرارهم عليه، وتعاضدهم على فعله.
وقد تقرر في القواعد الإسلامية أن منكر القطعي، وجاحده (1) والعامل على خلافه، تمردا، أو عنادا، أو استحلالا، أو استخفافا كافر بالله وبالشريعة المطهرة التي اختارها لعباده، ومع هذا فغالبهم يستحل دماء المسلمين وأموالهم، ولا يحترمها، ولا يتورع عن شيء منها، وهذا مشاهد معلوم لكل أحد، لا ينكره عاقل ولا جاهل، ولا مقصر ولا كامل، ومع هذا ففيهم من آثار الجاهلية الجهلاء أشياء كثيرة يعرفها من تتبعها.
ومن ذلك إقسامهم بالأوثان كما تسمع كثيرا يقول قائلهم: أي وثن؟، إذا أراد أن يحلف، والمراد بهذا الوثن: هو الوثن الذي كانت الجاهلية تعبده، وقد ثبت عن الشارع [9أ] أن: " من حلف بملة غير ملة الإسلام فهو كافر" (2).
وبالجملة: فكم يعد العاد من فضائح هؤلاء الطاغوتية وبلاياهم!! وفي هذا المقدار كفاية.
ولا شك ولا ريب أن ارتكاب هؤلاء لمثل هذه الأمور الكفرية من أعظم الأسباب الموجبة للكفر، السالبة للإيمان، التي يتعين على كل فرد من أفراد المسلمين إنكارها، ويجب على كل قادر أن يقاتل أهلها حتى يعودوا إلى دين الإسلام.
ومعلوم من قواعد الشريعة المطهرة ونصوصها أن من جرد نفسه لجهاد هؤلاء،
_________
(1) انظر: "المغني" (12/ 275 وما بعدها).
(2) تقدم تخريجه.(11/5750)
واستعان بالله، وأخلص له النية فهو منصور، وله العاقبة، فقد وعد الله بهذا في كتابه العزيز: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (1) {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (2) {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (3) {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (4) و {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} (5) {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (6). فإن ترك من هو قادر على ذلك، جهادهم فهو [9ب] متعرض لنزول العقوبة به وبهم، مستحق لما أصابه، فقد سلط الله - سبحانه - على أهل الإسلام طوائف كفرية لهم، حيث لم يتناهوا عن المنكرات، ولم يحرصوا على العمل بالشريعة المطهرة، كما وقع تسليط الخوارج (7)، انظر "المغني" (12/ 275) فيه تفصيل في أول الإسلام، ثم تسليط القرامطة (8) والباطنية (9) بعدهم، ثم من تسليط التتر (10)، حتى
_________
(1) [الحج: 40]
(2) [محمد: 7]
(3) [الأعراف: 128]، [القصص: 83]
(4) [المائدة: 56]
(5) [الصافات: 172]
(6) [البقرة: 193]
(7) تقدم التعريف بهم (ص 153)
(8) تقدم التعريف بهم (ص1025)
(9) هم الذين جعلوا لكل ظاهر من الكتاب باطنا، ولكل تنزيل تأويلا وظهرت دعوتهم في أيام المأمون من (حمدان قرمط) ومن (عبد الله بن ميمون القداح) وليس الباطنية من فرق ملة الإسلام بل هي من فرق المجوس الخارجة عن حلة الإسلام.
"الفرق بين الفرق" لعبد القاهرة البغدادي (ص 22).
ولهم ألقاب كثيرة: في العراق يسمون الباطنية والقرامطة والمزدكية بخراسان: يسمون التعليمية والملحدة.
وقيل: الباطنية والإمامية والغلاة مختلطة بعضها ببعض، فالكل متشيع غال وخارج عن نهج المسلمين، نشأ مذهبهم في منتصف القرن الثالث، وضعه قوم أشرب في قلوبهم بغض الدين وكراهية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفلاسفة والملاحدة والمجوس واليهود ليصرفوا الناس عن دين الله وكانوا يبعثون دعاتهم إلى الآفاق لدعوة الناس إلى مذهبهم المشؤوم، ومن دعاتهم ميمون بن ديصان القداح الثنوي فظاهر مذهبهم الرفض وباطنهم الكفر. . . ".
"التبصرة " (ص86)، "الملل والنحل" (1/ 228 - 235)
(10) تقدم التعريف بهم (ص1025)(11/5751)
كادوا يطمسون أمم الإسلام، وكما يقع كثيرا من تسليط الفرنج ونحوهم {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (1) {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (2).
والحاصل: أنه لا خروج لمن كان قادرا على إصلاح هذا القسم والقسم الأول، وهم الرعايا - إلا ببذل الوسع في قتال هؤلاء، وبذل الوسع في إصلاح الرعايا وتعليمهم فرائض الإسلام، وإلزامهم بها، والأخذ على الولاة في الأقطار أن يكون معظم سعيهم، وغاية همهم هو دعاء من يتولون [10أ] عليه من الرعايا إلى ما أوجبه الله عليهم، ونهيهم عما نهاهم الله عنه، وانتخاب القضاة في كل قطر، فيكونون أولا ممن جمع الله لهم بين العلم والعمل، والزهد والورع، ويكونون ثانيا من الباذلين أنفسهم لإصلاح الرعايا وتعليمهم فرائض الله، ودفع المظالم الواردة عليهم، التي لا سبيل لها في الشريعة المطهرة، ويقبضون منهم ما أوجبه الله عليهم، ويدفعونه إلى إمام المسلمين، فإن في ذلك ما هو أنفع من الأشياء التي تؤخذ على وجه الظلم، وعلى طريقة الجور، والخير كل الخير في موافقة الأمور الشرعية، والشر كل الشر في مخالفتها.
ومن جملة ما يأخذون عليهم إصلاح عقائدهم، ويبينون لهم أن الله هو الضار النافع، القابض الباسط، وأنه لا ينفع ولا يضر غيره.
ويزجرونهم عن الاعتقادات الباطلة، ويجعلون في كل قرية معلما صالحا، يعلم أهلها
_________
(1) [الحشر: 2]
(2) [ق: 37](11/5752)
الصلاة على الوجه الشرعي، ويأمرونهم [10بٍ] بالمواظبة على الصلوات في أوقاتها، ويلزمون لك المعلم بأن يعلمهم سائر الفرائض التي أوجبها الله عليهم، ويلزمونهم ويحبسون من لم يأت بما فرض الله عليه، أو لم يجتنب ما نهاه الله عنه، ويكون ذلك عزيمة صحيحة مستمرة، وأمرا ضابطا دائما، ولا يكون هذا مثل ما تقع من الأوامر التي تبطل في أسرع وقت كما وقع في الأيام القريبة من الأمر لأهل صنعاء بالمواظبة على الصلاة، ثم بطل قبل مضي أسبوع، فإن الأمور الشرعية، والفرائض الدينية هي التي شرع الله نصب الأئمة والسلاطين والقضاة لها، ولم يشرع نصب هؤلاء لجمع الأموال من غير وجهها، ومصادرة الرعايا في أموالهم بأضعاف ما أوجبه الله عليهم، وترك إلزامهم بفرائض الله، التي من جملتها الصلاة والصوم والحج والزكاة، وإخلاص التوحيد لله، وترك نهيهم عما نهاهم الله عنه، من المعاصي التي صاروا يفعلونها، ويصرون عليها مما هو معلوم [11أ] لكل أحد.
وليس على إمام المسلمين ووزرائه إلا انتخاب العمال والقضاة في الأقطار، وإلزامهم بأن يكون معظم اشتغالهم بتدبير الرعايا بما شرعه الله لعباده في الأموال والأبدان، وفي الدين والدنيا، ثم بعد إلزامهم بذلك ينظرون من قام به من العمال والقضاة، ومن تركه، فيحسنون إلى من قام بهذا الأمر منهم، وبذل فيه وسعه، ويقرونه على ولايته، ويعزلون من لم يقم به، ويبذل فيه وسعه، فبهذا يدفع الله الشرور عن العباد والبلاد، ويحول بينهم وبين من قد صار في أطراف البلاد من الطوائف التي صارت تعامل عباد الله معاملة أهل الشرك المحقق، بل يتجاوزون ذلك إلى ما لا يبيحه الشرع في أهل الشرك، كما بلغ أنهم يقتلون النساء والصبيان، ويشقون بطون الحوامل؛ فإن الشارع نهى عن مثل هذا، وزجر عنه، ولم يحل للمسلمين أن يقتلوا صبيان المشركين ولا نساءهم (1).
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (3/ 1731) والترمذي رقم (1408، 1617) وأبو داود رقم (2612، 2613) عن سليمان بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أمر أميرا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: " اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله واغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا. . . ".
وأخرج البخاري في صحيحه (3014، 3015) ومسلم رقم (24، 25/ 1744) من حديث ابن عمر قال: " وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل النساء والصبيان"(11/5753)
وأما العمال والقضاة الذين صاروا يتولون البلاد في هذه الأعصار، فهم من أعظم الأسباب الموجبة لنزول العقوبة، وتسليط الأعداء، وذهاب البلاد والعباد، وسفك الدماء واستحلال الحرام، وكيف لا يقع هذا التسليط وعامل [11ب] البلاد على الصفة التي قدمنا ذكرها؟! ومن أول مساوئه، ومعاصيه، ومعاندته لله، وتعرضه لغضبه وسخطه أنه يطلب تلك الولاية بأموال، يقدمها من أموال المرابين، فيقع في الربا الذي هو من أعظم المعاصي الموجبة للحرب من الله، قبل أن يخرج من بيته، ويقبض مرسوم ولايته، وقد يكون الذي ولاه عالما بأن ذلك المال هو عين الربا، فيقعان جميعا في غضب الله ولعنته، قبل المباشرة للولاية.
وإذا كان هذا أول ما تفتتح به هذه الولاية الملعونة، فما ظنك بما يحدث بعد ذلك من الظلم والجور والعسف، وإهمال ما أخذه الله على الولاة، من إرشاد الضال من الرعايا، وهداية الجاهل؟! وهكذا ولاية القاضي الشيطان في هذه الأزمان، فإنها تفتتح بشيء من السحت يدفعه هذا القاضي الذي هو من قضاة النار (1) إلى من ولاه بعد أن يستعين بالشفعاء، فكيف يفلح قاض جاهل للشرائع اشترى هذا المنصب الديني بماله، وقام في حصوله له وقعد، مع أن الشارع نهى عن يتولى القضاء من طلبه فضلا عمن اشتراه [12أ] بماله (2)!.
_________
(1) تقدم ذكر الحديث
(2) تقدم توضيحه.
قال ابن تيمية في "السياسة الشرعية" (ص 174): متى اهتم الولاة بإصلاح دين الناس، صلح للطائفتين دينهم ودنياهم، وإلا اضطربت الأمور عليهم، وملاك ذلك كله حسن النية للرعية، وإخلاص الدين كله لله، والتوكل عليه، فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة، كما أمرنا أن نقول في صلاتنا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5] فإن هاتين الكلمتين قد قيل إنهما يجمعان معاني الكتب المنزلة من السماء، وقد روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان مرة في بعض مغازيه، فقال: "يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين" فجعلت الرءوس تندر عن كواهلها وقد ذكر ذلك في غير موضع من كتابه كقوله: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) وقوله تعالى: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ذبح أضحيته - يقول: "اللهم منك ولك" - وأعظم عون لولي الأمر خاصة، ولغيره عامة ثلاثة أمور أحدها.
أحدها: الإخلاص لله، والتوكل عليه بالدعاء وغيره وأصل ذلك المحافظة على الصلوات بالقلب والبدن.
الثاني: الإحسان إلى الخلق بالنفع والمال الذي هو الزكاة.
الثالث: الصبر على أذى الخلق وغيره من النوائب، ولهذا جمع الله بين الصلاة والصبر، كقوله تعالى في موضعين: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) وكقوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين) [هود: 114 - 115].
فيجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه، ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية أو يسبق في الطلب بل ذلك سبب المنع.
كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أن قوما دخلوا عليه فسألوه ولاية فقال: إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه" تقدم وهو حديث صحيح.
فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما، أو ولاء عتاقة أو صداقة، أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس. . . أو لرشوة يأخذها من مال أو منفعة أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق أو عداوة بينهما فقد خان الله ورسوله قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: 27].
فمثلا: القوة في كل ولاية بحسبها فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب، والمخادعة فيها، فإن الحرب خدعة، وإلى القدرة على أنواع القتال. . . ".
القوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة وإلى القدرة تنفيذ الأحكام.
والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمنا قليلا، وترك خشية الناس وهذه الخصال الثلاث التي أتخذها الله على كل حكم على الناس.
قال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].
وإذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد، قدم الأمين فأما استخراجها وحفظها، فلا بد فيه من قوة وأمانة فيولي عليها شاد قوي يستخرجها بقوته، وكاتب أمين يحفظها وأمانته، وكذلك في إمارة الحرب إذا أمر الأمير بمشاورة أولي العلم والدين جمع بين المصلحتين، وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد، جمع بين عدد، فلابد من ترجيح الأصلح أو تعدد المولى إذا لم تقع الكفاية بواحد تام.
ويقدم في ولاية القضاء الأعلم الأورع الأكفأ فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم فيما قد يظهر حكمه ويخاف فيه الهوى الأورع، وفيما يدق حكمه ويخاف فيه الاشتباه: الأعلم.
وانظر مزيد التفصيل: " السياسة الشرعية " لابن تيمية. "تسهيل النظر وتعجيل الظفر "الماوردي "درر السلوك في سياسة الملوك".(11/5754)
وكيف يفلح من ولى هذا القاضي؟! وكيف يفلح الرعايا؟! كلا والله، بل هو بلاء صبه الله عليهم، ومحنة امتحنهم الله بها، وسبب من أسباب تعجيل العقوبة لهم وله، ولمن ولاه عليهم من أهل الأمر.(11/5756)
[القسم الثالث]
وأما القسم الثالث من الأقسام التي ذكرناها، وهم الساكنون في المدن، فهم وإن كانوا أبعد الناس عن الشر، وأقربهم إلى الخير، لكن غالبهم وجمهورهم عامة وجهال يهملون كثيرا مما أوجبه الله عليهم من الفرائض جهلا وتساهلا.
فمن ذلك: أنهم يصلون أغلب الصلوات في غير أوقاتها، فيأتون بصلاة الفجر حال طلوع الشمس وبعدها، وبصلاة العصرين قريب غروب الشمس، وبصلاة العشاءين إما جمعا في وقت الأولى، أو في وقت الأخرى.
ومع هذا فهم لا يحسنون أركان الصلاة، ولا أذكارها إلا الشاذ النادر منهم، ويتعاملون في بيعهم وشرائهم معاملات تخالف المسلك الشرعي، وكثيرا ما يقع الربا ويتكلمون [12ب] بالألفاظ الكفرية، وينهمك كثير منهم في معاص صغيرة وكبيرة، وهم أقرب الناس إلى الخير، وأسرعهم قبولا للتعليم، إذا وجدوا من يعزم عليهم عزيمة مستمرة دائمة، غير منقوصة في أقرب وقت، كما يقع في ذلك كثير.
ومن عدا العامة: فمن لم يكن له اشتغال بالعلم، ولا مجالسة لأهله حكمه حكم العامة في دينه، بل هو واحد منهم، وإن كان له نسب شريف وبيت رفيع.
وربما كان هذا الذي يظن في نفسه أنه خارج من العامة، وداخل في الخاصة متعلقا بشيء من الولايات الدينية أو الدنيوية، وهو يخبط خبط عشواء، ويظلم العباد والبلاد، جهلا منه أو تجاهلا وجرأة على الله.
والواجب على إمام المسلمين - حفظه الله - وعلى أعوانه، افتقاد هؤلاء، والبحث عن مباشراتهم، وعن كيفية معاملاتهم لمن يتولون عليه، أو يتوسطون [13] له، وقد يكون بعض هؤلاء المتولين للأعمال، أو المتوسطين على شيء من أهل العلم، وليس كونه من أهل العلم موجبا لترك البحث عن أحواله، والتفتيش عن معاملته لمن هو متول عليهم، أو متوسط لهم، فإن كونه عالما أو متعلما لا يوجب له العصمة، ولا يسد عنه(11/5757)
باب الاختيار والبحث، فإن كثيرا من أهل العلم من يكون علمه حجة عليه، ووبالا له، والدنيا مؤثرة، وحبها رأس كل خطيئة.
والله المسئول أن يلهم إمام المسلمين - أقام الله به أركان الدين - إلى القيام بما أرشدنا إليه في هذه الرسالة، وإبلاغ الجهد في أحوال هذه الثلاثة الأقسام التي ذكرناها، فإنه إذا فعل ذلك صلحت له أحوال الدين والدنيا، ودفع الله عن رعاياه كل محنة، ولم يسلط عليهم غيرهم قط، كائنا من كان [13 ب]، وليس في هذا مشقة عليه، ولا نقص في دنياه، بل هو الدواء المجرب لتوفر الخير، وتضاعف المدد، وصفو العيش، وراحة القلب، وطول العمر، واتساع البلاد وإذعان العباد.
بهذا جاءت الشريعة المطهرة، ونطقت كلياتها وجزئياتها، وفي هذا المقدار كفاية.
والله ولي التوفيق [14أ].(11/5758)
(189) 33/ 4
القول الحسن في فضائل أهل اليمن
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(11/5759)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: القول الحسن في فضائل أهل اليمن.
2 - موضوع الرسالة: آداب.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين وبعد:
فهذا البحث في الأدلة الواردة في فضائل اليمن أردت ذكر بعضها.
4 - آخر الرسالة: وقد ذكر جماعة من أهل العلم أحاديث في فضل اليمن وأهله وهو يفضي، عنها ما ثبت في الصحيحين حسبما قدمنا، فلنقتصر على هذا المقدار، والحمد لله أولا وآخرا، كتبه مؤلفه غفر الله له.
5 - نوع الخط، خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 5 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 33 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5761)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين، وبعد:
فهذا البحث في الأدلة الواردة في فضل اليمن، أردت ذكر بعضها هاهنا لينشره بذلك صدر كل يماني، وينثلج بها قلبه، ويطمئن بها خاطره، ويعلم أن كونه من أهل هذا القطر من النعم التي أنعم الله بها عليه، لدخوله في عدادهم، وكونه من بلادهم.
لتناول الأدلة التي ستمر بك له على أي صفة كان، ومن أي فريق من أهلها يعد.
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (1).
أخرج ابن جرير (2) عن شريح بن عبيد قال: لما أنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الآية، قال عمر: أنا وقومي يا رسول الله، قال: " لا بل هذا وقومه " يعني أبا موسى الأشعري.
وأخرج ابن سعد (3)، وابن أبي شيبة في مسنده (4)، وعبد بن حميد (5)، والحكيم الترمذي (6)، وابن جرير (7)، وابن المنذر (8)، وابن أبي حاتم (9) ...........................................................
_________
(1) [المائدة: 54]
(2) في "جامع البيان" (4 ج6/ 285) بسند منقطع.
لأن شريح بن عبيد لم يسمع من عمر فالسند منقطع.
(3) في "الطبقات" (4/ 107)
(4) في "مصنفه" (12/ 123)
(5) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102)
(6) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102)
(7) في "جامع البيان" (4 ج6/ 285)
(8) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102)
(9) في تفسيره (4/ 1160 رقم 6535)(11/5765)
والطبراني (1)، وأبو الشيخ (2)، وابن مردويه (3)، والحاكم (4)، وصححه، والبيهقي في الدلائل (5) عن عياض الأشعري قال: لما نزلت: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "هم قوم هذا" وأشار إلى أبي موس الأشعري.
وأخرج أبو الشيخ (6)، وابن مردويه (7)، والحاكم (8) في جمعه لحديث شعبة، والبيهقي (9)، وابن عساكر (10) عن أبي موسى الأشعري قال: تليت عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} الآية، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "قومك يا أبا موسى أهل اليمن". [1ب].
وأخرج ابن أبي حاتم (11) [والحاكم] (12) في الكنى، والطبراني في الأوسط (13)، وأبو الشيخ (14) بسند حسن عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} الآية، فقال: "هؤلاء قوم من أهل اليمن [من] (15) كندة [من] (16) السكون ثم ..............................
_________
(1) في "المعجم الكبير" (17/ 371)
(2) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102)
(3) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102)
(4) في "المستدرك" (2/ 313) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه
(5) (5/ 351 - 352)
(6) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102)
(7) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102)
(8) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102)
(9) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102)
(10) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102)
(11) في تفسيره (4/ 1160 رقم 6534)
(12) زيادة من الدر المنثور (3/ 102)
(13) (2/ 103 رقم 1392)
(14) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102).
قال ابن كثير في تفسيره (3/ 135 - 136) وهذا حديث غريب جدا
(15) في المخطوط ثم والتصويب من الدر المنثور (3/ 103)
(16) في المخطوط ثم والتصويب من الدر المنثور (3/ 103)(11/5766)
[من] (1) تجيب ".
وأخرج البخاري في تاريخه (2)، وابن أبي حاتم (3)، وأبو الشيخ (4) عن ابن عباس - في الآية - قال: هم قوم من أهل البيت، ثم من كندة، ثم من السكون.
وأخرج البخاري في تاريخه (5) عن القاسم بن مخيمرة قال: أتيت ابن عمر فرحب بي، ثم تلا: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} الآية، ثم ضرب على منكبي وقال: أحلف بالله إنهم لمنكم أهل اليمن.
إذا عرفت أن هذه الآية نازلة فيهم بهذه الأحاديث، فاعلم أنها قد اشتملت على مناقب لأهل اليمن.
الأولى منها: اختصاص أهل اليمن بهذه المزية العظيمة، وهي أن الله - سبحانه - يأتي بهم عند ارتداد غيرهم من قبائل العرب التي هي ساكنة في هذه الجزيرة على اختلاف أنواعها، وتباين صفاتها، فإن ذلك لا يكون إلا لمزيد شرفهم، وأنهم حزب الله - عز وجل - عند خروج غيرهم من هذا الدين، وتمكن الإسلام في قلوبهم، وعدم تزلزل أقدامهم عند تزلزل أقدام غيرهم، وقد نقل الإخباريون والمفسرون أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة قبيلة من قبائل العرب، وأهل اليمن باقون على الإسلام كلهم متمسكون بشعائره، مقاتلون من خرج عنه.
المنقبة الثانية: قوله - عز وجل - {يُحِبُّهُمْ} فليس بعد هذه الكرامة والتشريف
_________
(1) زيادة يستلزمها السياق.
(2) (3/ 2\ 195 رقم 2151).
(3) في تفسيره (4/ 1160 رقم 6536).
(4) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 103).
(5) (4/ 1/ 160 - 161 رقم 718).
قال ابن جرير في "جامع البيان" (4\ج6/ 285): وأولى الأقوال عندنا بالصواب ما روي به الخبر عن رسول الله أنهم أهل اليمن قوم أبي موسى الأشعري.(11/5767)
من الله - سبحانه - شيء؛ فإن من أحبة الله فقد سعد سعدا لا يماثله سعد، وشرف شرفا لا يقاربه شرف، وفاز فوزا لا يعادله فوز، وأكرم كرامة لا تساويها كرامة، فإن أعظم ما يطلبه عباد الله المغفرة للذنوب، والخاصة منهم يطلبون الرضا عليهم منه.
وحاصل الرضا هو التغاضي عن المؤاخذة، والتجاوز عن التفريط، ولا يستلزم المحبة؛ فإنها أمر وراء ذلك.
ومن حصلت له فقد حصلت المغفرة والرضا مع مزيد خصوصية، وهي المحبة، فإنه ينشأ عنها الإكرام بكل ما يهواه المحبوب، وحصول ما يريده ويطلبه، وهذا والله المثل الأعلى كما هو معلوم بالوجدان أن المحب يتقرب إلى محبوبه بكل ما يعلم أن له فيه رغبة كائنا ما كان، وهذه رتبة تستلزم عدم المؤاخذة، ودخول الجنة، كما قال الله - عز وجل - رادا على اليهود - حيث قال: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} فأفادت هذه الآية أن من يحبه الله لا يعذبه بل يحبوه بأنواع الكرامات، ونفائس التفضلات، وأحاسن العطيات كما يستفاد من معنى المحبة والحب والحبيب والمحبوب.
المنقبة الثانية: قوله: {وَيُحِبُّونَهُ} وهذه كرامة جليلة، ومنقبة جميلة، فإن كون العبد الحقير محبا لربه - عز وجل - هي الغاية القصوى في الإيمان الذي هو سبب الفوز بالنعيم الدائم، وسبب النجاة من العذاب الأليم، ومن أعظم محبة الله - عز وجل - ودلائل صحتها اتباع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في أقواله وأفعاله، والاقتداء به، والاهتداء بهدية الشريف، [2أ] قال الله - عز وجل -: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية (1) فمن أحب الله، وتتبع رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فاز بحب الله - عز وجل - له، وبمحو ذنوبه، وارتفاع درجته
_________
(1) [آل عمران: 31](11/5768)
بين عباد الله المؤمنين.
المنقبة الرابعة: قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فإن الذلة لأهل الإيمان من أشرف خصال المؤمنين، وأعظم مناقبهم، وهو التواضع الذي يحمده الله - عز وجل -، ويرفع لصاحبه الدرجات، وفي ذلك الخلوص من معرة كثير من خصال الشر التي من جملتها الكبر والعجب (1).
المنقبة الخامسة: قوله - عز وجل -: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} فإن ذلك هو أثر الصلابة في الدين، والتشدد في القيام به، والكراهة لأعدائه، والغلظة على الخارجين عنه.
المنقبة السادسة: قوله - سبحانه -: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فإن الجهاد هو رأس الواجبات الشرعية، وبه يقوم عماد الدين، ويرتفع شأنه، وتتسع دائرة الإسلام، وتتقاصر جوانب الكفر ويهدم أركانه.
المنقبة السابعة: قوله - سبحانه -: {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} وهذا هو شأن الإخلاص، والقيام لله - عز وجل -، وعدم المبالاة يخالف الحق، ويباين الدين.
وجاء بالنكرة في سياق النفي فشمل كل لائمة تصدر من لائم، أي لائم كان، سواء كان جليلا أو حقيرا، قريبا أو بعيدا، وما أدل هذه المنقبة على قيامهم في كل أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، القيام الذي لا تطاوله الجبال، ولا تروعه الأهوال، ولما جمع الله - عز وجل - لهم هذه المناقب في هذه الآية الشريفة نبههم على عظيم العطية، وجليل الإحسان فقال {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (2) ففيه
_________
(1) قال القرطبي "الجامع لأحكام القرآن " (6/ 220) قال ابن عباس: هم للمؤمنين كالوالد للولد والسيد للعبد، وهم في الغلظة على الكفار كالسبع على فريسته قال تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ).
(2) [المائدة: 54].(11/5769)
تلميح إلى أنه قد جمع لهم من فضله ما لم يتفضل به على غيرهم من عباده، وكأن ذلك كالجواب على من رام أن يحصل له ما حصل لهم من هذه المناقب العظيمة، أو نافسهم فيها، أو حسدهم عليها.
وقد ذكر جماعة من المفسرين في مناقب أهل اليمن آيات قرآنية منها ما ورد في فضل مكة والمدينة، وهما من اليمن، ومنها ما ورد في فضل المقدس، والحرم الشريف وهما من اليمن، ومنها قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (1) فمدحهم الله - سبحانه - بقوة اليقين، ومنها قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (2)، ومنها قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أنا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} (3) فإنها في اليمن.
_________
(1) [البقرة: 197].
أخرج البخاري في صحيحه رقم (1523) وأبو داود رقم (1730) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى).
وهو حديث صحيح.
(2) [الحج: 27].
أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره (8/ 2487 رقم 13878) عن ابن عباس قال لما أمر الله إبراهيم أن ينادي في الناس بالحج صعد أبا قبيس فوضع أصبعيه في أذنيه ثم نادى: إن الله كتب عليكم الحج فأجيبوا ربكم، فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء وأول من أجابه أهل اليمن".
وانظر: "الدر المنثور" (6/ 32)
(3) [السجدة: 27].
أخرجه ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (11\ج21/ 115) وابن أبي حاتم في تفسيره (9/ 3111 رقم 17861).
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 556) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) قال: أرض اليمن(11/5770)
ومنها قوله: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} (1) فإنها في اليمن (2).
ومنها: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} (3) فقد قيل: إن المراد بالناس هنا أهل اليمن (4).
وأما ما ورد في فضلهم من السنة:
فما أخرجه البخاري (5) ومسلم (6) وغيرهما (7) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "أتاكم أهل اليمن، أرق أفئدة، وألين قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية"، وفي لفظ للبخاري (8) " أتاكم أهل اليمن، أضعف
_________
(1) [سبأ: 15]
(2) أخرج ابن جرير في "جامع البيان" (12/ 22\ 76) عن عروة المرادي عن رجل منهم يقال له، فروة بن مسيك، قال: " قلت: يا رسول الله أخبرني عن سبأ ما كان؟ رجلا كان أو امرأة أو جبلا، أو دواب؟ فقال: لا، كان رجلا من العرب وله عشرة أولاد، فتيمن منهم ستة، وتشاءم أربعة، فأما الذين تيمنوا، منهم قلندة، وحمير، والأزد والأشعريون، ومذحج، وأنمار الذين منهم خثعم وبجيلة، وأما الذين تشاءموا فعاملة، وجذام، ولخم، وغسان.
وانظر "الدر المنثور" (6/ 682)
(3) [النصر: 1 - 2]
(4) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (8/ 664) عن أبي هريرة قال لما نزلت (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " جاء أهل اليمن هم أرق قلوبا الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية".
وعزاه لابن مردويه.
وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) وجاء أهل اليمن رقيقة أفئدتهم وطباعهم سجية قلوبهم عظيمة حسنتهم دخلوا في دين الله أفواجاً".
(5) في صحيحه رقم (4388)
(6) في صحيحه رقم (82/ 52)
(7) كأحمد في "المسند" (2/ 480، 488) والترمذي رقم (3935)
(8) في صحيحه رقم (4390)(11/5771)
قلوبا، وأرق أفئدة "، وفي لفظ لمسلم (1) " جاء أهل اليمن، هم أضعف قلوبا، وأرق أفئدة، الفقه يمان، والحكمة يمانية ".
وأخرج البخاري (2) ومسلم (3) وغيرهما (4) من حديث [2ب] ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " الإيمان هاهنا " وأشار بيده إلى اليمن. . - الحديث -.
وهذه الألفاظ الثابتة في الصحيحين وغيرهما قد اشتملت على مناقب عظيمة، وفضائل كريمة.
الأولى منها: أنه أثبت لهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - رقة الأفئدة، ولين القلوب، وهذه منقبة عظيمة، لأن هذا الوصف هو شأن أهل الإيمان، ولهذا جعل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - القسوة، وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل، حيث يطلع قرن الشيطان في ربيعة ومضر، هكذا في الصحيحين (5)، ولفظ (6) لهما أنه قال بعد قوله: " الإيمان يمان، والحكمة يمانية، ورأس الكفر قبل المشرق"، فرقة الفؤاد، ولين القلب، وصفان ملازمان للإيمان القوي والدين السوي (7).
_________
(1) في صحيحه رقم (84/ 52)
(2) في صحيحه رقم (3302)
(3) في صحيحه رقم (51)
(4) كأحمد (2/ 541)
(5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3302) ومسلم رقم (81/ 51)
(6) البخاري في صحيحه رقم (3301) ومسلم في صحيحه رقم (90/ 52)
(7) قال الخطابي: قوله " هم أرق أفئدة وألين قلوبا " أي لأن الفؤاد غشاء القلب، فإذا رق نفذ القول وخلص إلى ما وراءه، وإذا غلظ بعد وصوله إلى داخل، وإذا كان القلب لينا علق كل ما يصادفه "فتح الباري" (8/ 100)، قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (2/ 33 - 34): قال الشيخ وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألين قلوبا وأرق أفئدة المشهور أن الفؤاد هو القلب فعلى هذا يكون كرر لفظ القلب وهو أولى من تكريره بلفظ واحد وقيل الفؤاد غير القلب وهو عين القلب وقيل باطن القلب وقيل غشاء، وأما وصفها باللين والرقة والضعف فمعناه أنها ذات خشية واستكانة سريعة الاستجابة والتأثر بقوارع التذكير سالمة من الغلظ والشدة والقسوة التي وصف بها قلوب الآخرين.
وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (1/ 301): وقد يكون الإشارة بلين القلب إلى خفض الجناح، ولين الجانب، والانقياد والاستسلام وترك الغلو، وهذه صفة الظاهر، والإشارة برقة الأفئدة إلى الشفقة على الخلق والعطف عليهم والنصح لهم، وهذه صفة الباطن وكأنه أشار إلى أنهم أحسن أخلاقا ظاهرا وباطنا.
* الفدادين: الذين تعلو أصواتهم في حروثهم ومواشيهم، واحدهم: فداد يقال: فد الرجل يفد فديدا إذا اشتد صوته.
وقيل: هم المكثرون من الإبل.
وقيل: هم الجمالون والبقارون والحمارون والرعيان.
"النهاية" (3/ 419)(11/5772)
الثانية منها: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "الإيمان يمان" فإن هذا اللفظ يشعر بقصر الإيمان عليهم، بحيث لا يتجاوزهم إلى غيرهم، لكن لما كان الإيمان قد وجد في غيرهم من القبائل وسكان الأرض كان هذا الحصر محمولا على المبالغة في إثبات الإيمان لهم (1)، وأن إيمانهم هو الفرد الكامل من أفراد الإيمان لا يساويه غيره، ولا يدانيه سواه، وهذا هو الحصر الذي يسميه أهل البيان ادعائيا (2) ولا شك ولا ريب أن الإيمان
_________
(1) قال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (1/ 302).
قيل معناه: أهل اليمن أكمل الناس إيمانا
(2) يشير إلى القصر الحقيقي الادعائي ويكون على سبيل المبالغة بفرض أن ما عدا المقصور عليه لا يعتد به.
والقصد الحقيقي هو أن يختص المقصور بالمقصور عليه بحسب الحقيقة والواقع بألا يتعداه إلى غيره أصلا.
"معترك الأقران " (1/ 1360 - 137)، انظر: " جواهر البلاغة " (ص 149)(11/5773)
يتفاوت، فمن الناس من يكون إيمانه كالجبال الرواسي التي لا يحركها شيء، ولا يتزلزل بالشبه وإن بلغت أي مبلغ، ومن الناس من يكون إيمانه دون ذلك، وقد جاءت الأدلة الصحيحة قاضية بأن الإيمان يزيد وينقص، فلله هذه المنقبة التي تتقاصر الأذهان عن تصور كنهها، وبلوغ غايتها.
وبالجملة فالإيمان هو رأس مال كل من يدين بهذا الدين، فإذا فاقوا فيه غيرهم فقد ظفروا بالخير أجمع، ونالوا الغاية التي ليس وراءها غاية، والمنقبة التي تتقاصر عندها كل منقبة.
الثالثة منها: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "والحكمة يمانية" ففي هذا إثبات الحكمة (1) لهم على طريقة المبالغة، وأن لهم فيها الحظ الذي لا يدانيه حظ، والنصيب الذي لا يساويه نصيب.
والحكمة هي: العلم بالله وبشرائعه، والفهم لحججه، وكل ما يتعلق بذلك من العلوم العقلية والنقلية، فقد أثبت لهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - العلم على وجه لا يلحق بهم غيرهم فيه، ومن جمع الله له بين الإيمان على الوجه الأكمل، والعلم على الوصف الأتم فقد ظفر بالسعادة العاجلة والآجلة، ونال الخير السابق واللاحق على أبلغ
_________
(1) الحكمة عند العرب: ما منع من الجهل والجفاء، والحكيم: من منعه عقله وحلمه من الجهل، حكاه ابن عرفة، وهو مأخوذ من حكمة الدابة، وهي الحديدة التي في اللجام، سحبت بذلك لأنها تمنعها، وهذه الأحرف: ح ك م حيثما تصرفت، فيها معنى المنع قال الشاعر - جرير -:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني خشيت عليكم أن أغضبا
وقيل: في قوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) [البقرة: 269]: أنها الإصابة في القول والفهم، قال مالك: الحكمة: الفقه في الدين.
انظر: "المفهم" (1/ 238)(11/5774)
وجه، وأكمل طريقة.
الرابعة منها: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " والفقه يمان " (1) فإن في هذا إثبات الفقاهة لهم على الوجه الأتم، وأنهم قد ظفروا منها بالفرد الكامل الذي لا يلحق به غيرهم - ومن أعطاه الله - سبحانه - الفهم الكامل لكتاب الله - سبحانه -، ولسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ولاستخراج الوجوه منهما التي هي الفقه في الدين فقد ضم إلى علمه صحة فهمه، وقوة إدراكه، وحسن تصرفه في الشرعيات والعقليات فكان الفرد الكامل في طوائف أهل العلم.
ومن مناقبهم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - دعا لهم [3أ] فقال: [اللهم أقبل بقلوبهم] كما أخرجه الترمذي (2) من حديث أنس.
وفي لفظ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " هم مني وإلي " كما أخرجه الطبراني (3) من حديث عبد الله بن عمرو.
_________
(1) قال النووي في شرحه " لصحيح مسلم " (2/ 33) فالفقه هنا عبارة عن الفهم في الدين واصطلح بعد ذلك الفقهاء وأصحاب الأصول على تخصيص الفقه بإدراك الأحكام الشرعية العملية بالاستدلال على أعيانها، وأما الحكمة ففيها أقوال كثيرة مضطربة قد اقتصر كل من قائليها على بعض صفات الحكمة، وقد صفا لنا منها أن الحكمة عبارة عن العلم المتصف بالأحكام المشتملة على المعرفة بالله تبارك وتعالى المصحوب بنفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق والعمل به، والصد عن اتباع الهوى والباطل، والحكيم من له ذلك. وقال أبو بكر بن دريد كل كلمة وعظتك وزجرتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة.
(2) في " السنن " رقم (3934) بإسناد حسن.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه من حديث زيد بن ثابت إلا من حديث عمران القطان.
عن أنس، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أن رسول الله نظر قبل اليمن، فقال: " اللهم أقبل بقلوبهم وبارك لنا في صاعنا ومدنا ".
(3) في " الكبير " (19/ 707) مختصراً.
وأخرجه الترمذي في " السنن " رقم (4947) وأحمد في " المسند " (4/ 129) وأبو يعلى رقم (7386) والدولابي في " الكنى " (1/ 41) والحاكم (2/ 138).
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث وهيب بن جرير.
وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
عن عامر بن أبي عامر الأشعري عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: نعم الحي الأسد والأشعريون لا يفرون في القتال، ولا يغلون، هم مني وأنا منهم ".
قال عامر: فحدثت به معاوية فقال: ليس هكذا قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكنه قال: " هم مني وإلي " فقال: ليس هكذا حدثني أبي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكنه قال: " هم مني وأنا منهم " قال: فأنت إذا أعلم بحديث أبيك قال عبد الله. هذا أجود الحديث ما رواه إلا جرير.
وهو حديث ضعيف.
انظر: " الضعيفة " (4692).
* قيل الأٍسد: الأزد.(11/5775)
وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن " كما أخرجه الإمام أحمد (1) من حديث أبي هريرة.
_________
(1) لم أجده من حديث أبي هريرة.
أخرجه الطبراني في " الكبير " (7/ 52 رقم 6358) من حديث سلمة بن نفيل السكوتي قال: دنوت من رسول اله حتى كادت ركبتاي تمسان فخذه، فقلت: يا رسول الله تركت الخيل وألقي السلاح، وزعم أقوام أن لا قتال. فقال: " كذبوا! الآن جاء القتال، لا تزال من أمتي أمة قائمة على الحق ظاهرة على الناس يزيغ الله قلوب قوم قاتلوهم لينالوا منهم " وقال وقد حول ظهره إلى اليمن: " إني أجد نفس الرحمن من هاهنا، ولقد أوحي إلي مكفوت غير ملبث وتتبعوني أفناداً. والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة وأهلها معانون عليها ".
قلت: وأخرجه أحمد (4/ 104) والدارمي (1/ 29) وأبو يعلى رقم (6861) والحاكم (4/ 447 - 448) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي بقوله: لم يخرجاه لأرطأة وهو ثبت، والخبر من غرائب الصحاح.
بنحوه: دون قوله: " إني أجد نفس الرحمن من هاهنا ".
وأورده الهيثمي في " المجمع " (7/ 306) وقال: رواه أحمد والطبراني والبزار وأبو يعلى ورجاله ثقات.(11/5776)
وقد ذكر جماعة من أهل العلم أحاديث في فضل اليمن وأهله، وهو يغني عنها ما ثبت في الصحيحين حسبما قدمنا، فلنقتصر على هذا المقدار، والحمد لله أولاً وآخراً.
كتبه مؤلفه - غفر الله له -.(11/5777)
(190) 24 - /3
مجموعة من الحكم لبعض الحكماء المتقدمين
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(11/5779)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: مجموعة من الحكم لبعض الحكماء المتقدمين.
2 - موضوع الرسالة: آداب.
3 - أول الرسالة: مما نقله ابن أبي أصيبعة في كتابه المعروف بعيون الأنباء في تراجم الأطباء من الحكم المروية عن الحكيم أسقلينوس. . .
4 - آخر الرسالة: ونقل من كلام الفارابي وابن سينا ونحوهما ما لم أستحسن نقله هاهنا، ثم والحمد لله.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 7 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 24 سطراً.
8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5781)
بين يدي الرسالة:
اعلم أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معلم للناس والبشرية جميعاً، على أميته وصحراوية بيئته.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2](11/5785)
مما نقله ابن أبي أصيبعة (1) في كتابه المعروف " بعيون الأنباء في تراجم الأطباء " (2) من الحكم المروية عن الحكيم إسقلنيوس (3) وهو أول الحكماء اليونانيين، قوله: من عرف الأيام لم يغفل الاستعداد. كم من أمر أبغضت أوائله، وبكي عند أواخره عليه، المتعبد بغير معرفة كحمار الطاحون يدور ولا يبرح، ولا يدري ما هو فاعل، فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها.
وقال في وصف الدنيا: أمس آجل، واليوم عمل، وغداً أمل.
ومما نقله في ترجمة أبقراط (4) من الحكم التي قالها منها قوله: إنما نأكل لنعيش، لا نعيش لنأكل. وقال: لا تأكل حتى تأكل. يتداوى كل عليل بعقاقير أرضه؛ فإن الطبيعة تفرغ إلى عادتها. وقال: مثل المني في الظهر (5) كمثل الماء في البئر، إن نزفته فات، وإن
_________
(1) أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي موفق الدين، أبو العباس بن أبي أصيبعة. الطبيب المؤرخ صاحب " عيون الأنباء في طبقات الأطباء ".
ولد سنة 596 بدمشق وفي سنة 668 هـ زار مصر ومن كتبه " التجاريب والفوائد "، " حكايات الأطباء في علاجات الأدواء "، " معالم الأمم "، وله شعر كثير.
(2) رتبه على خمسة أبواب [خمسة عشر باباً] الأول في كيفية وجود صناعة الطب، الثاني في طبقات الأطباء الذين ظهرت لهم أجزاء من صناعة الطب. الثالث: في طبقات الأطباء اليونانيين من نسل إسقلبيوس الرابع في طبقات الأطباء اليونانيين، الخامس في طبقات الأطباء الذين كانوا منذ زمان جالينوس وقريباً منه. . . ".
" كشف الظنون " (2/ 1185)، " الأعلام " للزركلي (1/ 197).
(3) انظر " الفهرست " لابن النديم (ص 398 - 399).
(4) هو بقراط بن إيراقليس من تلاميذ إسقلنيوس. طبيب فيلسوف قال يحيى النحوي: بقراط وحيد دهره الكامل الفاضل المبين المعلم لسائر الأشياء.
" الفهرست " (ص 400 - 402).
(5) قال تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) [الطارق: 5 - 7].(11/5787)
تركته غار.
وقال: المجامع يقدح من ماء الحياة. وسئل في كم ينبغي للإنسان أن يجامع؟ قال: في كل سنة مرة، قيل له: فإن لم يقدر؟ قال: في كل شهر مرة، قيل له: فإن لم يقدر؟ قال: في كل أسبوع مرة، قيل له: وإن لم يقدر؟ قال: هي روحه متى شاء أخرجها (1) وقال: إذا كان الغدر في الناس طباعا؛ كان الثقة بكل أحد عجزا، وإذا كان الرزق مقسوما؛ كان الحرص باطلاً (2) وقال: قلة العيال أحد اليسارين (3)، وقال العافية ملك خفي لا يعرف قدرها إلا من عدمها (4). وقال: الأمن مع الفقر خير من الغنى مع الخوف.
وقال: محاربة الشهوة أيسر من معالجة العلة. وقال: التخلص من الأمراض الصعبة صناعة كبيرة.
وقال عند موته: خذوا جامع العلم مني: من كثر نومه، ولانت طبيعته [1]، ونديت
_________
(1) قال تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة: 223].
(2) قال تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات: 22 - 23].
(3) عن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم ".
أخرجه أبو داود رقم (2050) والنسائي (6/ 65) والحاكم (2/ 162) وصححه ووافقه الذهبي.
وهو حديث صحيح.
(4) أخرج أبو داود رقم (5075) والنسائي في " عمل اليوم والليلة " رقم (566) والحاكم في " المستدرك " (1/ 517) وصححه ووافقه الذهبي.
عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: لم يكن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدع هؤلاء الكلمات حين يمسي وحين يصبح: " اللهم إني أسألك العافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي. . . ".
ونقول: اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة.(11/5788)
جلدته طال عمره.
وقال: من صحب السلطان فلا يجزع من قسوته كما لا يجزع الغواص من ملوحة البحر.
وقال: من أحب لنفسه الحياة أماتها. وقال: العلم كثير، والعمر قصير، فخذ من العلم ما يبلغك قليله إلى كثيره. وقال: استدامة الصحة تكون بترك التكاسل عن الرياضة، وبترك الامتلاء من الطعام والشراب (1). وقال: الإقلال من الضار خير من الإكثار من النافع. وقال: ليس معي من فضيلة العلم إلا علمي بأني لست بعالم (2) وقال: إن أحببت أن لا تفوتك شهوتك فاشته ما يمكنك. وقال: لأن أدع الحق جهلا به أحب إلي من أن أدعه زهدا فيه.
وقال: العلم روح (3)، والعمل بدن، والعلم أصل، والعمل فرع، والعلم والد،
_________
(1) قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكيلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه وثلث لنفسه " من حديث المقدام بن معديكرب - رضي الله عنه -.
أخرجه الترمذي رقم (2380) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه رقم (3349) وابن حبان في صحيحه رقم (5236) والحاكم (4/ 121).
وهو حديث صحيح.
(2) قال الماوردي في " أدب الدنيا والدين " (ص81): قلما تجد بالعلم معجبا ربما أدرته مفتخرا، إلا من فيه مقلا ومقصرا، لأنه قد يجهل قدره، ويحسب أنه نال بالدخول أكثره. فأما أكثره من كان فيه متوجها، ومنه مستكثرا، فهو يعلم من بعد غايته، والعجز عن إدراك نهايته. ما يصده عن العجب به وقد قال الشعبي: العلم ثلاثة أشبار، فمن نال منه شبرا شمخ بأنفه، وظن أنه ناله! ومن نال منه الشبر الثاني صغرت إليه نفسه وعلم أنه لم ينله، وأما الشبر الثالث فهيهات! لا يناله أحد أبدا ".
(3) قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) [محمد: 19] فبدأ بالعلم وأن العلماء هم ورثة الأنبياء؛ ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر، ومن سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له طريقا إلى الجنة.
وقال جل ذكره: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28] وقال: (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [العنكبوت: 43]، (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 10]. وقال (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 9]. وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما العلم بالتعلم ".
انظر: " فتح الباري " (1/ 161).(11/5789)
والعمل مولود. وكان العمل لمكان العلم، ولم يكن العلم لمكان العمل. وقال: العمل خادم للعلم، والعمل غاية، والعلم رائد، والعمل مرسل (1).
ومما نقله من كلمات فيثاغورس (2) الحكمية: الأقوال الكثيرة في الله - سبحانه - علامة تقصير الإنسان عن معرفته. وقال: احذر أن تركب قبيحا من الأمر لا في خلوة، ولا مع غيرك (3)، وليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من كل ....................
_________
(1) قال الماوردي في " أدب الدنيا والدين " (ص84): وليكن من شيمته العمل بعلمه، وحث النفس على أن تأمر بما يأمر به ولا يكن ممن قال الله تعالى فيهم: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) قال بعض العلماء: ثمرة العلم أن يعمل به، وثمرة العمل أن يؤجر عليه.
(2) فيثاغورس ولد في ساموس باليونان، عاش فيما بين 572 - 497 قبل الميلاد وهو فيلسوف يوناني ذاع صيته لمعلوماته العلمية والرياضية.
" تاريخ الفلسفة اليونانية " (ص 20 - 21).
(3) أخرج مسلم في صحيحه رقم (38/ 8) من حديث عمر بن الخطاب وفيه: " فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
وأخرج الترمذي في " السنن " رقم (2458) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " استحيوا من الله حق الحياء " قال: قلنا: يا رسول الله! إنا نستحي والحمد لله؟! قال: " ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى. ومن أراد الآخرة، ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك، فقد استحيا من الله الحياء ".
وهو حديث حسن.
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (9) ومسلم رقم (35) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان ".
قال الماوردي في " أدب الدنيا والدين " (ص 242 - 244): الحياء في الإنسان قد يكون ثلاثة أوجه:
1 - الحياء من الله تعالى فيكون بامتثال أوامره والكف عن زواجره.
2 - حياؤه من الناس. فيكون بكف الأذى وترك المجاهرة بالقبيح وهذا من كمال المروءة وحب الثناء.
3 - حياؤه من نفسه: فيكون بالعفة وصيانة الخلوات.
قال بعض الحكماء: ليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من غيرك.
قال بعض الأدباء: من عمل في السر عملا يستحي منه في العلانية، فليس لنفسه عنده قدر.
وهذا النوع من الحياء يكون من فضيلة النفس، وحسن السريرة فمتى كمل حياء الإنسان من وجوهه الثلاثة، فقد كملت فيه أسباب الخير وانتفت عنه أسباب الشر وصار بالفضل مشهورا، وبالجميل مذكورا، وقال بعض الشعراء:
وإني ليثنيني عن الجهل والخنا ... وعن شتم ذي القربى طلائق أربع
حياء وإسلام وتقوى وأنني ... كريم، ومثلي من يضر وينفع(11/5790)
أحد (1) وقال: إذا سمعت كذبا فهون على نفسك الصبر عليه.
وقال: ما لا ينبغي أن تفعله احذر أن تخطره ببالك، وقال: الأشكال المزخرفة، والأمور المموهة في اقتضاء الأزمان تتبهرج.
وقال: الإنسان الذي اختبرته بالتجربة، فوجدته لا يصلح أن يكون صديقا وخلا احذر أن تجعله لك عدوا. وقال: ينبغي أن تعرف الوقت الذي يحسن فيه الكلام، والوقت الذي يحسن فيه السكوت (2).
_________
(1) أخرج مسلم في صحيحه رقم (38/ 8) من حديث عمر بن الخطاب وفيه: " فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
وأخرج الترمذي في " السنن " رقم (2458) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " استحيوا من الله حق الحياء " قال: قلنا: يا رسول الله! إنا نستحي والحمد لله؟! قال: " ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى. ومن أراد الآخرة، ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك، فقد استحيا من الله الحياء ".
وهو حديث حسن.
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (9) ومسلم رقم (35) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان ".
قال الماوردي في " أدب الدنيا والدين " (ص 242 - 244): الحياء في الإنسان قد يكون ثلاثة أوجه:
1 - الحياء من الله تعالى فيكون بامتثال أوامره والكف عن زواجره.
2 - حياؤه من الناس. فيكون بكف الأذى وترك المجاهرة بالقبيح وهذا من كمال المروءة وحب الثناء.
3 - حياؤه من نفسه: فيكون بالعفة وصيانة الخلوات.
قال بعض الحكماء: ليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من غيرك.
قال بعض الأدباء: من عمل في السر عملا يستحي منه في العلانية، فليس لنفسه عنده قدر.
وهذا النوع من الحياء يكون من فضيلة النفس، وحسن السريرة فمتى كمل حياء الإنسان من وجوهه الثلاثة، فقد كملت فيه أسباب الخير وانتفت عنه أسباب الشر وصار بالفضل مشهورا، وبالجميل مذكورا، وقال بعض الشعراء:
وإني ليثنيني عن الجهل والخنا ... وعن شتم ذي القربى طلائق أربع
حياء وإسلام وتقوى وأنني ... كريم، ومثلي من يضر وينفع
(2) قال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص: 55].
وقال سبحانه وتعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاة فَاعِلُونَ) [المؤمنون: 1 - 4].
واعلم أن شروط الكلام أربعة:
1 - أن يكون الكلام لداع يدعو إليه، إما في اجتلاب نفع، أو دفع ضرر.
قال عمر بن عبد العزيز: من لم يعد كلامه من عمله كثرت خطاياه.
وقال بعض الحكماء: عقل المرء مخبوء تحت لسانه.
2 - أن يأتي بالكلام في موضعه.
3 - أن يقتصر منه على قدر حاجته، فإن الكلام إن لم ينحصر بالحاجة، ولم يقدر بالكفاية؛ لم يكن لحده غاية. ولا لقدره نهاية.
وأنشدت لأبي الفتح البستي:
تكلم وسدد ما استطعت فإنما ... كلامك حي والسكوت جماد
فإن لم تجد قولا سديدا تقوله ... فصمتك عن غير السداد سداد
4 - أن يختار اللفظ الذي يتكلم به فلأن اللسان عنوان الإنسان يترجم عن مجهوله، ويبرهن عن محصوله؛ فيلزم أن يكون بتهذيب ألفاظه حريا، وبتقويم لسانه مليا.
" أدب الدنيا والدين " (ص 266 - 268).
* وأخرج البخاري في صحيحه رقم (6478) ومسلم رقم (2988) ومالك (2/ 985) عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن العبد يتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم ".(11/5791)
وقال: بقدر ما تطلب تعلم، وبقدر [2] ما تعلم تطلب. وقال: ليس من شرائط الحكيم أن لا يضجر، ولكن يضجر بوزن. وقال: ليس الحكيم من حمل عليه بقدر ما يطيق فصبر واحتمل، ولكن الحكيم من حمل عليه أكثر ما تحتمل الطبيعة فصبر.
وقال: الدنيا مرة لك وأخرى عليك (1)، فإن توليت فأحسن (2)، وإن تولوك
_________
(1) قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140].
قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (4/ 218): قيل: هذا في الحرب، تكون مرة للمؤمنين لينصر الله عز وجل دينه، ومرة للكافرين إذا عصى المؤمنون ليبتليهم، ويمحص ذنوبهم، فإذا لم يعصوا؛ فإن حزب الله هم الغالبون.
وقيل: (نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) من فرح وغم وصحة وسقم وغنى وفقر، والدولة الكرة، قال الشاعر:
فيوم لنا ويوم علينا ... ويوم نساء ويوم نسر
وقيل: يوم لك، ويوم عليك، ويوم لا لك ولا عليك.
يساق في تقلب الأيام وعدم بقائها على وتيرة واحدة.
انظر: " الأمثال اليمانية " (2/ 1389). للقاضي إسماعيل بن علي الأكوع.
" مجمع الأمثال " (3/ 541) للميداني.
(2) قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كلكم راع ومسئول عن رعيته، فالإمام راع، وهو مسئول عن رعيته. . . . " من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (893) وأطرافه (2409، 2554، 2558، 2751، 5188).
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (7151) ومسلم رقم (142) عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم، إلا حرم الله عليه الجنة ".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (1750) ومسلم رقم (142) عن معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما من عبد استرعاه الله رعية، فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة ".(11/5792)
فلن (1).
وقال: من استطاع أن يمنع نفسه من أربعة أشياء فهو خليق أن لا ينزل به المكروه كما ينزل بغيره: العجلة، واللجاجة (2)، والعجب (3) والتواني، فثمرة العجلة الندامة
_________
(1) طاعة الأئمة واجبة إلا في معصية الله.
قال تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59].
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (7143) من حديث أنس مرفوعا: " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله ".
(2) اللجاج: التمادي في العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه، وقد لج في الأمر يلج لجاجا. قال تعالى: (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [المؤمنون: 75].
" مفردات ألفاظ القرآن " (ص736).
وقيل: الحق أبلج والباطل لجج أي يردده من غير أن ينفذ.
قيل: اللجاج: التمادي في الخصومة.
" لسان العرب " (12/ 240).
أخرج مسلم في صحيحه رقم (2594) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه، ولا نزع منه إلا شانه ".
(3) من أسباب الكبر - يكون بالمنزلة وما تظنه من علوها -:
1 - علو اليد ونفوذ الأمر.
2 - قلة مخالطة الأكفاء.
أما الإعجاب يكون في النفس وما تظنه من فضائلها. ومن أسبابه.
1 - كثرة مديح المقربين.
2 - إطراء المتملقين الذين استبضعوا الكذب والنفاق، واستصحبوا المكر والخداع.
لذلك قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " احثوا في وجوه المداحين التراب " أخرجه مسلم في صحيحه رقم (3002) من حديث المقداد.
" أدب الدنيا والدين " (ص288). " تسهيل النظر " (ص51 - 53).(11/5793)
وثمرة اللجاجة الحيرة، وثمرة العجب البغضاء، وثمرة التواني الذلة.
وقال: اصبر على النوائب إذا أتتك من غير أن تتذمر، بل اطلب مداواتها بقدر ما تطيق (1)، وقال: كثرة العدو تقل الهدو وقال: انكأ لعدوك أن لا تريه أنك تتخذه عدوا وقيل له: ما أحلى الأشياء؟ فقال: الذي يشتهي الإنسان. ومما نقله من كلمات سقراط الحكمية: عجبا لمن عرف فناء الدنيا كيف تلهيه عما ليس له فناء (2)
_________
(1) " الصبر ضياء. . . ".
إذا استحكمت الأزمات وتعقدت حبالها، وترادفت الضوائق وطال ليلها فالصبر وحده هو الذي يشع للمسلم النور العاصم من التخبط، والهداية الواقية من القنوط. والصبر فضيلة يحتاج إليها المسلم في دينه ودنياه.
قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد: 31].
وقال سبحانه وتعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران: 186].
وقال سبحانه وتعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَة إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45].
قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاة وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف: 28].
وانظر " عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين " لابن القيم.
وانظر الرسالة رقم (178) من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ".
(2) عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقرأ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) قال: " يقول ابن آدم، مالي مالي. وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت ".
أخرجه مسلم رقم (2958) والترمذي رقم (3351) والنسائي (6/ 238) وهو حديث صحيح.
وأخرج أحمد (6/ 71) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الدنيا دار من لا دار له. ولها يجمع من لا عقل له ".(11/5794)
وقال: ما ضاع من عرف نفسه، وما أضيع من جهل نفسه!. وقال: لو سكت من يعلم لسقط الاختلاف. وقال: من ملك سره خفي على الناس أمره (1).
وقال: خير من الخير من عمل به، وشر من الشر من عمل به. وقال: العقول مواهب، والعلوم مكاسب. وقال: الدنيا سجن لمن زهد فيها، وجنة لمن أحبها (2)
وقال: لكل شيء ثمرة، وثمرة قلة القنية تعجيل الراحة، وطيب النفس الزكية. وقال طالب الدنيا إن نال ما أمل تركه لغيره، وإن لم ينل ما أمله مات بغصته (3).
_________
(1) قال الماوردي ليس يصح الصبر في الأمور يترك التسرع إليها دون كتمان السر فيها فهو أقوى أسباب الظفر بالمطالب وأبلغ في كيد العدو الموارب.
" قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " سرك أسيرك، فإذا تكلمت به صرت أسيره ".
قال الشاعر:
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق
وقال عمرو بن العاص: " ما استودعت رجلا سرا فأفشاه فلمته، لأني كنت أضيق صدرا حين استودعته وتمثل:
إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرها ... فسرك عند الناس أفشى وأضيع
وأخرج الطبراني في " الكبير " (20/ 183) و" الصغير " (2/ 149) والقضاعي في " مسند الشهاب " (1/ 410 - 412 رقم 707 و708) والعقيلي في " الضعفاء " (151).
انظر: " الصحيحة " (3/ 436 رقم 1453).
عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " استعينوا على الحاجات بالكتمان ".
(2) أخرج مسلم في صحيحه رقم (2956) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ".
(3) قال تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر: 3].
قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (10/ 2 - 3) أخرج البزار في مسنده عن أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أربعة من الشقاء جحود العين وقساوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا ".
وطول الأمل داء عضال ومرض مزمن ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه واشتد علاجه ولم يفارقه داء ولا نجع فيه دواء. .
وحقيقة الأمل: الحرص على الدنيا والانكباب عليها، والحب لها والإعراض عن الآخرة، يروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قام على درج مسجد دمشق فقال: يا أهل دمشق، ألا تسمعون من أخ لكم ناصح، إن من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيرا ويبنون مشيدا ويأملون بعيدا، فأصبح جمعهم بورا وبنيانهم قبورا وأملهم غرورا. هذه عاد قد ملأت البلاد أهلا ومالا وخيلا ورجالا فمن يشتري مني اليوم تركتهم بدرهمين! وأنشد:
يا ذا المؤمل آمالا وإن بعدت ... منه ويزعم أن يحظى بأقصاها
أنى تفوز بما ترجوه ويك وما ... أصبحت في ثقة من نيل أدناها
وقال الحسن: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل وصدق رضي الله عنه! فالأمل يكسل عن العمل ويورث التراخي والتواني، ويعقب التشاغل والتقاعس ويخلد إلى الأرض، ويميل إلى الهوى، وإن قصر الأمل يبعث على العمل، ويحيل على المبادرة ويحث على المسابقة.(11/5795)
وقال: لا تردن على ذي خطأ خطأه، فإنه يفيد منك علما، ويتخذك عدوا.
وقال: إذا وليت [3] أمرا فأبعد عنك الأشرار؛ فإن جميع عيوبهم منسوبة إليك (1).
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (7198) عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان؛ بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله ".
وأخرج أبو داود رقم (2932) وابن حبان في صحيحه رقم (4477) والنسائي (7/ 159) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك، جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه ". وهو حديث صحيح.
قال الماوردي في " درر السلوك في سياسة الملوك " (ص 99): وبالملك أسد الحاجة إلى تفقد أربع طبقات، ولا يستغني عن تفقد أحوالهم بنفسه، لأنهم عماد مملكته وقوام دولته.
فالطبقة الأولى: الوزراء لأنهم خلفاؤه، وعلى أيديهم تصدر أفعاله، فإن أحسنوا نسب إليه إحسانهم وإن أساءوا أضيف إليه مساوئهم مع عظم الضرر الداخل عليه في مملكته والقدح الموهن لدولته.(11/5796)
وقال: إنما أهل الدنيا كصور في صحيفة، كلما نشر بعضها طوي بعضها. وقال: الصبر يعين على كل عمل. وقال: طالب الدنيا قصير العمر، كثير الفكر (1). وقال: إذا ضاق صدرك بسرك فصدر غيرك به أضيق (2). وقال: رأس الحكمة حسن الخلق. (3). وقيل له: إن الكلام الذي كلمت به أهل المدينة لا يقبل. فقال: ليس يكربني أن لا يقبل وإنما يكربني أن لا يكون صوابا. وقال: لا يصدنك عن الإحسان جحود جاحد للنعمة. وقال: الجاهل من عثر بحجر مرتين (4). وقال: من قل همه على ما فاته استراحت نفسه صفا ذهنه (5).
_________
(1) تقدم التعليق عليها.
(2) تقدم التعليق عليها.
(3) قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4].
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (3559) ومسلم رقم (2321) عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن من خياركم أحسنكم أخلاقا ".
(4) أخرج البخاري في صحيحه رقم (6133) ومسلم رقم (2998) وأبو داود رقم (4862) وابن ماجه رقم (3982).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين ".
قال الخطابي: هذا لفظه خبر ومعناه أمر، أي ليكن المؤمن حازما حذرا لا يؤتى من ناحية الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى، وقد يكون ذلك في أمر الدين كما يكون في أمر الدنيا وهو أولاهما بالحذر.
" فتح الباري " (10/ 530).
(5) قال تعالى: (لِكَي لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ) [الحديد: 23].
قال ابن جرير الطبري في " جامع البيان " (13 \ جـ27/ 235): فالفائت من الدنيا من فاته منها شيء، والمدرك منها ما أدراك عن تقدم الله عز وجل وقضائه. وقد بين ذلك جل ثناؤه لمن عقل عنه بقوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَة فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) فأخبر أن الفائت منها بإفاتته إياهم فاتهم، والمدرك منها بإعطائه إياهم أدركوا، وأن ذلك محفوظ لهم في كتاب من قبل أن يخلقهم.(11/5797)
وقال: داووا الغضب بالصمت (1). وقال: الذكر الصالح خير من المال؛ فإن المال ينفذ والذكر يبقى، والحكمة غنى لا يعدم ولا يضمحل (2) وقال: ما في نفسك فلا تبديه لكل أحد، فما أقبح أن يخفي الناس أمتعتهم في البيوت، ويظهرون ما في قلوبهم. وقال: القنية ينبوع الأحزان فلا تقتنوا الأحزان.
وقال: قللوا القنية تقل مصائبكم (3). ومما نقله من كلمات أفلاطون (4) الحكمية: للعادة على كل شيء سلطان.
وقال: الملك هو كالنهر الأعظم تستمد منه الأنهار الصغار، فإن كان عذبا عذبت وإن كان مالحا ملحت (5).
وقال: إن أردت أن تدوم لك اللذة فلا تستوفي المستلذ أبدا، بل دع فيه فضلة تدوم لك اللذة.
_________
(1) أخرج أبو داود في " السنن " (4782) وابن حبان في صحيحه رقم (5688) عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع " وهو حديث صحيح والله أعلم.
أخرج البخاري في صحيحه رقم (6048) ومسلم رقم (2610) عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: استب رجلان عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه وتنتفخ أوداجه، فنظر إليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".
(2) تقدم ذكره.
(3) انظر تعليقة قصر الأمل.
(4) أفلاطون بن أرسطن ومعناه الفسيح، وذكر ثاون أن أباه يقال له أسطون، وأنه كان من أشراف اليونانيين، وكان في قديم أمره يميل إلى الشعر، حضر مجلس سقراط فرآه يثلب الشعر فتركه ثم انتقل إلى قول فيثاغورس في الأشياء المعقولة. وعنه أخذ أرسطاليس وخلفه بعد موته، توفي أفلاطون في السنة التي ولد فيها الإسكندر، وهي السنة الثالثة عشر من ملك لاوخوس.
" الفهرست " لابن النديم (ص343).
(5) تقدم التعليق على ذلك.(11/5798)
وقال: لا تصحبوا الأشرار؛ فإنهم يمنون عليكم بالسلامة منهم (1).
وقال: لا تطلب سرعة العمل، ولكن اطلب تجويده؛ فإن الناس ليس يسألون في كَمْ فرغ من هذا العمل؟ وإنما يسألون عن جودة صنعته.
وقال: إحسانك إلى الحر يحركه على المكافأة، وإحسانك إلى الخسيس يحركه على معاودة المسألة.
وقال: ليس يكمل خير الرجل حتى يكون صديقا لمتعاديين [4].
وقال: اطلب في الحياة العلم والمال تحز الرئاسة؛ لأنهم بين خاص وعام، فالخاصة تفضلك بما تحسن، والعامة تفضلك بما تملك (2).
وقال: من جمع إلى شرف أصله شرف نفسه فقد قضى الحق الذي عليه واستدعى التفضيل بالحجة، ومن أغفل نفسه واعتمد على شرف آبائه فقد عقهم، واستحق أن لا يقدم بهم على غيره.
وقال: لا يزال الجائر ممهلا حتى يتخطى إلى أركان العمارة، ومباني الشريعة، فإذا قصد لها تحرك عليه قيم العالم فأباده.
وقال: إذا حصل عدوك في قدرتك خرج من جملة أعدائك، ودخل في عدة حشمك.
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (5534) ومسلم في صحيحه رقم (146/ 2628) عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة ".
وأخرج أبو داود رقم (4832) والترمذي رقم (2395) وأحمد (3/ 38) وابن حبان رقم (554) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي ". وهو حديث حسن.
(2) تقدم التعليق عليه.(11/5799)
وقال: من مدحك بما ليس فيك من الجميل، وهو راض عنك ذمك بما ليس فيك من القبيح وهو ساخط عليك (1) وقال: الأمل خداع النفوس (2).
وقال: أكثر الفضائل مرة المبادئ حلوة العواقب، وأكثر الرذائل حلوة المبادئ مرة العواقب.
وقال: خرجت إلى الدنيا مضطرا، وعشت فيها متحيرا، وهاأنا أخرج منها كارها ولم أعلم فيها إلا أنني لا أعلم.
ومما نقله من كلمات أرسطاطاليس (3) الحكمية: إذا أردت الغنى فاطلبه بالقناعة، فإنه من لم تكن له قناعة فليس المال مغنيه وإن كثر (4). وقال: من نكد الدنيا أنه لا يصلح منها جانب إلا بفساد جانب آخر، ولا سبيل لصاحبها إلى عز إلا بإذلال، ولا باستغناء
_________
(1) تقدم التعليق على ذلك.
(2) تقدم التعليق على ذلك.
(3) أرسطو أو أرسطوطاليس، فيلسوف يوناني له مؤلفات كثيرة منها: " المقولات "، " باري إرما يناس " الجدل - العبارة أو التفسير. " السماء والعالم " وغيرها. عاش ما بين 384 - 322 ق. م.
أرسطوطاليس: معناه محب الحكمة. ويقال الفاضل الكامل. كان اسم أمه أفسيطيا وترجع إلى أسقلبيادس، وكان من مدينة لليونانيين تسمى إسطاغاريا وكان أبوه نيقوماخس متطبب لفيلبس أبي الإسكندر وهو من تلاميذ أفلاطون.
" الفهرست " (345 - 350).
(4) أخرج مسلم في صحيحه رقم (1054) والترمذي رقم (2349).
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما أتاه ".
وهو حديث صحيح.
الكفاف: من الرزق ما كفى عن السؤال مع القناعة لا يزيد عن قدر الحاجة.
وأخرج الترمذي رقم (2350) والحاكم (1/ 35) عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " طوبى لمن هدي للإسلام، وكان عيشه كفافا وقنع ".
وأخرج البخاري رقم (6446) ومسلم رقم (1051) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس ".(11/5800)
إلا بافتقار. وقال: اقتنص من عدوك الفرصة، واعمل على أن الدهر دول (1).
وقال: الصدق قوام أمر الخلائق، والكذب داء لا ينجو من نزل به (2).
وقال: من تجبر على الناس أحب الناس ذلته.
وقال: من مات محمودا كان أحسن حالا ممن عاش مذموما.
وقال: من نازع السلطان مات قبل يومه.
وقال: الحكمة شرف من لا قديم له.
وقال: رغبتك فيمن يزهد فيك ذل نفس، وزهدك فيمن يرغب فيك قصر همة.
وقال: [5] النميمة تهدي إلى القلوب البغضاء (3)، ومن واجهك فقد شتمك، ومن نقل إليك نقل عنك (4).
وقال: الجاهل عدو نفسه، فكيف يكون صديقا لغيره!. وقال: الوفاء نتيجة الكرم (5).
_________
(1) تقدم التعليق على ذلك.
(2) أخرج البخاري رقم (6094) ومسلم رقم (2607) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ".
(3) قال تعالى: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) [الحجرات: 12].
انظر الرسالة: [181].
(4) انظر: إحياء علوم الدين " (3/ 108 - 162) آفات اللسان.
(5) قال تعالى: (اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّاي فَارْهَبُونِ) [البقرة: 40].
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2227) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه العمل، ولم يوفه أجره ".(11/5801)
وقال: الحاجة تفتح باب الحيلة. وقال: بالتواضع تتم النعم (1).
وقال: باحتمال المؤن تجد السؤدد، وقال، بالسيرة العادلة يقل المناوئ.
وقال: بترك ما لا يعنيك يتم لك الفضل (2). وقال: خير الأشياء أجدها إلا المودات؛ فإن خيرها أقدمها. وقال: لكل شيء خاصة، وخاصة العقل حسن الاختيار.
وقال: دفع الشر بالشر جلد، ودفع الشر بالخير فضيلة (3) وقال: ليكن ما تكتب من خير ما تقرأ، وما تحفظ من خير ما تكتب. وقال: إذا أعطاك الله ما تحب من الظفر فافعل ما أحب من العفو (4).
ومما نقله من كلمات جالينوس (5) الحكمية: الهم فناء القلب، والغم مرض القلب، والغم مرض القلب،
_________
(1) تقدم التعليق عليه.
(2) أخرج الترمذي في " السنن " رقم (2317) وابن ماجه رقم (3976).
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من حسن إسلام المرء، تركه ما لا يعنيه ".
وهو حديث صحيح.
وانظر: " فتح الباري " (13/ 264 - 266).
(3) قال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَة وَلَا السَّيِّئَة ادْفَعْ بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة كَأَنَّهُ وَلِي حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 34 - 35].
وقال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ السَّيِّئَة نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) [المؤمنون: 96].
(4) قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134].
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (2588) والترمذي رقم (2029) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل ".
(5) ظهر جالينوس بعد ستمائة وخمس وستين سنة من وفاة بقراط، انتهت إليه الرياسة في عصره وهو الثامن من الرؤساء أولهم أسقلبيادس مخترع الطب، وكان معلم جالينوس أرمينس الرومي.
من كتبه: الفرق، الحمايات، التشريع الكبير، تشريع الحيوان الميت، اختلاف التشريع. " الفهرست " لابن النديم (ص402 - 403).(11/5802)
وثم بين ذلك. فقال: الغم (1) مما كان، والهم (2) مما يكون.
وقال: من رغب عن الحقائر نافس في العظائم.
وقال: العليل الذي يشتهي أرجأ من الصحيح الذي لا يشتهي.
وقال العادل من قدر أن يجور فلم يفعل. وقيل له: متى ينبغي للإنسان أن يموت؟
قال: إذا جهل ما يضره مما ينفعه.
ومما نقله من كلام يعقوب بن إسحاق الكندي (3) العاقل يظن أن فوق علمه علماء، فهو أبداً يتواضع لتلك الزيادة، والجاهل يظن أنه قد تناهى فتمقته النفوس لذلك.
ومما نقله من كلام ثابت بن قرة الحراني (4) راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة النفس في قلة الآثام، وراحة القلب في قلة الاهتمام، وراحة اللسان في قلة الكلام. [6]
_________
(1) انظر " لسان العرب " (5/ 137).
(2) انظر " لسان العرب " (10/ 127).
(3) يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي، أبو يوسف، فيلسوف من العرب والإسلام في عصره وأحد أبناء ملوك من كندة. نشأ في البصرة وانتقل إلى بغداد فتعلم واشتهر بالطب والفلسفة والموسيقى والهندسة والفلك. ألف وترجم وشرح كتباً كثيرة يزيد عددها على ثلاثمائة. منها:
الأدوية المركبة، رسم المعمور، خرائط وصور عن الأرض، الترفق، في العطر.
" الأعلام للزركلي " (8/ 195)، " مرآة الجنان " (2/ 269).
(4) ثابت بن قرة بن زهرون الحراني - الصابئ أبو الحسن: طبيب حاسب فيلسوف ولد ونشأ بحران - (221 هـ - 288 هـ).
من مؤلفاته: المباني الهندسية، الشكل القطاع، الهيئة، المسائل الطبية.
" الأعلام " للزركلي (2/ 98)، " سير أعلام النبلاء " (13/ 485).(11/5803)
ومما نقله من كلام أمين الدولة ابن التلميذ: ينبغي للعاقل أن يختار من اللباس ما لا يحسده عليه العامة، ولا يحتقره فيه الخاصة.
ومما نقله من كلام محمد بن زكريا الرازي (1) إن استطاع الحكيم أن يعالج بالأغذية فقد وافق السعادة.
ونقل فيه من كلام الفارابي (2) وابن سينا (3) ونحوهما ما لم أستحسن نقله هاهنا.
[تم والحمد لله].
_________
(1) محمد بن زكريا الرازي، أبو بكر فيلسوف، من الأئمة في صناعة الطب من أهل الري، ولد وتعلم بها وله كتب: الفاقر في علم الطب، الفصول في الطب، أسئلة من الطب.
" الأعلام " للزركلي (6/ 130).
(2) تقدمت ترجمته.
(3) تقدمت ترجمته.(11/5804)
(191) 28 - /5
بحث مشتمل على الكلام فيما يدور بين كثير من الناس هل الامتثال خير من الأدب أو الأدب خير من الامتثال؟
وكذلك على ما يدور بينهم من قولهم:
" لا خير في السرف ولا سرف في الخير "
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(11/5805)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث: مشتمل على الكلام فيما يدور بين كثير من الناس هل الامتثال خير من الأدب أو الأدب خير من الامتثال؟ وكذلك على ما يدور بينهم من قولهم: " لا خير في السرف ولا سرف في الخير ".
2 - موضوع الرسالة: آداب.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله وأفضل صلاة وأكمل سلام.
4 - آخر الرسالة: وفي هذا المقدار كفاية، لمن له هداية، وحسبي الله ونعم الوكيل.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 11 صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطراً.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5807)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك، وآله أفضل صلاة وأكمل سلام.
وبعد:
فإنه كثيراً ما يجري على ألسن الناس ويتساءلون عنه قولهم: هل الأدب خير من الامتثال، أو الامتثال خير من الأدب؟ فأردت كشف الكلام عن هذا المرام بمعونة ذي الجلال والإكرام.
فأقول: هذا الأدب المذكور في هذا السؤال لا بد أن يحمل على ما لم يدل عليه دليل، لأنه لو دل عليه دليل بخصوصية أو عموم يندرج تحته لم يصح السؤال من أصله، لأن الأدب الذي دل الدليل عموماً أو خصوصاً مطلوب بدليله، ففعله من الامتثال فلا يصح أن يقابل به الامتثال في هذه العبارة، فتقرر لك بهذا أن الأدب المسئول عنه هو الذي لم يدل عليه دليل، ولكن فعله فيه تأدب من الفاعل تستحسنه العقول، وتقبله الطباع. وإذا كان الأمر هكذا فالسؤال طائح من أصله، مندفع بجملته، لأن امتثال أمر الشارع هو الشرع الذي أمرنا الله - سبحانه - باتباعه، ونهانا عن مخالفته كما قال - سبحانه -: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1)، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (2)، {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3) {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (4)، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (5)
_________
(1) [الحشر: 7].
(2) [آل عمران: 31].
(3) [النساء: 59].
(4) [النور: 51].
(5) [النساء: 65].(11/5811)
فما ثبت الأمر به في الكتاب والسنة وجوباً أو ندباً فهو الحسن الجميل، والأدب [1أ] الصالح، والعمل المقبول، وما خالف ذلك فهو على العكس من هذا كائناً ما كان، وعلى أي صفة وقع، وبأي صورة وجد.
إذا عرفت هذا فما ذكره هذا السائل في سؤاله، وجعله معادلاً للامتثال لا يصلح لذكره في مقابلة الأدلة التي يجب امتثالها إن كانت مفيدة للوجوب، أو يندب فعله إن كانت مفيدة للندب، وذلك الذي ظن الظان أنه أدب ليس بأدب شرعي، إنما هو أدب شيطاني عورض به الدليل الشرعي.
ومعلوم أنه لو قال قائل: أيهما أفضل عملي بالدليل أو تركي له، وعدولي إلى ما لا دليل عليه؟ لقال كل سامع يسمعه: ليس هذا السؤال من سؤل من له فهم، فإن كون التمسك بالدليل أولى من مخالفته، وأحسن من فعل غيره لا يخفى على مقصر ولا على كامل، ولكنه لما أورد السائل سؤاله بهذه العبارة المجملة، ثم يتيقظ المسئولون لما هو المراد منهما، وكثيراً ما قد سمعنا إيراده في مجامع أهل العلم فلا يظفر السائل بغير الحيرة وعدم الفائدة، والأمر أظهر من أن يتوقف فيه متوقف، أو يتردد عنده متردد، لأنه لا يشكل على من لديه أدنى علم بأن ما دل عليه الدليل أولى مما لا دليل عليه فضلاً عن فعل ما يخالف ذلك الدليل نفسه، وهذا من الظهور والجلاء بمنزلة لا تخفى إلا على غريق في العامية، مترد بثياب الجهل.
ومن أعظم أسباب التحير في جواب هذا السؤال أنهم يمثلونه بأمثلة عند المحاورة يتعاظم المسئول مخالفتها، ولو تأملها المسئول حق التأمل لوجدها مما دل عليه دليل بعمومه أو بخصوصه، وما كان كذلك، فليس مما يدخل تحت هذا السؤال، ولا مما يندرج في جملته، والجواب عنه ظاهر واضح، لأن الدليل [1ب] الذي دل عليه إن كان أعم من مقابله خصص به، وإن كان أخص من مقابله كان هذا الدليل الخاص تخصيصاً(11/5812)
لمقابله، وإن كانا عمومين شمل كل واحد منهما واحد من المتقابلين رجعنا إلى الترجيح، ووجوه الترجيح (1) معروفة، وإن كان بينهما عموم وخصوص من وجه فلا تعارض بينهما في مادة الاجتماع، لأنها متناولة لهما، ويتعارضان في مادتي الافتراق فيرجع إلى الترجيح بينهما.
أما في نفس ذينك الدليلين أو بدليل خارج عنهما، وإن كانا خاصين يتناول دليل كل واحد منهما ذلك المدلول عليه على الخصوص، ويدفع مقابله، فهذا من تعارض الأدلة الخاصة، والواجب الرجوع إلى وجوه الترجيح، وهي لا تخفى على المحققين، ولكن هذا كله خارج عن مسألة السؤال لا جامع بينه وبينها بوجه من الوجوه، لأنه من تعارض الأدلة، لا من باب تعارض الامتثال والأدب، لأن فعل كل واحد منهما من باب امتثال ما ورد عن الشرع، فإن ترجح في نفسه سقط مخالفه، وإن ترجح مخالفه سقط هو. ولا يصح إن بعد فعل المرجوح من باب الأدب، ولا مدخل للأدب في ذلك، لأن الاعتبار بأدب الشرع، وهو ما دل عليه الكتاب أو السنة قولا، أو فعلا، أو تقريرا، لا بالأدب الذي تقبله العقول، وتستحسنه الأنفس، فإن ذلك خارج عن الشرع.
والتجاوز في هذه المسألة والتساؤل عنها إنما هو فيما يدل عليه الشرع، ولو علم المسئول بادئ بدء أن سؤال السائل إنما هو عن أمر ورد الشرع به، وعن أمر يخالفه لما اشتغل بجوابه، ولا تحير عند إيراده؛ لأن هذا السؤال هو في وزان قول لقائل: هل الحق خير من الباطل، أو الباطل خير من الحق؟ أو قول القائل: هل اتباع [2أ] الشرع أولى من اتباع غيره، أو اتباع غير الشرع أولى من اتباعه؟ وأنت تعلم أنه عند أن يقرع الأسماع هذا الكلام الزائف، والسؤال المائل عن سنن الصواب لا يجاب السائل إلا بالسخرية منه، والضحك من قوله، والتعجب من جهله.
فإن قلت: قد مثل هؤلاء المتحاورون في هذه المسألة، المتنازعون فيها بمثال معروف
_________
(1) انظر وجوه الترجيح في " إرشاد الفحول " (ص 892 - 918)، " البحر المحيط " (4/ 253 - 260) " تيسير التحرير " (3/ 166)(11/5813)
هو أن الأدلة الواردة في تعليمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كيف يصلون عليه وردت كلها بلفظ: اللهم صل على محمد، فزادوا لفظ سيدنا وقالوا: اللهم صل على سيدنا محمد، وقالوا: هذه الصلاة مشتملة على الأدب الحسن، والأدلة دلت على عدم ثبوت هذه الزيادة، فأيهما أفضل الإتيان بها تأدبا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أو تركها امتثالا لأوامره التي لم تشتمل على هذا اللفظ؟
قلت: وهذا المثال أيضًا ليس مما يصدق عليه معنى ذلك السؤال، ويندرج في معنى ذلك الإشكال، لأنه قد صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صحة وقع الإجماع عليها أنه قال: " أنا سيد ولد آدم " (1) فدخل في ذلك جميع الأنبياء الصالحين، وكل المؤمنين والمسلمين على اختلاف أنواعهم، وتباين طبقاتهم، فهو - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - سيد كل فرد من أفراد العباد كائنا من كان، وعلى كل إنسان أن يعتقد ذلك، ويدين به، ولكنه لم يرد في الصلوات المنصوصات هذا اللفظ، بل وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الاقتصار على ذلك المقدار، ولو كان لذلك مدخل في الصلوات لعلمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الناس كما علمهم سائر ألفاظ الصلوات.
ولا يصح أن يقال: إنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ترك التصريح بهذا اللفظ تواضعا، أو نحو ذلك، فإن ما شرعه الله لعباده لا يترك بمجرد ذلك، ولا يصح نسبته إليه، ولو كان للتواضع ونحوه مدخل في التشريع لم يقل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أنا سيد ولد آدم " فإن هذا الحديث قد شمل أمته، وشمل غيرهم [2ب] من سائر الملل المختلفة، والطوائف المتباينة، منذ عصر أبينا آدم، - عليه السلام - إلى هذه الغاية، وما وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من النهي عن تفضيله على موسى - عليه السلام (2) - ذاكرا
_________
(1) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (183).
(2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2411) ومسلم في صحيحه رقم (160/ 2373) عن أبي هريرة رضي الله عنه: استب رجلان رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، قال المسلم: والذي اصطفى محمدا عن العالمين فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين. فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي فذهب اليهودي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم فدعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلم. فسأله عن ذلك فأخبره، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة. فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش فلا أدري، أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله ".(11/5814)
لتلك العلة المذكورة في كتب الحديث عند البعثة، وكذلك ما وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من النهي عن تفضيله على يونس بن متى (1)، فقد اختلف أهل العلم في تأويله، وكيفية الجمع بينه وبين حديث: " أنا سيد ولد آدم " فمنهم من جعل ذلك من باب التواضع (2)، وله مدخل في مثل هذا بخلاف ما قدمنا، ومنهم من جزم بأنه قال ذلك قبل أن يعلم أنه سيد الكل، وصاحب الرئاسة الدينية على الجميع (3)، ومنهم من
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3416) ومسلم رقم (2376) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى ".
(2) قال القرطبي في " المفهم " (6/ 229): قال بعض العلماء: إنما قال ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جهة التواضع، والأدب مع الأنبياء وهذا فيه بعد، لأن السبب الذي خرج عليه هذا النهي يقتضي خلاف ذلك، فإنه إنما قال ذلك ردعاً وزجراً للذي فضل.
ألا ترى أنه قد غضب عليه حتى أحمر وجهه - يشير إلى ما أخرجه البخاري رقم (3414) ومسلم رقم (159/ 2373) - وفيه ". . . فغضب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى عرف الغضب في وجهه. ثم قال: لا تفضلوا بين أنبياء الله. . " - ونهى عن ذلك فدل على أن التفضيل يحرم. ولو كان من باب الأدب والتواضع لما صدر منه ذلك.
(3) انظر " فتح الباري " (6/ 452).
قال القرطبي في " المفهم " (6/ 230): يحمل الحديث على ظاهره من منع إطلاق لفظ التفضيل بين الأنبياء، فلا يجوز في المعين فيهم. ولا غيرهم، ولا يقال: فلان النبي أفضل من الأنبياء كلهم، ولا خير من فلان، ولا خير من فلان كما هو ظاهر هذا النهي. لما ذكر من توهم النقص في المفضول وإن كان غير معين، ولأن النبوة خصلة واحدة لا تفاضل فيها. . . وإنما تفاضلوا فيما بينهم بما خص به بعضهم دون بعض، فإن منهم من اتخذه الله خليلاً، ومنهم من اتخذه حبيباً. ومنهم أولو العزم، ومنهم من كلم الله على ما هو المعروف من أحوالهم، وقد قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [البقرة: 243]، فإن قيل: إذا كانوا متفاضلين في أنفسهم فكيف ينهى عن التفضيل؟ وكيف لا يقول من هو في درجة عليا: أنا خير من فلان، لمن هو دونه على جهة الإخبار عن المعنى الصحيح؟
فالجواب: أن مقتضى هذا الحديث المنع من إطلاق ذلك اللفظ لا المنع من اعتقاد معناه أدباً مع يونس، وتحذيراً من أن يفهم في يونس نقص من إطلاق ذلك اللفظ.(11/5815)
يقول إن حديث: " أنا سيد ولد آدم " عام مخصص بموسى ويونس بن متى، وهذا بعيد جداً، لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذا كان سيداً لمثل إدريس وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وسائر أنبياء بني إسرائيل الذين آخرهم عيسى - صلوات الله عليهم جميعاً وسلامه وهم بين الجلالة والفضيلة بمنزلة يتقاصر عنها الوصف، فكيف ينهى عن تفضيله على موسى ويونس! مع أنه قد ثبت عنه أنه لو بعث موسى في زمانه لتمسك بشريعته، وتحقق باتباعه - فبالأولى يونس مع أن يونس بن متى - عليه السلام - هو من أنبياء إسرائيل المقتدين بشريعة موسى - عليه السلام -، المقتدين بالعمل بالتوراة كما يعرف ذلك من له اطلاع على كتاب نبوته، فإنه كتاب مفرد من جملة كتب أنبياء إسرائيل المشتملة على ما أوحاه الله إليهم في أيام نبوتهم، وما وقع بينهم وبين قومهم.
ومع هذا فقد ثبت النهي عن المفاضلة بين الأنبياء على العموم (1)، وإن كان الله - سبحانه - قد فضل بعضهم على بعض كما نطق به القرآن الكريم، لأن علمه - سبحانه - محيط بكل شيء، فهو يعلم المفاضلة بين عباده فضلاً عن أنبيائه، بل يعلم ما تضمره القلوب، وتنطوي عليه الجوانح، وتوسوس به النفوس (2)
وقال سبحانه وتعالى: (يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون) [التغابن: 4].
وقال تعالى: (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) [غافر: 19].
وقال تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه) [ق: 16].
_________
(1) قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [البقرة: 253] قال القاضي عياض في الشفاء (1/ 309): قال بعض أهل العلم: والتفضيل المراد لهم هنا في الدنيا. وذلك بثلاثة أحوال:
1 - أن تكون آياته ومعجزاته أبهر وأشهر.
2 - أن تكون أمته أزكى وأكثر.
3 - أن يكون في ذاته أفضل وأطهر وفضله راجع إلى ما خصه الله به من كرامته واختصاصه من كلام أو خلة أو رؤية.
(2) قال تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) [التوبة: 78].(11/5816)
وأما العباد فهم بمعزل عن ذلك، وأنى لهم العلم بالمفاضلة [3أ] بين أنبياء الله وصفوته من خلقه، وخيرته من عباده!.
فإن قلت: فما يقول في مثل هذا النهي العام؟
قلت: إن كان التاريخ معلوماً غير مجهول فقد يقال: إنه إذا كان المتأخر النهي؛ فينبغي التورع عن التفضيل بينهم على العموم (1)، وقد يقال: إنه يحمل هذا العموم على النهي عن التفضيل لبعض الأنبياء على بعض، وأما نبينا الصادق المصدوق - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقد أخرج نفسه من ذلك العموم بقوله: " أنا سيد ولد آدم " (2). وقد تقرر أنه يبنى العموم على الخصوص إذا شمله العموم على طريقة الظهور كما في هذا المقام، فإنه لما صرح أنه سيد ولد آدم بهذه الصفة الخاصة به، الشاملة لجميع بني آدم، ثم جاء بعدها النهي الشامل له بطريق الظهور لا بطريق الخصوصية كان خارجاً من ذلك العموم بهذا الخصوص، وأما إذا كان إخباره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بأنه سيد ولد آدم متأخراً عن النهي؛ فخروجه من النهي ظاهر واضح، ويحمل ما تقدم من النهي على أنه لم يعلم بهذه السيادة العاملة الشاملة الثابتة له على جميع ولد آدم إلا بعد صدور ذلك النهي (3)، وأما إذا كان التاريخ مجهولاً؛ فبناء العام على الخاص متعين، حتى قيل: إنه إجماع كما وقع
_________
(1) قال القرطبي في " المفهم " (6/ 228 - 229). ويتضمن هذا الكلام أن الحديث معارض - لا تخيروا بين الأنبياء - لقوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [البقرة: 253]. ولما في معنى ذلك من الأحاديث وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل، وهذا لا يصح حتى تتحقق المعارضة حيث لا يمكن الجمع بوجه ومتى يعرف التاريخ، وكل ذلك غير صحيح.
(2) تقدم تخريجه.
(3) انظر: " فتح الباري " (6/ 452).(11/5817)
في بعض كتب الأصول (1). هذا ما خطر بالبال عند التكلم على هذا السؤال من غير مراجعة لكتب الحديث وشروحها، فمن وجد ما هو أولى مما ذكرناه، وأحق مما قررناه فليرجع إليه، وإن لم يجد فهذا غاية ما يمكن التكلم به في مثل هذه الأحاديث المتعارضة في الظاهر. وقد تقرر أن الجمع أولى من الترجيح بلا خلاف.
فإن قلت: لو فرضنا فرضاً، وقدرنا تقديراً أنه يجب في حديث: " أنا سيد ولد آدم " زيادة على مجرد الاعتقاد والإذعان، وأنه ينبغي التلفظ بهذه السيادة المحمدية.
قلت: لو فرضنا ذلك فرضاً، وقدرناه تقديراً لم تدخل في ذلك الصلاة عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأنه قد علمنا كيف نقول، وبين لنا ما نتكلم به (2). وغاية ما هناك أنه ينبغي التكلم بذلك في غير تلك الحال، ولو فرضنا أبعد من هذا الفرض، وقدرنا أخفى من هذا التقدير، وقلنا بالتعبد بذلك على حد يشمل الصلاة؛ كانت الأدلة الصحيحة الثابتة من طرق متواترة مخصصة لذلك العموم، ولكن أين هذا من تعارض [3ب] العموم والخصوص! فإنه ليس في حديث: " أنا سيد ولد آدم " ما يدل على غير الاعتقاد لذلك، والإيمان بمعناه، والإذعان لمدلوله، ولم يرد في شيء من الأدلة أنه يجب التلفظ بذلك فضلاً عن كون التلفظ به يعم الأشخاص والأوقات والأحوال؛ فضلاً عن أن مثل ذلك يقال في الصلاة، ويخالف به ما ورد من التعميمات (3).
_________
(1) انظر: " إرشاد الفحول " (ص 536). وقد تقدم توضيحه.
" البحر المحيط " (3/ 405).
(2) من استقرأ صيغ الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الواردة لم يجد فيها لفظ " السيادة " لا داخل الصلاة ولا خارجها وكذلك أحاديث الأذان لم يجدها في ذكر " الشهادة بأن محمد رسول الله. والمحدثون كافة، في كتب السنة لا يذكرون لفظ السيادة عند ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
انظر: " البيان والتحصيل " (18/ 430) " الدرر السنية " (4/ 415 - 416).
(3) من استقرأ صيغ الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الواردة لم يجد فيها لفظ " السيادة " لا داخل الصلاة ولا خارجها وكذلك أحاديث الأذان لم يجدها في ذكر " الشهادة بأن محمد رسول الله. والمحدثون كافة، في كتب السنة لا يذكرون لفظ السيادة عند ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
انظر: " البيان والتحصيل " (18/ 430) " الدرر السنية " (4/ 415 - 416).
وانظر الرسالة رقم (183).(11/5818)
فإن قلت: إذا كان الأمر كما ذكرت كان هذا المثال الذي مثلوا به صحيحاً، لأنه لم يدل دليل على أن مثل ذلك يقال في الصلاة، فليس فيه إلا مجرد الأدب الذي زعموه.
قلت: إذا قد علمت أن مثل هذا من المعارضة بين الامتثال الذي لا يكون إلا بما دل عليه دليل، وبين مجرد الأدب المخالف لما دل عليه دليل.
فقد انقطع الإشكال بعروقه، واجتث من أصله، ولم يبق في المقام ما يقتضي دوران مثل هذا السؤال بين حملة العلم، والتكلم به في مجامعهم كما عرفت، وإنما عرفناك فيما سبق أنه مثال غير صحيح في المقام لما قدمنا من قيام الدليل عليه، وإن كان في غير محل النزاع.
فإن قلت: لو قدرنا أنه ثبت في رواية صحيحة، وحديث يصلح للحجية في تعليمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للأمة لألفاظ الصلاة عليه لفظ سيدنا (1)!
_________
(1) قال القاسمي في " الفضل المبين على عقد الجوهر الثمين " (70 - 71): للعلماء اختلاف في زيادة لفظ (سيدنا) في الصلاة على النبي، وقد وقفت على سؤال رفع لأبي الفضل الحافظ ابن حجر في ذلك؛ فأجاب عنه، وأجاد وهاكه بنصه: " سئل الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى عن صفة الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة أو خارج الصلاة سواء قيل بوجوبها أو بندبها: هل يشترط فيها أن يصفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيادة بأن يقول مثلاً: اللهم صل على سيدنا محمد، وعلى سيد الخلق أو سيد ولد آدم أو يقتصر على قوله: اللهم صل على محمد، وأيهما أفضل: الإتيان بلفظ السيادة لكونها صفة ثابتة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو عدم الإتيان لعدم ورود ذلك في الآثار؟ فأجاب - رضي الله عنه -: نعم اتباع الألفاظ المأثورة أرجح، ولا يقال: لعله ترك ذلك تواضعاً منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما لم يكن يقول عند ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صلى الله على عليه وسلم وأمته مندوبة إلى أن تقول ذلك كلما ذكر لأنا نقول: لو كان ذلك راجحاً لجاء عن الصحابة ثم عن التابعين، ولم نقف في شيء من الآثار عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه قال ذلك مع كثرة ما ورد عنهم من ذلك، وهذا الإمام الشافعي أعلى الله درجته - وهو من أكثر الناس تعظيماً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في خطبة كتابه الذي هو عمدة أهل مذهبه: اللهم صل على محمد إلى آخر ما أداه إليه اجتهاده وهو قوله: كلما ذكره الذاكرون وكلما غفل عن ذكره الغافلون. وكأنه استنبط ذلك من الحديث الصحيح الذي فيه " سبحان الله عدد خلقه " (أ).
(أ): أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2426) والترمذي رقم (3555) وابن ماجه رقم (3808) عن ابن عباس عن جويرية، أن النبي خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح، وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة. فقال: " ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ " قالت: نعم. قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ".
وانظر " الشفاء " للقاضي عياض (2/ 640 - 648).(11/5819)
قلت: إن ثبت ذلك فهو زيادة مقبولة، غير معارضة للمزيد، فيؤخذ بها وتزاد في ألفاظ الصلاة عند أن يصلي عليه المصلون، فمن وجد مثل ذلك فليهده إلينا مثاباً مأجوراً، فإنا عند تحرير هذا لم نبحث مطولات كتب السنة، بل اتكلنا على أنه لم يكن فيما نحفظه زيادة هذا اللفظ.
واعلم أنه خطر على البال عند التكلم على هذا البحث ببحث آخر يشابهه مشابهة قوية، ويضارعه مضارعة تامة، وهو ما يدور على ألسن أهل العلم من قولهم: لا خير في السرف، ولا سرف في الخير؛ فإنا قد سمعنا كثيراً ممن يتكلم بما يفيد أنه لا خير في السرف قد يتبع ذلك بقوله: ولا سرف في الخير، وقد يتكلم به من يسمعه؛ يقول ذلك فيذعن له، ولا يتعرض للجواب عليه، مع كون هذا القول باطلاً مخالفاً لكليات الشريعة، ولجزئياتها، وللمناهي الثابتة في الكتاب والسنة، وما يفيد التشدد في ذلك، والزجر عنه مثل قوله - سبحانه -: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (1) ومثل ذم المسرفين في غير آية (2)، وورد في السنة [4أ] المطهرة النهي عن ذلك في غير موضع، مثل نهي من أراد أن يتصدق بجميع ماله، وقصره النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على الثلث، وقال: " الثلث والثلث كثير " (3) ومعلوم أن الصدقة خير كبير، ولكن لما كانت
_________
(1) [الإسراء: 27].
(2) منها قوله تعالى: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام: 141].
وقوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31].
(3) تقدم تخريجه.
انظر الرسالة رقم (160).(11/5820)
على صفة منع الشرع منها، وهي السرف بإخراج جميع المال لم يكن خيراً من هذه الحيثية، وهكذا أمر من أراد أن ينخلع عن جميع ماله أن يمسك عليه بعضه، وهكذا ورد النهي عن التصدق بجميع المال، ومن ذلك حديث: " المتصدق بالبيضة الذهب التي لا يملك غيرها " (1).
وبالجملة فالأدلة على كثرتها تدل على أنه لا خير في السرف على أي صفة كان، ولو قدرنا ورود ما يفيد ثبوت الثواب لمن أسرف في تصرفه فلا ينافي في ذلك ذم السرف، ولكونه غير خير لأنه إذا ثبت له الأجر بالصدقة مثلاً بجميع ماله؛ فقد لزمه الإثم بالسرف الذي ارتكبه، وقد يكون الشيء حسناً من وجه، قبيحاً من وجه آخر، فالسرف لا يكون إلا قبحاً، ولا يكون خيراً قط، وليس من ذلك تأثير الإنسان لمن هو أحوج منه بطعامه، أو بشرابه، أو بثوب من ثيابه التي تدعو حاجته إليها، فإن مثل ذلك لا يصدق عليه معنى السرف لغة ولا شرعاً، أما اللغة فقال في الصحاح (2): السرف ضد القصد، ثم قال: والإسراف في النفقة التبذير، فهذا معنى السرف، وهو لا يصدق إلا على من
_________
(1) أخرجه أبو داود رقم (1674) وابن خزيمة رقم (2441) وابن حبان في صحيحه رقم (3372) وأبو يعلى في " المسند " رقم (2084) والحاكم (1/ 413) والبيهقي في " السنن الكبرى " (4/ 181) من طرق عن جابر بن عبد الله قال: إني لعند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب قد أصابها من بعض المغازي، فقال: يا رسول الله. خذ هذه مني صدقة، فوالله ما أصبح لي مال غيرها، قال: فأعرض عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاءه من شقه الآخر، فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم جاءه من قبل وجهه، فأخذها منه فحذفه بها حذفة لو أصابه عقره، أو أوجعه، ثم قال: " يأتي أحدكم إلى جميع ما يملك، فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس! إنما الصدقة عن ظهر غنى، خذ عنا مالك. لا حاجة لنا به ".
وهو حديث ضعيف دون جملة " خير الصدقة عن ظهر غنى. . ".
فقد أخرج البخاري في صحيحه رقم (5356) وأبو داود رقم (1676) عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول. "
(2) (4/ 1373).(11/5821)
أخرج ماله إخراجا يعد به مبذرا لا من آثر غيره بأكله أو شربه أو نحو ذلك.
فإن قلت: قد قال صاحب القاموس (1): إن الإسراف التبذير، أو ما أنفق في غير طاعة. وقال في النهاية (2) إن النفقة لغير حاجة، أو في غير طاعة الله.
قلت: هذا خلط للمعنى الشرعي بالمعنى اللغوي، لأن ملاحظة الطاعة لله من المعاني الشرعية، لا من المعاني اللغوية، والعرب لا تلاحظ ذلك ولا تراه.
ومعنى السرف ثابت معروف عندهم، ولهذا يقول جرير (3):
أعطوا الهنيدة يجدوها ثمانية ... ما في عطائهم من ولا سرف
فانظر كيف أثبت السرف فيما هو خير عندهم محض، وهو التكرم بالعطاء، وإنما لم يكن المائة الناقة [4ب] التي معها ثمانية من العبيد يقومون بما تحتاج إليه سرفا، لأنها عطاء ملك من كبار الملوك، ولو كانت عطاء رجل لا يملك غيرها، ولا يجد سواها؛ لكان ذلك سرفا عند العرب كما يفيده كلامهم، ويدل عليه نظمهم ونثرهم، ولم يصب من حمل السرف في هذا البيت على معنى الإغفال، أو على إخطاء موضع العطاء.
فإن قلت: ما ذكره صاحب النهاية (4)، وصاحب القاموس (5)، وإن كان فيه خلط المعنى اللغوي بالمعنى الشرعي فهل يدل على أنه لا سرف في الخير كما يقوله من يسمعهم يتجاوزون بذلك؟
قلت: لا، بل معناه أن الإنفاق في غير طاعة الله معدود من السرف، وذلك مسلم، وليس فيه أن الإنفاق في طاعة الله لا يكون سرفا أصلا، فإن هذه العبارة على تسليم أنها معنى شرعي، إنما تناولت الإنفاق في غير الطاعة، ولا تعرض فيه للإنفاق في الطاعة، لا
_________
(1) (ص 1058).
(2) (2/ 361 - 362).
(3) انظر: شرح ديوان ابن جرير (ص389) شرح محمد إسماعيل عبد الله الصاوي.
(4) ابن الأثير (2/ 361 - 362).
(5) الفيروزآبادي (ص 1058).(11/5822)
بإثبات، ولا بنفي. ولو قدرنا أن ذكر غير الطاعة يدل بمفهوم اللقب (1) على أن الإنفاق في الطاعة لا يكون سرفا، فهذا المفهوم لم يأخذ بمثله أهل العلم، ولا التفتوا إليه، وإنما أخذ به الدقاق (2) وخالفه جميع أهل العلم، كما هو معروف في كتب الأصول وغيرها دفع ذلك، فالأدلة التي قدمنا ذكر بعضها تدل على ثبوت السرف بما هو خير. وإن قلت: قد نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعض المتصدقين بجميع ماله، أو ببعضه معللا ذلك بأنه من بعد ذلك يتكفف الناس (3).
قلت: لا تزاحم بين المقتضيات، فقد يكون وجه النهي هذه العلة كما يكون وجه النهي التعليل بالسرف، وقد يجتمعان جميعا، فيسرف بالتصدق بجميع ماله، ثم يتكفف
_________
(1) مفهوم اللقب: وهو تعليق الحكم بالاسم العلم نحو قام زيد، أو اسم النوع نحو: في الغنم زكاة، ولم يعمل به أحد إلا أبو بكر الدقاق.
وحكى ابن برهان في الوجيز التفصيل عن بعض الشافعية وهو أنه يعمل به في أسماء الأنواع لا في أسماء الأشخاص.
وحكى ابن حمدان وأبو يعلى من الحنابلة تفصيلا آخر وهو العمل بما دلت عليه القرينة دون غيره.
قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص602): والحاصل أن القائل به كلا أو بعضا لم يأت بحجة لغوية ولا شرعية ولا عقلية، ومعلوم من لسان العرب أن من قال: رأيت زيدا لم يقتض أنه لم ير غيره قطعا. وأما إذا دلت القرينة على العمل به فذلك ليس إلا للقرينة فهو خارج عن محل النزاع.
وانظر: " البحر المحيط " (4/ 25).
(2) انظر: " تيسير التحرير " (1/ 101)، " الكوكب المنير " (3/ 509).
(3) منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5355) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خير الصدقة ما أبقت غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول ".
ومنها ما أخرجه أبو داود رقم (1677) وابن خزيمة رقم (2451) والحاكم (1/ 414) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: " جهد المقل، وابدأ بمن تعول ".
وهو حديث صحيح.
ومنها ما أخرجه البخاري رقم (1472) ومسلم رقم (1034) والنسائي (5/ 69) من حديث حكيم بن حزام.(11/5823)
الناس، فيجمع بين الأمرين.
فإن قلت: قد ورد تفضيل قليل الصدقة على كثيرها باعتبار الأشخاص كما في حديث: " سبق درهم ألف درهم " (1)، وذلك في من يكون له درهم فيتصدق به،
_________
(1) أخرجه أحمد (2/ 379) وابن ماجه رقم (3684) والنسائي (5/ 59) وابن خزيمة رقم (2443) وابن حبان رقم (3336) والحاكم (1/ 416) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سبق درهم مائة ألف درهم " فقال رجل، وكيف ذاك يا رسول الله قال: " رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف درهم تصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به ".
وهو حديث صحيح.
قال القرطبي في " المفهم " (3/ 80 - 81) قوله: " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى " أي: ما كان من الصدقة بعد القيام بحقوق النفس وحقوق العيال. وقال الخطابي: أي متبرعا أو عن غنى يعتمده ويستظهر به على النوائب، والتأويل الأول أولى غير أنه يبقى علينا النظر في درجة الإيثار التي أثنى الله بها على الأنصار، إذ قال: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة) [الحشر: 9].
وقد روي: أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من الأنصار ضافه ضيف فنوم صبيته وأطفأ السراج.
وآثر الضيف بقوتهم، وكذلك قوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) [الإنسان: 8].
أي: على شدة الحاجة إليه والشهوة له، ولا شك أن صدقة من هذه حاله أفضل. وفي حديث أبي ذر: " أفضل الصدقة جهد من مقل " وفي حديث أبي هريرة: " سبق درهم مائة ألف " قالوا: وكيف؟ قال: " رجل له درهمان، فتصدق بأحدهما، ورجل له مال كثير فأخذ من عرض ماله مئة ألف فتصدق بها ".
فقد أفاد مجموع ما ذكرنا: أن صدقة المؤثر والمقل أفضل، وحينئذ يثبت التعارض بين هذا المعنى وبين قوله: " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى " على تأويل الخطابي فأما على ما أولنا به الغنى فيرتفع التعارض.
وبيان: أن الغنى يعني به في الحديث: حصول ما تدفع به الحاجات الضرورية، كالأكل عند الجوع والمشوش الذي لا صبر عليه، وستر العورة والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى. وما هذا سبيله، فهذا ونحوه مما لا يجوز الإيثار به، ولا التصدق، بل يحرم. وذلك: أنه إن آثر غيره بذلك أدى إلى هلاك نفسه أو الإضرار بها، أو كشف عورته فمراعاة حقه أولى على كل حال. فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار، وكانت صدقته هي الأفضل. لأجل ما يحمله من مضض الحاجة وشدة المشقة.
وانظر " فتح الباري " (3/ 296).
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم (7/ 124 - 125): معناه أفضل الصدقة ما بقي صاحبها بعدها مستغنيا بما بقي معه، وتقديره أفضل الصدقة ما أبقت بعدها غنى يعتمده صاحبها ويستظهر به على مصالحه وحوائجه وإنما كانت هذه أفضل الصدقة بالنسبة إلى من تصدق بخلاف من بقي بعدها مستغنيا، فإنه لا يندم عليها بل يسر بها، وقد اختلف العلماء في الصدقة بجميع ماله؛ فمذهبنا أنه مستحب لمن لا دين عليه ولا له عيال لا يصبرون؛ بشرط أن يكون ممن يصبر على الإضاقة والفقر فإن لم تجتمع هذه الشروط؛ فهو مكروه.
وقال القاضي: جوز العلماء وأئمة الأمصار الصدقة بجميع ماله، وقيل: يرد جميعها وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل: ينفذ في الثلث هو مذهب أهل الشام، وقيل: إن زاد على النصف ردت الزيادة وهو محكي عن مكحول قال أبو جعفر الطبري: ومع جوازه فالمستحب أن لا يفعله وأن يقتصر على الثلث.
وقال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (7/ 110): قال مجاهد: لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا، ولو أنفق درهما أو مدا في معصية الله كان مسرفا. وفي هذا المعنى قيل لحاتم: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير.
قلت: - القرطبي - وهذا ضعيف. يرده ما روى ابن عباس أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فجذها ثم قسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا فنزلت: " ولا تسرفوا " أي لا تعطوا كله. . .
قال السدي: " ولا تسرفوا " أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء.(11/5824)
ومن يعمد إلى ماله الكثير فيخرج من عرضه مائة ألف درهم.
قلت: ليس في هذا أن ذلك الدرهم هو جميع مال ذلك الرجل، وأنه لا يجد غيره، ولا يملك سواه. ثم قد قدمنا أن التأثير بالقليل لا يعد من السرف لا لغة ولا شرعا، ومما يؤيد ما ذكرناه [5أ] في معنى السرف لغة ما ذكروه في معنى التبذير، فإنه يلاقيه.
قال في الصحاح (1) وتبذير المال تفريقه إسرافا. أبو زيد يقال: رجل تبذارة؛ الذي يبذر ماله ويفسده. انتهى.
_________
(1) (2/ 587).(11/5825)
وقال في النهاية (1) المبذر المسرف في النفقة.
وقال في القاموس (2) وبذره تبذيرا أخربه وفرقه إسرافا. انتهى.
وقد عرفت أن معنى التبذير كمعنى الإسراف في اللغة والشرع، والعجب أن صاحب النهاية، وصاحب القاموس ذكرا في مادة الإسراف أن منه الإنفاق في غير الطاعة، ولم يقيدا التبذير بمثل، وما ذلك إلا لكون ذكر الإنفاق في غير طاعة في معنى السرف من خلط المعاني اللغوية بالمعاني الشرعية.
فإن قلت: تقد كانت العرب تتمادح بإخراج المال دفعة واحدة، والتكرم بما يجده الإنسان، وإن لم يجد بعد ما يسد رمقه فضلا عن أن يجد غيره، كالواقعات من العرب المشهورين بالكرم مثل: حاتم، وكعب بن مامه، وأمثالهم. قلت: لا شك في تمادحهم بذلك، مع أنهم يسمونه سرفا وتبذيرا، وهم إذ ذاك على جاهليتهم لم يعلموا بقبح ذلك في الشرع، والمقصود الذي تقوم به الحجة هنا أنهم يسمونه سرفا، فوجب حمل الأدلة الواردة في النهي عن السرف على هذا المعنى العربي، ولا ينافي ذلك وقوع التمادح به، فإنه لم يكن البحث في كون السرف مما يتمادح به من لم يتقيد بالشرع، بل في صدق اسم السرف عليه، والرجوع إلى بيان حكمه شرعا.
ومعلوم أن العرب قد تمدح من جاد بكل ماله على جهة السرف مدحا زائدا على من جاد ببعضه، لأن الكرم محبب إلى النفوس، لا سيما النفوس العربية، بل قد تجد أهل الإسلام يغفلون عن قبح ذلك شرعا، ويبالغون في مدح من أسرف بإخراج ماله، وبذر به لتلك العلة، وبسبب تلك الطبيعة كما قال الشاعر:
وكل يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكن طبع النفس للنفس قائد
بل قد يبالغون في الثناء على من جاد بنفسه، ولو جاد بها في باطل كما في قول
_________
(1) (1/ 110).
(2) (ص444).(11/5826)
الشاعر [5ب]
ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله
وقول الآخر:
يجود بالنفس إن ضن الجبان بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
ولسنا بصدد ما تستحسنه الطباع العربية، وتتمادح به، فإن كلامنا في حكمه شرعا، لا في حكمه عرفا، فإن ذلك لا يفيد شيئا، ولا يصح الاستدلال به لمن قال: لا سرف في الخير. وهذا ظاهر واضح، على أن في بيت جرير السابق ما يدل على أن عدم السرف مما تتمادح به العرب، وشعره تقوم به الحجة في إثبات المعاني اللغوية بالإجماع.
والحاصل: أن من زعم أن نوعا من أنواع السرف محمود شرعا، أو مباح فهو قد أثبت حكما وادعى على الشرع أمرا، وعليه الدليل الصالح لاتباع دعواه، وهذا مما لا خلاف به بين أهل علم المناظرة. . . الجدل، فإن جاء به صحيحا سليما عن شوب ما يبطله، أو يقدح فيه فليأت به، هذا على تقدير أنه لم يرد في ذلك شيء لا من كتاب ولا سنة، فكيف وهو مذموم كتابا وسنة! وأجمع على ذمة المتشرعون، ولم يخالف فيه أحد منهم من السلف ولا من الخلف.
وفي هذا المقدار كفاية، لمن له هداية، وحسبي الله ونعم الوكيل. [6أ].(11/5827)
(192) 23/ 5
بحث في الصلاة على النبي صلي الله عليه وآله وسلم
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/5830)
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في الصلاة على النبيِّ صلي الله عليه وسلم.
2 ـ موضوع الرسالة: آداب.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم أدام الله إفادته إمام العلوم الحائز لمنطوقها والمفهوم.
4 ـ آخر الرسالة: وفاز بأعظم ما يطلبه طلاب الخير وفي هذا المقدار كفاية لمن له هدايةٌ وحسبنا الله ونعم الوكيل. كتبه من خط المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله له.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 ـ عدد الصفحات: 6 صفحات.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 18 سطرًا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 6 أسطر.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 14 ـ 18 كلمة.
9 ــ الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/5831)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم ـ أدام الله إفادته إمام العلوم الحائز لمنطوقها والمفهوم، البدر شيخ الإسلام ـ أمتع الله بحياته، وبارك في أوقاته ـ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. مما لا غِناء عن استمداد إفادتكم ما ورد في حديث كعب بن عُجْرَةَ رضي الله عنه من قول النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ في أثناء الحديث فقال: «عرض لي جبريلُ ـ عليه السلام ـ فقال: مَنْ ذُكرتَ عنده ولم يصلِّ عليك فَلَعَنهُ اللهُ فقلْ: آمين، فقلتُ آمين» (1) رواه الحاكم، وابن حبان وغيرهما، وغير ذلك من الأحاديث المتكاثرة في دواوين الإسلام، المشتملةِ على الدعاء على من ذكر عنده النبيُّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ ولم يصلِّ عليه بأنْ يُرْغَمَ أنفُه، وتسميتهُ بخيلاً، وكونه خِطئَ طرائق الجنة، وكونه شقي، وغير ذلك فإفادة هذه الأحاديث أنَّ ذكر عنده النبيُّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ سببٌ للصلاة عليه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ.
وكل منهما على انفرادها ذكرٌ، وسببٌ مستقلٌّ يستلزم المسبِّبِ عند وجود سببه، فيلزم ما أن أذاعَه رجلٌ ملازم لذكر النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ من أوَّل النهار إلى آخره. وأنت تسمع أنَّ تلازُمَ الصلاة على النبي صلي الله عليه وآله وسلم ـ ضرورتُها تكرُّرُ المسبِّب عند تكرُّر سببِه، وإلاَّ استوجب التاركُ الوعيدَ الشديدَ في الانقياد والإرغام وغيرهما، وتستلزم السنةُ أن السامع للذكر يتركُ كلِّ شيء من الطاعات وغيرها بل الواجبات ويشتغلُ بالصلاة على النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ حتى يسكتَ الذاكر. وفي ذلك الاشتغال بالطاعة مشقةٌ لا تخفى، ووعيد عظيم. فهل فيه ما يصلُح أن يكون دليلاً مخلَصًا، وهو دليل يرشدُ أنه يكفي مع الذكر الكثير في الزمن الطويل الصلاة على النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ مرةً أو مرتين، أو ثلاثًا؟ فالفائدة
_________
(1) سيأتي تخريجه في الجواب.(12/5835)
مطلوبة، والمسألة مما عمَّتْ بها البلوى، جزاكم الله خير الآخرة والأولى.
ومما عرض فيما عساها تتعلَّق بهذا البحث فلا بد من عرضه على شريف نظرِكم، وهو أنْ يقول أنَّ الذكر الكثير في الزمن الطويل يُنَزَّل منزلةَ سبب واحد [1أ]، فيكفي الصلاةْ على النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ منها واحدة ولا تلزم التكرارَ، كما أنَّ .... (1) إذا اجتمعت نُزِّلَتْ منزلةَ سبب واحد، وصُلِّي عليها صلاة واحدة، كما وردت بذلك السُّنَّةُ مع أنَّ كل حياتها على انفرادها سببٌ مستقل للصلاة عليها، فهل يصلح أن يكون هذا مستندًا أم لا؟ فأفضلوا بالجواب الشافي الشامل بجميع أطرافِ السؤال. والسلام ختام، ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وسلم عدد ما ذكره الذاكرون وغفلَ عن ذِكْرِهِ الغافلون.
_________
(1) هنا كلمة غير واضحة في المخطوط.(12/5836)
جواب مولانا العلامة المحقق البدر شيخ الإسلام:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأفضلين، وصحبه الأكرمين، أقول مجيبًا عن هذا السؤال النفيس من الولد العلامةِ على بن أحمد الظفري (1) ـ كثر الله فوائده ـ أنَّ الدليل الدال على مطلقِ ا لوجوب من غير تفسير هو قوله ـ عز وجل ـ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) فهذا أمرٌ قرآني واقتضى وجوبَ مطلق الصلاةِ. واختلفَ أهلُ العلم اختلافًا كثيرًا في تفسير فِعْل هذا الواجب، وهل هو متكرر أم لا؟ والحق أنَّ اللام لا تفيدُ إلاَّ مطلقَ الإيقاعِ لهذا المأمور به من غير تقييد، أهو شأنُ الأوامرِ المقتضيةِ للإيجابِ والتكرارِ في وقت [أوقات] (3) تحتاج إلى دليل خارجي يدلُّ عليه، كتكرير ذلك في الصلواتِ ولا يفيد الوجوبَ ما كان تعليمًا للكيفيةِ كقول القائل له ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «قد علمنا كيفَ نسلِّم عليك، فكيف نصلِّي عليك؟ قال: قولوا اللهم ... » (4) إلخ لأنَّ الأوامرَ في تعليم الكيفياتِ تابعةٌ للمكيُّف إن كان واجبًا فهي واجبةٌ،
_________
(1) السيد علي بن أحمد الظفري الصنعاني، ولد في أول القرن الثالث عشر وأخذ بصنعاء عن عمه السيد محمد بن الحسن بن عبد الله الظفري والسيد الحسن بن يحيى الكبسي والسيد عبد الله بن محمد الأمير وأخذ عن القاضي محمد بن علي الشوكاني في ((الكشاف)) والمطول وغيرهما.
برع في جميع العلوم. كان سريع الفهم حسن التصوُّر جيد الذكاء. توفي سنة 1270هـ.
((نيل الوطر)) (2/ 117 رقم 322).
(2) [الأحزاب: 56].
(3) كذا في المخطوط ولعلها (من أوقات).
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3370) وطرفاه رقم (4797، 6357) ومسلم رقم (406) من حديث كعب بن عجرة.
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (4798) من حديث أبي سعيد الخدري.(12/5837)
وإن كان غير واجبٍ فهي غير واجبة. وقد قررتُ هذا في مؤلَّفاتي بما لا يحتاج فيه إلى غيره. إذا عرفت هذا فاعلم أنه قد ورد ما يدلُّ على الوجوب [1ب] عند ذكره ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ من ذلك حديث أنسٍ عند النسائي، (1) والطبراني في الأوسط (2) والكبير، (3) وابن السُّني (4) قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من ذُكرتُ عندَه فليصلِّ عليَّ، فإنه من صلَّى عليَّ صلاة واحدةً صلى الله عليه عشرًا» قال النووي (5): إسناده جيد. وقال الهيثمي (6): رجاله ثقات، فهذا أمر مقيد بوقت الذكرِ، ويمكن أن يقال إنه أمرُ إرشاد، لأنَّه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ ذكر تعدُّدها للمصلِّي من الأجرِ، ولم يذكر أنَّ عليه إثمًا.
ومن الأدلة على الوجوب عند الذكرَ حديثُ الحسين بن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ عند الترمذي، (7) وقال (8): حسن صحيحٌ، وابنُ حبان (9) وصححه: «البخيلُ من ذُكرتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ». وأخرجه من حديث أيضًا أحمد في المسند (10)
_________
(1) في (السنن) (3/ 50)، وفي (عمل اليوم والليلة) رقم (62، 362، 363).
(2) (3/ 153 ـ 154 رقم 2767).
(3) قال الهيثمي في (المجمع) (10/ 163) رواه الطبراني في (الصغير) (1/ 209) و (2/ 48) وفي (الأوسط) ولم يعزه للطبراني في (الكبير).
(4) في (عمل اليوم والليلة) رقم (382).
(5) في (الأذكار) رقم (2/ 382).
(6) في (مجمع الزوائد) (10/ 163). وأخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (901)، والحاكم (1/ 550)، والبخاري في (الأدب المفرد) رقم (643)، وأحمد (3/ 102، 261). وهو حديث صحيح.
(7) في (السنن) رقم (3546).
(8) في (السنن) (5/ 551) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(9) في صحيحه رقم (909).
(10) (1/ 201).(12/5838)
والنسائي (1) والحاكم في المستدرك، (2) وقال: صحيح. وأقرَّه الذهبي، وهو من رواية عبد الله بن علي بن الحسين بن علي عن أبيه، عن الحسين.
وقد روي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في سنن الترمذي، (3) وقال: حديث حسن صحيح. وهذه الصيغة تقتضي الحصرَ مبالغةً كما هو شأن تعريف المسندِ فينبغي حمله على أنه الفرد الكاملُ في البخل، لأنه بخل بما لا نقصَ عليه فيه، ولا مؤنة مع توفر الأجر، وعظم الجزاء. ووجه دلالتِه على الوجوب أنَّ البُخْلَ واجب التجنُّب، فإنه أقبح الغرائز، وأشأم الطبائع. ولهذا يقول رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «وأيُّ داء أدوى من البخل!» وهو حديث صحيح، (4) وله قصة، (5) ويمكن أن يقال فيه ما قيل في الحديث، لأنه بخل على نفسه، ويُحْرَمُ الحظَّ الجزيلَ، والأجرَ الجليلَ.
ومن الأدلة الدالة على الوجوب عند الذكر حديث أبي هريرة عند الترمذي، (6) وحسَّنه، (7) والحاكم، (8) وقال: صحيح، وابن حبان (9) قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «رَغِمَ أنفُ رجلٍ ذُكِرْتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ» قال ابن حجر (10): وله شواهدُ. انتهى.
_________
(1) في (عمل اليوم والليلة) رقم (55).
(2) (1/ 549) وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح.
(3) في (السنن) رقم (3546).
(4) انظر: الحديث تخريجه وقصته في الرسالة (183).
(5) انظر: الحديث تخريجه وقصته في الرسالة (183).
(6) في (السنن) رقم (3545).
(7) في (السنن) (5/ 551) قال: وفي الباب عن جابر وأنس وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
(8) في (المستدرك) (1/ 549).
(9) في صحيحه رقم (908).
(10) في (فتح الباري) (11/ 168).(12/5839)
وقد رواه (1) في مجمع الزوائد (2) من حديث أبي مسعود، وعمار بن ياسر، وابن عباس، وعبد الله بن الحارث، وأبي هريرة. ومعنى رغم أنفُه الدعاءُ عليه بالذلِّ والهوانِ إذا لم يفعل ذلك، ولا يدعى بالذل والهوان إلاَّ على من تركَ واجبًا، وفي النصِّ [2أ] ألفاظُ هذه الأحاديث التي أشرنا إليها: «بَعُد من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ» (3) إلى آخر ما في الحديث المذكور. والبعدُ ضدُّ القربِ، وطلب القرب فضيلةٌ مؤكدة إنْ لم يكن واجبًا، ويمكن أن يقال في هذا الحديث من هذه الطرقِ ما قيل في الحديثين الأولينِ، لأنه لم يضرَّ إلاَّ نفسَه بما يحرِمُها من الأجر والدعاء عليه برغامِ الأنفِ كالدعاء بمثل: تَربَتْ يمينُه أو زيادة عليه بما لا يفيدُ ما يفيد به الوجوب، من أنه يأثم على التركِ، ويُعاقَبُ عليه. واقتران ذلك بمن لم يُغفرْ له في رمضانَ، ومن لم يدخله أبواه الجنة (4) يفيد أنه أمرٌ مؤكد، ويمكن دلالةُ الاقترانِ لا تفيد الوجوبَ إلاَّ لقرينة فقد قال الله عز وجل ـ: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)} (5) فقرن الحضَّ على طعام المسكين وهو ليس بواجب بنفي الإيمان، وهو رأس الواجبات،
_________
(1) أي الهيثمي.
(2) (10/ 165).
وانظر: (فتح الباري) (11/ 168).
(3) أخرج الحاكم (4/ 153) وصححه ووافقه الذهبي عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «احضروا المنبر، فحضرنا، فلمَّا ارتقى درجةً قال: آمين، فلمّا ارتقى الدرجة الثانية قال: آمين، فلمّا ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين فلما نزل قلنا: يا رسول الله! لقد سمعنا منك اليوم شيئًا ما كنا نسمعه. قال: إنَّ جبريل عليه السلام عرض لي، فقال بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له. فقلت: آمين! فلما رقيت الثانية قال: بَعُدَ من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قلت: آمين».
وهو حديث صحيح.
(4) انظر التعليقة السابقة.
(5) [الحاقة: 33، 34].(12/5840)
وأساسُها. على أن طلب المغفرةِ بالأعمال التي يوجبها في رمضان لا يفيد عدمَ طلب المغفرة مطلقًا، فإنه يمكن أن يحصل له بالتسبُّبِ لها في غير رمضان، وكذلك أنه لم يسأل أبواه له الجنةَ في هذا الوقت لا ينافي الطاعةَ الواجبة لهما، ولا يستلزم العقوقَ المحرَّمَ، فقد يدخلانِه الجنةَ بالدخول في مراضيهما والامتثالِ لما يأمرانِه به، وينهيانه عنه في وقت آخرَ، وهكذا لفظ بَعُد فإنه يدلُّ على البعد عن الخير لا على تركهِ الخيرَ. قد يكون من التقرباتِ التي ليست بواجبةٍ، بل هو ظاهر في ذلك، لأنَّ الواجبات يأثَمُ تاركُها ويعاقَبُ عليها.
وبالجملة فهذه الصلاةُ في هذا الموطن إن لم تكن واجبةً فهي فضيلةٌ فاضلة، وسنة مؤكَّدةٌ، وعبادةٌ مقرَّبة لا يشك في ذلك شاكٌّ، ولا يتمارى فيها متمارٍ، وناهيك أن هذا المصلِّي يصلِّي عليه بالصلاة الواجبةِ ربُّ العزةِ وخالقُه خالقُ السماواتِ والأرض عَشْرَ مرَّاتِ كما ثبت في الأحاديث الصحيحةِ التي بعضها في صحيح مسلم. (1) بل أخرج أحمد في المسند (2) من حديث عبد الله بن عمرو عنه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من صلَّى عليَّ واحدةً صلّي الله عليه بها وملائكته عليه سبعين صلاة» وحسَّنه المنذري (3) والهيثمي. (4) هذا في مطلق الصلاة، فكيف بالصلاة عليه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ في مواطنِ الذكر الذي خصَّ بهذه الأحاديث [2ب] الصحيحة التي رتب عليها البخلَ، ورغمَ الأنف! ومن فضائل الصلاة عليه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ حديث أبيِّ بن كعب عند الترمذيِّ (5) ...................................................
_________
(1) في صحيحه رقم (408) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) (2/ 187).
وأورده الهيثمي في (المجمع) (10/ 160) وقال: رواه أحمد وإسناده حسن.
(3) في (الترغيب والترهيب) رقم (2470).
(4) في (المجمع) (10/ 160).
(5) في (السنن) رقم (2457).(12/5841)
وقال (1): حسن صحيح والحاكم (2) وقال صحيح، أنه قال: «كان رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ إذا ذهب ربعُ الليل قام فقال: أيُّها الناسُ اذكروا اذكروا، جاءت الراجفةُ تتبعها الرادفةُ، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه فقال: أبيّ بن كعب يا رسول الله، كم أجعلُ لك من صلاتي قال: «ما شئت». قلت: الربعُ قال: «ما شئت، وإن زدت فهو خير لك» قلت: النصفُ. قال: «ما شئتُ وإن زدتَ فهو خير لك». قلت: أجعل لك صلاتي كلَّها؟ قال: «إذن تكفى همَّكَ، ويُغْفَرُ ذنبُك» وفي لفظ: «ما أهمَّك من أمر دنياك وآخرتك» (3) والمراد بالصلاة هنا الدعاءُ الذي من جملته الصلاةُ على رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ، وليس المراد الصلاةَ ذاتَ الأذكار والأركان كما أوضحنا ذلك في غير هذا الموضعِ. (4)
نعم لو صح حديث جابر بلفظ: «من ذكرتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ فقد شقى» أخرجه ابن السّني في عمل اليوم والليلة، (5) وحديث: «من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ فقد شقى» (6) والحديث الذي رواه ابن ماجه (7) من حديث ابن عباس قال: قال رسول
_________
(1) في (السنن) (4/ 637).
(2) (2/ 121، 513). وهو حديث حسن.
(3) أخرجه الطبراني في (الكبير) (4/ 35 ـ 36 رقم 3574) بإسناد حسن.
وأورده الهيثمي في (المجمع) (10/ 160) وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن.
(4) تقدم توضيحه.
(5) رقم (381) بإسناد ضعيف.
(6) مكرر في المخطوط.
(7) في (السنن) (908) قال البوصيري في (مصباح الزجاجة) (1/ 313 رقم 331): هذا إسناد ضعيف جبارة بن المغلس، ورواه الطبراني من طريق جبارة به، وله شاهد من حديث أبي هريرة رواه البيهقي في سننه.
وقال الألباني في صحيح ابن ماجه رقم (749) إسناده حسن.
وانظر: (الصحيحة) رقم (2337).(12/5842)
الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من نسي الصلاةَ عليَّ خطِئَ طريقَ الجنةِ» كانت هذه الأحاديثُ من أقوى أدلة الوجوب ذلك الأوّّل إسنادها ضعيف منها. والباقي في إسناده بشر بن محمد الكندي ضعَّفه ابن المبارك، وابن معين، والدارقطني وغيرهم.
والثالث في إسناده جبارةُ بن المغلس، وهو ضعيف. (1) فإنْ قلت بمجموع ما ذكرته من جملة الأحاديث المتقدمة، وهذا الوجوب مستفادٌ منها استفادة ظاهرة واضحة فشهادة بعض معانيها لبعض. قلت: إذا سلمنا ذلك فليس على من حضر مثلاً سماعَ الحديث الذي تكرَّر فيه الصلاةُ عليه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أن يكرِّرها عند كل لفظ يذكر فيه المملي لفظَ الصلاةِ، فإنَّ ذلك قد يشتغِلُ عن تدبُّر معاني الحديث وفهمِها كما ينبغي. وقد صلَّى هذا السامعُ في هذا المجلس عند الذكرِ، وإن استكثر من ذلك فقد استكثرَ من الخيرِ وليس بواجب عليه. وهكذا إذا كان المجلس يُصلَّي فيه على النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ[3أ]ـ فإنه يصلَّى معهم، أو يجتنب مجلِسَهم.
وبالجملة فلا يترك تكرار الصلاة عند ذكره ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ إلاَّ من كان مسئولاً يفهم كلامُهُ أو يفهم تفسير كلامِه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أو كان في صلاة فلا يتابَعُ الذاكرُ، فكفى بالصلاة شغلاً كما ثبت في الحديث. (2) وهكذا سامع خطبةِ الجمعةِ، فإنه لا يتابع الخطيب إذا صلَّى على رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لحديث: «من قال لصاحبه أنصتْ والإمامُ يخطبُ فقد لغى، ومن لغى فلا جمعة له» (3) والأمر بالإنصات هو طاعةٌ فبيَّن الشارع أن من فعلَ ذلك فلا جمعة له، وكان لغوًا من هذه الحيثية غيرَ جائز، فإنْ كان تكرار الصلاة لا يشغلُه عن ذكر ما
_________
(1) انظر: (الميزان) (1/ 387 رقم 2433) قال الذهبي من مناكيره: حدثنا حمَّاد بن زيد عن ابن عباس وأبي جعفر جميعًا قالا ـ وذكر الحديث ـ ثم قال: وهذا بهذا الإسناد باطل.
(2) تقدم تخريجه. انظر الرسالة رقم (87، 88).
(3) تقدم تخريجه. انظر الرسالة رقم (81، 88).(12/5843)
ذكرناها فتجتهد في متابعة القارئ، (1) فإنه قد جمع له بين أفضل الأذكار، فطلب العلم وفهمُه يأخذ بطرفيّ الكمالِ، وفاز بأعظم ما يطلبه طلاب الخير. (2)
وفي هذا المقدار كفاية لمن له هدايةٌ وحسبنا الله ونعم الوكيل.
كتبه من خط المجيب محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله له [3ب]ـ.
_________
(1) انظر: (فتح الباري) (11/ 168).
(2) قال الحافظ في (الفتح) (11/ 168) قال ابن العربي: فائدة الصلاة عليه ترجع إلى الذي يصلي عليه لدلالة ذلك على نصوع العقيدة وخلوص النية وإظهار المحبة والمداومة على الطاعة والاحترام للواسطة الكريمة صلي الله عليه وسلم: وقد تمسَّك بالأحاديث المذكورة من أوجب الصلاة عليه كلما ذكر. لأن الدعاء بالرغم والإبعاد والشقاء والوصف بالبخل والجفاء يقتضي الوعيد والوعد على الترك من علامات الوجوب. ومن حيث المعنى أن فائدة الأمر بالصلاة عليه مكافأته على إحسانه، وإحسانه مستمر، فيتأكد إذا ذكر وتمسكوا أيضًا بقوله: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} فلو كان إذا ذكر لا يصلي عليه لكان كأحد الناس. ويتأكد ذلك إذا كان المعنى بقوله: {دُعَاءَ الرَّسُولِ} الدعاء المتعلق بالرسول، وأجاب من لو يوجب ذلك بأجوبة: (منها) أنّه قول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين فهو قول مخترع، ولو كان ذلك على عمومه للزم المؤذن إذا أذن وكذا سامعه ولزم القارئ إذا مر ذكره في القرآن وللزم الداخل في الإسلام إذا تلفظ بالشهادتين ولكان في ذلك من المشقة والحرج ما جاءت الشريعة السمحة بخلافه، ولكان الثناء على الله كلما ذكر أحق بالوجوب ولم يقولوا به.
وقد أطلق القدوري وغيره من الحنفية أن القول بوجوب الصلاة عليه كلما ذكر مخالف للإجماع المنعقد قبل قائله، لأنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة أنّه خاطب النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلي الله عليك، ولأنه لو كان كذلك لم يتفرغ السامع لعبادة أخرى. وأجابوا عن الأحاديث بأنها خرجت مخرج المبالغة في تأكيد ذلك وطلبه وفي حق من اعتاد ترك الصلاة عليه ديدنا.
قال الحافظ في (الفتح) (11/ 169) وفي الجملة لا دلالة على وجوب تكرر ذكر بتكرر ذكره صلي الله عليه وسلم في المجلس الواحد.
وما نرجحه قول الشوكاني رحمه الله.(12/5844)
(193) 38/ 1
سؤال وجواب عن الصلاة المأثورة على رسول الله صلي الله عليه وسلم
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/5845)
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: سؤال وجواب عن الصلاة المأثورة على رسول الله صلي الله عليه وسلم.
2 ـ موضوع الرسالة: آداب.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده وصلى الله على لا نبيَّ بعده وآله وصحبه وبعد. فإنه اشتمل السؤال الوارد منكم كثر الله فوائدكم على أربعة أطراف.
4 ـ آخر الرسالة: كمل من خطَّ المجيب حفظه الله وجعله لكل معضلة ومشكلة محلاً. بحق محمد الأمين وصحبه الأكرمين.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 ـ عدد الصفحات: 10 صفحات.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 10 ـ 12 كلمة.
9 ــ الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/5847)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده وصلَّى اللهُ على من لا نبيَّ بعدَه وآله وصحبِه وبعدُ:
فإنه اشتملَ السؤالُ الواردُ منكم ـ كثَّر الله فوائدكم ـ على أربعةِ أطرافِ:
الأول: منِ اسْتُؤُجِرَ أنْ يصلي على النبيَّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ عددًا معروفًا بأجرةٍ معلومةٍ، وشرَطَ عليه أن يُصلِّي الصلاة المأثورةَ، (1) والأجيرُ لم يكن عندَهُ حقيقةُ لفظةِ الصلاةِ المأثورةِ، فكرَّر الصلاةَ القدْرَ المستأجرَ عليهِ بلفظِ: اللهمَّ صلِّ وسلِّم على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، فهل قد أجزتْ هذهِ الصلاةُ مع شرطِ أنْ تكونَ الصلاةَ المأثورةَ؟
الطرف الثاني: هل قال قائلٌ بأنها الصلاةُ المعروفةُ بالخمسِ، وهي قولُهُ: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ، وآل محمدٍ، كما صلِّيتَ على إبراهيمَ، وعلى آلِ إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ.
اللهمَّ ترحَّمْ، اللهم تحنَّن، اللهم بارك، اللهم سلِّمْ إلى آخرها باللفظ المذكورِ أولاً، هل يكونُ صلاة واحدةً، أو خمسًا، لأنَّ التحنينَ والتبرُّكَ والتسليمَ والترحُّم لفظُها غيرُ لفظِ الصلاةِ. (2)
الطرف الرابع: ما هوَ الذي أجمعَ عليه العلماءُ أنَّه هو الصلاةُ المأثورةُ؟ انتهى.
_________
(1) سيأتي ذكرها. وانظر الرسالة رقم (191).
(2) قال السخاوي في (القول البديع) (ص59 ـ 60): قال النميري: وهذا الحديث لا يحفظ عن على إلاَّ من هذا الوجه، وإسناده ذاهب وعمرو راويه عن زيد متروك الحديث، قالوا: يضع على أهل البيت وحرب ويحيى مجهولان، ولم نجده من غير طريقهما عن عمرو، وكذا قال: وقد رواه أبو الربيع الكلاعي فيما أورده ابن مسْدِي من طريق محمد بن المظفر الجوزجاني عن عمرو، قال ابن مسْدِي: وهو غريب من حديث زيد عن آبائه، وهو أبو عمرو، ولا نعلمه بهذا الإسناد إلاَّ من هذا الوجه.
راجع (الشفاء) للقاضي عياض (2/ 642).(12/5851)
وأقول: أمَّا الطرفُ الأولُ فالجواب عليه أنَّ المستأجِرَ أرادَ بقولِهِ المأثورةَ نوعًا من الصلاةِ خاصًّا فلا يُجزي الأجيرَ إلاَّ فعلُه دونَ غيره، ولا يستحقُّ الأُجْرَةَ إلاَّ بهِ، ولكن فرَّطَ المستأجرُ بعدمِ البيانِ، والأجيرُ بعدمِ الاستفصالِ؛ فلا يستحقُّ الأجيرُ لما فعلَه أَجْرَهُ، فإذا وقعَ الخلافُ بينَهما بعد أن فعلَ الأجيرَ الصلاةَ التي ذكَرَها السائلُ ـ حفظه الله ـ فقال المستأجرُ: أردتُ نوعًا خاصًّا من الصلاةِِ المأثورةِ، وأنكر الأجيرُ، فإنْ نظَرْنَا إلى الأصلِ، والظاهرُ فهما يقضيانِ بأنَّ قولَ الأجيرِ، لأنَّ المستأجِرَ مدعي إرادة نوع خاصٍّ، فهو كالمعيَّنِ، ومن عيَّن بيَّنَ، ولكن لما كانت الإرادةُ مما لا يمكنُ إقامةُ البيِّنةِ عليهِ لكونِها من الأمورِ القلبيةِ، وهي لا تُعْرَفُ إلا مِنْ جِهَةِ صاحِبها كان القولُ قوله مع يمينه، (1) لا يقال مجرَّدُ تَرْكِ البيانِ من المستأجِرِ يوجِبُ عليهِ أُجْرَةَ المِثلِ، لما فعله الأجيرُ [1] من الصلاة لإيقاعِه الأجيرَ بذلكَ التَّركِ في نوعٍ من أنواعِ اللَّبسِ، وهو ينزَّلُ منزلةَ التعزير (2): لأنا نقول: الأجير جان على نفسه بترك الاستفصال؛ فلا يبقى لما فعله الغير به تأثير مع فعل نفسه فلا يستحق أجره هذا على فرض إرادة المستأجر نوعًا خاصًّا من الصلاة المأثورة وأما إذا أراد ما يصدق عليه أنه صلاة شرعًا فهذه الصلاة المذكورة في السؤال صلاة شرعية، وسلام شرعي، فيستحق الأجير جميع الأجرة المسماة لأنه قد فعل الصلاة والسلام على النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ، وذلك المفعول فرد من الأفراد التي يصدق عليه مطلق قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3)
_________
(1) للحديث الذي أخرجه مسلم رقم (223/ 139)، والترمذي رقم (1340)، وأحمد (4/ 317).
من حديث وائل بن حجر: «أنَّ النبي صلي الله عليه وسلم قال للكندي: «ألَك بينة؟» قال: لا. قال: «فلك يمينه».
(2) تقدم تعريفه.
(3) [الأحزاب: 56].(12/5852)
ومطلق الأحاديث الواردة بالأمر بذلك، والترغيب فيه مطلقًا ومقيدًا. (1) وقد تقرر أن المطلق يطابقه كل فرد من الأفراد التي يصدق هو عليها، وإن لم يرد مطلق ما يصدق عليه أنه مشروع، بل أراد المشروع الخاص؛ وهو ما ورد التعليم به من طريقه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ في الأحاديث الصحيحة فهذا اللفظ المذكور في السؤال لم يرد في حديث صحيح على الصفة المذكورة فيما أعلم، فلا يجزئ المستأجر، ولا يستحق به الأجرة، فيما تقدم.
وإذا وقع الاختلاف كان الحكم ما سلف، وسبب عدم الإجزاء في صور المخالفة أن النوع الذي أراده المستأجر قد حصله شرط في الإجازة. وقد تقرر في الأصول أن الشروط يؤثر عدمها في عدم المشروط فيكون المشروط إذا عدم واحد منها معدومًا حكمًا؛ فالإجارة المذكورة حينئذ معدومة لا حكم للصورة الموجودة منها.
وأما الطرفُ الثاني: فالجوابُ عليه أنَّ السائلَ ـ حفظه الله ـ إنْ أرادَ بقولِهِ: هل قال قائلٌ بأنَّها الصلاةُ المأثورةُ؟ النوعُ الخاصُّ وهو الثابتُ في أحاديثِ التعليم، (2) فقد أسلفنا أنَّها لم ترِدْ بذلك اللفظِ في حديثٍ صحيحٍ. (3). وإذا لم تردْ كذلكَ فلا قائلَ بأنَّها المأثورةُ، لأنَّ الجزمَ بهِ فرع ورودها في الأحاديث، لأنَّ قولَ القائلِ هذهِ صلاةٌ مأثورةٌ، بذلكَ الاعتبارَ في قوةِ هذهِ، صلاةٍ ثابتةٍ بطريق التعليمِ لنا منه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ، وإنْ أرادَ مطلقَ ما يصدُقُ عليه أنَّهُ صلاةٌ وسلامٌ شرعًا، فلعلَّه لا يحالفُ في ذلكَ أحدٌ من المسلمينَ لما سلفَ مِنْ أنَّ ذلكَ فردٌ من الأفرادِ التي يصدْقُ عليها المطلقُ وتُطابقُهُ.
وأما الجوابُ عن الطريق الثالثِ فنقول: ليس هذهِ صلواتٍ متعددةً، إما هذه صلاةٌ مشتملةً على أدعيةٍ للمصلَّى عليه، بدليلٍ أنه لو قال قائلٌ: اللهم تحنَّنْ على محمدٍ، وعلى
_________
(1) تقدم تعريفهما.
(2) تقدم ذكرها. انظر الرسالة رقم (191).
(3) انظر: (القول البديع) (ص 57 ـ 59).(12/5853)
آل محمدٍ، أو ترحم إلخ لم يكُنْ فاعلاً للصلاةِ لا شرعًا ولا عُرْفًا.
نعم يمكنُ أنْ يُقالَ: إنه فاعلٌ للصلاةِ لغةً على فَرَضِ أنها في اللغةِ مطلقُ الدعاء [2] أعمُّ من أنْ يكونَ للنَّفسِ أو للغيرِ.
وأما إذا كانتْ في اللغةِ لما هو مختصٌّ بالنَّفسِ، أو لتحريكِ الصَّلويْنِ كما صرَّحَ بهِ الزمخشريُّ في كشَّافِهِ (1) فلا، وإذا سلَّمنا صِدْقَ الصلاةِ اللغويةِ على هذهِ فذلكَ أيضًا غيرُ نافعٍ، فلا يصِحُّ الاستدلالُ بهِ على أنَّ تلكَ الألفاظَ الخمسةَ صلواتٌ خمسٌ، لأنَّا الواجبَ تقديمُ الحقيقةِ الشرعيةِ والعُرفيَّةِ على اللغويةِ، كما تقرَّرَ في الأصولِ. (2)
فإن قلتَ: إذا كان المرادُ الصلاةَ الشرعيةَ فهي عندَ أهلِ الشرعِ حقيقةٌ في ذاتِ الأركانِ، فلا يصدُقُ على الصلاةِ النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أنها هي الصلاةُ الشرعيةُ حتى يتمَّ لك أنَّ لفظَ الصلاةِ هو المرادُ من المطلقِ، ويترجَّحُ بذلكَ على إرادةِ اللُّغويةِ.
قلت: الصلاةُ في لسان أهلِ الشرعِ للمعنى المذكورِ، لكنْ بشرطِ ورودِها مطلقةً، فإنْ وردتْ مقيَّدةً بكونها على النبيِّ كما في قولهِ: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وكما في الأحاديثِ التي فيها الأمرُ بالصلاةِ عليه، وعلى الآلِ، فلا شكَّ ولا ريبَ أن المرادَ بها اللفظيةَ باللفظِ المخصوصِ، لما تقرَّر من أنَّ المرادَ بهِ ليسَ مجرَّدُ الدعاءِ فقط، بل مع كونٍ فيهِ شعارٌ له ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وتعظيمٌ، ولفظُ التحنُّنِ والترحيمَ ونحوِهما ـ وإن أفادَ الدعاء ـ فليسَ فيه إفادةُ ذلكَ الشعارِ والتعظيمِ، فثبتَ بما ذكرنا أنه لا يصدُقُ على تلك الألفاظِ أنَّها خمسُ صلواتٍ، بل صلاةٌ واحدةٌ.
وقد أخرج الحديثَ المشتملَ على تلكَ الألفاظِ أبو طالبٍ في أماليهِ (3) فقال: حدثنا
_________
(1) (2/ 92 ـ 93).
(2) تقدم ذكره.
(3) في (تيسير المطالب في أمالي السيد أبي طالب) (ص280 ـ 281).
انظر: (القول البديع) (ص59 ـ 60). (الشفا) للقاضي عياض (2/ 641 ـ 642).(12/5854)
أبو عبد الله أحمدُ بنُ محمد البغداديُّ قال: أخبرنا أبو القاسمِ عبدُ الله بنُ إسحاقَ بن جعفرٍ الزيدي قال: حدثني عليُّ بن محمدٍ النُّخعي الكوفي وعدَّهُنَّ في يدي قال: حدثني إبراهيمُ المجازني جدي أبو أمي قال: عدَّهُنَّ نصرُ بنُ مُزاحِمٍ في يد إبراهيمَ بنِ الزيرِ، قال التيميُّ، قال إبراهيمُ بنُ الزبرقانِ: عدَّهُنُّ في يدي علىُّ بن الحسينِ، قالَ عدُّهُنَّ في يدي الحسينُ بنُ علي، قال: عدَّهُنَّ في يدي أمير المؤمنينَ عليٌّ ـ عليه السلام ـ قال: عدهنّ في يدي رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ، قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: عدَّهنَّ في يدي جبريلُ ـ عليه السلام. قال جبريلُ: هكذا أُنْزِلْتُ بِهِنَّ من عندِ ربِّ العِزَّّةِ. اللهمَّ صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيمَ وآل إبراهيمَ، إنك حميدٌ مجيدٌ، وترحم على محمد وعلى آل محمد، كما ترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد وتحنَّنْ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما تحنَّنتَ على إبراهيمَ وآل إبراهيمَ، إنك حميدٌ مجيدٌ وسلم على محمد وعلى آل محمد كما سلمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد.
قال أبو طالب (1): عدَّهنَّ زيدُ بنُ علىٍّ بأصابعِ الكفِّ مضمونةٌ، واحدةٌ واحدةُ مع الإبهام.
[3]. وأما الجوابُ عن السؤال الرابعِ فأقول: الذي أجمعَ عليهِ العلماءُ أنَّه هو الصلاةُ المأثورةُ هو ما ثبتَ في أحاديثِ التعليمِ مطلقًا ومقيَّدًا بالصلاة من طريق صحيحةٍ، لا مطعنَ فيها لأحدٍ من أئمةِ الحديثِ، لأنَّ أهلَ العلمِ باعتبارِ هذا الشأنِ أتباعٌ لأهلِهِ، فما اتفقوا علي تصحيحهِ وافقهم غيرُهم عليهِ من أئمةِ الأصولِ، والفقهِ، والتفسيرِ، والآلاتِ وسائر أنواعِ العلومِ.
_________
(1) انظر: التعليقية السابقة.(12/5855)
وقد ثبتَ من صفاتِ الصلاةِ عليهِ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ صفاتٌ كثيرةٌ، قال بِصحَّتِها جميعُ أهلِ الحديثِ، أو بعضُهم، وتابَعهُمُ الباقونَ. منها ما اتفق عليه أهلُ الأمَّهاتِ الستِّ كحديثِ كعبِ بنِ عُجْرَةَ (1) قال: قلنا: يا رسول الله، قد علمنا، أو عرفنا كيفَ السلامُ عليكَ، فكيف الصلاةُ؟ قال: قولوا: اللَّهمَّ صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صليت على إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارك على محمدٍ، وعلى آله محمدٍ، كما باركت على إبراهيمَ إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما باركت على إبراهيمَ إنك حميد مجيدٌ. إلا أنَّ الترمذيَّ (2) قال فيه: على إبراهيمَ في الموضعينِ لم يذكر آله، وهكذا في رواية لأبي داود، (3) وفي رواية أخرى (4) له: على إبراهيمَ وآلِ إبراهيمَ.
وبهذه الروايةِ يُرَدُّ على ما زعمهُ بعضُ أهلِ العلم أنه لم يَثْبُتِ الجمعُ محمدٍ وآل محمدٍ، وإبراهيمَ وآل إبراهيمَ في روايةٍ واحدةً في الأمَّهاتِ، مع أنَّ الجمعَ المذكورَ ثابتٌ في صحيح البخاري (5) في الأبوابِ (6) التي عقدَها لإيرادِ الآياتِ والأحاديثِ الواردةِ في إبراهيمَ ـ عليه السلام ـ، ولفظُهُ (7): حدَّثنا قيسُ بنُ حفصٍ، وموسى بن إسماعيلَ، قالا: حدثنا عبدُ الواحد بنُ زياد، قال: حدَّثنا أبو فروةَ مسلمُ بنُ سالمٍ الهمدانيُّ، قال: حدثني عبد الله بن عيسى، سمعَ عبد الرحمن بنَ أبي ليلى قال: لقيني كعبُ بنُ عُجْرَةَ فقال: ألا أُهْدِي لكَ هديَّةً سمعتُها من النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ؟ فقلتُ: بلى فاهْدِها لي فقال: سأَلْنا رسولَ اللهِ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ فقلنا: يا رسولَ اللهِ
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3370) وطرفاه رقم (4797، 6357)، ومسلم رقم (406) وقد تقدم.
(2) في (السنن) رقم (463).
(3) في (السنن) رقم (976).
(4) أي لأبي داود رقم (978).
(5) (6/ 407 ـ 413).
(6) منها الباب رقم (10، 11).
(7) الحديث رقم (3370).(12/5856)
كيفَ الصلاةُ عليكم أهلَ البيتِ؛ فإن الله قد علَّمنا كيف نسلِّم عليكم، قال: قولوا: «اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صليتَ على إبراهيمَ، وعلى آل إبراهيمَ إنكَ حميدٌ مجيدٌ».
اللهمَّ باركْ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ. انتهى بحروفِه.
ومن الأنواع التي اتَّفق عليها أهلُ الأمَّهاتِ (1) إلا الترمذيَّ حديثُ أبي حُميدٍ الساعديِّ أنَّهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلِّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صلي الله عليه وسلم على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت علي إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد»
ومن الأنواع التي لا يختلِفُ أهلُ الحديثِ في صِحَّتِها ما أخرجه أحمد، (2) ومسلمٌ، (3) والترمذي (4) وصححه، وأبو داودَ، (5) والنسائي، (6) وصحَّحه ابنُ خزيمةَ، (7) وابن حبانَ والحاكم والبيهقيُّ [4] عن أبي مسعود البدريِّ قال: أتانا رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ ونحنث في مجلسِ سعدِ بن عبادةَ، فقال له بشيرُ بن سعد: أمرَنَا الله أنْ نصلِّي عليك، فكيفَ نصلِّي عليك؟ قال: فسكت رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ حتى تمنينا أنّه لم يسأله، ثم قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ:
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6360) ومسلم في صحيحه رقم (407) وأبو داود رقم (979) والنسائي في (السنن) (3/ 48).
(2) في (المسند) (4/ 118).
(3) في صحيحه رقم (65/ 405).
(4) في (السنن) رقم (3220).
(5) في (السنن) (980، 981).
(6) في (السنن) (3/ 45 ـ 46 رقم 1285) وفي (عمل اليوم والليلة) رقم (48).
(7) في صحيحه رقم (1/ 351 ـ 352).
وهو حديث صحيح وقد تقدم.(12/5857)
«اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صلِّيتَ على آل إبراهيمَ، وباركْ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما باركت على آل إبراهيمَ في العالمين إنك حميدٌ مجيدٌ، والسلام كما قد علمتم».
وزاد أبو داود (1) في رواية: «اللهم صلي على محمد النبيِّ الأميِّ، وعلى آله محمدٍ». وفي أخرى له: «كما باركتَ على آل إبراهيمَ في العالمينَ».
وأخرج البخاريُّ (2) عن أبي سعيد الخُدريِّ قال: قلنا يا رسول الله، هذا السلام، فكيف نصلِّى عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ عبدك ورسولِكَ، كما صلَّيتَ على إبراهيمَ، وباركُ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما باركتَ على إبراهيمَ» قال أبو صالح عن الليثِ: وبارْك على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما باركتْ على إبراهيمَ وآلَ إبراهيمَ. وأخرجَهُ أيضًا النسائيُّ، (3) وابن ماجهْ. (4) وفي الباب أحاديثُ منها ما هو صحيحٌ عند بعض أئمةِ الحديثِ دونَ بعضٍ، كحديث أبي هريرةَ عند أبي داودَ (5) عن النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال: «مَنْ سرَّهُ أنْ يكتالَ بالمكيالِ الأوْفى إذا صلَّى علينا أهلَ البيتِ فليقلْ: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ النبيِّ وأزواجهِ أمهاتِ المؤمنينَ، وذرِّيتِه، وأهلِ بيتهِ، كما صليتَ على آل إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ»، وهذا الحديثُ سكتَ عنه أبو داودَ، وسكتَ عنه المنذريُّ في مختصرِ السُّننِ. (6)
_________
(1) في (السنن) رقم (981).
(2) في صحيحه رقم (4798).
(3) في (السنن) رقم (3/ 49).
(4) في (السنن) رقم (903).
(5) في (السنن) رقم (982). وهو حديث ضعيف.
(6) (1/ 456).(12/5858)
وقدِ اختلفَ فيه على أبي جعفرٍ محمدِ بنِ عليٍّ عن المجمرِ، عن أبي هريرةَ. وأخرجه النسائي في مسند (1) عليٍّ ـ عليه السلام ـ من طريقِ عَمْرو بن عاصمٍ، عن حِبَّانَ بنِ يسارٍ الكِلابيِّ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ طلحةِ الخُزاعيِّ، عن أبي جعفر المذكورِ، عن محمدٍ بنِ الحنفيةِ، عن أبيهِ أميرِ المؤمنينَ، عن النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بلفظ حديثِ أبي هريرة. وقد اختُلِفَ فيه على أبي جعفرٍ أيضًا، وعلى بن حِبَّانَ بن يسارٍ.
وأخرج أحمدُ (2) عن بريدةَ مرفوعًا بلفظِ: «اللهمَّ اجعلْ صلواتِكَ، ورحمتَك، وبركاتِكَ على محمدٍ، وآل محمدٍ، كما جعلتَها على إبراهيمَ إنكَ حميدٌ مجيدٌ». في إسنادِهِ أبو داود الأعمى، واسمُه نُفيعٌ وهو ضعيفٌ جدًّا، ومُتَّهَمٌ بالوضع. (3) وأخرج أحمدُ نُفيع بن الحارث، أبو داود النخعي الكوفي القاضي الهمداني الأعمى. قال البخاري يتكلمون فيه، وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. قال النسائي: متروك. (ميزان الاعتدال) (4/ 272 رقم 9115). (4) في (المسند) (1/ 199). عن زيد بن خارجةَ مرفوعًا بلفظِ: «قولوا: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ، وعلى آله محمدٍ».
وفي الباب أيضًا عن رُوَيْفِعِ بن ثابت، وجابرٍ، وابنِ عباسٍ أخرَجَهَا المستغفريُّ في الدَّعواتِ.
وفي الباب غيرُ ذلكَ، ولكنَّ المقصودَ من السؤالِ هو بيانُ الصلاةِ التي أجمعَ العلماءُ على أنَّها مأثورةٌ. وقد قرَّرْنا أنما أجمعَ أئمةُ الحديثِ على صحته فهو مجمعٌ عليه عند غيرِهم من العلماء [5] لما سلفَ.
ومن جملةِ ما وقعَ الإجماعُ على صِحَّتِهِ ما في الصحيحينِ من الأحاديثِ المسْنَدَةِ: قال:
_________
(1) لم أجده.
(2) في (المسند) (5/ 353) بإسناد ضعيف جدًّا.
(3) نُفيع بن الحارث، أبو داود النخعي الكوفي القاضي الهمداني الأعمى.
قال البخاري يتكلمون فيه، وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. قال النسائي متروك.
(ميزان الاعتدال) (4/ 272 رقم 9115).
(4) والنسائي(12/5859)
ابنُ الصلاح (1): إنَّ العلمَ اليقينيَّ النظريَّ واقعٌ بهِ، خلافًا لقول من نفَى ذلكَ، يعين: حصولَ اليقينِ، مُحْتَجًّا بأنَّه لا يفيدُ في أصلِهِ إلا الظنَّ، وإنما تلقَّتْهُ الأمُّةُ بالقَبولِ. قال ابن الصلاحِ (2): وكنت أميلُ إلى هذا أو أحْسَبُهُ قويًّا، ثم بانَ لي أنَّ المذهبَ الذي اخْترناهُ أوَّلاً هو الصحيحُ، لأنَّ ظنَّ مَنْ هو معصومٌ من الخطأ لا يخطئ .. إلى آخر كلامه.
وقد سبقه إلى ذلكَ محمدُ بنُ طاهرٍ المقدسيُّ، وأبو نصرٍ عبدُ الرحيم بنُ عبدِ الخالقِ بن يوسفَ. واختارَهُ ابنُ كثيرٍ (3) وحكَى في علوم الحديثِ لهُ أنَّ ابنَ تيميةَ (4) حكَى ذلكَ عن أهلِ الحديثِ، وعن السلفِ، وعن جماعاتٍ كثيرةٍ من الشافعيةِ، والحنابلةِ، والأشاعرةِ، والحنفيةِ، وغيرِهم.
قال النوويُّ (5): وخالفَ ابنَ الصلاحِ المحققونَ والأكثرونَ فقالوا: يفيدُ الظنَّ ما لم يتواتر، ونحوَ ذلك.
حكَى زينُ الدينِ (6) عن المحققينَ واختاره، والمقصودُ من نقلِ هذا الكلامِ أنَّ العلماء متفقونَ على صحَّةِ ما في الصحيحينِ، وإنما اختلفوا هلْ هو يفيدُ العلمَ اليقينيَّ أو لا يفيدُ إلاَّ الظنَّ في غيرِ ما لم يتواتَرْ. وقد حكى الاتفاقَ على تلقي الأمَّةِ لما في الصحيحينِ بالقَبولِ السيدِ العلامةُ محمدُ بنُ إبراهيمَ الوزيرُ في تنقيحِ الأنظارِ، (7) وقال: هو الظاهرُ.
وحكى عن جماعةٍ من أئمةِ أهلِ البيتِ ما يوافقُ ذلكَ، ثم قال بعد ذلكَ: وقد استمرَّ ذلكَ يعني: الاحتجاجَ بأحاديثِ الصحيحينِ، وشاعَ وذاعَ، ولم يُنْقَلْ عن أحدٍ فيهِ نكيرٌ.
_________
(1) في (علوم الحديث) (ص200 ـ 201).
(2) في (علوم الحديث) (ص200 ـ 201).
(3) في (الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث) (ص127 ـ 128).
(4) انظر (مجموع الفتاوى) (18/ 22، 23، 41، 48، 49).
(5) في (التقريب) (ص1/ 70).
(6) في (ألفية الحديث) (ص24 ـ 25)، (فتح المغيث) (ص25).
(7) (ص50 ـ 51) بتحقيقنا.(12/5860)
وهذه طريقٌ من طُرُقِ الإجماعِ المحْتَجِّ بهِ بين لعلماء. وهذه في ديارِ الزيديةِ، فأما بلادُ الشافعيةِ وغيرِهم من الفقهاء، فلا شكَّ في ذلكَ ... انتهى. ومعَ اتِّفاقِهم على الصِّحَّةِ يلزمُ الاتفاقُ على كل صفةٍ من صفات الصلاةِ على النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ المذكورةِ فيهما، وكذلكَ يلزمُ الاتفاقُ على سائر الصِّفاتِ التي يصدُقُ عليها اسمُ الصحيحِ، وإن لم تكنْ مذكورةً فيهما؛ فإنَّ الصحيحَ عندَ المحدِّثينَ مراتبُ.
أولها: ما اتفقَ على إخراجهِ البخاريُّ ومسلمٌ.
الثانية: ما انفردَ به البخاريُّ.
الثالثة: ما انفردَ بهِ مسلمٌ.
الرابعة: ما كان على شرْطِهما، ولم يخرجاهُ في كتابيهِمَا.
الخامسةُ: ما كان على شرطِ البخاريِّ.
السادسة: ما كان على شرطِ مسلمٍ.
السابعة: ما كان صحيحًا عندَ غيرِهِما من الأئمة المعتمدينَ، وليس على شرطٍ واحدٍ منْهما. هكذا حكَى هذهِ المراتبَ عن أئمةِ الحديثِ جماعةٌ من المصنِّفينَ من متأخرِّيهم: السيدُ العلامةُ محمدُ بنُ إبراهيمَ الوزير ـ (1) ـ رحمه الله ـ؛ فإذا وجدنا صفةً من صفاتِ الصلاةِ الثابتةِ عنه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وهي من أحدِ هذهِ الطُّرُقِ السَّبْعِ، ولم ينازِعْ في صِحَّتِها منازعٌ من الأئمةِ المعتبرينَ فهيَ صفةٌ متفقٌ عليها لما سلفَ [6]؛ فإنْ قلتَ: هل يمكنُ جمعُ ألفاظِ الصلاةِ الواردةِ في الأحاديثِ الصحيحةِ، حتَّى يكونَ المصلِّي بها مصلِّيًا بجميعِ المأثورة؟
قلت: نعمْ، قد تصدَّى لجمعِ ذلكَ النوويُّ في شرحِ المهذَّبِ (2) فقال: ينبغي أنْ يجْمَعَ ما في الأحاديثِ الصحيحةِ فيقولُ: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ النبيِّ الأميِّ، وعلى آل
_________
(1) في (تنقيح الأنظار) (ص44 ـ 45).
(2) (3/ 445).(12/5861)
محمدٍ، وأزواجِهِ، وذريَّتِهِ، كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيمَ، وباركْ على محمدٍ، وأزواجِهِ، وذريَّتِهِ، كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ في العالمينَ إنك حميدٌ مجيدٌ.
قال العراقيُّ: بقيَ عليه مما في الأحاديثِ الصحيحةِ ألفاظٌ أُخَرُ، وهي خمسةٌ بجمع الجميعِ.
قولك: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ، عبدِكَ ورسولِكَ، النبيِّ الأميِّ، وعلى آلِ محمدٍ وأزواجِه أمَّهاتِ المؤمنينَ، وذريَّتِهِ وأهل بيتهِ، كما صلَّيتَ على إبراهيمَ، وعلى آل إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ. اللهم باركْ على محمدٍ النبيِّ الأميِّ، وعلى آلِ محمدٍ وأزواجِه وذريته، كما باركتَ على إبراهيمَ في العالمينَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ انتهى.
فهذا جملةُ ما اشتملتْ عليهِ الأحاديثُ الصحيحةُ من الألفاظِ، فينبغي للمصلِّى إذا أرادَ أن يَجْمَعَ بين جميعَ ألفاظِ الصلاةِ المأثورةِ أنْ يصلي هذه الصلاةَ، فإنِ اقتصرَ على نوعٍ من الأنواعِ الثابتةِ من طريقٍ صحيحةٍ كما أسلفنا من تلكَ الصفاتِ، فلا شكَّ أنَّه قد صلَّى على النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ صلاةً مُتَّفَقًا على أنَّها مأثورةٌ لما تقدّمَ، ولكنَّ الأكَمََلَ الجَمْعُ ليكونَ متمثِّلاً لجميع ما أرشدَ إليه الشارعُ.
وفي هذا المقدارِ كفايةٌ. انتهى من تحرير المجيبِ عزِّ الدينِ محمد بن على الشوكانيِّ حفظه الله تعالى، ومتَّع بحياته. كان تاريخ الجوابِ عَشْرَ شهرِ الحجةِ الحرامِ سنة 1208 ثمانٍ ومائتينِ وألفٍ.(12/5862)
ثم عاود المجيبُ ـ حفظه الله ـ السائل عافاه الله ـ بسؤال لفظُهُ: حَرَسِكُمُ الله تعالى وتولاَّكُم. قد أفدتُم في الجواب بما يُثْلِجُ الصَّدرَ، وينشرحُ بهِ الخاطرُ أدام الله إفادتَكُم، وكافاكم بالحُسنى، وجزاكم اللهُ خيرَ الجزاء. وبقيَ طرفانِ سهَى السائلُ عن إيرادهِهما، وهو أنَّ مَنْ صلَّى على النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ تلكَ الصلاةَ التي لفظها: اللهم صلِّ وسلِّم على محمدٍ، حيثُ لم يَرِدْ بها حديثٌ صحيحٌ، هل يشمَلُهُ قولُهُ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا» أم لا يشتملُ إلا مَنْ صلَّى الصلاةَ التي أرشدنا إليها المصطفى ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ؟.
الطرف الثاني: أنَّ العلماء قد قالوا: إنَّ الصلاةَ من الله الرحمةُ ومن الملائكةِ الاستغفارُ ومن العبدِ الدعاءُ، ما تلكَ الصلاةُ العشْرُ الذي جازى الله بها العبدَ على صلاته، على النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ، هل هي رحمانةُ عشرٍ يرحمُ اللهُ بها العبدَ، وإن زاد الفرعُ على الأصلِ [7] فهوَ فضلٌ من اللهِ، وهل هي الرحمةُ تعمُّ النبيَّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ والعبدَ، أو تختلفُ الرحمةُ باختلافِ النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ والعبدِ؟ فأفضلوا بإيضاحِ الفائدةِ. جزيتم الجنةَ ونعيمَها، فارقموا الجوابَ في قفا هذه الورقةِ وسأنقله في تلك النسخةِ، وأنقله لنفسي، وأرسل ذلك إليكم ـ تولى الله إعانتكم، وكتب ثوابَكُم، بحقِّ محمد (1) وآله، والسلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ.
_________
(1) تقدم التعليق على هذا اللفظ.(12/5863)
ثم ذكر المجيبُ ـ حفظه الله، ومتع بحياته ـ.
ولفظه: حفظكم الله، وتولاَّكم، وشريفُ السلام عليكم، ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ، ولا زالتْ فوائِدُكُم وافدةً. قد عرفتم مما سلفَ أنَّ أقوالَ القائلِ: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ صلاةٌ يصْدُقُ عليها مُطْلَقِ القرآن (1) ومطلقُ الأحاديثِ (2) الصحيحةِ، فيستحقُّ فاعلُها ما وردَ من الإثابةِ على مُطلَقِ الصلاةِ، وليس من شرطِ ذلكَ أنْ تكونَ الصلاةُ التي يفعلها العبدُ على صفةٍ ثبتتْ عنه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بلِ المعتبرُ صدقُ اسمِ الصلاةِ المأمورِ بها عليها، وإن كانتِ الصلاةُ التي وردَ بها التعليمُ أتمَّ وأكملَ وأفضلَ، ولكنَّ ذلك لا يستلزمُ أنْ تكونَ غيرُها من الصَّلواتِ غيرَ داخلةٍ تحتَ ما رسمَهُ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ من الأجورِ للمصلِّي، ورغَّبَ فيه.
والحاصلُ أن الترغيباتِ المطلقةِ صادقةٌ على صفاتِ الصلواتِ المطلقةِ، والصلاةُ المسئولُ عنها فردٌ من الأفرادِ، وصفةٌ من الصفاتِ، ولا مانعَ من أنْ يكْتُبَ اللهُ للعبدِ المصلِّي بإحدى تلكَ الصلواتِ الثابتةِ عنه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بطريقِ التعليمِ زيادة على ما يكتبه لمن صلَّى بغيرِها، ولكنَّ تلك الزيادةَ غيرُ مانعةٍ من استحقاقٍ لأصلِ المزيدِ عليهِ، بمجرَّدِ فِعْلِ ما يصدُقُ عليه أنَّه صلاةٌ، كالصورةِ المسئولِ عنها مثلاً، وردَ في حديثِ أنسٍ عندَ النَّسائي (3) قالَ: قالَ رسولُ اللهِ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليهِ بها عَشْرَ صلواتٍ، وحُطَّتْ عنهُ عَشْرُ
_________
(1) قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
(2) انظر الرسالة رقم (191).
(3) في (عمل اليوم والليلة) رقم (62، 63)، وفي (السنن) (3/ 50).
قلت: وأخرجه أحمد 03/ 102، 261)، والحاكم (1/ 550)، والبخاري في (الأدب المفرد) رقم (643)، وابن حبان في صحيحه رقم (904). وهو حديث صحيح.(12/5864)
خطيَّاتٍ، ورُفِعَتْ له عشْرُ درجاتٍ». وللنسائيِّ (1) أيضًا في طريقٍ أخرى عن أبي طلحةَ أنَّه جاءَ النبيَّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ ذاتَ يومٍ، والبِشْرُ في وجههِ، فقلنا: إنَّا نرى البِشْرَ في وجِهِكَ، فقالَ: «إنه أتاني مَلَكٌ فقال: يا محمدُ، إنَّ ربَّكَ يقولُ: أما يُرْضيكَ أنْ لا يصلِّيَ عليكَ أحدٌ إلا صلَّيتُ عليهِ عشرًا، ولا يسلِّمُ عليكَ أحدق إلا سلَّمتُ عليهِ عشْرَا»، وأخرج الترمذيُّ (2) عن ابن مسعود قالك قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «أولى الناس بي يوم القيامةِ اكثرُهُم عليَّ صلاةً».
ولا شكَّ أن فاعل الصلاةِ المسئول عنها يصدُقُ عليهِ أنَّه مُصَلٍّ [8]؛ فيستحقُّ ما ذكرَهُ من صلاةِ اللهِ عليه، ومن حطِّ الخطيَّاتِ، ورفعِ الدرجاتِ، ومن أولويَّتِه بالنبيَّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يومَ القيامةِ، لأنَّ النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أخبرنا بأنَّه يستحقُّ ذلكَ فاعلُ مطلق الصلاةِ، ولم يقيَّد ذلكَ الاستحقاقَ بكونِ الصلاةِ المفعولةِ هي الصلاةُ التي علَّمنا، وليسَ معنى مطلقِ الصلاةِ المذكورة في الآيةِ والأحاديثِ مجملاً حتى يتوقَّفَ على البيانِ، ولا أولويةُ فِعْلِ الصلاةِ المأثورةِِ يستلزمُ نُقْصاَ مُطْلَقِ الصلاةِ عن استحقاقِ ذلكَ المقدارِ، بل غايتُهُ أن يكونَ فاعِلُها مستحقًا لأجْرٍ زائدٍ على الأجر المذكورِ لمزيَّةِ التأسِّى، وخِصَّيْصةِ التبرُّكِ باللفظ المصْطَفَويَّ.
_________
(1) في (عمل اليوم والليلة) رقم (60)، وفي (السنن) (3/ 50).
قلت: وأخرجه أحمد (4/ 29، 30)، وابن حبان رقم (915)، والحاكم (2/ 420)، وصححه ووافقه الذهبي، والدارمي في (سننه) (2/ 317). وهو حديث حسن.
(2) في (السنن) رقم (484)، وقال: هذا حديث حسن غريب.
قلت: وأخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (911) بإسناد ضعيف.(12/5865)
وأما سؤالكم عن ماهيَّةِ الصلواتِ الواقعةِ منه ـ جلَّ وعلا ـ في قولِهِ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «صلَّى اللهُ عليه بها عشرًا».
فأقول: قد تقرَّر لكم أنَّ الصلاةَ هي منه تعالى الرحمةُ، كما حقَّقها بتلكَ الحقيقةِ علماءُ الشريعةِ، فيكون المرادُ أنَّ الله تعالى يرحَمُهُ عشرَ رحَمَاتٍ، وليس في تعدُّدِ الرحمةِ أمرٌ مُسْتَبْعدٌ، فإنَّه قد ثبتَ تعدُّدُها في الأحاديثِ الصحيحةِ. فأخرج الشيخانِ، (1) والترمذي (2) عنه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال: «جعل الرحمةَ مائة جزء، فأمسكَ عندَه تسعةً وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فَمِنْ ذلكَ الجزء يتزاحَمُ الخلائقُ، حتى ترفَعَ الدابةُ حافِرَها عن ولدِهَا خشية أن تصيبه».
وأخرجَ مسلمٌ (3) عن سلمانَ الفارسيِّ قالَ: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «إنَّ لله تعالى مائةَ رحمةٍ، فمنها رحمةٌ يتراحمُ بها الخلقُ، ومنها تسعٌ وتسعون ليوم القيامةِ». وفي أُخرى له (4): «أنَّ الله تعالى خلقَ يومَ السماوات والأرضَ مائةَ رحمةٍ، كلُّ رحمةٍ طِباقُ ما بين السماء والأرضِ، فجعلَ منها في الأرضِ رحمةً، فبها تعطفُ الوالدةُ على ولدِها، والوحشُ والطيرُ بعضُها على بعضٍ، فإذا كان يوم القيامةِ أكملَها الله تعالى لهذهِ الرحمةِ».
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (6000)، ومسلم رقم (2752).
(2) في (السنن) (3541).
(3) في صحيحه رقم (20/ 2753).
(4) أي لمسلم في صحيحه رقم (21/ 2753).
قال الحافظ في (الفتح) (11/ 433): قال الكرماني: الرحمة هنا عبارة عن القدرة المتعلقة بإيصال الخبر، والقدرة في نفسها غير متناهية، والتعلق غير متناه. لكن حصره في مائة على سبيل التمثيل وتسهيلاً للفهم وتقليلاً لما عند الخلق وتكثيرًا لما عند الله سبحانه وتعالى، وأما مناسبة هذا العدد الخاص فحكى القرطبي ـ في (المفهم) (7/ 83) ـ عن بعض الشراح أن هذا العدد الخاص أطلق لإرادة التكثير والمبالغة فيه، وتعقبه ـ القرطبي ـ بأنه لم تجر عادة العرب بذلك في المائة وإنما جرى في السبعين.(12/5866)
وأما سؤالكم ـ حفظكم الله ـ عن كون هذهِ الرحمةِ تعمُّ النبيَّ وسائرَ العبادِ، أو تختلفُ باختلافِ النبيِّ والعبدِ.
فأقول: لم يفرِّقِ الجماهيرُ من أهل العلمِ في ذلكَ، بل جعلوا الصلاةَ من الله هي الرحمةَ، سواءٌ كانتْ صلاةً منه تعالى على النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أو على غيرِه من العبادِ، وهكذا.
قال أهل اللغةِ (1) وقال القشيريُّ: هي مِنَ اللهِ لنبيِّهِ تشريفٌ وزيادةُ تكرِمَةٍ، ولسائرِ عبادِهِ رحمةٌ. قال في شرح المنهاجِ (2): إن معنى قولِنا اللَّهمَّ صلِّ على محمدٍ عظمةٌ في الدنيا بإعلاء ذكُرِهِ، وإظهارِ دعوتِهِ، وإبقاء شرعيَّتِهِ، وفي الآخرةِ تشفيعُهُ في أمَّتِهِ، وتضعيفُ أَجْرِهِ ومثوبتِهِ. انتهى.
وهذا المعنى للصلاةِ عليه ـ صلي الله عليه وآله وسلم [9]ـ هوَ الظاهرُ، ولأنَّ جَعْلَهَا للرحمةِ في حقِّهِ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ مع عِلْمِنا بأنَّ الله تعالى قد غفرَ له من ذنبِهِ ما تقدَّمَ وما تأخَّرِ، وأتمَّ نعمتَهُ عليهِ، وألحقَه بالصالحينَ من إخوانهِ من الأنبياء، بل رفعَ درجتَه عليهم، وَجَعْلَهُ سيِّدَهُم يكونُ قليلَ الجدْوَى، لأنَّ الرحمةَ في الأصلِ الرأفةُ والمغفرةُ كما في القاموس (3) وغيره (4) من كتب اللغةِ، فالصلاةُ على النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ إذا كانت لمجرَّدِ الرحمةِ التي هي المغفرةُ كانتْ تحصيلاً للحاصلِ، وهو ما قد علمناه بنصِّ القرآنِ قبل موتِهِ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وما كانَ بهذهِ المثابَةِ لا ينْدُبُ اللهُ تعالى العبادَ إليهِ، ولا يرغِّبُهُم فيه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ ويبالغ في الترغيبِ، حتى يُرشدَهم إلى فعلِهِ في كل صلاةٍ، ويذمُّ تارِكَهُ عندَ ذكرِهِ، كما أخرجه الترمذيُّ من حديثِ أمير المؤمنين قال: قال رسولُ الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «البخيل من
_________
(1) انظر (لسان العرب) (7/ 398).
(2) للشربيني الخطيب (1/ 528 ـ 529).
(3) (ص1681).
(4) انظر: (النهاية) (3/ 50)، (لسان العرب) (7/ 398).(12/5867)
ذُكرتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ» (1) وكما في حديثِ: «رَغِمَ أنفُ من ذُكِرْتُ عندَه فلم يصلِّ عليَّ». (2)
إذا تقرَّر هذا فلا بُدَّ أنْ يُجْعَلَ معنى الصلاةِ عليهِ لمعنَى يليقُ بهِ كالتعظيمِ، وإظهارِ الدعوةِ، وإبقاء الشريعةِ، والتشفيعِ، وتضعيفِ الأجرِ، والتشريفِ وإلاَّ لزم تحصيلُ الحاصلِ، واللازمُ باطلٌ فالملزومُ مثلُه.
وفي هذا المقدارِ كفايةٌ. والله المسْتَعَانُ، وهو حسبي ونِعْمَ الوكيلُ، وصلَّى الله على سيدنا محمدٍ، وآلهِ، ورضيَ اللهُ عن صَحْبِهِ الراشدينَ.
آمينَ آمينَ أمينَ. كمل من خطَّ المجيب حفظه الله وجعله لكل معضلة ومشكلة محلاً. بحق محمد الأمين وصحبه الأكرمين.
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه. انظر الرسالة رقم (91).
وانظر: (فتح الباري) (11/ 155 ـ 156).(12/5868)
(194) 4/ 5
طيب الكلام في تحقيق لفظ الصلاة على خير من حملته الأقدام
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/5869)
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: طيب الكلام في تحقيق لفظ الصلاة على خير من حملته الأقدام.
2 ـ موضوع الرسالة: آداب.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه الثقةُ، الحمد لله رب العالمين، الذي علا بحوله ودنا بطوله علا فدنا ودنا فعلى ......
4 ـ آخر الرسالة: نقل هذا من خط يده الكريمة دامت إفادته، وكان نقل هذا بعنايته حفظه الله وأعلاه وحسبي الله وكفى وصلى الله على محمد وآله وسلم.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي غير واضح.
6 ـ عدد الصفحات: 5 صفحات، ما عدا صفحة العنوان.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 29 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 15 كلمة.
9 ــ الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/5871)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه الثقةُ، الحمد لله رب العالمين، الذي علا بحوله ودنا بطوله علا فدنا ودنا فعلى، وملك الآخرة والأولى، الذي دل على ذاته بذاته، وتعالى عن شبهِ الخلائقِ بصفةٍ من صفاته، سبحانه عن إلحاد الملحدين، وجلَّ عن تعطيل المعطِّلين. هو هو لا يعلم قدرَه إلاَّ هو، لا أحد بقادرٍ قدَرَهُ، ولا هو الخليقُ بأن يخالف مخالفٌ بهديه وأمرِه. أحمدُهُ على جزيل نعمهِ، وأشكره على سنى آلائه، ووافر قسْمِهِ، والصلاة والسلام على نبي الرحمة، وسراج الظلمة، وكاشف الغمَّة، من زاده الله على خليقته شرفًا وفخرًا، القائلِ «من صلَّى عليَّ مرةً صلَّى الله عليه بها عشرًا» (1) وعلى آله الذين لن يُقْبَلَ من عبد صلاةٌ إلاَّ بالصلاة عليهم، ولن يوفي رسول الله أجره، كل من جان بمودته لهم، وعنايته بهم، وميلِه إليهم، ورغبته فيهم، وأخْذِه عنهم. وصلاتُه عليهم كلِّ حينٍ آمينَ، اللهم آمينَ.
وبعدُ:
فهذا سؤال صدَّره الحقير الفقير إلى البحر الغزير، والخِضمِّ الزِّخار، والغيثِ المدرارِ والعمرِ النوار، أستاذِ البشرِ، والعقل الحادي عشرَ، شمس سماء المعالي، وبدرِها المنير العالي، مجتهد العصرِ على جهة الحصر والقصر، عزِّ الملَّةِ، وخرِّيْتِ الأدلةِ، ركنِ الدين اليماني محمد بن على بن محمد الشوكاني (2) ـ حرس الله ذاته عن الغير، وحماه من كل ضيم وشرٍّ ـ وعليه من ولده شريف السلامُ الأتمُّ، ورحمة الله وبركاته باللفظِ الأعمِّ.
نعم هذا السؤال لا يزال يخطرُ بالبال ويحك فيه، ولم يزل الأقل يتطلب، أو عسى نجد
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (408)، وأبو داود رقم (1530)، والنسائي في (السنن) (3/ 50)، والترمذي رقم (485) وقال: حديث حسن صحيح وابن حبان في صحيحه رقم (903). وهو حديث صحيح.
(2) ندعو الله أن يجعل كل ذلك في ميزان حسناته.(12/5875)
لدائِه ما يشفيه، ولفاقت ذهنه منه ما يغنيه، فمع كثرة التطلُّب، ومحبة الوقوف على ما تُسْقَى به الغلَّة، وتبرأُ به العِلَّةُ لم أقف منه على طائل، ولم يزده مع الإشكال إلاَّ وفورًا وتكاملاً، حتى أني وقفت على نقل لبعض المحققين فسررتُ حين الوقوفِ عليه، وتاقت النفس لمطالعته، وصرفِ الهمة إليه، وعضضته، بالناجذِ والنابِ، ونظرتَ فيه نظر الناقد البصيرِ من أولى الألباب، وكان وقوفي عليه وقوفَ شحيحَ ضلَّ في التربِ خاتَمُهُ، فلم أعد فيه بسوى خفَّيْ حنينٍ، (1) ووجدت دندنَته وما إليه لمحَ في البينِ، وفهمت أن محطَّ نظره، وغاية مقصده غيرُ ما أريد فهو في وادٍ وأنا في واد، فحينئذٍ قلت: سبحانه الله [أتبلهِتُ] (2) من أنت في وقته وأوانه، أو [تطيل] (3) الفكر من قرَّبك الله له في حَلَبةِ ميدانه! هذا لعمري هو التغافُل البالغ إلى غاية، والتساهل الواصل أرفَ نهاية، فتراني قد وجَّهته إليك، وعوَّلت في كشف مُدْلهمَّه بعد الله عليك، فأنت ـ حفظك الله ـ وارثُ العلوم عن أربابها بالتعصيب لا بالرَّحامة، وفاتحُ مربحاتِها بفتوح من الله تعالى وكرامة، مع مدة تعب ونصَبٍ فُقْتَ به جميعَ الأقران، وسُدْتَ به كلَّ ما هو في جميع البلدان [1أ] ومحطّ إليه إلى هو أن يقال: قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (4)
_________
(1) قال أبو عبيد: أصل المثل أن حنينًا كان إسكافيًا، من أهل الحيرة فساومه أعرابي بخفين، فاختلفا حتى أغضبه، فأراد غيظ الأعرابي، فلما ارتحل الأعرابي أخذ حُنين أحد خفيّه وطرحه في الطريق، ثم ألقى الآخر في موضع آخر، فلمَّا مرَّ الأعرابي بأحدهما قال: ما أشبه هذا الخفَّ بخفّ حنين ولو كان معه الآخر لأخذته! ومضى فلمَّا انتهى إلى الآخر ندم على تركه الأول، وقد كمن له حنينٌ فلمّا مضى الأعرابي في طلب الأوَّل عمد حنين إلى راحلته وما عليها فذهب بها، وأقبل الأعرابي وليس معه إلا الخفَّان، فقال له قومه، ماذا جئت به من سفرك؟ فقال: جئتكم بخفي حنين، فذهبت مثلاً.
يُضرب عند اليأس من الحاجة والرجوع بالخيبة.
(2) غير واضحة في المخطوط.
(3) غير واضحة في المخطوط.
(4) [الأحزاب: 56].(12/5876)
وفي الصحيح (1) أنها لما نزلت جاء جماعة من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إليه ـ عليه وآله الصلاة والسلام ـ فقالوا: يا رسول الله قد عرفنا السلامَ عليك، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلَّينا؟ فقال: «قولوا: اللهمَّ صلَّ على محمد وعلى آل محمد». إلخ. الرواية على اختلاف ألفاظها، وفي جميعها التصريحُ بأنَّ الصلاة على الجملة الإنشائية الطلبيةِ. (2)
وإذا تقرر هذا فلم أكَدْ أسمعُ، بل وكأني به لم يقع من أحد من المحدثين، ولا غرمتم في قراءة ولا كتب سوى أنه إذا ذكر ـ عليه وآله الصلاة والسلام ـ قال الذاكر هكذا: ـ صلي الله عليه وآله وسلم. وهذه جملة خبريةٌ تفيد الإخبارَ بوقوع صلاة وسلامٍ من الله ـ عز وجل ـ لا أنها تفيدُ أحداثَ صلاة في الحال كما هو لفظهُ.
فإن قيل هذا من باب تنزيل المطلوبِ وقوعُه بمنزلةِ الواقعِ كما إذا قيل لك: ادع لفلان.
فقلت: غفر الله له، فكأنك تريد أن تقولَ: اللهم اغفر له، فنزَّلتَ المطلوبَ وقوعُه بمنزلة كأنه قد طلب ووقع. (3)
قلت: هاهنا فرق واضح هو أن الصلاة عليه وآله معلومةُ الوقوعِ من الله ـ سبحانه ـ فالإخبار بوقوعها تحصيلُ حاصل، ولا كذلك طلبُ المغفرة لزيد لنحو حديث: «ولا أنا
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4797) و (4798) وقد تقدم.
انظر الرسالة (191، 192).
(2) انظر: (إعراب القرآن الكريم) محيي الدين الدرويش (8/ 42 ـ 43).
(3) في هامش المخطوط: الجواب على السؤال أن يقول: قول المصلي: صلي الله عليه مكان اللهمَّ صلِّ عليه. مثل قول القائل: غفر الله له مكان اللهم اغفر له، ولا فرق لا واضح ولا خفي. قولك الصلاة عليه وآله معلومةُ الوقوع إن أردت بالمعلومة الوقوع هذه التي أنشأها المصلِّي بقوله: صلي الله عليه مكان اللهم صلِّ عليه فممنوع لأنَّه إنشاء والتنزيل بمنزلة الواقع لا يصيِّره واقعًا فإنَّه تحصيل حاصل وإن أردت بالمعلومة الواقع غيرها فمسلم ولا يضر فافهم. والله أعلم.(12/5877)
إلاَّ أن يتغمَّدني الله برحمته» (1) وإذا كان المهمُّ هو إحداثَ صلاةٍ من العبد في الآن عند ـ عليه وآله الصلاة والسلام ـ أو يبدأ فكأن القائل ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يقول أخبركم أنها قد وقعتْ عليه صلاةٌ من الله ـ سبحانه ـ فلم يمتثلْ، إذْ يقول الله: إن الله، ويقول صلُّوا فالمغايرةُ تدل عليه لا سيما أنَّ الصحابة وهم فصحاءُ الألسنِ ومن صميم العرب احتاجوا أن يفزعوا إلى [ ..... ] (2) جبريل للتعليم، كيف تكون هذه الصلاة المطلوبة من العبد فَعَلَّمَهُمُ، فكيف يكون التخلُّص عن العهدة بغير ما أمر الإنسان به! وكأني بهذه النكتة عقلَ عن التنبه لها المخلَّفون، ولم يعلم ما يترتب عليها المصلون، وكأني بإبليسَ الرجيمِ ـ نعوذ بالله منه ـ ألقى هذه الدسيسةَ، ونمقَ هذا الهجّيرا يريد إحرام المصلين آخر الصلاة لما علم عِظَمَ أجرها، وإكثارَ أهل العلم من ذكرها، فإنْ والبرهان، وإن لم يكن إجمالاً للمعاني، وغفلةٌ عن تصحيح المباني فمثلي أهل لذلك، ومحل يكن ما حررته إشكالاً يحتاج إلى تفكيك وإيضاحٍ وبيانٍ فلديكم غايةُ ما يكون من التبين
_________
(1) أخرجه أحمد (3/ 52).
وأورده الهيثمي في (المجمع) (10/ 356) وقال: رواه أحمد، وإسناده حسن.
من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لن يدخل الجنة أحدً إلا برحمة الله» قلنا: يا رسول الله، ولا أنت؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته».
وهو حديث صحيح لغيره. وله شواهد؟.
(منها): ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6463)، ومسلم رقم (2816) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لن ينجِّى أحدًا منكم عمله». قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته سدِّدوا وقاربوا، واغدُوا ورُوحوا، وشيءٌ من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا».
(منها): ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6467) ومسلم رقم (2818) عن عائشة عن النبيِّ صلي الله عليه وسلم قال: «سدِّدوا وقاربوا وأبشروا، فإنَّه لا يُدخل أحدًا الجنةَ عملُه» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلاَّ أنْ يتغمَّدني الله بمغفرةٍ ورحمة».
(2) هنا كلمة غير مقروءة.(12/5878)
لما هنالك. والذي يجهل يعلم فقد جعلكم الله حملة شريعته [1ب] وجِرانَ علمه وتراجمه. دمتُم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتحياته كلِّ حين آمين والصلاةُ والسلام على محمد الأمين وآله الميامين كلَّ آنٍ آمين.
حرره الحقير إسماعيل بن حسين جغمان (1) ـ غفر الله لهما ـ حامدًا لله مصليًا ومسلمًا على رسوله وآله الطاهرين بتاريخ شهر القعدة الحرام سنة 1245.
_________
(1) القاضي العلامة الشهيد إسماعيل بن حسين بن حسن بن هادي بن صلاح بن يحيي بن صلاح جغمان اليمني الخولاني الصنعاني. مولده بمدينة صنعاء سنة 1212.
له مؤلفات منها الصوارم المنتضاة في جوهر من المناقب المرتضاة، بلوغ الوطر والأنموذج في أعمال الحج وله ديوان شعر.
(نيل الوطر) (1/ 270 ـ 273 رقم 127).(12/5879)
وهذا جواب شيخ الإسلام حفظه الله منقول من خط يده الكريمة ولفظُهُ:
بسم الله الرحمن الرحيم ـ
كثر الله فوائدك ـ:
اعلم أنَّ الله ـ سبحانه ـ أمر عباده بالصلاة على رسوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ فكان حقُّ الامتثال أن يقولوا صلَّينا على رسول الله بالذي هو يقتضيه الأمرُ بالصلاة من الله ـ عز وجل ـ لعباده، فكيف وقع منه تعالى الأمر لعباده بالصلاة فوقع امتثالهم بغير ما يقتضيه ذلك الأمر في لغة العرب، فقالوا: اللهم صلّ على محمد إلخ فهو مثل قول الآمر لغيره: قم فقال المأمور له قم. قال لنا ـ عز وجل ـ: صلُّوا فقلنا: صلِّ. فهذا الإشكال يحتاج إلى جواب قبل الجوابِ على سؤال السائلِ.
فإن قلت: أبِنْ لنا جوابَ هذا. قلت: هذه الصلاةُ التي أمر بها ربنا ـ سبحانه ـ عبادَه أنْ يقولوها لرسلِه على شعارٍ عظيم، ولهذا كان مختصًا بالأنبياء مع أنَّ أصل الصلاة في اللغة الدعاءُ كما هو منصوصٌ عليه في صحاح الجوهري، (1) وفي غيره من كتب اللغة، (2) فكان مقتضى هذه المعنى اللغوي جوازَ قول البعض من العباد للآخر: صلَّيت عليك، لأنه بمعنى دعوتُ لك، لكن هذا الشعارَ لا يجوز أن يكون في غير الربَِ ـ سبحانه ـ. فإن قلت: إذا كان المعنى اللغويُّ ما ذكرتَ فما المانع من التكلُّم به على مقتضى لغة العرب، وإرادة المعنى فيكون قولُ القائل صلَّيت عليك بمنزلةِ قوله دعوتُ لك.
قلت: قد عُلم من رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أنه لما نزل الأمر القرآني بالصلاة عليه قالوا له: كيف نصلِّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صلِّ على محمد
_________
(1) (6/ 2402).
(2) انظر: (لسان العرب) (7/ 398 ـ 399).
(مفردات ألفاظ القرآن) (ص 490 ـ 491) للراغب الأصفهاني.(12/5880)
وعلى آل محمد» إلى آخره، وبيَّنت في ذلك تعليمات منه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لأمَّته، وليس في واحد منها أنه قال: «قولوا: صلَّينا عليك»، بل كلُّها واردة بإرجاع الأمر إلى الله ـ سبحانه ـ.
وكذلك لم يقل رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لأحد من الأحد: صلِّيتُ عليك، بل كان يحيل ذلك على الله ـ عز وجل ـ كما في قوله: «اللهمَّ صلِّ على آل أبي أوفي». (1) والنكتةُ في ذلك الاعتراف بعظم أمرِ هذا وتقاصُرِ القُوى البشريةِ عن القيام به، فكأنهم قالوا بلسان الحال في هذا [2أ] المقام: نحن يا ربَّنا لا نقدِرُ على ما أمرتنا به، فقِوَانا تتقاصَرُ عن القيام به، فرددنا ذلك إليك. ولا بد من هذا التنكيت، لأنَّ تعليم رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لنا كيفية الصلاة التي أمرنا الله ـ سبحانه ـ بها اقتضى أنَّ ذلك هو الحقيقة الشرعيةُ للصلاة المأمورِ بها، والحقيقة الشرعية تنقلُ عن الحقيقةِ اللغويةِ ويكون الاعتماد عليها، لأنَّ الشارع ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بعثه الله تعالى ليبين للناس ما نزل إليهم، فكان اللائق تفسيرَ الكتاب العزيز بهما.
وأمَّا ما سأل عنه السائل ـ كثر الله فوائده ـ فاعلم أنه قد كثر مثلُ ذلك من النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ فكان يقول في الدعاء لأصحابه ـ رحمه الله ـ كما قال لآل عامر، فقالوا: يا رسول الله، لو أمتعتنا به (2) فقد أراد النبيُّ ـ صلي الله عليه وآله
_________
(1) أخرجه أحمد (4/ 353، 355، 381، 388)، والبخاري في صحيحه رقم (1497) و (4166) و (6332) و (6359)، ومسلم رقم (1078)، وأبو داود رقم (1590)، والنسائي (5/ 31) من حديث ابن أبي أوفي قال: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا تصدق إلى أهل بيت بصدقةٍ، صلّى عليهم، قال: فتصدَّق أبي إليه بصدقةٍ فقال: «اللهمَّ صلِّ على آل أبي أوفى».
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4196)، ومسلم رقم (123/ 1802) من حديث سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى خيبر فسِرْنَا ليلاً، فقال رجلٌ من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنياتك؟ وكان عامرٌ رجلاً شاعرًا، فنزل يحدو بالقوم يقول:
اللهم! لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفرْ، فِداءً لك، ما اقتفينا ... وثبت الأقدام إن لا قينا
وألقينْ سَكينةً علينا ... إنَّا إذا صيح بنا أتينا
وبالصياحِ عوَّلوا علينا.
فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «من هذا السائق؟» قالوا: عامر. قال: «يرحمه الله». فقال رجل من القوم: وجبت يا رسول الله! لولا أمتعتنا به .... وهو حديث طويل. فراجعه في مظانه وقد ذكرت.(12/5881)
وسلم ـ بهذا اللفظ إنشاء الدعاء له فالرحمة كما يختص (1) الصحابةَ ولو كان ذلك إخبارًا عن وقوع الرحمةِ له فيما مضي لنزلَ به ما يدلُّ من الشهادة في ذلك الوقت، ومعلوم أنه لم ينزل به إلا بعد هذه الدعوةِ. وهكذا كان يقول لمن يطلب منه الاستغفارَ له: غفر الله لكَ، ونحوُ هذا كثيرٌ. وقد أطلق على ذلك السلف والخَلفُ، فإنهم يقولون عند رواية الحديث عن الصحابي رضي الله عنه، ويقولون عند الرواية عن غير الصحابي: رحمه الله. وقد جعل أهلُ علم البيان هذا اللفظَ أبلغَ مما يدل على الاستقبالِ كالأمر، وجعلوا النكتة في ذلك هي دلالة الماضي المعبر به عن المستقبل على الوقوع، أي أنه قد تحقق وقوعُه فهي وإن كانت بصيغة الماضي فالمراد بها إنشاء الوقوع بخلاف الأمر، فإنه لا يدلُّ إلاَّ على مجرد الإنشاء، ولا يدل على تحقيق الوقوع.
ومن ذلك قول القائل: بعتُ شريت، تزوجت، زوَّجْتُ، وهبْتُ، نذرتُ، فهذه جمل إنشائيةٌ لا إخبار به بالاتفاق. ولو كان المراد بها الإخبارَ لم يصحَّ بها شيء من تلك الأمورِ، لعدمِ وقوع مضمونها في الماضى. ومع هذه النكتة التي ذكرها علماء البيان نكتةٌ أخرى هي تأدُّب العبد مع ربه ـ عز وجل ـ حيث جاء بغير صيغة الأمر، فظهر بهذا أن صيغة الماضي تدل هاهنا على معنى الاستقبال مع زيادة هي تلك النكتة اللطيفة البيانيةُ، والنكتة الأخرى التي ذكرنا، وليس في صيغة الأمر شيء من هاتين النكتتين.
ومن هذا القبيل تسليمه ـ عز وجل ـ على كثير من أنبيائه كما في القرآن
_________
(1) غير واضحة في المخطوط.(12/5882)
الكريم، كما في تسليمه على نوح ـ عليه السلام (1) ـ، وعلى مَنْ بعدَه من الأنبياء بلفظ: سلامٌ، (2) فإنَّ أصل ذلك الجملة الفعلية، أي سلَّمتُ سلامًا، وهذا إنشاء سلام عليهم من الربَّ ـ عز وجل ـ إخبارٌ، وإنما عدل به إلى الرفع ليفيدَ الدوامَ والثباتَ الذي هو مدلول الجملِ الاسميةِ، كما هو مقرَّر [2ب] في علم البيان بخلاف الجمل الفعلية، فإنها ربما تدل على مجرد الحدوث مع زيادة التجدُّدِ في المضارعية.
فعرفت بهذا أنَّ صيغة المضيِّ في مثل ذلك أدلُّ على الوقوع وأبلغ، وفي هذا المقدار كفاية، والله ولي التوفيق.
وقد اقتصرنا على بيان تسويغ مثل ذلك اللفظ الذي سأل عنه السائل، ولا يقال أنه لم يوجد في البيانات النبوية كهذه الصلاة، لأنا نقول لم يرد في التعليمات النبوية ما يدل على انحصار الصلاة المشروعة في اللسان النبوي، ولهذا كثُرتِ الأحاديثُ المبيَّنة لألفاظ الصلاةِ، واختلفتْ اختلافًا كثيرًا وهي ما بين صحيح لا شك في صحته، وحسنٍ لذاته أو لغيرهِ، وبعضُها فيه مقالٌ، لكنه لا يخرج عن القسم المعمولِ به لكثرةِ طرقِه، وشهادة بعضِها لبعضِ، مع أنه قد ورد ما يصلُح للاحتجاج به على ذلك.
فأخرج النسائي (3) بإسناد صحيح، والطبراني، (4) والحاكم (5) في الدعاء في قنوت الوتر أنه قال النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ في آخره: وصلى الله على النبيِّ، وهو
_________
(1) قال تعالى: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79].
(2) منها قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 109]، وقوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات: 120].
(3) في (السنن) (3/ 248).
(4) في (الكبير) رقم (2712).
(5) في (المستدرك) (3/ 172).
قلت: وأخرجه أحمد (1/ 200)، والطيالسي رقم (1177، 1179)، وعبد الرزاق في مصنفه رقم (4984) من طرق.(12/5883)
من حديث الحسنِ السِّبْطِ رضي الله عنه قال: علمني رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ كلمات أقولهنَّ: «اللهم أهدني فيمن هديت» إلى آخره. وقد اتفق عليه أهلُ السنن الأربع، (1) وابن حبان، (2) والحاكم، (3) وابن أبي شيبة. (4) وإلى هنا انتهى الجواب.
كتبه محمد بن على الشوكاني ـ غفر الله لهما ـ نقل هذا من خط يده الكريمة دامت إفادته، وكان نقل هذا بعنايته حفظه الله وأعلاه وحسبي الله وكفى وصلى الله على محمد وآله وسلم.
_________
(1) أخرجه أبو داود رقم (1425)، والترمذي رقم (464)، وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث أبي الحوراء السّعديِّ، واسمه: ربيعة بن شيبان. والنسائي (3/ 248).
(2) في صحيحه رقم (945).
(3) في (المستدرك) (3/ 172).
(4) في مصنفه (2/ 300).
عن الحسن بن على ـ رضي الله عنهما ـ قال: علمني رسول الله صلي الله عليه وسلم كلمات أقولهنَّ في الوتر: «اللهمَّ اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولَّني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت وقني شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت».
وهو حديث صحيح.(12/5884)
(195) 24/ 4
بحث في الأذكار الواردة في التسبيح
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/5885)
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في الأذكار الواردة في التسبيح.
2 ـ موضوع الرسالة: الأذكار.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. سبحانك اللهمَّ وبحمدك، لا أحصى ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، والصلاة والسلام على رسولك وآله وبعد.
فإنه ورد في الأذكار من الكتاب والسنة .....
4 ـ آخر الرسالة: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.
وفي هذا المقدار كفايةٌ لمن له هداية والله ولي التوفيق ..
5 ـ نوع الخط: خط نسخي.
6 ـ عدد الصفحات: 3 صفحات.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 30 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 13كلمة.
9 ــ الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/5887)
بسم الله الرحمن الرحيم
سبحانك اللهمَّ وبحمدك، لا أحصى ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، والصلاة والسلام على رسولك وآله وبعد: فإنه ورد في الأذكار من الكتاب والسنة عمومًا وخصوصًا ما هو معروف، ولكنه ورد في خصوص التسبيحِ من الآيات أكثرُ مما ورد في غيره من الأذكار وكان ذلك مشعرًا بمزيد شرفِهِ، ودالاً علي أنافةِ فضلِه، وعظيم أجْرِه.
فمن ذلك قوله ـ سبحانه ـ: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (2) فإن المجيء بالتسبيح من الملائكةِ عند الاعترافِ منهم بعدم العلم إلاَّ العلمَ الذي علَّمهم الله ـ سبحانه ـ يدل على أن التسبيح عظيم الشأن, جليلُ المقدار.
وفمن ذلك قوله ـ سبحانه ـ {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (3) , فإنه ـ سبحانه ـ جاء بهذا التسبيح ردًَّا على من قال إنه اتَّخذ تعالى ولدًا.
ومن ذلك قوله ـ سبحانه ـ {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} , (4) فإنهم جعلوا ذلك وسيلةً إلى الوقاية من عذاب النار.
وقال ـ سبحانه ـ ردًا من جعلَ الآلهة ثلاثةً: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
_________
(1) [البقرة:30].
(2) [البقرة:32].
(3) [البقرة:116].
(4) [آل عمران:191].(12/5891)
وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (1)
ثم قال المسيح ـ عليه السلام ـ ردًا من قال إنه أدَّعى الألهية: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (2)
وكذلك قال الله ـ سبحانه ـ ردًا على من جعل لله شركاء الجنَّ كما حكاه عنهم بقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} (3)
وكذلك قال موسى ـ عند توبته من سؤال ما ليس له كما حكاه الله عنه ـ بقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (4)
وكذا حكى الله ـ سبحانه ـ عن الذين لا يستكبرون عن عبادته فقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} , (5) وقال في الآية الأخرى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ
_________
(1) [النساء:171].
(2) [المائدة:116].
(3) [الأنعام:100].
(4) [الأعراف:143].
(5) [الأعراف:206].(12/5892)
عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1)
وقال في ذكر أهل الجنة: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} (2) وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (3)
وقال سبحانه: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (4)
وقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (5)
وقال مرشدًا إلى التسبيح: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (6)
وقال سبحانه منزِّلهاً لنفسِه عن الشركِ به: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (7)
وقال سبحانه عند الإسراء برسوله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (8) فعنون هذا الأمرَ العظيم في صدرِ هذه
_________
(1) [التوبة:31].
(2) [يونس:10].
(3) [يونس:18].
(4) [يونس:68].
(5) [يوسف:108].
(6) [الحجر:98].
(7) [النحل:1].
(8) [الإسراء:1].(12/5893)
السورة بالتسبيح.
وقال ـ سبحانه ـ منزِّها لنفسه عما كان يفعلُه المشركون: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} , (1) {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)} (2) وقال ـ سبحانه ـ حاكيًا عن السماوات والأرض ومن فيهنَّ ـ: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} , (3) فانظر هذه الخصيصةَ الجليلةَ للتسبيح حيث صارَ ذكرًا لكل حيوانٍ, وكلِّ جماد, وليس في الأذكار الواردةِ في الكتاب والسنةِ ما له المزيةُ العظيمةُ, والفضيلة الشريفة.
وقال ـ سبحانه ـ معلمًا لرسوله ـ صلي الله عليه وسلم ـ بما يجيب به على المشركينَ حيث قالوا: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} (4)
وقال ـ سبحانه ـ حاكيًا عن أهل العلم وما يصنعونَه عند تلاوة آيات الله عليهم: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)} (5).
_________
(1) [النحل:57].
(2) [الإسراء: 42 - 43].
(3) [الإسراء:44].
(4) [الإسراء:93].
(5) [الإسراء:107 - 108].(12/5894)
وكذلك قال في الإرشاد إلى الاستكثارِ من التسبيح: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ [2أ] أَنْ سَبِّحُوا [بُكْرَةً] (1) وَعَشِيًّا} (2).
ومن ذلك قوله ـ سبحانه ـ: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3)
وقال سبحانه: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)} (4) فذكر التسبيحَ بخصوصِه, ثم عمَّمَ الذِّكْرِ فداَّ ذلك على مزيد شرفِهِ.
وقال في أمره ـ سبحانه ـ لرسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أن ستدفع شر المشركين بالتسبيح: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} (5).
وقال ـ سبحانه ـ حاكيًا عن الملائكة المقرَّبين أنهم يسبِّحون دائمًا: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} (6). وقال سبحانه في ردِّ قول من قال بتعدُّد الآلهةِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (7).
_________
(1) في المخطوط مكررة
(2) [مريم:11]
(3) [مريم:35].
(4) [طه:33].
(5) [طه: 130].
(6) [الأنبياء: 19 - 20].
(7) [الأنبياء:22].(12/5895)
وكذلك قال في لردِّ على من قال: إنه اتَّخذ ولدًا: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (1).
وكذلك حكى ـ سبحانه ـ عن ذي النون أنه استغاثَ بالتسبيح فقال: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (2).
وكذا قال سبحانه في الردِّ على من زعم أنه اتَّخذ ولدًا أو كان معه شريكٌ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (3).
وكذلك قال سبحانه في مثل ذلك: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (4).
وقال سبحانه حاكيًا عن قوم لازَمُوا التسبيح: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (5)
وقال ـ سبحانه ـ حكايةً عن جميع مخلوقاته أنها مسبِّحةٌ له: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (6)
_________
(1) [الأنبياء:26].
(2) [الأنبياء:87].
(3) [المؤمنون:91].
(4) [النور: 16].
(5) [النور: 36].
(6) [النور: 41].(12/5896)
وقال ـ سبحانه ـ: {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} (1)
وقال ـ سبحانه آمرًا لرسوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بالتوكُّل عليه، والتسبيحِ له: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} (2)
وقال ـ سبحانه ـ: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3)
وقال ـ سبحانه ـ: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (4)
وقال سبحانه مرشِدًا إلى ملازمة التسبيحِ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (5)
وقال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. (6)
وقال سبحانه في وصف المؤمنين بآياتهِ: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ .................................
_________
(1) [الفرقان: 18].
(2) [الفرقان: 58].
(3) [النمل: 8].
(4) [القصص: 68].
(5) [الروم: 17].
(6) [الروم: 40].(12/5897)
لَا يَسْتَكْبِرُونَ}. (1)
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} (2)
وقال سبحانه حاكيًا عن صالحي عبادِهِ: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} (3)
وقال ـ سبحانه ـ: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} (4)
وقال ـ سبحانه ـ: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (5)
وقال ـ سبحانه ـ حاكيًا عن ذي النون: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} (6) وقال ـ سبحانه ـ دافعًا لما قاله المشركون: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)} (7) وقال ـ سبحانه ـ في مثل ذلك: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)
_________
(1) السجدة: 15].
(2) [الأحزاب: 42].
(3) [سبأ: 41].
(4) [يس: 36].
(5) [يس: 83].
(6) [الصافات: 143 ـ 144].
(7) [الصافات: 158 ـ 159].(12/5898)
وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} (1)
وقال ـ سبحانه ـ في الردّ على المشركين: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (2)
وقال ـ سبحانه ـ في مثل ذلك: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (3)
وقال ـ سبحانه ـ حاكيًا عن الملائكة أنهم يسبِّحونه: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4)
قال ـ سبحانه ـ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (5).
قال ـ سبحانه ـ مخبِرًا عن تسبيحِ ملائكِته: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} (6).
قال سبحانه مرشدًا عباده إلى التسبيح: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ
_________
(1) [الصافات: 180 ـ 182].
(2) [الزمر: 4].
(3) [الزمر: 67].
(4) [الزمر: 75].
(5) [غافر:55].
(6) [الشورى:5].(12/5899)
مُقْرِنِينَ} (1).
وقال ـ سبحانه ـ: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (2).
وقال سبحانه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)} (3). وقال في الرد على المشركين: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (4).
وقال - سبحانه - مرشدًا لرسوله - صلي الله عليه وسلم - إلى التسبيح: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)} (5). وقال سبحانه: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (6).
وقال سبحانه حاكيًا عن مخلوقاته في السماء والأرض: {(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)} (7).
وقال - سبحانه - في مثل ذلك: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
_________
(1) [الزخرف:13].
(2) [الزخرف:82].
(3) [ق: 39 - 40].
(4) [الطور:43].
(5) [الطور: 48 - 49].
(6) [الواقعة:74].
(7) [الحديد:1].(12/5900)
الْحَكِيمُ} (1).
وقال - سبحانه -: {(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)} (2). وقال - سبحانه - في مثل ذلك: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3).
وقال - سبحانه - في مثل ذلك أيضًا: {(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)} (4).
وقال - سبحانه -: {(قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)} (5).
وقال - سبحانه -: {(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)} (6).
وقال - سبحانه -: {(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)} (7).
وقال - سبحانه -: {(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)} (8).
_________
(1) [الحشر:24].
(2) [الحشر: 23 - 24].
(3) [الحشر:24].
(4) [التغابن:1].
(5) [القلم:28, 29].
(6) [الواقعة:74].
(7) [الأعلى:1].
(8) [النصر:3].(12/5901)
فهذه جملةُ ما ورد من الكتاب العزيز, ولم يردْ في غيره من الأذكار في الكتاب العزيز ما ورد فيه, وهذه الآياتُ الكريمات قد دلَّت على أن هذا اللفظَ ليس هو لمجرد التنزيهِ فقط كما يفهم ذلك من له فهمٌ صحيح.
وإذا قد عرفتَ ما ورد في شرفهِ وفضلهِ في الكتاب العزيز فلنذكرْ بعضَ ما ورد في ذلك من السنةِ المطهرةِ فمن ذلك حديثُ أبي الدرداء أنه - صلي الله عليه وسلم - قال له: ((ألا أعلِّمك شيئًا هو أفضلُ من ذكركَ لله الليلَ مع النهارِ؟ سبحان الله عدَدَ ما خلَقَ الله, وسبحانَ الله عددَ كلِّ شيءِ, وسبحان الله ملءَ كل شيءٍ, وسبحان الله عددَ ما أحْصَى كتابُه, وسبحانَ الله ملءَ ما أحصَى كتابُه)) الحديثُ أخرجهُ البزار (1) والطبرانيُّ. (2)
قال في مجمع الزوائد: (3) رواه الطبرانيُّ والبزَّار, وفيه ليثُ بن أبي سليم, وهو ثقةٌ, ولكنه مُدَلِّسٌ, (4) وأبو إسرائيلَ الملائي حسنُ الحديثِ, (5) وبقية رجالهما رجالُ الصحيح, وأخرجه النسائي, (6) وابن حبان, (7) وأحمد, (8) والطبراني (9) من حديث أبي أمامةَ, وصححه ابن حبان, (10) وأخرجه أيضًا الحاكم (11) وصحَّحَهُ.
_________
(1) في ((مسنده)) (4/ 9 رقم3071 - كشف)
(2) عزاه إليه الهيثمي في ((المجمع)) (10/ 88)
(3) (10/ 88)
(4) انظر: ((ميزان الاعتدال)) (3/ 420 رقم 6997)
(5) انظر: ((ميزان الاعتدال)) (4/ 490 رقم 9957)
(6) في ((عمل اليوم والليلة)) رقم (166).
(7) في صحيحه رقم (830).
(8) في ((المسند) 9 (5/ 249).
(9) في ((الكبير)) رقم (7930).
(10) في صحيحه رقم (830).
(11) في ((المستدرك)) (1/ 513).
عن أبي أمامة الباهلي. أن رسول الله مرّ به وهو يُحرِّك شفتيه فقال: ((ماذا تقول يا أبا أمامة؟)) قال: أذكر ربي, قال: ((ألا أخبرك بأكثر أو أفضلُ من ذكركَ الليلَ مع النهار والنهار مع الليل؟ أن تقول: سبحان الله عدد ما خلق, وسبحان الله ملء ما خلق, وسبحان الله عدد ما ما في الأرض والسماء, وسبحان الله ملء ما في الأرض والسماء, وسبحان الله عدد ما أحصى كتابه, وسبحان الله عدد كل شيءٍ, وسبحان الله ملء كل شيءٍ, وتقول الحمد لله مثل ذلك)).
وهو حديث صحيح.(12/5902)
وأخرج الترمذي (1) من حديث أبي ذرِّ قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وآله وسلم -: ((ألا أخبرك بأحبِّ الكلام إلى الله؟)) قال: قلت: يا رسول الله, أخبرني بأحبِّ الكلام إلى الله, قال: ((إن أحبِّ الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده)).
وأخرجه أيضًا مسلمٌ (2) من حديثه ولفظُه: إن رسول الله - صلي الله عليه وآله وسلم - سئل أيُّ الكلامِ أفضلُ؟ قال: ((ما اصْطَفى الله لملائكتِه أو لعبادِه سبحانَ الله وبحمدِه)).
وأخرجه أيضًا النسائي, (3) وقال الترمذيُّ: (4) حسن صحيحٌ.
والأحاديث في فضل هذه الكلمة على انفرادها, وفضلِها وعظيمِ أجرهِا مع غيرها من التوحيد والتكبيرِ والتحميدِ متواترةٌ معروفةٌ. فلا نطيل البحثَ بذكرها فهي معروفةٌ لكل من يعرف السنةَ.
ومنها ما هو في الصحيحين (5) أو ...............................................
_________
(1) في ((السنن)) رقم (3593).
قلت: وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (85/ 2731).
(2) في صحيحه رقم (84/ 2731).
(3) في ((عمل اليوم والليلة)) رقم (824).
(4) في ((السنن)) (5/ 576).
وهو حديث صحيح.
(5) أخرج البخاري رقم (6405) ومسلم في صحيحه رقم (2691) والترمذي رقم (3466) والنسائي في ((عمل اليوم والليلة)) رقم (826) ومالك في الموطأ (1/ 209) وابن ماجه رقم (3812) عن أبي هريرة رضي الله عنه, أنَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: ((ومن قال سبحان الله وبحمده, في يوم مائة مرَّةٍ غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر)).(12/5903)
في أحدهما، (1) ومنها ما هو في غيرهما (2) وهو صحيح، أو حسن، وناهيك أن الله ـ سبحانه ـ جعل أذكارَ الركوع والسجودِ في الصلاة من التسبيحِ بسبحانَ ربِّيَ العظيم في الركوع، (3)، وسبحان ربِّيَ الأعلى في السجود.
قد كان رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يعِّلمها من يَفِدُ [4أ] إلى مكة من طوائفِ العرب وهم مشركونَ كما ورد بذلك الحديثُ. ولم لم يرد في ذلك إلاَّ ما ثبت في صحيح البخاريّ (4) وغيره (5) عنه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «كلمتانِ ثقيلتانِ
_________
(1) أخرج مسلم في صحيحه رقم (2137) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس .... ».
(2) أخرج الترمذي في (السنن) رقم (3464)، وقال: حديث حسن صحيح غريب والنسائي في (عمل اليوم والليلة) رقم (827)، وابن حبان في صحيحه رقم (824)، والحاكم (1/ 501، 512). عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «مَن قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة»، وهو حديث حسن.
(3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (817)، ومسلم رقم (484)، وأبو داود رقم (877)، والنسائي (2/ 1122) و (2/ 220 رقم 1123)، وابن ماجه رقم (889)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك الله ربنا وبحمدك، اللهمَّ اغفر لي».
(4) بل في صحيحه رقم (6406)، ومسلم رقم (2694).
(5) كالترمذي رقم (3467)، وابن ماجه رقم (424، 825)، والنسائي في (عمل اليوم والليلة) رقم (830) كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فائدة: قال ابن الأثير في (النهاية) (2/ 331): قد تكرر في الحديث ذكر التسبيح على اختلاف تصرّف اللفظة.
وأصل التسبيح: التَّنزيه والتقديس والتبرئة من النقائص، ثم استعمل في مواضع تقرب منه اتساعًا يقال سبَّحته أسبِّحه تسبيحًا وسُبحان. فمعنى سبحان الله: تنزيه الله، وهو نصب على المصدر بفعل مضمر كأنه قال: أُبرِّئُ الله من السوء براءةً. وقيل معناه: التَّسّرع إليه والخفَّة في طاعته، وقيل معناه: السُّرعة إلى هذه اللَّفظة، وقد يطلق التسبيح على غيره من أنواع الذكر مجازًا، كالتَّحميد والتَّمجيد وغيرهما وقد يطلق على صلاة التطوّع والنافلة. ويقال أيضًا للذِّكر ولصلاة النَّافلة: سبْحَه. يقال قضيت سبحتى. والسبَّحة من التَّسبيح، كالسُّخرة من التَّسخير، وإنَّما خصَّت النافلةُ بالسُّبحة وإن شاركتها الفريضة في معنى التسبيح لأن التسبيحات في الفرائض نوافل.(12/5904)
في الميزان، خفيفتانِ على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان اللهِ وبحمدهِ سبحانَ اللهِ العظيم».
وفي هذا المقدار كفايةٌ لمن له هدايةٌ والله ولي التوفيق [4ب].(12/5905)
(196) 24/ 5
نزهة الأبصار في التفاضل بين الأذكار
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/5907)
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: نزهة الأبصار في التفاضل بين الأذكار.
2 ـ موضوع الرسالة: الأذكار.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه الطاهرين، وبعد.
فإنه ما زال يتكرر السؤال عن من يسبح أو يهلل أو يكبر أو يحمد ....
4 ـ آخر الرسالة: قوله سبحانه: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} بفحوى الخطاب وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. كتبه مؤلِّفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 ـ عدد الصفحات: 12 صفحة + صفحة العنوان.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 36 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 ــ الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/5909)
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه الطاهرين.
وبعد.
فإنه ما زال يتكرر السؤال عن من يسبح أو يهلل أو يكبر أو يحمد أو يشكر أو نحوِ ذلك من الأذكار، أو الأدعية مرَّة بعد مرة، حتى يبلغَ ذلك عددًا كثيرًا، وعن من يقول ذلك مرَّة واحدة مضيفًا له إلى عددٍ كثيرٍ، كأن يقول أحدُهما: سبحان الله مثلاً ثم يكرِّر ذلك حتى يبلغَ ألف مرَّةٍ، ويقول الآخر: سبحان الله ألفَ مرَّة، أو قال: فعدد كذا أو زِنَةَ كذا، أو ملء كذا من غير تكريرِ كما فعل الأول، فهل ثواب الأول فوقَ ثواب الآخر لما وقع منه من التكرارِ الذي فيه كثير تعبٍ، ومزيد عمل باللسان، أم هما في الثواب سواء؟(12/5913)
أقول الجواب فيه أبحاث أربعةٌ، وبها يتضح المراد.
البحث الأول: أنه قد ثبت عن النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أنه أحال على الأعداد ونحوِِها من العظم والكبرِ، وعلى الوزنِ ونحوِه، فمن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه، (1) وأبو داود، (2) والترمذي، (3) والنسائي (4) من حديث جويرية. وقد خرجَ من عندها ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ حين صلَّى الصبحَ، وهي تسبح، ثم رجعَ إليها وهي جالسةٌ بعد أن أضحى، فقال لها: «ما زلت على الحالِ التِي فارقتك عليها؟» قالت: نعم. قال: «لقد قلتُ بعدَك ثلاثَ مرَّات. أربع كلماتٍ لو وزِنَتْ بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهنَّ، سبحان الله وبحمدِه عددَ خلقه، ورضاءَ نفسِه، وزنةَ عرشه ومِدَادَ كلماتِه».
وفي لفظ لمسلم (5): «سبحانه الله عدد خلقه، سبحان الله زنَة عرشه، سبحان الله مدادَ كلماتِه». وزاد النسائي (6) في آخر الحديث: «والحمد لله» كذلك، وفي رواية له «سبحان الله وبحمدِه، ولا إله إلاَّ الله والله أكبر عددَ خلقِه، ورضاءَ نفسِه، وزنةَ عرشِه، ومداد كلماته» فهذا الحديث يدلُّ أعظمَ دلالةِ على أنَّ من أحال على عددٍ ونحوِه يكون له من الثواب بقدرِ ذلك، ولهذا قال ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لجويرية: «لقد قلتُ بعدَك ثلاثَ مرَّات أربعَ كلماتٍ لو وُزِنَتْ بما قلتِ لوزنتهنَّ» فهذا تصريحٌ منه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بأنَّ هذه الكلماتِ التي قالها تعدلُ ما قالته جويرية من
_________
(1) رقم (2726).
(2) في (السنن) رقم (1503).
(3) في (السنن) رقم (3555).
(4) في (عمل اليوم والليلة) رقم (161) قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (3808).
(5) في صحيحه رقم (000/ 2426).
(6) في (عمل اليوم والليلة) رقم (162).(12/5914)
بعد صلاة الصبح إلى الضحى.
وأخرج أبو داود، (1) والترمذي، (2) وحسَّنه، (3) والحاكم، (4) وابن حبان (5) وصحَّحاه من حديث سعد بن أبي وقاص أنَّه دخل فتكلَّم على امرأة وبينَ يديها نوى أو حصًى تسبِّحُ به فقال: «ألا أخبرك بأيسرَ عليك من هذا، أو أفضل؟ فقال: سبحان الله عددَ ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما بينَ ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالقٌ، والله أكبر مثلُ ذلك، والحمد لله مثلُ ذلك، ولا إله إلا الله [1أ] مثلُ ذلك، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله مثلُ ذلك» فهذا فيه أنَّ هذا الذي قاله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يعدلُ عدد ما جعلتْه تلك المرأةُ بيد يديها من النوى أو الحصَى، مع كونه أيسرَ عليها، وأفضل مما قالتْه لاشتمالِه على عدد المخلوقاتِ في السماء، وعددِ المخلوقاتِ في الأرضِ التي تلكَ النوى أو الحصى من جملة ما خلقَه سبحانَه في الأرض، وعدد ما سيخلقه الله إليه من بعد ذلك الوقت فلولا أنَّه حصل للذاكر بهذه الأعدادِ جميعُ ما تضمَّنته لما صحَّ الخبر من الصادق المصدوق الذي لا يقول إلاَّ الحقَّ ولا يخبر إلاَّ بالصدق.
وأخرج الترمذي، (6) والحاكم في ..................................
_________
(1) في (السنن) رقم (1500).
(2) في (السنن) رقم (3568) وقال: هذا حديث حسن.
(3) في (السنن) (5/ 562 ـ 563).
(4) في (المستدرك) (1/ 548). وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. فأخطأ، لأن خزيمة هذا مجهول. قال الذهبي نفسه في (الميزان) (1/ 653) خزيمة: لا يُعرف، تفرد عنه سعيد بن أبي هلال. وانظر الضعيفة (1/ 188 ـ 189).
(5) في صحيحه رقم (637) وهو حديث ضعيف.
(6) في (السنن) رقم (3554). وقال الترمذي: هذا حديث غريب.(12/5915)
المستدرك، (1) وابن حبان (2) وصحَّحاه عن صفيةَ أمِّ المؤمنين أنَّ النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ دخل عليها وبين يديها أربعةُ آلاف نواةٍ تسبِّح بهنَّ فقال: «يا بنتَ حُييِّ ما هذا؟» قالت: أسبِّح بهنَّ. قال: «قد سبحت منذ قمت على رأسكِ أكثر من هذا» قالت: علِّمني يا رسول الله، قال: «قولي: سبحان الله عددَ ما خلقَ من شيء» ففيه أنَّ هذه الكلمةَ منه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ عدلتْ أكثر من تلك النوى بل عددَ المخلوقاتِ التي تلك النوى من جملتها.
وأخرج البزار، والطبراني من حديث أبي الدرداء (3) أنَّه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ قال له: «ألا أعلِّمكَ شيئًا هو أفضلُ من ذكركَ لله الليلَ مع النهارِ؟ سبحان الله عدد ما خلقَ الله، وسبحان الله ملء ما خلق، وسبحان الله عدد كلِّ شيء، وسبحان الله ملءَ كل شيء، وسبحان الله عددَ ما أحصى كتابُه، وسبحان الله ملءَ ما أحصى كتابه، والحمد لله ملءَ ما خلق، والحمد لله عدد كلِّ شيء والحمد لله ملء كل شيء، والحمد لله عدد ما أحصى كتابُه، والحمد لله ملءَ ما أحصى كتابُه».
قال في مجمع الزوائد (4): وفيه ليثُ بن أبي سليم وهو ثقةٌ، وأبو إسرائيل الملائي حسنُ الحديث، وبقية رجالهما رجالُ الصحيح.
_________
(1) في (المستدرك) (1/ 547).
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي
قلت: فيه هاشم بن سعيد ضعيف.
انظر: (الميزان) (4/ 289).
(2) لم أجده.
وهو حديث ضعيف.
انظر: (الضعيفة) (1/ 189 ـ 190).
(3) تقدم تخريجه. انظر الرسالة رقم (195).
(4) (10/ 88).(12/5916)
فدلَّ هذا على وقوع جميع ما اشتمل عليه الحديث من الأعدادِ وغيرِها. ولهذا جعلَه أفضلَ من ذكر أبي الدرداء لله ـ سبحانه ـ الليلَ مع النهار. وظاهره تفضيلُ ذلك على ذكر أبي الدرداء في ليله ونهار مدَّة عمرِه إلى هذا الوقتِ الذي علَّمه رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أن يقول هكذا.
ومعلوم ذلك، لأنَّ أبا الدرداء وأفعاله من جملةِ ما خلق الله فضلاً عن سائر ما اشتملَ عليه الحديثُ. والظاهر أنَّ المراد بالكتاب هنا اللوحُ المحفوظ الذي يقولُ فيه ـ عز وجل ـ {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (1)
وأخرج النسائي، (2) وابن حبان، (3) والطبراني (4) من حديث أبي أمامةَ أنَّه قال له النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «ألا أخبرك بأكثر أو أفضل من ذكرك الليل مع النَّهارِ والنهارِ مع الليلِ؟ يقول: سبحان الله عددَ ما خلقَ، سبحان الله ملءَ ما خلق، سبحان الله عدد ما في الأرض والسماء، سبحان الله ملءَ ما في الأرض والسماء، وسبحان الله عدد ما أحصى كتابُه، وسبحان الله عدد كلِّ شيء، وسبحان الله ملءَ كلِّ شيء، والحمد لله مثلَ ذلك»، وزاد الطبراني (5) «وتحمدُ وتسبِّح مثلَ ذلك، وتكبِّرُ مثلَ ذلك» ولم يذكر أحمدُ التكبيرَ، وأخرجه من هذا الوجه ابنُ حبان في صحيحه، والحاكم وقال على شرط الشيخين، وفي إسناده ليثُ بن أبي سليم وهو ثقة وقال في مجمع .....................................
_________
(1) [الأنعام: 38].
(2) في (عمل اليوم والليلة) رقم (166).
(3) في صحيحه رقم (830).
(4) في (الكبير) رقم (7930).
(5) في (الكبير) (8122). قال الهيثمي في (المجمع) (10/ 93) رواه الطبراني من طريقين. وإسناد أحدهما حسن.(12/5917)
الزوائد (1): رواه الطبراني من طريقين، وإسنادهما حسن.
وأخرجه الطبراني (2) من وجه ثالث، وفي إسناده محمد بن خالد الواسطي، (3) وقد تُكُلِّم فيه، ووثَّقه ابن حبان، وقال: يخطئ ويخالفُ، وبقية رجاله رجال الصحيح.
قال في مجمع الزوائد (4): ورجال أحمدَ رجال الصحيح [1ب]. والمراد بما وقع في هذه الأحاديث من قوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «ملء كذا، زنة كذا مداد كذا» الدلالةُ على الكثرة التي لا تحيط بها العقولُ، لأنَّ الكلماتِ الواقعةَ بهذه الألفاظِ هي مجرد أغراض لا تُتَخيَّرُ بنفسها، ويمكن أن يكون المراد أنَّ هذه الكلماتِ لو تجسَّمت وتُخيِّرَتْ كانت ملءَ الأمور وزنتَها ومدادَها.
والمراد بالمدادِ المدُّ وهو: ما يكثُر به الشيء ويزيد. ومن هذا ما ورد في حديث ابن عباس عند مسلم (5) والنسائي (6): أنَّه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: «اللهم ربَّنا لك الحمد ملءَ السماوات، وملءَ الأرض، وملءَ ما شئت من شيء بعدُ» الحديث.
وأخرجه أيضًا مسلم، (7) وأبو داود، (8) والنسائي (9) من حديث أبي سعيد الخدري.
_________
(1) (10/ 93).
(2) كما في (مجمع الزوائد) (10/ 93).
(3) قال يحيى: كان رجل سوء، وقال مرة: لا شيء، قال أبو زرعة: ضعيف.
انظر: (ميزان الاعتدال) (3/ 533 رقم 7467).
(4) بل قال الهيثمي في (المجمع) (10/ 93): رواه الطبراني وفيه محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي وقد نسب إلى الكذب ووثقه ابن حبان وقال يخطئ ويخالف، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(5) في صحيحه رقم (206/ 478).
(6) في (السنن) (2/ 198).
(7) في صحيحه رقم (205/ 477).
(8) في (السنن) رقم (847).
(9) في (السنن) (2/ 198 رقم 1068). وهو حديث صحيح.(12/5918)
وقد يكون المراد بهذه المقاديرِ المذكورة في هذه الأحاديث هو أجرُ هذه الكلمات، وأنه يحصل لمن تكلَّم بها من الأجر زنةَ عرشِ الله ـ سبحانه ـ، ومداد كلماتِه، وملء السماوات، وملءَ الأرض، وملء ما شاء الله ـ عز وجل ـ.
ومن ذلك أيضًا ما أخرجه مسلم (1) والترمذي، (2) والنسائي (3) من حديث أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض» فإنَّه يجري في هذا الحديث ما ذكرناه من تلك الوجوه، ويؤيد الوجهَ الثالثَ ما ورد من أنَّ {(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)}.
تعدِلُ ثلثَ القرآن (4) وسورةَ إذا زلزلت تعدلُ نصفَ القرآن، (5) وسورة الكافرين تعدل ربعَ القرآنِ، (6) وسورة إذا جاء نصر الله تعدل ربعَ القرآن. (7)
_________
(1) في صحيحه رقم (223).
(2) في (السنن) رقم (3517).
(3) في (عمل اليوم والليلة) رقم (168).
(4) أخرج البخاري رقم (5013)، ومالك في (الموطأ) (1/ 208)، وأبو داود رقم (1461)، والنسائي في (عمل اليوم والليلة) رقم (698). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنَّ رجلاً سمع رجلاً يقرأ: {(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)} يردِّدها فلمَّا أصبح جاء إلى النبي صلي الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، وكان الرّجل يتقالُّها فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن».
(5) أخرج الترمذي في (السنن) (3333)، والحاكم (1/ 566) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «{إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن، و {(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)} تعدل ثلث القرآن، و {(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)} تعدل ربع القرآن».
وهو حديث صحيح.
(6) انظر التعليقة السابقة.
(7) أخرج الترمذي في (السنن) رقم (2895) وهو حديث ضعيف.
من حديث أنس وفيه: «قال: أليس معك {(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)}؟» قال: بلى، قال: «تعدل ربع القرآن».(12/5919)
فإنَّ المراد بالعدلِ هنا الثوابُ، وحصول الأجرِ، وليس المراد المعادلةَ للمقدارِ الذاتي.
ومما يفيد أن هذه الكلماتِ تتجسَّم، وتأتي كذلك ما ثبت عند مسلم (1) من حديث أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يقول: «اقرءوا الزَّهراوَيْنِ البقرةَ وآل عمران، فإنهما يأتيان يومَ القيامةِ كأنَّهما غمامتانِ أو كأنَّهما غيايتان، أو كأنهما فرقانِ من طيرٍ صوافَّ تحاجَّانِ عن صاحبهما». وهذا وجه رابعٌ، وهو الظاهر لكونه غيرَ محتاج إلى تأويلٍ كما تقدم في الوجوه السابقةِ. ومنه ما ثبت في الصحيحين (2) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان» الحديث.
البحث الثاني: اعلم أنَّه ليس للإنسان في العدد الذي ورد عن الشارع تقديرُه بمقدار معيَّن كأنْ يقول الشارع: من قال: كذا مائةَ مرَّة فله من الأجر كذا فيقول: الذاكر مثلاً: أستغفر الله ـ عز وجل [2أ]ـ مائةَ مرَّة، ويكتفي بهذا اللفظ، بل لا بد أنْ يفعلَ ذلك العددَ، ولا يحصلَ له الأجرُ إلاَّ به كما ثبت عند مسلم، (3) وأبي داود (4) قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من قال حين يصبح ويمسي: سبحان الله وبحمده مائةَ مرة لم يأت أحدٌ يوم القيامة بأفضلِ مما جاء به إلاَّ أحدٌ قال مثلَ ذلك أو زاد عليه».
وفي صحيح ............................................
_________
(1) في صحيحه رقم (804).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6406)، ومسلم رقم (2694).
(3) في صحيحه رقم (2691).
(4) في (السنن) رقم (5019)
قلت: وأخرجه النسائي في (عمل اليوم والليلة) رقم (568)، والترمذي رقم (3469).(12/5920)
مسلم (1) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من قال: سبحان الله وبحمده مائةَ مرة حُطَّتْ عنه خطاياه، وإن كانت مثل زبَدِ البحرِ».
وفي صحيح مسلم (2) من حديث سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «أيعجزُ أحدُكم أن يكسبَ كلَّ يوم ألف حسنةٍ؟ يسبِّح مائةَ تسبيحةٍ فيكتب له ألفُ حسنةٍ، أو يُحَطُّ عنه ألفُ خطيئةٍ» وعند الترمذي (3) والنسائي، (4) وابن حبان (5): «وتحطُّ» بدونِ ألفِ التخييرِ.
وفي الصحيحين (6) من حديث علىٍّ أنَّ فاطمة أتت النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ تسأله خادمًا فقال: «ألا أخبرك بما هو خير لك منه؟ تسبِّحينَ الله عند منامكِ ثلاثًا وثلاثين، وتحمدينَ الله ثلاثًا وثلاثين، وتكبرين الله أربعًا وثلاثين».
وأخرج مسلم، (7) والترمذي، (8) والنسائي (9) من حديث كعب بن عجرة قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «معقباتٌ لا يخيبُ قائلُهنَّ أو فاعلُهن دُبُرَ
_________
(1) في صحيحه رقم (2691). قلت: وأخرجه البخاري رقم (6405)، ومالك (1/ 209)، والترمذي رقم (3466)، وابن ماجه رقم (3812)، والنسائي في (عمل اليوم والليلة) رقم (826).
(2) رقم (2698).
(3) في سننه رقم (3459).
(4) في (عمل اليوم والليلة) (152).
(5) في صحيحه رقم (825) وهو حديث صحيح.
(6) أخرجه البخاري رقم (3705، 5362)، ومسلم رقم (2727) و (2728). قلت: وأخرجه أحمد (1/ 106)، وأبو داود (5063)، والترمذي (3408).
(7) في صحيحه رقم (596).
(8) في (السنن) رقم (3412).
(9) في (عمل اليوم والليلة) رقم (155، 156)، وفي (السنن) (3/ 75).(12/5921)
كلَّ صلاة مكتوبةٍ: ثلاثٌ وثلاثون تسبيحةً، وثلاث وثلاثونَ تحميدةً، وأربع وثلاثون تكبيرةً».
وفي الصحيحين (1) وغيرهما (2) من حديث أبي هريرة قال: جاء الفقراء إلى رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجاتِ العُلا والنعيم المقيم، يصلُّون كما نصلِّي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضلُ أموالهم، يحجُّون بها ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدَّقون فقال: «ألا أخبركم بشيء بما إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدركُّم أحدق بعدكم، وكنتم خيرَ من أنتم بظهرانيهِ إلاَّ من عمل مثلَه؟ يسبحونَ ويحمدونَ ويكبرونَ خلف كلَّ صلاة ثلاثًا وثلاثين» الحديث وورد في الصحيح من كل واحدة منهنَّ عشرًا، وورد أيضًا في الصحيح من كل واحدة منهن إحدى عشْرَةَ.
وفي الصحيحين (3) وغيرهما (4) من حديث أبي أيوبَ أنَّ النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ قال: «من قال لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. من قالها عشر مراتٍ كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل» ونحوُ هذه الأعداد المنصوصِ عليها من الشارع فلا يتمُّ ما يترتب عليها من الأجرِ إلاَّ بتكريرها حتى يبلغَ العددَ المنصوص عليه.
البحث الثالث: اعلم أنَّ مقادير ثواب الأقوال والأفعال التي هي غالب الأعمال ليس للعقل فيها مجال، ولا للرأي فيها مدخل بحال من الأحوال، بل ذلك راجع إلى الشرع.
ولا خلاف في هذا بين جميع المتشرعين من المسلمين، وإذا كان الأمر هكذا فمالنا ولهذا السؤال الذي أورده السائل حسبما حكيناه في عنوان هذا البحث! فواجب علينا أن
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6329)، ومسلم رقم (595).
(2) كأبي داود رقم (1504)، والترمذي رقم (410).
(3) أخرجه البخاري رقم (6404)، ومسلم رقم (30/ 2693).
(4) كالترمذي رقم (3584).(12/5922)
نقولَ: سمعْنا وأطعْنا، وليس لنا في ذلك حَلٌّ ولا عقدٌ، ولا قيل ولا قالَ، وهذا الشارعُ الذي بيَّن لأُمَّته ما شرعَهُ الله في كتابه الكريم، وعلى لسانه الطاهرة قال: تلك المقالةَ التي ذكرناها في البحث الأول، ورواها [2ب] من رواها من صحبه الذين هم خيرُ القرون مسألةً أوضحناها، ثم تلقاه من بعدهم قرنًا بعد قرن، يرويها الآخر عن الأول، والخلف عن السلف. وهل بعد قوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لجويرية: «لقد قلتُ بعدَك ثلاثَ مرات أربعَ كلماتٍ لو وزنتْ بما قلتِ منذ اليومِ لوزنتهنّ».
فهذا تصريح منه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ فإنَّ هذه الكلماتِ التي قالها ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ تعدُل ما قالتْه جويرية من بعد صلاة الصبح إلى الضحى (1) وقال للمرأة التي بين يديها نوى أو حصَى تسبَّح بهنَّ: «ألا أخبركِ بأيسرَ عليك من هذا أو أفضلَ» وقال في الرواية الأخرى لصفيةَ أمِّ المؤمنين: «لقد سبَّحتُ منذ قمت على رأسك أكْثَرَ من هذا» (2) وقال لأبي أمامةَ: «ألا أخبرك بأكثرَ أو أفضلَ من ذكرك الليل مع النهار، والنهار مع الليل» (3) حسبما قدمنا في البحث الأول.
فهل بقي بعد هذا إشكال، أو محلُّ سؤال وهل يحتاج إلى زيادة عليها في حل إشكال الإشكال والخلالِ ما زعمه من انعقاد ما أورده من السؤال، وانكشافِ وجهِ ما ظنَّ أنه محجوبٌ عن أبصار أهل الكمال.
وإذا أراد الزيادة على هذا المقدارِ فلينظرْ ما ذكرناه في البحث الثاني من ثواب الكلمة أو الكلمات التي يتحرَّك بها لسان الذاكرِ من غير تعبٍ، ولا مشقةٍ، ولا قطعِ وقتٍ يعتد به. وقد عدَلَتْ ما عدلت الأعمال الكثيرة، وتأمل ثواب من قال: «لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير عَشْرَ مرَّاتٍ فكأنما
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.(12/5923)
أعتق أربعةً من ولد إسماعيل» (1) فإنَّ تحصيل أربعَ رقاب بالثمن لا سيَّما وهم ممن له شرف في الأصل يحتاجُ إلى القيمة الكثيرة، ثم إلى البحث عنهم حتى يحصلُوا لديه، ثم نقلهم من ملك من كانوا معه إلى ملكه مع كثره الحركة باللسان وبغيره من الجوارحِ، وقد يكون مجر المساومة للبائع في واحد منهم يحتاج أن يتكلَّم بلسانه كلامًا أكْثَرَ من الذكر بذلك الذكر عَشْرَ مرَّات مع ما لاقاه في تحصيل القيمة المدفوعة، وإن كان حصولُهم له من السببي فالأمر أشدُّ وأعظم، لأنَّ من دالة القتالِ والمخاطرةِ بالنفس هي أشدُّ من كل عمل، ومن ظنَّ ممن يلاقي الحروبَ بأن لا يصابَ فقد ظنَّ عجْزًا.
ومما ذكرناه تعلم أنه لا وجه لقول العامَّة من الناس أنَّ الثوابَ على قدر المشقةِ، انظر إلى ما أخرجه أحمدُ، (2) ومالك في الموطأ، (3) والترمذي، (4) والحاكم في المستدرك، (5) والطبراني في الكبير، (6) والبيهقي في الشعب، (7) وابن شاهين في الترغيب (8) في الذكر كلُّهم من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليكِكُم، وأرفِعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إنفاقِ الذهب والفضةِ، وخير لكم من أن تلقوا [3أ] عدوَّكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟» قال: بلى. قال: «ذكر الله عز وجل».
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) في (المسند) (6/ 446).
(3) (1/ 211).
(4) في (السنن) (3377).
(5) (1/ 496).
(6) لم أجده في (الكبير) بل في الدعاء رقم (1872).
(7) رقم (519).
(8) (2/ 390). وهو حديث صحيح والله أعلم.(12/5924)
وقد صححه الحاكم وغيره، وأخرجه أحمد (1) أيضًا من حديث معاذ. قال المنذري (2) بإسناد حسن. وقال (3) في حديث أبي الدرداء أنَّ أحمد أخرجه بإسناد حسن. وقال الهيثمي (4): في حديث أبي الدرداء: إسناده حسن. وقال: في حديث معاذ رجاله رجالُ الصحيح. فتأمَّل ما اشتمل عليه الحديث من ارتفاع فضيلةِ الذكر حتى جعلًه خير الأعمالِ وأزكاها وأرفعَها، فجمعَ بين هذه العباراتِ الثلاثِ، (5) ولم يقتصر على واحدة منها، وهذا يفيد التأكيد المتبالغَ إلى حد يقصُر عنه الوصفُ، وتعجزُ الأذهانُ عن تصوُّره.
ثم ذكر بعد هذا التأكيد العظيم، والمبالغةِ البليغةِ أنَّ الذِّكر خيرٌ من إنفاقِ ما هو أحبُّ إلى القلوب من جميع عروض المال فقال: «وخير لكم من إنفاقِ الذهبِ والفضة» لأنَّ هذين الجنسين هما أثمانُ جميعِ الأموالِ، وأكثرِها نفعًا لبني آدم، والنفوس بها أشحُّ، وعليهما أحرص، يعلم هذا كلُّ عاقل. ثم جاوز هذا إلى ما النفوس به أشحُّ، وإليه أرغب، وعليه أحرصُ، وهي نفوس بني آدمَ فقال: «وخير لكم من أن تَلْقوا عدوَّكم فتضربوا أعناقَهم، ويضربوا أعناقكم»، ولم يكن التفضيلُ على مجرد بذْل النفوس مطلقًا، بل قيده بما يفيد أنه القتلُ في الجهادِ حيث جعلَ القتال مع من هو عدوٌّ لا يقبل الإسلامَ، فيكون المعنى أنَّ ذكر الله أحبُّ وأزكى وأرفعُ من جميع الأموال التي اقتصر على ذكرِ أعلاها وأكملِها وأحبِّها إلى النفوس، وأرفعها عند الله، فكان دخول غيرِ الذهبِ
_________
(1) في (المسند) (5/ 239) بسند ضعيف.
(2) في (الترغيب والترهيب) (2/ 368). قلت: بل قال المنذري: بإسناد جيد إلا أن فيه انقطاعًا.
(3) أي المنذري في (الترغيب والترهيب) (2/ 368).
(4) في (مجمع الزوائد). (10/ 73).
(5) قال العز بن عبد السلام في (قواعده): هذا الحديث مما يدل على أن الثواب لا يترتب على قدر النصب في جميع العبادات بل قد يأجر الله تعالى على قليل الأعمال أكثر مما يأجر على كثيرها، فإذًا الثواب يترتب علي تفاوت الرتب في الشرف.
انظر: (مرقاة المفاتيح) (5/ 54).(12/5925)
والفضة بفحوى الخطاب، ومن جميع الأفعال التي أعلاها وأفضَلها وأشدُّها الجهادُ مع من يحقٌّ الجهادُ له، وذلك يفوقُ جميعَ الأعمال كائنةً ما كانت، وبذلها في الحق والجود بها لا يساويه عملٌ.
يجودُ بالنفس إنْ ضنَّ الجبان بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
فما عدا القتال من الأعمال داخلٌ بفحوى الخطاب. فانظر إلى هذا الأمر العظيم، فإنَّ ذكر الله ـ سبحانه ـ هو مجرَّد حركة لسانِه ليس فيها من التعب والنَّصبِ ما يساوي اشتغالَ المجاهدِ بإلجام فرسِه، أو وضع السُّّرجِ عليها فضلاً عما وراء ذلك، فسبحانه المتفضِّل على عباده بما تقصُر عقولهم عن إدراك كُنْهِهِ، وأفهامُهم عن تصور حقيقتهِ، بل عن تصور رسْمِهِ! ومما يقوي هذا الحديث ما أخرجه أحمد (1) والطبراني (2) من حديث معاذ عن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: أنَّ رجلاً سأله: أيُّ المجاهدين أعظمُ أجرًا؟ قال: «أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرًا» ثم ذكر الصلاة، والزكاةَ، والحجَّ والصدقةَ كل ذلك ورسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يقول: «أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرًا [3ب]». فقال ابو بكر لعمر ـ رضي الله عنهما ـ: يا أبا حفص ذهب الذاكرونَ بكل خير، فقال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «أجل».
ويؤيده أيضًا ما أخرجه الترمذي (3): أنَّ رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ سُئل: أيُّ العباد أفضلُ درجةً عند الله يوم القيامة؟ قال: «الذاكرون الله كثيرًا». قال: قلتُ: ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: «لو ضرب بسيفِهِ في الكفارِ والمشركينَ حتى ينكسِرَ ويختضبَ دمًا لكان الذاكرون الله تعالى أفضلَ منه درجةً» قال ...................................
_________
(1) في (المسند) (3/ 438) بإسناد ضعيف.
(2) في (الكبير) (20/ 407).
وأورده الهيثمي في (المجمع) (10/ 74) وقال: رواه أحمد والطبراني وفيه زايد بن فائد، وهو ضعيف، وقد وثق، وكذلك ابن لهيعة، وبقية رجال أحمد ثقات.
(3) أخرجه في (السنن) رقم (3376).(12/5926)
الترمذي (1) بعد إخراجه: حديثٌ غريب، وما أخرجه ابن أبي الدنيا (2) والبيهقيُّ (3) من حديث ابن عمر مرفوعًا وفيه: «ولا شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله عز وجل» ما أخرجه أحمد، (4) والطبراني في الكبير (5) والأوسط (6)، وابن أبي شيبة في مصنَّفه (7) من حديث معاذ أنَّ رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ قال: «ما عمل ابنُ آدم عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله» قالوا: ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلاَّ أن يضرب بسيفه حتى ينقطَع، إلاَّ أن يضرب بسيفه حتى ينقطع، إلاَّ أن يَضْرِبُ بسَيفِهِ حتى يَنقَطِعَ».
قال المنذري في الترغيب والترهيب (8): بعد أنْ عزاه إلى الطبراني في الصغير (1/ 77). (9) رقم (2296). (10) في (المجمع) (10/ 74). (11) في (الصغير) (1/ 77) وفي (الأوسط) (2296).
_________
(1) في (السنن) (5/ 458) هذا حديث غريب.
قلت: وهو حديث ضعيف.
(2) عزاه إليه المنذري في (الترغيب والترهيب) (2/ 368 رقم 2205) وقال: من رواية سعيد بن سنان.
(3) في (الشعب) رقم (522).
(4) في (المسند) (5/ 239).
(5) (ج20) رقم (181) و (208) و (212) و (213) بنحوه.
(6) كما في (المجمع) (10/ 74).
(7) في (المصنف) (10/ 300) و (13/ 455).
(8) (2/ 369 رقم 2208).
(9) والأوسط
(10) ورجالهم رجال الصحيح، وجعلَهما عنده من حديث جابر بهذا اللفظ. وقال الهيثمي
(11) في حديث معاذ: رجاله رجال الصحيح. قال: وقد رواه الطبراني(12/5927)
عن جابر بسند رجاله رجال الصحيح.
وأخرج الطبراني في الكبير (1) من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «لو أنَّ رجلاً ي حجرِه دراهمُ يقسِمُها، وآخر يذكر الله لكان الذاكر لله أفضلَ». وأخرجه من حديثه الطبراني في الأوسط، (2) وابن شاهين في الترغيب في الذكر، وفي إسناده جابر أو الوزاع (3) قال النسائي: منكر الحديث انتهى.
قلت: أخرج له مسلم فلا وجْهَ لإعلال الحديثِ به، وقد حسَّنَ إسنادَهُ المنذريُّ في الترغيب والترهيب. (4) قال البيهقي: رجاله وُثِّقوا. انتهى.
وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (5)، وعنه البيهقي وأحمد في زوائد الزهد (6) من حديث أبي برزةَ الأسلمي.
وأخرج الطبراني في الأوسط (7) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «ما صدقةً أفضل من ذكر الله تعالى» هكذا في الجامع الصغير (8) للسيوطي، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (9) معزوًّا إلى الطبراني من حديث أبي موسى، وحسَّنه. قال الهيثمي (10): في حديث ابن عباس: إنَّ رجاله موثَّقون. وهذه
_________
(1) كما في (مجمع الزوائد) (4/ 75).
(2) رقم (5959).
(3) ذكره الذهبي في (الميزان) (1/ 378 رقم 1418): وقال: وثقه ابن معين. وقال النسائي: منكر الحديث.
(4) (2/ 374).
(5) في (المصنف) (10/ 307 رقم 9521) و (13/ 456 رقم 16901).
(6) بل عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد. كما في (الدر المنثور) (1/ 151) ط: دار المعرفة.
(7) رقم (7414).
(8) رقم (7925) وهو حديث ضعيف.
(9) (2/ 374).
(10) في (المجمع) (10/ 74).(12/5928)
النكرة وقعت في سياق النفي فتشملُ الصدقةَ القليلةَ والكثيرةَ من أي نوع كانت، ومن الأدلة الدالة على أنَّ العمل القليلَ قد يكون أفضلَ من العلم الكثير ما أخرجه البخاري (1) ومسلم (2) وغيرُهما (3) من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلثَ القرآن في ليلة» فشقَّ ذلك عليهم، وقالوا: أيُّنا يطيقُ ذلك يا رسول الله! قال: «الله الواحدُ الصمدُ ثلثُ القرآن» وأخرجه [4أ] مسلم (4) من حديث أبي هريرة، وأخرجه أحمد في المسند، (5) والنسائي، (6) والضياء المقدسي في المختارة (7) من حديث أبيِّ بن كعب، أو من حديث رجل من الأنصار عنه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من قرأ قل هو الله أحد فكأنما قرأ ثلثَ القرآنِ» قال الهيثمي (8): ورجاله رجال الصحيح.
وفي الباب أحاديثُ كثيرةٌ استوفيناها في شرحنا لعدة الحصنِ الحصينِ، (9) فانظر ـ أصلحك الله ـ كم قابلتْ هذه السورةُ! فإنَّ تلاوة ثلثِ القرآن تستغرقُ تلاوتُه شطرَ اليومِ إن لم تستغرقه كلَّه. وهذه السورة يتلوها التالي عند أن ينهضَ للقيام فلا يستوي قائمًا إلا وقد فرغَ منها.
ومن هذا القبيل حديثُ ابن عباس قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله
_________
(1) في صحيحه رقم (5019) وقد تقدم.
(2) لم يخرجه مسلم.
(3) كمالك (1/ 208)، وأبو داود رقم (1461).
(4) في صحيحه رقم (812).
(5) في (السنن) (5/ 141).
(6) في (عمل اليوم والليلة) رقم (685).
(7) رقم (1239، 1240).
وهو حديث صحيح لغيره.
(8) لم أعثر عليه.
(9) وهو (تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين صلي الله عليه وسلم) بتحقيقنا.(12/5929)
وسلم ـ: «إذا زلزلتِ الأرضُ تعدلُ نصفَ القرآن» أخرجه الترمذي (1) والحاكم (2) وقال: صحيح الإسناد، وفي إسناده يمانُ بن المغيرة، (3)، وفيه ضعف. ومن هذا القبيل من حديث أنس قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «{(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)} تعدلُ رُبُعَ القرآن». أخرجه الترمذي (4) وحسَّنه، وفي إسناده سلمةُ بن وِرْدَانَ، (5) وفيه مقال. وأخرجه أيضًا الترمذي (6) والحاكم (7) وقال: صحيح الإسناد، وفيه يمان بن المغيرة، وفيه المقال المتقدم.
ومن ذلك حديث ابن عباس قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «{(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} تعدل ربع القرآن» أخرجه الترمذي (8) وحسَّنه، وفي إسناده سلمة بن وردان, وفيه مقال كما تقدم.
من أول ص5931 إلي آخر ص6122
_________
(1) في (السنن) رقم (2894) وقال: هذا حديث غريب لا نعرف إلا من حديث يمان بن مغيرة.
(2) في (المستدرك) (1/ 566).
(3) قال البخاري: منكر الحديث: قال النسائي: ليس بثقة.
(ميزان الاعتدال) (4/ 460 ـ 461 ـ رقم 9851).
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «{إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن و {(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)} تعدل ثلث القرآن و {(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)} تعدل ربع القرآن».
وهو حديث صحيح دون: فضل إذا زلزلت.
(4) في (السنن) رقم (2895) قال: هذا حديث حسن.
(5) قال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال أحمد: منكر الحديث.
انظر: (ميزان الاعتدال) (2/ 193 رقم 3414).
وهو حديث ضعيف والله أعلم.
(6) في (السنن) (2894) وقد تقدم.
(7) في (المستدرك) (1/ 566) وقد تقدم.
(8) في (السنن) رقم (2895) وقال: هذا حديث حسن.
من حديث أنس. وهو حديث ضعيف.(12/5930)
البحث الرابع: اعلم أيها السائل ـ أرشدك الله ـ أنا قد أوضحنا لك الجواب, وعددنا الطرق الرافعة للإشكال, بحيث إن طريقة واحدة منها تشرح صدرك, وتميط إشكالك, وترفع إعضالك, لأن الأمر الذي سألت عنه وتحيرت قد قاله وفعله الصادق المصدوق ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ.
والعباد مأمورون بقبول ما جاء به, والتسليم له, والإذعان لما دل عليه, فكيف لا ينثلج لذلك خاطرك, وينشرح له قلبك, وأنت واحد من عباد الله ـ عز وجل ـ المخاطبين بقوله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1)
وقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (2) الآية.
وما دار في خلدك من استبعاد قيام العمل القليل مقام العمل الكثير فهذا وإن كان مجرد وسوسة شيطانية, وتشكيكات نفسية فقد أخبرناك في البحث الثالث المصدر قبل هذا البحث بما ورد في الشريعة المطهرة من الأعمال التي قام القليل اليسير منها مقام الكثير الخطير من جنسها, فهل بقي بعد هذا إشكال لذي عقل صحيح وفهم رجيح!.
فإن قلت: قد زال عن صدرك الحرج, واتضح لك الأمر, ولم يبقى لديك شيء من هذا الوسواس الذي زينه لك الخناس الذي يوسوس في صدور الناس, فها أنا أزيدك بيانًا, وأورد لك [4ب] بعد هذه البراهين برهانًا يجتث الإشكال من أصله ويقطع الإعضال من عرقه, وهو ما أخرجه البخاري (3) ومسلم (4) وغيرهما (5) من حديث أبي هريرة قال: جاء الفقراء إلى رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ وقالوا: ذهب أهل
_________
(1) [الحشر:7]
(2) [آل عمران:31]
(3)) في صحيحه رقم (6329).
(4) في صحيحه رقم (595)
(5) كأبي داود رقم (3412) وقد تقدم.(12/5931)
الدثور من الأموال بالدرجات العلا والنعيم المقيم, يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم, ولهم فضل أموالهم يحجون بها, ويعتمرون, ويجاهدون, ويتصدقون, فقال: "ألا أحدثكم بشيء بما إذا أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدركم أحد بعدكم, وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين" واختلفنا بيننا فقال بعضنا: يسبح ثلاثًا وثلاثين, ويحمد ثلاثًا وثلاثين, ويكبر أربعًا وثلاثين, فرجعت إليه فقال: "يقول سبحان الله, والحمد لله, والله أكبر حتى يكون فيهن كلهن ثلاثًا وثلاثين" وفي رواية لمسلم من هذا الحديث: "يسبحون, ويحمدون, ويكبرون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين, إحدى عشرة, وإحدى عشر, وإحدى عشرة؛ فذلك كلُّه ثلاثًٌ وثلاثون". وفي رواية للبخاري (1) من هذا الحديث "يسبحون في دبر كل صلاة عشرًا, ويحمدون عشرًا, ويكبرون عشرًا".
وزاد مسلم (2) فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله, فقال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء". فعند هذا النص النبوي الثابت في الصحيح طاحت الوساوس, وذهبت الشكوك وارتفع الإشكال, ولم يبق لسؤال سائل مجال, فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وأخرج البخاري (3) وغيره (4) من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر
_________
(1) في صحيحه رقم (6329)
(2) في صحيحه رقم (142/ 595)
(3) في صحيحه رقم (577) وأطرافه (2269, 2268, 7533, 7467 , 5021, 3459)
(4) كأحمد (2/ 6) والترمذي في "السنن" (2871)(12/5932)
إلى غروب الشمس, أوتي أهل التوراة التوراةَ يعملوا بها حتى انتصف النهار, فعجزوا فأعطوا قيراطً قيراطا, ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيلَ, فعملوا به إلى صلاة العصر فأعطوا قيراطًا قيراطا, ثم أوتينا القرآن, فعملنا به إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين, فقال أهل الكتابين: أي ربي لأعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين, وأعطيتنا قيراطًا قيراطا, ونحن أكثر عمل منهم. قال الله عز وجل: هل ظلمتكم من أجركم شيئًا! قالوا: لا. قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء".
وأوضح من هذه الرواية رواية أخرى للبخاري (1) وغيره (2) من حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: "مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قومًا يعملون له عملاً إلى الليل على أجر معلوم, فعملوا له إلى نصف النهار, فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملناه باطلٌ فقال لهم لا تفعلوا, لأكملوا بقية يومكم, ثم ذكر عمل النصارى كذلك [5أ] إلى العصر, فاستأجر قومًا يعملون بقية يومهم فعملوا فاستكملوا أجر الفريقين كليهما, فذلك مثلهم ومثل ما قبلُوا من هذا النور".
فقوله: "فهو فضلي أوتيه من أشاء", نص بأن مرجع التفضيل بالأجور إلى الرب عز وجل, فليس لأحد أن يقول: لم كان كذا, أو كيف كان كذا؟ وبعد هذا كله فانظر إلى ما صرح به القرآن الكريم من قوله ـ عز وجل ـ: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (3) فانظر إلى ما تفيده هذه الأكبريةُ المذكورة بعد الصلاة التي هى أشرف أركان الدين,
_________
(1) في صحيحه رقم (2268)
(2) كالبيهقي (6/ 118) والبغوي في "شرح السنة" رقم (4017)
(3) [العنكبوت:45].
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" (13/ 349).(12/5933)
مع كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر, فإنها تفيد أن الذكر أكبر من هذه الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر.
ثم انظر حذف التعلق ما يفيده من الفوائد الجليلةِ, فإنه إذا قدَّر كان عامًَّا فيكون الذكر أكبرَ من كل شيء من الطاعات, وأكبر العبادات, وما عداها من الطاعات دونها, فتكون جميعها داخلة تحت ما يدل عليه قوله ـ سبحانه ـ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} بفحوى من الخطاب.
وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية, كتبه مؤلفه محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله لهما [5ب]ـ.(12/5934)
(197) 12/ 5
الاجتماعُ على الذكرِ والجهرِ بهِ
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/5935)
وصف المخطوط:
1ـ عنوان الرسالة من المخطوط: الاجتماع على الذكر والجهر به.
2ـ موضوع الرسالة: الأذكار.
3ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. لا يخفاكم أطال الله بقاءكم, وحرس بكم معالم العلم الشريف, وأقام بكم دعائم الدين.
4ـ آخر الرسالة: وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق انتهى.
ولشيخ الإسلام رضي الله عنه في ذلك رسالة أطول من هذا.
5ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6ـ عدد الصفحات: 5 صفحات.
7ـ عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرًا.
8ـ عدد الكلمات في السطر: 8 كلمات.
9ـ الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/5937)
بسم الله الرحمن الرحيم
لا يخفاكم ـ أطال الله بقاءكم, وحرس بكم معالم العلم الشريف, وأقام بكم دعائم الدين ـ أن شيخ الإسلام, ولي عبد الرحمن بن سليمان (1) لما رأى ما عم الناس من البيان لذكر الملكِ الديَّان, واشتغالِ العامة بالمسامِر في محالَّ معروفة بزبيد على نوع من الشعر للعلولي ونحوه, وإلى ما عم البلاد وكلَّ واحدٍ وباد من القهر الرباني, والحكم الصمداني من الوباء العامِّ في مكةَ المشرفةِ, وهذا وسرى الأمرُ بالقدرة النافرة إلى سائر الأقطار كمصرَ, والسودانَ وبغدادَ, ودمشقَ, وشرق مكةَ, والمخافي (2) في اليمن, وسائر بلاد ... (3) وقرب محلات في زبيد يدبُّ الناس إلى الذكرِ والابتهال والدعاء والاستغفار والإعلان بكلمة التوحيدِ, وذكرِ الملكِ المجيدِ, وحثِّ الناس على الطاعة, ولزوم الجمعةِ والجماعةِ, والخروج إلى الصُّعُداتِ عملاً بقوله: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا} (4)
فقال: يعدٌ الناس أن ذلك بدعةٌ (5) ,
فإن كان وجهه البدعةِ الخروجُ إلى الله فحديثُ: "فخرجتم تجأرون إلى الله في الصُّعداتِ" (6)
_________
(1) عبد الرحمن بن سليمان الأهدل الوبيدي ولد سنة 1179 هـ أخذ عن والده في العلوم العقلية والنقلية وله منه إجازة عامة وأخذ عن الشيخ عبد الله بن عمر خليل الزبيدي. مات سنة 1250 هـ بزبيد. "نيل الوطر" (2/ 30 رقم 246).
(2) لعلها المعافي "معجم البلدان اليمينية" (ص 608).
(3) كلمة غير واضحة في المخطوط.
(4) [يونس: 98]
قال تعالى: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)
(5) تقدم توضيح معناها.
(6) أخرجه الحاكم (4/ 320) وصححه. ووافقه الذهبي.
عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرًا ولضحكتم قليلاً ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله، لا تدرون تنجون أولا تنجون». وهو حديث حسن.(12/5941)
وحديث: ((إنَّ الجبالَ والصعداتِ والطرقَ غيرُ محال لذلك)) (1) ومن الحديث: «أن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال: إنَّ الجبال والطرقَ تنادي كلَّ يوم: يا أخيَّاه، يا جاراه، هل من يكرمني بذكر اللهِ؟ وإن كانت غيرَ مسجدٍ فالأرض مسجد وطهور» (2) بنصِّ المختار، ودار الأعمال الصالحة والقرآنِ: {(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)} (3) {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} (4)، وحديثُ: «ما اجتمع قومٌ يذكرون الله إلا حفتهم الملائكةُ، وغشيتهم الرحمةُ، ونزلتْ عليهمُ السكينةُ، وذَكَرَهُمُ الله فيمن عنده» (5) وحديث: «إنَّ الملائكةَ تمرُّ بأيديهم أقلامُ وصحفُ [1أ] الذاكرين» ونحوه، مع أنَّ الصلاة المفروضةَ المراد الأعظمُ فيها ذكر الله، ففي بعضها التسبيحُ، وفي بعضها الدعاء، وفي بعضها القرآن وفي بعضها الصلاة على النبيَّ. ولذكر الله أكبر.
وقد جاء الإعلان في الأسواق بذكر الله معروفٍ فضيلتُه، والاستغفارُ، فما وجه أنَّ ذلك يكون بدعةً؟ وقد قالوا أنه يندبُ في الإقراعِ الطبول، ومن جلب الإقراع هذا الحادث والغناء الذي طبق الآفاق وشمل أكثر أهل الأقطار لبعضِ بلاد زبيد ..... (6)
_________
(1) فلينظر من أخرجه.
(2) فلينظر من أخرجه.
(3) [الأحزاب: 41، 42]
(4) [الأحزاب: 35]
(5) (أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2700)، وابن ماجه رقم (225) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.
(6) تقدم التعريف بها.(12/5942)
والمتينة (1) والمعرشِ والهيجةِ، (2) وغير ذلك.
والمراد بسطُ الجواب، ولو في كراسين أو ثلاثة، والاستدلال المفيدُ واستنادُ القائل بما قال. ولاغترار بعض الجهال بما يؤدي إلى الإهمال، فقد قال عمر: دعْهم يعملُوا مع أنه صلح أكثر العامة بانطوائه بسبب الذكر، وملازمة الجماعات.
وروي من الميسِّرات ما هو إلاَّ سيِّدَ الوصولِ إلى غفران الله ورحمته. ففي الحديث ما يدلُّ علي ذلك، وأنه سبب كلِّ خير، ودافعُ كلِّ طير والمطلوب الجوابُ، وربط الأدلة من الكتاب والسنةِ بالقواعد الأصوليةِ، والمعانية والبيانية، فالمقام يحتاج إلى بيان, والإطناب لاشتماله على ذكر ربِّ الأرباب, وما يستنبط من القواعد والأحكام, وإن طال المقال مع حصول الإمكان, لئلا يهدمَ بابٌ عظيمٌ من قواعد الإسلام حتى أنَّ في بعض المجلاَّت قيل بذلك, فتركوا الذكر وخرج العامَّةُ بعد ذلك بالسبابةِ والطبولِ والغناء فلم ينكر عليهم, وأنكر عليهم لما أعلنوا بذكر الله, وكانوا قد تركوا ورجعوا بعدَ منْعِهم إلى ما كانوا عليه, فأى الطريقين أحقٌ بالإنكار؟ فهذا إلى حاكم المسلمين وإمام الموحِّدين شيخ الإسلام العالم اليماني, والقطب النوراني محمد بن علي الشوكاني ـ حفظه الله ـ شهر جماد أول سنة 1247 [1ب].
_________
(1) المتينة: بضم الميم وفتح التاء الفوقية، عزلة في وادي زبيد علي ساحل البحر الأحمر. (معجم البلدان والقبائل اليمينة) (ص557).
(2) بُليدة في جُماعة ناحية قطاير وبيت الهيجا من أهالي صنعاء. المرجع السابق (ص185).(12/5943)
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب من شيخ الإسلام ـ حفظه الله ـ:
الكلام على هذا الكلام لايحتاج إلى تطويل ذيولِ المقالِ, ففي الكتاب العزيز في الندب إلى ذكر الله ـ عز وجل ـ خصوصًا لبعض الأمكنةِ, وعمومًا لكل مكان ما ينصر من كان يؤمن بالله ـ سبحانه ـ, وباليوم الآخر.
قال الله عز وجل ـ: {(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} (1)
وقال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} (3) وقال الله ـ عز وجل ـ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (4) وقال ـ سبحانه ـ: {(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)} (5) وقال الله ـ عز وجل ـ: {(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)} (6) وقال ــ عز وجل ـ: {(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)} (7) وقال ـ سبحانه ـ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} (8). وقال
_________
(1) [الأحزاب:41 - 43]
(2) [الجمعة: 10]
(3) [الأحزاب: 35]
(4) [البقرة:200]
(5) [الأنفال:45]
(6) [البقرة:152]
(7) [الرعد:128]
(8) [طه: 124](12/5944)
تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (1). وقال تعالى: {(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)}. (2) وقال تعالى: {(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} (3).
هذا ما حُصر من الآيات القرآنية عند الاطلاع عند هذا السؤالِ, وليس فيها تقييدُ الذكر بجهرٍ أو إسرارٍ, أو رفعِ صوتٍ أو خفضٍ, أو في جمع أو في انفرادٍ, فأفاد ذلك مشروعيةِ الكلِّ.
وأما ما ورد في السنة المطهرة في فضائل الذكرِ فلو لم يكن فيها إلاَّ حديثُ أبي هريرة الثابت في الصحيحين (4) وغيرهما (5) قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال الله ـ عز وجل ـ: «أنا عند ظن عبدي بي, وأنا معه إذا ذكرني, فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسى, وإن ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملأ خير منه».
وأخرجه أحمد من حديث أنس, وأخرجه ابن شاهينَ (6) من حديث ابن عباس, وفي إسناد حديث إسناد حديث ابن عباس هذا معمرُ بن زائدة [2أ] قال العقيلي (7) لا يتابع على حديثه.
_________
(1) [العنكبوت:45]
(2) [المنافقون: 9]
(3) [الأنبياء:87]
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7405) ومسلم رقم (2675)
(5) كالترمذي رقم (3603) وابن ماجه رقم (3822) وأحمد (2/ 251)
(6) في"الترغيب في فضائل الأعمال" رقم (166/ 14)
(7) في "الضعفاء الكبير" (4/ 206)(12/5945)
وأخرجه أيضًا أبو داود الطيالسي (1) وأحمد في المسند (2) من حديث أنس, وأخرجه البخاري (3) أيضًا من حديثه, وأخرجه مسلم (4) من حديث أبي ذرِّ. فهذا الحديث القدسيُّ يدلُّ على مشروعية الجهر بالذكرِ والإسرارِ به وفي الجمع والانفراد.
وأخرج البخاري (5) ومسلم (6) من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: «مثل الذي يذكر ربَّه, والذي لا يذكر ربَّه مثلُ الحيِّ والميِّت»
وفي لفظ لمسلم (7): «مثلُ البيتِ الذي يُذكَرُ اللهُ فيه, والذي لا يُذكر الله فيه مثلُ الحيِّ والميت» وهذا الحديث يفيدُ أنه لا فرقَ بين الجهرِ والإسرارِ, لأنَّ تركَ الاستفصالِ ينزل منزلةَ العموم في المقالِ لما تقرَّر في الأصول، (8) وأخرج مسلم (9) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: «لا يقعدُ قومٌ يذكرون الله ـ تعالي ـ إلاَّ حفَّتهم الملائكةُ، وغشيتُهُمُ الرحمةُ، ونَزَلتْ عليهُم السكينةُ وذكَرَهُم الله فيمن عنده».
_________
(1) في "مسنده" رقم (1967)
(2) (3 ,277) بسند صحيح
(3) في صحيحه رقم (7536)
(4) لم يخرجه مسلم من حديث أبي ذر
(5) في صحيحه رقم (6407)
(6) في صحيحه رقم (779)
(7) في صحيحه رقم (211, 799)
(8) انظر: (إرشاد الفحول) (ص452). وقد تقدم توضيحه.
(9) في صحيحه رقم (2700).(12/5946)
وأخرجه أيضًا من حديثهما ابن أبي شيبةَ. (1) وعند أحمدَ، (2) وأبي يعلى الموصلِّي (3) وابن حبان، (4) وابن شاهين في الترغيب (5) وقال: حسن صحيح.
وأخرجه أحمد (6) في المسند، وأبو يعلى الموصلِّي (7) والطبراني في الأوسط (8) والضياء في المختارة من حديث أنس.
وأخرجه أيضًا الطبراني في الكبير (9)، والبيهقي في الشُّعب (10) والضياء في المختارة من حديث سهل بن الحنظليَّةِ. وأخرجه البيهقي (11) من حديث عبد الله بن مغفل وهذا الحديث صريحٌ في مشروعية الاجتماع للذكر تكون بصفة الجهر أو الإسرار، بل الجهر هنا أظهر لما يفيده [ ..... ] (12) الاجتماع. ومثله حديث أبي هريرة عند البخاري (13) ومسلم (14) وغيرِهما قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: «إنَّ لله
_________
(1) في مصنفه (10/ 37)
(2) في (المسند) (3/ 93).
(3) في (المسند) (3/ 93).
(4) في صحيحه رقم (590).
(5) في (الترغيب في فضائل الأعمال) رقم (172/ 20). وهو حديث صحيح.
(6) في (المسند) (3/ 143).
(7) في (المسند) (7/ 167 رقم 1386/ 4141).
(8) رقم (1556)،
(9) رقم (6039).
(10) رقم (695). وأورده الهيثمي في (المجمع) (10/ 77). وقال: رواه الطبراني: وفيه المتوكل بن عبد الرحمن والد محمد بن أبي السري ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
(11) في (الشعب) رقم (533)
وهو حديث حسن بشواهده
(12) كلمة غير واضحة في المخطوط
(13) في صحيحه رقم (6408)
(14) في صحيحه رقم (2689).(12/5947)
ملائكةً يطوفونَ في الطرقِ يلتمسونَ أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادَوا هلمُّوا [2ب] إلى حاجتكم، فيحفُّونَهم بأجنحتهم إلى السماء» الحديث بطوله.
وأخرج مسلم (1)، والترمذي (2)، والنسائي (3) نحوَه من حديث معاويةَ أنَّ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: «خرج علي حلقةٍ من أصحابه فقال: ما أجلَسَكُم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله على ما هدانا للإسلام، ومنَّ به علينا قال: آللهِ ما أجلسَكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلاَّ ذلك. أما إني لم أستحلفْكُم تُهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أنَّ الله ـ عز وجل ـ باهى بكم ملائكتَه». وفي الباب أحاديثُ.
وأخرج الترمذي (4) وحسَّنه من حديث أنس قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: «إذا مررتُم برياض الجنةِ فارتَعوا»، قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنةِ؟ قال: «حِلَقُ الذكر». وأخرجه من حديثه أحمد في المسند (5) والبيهقي في الشعب (6) قال المناوي (7): وإسناده وشواهده ترتقي إلى الصحةِ.
وأخرجه الطبراني في الكبير (8) من حديث ابن عباس.
والترمذي (9) أيضًا من حديث أبي هريرة.
_________
(1) في صحيحه رقم (2701).
(2) في (السنن) رقم (3379) وقال: هذا حديث حسن غريب.
(3) في (السنن) (8/ 249). وهو حديث صحيح.
(4) في (السنن) رقم (3510)
(5) (3/ 150)،
(6) رقم (528).
(7) في (فيض القدير) (1/ 442).
وهو حديث حسن.
(8) (11/ 11158).
(9) في (السنن) رقم (3509)، وقال: هذا حديث حسن غريب.
وهو حديث ضعيف، انظر (الضعيفة) رقم (1150)(12/5948)
وأخرجه أبو يعلى (1)، والبزار، (2) والطبراني، (3) والحاكم في المستدرك، (4) والبيهقي (5) من حديث جابر، وهو يدل على ما دلّ عليه ما قبلَه كما تقدم.
وأخرج البزار في مسنده، والطبراني في الكبير والأوسط قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: «ذاكِرُ الله في الغافلين بمنزلةِ الصابر في الفارِّين» ورجال إسنادِه ثقاتٌ.
وأخرجه أبو نعيم في الحلية، (6) والبيهقي في الشُّعب من حديث ابن عمرَ، وفي إسناده مقالٌ.
وهذا يدل أعظمَ دلالة علي مشروعية رفع الصوتِ بالذكر، إذ لا يتنبَّه من كان غافلاً إلاَّ بسماع صوتِ الذاكر.
وأخرج ابن حبان في ..........................................................
_________
(1) في مسنده (3/ 390 رقم 98/ 1865).
(2) عزاه إليه الهيثمي في (المجمع) (10/ 77).
(3) في (الدعاء) (3/ 1644 رقم 1897).
(4) في (المستدرك) (1/ 494 ـ 495) وقال: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله: (قلت: عمر ضعيف). اهـ.
(5) في (الشعب) (2/ 423 ـ هندية).
(6) (6/ 354) وقال: غريب من حديث مالك، لم نكتبه إلا من حديث محمد بن عبد الله بن عامر، قلت: إسناده ضعيف جدَّا.(12/5949)
صحيحه (1) من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: «أكْثِروا ذِكْرَ اللهِ حتى يقولوا مجنون»، وأخرجه أيضًا من حديثه أحمد في مسنده، (2) والطبراني في الكبير، (3) والحاكم في المستدرك، (4) وقال: صحيح الإسناد، وحسَّنه الحافظ ابن حجر في أماليه. وتصحيحُ ابن حبانَ والحاكم، وتحسينُ ابن حجر يدفعُ ما قال أبو يعلي أنَّ في إسناده دراجًا، وفيه ضعف، وهو يدل على مشروعيةِ الجهر بالذكرِ دلالةً واضحةً.
واعلم أنَّ الأحاديثَ التي يستفاد منها ما أفادتْه الأحاديثُ التي ذكرناها هنا كثير جدًّا لا تفي بها إلاَّ رسالةٌ مطوَّلة. وفي هذا المقدار كفايةٌ لمن له هدايةٌ. والله وليُّ التوفيق. انتهى.
ولشيخ الإسلام رضي الله عنه في ذلك رسالةُ أطولُ من هذا [3أ].
_________
(1) في صحيحه رقم (817).
(2) (3/ 68، 71).
(3) لم أجده في الكبير.
(4) (1/ 499)، وقال الحاكم: (هذه صحيفة للمصريين صحيحة الإسناد، .... ).
قلت: بل جمهور الحفاظ علي تضعيف هذه الصحيفة.(12/5950)
(198) 36/ 1
سؤال وجواب عن أذكار النوم (1)
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
_________
(1) عنوان الرسالة في المخطوط (ب): (سؤال في النفث المذكور في حديث الأذكار عند النوم).(12/5951)
وصف المخطوط: (أ)
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: سؤال وجواب عن أذكار النوم.
2 ـ موضوع الرسالة: أذكار.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وحده، وصلي الله علي سيدنا محمد وآله وصحبه وبعد. فإنه وصل إليّ سؤال من ...
4 ـ آخر الرسالة: من تحرير المجيب القاضي البدر عز الدين محمد بن علي الشوكاني حفظه الله تعالي ومتع بحياته وأدام فائدته.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 ـ عدد الصفحات: 4 صفحات.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: الأولي: 24.
الثانية والثالثة: 26 سطرًا.
الرابعة: سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.
9 ـ الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/5953)
وصف المخطوط: (ب)
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: سؤال في النفث المذكور في حديث الأذكار عند النوم.
2 ـ موضوع الرسالة: أذكار.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. سؤال في النفث المذكور في حديث الأذكار عند النوم.
4 ـ آخر الرسالة: وجود ما يدل على لزوم المصير إليه وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله سبحانه أعلم.
وصلي الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه.
5ـ نوع الخط: خط رقعي جيد.
6 ـ عدد الصفحات: 5 صفحات.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 21 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 8 ـ 10 كلمات.
9 ـ الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/5956)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحدَه، وصلي الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وبعدُ:
فإنه وصل إليَّ من سيِّدي العلامةِ عليِّ بن إسماعيل بنِِ عليِّ بنِ القاسمِ أحمد بنِ المتوكلِ إسماعيلَ ـ حفظه الله ـ.
ولفظُهُ قال ابن الجزريِّ ـ رحمه الله ـ من جملةِ الأذكارِ عندَ النومِ: اللهُ أكبرُ أربعًا وثلاثين، سبحانَ الله ثلاثًا وثلاثين، الحمدُ للهِ ثلاثًا وثلاثينَ، ويَجْمَعُ كفَّيهِ ثم ينْفُثُ فيهما، ويقرأ: قل هو الله أحد، والفلق، والناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسدهِ يبدأُ بهما علي رأسِهِ ووجهِه، وما أقبلَ من جسَدهِ ثلاثَ مراتِ. انتهى كلامُ ابنِ الجزري ـ رحمه الله ـ.
قوله: ويجمعُ كفَّيْهِ ثم ينفثُ فيهما, فيقرأ: قل هو الله أحد, والفلق, والناس إلخ.
قال أبو عبيدةَ: (1) النَّفْثُ بالفمِ شبيهٌ بالنَّفخِ, وأما التَّفْلُ فلا يكونُ إلا ومعهُ شيءٌ من الرِّيقِ, وكذا قال الجوهري, ِ (2) وهو أقلُّ من التَّفْلِ, وهذا النَّفثُ يكونُ بعد جمْعِ كفَّيهِ, وقبلَ القراءةِ, وفائدتُهُ التبرُّكُ بالهوى والنَّفسِ المباشِرِ للرُّقيةِ والذِّكرِ الحسنِ, كما يُتبرَّكُ بِغُسالةِ ما يُكتبُ من الذِّكْرِ والأسماء الحسنى ... إلى آخره كلامِه.
قال السائل ـ حفظه الله ـ: نعم لا يخفاكم أن الذي يُفْهم من ظاهر عبارةِ الجزري أنَّ النفثَ هو لأجْلِ ترْكِهِ الإخلاص والمعوِّذتينِ. وقول جغمان: وفائدتهُُ التبرُّكُ الهوى والنَّفسِ المباشِرِ للرُّقيةِ والذِّكرِ الحسنِ إلخ, وقولُه بعدُ: ألا ترى أنه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ نَفَثَ في يدِه إلخ آخره يُومئ إلى ذلك,، فالإشكال في النَّفثِ قبلَ حصولِ القراءةِ
_________
(1) ذكره ابن منظور في "لسان العرب" (14/ 223)
(2) في "الصحاح" (1/ 295)(12/5959)
فقَبْلَهَا لم يكن الهوى والنَّفَسُ قد باشَرَ الرُّقيَة فأما أن يكونَ باعتبارِ التسبيحِ, والتحميدِ, والتكبير الواقع قبل القراءةِ, أو لأنَّها قد حصلتْ للهوى والنَّفَسِ البركةُ من قِبَلِ القراءة, كما أنَّه من توجَّه بوَجْهِهِ مثلاً للدعاء, أو للصلاةِ, أو في حالات الإقبال على الخالقِ عزَّ وعلا ـ يكون بذلكَ مع خضوعِهِ وذلَّتِهِ قد صار في مرْتَبةِ القَبولِ, وإن لم يكُنْ قد شرَعَ في ذِكْرِهِ, أو دخَلَ في صلاتهِ كما يقضي بذلكَ كَرَمُ الله ورحمتُه, أو لوجهٍ غيرِ هذِهِ الوجوهِ. انتهى السؤالُ.(12/5960)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين, والحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام الأتَّمانِ الأكْملانِ على سيد المرسلينَ, حبيبِ ربِّ العالمينَ, وعلى آله المطهَّرين, ورضيَ الله عن أصحابهِ الراشدينَ, وبعدُ:
فإنه وصل إلىَّ هذا السؤالُ من مولانا العلامةِ المِفْضالِ, جمالِ الكمالِ لا زالتْ فوائدُةُ النفيسة وافدةً على الأعلامِ, ومباحثُهُ الشريفةُ محرَّرَةَ بالأقلام [1] على الدوام.
وأقول: قد تقرَّر عندَ الجمهورِ من أئمةِ العربيةِ (1) أنَّ الواو لمطلقِ الجمعِ من دونِ ترتيبٍ، ولا مَعِيَّةٍ، (2) فيكونُ المعطوفُ بها تارةً متقدِّمًا على المعطوفِ عليه، وتارةً متأخِّرًا وتارةً مصاحبًا. وقد خالفَ في ذلكَ جماعةٌ من النُّحاةِ كثعلبٍ وابنِ دُرُسْتُويْهِ وغيرِهما (3) فقالوا: إنها تفيد الترتيب، فيكون المعطوفُ بها متأخرًا عن المعطوف عليه، واحتجُّوا
_________
(1) انظر (شرح كافية ابن الحاجب) (4/ 404 ـ 405). (مغني اللبيب) (1/ 390 ـ 408).
(2) وهو الصحيح أنها لا تدل علي الترتيب لا في الفعل كالفاء، ولا في المنزلة كثمَّ، ولا في الأحوال كـ (حتى)، وإنَّما هو لمجرد الجمع المطلق كالتثنية.
فإذا قلت: مررت بزيد وعمرو، فهو كقولك: مررت بهما.
(البحر المحيط للزركشي (2/ 253).
قال الرضى في (شرح الكافية) لابن الحاجب (4/ 405): والأصل في الاستعمال الحقيقة ولو كانت ـ الواو ـ للترتيب لتناقض قوله تعالي: {(وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ)} [البقرة: 58].
وقول تعالى في موضع آخر: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف: 161]. إذ القصة واحدة.
وانظر: (جواهر الأدب) (ص163 ـ 174).
(3) كالفراء والكسائي والرّبعي.
ذكره الرضى في (شرح الكافية) (4/ 405).(12/5961)
لذلك بحججٍ واهيةٍ يمكنُ دفْعُها بأدنى تأمُّلٍ.
وقد أجاب عنها الجمهور بجواباتٍ، وزيَّفوها بتزييفاتٍ، واحتجُّوا لما ذهبوا إليه بحججٍ مقبولةٍ، وبَرْهَنوا عليهٍ ببراهينَ معقولةٍ ومنقولةٍ، والمقامُ لا يتسعُ لِبَسْطِ ذلكَ، فمن رامَ الوقوفَ عليهِ فليرجعْ إلى مطوَّلاتِ كتُبُ الفنِّ، (1) فإنه يجدُ فيها من ذلكَ ما يشفي العليل ويروي الغليل.
إذا تقرَّر أن الواوَ لمطلقِ الجمعِ فقولُه في الحديث: ويجمعُ كفِّيه, ثم يَنْفُثُ فيهما, ويقرأ, وليس فيه دلالةُ على تقدُّمِ جمعِ الكفَّينِ, والنَّفثِ على القراءةِ, بل مدلولُهُ الجمعُ بينَ القراءةِ وجمعِ الكفَّينِ والنَّفثِ, مع احتمال تقدُّم القراءةِ على الجمعِ والنفثِ وتأخُرها ومقارنتَِها, ولكن لما كانت العلَّةُ في النَّفثِ معقولةً, وهى التبرُّكُ بالهوى الذي باشَرَهُ نَفَسُ التالي كان ذلكَ قرينةً قويةً على تعيُّنِ أحدِ تلكَ الاحتمالاتِ الثلاثةِ, وهو تخرُ النَّفْثِ عن التلاوةِ, لأنَّ تلك المزيةَ إنما تحصلُ للهوى بذلكَ, وأيضًا الاستشفاءُ إنما حصلَ بالمسحِ باليدينِ على البدَنِ, وهو متأخِّرٌ عن القراءةِ كما يدلُّ عليه لفظُهُ.
ثم في قوله: ثم يمسحُ, ولفظ أبي داود: (2) كان إذا أوى إلى فراشِةِ كلَّ ليلةٍ جمعَ كفَّيِهِ ثم نفثَ فيهما: قل هو الله أحد, وقل أعوذ برب الفلق, وقل أعوذ برب الناس, ثم يمسحُ بهما ... (3) الحديث.
فقيّدَ القراءةَ بكونِهما في الكفينِ, ثم رتَّب على ذلكَ المسحَ, فكان المعنى أنه يجمعُ بينَ القراءةِ والنَّفثِ في الكفينِ, ثم يمسحُ, وتلك القرينةَُ السالفةُ قاضيةُ بتقديمِ النَّفثِ على
_________
(1) انظر (مغني اللبيب) (1/ 390 ـ 408). (البحر المحيط) (2/ 253 ـ 260).
(2) في: "السنن" رقم (5056)
(3) وتمامه: "
ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده, يفعل ذلك ثلاث مرات"(12/5962)
القراءة ليس على ما ينبغي, فإنْ قلتَ: لعله استرجحَ مذهبَ مَنْ قالَ إنَّ الواوَ تقتضي الترتيبَ.
قلت: بمكن ذلكَ, ولكنه لا يخفى أنَّ أئمةَ العربيةِ إذا اختلفوا في شيء, وذهب جمهورُهم إلى أمرٍ, وخالفَهُمُ الأقلُّونَ كان المصيرُ إلى مذهبِ الجمهورِ أوْلَى, لأَّنهم بمنزلةِ مَنْ يروي لنا ذلكَ الأمرَ عن أهل اللغةِ, والكثرةُ من المرجَّحَاتِ, ولا سيمَّا إذا كانتْ متمسَّكاتُ الأقلِّينَ ضعيفةً, ومُتمسَّكاتُ الأكثرينْ قويَّةً كما في مسألة السؤالِ, مع أنه لو فُرِضَ استواءُ المذهبينِ لكانت تلك القرينةُ بمجرِّدها مرجِّحةً, وليس هذا من إثباتِ اللغةِ باالترجيحِ والاستدلال, بل من إثباتِ المدلولِ بذلكَ, وهو جائزٌ [2]. وابنُ جغمان قد أقرَّ في كلامِهِ المذكورِ بأنَّ فائدةَ النَّفثِ التبرُّكُ بالهوى, والنَّفْسُ المباشِرُ للرُّقيةِ والذِّكر الحسنِ ... إلى آخر كلامِهِ. وذلكَ يستلزمُ أنَّ النَّفْثَ بعدَ الذِّكرِ المذكورِ, لأنَّ هذه الخصوصيةِ إنما تحصلُ بعَده, فلا يناسبهُ الجزمُ بتقديمِ النَّفْثِ على القراءةِ.
فإن قلتَ: يمكن أنْ يُقالَ أنَّ تلكَ الخصوصيةِ قد حصلتَ للهوى بالتكبير, والتسبيح والحمد المذكورةِ في أول الحديثِ.
قلت: لا يصحُّ ذلك, لأنَّ روايةَ التكبير (1) والتسبيح والحمد روايةٌ مستقلِّةٌ, ليس فيها ذكرُ النَّفثِ والمسحِ. والمقيَّدُ بذلك إنما هى الروايةُ الثانيةُ (2) التي فيها تلاوةُ الصَّمدِ, والمعِّوذتينِ كما في البخاري, ومسلم, وأبي داود, والترمذي, والنَّسائي, وإنما ذكرَ الجزريُّ (3) أحَدَ الحديثينِ عقيبَ الآخرِ, لأنَّه بصددِ الجمعِ بين الأدعيةِ التي تُقالُ عند النومِ كما جرتْ بهِِ قاعدتُهُ, ويوضح ذلكَ أنَّ حديثَ قراءةِ الصمدِ, والمعوذتينِ من روايةِ عائشة كما في الأمهات الست, وحديث التكبير والتحميد والتسبيح من رواية علي
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3705و 5362) ومسلم رقم (2727)
(2) تقدمت آنفًا
(3) في "عدة الحصن الحصين" (ص238) مع الشرح(12/5963)
ـ عليه السلام ـ كما أخرجه البخاريُّ, (1) ومسلم, (2) وأبو داود, (3) والنسائي. (4) وأخرجَه أيضًا أبو داود (5) من طريقٍ أخرى عنه مطولةً, وفي إسناده عليُّ ابن أعْبد.
قال علي بن المديني: (6) ليس بمعروفٍ, ولا يعرف له غيرهُ هذا الحديث. وأخرجه أيضًا أبو داودَ, (7) والنسائي (8) من طريق أخرى عنهُ, وفي إسناده محمدُ بنُ كعبٍ القُرظِيُّ عن شبثٍ بفتحِ الشينِ المعجمةِ, وبعدَها باءٌ موحَّدةٌ مفتوحةٌ, وثاءٌ مثلثةٌ, وهو ابنُ رِبْعِيٍّ, ولا يعرفُ لمحمد بن كعبِ سماعٌ من شبثٍ كما صرَّح بذلكَ البخاريُّ. (9) وأخرج حديثَ التكبيرِ والتحميدِ والتسبيحِ أبو داودَ, (10) والنسائي (11) مسندًا وموقوفًا, والترمذي (12) وصحَّحه من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرو, وأخرجه أيضًا أبو داود (13) عن ضُباعةَ بنتِ الزبير.
_________
(1) رقم (3705)
(2) في صحيحه رقم (2727)
(3) في "السنن" رقم (5062)
(4) في "عمل اليوم والليلة" رقم (515) وهو حديث صحيح
(5) في "السنن" رقم (5063) وهو حديث ضعيف
(6) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب" (3/ 143)
(7) في "السنن" رقم (5064)
(8) في "عمل اليوم والليلة" رقم (816) وهو حديث ضعيف
(9) انظر "تهذيب التهذيب" (2/ 149)
(10) في "السنن" رقم (5056)
(11) في "السنن" رقم (3/ 74)
(12) في "السنن" رقم (3410). وهو حديث ضعيف
(13) في "السنن" رقم (5066). وهو حديث ضعيف(12/5964)
وإذا كان الأمرُ كذلكَ تبيَّنَ أن المقيَّدَ بالنَّفثِ هو حديثِ عائشةَ لا حديث علي, وابن عمرو, وضباعة فينبغي توجيه حديث عائشة باعتبارِ تقدُّمِ النَّفثِ, وتأخره على الوجهِ الذي أسلفناه, ولا ينبغي أن يُنظرَ إلى غيرِه بذلك الاعتبارِ.
فإن قلتَ: ربما كان الوجهُ في تقدُّم النَّفثِ ما ذكره السائلُ ـ حفظه الله تعالى ـ من أن الهوى والنَّفْسَ قد جُعِلَتْ فيها البركةُ من قِبَلِ القراءةِ لأجل التوجُّهِ إليهما إلخ.
قلت: هذا وجهٌ نفيسٌ جدًا, ولكنْ إذا كان المصيرُ إلى ذلكَ متعِّينًا بلْ ولا راجحًا بل ولا مساويًا بل مرجوحًا, فلا ينبغي التعويل عليه, بلِ اللازمُ المصيرُ إلى الوجْهِ الرَّاجحِ لاسيَّما بعدَ وجودِ ما يدلُّ على لزومِ المصيرِ إليه.
وفي هذا المقدار كفايةٌ.
انتهى [3] من تحرير المجيبِ القاضي البدرِ عزِّ الدينِ محمدِ بن علي الشوكاني ـ حفظه الله تعالى ـ , ومتع الله بحياته, وأدام فائدته.(12/5965)
خامسًا: اللغة العربية وعلومها(12/5967)
(199) ... 37/ 4
جواب الشوكاني على الدماميني
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/5969)
وصف المخطوط: (أ)
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: جواب الشوكاني على الدماميني.
2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين, على سيد المرسلين وآله الطاهرين وبعد:
4 ـ آخر الرسالة: انتهى جواب مولانا ـ الحافظ, البدر الهمام عزَّ الأنام محمد بن علي الشوكاني رحمه الله تعالى وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 ـ عدد الصفحات: 6 صفحات ما عدا صفحة العنوان.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.
9 ـ الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/5971)
وصف المخطوط: (ب)
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: جواب الشوكاني على الدماميني.
2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الطاهرين وبعد: ....
4 ـ آخر الرسالة: جُعلت نارا عليهم دَارهُم كالمضمحلة.
5 ـ عدد الصفحات: 7 صفحات.
6 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرًا.
7 ـ عدد الكلمات في السطر: 11 كلمة.
8 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد.
9 ـ الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/5975)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيد المرسلين, وآله الطاهرينَ وبعدُ: فإنه سأل بعض الأعلام ـ كثر الله فوائده ـ عن الأسئلة التي حررها الدماميني ـ (1) رحمه الله ـ في شرحه الكبير على المغني, قال ما نصه: " واعلم أني كنتُ قديمًا حررتُ سبعَ مسائلَ متعلقة بحروف المعجم, لم يجب عنها أحدٌ إلى الآن وهذا نصُّها: من ادَّعى أنه في الفهم والعلم مقدَّم فليجب عما استُبْهِمَ من المسائل.
الأولى: ما هذه الأسماء, ألف, باء, تاء, ثاء, ج, إلخ؟ وما مسمَّاها هل هى أسماء أجناس, أم أسماء أعلام؟ فإن كان الأول فمن أي أنواع الأجناس هى؟ وإن كان الثاني فهل هى شخصية أو حسية؟ فإن كان الأول فهل هى منقولة أو مترحلة؟ فإن كان الأول فمم نقلت أمِنْ حروف؟ أمِنْ أفعال؟ أم أسماء أعيان؟ أم مصادر؟ أم صفات؟ وإن كانت جنسية فهل هى من أعلام الأعيان أم من المعاني؟.
الثاني: مَنْ وضعَ هذه الحروفَ, وفي أي زمان وضعت, وما مستند وضعها هل العقل أو النقلُ؟
الثالث: هل هى مختصة باللغة العربية, أو عامةٌ في جميع اللغات؟
_________
(1) محمد بن أبي بكر بن عمر بن أبي بكر بن محمد بن سليمان بن جعفر القرشي, المخزومي الإسكندري, المالكي, ويعرف بابن الدماميني (يدر الدين) أديب, ناشر ناظم, نحوي. عروضي فقيه, مشارك في بعض العلوم, ولد بالإسكندرية, واستوطن القاهرة, ولازم ابن خلدون ... ولد سنة (763 ـ 827 هـ).
من تصانيفه: " شرح مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام الأنصاري في النحو. "
جواهر البحور في العروض", " الفواكه البدرية" من نظمه. " شرح لاميه العجم" للطغرائي. " شرح التسهيل" لابن مالك. " تزول الغيث".
انظر: " البدر الطالع" رقم (428) , " الضوء اللامع" (7/ 184 رقم 440) , " معجم المؤلفين" (3/ 170 رقم 12446).(12/5979)
الرابع: الألف والهمزة هل هما مترادفان أو مفترقان؟ وعلى الثاني فما الفرق؟ وأيهما الأصل؟
الخامس: لِمَ أجمع علماء اللغة والعدد وغيرهم من المتكلمين على المفردات على الابتداء بحرف الهمزة وهل هذا أمر اتفاقي أو لحكمة؟
السادس: كلمة أبجد هوَّز إلى آخرها هل هي مهملة أو مستعملة؟ وما عني بها وما أصلها؟ وكيف نقلت [1أ] إلى المراد وما ضبطُ ألفاظها؟
السابع: ما حكمها في الابتداء والوقف عليها، والمنع والصرف، والتذكير والتأنيث، والإعراب والبناء، واللفظ والرسم وعند التسمية؟ فهذه سبعةُ أسئلةٍ من أجاب عنها فهو من الرجال، وإلا فلا مزية له على الأطفال) انتهى كلام الدماميني.(12/5980)
الجواب عن السؤال الأول
وعلى الله ـ سبحانه [وتعالى] (1) في جميع الأمور المعوَّل ـ أن مسمياتِها هي الحروف [1ب] التي توجد في كلام المتكلمين، ورسمِ الراسمين، وهذا ظاهرٌ واضح لا يخفى ولا يحتاج إلى السؤال عنه، لكونه من الوضوح بمحل يعرفه صغار الطلبة. والحاصل أن مسمى كل واحد منها هو نوع مدلوله أعمُّ من أن يوجد في كذا، أو كذا أو كذا.
والدلالة بدليةٌ تطلق على هذا الفرد أو هذا الفرد، وليست بشمولية كدلالة رجل على الذكر من بني آدمَ بدلاً لا شمولاً، وبهذا تعرف اختيار الشقِّ الأول من قوله: هل هي أسماء أجناسٍ أم أسماء أعلام؟ قوله من أي أنواع الأجناس.
أقول: من النوع الذي دلالته بدلية، ولنا أن نختار الشقِّ الثاني، ونجعلَها من أعلام الأجناس، ويكون المقصود منه الدلالة على النوع من حيث هو هو، وإن كان الشق الأول هو الأولى والأحقُّ، وبهذا تعرفُ الجواب عن قوله فهل هي شخصية أو جنسية، فإن اختيار الثاني يدفع السؤال عن النقل أو الارتجال، إلخ.
والجواب عن السؤال الثاني
أن الواضع لهذه الحروف هو الواضعُ لهذه اللغةِ، (2) قد تكلم أهل العلم في ذلك في
_________
(1) زيادة يستلزمها السياق
(2) قال ابن جني في (الخصائص) (1/ 33): أمَّا حد اللغة فإنه أصات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ... وأمَّا تصريفها ومعرفة حروفها فإنها فُعْلة من لغوت: أي تكلمت وأصلها لُغوة ككرة وقُلّةٍ وثُبة، كلها لاماتها واوات. لقولهم كروت بالكرة، وقلوت بالقلة، ولأن ثبة كأنها مقلوب ثاب يثوب وقد دللت على ذلك وغيره من نحوه في كتاب في (سر الصناعة) وقالوا فيها: لغات ولُغُوت، ككرات، وكروت، وقيل منها لغي يلغي إذا هذَى ومصدره اللَّغا قال:
وربِّ أسراب حجيجٍ كُظّمِ ... عن اللغَا ورَفَثِ التَّكلُّمِ
وكذلك اللغو، قال الله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} أي بالباطل وفي الحديث: «من قال في الجمعة: صه فقد لغا» أي تكلم.
قال إمام الحرمين في "البرهان" اللغة من لغى يلغَى من باب أضى إذا لهج بالكلام وقيل من لغى تَلْغَى.
قال ابن الحاجب في مختصره: حدُّ اللغة كل لفظٍ وضع لمعنى.
قال الأسنوي في "شرح منهاج الأصول": اللغات: عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعاني. "المزهر في علوم اللغة وأنواعها" للسيوطي (1/ 7ـ15).(12/5981)
الكتب الأصولية (1) بما يغني عن السؤال, ويرفع الإشكالَ, هذا إذا أراد بقوله مَنْ وضَعَ
_________
(1) اختلف في ذلك على أقوال:
الأول: أن الواضع هو الله سبحانه وإليه ذهب الأشعري وأتباعه وابن فورك.
الثاني: أن الواضع هو البشر وإليه ذهب أبو هاشم ومن تابعه من المعتزلة.
الثالث: أن ابتداء اللغة وقع بالتعليم من الله سبحانه والباقي بالاصطلاح.
الرابع: أن ابتداء اللغة وقع بالاصطلاح والباقي توقيفٌ. وبه قال الأستاذ أبو إسحاق. وقيل إنه قال بالذي قبله.
الخامس: أن نفس الألفاظ دلّت على معانيها بذاتها وبه قال عبّاد بن سليمان الصُّيمريُّ.
السادس: أنه يجوز كلُّ واحد من هذه الأقوال من غير جزم بأحدها وبه قال الجمهور كما حكاه صاحب "المحصول" ـ الرازي (1/ 181ـ 182). احتج أهل القول الأول بالمنقول والمعقول:
أما المنقول فمن ثلاثة أوجه:
الأول: قوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]: دل هذا على أن الأسماء توقيفية وإذا ثبت في الأسماء ثبت في الأفعال والحروف إذ لا قائل بالفرق, وأيضًا الاسم إنّما سمِّى اسمًا لكونه علامة على مُسمّاه والأفعال والحروف كذلك. وتخصيص الاسم ببعض أنواع الكلام اصطلاح للنحاة.
الثاني: أن الله سبحانه وتعالى ذم قومًا على تسميتهم بعض الأسماء من دون توقيفٍ بقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23]. فلو لم تكن اللغة توقيفية لما صح هذا الذمُّ.
الثالث: قوله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22].
المرادُ اختلاف اللغات لا اختلاف تأليفات الألسُن.
وأما المعقول فمن وجهين:
الأول: أن الاصطلاح إنما يكون بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره, وذلك لا يعرف إلا بطريق كالألفاظ والكتابة. وكيفما كان فإن ذلك الطريق إما الاصطلاح ويلزم التسلسل أو التوقف وهو المطلوب.
الثاني: أنها لو كانت بالمواضعة لجوَّز العقل اختلافها وأنها على غير ما كانت عليه لأن اللغات قد تبدلت وحينئذ لا يوثق بها.
وأجيب عن الاستدلال بقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} بأن المراد بالتعليم الإلمام كما في قوله: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء:80]
أو يعلمكم ما سبق وضعه من خلق آخر, أو المراد بالأسماء المُسميّات بدليل قوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ}.
ويحاب عن الاستدلال بقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] بأن المراد ما اخترعوه من الأسماء للأصنام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي, ووجه الذم مخالفةُ ذلك لما شرعه الله.
وأجيب عن الاستدلال بقوله: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} [الروم:22] بأن المراد التوقيف عليها بعد الوضع وإقرار الخلق على وضعها.
ويجاب عن الوجه الأول من المعقول بمنع لزوم التسلسل, لأن المراد وضع الواضع هذا الاسم لهذا المسمَّى, ثم تعريف غيره بأنه وضعه كذلك.
ويجاب عن الوجه الثاني بأن تجويز الاختلاف خلاف الظاهر, ومما يدفع هذا القول أن حصول اللغات لو كان بالتوقيف من الله عز وجل لكان ذلك بإرسال رسول لتعليم الناس لغتهم لأنه الطريق المعتاد في التعليم للعباد ولم يثبت ذلك. ويمكن أن يقال إن آدم عليه السلام علَّمها غيره وأيضًا يمكن أن يقال إن التعليم لا ينحصر في الإرسال لجواز حصوله بالإلهام وفيه أن مجرد الإلهام لا يوجب كون اللغة توقيفية, بل هى من وضع البشر بإلهام الله سبحانه لهم كسائر الصنائع.
احتج أهل القول الثاني: بالمنقول والمعقول:
أما المنقول فقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم:4] أي بلغتهم فهذا يقتضي تقدُّم اللغة على بعثة الرُّسل, فلو كانت اللغة توقيفية لم يُتصوًّر ذلك إلا بإرسال فيلزم
الدور لأن الآية تدل على سبق اللغات للإرسال والتوقيف يدل على سبق الإرسال لها.
وأجيب بأن كون التوقيف لا يكون إلا بالإرسال إنما يوجب سبق الإرسال على التوقيف لا سبق الإرسال على اللغات حتى يلزم الدَّور, لأن الإرسال عليه وأجيب بأن آدم عليه السلام علمها كما دلت عليه الآية، وإذا كان هو الذي علَّمها لأقدم رسول اندفع الدور.
وأما المعقول: فهو أنها لو كان توقيفية لكان إما أن يقال إنّه تعالى يخلُق العلم الضروريّ بأن وضعها لتلك المعاني أولاً يكون كذلك.
والأول لا يخلو، إما أن يقال خلق ذلك العِلم في عاقل أو في غير عاقل، وباطلٌ أن يخلقه في عاقل لأن العلم بأنه سبحانه، وضع تلك اللفظة لذلك المعنى يتضمن العلم به سبحانه، فلو كان ذلك العلم ضروريًا لكان العلم به سبحانه ضروريًا، ولو كان العلم بذاته سبحانه ضروريًا لبطل التكليف. لكن ذلك باطل لما ثبت أن كلَّ عاقل يجب أن يكون مكلفًا، وباطلٌ أن يخلقه في غير العاقل لأن من البعيد أن يصير الإنسان الغير العاقل عالمًا بهذه اللغات العجيبة والتركيبات اللطيفة.
احتج أهل القول الثالث: بأن الاصطلاح لا يصح إلا بأن يُعرَّف كل واحدٍ منهم صاحبه وما في ضميره. فإن عرَّفه بأمر آخر اصطلاحيِّ لزم التسلسل فثبت أنّه لا بد في أول الأمر من التوقيف ثم بعد ذلك لا يمتنع أن تحدث لغاتٌ كثيرةٌ بسبب الاصطلاح بل ذلك معلومٌ بالضرورة، فإن الناس يُحْدثون في كل زمان ألفاظًا ما كانوا يعلمونها قبل ذلك. وأجب بمنع توقفهِ علي الاصطلاحِ، بل يعرف ذلك بالترديد والقرائنِ كالأطفال.
وأما أهل القول الرابع: فعلهم يحتجُّون علي ذلك بأن منهم ما جاء توقيفًا لا يكون إلا بعد تقدّم الاصطلاح والمواضعة، ويجاب عنه بأن التعليم بواسطة أو بإلهام يغني عن ذلك.
واحتج أهل القول الخامس: بأنه لو لم يكن بين الأسماء والمسمَّيات مناسبة. بوجه ما لكان تخصيصُ الاسم المعيَّن للمسمَّي المعيَّن ترجيحًا بدون مرجِّح وإن كان بينهما مناسبة ثبت المطلوب، وأجيب بأنه إن كان الواضع هو الله سبحانه كان تخصيص الاسم المعيَّن بالمسمي المعيَّن كتخصيص وجود العالم بوقت معيَّن دون ما قبله أو ما بعده، وأيضًا لو سلمنا أنه لا بد من المناسبة المذكورة بين الاسم والمسمَّي كان ذلك ثابتًا في وضعه سبحانه وإن خفي علينا، وإن كان الواضع البشر فيحتمل أن يكون السبب خطور ذلك اللفظ في الوقت بالبال دون غيره كما يخطر ببال الواحد منا أن يسمَّي ولدَه باسم خاص.
واحتج أهل القول السادس: علي ما ذهبوا إليه من الوقف بأن هذه الأدلة التي استدل بها الناقلون لا يفيد شيء منها القطع، بل لا ينتهض شيء منها لمطلق الدلالة، فوجب عند ذلك الوقف، لأن ما عداه هو من التقول علي الله بما لم يقلْ وأنه باطلٌ. قال الشوكاني في (إرشاد الفحل) (ص84): و (وهذا هو الحق).
انظر: (الكوكب المنير) (1/ 97، 285)، (المزهر) (1/ 27). و (جامع البيان) للطبري (1/جـ1/ 215)، (سلاسل الذهب) (163)، (الخصائص) لابن جني (1/ 47).(12/5983)
هذه الحروفَ ... إلخ، مسميَّات، ألف، باء، تاء إلخ، وإن أراد هذه الأسماء فواضعُها أيضًا هو واضع أمثالها من أسماء المسميَّات, ودوالِّ المدلولات, وأما قوله: وما مستندُ وضعها هل العقل أو النقل؟ فإن أراد المسميات فالكلام فيه كالكلام في سائر اللغة والخلاف فيه كالخلاف فيها, وأمَّا مستند حصر اللغة فيها ودورانها عليها وعدم وجود غيرها فهو الاستقراءُ, (1) وهو تتبع الجزئيات لإثبات حكم شرعي, فمن استقرأ ما يدور به الكلام في لغة العرب وجده [1ب] مترددًا بينهما, غير مجاوز لها, ولا خارج عنها. وأما:
الجواب عن السؤال الثالث
وهو قوله هل هى مختصة باللغة العربية أو عامة في جميع اللغات [2أ]؟ فيقال هذا خاص باللغة العربية, ولم يدَّعِ مدَّعٍ أنه ثابت مثلُه في غيرها, وهذا يعرفه كل من يعرفُ
_________
(1) إن المنهج الصالح في دراسة فقه اللغة هو المنهج الاستقرائي الوضعي الذي يعرف بأن اللغة ظاهرة إنسانية اجتماعية كالعادات والتقاليد والأزياء ومرافق العيش, بل هى بين الظواهر الاجتماعية, كلها دليل نشاطها ورعاء تجاربها وبها تستقصي الملامح المميزة كل مجتمع.
لا شيء في الحياة يؤكد خصائص المجتمع ويبرزها على وجهها الحقيقي, كاللغة المرنة المطواع التي تعبر بألفاظها الدقيقة الموحية عن حاجات البشر مهما تتشعَّب حتى تصبح الرمز الذي به يعرفون, والنسب الذي إليه ينتسبون. انظر مزيد تفصيل: "دراسات في فقه اللغة". للدكتور صبحي الصالح (ص32ـ 36).(12/5985)
ما ذكره أهل علم الأقلام, فإنهم تعرَّضوا لذكر اللغات, وذكروا حروفها, وفيها زيادة ونقصان, مثلاً في لغة الهنود حرف بين الراء والدال, وفي لغة التركِ حرف بين الجيم والشين, وهكذا أمثال ذلك وما أبردَ هذا السؤالَ وأحقَّه بأن لا يقالَ! وأما:
الجواب عن السؤال الرابع
وهو قوله الألف [والهمزة] هل هما مترادفان أو مفترقان؟ فيقال قد ذكر أهل اللغة (1) ما لو اطلع عليه السائل لم يحرر هذا السؤالَ, فقالوا: الألفَ ضربان ليِّنة ومتحركة, فاللينة نسمى ألفًا, والمتحركة تسمى همزة, فجعلوا الألف هى المقسم, وجعلوا الهمزة قسْمًا من قسمِها. وممن صرَّح بهذا صاحب الصحاح, (2) وبهذا تعرف الجواب عن قوله وأيُّهما الأصل. وأما:
الجواب عن السؤال الخامس
وهو قوله لِمَ أجمع العلماء اللغة والعدد وغيرهم من المتكلمين على المفرداتِ على الابتداء بحرف الهمزةِ, وهل هذا أمر اتفاقي أو الحكمة؟ (3)
_________
(1) انظر "مغني اللبيب" (2/ 370).
(2) (1/ 1330).
(3) كانت العرب تسير على نظام الأبجدية التي اخترعها الآجريتيون والتي تبدأ بحروف (أبجد هوز ... ) وتعد اللغة الأجريتية اللغة السامية الثانية من ناحية تاريخ تدوين النقوش فقد دونت نقوشها حوالي سنة 14 ق. م.
وتنسب هذه اللغة إلى مدينة أجريت الواقعة بالقرب من رأس شمرا على الساحل السوري. وقد طور الأجريتيون الكتابة حيث تبعوا برموز قليلة لا يتجاوز عددها الثلاثين. ومعنى هذا أن الأجريتين بسطوا نظام الكتاب, فلم يعد هناك حاجة لتعلم مئات الرموز, بل بسط الأجريتيون الرموز المكتوبة إلى عدد قليل, لقد عبر الأجريتيون عن كل صوت من أصوات اللغة بحرف واحد, ولذا كانت الحروف بعدد الحروف الصوتية الموجودة في لغتهم غير أنهم دونوا للهمزة المفتوحة ثم للهمزة المضمومة ثم للهمزة المكسورة رموزًا مختلفة, وهذا القصور في تدوين الهمزة أصبح ميراثًا تناقلته كل الكتابات السامية الأبجدية فيما بعد.
وبذلك كان الأجريتيون أول من دون أية لغة من اللغات تدوينًا صوتيًا يقوم على أساس استخدام الحرف الواحد ـ دائمًا ـ للوحدة الصوتية, وكانت الكتابة قبلهم إما صورية مثل الكتابة الهيروغليفية أو مقطعية مثل الكتابة السومرية والأكادية, وابتكار الأجريتيين للأبجدية وهى نظام سهل يقوم على أساس صوتي منتظم مكن للإنسانية أن تمضى في ركب الحضارة فالأجريتيون لم يدونوا الحركات على الإطلاق وتقوم كتابتهم على تدوين الصوامت فقط وقد ظلت الكتابات السامية تدون الصوامت فقط على نحو ما فعل الأجريتيون ولا تدون الحركات عدة قرون بعد الميلاد.
لقد اتبع الأجريتيون لأول مرة في التاريخ النظام الأبجدي في تدوين اللغة، وترجع كلمة (أبجدية) إلى ترتيبهم للحروف التي كتبوا بها لغتهم فالحروف انتظمت عندهم وفق الترتيب التالي: "أ ب ج د هـ و. ز ح ط ي ك ل م ن س ع ف ص ق ر ش ت".
وهذا الترتيب هو الأبجدية - لأنه يبدأ بالألف والباء والجيم والدال وقد ظل الترتيب الأبجدي سائداً عند كل الشعوب القي تعلمت الخط من الأجريتيين بصورة مباشرة، وغير مباشرة. وأكثر النظم المعروفة في ترتيب الحروف ترجع بشكل مباشر إلى الترتيب الأبجدي الأجريتي أخذته كما هو أو عدلت فيه قليلاً، فترتيب الحروف على النحو الأبجدي هو ترتيبها في العبرية وجميع اللهجات الأرامية إلى اليوم.
انظر: " علم اللغة العربية " الدكتور محمود فهمي حجازي (ص 159 - 160). " دراسات فى فقه اللغة " الدكتور صبحي الصالح (ص 50).(12/5986)
فيقال: هؤلاء الذين أجمعوا على ذلك اقتدوا بأهل اللغة العربية, ونطقوا كما نطقوا وقد وجدوهم ينطقون بالابتداء بحرف الهمزة, ونقل ذلك الرواة عنهم في كتبهم المعتمدة فهذا شيء من لغة العرب.
فليت شعري ما وجهُ تخصيصهِ بالسؤال! فإنه لا يختص بمزيد إشكال, بل الوجه فيه كالوجه في غيره من جميع الألفاظِ العربيةِ, وهو السماع المنقول تواتُرًا عن أهل اللغة (1).
_________
(1) قلنا أن العرب كانت تسير على نظام الأبجدية التي اخترعها الأجريتون والتي تبدأ بحروف (أبجد هوز ... ) وبقوا علي هذا الترتيب حتى عصر صدر الإسلام، فقد ذكر القلقشندي: (أنها كانت تعلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ويشهد لذلك قول الأعرابي:
أتيت مهاجرين فعلَّموني ... ثلاثة أسطرٍ متتابعات
وخطُّوا لي أبا جاد وقالوا ... تعلَّم سَعْفصًا وقُريشاتِ
(معاني القرآن للفراء) للفراء (1/ 369).
وقد ذكرت العرب هذا في أشعارها، وغيروا فيها بعض التغيير.
وقد عرف العلماء هذا الترتيب الأبجدي فهو عندهم (إمام الكُتّاب وقال أبو عمرو الداني عند حديثه عن ترتيب الحروف عندما ذكر حرف الباء) ولتقدمها في حروف أبي جاد التي هي أصل حروف التهجي)).
انظر (الجمل) للزجاجي (ص273).
وعرفوا أن (أبجد هوز) كلمات وضعت لدلالة المتعلم علي الحروف أما ترتيب (أ ب ت ث .... )
الذي يبدأ بالألف وينتهي بالياء فهو قد وضع في عهد عبد الملك بن مروان، وكذلك الإعجام وهو تنقيط الحروف الموسومة بشكل متقارب أو بشكل واحد لتميز بعضها عن بعض وذلك لأن هذه الحروف مثل [الباء، التاء، الثاء] إذا كتبت من غير نقط صار من الصعب علي الإنسان التمييز بينها.
انظر (المحكم في نقط المصاحف) (ص29).(12/5987)
فإن قلت: ربّما كان مراد السائل بالسؤال عن وجه ابتداء المصنفين في علم اللغةِ [2ب] بالهمزة، فهذا إن كان هو المراد بالسؤال فما أبرده، وأقلَّ جدواه! لأن تقديم بعض الحروف في مصنَّفات الجامعين لمفردات اللغة هو موقوف على الاختيار، فيبدأ من صنَّف بأيّ حرف شاءَ ولا حرجَ عليه في ذلك، وإن أردنا بيان الوجه فهم وجدوا الصبيان في المكتب يبدؤون بها، فرتَّبوا كتب اللغة على ذلك تقريبًا لمن يريد البحث عن شيء من المفردات، لكون ذلك الترتيب هو المألوفَ في تعليم الصبيانِ في المكتبِ. وكان يلزم السائلَ أن لا يقصرَ السؤال على الهمزة، بل يجعل السؤال عامًا فيقول: ولم قدِّمَت الباء على التاء؟ ثم كذلك إلي آخر الحروف. وأما:
الجواب عن السؤال السادس
وهو قوله كلمة [أبجد و] (1) هوَّز ... إلخ، هل هي مهملة أو مستعملة، وما عني بها وما أصلها؟ (2)
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) تقدم آنفًا.(12/5988)
فيقال: قال مجد الدين في القاموس (1) ما لفظه: (وأبجدْ إلى قَرشَتْ وكَلمن رئيسهم: ملوك مدينَ، وضعوا الكتابة العربية على عدد حروف أسمائهم، هلكوا يوم الظُّلَّةِ فقالت [2أ] ابنة كَلَمُنْ:
كَلَمنْ هدَّ رُكْنِي ... هُلْكُهُ (2) يوم المحلَّه
سيِّد القوم أتاه الـ ... حتفُ نارٍ وسط ظلِّه
جُعلتْ نارًا عليهم ... دارُهمْ كالمُضْمَحِلَّةْ
ثم وجدوا بعدَهم ثخذٌ ضَظِغٌ فسموها الروادف) (3) انتهى.
وقال بعض شعراء مدينَ:
ملوك بني حطي وهو بينهم ... وسعفصُ أهل للمكارم والفخر
هم صمُّوا أهلَ الحجاز بغارةٍ ... كمثل شعاعِ الشمسِ أو طالعِ الفجرِ
وقال آخر أبو جاد، وهواز، وحُطِّي تمادوا في القبيحِ من الخطاب. ولو قدرنا أن الأمر لم يكن هكذا، وأن واضعًا جمعَ حروف الهجاء وجعلَها في هذه الكلماتِ ليسهِّلَ حفظَها لم يكن ذلك بعيدًا من الصواب، ولا يحتاج مثل هذا إلى السؤال.
وقد فعل هذا جماعة قاصدين جمعَ الحروف، إمَّا لأجل ما يتعلق بها من الأعداد، كما في هذه وفي قول القائل: بر تذنق في حيش إلخ، وقول الآخر: قاصد البيان معرفة ترتيب الكتب المرتبةِ على حروف المعجم عليها: أبتْ ثِجَحٌ خَد ذرزٌ [3أ] وهذا كثير، والمتقدم على الجميع هو الخليل، (4) فإنه جمع الحروف في بيت له ...............................
_________
(1) (ص340)
(2) كذا في المخطوط وفي القاموس (وسْطَ)
(3) ما تقدم من أصل الخط العربي يضعف هذه الرواية.
(4) هو: الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصريِّ. أبو عبد الرحمن صاحب العربية والعروض. وهو أوَّل من استخرج العروض، وحصر أشعار العرب بها، وعمل أول كتاب (العين) كان من الزهاد في الدنيا والمنقطعين إلى العلم)، والفراهيدي نسبة إلى فراهيد بن مالك بن فهم بن عبد الله بن مالك بن مضر بن الأزد. وأبوه أول من سُمِّي أحمد بعد النبي صلي الله عليه وسلم.
(بغية الوعاة) (1/ 558 ـ 561).(12/5989)
معروف (1) وأما قوله وما ضبطُها؟ فجوابه أنه كما يسمعُه السامعُ من ألسن الناس، فإنه حفظوا ذلك طبقةً بعد طبقة إلى الواضع لها. وأمَّا:
الجواب عن السؤال السابع
وهي قوله وما حكمها في الابتداء والوقف ... إلخ.
فأقول: حكمها حكم الألفاظ قبل التركيب. وقد صرح النحاة أجمعُ اكتعُ أنه ينطقُ بها ساكنةَ الأواخر حتى تُركَّبَ، فإذا ركبت استحقت ما تسحقّه سائر الألفاظ بعد تركيبها، وهذا ظاهر مكشوف ما أظنه يلتبسُ على صغار الطلبة. وأما قوله والمنع والصرف ... إلخ.
فقد عرفت من كلام صاحب القاموس (2) ما يفيد أنها أسماءُ ملوكٍ من ملوك العجم، فإن صح ذلك كان لها حكم الأسماء التي قد اجتمع فيها العجمةُ والعلميّةُ، والأمر ظاهر لا غبار عليه، وإن كانت موضوعةً من واضع لأحد المقصدين المذكورين فلها حكم ما جاء كذلك، وهو ما ذكره من الكلمات التي هي مسرودة لقصدِ التعديد، لا لقصد التركيب ولا لقصد معانيها. وقد ذكر ذلك جماعةٌ من المفسرين منهم الزمخشري في كشَّافه (3) عند الكلام على فواتح السَّورِ المفتتحةِ بأسماء الحروفِ [2ب]، ثم قال الدماميني: فهذه سبعة أسئلة من أجاب عنها فهو من الرجال، وإلاَّ فلا مزية له على الأطفال.
_________
(1) والفراهيدي (الخليل) أول من جمع حروف المعجم في بيت واحد وهو:
صِف خَلْق خَوْدِ كمثل الشمس إذ بزغتْ ... يحظى الضَّجيعُ بها نجلاء معطارُ
(بغية الوُعاة) (1/ 509).
(2) (ص340).
(3) (1/ 128 ـ 129).(12/5990)
أقول: هذا مما يقضي منه العجبُ، فإنَّ هذه الأسئلة الباردة القليلةَ الفائدةِ والعائدة كيف يكون من لم يجب عنها فهو في عداد الأطفال، فإن أنواع العلوم مختلفة، وقد رزق الله عباده المشتغلين بالعلم ما رزقهم من أنواعه، وقد يكون الرجلَ جَبَلاً من جبال العلم وبحرًا من بحار الكتابِ والسنة، ويخفي عليه تخريج هذه الأسئلة الزائغة، أو يرغب عن الجواب عنها لما يراه [3ب] من عدم الفائدة المعتدِّ بها، فكيف يكون من هو بهذه المنزلة العلية لا مزية له على الأطفال! يا عجبًا كلَّ العجب من الدماميني! ولا جرم فالخنفساء تسمِّي بنتِها قمرًا، وقد كان ـ رحمه الله تعالى ـ كثيرَ الزَّهْوِ بنفسه كما يراه الإنسان في كثير من أبحاثه، والسبب خلوه عن العلم بالكتاب والسنة، وما اشتملا عليه من القوارع والزواجر الموجبة على من عرفها أن يميط عن بدنه الكبر والخُيَلاء والزَّهوِ والعُجْبِ، ويغسلَ ثيابَه عن أدران هذه النزغاتِ الشيطانية، ورحم الله صاحبَ ضمد، فإن الدماميني لما دخل اليمن قال البيتين المشهورين له وهما:
لما دخلت اليمنا ... رأيتُ وجهي حسَنا
أَقْبِحْ بها من بلدٍ ... أحسنُ من فيها أنا
ولما وصل إلى ضمد راجعًا، وقد شاع هذان البيتان قصده الضمدي، وطلب منه المناظرة في فنِّه، وهو النحو، وكان قاعدًا على سرير فقال للضمدي: ما قرأت من كتب النحو؟ فذكر له الكافية، ومختصراتِ شروحها فقال: كتاب وضع لتدريب الصبيانِ ثم ماذا؟ قال: ثم الرَّضي، قال: قاربت الكفاءةَ، ثم ماذا؟ قال: ثم شرح التسهيل فقال: كفؤ كريمٌ، ونزل عن سريره، ودارت المباحثة بينهما، فأجاب الضمدي عن كل ما سأله الدماميني عنه، وأورد على الدماميني [3أ] إشكالاتٍ عجز عن الجواب عنها، فقال له الضمدي: من أحسن من فيها؟ يشير إلى البيتين السابقين، فقال: أنت، وهذا إنصافٌ منه في الجملة، وقد كان عنه في سعَة، ويروي أنه حرَّف البيتين بعد هذه المباحثة فقال:
لما دخلت اليمنا ... رايتُ وجهي خَشِنا(12/5991)
أكرِمْ بها من بلدةٍ ... أقْبَحُ من فيها أنا
وقد ذكر المسعودي على تقدم عصره، وشُهرِةِ كتابه، (1) فقال: [وقد كان ملوك عدة] (2) تفرَّقوا في ممالكِ متصلةٍ [ومنفصلة]، (3) فمنهم المسمَّي [بأبي جاد] (4) وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشات، وهم على ما ذكرناه بنو المحصن بن جندلٍ. وأحرف الجمل هي أسماء هؤلاء الملوكِ. قال: وقد قيل في هذه الحروف [4أ] غيرُ ما ذكرنا من الوجوه، فكان أبجد ملكَ مكةَ وما يليها من الحجاز، وكان هوَّز وحُطِّي ملكينِ ببلاد وجَّ، وهي أرض الطائف وما اتصل بذلك من نجدٍ، وكلمُن وسعفص وقرشاتُ ملوكًا بمدينَ. وقيل ببلاد مصرَ، وكان كلمن على ملك مدينَ ومن الناس من رأى أنه كان مَلِكَ جميعَ من سمينا مشاعًا متصلاً على ما ذكرناه، وإن عذاب يوم الظلة كان في ملك كلمنْ منهم، وإن شعيبًا عليه السلام دعاهم فكذَّبوه فوعدهم بعذاب يوم الظُّلِّةِ ... إلخ كلام المسعودي.
وقد ذكره المقريزي في الخطط والآثار (5) بأكثرَ من هذا.
وإلى هنا انتهي الجواب والهداية بيد من هي بيده، والحمد لله أولاً وآخرًا.
[انتهى جاب مولانا الإمام، الحافظ، البدر، الهمام، عزَّ الأنام محمد بن علي الشوكاني ـ رحمه الله تعالى ـ وصلى الله على خير خلقِه محمدٍ وآله وصحبِه وسلِّم] (6).
[وعبارة العلامة عبد الرؤوف المناوي في شرحه على .................................
_________
(1) (مروج الذهب ومعادن الجوهر) (2/ 161 ـ 162).
(2) والذي في (المروج) [وقد كانوا عدة ملوك].
(3) زيادة من (مروج الذهب) (2/ 161).
(4) والذي في (المروج) [بأبجد]،
(5) وهو كتاب (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخط المقريزيَّة.
(6) زيادة من (أ).(12/5992)
القاموس (1) ما لفظه: (وأبجد قرشتْ أي: وقول الناس: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت، وكلمن رئيسُهم ملوكُ مدين، أي: أسماء ملوكهم، فقوله: وكلمن رئيسُهم جملة معترضةٌ وضعوا أي الأوائلُ هذه الكتابة العربية على عدد حروف أسمائهم. أصل هذا قول حمزةَ الأصفهاني يُقال أن أول من وضع الكتابة العربيةَ قومٌ من الأوائل نزلوا على عدنانَ بن أدَدٍ، واستعربوا ووضعوا هذه الكتابة على عدد حروف أسمائهم، وكانوا ستة أبجد، هوز، حُطِّي، كلمن، سعفص، قرشتْ، وهم ملوك مدينَ ورئيسهم كلمنْ هلكوا كلهم يوم الظُّلَّةِ فقالت ابنة كلمن تؤنِّبه وترثيه (2):
كلمن قد هدَّ ركني ... هُلْكُهُ وسْط المحلَّهْ
سيِّد القوم أتاه الـ ... حتفُ نارًا وسط ظْلَّهْ
جُعِلَتْ نارًا عليهم ... دارهُم كالمضمحلَّة] (3)
_________
(1) انظر (القاموس) (ص340).
(2) تقدم توضيح ذلك
(3) زيادة من (ب).(12/5993)
(200) 11/ 1
سؤال: عن الفَرْقِ بينَ الجِنْسِ واسْمِ الجِنْس
وبينَهما وبينَ عَلَمِ الجِنْسِ.
وبينَ اسمِ الجِنْسِ واسْمِ الجمْعِ
وبينَ اسْمِ الجمْعِ
مع الجواب للشوكاني
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/5995)
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: (سؤال عن الفرق بين الجنس واسم الجنس وبينهما وبين علم الجنس وبين اسم الجنس. واسم الجمع وبين اسم الجمع مع الجواب للشوكاني).
2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية.
3 ـ آخر الرسالة: وإنَّما نبَّهنا عليه تكميلاً للفائدة، وفي هذا المقدار كفاية وإن كان المقام محتملاً للتطويل.
منقول من نسخة المؤلف حفظه الله تعالي.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 ـ عدد الصفحات: (4) صفحات.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: (27 ـ 33) سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: (11 ـ 13) كلمة.
9 ـ الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/5997)
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا جوابُ سؤالٍ وردَ على القاضي العلاَّمة محمد بن علي الشوكاني حفظه الله في شهر ربيع سنةَ 1202 عن الفَرْق بينَ الجنسِ واسْمِ الجنسِ، وبينَهما وبينَ عَلَمِ الجنسِ، وبينَ اسمِ الجنسِ واسْم الجمْعِ، وبينَ اسْمِ الجمعِ والجمعِ.
فأجاب بما لفظهُ:
اعلم أنَّها قدِ اختلفتْ اصطلاحاتُ المحقِّقينَ في اسمِ الجنسِ والجِنْسِ، فمنهم من لا يُفرِّق بينَهما، وهو الذي يظهرْ من عباراتِ المتقدِّمينَ، ومحقِّقي المتأخرين، فإنَّهم كثيرًا من يُطْلِقونَ على الشيء الواحد كالتمرِ مثلاً اسمَ الجنس تارةً، والجنْسَ أُخرى. هذا المحقّقُ الرضيُّ (1) صرَّح في بحثِ الكلمةِ (2) أنَّ التَّمْرِ جِنْسٌ، وكذا في بحثِ التمييزِ. (3) وصرَّح في بحثِ الجمعِ أنَّه اسمُ جِنْسٍ.
وصرَّح أيضًا في بحث المنادَى (4) عندَ قولِ ابنِ الحاجبِ (5) إلاَّ مع الجِنْس أنَّ الرَّجُلَ ونحوَهُ جِنْسٌ. وهكذا غيرُه كابنِ الحاجبِ في الكافيةِ في بحي التمييز، والشافيةِ في بحث الجمعِ. وهكذا المحققُ الجاميُّ فإنَّه صرَّح في بحثِ التمييزِ بأنَّ التمرَ جِنْسٌ، وصرَّح في بحثِ الجمعِ بأنَّه اسم جنس.
وقد وقع مثلُ هذا في مؤلَّفاتِ السَّعْدِ التفتازاني، والشريفِ الجُرجَاني في مواضعَ كثيرةٍ وفرَّقٍ جماعةٌ من المتأخِّرينَ بينَهما بفروقٍ مختلطةٍ مختبطةٍ، فقالَ بعضُهم: إنَّ اسمَ الجِنْس ما يُطْلَقُ على القليلِ والكثيرِ دُفْعَةً واحدةً وإذا أُريد التنصيصُ على واحدةٍ مُيِّزَ بالتاء كَتَمْرٍ
_________
(1) أي رضيِّ الدين محمد بن الحسن الاستراباذيِّ (ت سنة 686هـ).
(2) في (شرح كافية ابن الحاجب) (1/ 21 ـ 23).
(3) في (شرح كافية ابن الحاجب) (2/ 99).
(4) في (شرح كافية ابن الحاجب) (1/ 386).
(5) في (شرح شافية ابن الحاجب) (2/ 199 ـ 201).(12/6001)
مثلاً. والجنسُ ما يُطلق على كثيرينَ على طريقِ البدلِ، لا دُفعةً كرجلٍ مثلاً، وما ذكَرَهُ هذا القائلُ في تحقيقِ الجِنْسِ مخالفٌ لما قَالهُ المحقَّقُ الرَّضيُّ (1) فيه، فإنَّه قالَ في بحثِ الكلمةِ: إن الجنسَ يقعُ على القليلِ والكثيرِ (2) إلخ.
وقال في بحث التمييزِ (3): إنَّ الجنسَ ما يقعُ لفظُ الواحدِ المجَّردِ عن تاء الواحدةِ منه على القليل والكثير، فَتمْرٌ، وضَرْبٌ جِنْسٌ، بخلافِ رجُلٍ وفرَسٍ، ومخالِفٌ أيضًا لما ذكره المحقِّقُ الجاميُّ في تفسيرِ الجِنْسِ، فإنَّه قال: وهو ما تتشابَهُ أجزاؤه، ويقعُ مجرَّدًا عنِ التاء علي القليلِ والكثيرِ، حتى قالَ: بخلافِ نحوِ رجلٍ وفرسٍ.
وما ذكره في تفسيره اسم الجنسِ مخالفٌ لما ذكرَهُ السَّعْدُ في المطوَّلِ في بحثِ تعريف المسْنَدِ إليهِ باللامِ، فإنَّه جزَم بأنَّ اسْمَ الجِنْسِ موضوعٌ لواحدٍ من آحادِ جنسهِ، فإطلاقُهُ على الواحدِ إطلاقٌ على أصلِ وَضْعِهِ، وإطلاقُهُ على المجموعِ إطلاقٌ على غيرِ الأصْل.
وحقَّقَهُمَا بعضُهم بعكسِ ذلكَ التحقيقِ السابقِ، فقالَ: إنَّ اسْمَ الجِنسِ يُطلَقُ على كثيرينَ على طريقَ البدلِ كَرَجلٍ مثلاً، والجِنْسُ يُطْلَقُ على القليل والكثير دُفعةً واحدةً. وقد حقَّق اسمُ الجِنْسِ بهذهِ الحقيقة ابنُ الحاجبِ في بحثِ المنادي من الكافية (4) وتَبعَهُ
_________
(1) في (شرح الكافية) (1/ 21).
(2) ثم قال: كا (العسل) و (الماء) لكن الكلم لم يستعمل إلا علي ما فوق الاثنين. بخلاف نحو: (تمر) و (ضرب).
(3) الرَّضي في (شرح الكافية) (2/ 99).
(4) (1/ 386): قال ابن الحاجب (ولا يجوز حذف حرف النداء، إلا مع اسم الجنس، والإشارة، والمستغاث، والمندوب، نحو: {(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29]، و (أيها الرجل) وشذ (أصبحْ ليلُ) و (افتدِ مخنوق) (اطرق كرا).
حيث قال الرضي في شرحه لذلك: يعني بالجنس ما كان نكرة قبل النداء، سواء تعرّف بالنداء، ولـ (رجل) أو لم يتعرف لـ (يا رجلاً)، وسواء كان مفردًا أو مضافًا أو مضارعًا له: نحو: (يا غلام فاضل) (يا حسن الوجه) (يا ضاربًا زيدًا) قصدت بهذه الثلاثة واحدًا بعينه أولاً.(12/6002)
المحققُ الجاميُّ. ولا ينافيه عدمُ فَرْقِهِمَا بينَ الجِنْسِ واسْمِ الجنسِ كما سبقَ، وهو لا يِتمُّ إلاَّ على مذهبِ [1] مَنْ يجعلْ اسْمَ الجِنْسِ موضوعًا للماهيَّةِ، ومع وحدةٍ لا يعيِّنها لا للماهيةِ من حيثُ هي كما حقَّقَهُ سيِّدُ المحققينَ في حاشيتهِ على المطوَّلِ، والأولُ مذهبُ ابنِ الحاجبِ، والزمخشريِّ، والسَّعْدِ، والثاني مذهبُ جماعةٍ منهم: المحققُ الشريفُ، فيكونُ إطلاقُ لفظِ الأسدِ مثلاً على كلِّ فردٍ على سبيل البدلِ حقيقةً على المذهبِ الأولِ لأنَّهُ مستعملٌ فيما وُضِعَ له مجازًا على الثاني، ويكون الموضوعُ له أيضًا على الأولِ الماهيةُ بشرطِ شيء، وعلى الثاني الماهيةُ لا بشرط شيءٍ.
وقال الأندلسيُّ: اسمُ الجِنْسِ هو الدالُّ على حقيقةٍ موجودةٍ في أشخاصِ كثيرةٍ مختلفينَ بالشخصِ لا بالحقيقة، نحو: زيدٌ وعمروٌ، فإنَّ اختلافهما ليسَ بالحقيقةِ، بل بالأعراضِ، وهذا هو المتواطئُ عندَ المنطقينَ، وهو النكرةُ عندَ النحاةِ.
والجنسُ هو الجزء التامُّ المشْتَرَكُ المختلِفُ بالحقيقةِ، وكلامُهُ في تحقيق الجِنْسِ مبنيٌّ على اصْطلاحِ المنطقيينَ، فإنَّهم رسموه بالمقولِ على الكثرةِ المختلفةِ. الحقيقيةِ.
وأمَّا ما ذكره في اسم الجنس فليسَ موافقًا لاصطلاحاتهم، لأنَّه رسَمَهُ برسمِ النوعِ عند أهلِ المنطقِ، وهم لا يُطْلِقُونَ على النوع أنَّه اسمُ جنسٍ، ولم يَبْنِ كلامَهُ هذا على مُصْطَلحِ أهلِ الأصولِ في الجنسِ، فإنَّه يرسمونَهُ بِرَسْمِ النوعِ عند أهلِ المنطقِ، قال: العَضُد في شرحِ مختصرِه على المنتهي:
اعلمْ أن اصطلاح الأصوليينَ (1) في الجنسِ والنوعِ يخالف اصطلاحُ المنطقيينَ، فالمنْدرجُ
_________
(1) انظر (الكوكب المنير) (1/ 147 ـ 148) حيث قال صاحبه: فعلم الجنس يساوي علم الشخص في أحكامه اللفظية من كونه لا يضاف ولا يدخل عليه حرف التعريف، ولا ينعت بنكرة ولا يقبح مجيئه مبتدأ ولا انتصاب النكرة بعده على الحال، ولا يصرف منه ما فيه سببٌ زائدٌ على العلمية.
ويفارقه من جهة المعنى لعمومه: إذ هو خاصٌّ شائع في حالةٍ واحدةٍ مخصوصة باعتبار تعيينه في الذهن وشياعه باعتبار أنَّ لكل شخص من أنواعه أشخاص نوعه قسطًا من تلك الحقيقة في الخارج. ?
وأما الفرق بين علم الجنس واسم الجنس. فقال بعضهم: إن اسم الجنس الذي هو أسدٌ، موضوع لفردٍ من أفراد النوع لا بعينه، فالتعدد فيه من أصل الوضع.
وإن علم الجنس الذي هو أسامةُ، موضوع للحقيقة المتحدة في الذهن فإذا أطلقت أسدًا على واحدٍ، أطلقته على أصل وضعه، وإذا أطلقت أسامة على الواحد، فإنما أردت الحقيقة، ويلزم من ذلك التعدد في الخارج، فالتعدد فيه ضمنًا لا قصدًا بالوضع. ويتساويا في صدقهما على صورة الأسد. إلا أنَّ علم الجنس وضع لها من حيث خصوصها باستحضارها في الذهن، واسم الجنس وضع لها من حيث عمومها.
انظر: (تسهيل الفوائد) (ص30).(12/6003)
جنسٌ, والآخر نوعٌ, وعند المنطقيِّ بالعكس انتهى. وقد تبيَّنَ بما سلفَ الترادفُ باعتبارِ اصطلاحِ بعضٍ, والتفارقُ باعتبارِ اصطلاحاتِ آخرين. ولا حرج في تفاوُتِ الاصطلاحاتِ لما تقرَّر من أنَّه لا مُُشاحَّةَ فيها. ومن جرَّد النظرَ إلى معناهما اللغويِّ وجدَ الفرقَ بينَهما أوضح من أن يخفى, إذ لا يشكُّ مَنْ له أدنى مَشَكَّةٍ أنَّ المرادَ بالجنسِ المدلولُ وباسمهِ الدالُّ كزيدٍ واسمِ زيدٍ, إلا أنَّ أهلَ الاصطلاحِ لم يلتفتُوا إلى هذا.
وأما الفرقَ بينَهما وبينَ علم الجنسِ, وبينَ الثلاثةِ واسْمِ الجمعِ، وبينَه وبينَ الجمعِ فنقول: إذا قد عرفت مما سلفَ التَّرادُفَ بينَ الجنسِ عند المحققينَ, وأنَّه يُطلقُ كلٌ واحدٍ منهما على ما يُطلقٌ عليه الآخر فالفرقُ بينهما وبين علم الجنس قد وقع فيه اختلاف بين المحققين فقال العلامة السَّعْدُ في المطوَّلِ بما مَحصِّلُةُ أنَّ اسمَ الجنسِ موضوعٌ لواحدٍ من آحاد جنْسهِ, فإطلاقُهُ على الواحدِ إطلاقٌ على أصلِ وَضْعِهِ, وعََلَمُ الجنسِ موضوعٌ للحقيقةِ المتحدةِ في الذهن , (1) فإذا أطلقتَه على الواحدِ فإنَّما أردتَ الحقيقةَ, ولَزِمَ من إطلاقِهِ على الحقيقةِ باعتبارِ الوجودِ التعدُد ضمنًا [2]. وقال سيِّد المحققينَ في حاشيتهِ على المطوَّلِ: الفرقُ بينَ اسم الجنسِ وعلَمِ الجِنسِ على ما ذكرَهُ يعني السعَّدَ منقولٌ من كلامِ الشيخِ ابن الحاجبِ في شرح المفصَّلِ, وإنما يستقيم على قولِ مَنْ يجعلُ اسْمُ الجِنْسِ موضوعًا للماهيَّةِ مع وَحْدَةٍ لا بعَيْنِها, ويُسمَّى فردًا منتشرًا.
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.(12/6004)
وأمَّا من يجعلُهُ موضوعًا للماهيَّة من حيث هي فعنده كلٌّ من اسم الجنس وعَلَمِهِ موضوعًا للحقيقةِ المتحدةِ في الذهنِ، وإنما افْتَرَقا من حيثُ إنَّ عَلَم الجِنْسِ يدلُّ بجوهرِهِ على كونِ تلكَ الحقيقةِ معلومةً للمخاطَبِ، معهودةً عندَه، كما أنَّ الأعلامَ الشخصيةَ تدلُّ بجواهرِها على كونِ الأشخاصِ معهودةً له. وأما اسمُ الجِنْسِ فلا يدلُّ علي ذلكَ بجوهِرِه، بل بالأدلةِ إن كانتْ.
وقيلَ: إنَّ اسمَ الجنسِ وُضِعَ لمعني مشتركٍ بينَ أفرادِ الطبيعةِ باعتبارِ اشْتراكِها، وعَلَمُ الجِنْسِ وُضِعَ لِنَفسِ الطبيعةِ باعتبارِ تميُّزِها عن الغيْر، فالوضعُ على الطبيعةِ باعتبار كُلَّيَّتِها اسمُ الجنسِ، وباعتبارِ جُزئيَّتِها عَلَمُ الجنسِ.
وقد أوردَ المحققُ الرضيُّ في الفرقِ بينَهما مادةً نفيسةً في بحثِ الأعلامِ فرَاجعْهُ. وذهب ابنُ مالكٍ في شرح التسهيل إلى أنَّه لا فرقَ بينهما إلاَّ من حيثُ اللفظُ، لا من جهة المعني ومرادُهُ بقولِهِ: من حيثُ اللفظُ أنَّ عَلَمَ الجِنْسِ يمتنعُ من الصرفِ مع عِلَّةٍ أُخرى، ويقعُ مبتدأ بلا مسوِّغٍ، ويجيءُ منْهُ الحالُ بلا مسوِّغٍ أيضًا. ويمتنعُ تعريفه باللامِ خلافَ اسْمِ الجنسِ، والجِنْسُ في ذلكَ كلِّه. وإلى مثلِ هذا ذهبَ أبو حيانَ، وذهبَ جمعٌ من المحققينَ النحويينَ والأصوليينَ كالتَّقي السُّبُكيِّ، والبرماويِّ، وابنِ الحاجبِ في المفصَّلِ، والجلالِ السيوطيِّ في هُمْعِ الهوامعِ، والشيخِ زكريا، والفاكهيِّ، وهو الذي أشار إليه سيبويه في كتابِه، وهو الذي عليهِ جمهورُ المتأخرينَ إلى أنَّ بينَهما فرقًا معنويًّا. وذكر فُرُوقًا متقاربةً أحسنُها ما قدِّمنا ذِكْرَهُ. قالوا: وهو أيْ عَلَمُ الجِنْسِ باعتبارِ مُسمَّياتِهِ ثلاثةُ أنواعِ (1): ما وُضِعَ لأعيانٍ لا تُوْلَفُ كأسامةُ للأسدِ وما وُضِعَ لأعيانٍ تَوْلَفُ كأبي الحجَّاجِ للفيلِ، وأبي صفوانَ للجملِ، وما وُضِعَ لأمورِ معنوية كيَسَارِ للميسرةِ، وفَجَارِ
_________
(1) انظره في (أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك) (1/ 122)، (شرح شذور الذهب) (ص179ـ 180).(12/6005)
للمفْجَرةِ.
إذا تقرَّر لكَ هذا فاعلم أنَّ النسبةَ بينَ اسمِ الجنسِ وعلَمِ باعتبارِ ما هُوَ الأَوْلَي من وجوه الفرقِ بينَهما هي أنَّ اسْمَ الجنس أعمُّ مطلقًا مِنْ عَلَمِ الجنسِ، لأنه موضوعٌ للماهيَّةِ مطلقًا، أعمُّ من أنْ يكونَ موجودُهُ ذِهْنًا فقط، أو ذهنًا وخارِجًا، لكنَّه إنِ اعْتُبِرَ دلالتُهُ عليها لا معَ قيدِ فهوَ المطلقُ، وعمومُهُ شموليٌّ كعمومِ كلِّ، وإنْ اعتُبِرَا مع قيدِ الوحدةِ فهو النكرةُ، وعمومُهُ بدليٌّ كعمومِ رجلٍ.
وأمَّا عَلَمُ الجنسِ فهو أخصُّ مُطْلَقًا، لأنَّهُ موضوعٌ للماهيَّةِ الذهنيةِ فقط، التي لا تُعْقَلُ في الخارجِ بحالٍ، وأمَّا عَلَمْ الشخصِ فهوَ ما وُضِعَ لفردٍ معيَّنٍ من أفرادِ الماهيَّةِ بحيثُ لا يتناولُ غيرَهُ، فهوَ أخصُّ مطلقًا من اسم الجنسِ وعلَمِهِ.
وأمَّا باعتبارِ اللغةِ فالفرقُ ظاهرٌ لا يخفى، لأنَّ علَمَ الجِنْسِ ما وُضِعَ للدلالة علي الجِنْسِ بعينِهِ دونَ غيرهِ، واسمُ [3] الجِنْسِ ما وُضِعَ للدلالةِ على الجنسِ مطلقًا. وأما الفرقُ بينَ اسمِ الجنسِ واسْمِ الجمع ِ فقد قال المحقِّقُ الرَّضِيُّ في بابِ الجمعِ: والفرقُ بينَ اسمِ لجنسِ واسمِ الجمعِ مع اشتراكِهما في أنَّهما ليسَا على أوزانِ جموعِ التكسير (1) لا الخاصَّةِ بالجمعِ كأفْعِلَةٍ وأفْعالٍ، ولا المشهورةِ فيهِ كفعلهَ نحوه (نسوة) أنَّ اسْمِ الجمعِ لا يقعُ على الواحدِ والاثنينِ، بخلافِ اسْمِ الجنسِ، وأن الفرْقَ بينَ واحدِ اسْمِ الجنسِ وبينَه فيما له واحدٌ أنَّه يُميَّزُ إمَّا بالتاء أو بالياء، بخلافِ اسْمِ الجمعِ انتهي.
ويُشْكِلُ على هذا الفرقِ الكَلِمُ، فإنَّه مما يُميَّزُ واحدُه بالتاء، ولا يقعُ في الاستعمال إلاَّ على ما فوقَ الاثنينِ، كما صرَّحَ بهِ الرَّضيُّ نفسُهُ في أوَّلِ شرْحِهِ للكافيةِ، فملاحظةُ عدمِ صحةِ إطلاقِهِ إلاَّ على ما فوقَ الاثنينِ يُلْحِقُهُ باسْمِ الجمعِ، وملاحظةُ تبيُّنِ واحدِهِ بالتاء يُلْحِقُهُ باسمِ الجنسِ، اللَّهمَّ إلاَّ أنْ يُجْعَلُ الكلِمُ واسطةً بينَهما كما قال ابن هشامٍ في أوضح المسالك (2) أنَّه اسْمُ جِنْسٍ جَمْعيٍّ، ومعنى كونِه اسْمِ جِنْسٍ أنه يدلُّ علي جماعةٍ
_________
(1) انظر (شرح شافية ابن الحاجب) (2/ 192 ـ 196).
(2) (1/ 113).(12/6006)
سواء أزيْدُ على لفظه تاءُ التأنيثُ نقصَ معناه، وصارَ دالاً على الوحْدةِ، ونظيرُهُ لَبِنٌ ولبنةٌ ونَبِقٌ ونَبِقَةٌ.
وأما الفرقُ بينَ عَلَمِ الجِنْسِ واسْمِ الجمعِ فواضحٌ، لأنَّ عَلَمَ الجِنْسِ موضوعٌ للحقيقة المتَّحدِة في الذهنِ كما سبقَ، سواءٌ مُشْخَصَاتُها قليلةٌ أو كثيرةٌ، لأنَّ القِلَّةَ والكَثْرَةَ غيرُ داخليْنِ في نظرِ الواضِعِ، بخلافِ اسْمِ الجمعِ، فإنه لفظٌ مفردٌ موضوعٌ لمعنى الجمعِ فقط.
وأما الفرقُ بينَ الجمعِ واسْمِ الجمعِ فقد صرَّحَ بهِ الرَّضيُّ وغيرُهُ من شُرَّاحِ الكافيةِ (1) في شرحِ قولِ ابنِ الحاجِبِ: المجموعُ ما دلَّ على آحادِ مقصودِهِ بحروفٍ مُفْرَدَةٍ لأنَّ اسْمَ الجمعِ لم يدلَّ على الآحادِ بحروفٍ مفردةٍ، وهو ظاهرٌ.
وذكر الرضيُّ أيضًا أنَّه لا فرقَ بينَ الجمعِ واسْمِ الجمعِ إلاَّ من حيث اللفظُ، وذلك لأنَّ لفظَ اسْمِ الجمعِ مفردٌ بخلافِ الجمعِ لا في المعنى، فإنَّ دلالَتَهُما على ما تحتَهما من الأفراد واحدةٌ، وهذا باعتبارِ الاصطلاحِ لا باعتبار المعنَى اللغويِّ، فإنَّ الجمعَ هو المدلولُ واسْمُ الجمعِ هو الدالُّ، وكذلكَ اسْمُ الجنسِ مغايرٌ لاسْمِ الجمع لغةً، لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما اسمُ المسمَّي مغايرٌ للمسمَّى، الآخَرُ. ولكنَّ المدلولَ اللغويَّ في جميعِ هذهِ الأطرافِ غيرُ مُرادٍ، وإنَّما نبَّهْنَا عليهِ تكميلاً للفائدةِ. وفي هذا المقدار كفايةٌ، إن كان المقامُ محتَمِلاً للتطويلِ. منقولةٌ من نُسخةِ المؤلِّفِ ـ حفظه الله تعالى ـ. [4]
_________
(1) (3/ 434) حيث قال الرضي قوله: (ما دل على آحاد) يشمل المجموع وغيره، من اسم الجنس كـ (تمرة) و (نخل) واسم الجمع: ـ (رهط) و (نفر) والعدد، لـ (ثلاثة) و (عشرة) ومعني قوله (مقصوده بحروف مفردة بتغيير ما) أي: تُقصد تلك الآحاد، ويدل عليها بأن يؤتي بحروف مفرد ذلك الدال عليها، مع تغيير ما في تلك الحروف إمّا تغيير ظاهر أو مقدر، فالظاهر إمَّا بالحرف كـ (مسلمون) أو بالحركة كـ (أُسْد في أسَد) أو بهما لـ (رجال) و (غُرَف) والتغيير المقدَّر كـ (هِجان) و (فُلْك).
وخرج بقول: (مقصودة بحروف مفردة بتغيير ما) اسم الجمع نحو (إبل) و (غنم) لأنها وإن دلت على آحاد، لكن لم يقصد إلى تلك الآحاد بأن أخذت حروف مفردها وغيَّرت بتغيير ما، بل آحادها ألفاظ من غير لفظها لـ (بعير) و (شاة).(12/6007)
(201) 33/ 5
بحث في تبادر اللفظ عند الإطلاق
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/6009)
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في تبادر اللفظ عند الإطلاق.
2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية.
3 ـ أول الرسالة: وصل سؤالٌ إلى المولى شيخ الإسلام حاصلُه: ما المراد بقول علماء الأصول أنَّ تبادر المعنى عند إطلاق اللفظ ...
4 ـ آخر الرسالة: انتهى منقولاً من خط المجيب البدر شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني تغشاه الله بواسع رحمته، ورضوانه، وأسكنه ببحبوحة جنانه، وجزاه خيرًا آمين آمين.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 ـ عدد الصفحات: 3 صفحات.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: الأولى والثانية: 18 سطرًا.
الثالثة: 13 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.
9 ـ الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/6011)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصل سؤالٌ إلى المولي شيخ الإسلام حاصلُه: ما المراد بقول علماء الأصولِ أنَّ تبادُرَ المعنى عند إطلاقِ اللفظِ لأي [ ....
] (1) دليل لكون اللفظِ موضوع للمعنى المتبادر إلى فهم السامعِ، واعترض السائل على ذلك بوجهه الأول إنْ كان للعلمِ بعد الوضع، فليس من الدلالة على الحقيقة فِي شيء.
والثاني: إن كان قبلَ الوضع فهو قول القائل بأنَّ دلالة اللفظ على معناه بدايةً لا بالوضعِ هذا حاصلُه.
وأجاب شيخ الإسلام ـ جزاه الله أفضل الجزاء ـ بقوله:
الحمد لله ـ كثر الله فوائدكم ـ المراد المتبادرُ لأهل اللغةِ الذين لم تتغير لغتُهم، وأمَّا تبادُرَ المعنى لغةُ أهلِ اللغةِ فلا اعتبارَ به، ولا حكم له أصلاً.
وإذا تبادَرَ إلى أذهانهم شيءٌ فإنما هو باعتبار اللغةِ الدائرة بينَهم، لا باعتبار لسان العرب، والنزاعُ في هذا لا في تلك، فإنْ وجد بعد تغيُّر اللغة من يعرفُها معرفةً تامةً حتى صار كأهِلها، وذلك كالأئمة المتبحرين في اللغة فالتبادرُ له كالتبادُرِ لهم إذا كان لا يلتفتُ إلى غيرها، ولا يشتغل باللغاتِ الحادثة التي جرى التعارفُ بها.
وإذا تقرر هذا فالوضعُ على اختلاف الأقوال في الواضع من هو سابقٌ، وبعد هذا الوضع صارتْ هذه اللغةُ العربية [1أ] معروفةً عند كل عربي قبلَ تغيُّر اللغات العربيةِ، فإذا سمع من يتكلَّم بفرد من أفراد جملةٍ على المعنى الحقيقي، (2) لأنَّ المتكلِّم به لم ينصبْ قرينةً، فإذا
_________
(1) كلمة غير واضحة في المخطوط.
(2) قال الشوكاني في (إرشاد الفحول) (ص121): أنّ اللفظ قبل الاستعمال لا يتصف بكونه حقيقةً ولا بكونه مجازًا لخروجه عن حد كل واحدٍ منهما، إذ الحقيقةُ هي اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، وقد اتفقوا على أن الحقيقة لا تستلزم المجاز لأن اللفظ قد يستعمل فيما وضع له ولا يستعمل في غيره، وهذا معلومٌ لكل عالمٍ بلغةِ العرب.
انظر: (الإبهاج) (1/ 318 ـ 320).(12/6015)
نصبَها فهي التي نقلتْ ذلك اللفظَ من حقيقةٍ إلى مجاز، مثلاً لو سمع السامعُ من أهل اللغة قائلاً يقول: رأيت الأسدَ. لم يحملْه إلاَّ على الأسدِ الحقيقيِّ، فإن قال بعد قوله: رأيتُ الأسدَ ما يدلُّ على أنه أرادَ المجازَ كأنْ يقول: رأيتُ الأسدَ راكبًا أو معتقلاً [ ...... ]، (1) أو متقلدًا سيفًا عرف السامعُ أنه لم يُرِدْ إلاَّ المعنى المجازيَّ.
قوله: ويقال: لهم هذا التبادرُ يحصلُ بعد العلم بالوضعِ أم قبلَه؟ .. إلخ.
أقول: هذه العُربُ هم الذين صاروا يتكلَّمون بلغتِهم المعروفة بينهم، المشهورة عندهم تلقَّاها الآخر عن الأول، سواءً عرفوا الواضعَ أم لم يعرفُوه، بل أخذوا ألفاظها ومعانيها عن القوم الذين نشأ بينهم كما يتعلَّم الآن صبيانُنَا ما نتكلَّم به، سواءً كان لغويًّا أو عُرْفيًّا.
وبالجملة فالوضعُ والنزاعُ في الموضوعٍ لهم لا يستلزمُ معرفتَهم للواضعِ، وأمَّا من قال أنَّ في [1ب] اللفظِ دلالةً على معناه كالصميري (2) فهو يقول: إنّ هذه الألفاظَ
_________
(1) كلمة غير واضحة في المخطوط.
(2) عباد بن سليمان الصيمري أحد رجال الاعتزال المشهورين في عصر المأمون.
قال السيوطي في (المزهر) (1/ 47): نقل أهل أصول الفقه عن عبّاد بن سليمان الصيمري من المعتزلة أنه ذهب إلى أنَّ بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية حاملةٌ للواضع على أن يضع، قال: وإلا لكان تخصيص الاسم المعيَّن بالمسمّى المُعيَّن ترجيحًا من غير مُرَجِّح، وكان بعض من يرى رأيه يقول: إنه يعرف مناسبة الألفاظ لمعانيها، فسُئل ما مسمَّى (إذغاغ) وهو بالفارسية الحجر، فقال: أجدُ فيه يُبْسًا شديدًا وأراه الحجر.
وأنكر الجمهور هذه المقاتلة وقال: لو ثبت ما قاله لاهتدى كلُّ إنسان إلى كل لغةٍ ولما صحَّ وضع اللفظ للضدين، كالقرء للحيض والطهر، والجَوْن للأبيض والأسود، وأجابوا عن دليله بأنَّ التخصيص بإرادة الواضع المختار خصوصًا إذا قلنا: الواضع هو الله تعالي، فإن ذلك كتخصيصه وجود العالم بوقت دون وقت.
وأما أهل اللغة والعربية فقد كادوا يطبقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني، لكن الفرق بين مذهبهم ومذهب عبّاد أن عبّادًا يراها ذاتية موجبة، بخلافهم.
وانظر: (البحر المحيط) (2/ 13 ـ 15).(12/6016)
الشائعةَ بين العرب التي حفظُوها طبقةً بعد طبقةٍ لها دلالةٌ في أنفسِها على معانيها، وهو قولٌ ساقطٌ، وقوله: هذا هو غيرُ قولِ أهلِ الاشتقاقِ، فإنَّ أهل الاشتقاق تتَّبعُوا لغةَ العرب، فوجدوا ما اتَّفقَ منها في أكثر الحروفِ أو بعضِها لا بدَّ أن يشملَها معنًى عامٌ وإنْ بَعُدَ، وهو علمٌ مفيدٌ جدًّا، وقد أهمله المتأخرون.
وأنا جمعتُ فيه مؤلَّفًا (1) مختصرًا في أيام قديمةٍ به يستفادُ هذا العلم.
انتهى منقولاً من خط المجيبِ البدرِ، شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني ـ تغشاه الله بواسع رحمته ورضوانه، وأسكنه بُحْبُوحَةَ جناتِه ـ وجزاه خيرًا. آمينَ آمينَ.
_________
(1) وهي الرسالة رقم (202) (نزهة الأحداق في علم الاشتقاق).(12/6017)
202 - 1/ 5
نُزهةُ الأحداق في علم الاشتقاق
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/6019)
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: نزهة الأحداق في علم الاشتقاق.
2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي جعل في لغة العرب من الأسرار واللطائف الدالة على بديع الصنع وعظيم الاقتدار ...
4 ـ آخر الرسالة: واشتمل على ما لا يوجد مجموعًا في غيره ولا يوقف عليه كاملاً في سواه والحمد لله أولاً وآخرًا. حرّره مؤلَّفه غفر الله له.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 ـ عدد الصفحات: 11 صفحة + صفحة العنوان.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 24سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 9 ـ 11 كلمة.
9 ـ الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/6021)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل في لغةِ العربِ من الأسرار واللطائفِ الدالّة على بديع الصُّنْعِ وعظيمِ الاقتدار ما ينبهِرُ له الأولياءُ الفحول وتتحيَّر عند الله من أكرم جيل وأشرقِ جَبيل، بأفصح لسان وأوضحِ بيان وعلى آله وأصحابهِ الذين هم القادةُ لأهل اللسان والسِّنان، والسادةُ للمتصرِّفين بالبناء في العِنان عند الرِّهان وبالبيان للبرهان من السنة والقرآن.
وبعدُ:
فلما كان علمُ الاشتقاقِ من أنفس العلوم المتعلقةِ بلغة العربِ وألطف المعارفِ التي من سبق إليها وتوفّر حظُّه منها الذي يملأ دلْوَ المُساجلة إلى عُقَد الكَرَب وإن كان أحضَرَ الجلدةِ في بيت العرب، وكان مما لم يُفْرِدْه أهلُ العلم بالتصنيف ولا دوَّنوه علي جهة الاستقلالِ بالتأليف بل عامةُ ما وقفْنا عليه وانتهى علمُنا إليه مباحثُ نَزْرةٌ وفصولٌ مختصَرةٌ كما سنوضح لك ذلك إن شاء الله ـ استعنْتُ بالله تعالى وأفردْتُ هذا الفنَّ الشريفَ بهذا المختصر اللطيف لِيَمشيَ على منواله الراغبون في لغة العربِ المتشوِّقون إلى الوقوف على أسرارها الشريفةِ ونُكَتِها اللطيفة، فيقتدروا بذلك علي رد بعضِها إلى بعض واستخراجِ بعضِها من بعض وسمَّيتُ هذه المختصرَ (نُزْهةَ الأحداق في علم الاشتقاق) ومن الله أستمدّ الإعانةَ وبيده الحولُ والقوة.
اعلم أرشدني الله وإياك إلى الصواب [1أ] أن الاشتقاقَ في اللغة يطلق على معانٍ.
قال في القاموس (1): والاشتقاق أخْذُ شِقِّ الشيءِ والأخذُ في الكلام وفي الخصومة يمينًا وشمالاً وأخْذُ الكلمةِ من الكلمة.
وفي الاصطلاح (2): قيل هو أن يجدَ بين معنى اللفظين تناسُبًا في المعنى والتركيبِ فيُردَّ
_________
(1) (ص1159).
(2) انظر (معجم البلاغة العربية) (ص314 ـ 315)، و (الكوكب المنير) (1/ 206).(12/6025)
أحدَهما إلى الآخر.
وقيل هو أن يأخُذَ من اللفظ ما يناسبه في التركيب فيجعلَه دالاً على معنًى يناسب معناه.
وقيل الأول باعتبار العلمِ والثاني باعتبار العملِ.
وقيل ردُّ لفظٍ إلى آخَرَ بموافقته في حروفه الأصليةِ ومناسبتِه في المعنى.
وقيل ما وافق أصلاً بحروفه الأصولِ ومعناه بتغيير ما (1).
وقد نوقش كلُّ حدٍّ من هذه الحدودِ بمناقشات مدفوعةٍ بدُفوعات، وهذه الحدودُ وإن صحّ اعتبارُها في بعض أنواعِ الاشتقاقِ فإنه لا يصِحُّ في البعض الآخَرِ فالأولى أن يُرْسَمَ كلُّ واحدٍ منهما برسم يُخصُّه حتى يميِّزَ بعضَها من بعض فيذكُرَ أولاً الأقسامَ ثم يذكُرَ مفهومَ كلِّ واحدٍ منها على وجه يتبين به معناه فنقول: الاشتقاقُ ينقسم إلى ثلاثة أقسامٍ (2): أصغرَ وصغيرٍ وأكبرَ.
فالأولُ إذا توافقت الحروفُ الأصولُ كضَرَب وضارِبٍ مرتّبةً من غير اعتبارٍ ما يتصل بينها من حروف زائدةٍ.
والثاني إذا اتفقت الحروفُ الأصليةُ بدون ترتيبٍ كجَذَب وجَبَذ وحمِد ومدَح وكَنَي وناك.
والثالثُ تناسبُ بعضِ الحروفُ الأصليةِ في النوعية وبعضِها في المخرج نحوُ ثلَبَ وثَلَم. أو تناسَب بعضُها في النوعية فقط أو في المخرج فقط كما [ .... .] (3) ويشترط فيه عدمُ
_________
(1) وقال في (شرح التسهيل): الاشتقاق أخذُ صيغةٍ من أخرى مع اتفاقهما معنًى. ومادةً أصلية، وهيئة تركيب لها ليدّل بالثانية على معني الأصل بزيادة مفيدة لأجلها اختلفا حروفًا وهيئة: كضارب من ضرب، وقذِرٌ من قذِر.
(المزهر في علوم اللغة وأنواعها) (1/ 346).
(2) انظر: (الكوكب المنير) (1/ 207 ـ 210)، (البحر المحيط) (1/ 83 ـ 85).
(3) كلمة غير واضحة في المخطوط.(12/6026)
الموافقةِ في جميع الحروفِ ولو لم يُشْتَرطْ هذا الشرطُ التَبسَ بالقسم الأولِ إن توافقت الحروفُ والترتيب وبالقسم الثاني إن توافقت الحروفُ فقط.
وإذا أُطلق الاشتقاقُ تعيَّن الأصغرُ لأنه المتبادَرُ [1ب] عند أهلِ النحوِ والصَّرفِ والمعاني والبيانِ، وتعيَّن الآخرانِ عند أهلِ الاشتقاقِ لأنهما المتبادَران في اصطلاحهم.
وأما مجردُ الاتصالِ بين معنَيي اللفظين فهو كائنٌ في جميع الأقسامِ, أما القسمانِ الأولانِ فظاهرٌ, وأما القسمُ الثالثُ فإنك إذا أمعنَْ نظرَك في التراكيب اللغوية وجدْتَ بين كل كلمتين اتفَقَتا في الفاء والعين اتصالاً فإن تقارَبَ اللامان في المخرج كان التقارُبُ بين المعنيين بقدر ذلك, وإن تباعدا كان التباعُدُ بين المعنيين بقدر ذلك. وأما أصلُ الاتصال فلا بد منه, يظهر ذلك عند إمعانِ النظرِ.
وذلك الاتصالُ هو حيثيّةٌ جامعةٌ لهما وإن خفِيَتْ ولما كان هذا القِسمُ هو الذي يحتاج إلى فضْلِ فِكْرٍ وقوّةِ اطّلاعٍ. أوردنا في هذا المختصَر من الأمثلة ما يكفي طالبَ هذا العلمِ ويُطْلعه على ما اشتمل عليه من الفوائد التي هى أسرارُ العربية, وسنذكر بعد ذلك إن شاء الله فوائد تُخصُّ كلَّ قسمٍ وفوائدَ تعُمّ الأقسامَ وفوائدَ تزيد المُطَّلِعَ عليها بَصيرةً في هذا العلم. إذا عرفتَ هذا فاعلم أنّ الناظرَ في علم اللغةِ إن نظَرَ إليه لقصد الاطلاعِ علي معاني الألفاظِ الموضوعةِ المستعملةِ في لسان العربِ من غير نظرٍ إلى جهةٍ جامعة لجملة من الألفاظ فهو طالبُ الاشتقاق، والقسمانِ علم اللغةِ ولكن الأولَ تطلُبُه العامّةُ والثاني تطلُبه الخاصَّةُ وإنما كان الثاني مطلوبًا للخاصة لأنه يكون لصاحبه به مَلكَةٌ مقتدَرٌ بها علي استخراج ما لم يعرِفْه [2أ] مما قد عَرَفه والعلومُ هي الملكاتُ الموصِلةُ إلى إدراك الجُزْئياتِ لا مجردُ معرفةِ الألفاظِ ومدلولاتِها من غير ملكةٍ كما يكون بالقسم الأول.
وهذا المطلبُ المختصُّ بالخاصة يحصُل بتكرير النظرِ وتدريبٍ الفكْرِ في المواد المتّفقةِ في الفاء والعينِ وها نحن نُوردها هاهنا من ذلك ما يحصّل ذلك المطلب النفيسَ الذي هو من علم اللغةِ بمنزلة الرئيس.(12/6027)
[الهمزة مع الباء الموحدة] (1)
فمن ذلك الهمزةُ مع الباء الموحَّدة فإن مدلولَها النُّفورُ والبُعدُ والانفصالُ بين الشَّبَه. انظر لفظَ أبّ وأبَتَ وأبدَ وأبَرَ وأبَقَ وأَبل وأبَنَ وأبه وأبى فإنك تجد في جميع هذه ذلك المدلولَ يقال أبّ للسير وأبَتَ اليومُ أي امتدَّ حرُّه فقطع الناسَ عن أعمالهم وأَبِد الوحْشُ نفَرَ وأبَر النخْلَ قطع شيئًا منه وأبَزَ الظبيُ وثب وانطلق وأَبقَ العبدُ إذا نفر عن مولاه، وأبِل أي توحش وأَبَنَ زيدٌ عَمْرًا إذا ذكره بسوء ففصله بذلك الذكرِ عن الخير والصلاح، وأَبَه عن الشيء تنزّه عنه أي بَعُدَ وأبى عن الضيم أي فرّ عنه وهكذا سائرُ تراكيبِ الهمزة مع الباء فإن تجد بكل واحدٍ منها شيئًا من ذلك إذا أمعنتَ النظر.
[الهمزة مع الزاي] (2)
وانظُر الهمزةَ مع الزاي [2ب] فإن مدلولَها ألصقُ في الأمر يقال أزَرَ المجلسُ إذا ضاق عن أهله وأزِقَ العيشُ إذا ضاق صدره وأزِق ضاق، وأزَل صار في ضيق وأزَم اشتد قحطُه وضاق عيشُه وأزَي الظّلُّ قلَص وضاق.
[الهمزة مع السين] (3)
وكذلك الهمزةُ مع السين المُهْملةِ فإن مدلولَها القوةُ والشدةُ يقال أسِدَ إذا قويَ غضبُه واشتد وأسَر: اشتد غضبُه وأسِف أي غضِب.
[الباء مع الحاء] (4)
ومن ذلك الباءُ مع الحاء المُهملةِ فإنّ مدلولَها التفتيشُ عن الشيء يقال بحت أي أخرج
_________
(1) (مقاييس اللغة) (1/ 6 ـ 7).
(2) انظر: (مقاييس اللغة) (1/ 13 ـ 14).
(3) انظر (القاموس) (ص1390).
(4) (لسان العرب) (2/ 321 ـ 322).(12/6028)
الشيءَ من غيره وبحث أي فتّش عن الشيء فاستخرجه وبحَّ إذا أخرج الصوتَ خشِنًا وبَحَرَ أي شق أذُنَ الناقةِ فأخرجها عما كانت عليه وبَحَمَ الماءُ إذا خرج من منبعه بكثرة.
[الباء مع الخاء المعجمة] (1)
ومن ذلك الباء مع الخاء المعْجمة فإن مدلولَها الفَقْؤْ للعين وما يشابهه يقال بخَزَ عينَه فقأَها وبخَسَ عينَه فقأَها وبخَصَ عينَه قلعها وبخَعَ الرَّكيّةَ حفَرها وبخَقَ حفَرها عينَه فقأَها.
[الباء مع الدال المهملة] (2)
ومن ذلك الباء مع الدال المهملة فإنَّ مدلولَها ابتداءُ الأمرِ وظهورُه يقال بدأ الشيءَ أي ابتدأَه وبدا الشيءُ إذا ظهرَ وبدَح فلانًا بالأمر أي أظهره له من دون رويَّةٍ وبَدخَ أظهر التعظيمَ وبَدبَر إليه بكذا إذا [3أ] أظهره له وبَدَع أي ابتدى وبَدِغ بالشر أظهره وبَدَه بالأمر أي بدأ به بديهةً.
[الباء مع الذال المعجمة] (3)
ومن ذلك الباءُ مع الذال المُعْجمة فإن مدلولَها إخراجُ الشيء يقال بَذَى أي تكلم بالفُحش فأخرجه من فمه وبذَخَ أعطى فأخرج ما عنده وبذخ أخرج شقشقته وبذر أخرج سره وأخرج ماله بغير تقدير، وبذل أعطي ما عنده فأخرجه وبذَنَ أقرَّ بما يُخفيه فأخرجه.
[الباء مع الراء المهملة] (4)
ومن ذلك الباءُ مع الراء المهملة فإن مدلولَها الظهورُ.
_________
(1) انظر (لسان العرب) (1/ 330).
(2) (القاموس) (ص42)، (لسان العرب) (1/ 334).
(3) (لسان العرب) (1/ 350).
(4) (لسان العرب) (1/ 355).(12/6029)
يقال بَرَءَ الشيءَ خَلَقه فأظهره برَتَ دل على الشيء فأظهره بَرَج ظهر ومنه التبرُّج برِحَ الخفاء ظهر. بَرَخَ زاد فظهرتْ فيه الزيادة بَرَّز ظهَر. برَزَ ظهر. برَشَ ظهر بياضُه برِص مثلُه برَض الماءُ ظهر.
[الباء مع الزاي] (1)
ومن ذلك الباءُ مع الزاى فإنّ مدلولَها خروجُ الشيء وظهورُه يقال بزَجَ أظهر فضائلَه وبَزَخَ الصدْرُ خرج. بزَر النباتُ خرج ِبزْرُه بَزْرُه بَزّه أظهر غلبتهُ بزُع الغلام ظهر طَرْفُه بزَغَت الشمسُ طلعتْ فظهرتْ بزقَتْ الشمسُ مثلُه بزَل نابُ البعير طلع. بزَن الحقُّ ظهر.
[الحاء المهملة مع الجيم] (2)
ومن ذلك الحاءُ المهملةُ مع الجيم فإن مدلولَها المنْعُ يقال حجَب منَع وحَجَر مثلُه وحجَزَ دخل بين الشيئين مانعًا وحجَل منعَ أحدَ الرِّجْلين عن المشي.
[الحاء المهملة مع الراء] (3)
ومنه الحاءُ المهملةُ مع الراء مدلولُها الشيءُ الشاقُّ: يقال: الحرُّ والحدْبُ والحرَد والحَرْقُ.
[الحاء المهملة مع الفاء] (4)
ومنه الحاءُ المهملةُ مع الفاء مدلولُها الجمعُ، يقال: خَفّ، حَفِظَ، حَفَل، حفَنَ.
_________
(1) انظر (القاموس) (ص230) و (مقاييس اللغة) (1/ 245).
(2) (لسان العرب) (3/ 50).
(3) (القاموس) (ص478).
(4) (لسان العرب) (7/ 243).(12/6030)
[الحاء المهملة مع القاف] (1)
ومنه الحاءُ المهملةُ [3ب] مع القاف مدلولُها الثبوتُ، نحو: حقِبَ، حقّ، حقَن.
[الخاء المعجمة مع الدال] (2)
ومنه الخاءُ المعجمة مع الدال المهملةِ مدلولُها التأثيرُ في الشيء نحو خَدَب، خدَّ خدَشَ خدَع خدَمَ (3) وقِسْ على هذا غيرَه فإنك إِذْ اعتبرتَ معنى بُعدِ الحروف مرتبةً على هذا الترتيبِ الذي ذكرنا وجدتَها كما بيّنا ولولا أن ذلك يطول جدًّا لذكرنا جميعَ الأقسامِ ولكن ليس الشيءُ المرادُ هنا إلاَّ تدريبَ الطالبِ.
وقال ابنُ جنّي في الخصائص (4) إنَّ الاشتقاقَ على ضربين كبيرٌ وصغير فالصغيرُ أن تأخُذَ أصلاً من الأصول فيقره أو يجمَعَ بين معانيه وإن اختلفت صِيَغُه ومبانيه، وذلك كترتيب س ل م فإنك تجدُ منه السّلامةَ في تصرُّفه نحو سَلِمَ يسْلَم وسالم وسَلْمان وسَلمى والسلامة. والسليمُ اللَّديغُ أُطلق عليه تفاؤلاً بالسلامة له وعلى ذلك بقيةُ الباب إذا تأوْلْتَه، وبقيةُ الأصول غيره (5) كتركيب ض ر ب وتركيب ح ل س وتركيب بن ب ل قال فهذا هو الاشتقاق الصغير. أمّا الاشتقاقُ الكبيرُ فهو أن نأخذ أصلاً من الأصول الثلاثية فتعقِدَ عليه وعلى تقاليبه الستةِ معنًي واحدًا يجمع التراكيبَ الستةَ عليه وما يتصرّف من كل واحدٍ منها.
وإن تباعد شيءٌ من ذلك رُدّ بلُطف الصنْعةِ والتأويلِ إليه كما يفعل الاشتقاقيّون ذلك في التركيب الواحد انتهى.
_________
(1) (لسان العرب) (3/ 253).
(2) (القاموس) (ص1420).
(3) في المخطوط خذم والصواب ما أثبتناه من القاموس.
(4) (2/ 132 ـ 135).
(5) لعل الصواب: وبقية أصول غيره.(12/6031)
وأقول قد جعل الأقسامَ قسمين صغيرً وكبيرًا ورسَم الكبيرَ بما رسمنا به الصغير ورسم الصغيرَ بما رسمنا به الأصغَر، وأهمل القسمَ الثالثَ وهو الأكبرُ وقد أوضحناه وذكرنا من أمثلته ما يتضح به معناه [4أ] وتتبين به حقيقتُه.
ولنتكلم الآن علي الاشتقاق الصغيرِ بالاصطلاح الذي قدمناه فنقول.
[تقلبات ج ب ر] (1)
مثلاً ج ب ر في جميع تراكيبه يدل علي القوة والشدة قولهم جَبَر العظمُ قوي وجَبَر الملكُ قوى ورجل مُجَرَّب إذا جَرَّبَتْه الأمورَ فاشتدت شكيمتُه ومنه الجِراب لأنه يحفَظ ما فيهِ وإذا حفِظ ما فيه قويَ واشتد وإذا أُهمِلَ وأُغفل تساقط الأبجر والبُجْرة وهو القويُّ والسرَّة، ومنه قولهم (2): أشكو عُجَري وبُجَري أي همومي وأحزاني والعُجْرةُ كل عُقدةٍ في الجسد فإذا كانت في البطن والسرّة فهي البُجْرةُ إذا غلُظت واشتدّ مسُّها وقيل: معنى عُجَري وبُجَري: ما أُبدي وأخفي من أحوالى ومن ذلك البُرْج لقوته في نفسه وقوةٍ ما يليه به علي عدوهم.
وكذلك البَرَجُ محركًا لنقاء بياضِ العينِ وصفاء سوادِها فهو لونٌ قوي. ومنه رَجَّبْتُ الرجلَ إذا عظمْتُه وقوّيتُ أمرَه ومنه رَجبٌ للشهر لكونهم يعظِّمونه ويقوّون أمرَه.
[تقلبات ق س و] (3)
ومن ذلك تركيب ق س و، ق وس، وس ق، س وق، س ق و.
_________
(1) انظر: (الخصائص) (2/ 135).
(2) عزاه ابن جني في الخصائص (2/ 135) لعلي بن أبي طالب.
وكذلك ابن منظور في (اللسان) (1/ 318).
وقال ابن الأثير في (النهاية) (1/ 96 ـ 97) وأصل العجرة نفخةٌ في الظهر فإذا كانت في السُّرة فهي بُجْرة. وقيل العُجر العروق في الظهر والبجر العروق المتعقدة في البطن. ثم نُقِلا إلى الهمومِ والأحزان أراد أنّه يشكو إلى الله أموره كلها ما ظهر منها وما بطن.
(3) انظر (الخصائص) (2/ 134).(12/6032)
وجميعُ ذلك معناه القوةُ والاجتماعُ ومنه القسوةُ وهي شدةُ القلبِ واجتماعُه، ومنه القوسُ لقوتها واجتماعِ طرَفيها ومنه الوَقْسُ بسكون القاف لابتداء الجري لأنه يجمع الجلد ومنه الوسْقُ لاجتماعه ومنه استوسَقَ الأمرُ أي اجتمع. والليل وما وسَقَ أي جمعَ، ومنه السَّوْقُ لأنه يُجْمع فيه المَسوقُ بعضُه إلى بعض.
[تقلبات س م ل] (1)
ومن ذلك تركيب س م ل، م س ل، ل م س، ل س م، م ل س. [4ب] والمعنى الجامع لهذه التراكيب الضعف واللين فالسمل الثوب الخلق والماء القليل لأنه يضعف بقلته عن الاضطراب والسليم اللديغ لضعف قوته، والمسل والمسل والمسيل واحدًا لأن الماء يجري فيه لضعفه ولو صادف حاجزًا قويًّا لأعاقه والأملس والملساء لما فيهما من اللين واللمس لأنه إمرار اليد على الملموس بدون شدة. وأما ل س م فمهمل وقيل مستعمل ومنه لسمت (2) الريح إذا مرت مرًا ضعيفًا.
[تقلبات ق وس]
ومنه تركيب ق ول، ق ل و، ول ق، ل ق و، ل وق. فالمعنى الجامع لهذه التراكيب هو الخفوق والحركة فالقول يخف به الفم واللسان، وهو ضد السكون، والقلو بكسر القاف وسكون اللام حمار الوحش وفيه خفة وإسراع ومنه قلوت الشيء لأنه إذا قلى خف وجف والوقل محركًا الوعل لحركته وخفته.
وولق يلق إذا أسرع وقوي وقرئ {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} (3) أي تسرعونه.
_________
(1) انظر (الخصائص) (2/ 137).
(2) قال ابن منظور في (اللسان) (12/ 275) لسم: ألسمه حجته كما يلسم ولد المنتوجة ضرعها.
وقال ابن شميل: الإلسام إلقام الفصيل الضرع أول ما يولد.
وقيل: اللسم السكون حياء لا عقلاً.
(3) [النور: 15]، وانظر (الجامع لأحكام القرآن) (12/ 204).(12/6033)
واللٌّوقةُ الزُّبْدُ لخفته وإسراعِ حركتِه. واللُّقْوةُ يكسر اللام وسكون القاف من أسماء العُقاب لسرعة طيرانِه ويقال للناقة السريعةِ اللِّقاحِ لِقْوة، لأنها أسرَعتْ إلى ماء الفحلِ فقَبِلَتْه ولم تَتْبُ تُبُوَّ العاقرِ.
[تقلبات ك ل م]
ومنه تركيب ك ل م، ك م ل، ل ك م، م ك ل، م ل ك. فهذه الخمسةُ مستعملةُ وأُهمل منه ل م ك (1) المعنى الجامعُ [5أ] لهذه التراكيبِ القوةُ والشدةُ فالكَلْمُ الجرْحُ لما فيه من الشدة، والكُلاَم بضم الكاف ما غلُظ من الأرض وذلك لشدته. ورجلٌ كليم أي مجروح وجريح.
وكمَل الشيءُ فهو كامل وكميل إذا تم وهو أقوى وأشدُّ من الناقص وَلَكَمَ لكمًا إذا وجَأ وضرب وفيه شدةٌ ظاهرةٌ.
ومكُلَت البئرُ بضم الكاف فهي مَكُول إذا قلَّ ماؤُها وهي إذا قلَّ مجْفُوّةُ الجانبِ وتلك شدةٌ ظاهرةٌ ومَلَكَ العجينَ إذا أنعم عجنَه فاشتد وقويَ. ومنه المُلْك لِما فيه من القوة لصاحبه والغلَبةِ وفي هذا القدر من باب الاشتقاقِ الصغيرِ بالمعنى الذي قدمناه كفايةٌ.
وأما الاشتقاقُ الأصغرُ فقد عرّفناك أن توافقَ الحروفِ الأصولِ مُرتبةً من غير اعتبار بما يفصِل منها من حروف زائدةٍ كما قدمنا في تركيب س ل م وتركيب ح ل س وتركيب ن ب ل فإنّ هذه التراكيبَ إذا استُعملت مرتبةً كانت راجعةً إلى معنى واحدٍ وإن اختلفت بالزيادة والنقصِ والحدوثِ والتجدّد وذلك كما يكون في الفعل الماضي والمستقبلِ
_________
(1) قال صاحب (اللسان) (12/ 331): لمك: الليث: لَمَكُ أبو نوح، ولامَكُ جدُّه ويقال: نوح بن لمك، لا يستعمل إلا في النفي.
قال ابن السكيت: يقال ما لَلَحَّجَ عندنا بلحاج ولا تلمّك عندنا بلماكِ وما ذاق لماكًا ولا لماجًا.
وفي النوادر: اليَلْمَكُ: الشاب الشديد.(12/6034)
والمصدر واسمي الفاعلِ والمفعولِ والصفةِ المشبهة وسائر الألفاظ التي توجد فيها الحروفُ الأصولُ مرتبةً وهذا الاشتقاقُ الأصغر هو الذي يسميه أهلُ النحوِ والصرفِ والبيانِ اشتقاقًا وعليه يُحمَل ما يرِد في استعمالاتهم كقولهم: المصدرُ الأصل الذي يُشتقّ منه الفعلُ وفروعُه، بمعنى أنها موافقةٌ له في المعنى المصدريّ وهو الحدثُ وإن زادتْ معانيها عليه بالدلالة على الزمن في الأفعال وعلى الذوات في سائر المشتقات [5ب].
وأما الاشتقاقُ الصغيرُ والكبير فقد كان القدماءُ يستعينون بهما ويُخْلِدون إليهما مع إعواز الاشتقاقِ الأصغرِ لكنهم لم يسمّوها باسمٍ خاص وإنما كانوا يستَروحون إليهما عند الضرورةِ ويتعلّلون بهما، وكان أبو عليٍّ الفارسيُّ (1) أكثرهم لزومًا لهما وعمَلاً عليهما ثم بعده الشيخُ أبو الفتح ابنُ جنّي فإنه استكثر من ذلك في مؤلفاته وقسَّمَ الاشتقاق إلى قسمين كما قدمنا ثم الزمَخْشَريّ فإنه أكثرَ من استعمال ذلك في تفسيره ثم إن جماعةً من المصنفين اقتصروا على مجرد الكلامِ في تعريفهما واضطربوا في التسمية اضطرابًا كثيرًا ولم يأتوا في تلك المباحثِ بما يستفيد به المطَّلعُ عليها فائدةً يُعتَدّ بها بحيث يَقتدِر عندها على الاستعمال، ويستوضح بها ما يحتاج إلى استيضاح.
واعلم أنه قد وقع الخلافُ في الألفاظ التي يصدُق عليها أنها من الاشتقاق الصغير أو الكبير هل كلُّ واحدٍ منها أصلٌ مستقلٌّ أو بعضُها يرجع إلى بعض.
قال في الخصائص (2) متى أمكنَ أن يكون الحرفانِ جميعًا أصلينِ كلُّ واحدٍ منهما قائمٌ برأسه لم يسُغ العدولُ عن الحكم لذلك، فإن دل دالٌّ أو دعتْ ضَرورةٌ إلى القول بإبدال
_________
(1) هو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي الأصل النحوي ولد بمدينة (فا) من أعمال فارس سنة 288هـ واشتغل في بغداد وأقام بحلب عند سيف الدولة وصاحب عضد الدولة بن بويه. توفي سنة 377هـ ببغداد.
من تصانيفه: (المقصود والمحدود)، (الحجة في القراءات).
انظر وفيات الأعيان) (2/ 81 ـ 82)، (شذرات الذهب) (3/ 88 ـ 89).
(2) (2/ 82).(12/6035)
أحدِهما عن صاحبه عُمِل بموجب الدِّلالةِ وصِيرَ إلى مقتضي الصنعةِ. من ذلك طبَرْزَلْ وطَبَرزَنْ (1) هما متساويان في الاستعمال فلستَ بأن تجعلَ أحدَهما أصلاً لصاحبه أولي منك بحَمْله على ضده.
ومن ذلك قولُهم هتَلْتْ السماء وهتنَتْ السماءُ فإنهما أصلان ألا تراهما متساويين في التصرف يقولون: هَتَنت السماءُ تهتِن تَهتِل تَهْتَالاً وهي سحائبُ هُتَّنٌ وهُتَّلٌ.
ومن ذلك ما حكاه الأصمعي قال الأصمعي: سُكّر (طبرزد) و (طبرزل) و (طبرزن) ثلاث لغات معربات. وأصله بالفارسية (تبرزَد).
(المعرب) للجواليقي (ص276) تحقيق أحمد شاكر، (لسان العرب) (8/ 118). (2) كذا في المخطوط وصوابه ما في الخصائص [الصَّيف]. (3) كذا في المخطوط وصوابه (مبيضات) كما في الخصائص (2/ 85). (4) تقدمت ترجمته. [6أ] كان أبو بكر يشتق هذه الأسماءَ من البُخار، فالميم علي هذا بدَلٌ من الباء في بَخْر وليس ببعيد عندي أن يكون الميمُ أصلاً في هذا أيضًا وذلك لقوله تعالي: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} (5) ذاهبة جائية.
قال ابنُ جنّي (6) وعلى كل حال فقولُ أبي بكرٍ أظهرُ.
وأمّا قولُهم إناءٌ قَرْبانُ وكَرْبان (7): إذا دنا أن يمتلِئَ فينبغي أن يكونا أصلين لأنك تجد كلَّ واحدٍ منهما متصرِّفًا أي قارَبَ أن يمتلِئَ وكَرَب أن يمتلئ.
_________
(1) قال الأصمعي: سُكّر (طبرزد) و (طبرزل) و (طبرزن) ثلاث لغات معربات. وأصله بالفارسية (تبرزَد).
(المعرب) للجواليقي (ص276) تحقيق أحمد شاكر، (لسان العرب) (8/ 118).
(2) من قولهم دَهْمجَ البعيرُ يدهِمج دَهْمجَةً ودَهنَجَ يُدهْنجُ دهْنَجةً إذا قارب الخطْوَ وقال بناتُ مَخْرٍ وبنات بَخْرٍ سحائبُ بِيضٌ يأتين قُبُلَ المصيَّف
(3) بِيضٌ منتصِباتٌ
(4) في السماء.
قال أبو عليٍّ الفارسيُّ
(5) [النحل: 14].
(6) في الخصائص (2/ 85 ـ 86).
(7) في المخطوط [ذكره بأن] وما أثبتناه من الخصائص.(12/6036)
وقال الأصمعيُّ (1) يقال جُعْشوشٌ بالشين المُعجمة وجُعْسوس بالسين المهملة، ويقال هم من جعاسيس الناسِ بالمهملة، ولا يقال بالشين المعجمة قال ابن جنيّ (2) فضِيقُ الشيِّن معَ سَعَة السين يُؤذِنُ بأن الشينَ بدلٌ (3) وكأنه اشتُقَّ من الجَعْس، وذلك أنه شبّه الساقطَ الهيِّن من الرجال بالخَرء لذِلّه ونَتْنِه.
ومن ذلك قولُهم فُسطاطٌ وفُستاط وفُسَّاط بضم الفاء وكسرها في الجميع فذلك ستُّ لغاتٍ، فإذا صاروا إلى الجمع قالوا فَساطيط وفَساسيط، ولم يقولوا فساتيط بالتاء فهذي بدل على أنَّ التاء بدلٌ من الطاء أو السين ونحوُ هذا كثير.
وقال ابنُ جنّي في الخصائص (4) أيضًا إن كلَّ لفظين وُجد فيهما تقديمٌ وتأخيرٌ فأمكن أن يكونا جميعًا أصلين ليس أحدُهما مقلوبًا عن صاحبه فهو القياسُ الذي لا يجوز غيرُه، وإن لم يكن ذلك حكمْتَ أن أحدَهما مقلوبٌ عن صاحبه ثم نظرتَ أيُّهما الأصلُ وأيُّهما الفرعُ فممّا هما أصلانِ لا قلبَ فيهما قولُهم جَذَب وجَبَذَ ليس أحدُهما مقلوبًا عن صاحبه وذلك أنهما جميعًا يتصرفان تصرُّفًا واحدًا يقول جَذَبَ جذْبًا فهو جاذِبٌ و [المفعول] (5) مجذوبٌ وجبَذ يجبِذ جبْذًا فهو جابِذٌ و [المفعول] (6) مجبوذ.
فإن جعلْتَ مع هذا أحدَهما أصلاً لصاحبه فسَدَ ... ذلك لأنك لو فعلْتَه لم يكن أحدُهما أسعدَ بهذه الحالِ من الآخر، فإنْ قصُرَ أحدُهما عن تصرُّف صاحبِه ولم يساوِه فيه كان أوسعُهما تصرُّفًا أصلاً لصاحبه، ونحوُ هذه الألفاظِ كثيرٌ والمعيارُ أن تنظُرَ هل يجمعُهما
اشتقاقٌ من أصلٍ أمْ لا فإن جَمَعَهما كان ما فيه حروف الأصلِ أصلاً للآخر الذي فيه تبديلُ بعضِ الحروفِ بحرف آخَرَ [6ب] كما في بَخَر ومخَر من البُخار فهذه فائدةً من فوائد الاشتقاقِ. وإذا لم يكونا مشتقَّين من أصل كان الأوسعُ تصرفًا واستعمالاً منهما أصلاً للأضيق.
[تداخل الأصول الثلاثية] (7) وقال في الخصائص (8): اعلم أنَّ الثلاثيَّ على ضربين أحدُهما ما يصفو ذوقُه ويسقُط عنه التشكّكُ في حروف أصلِه، كضرب وقتل وما تصرف منهما فهذا ما لا يُرتاب به في جميع تصرُّفِه نحو ضارب ويضرِب ومضروب، وقاتل وقِتال واقتتل القومُ ونحوُ ذلك فما كان هكذا مجردًا واضحَ الحالِ من الأصول فإنه يحمي نفسَه وينفي الظنَّ عنه.
والآخر أن تَجدَ الثلاثيَّ على أصلين متقاربين والمعنى واحدٌ فهاهنا يتداخلان ويُوهِم كلُّ واحدٍ منهما كثيرًا من الناس أنه مِن أصل صاحبِه وهو علي الحقيقة من أصل غيره، وذلك كقولهم رِخْوٌ ورخْوَدّ فهما كما ترى شديدَا التداخلِ لفظًا، وكذلك هما بمعنى واحد وإنما تركيبُ رِخْو وتركيبُ رِخْوَدّ من ر خ د، وواو رِخْوا زائدةٌ فالفاءُ والعينُ من رِخْو ورِخْوَدّ متفقتان لكن لاماهما مختلفان والرِّخْو الضعيف والرِّخْوَدُّ المتثنّي، والتثنّي عائدٌ إلى معنى الضعف فلما كانا كذلك أوقعا الشكَّ (9) ومن ذلك قولهم رجلٌ ضيّاطٌ وضَيْطار فقد ترى تشابُهَ الحروفِ والمعنى مع ذلك واحدٌ فهو أشدُّ لالتباسه (10).
وإنما ضيّاط من تركيب ض يَ ط وضيطار [من تركيب] (11) ض ط ر.
_________
(1) ذكره ابن جني في (الخصائص) (2/ 86).
قال في (لسان العرب) (2/ 297) الجعشوش: الطويل، وقيل: الطويل الدقيق، وقيل: الدميم القصير الذَّريُّ العميء منسوب إلي قَمْأة وحيفر وقلّة.
(2) في (الخصائص) (2/ 86).
(3) في (الخصائص) بدل من السين. نعم، والاشتقاق يعضد كون السين ـ غير معجمة ـ هي الأصل.
(4) (2/ 69 ـ 70) باب في الأصلين (يتقاربان في التركيب بالتقديم والتأخير).
(5) زيادة من (الخصائص) (2/ 70).
(6) زيادة من (الخصائص) (2/ 70).
(7) (2/ 44).
(8) زيادة من الخصائص (2/ 44).
(9) في الخصائص قوله: (لمن ضعف نظره).
(10) في الخصائص [فهو أشد لإلباسه].
(11) زيادة من الخصائص (2/ 45).(12/6037)
ومن ذلك لُوقةٌ وأَلوقةٌ (1) وصوصٌ وأَصوصٌ (2) ويَنْجوج وألنَجْوج ويَلَنْجوج (3) وضيفٌ وضيَفنٌ وسَبِطٌ وسِبَطْرٌ.
[تقارب الحروف لتقارب المعاني] (4)
قال صاحب الخصائص (5) إنها تتقارَبَ الحروفُ لتقارُب المعاني. قال وهذا بابٌ واسعٌ من ذلك قولُ الله سبحانه {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83] أي تُزْعِجُهم وتُقلِقُهم فهذا في معنى تهزّهم هزًّا, والهمْزَةُ أهتُ الهاءِ فتقارَبَ اللفظانِ لتقارُب المعنيين فكأنهم خصُّوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء وهذا المعنى أعظمُ في النفوس من الهزّ, لأنك قد تُهزّ [مالا حَركَ به] (6) كالجِذْع وساقِ الشجرة ونحو ذلك, فقد ترى أيضًا تصاقُبَ اللفظين لتصاقُب المعنيين. (7).
ومنه القَرْمةُ وهى [ما] (8) تُحزّ من أنف البعير, وقريبٌ منه قلَّمْتُ أظفاري لأنَّ هذا
_________
(1) قال أبو عبيد: هو مأخوذ من اللوقة، وهي الزبدة في قول الفراء والكسائي.
وقال ابن الكلبي: هو الزبد بالرطب. واللُّوقة: الرطب بالزُّبْد وقيل بالسمن.
(لسان العرب) (12/ 309).
(2) صوص: رجل صوص: بخيل والعرب تقول: ناقةٌ أصوصٌ عليها صُوصً أي كريمة عليها بخيل.
والصُّوصُ: الرجل المنفرد بطعامه لا يؤاكل أحدًا.
(3) اليَنْجُوج والأنجوج: العود الذي يتبحَّرُ به. قال ابن الأثير: كأنَّه يَلجُّ في تضوُّع رائحته، وهو انتشارها. (لسان العرب) (14/ 44).
(4) زيادة من الخصائص (2/ 146).
(5) (2/ 146ـ 152).
(6) في (الخصائص) [مالا بال له]. (2/ 146).
(7) (2/ 146ـ 152).
(8) في (الخصائص) (2/ 146) [وهى الفقرة].(12/6039)
[7أ] انتفاصُ الظُّفْرِ وتلك انتفاصُ الجلد. قالوا فالراء أختُ اللام والعَملانِ متقاربان. وعليه قالوا (فيها) (1) الجَرْفةُ وهى من ج ر ف وهى أختُ جلَفْتَ القلمَ أخذتُ جِلْفَته, وهذا من ج ل ف وقريبٌ منه الجَنَفُ, وهو الميلُ, وإذا جَلَفْتَ الشيء أو جرَفْتَه فقد أَمَلْتَه عما كان عليه وهذا من ج ن ف.
ومنه العَسَْف والآسَف وتاعينُ أختُ الهمزة كأنّ الأسَفَ يعسِف النفسَ وينال منها والهمزةُ أقوى من العين كما أنَّ أسَفَ النفسِ أغلظُ من التودُد والعسْفِ (2) فقد ترى تعاقب اللفظين.
لتعاقب المعنيين ومثله تركيب ع ل م في العلامة والعَلَم وقالوا مع ذلك بَيضةٌ عَرْماءُ وقطيعٌ أعْرمُ، إذا كان فيها سوادٌ وبياضٌ وإذا وقع ذلك بأن أحدُ اللونَيْنِ من صاحبه، فكان كلُّ واحدٍ منهما علمًا لصاحبه وهو من ع ر م.
ومن ذلك تركيبُ ح م س.
وح ب س قالوا: حبستُ الشيءَ وحَمسَ الشرٌّ أي اشتدّ. والتقاؤُهما أن الشيئين إذا حبَس أحدُهما صاحبَه تمانعا وتعارّا فكان ذلك كالشر يقع بينهما.
ومنه العَلْبُ الأثرُ والعلْمُ الشقٌّ في الشَّفة العُلْيا فهذا من ع ل ب والباءُ أختُ الميم.
ومنه تركيبُ ق ر د وتركيبُ ق ر ت قالوا: قرِدَ الشيءُ إذا تجمّع وقالوا قرَتَ الدمُ إذا جمَدَ والتاءُ أختُ الدال.
ومن ذلك العَلَزُ للخِفّة والطَّيش، والقَلَق، والعَلَصُ لوجع في الجوف يلتوي منه ويَقْلَق والزاي أختُ الصاد.
ومنه الغَرْبُ وهي الدلْوُ العظيمةُ، وذلك أنها تغرِف من الماء، والفاء أختُ الباء.
واستعملوا تركيبَ ج ب ل وتركيب ج ب ن وتركيب ج ب ر لتقاربها في موضع
_________
(1) زيادة من الخصائص (2/ 147).
(2) كذا في المخطوط والذي في الخصائص (التردد بالعسْف فقد ترى تعاقُب اللفظين لتعاقب المعنيين).(12/6040)
واحد وهو الالتئامُ والتماسكُ ومنه الجبلُ لشدّته وقوّته وجَبُن إذا استمسك وتوقّف، ومنه جَبَرْتُ العظمَ أي قوَّيْتُه.
وقد تقع المضارعَةُ في الأصل الواحدِ بالحرفين نحوُ السَّحِيل والصَّهِيْل فهذا من س ح ل وهذا من ص هـ ل والصاد أخت السين، كما أنَّ الهاء أختُ الحاء ونحوُ قولِهم سحَلَ في الصوت وزَحَر فالسين أختُ الزاي كما أنَّ اللامَ أختُ الراء. وقالوا: جَرَف وجَلَم فهذا للتقشير وهذا للقطع وهما متقارِبان معنًي ومتقاربان لفظًا، لأنَّ هذا من ج ل ف [7ب] وهذا من ج ل م نعم.
وتجاوزوا ذلك إلي أن ضارعوا بالأصول الثلاثةَ. الفاء والعينِ واللام فقالوا عصرَ الشيءَ وقالوا أزَلَهُ إذا حبَسه. والعصْرُ ضربٌ من الحبس فهذا من ع ص ر وهذا من أزَل والعينُ أختُ الهمزةِ والصاد أختُ الزاي، والراء أختُ اللام.
وقالوا الأَزْمُ المنعُ والعصْبُ الشدُّ فالمعنَيانِ متقاربان، والهمزةُ أختُ العين، والزاي أختُ الصادِ والميم أختُ الباءِ، وهذا من أزَم وهذا من عصب (1). وقالوا السلْبُ والصَّرفُ فإذا سُلِبَ الشيء فقد صُرِف (2) والسين أختُ الصاد واللام أختُ الواو والباء أختُ الفاء.
وقالوا الغَدْرُ كما قالوا الختْلُ والمعنَيان متقاربان واللفظانِ متراسلا فهذا من غ د ر وهذا من خ ت ل فالعين أختُ الخاء والدال أختُ التاء والراء أختُ اللام.
وقالوا زأَر الأسدُ كما قالوا سعَل لتقاربُ اللفظ والمعنى.
وقالوا: عَدَنَ بالمكان كما قالوا: [تأطَّر] (3) أي أقام وثبت وقالوا ضرب كما قالوا جَلَفَ لأن شارب الماء مغن له كالجالف للشيء وقالوا: صَهَلَ كما قالوا: زأَر، وقالوا تجعَّد
_________
(1) انظر (الخصائص) (2/ 149).
(2) في (الخصائص) (2/ 149) فقد صرف عن وجهه فذاك من (س ل ب) وهذا من (ص ر ف).
(3) في المخطوط [اطرا] والصواب ما أثبتناه من الخصائص (2/ 150).(12/6041)
كما قالوا تشحّط وذلك أنّ الشيءَ إذا تجعَّد وتَقَبَّض عن غيره شحَطَ وبُعَد عنه. وهذا من تركيب ج ع د وهذا من تركيب ش ح ط والجيم أختُ الشين والعين أختُ الحاء والدال أختُ الطاء.
وقالوا السيفُ والصَّوبُ، وذلك أن السيفَ يوصَفُ بأنه يَرْسُب في الضَّرِيبة لِحدّته، ولذلك قالوا سيفٌ رَسوبٌ وهذا هو معني صاب يصوب إذا انحدر، فهذا من س ي ف وهذا من ص وب والسين أختُ الصاد، والباء أختُ الواو، والفاء أختُ الباء.
وقالوا جاع يجوع وشاء يشاءُ فالجائع مريدٌ للطعام لا محالة، ولهذا يقول المدْعوُّ إلى الطعام إذا لم يُجبْ لا أُريده ولست أشتهي ونحوَ ذلكن والإرادةُ هي المشيئةُ وهذا من ج وع وهذا من ش ي أ فالجيم أختُ الشين والواو أختُ الياء والعين أختُ الهمزة.
وقالوا هو حِلْسُ بيتِه إذا لازمه.
وقالوا: أرَز الشيءُ إذا اجتمع نحوَه وتقبّض إليه ومنه: «إن الإسلامَ لَيأرِزُ إلى المدينة» (1) فهذا من ح ل س وهذا من أرَز، والحاء أختُ الهمزة [8أ] واللام أختُ الراء والسين الزاي وقالوا أَفَلَ كما قالوا غَبرَ لأن أَفَلَ غاب والغابرُ آفِل أيضًا فهذه من أ ف ل وهذا من غ ب ر فالهمزة أختُ الغين والفاء أخت الباء واللام أختُ الراء.
قال ابنُ جني (2) وهذا (3) موجود في أكثر الكلام وإنما بقيَ من يُثيره ويبحث عن مكنونه، بل من إذا أوضح (4) له وكُشِفَ عنده حقيقتُه أطاع طبعُه له فوعاه، وهيهاتَ ذلك مطلبًا، وعَزّض فيهم مذهبًا. وقد قال أبو بكر: مَن عَرَفَ ألِفَ ومن جهلِ استوحش، ونحن نُتْبع هذا الباب بابًا أغربَ منه وأدلَّ علي حكمة اللهِ سبحانه تقدستْ
_________
(1) وهو حديث صحيح تقدم تخريجه وتمامه [إنّ الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحيّة إلى جحرها] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) في الخصائص (2/ 152).
(3) عبارة الخصائص هكذا (وهذا النحو من الصنعة موجود).
(4) انظر: الخصائص (2/ 152).(12/6042)
أسماؤُه فتأمَّلْه تحْظَ به (1).
[إمساس الألفاظ أشباه المعاني] (2)
وقد نبّه عليه الخليلُ وسِيبَويهِ وتلقَتْه الجماعةُ بالقَبول والاعتراف بصِحتّه.
قال الخليلُ كأنهم توهّموا في صَوْت الجُنْدُبِ استطالةً [ومدّا] (3) فقالوا: صرَّ وتوهّموا في صوت البازي تقطيعًا صَرْصَر.
وقال سيبويه (4) في المصادر التي جاءت على الفَعَلان إنها تأتي للاضطراب والحركة نحو [النفزان] (5) والغَلَيان والغَثيان فقابلوا بتوالي الحركاتِ في المثال تواليَ الحركَاتِ في الأفعال.
قال ابنُ جني (6) ووجدْتُ أنا من هذا الحديثِ أشياءَ كثيرةٌ على سَمْتِ ما حَدّاه وِمنهاجِ ما مثَّلاه، وذلك أنك تجد المصادرَ الرُّباعية المضعَّفة تأتي للتكرير والزعْزعةِ نحو القلْقلة والصَّلْصَلة والصَّعْصَعة والجَرْجرة والقَهْقَرة، ووجدتُ أيضًا (الفَعَلَى) من الصفات والمصادرِ إنما تأتي للسًّرعة نحوُ: البَشَكَى والجَمَزَى والوَقَلَى والحيدَى (7) فجعلوا
_________
(1) قال ابن جني في (الخصائص) (2/ 152) اعلم أنَّ هذا موضع شريف لطيف ... ].
(2) من الخصائص (2/ 152).
(3) زيادة من الخصائص (2/ 152).
(4) في الكتاب (4/ 14 ـ 17) تحقيق عبد السلام هارون.
قال سيبويه: (ومن المصادر التي جاءت علي مثال واحد حين تقارب المعاني قولك: النَّزوان والنَّفزان والقفزان. وإنّما هذه الأشياء في زعزعة وتحرك. ومثله الغثيان لأنّه تجيْش نفسه وتثور، ومثله الخطران واللّمعان لأن هذا اضطراب وتحرّك، ومثل ذلك اللهبان والوهجان لأنّه تحرّك الحرّ وتثوره فإنما هو بمنزلة الغليان).
(5) في المخطوط [النَفران] وما أثبتناه من الخصائص.
(6) في (الخصائص) (2/ 152).
(7) وردت في قول الشاعر: أمية بن أبي عائذ الهذلي:
كأني وَرْحلي إذا هجَّرت ... على جَمَزَى جازيء بالرمال
أو أصحم حامٍ جرامِيزه ... حزابية حَيَدَى بالدِّحالِ
انظر: (اللسان) (2/ 352)، (الخصائص) (2/ 153).
قال ابن منظور: شبه ناقته بحمار وحشي ووصفه وحشي، وهو السريع وتقديره على حمار حَمزَى.(12/6043)
المثالَ المكرّر أعنى بابَ القلقلة، والمثالَ الذي توالت حركاتُه للأفعال التي توالت الحركاتُ فيها.
ومن ذلك ـ وهو أصنَعُ منه ـ أنهم جعلوا (استفعل) في أكثر الأمرِ للطلب، نحو استسْقَي واستطعَمَ واستوهَب واستمنَحَ [واستودَعَ عَمْرًا] (1) واستصرخ جعفرًا. فرُتّبتْ في هذا البابِ الحروفُ على ترتيب الأفعالِ، وتفسيرُ ذلك أن الأفعالَ المُحَدَّثَ عنها أنها وقعتْ عن غير طلبٍ إنما تَفجَأُ حروفُها الأصولَ أو ضارَعَ بالصنعةَ الأصولَ.
فالأصولُ نحوُ قولِهم طَعِم ووهَب [8ب] ودخل وخرج وصعد ونزل، فهذا إخبارٌ بأصول فاجَأتْ عن أفعالٍ وقعتْ، ولم يكن معها دِلالة تدل على طلب لها ولا إعمالَ فيها، وكذلك ما تقدمت الزيادةُ فيه على سَمْت الأصلِ نحوُ أحسَنَ وأكرم وأعطى وأوْلى، فهذا من طريق الصنعةِ بوزن الأصل نحو دحْرجَ وسرْهَفَ وقَوْفَى وزَوْزَي وذلك أنهم جعلوا هذا الكلامَ عباراتٍ عن المعاني وكلما ازدادتْ العبارةُ شبَهًا بالمعني كانت أدلَّ عليه وأشهَرَ بالعَرَض فيه، فلما كانت إذا فاجَأت الأفعالَ فاجَأتْ أصول المثلِ الدّالةِ عليها أو ما جرَى مَجْرى أصولِها نحوُ وهَب ومنَح وأكرَم وأحسَنَ كذلك إذا أخبْرتَ أنك سعَيتَ فيها وتسبَّبتَ لها وجب أن تَقدِّمَ أمامَ حروفِها في مُثُلها الدالةِ عليها أحرُفًا زائدةً على تلك الأصولِ تكونُ كالمقدِّمة لها والمؤدّيةِ إليها.
وذلك نحو استفعل فجاءتِ الهمزةُ والسين والتاء زوائد، ثم وردَتْ بعدَها الأصولُ: الفاءُ والعينُ واللامُ، فهذا من اللفظ وفْقَ المعنى الموجودِ هنالك، وذلك أن الطلبَ للفعل والتماسَه والسعْيَ في والتأتِّيَ لوقوعه تقدَّمه ثم وقعت الإجابةُ إليه فتبع الفعلُ السؤالَ فيه
_________
(1) كذا في المخطوط وفي (الخصائص) (2/ 153) استقدم عمرًا.(12/6044)
والتسبيبَ لوقوعه. فكما تبِعَتْ أفعالُ الإجابةِ الطلبَ كذلك تبِعَتْ حروفُ الأصلِ الحروفَ الزائدةَ التي وُضعت للالتماس والمسألة.
وذلك نحوُ استخراج واستقدم واستوهب واستمنَحَ واستعطى واستَدْني فهذا على سَمْت الصنْعةِ التي تقدّمت في رأي الخليل وسيبَويه إلاَّ أنّ هذه أغمضُ من تلك غيرَ أنها وإن كانت كذلك فإنها منْقولةٌ عنها ومعقودةٌ عليها ومَنْ وجَد مقالاً قال به وإن لم يَسبِقْ إليه غيرُه. فكيف به إذا تبِعَ العلماءَ فيه وتلاهم على [تمثيل] (1) معانيه.
ومن ذلك جعلوا تكريرَ العينِ في المثال دليلاً على تكرير الفعل فقالوا: كَسَّرَ وقطَّع وفتَّح وغلَّق وذلك أنهم إذا جعلوا الألفاظَ دليلةَ المعاني [فأقوى] (2) اللفظِ ينبغي أن تقابَلَ به قوةُ الفعلِ والعينُ أقوى من الفاء واللام، وذلك أنها واسطةٌ لهما ومكنوفَةٌ لهما فصارا كأنهما سياجٌ لها ومبذولان للعوارض دونها. (3)
فأما حذفُ الفاءِ ففي المصادر من باب وعد نحو العِدَة والزِّنة والهِبَه. وأما اللام فنحو اليد والدم والفم والأب والأخ والسَّنَة، وقَلّما تجد الحذفَ في العين.
فلَّما كانت الأفعالُ دليلةَ المعاني كرّروا أقواها وجعلوه دليلاً على قوة المعنى المحدَّثِ به وهو تكريرُ الفعل، كما جعلوا تقطيعَه نحو صَرْصَرَ دليلاً على تقطيعه ولم يكونوا ليضعّفوا الفاءَ ولا اللامَ لكراهية [المضعَّفِ أن يجيءَ في آخرها] (4) وهو مكانُ الحذفِ وموضعُ الإعلال، وهم قد أرادوا تحصينَ الحرفِ [9أ] الدالِّ على قوة الفعلِِ، فهذا أيضًا من مساوقة الصنْعةِ للمعاني.
وقد أتبعوا اللامَ في باب المبالغة العينَ وذلك إذا كُرّرت العين معها في نحو دَمَكْمَك
_________
(1) في المخطوط [مثيل] وما أثبتناه من الخصائص (2/ 155).
(2) في المخطوط فقوّاه وما أثبتناه من الخصائص (2/ 155).
(3) قال ابن جني في الخصائص (2/ 155): ولذلك تجد الإعلال بالحذف فيها دونها.
(4) العبارة اعتراها سقط: وهي في (الخصائص) (2/ 155) كما يلي: التضعيف في أول الكلمة.
والإشفاق على الحرف المضعّف أن يجيء في آخرها.(12/6045)
وصَمَحْمَح وعَرَكْرَك وعصَبْصَب وغَشَمْشَم، والموضعُ في ذلك للعين، وإنما ضامَّتْها اللامُ هنا تبعًا لها ولاحقةً بها، ألا ترى إلى ما جاء عنهم للمبالغة من نحو اخلَوْلق واعشَوْشب واغدَوْدَنَ واحْمَوْمي واذْلَولي وكذلك في الاسم نحوُ عَثَوثل وغدَوْدَن وعَقَنْقَلٍ وهَجَنْجَل، وكلُّ واحدٍ من هذه المُثُل قد فُصِل بين عينيه بالزائد (1)، فعلمتَ أن تكريرَ العينِ في باب صَمَحْمَح إنما هو للعين وإن كانت اللامُ فيه أقوى من الزائد في باب افعَوعَل وفَعَوعَل وفَعَيعَل وفَعَنْعل لأنّ العينَ باللام أشبهُ من الزائد بها، ولهذا ضاعفوها أيضًا كما ضاعفوا العينَ للمبالغة نحو عُتُلٍّ وصُمُلٍّ وحُزُقٍّ ألاَّ ترى أنَّ العينَ [أقعدُ] (2) في ذلك من اللام، فإنّ الفعلَ الذي هو موضوعٌ للمعاني لا يُضعَّف ولا يؤكد تكرير إلاَّ بالعين. هذا هو الباب. فأما اقعنسَسَ واسْحَنكَكَ فليس الغرضُ فيه [التوكيد و] (3) التكريرَ لأنّ ذا إنما ضُعِّف للإلحاق، فهذا طريقٌ صناعيةٌ وبابُ تكريرِ العينِ هو طريقٌ معنْويّةٌ، ألا ترى أنهم لمّا اعتزموا إفادةَ المعنى توفّروا عليه وتحامَوا [طريق] (4) زيادة من الخصائص (2/ 156). الصَّنعةَ والإلحاقَ فيه، فقالوا قطّع وكسّرَ تقطيعًا وتكسيرًا ولم يجيئوا بمصدره على مثال الفَعْلَلَة فيقولون قطعة ولا كَسَّرةً كما قالوا في الملحق: يبطَرَ بيْطرةً وحَوْقَل حَوْقلةً وجَهْوَرَ جَهْورةً.
ويدلُّك على أن افعَوعَلَ لما ضُعّفت عينه للمعني انصرف به عن طريق الإلحاق تغليبًا للمعنى على اللفظ وإعلامًا أنَّ قدْرَ المعنى عندهم أعلى وأشرفُ من قدْر اللفظِ أنهم قالوا في افعوعَل من رَدَدْتُ: ارْدَوَدَّ، ولم يقولوا اردَوْدَدَ فيظهَرَ التضعيفُ للإلحاق كما أظهروه في نحو اسحَنْكَكَ لما كان للإلحاق باحْرَنجمَ واخرنطم ولا تجد في بُنات الأربعةِ نحو احْرَوْجَمَ حتى يقال إن افعوعل من رَدْدتَ فيقال اردَوْدَدَ لأنه لا مثالَ له رباعيًا فيُلْحقَ هذا به، فهذا طريقُ المُثُل واحتياطاتُهم فيها بالصنعة ودَلالاتُهم منها على الإرادة والبُغْية.
_________
(1) قال في (الخصائص) (2/ 156): لا باللام.
(2) في المخطوط (أبعد) وما أثبتناه من الخصائص (2/ 156).
(3) زيادة من الخصائص (2/ 156).
(4) زيادة من الخصائص (2/ 156).(12/6046)
وهذا مما يوضح لك سِرَّ ما أسلفنا في الاشتقاق، وتبيّن لك أن العربَ لا يجعلون فعلاً من الأفعال أو اسمًا من الأسماء موافقًا لفعل أو اسم آخرَ على الصفة التى قدمنا [9ب] إلاَّ وقد راعَوا معنًي يجمعُهما قريبًا أو بعيدًا فإنهم قد راعَوا ذلك في الألفاظ التي ليس بينها من الاتصال والعلاقةِ ما بين ما يصدُق عليه مسمَّى الاشتقاقِ من الألفاظ كما قدمنا الإشارةَ إليه بل لقد وقعت المُراعاةُ منهم لما هو دون ما ذكرنا فإنهم قد قابلوا الألفاظَ بما يشاكل أصواتَها من الأحداث [فيجعلون كثيرًا] (1) أصواتَ الحروفِ على سمْت الأحداثِ المعبَّرِ بها [عنها فيجد قوّتَها بها] (2) كقولهم خَضم وقَضِم فالخضْمُ لأكل الشيء الصُّلْب اليابسِ نحوُ قضِمَت الدابّةُ شعيرَها، ومنه قولُهم (قد يُدْرك الخَضْمُ بالقضْم) أي قد يُدرك الرخاءُ بالشدة واللينُ بالشظف، ومنه قول أبي الدرداء يخْضِمون ونقْضَم، والموعِدُ الله (3) فاختاروا الخاءَ لرَخاوتها للرَّطْب والقافَ لصلابتها لليابس فحَذَوا بمسموع الأصواتِ على خَذْو محْسوسِ الأحداث.
ومن ذلك قولُهم النضْحُ بالمهملة للماء الخفيف لدقّةِ الحاء المُهْمَلة وجَعلوا النضْخَ بالخاء المُعجمة لما هو أقوى منه لِغِلَظ الخاء المُعْجمة.
_________
(1) ولعلها: (وذلك أنهم كثيرًا ما يجعلون) كما في الخصائص (2/ 157).
(2) والعبارة كما في (الخصائص) (2/ 157): فيعدّلونها بها، ويختذونها عليها. وذلك أكثر مما تقدره وأضعاف ما نستشعره.
(3) قال ابن الأثير في (النهاية) (2/ 44) (خضم) في حديث علي رضي الله عنه: فقام إليه بنو أميّة يخضمون مال الله خضم الإبل نبته الرَّبيع).
الخضم: الأكل بأقصى الأضراس، والقضم بأدناها: خضم يخضم خضمًا.
ومنه حديث أبي ذر: «تأكلون خضمًا ونأكل قضمًا».
وفي حديث أبي هريرة: «أنّه مرَّ بمروان وهو يبني بنيانًا له، فقال: ابنوا شديدًا وأمّلوا بعيدًا، واخضموا فستقضموا».(12/6047)
ومن ذلك قولُهم القَدُّ طُولاً والقَطّ عَرْضًا وذلك لأنّ الطاء أخصَرُ للصوت وأسرعُ قطْعًا له من الدال فجعلوا الطاءَ المتأخِّرة لقطع العَرْض لقُربه وسُرعتِه والدالَ لِما طَالَ من الأثَر وهو قطْعُه طولاً.
ومنه قولُهم قَرَتَ الدمُ وقَرِدَ الشيءُ وتقرَّد، وقرَط يقرُط فالتاء أخفّ الثلاثةِ فاستعملوها في الدم إذا جفّ لأنه قَصْدٌ ومستخَفٌّ في الحِس (1) وقرِد من القَردَ لما يُخفى صوتَه، ويقال من القرْد وذلك لأنه موصوفٌ بالقِلّة والذِّلة. قال الله سبحانه: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (2) [وجعلوا الطاءَ وهي أعلى الثلاثةِ صَوْتًا للقَرْط الذي يُسمع]. (3)
ومن ذلك قولُهم الوسيلةُ والوَصيلة، فالصاد أقوى من السين لِما فيها من الاستعلاء فكانت الوصيلةُ أقوى من الوسيلة وذلك أن التوسّلَ ليست له عِصْمة الوصْلِ والصِّلة، لأن الصِّلةَ أصلها من اتصال الشيء بالشيء ومُماسّتِه له وكونِه في أكثرِ الأحوال بعضًا له، كاتصال الأعضاءِ بالإنسان، وهي أبعاضُه، ونحوُ ذلكِ، والتوسُّلُ معنًى يضعُفُ ويصْغُر أن يكونَ المُتوسَّل إليه، وهذا واضح، فجعلوا الصادَ لقوتها للمعنى الأقوى والسينَ لضَعْفها عنها للمعنى الأضعفِ.
ومن ذلك قولهم خذا يخْذو بالواو لاسترخاء الأُذُن وخذأَ يخْذَأ بالهمزة للذل، والواو أضعفُ من الهمزة، واسترخاءُ الأُذنِ دون الذلِّ لأنّ الاسترخاء ليس من العيوب التي يُسَبُّ بها بخلان الذل (4).
_________
(1) قال في (الخصائص) (2/ 158): عن القرْدد الذي هو النباك في الأرض ونحوها. وجعلوا الطاء وهي أعلى الثلاثة صوتًا ـ للقرط الذي يسمع.
(2) [البقرة: 65].
(3) موضعها بيناه آنفًا.
(4) والعبارة في الخصائص (2/ 160). ومن قولهم: (الخذا) في الأذن، و (الخذأ: الاستخذاء) فجعلوا الواو في خذواء ـ لأنها دون الهمزة صوتًا ـ للمعنى الأضعف. وذلك أن استرخاء الأُذن ليس من العيوب التي يُسبُّ بها ولا يتناهى في استقباحها. وأما الذل فهو من أقبح العيوب، وأذهبها في المزراة والسبّ فعبروا عنه بالهمزة لقوتها، وعن عيب الأذن المحتمل بالواو لضعفها، فجعلوا أقوى الحرفين لأقوى العيبين، وأضعفهما لأضعفهما.(12/6048)
ومن ذلك جفأ الوادي يجفُو بالواو وجفَأ [10أ] بالهمزة فإنّ فيهما معنى الجفا لارتفاعهما، يقال جفا الشيءُ يجفو وجفأ الوادي يجفأ ولكنهم استعملوا الهمزة في الوادي لقوة دفْعِه.
ومن ذلك سِعِدَ وصَعِدَ فالصاد لما كانت أقوى لِما سلف من كونها من حروف الاستعلاء جعلوها لِما فيه أثَرٌ مشاهَدٌ يُرى وهو الصعود في الجبل والحائط ونحوِ ذلك وجعلوا السين لما فيها من الضَّعف لما لا يظهر ولا يشاهد حِسًّا إلاَّ أنه مع ذلك فيه صُعودُ الجَدِّ لا صعودُ الجسْمِ، ألاَّ تراهم يقولون هو سعيدٌ وهو عالي الجَدِّ، وقد ارتفع أمرُه وعلا قدره. (1)
ومن ذلك قولهم سَدَّ وصَدَّ فالسدّ دون الصّدِّ، لأنّ السدِّ للباب والمنْظَرَة والصَّدَّ جانبُ الجبَل والوادي والشِّعب، وهذا أقوى من السدّ الذي يكون لثُقْب الكُوَّة ورأسِ القارورة.
ونحو ذلك.
ومن ذلك القَسْمُ والقَصْمُ فالقصْمُ أقوى فعلاً من القسم، لأنّ القصْمَ يكون معه الدقُّ، وقد يُقسم بين الشيئين فلا يُنكأ أحدُهما فلذلك خُصَّت بالأقوى الصاد، وبالأضعف السين.
ومن ذلك تركيبُ ق ط ر وتركيبُ ق د ر وتركيب ق ت ر فالتاءُ خافيةٌ مستقلة والطاء ساميةٌ متَصَعَّدةٌ فاستُعمِلَتا لعاديهما في الطرفين كقولهم: قَطْر الشيءِ وقَتْرهُ،
_________
(1) قال ابن جني في (الخصائص) (2/ 161): (فجعلوا الصاد لقوتها، مع ما يشاهد من الأفعال المعالجة المتجشمة، وجعلوا السين لضعفها، فيما تعرفه النفس، وإن لم تره العين والدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوية.(12/6049)
والدال بينهما ليس لها صعودُ الطاءِ، ولا نُزول التاءِ فلذلك كانت واسطةً بينهما فَعُبّر بها عن معظم الأمرِ ومُقابلتِه فقيل قدرُ الشيء لجُماعه.
وينبغي أن يكون قولُهم قطرَ الإناءُ الماءَ إنما هو فَعَلٌ من لفظ القُطْر ومعناه ذلك لأنه [إنما ينقط] (1) الماء من صفحته الخارجةِ وهو قُطْرُه، فاعرِف ذلك فهذا ونحوُه إذا أنت أَتيتَه من بابه وأصلحْتَ فكرَك لتناوُله وتأمُّله أعطاك مَقادَه وأركبك ذُروتَه، وجلّي عليك [بهجاتُه] (2) ومحاسنة وإنْ أنت تناكَرْتَه، وقلت هذا أمرٌ منتشرٌ ومذهبٌ صَعْبٌ مُوعرٌ حرمْتَ نفسَك لذَّته وسددْت عليها باب الحُظْوَةَ به.
ووراءَ هذا ما اللُّطفُ فيه أظهرُ والحكمةُ أعلى وأصنَعُ. وذلك أنهم قد يُضيفون إلى اختيار الحروفِ وتشبيهَ أصواتِها بالأحداث المعبَّرِ عنها (3) وتقديمَ ما يُضاهي أوّلَ الحدثِ وتأخيرَ ما يُضاهي آخرَه (4) سَوقًا للحروف على سمْت المعنى المقصودِ والغرضِ المطلوب.
ومن ذلك قولُهم شدَّ الحبْلَ فالشينُ لِما فيها من التفشّي تَشبَّهُ بالصوت أولَ انجذابِ الحبلِ قبل استحكام العَقْد، ثم يليها إحكامُ الشدِّ والجذْبِ فَيُعبّر [عنه] (5) بالدال [10ب] التي هي أقوى من الشين لا سيما وهي مُدْغَمةٌ فهي أقوى لصنعتها وأدَلَُ على المعنى الذي أُريد بها. فأما الشِّدةُ في الأمر فإنها مستعارةٌ من شدّ الحبل.
ومن ذلك قولُهم جرَّ الشيءَ يجُرُّه، قدموا الجيمَ لأنها حرفٌ شديدٌ وأولُ الجرِّ المشقّةُ على الجارّ والمجرورِ جميعًا، ثم عقّبوا ذلك بالراء وهي حرف مكرَّرٌ، وكرَّروها مع ذلك في نفسها، وذلك لأن الشيءَ إذا جُرَّ على الأرض في غالب الأمرِ اضطربَ صاعدًا عنها ونازلاً، وتكرّر ذلك منه على ما فيه من التعْتعَة والقَلَق فكانت الراءُ لِما فيها من
_________
(1) في المخطوط [يسقط]. وما أثبتناه من الخصائص (2/ 162).
(2) زيادة من الخصائص (1/ 162).
(3) قال في الخصائص (2/ 162): (بها ترتيبها).
(4) قال في الخصائص (2/ 162): وتوسيط ما يضاهي أوسطه.
(5) زيادة من الخصائص (2/ 162).(12/6050)
التكرير، ولأنها أيضًا قد كُرِّرتْ في نفسها أوفقَ لهذا المعنى من جميع الحروفِ.
فإنْ رأيتَ شيئًا من هذا لا ينقاد لك فيما رسْمناه ولا يتابِعُك على ما أردناه فذلك لأحد أمرين إما أن يكونَ لم تُنْعِم النظرَ فيه فيتَعَدَّ بك فكرُك عنه، أو لأن لهذه اللغةِ أصولاً وأوائلَ قد تخفى عنا وتقصُرُ أسبابُها دوننا.
قال ابنُ جني في الخصائص (1): فإن قلتَ فهلا أجَزْتَ أن يكون ما أوردتَه في هذا الموضعِ يعني ما قدّمنا ذكرَه شيئًا اتّفق وأمرًا وقع في صورة المقصودِ من غير أن يُعتَقَدَ قلت: في هذا حُكمٌ بإبطال ما دلتْ الدِّلالةُ عليه من حكمة العربِ التي تشهد بها العقولُ.
ثم قال ولو لم يُنبَّه على ذلك إلاَّ بما جاء عنهم من تشبيههم الأشياء بأصواتها كالخاقْ باق لصوت الفرجِ عند الجِماع، وغاق لصوت الغُراب وفي قوله: تداعَيْنَ باسم الشِّيب ... لصوت مَشافرِها.
ومنه قولُهم حاحَيْتَ وعافَيْتَ وهاهَيْتَ إذا قلتَ حاءِ وعاءِ وهاءِ، وقولُهم بسْمَلْت وهَيْلَلْت وحَوْقَلْت كلُّ ذلك بأشباهه إنما يرجِعُ في اشتقاقه إلى الأصوات.
قال (2): ومن ظريف ما مرَّ بي في هذه اللغةِ التي لا يُكادُ يُعلم بُعدُها ولا يُحاط بقاصيها ازدحامُ الدال والتاء والطاء والراء واللام إذا ما زَجَتْهن الفاءُ على التقديم والتأخير، فأكثرُ أحوالِها ومجموعِ معانيها أنها للوهْن والضَّعْف ومن ذلك الدالِفُ للشيخ الضعيفِ والشيء التالفِ والطَّليف (3). والدَّنِفُ المريضُ.
ومنه التَّنوفَةُ وذلك لان الفلاةَ إلى الهلاك، ألا تراهم يقولون لها مَهْلكة، وكذلك قالوا بيداء فهى فعْلاء من بادَ يبيد.
_________
(1) (2/ 164).
(2) ابن جني في (الخصائص) (2/ 166).
(3) قال في (الخصائص) (2/ 166) والظليف: المجّان وليست له عصمة الثمين.(12/6051)
ومنه التُّرْفَهُ لأنها إلى اللّين والضَّعْف، وعليه قالوا الطَّرَف لأن طَرفَ الشيءِ أضعفُ مِن قلبه وأوسطِه.
ومنه الفردُ لأن [المفْرَدَ] (1) إلى الضَّعف والهلاكِ ما هو.
ومنه الفتورُ للضَّعف. والرَّفْتُ للكَسْر. والرَّديفُ لأنه ليس له تمكُّن الأوْل.
ومن ذلك الطِّفْلُ: للصبيُّ لضَعفه. والطَّفْلُ للرّخصْ وهو ضدُّ الشَّثْنِ، والتَّفَلُ: للريحُ المكروهةُ فهي منبوذةٌ مطروحةٌ وينبغي أن تكون الدِّفْليَ من ذلك لضعفه عن صلابة النَّبْعِ.
ومنه الفَلْتة لضعف الرأي وفَتْلُ المِغْزل لأنه تَثنٍّ واستدارةٌ، وذاك إلى وهْنٍ وضَعْف. والفَطْرُ الشَّقُّ وهو إلى الوهن.
هذا حاصلُ كلامِه (2) مع اختصار، وفيه ما يَزيدُك بَصيرةً بما ذكرناه سابقًا وجَمَعْنا هذا المختصر له مِنْ أن التوافُقَ في بعض [11أ] الحروف بين الكلمتين لا يكون إلاَّ لمعنى يجمَعُهما قريبًا أو بعيدًا بحسَب تقاربُ الحروفِ بل مجرّدِ تقارُبِ مخارجِ الحروفِ، ويكون بينها اتصالٌ من وجْهٍ لا يكون إلاّ لجهة جامعةٍ بينهما باعتبار المعاني كما قدَّمنا في تركيب ع ص ر وتركيب أزل وهكذا في تركيب أزم وتركيب ع ص ب وهكذا تركيبُ غ د ر وتركيبُ خ ت ل وسائرُ ما ورد هذا المورِدَ، وقد قدّمنا إيضاحَه، وإذا عرفْتَ ما أوردناه في هذا المختصر حقَّ معرِفَته وتدَبَّرْتَه حقَّ تدبُّرِه اطَّلعْتَ على ما في هذه اللغةِ الشريفةِ من الأسرار السَّرِيّة والنُّكات الفائقةِ، واللطائفِ الرائقةِ، والإحكام البديع، والإتقان البالِغ، وسلامةَ أفهامِهم وأنهم أشرفُ طوائفِ هذا النوع الإنسانيِّ وأكرمُ بني آدمُ وأفضلَ البشرِ عُقولاً وقلوبًا وأفعالاً وأقوالاً وإصْدارًا وإيرادًا هذا على ما هو المذهبُ الحقُّ من أنهم الواضعون له لهذه اللغةِ الفائقةِ البالغةِ في الإتقان إلى حد تتقاصر عنده عقولُ المُرْتاضين بالعلوم
_________
(1) الذي في الخصائص [المنفرد].
(2) أي ابن جنِّي في الخصائص.(12/6052)
على اختلاف أنواعِها وتتصاغر لديه إدراكاتُ المشتغلين بالدقائق على تبايُن مراتِبها، وإن علمًا يُوقِف [11 ب] صاحبَه على هذه الأسرارِ لَعظيمُ الخَطَر، نبيلُ القَدْر، وإنّ فنًّا يُتوصّل به إلى هذا اللطائفِ لَكبيرُ الشأنِ جليلُ المكان، ومع هذا فما أقبحَ بالعالم المستكثِرِ من الفنون المتعلّقةِ بلغة العربِ أن يجهَلَ علمًا معْدودًا من علومها غيرَ مُندرجٍ تحت فنٍّ من فنونها فإن جماعةً من محقّقي العلماءِ جعلوا العلومَ المتعلِّقةَ بلغة العَرَب ستةً: النحوُ والصَّرْفُ والاشتقاقُ والمعاني والبيانُ والبديعُ وجماعةٌ منهم حصَروا فنونَ الأدب في علومٍ منها الاشتقاقُ حتى قال قائلُهم في حصر العلومِ الأدبية أبياتًا منها قولُه:
لغةً وصَرْفٌ واشتقاقٌ نحوُها ... علمُ المعاني والبيان بديعُ
وبالجملة فحقٌّ لفن مستقلٍّ وعِلْمٍ منفردٍ أن تعظمَ العِنايةُ به وتتوفَّرَ الرَّغْبةُ إليه وإن هذا المختصَرَ قد تكفّل ببيانه واشتمل على ما لا يوجد مجموعًا في غيره ولا يُوقَف عليه كاملاً في سواه. والحمدُ لله أولاً وآخِرًا. حرّره مؤلِّفُه غفر الله له.(12/6053)
(203) 10/ 5
كلام في فن المعاني والبيان
(تعليق من الشوكاني على كلام صاحب الفوائد الغياثية)
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديث
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/6055)
وصف المخطوط
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: كلام في فن المعاني (تعليق من الشوكاني على كلام صاحب الفوائد الغياثية).
2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم عبارة صاحب الفوائد الغياثية وشارحها في المقدمة، وإنما احتاج في تطبيق الكلام على مقتضي الحال.
4 ـ آخر الرسالة: فإن في كلام العرب نظمًا ونثرًا ما مثل ذلك، ويختلف باختلاف المسميات. والله أعلم انتهى من خط محرره سلمه الله تعالي.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 ـ عدد الصفحات: 2 صفحتان.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: الأولي: 19 سطرًا.
الثانية: 10 أسطر.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 19 ـ 20 كلمة.
9 ـ الرسالة من المجد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/6057)
بسم الله الرحمن الرحيم
عبارةُ صاحب الفوائد الغياثيةِ (1) وشارِحها في المقدمة، وإنما احتج في تطبيق الكلام على مقتضي الحال [إلى علم الآن] (2) المقامات، أعني بها الأقوالَ ليست كلُّها على نهج واحد، حتى يُستغني عن معرفة تفاصيلها، فإنَّ المقاماتِ مختلفةٌ، كالجدِّ مع الهزْلِ، والتواضعِ مع الفخْرِ، والمدح مع الذّم، والشكر مع الشكايةِ، والتهنئة مع التعزية، والترغيب مع الترهيبِ إلى غير ذلكن فيختلف ما يناسبُ كلاًّ من ذلك، وكل يستدعي تركيبًا يفيد ما يناسبه. هذا واضح لكن مقتضياتِ الأحوالِ المذكورة مما لم يضبط بعد فيما رأيناه من كتب الظنِّ، وإنما دوَّنوا الأقوالَ المقتضيةَ للحالات المخصوصة الإسنادَ والمسندَ إليه والمسندَ مثلاً، وهذا لا يغني عن ذلكَ، ولئن ساعدَ التوفيق، ووافق التقدير سأنتهض لذلك بعد الفراغ مما شرعت فيه، والله ـ سبحانه ـ ميسِّر كلَّ عسيرٍ انتهى، والمطلوب منكم تحقيقُ هذه المقاماتِ الخارجة عمَّ دُوِّن. كتب عليه مولانا شيخ الإسلام الحافظ عزُّ الأنامِ محمد بن علي الشوكاني ـ سلمه الله تعالي ـ:
اعلم أنَّ فنَّ المعاني (3) .....................................
_________
(1) (الفوائد الغياثية في المعاني والبيان)، للقاضي عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الأيجي المتوفي سنة 756هـ لخصها من القسم الثالث من (مفتاح العلوم) ونسبها إلي غياث الدين وزير سلطان محمد خدا بنده وشرحه شمس الدين محمد بن يوسف الكرماني المتوفي سنة 786هـ.
(كشف الظنون) (6/ 1299).
(2) العبارة اعتراها تقديم وتأخير. ولعلها إلى الآن، علم].
(3) علم المعاني: هو علمٌ يعرف به أحوال الكلام العربيّ التي تهدي العالم بها إلى اختيار ما يطابق منها مقتضي أحوال المخاطبين، رجاء أن يكون ما ينشئ من كلام أدبي بليغًا.
ويدور هذا العلم حول تحليل الجملة المقيدة إلى عناصرها، والبحث في أحوال كل عنصر منها في اللسان العربي، ومواقع ذكره وحذفه، وتقديمه وتأخيره ومواقع التعريف والتنكير، والإطلاق والتقيد، والتأكيد وعدمه، ومواقع القصر وعدمه، وحول الجمل المقيدة ببعضها، بعطف أو بغير عطف ومواقع كل منهما ومقتضياته، وحول كون الجملة مساوية في ألفاظها لمعناها أو أقلّ منه، أو زائدًا عليه، ونحو ذلك:
(معجم البلاغة العربية) (1/ 138 ـ 139) عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني.
قال الخطيب القزويني في (الإيضاح في علوم البلاغة) (ص15): علم المعاني هو ما يحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى المراد وإلى تمييز الكلام الفصيح من غيره.
والمقصود من علم المعاني منحصر في ثمانية أبواب:
1 ـ أحوال الإسناد الخبري.
2 ـ أحوال المسند إليه.
3 ـ أحوال المسند.
4 ـ أحوال متعلقات الفعل.
5 ـ القصر.
6 ـ الإنشاء.
7 ـ الفصل والوصل.
8 ـ الإيجاز والإطناب والمساواة.
انظر (جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع) (ص3).(12/6061)
والبيان (1) والعلم الذي به تبين دقائق العربية وأسرارُها، وقد أوعت فيه أئمتُه بحيث لم
_________
(1) البيان: لغة الكشف والتوضيح والظهور، وهو في الاصطلاح عبارة عن المنطق الفصيح المعبر عما في الضمير.
والبيان عند البلاغيين: هو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بتراكيب مختلفة في وضوح الدلالة على المعنى المراد، بأن تكون دلالة بعضها أجلى من بعض. ?
وسمّي (علم البيان) لأن له مزيد تعلُّ بالوضوح والبيان، من حيث أن علم البيان يعرف به اختلاف طرق الدلالة في الوضوح والبيان.
وكثيرٌ من البلاغيين يسمَّي علوم البلاغة الثلاثة ـ المعاني والبديع ـ علم البيان، لتعلقها جميعًا بالبيان. وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير وبعضهم يسمي (البيان والبديع) تغليبًا للبيان المتبوع على البيان التابع. وهذا يقع كثيرًا في كلام الزمخشري في (الكشاف).
والفصاحة والبلاغة والبيان، ألفاظ تشترك في كثير من المعاني، ويختص كل واحد منها بما ليس للآخر.
لكن الفصاحة: أصلها الخلوص من الشوائب، لقولهم: أفصحَ اللبنُ وفَصحُ. إذا خلص من اللباء. وذلك في الكلام لا يكاد ينفك عن أن يكون بيّنًا. فالفصاحة أعم من البيان من وجه. والبيان أعمّ من الفصاحة من وجه.
فإنَّ البيِّن قد لا يكون كلامًا، والخالص من الشوائب قد لا يكون بيِّنًا. وكذلك البلاغة مع كل من الفصاحة والبيان، ومعنى البلاغة انتهاء الشيء إلى غايته المطلوبة، وكل واحد من الألفاظ الثلاثة يستعمل في الكلام وفي غيره.
والكلام في هذه المعاني الثلاثة هو بالنسبة إلى وقوعها في الكلام لا غير.
فالفصاحة تكون بالنسبة إلى اللفظ من وجهين:
أحدهما: أن يخرج المتكلم الحروف من مخارجها، ويخلّص بعضها من بعض.
الثاني: أن يكون اللفظ مما تداوله فصحاء العرب، وكثر في كلامهم.
وتكون الفصاحة أيضًا بالنسبة إلى المعنى وهو أن يكون الكلام مخلصًا من غيره.
والبلاغة تتعلق بالمعنى فقط، وهو أن يبلغ المعنى في نفس السامع مبلغة، ومما يعين على ذلك الفصاحة في كلام العرب، لا أن الفصاحة من أجزاء البلاغة فإنَّ الأعجمي إذا كلّم الأعجمي، فبلغ المعنى غاية مبلغه كان كلامه بليغًا. ووصف بالبلاغة، وكلامه ليس من كلام العرب.
والبيان في عرف الكلام أتمّ من كل واحد من الفصاحة والبلاغة، لأن كل واحد منهما من مادته، وداخل في حقيقته ولذلك قلنا (علم البيان) وتكلمنا فيه في الفصاحة والبلاغة وغيرهما، ولم يوضع علم للفصاحة، ولا علم للبلاغة.
والبيان عند البلاغيين ـ كم تقدم ـ علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه. ?
فمثال إيراد المعنى بطرق مختلفة، في باب (الكناية) أن يقال في وصف زيد بالجود مثلاً: زيد مهزول الفصيل، وزيد جبان الكلب، وزيد كثير الرماد.
فهذه التراكيب تفيد وصفه بالجود على طريق الكناية، لأن هزال الفصيل إنّما يكون بإعطاء لبن أمه للأضياف. وجبن الكلب ولا يتجاسر عليه، وهو معنى جبنه، وكثرة الرماد من كثرة الإحراق للطبائخ من كثرة الأضياف. وهي مختلفة وضوحًا، وكثرة الرماد أوضحها، فيخاطب به عند المناسبة كأن يكون المخاطب لا يفهم بغير ذلك. ?
ومثال إيراده بطرق (الاستعارة) أن يقال مثلاً في وصفه بالجود: رأيت بحرًا في الدار، في الاستعارة (التحقيقية وطم زيد بالإنعام جميع الأنام، في الاستعارة بالكناية، لأن الطموم، وهو الغمر بالماء من وصف البحر، فدلَّ على أنّه أضمر تشبيهه بالبحر في النفس، وهو الاستعارة بالكناية، ولجة زيد تتلاطم أمواجها. وذلك مما يدل علي إضمار التشبيه في النفس أيضًا وأوضح هذه الطرق الأوَّل، وأخفاها الوسط. ـ
ومثال إيراده في التشبيه أن يقال: زيد كالبحر في السخاء. وزيد بحر. وأظهرها ما صرَّح فيه بالوجه، وأخفاها ـ وهو أوكدها ـ ما حذف فيه الوجه والأداة معًا. فيخاطب بكل من هذه الأوجه في هذه الأبواب بما يناسب المقام من الخفاء والوضوح. ويعرف ذلك بهذا الفن.
ومما تقدم يعلم أن (البيان) يطلق على معنيين:
1): معنى أدبي واسع يشمل الإفصاح عن كل ما يختلج في النفس من المعاني والأفكار والأحاسيس والمشاعر بأساليب لها حظها الممتاز من الدقة والإصابة والوضوح والجمال، وهو بهذا التعميم يجمع فنون البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع.
2): معنى علمي محدود وهو التعبير عن المعنى الواحد بطريق الحقيقة أو المجاز أو الكناية، كما سلف.
وقد حصر البلاغيون أصول علم البيان في أربعة أصول هي:
1 ـ أصلان ذاتيان. وهما المجاز، والكناية.
2 ـ أصل واحد وسيلة وهو التشبيه.
3 ـ أصل واحد جزء من أصل، وهو الاستعارة.
انظر: (معجم البلاغة العربية) (100/ 103)، (الإيضاح في علوم البلاغة) للخطيب القزويني (ص201 ـ 203)، (جواهر البلاغة في (المعاني والبلاغة والبديع) (ص197). ?
واعلم أنه واضع علم البيان أبو عبيدة الذي دوَّن مسائل هذا العلم في كتابه المسمَّى (مجاز القرآن) وما زال ينمو شيئًا فشيئًا حتى وصل إلى الإمام: عبد القاهر، فأحكم أساسه وشيَّد بناءه، ورتَّب قواعده وتبعه الجاحظ وابن المعتز وقدامة بن جعفر، وأبو هلال العسكري.
وثمرته الوقوف على أسرار كلام العرب (منثوره ومنظومه) ومعرفة ما فيه من تفاوت في فنون الفصاحة، وتباين في درجات البلاغة التي يصل بها إلى مرتبة إعجاز القرآن الكريم الذي حار الجنُّ والإنس في محاكاته، وعجزوا عن الإتيان بمثله.
انظر: (جواهر البلاغة) (ص198).(12/6062)
يدعو شيئًا مما يحتاج إليه، وبيان ذلك أنهم أولاً ذكروا حدَّ البلاغة والفصاحةِ، (1) وما ينافيها حتى صارتا معلومتينِ لكل فاهم. ثم بعد ذلك ذكروا حدَّ علم المعاني بحيث ينطبقُ على ما يصدُقُ عليه مفهوم هذا العلم، وأوضحوا ذلك بذكر أحوال الإسناد (2) والمسندِ (3) .......................
_________
(1) البلاغة في المتكلم ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ، أي كيفية راسخة في النفس يقدر بها صاحبها على أن يؤلف كلامًا مطابقًا لمقتضى الحال فصيحًا في أي معنى قصده، وفي أي نوع أراده، فلو لم يكن ذا ملكة يقتدر بها على ما ذكر لم يكن بليغًا على قياس ما سيأتي في الفصاحة.
ومن تأمَّل ما سبق عَلِمَ أن البلاغة أخصّ، والفصاحة أعم، وأنَّ كل ما يطلق عليه لفظ (البليغ) كلامًا كان أو متكلمًا يطلق عليه لفظ (الفصيح) يطلق عليه لفظ (البليغ) لجواز أن يكون كلام فصيح غير مطابق لمقتضى الحال، أو متكلم ذو ملكة يقتدر بها على الفصيح الغير المطابق لمقتضى الحال. وليعلم أن البلاغة يتوقف حصولها وتحققها على حصول أمرين:
1 ـ الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المقصود، إذ ربما أدّى المعنى المراد بلفظ غير مطابق لمقتضى الحال فلا يكون بليغًا.
2 ـ تمييز الكلام الفصيح من غيره، إذ ربما أورد الكلام المطابق لمقتضى الحال غير فصيح، لاختلال ركن من أركان فصاحة الكلام فيه، فلا يكون بليغًا.
فمسّت الحاجة إلى علمين يحترز بهما عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وعن التعقيد المعنوي المخلّ بفصاحة الكلام والأول منهما هو (علم المعاني) والثاني: (علم البيان) ويسمّيان بعلمي البلاغة. ولما كان (علم البديع) به تعرف وجوه تحسين الكلام جعل تابعًا لهذين العلمين، حتى تعرف طرق التحسين الذاتي بهما، والعرضيِّ به، فانحصر المقصود من علمي البلاغة وتوابعها في ثلاث فنون.
(معجم البلاغة العربية) (ص88).
(2) الإسناد الخبري: هو ضمّ كلمة أو ما يجري مجراها ـ كالجملة الواقعة موقع مفرد ـ إلى أخرى على وجه يفيد أن مفهوم إحداهما ثابت لمفهوم الأخرى، أو منفي عنه.
نحو: (الحزم نافع) ونحو عليٍّ أخلاقه (حسنه) وعلي حسنته أخلاقه ونحو ما علي بخائن.
وانظر مزيد تفصيل: (جواهر البلاغة) (ص40).
(3) المسند يكون مفردًا لا جملة، لكونه غير سببي، ولم يقصد به تقوية الحكم نحو: (عليٌّ مسافر) فأما السببي نحو: (زيد أبوه منطلق) أو (انطلق أبوه) وما شاكل ذلك من كل جملة واقعة خبرًا عن مبتدأ يربطها به عائد غير مسند إليه في تلك الجملة، فيبقي جملة لتعينها في الإخبار، وكذلك ما قصد به تقوية الحكم، فلا يعدل عنه إلى المفرد، حتى لا تزول التقوية إذا أُفرد.
ويكون المسند فعلاً تقييده على أخصر وجه مع إفادة التجدد بأحد الأزمنة الثلاثة: الماضي، وهو الزمان الذي قبل الذي أنت فيه. والمستقبل، وهو ما يترتب وجوده بعد هذا الزمان.
والحال: وهو في عرف أهل العربية أجزاء متعاقبة من أواخر الماضي، وأوائل المستقبل، قد تطول وقد تقصر، بحسب اختلاف الفعل في نحو قولنا: (زيد يصلّي، أو يحجّ) مرادًا بذلك الحصول في الحال.
ويكون اسمًا لإفادة الثبوت لأغراض تتعلق بذلك، كما في مقام المدح فقولنا: (زيد مكرم لضيفه) يدل على ثبوت أكرام الضيفان لزيد، من غير نظر إلى زمان ولا تجدد بعد عدم، ولا كذلك قولنا: (زيد أكرم أو يكرم ضيفه) فإنّه يدل علي حصول في الماضي، وثانيًا علي حصول في الحال أو في المستقبل بعد أن لم يكن.
ويكون المسند جملة للأغراض الآتية:
1) تقوية ثبوت المسند للمسند إليه، أو نفيه عنه نحو: (زيد قام) ويختص التقوي بما يكون مسندًا إلى ضمير المبتدأ المعتد به كما في المثال السابق. وسبب التقوي تكرر الإسناد.
2) كون المسند سببيًّا، نحو: (زيد أبوه قائم) و (عليّ أكرمته).
3) كون المسند إليه ضمير شأن نحو: (هو الله أحد).
4) إرادة التخصيص. نحو: أنا سعيت في حاجتك، فالتقوية وإن كانت حاصلة هنا ليست مقصودة لذاته.
وتكون جملة المسند اسمية لإفادة الثبوت، وفعلية لإفادة التجدد والحدوث في أحد الأزمنة الثلاثة على أخصر وجه، وشرطية للاعتبارات المختلفة الحاصلة من أدوات الشرط في نحو: زيد إن تلقه يكرمك) أو إذا لقيته يكرمك فقد أخبرت أولاً بالإكرام الذي يحصل على تقدير اللقاء المشكوك فيه، وثانيًا بالإكرام الحاصل على تقدير وقوع اللقاء المحقق.
ومواضع المسند ثمانية:
1 ـ خبر المبتدأ: نحو (قادر) من قوله: (الله قادر).
2 ـ اسم الفعل: نحو هيهات، وَيْ، آمين.
3 ـ الفعل التام: نحو (حضر) من قولك: حضر الأمير.
4 ـ المبتدأ الوصف المستغني عن الخبر بمرفوعه: نحو (عارف) من قولك: (أعارفٌ أخوك قدر الإنصاف؟).
5 ـ وأخبار النواسخ (كان ونظائرها) و (إنَّ ونظائرها).
6 ـ والمفعول الثاني لظنَّ وأخواتها.
7 ـ والمفعول الثالث لأرى وأخواتها.
8 ـ والمصدر النائب عن فعل الأمر.
انظر: (جواهر البلاغة) (ص41)، (معجم البلاغة العربية) (ص286).(12/6065)
والمسندِ إليه، (1) وأحوال متعلِّقاتِ الفعلِ، والقصرَ (2)، ....................................................
_________
(1) (1) المسند إليه: ويسمي (المحكوم عليه) أو المتحدث عنه، وله ستة مواضع:
1 ـ الفاعل للفعل التام.
2 ـ أسماء النواسخ: كان وأخواتها وإن وأخواتها.
3 ـ والمبتدأ الذي له خبر.
4 ـ والمفعول الأول لظنّ وأخواتها.
5 ـ والمفعول الثاني لأرى وأخواتها.
6 ـ ونائب الفعل.
انظر: (البلاغة العربية) (1/ 182).
(2) القصر: لغةً الحبس: واصطلاحًا: هو تخصيصُ أمرٍ بآخر بطريق مخصوص.
أو هو إثبات الحكم لما يذكر في الكلام ونفيه مما عداه بإحدى الطرق الآتية:
1 ـ العطف بل مثل: محمدٌ شاعر لا كاتب. المقصور عليه: هو المقابل لما بعد (لا).
2 ـ العطب ببل ولكن: مثل: ما خالد شاعرًا بل محمد ما محمد كاتبًا بل شاعرًا. ما محمد مقيمًا لكن مسافرًا.
3 ـ النفي والاستثناء: مثل: ما محمد إلا شاعر. وما شاعر إلا محمد، والمقصود عليه هو ما بعد (إلا).
4 ـ إنما: مثل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}.
5 ـ تقديم ما حقه التأخير: نحو: {(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)}.
انظر مزيد تفصيل: (جواهر البلاغة) (ص 146ـ 147) , (معجم البلاغة العربية) (ص 544ـ 555).(12/6067)
والإنشاء (1) والفصل (2)، ..........................................................................
_________
(1) الإنشاء: لغة الإيجاد. واصطلاحًا ما لا يحتمل الصِّدق والكذب لذاته نحو اغفر دارهم, فلا يُنسب إلى قائله صدق أو كذب. وإن شئت فقل في تعريف الإنشاء ما لا يحصل مضمونه ولا يتحقَّق إلا إذا تلفظت به, فطلب الفعل في (أفعل) وطلب الكفِّ في (لا تفعل) وطلب المحبوب في (التمني) وطلب الفهم في الاستفهام, وطلب الإقبال في (النداء) كل ذلك ما حصل إلا بنفس الصيغ المتلفظ بها. وينقسم إلى نوعين: إنشاء طلبي, وإنشاء غير طلبي.
الإنشاء غير الطلبي: ما لا يستدعي مطلوبًا غير حاصل وقت الطلب كصيغ المدح والذم, والعقود والقسم، والتعجُّب، والرجاء، وكذا رُبّ، ولعلّ، وكم الخبرية ولا دخل لهذا القسم في علم المعاني.
الإنشاء الطلبي: وهو الذي يستدعي مطلوبًا غير حاصل في اعتقاد المتكلم وقت الطلب ويكون بخمسة أشياء: الأمر، والنهي والاستفهام، والتمني والنداء. (جواهر البلاغة) (ص161ـ 163).
(2) العلم بمواقع الجمل, والوقوف على ما ينبغي أن يصنع فيها من العطف والاستئناف والتهدي إلى كيفية إيقاع حروف العطف في مواقعها, أو تركها عند عدم الحاجة إليها صعب المسلك, لا يوفَّق للصواب فيه إلاَّ من أوتي قسطًا وافرًا من البلاغة وطبع على إدراك محاسنها, ورزق حظًا من المعرفة في ذوق الكلام وذلك لغموض هذا الباب ودقة ملكه. وعظيم خطره, وكثير فائدته, يدل هذا أنهم جعلوه حدًا للبلاغة, فقد سئل عنها بعض البلغاء فقال: هى (معرفة الفصل والوصل. فالوصل عطف جملة على أخرى بالواو ونحوها, والفصل تركك هذا العطف والذي يتكلم عنه علماء المعاني هنا العطف (بالواو) وخاصة دون بقية حروف العطف, لأن الواو هى الأداة التي تخفى الحاجةُ إليها ويحتاج العطف بها إلى لطف فهم ودقّة في الإدراك ... ).
مواضع الفصل: من حقِّ الجمل إذا ترادفت ووقع بعضها إثر بعض أن تربط بالواو لتكون على نسق واحد, ولكن قد يعرض لها ما يوجب ترك الواو فيها ويسمى هذا فضلاً ويقع في خمسة مواضع.
1) أن يكون بين الجملتين اتحادٌ وامتزاجٌ معنوي حتى كأنهما أفرعا في قالب واحد، يسمى ذلك كمال الاتصال.
2) أن يكون بين الجملتين تباينٌ تامّ بدون إبهام خلاف المراد ويسمّى ذلك كمال الانقطاع.
3) أن يكون بين الجملة الأولى والثالثة جملة أخرى متوسطة حائلة بينهما، فلو عطفت الثالثة على (الأولى المناسبة لها) لتوهم أنها معطوفة على (المتوسطة) فيترك العطف، ويسمّى كمال الانقطاع.
4) أن يكون بين الجملتين تناسبٌ وارتباط لكن يمنع من عطفهما مانع وهو عدم قصد اشتراكهما في الحكم ويسمى (التوسط بين الكمالين).
فائدة: قيل للفارسي: ما البلاغة؟ فقال: معرفة الفصل والوصل.
وقال المأمون لبعضهم: من أبلغ الناس؟ قالوا: من قرَّب الأمر البعيد المتناول، والصَّعب الدَّرك بالألفاظ اليسيرة.
(معجم البلاغة العربية) (ص512 ـ 513)، (جواهر البلاغة) (ص162 ـ 163).(12/6068)
والوصل (1) ..............................................
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
يقع الوصل في ثلاثة مواضع:
1) إذا اتفقت الجملتان في الخبرية والإنشائية لفظًا ومعنى أو معنى فقط، ولم يكن هناك سبب يقتضي الفصل بينهما، وكانت بينهما مناسبةً تامة كقوله تعالي: {(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)}.
وقوله تعالى: {فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}.
وقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}.
أي: إني أشهد الله وأشهدكم فتكون الجملة الثانية في هذه الآية إنشائية لفظًا، ولكنها خبرية في المعنى.
2) إذا اختلفت الجملتان في الخبرية والإنشائية وكان الفصل يوهم خلاف المقصود، كما تقول مجيبًا لشخص بالنفي (لا وشفاه الله).
ـ فجملة شفاه الله خبرية لفظًا إنشائية معنى العبرة بالمعنى ـ لمن يسألك هل بريء عليٌّ من المرض؟ فترك الواو يوهم السامع الدعاء عليه وهو خلاف المقصود لأن الغرض الدعاء له.
ولهذا وجب أيضًا الوصل وعطف الجملة الثانية على الأولى لدفع الإبهام، وكلٌّ من الجملتين لا محل له من الإعراب.
3) إذا كان للجملة الأولى محلٌّ من الإعراب وقصد تشريك الجملة الثانية لها في الإعراب حيث لا مانع نحو: عليٌّ يقول ويفعل.
فجملة يقول في محل رفع خبر المبتدأ، وكذلك جملة: ويفعل معطوفة على جملة يقول وتشاركها بأنها في محل رفع خبر ثان للمبتدأ.
انظر: (معجم البلاغة العربية) (512 ـ 513)، (جواهر البلاغة) (ص159 ـ 160).(12/6069)
والإيجاز (1) .....................................................
_________
(1) الإيجاز: لغة: اختصار الكلام وتقليل ألفاظه مع بلاغته. يقال لغة: أوجز الكلام إذا جعله قصيرًا ينتهي من نطقه بسرعة.
ويقال: كلام وجيز, أي خفيفٌ قصير. ويقال: أوجز في صلاته إذا خفَّفها ولم يُطل فيها. الإيجاز في اصطلاح علماء البيان هو: اندراج المعاني المتكاثرة تحت اللفظ القليل. وأصدق مثال فيه قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فهاتان الكلمتان قد جمعتا معاني الرسالة كلها, واشتملت على كليات النبوة وأجزائها.
وكقوله تعالى: {(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)} فهذه الكلمات على قصرها وتقارب أطرافها قد احتوت على جميع مكارم الأخلاق, ومحامد الشيم, وشريف الخصال.
قال أصحاب الإيجاز: الإيجاز قصور البلاغة على الحقيقة, وما تجاوز مقدار الحاجة فهو فضلٌ داخل في باب الهذر والخطل, وهما من أعظم أدواء الكلام وفيهما دلالة على بلادة صاحب الصناعة.
وفي تفصيل الإيجاز يقول جعفر بن يحيى لكتّابه: إذا قدرتم أن تجعلوا كتبكم توقيعات فافعلوا. وقال بعضهم: الزيادة في الحد نقصان.
وقال محمد الأمين: عليكم بالإيجاز, فإن له إفهامًا وللإطالة استبهامًا.
وقال شبيب بن شبّة: القليل الكافي خير من كثير غير شافٍ.
وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ فقال الإيجاز؟ قيل: وما الإيجاز؟ قال حذف الفضول, وتقريب البعيد!.
والإيجاز قسمان:
1) إيجاز حذف, مثاله: قول نعيم بن أوس يخاطب امرأته:
إذا شئتِ أشرفنا جميعًا فدعا الله كل جهده فأسمعا
بالخير خيرًا وإن شرًّا فا ولا أريد الشرّ إلا أن تا
كذا رواه أبو زيد الأنصاري، وساعده من المتأخرين على بن سليمان الأخفش وقال لأن الرجز يدل عليه، إلا أن رواية النحويين: ((وإن شرًّا فا)) و ((إلاَّ أن أتى)) قالوا: يريد: ((وإن شرًّ فشرّ)) و ((إلاَّ أن تشائي)) ويكون بحذف ما لا يخل بالمعنى ينقص من البلاغة.
انظر تفصيل ذلك في: (البلاغة العربية) (2/ 26 ـ 36).
(معجم البلاغة العربية) (ص 155 ـ 157). 2) إيجاز قصر:
القصر: هو تخصيص شيء بشيء بطريق من الطرق. تقدم ذكر هذه الطرق.
والإيجاز عند الرمَّاني على ضربين:
مطابق لفظه لمعناه، لا يزيد عليه ولا ينقص عنه، كقولك: (سَلْ أهل القرية) ومنه ما حذف للاستغناء عنه في ذلك الموضع، كقول الله عز وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}.
وعبر عن الإيجاز بأن قال: هو العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف.
انظر: (معجم البلاغة العربية) (ص712 ـ 713).(12/6070)
والإطناب (1) .............................................
_________
(1) الإطناب: هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة جديدة من غير ترديد.
وقولهم في التعريف: ((زيادة اللفظ على المعنى)) عام في الإطناب، وفي الألفاظ المترادفة كقولنا: ليث وأسد، فإنه من زيادة اللفظ على معناه.
وقولهم لفائدة: يخرج عنه التطويل الذي هو زيادة من غير فائدة.
وقولهم: (جديدة): تخرج عنه الألفاظ المترادفة، فإنها زيادة في اللفظ على المعنى لفائدة لغوية، ولكنها ليس جديدة.
وقوله: (من غير ترديد) يتحرز به عن التواكيد اللفظية في مثل: (اضرب اضرب) فإنها زيادة اللفظ على المعنى لفائدة جديدة وهي التأكيد لكنه ترديد اللفظ وتكريره بخلاف الإطناب فإنه خارج عن التأكيد وحاصل الإطناب الاشتداد في المبالغة في المعاني أخذًا من قولهم: أطنبت الريح إذا اشتد هبوبها، وأطنب الرجل في سيره إذا اشتد فيه.
1 ـ وقد يقع الإطناب: قد يكون واقعًا في جملة واحدة:
أ ـ في الجملة الواحدة على جهة الحقيقة ومثال ذلك.
قال تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} فإن المعلوم من حال السقف أنه لا يكون إلا فوق، وإنما الغرض المبالغة في الترهيب والتخويف والإنكار والرد.
ب ـ ما يرد على جهة المجاز ـ في الجملة الواحدة ـ مثاله:
قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فالفائدة بذكر الصدور هنا وإن كانت القلوب حاصلة في الصدور علي جهة الإطناب بذكر المجاز.
2ـ وقد يقع في الجملة المتعددة:
أ ـ ما يرد عن طريق النفي والإثبات: ومثاله:
قال تعالي: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} ثم قال سبحانه: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} فالآية الثانية كالآية الأولى إلاَّ في النَّفي والإثبات، فإن الأولى من جهة النفي والثانية من جهة الإثبات، فلا مخالفة بينهما إلاَّ فيما ذكرناه، خلا أن الثانية اختصت بمزيد فائدة وهي قوله: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}.
ب ـ أن يصدر الكلام بذكر المعنى الواحد على الكمال والتمام، ثم يردف بذكر التشبيه على جهة الإيضاح والبيان ومثاله قول البحتري:
ذاتُ حسن لو استزادت من الحسـ ... ـن إليه لما أصابت مزيدًا
فهي كالشمس بهجة والقضيب واللَّدْ ... ن قَدًّا والرئم طرفًا وجيدًا
فالبيت الأول كان كافيًا في إفادة المدح وبالغًا غاية الحسن، لأنه لما قال: ((لو استزادت لما أصابت مزيدًا)) دخل تحته كل الأشياء الحسنة، فلا أن للتشبيه مزية أخري تفيد السامع تصويرًا وتخييلاً لا يحصل من المدح المطلق، وهذا الضرب له موقع بديع في الإطناب. جـ ـ أن يذكر الموصوف فيؤتي في ذلك جمعان متداخلة خلا أن كل واحد من تلك المعاني مختصٌّ بخصِّيصةٍ لا تكون للآخر ومثاله قوله أبي تمام يصف رجلاً أنعم عليه:
مِنْ منَّةٍ مشهورة وصنيعةً ... بِكْرٍ وإحسان أغرَّ مُحَجّلِ
فقوله: منَّة مشهورة، وصنيعة بكر، وإحسان أغر محجّل، معانٍ متداخلة لأن المنّة والإحسان والصنيعة كلها أمور متقاربة في بعضها من بعض. وليس ذلك من قبيل التكرار. لأنها إنما تكون تكريرًا لو اقتصر على ذكرها مطلقة من غير صفة كأن يقول مِنَّة وصنيعة وإحسان. ولكنه وصف كل واحدة منها بصفة تخالف الأخرى. فقال: مِنَّة مشهورة لكونها عظيمة الظهور لا يمكن كتمانها، وقوله: ((صنيعة بكر)) وصفها بالبكارة أي أن أحدًا من الخلق لا يأتي بمثلها، وقوله: ((وإحسان أغرَّ محجل)) فوصفه بالغُرَّة ليدل على تعداد محاسنه وكثرة فوائده: فلما وصف هذه المعاني المتداخلة الدالة على شيء واحد بأوصاف متباينة صار ذلك إطنابًا. د ـ ومن الإطناب أن المتكلم، إذا أراد الإطناب فإنه يستوفي معاني الغرض المقصود من الرسالة أو الخطبة أو تأليف كتاب أو قصيدة أو غير ذلك من فنون الكلام، وهذا من أصعب هذه الضروب الأربعة وأدقها مسلكًا، وبه تتفاضل المراتب، ويتفاوت الأدباء في أساليب النظم والنثر.
ويكون الإطناب بأمور كثيرة منها:
1) الإيضاح بعد الإبهام. نحو قوله تعالي: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}.
2) عطف الخاص على العام. ويكون للتنبيه على فضل الخاص حتى كأنه من جنس العام. لما امتاز به عن سائر أفراده من الأوصاف، تنزيلاً للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات. نحو:
قوله تعالي: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} فقد خصَّ الله سبحانه وتعالي الروح وهو (جبريل) بالذكر مع أنه داخل في عموم الملائكة تكريمًا له وتعظيمًا لشأنه، كأنه من جنس آخر.
3) عطف العام على الخاص ويكون لإفادة العموم والشمول نحو:
قوله تعالي: {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ} وذلك لإفادة الشمول من العناية بالخاص لذكره مرتين: مرة وحده، ومرة مندرجًا تحت العام.
4) التكرير والتكرير البليغ ما كان لنكتة بلاغية. كتأكيد الإنذار في نحو قوله تعالي: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وفي ثم دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول تنزيلاً لبعد المرتبة لبعد الزمان واستعمالاً للفظ (ثم) في التدرج في الارتقاء.
5) الإيغال: قال بعضهم الإيغال: هو ختم البيت بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها وعلى هذا فإنه يختص بالشعر.
وقيل: لا يختص بالشعر. ومثلوا له بقوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْم اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فقول: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} مما يتم المعنى بدونه لأن الرسول مهتدٍ لا محالة، إلا أن فيه زيادة حث على الاتباع وترغيب في الرسل.
6) التذييل هو تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها بعد إتمام الكلام لإفادة التوكيد، وتقريرًا لحقيقة الكلام.
نحو قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}.
7) التكميل ويسمى الاحتراس وهو أن يأتي في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه, وذلك الدافع قد يكون في وسط الكلام كقول الشاعر:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمةٌ تهمي
فلما كان المطر قد يؤول إلى خراب الديار وفسادها أتى بقوله: (غير مفسدها) دفعًا لذلك.
وقد يأتي في آخر الكلام كما في قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
8) التتميم: وهو أن يذكر الشاعر المعنى, فلا يدع من الأحوال التي تتم بها صحته, وتكمل معها جودته شيئًا إلا آتى به مثل قول نافع بن خليفة الغنوي:
رجالٌ إذا لم يقبل الحقٌ منهم ويعطوه عاذوا بالسيوف القواطع
وإنما تمت جودة المعنى بقوله: (ويعطوه) وإلا كان المعنى منقوص الصحة.
وفي قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} فقوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} تم المعنى.
9) الاعتراض: هو أن يؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب لنكتة سوى دفع الإيهام كالتنزيه في قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} فقوله: {سُبْحَانَهُ} جملة لأنه مصدر بتقدير الفعل وقعت أثناء الكلام.
(معجم البلاغة العربية) (388, 414) , (البلاغة العربية) (2/ 60ـ 69, 76, 80).(12/6071)
والمساواة, (1) ثم استدلوا على انحصار علم المعاني في هذه الأبواب بما لا يبقى بعده شك ولا ريب لكل عارف, ثم ذكروا حدَّ علم البيان (2) على وجه يشملُ كل ماله دخْلٌ في هذا العلم, وذكروا الدلالةَ الوضعيةَ والعقليةَ وأقسامَهُما ولوازمَهُما على أتمِّ إيضاح,
_________
(1) المساواة: أن تكون المعاني بقدر الألفاظ, والألفاظ بقدر المعاني, لا يزيد بعضها عن بعض.
والمساواة هى المذهب المتوسط بين (الإيجاز والإطناب ومما في القرآن من المساواة قوله الله تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} أي محبوسات على أزواجهن.
وقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}.
(معجم البلاغة العربية) (ص 290).
(2) تقدم توضيحه.(12/6074)
وأبلغ بيان.
ومعلوم انحصارُ الدلالات في الدلالتين, فلا يبقى شيء من الدلالات إلاَّ وهو مندرج تحت ذلك مبيَّنٌ أكملَ بيانٍ, فبرهن عليه بأوفى برهان, بحيث لا يخرج عنه شيء, ولا يشذُّ فيه شاذٌّ.
فقول صاحب الفوائد الغياثية أن مقتضياتِ الأحوال مما لم يضبطْ فيما رآه من كتب الفنِّ إن أراد لم يضبطْ بأمر كل ما يندرج تحته جميعُ الأفراد فباطلٌ, فقد ضبطت بالقوانين الكلية المنطبقة على جميع الأفراد كما شأن كل فنٍّ من فنون العلم, وإن أراد تعدادَ الأمثلة, وتكرارَ إيراد الصور لمجرَّد الإيضاحِ فمثلُ هذا قد أغنى عنه القانون الكلِّيُّ المنطبقُ على أفراده, والاعتراضُ بمثله غفلةٌ شديدة [1أ]، وذهول عن قواعد الفنونِ العلميةِ بأسْرها، فإنَّ أهل النحو أو الصرف مثلاً لو أرادوا استيعابَ كلِّ الأمثلةِ، وجميعَ الصور لم يتمكَّنوا من ذلك قطٌُ، بل ضبطوا علم الصرف بضابط كليٍّ اندرج تحته جميع الأفراد، وكذلك علماءُ النحو صنعوا كذلك، وكذلك علماء المنطق، وعلماء الأصول، بل العلوم كلُّها هكذا، ومن زعم ما يخالفُ هذا فهو لا يعرف هذه العلومَ لا جملةً ولا تفصيلاً نعم علم اللغة من حيثُ لفظُها هو الذي يحتاج إلى استيعاب ما ورد عن العرب لأنه لم يكن هناك ضابطٌ كليٌّ، بل المتعةُ ذِكْرُ كلِّ لفظٍ للاطلاعِ على هذه اللغةِ العربية.
إذا عرفت هذا فاعلم أنَّ الفن الثالثَ من فنون هذا العلم هو علم البديع (1) الذي يعرف به وجوهُ تحسين الكلام، كائنًا ما كان. ولا وجه لاقتصار المصنِّفين في البديع على أنواعٍ مخصوصة، ولا لاقتصار أهل البديعياتِ على تلك الأنواعِ التي أوردوها في نظمِهم،
_________
(1) علم البديع: علم تعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية مطابقته لمقتضى الحال.
ووجوه تحسين الكلام التي يبحث فيها (علم البديع) قسمان: قسم يرجع إلي المعنى وقسم يرجع إلى اللفظ، فهو علم المحسنات اللفظية، والمحسنات المعنوية.
(معجم البلاغة) (ص69).(12/6075)
بل ما كان له مدخل في التحسين كان من علم البديع، ويسميه مستخرجُه بأي اسم كان مما فيه مناسبة لذلك النوع. وقد جمعتُ كراسةً ذكرتُ فيها أنوعًا غيرَ داخلةٍ في الأنواع التي ذكرها علماء الفن، وشعراءُ البديعياتِ (1) وأخبرنا بعضُ علماء الديار القاصية أنها قد انتهت عندهم إلي سبعِ مائة نوعٍ، (2) وذلك غير غريب، فإنَّ في كلام العرب نظمًا ونثرًا ما يحملُ مثل ذلك، ويختلف باختلاف المسمَّيات. والله أعلم انتهى من خط محرره ـ سلمه الله تعالى ـ.
_________
(1) قالوا إنَّ أوَّل من دوَّن في هذا الفن (عبد اله بن المعتز العباسي) المتوفي سنة 274هـ إذ جمع ما اكتشفه في الشعر من المحسنات وكتب فيه كتابًا جعل عنوانه عبارة (البديع) ذكر في كتابه هذا سبعة عشر نوعًا وقال: ما جمع قبلي فنون البديع أحد، ولا سبقني إلى تأليفه مؤلف، ومن رأي إضافة شيء من المحاسن إليه فله اختياره.
وجاء من بعده من أضاف أنواعًا أخر، منهم:
جعفر بن قدامة (ت سنة 319هـ ألف كتابًا سماه (نقد قدامة) ذكر فيه ثلاثة عشر نوعًا من أنواع البديع إضافة إلى ما سبق أن اكتشفه عبد الله بن المعتز العباسي).
(2) أوصل الأنواع إلى مئة وأربعين نوعًا (صفي الدين بن عبد العزيز بن سرايا السَّبنسي الطائي الحلي) (677 ـ 750هـ).
(البلاغة العربية) (2/ 369 ـ 370).
انظر (الرسالة) رقم (204) من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني) الآتية.(12/6076)
(204) 22/ 5
الروضُ الوسيع في الدليل المنيع على عدم انحصارِ علمِ البديع
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديث
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/6077)
وصف المخطوط: (أ)
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: الروض الوسيع في الدليل المنيع على عدم انحصار علم البديع.
2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ذي الصنع البديع والشأن الرفيع والفضل الوسيع.
4 ـ آخر الرسالة: ومن زاد زاد الله في حسناته حرره مؤلفه غفر الله له.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 ـ عدد الصفحات:8 صفحات + صفحة العنوان.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة 22 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 8 ـ 10 كلمة.
9 ـ الرسالة من المجد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/6079)
وصف المخطوط: (ب)
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: الروض الوسيع في الدليل المنيع على عدم انحصار علم البديع.
2 ـ موضوع الرسالة: لغة العربية.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ذي الصنع البديع والشأن الرفيع والفضل الوسيع، والجود المريع ...
4 ـ آخر الرسالة: أمتعنا الله بطول حياته وكان معه في جميع حالاته، وأسكنه بعد العمر الطويل فسيح جنّاته آمين الله آمين.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 ـ عدد الصفحات:8 صفحات + صفحة العنوان.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة 23 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.
9 ـ الرسالة من المجد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/6083)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ذي الصُّنِع البديع، والشأن الرفيع، والفضلِ الوسيع، والجود المَريع والصلاة والسلام على الشفيع المشفَّع وعلى آله وصحبِه السُّجَّد الرُّكَّع.
وبعد:
فإنَّ علمَ البديعِ (1) الذي هو ثالثُ فنونِ البيانِ المشتمل على ما يُعرف به وجوهُ [مجيء] (2) الكلام [بعد رعاية] (3) المطابقة ووضوحِ الدِّلالةِ، قد جمع المصنّفون في علم المعاني من ذلك عددًا يسيرًا بالنسبة إلى ما ذكره أهلُ البديعيَّاتِ، والكلُّ بالنسبة إلى ما يحتمله الكلامُ والتحسينُ يسيرٌ غيرُ كثير، حرَّرْتُ هذه النُّبذةِ كالبُرهان على هذه الدعوى فتحًا للباب ورفعًا للحجاب، وتنشيطًا لِهمَم ............................................
_________
(1) البديع في اللغة: كلمة (بديع على وزن ((فعيل)) تأتي لغة بمعنى اسم الفاعل وبمعنى اسم المفعول.
يقال لغة: بدع فلان الشيء يبدعه بدعًا إذا أنشأه على غير مثال سبق، فالفاعل للشيء بديع، والشيء المفعول بديع أيضًا.
ويقال أيضًا: أبدَع أي: أتي بما هو مبتكر جديد بديع على غير مثال سبق فهو مبتدع والشيءُ مُبْدعٌ.
وقد أطلقت كلمة (البديع) على العلم أو الفن الجامع والشارح للبدائع البلاغية المشتملة على المحسنات المعنوية، والمحسنات اللفظية من منثورات جمالية في الكلام، فما لم يلحق بعلم المعاني، لا بعلم البيان.
فعلم البديع اصطلاحًا: هو العلم الذي تعرف به المحسنات الجمالية المعنوية واللفظية المنثورة، التي لم تلحق بعلم المعاني، ولا بعلم البيان. أ) المحسنات الجمالية المعنوية: هي ما يشتمل عليه الكلام من زينات جمالية معنوية قد يكون بها أحيانًا تحسين وتزيين في اللفظ أيضًا ولكن تبعًا لا أصالة. ب) المحسنات الجمالية اللفظية: هي ما يشتمل عليه الكلام من زينات جمالية لفظية قد يكون بها تحسين وتزيين في المعنى أيضًا، ولكن تبعًا لا أصالة.
(2) في (أ) تحسين.
(3) في (ب) بُعيد عامة.(12/6087)
[الطالبين] (1) أهل الفنِّ وترغيبًا للمشتغلين به المتوفِّرين على التوسُّع منه والاستكثارِ من أنواعه، فإن هذا فنٌّ لا حجْرَ [فيه] (2) ولا منْعَ من الاستزادة منه بل كلُّ ما له مدخلٌ في التحسين فهو بالتنبيه عليه قَمين، والفنُّ في مواضعه واصطلاح أهله فن توسعةٍ وتكثير لا فنُّ حصرٍ وتحجير، فانظُر يا مَن له فهمٌ مُرتاضٌ بلطائف الكلامِ إلى ما اشتملت عليه هذه الأبياتُ التي ذكرتُها في هذا المقام [1].
[فالذي] (3) ينبغي أن تسمى شهادة الديار بما أفاض عليه من الآثار:
آلا إنَّ وادي الجزعْ أضحى ترابُه ... مِن المسّ كافورًا وأعوادُه رَنْدا
وما ذاكَ إلاَّ أنَّ هندًا عشيَّةً ... تمشَّت وجرَّتْ في جوانبه بُرْدًا
[والذي] (4) ينبغي أن يسمي التأنيس بالتأسيس:
وأذكُرُ أيامَ الحِمى ثم أنثني ... على كبدي مِن خشيةٍ أن تصَدَّعا
وليستْ عشيّاتُ الحِمى برواجعٍ ... إليكَ ولكنْ خلِّ عينيكَ تَدْمَعا
[والذي] (5) ينبغي أن يسمّى التهديد مع [التسديد] (6)
وأنتَ وحسبي [قد] (7) تعلم أنَّ لي ... لسانًا أمامَ المجْدِ يبني ويهدمُ
وليس حليمًا مَن تُقَبِّل كَفََّة ... فيرضى ولمنْ مَن يُعضُّ فيحلمُ [1أ]
[والذي] (8) ينبغي أن يُسمَّى قلبَ الوسيلة وإن كانت جليلة:
يقولون خبِّرنا فأنت أمينُها ... وما أنا إنْ خبَّرتُهم بأمينِ
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) زيادة من (أ).
(3) في (أ) هذا.
(4) في (أ) هذا.
(5) في (أ) هذا.
(6) في (أ) التشييد.
(7) في (أ) أنت.
(8) في (أ) هذا.(12/6088)
[والذي] (1) ينبغي أن يسمى التعريضَ بالذم لمن كان وجودُه كالعدم:
أيا شجَرات بالأباطِح من منًى ... على شط وادي البانِ مُشُتبكاتِ
إذا لم يكنْ فيكنّ ظلٌّ ولا جنًى ... فأبعدكُنَّ الله من شَجَرات
والذي ينبغي أن يُسمَّى تهوينَ العليل مع القطعِ [بملامة] (2) الجليل:
إذا كنتَ قد أيقنتَ أنك هالكٌ ... فمالَكَ ممَّا دون ذلك تُشْفِقُ
ومما [جناه] (3) المرءُ ذو الحلم أنه ... يرى الأمرَ حتْمًا واقعًا ثم [يعْلق] (4)
[والذي] (5) ينبغي أن يسمى التجهيل بركوب غير السبيل:
وكلُّ امرئ يدري مواقعَ رَشْدِه ... [ولكنما الأعمى] (6) أسيرُ هواهُ
هوى نفسِه يُعميه عن قبح عينِه ... وينظُرُ عن حدْقٍ عيونَ سواهُ
[والذي] (7) ينبغي أن يسمى تهوينِ الخطْب بما لا بد منه من الكرب:
أرى الناسَ في الدنيا كراعٍ تنكَّرتْ ... مراعيه حتى ليس فيهنّ مَرْتعُ
فماءٌ بلا مرعى ومرعى بغيرها ... وحيث يرى ماءً ومرعً فيتْبعُ
[2] [والذي] ينبغي أن يسمى دفعَ الجحود [بلازم] (8) الوجود:
وقائلةٍ يا راكبَ الخيلِ هل ترى ... أبا ولدي عنه المنيةُ [خلَّتِ] (9)
فقلتُ لها لا علْمَ لي غيرَ أنني ... رأيتُ عليه المشْرفيَّةَ سُلَّتِ
_________
(1) في (أ) هذا
(2) في (أ) بملابسة.
(3) في (أ): يشين.
(4) في (أ) يقلق.
(5) في (أ) هذا.
(6) في (أ) ولكنه أعمى
(7) في (أ) هذا.
(8) في (أ) بلوازم.
(9) في (أ) زلت.(12/6089)
ودارتْ عليه الخيلُ [طوقين] (1) والظُّبا ... وحامتْ عليه الطيرُ ثم تدلَّتِ
فصكَّتْ جبينا كالهِلال إذا بدا ... وقالتْ لك الويلات ثم توَّلتِ
[والذي] (2) ينبغي أن يسميّ المقابلة بما يستلزم المفاضلة:
[لو كنتُ من مازنٍ لم تستبحْ إبلي ... بنو اللَّقيطةِ من ذُهْلِ بن شيبانا
قومٌ إذا الشر أبد ناجذيه لهم ... طاروا إليه جماعاتٍ ووحْدانا
يَجزون من ظلم أهل الظلمِ مغفرةً ... ومن إساءة أهلِ السوء إحسانا
إذًا لقامَ بنصري معشرٌ خُشُنٌ ... عند الكريهةِ إن ذلوا ببرهان
لكنَّ قومي وإن كانوا ذوي عددٍ ... ليسوا من الشرِّ في شيء وإن هانا
كأنَّ ربَّك لم يخلقْ لخشيته ... سواهُم من جميع الخلقِ إنسانا [1ب] (3).
[والذي] (4) ينبغي أن يسمّى الكلامَ المادح مع التفاوت القادح:
كنّا الأَيْمنينِ إذا التقينا ... وكان الأيسرَين بنو أبينا
فأبوا بالنِّهاب بالسَّبايا ... وأُبْنَا بالملوك مُصفَّدينا (5)
[والذي] ينبغي أن يسمّى الأزْرى بمن ارتكب بما هو بالإثم أحرْى.
_________
(1) في (أ) دروين.
(2) في (أ) هذا.
(3) ترتيب الأبيات في النسخة (أ) كالتالي:
لو كنتُ من مازنٍ لم تستبحْ إبلي ... بنو اللَّقيطةِ من ذُهْلِ بنِ شيبانا
إذًا لقامَ بنصري معشَرٌ خُشُنٌ ... عند الكريهةِ إن ذو لوثة هانا
قومٌ إذا أبدا الشر ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافاتٍ ووحْدانا
لكنَّ قومي وإن كانوا ذوي عددٍ ... ليسوا من الشرِّ في شيء وإن هانا
كأنَّ ربَّك لم يخلقْ لخشيته ... سواهُم من جميع الخلقِ إنسانا
(4) في (أ) هذا.
(5) لعمرو بن كلثوم. انظر (المعلقات العشر وأخبار شعرائها).
اعتنى بجمعه أحمد بن الأمين الشنقيطي.(12/6090)
سقوني وقالوا لا تُغنِّ ولو تسقى ... جبالُ حُنين ما سَقوني لغنّتِ
معتّقةً كانت قريشٌ [تعافُها] (1) ... فلما استحلُّوا قتلَ عثمانَ حلّتِ
[والذي] (2) ينبغي أن يسمّى استدراك ما فرَطَ بما يُنبَّه على الغَلَط:
رمتْني على عمَدٍ بثينةُ بعدما ... تولَّى شبابي وارجَحَنّ شبابُها
ولكنما تَرْمَيْنَ نفسًا مريضة ... لعزة منها صفْوُها ولُبابُها
[والذي] (3) ينبغي أن يسمّى الإرشاد إلى ترك الشرّ بالتخويف بما يتعقَّبُه من الضَرّ.
لا تهتِكَنْ من مساوي الناس ما ستَروا ... فيهتِكَ الناسُ سِترًا من مساويكا
واذكر محاسنَ ما فيهم إذا ذُكِروا ... ولا تعِبْ أحدًا منهم بما فيكا
[3] [والذي] (4) ينبغي أن يسمَّى الإرشاد إلى تيسُّر الانقياد:
هو السَّيلُ إنْ واجَهْتَه انقدْتَ طَوْعَهُ ... ويقْتادُه من جانبيه فيتْبَعُ
ومثلُه:
هو السيفُ إنْ لاينْتَه لان لمسُه ... وحَّداه إنْ خاشَنْتَه خَشِنانِ
[والذي] (5) ينبغي أن يسمي التهديد بالمعنى القريب والبعيد:
وعلى عدوك يا بن بنت محمدٍ ... رصد إن ظنّوا الصبح والإظلام
فإذا تنبه رعته وإذا غفا ... سلَّتْ عليه سيوفَك الأحلامُ
[والذي] (6) ينبغي أن يسمى التآلفُ على التكافف:
بنفسيَ مَن لو مرَّ بَرْدُ بنانِه ... على كبدي كانت شفاءً أناملُهْ
ومن هابني في كل شيء وهبْتُه ... فلا هوَ يعطيني ولا أنا سائلُهْ
[والذي] (7) ينبغي أن يسمّى تنزيلَ الإشارة بمنزلة العبارة:
[له لحظات من خفايا سريره ... أُذاكِرُها فيها عِقابٌ ونائلٌ
_________
(1) في (أ) تصرفها.
(2) في (أ) هذا.
(3) في (أ) هذا.
(4) في (أ) هذا.
(5) في (أ) هذا.
(6) في (أ) هذا.
(7) في (أ) هذا.(12/6091)
فأمَّا الذي أمَّنتُ أمَنَ الرَّدى ... وأما الذي أوعدْتُ بالثكل ثاكل
كريمٌ له وجهان: وجْهٌ لدى الرضا ... أسِيلٌ ووجهٌ في الكريهة باسلُ
وليس بمعطي العفْو عن غير قدرةٍ ... ويعفو إذا أمْكنَتْه المقاتِلُ [2أ] (1)
[والذي] (2) ينبغي أن يسمّى الامتحان لمحاسن الإنسان:
تُقلِّبُُهُ لِنخْبَرَ حالتيه ... فتَخْبَرَ منهما كَرمًا وطِيبًا
نميلُ على جوانبه كأنّا ... إذا ملنا نميل على أبينا
[والذي] (3) أن يسمى الاستدلالَ على الكرم بالقُرب في الغنى والبعد في العدم
أسَدٌ ضارٍ إذا هِجْتَه ... وأبٌ برٌّ إذا ما قدرَا
يعرِف الأبعدَ إن أثرى ولا ... يعرِف الأقربَ إمَّا افتقرا
[والذي] (4) ينبغي أن يسمى ربْطَ الاستحسان بما يُفيد الاطمئنان:
إذا بلغ الرأيُ المشورةَ فاستعنْ ... برأي نصيحِ أو نصيحةِ حازمِ
ولا تجعل الشورى عليك غضاضةً ... فإن الخوافي قوّةٌ للقوادم
[والذي] (5) ينبغي أن يسمّى دفعَ الضَّعف ببعض العُنفُ:
تراهم يغمزون من اشتركوا ... ويجتبون من صدَق المصاعا
ومثلُه [قول القائل] (6):
لا يسْلم الشرفُ الرفيعُ من الأذى ... حتى يُراقَ على جوانبه الدمُ
_________
(1) ترتيب الأبيات في النسخة (أ) كالتالي:
له لحظات من خفايا سريره ... أذاكرها فيها عقاب ونائل
كريم له وجهان وجه لدى الرضا ... أسيل ووجه في الكريهة باسل
فأمَّا الذي أمنت أمنة الردى ... وأما الذي أوعدت بالثكل ثاكل
وليس بمعطى العفو عن غير قدرة ... ويعفو إذا ما أمكنته المقاتل
(2) في (أ) هذا.
(3) في (أ) هذا.
(4) في (أ) هذا.
(5) في (أ) هذا.
(6) في (أ) هذا.(12/6092)
ومثلهُ أيضًا:
وإنما الناسُ لا تصفو مودّتُهم ... حتّى تُذيقَهُم كاسًا من الألمِ
ومثلُه أيضًا:
مَن ظلم الناسَ تحامَوا ظُلمَه ... وعز فيهم جانباه وأحظا (1)
ومثلُه أيضًا:
ومَن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدَّم ومن لا يظلم الناسَ يُظلمِ (2)
ومثلُه أيضًا:
وفي الشر نجاة حين لا يُنجيك إحسانُ ... وبعضُ الحِلْمِ عند الجهلِ للذّلَة إذعانُ (3)
[والذي] (4) ينبغي أن يُسمّى التحذير بما يستلزم التكثير:
ولا تُفشِ سِرَّكَ إلاَّ إليكَ ... فإن لكل نصيح نصيحًا
فإني رأتي غواة الرجال ... لا يتركون إذْ نما صحيحًا
ومثله أيضًا:
إذا ضاق صدر المرئ عن سر نفسه ... فسر الذي مستودع السر أضيق
[والذي] (5) ينبغي أن يسمّي المنذِرَ من المبادئ الحسن مع العواقب الخشنِة:
الحربُ أولَ ما يكون فتيّةٌ ... تسْعى لريبتها لكل جَهولِ
سمطًا حوَتْ رأسها وسكرت ... مكروهةٌ للشمّ والتقبيل
حتى إذا حمَلَتْ وشبّ ضِرامُها ... عادت عجوزًا غير ذات خليل
_________
(1) غير واضح البيت في المخطوط.
(2) للشاعر زهير بن أبي سلمى في معلقته. انظر: (المعلقات العشر) (ص50).
(3) لعل البيت:
وفي سوء نجاة حين لا ينجيك إحسانُ ... وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان
(4) في (أ) هذا.
(5) في (أ) هذا.(12/6093)
[والذي] (1) ينبغي أن يسمّي المكافة للآفة بالآفة:
ولا أتمنى الشر [لو كان] (2) تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب (3)
[والذي] (4) ينبغي أن يسمّي التصير لنيل الشرف الكبير:
أبت لي همتي وأبى إبائي ... وأخذ المجدَ بالثمن الربيحِ
وقولي كلما جشأت وجاشت ... ويدَك تُحْمدي أو تستريحي
وإقدامي على المكروه نفسي ... وضَرْبي هامةَ البطلَ المُشيحِ (5)
فإما رُحتُ بالشرف المعلى ... وإمّا رُحتُ بالموتُ المريح [2ب]
ومثلُه [يعني التصبير] (6) قولُ الآخر:
أقول لها وقد طارتْ شعاعًا ... من الأبطال وَيْحكِ لا تُراعي
فإنَّك لو سألتِ بقاءَ يومٍ ... على الأجل الذي لك لم تُطاعي
ومثلُه أيضًا:
فتًى مات بين الطعنِ والضربِ ميتةً ... تقوم مقامَ النصرِ إنْ فُقِد النصرُ
فأثبتَ في مستنقعِ الموتِ رِجْلَه ... وقال لها من تحت أخْمصِكِ الحشرُ
تردى ثياب الموتِ حُمرًا فما أتى ... لها الليلُ إلاَّ وهي من سندسٍ خُضْرُ
ومثلُه أيضًا:
لا بدّ أن أركَبَها صَعْبةً ... وقاحةً تحت عَلامٍ وَقاحْ
أُجهِدُها أن تنثني بالرَّدى ... دون الذي أمَّلتُ أو بالنّجاحْ
_________
(1) في (أ) هذا.
(2) في (أ) والشر.
(3) كذا في المخطوط غير واضح.
(4) في (أ) هذا.
(5) موقعه بعد البيت الأول كما في المخطوط (أ).
(6) زيادة من (ب).(12/6094)
إما فتًى نال المُنى فاشتقى ... أو بطلٌ ذاق الرَّدى فاستراحْ
[والذي] (1) ينبغي أن يسمّى تنزيهَ الحبيب عن التشريك للجَنيب:
وكيف ترى ليلى بعينٍ ترى بها ... سواها وما طهرَّتَها بالمدامعِ
وتلتذّ منها بالحديث وقد جرى ... حديثُ سِواها في خروت المسامعِ
أجَلَّكِ يا ليلى عن العين أنما ... أراكِ بقلبٍ خاشعٍ لك خاضع
ومثلُ ذلك:
إذا كان هذا الدمعُ يجري صبابةً ... على غير ليلى فهو دمْعٌ مُضيَّعٌ
[والذي] (2) ينبغي أن يسمّى تحذير الرفيع عن عداوة الوضيع:
بلاءٌ ليس يُشْبِهُه بلاءُ ... عداوةُ غير ذي حسَبٍ ودينِ
يُبيحُك منه عرضًا لم يصُنْه ... [ويُوقِعُ] (3) منك في عِرْض مَصونِ
[والذي] (4) ينبغي أن يسمّى الترغيبَ في البداية ببيان حالِ النهاية:
لا تبْخَلَنَّ بدُنيا وهي مقبلةٌ ... فليس ينقُصُها التبذيرُ والسَّرَفُ
فإن تولَّيتْ [فأجْري أن [عود بها] (5)] (6) ... فالحمدُ منها إذا ما أدبَرَتْ خَلَقُ
[6] [[والذي] (7) ينبغي أن يسمى التنفير بذكر النظير:
لا تُضعْ من عظيم قدْرٍ وإن كنـ ... ـت مُشارًا إليه بالتعظيمِ
ولعُ الخمرِ بالعقول وفي الخمر ... يتخذها وبالتحريم (8)] (9)
والذي ينبغي أن يسمّى تحمُّلَ الثقيل لنيل الثناء الجزيل:
_________
(1) في (أ) هذا.
(2) في (أ) هذا.
(3) في (أ) ويرتع.
(4) في (أ) هذا.
(5) لعله (أعود بها).
(6) في (أ) (فأحرى أن تجود بها).
(7) في (أ) هذا.
(8) كذا في المخطوط غير واضح.
(9) زيادة من (ب).(12/6095)
إذا المرءُ لم يدْنَسْ من اللؤُم عرِضُه ... فكلُّ رداءٍ يرتديه جميلُ
إذا المرء أعيتْه السيادةُ ناشئًا ... فمطلَبُها كهلاً عليه شديد
وإن هو لم يحمِلْ على النفس ضيمَها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل [3أ] (1)
[والذي] (2) ينبغي أن يسمى شهادةَ الجماد لمن كان من الأجواد:
يا أكرمَ الناسِ من عُجْمٍ ومن عرَبٍ ... بعد الخليقةِ يا ضِرغامَةَ العربِ
أفنيتَ مالكَ تُعطيه وتنهبُه ... يا آفة الفَضّةِ البيضاء والذهَبِ
إن السِّنانَ وحدَّ السيفِ لو نطقا ... لأخبرا عنك في الهيجاء بالعجب
[والذي] (3) ينبغي أن يسمّى تجويدَ الحِلية للظَّفر بالعَطايا الجليلة:
وامرأةٍ بالبخل قلنا لها اقصِري ... فليس إلى ما تأمُرين سبيلُ
فِعالي فِعالُ المُكْثرين تجمُّلاً ... ومالي كما قد تعلمينَ قليل
وكيف أخافُ الفقْرَ أو أُحرَمُ الغنى ... ورأيُ أميرِ المؤمنين جميلُ
ومثلُه قولُ الآخر:
إليك عني فقد كلَّفتني شطَطًا ... حَمْلَ السلاحِ وقولَ الدّراعين قِفِ
أمِنْ رجال المنايا خلْتَني رجلاً ... أو أن قلبي في جَنْبيْ أبي دُلَفِ
[والذي] (4) ينبغي أن يسمّى الهجْوَ المَهين بمدح القَرين:
لشتّان ما بين البزيدين في الندا ... بزيد سُليمٍ والأغرّ ابن حاتمِ
فَهَمُّ الفتى الأزْديّ إنفاقُ مالِه ... وهمُّ الفتى القيسيِّ جمعُ الدراهم
فلا يحسَبِ التَّمتامُ أني هجَوْتُه ... ولكنَّني فضَّلْتُ أهلَ المكارم
_________
(1) ترتيب الأبيات في النسخة (أ) كالتالي:
إذا المرءُ لم يدْنَسْ من اللؤُم عرِضُه ... فكلُّ رداءٍ يرتديه جميلُ
وإن هو لم يحمِلْ على النفس ضيمَها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل
إذا المرء أعيتْه السيادةُ ناشئًا ... فمطلَبُها كهلاً عليه شديد
(2) في (أ) هذا.
(3) في (أ) هذا.
(4) في (أ) هذا.(12/6096)
يُعَدّ الناسبون إلى تميمٍ ... بيوتَ المجدِ أربعَةَ كِبارا
يَعُدّون وآل سعدٍ وعمرًا ... وعَمرًا ثم حنظلةَ الخيارا
ويذهبُ بينهما المُريُّ لغْوًا ... [كما ألغيتَ في الديَّة] (1) الحُوارا
ومن هذا قول الآخر:
بين [الغربونين] (2) بون في فعالهما ... هذا يُعطي وهذا يأخذ الصَّدَقهْ
[والذي] (3) ينبغي أن يسمَّى تحبيب ما به الإيجاع لما فيه من الارتفاع:
لو كان يقْعُد فوق النجمِ من شرَفٍ ... قومٌ بأولهم أو مجْدِهم قعَدوا
مُحَسَّدون على ما كان من نِعَمٍ ... لا ينزعْ اللهُ عنهم ما به حُسِدوا
[7] ومن هذا:
يجود بالنفس أن ضنَّ الجبان بها ... والجودُ بالنفس أقصى غاية الجودِ
ومنه:
لولا المشقةُ ساد الناسُ كلُّهُمُ ... الجودُ [يفقر] (4) والإقدامُ قتَّالُ
[والذي ينبغي] (5) تنشيط المقصودِ إليه بأنه لا كريمَ إلاَّ مَن يدُلّ عليه:
ولقد ضربنا في البلاد فلم نجدْ ... أحدًا سواكَ للمكارم ينُسبُ
وإكرامًا ما ندري إذا ما فاتنا ... طلبٌ إليك من الذي نتطلّبُ
فاصبِرْ لعادتك التي عوَّدْتَنا ... أوْلاً فأرشدنا إلى من نتقرَّبُ [3ب] (6)
_________
(1) في (أ) (كماء الغيب في القرية).
(2) الوزن مكسور ولعل الأصل بين الغريبين أو الفريقين ونحو ذلك.
(3) في (أ) هذا.
(4) في (ب) (يفنى).
(5) في (أ) هذا ينبغي أن يسمى.
(6) ترتيب الأبيات في النسخة (أ) كالتالي:
والله ما ندري إذا ما فاتنا ... طلب إليك من الذي نتطلب
ولقد ضربنا في البلاد فلم نجدْ ... أحدًا سواكَ للمكارم ينُسبُ
فاصبِرْ لعادتك التي عوَّدْتَنا ... أوْلاً فأرشدنا إلى من نذهب(12/6097)
[والذي] (1) ينبغي أن يسمَّى المدح بجميع الأوصاف التي يتنافس فيها الأشراف:
هم القوم إن قالوا أصابوا وإنْ دُعُوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأنزلوا
وما يستطيع الفاعلون فِعالَهم ... وإن أحسنوا في الثنيات وأجملوا
[والذي] (2) ينبغي أن يسمَّى القول الفصْل المبنيّ عن الثناء الجزْل:
عجبتُ لحرّاقهَ بنِ الحسيـ ... ـن كيف تسير ولا تغْرَقُ
وبحرانِ: من تحتها واحدٌ ... وآخَرُ من فوقها مُطْبِقُ
وأعجَبُ من ذاك عيدانُها ... وقد مسّها الكفُ لا تورق
[والذي] (3) ينبغي أن يسمَّى حسن الاعتذار مع تعظيمِ المقْدار:
أتاني أبيتَ اللعْنَ أنك لمتني ... وتلك التي تصطك منها المسامعُ
فبتُ كأني ساوَرَتني ضئيلةٌ ... من الرُّقش في أنيابها السمُّ ناقِعُ
أكلَّفْتَه ذنبَ امرئٍ وتركْتَه ... كذا الغِرُّ يكْوي غيرَه وهو راتِعُ
فإنك كالليل الذي هو مدْركي ... وإن خلْتُ أن المنتأى عنك واسعُ
ومثل هذا [قوله] (4) وقد سمّاه بعضُ أهلِ البيان باسم آخرَ ولا تزاحم بين المُقتضيات:
[ولست بمستبقٍ أخًا لا تلمُّهُ ... على شعثٍ أي الرِّجالِ المهذّبُ؟
فإن أكُ مظلومًا فعبدٌ ظلمته ... وإن تك ذا عُتبي فمثلك يُعْتِبُ
حَلَفْتُ فلم تتركْ لنفسكِ ريبةً ... وليس وراء اللهِ للمرء مذهَبُ
لئن كنتَ قد بُلِّغتَ عني جناية ... لمُبْلِغُكَ الواشي أغَشُّ وأكذبُ
ألم تر أن الله أعطاك سورةً ... ترى كلَّ مَلْكٍ دونها يتذَبْذبُ
_________
(1) في (أ) هذا.
(2) في (أ) هذا.
(3) في (أ) هذا.
(4) زيادة من (ب).(12/6098)
فإنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طلعتْ لم يبقَ منهم كوكبُ] [8] (1)
[والذي] (2) ينبغي أن يسمَّى تأثير إطلاق اسم الجواد في حصول المراد:
[يهز] (3) حديثُ الجودِ ساكنُ عِطْفِه ... كما هزّ شرْبَ الحيِّ صهباءُ قرْقَفُ
إذا قيل عونُ الدين حيّا تألُّقُ كا ... لغمامِ وماسَ السَّمْهَريُّ المثقَّفُ [4أ]
[والذي] (4) ينبغي أن يسمَّى الاستدلال على الحب مما تجدُه في تيسير الزيارة من البعد والقرب:
يا ليلُ ما جئتكُمُ زائرًا ... إلاَّ رأيتُ الأرضَ تُطْوى ليا
ولا ثنيتُ العزْمَ عن بابكم ... إلاَّ تعثَّرْتُ بأذياليا
والذي ينبغي أن يسمى التمويه على الرقيب السفيه:
أبكي إلى الشرق إن كانتْ منازلُها ... مما يلي الغرْبَ خوفَ القيلِ والقالِ
أقول في الخدّ خالٌ حين أنْعَتُها ... خوفَ الوشاةِ وما بالخدّ منْ خالِ
وفي هذا المقدار كفايةٌ، فليس المرادُ إلا رفعَ التحجير ودفعَ الحصْرِ بإيراد هذه الأبياتِ التي هي من فائق الشعرِ ورائعِ [رائق] النظم ومن زاد زاد اللهُ في حسناته [حرره مؤلف غفر الله له]. (5)
[انتهى من كلام مؤلِّفِه أمد الله بحياته وتولى إعانته ومكافأتَه بتاريخ خمسٍ من شهر شوال سنة 1243 بعناية سيدي العلامة المحقق الفهامة الصفيّ أحمدَ بن زيد بنِ عبد الله الكبسي، أمتَعَنا الله بطول حياتِه وكان معه في جميع حالاتِه، وأسكنه بعد العمرِ الطويل
_________
(1) الأبيات نظمها الشاعر النابغة الذبياني معتذرًا إلى النعمان ومادحًا إياه.
انظر: (ديوان النابغة الذبياني) (ص27 ـ 28) والأبيات كتبها الشوكاني وفيها تأخير وتقديم.
(2) في (أ) هذا.
(3) في (ب) (بهنَّ).
(4) في (أ) هذا.
(5) زيادة من (أ).(12/6099)
فسيحَ جنّاتِه. آمين] (1). اللهم آمين [4ب].
_________
(1) زيادة من (ب).(12/6100)
(205) 48/ 4
بحث في الرد على الزمخشري في استحسان المُرِبَّةَ
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّ عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/6101)
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في الرد على الزمخشري في استحسان المُرِبَّة.
2 ـ موضوع الرسالة: لغة العربية.
3 ـ أول الرسالة: الحمد لله وصلى الله على رسوله وآله وسلم.
قد عجبت كثيرًا من استحسان الزمخشري يرحمه الله لقول الشاعر.
4 ـ آخر الرسالة: إذا تدبرها المتدبر وجدها من تقليد الأصاغر للأكابر بدون تفكّر ولا تدبُّر. قاله كاتبُه غفر الله له.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 ـ عدد الصفحات: 3 صفحات.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة الأولى: 12 سطرًا.
الثانية: 30 سطرًا.
الثالثة: 10 أسطر.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات.
9 ـ الرسالة من المجد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/6103)
: الحمد لله وصلى الله على رسوله وآله وسلم ـ.
قد عجبت كثيرًا من استحسان الزمخشري (1) يرحمه الله لقول الشاعر:
_________
(1) في (الكشاف)
(1/ 160). وهو الشاهد الثامن والأربعون بعد الثلاثمائة:
ألا أيُّها الطّيرُ المُربَّةِ بالضحى ... على خالدٍ لقد وقعتِ على لحمٍ
وكذا أورده في تفسيرهما ـ الزمخشري والبيضاوي ـ عند قول تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] على تنكير هدىً للتعظيم أي هدى عظيم, كتنكير لحم في هذا البيت, أي لحم عظيم, والفرق بينهما أنَّ الأول مفهومٌ من اللفظ المحذوف, والثاني من الفحوى, والمحوج إلى هذا استقامة المعنى, ولولاه لكان لغوًا لا يفيد شيئًا, ولهذا اعتبر, سواء كان بالقرينة الأولى أو الثانية.
ونقل عن الزمخشري أنّه كان إذا أنشد هذا البيت يقول: ما أفضحك من بيت! والبيت من شعر مذكور في أشعار هذيل ذكر موضعين منها, ذكر في الموضع الأول ستة أبيات, وفي الموضع الثاني اثنين وثلاثين بيتًا.
وأما الرواية الأولى, والشعر منسوبٌ لأبي خراش فهى هذه.
إنك لو أبصرتِ مصرع خالدٍ ... بجنب السَّتار بين أظلمَ فالحزم
لأيقنت أنَّ البكرَ ليس رزيَّة ... ولا النَّاب, لا اضطمَّت يداك على غُنمِ
تذكَّرتُ شجوًا ضافني بعد هجعةٍ ... على خالدٍ فالعين دائمةُ السَّجم
لعمرُ أبي الطَّير المرُبة بالضحى ... على خالدٍ لقد وقعت على لحمِ
كلية, وربِّى, لا تجيئين مثله ... غداة أصابته المنيَّةُ بالرّوْم
ولا وأبي تأكل الطَّيرُ مثله ... طويل النِّجاد غير هارٍ ولا هشم ?
إنك لو أبصرت مصرع خالدٍ, خطاب لعشيقة خالد بن زهير الهذلي قُتل بسببها. وخالد هو ابن أخت أبي ذؤيب الهذيلي. ?
أظلم: موضع قريب من السِّتار. ?
الحزم: موضع يقال له حزم بني غُوَال. ?
(لأيقنت أن البَكر) البَكْر: الجمل الشاب, والناب: الناقة المسنّة.
يقول لو رأيت هلاك خالد لعلمت أن ذهاب البكر والناب ليسا بمصيبة, استخففتِ مصابهما, وقوله: (اضطمَّت) هو دعاء عليها, وهو افتعلت من الضم.
أي لاغنِمتْ يداك بل خيبك الله, إذ صرت تحزنين على هذا البكر. ?
قوله: لقد وقعت علة لحم: كان ممنوعًا.
وأراد بأبي الطَّير خالدًا سمّاه به لوقوعها عليه كما يقال أبو تراب ونحو وقيل أراد أبت الطَّير الواقعة لحمة, واستعظمها بالقسم بها لاستعظام لحم خالدٍ العظيم ففيه تعظيم للإقسام عليه بنفسه.
والرِبَّة: اسم فاعل. صفة الطير, من أربَّ بالمكان إذا أقام به وروى في التفسيرين ـ الزمخشري والبيضاوي ـ.
فلا وأبي الطير المرِبَّةَ بالضُّحى.
وأما الرواية الثانية نسبها الأخفش للخراش ابن المذكور.
انظر: (خزانة الأدب) (5/ 85 ـ 90).(12/6107)
فلا وأبى الطير المُرِبّة في الضُّحى ... على خالدٍ لقد وقعت على لحمِ
حتى كان يقول: ما أبلغَك يا بيتُ المُرِبَّة! وغاية ما في هذا البيت دلالةُ اللحم على عِظَمِ حال الرجلِ، وكِبَرِ شأنِه، فكنَّى عن ذلك باللحم، ونكَّره تنكيرُ التفخيم، فمن أين جاء هذا التعجُّبُ من بلاغته، والاستعظام لشأنه! من هذا الذي بلغ من معرفة لغة العرب ودقائقِها وأسرارِها ما لا يقعُ في مثله اختلافٌ، وليس فيه إلاَّ معنى كنائيُّ مطروقٌ معروفٌ. ألا قال مثلَ هذه المقالةِ في مثل قولِ القائل (1):
إن السماحةَ والمروءةَ والندى ... في قبةٍ ضُرِبَتْ على ابن الحشرج (2)
فإن هذا قد بلغ من فصاحة اللفظِ، وبلاغة المعنى، وجودةِ الكنايةِ، وتعدَّد المعاني ما هو فوقُ ذلك بمسافات بعيدةٍ، وإن كان تعجبه واستحسانُه باعتبار ذكرِ الطير [1ب] وكونِها مرَّتْ بهِ في ذلك الوقتِ على ذلك القتيل فأعجبُ من هذا، وأغرب، وأحسن،
_________
(1) هو زياد بن سليمان مولى عبد القيس أحد بني عامر بن الحارث ثم أحد بني مالك بن عامر الخارجية. وقيل زياد بن سلمى.
(خزانة الأدب) (4/ 193)، (الشعر والشعراء) (ص395).
(2) هو عبد الله بن الحشرج.
انظر: (الأغاني) (15/ 385).(12/6108)
وأفخم، وأجود قولُ القائل (1):
وقد ظُلِّلت عُقْبَانُ راياته ضُحًا ... تعفيانِ طيرَ الدني نواهل
أقامت على الرايات حتى كأنَّها ... من الجيش إلاَّ أنها لم تقاتلِ
فهاهنا جعل الطير لكثرة نصرِ صاحب الرايات واثقةً بنصره لاعتيادِها لذلك، واستمرارها عليه، حتى كأنها عند الغزو واثقةٌ ستأكلُ من لحوم أعدائِه، فأثبت لها هذا العلم المفيدَ لاستمرار النصر، وأنه للممدوح عادةٌ جاريةٌ، مع كونها متراكمةً على راياته حتى ظللتَها.
ومع ما ذكر العقبانِ على العقيانِ من الحسن البالغ، والجناس الفائقِ. ثم ألا قال الزمخشري ـ رحمه الله ـ هذه المقالةَ فيما هو أحق بها وأولى، وهو قول القائل:
وقائلةٍ يا راكبَ الخيل هل ترى ... أبا ولدي عنه المنيةُ ذلَّتِ
فقلت لهاك لا علمَ لي غيرَ أنني ... رأيتُ عليه المشرفيةُ سُلَّتِ
ودارت عليه الخيلُ دورينِ بالقَنَا ... وحامتْ عليه الطيرُ ثم تدلَّتِ
فصكَّت جبينًا كالهلالِِ إذا بدا ... وقالت لك الويلاتُ ثم تولَّتِ
فهاهنا قد قوله: وحامت عليه الطيرُ ثم تدلَّتِ أحسنَ موقعٍ من الدلالة على أنه قتيلٌ يأكل من لحمه الطيرُ، مع أن أكلَ لحومِ القتلى عادةٌ للطيور، فليس في قوله: على لحم ما قدمنا في العقبانِ المظلِّلَةِ للرايات من حصول العلمِ لها المستفادِ من العادة الجاريةِ العائدة على الممدوح بأكبرِ مدح، وأفخمِ ثناءٍ. وغايةُ ما في بيت المربَّةِ أنه لحمُ رجلٍ عظيم، فقايس بين هذا المدح العائدِ إلى صاحب اللحمِ، وبين المدح العائد إلى صاحب الراياتِ، فإنك تجده ما بين الثَّرا والثُّريَّا، ومطلعِ الشمس ومغربِها.
ومثلُه قول القائل (2):
_________
(1) أبو تمام، انظر ديوانه (ص233) في قصيدة يمدح المعتصم ...
(2) قال في (خزانة الأدب) (4/ 289) هذا المعنى أعني تتبع الطير للجيش الغازي للأعداء حتى تتناول من القتلى متداولٌ بين الشعراء قديمًا وحديثًا وأوّل من جاء به الأفوَهُ الأوديُّ في قوله:
وتر الطيرَ على آثارنا ... رأي عينٍ، ثقةً أن ستَمُارُ
أي تأخذه الميرة من لحوم القتلى.
وكلهم قصر عن النابغة لأنه زاد في المعنى فأحسن التركيب، ودلَّ على أنَّ الطير إنَّما أكلت أعداءَ.
الممدوح.
قال النابغة مادحًا عمرو بن الحارث الأصفر ابن الحارث الأعرج، حين لجأ إليه في الشام:
إذا ما غزوا بالجيش، حلَّق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب
جوانحَ قد أيقنَّ أنّ قبيلة ... إذا ما التقى الجيشان أولُ غالبِ
لهنَّ عليهم عادةٌ قد عرفنها ... إذا عُرِضَ الخطيُّ فوق الكواثبِ
(خزانة الأدب) (4/ 589 ـ 290) (ديوان النابغة الذبياني) (ص30 ـ 31).(12/6109)
وترى الطيرَ على راياتِنا ... عاكفاتٍ ثقةً أن ستَمُار
فإنه يفيد ذلك المعنى مع التصريح بلازم المعنى، وهو أنها ستدرك الميرة، وأنها واثقةٌ بذلك.
نعم. قد صار التقليد للأكابر عادة مستمرةً، وطريقة مسلوكة، انظر قول عمرَ بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لما قال له قائل: من أشعرُ الناس؟ فقال: الذي يقول:
ربما أوفيتُ في عَلَمٍ ... ترفعنَ ثوبي شمالاتِ (1)
فانظر أي معن يوجب تفصيل قول هذا الشاعر، فإن غاية ما هناك أنه طلعَ جبلاً، فهبتِ الريحُ فرفعتْ ثيابَه. فهذا بيت سمجٌ خالٍ عن كل محسِّنٍ [2أ]، بل ليس فيه معنى يستحق أن يُنظَمَ.
_________
(1) عزاه ابن منظور في (اللسان) (7/ 200) لجزيمة الأبرش.
رُبَّما أوفيتُ في عَلَمٍ ... ترفعَنْ ثوبي شَمَلاتُ
والشِّمال ريح تهب من قبل الشام عن يسار القبلة.
وقيل: الشِّمال: مهب الشمال من بنات نعشِ إلى مسقط النَّسْر الطائر ويكون اسمًا وصفةً والجمع شَمَالاتٌ.(12/6110)
انظر لو أخبرك مخبرٌ أنه طلع جبلاً فرفعتِ الريحُ ثيابه فإنك لا تقول له بعد سماع هذا منه إلاَّ سخنْت عينُك، فكان ماذا؟ فهلا قال هذا القولَ في قول الخنساء (1):
وإنَّ صخرًا لتأتمُّ الهداةُ به ... كأنه علمٌ في رأسه نارٌ (2)
فانظر إلى ما اشتمل عليه هذا البيتُ من المدح الفائق البالغ إلى أعلا منزلٍ من منازل الفصاحة والجَوْدَةِ والمِدْحَةِ الرائقةِ الفائقةِ، وانظر أين يقعُ قولُ ذاك البائس من ول هذه المرأةِ!، وكم لهذه الأمور من أخواتٍ إذا تدبَّرها المتدبِّر وجدها من تقليد الأصاغرِ للأكابر بدون تفكُّر ولا تدبُّر.
قاله كاتبه ـ غفر الله له ـ. [2ب].
_________
(1) هي تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد بن رباح بن يقظة بن عصيَّة بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة (وقيل: نهية) بن سليم بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان بن مضر بن وتكنَّى أم عمرو.
(2) قتل أخوها لأبيها صخر، وكان أحبهما إليها لأنَّه كان حليمًا جوادًا محبوبًا في العشيرة، كان غزا بني أسد فطعنه أبو ثور الأسدي طعنة مرض منها حولاً. ثم مات فلما قتل أخوها أكثرت من الشعر فمن قولها في صخر:
أعينيَّ جُودَا ولا تجمُدا ... ألا تبكيان لصخر النَّدى
ألا تبكيان الجريءَ، الجميلَ ... ألا تبكيان الفتى السّيدا
طويل النَّجاد عظيمُ الرَّما ... د ساد عشيرتُه أمردا
وأجمع أهل العلم بالشعر أنّه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها.
حضرت الخنساء بنت عمرو السلمية حرب القادسية ومعها بنوها أربعة رجال فذكرت موعظتها لهم وتحريضهم على القتال وعدم الفرار وفيها: إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين. وإنكم لبنوا أبٍ واحد وأم واحدة. ما هجنت آباءكم، ولا فضحت أخوالكم فلما أصبحوا باشروا القتال واحدًا بعد واحد حتى استشهدوا.
(الإصابة) (8/ 109 ـ 110 رقم 11112) (ديوان الخنساء) (ص40).(12/6111)
(206) 2/ 4
فتح القدير في الفرق بين المعذرة والتعذير
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّ عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/6113)
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: فتح القدير في الفرق بين المعذرة والتعذير.
2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وبعد، فإنه وصل سؤال من سيدي العلامة جمال الإسلام علي بن يحيى أحيا الله به معاهد العلوم، ولفظه ....
4 ـ آخر الرسالة: لأن سؤال السائل كثر الله فوائده قد تعلق بالآيتين من تلك الحيثية فكان في التعرُّض لتفسيرهما تكميلٌ للفائدة والله أعلم.
حرره في ليلة الاثنين من ليالي شهر ربيع الآخر سنة 1214هـ.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 ـ عدد الصفحات: 15 صفحة.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 18 ـ 19 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 9 ـ 12 كلمة.
9 ـ الرسالة من المجد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/6115)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله.
وبعد:
فإنه وصل سؤال من سيدي العلامة جمال الإسلام علي بن يحيى (1) ـ أحيا الله به معاهد العلوم ـ. ولفظه:
أشكل على المحب قولُ الزمخشري (2) في سورة الأنفال (3) على قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} ولكنها تعمُّكم، وهذا كما يحكي أن علماء بني إسرائيل نُهُوا عن المنكرِ تعذيرًا، فعمهم الله بالعذاب (4) مع قوله فيما تقدم في سورة الأعراف على قوله تعالي: {(وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ .... إلخ} (5).
فإن قلت: الأمة الذين قالوا: (لما تعظون) من أي الفريقين هم؟ أمن فريق الناجين؟ أم من المعذبين؟ قلت: من فريق الناجينَ، لأنَّهم من فريق الناهين. انتهى.
فظهر من هذا أَن الذين نُهوا وقالوا: (معذرةً) لم يعمَّهم العذابُ ... وهل أشار في القصة الأولى أعنى قوله كما (يحكى ... إلخ) إلى هذا أم لا؟ وهل بين المعذرة والتعذير فرقٌ؟ انتهى.
أقول ـ وبالله الثقة، وعليه التوكل ـ: إن الجواب عن هذا السؤال ينحصر في أبحاث ثلاثة:
_________
(1) انظر (البدر الطالع) رقم الترجمة (351).
(2) تقدمت ترجمته.
(3) [الأنفال: 25].
(4) انظر (تفسير القرآن العظيم) لابن كثير (4/ 38).
(5) [الأعراف: 164].(12/6121)
الأول: الفرق بين المعذرة والتعذيرِ ـ وبه يندفع الإشكالُ، ويتضح مرادُ ذي الجلال ـ إذ هذا الأمرُ هو الحامل على السؤال.
البحث [1أ] الثاني: في تقرير معنى قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (1)
البحث الثالث: في تقرير معنى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ... } (2) الآية.
الفتح 3
من 6123 إلي آخر ص6277
_________
(1) [الأنفال: 25].
(2) [الأعراف: 164].(12/6122)
[البحث الأول
الفرق بين المعذرة والتعذير]
أما البحث الأول: فاعلم أن التعذير مصدرُ عذَّر بتشديد الذالِ المعجمة، ومعناه عند أهل اللغة عدمُ ثبوتِ العذرِ.
قال في القاموس: (1) (عذَر تعذيرًا لم يثبتْ له عذْرٌ) انتهى.
ومنه قوله تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} (2) أي المقصرون الذين لا عُذْر لهم، كما صرح بذلك أئمة التفسير، (3) ومصدره (التعذير)، فمراد العلامة الزمخشري (4) بقوله: (إن بني إسرائيل نهوا عن المنكر تعذيرًا) أي أَنهم لم يُنْهَوْا عن المنكر لقصد القيامِ
_________
(1) (ص561).
(2) [التوبة: 90].
(3) انظر: (الجامع لأحكام القرآن) (8/ 228 ـ 229).
قال الراغب الأصفهاني في (مفردات ألفاظ القرآن) (ص 555 ـ 556):
العُذرُ: تحرِّي الإنسان ما يمحو به ذنوبه ويقال: عُذْرٌ وعُذُرٌ وذلك على ثلاثة أضرب:
إما أن يقول: لم أفعلْ، أو يقول: فعلت لأجل كذا، فيذكرُ ما يخرجه عن كونه مذنبًا. أو يقول: فعلت ولا أعود، ونحو ذلك من المقال. وهذا الثالث هو التوبةُ، فكل توبة عُذرٌ وليس كل عُذر، واعتذرت إليه: أتيت بعذر، وعَذَرتْه عذره قال تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا} [التوبة: 94].
والمُعذِّر: من يرى أن لا عذْرًا ولا عُذْر له. قال تعالي: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} [التوبة: 90] وقرئ: المُعْذِرون، وقوله: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف: 164]، فهو مصدر عذَرْتُ، كأنه قيل: اطلب منه أن يعذرني وأعذر: أتى بما صار به معذورًا، وقيل: أعذَرَ من أنذر أتى بما صار به معذورًا.
وقال بعضهم: أصل العُذْر من العَذِرة وهو الشيء النجس.
(4) في الكشاف (2/ 122).(12/6123)
بما أوجبه الله عليهم، ولأجل إبلاء العذرِ، بل نهوا عنه لقصد التعذير مع قيام الحجة عليهم، وقدرتِهم على دفع المنكرِ، وعدمِ وجود عذرٍ لهم مسوِّغٍ لما وقع منهم من التعذير، وذلك كما يفعله من كان قادرًا على دفع ما يراه من المنكر بالفعل من التكلُّم باللسان مع ضعف عزيمةٍ، وانكسار شكيمةٍ في المواقف التي لا تأثير للكلام فيها معتِقدًا أن مجر تكلُّمِهِ بلسانِه في غير مواطن النفعِ ينفعُه ويقومُ بإسقاط ما أوجبه الله عليه من إنكار المنكرِ، وهو يعلم يقينًا أنه قادرٌ على دفع المنكر بالفعل، والأخذِ بيد الظالم، والحيلولة بينه وبين انتهاك الحرمِ المحرَّمةِ فمن كان بهذه المثابةِ، وله هذه المنزلة والمكانة ففرضُه تغييرُ المنكر بيده لا تبرأُ ذمتُه ويسقطُ فرضُه بدون ذلك [1ب] فإذا ترك المنكر وتعلَّل بمجرد توجُّعه وتحسُّره وتَلَهُّفِه في مواقف الخلواتِ بين أحبابِه وأترابه ومعارفه، فلم يأت بشيء مما أمره الله به، بل هو التعذيرُ بعينه، وإن لوى شِدْقَهُ وعَصَر جفْنَه، وقطَّبَ وجهَهُ فهو عن الأمر الذي أوجبه الله عليه وتعبَّد به بمراحلَ {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} (1) وهكذا استروح إلى مجرد الإنكار بقلبه، وهو قادر على التكلم بلسانه فهو أيضًا لم يأت بما أمره الله به، ولا قام بما هو فرضُه.
بل ما فعل إلا مجرَّدَ التعذيرِ فقطْ، لأن الله ـ سبحانه ـ أوجب على عباده إِنكارَ المنكر بالقول مع الاستطاعةِ، ولم يسوغِ العدولَ إلى القول إلا مع عدم الاستطاعةِ للفعل، ولا سوّغ العدولَ إلى مجرد الإنكار بالقلب إلا مع عدم الاستطاعةِ للقول.
وقد صح عن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيرْهُ بيده، فإِنْ لم يستطعْ فبلسانِه، فإِن لم يستطعْ فبقلبِه، وذلك أضعفُ الإيمانِ» (2) وهذا الحديث قد اتفق الناسُ على صِحَّتِه، ولم يخالف في ذلك مخالفٌ. فانظر
_________
(1) [البقرة: 9].
(2) أخرجه مسلم رقم (49)، وأبو داود رقم (1140)، والترمذي رقم (2172) وقال: حسن صحيح، والنسائي (8/ 111 ـ 112)، وابن ماجه رقم (1275) و (4013)، وأحمد في (المسند) (3/ 10، 20، 49، 54) من حديث أبي سعيد الخدري. وقد تقدم.(12/6124)
كيف جعل مراتبَ الإنكار هاهنا ثلاثةَ أقسام:
القسم الأَول: مرتبةُ من كان قادرًا على تغيير المنكر بيده، فإِنه جعل فَرْضَهُ التغييرِ باليد، ولم يسوغ له الانتقالَ عن هذه الرتبةِ التي بعدها إِلا بشرط عدمِ الاستطاعةِ ثم لم يسوغْ له الانتقالَ إلى الرتبة الثالثةِ وهي الإنكارِ بالقلب ـ إلا بشرط عدم الاستطاعةِ على الرتبة الثانيةِ، فمن كان مستطيعًا لتغيير المنكرِ بيده فعدلَ إِلى الإنكار بلسانه فهو إِنَّما جاء بالتعذير، وكذا من [2أ] كان قادرًا على الإنكار بلسانه فعدلَ إلى الإنكار بقلبه فهو إِنما فعل مجرَّد التعذيرِ، ولا يصدقُ عليه القيامُ بما افترضه الله عليه من إِنكار المنكر، ولا يقال له: إِنه أَنكر المنكر، ولهذا عمَّ الله بني إسرائيلَ بالعذاب، مع أَنهم قد أَنكروا في الصورةِ، ولكنهم عدلُوا عن الذي أَوجبه الله عليهم إِلى غيره بغير عذرٍ كما قال العلاَّمةُ: (إنهم نُهُوا عن المنكر تعذيرًا).
إذا تقرر لك معنى التعذير فاعلم أَن معنى المعذرة إِبداءُ العذْرِ بفعل ما يجب، وهي مصدر عَذَرَ مخفَّفُ الذال وأعْذَرَ، قال في القاموس (1): (عذر يعذُرُ ـ عذرًا ومعذِرةً ومعذُرة وأعذره، والاسم المعذَرة مثلثةُ الذال.
قال: وأعذر أبْد عذرًا، وأحدث، وثبت له عذرٌ) انتهى.
وقال: الرازي في مفاتيح الغيب (2): (المعذرةُ مصدرٌ كالعُذْرِ) وقال أبو زيد (3) عذرتُه أعذرَ عذرًا ومعذرةً) ومعنى عذره في اللغة (4): إذا أقام بعذره (وقيل عذره يقال: من يعذرُني، أي من يقوم بعذري، وعذرتُ فلانًا فيما صنع أي قمتُ بعذرِه،
_________
(1) (ص561).
(2) (16/ 159)
(3) انظر: (لسان العرب) (9/ 103).
(4) قال ابن فارس في (مقاييس اللغة) (4/ 254): قال أهل المُعْذِرون بالتخفيف هم الذين لهم العُذْر، والمعذِّرون:
الذين لا عذر لهم ولكنّهم يتكلَّفون عُذرًا.(12/6125)
فعلى هذا معنى قوله: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي قيامٌ منا بعذرِ أنفسِنا إلى الله تعالى، فإذا طُوْلِبْنَا بإقامة النهي عن المنكر قلنا قد فعلنا، فنكون بذلك معذورينَ.
وقال الأزهري (1): (المعذرة اسمٌ على مَفعُلَة) من تعذَّر وأقيمَ مقامَ الاعتذار، كأنهم قالوا: موعظتُنا اعتذرٌ إلى ربنا، فأقيم الاسم مقامَ الاعتذار. يقال: (اعتذر فلان اعتذارًا وعذرًا ومعذرةً من ذنبِه [2ب] (انتهى كلام الرازي في مفاتيح الغيب (2).
فعرفتَ أن معنى المعذرةِ القيامُ بما أوجبه الله من نهي المنكر، وفعل ما يقوم بالعذر عند الله على وجه لا يكون للفاعل بعده خطابٌ من الله، لأنه قد أبدى عذرَه، وفعل ما يجب عليه، بخلاف التعذير، فإنه فِعْلُ ما لا يثبتُ به العذرُ، ولا يسقطُ به الغرضُ كما تقدم تحقيقُه وحينئذ يتبين أنه لا مخالفةَ بين الآيتينِ الكريمتينِ، ولا بين ما ذكره العلامة الزمخشريُّ (3) في تفسيرهما، ويظهر أنه لم يشرْ بما ذكره في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (4) حيث قال: (نُهُوا عن المنكر تعذيرًا إلى الآية الأخرى ـ أَعني ـ قوله تعالي: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} لما قدمنا من التخالف بين معنى التعذير والمعذرةِ: بل هما ضدَّا لما عرفت من أن معنى المعذرة ثبوتُ العذر، ومعنى التعذيرِ عدمُ ثبوت العذر. (5)
_________
(1) في (تهذيب اللغة) (2/ 306).
(2) (16/ 159).
(3) في (الكشاف) (2/ 100، 122).
(4) [الأنفال: 25].
(5) قال الجوهري في (الصحاح) (2/ 741): (كان ابن عباس يقرأ (وجاء المعْذِرون) مخففة من أعذر ويقول والله هكذا نزلت. قال النحاس إلا مدارها عن الكلبي وهي من أعذر ومنه قد أعذر من أنذر، أي قد بالغ في العذر من تقدّم إليك فأنذرك.
وأمَّا المعذّرون بالتشديد ففيه قولان:
أحدهما: أنه يكون المحقّ، فهو في المعنى المعتذر لأن له عذرًا فيكون المعذورون على هذه أصله المعتذرون. ولكن التاء قلبت ذالاً فأدغمت فها وجعلت حركتها على العين كما قرئ (يخصِّمون) بفتح الخاء. ويجوز (المعذِرون) بكسر العين لاجتماع الساكنين ويجوز ضمها اتباعًا للميم.
الثاني: أن المعذِّر على جهة المُفعِّل لأنه الممرّض والمقصّر يعتذر بغير عذر.
وقال غيره: يقال عذَر فلان في أمر كذا تعذيرًا، أي قصر ولم يبالغ فيه والمعنى أنهم اعتذروا بالكذب.
قال الجوهري في (الصحاح) (2/ 741) كان ابن عباس يقول: لعنَّ الله المعذِّرين، كأن الأمر عند أن المعذّر بالتشديد هو المظهر للعذر اعتلالاً من غير حقيقة له في العذر.
انظر: (جامع البيان) (6ج10/ 209 ـ 210).(12/6126)
البحث الثاني: [عدم اقتصار الفتنة على الظالم ... ]
في تقرير معنى قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (1) قال أبو السعود (2): (أي لا تختصُّ إصابتُها من يباشرُ الظلم منكم، بل تعمُّه وغَيْرَهُ كإقرار المنكر بين أَظهرِهم، والمداهنةِ في الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكرِ، وافتراقِ الكلمة، وظهورِ البدعِ، والتكاسُلِ في الجهاد، وقوله: {لَا تُصِيبَنَّ} إما جوابُ الشرطِ مقدرٌ على معنى: (إن أصابتْكم لا تصيبنَّ) وفيه أن جوابَ الشرط مترددُ، فلا تليقُ به النونُ المؤكدةُ، لكنه لما تضمن معنى النهي [3أ] ساق فيه، كقوله تعالى: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ} وإما صفة لفته و (لا) للنفي، وفيه شذوذ، لأن النون لا تدخلُ المنفي في غير القسمِ أو للنهي، على إرادة القول، كقول من قال:
حتى إذا جنَّ الظلامُ واختلطْ ... جاؤوا بمِذقٍ هل رأيتَ الذئبَ قطْ
وإِما جواب قسم محذوفٍ كقراءة من قرأ: (لَتُصِيْبَنَّ) (3)
_________
(1) [الأنفال: 25].
(2) في تفسيره (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم) (3/ 314) بتحقيقي.
(3) قال القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) (7/ 391 ـ 392): قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فيه مسألتان:
الأولى: قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألا يُقرّوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب.
الثانية: اختلف النحاة في دخول النون في (لا تصيبن) قال الفراء: هو بمنزلة قولك: انزل عن الدابة لا تطرحنَّك فهو جواب الأمر بلفظ النهي أي إن تنزل عنها لا تطرحنَّك ومثله قوله تعالى: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ} أي إن تدخلوا لا يحطمنكم فدخلت النون لما فيه من معنى الجزاء.
وقيل: لأنه خرج مخرج القسم، والنون لا تدخل إلا على فعل النهي أو جواب القسم.
وقال أبو العباس المبرّد: إنّه نهي بعد أمر، والمعنى النهي للظالمين أي لا تقربنَّ الظلم.
وحكى سيبويه: لا أرينّك هاهنا، أي لا تكن هاهنا فإنّه من كان هاهنا رأيته.
وقال الجرجاني: المعنى اتقوا فتنة تصيب الذين ظلموا خاصة فقوله: {لَا تُصِيبَنَّ} نهي في موضع وصف النكرة وتأويله الإخبار بإصابتها الذين ظلموا ـ وهذا القول مردود فقد قال محيي الدين الدرويش. في (إعراب القرآن الكريم) (3/ 555): واختلفوا في (لا) من قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} على قولين: أ) أن (لا) ناهية وهو نهي بعد أمر، أي إنّه كلام منقطع عما قبله، كقولك صلِّ الصبحَ ولا تضرب زيدًا، فالأصل: اتقوا فتنة، أي عذابًا، ثم قيل: لا تتعرضوا للفتنة فتصيب الذين
.. وعلى هذا فالإصابة بالمتعرضين، وتوكيد الفعل بالنون واضح لاقترانه بحرف الطلب، مثل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا} ولكن وقوع الطلب صفة للنكرة ممتنع، فوجب إضمار القول. أي: واتقوا فتنة مقولاً فيها ذلك كما قيل في قوله:
حتى إذا جن الظلام واختلط جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط (ب) أنها نافعة واختلف القائلون بذلك على قولين:
1 ـ أن الجملة صفة لفتنة، ولا حاجة إلى إضمار قول، لأن الجملة خبرية وعلى هذا فيكون دخول النون شاذًّا مثله في قوله:
فلا الجارة الدنيا بلها تُلحَّينَّها ... ولا الضيف فيها إنْ أناخ مُحَوِّل
بل هو في الآية أسهل، لعدم الفصل، وهو فيهما سماعي والذي جوزه تشبيه لا النافية بلا الناهية وعلى هذا الوجه تكون الإصابة عامة للظالم وغيره لا خاصة بالظالمين. كما ذكره الزمخشري، لأنها قد وصفت بأنها لا تصيب الظالمين خاصة فكيف تكون مع هذا خاصة بهم!!
2 ـ أن الفعل جواب الأمر وعلى هذا فيكون التوكيد خارجًا عن القياس شاذًّا وممن ذكر هذا الوجه الزمخشري وهو فاسد، لأن المعنى حينئذ: فإنكم إن تتقوها لا تصب الظالم خاصة. وقوله: إن التقدير إن أصابتكم لا تصيب الظالم خاصة، مردود لأن الشرط إنما يقدر من جنس الأمر لا من جنس الجواب.(12/6128)
والظاهر أَن (لا) للنفي (1)، بل هو الوجه الذي لا يحمل النظمُ القرآني سواهُ، وتكون هي وما دخلت عليه إما جوابَ شرط محذوفٍ أو صفةًً لفتنة ... ويقال في توجيه النونِ المؤكدةِ مثلُ ما سلف، وقد اقتصر على ذلك جماعةٌ من أئمة التفسير، وقال صاحب مدارك التنزيل أبو البركات عبدُ الله بن أحمد بن محمود النسفي (2): إن قوله تعالى: {لَا تُصِيبَنَّ} جوابٌ، وبين المعنى بقول: و (لكنَّها تعمُّكم) ـ، وقال محمد بن جزء الكلبي ـ في التسهيل لمعالم التنزيل (3) ما لفظه: (أي لا تصيب الظالمين وحدَهم، بل تصيبُ معهم من لم يغيِّر المنكرَ، ولم يَنْهَ عن الظلم، وإن كان لم يظلم)، وقال الرازي في مفاتيح الغيب (4): (والمعنى: [3ب] واحذروا فتنةً إن نزلت بكم لم تقتصرْ على الظالم خاصَّةً، بل تتعدي إليكم جميعًا، وتصل إلى الصالح والطالح).
وقد ذكر الطبري (5)، والبغوي (6)، والرازي، (7) وغيرهم (8) أَنها نزلت في جماعة من الصحابة وأن الفتنةَ هي ما جرى يومَ الجمل، ولا يخفى على ذي لُبٍّ أن الجزْمَ بكون الفتنةِ المذكورة في الآية هي فتنةُ يوم الجملِ محتاجًا إلى دليل، فإن الله ذكر الفتنةََ منكرةً، ثم القولُ بنزولها في المباشرين للقتال في ذلك اليوم لا يصحُّ، لأن الفتنة يومَ الجمل وقعت بَعْدَ موت النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وانقطاع الوحي بزيادة على عشرين سنةً، بل الآية تحذير لجمع من يصلحُ للخطاب وقتَ النزول أن يقع أحدٌ منهم في فتنة
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) (مدارك التنزيل المعروف بتفسير النسفي) (2/ 100).
(3) (ص241).
(4) (15/ 149).
(5) في (جامع البيان) (6/ج6/ 219).
(6) في تفسيره (معالم التنزيل) (3/ 345).
(7) (15/ 149).
(8) انظر: (الجامع لأحكام القرآن) (7/ 391 ـ 392).(12/6130)
كذلك، كذلك هي خطابٌ لمن وجد من المسلمين بعد انقراض عصر الموجودين وقتَ النزول كسائر الآيات القرآنية (1) والخطابُ وإن كان لا يصلح لمن كان معدومًا لكن قد قرَّر أئمة الأصول الكلامَ في ذلك فيما يعرفه من يعرف علمَ الأصول. (2)
وبالجملة فالمخاطب بهذه الآية بهذه الآية هو المخاطبُ بقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (3)، {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (4)، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (5)، والتعبُّد بما اشتملت عليه شاملٌ لكل من تعبَّده الله بما اشتملت عليه هذه الآيات الواردةُ في الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكل طائفةٍ من طوائف المسلمين مأمورةٌ باتقاءِ الفتنة [4أ] التي هذا شأنُها. بل كل فرد من أفراد المسلمين مأمور بذلك ... ولا يصح تعيينُ فتنةٍ من الفتن الواقعة في الإسلام بأنها هي المرادةُ دونَ غيرها، ولا أنَّ الآية نزلتْ في بعض أَفراد الصحابة دون بعض إلا بدليل، ولا دليلَ فيما أعلم. بل قد ورد في أحاديثِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يدل على عدم التعيينِ، من ذلك ما أورده البغويُّ (6) بإسناده في تفسير هذه الآية ولفظه: عن سيف بن أبي سليمان قال:
_________
(1) قال ابن كثير في تفسيره (4/ 38) والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم ـ وإن كان الخطاب معهم ـ هو الصحيح.
(2) تقدم توضيحه. وانظر: (إرشاد الفحول) (ص76 ـ 77)، (نهاية السول) (1/ 307 ـ 309).
(3) [البقرة: 43، 110].
(4) [البقرة: 185].
(5) [آل عمران: 97].
(6) في تفسيره (3/ 345).
قلت: وأخرجه أحمد في (المسند) (4/ 192) بإسناده ضعيف لإبهام الراوي عن الصحابي وباقي رجال الإسناد ثقات والدولابي في (الكنى) (1/ 44) والطحاوي في (شرح مشكل الآثار) رقم (1175) والطبراني في (الكبير) (ج17 رقم 343) من طرق.
وهو حديث حسن لغيره. وله شواهد تقدم كثير منها وسيأتي بعضها.(12/6131)
سمعت عديًا الكندي قال: حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول: سمعت رسولَ الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يقول: «إن الله لا يعذِّب العامَّة بعمل الخاصَّة حتَّى يروا المنكرَ بين ظهرانِيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذَّب الله العامَّة والخاصَّة» انتهى.
ولا شك أَن كثيرًا من الفتن الواقعة في أيام الصحابةِ هي من هذا القبيلِ، فإن فتنةَ يوم الجمل لم يُصَبْ بها الباغي وحدَه، بل قُتِلَ فيها جماعة من المحقِّينَ، وكذلك أيامُ صفِّينَ فإِنه قتل فيها من المحقينَ ألوف مؤلَّفة منهم عمار بن ياسر، ولكن الشأن في كون الفتنةِ التي هي سببُ النزول هي فتنة معينة، فإن ذلك لم يثبتْ. وقد أورد الرازي في تفسير هذه الآية من مفاتيح الغيب (1) سؤالاَ وأَجاب عنه فقال: (فإن قيل) (حاصل) الكلام في الآية أَنه تعالى يخوِّفهم بعذابٍ لو نزل [4ب] لعمَّ المذنبَ وغيره، وكيف يليق برحمة الرحيم الحكيمِ أن يوصلَ الفتنة والعذابَ إِلى من لم يذنبْ: ـ؟ قلنا: إنه تعالى قد ينزل الموتَ والفقر والعمى وإنزاله بعبيده ابتداء، لأَنه يحسن منه تعالى ذلك بحكم المالكيةِ، ولأنه تعالى علم اشتمالَ ذلك على نوع من أنواع الصلاح على اختلاف المذهبينِ، وإِذا جاز ذلك لأجل هذين الوجهين فكذا هاهنا والله أعلم بمراده) انتهى.
وأقول: هذا إنما يكون مشكلاً إِذا كانت الفتنةُ المذكورة تصيب من لم يكن له ذنبٌ قطُّ، وأَما إِذا قيل إِنها تصيب الذين ظلموا ـ أَي باشروا المعصيةَ الموجبة لاتصَّافهم بالظلمِ، والذين لم ينكروا المنكرَ مع وجوب ذلك عليهم كما تقدم، لم يكن ما في الآية مشكلاً، لأن الذين ظلموا أصيبوا أيضًا بذنوبهم ـ وهي ترك إنكارًا المنكرِ مع التمكُّن منه، لكنه يشكل على هذا أن الذين تركوا إِنكار مع وجوبه قد صاروا من جملة الظلمةِ، لأنهم اقترفوا ذنبًا ـ وهو ترك الإنكار الواجبِ، اللَّهم إلا أن يقالَ: إِن المرادَ بالذين ظلموا في الآية هم الفاعلون للمعصية التي يجب
_________
(1) في تفسيره (15/ 150).(12/6132)
إنكارُها كما يدلُّ على هذا كلام محمد بن جزيّ المتقدَّم ذكْرُه. فإنه فسر الآيةَ بما تقدم من قوله: (إنها لا تصيبُ الظالمين وحدَهم، بل تصيب معهم من لم يغيرِ المنكرَ، ولم ينه عن الظلمِ، وإن كان لم يظلم). انتهى.
فهذا فيه تصريح بما ذكرناه [5أ]، ومثلُه كلامُ أَبي السعود (1) المتقدِّمُ نقلُه ... وإِذا صح هذا اندفع السؤالُ الذي أورده الرازي من أَصله، فإِنه إِنما نشأ من قوله في تفسير الآية: (أن الفتنة تتعدَّى إِلي الجميع كما تقدم نقله) ولكنه يقدحُ في تخصيص إصابة الفتنةِ لفاعل المعصية، ولمن لم ينكر عليه مع وجوب الإِنكارِ ما قدمنا من دخول بعض الفتنِ الواقعةِ بين الصحابة تحت الآية: إذ من أَصابتْه الفتنةُ من المحقينَ منهم لم تصبْه لأجل تركهِ لإنكارِ ما وجب عليه من المنكرِ, لأنهم قد قاموا بواجب الإِنكار, وسلُّو سيوفَهم في وجوه المبطلينَ من أهل الشام والخوارجِ ونحوِهم, وربما يجاب عن هذا بأن ترك الإنكار الذي هو سببُ الوقوع في الفتنة مع الظلمة لا يختصُّ بالتَّرك في نفس تلك الفتنةِ الثائرة لإمكان أن يكون قد وقع التَّرك لما يجب من الإنكار في أُمور آخرةٍ بمقدمةٍ على ثوراِنها فتسببتْ عن تلك الأسباب.
وبعدَ هذا فالأنسبُ بالعموم المستفاد من المفهوم القرآني هو ما ذكره الرازي (2) من تعدى الفتنةِ إلى من لم يكن له ذنبٌ قطٌ, لا بمباشرته للظلمِ, ولا بترك إنكار, لأن مفهوم الآية الكريمة هكذا: (بل تصيبهم وغيرهم) والغيرُ يعمٌ المذنبَ بترك الإنكارِ وغَيْرَهَُ, ويؤيد هذا ما يتفق في كل عصر, ويشاهدُ من حلول محنِ الفتنِ [5ب] بمثل النساءِ والصبيانِ, ومن لا قدرة له على إنكار المنكر, بل ومن كان من القائمينَ بواجب الإنكار, وهذا يعرفهُ كلُّ إنسان بالمشاهدةِ والتواتُرِ. وقد اشتملت كتبُ التاريخ من ذلك على عجائب وغرائبَ, فإن فتنة التتار (3) طحنتْ غالبَ البلاد الإسلاميةِ, وكان من
_________
(1) في تفسيره (3/ 314) بتحقيقي.
(2) في (مفاتيح الغيب) (5/ 149).
(3) تقدم ذكره(12/6133)
عادتهم أنهم إِذا دخلوا مدينةً من مدائن الإسلام قتلُوا جميع من فيها من كبير وصغير, وذكرٍ وأنثى, وصالح وطالحِ, وعالم وجاهل, وكذا فتنةُ (تيمورلَنْكْ) فإنه فعل في البلاد الإِسلاميةِ ما يقارب فعل التتار ... وكذا لشاهُ إسماعيل وأمثالُهم من رءوس الفتنِ, فما ذكره الرازي (1) أنسب بالمفهوم القرآني, وبما يقع في الخارج, ويشاهد ويتواتَرُ, وإن كان ما ذكره غيره من التخصيص أَنسبَ بعدل الله وحكمتِه في حلول نقمته بمن يستحقُّها دون من لا يستحقُّها, فإنه ـ جل جلاله ـ لا يظلم الناس شيئًا {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ويؤيدُ هذا الحديثُ الذي ذكرناه من رواية البغوي, (2) وفي معناه أَحاديثُ كثيرة (3) وبالجملةِ فالمقام من المعارك, وعلى فرض إمكان التخلُّ عن بعض الصور كما يكون من أفعال العبادِ من الفتن بأن يقال: إن المصابينَ من غير المذنبينَ, ومن النساء والصبيان والمجانين مظلمون, وليس إلى الله من ظلم العباد بعضِهم لعضًا شيء, ولا [6أ] يردُّ به الإشكال على ما في الآية الكريمة من التعميم, فقد لا يمكن التخلُّص عن العقوبات التي هى من أفعال الله كالخسفِ, والمسخِ, والجدْسِ, والعاهاتِ, وسائر الأمورُ السماويةِ إلا بمثل ما ذكَرَ الرازي.
_________
(1) في (مفاتيح الغيب) (5/ 149).
(2) في تفسيره (3/ 345).
(3) منها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3346) ومسلم رقم (2880) عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أنَّ النبي صلي الله عليه وسلم دخل عليها فزعًا يقول: (لا إله إلا الله) ويلٌ للعرب من شرِّ قد اقترب, فتح اليوم من ردم يأجوج مأجوج مثل هذه) وحلَّق بين إصبعيه الإبهام والتي تليها, فقلت: يا رسول الله, أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إذا كثر الخبثُ).
ومنها: ما أخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (7270) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ: يا رسول الله إن الله إذ أنزل سطوته بأهل الأرض وفيهم الصَّالحون, فيهلكون بهلاكهم؟ فقال: (يا عائشة, إنَّ الله إذا أنزل سطوته بأهل نقمته وفيهم الصَّالحون فيصابون معهم, ثمَ يبعثون على نيَّاتهم).
وهو حديث صحيح لغيره.(12/6134)
البحث الثالث
[مصير الفرق الثلاث من بني إسرائيل]
في تقرير معنى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ}. [الأعراف:164]
قال أبو السعود: (1) إن المراد بقوله تعالى: {أُمَّةٌ مِنْهُمْ} جماعة من صلحائهم الذين ركبوا في وعظهم كل صعب وذلول حاى يئسوا عن احتمال القبول لأخرين, والمقول لهم جماعة آخرون لا يقلعون عن التذكير رجاء للنفع والتأثير, مبالغة في الإعذار, وطمعا في فائدة الإنذار, والقول هو: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} أي مخترمهم بالكلية, ومطهر الأرض منهم {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} دون الاستئصال بالمرة, وقيل مخزيهم في الدنيا أو معذبهم في الآخرة, لعدم إقلاعهم عما كانوا عليه من الفسق والطغيان, والترديد لنتع الخلو دون منع الجمع, فإنهم مهلكون في الدنيا ومعذبون في الآخرة, وإيثار صيغة اسم الفاعل مع أن كلا من الإهلاك والتعذيب مترقب ـ للدلالة على تحققهما وتقررهما البتة, كأنهما واقعان, وإنما قالوه مبالغة في أن قالوه بمحضر من القوم حثا لهم على الاتعاظ, فإن بت القول بهلاكهم وعذابهم مما يلقي [6ب] في قلوبهم الخوف والخشية, وقيل المراد طائفة من الفرقة الهالكة أجابوا به وعاظهم ردا عليهم, وتهكما بهم, وليس بذاك.
وجواب القول المتقدم هو قوله تعالى: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي قال الواعظ: نعظهم معذرة إلى الله على أنه مفعول له ـ وهو الأنسب بظاهر قولهم: لم تعظون, أو
_________
(1) في تفسيره (3/ 258)(12/6135)
نعتذر معذرة على أنه مصدرٌ محذوفٍ, وقرئ بالرفع على أنَه خبرٌ لمبتدأ محذوف ـ أي موعظتُنا معذرةٌ إليه تعالى, بحيث لا ننسب إلى نوع تفريطٍ في النهي عن المنكرِ, وفي إضافة الربِّ إلى ضمير المخاطبينَ نوعُ تعريضٍ بالسائلين.
وقوله تعالى: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} عطفٌ على مقدَّر ـ أي ورجاءٍ لأَن يتَّقوا بعضَ التقاةِ, وهذا صريح في أَن القائلين {لِمَ تَعِظُونَ} ليسوا من الفرق الهالكةِ ... {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أي تركوا ما ذَكَّرَهم صلحاؤُهم تَرْكَ الناسي للشيء, وأعرضوا عنه إعراضًا كليًا لم يخطُرْ بباله شيءٌ من تلك المواعظِ أصلاٍ {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} ومن الفريقان المذكورانِ, وتصدير الجواب بإنجائِهم للمسارعة إِلى بيان نجاتِهم من أول الأمر, {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [7أ] بالاعتداءِ ومخالفةِ الأَمر {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} أي شديد.
وصرح صاحب مدارك التنزيل (1) بأن المقولَ لهم هم الوعاظُ القائلينَ هم الصلحاء. وقال في تفسير: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} أَنهم الراكبون للمنكرِ, وجزَمَ بـ (لأن) الذين قالوا {لِمَ تَعِظُونَ} هم من الناجينَ, وروى عن الحسن أَنه قال: نجت فرقتانِ, وهلكت فرقةٌ, وهم الذين اتخذوا الحيتانَ.
وقال محمد بن جُزيّ في التسهيل (2) في تفسير الآية: (افترقتْ بنو إسرائيلَ ثلاثَ فِرَق: ـ فرقةً عصتْ بالصيدِ يومَ السبت، وفرقةٌ نهتْ عن ذلك، وفرقةً سكتتْ واعتزلتْ لم تنهَ، ولم تعص، ـ وإن هذه الفرقةَ لما رأت مجاهرةَ الناهيةِ، وطغيانَ العاصيةِ قالوا للفرقة الناهية: (لم تعظونَ قومًا يريدُ الله أن يُهْلِكَهم أو يعذّبهم).
فقالتِ الناهيةُ: ننهاهم معذرةً إِلى الله، ولعلهم يتقون، فهلكتِ الفرقةُ العاصِيةُ،
_________
(1) (المعروف بتفسير النسفي) (2/ 83).
(2) (ص299)(12/6136)
ونجت الناهيةُ. واخْتُلِفَ في الثالثةِ هل هلكت لسكوتِها أو نجتْ لاعتزالها وبترك العصيان؟).
وبالجملة فكلام أهل التفسير مختلفٌ في الفرقة الثالثة (1): هل نجت أو هلكتْ؟ ولا حاجة بنا إلى التطويل باستيفاءِ كلامهم [7ب] لأَن محلَّ السؤال هو في الذين قالوا {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} والاتفاقُ كائن أنهم ناجونَ، وأَن ذلك ليس من التعذير الذي لا يُسْقِطُ الواجبَ، وقد وقع الجواب عن سؤال السائلِ ـ عافاه الله ـ في البحث الأول من الثلاثةِ، وإنما ذكرنا البحثين الآخرينِ ليتضحَ بهما ما حررناه في البحث الأول، لأن سؤال السائل كثر الله فوائده قد تعلق بالآيتين من تلك الحيثية فكان في التعرُّض لتفسيرهما تكميلٌ للفائدة والله أعلم.
حرر في ليلة الاثنينِ من ليالي شهر ربيع الآخر سنة: 1214هـ.
_________
(1) قال القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) (7/ 307) قال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق وهو الظاهر من الضمائر في الآية، فرقة عصت وصادت، وكانوا نحوًا من سبعين ألفًا.
وفرقة نهت واعتزلت، وكانوا اثنى عشر ألفًا، وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص. وأن هذه الطائفة قالت للناهية: لِم تعظون قومًا تريد العاصية ـ الله مهلكهم أو معذبهم على غلبة الظنَّ. وما عهد من فعل الله تعالى حينئذ بالأمم العاصية. فقال الناهية: موعظتنا معذرة إلى الله لعلهم يتقون. ولو كانت فرقتين لقالت الناهية للعاصية: ولعلكم تتقون، بالكاف.
ثم اختلف بعد هذا، فقالت فرقة: إن الطائفة لم تنته ولم تعص هلكت مع العاصية عقوبة على ترك النهي قاله ابن عباس: وقال أيضًا. ما أدري ما فُعل بهم، وهو الظاهر من الآية.
وقال عكرمة: قلت لابن عباس لما قال لا أدري ما فعل بهم: ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم فقالوا: لم تعظون قومًا الله مهلكهم؟ فلم أزل به حتى عرّفته أنهم قد نجوا، فكساني حُلّة، وهذا مذهب الحسن ومما يدل على أنه هلكت الفرقة العادية لا غير قوله: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ....... } الآية.
انظر: (مفاتيح الغيب) للرازي (15/ 39).(12/6137)
الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد
على ما قاله الشريف من اجتماع الاستعارة
التمثيلية والتبعية في قوله تعالى:
{(أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} ...
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقته وعلَّقت عليه وخرَّجت أحاديثه
محفوظة بنت علي شرف الدين
أم الحسن(12/6139)
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف من اجتماع الاستعارة التمثيلية والتبعية في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}.
2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه أستعين والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، ورضي الله عن صحبه الراشدين، وبعد ...
4 ـ آخر الرسالة: فرغ من تحريره مؤلّفه محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله لهما ـ في ليلة الأحد لسبع وعشرين خلتْ من شهر رجب سنة 1221. حامدًا لله، ومصليًا مسلمًا على رسوله وآله.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 ـ عدد الصفحات: 25 + عنوان الرسالة. 7 ت عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 13 ـ 14 كلمة.
9 ـ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/6141)
بسم الله الرحمن الرحيم
على صفحة العنوان هذه الأبيات الشعرية في وصف الكتاب:
تسرّت وجوهُ الاستعاراتِ بالبدرِ ... وذلك شأن البدرِ في هتكِه السِّتر
وأدركَ ثأرَ السعدِ ممن أذَّله ... فيا لكَ من دركٍ، ويا لك من نَصْرِ
ولا شكَّ أنَّ الحقَّ فيما زبرتُه ... بكاشفُ الأمراضُ من علل الدهر
وسمَّيْتهُ طوْدًا منيفًا وإنّما ... مصنِّفه أولى بذلكم الذكر
فيا ليت شعري هل عقودٌ تنضَّدتْ ... على صحفاتِ التِّبْرِ في لبةِ النحرِ
أم الغادةْ الحَسْنَا أبانتْ أقاحِيَا ... فأسْفَرَ نورُ الفجرِ من ذاك الثغر
وما الروضةُ الغنَّاءُ غطَّ عبيرُها ... وفاح عطرها بمختلف الزهر
بأنصعَ نَشْرٍ من سطورٍ تضمنت ... إقامةَ سوقِ الحقِّ في خافي الأمرِ(12/6145)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعينُ والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلامُ على سيدنا محمد وآله، ورضي الله عن صحبه الراشدين، وبعدُ:
فإنه لما بلغ بنا الدرسُ في الكشاف (1) مع جماعةٍ من نبلاء الطلبةِ، وأذكياء العلماء العارفين بالفنون إلى كلام الزمخشري، وأهل الحواشي على قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2).
ومن جملةِ ما اشتمل عليه هذا المقامُ المباحثةُ المشهورةُ بين سعد الدين التفتازاني (3)، والسيِّد الشريفِ (4)، وقد اشْتُهِرَ ما وقع بينَهما في ذلك اشتهارَ النهار، حتى قيل: إن موتَ سعد الدين كان بهذا السببِ. (5)
_________
(1) (1/ 159).
(2) [البقرة: 5].
(3) تقدمت ترجمته (ص719).
(4) هو على بن محمد بن علي الجرجاني الحسيني الحنفي، ويُعرف بالسيِّد الشريف أبي الحسن، عالم حكيم مشارك في أنواع العلوم، ولد بجرجان عام 740هـ.
توفي بشيراز سنة 816هـ من تصانيفه:
ـ حاشية على شرح التنقيح للتفتازاني في الأصول.
ـ حاشية على تفسير البيضاوي.
ـ حاشية على المطوّل للتفتازاني.
انظر: ((البدر الطالع)) (1/ 488 ـ 490))، ((معجم المؤلفين)) (2/ 515).
(5) وذلك أنَّ السعد اتصل بالسلطان تيمورلنك، وجرت بينه وبين الشريف مناظرة في مجلس السلطان في مسألة كون إرادة الانتقام سببًا للغضب أم الغضب سببًا لإرادة الانتقام، فالسعد يقول بالأول، والشريف يقول بالثاني.
قال الكارزوني: والحق مع السيد الشريف، كما جرت بينهما المناظرة المشهورة في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} ويقال بأنه حكم للشريف أيضًا، فاغتمَّ السعد ومات كمدًا. (البدر الطالع) (2/ 304).(12/6146)
والذي لاح لي أن الحقَّ في جانب السعدِ، وأن الصوابَ بيده، ولما كان هذا قد خفي على غالب المحصلينَ لكون الشريفَ قد أطالَ ذيلَ المقالِ، وتنوع في مسالك الجدالِ، واستكثر من الدفع والإبطالِ خصوصًا في حاشيتِه على المطوَّل، فإنه حكى هذه المباحثةَ، وأطنبَ إطنابًا لا يحتملُهُ المقامُ، ولا يقتضيه البحثُ. وليس للسعد في هذا البحثِ إلا ما تكلم به في حاشيته على الكشاف من تلك الكلماتِ المختصرةِ، وما نقله عنه خصمهُ في غضون كلامه.
وبعد الجواب الموجز طلبَ مني أولئك الأعلامُ إيضاحَ الكلامِ في هذا المقام، بل منهم من حرر سؤالاً نفيسًا، وبحثًا شريفًا، وهو سيدي العلامة يحيى بن المطهر بن إسماعيلَ (1) ـ كثر الله فوائده ـ.
وها أنا أجلُو عليك ما أفوّض أمرَهُ إليك في الترجيح والتجريح، والإبطال والتصحيح مبتديًا بنقل كلام الزمخشري، وإيضاحِ معناه، ثم كلام السعد في حاشيته على الكشاف، ثم كلامِ الشريفِ في حاشيته على الكشاف أيضًا، ثم كلامِه الطويلِ في حاشيتهِ على المطوَّلِن مبينًا لك ما ينبغي بيانُه، متعقِّبًا ما يستحقُّ التعقيبَ. ولولا الثقةُ مني بإنصاف أولئك الأعلام، وما عرفته من رسوخهم في المعارفِ، وثبوتِ أقدامهم في التحقيق، وما تحققتُه من أنهم ممن ينظر إلى القول لا إلى قائِله لم أتعرَّضْ للدخول بين هذينِ الفحلينِ، ولا سلكتُ هذا المضيقُ بين ذينكِ الجبلينِ.
فأقول: قال العلامة الزمخشري في كشافه (2) ما لفظه: ومعنى الاستعلاء في قوله: {عَلَى هُدًى} مثلٌ لتمكُّنهم من الهدى، واستقرارِهم عليه، وتمسُّكِهم به، شُبِّهَتْ حالُهم بحال منِ اعتلى الشيءَ وركبَه ونحوِه. هو على الحقِّ وعلى الباطل.
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) (1/ 159).(12/6147)
وقد صرَّحوا بذلك في قولهم [1]: جعل الغوايةَ مركبًا، وامتطى الجهلَ، واقتعدَ غارِبَ الهوى ... انتهى.
وكل ناظر يعلم أن المحكومَ عليه في كلامه هذا بكونه مثلاً هو معنى الاستعلاء، وليس في مثل هذا نزاعٌ، ولا هو بموضوع اشتباهٍ، فإنه كلام على معنى الاستعلاء الذي عَنْونَ به كلامَهُ، وعقد البحث عليه. ولا شك ولا شبهةَ أن هذا الاستعلاءَ الذي ذكره هنا وتكلَّم عليه هو متعلَّق معنى الحرف المذكور في الآية الكريمةِ، أعني (على)، وليس فيها ما يفيد هذا المعنى قطُّ غيرُهُ.
فالزمخشريُّ قد حكم على متعلَّق هذا المعنى الحرفي بأنه مَثَلٌ لتمكُّنِهم من الهدى، واستقرارهم عليه، وتمسُّكِهم به. ثم زاد المقامَ إيضاحًا وبيانًا بأن متعلِّق ذلك المعنى الحرفيِّ استعارةٌ تمثيليةٌ، فقال: شُبِّهَتْ حالُهم بحالِ منِ اعتلى الشيء وركبَه، فلم يبقَ شكٌّ حينئذٍ في مرادهِ ومعنى كلامِه، بل وضوحُه غنيٌّ عن البيان، فإنه لم يستغنِ بالحكم على المعنى الحرفي بكونِه مثلاً حتى فسَّر ذلك المثلَ بأنه تشبيهُ الحالةِ بالحالة.
وإذا تقرر لك أن المحكومَ عليه بكونه مثلاً هو متعلَّق ذلك المعنى الحرفي فأنت لا يخفى عليك أن الاستعارةَ في متعلَّق معاني الحروف تبعيةٌ، كما صرَّح به علماء البيانِ تصريحًا يستغني عن البيان. (1).
_________
(1) قال محيي الدرويش في (إعراب القرآن الكريم وبيانه) (1/ 26): (الاستعارة التصريحية التبعيّة في قوله: {عَلَى هُدًى} تشبيهًا لحال المتقين بحال من اعتلى صهوة جواده فحذف المشبه واستعيرت كلمة (على) الدالة على الاستعلاء لبيان أنَّ شيئًا تفوق واستعلى على ما بعدها حقيقة نحو: زيد على السطح، أو حكمًا نحو: عليه دين فالدين للزومه وتحمله كأنّه ركب عليه وتحمله والدقة فيه أن الاستعارة بالحرف ويقال في إجرائها: شبه مطلق ارتباط بين هدى ومهدي بمطلق ارتباط بين مستعلٍ ومستعلى عليه بجامع التمكن في كل منها فسرى التشبيه من الكليات إلى الجزئيات ثم استعيرت (على) وهي من جزئيات المشبه به لجزئي من جزئيات المشبه على طريق الاستعارة التصريحية التبعية ومثل الآية الكريمة قوله:
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يومًا على الآباء نتكل(12/6148)
وعند هذا تعلمُ مطابقةَ ما شرحه السعدُ في حاشيته لهذا الكلام المشروحِ، فإنه قال ما لفظه: ومعنى الاستعلاء مَثَلٌ أي: تمثيلٌ، وتصويرٌ لتمكُّنِهم من الهدى، يعني أن هذه الاستعارةَ تبعيةٌ تمثيلاً. أما التبعيةُ فَلِجَرَيانِها أولاً في متعلَّق معنى الحرف، وتبعيُتها في الحرفِ. وأما التمثيلُ فلكون كلٍّ من طرفي التشبيهِ حالةً منتزعةً من عدةِ أمورٍ، لأنه شُبِّهَتْ حالُهم في الاتصاف بالهدى على سبيل التمكُّن والاستقرارِ بحال من اعتلى الشيءَ وركبَه، فتكون الصفة بمنزلة المركوب ... انتهى. (1)
_________
(1) قال الشريف في حاشيته على (الكشاف) (1/ 110): اعلم أنَّ قوله: {عَلَى هُدًى} يحتمل وجوهًا ثلاثة:
الأول: ما مرَّ من تشبيه تمسُّكهم بالهدى باستعلاء الراكب.
الثاني: أنَّ تشبيه هيئة مُنتزعة من المتَّقي والهدى وتمسُّكه به بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب واعتلائه عليه فيكون هناك استعارة تمثيلية مُركَّب كل من طرفيها، لكنه لم يُصرح من الألفاظ التي هي بإزاء المُشبَّه به إلاَّ بكلمة (على)، فإنَّ مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة، وما عداه تبعٌ له يُلاحظُ معه في ضمن ألفاظ منوية، وإن لم تكن مقدَّرة في نظم الكلام، فليس حينئذٍ في (على) استعارةً أصلاً، بل هي على ما لها قبل الاستعارة، كما إذا صرَّّح بتلك الألفاظ كلها.
الثالث: أن يُشبَّه الهدى بالمركوب على طريقة الاستعارة بالكناية، وتُجعل (على) قرينة لها على عكس الأول كما اختاره الإمام السكَّاكي، وحينئذ فمن اعتبر في طرفي التشبيه تلك الهيئة الوحدانية وحكم بأنَّ الاستعارة تبعية، فقد اشتبه عليه الوجه الأول بالثاني، وقد تمادي في ذلك مَنْ ادَّعى تكرُّرَه في الكشاف وهو بريء منه، وتوهَّم أنَّ عبارة المفتاح في تقرير الاستعارة التبعية في (لعلَّ) بيِّنةٌ في اجتماع التبعية والتمثيلية فيما ادَّعاه، وليس فيها إلا أنه شبَّه حال المكلَّف بحالة المُرتجى، والحال أعمُّ من المفرد والمُركَّب، كما لا يخفى.
فإن قلت: إذا جُوِّز في التمثيل أن يكون طرفاه مفردين مع تركُّب وجهه؛ أمكن أن يُجامع الاستعارة التبعية في الحروف والأفعال.
قلتُ: نعم, لكن الحق اسْتلزم التمثيل تركُّبُ طرفيه, فإن المتبادَرَ من قولهم: التمثيل؛ ما وجهه مُتنوعٌ من عدَّة أمور في كل من الطرفين, وإنْ أمكن أن يراد انتزاعه من أمور هى أجزاؤه كما في الهيئة المنتزعة التي تجعل مشبَّهة أو مشبَّهًا به, لا يُقال: تركُّب طرفيه واجبٌ بحسب المعنى, وأما بحسب اللقظ قلا, إذْ ربما يُطلق لفظ واحد على قصة, كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة:17]؛ لأنَّا نقول: المراد بكون المعنى مُفرَدًا: أن يُلاحظ ملاحظةٍ واحدة في ظمن لفظ واحد, سواء لم يكن له أجزاء متعدِّدة لُحظت دفعة إجمالاً, ويكون المعنى مركَّبًا: أن يلتفت إلى أشياء عدَّة؛ كل على حدة, ثم يُضمُّ بعضها إلى بعض, وتصير هيئة وحدانية, وكل معنى ذي أجزاء عُبِّر عنه بلفظ واحد لم تكن تفاصيلها ملحوظةٍ ولم تعد مركَّبًا, وأما التشبية بالمثل فلا يُعني شيئًا, فإن الحالة المختصَّة المشَّبهة إنما تُفهم من ألفاظ مقدَّرة, أي مثلهم بما ذكر من إظهار الإيمان وإبطان الكفر وما يترتَّب عليه من الخداع المستتبع للمنافع, كما أن الحالة المشبَّه بها تثقهم من جميع الألفاظ المذكورة ههنا.
قوله ـ أي الزمخشري ـ: (نحوه: هو على الحق) تجري فيه الوجوه الثلاثة؛ أي السابقة.
قوله ـ أي الزمخشري ـ: (وقد صرَّحوا بذلك ... ) لما ذكر أن كلمة (على) مستعارة للتمسُّك بالهدى؛ لوم من ذلك تشبيه الهدى ونظائره بالركوب, وربما تبادَر إلى بعض الأذهان استبعاده, فأزاله بأن هذا التشبيه فيما ذكرناه ضمني غير مقصود من الكلام, وقد صرَّحوا به في مواضع أُخَر؛ وجعلوه مقصودًا منه.
أما في صورة التشبيه كما في قولهم: جعل الغواية مركبًا, فإنه في قوة قولك: الغواية مركب؛ أي كالمركب. وأما في صورة الاستعارة كما في قولهم: اقتعد غارب الهوى, فقد شبه الهوى بالمطيَّة على طريقة الاستعارة المكنية. اهـ.(12/6149)
فهذا الكلام هو موافقٌ لكلام الزمخشري, مطابق للمشروح, لا يخالفُه بوجهه من الوجوه, وليس للسعد فيه زيادةٌ على ما يفيده كلامُ صاحب الكشاف إلا مجرَّدُ الإيضاح ولم يأتِ السعدُ مما يستحقُّ المؤاخذةَ عليه.
وقد تقدمه إلى مثل هذا العلويُّ (1) في حاشيته على الكشافِ فقال ما لفظه: مَثَلٌ لتمكنهم, أي هو .......................................
_________
(1) هو السَّيد يحيى بن القاسم بن عمر بن علي العلوي الحسني اليماني الصنعاني عز الدين ولد سنة 680 هـ قرأ على مشايخ اليمن ثم ارتحل إلى بغداد والشام وخراسان وقرأ على علماء هذه الديار, أكثر الاشتغال بالكشاف. وصنَّف حاشيته المشهورة بحاشية العلي, وهو الذي يشير إليه المتأخرون بالفاضل اليمني وهو من شافعية أهل اليمن. من كتبه: (تحفة الأشراف في كشف غوامض الكشاف).
انظر: (البدر الطالع) (2/ 340) , (الأعلام للزركلي) (8/ 163).(12/6150)
استعارةٌ (1) .................................................................................................
_________
(1) الاستعارة استعمال العبارة في غير ما وضعت له في أصل اللغة على وجه النقل للإبانة.
وقيل: الاستعارة مجاز لغوي علاقته المشابهة.
وقيل: الاستعارة أن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر, مدعيًا دخول المشبه في جنس المشبه به دالاً على ذلك بإثباتك ما يخص المشبه به.
وقيل: الاستعارة نقل المعنى من لفظ إلى لفظ المشاركة بينهما بسبب ما. وهذا الحد فاسد، لأن التشبيه يشارك الاستعارة فيه.
وقيل: الاستعارة تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة.
وقيل الاستعارة تشبيه حذف أحد طرفيه.
وتنقسم الاستعارة من حيث ذكر أحد طرفيها إلى قسمين:
(أ) الاستعارة التصريحية: بمعنى اللفظ المستعار إن كانت مذكورة في نظم الكلام لفظًا أو تقديرًا فهي استعارة مصرّحة. أي مصرح بها. ويقال لها استعارة مصرّح بها على الأصل. واستعارة تصريحية نحو (أسد) في قولك: عندي أسدٌ يرمي. ونحو (أسد) المدلول على الجملة الواقعة فيها بنعم، الواقعة في جواب من قال: أعندك أسدٌ يرمي؟
فالأولى استعارة مصرّحة مذكورة لفظًا. والثانية مصرحة مقدرة إذ تقدير الكلام (عندي أسد يرمي) بقرينة السؤال.
وإذا لم يكن اللفظ المستعار مذكورًا سميت الاستعارة (استعارة مكنية).
(ب) استعارة مكنية:
وتنقسم الاستعارة باعتبار لفظها قسمين:
1) الاستعارة الأصلية.
2) الاستعارة التبعية.
وتنقسم الاستعارة باعتبار ملائمها إلى:
1) الاستعارة المطلقة.
2) الاستعارة المجرَّدة.
3) الاستعارة المرشحة.
وتنقسم بحسب طرفيها:
أ) الاستعارة الوفاقية.
ب) الاستعارة العنادية.
انظر مزيل تفصيل: (معجم البلاغة العربية) (ص467 ـ 470).(12/6151)
تمثيليةٌ (1) واقعةُ التبعيةِ، (2) يدلُّ عليهِ قِوامُ حالِهم.
_________
(1) الاستعارة التمثيلية: مجاز مركبٌ علاقته المشابهة كقول الرمّاح بن ميّادة، وقد أراد أن يعبِّر أنّه كان مقدَّمًا عند صاحبه، ويتمنى ألاَّ يؤخره وكان مقرَّبًا فلا يبعده. ومجتبًى فلا يجتبنه فعبر عن تلك المعاني بقوله:
ألم تكَ في يُمنى يديك جعلتني ... فلا جعلتني بعدها في شمالكا
ولو أنني أذنبتُ ما كنت هالكًا ... على خصلةٍ من صالحات خصالكا
ومنها قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ}.
ومتى اشتهرت الاستعارة التمثيلية وكثر استعمالها سارت مثلاً والأمثال لا تغير فلا يلتفت فيها إلى مضاربها إفرادًا وتثنية وجمعًا وتذكيرًا وتأنيثًا, بل يشبه المثل بموارده, فينقل لفظه كما هو بلا تصرف.
فتقول لرجال ضيعوا الفرصة على أنفسهم ثم جاءوا يطلبونها (الصيف ضيّعت اللبن) بتاء مكسورة. لأنه في الأصل خطاب لامرأة.
(معجم البلاغة العربية) (ص110).
(2) تنقسم الاستعارة بحسب لفظها إلى استعارة أصلية، واستعارة تبعية، الاستعارة (التبعية) هي التي لا يكون المستعار فيها اسم جنس غير مشتق فيكون فعلاً أو اسمًا مشتقًا أو حرفًا.
وسميت هذه الاستعارة (تبعية) لأنها تابعة لاستعارة أخرى في المصدر، لأن الاستعارة تعتمد التشبيه والتشبيه يعتمد كون المشبه موصوفًا، والأفعال والصفات المشتقة منها بمعزل عن أن توصف.
والمحتمل للاستعارة في الأفعال والصفات المشتقة منها هي مصادرها، وفي الحروف متعلقات معانيها، فتقع الاستعارة هناك، ثم يسري فيها. *
ومتعلقات معاني الحروف ما يعبّر عنها عند تفسيرها. مثل قولنا: إن معنى (من) ابتداء الغاية. ومعنى (إلى) انتهاء الغاية.
فاستعارة الفعل نحو قول الله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} فالمعنى على الحقيقة: بل نورد الحق على الباطل فيذهبه فقد شبه الإيراد بالقذف، واستعير لفظ المشبه به للمشبه، ثم اشتق من القذف بمعنى الإيراد (قذف) بمعنى (أورد) على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.
واستعار الدفع للمحو بجامع الإذهاب في كل.
واستعارة المشتق نحو: حكم على قاتلك بالسجن، من القتل بمعنى الضرب الشديد.
واستعارة الحرف نحو قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} فقد شبه مطلق الارتباط بين المستعلي والمستعلى عليه بمطلق الارتباط بين الظرف والمظروف بجامع التمكن أو مطلق الارتباط في كل. فسرى التشبيه من الكليين إلى الجزئيات، واستعير لفظ (في) من جزئيات المشبه به لجزيء من جزئيات المشبه على سبيل الاستعارة التبعية.
(معجم البلاغة العربية) (ص110 ـ 111) (المطوَّل) (ص380).(12/6152)
وتقريره أن يقال: شُبَّهَتْ حالُهم وهي تمكُّنهم من الهدى، واستقرارُهم عليه، وتمسُّكهم به بحال منِ اعتلى الشيءَ ورَكبَهُ، ثم اسْتُعيرَ للحالةِ التي هي المشبَّه بها [2] كلمةُ الاستعلاء المستعملةُ في المشبه به، وتدلك على أن الاستعارةَ التبعيةَ تمثيليةُ الاستقراء، وبه يُشعِرُ قولُ صاحب المفتاح ـ رحمه الله ـ في استعارة (لعلَّ) فشبَّه حالَ المكلَّف ... إلى قوله: بحالِ المرتجي إلى آخِره انتهى. (1)
فهذا تصريحٌ بما صرح به السعدُ مع زيادةِ الاستدلالِ على أن الاستعارةَ التبعية تمثيليةٌ بالاستقراء ... ويقولُ إمام الفنِّ السكاكي (2) صاحبُ المفتاحِ: وإذا عرفت هذا فاسمعْ ما نمليهِ عليك من كلام الشريفِ في حاشيته على الكشافِ، ثم من كلامه في حاشيته على المطوَّلِ، وسنكتُبُهُ هاهنا بحروفه ونتعقَّبه بما هو معروضٌ على معارفِ العارفينَ، مجلُوٌّ على أذهانِ الأذكياء من المتدربينَ، فقال في حاشيته على الكشاف ما لفظه: قوله: ومعنى الاستعلاء ـ يريد أن كلمة (على) هذه استعارةٌ تبعيةٌ ـ شبَّه تمسُّكَ المتقينَ بالهدى باستعلاء الراكبِ على مركوبِه في التمكُّن والاستقرارِ، فاسْتُعيرَ له الحرفُ الموضوعُ
_________
(1) انظر (المطوّل) (ص376).
(2) هو: يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي السكّاكي الخوارزمي الحنفي أبو يعقوب سراج الدين، ولد عام سنة 555هـ توفي سنة 626هـ عالم بالعربية والأدب. من كتبه: (مفتاح العلوم) في النحو والبيان والمعاني البديع ...
(الأعلام) للزركلي (8/ 222).(12/6153)
للاستعلاء كما شبَّه استعلاءَ المصلوبِ على الجذعِ باستقرار المظروفِ في الظرفِ بجامع الثباتِ، فاستُعيرَ له الحرفُ الموضوعُ للظرفية في قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}. وإنما قال: ومعنى الاستعلاء دون معنى (على)، لان الاستعارة في الحروف تقع أولاً: في متعلَّق معناه كالاستعلاء والظرفيةِ والابتداء مثلاً، ثم تسري إليها بتبعيته.
وقوله (مَثَلٌ) تصويرٌ: إذِ المقصودُ في الاستعارةِ تصويرُ المشبه بصورة المشبَّهِ به إبرازًا لوجه الشَّبَهِ في جانب المشَّبهِ به في صورته, في جانب المشبه به مبالغةً في شأنه, كأنه هو, فإنك إذا قلت: رأيتُ أسدًا يرمي, فقد صورتَه في شجاعتِه بصورةِ الأسدِ وجُرْأَتِه, وإنما قدَّم تصويرَ التمكن والاستقرارِ ـ أعني: وجْهَ التشبيهِ ـ على تصوير التمسُّك ـ أي المشبَّه ـ لأنه المقصودُ الأصليُّ بالقياس إليه.
أقول: هكذا قال في حاشيته مفسِّرًا لكلام الزمخشري, شارحًا لمعناه. وحاصله: أن الاستعارة تبعيةٌ فقطْ, وهو وإن كان صحيحًا باعتبار معنى الحرف لكنه أهملَ بيانَ معنى قول الزمخشري: مَثَلٌ لتمكُّنهم من الهدى وأهمل أيضًا بيانَ معنى قوله: شُبِّهَتْ حالُهم بحالِ منِ اعتلَى الشيءَ وركبَه, وادَّعى أن معنى قوله مَثَلٌ هو مجرَّدُ التصويرِ, وهذه دعوى غيرُ مطابقةٍ لمصطلحِ أهل فنِّ البيان, فإنهم يستعملونَ هذا اللفظَ في الاستعارةِ التمثيليةِ كما تشهدُ به نصوصُهم في غير موضعٍ, لا سيما ما يقع من ذلك للزمخشري في الكشاف, هذا على فرض أن الزمخشريَّ لم يحققْ هذا المعنى ويوضِّحهُ, ويصرحْ به, فكيف وقد [3] قال عقبه: شُبِّهَتْ حالُهم بال منِ اعتلى الشيء وركبه! فإنه لا يبقى بعد هذا شكٌّ أن مقصودَه بيانُ الاستعارة التمثيليةِ التي حكم على معنى الاستعلاء بها حيثُ قال: ومعنى الاستعلاء في قوله: {عَلَى هُدًى} مَثَلٌ لتمكُّنهم .. إلخ ومع كون هذا هو مصطلح أهل الفنِّ هو أيضًا مستفادٌ من دليل الاستقرارِ, ومن كلام السكاكي كما قاله العلوي في كلامه المتقدم, فلم يكن هاهنا موجبٌ لتحريفِ الكلامِ, وحَمْلِهِ على خلاف معناهُ, وإخراجه عن مدلوله اللغوي والاصطلاحي.(12/6154)
قال: وزعم بعضُ الناس أن الاستعارةَ ها هنا تبعيةٌ تمثيليةٌ: قال: أما كونها تبعيةً فلِجَرَيانها أولاً في متعلَّق معنى الحروفِ, وتبعيتُها في الحرف, وأما كونها تمثيليةً فلكون كل من طرفي التشبيهِ حالةً منتزعةً من عدَّة أمور.
واعترض عليه بأن انتزاعَ كلَّ طرفي التشبيه من أمور عدَّة يستلزم تركُّبَه من معان متعددةٍ. ولا شكَّ لأن متعلَّق معنى الحرفِ هو الاستعلاءُ, وإنه من المعاني المفردة كالضرب وأمثالِه, فلا يكون مُشَبَّهًا به في ذلك التشبيهِ سواءٌ كان جزءًا منه أو لا, فكيفَ يسري التشبيهُ والاستعارةُ منه إلى معنى الحرف! ومحصِّلة: أن معنى كون (على) استعارةً تبعيةً يستلزم كونَ معنى الاستعلاء مشبَّهًا به, وإنَّ ترُّكبَ الطرفين يستلزمُ أن لا يكون مشبهًا به, فلا يجتمعان. فإذا جُعلت (على) تبعيةً لم تكن تمثيليةً مركَّبة الطرفين, بل كانت استعارة ً في المفرد كما بيناه.
أقول: حاصل هذا الكلام دعوى أن الاستعلاءَ الذي هو معنى الحرف من المعاني المفردةِ, ثم دعوى أن ذلك يمنعُ من أن يكون مشبَّهًا به في التشبيه الذي يركَّبُ طرفاه, وذلك ممنوع, وبيان معنى هذا المنع هو أنا نطالبُك بالدليل على كون معنى الاستعلاء الذي هو معنى الحرف مفردًا, فإن العقل والحِسَّ واللغةَ والاصطلاحَ ليس فيها شيء يستفادُ منه ما ذكرت.
أما العقلُ: فإنه لا يمتنعُ عنده أن يكون معنى لفظ من الألفاظ المفردة متعددًا, وليس هذا مما يختلف العقلاءُ في صحته حتى يبرهنَ عليه, والقائم مقامَ المنع يكفيهِ هذا القيامُ في ذلك المقام.
وأما الحِسُّ: فكلُّ ذي حِسٍّ لا ينكر أن للاستعلاء الحاصلِ من مجموعِ راكب ومركوب وركوب [4] هيئةً منتزعةً من أمور متعددة.(12/6155)
وأما اللغةُ: فأيُّ قائل قد قال منهم أن اللفظَ إذا كان مفردًا كان معناه غير متعدد, فإن الألفاظ المفردة التي لها معانٍ متعددةٌ موجودةٌ في كل باب من أبوابها وجودًا كثيرًا, فإن كان يعترفُ بهذا في معاني سائرِ الألفاظِ المفردة ويدَّعيه في معنى هذا اللفظ ـ أعني لفظَ الاستعلاء ـ فنحن نطالبُه بالنقل عن أهل اللغة, وما أظنه يجد إليه سبيلاً.
وأما الاصطلاح: فلم يصطلحْ على مل ذكره من التلازم أحدٌ من أهل الفنون العلميةِ فضلاً عن علماء البيان, وكيف يخفى مثل هذا! وكتبُ البيانِ مصرِّحةٌ في حد الاستعارةِ التمثيليةِ بأنها اللفظُ المستعملُ فيما شُبِّه بمعناه الأصلي, (1) كما وقع في تلخيص المفتاح (2) فإن هذا تصريحٌ بتوحيد اللفظ وتوحيد معناهُ, ولو كانت الاستعارة التمثيليةُ تتوقَّف على تَعْدادِ اللفظ أو معناه لكان هذا الحدُّ مختلاً.
قال: فأجاب بأنَّ انتزاعَ كلٍّ من طرفي التشبيهِ من عدةِ أمور لا يوجِبُ تركُّبَهُ في نفسِه، بل يقتضي تعدُّدًا في مأْخّذِه.
وردَّ عليه بأن المشبَّه مثلاً إذا كان منتزعًا من أشياء متعددةٍ، فإما أن يُنْتزَعَ بتمامه من كل واحد منها، وذلك باطلٌ، لأنه إذا أخذ بتمامه من واحد منها كان أخْذُهُ مرَّةً ثانيةٍ من شيء آخرَ لغوًا، بل تحصيلاً للحاصل.
وإما أن يُنتزعَ من كل واحد منها بعضٌ منه، فيكون مركبًا بالضرورة، وأما أن لا يكون هناك لا هذا ولا ذاك، وهو أيضًا باطلٌ، إذ لا انتزاعَ حينئذ للمشبَّه منها أصلاً، فتعيَّن القِسْمُ الثاني ولزم المطلوب.
_________
(1) تقدم ذكره.
(2) (التلخيص) هو للقزويني. اختصر فيه كتاب مفتاح العلوم للسكاكي.
يقول السعد في شرحه على (التلخيص): إنّا لا نسلم أن التمثيل يستلزم التركيب, بل هو استعارة مبنية على التشبيه التمثيلي قد يكون طرفاه مفردَيْن كما في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا}.
(المطوَّل) (ص390ـ 391).(12/6156)
أقول: اعلم أن جوابَ السعد المذكورَ في غايةِ الوضوحِ والظهورِ، وما أورده عليه فجوابُه أنا نختار القِسْمَ الثاني الذي قال أنه متعيّنٌ، ونقول له: ما تريد بقولك: (فيكون مركَّبًا بالضرورة؟). هل اللفظُ أو المعنى أو شيءٌ آخَرُ؟ إن أردتَ اللفظَ فممنوعٌ.
وإن أردت المعنى فنحن نقول بموجبه (1)، ولا يضرنا ولا ينفعُك. فما معنى هذه المراوغَة! وإن أردت شيئًا آخر فما هو حتى نجيبَ عليه؟
قال: فكيف لا وقد صرح هذا الزاعم في تفسير قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} بأنه لا معنى لتشبيه المركبِ بالمركبِ إلا أن تنتزعَ كيفيتهُ من أمور متعددةٍ فتُشَبَّه بكيفيةٍ أخرى مثلِها، تقعُ في كل واحد من الطرفين أمورٌ متعددة ...
أقول: نعم صرَّح بهذا، فكانَ ماذا؟ فإنه ليس في كلامِه هناك ما خالف كلامَه هنا، وليس تصريحُه هنالك بأنه تقع في كل واحد من الطرفين أمورٌ متعددة يستلزمُ أن يكون التعدُّدُ في اللفظ حتى يقال: لفظ الاستعلاء مفردٌ، بل المرادُ أن يكون [5] المعنى في كل واحد من الطرفين متعدَّدًا، سواءٌ كان الدالُّ عليه لفظٌ مفردٌ أو متعدِّدٌ ...
قال: وأيضًا قد اتَّفقوا على أن وجه التشبيهِ في التمثيل يجبُ أن يكون مركَّبًا، وما ذاك إلا لكونه منتزعًا من متعدد، وأمثال ذلك مما لا يلتبس على ذي فطنة ناقدةٍ، وفكرة صائبةٍ ...
أقول: وكون مثلِ هذا الكلامِ لا ينفعهُ ولا يضرُّ السعدَ لا يلتبسُ على ذي فطنة ناقدةٍ وفكرة صائبة، فإن اتفاقهم على كونه وجْهَ الشبه في التمثيل يجبُ أن يكون مركبًا مسلَّم، وكذلك انتزاعُهُ من متعدد، ولا تعلُّق لمثل هذا الكلامِ بالمقام، فإن الانتزاعَ إنما هو من المأخذ لا من الدالِّ عليه الواقعُ في الكلام المشتملِ على الاستعارة التمثيلية.
قال: فكأنّى بك قد تطلعت نوازعَ من قلبِك إلى ما يشفي غليلَ صدرك من تحقيق
_________
(1) في حاشية المخطوط: لكنه يبطل به قول السعد أن انتزاع طرفي التشبيه من عدة أمور لا يوجب تركبه في نفسه.(12/6157)
المقام الذي زلَّتْ في الأقدامُ.
فتقول ـ وبالله التوفيق ـ قوله: {عَلَى هُدًى} تحتملُ وجوهًا ثلاثةً:
الأول: أن يُشَبَّهَ التمسُّكُ بالهدى باستعلاء الراكبِ كما سلف.
الثاني: أن تُشَبَّهَ هيئةٌ منتزعةٌ من المتقي، والهدى، وتمسكه به بالهيئةِ المنتزعةِ من الراكب والمركوب، واعتلائه عليه، فتكون هناك استعارة تمثيليةٌ ترَكَّبَ كلُّ واحد من طرفيها، إلا أنك لم تصرِّحْ من اللفظ الذي هو بإزاء المشبَّه به إلا بكلمة (على)، فإن مدلولَها هو العمدةُ في تلك الهيئةِ، وما عداه تَبَعٌ له يلاحظُ معه في ضمن ألفاظ متعددةٍ، وليس حينئذ (على) استعارةً أصلاً، بل هي على حالها قبل الاستعارةِ، كما إذا صرح بتلك الألفاظ كلِّها.
الثالث: أنه يشبه الهدى بالمركوبِ على طريقةِ الاستعارةِ بالكنايةِ، وتُجْعَلُ (على) قرينةً لها على عكس الأولِ كما اختاره الإمامُ السَّكاكيُّ، وحينئذ فمن اعتبر في طرفي التشبيه بعد الهيئةِ الوحدانية، وحكَمَ بأن الاستعارة تبعيةٌ فقد اشتبه عليه الوجهِ الأول بالثاني، وقد يماري في ذلك منِ ادَّعى تكرُّرَهُ في الكشاف، وهو بريء منه. وتوهَّم أن عبارة المفتاحِ في تقرير الاستعارة التبعيةِ في (لعل) بيّنةٌ في ما ادَّعاه، وليس فيها إلا تشبيهُ حال المكلَّفِ بحال المرتجي، والحال أعمُّ من المفرد والمركب كما لا تخفى.
أقول: هذا التحقيق الحقيقُ بالقبول لم يشتملْ على شيء من البرهان المقتضي لامتناع اجتماعِ الاستعارةِ التبعيةِ والتمثيليةِ، وذلك هو محلُّ النزاع، ولكنه قد اشتمل على تكرير الدعاوى المجرَّدةِ، وهو قد اعترف بأن المقامَ صالحٌ للاستعارة التبعيةِ، وللاستعارة التمثيليةِ. وادَّعى امتناعَ اجتماعِهما، واستدل على ذلك بأن معنى الحرف مفردٌ. وهي دعوى قد عرفت بطلانِها، ثم إنه ادَّعى هاهنا دعوة هي أبعدُ مما سلف فقال: إنه لم يصرِّحْ من اللفظ الذي هو بإزاء المشبَّه به [6] (1) إلاَّ بكلمة (على)، وإن ثَمَّ ألفاظًا أُخَرَ
_________
(1) في حاشية المخطوط: ولكنه لا يخفى عليك أن القول بتركب المعنى فيما نحن فيه لا يستلزم إبطال قول السعد أن ذلك الجواز تركبه بغير ذلك لأن الكلام هنا عن التشبيه نفسه لا عن طرفيه. تمت.(12/6158)
معتبرةً معها ملاحظَةً في ضمن ألفاظٍ متعددة، فوقع في مضيقٍ أضيقَ من المضيقِ الأول ـ أعني دعوى أن معنى الاستعلاء مفردٌ ـ وجاء بكلام يخالفُ ما عند أهل الفن مع ما فيه من التكلُّف الذي يمجُّه كلُّ طبعٍ سليمٍ، وينفِرُ عنه كلُّ فهم قويمٍ، ثم اعتمد في دفع ما استدَّل به خصمُه من تكرُّر ذلك في الكشافِِ، وفي كلام السكاكيَّ على مجرَّد الدعوى كقوله: ليس فيها إلا تشبيهُ حالِ المكلَّف بحال المرتجي.
ثم جاء: بمغالطة بينةٍ فقال: والحالُ أعمُّ من المفرد والمركب كما لا يخفى.
فيقال له: هذه الحالُ التي زعمت أنها أعمُّ هل هي الحال المذكورةُ في عبارة السكاكي هنا أم في غيرها؟ فإن قال بالأول فقد سلَّم أن هذه الحالَ تكون مركبةً كما تكون مفردةً، ولم يبرهنْ على أنها مفردةٌ فقطْ، فكان كلامه مصحِّحًا لما ادَّعاه خصْمُه، وليس المراد إلا وجودَ المصححِ، فإنه إذا كان ما قاله خصمُه صحيحًا بوجهٍ من الوجوه، وعلى اعتبار من الاعتبارات، لم يبقَ مسوِّغ للاعتراض عليه، ومثلُ هذا لا يخفى على مثل هذا الإمامِ.
ولكن ما عرض في المقام بينَه وبين ذلك الإمام من الخصامِ قد تسبَّب عنه مثلُ هذا، ولا سيما إذا صحَّ ما يقال من أن هذه المباحثةَ بينهما كانت بمقامِ السلطان تيمورلنك. وإن قال بالثاني فهو مع كونه خلافَ مدلول هذه الكلمةِ لغةً واصطلاحًا لا ينفعهُ ولا يضرُّ خصمَه ...
قال: فإن قلت: إذا جُوِّز في التمثيل أن يكون طرفاهُ مفردَيْن مع تركُّبِ وجهه أمكنَ أن تجامعَ الاستعارةُ التبعيةُ في الحروف والأفعال.
قلت: نعم لكنَّ الحقَّ استلزامُ التمثيلِ تركُّبَ طرفيهِ، فإن المتبادَرَ من قولهم: التمثيلُ ما وجههُ منتزعٌ من عدة أمورٍ انتزاعُ وجهِهِ من عدة أمور في كل من الطرفينِ، وإن أمكن أن يُرادَ انتزاعُهُ من أمور هي أجزاؤه كما في الهيئة المنتزعةِ التي تجعلُ مشبَّهَةُ أو(12/6159)
مشبهًا بها.
أقول: تدبَّر هذا المقامَ تظفرْ بالمرامِ، فإنه أورد على نفسِه أنه يجوزُ أن يكون طرفًا التمثيل مفردينِ، وأن هذا التجويزَ يجامع الاستعارةَ التبعيةَ في الحروف والأفعالِ، ثم قال في الجواب (قلتُ نعم) وهذا تسليمٌ منه يرفعُ النزاعَ، ويدفع الاعتراضَ، وينادي بأبلغِ صوتٍ، وينطق بأفصحِ لسانٍ أن كلام خَصْمِه حقٌّ، وأن اعتراضَه باطلٌ، ثم نكصَ بعد هذا التسليمِ فقال بعد قوله نعم: لكنَّ الحقّ استلزامُ التمثيل تركُّبَ طرفيه. فيقال له: هذا الاستلزام إن كان متعينًا لا يجوزُ غيرُه، فما معنى قولك نعم [7]! وإن كان غيرَ متعيَّنٍ لم يبق لاعتراضك موضعٌ، وصح كلام خصمِك باعترافِك، فليس المرادُ إلا وجودَ المصحح. ثم نقول: ما تريد بتركُّبِ الطرفينِ؟ هل تركُّبُ اللفظينِ أم تركُّبُ المعنى المستفادِ منهما؟ إن قلتَ: بالأول فذلك شيءٌ خارج عن الفن لا يقول به أحدق من أهله وإن قلتَ بالثاني كما هو صريح كلامِك سابقًا فقد تقدم ما فيه.
قال: لا يقال تركُّبُ طرفيهِ واجبُ بحسبِ المعنى، وأما بحسب اللفظ فلا، إذ ربما يُطلقُ لفظٌ واحد على قصةٍ كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي ... } لأنا نقول: المرادُ بكون المعنى مفردًا أن يُلاحَظَ ملاحظةً واحدةً في ضمنِ لفظ واحدٍ، سواء لم تكن له أجزاءٌ أو كانت أجزاءً متعددةً لوحِظَتْ دُفعةً إجمالاً، ويكون المعنى مركَّبًا أن يلتفتَ إلى أشياءَ عدَّةٍ عنه كلٌّ على حِدّةٍ ثم تُضَّمُّ بعضُها إلى بعض وتصيرُ هيئةًً وحدانيةً، فكل معنى ذي أجزاء عُبِّرَ عنه بلفظ واحدٍ لم تكن تفاصيلُها ملحوظةً، ولم يعد مركبًا، وأما التشبيهُ بالمثلِ فلا يغني عنك شيئًا؛ فإن الحالةَ المختصَّةَ المشبَّهةَ إنما تُفُهَمُ من ألفاظٍ مقدَّرةٍ، أي مثَّلهم بما ذكر من إظهارِ الإيمانِ وإبطانِ الكفر، وما يترتب عليه من الخداعِ المستتبعِ للمنافعِ، كما أن الحالةَ المشبَّهةَ بها تفهم من جميعِ الألفاظِ المذكورةِ هاهنا.
أقول: قد أسفر بهذا الكلام الصبحُ لذي عينينِ، فإن هذا المحقَّق قد عقد بحثَه على أن معنى (على) مفردٌ، ثم لما تبيَّن له أن ذلك لا يغني من الحقِّ شيئًا أوردَ على نفسِه هذا(12/6160)
السؤالَ، وحاصلُه: إن التركُّبَ بحسب المعنى واجبٌ، وأما بحسب اللفظ فلا، وهو لم يتقدَّم له إلا الكلامُ على أن معنى الاستعلاء مفردٌ، وأن ذلكَ هو المانعُ، وعليه مصبُّ الاعتراضِ، لكنه تبيَّن له أن ذلك لا ينفعُه ولا يضرُّ خصمُه، فعاد إلى اعتبار تركُّبِ اللفظ ثم حقَّق معنى كون اللفظِ مفردًا ومركَّبًا بما لم يقعْ في كلامِ غيرِه من أهل العلم، فاعتبر في المفردِ أن يُلاحظَ ملاحظةً واحدةً في ضمن لفظ واحدٍ، وفي المركب أن يلتفتَ إلى أشياءَ متعددةٍ، فيقال له: على تسليم هذا الكلام الجاري على غير قوانين الأعلام، فهل ثمَّ مانعٌ في المقام الذي نحن فيه من أن يلتفت من الاستعلاءِ إلى أشياء متعددة، وهي الراكبُ [8] والمركوبُ والركوبُ، وإن قلتَ نعم فأيُّ جدوى بهذا الكلام؟ وإن قلت: لا فأخبرنا عن المانع من ذلك؟
ثم انظر كيف أورد على نفسه قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا}. وكان ورودُ هذا عليه أوضحَ من الشمسِ، فإن أفرادَ الطرفينِ معلومٌ لكل أحدٍ فأجاب عنه بمراوغة لا تغني من الحقِّ شيئًا. وقال: إن الحالة المختصَّة المشبهةَ إنما تفهم من ألفاظٍ مقدرةٍ ... إلخ.
فيقال له: فكان الاعتذارُ للسَّعدِ بمثل هذا العُذرِ، وتوجيهُ كلامِه بمثل هذا التوجيهِ يكفيك مَؤُنَةَ الاعتراضِ عليه، ويدفع عنه ما ناله بسببك من تلك القلاقلِ والزلازلِ.
فإن قلتَ: إن هذا الفهمَ من الألفاظ المقدَّرة تختصُّ ببعض الألفاظ المفردةِ، وهو لفظ المثل مثلاً دون لفظِ الاستعلاء، فما الدليل على هذا؟ هذا على فرض صحةِ هذه الدعوى، وصلاحيةِ مثلِ هذه المراوغةِ، وإن كانت من البُطلانِ بمكان لا يخفى، ومن الفساد بمحلٍّ بيِّن.
وهاهنا انتهى الكلام على كلام الشريفِ في حاشية الكشاف. وسنشرعُ الآن بمعونةِ الله في الكلام على كلامِه في هذا البحثِ في حاشيته على المطولِ، (1) وهو إن كان قد
_________
(1) (ص391 ـ 398).(12/6161)
اشتمل كلامُهُ السابقُ على خلاصتِه فربَّما ينفق ما ذكره من التطويلِ، وكرَّره من التهويل على بعض الأذهانِ، فسنكتبه هاهنا ـ إن شاء الله ـ، ونستغني في دفع ما قد تقدم دفْعُهُ بالإشارة إلى ما قد تقدم.
فقال ـ رحمه الله ـ بعد كلامه على قول صاحب المطوَّل: اعلم أن القومَ عرفوا التشبيهَ التمثيليَّ بما وجهُه منتزعٌ من متعدِّدٍ ما لفظُهُ: ثم إنَّ هاهنا قصةً غريبة في الاستعارة التمثيليةِ، فلنقصَّها عليكَ أحسنً القصَصِ، لتزدادَ إيمانًا بما ذكرنا، وينكشفَ لك بها مآربُ أخرى في مواضعَ شتَّى ..
قال صاحب الكشاف: ومعنى الاستعلاء في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} مثلٌ لتمكُّنهم [9] من الهدى، واستقرارِهم عليه، وتمسُّكِهم به، فشُبِّهَتْ حالُهم بحال منِ اعتلى الشيءَ ورَكِبَهُ ... وقال هذا الشارح ـ يعنى السعد ـ في حواشيه عليه: قولُه ومعنى الاستعلاء مثلٌ أي تمثيلٌ وتصويرٌ لتمكُّنهم من الهدى، يعني أن هذه استعارةٌ تبعيةٌ تمثيلاً، أما التبعية فلجريانها أولاً في متعلَّق الحرفِ، وتبعيتُها في الحرفِ.
وأما التمثيلُ فلكون كلٍّ من طرفي التشبيهِ حالُه منتزعةٌ من عدةِ أمورٍ، وهذه عبارتُه ..
ثم قال: وأقول: لا يخفى عليك أن متعلَّق معنى الحرفِ هاهنا أعني كلمةَ (على) هو الاستعلاء، كما أن متعلَّق معنى (من) هو الابتداءُ، ومتعلَّق معنى (إلى) هو الانتهاءُ، ومتعلَّق معنى (كي) هو الفرضيةُ على ما صرَّح به في المفتاحِ.
وقد مرت إشارةٌ إليه، ولا يلتبسُ أيضًا أن الاستعلاءَ من المعاني المفردة كالضربِ والقتلِ، ونظائرِهما، وكذلك معنى كلمة (على) مفردٌ، إذ لا يعني به في اصطلاح القومِ إلا ما دلَّ عليه بلفظ مفردٍ، وإن كان ذلك المعنى مركبًا في نفسِه بدليل أن تشبيهَ الإنسان بالأسدِ تشبيهُ مفردٍ بمفرد اتِّفاقًا، وإن كان كلٌّ منهما ذا أجزاء كثيرةٍ.
وقد تقدم في مباحثِ وجهِ التشبيهِ تصريحهُ بذلك، ونبَّهناك عليهِ، ولما صرَّح بأنَّ كل واحد في طرفي التشبيهِ هاهنا حالةٌ منتزعةٌ من عدَّةِ أمور لزمه أن يكونَ كلُّ واحد منهما(12/6162)
مركَّبًا، وحينئذ لا يكون معنى الاستعلاء مشبهًا به أصالةً، ولا معنى (على) مشبَّهًا به تبعًا في هذا التشبيهِ المركَّبِ الطرفينِ، لأنهما معنيان مفردانِ، وإذا لم يكن شيءٌ منهما مشبهًا به هاهنا سواءٌ جُعِلَ جزءًا من المشبَّه أو خارجًا عنه لم يكن شيء منهما أيضًا مستعارًا منه، فكيف يسري التشبيهُ والاستعارةُ من أحدِهما إلى الآخر! والحاصلُ أن كونَ كلمةِ (على) استعارةً تبيعةً يستلزمُ أن يكون متعلَّق معناها ـ أعني الاستعلاء ـ مشبهًا به، ومستعارًا منه أصالةً، وأن يكون معناها مشبهًا به ومستعارًا منه تَبَعًا، وأن كون كلِّ واحد من طرفي التشبيه هاهنا مركَّبًا يستلزمُ أن لا يكون معنى (على)، ولا متعلَّقُ معناها مشبَّهًا ولا مستعارًا منه، لا تبعًا ولا أصالةً، ومنافي اللازمينِ ملزومٌ لتنافي الملزومين، فإذا [10] جُعِلَتِ الاستعارةُ في (على) تبعيةً لم تكن تمثيليةً مركَّبةَ الطرفينِ قطعًا ...
أقول: ليس في كلامه هنا زيارةٌ على ما قدمنا من كلامه في حاشيته على الكشافِ إلا مجرَّدَ الأطنابِ، ومزيدَ الإيضاحِ، فلا حاجة لإعادة ما أسلفناه، إلا أنه هاهنا ربطَ دعوى كونِ معنى (على) مفردًا بما ذكره من اصطلاحِ القومِ أنه ما دلَّ عليه بلفظٍ مفردٍ، وإن كان المعنى مركَّبًا في نفسِه فيقال له: لا منافاةَ بين المفردِ بهذا المعنى، وبين المفرد الذي ندَّعي صلاحيتَه للاستعارةِ التمثيليةِ، إذ ليس المرادُ إلا مجرَّدَ انتزاعِ كلِّ من طرفي التشبيهِ من أمورٍ متعدِّدةٍ، وذلك لا يستلزمُ أن يكون الدالُّ على هذا المنتزَعِ مركَّبًا لا عقلاً، ولا لغةً، ولا اصطلاحًا، كما قدمنا تحقيقهَ. فإن الاستعلاء هيئةٌ حاصلةٌ من راكب ومركوب وركوب، وهذا لا يخفى قطُّ، ولا يلتبسُ على منْصفٍ. فاشتغالُه بالكلام على كون الطرفِ مفردًا تارةً معناه، وتارة لفظُه لم يربطْه بدليل قطُّ، ولا بشبهةٍ تنفقُ على بعض المحصلينَ، بل مجرَّدُ تطويلٍ وتهويلٍ. ثم هذه الكليةُ التي ذكرها ممنوعةٌ أعني قوله: إذًا لا يعني به اصطلاحِ القومِ إلا ما دلَّ عليهِ بلفظ مفرد.
قال: ولما أورد عليه هذه النكتةَ منقَّحةً هكذا، واضحةَ المقدِّمات، ومحققةً مبنيةٌ على القواعد البيانيةِ والمشهوراتِ، وأبتْ له عصبيتُه أن يذعِنَ لما استبانَ من الحقِّ جَحَدَها بعدما استيقَنها. فقال في الجواب:(12/6163)
إن انتزاع كلٍّ طرفي التشبيه من أمور متعددةٍ لا يستلزم تركُّبًا في شيء من أطرافِه بل في مأخذهما، وهذا كما ترى ظاهرُ البطلانِ من وجوه:
أحدها: أن المشبَّه بهِ مثلاً إذا انْتُزِعَ من عدَّةِ أمورٍ فلا يصحُّ أن يُنزَعَ بتمامه من كلِّ واحد [11] من تلك العدَّةِ، لأنه إذا انْتُزِعَ بتمامِه من واحد منها فقد حصلَ المقصودُ الذي هو المشبَّه بهِ، فلا معنى لانتزاعِهِ من واحد آخر مرةً أخرى، بل يجب على ذلك التقديرِ أن يكون جزءًا من المشبَّهِ بهِ، مأخوذًا من بعض تلك الأمور، وجزءًا آخَرَ من بعض آخَرَ فيلزمُ تركُّبُهُ قطْعًا.
الثاني: إنهم قد أطبقوا على أن وجه الشَّبهِ في التمثيلِ لا يكون إلا مركبًا وليس هناك ما يوجبُ تركبُه سوى كونه منتزعًا من عدة أمور، فإنهم قد عرفوا التمثيلَ بما وجهه منتزعٌ من متعددٍ، وإن كان انتزاعُ وجهِ الشَّبهِ من أمور متعددةٍ مستلزمًا لتركُّبِه كان انتزاعُ كلِّ طرفي التشبيهِ منهما مستلزمًا لتركُّبِهما، لأن المقتضي للتركيب هو الانتزاعُ من أمورٍ عدَّةٍ، وخصوصًا كونُ المنتزعِ وجهَ شبَهٍ، أو مشبَّهًا به، أو مشبَّهًا ملغاةٌ في ذلك الاقتضاء جزمًا.
الثالث: قد حكم بأن انتزاعَ كلٍّ من الطرفين من أمور عدةٍ يجب تركيبُهما حيث ردَّ على موجبِ أن يكون قولُه تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} من تشبيه المفرد بالمفردِِ، فإن قال هناك: ومنهم من قال: التشبيهُ ليس تشبيهًا مفردًا، ولا مركبًا، وإنما يكون كذلك لو كان تشبيهَ أشياءَ بأشياءَ، وليس كذلك، بل تشبيهُ شيء واحدٍ هو حالُ المنافقين بشيء واحدٍ، وهو حالُ المستوقدِ نارًا، ثم قال في الرد عليه: أقول: لا معنى للتشبيه المركَّب إلا أن تُنزعَ كيفيتُه من أمور متعددةٍ تُشبَّهُ بكيفية أخرى كذلك، فيقع في كل من الطرفين عدةُ أمورٍ، وإنما يكون التشبيهُ فيما هو ظاهر، لكن لا يُلتفتُ إليهِ، بل إلى الهيئة الحاصلةِ من المجموعِ كما في قوله: وكأنَّ أجرامَ دررٍ نُثِرتْ على بساط أزرقَ هذه عبارتُه، وهي مصرَّحةٌ بأن كلَّ واحد من طرفي التشبيه إذا كان حالُه منتزعةٌ من(12/6164)
أشياءَ متعددةٍ كان مركَّبًا، وبأن التشبيه المركَّب لا يكونان إلا منتزعين من أمورٍ عدةٍ، فلا فرْقَ إذنْ في وجوبِ التركيبِ بين أن يقالَ: هذا تشبيهٌ بمركَّب، وبين أن يقال: هذا تشبيهٌ منتزعٌ من عدةِ أمورٍ بمنتزعٍ آخر من أمور أخرى.
وهذا كلامُ حقٍّ لا يحومُ حولّهُ شكٌّ ...
وأما منعه هذا المعنى في هذا الجوابِ فهو بالحقيقةِ مكابرةٌ، وتلبيسٌ خوفًا من شناعةِ الإلزامِ.
أقول: قد قدمنا جوابَ الوجهِ الأولِ باختيارِ أنَّه ليس بمنتزعٍ من كل واحد منها بتمامِه، بل هو مأخوذٌ من كل واحد منها، هذا يستلزمُ تركُّبَهُ قطعًا لا يضرُّ السعدَ، فإنه يقولُ أن كلاً من طرفي التشبيهِ منتزعٌ من أمور متعددةٍ، وأن التركُّبَ كائنٌ في المأخذ لا في نفسِ الطرفِ.
فإن كان الشريفُ يريد أنه هو لفظُ الاستعلاء فلا يقول عاقلٌ أن تركُّبَ معنى الاستعلاء وهو انتزاعه من عدة أمورٍ يستلزم تركب لفظِه لا عقلاً ولا لغةً، ولا اصطلاحًا، وإن كان يريدُ به معنى الاستعلاء كما هو صريحُ كلامِه السابقِ فالسعدُ لا ينكرُ ذلك، فإن هيئةَ الاستعلاء الحاصلة [12] من المركوب والراكب والركوبِ هي متركبةٌ من هذه الحيثيةِ، أي منتزعةٌ من عدةِ أمورٍ، ولا ينكر هذا إلا مكابرٌ.
والجواب عن الوجه الثاني بتسليم ما ذكره من أن تركَّبَ وجه الشَّبهِ يستلزمُ تركُّبَ كلِّ واحد من الطرفينِ، والطرفَ في محل النزاعِ هو معنى الاستعلاء المنتزعِ من تلك الأمور لا لفظُه، كما يفهم من رسم أهل الفنِّ للتشبيه التمثيلي، فإنه قال في التلخيص: هو اللفظ المستفادُ منه.
والزمخشريُّ، وشرَّاح كلامِه إنما تكلموا في معنى الاستعلاء لا في لفظه، فقال الزمخشري: ومعنى الاستعلاء مَثَلٌ، ولم يقلْ: ولفظُ الاستعلاء مثَلٌ، وهكذا السعدُ إنما شرح كلامَ الزمخشري هذا، وهذا الظرفُ متركِّبٌ من تلك الأمورِ. وقد اضطرب كلامُ الشريفِ فتارةً يجعلُ الطرفَ اللفظَ، وتارة يجعلُه معنى اللفظ كما عرفناك سابقًا، والسعد(12/6165)
قد منع عليه استلزامَ انتزاعِ كلٍّ من طرفي التشبيهِ من متعدِّدٍ لتركُّبهما، ولم ينهض الشريفُ بعد هذا المنعِ بدليل تقوم به الحجةُ، بل اشتغلَ تارةً بالكلام على الطرف باعتبارِ لفظ المشبَّه به، وتارة باعتبار معناه، فاضطرب البحثُ، وتلوَّن كما أوضحناه فيما سبق.
وأما ما ذكره في الوجه الثالثِ عن السَّعدِ فليس بينه وبين كلامه هنا منافاةٌ قطُّ، لا بمطابقةٍ، ولا تضمن، ولا التزامٍ، بل ذلك كلامٌ في تحقيق التشبيه المفردِ والمرَّكبِ فتدبَّرْه. فإن قوله: فتقعُ في كلٍّ من الطرفين عدةُ أمور. الذي جعله الشريفُ حجةً له عليه، ليس فيه إلا أنَّه يعتبرُ أن يكون معنى الطرفِ كذلك، وهو يلتزمُه في معنى الاستعلاء الذي هو محلُّ النزاعِ كما صرَّح به في كلامه الذي نقلَه عنه خصمُه، ولا مخالفةَ بينه وبين ما قاله من أن تركُّبَ المأْخَذِ لا يستلزمُ تركُّبَ الطرفِ، فإنه يريدُ به هاهنا اللفظَ الواقعَ طرفًا للتشبيه ...
قال: ولعلك تشتهي الآنَ زيادةَ تحقيقٍ وتوضيحٍ في البيان.
فنقول: قولُه تعالى: {عَلَى هُدًى} يحتملُ وجوهًا ثلاثة:
أحدها: أن تشبيه الهدى بالمرْكبِ الموصلِ إلى المقصد فيثبتُ له بعض لوازمِه، وهو الاعتلاء على طريقةِ الاستعارةِ بالكناية.
وثانيهما: أن يشبَّه تمسُّكُ المتقينَ بالهدى باعتلاء الراكبِ في التمكنِ والاستقرارِ، وحينئذ تكون كلمةٌ (على) استعارةً تبعيةٌ.
الثالث: إن تشبُّهَ هيئة مركبةٍ من المتقي والهدى، وتمسُّكَهُ به ثابتًا مستقرًا عليه. لهيئةِ مركبِه من الراكبِ والمركوبِ، واعتلائِه عليه متمكِّنًا منه. وعلى هذا ينبغي أن يذْكُرَ جميعَ الألفاظِ [13] الدالةِ على الهيئةِ الثانية، ويراد بها الهيئةُ الأولى، فتكون مجموعُ تلك الألفاظ استعارةً تمثيليةً، كلُّ واحد من طرفيها منتزعٌ من أمور متعددة، ولا تكون في شيء من مفرداتِ تلك الألفاظِ تُصَرَّفُ بحسب هذه الاستعارةِ، بل هي على حالها قبل(12/6166)
الاستعمال، فلا تكون هناك حينئذ استعارةٌ تبعيةٌ في كلمة (على)، كما لا استعارةَ تبعيةً في الفعل في قولك: (وتقدَّم رِجْلاً وتأخَّر أخرى) إلا أنَّه اقتصر في الذكر من تلك الألفاظِ على كلمة (على)، لأن الاعتلاءَ هو العمدةُ في تلك الهيئة، إذ بعد ملاحظته تقرُّبِ الذهن إلى ملاحظة الهيئةِ، واعتبارِها، فجعلَ كلمةَ (على)، ولا مساغَ لأنْ يقال اسْتُعيرتْ كلمة (على) وحدَها من الهيئة الثانيةِ للهيئة الأولى، وذلك لأن الهيئة الثانيةَ ليست بمعنى (على)، ولا متعلَّق معناها الذي تسري الاستعارةُ منه إلى الأولى، والهيئة الأولى ليست مفهومةً منها وحدَها، فكيف تستعار هي من الثانية للأولى!
أقول: قد تقدم الكلامُ على هذا، وقد اعترف بأن محلَّ النزاع يضيق لاعتبار الاستعارةِ التمثيليةِ، وذلك مطلوب.
وأما قوله: وعلى هذا ينبغي أن يذكر جميعَ الألفاظِ ... إلخ فهذ دعوى مجردةٌ، فإن كان عليها دليل من كلام أهل الفن فما هو؟ فإنه لم يكن في كلامهم ما يُشعرُ بتعدد الألفاظ في نص قطُّ، بل نصوصُ أكابرِ الأئمةِ كالزمخشري والسكاكي مصرِّحةٌ بخلاف ذلك كما تقدم بيانه، ومحلُّ النزاع أعني اجتماعَ الاستعارةِ التبعيةِ والتمثيليةِِ قد دل عليه الاستقراءُ كما ذكره الفاضل اليمني، فما بقي حجةٌ. فإنْ كان الشريف يوجب تعدُّدَ اللفظ في كل طرف كما يشعر به كلامُه هنا وفيما تقدَّم، وفيما سيأتي مستدلاً على ذلك بما وقع في كل طرف كما يشعر به كلامُه هنا وفيما تقدَّم، وفيما سيأتي مستدلا على ذلك بما وقع في كلام أهل الفن: إن الاستعارةَ التمثيليةَ تشبيهُ هيئة بهيئةَ، وأن الهيئة لا يتعدَّد عليها ما كان مفردًا من الألفاظ.
فاعلم أن هذا مصادرةٌ ظاهرةٌ، فإن ذلك هو محلُّ النزاع كما تقدم الكلام عليه غيرَ مرَّة، والخصمُ يقول: إن الاعتبار بتعدد المأخذِ كما تقدم، وبقول أن تعدُّدَهُ لا يستلزم تعددَُّ الدالِّ عليه، ويستدل على هذا بنصوص أئمةِ الفنِّ واستعمالاتِهم، وإن كان لا يحتاج إلى الدليل بل يكفيه قيامُه في مقام المنعِ، فإن الذي جاء بدعوى اعتبار التعدُّد فظًا،(12/6167)
وزعم في مثل محلِّ النزاع أن هناك ألفاظًا محذوفةً بعد اعترافه بصلاحيتِه للاستعارة التمثيليةِ هو الذي يتعيَّن عليه الاستدلالُ على ما ادَّعاه، أو يصحِّحُ النقلَ عن أئمة الفنِّ إن كان ذلك نقلاً عنهم، ولم يأت بشيء يصلحُ لذلك مجرَّد إلا الدعاوى.
انظر كيف قال في هذا المقامِ مستدلاً على ما أسلفه من تعدد الألفاظ أنه لا مساغَ لأن يُقال: اسْتُعيرتْ كلمةُ (على) وحدَها من الهيئةِ الثانيةِ للهيئة الأولى، وذلك لأنَّ الهيئةَ الثانيةَ ليست على معنى (على)، ولا متعلَّق بمعناها ... إلخ ... وأنت تعلمُ أن هذا هو عينُ محلِّ النزاعِ، فإن الاستعلاء الذي هو معنى (على) بالاتفاق معناهُ متعدِّدٌ كما تقدم تقريره غير مرة، وكلامُ الزمخشري وشُرَّاح كلامِه إنما هو في معنى الاستعلاء كما هو مصرح به، وهذا التعدد في المعنى لا يستلزم أن يكون الدالُّ عليه ألفاظًا متعددةً لا لغة ولا عقلاً، ولا اصطلاحًا.
وبالجملة فمن أنصف علِمَ أنه لم يكن بين يدي السيد المحققِ في هذا البحث إلا مجرَّد تكرير الدعاوى والمصادراتِ.
قال: فإن قلتَ: لما كان معنى الاستعلاء مستلزمًا لفهم المعتلي والمعتلى عليه كانت كلمةُ (على) دالةً على مجموع الهيئةِ، فلا حاجة إلى تقدير ألفاظ أُخَرَ ... قلتُ: فَهْمُ المعتلي والمعتلى عليه من الاعتلاء، إنما يكون تبعًا لا قصدًا، وذلك لا يكفي في اعتبار الهيئة، بل لا بد أن يكون كل واحد منهما ملحوظًا قصدًا كالاعتلاء لتُعْتَبَر هيئةً مركبةً منهما، وهما من حيث إنَّهما يلاحظَانِ قصدًا مدلولاً لفظين آخرين فلا بدَّ أن يكونا مقدَّرين في الإرادة، وإما تقديرهما في نظم الكلامِ فذلك غير واجب، بل ربما كان تقديرهما موجبًا لتغيُّر نظمهِ.
أقول: لما استشعر بسقوط ما ذكرَه من أنه لا دلالةَ لمعنى (على)، ولا لمتعلَّق معناها ـ على الهيئةِ أوردَ على نفسهِ هذا السؤالَ الذي لا يتلقَّاه المنصفُ بغير التسليم والاعتراف، وتحاشي عن دفْعِه، وردِّه لكونه [15] بمكان من الظهور لا يخفى، فاعترف بفهم الهيئةِ من معنى الاعتلاء، وتخلُّص عند بدعاوى ثلاث:(12/6168)
الأول: أن هذا الفهمَ إنما هو تَبَعًا لا قصدًا.
الثاني: أن المعتبرَ هاهنا هو الفهمُ قصدًا.
الثالثة: أنه لا بد أن يكون كل واحد من المركب مدلولاً للفظٍ غيرِ اللفظِ الذي دلَّ على الآخر، وهذه الدعاوي لم تُرْبَطْ بدليلٍ، ولا شهد بها عقلٌ ولا نقلٌ، فيكفي في دفعها مجرَّدُ المنعِ كما لا يخفي على من له أدنى تمسُّك بعلم المناظرة ...
قال: ونظير ذلك ما صرَّحوا به من أن المشبَّه قد يُطوى ذكرُهُ في التشبيه طيَّا على سنَنِ الاستعارةِ، فلا يكون مقدَّرًا في نظم الكلام، فيلتبس بالاستعارةِ، فيُفَرَّقُ بينهما بوجهين:
أحدهما: أن لفظ المشبَّهِ به في التشبيهِ مستعملٌ في معناه الحقيقي، وفي الاستعارة في معناه المجازي.
الثاني: إن لفظ المشبَّه مقدَّر في الإرادة في صورةِ التشبيه دون الاستعارةِ كقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} (1) فإنه تشبيهٌ، إذ لم يُرِدْ بالبحرين الإسلامَ والكُفْرَ، بل أُريد البحرانِ حقيقةً، كما نشهد به سياق الآيةُ لمن له ذوقٌ سليم، وأريد تشبيهُ الإسلام والكفر بهما كأنه قيل: الإسلام بحر عذبٌ فرات، والكفر بحر مِلْحٌ أجاجٌ. فلفظ المشبَّه هاهنا مقدَّر في الإرادة دون نظم الآيةِ مغيرًا له، الشارح ـ يعني السعدَ ـ معترفًا بذلك
_________
(1) [فاطر: 12]. قال محيي الدين الدرويش في (إعراب القرآن الكريم وبيانه) (8/ 140 ـ 141): مثل الله للمؤمن والكافر بالبحرين ثم فضل البحر الأجاج على الكافر بأنه قد شارك البحر العذب في منافع من السمك واللؤلؤ وجري الفلك بما ينفع الناس والكافر خلو من النفع فهو في طريقة قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ثم قال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ويقال أيضًا إن المؤمن والكافر وإن اشتركا في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة لا يتساويان في الخاصية العظمى لبقاء أحدهما على فطرته الأصلية.(12/6169)
حيث قال في تفسير قول الكشاف: فقد جاء مطويًا ذكْرُهُ على سننِ الاستعارةِ يعني: قد يطوي في التشبيهِ ذكرُ المشبَّه كما يطوي في الاستعارةِ، بحيث لا يكون المذكور ولا يحتاج إلى تقديره في تمام الكلامِ، إلا أنه في التشبيه يكون منويًا مرادًا، وفي الاستعارة منسيًا غيرَ مراد. ومصداق الصرفِ أن اسم المشبَّه به في الاستعارة يكون مستعملاً في معنى المشبَّه مرادًا به ذلك حيث لو أقيم مقام َ اسم المشبَّه استقام الكلامُ، وفي التشبيه يكون مستعملاً في معناه الحقيقيِّ مرادًا به ذلك، ثم قال في قوله تعالي: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ ... } إلى قوله تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} (1) دلالةٌ قطعية على أن المراد بالبحرين معناهما الحقيقيِّ فيكون تشبيهًا: أي لا يستوي الإسلام والكفر اللذان هما كالبحرينِ الموصوفينِ. وقد خفِيَ هذا [16] البيانُ على بعض الأذهان فذهبوا إلى أن هذه الآيةَ من قبيل الاستعارةِ، ولا أدري كيف يتصدَّى أمثالُ هؤلاء لشرح مثل هذا الكتابِ ... انتهى كلامه.
فقد اتضح جوازُ كون اللفظ مرادًا منويًا وإن لم يكن مقدرًا في تركيب الكلام، وإذا تحققتَ ما تلونا عليك عرفتَ أن تمييز الوجهِ الثالثِ ـ أعني أن تكون الاستعارةُ تمثيليةً ـ على الوجه الثاني ـ أعني أن تكون الاستعارةُ تبعيةً ـ مبني على تدقيق النظر في أحوال المعاني المقصودةِ بالألفاظِ المقدرةِ، ورعاية ما تقتضيه قواعدُ علمِ البيانِ، فَمِنْ ثَمَّ زلَّتْ فيه أقدامُ فَضَلَّوا وأضلُّوا.
أقول: هذا الكلام ساقَه للاستدلال به على ما ذكره آخِرًا من جواز كون اللفظِ مرادًا منويًا ... إلخ ... ولا أدري كيفَ وقع مثلُ هذه التهافتاتِ لمثل هذا المحقِّقِ! فإن مجرد جواز الحذفِ في بعض المواضعِ لا يصلُحُ دليلاً لما فيه النزاعُ، فإنه يزعم أن الحذفَ فيه متعيَّنٌ لا يجوز غيره كما في الاستعارةِ التمثيليةِ، وخصمُه يخالفه ويمنعُ عليه ما قاله فهل يصلحُ في جواب هذا المنعِ المستفادِ من كلام خصمهِ أن يستدلَّ عليه بأنه قد جاز مثلُ
_________
(1) [فاطر: 12].(12/6170)
ذلك في موطن من المواطنِِ؟ فإن هذا التجويزَ غايةُ ما فيه أن يكون مثلَ ذلك جائزًا في محل النزاعِ لا متعيَّنًا، فيكون هذا الدليل الذي ساقه مقتضيًا بصحةِ ما قاله خصمُه، فاندفعَ الاعتراضُ، وبطل البحثُ من أصله.
هذا على فرض أن الخصمَ يسلِّم صحةَ الحذفِ في المتنازعِ فيه، واحتمالَه لذلك، فكيف إذا كان قائمًا في مقام المنع مسنِدًا له بأن الطرفَ مذكورٌ بتمامه، وأن مأخذه متركبٌ ومعناه متعدِّد!
قال: فإن قلتَ: على أي هذه الوجوه الثلاثة يحملُ كلامَ العلامة؟ قلتُ: على الوجه الثاني، فإنه جعل المشبَّه به اعتلاء الراكبِ، ويُعْلَمُ من ذلك أن المشبَّه هو التمسُّكُ بالهدى، وأن وجهَ الشَّبِه هو التمكن والاستقرارُ.
وأما قوله مَثَلٌ فمعناه تمثيلٌ ـ أي تصويرٌ ـ فإن المقصودَ من الاستعارة تصويرُ المشبَّهِ بصورةِ المشبَّهِ بهِ، بل تصويرُ وصفِ المشبَّهِ بصورة وصفِ المشبَّهِ به.
مثلاً إذا قلتَ [17]: رأيت أسدًا يرمي فقد صوَّرتَ الشجاعَ بصورة الأسدِ، بل صورت شجاعتَه بصورة جراءته، ولما كان المقصدُ الأعلى تصويرَ ما في المشبَّه من وجه الشَّبَهِ قدَّمَ التمكُّنَ والاستقرارَ على التمسُّك الذي هو المشبَّه وإنما قال: ومعنى (على) تنبيهًا على أن استعارةَ اللفظِ تابعةٌ لاستعارة المعنى، ليكون معناها للمبالغة.
أقول: قد تقدم دفعُ هذا بما لا يحتاج إلى تكريره هنا. وقد عرفت مصطلحَ أهلِ الفنِّ إذا أطلقوا لفظَ المثلِ في مثل هذا المقامِ فافهمْ بأنهم لا يريدون به إلا الاستعارةَ التمثيليةَ. ولما كان ذلك مناديًا بصحة ما قاله السعدُ، وفسادِ ما قاله الشريفُ أبلغُ مناداةٍ حاول إخراجَه عن معنى المصطلح عليه تتميمًا لدعواهُ، وترويجًا لاعتراضه، ولا سيما بعد التصريح من قبل صاحب الكشافِ بما لا يبقي عنده شكٌّ في مراده حيث قال: شُبِّهَتْ حالُهم ... إلخ. إن لفظَ المثل في مثل هذا الموطن محتملاً لما زعمه لكان هذا التصريحُ مانعًا من إرادة ما أراده، ودافعًا لحملِه على ذلك. ثم تأمَّل قولَه: وإنما قال: ومعنى الكشافِ ـ يعني الزمخشري ـ فإن هذا لما كان مصرِّحًا بأن المستعارَ منه هو معنى الاستعلاء لا(12/6171)
لفظُه حاول دفعَه ليتمَّ له ما ذكره آخرًا مع أنه لم يصرِّح في حاشية الكشافِ وحاشيةِ المطوَّل إلا بالاعتراض على أن معنى الكشاف لا يصلُحُ أن يكون طرفًا في للتمثيل حسبما قدمنا حكايةً ذلك عنه، ولكنه غيَّر كلامه، ورجع إلى الكلام على اللفظِ الدال على ذلك المعنى أحيانًا كثيرةً، هذا تكميلاً للاعتراض وتقويمًا لهذه المباحثةِ التي لم يكن بها انتهاءٌ.
قال: فإن قلت: قد تبين لنا مما قررت أن الصوابَ هو أن طرفي التشبيه [18] يتركَّبان معنى ولفظًا، فإن التركيبَ واجبٌ في الاستعارة التمثيليةِ كما صرَّح به في الإيضاح، (1) وشهد به المفتاحُ، وتبين أيضًا أن الاستعارةَ التبعيةَ في كلمة (على) لا تجامِعُ التمثيليةَ أصلاً، فما حال التبعيةِ في سائر الحروف والأفعالِ والأسماء المتصلةِ بها؟ قلت: هي لا تجامعُ التمثيليةَ في شيء منها، وذلك لأن معاني الحروف كلَّها مفرداتُ لكونها مدلولةً لألفاظ مفردةٍ، وكذلك متعلَّقاتُ معانيها من حيث إنها مفهومةٌ من تلك الحروف، ومعاني الأفعال ومصادِرُها، والأسماء المشتقة منها مفرداتٌ أيضًا لما ذكرنا، وليس شيء من هذه المعاني هيئةً مركَّبة، وحالةٌ منتزعةٌ من عدةِ أمورٍ فلا يقع شيء منها مشبَّهًا به أصالةً ولا تَبَعًا في الاستعارةِ التمثيليةِ.
أقول: قد كان في أوائل كلامه يدعي أن الاستعلاء من المعاني المفردة، وأطال الكلام في ذلك، وكرر أنه لا بدَّ أن يكون المعنى مركبًا، ثم عاد بحثُه إلى أن لفظ الاستعلاء ونحوه لا يصلحُ بطرفيّهِ التمثيلِ لكونه مفردًا، ثم إنه هاهنا صرح بأن الصوابَ أن يكون طرفا التشبيهِ التمثيليِّ مركبين معنى ولفظًا، ثم استدلَّ على ذلك بأن التركيبَ واجبٌ في الاستعارة التمثيلية، وزعم أنه صرح بذلك في الإيضاح، وشهد له كلام المفتاح، وهذه مغالطة بيِّنةٌ، فإنه جعل الدليلَ على تركُّبِ لفظِ كلٍّ من الطرفين ومعناهُ هو كون التركيبِ واجبًا في الاستعارةِ التمثيليةِ.
_________
(1) (ص293 ـ 294) للخطيب القزويني.(12/6172)
ولا نزاع في وجوب التركيبِ، إنما النزاعُ في استلزام هذا التركيب لتركيبِ كل من الطرفين لفظًا ومعنى كما سبق تقريرُه غيرَ مرَّة، ثم كمل المغالطةَ بأنه صرَّح بذلك في الإيضاحِ، (1) وشهد بهِ كلامُ المفتاحِ، وليس فيهما إلا كونُ التركيبِ واجبًا في الاستعارةِ التمثيليةِ، لا أنه لا بد أن يكون كلٌّ من طرفيها مركَّبًا لفظًا ومعنى، فإن ذلك هو محلُّ النزاع. وقد عرفت أنه وقع التصريح في المفتاح بخلافِ ما زعَمَهُ كما تقدَّم عن العلويِّ راويًا لذلك عنه في خصوص مسألةِ النزاعِ وهو اجتماعُ الاستعارة التمثيليةِ [19] والتبعيةِ، وكما يُسْتفادُ من الدليل الاستقرائي حسبما تقدم به التصريح.
والحاصل أن الخصم قائم مقام المنعِ مطالبٌ بالدليل فما هو؟ وأين هو؟ وكيف هو؟
قال: فإن قلت: قد نتخيل اجتماعَ التبعيةِ والتمثيليةِ من تقرير السكاكي: الاستعارةُ في (لعلَّ) في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قلتُ: ذلك تخيل فاسدٌ، وكيف لا وقد صرَّح في صدر كلامه بأن المشبَّه به والمستعارَ منه أصالةً هو معنى الترجِّي، ويعلم من ذلك مع باقي كلامه أن المشبَّه والمستعارَ به أصالة هو الإرادة، ثم يسري التشبيهُ والاستعارة فيهما إلى المعنى الحقيقي لكلمة (لعلَّ)، فيصير مشبَّهًا به ومستعارًا منه تبعًا.
وإلى المعنى المقصود بها في تلك الآية ونظائِرها فيصيرُ مشبًَّهًا ومستعارًا له تبعًا، وكما أن المعنى الحقيقيَّ بهذه الكلمة غيرُ مستقلٍّ بالمفهومية، وإذا أريدَ أن يُفَسِّرَ عُبّر عنه بالترجِّي، (2) كذلك معناها المجازي المرادُ بها هاهنا غيرُ مستقلٍّ في المفهوميةِ. وإذا أريدَ
_________
(1) انظر (الإيضاح في علوم البلاغة) (ص293).
(2) إذا ورد الترجي في كلام الله تعالى ففيه تأويلات:
1) إن لعلَّ على بابها من الترجِّي والأطماع ولكنه بالنسبة إلى المخاطبين وقد نص على هذا التأويل سيبويه في كتابه والزمخشري في كشافه.
2) إن لعلَّ للتعليل أي اعبدوا ربكم لكي تتقوا. نص عليه قطرب واختاره الطبري في تفسيره.
3) أنها للتعرض للشيء كأنه قيل: افعلوا ذلك متعرضين لأن تتقوا. نص عليه أبو البقاء واختاره المهدويّ في تفسيره.
انظر: (إعراب القرآن الكريم وبيانه) (1/ 54 ـ 55).(12/6173)
أن يُفسَّرَ عُبّر عنه بالإرادة، وكل هذه المعاني ـ أعني الترجِّيَ، والإرادة، والمعنى الأصليَّ، والمعنى المراد ـ مفرداتٌ فلا يكون المشبَّه به ولا المشبَّه في هذا التشبيهِ لا أصالةً ولا تبعًا بمركَّب منتزعٍ من عِدَّة أمورٍ، فلا تكون استعارةُ (لعل) حينئذ تمثيليةً بما مرَّ من حصرِ التمثيليةِ فيما ينتزع كلُّ واحد من طرفيه من أمور متعددةٍ.
نعم لما كان استعارةُ (لعل) من معناها الحقيقيِّ المفسَّرِ بالترجي لمعناها المجازي، المفسَّرِ بإرادة الله للأفعال الاختياريةِ للعباد مبنيةً على أصول المعتزلة أودَها. وأطنبَ فيها بما هو بسطٌ لكلام الكشافِ، ثم صرَّح بالمقصود مقتفيًا له أيضًا فقال: فشبَّه حالَ المكلَّف المتمكنِ من فعل الطاعةِ والمعصيةِ مع الإرادةِ منه أن يطيعَ باختياره بحال المرتجي المخيَّرِ بين أن يفعلَ وأن لا يفعلَ، وكان الظاهرُ أن يقول: فشبَّه حالَ اللهِ الممكنِ بحالِ المرتجي، لأنه أراد بالحالِ الذي هو المشبه به المعنى الحقيقيَّ الذي يعبَّر عنه بالترجِّي، وهو حال قائمٌ بالمرتجي، متعلِّق بالمترجي.
وأراد بالحال الذي هو المشبَّه المعنى المجازي الذي يعبَّر عنه بإرادة الله تعالى، وهو حال قائم بالله تعالى، متعلِّق بالمكلف. والأولى بالحال أن يُضافَ إلى ما قام به. لكن عدلَ عن ذلك وأضافَه إلى المتعلَّق لفائدتينِ:
الأولى: رعايةُ الأدب في ترك التصريحِ بتشبيهِ حال اللهِ تعالى بحال المرتجى.
والثانية: الإشارة إلى وجه الشَّبهِ بين الترجِّي، وتلك الإرادة، فإن المشابهةَ بينهما إنما هي في أن متعلِّقَ كلِّ منها يتمثَّل بين إقدام وإحجامٍ، فقوله: مع الإرادة لله أن يطيعَ متعلِّق بالمتمكِّن لا بقوله: فتُشَبَّهُ ليؤذنَ بتركيبٍ في المشبَّه، وهذه صفتُه أعني المتمكَّن مع ما في حيِّزها تنبيهٌ على وجه الشَّبهِ في جانب المشبَّه، فكذلك قوله [20]: المخيَّر بين أن يفعلَ وأن لا يفعلَ تنبيهٌ عليه في جانب المشبَّه به، ولم يُقْصَدْ بشيء منهما تركيبٌ في أحد(12/6174)
الطرفين، وانتزاعُهُ من متعدد، وحينئذ قد اضمحلَّ ذلك الخيالُ، واتضح المستقيمُ من المحالِ، وإن شئت زيادةَ توضيحٍ في المقال فاعلم أن قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وأمثالَهُ يحتمل الوجوهَ الثلاثة على قياس ما تقدم.
أما التبعيةُ فقد كشفنا عنها غطاءها فأنت بها خبيرٌ، وأما التمثيليةُ فإن تشبيهَ الهيئة المركبةِ المنتزعةِ من المريدِ والمراد منه، والإرادة بالهيئة المركبة المنتزعة من المرتجى والترجي، فيكون المستعارُ مجموع الألفاظ الدالةِ على الهيئةِ المشبَّهِ بها.
وقد سبق في تحقيقها ما هو كافٍ وشافٍ لمن ألقى السَّمع وهو شهيدٌ. وأما الاستعارةُ بالكناية فبصرُك اليوم فيها حديدٌ، وهي إن كانت هي المختارةَ عند السكاكي حيث ردَّ التبعيةُ إليها مطلقًا فقد ردَّ عليه ذلك صاحب الكشاف بما لم يسبقْه به أحدٌ، وما عليه من مزيد. وسيرد عليك هذا المعنى غيرَ بعيد.
أقول: هاهنا حصحصَ الحقُّ، واتَّضح الصوابُ، وارتفع الحجابُ، فإنه قد نقل عن السكاكي في كلامه هذا أنه صرَّح بأن المشبَّه به والمستعارَ منه أصالةً هو معنى الترجِّي، وهذا متعلِّقُ معنى الحرف ـ أعني (لعل) ـ بلا شك ولا شبهةٍ، فهو بالنسبة إلى (على) الذي هو محلُّ النزاعِ.
ثم نقلَ عنه في هذا الكلامِ الذي كتبناه أنَّه بين معنى الاستعارةِ فقال: شُبِّهَ حالُ المكلَّفِ المتمكِّن من فعل الطاعةِ والمعصية مع الإرادة منه أن يطيعَ باختياره بحالِ المرتجي المخيَّر بين أن يفعلَ وأن لا يفعلَ، فهذا تصريحٌ أوضحُ من الشمس بأن هذه الاستعارةَ تمثيليةٌ، فلم يبق شكٌّ بعد ذكره لتشبيه الحالِ بالحال مع تفسيرِ كلِّ منهما بمتعدِّدٍ بأن هذه استعارةٌ تمثيليةٌ، ثم أخذ في تحريف هذا الكلامِ وإخراجِه عن معناهُ بما لا ينبغي التعرُّضُ لِدَفْعِ، بل يكفي تفويضُه إلى نظر المنصفِ العارفِ بمواقعِ الكلامِ، وأساليبِ المباحثةِ، وآداب المناظرةِ، فإنه عند من كان كذلك غنيٌّ عن البيان والله المستعان.
فأنت ـ أيها الناظر ـ إن كنت لا تقتدي بالرجال، ولا تتقيدُ بالنظر إلى من قال،(12/6175)
فقد حللنا عنك عِقَالَ الإشكال [21]، وإن كنت على غير هذه الصفةِ فانظر أين يقع المحققُ الشريف من العلامة صاحبِ الكشافِ، والعلامةِ السكاكي، وأتباعِهما! كالفاضل اليمني، والسعد في خصوص مسألةِ النزاعِ، ثم في هذه المسألة المماثلةِ لها ـ أعني الاستعارة في (لعل) ـ وأما تجويزه في (لعل) ما جوَّزه في (على) من الوجوه الثلاثة فجوابُه مثلُ ما تقدم، وحاصلُه أن يقال له: قد سلَّمتَ جوازَ التبعيةِ والتمثيليةِ في كلامك هذا، وادَّعيتَ أنَّهما لا يجتمعانِ، ونحن نمنع ذلك. ثم ادَّعيتَ أن التمثيليةَ هاهنا لها ألفاظٌ محذوفةٌ، والحذف خلافُ الأصلِ فما دليلكِ عليه؟
قال: ونحن نوضِّح لك الحالَ في بعض صور الأمثالِ، ليكون ذلك مثالاً تحتذيهِ، ومنارًا تنتحيهِ، فنقول: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} إنْ جُعِلَ المشبَّه به فيه المعنى المصدريُّ الحقيقي للختْمِ والمشبَّه إحداثُ حالةٍ في قلوبِهم، مانعةً من نفوذ الحق فيها كان طرفا التشبيهِ مفردينِ، والاستعارةُ تبعيةً، وهو الوجه الأول في الكشاف، وإن جُعِلَ المشبَّه به هيئةً مركَّبة منتزعةً من الشيء، والختْمُ الواردُ عليه ومنعَه صاحبُه من الانتفاعِ به، والمشبَّه هيئةٌ مركَّبة منتزعةً من القلبِ، والحالةُ الحالّة فيه، ومنعَها صاحبُه الاستنفاعَ في الأمور الدينيةِ كان طرفا التشبيهِ مركبينِ، والاستعارةُ التمثيليةُ قد اقتصرَ فيها ألفاظ المشبَّه به على ما معناه عدَّةُ أمورٍ في تصوير تلك الهيئةِ واعتبارِها، وباقي الألفاظ منويةٌ مرادةٌ، وإن لم تكن مقدَّرةً في نظم الكلام، وليس هناك استعارةٌ تبعية أصلاً على ما تقرر فيما سبق، وهو الوجه الثاني في الكشافِ، فالفائدة في الاقتصار على بعض الألفاظ الاختلافُ: في العبارةِ، وتكثير محتملاتِها بأن تُحْمَلَ تارةً على التبعيةِ، وأخرى على التمثيلِ، ولو صرَّح بالكلِّ تعيَّنتِ التمثيليةُ إلى غير ذلك من الفوائدِ التي ربما لاحتْ لك في مواردها إذا فكرتَ فيها، وإن قصدَ في الآية إلى تشبيهِ قلوبِهم بأشياء مختومةً، وجعلَ ذلك الختْمَ الذي هو من روادف المستعارِ المسكوتِ عنه تنبيهًا عليه، ورمزَ إليه كان من قبيل الاستعارةِ بالكنايةِ، والله المستعان في البداية والنهاية.(12/6176)
أقول: الكلامُ في الختْم المذكور كالكلام في الاستعارةِ، فكل واحد منهما منتزعٌ من أمور متعددةٍ هي المذكورةُ هناك وهنا، وذلك هو المعتبرُ في الاستعارةِ التمثيليةِ، وأيضًا المستعار منه هو معناهما كما تقدَّم تحقيقهُ، وبيانُ النصِّ عليه والتصريحُ به، ولا مانع من تعدُّدِه لا عقلاً ولا لغة، ولا اصطلاحًا [22] كما أنه لا تلازُمَ بين اللفظ والمعنى في التعدد لا عقلاً، ولا لغةً، ولا اصطلاحًا، بل وجودُ المعاني المتعددةِ المدلولِ عليها بالألفاظ المفردةِ معلومٌ بالضرورة كما تقدم تقريرُه غَيْرَ مرَّة ...
قال: ثم إن الشارح ـ يعني السعد ـ بعدما جرى في المباحثة في إبطالنا الاستعارةَ التمثيليةَ التبعيةَ في صورة جزئيةٍ، أعني كلمةَ (على) كما حققنا، وتشبثُه بما لا يُتشبَّثُ به كما مضى فكَّر في نفسه برهةً، وقدَّر وصوَّر ذلك الجزئيَّ في صورة كلية، وقرَّر فقال لا يقال الاستعارةُ التبعيةُ الحرفيةُ لا تكون تمثيليةً، لأنها تلتزم كونَ كلٍّ من الطرفين مركبًا ومتعلِّقُ معنى الحرف لا يكون إلا مفردًا، لأنا نقول: كلتا المقدمتينِ في حيِّز المنعِ، فإن مبنى التمثيل على تشبيهِ الحالةِ بالحالةِ، بل وصْفُ صورةٍ منتزعةٍ من عدَّةٍ أمور بوصفِ صورةٍ أخرى، وهذا لا يوجب إلا اعتبارَ التعدُّد في المأخذ لا فيه نفسِه، ولا ينافي كونَه متعلِّق معنى الحرف. ومن البيِّن في ذلك تقريرُ المفتاحِ لاستعارةِ (لعل) في: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
هذه عبارتُه بعينها ومَيْنها، وأنت بعد خِبْرتَكَ بتحقيق ما سلفَ في وجوب إفراد متعلِّقاتِ معاني الحروفِ، ووجوبِ تركُّبِ ما يُنتزعُ من أمورٍ متعدِّدةٍ تعلَمُ بسقوط منعيهِ معًا سقوطًا لا مِريةَ فيه ولا خفاء، وعبارتُه هذه مختلَّةٌ أيضًا، فإن قوله: بل وَصْفُ صورةٍ صوابُهُ أن يقال: بل صورةٌ، فإنَّ المشبَّه مثلاً هو الصورةُ المنتزعةُ لا وصفُها، فلفظُ الوصف مُسْتَدَرَكٌ في الموضعين هاهنا بخلافِ ما في عبارة المفتاحِ حيث قال: ومن الأمثلةِ استعارةُ وصفِ إحدى صورتينِ منتزعتين من أمور لوصفِ الأخرى. وقد صرح بذلك حيث قال: شبَّه صورةَ تردُّدِهِ هذا بصورةِ تردُّدِ إنسان لم يدخلْ رومًا للمبالغةِ في(12/6177)
التشبيهِ، فيكسوها وصفُ المشبَّه به من غ ير تعبيرٍ فيه، وأما قوله: ومن البيِّنِ فقد بيَّنا أنه خيالٌ فاسدٌ لا يلتبسُ على من له قدَمُ صِدْقٍ في القواعد البيانية.
واعلم أن الفاضل اليمني توهَّم اجتماعَ التبعيةِ والتمثيليةِ من عبارة المفتاحِ، لكنه لم يصرحْ بأن طرفي تلك التمثيليةِ يكونان منتزعيْنِ من أمور عدَّةٍ فخفى الفسادُ في كلامه، والشارحُ قلَّده في ذلك، وزاده ما أظهر فسادَه، فتثبتْ أنت في رعايةِ القوانينِ، ولا تكن من المقلِّدين الذين يحسبونَ أنهم يحسنون صُنعًا.
أقول: لا يخفى على ذي فهم سليمٍ، وقدمٍ في العلوم قويمٍ أنَّ كلام السعد هذا في غاية [23] المتانةِ والرصانةِ والمطابقةِ لأساليبِ الجدلِ، والمناسبةِ لقواعدِ المناظرةِ، فإنه قال لا يُقالُ: الاستعارةُ التبعية الحرفيةُ لا تكون تمثيليةً، لأنها تلتزمُ كونَ كلٍّ من الطرفينِ مركبًا، ومتعلَّقُ معنى الحرف لا يكون إلا مفردًا، لأنا نقول: كلتا المقدمتينِ في حيِّز المنع فهذا الكلام لا يشكُّ مَنْ نظَرَ فيه أنه قد جرى من مسالك الإنصاف في أوضح مسلكٍ، وأبينِ طريقٍ، لأنه حاصلُ ما اعترضَ الشريفُ عليه، فإنه بنى اعتراضَهُ على دعوى كون متعلَّق معنى الحرف مفردًا، وعلى دعوى كون كلٍّ من طرفي الاستعارةِ التمثيليةِ مركَّبًا، ولا يشكُّ عارفٌ أنه يصدُقُ على كلِّ منهما اسمُ الدعوى في مصطلح علم المناظرةِ، فأجابه السعد بالمنعِ الذي هو بمعنى طلب الدليل فلم يأت الشريف في هذا الكلام الطويل الذي كتبناه وتعقبناه بشيء يكون دليلاً. ولا نَقَلَ عن أهل الفنِّ ما يشهُدُ لما ادَّعاه حتى يُحمَلَ كلامُهُ علمًا على تقليد أهل فنِّ البيان.
وغايةُ ما ساقه في هذه الأبحاثِ هو مجرَّدُ الدعاوى، كما بينه في كل موضع، ولم يأتِ هنا في جواب المنعين إلا باتهام المقصرينَ أنهما من [ .... ] (1) ثم زعم أنه قد أسلفَ ما يجب العلم بسقوط هذين المنعينِ سقوطًا لا مريةَ فيه ولا خفاء، ولست أدري كيفَ وقعَ هذا المحققُ الكبير والعلامةُ النِّحرير في مثل هذه التعسُّفات الخارجة عن الأساليب المعتبرة!
_________
(1) كلمة غير واضحة في المخطوط.(12/6178)
وأسعدُ الناس بالحقِّ في مثل فنِّ البيان هو من وافق القواعدَ المعتبرةَ عند أئمته، وإنَّ من أعلاهم كَعْبًا، وأرفعِهم فهمًا، وأحقَّهم بالاقتداء به، والمشي على طريقتهِ، والتقيدِ بأقواله ... إلى تقريره الإمام السكاكي، والإمام الزمخشري. وقد حكيناه لك عنهما ما هو شاهدُ صدقٍ على أن السعد هو أسعدُ الرجلين بالحق، وأولاهما بمصطلح أهل الفن، فإن كان الاعتبارُ في فن البيان بالأكابر من أئمته فلا أكبر من هذين الإمامين فقد وقع الاتفاق على أنهما قد عضّا على دقائقِه وحقائقِه بأقوى لِحْيَيْن، وإن كان [24] الاعتبار بموافقةِ علمِ اللغةِ لكون موضوعِ هذا الفنِّ هو دقائق العربيةِ وأسرارُها فقد عرفتَ من جميع ما سلفَ أنه لم يأتِ الشريفُ في مباحثته هذه بشيء منها تقومُ به الحجةُ على خَصْمِه، وإن كان الاعتبارُ بالاصطلاحِ الواقع لأهل الفنِّ في الكتب المدوَّنة فيه.
فانظر هل تجدُ فيها شيئًا يشهدُ لما ذكره، ويدلُّ عليه! ومع هذا فالفاضلُ اليمني المعروفُ في هذه الديار بالعلويِّ قد صرَّح بما قدمنا ذِكْرَهُ من أنه قد دلَّ الاستقراءُ على أنَّ الاستعارةَ التبعيةَ تمثيليةٌ، وهو غيرُ متَّهم فيما ينقلُه عن أهل الفنِّ، فإنه من أئمته ...
فلو فرضنا أنه لم يكن في المقام شيء من هذه الأمور الشاهدةِ لما قاله السعد بالصحةِ لكان قيامُهُ قيامَ المنعِ يرتضيهِ المنصفُ على فرض عجز المانعِ عن نقض ذلك الدليل أو معارضتهِ. ثم انظر كيف صنع المحققُ الشريفُ ـ رحمه الله ـ في كلامه هذا، فإنه لما جعل سقوط المنعينِ أمرًا معلومًا لا مريةَ فيه ولا خفاء كرّ على مناقشة العبارةِ بما لو كان صحيحًا لم يغنِ عنه شيئًا في محل النزاعِ، مع أن هذه العبارةَ المناقشةَ لا فرقَ بينهما، وبين عبارة السكاكي، فإن لفظ عبارة السكاكي هكذا، ومن الأمثلة استعارةُ وصفِ إحدى صورتينِ منتزعتينِ لوصف صورةٍ أخرى ... انتهى.
وهذه العبارة مثلُ عبارة السعدِ، وقد اعترفَ الشريفُ في كلامه هذه بعبارةِ وصفٍ، لكنه حذفَ لفظَ صورةٍ. ثم اعتذرَ عن نقل السعد لعبارة صاحب المفتاح بأنه خيالٌ فاسدٌ ولو كان بمثل هذه المراوغاتِ يُؤْكَلُ الكتِفُ لَدَفَعَ من شاء ما شاءَ، وتزلزلتِ المعارفُ(12/6179)
العلميةُ، ولم ينفعُ محقٌّ بما في يده من الحقِّ، ولا افتضحَ مبطلٌ بما يزخرفه فيه من الباطلِ. فعليك أيُّها الناظر في هذا المقام بتدبُّر ما اشتملتْ عليه هذه المباحثةُ بين هذين الإمامينِ، فقد أسفر الصبحُ لذي عينين. (1)
_________
(1) قال الألوسي في (روح المعاني) (1/ 124) {عَلَى هُدًى} استعارة تمثيلية تبعية حيث شبهت حال أولئك ـ وهي تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحال من اعتلى الشيء وركبه ثم استعير للحال التي هي المشبه المتروك كلمة الاستعلاء المستعملة في المشبه به وإلى ذلك ذهب السعد.
وأنكر السيد اجتماع التمثيلية والتبعية لأن كونها تبعية يقتضي كون كل من الطرفين معنى مفردًا لأن المعاني الحرفية مفردة وكونها تمثيلية يستدعي انتزاعها من أمور متعددة وهو يستلزم تركبه، وأبدى في الآية ثلاثة أوجه:
1) أنها استعارة تبعية مفردة بأن شبه تمسك المتقين بالهدى باستعلاء الراكب على مركوبه في التمكين والاستقرار فاستعير له الحرف الموضوع للاستعلاء.
2) أن يشبه هيئة منتزعة من المتقي والهدى وتمسكه به بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب واعتلائه عليه فيكون هناك استعارة تمثيلية تركب من كل طرفيها لكن لم يصرح من الألفاظ التي بإزاء المشبه به إلا بكلمة (على) فإن مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة وما عداه تابع له ملاحظ في ضمن ألفاظ منوية وإن لم تقدر في نظم الكلام فليس في (على) استعارة أصلاً بل هي على حالها قبل الاستعارة كما إذا صرح بتلك الألفاظ كلها.
3) أن يشبه الهدى بالمركوب عن طريق الاستعارة بالكناية وتجعل كلمة (على) قرينة لها على عكس الوجه الأول.
وهذا الخلاف بين الشيخين في هذه المسألة مما سارت به الركبان وعقدت له المجالس وصنفت فيه الرسائل. وأول ما وقع بينهما في مجلس تيمور وكان الحَكَمُ نعمان الخوارزمي المعتزلي فَحَكَمَ والظاهر أنه لأمر ما للسيد والعلماء إلى اليوم فريقان في ذلك ولا يزالون مختلفين فيه إلا أن الأكثر مع السعد.
وأجابوا عن شبهة السيد بأن انتزاع شيء من أمور متعددة يكون على وجوه شتى فقد يكون من مجموع تلك الأمور كالوحدة الاعتبارية وقد يكون من أمر بالقياس إلى آخر كالإضافات وقد يكون بعضه من أمر وبعضه من آخر وعلى الأولين، لا يقتضي تركيبه بل تعدد مأخذه فيجوز حينئذ أن يكون المدلول الحرفي لكونه أمرًا إضافيًا كالاستعلاء حالة منتزعة من أمور متعددة تمثيلية ولعل اختيار القوم في تعريف التمثيلية لفظ الانتزاع دون التركيب يرشد المنصف إلى عدم اشتراط التركيب في طرفيه وإلا لكان الأظهر لفظ التركيب وقد أشبعنا القول في ذلك وذكرنا ما له وما عليه في كتابنا
ـ الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية.(12/6180)
فرغ من تحريره مؤلّفه محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله لهما ـ في ليلة الأحد لسبع وعشرين خلتْ من شهر رجب سنة 1221. حامدًا لله، ومصليًا مسلمًا على رسوله وآله.(12/6181)
(208) 29/ 3
جيد النقد بعبارة الكشاف والسعد
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/6183)
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: جيد النقد بعبارة الكشاف والسعد.
2 ـ موضوع الرسالة: لغة العربية.
3 ـ أول الرسالة: سيدي المالك القدير العلامة الأوحد عزَّ الإسلام وزينه الأنام محمد بن علي حفظه الله، وأمتع بحياته وعليه أفضل السلام ورحمة الله وبركاته ...
4 ـ آخر الرسالة: بما لا يبقي بعده ريبٌ لمرتاب إن شاء الله.
حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله له في صباح يوم الأربعاء من ربيع الآخر سنة 1224هـ.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي عادي.
6 ـ عدد الصفحات: 8 صفحات.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 10 ـ 13 كلمة.
9 ـ الناسخ: محمد بن علي الشوكاني للجواب، وعلى هاجر للسؤال.
10 ـ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/6185)
[السؤال]
الحمد لله .. سيدي المالك القدير العلامةَ الأوحدَ، عزَّ الإسلام، وزينةَ الأنام، محمدَ بن علي ـ حفظه الله ـ وأمتع بحياته وعليه أفضل السلام ورحمة الله وبركاتهُ، أشكلَ على المحبِّ على هاجر قولُ صاحب الكشاف (1) في تفسير قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (2) فقال: ما تركنا وما أغُفلنا في الكتاب في اللوحِ المحفوظِ من شيء من ذلك لم نكتُبْهُ، ولم نُثْبِتْ ما وجبَ أن يَثْبِتُ مما يختصُّ به.
وقال سعد الدين في الحاشية عليه: قولُه نختصُّ به (بالنون)، وضير (به) لما، ويروى بالياء، والمستكِنُّ (لما)، وضميرُ بهِ للكتابِ، وكيف ما كان فهو بيانٌ لما وجب فيه احترازٌ عما يتعلَّق بقدرة العباد وإرادتِهم، فإنها لا تكون من هذا القبيلِ، وإنما تُعْلَمُ تِبْعًا لما يقع ... انتهى.
فالمحبُّ ـ مع قصوره في علم الكلام، وعدمِ وجودِ كتاب فيه لديه ـ، أشكلَ عليه هذا التخصيصُ، فإنه ظهر عنه أن ما يتعلَّق بقدرةِ العبادِ وإرادِتهم فهو غيرُ مكتوبٍ في اللوح، ولا معلومٍ في الأزل، وإنما يُعْلَمُ بعد وقوعِه، فهذا ما فهمه الحقيرُ، وما أظن ذلك مرادَ صاحبِ الكشافِ، ولا مرادَ المحشِّي. ولعل الحقيرَ إنما أتى من قِبَلِ سوء فهمه للمرادِ.
فالمطلوبُ إزالة الإشكالِ في ذلك. وما المراد بهذا التخصيص؟ وما الملجئ إليه؟ وما المراد أيضًا بما يتعلق بقدرة العباد وإرادتهم فإنه إن كان المراد بذلك أفعالهم ونحوَها فقولُه صلي الله عليه وسلم في الحديث المشهور: «ثم يرسلُ الملَكُ، فيؤمر بأربعٍ: بكتب رزقِه، وعملِه، وأجلِه، وشقيٌّ أم
...........................................................
_________
(1) (2/ 342 ـ 343).
(2) [الأنعام: 38].(12/6189)
سعيدٌ» (1) يفيدُ أن جميعَ أفعال العبادِ معلومةٌ قبل وقوعِها، وكذلك عمومُ قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} دليلٌ على ذلك ... ولما كان معتقدُ الحقيرِ في غير نظرٍ في كتب علمِ الكلامِ أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يعلم بعلمِه السابقِ كلِّ شيء مما يختصُّ به، مما يتعلَّق بقدرةِ العبادِ من أفعالِهم وأقوالِهم وإرادتِهم وخطَراتِ قلوبِهم ولحظاتِ أعينِهم ووساوسَ نفوسِهم أشكلَ عليه هذا التخصيصُ غايةَ الإشكالِ، فالمراد إراحةُ الحقير عن هذا الإشكال، وتبيين الحق في هذه المسألةِ، وتبيين ما أراده المصنِّفُ والمحشِّي، وتوضيحُ المسألة ـ أجزل الله جزاءكم، وتولنا، ولا أخلَّ الوجود عن مثلكم ـ ولم أقل مثلك أعني به سواكَ يا بدرُ بلا مشبهةٍ، وفي حماية الله وحسن رعايته آمين [1].
_________
(1) أخرجه أحمد (1/ 382)، والبخاري رقم (7454)، ومسلم رقم (2643)، وأبو داود رقم (4708)، والترمذي رقم (2137)، وابن ماجه رقم (76) من حديث عبد الله بن مسعود. وقد تقدم.(12/6190)
[الجواب]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمينِ، وآله الطاهرينَ وبعدُ:
فإنه ورد السؤالُ الملصقُ بظاهر هذه الورقةِ من السائل ـ كثر الله فوائده ـ، وقد كنت أمرتُ العلامة محمد بن علي العمراني (1) ـ عافاه الله ـ بالجواب عنه، فأجاب بجواب مفيدٍ جدًّا، ذكر فيه ما ورد في إثبات القدَرِ على الوجهِ الذي وردت بهِ الشريعةُ، وما ورد في السنة المطهرةِ من أن الله يأمر الملَكَ بكتْب رزقِ المولودِ، وأجلِهِ، وعمَلِهِ، وكونهِ شقيًّا أم سعيدًا، وذكر أيضًا ما ورد في ذمِّ القدريةِ، وأوضح أنهم من قال أنَّ الأمر أنفٌ (2) كما ثبت تعيينُهم عن السلفِ الصالحِ، وكثير من العلماء المنصفينَ، ثم تكلم بعد ذلك في خصوصِ ما سأل عنه السائل، وقرر ما فهمهُ، وأن كلام السعد غيرُ صحيح، وأن منشأَ الوهْم منه كونُه حَمَلَ الصفةَ ـ أعني قول الزمخشريِّ ـ مما يختصُّ به على التقييدِ ولو حملها على الكشفِ لم يقعْ فيما وقعَ فيه من الغلط. هذا حاصلُ جوابِه.
وقد تقدَّم من العلامةِ المقبليِّ في الأبحاثِ المسدَّدة (3) في هذا البحثِ بخصوصِه كلامٌ هذا لفظه: قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} قال في الكشاف: ما أغْفلنا في الكتاب في اللوح المحفوظِ من شيء لم نكتبْه، ولم نُثْبِتْ ما وجبَ أن يَثْبُتَ مما يختصُّ به أي مما يختصُّ به ذلك الشيءُ، لأنه فسَّر {أَمْثَالُكُمْ} بقوله: مكتوبةٌ أرزاقُها وآجالُها وأعمالُها كما كُتِبَتْ أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم، فأراد هاهنا أي أرزاقَ كلِّ شيء في كل فردٍ، وجميعِ أحوالِه المختصةِ بهِ، وهذا أمرٌ أوضحُ من أن يُشْرَحَ.
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) تقدم ذكره والتعليق عليه مرارًا.
(3) (ص81 ـ 83).(12/6191)
لكن سعدَ الدينِ قال: هو نختصُّ (بالنون) ـ ويروى (بالياء). قال: وكيف ما كان فهو بيانٌ لما وجب. ثم قال: وفيه احترازٌ عما يتعلَّق بقدرةِ العباد وإرادتِهم، فإنَّها لا تكون من هذا القبيلِ، وإنما تعلم تبعًا لما يقعُ. انتهى كلامُهُ.
وأراد بقوله: تعلمُ تِبْعًا لما يقعُ يعني مذهبَ القدريةِ الذين قالوا: الأمرُ أنفٌ، ولا شكَّ أنه مذهبُهم، فإما أن يكون قال ذلك بهتًا للمعتزلةِ ليحقِّق فيهم اسمَ القدرِ اغتنامًا لفرصةِ التلبيسِ، لأن عدمَ قولِ المعتزلة (1) لذلك معلومٌ عند كل باحث. وقد صرَّحتْ به الأشعرية (2) فضلاً عن غيرهم كابن حجرٍ في شرح الأربعين، واللقاني في شرح الجواهرِ [2]، ومن لا يُحْصَى، وإما أن يكون مثلَ أقوال بعض المغفلينَ الذين أخَذَ اسمَ القدرِ من أفواه الأشعريةِ واصطلاحِهم، ثم أخذ معناهُ من الأحاديث، فيكون السببُ عمى التعصُّبِ هو الذي أوقعَه في ذلك مع ذكائِه واطَّلاعه.
وعلى كل تقدير فقد بُهِتَ شطرُ أهل البسيطةِ، بل كل موفَّق سلَّمه الله من بدعةِ الجبْرِ فبهتَهم بأعظمِ ذنبٍ، وما عسى أن تقعَ وُرَيْقاتُهُ التي صنَّفها في جنبِ ذلك! نسأل الله العافيةَ والسلامةَ، وروايتهُ نختصُّ (بالنون) غيرُ مقبولةٍ، وحاله ما ذكر. ولو جاءت من غيرهِ لم يكن فيها شبهةٌ أيضًا ... انتهى كلامُ المقبليِّ (3) ...
وأقول: ينبغي أن نقرِّر أولاً معنى عبارةِ الزمخشري (4) تقريرًا يتضحُ به المرادُ إيضاحًا لا يبقي فيه إشكالٌ، وبيان ذلك أنه فسَّر قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا} بقوله: (ما أغفلنا)، وفسر {الْكِتَابِ} باللوحِ المحفوظِ، ثم قال: من شيء لم نكتبه، ولم نثبتْ ما وجبَ أن يَثْبتَ مما يختصُّ به، أي بل كتبناه وأثبتنا ما وجبَ أن يثبتَ مما نختصُّ به، وتوضيح العبارة هكذا: لم نكتبِ الشيءَ، ولم نُثْبِتِ الذي وجبَ أن يَثْبُتَ من شيء نختصُّ نحن
_________
(1) تقدم التعريف بها.
(2) تقدم التعريف بها.
(3) في (الأبحاث المسددة) (ص81 ـ 83).
(4) في (الكشاف) (2/ 342).(12/6192)
بذلك الشيء، أو من شيء يختصُّ ذلك الشيء بالكتاب. فما في قوله ما وجبَ مفعولٌ نثبتُ، وفاعلُ وجب قولُه أن يثْبُتَ، وفاعل أن يَثْبُتَ ضميرٌ مُسْتكنٌّ فيه، عائدٌ إلى ما في قوله: ما وجبَ، فمعنى ما فسرَّ به قولَهُ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ما أغْفلنا شيئًا منه بتركِ كتابِته، وتركِ إثباتِ ما يجبُ إثباتُه من الأشياء التي لنا اختصاصٌ بها، أو من الأشياء التي لذلك الكتابِ اختصاصٌ بها، بل أثبتْنا في الكتاب كلَّ شيء من الأشياء التي يجبُ إثباتها، ولنا بها اختصاصٌ، هذا على أن نختصُّ بالنونِ أو من الأشياء التي للكتابِ بها اختصاصٌ، على أن يختصَّ بالياء التحتيةِ، فيحصُلُ من هذا الكلام تقييدُ ما هو ثابتٌ في اللوح المحفوظِ بقيدين:
الأول [3]: أن يكون مما يجبُ إثباته.
والثاني: أن يكون مما يختصُّ به الله ـ سبحانه ـ على تقدير أن قوله نختصُّ بالنون، أو يكون مما يختصُّ به الكتابُ أي اللوحُ المحفوظُ على تقدير أن قولَه يختصُّ بالياء التحتيةِ، فهذان القيدانِ اللذانِ قيَّد الزمخشري ـ رحمه الله ـ كلام الله تعالى بهما لا بد أن ينتهضَ عليهما دليلٌ مرضٍ يدلُّ على أن مرادَه ـ سبحانه ـ بقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} أي من الأشياء التي يجبُ إثباتها، ولنا بها اختصاصٌ، أو للكتاب بها اختصاصٌ، فإنْ وجَدْنا هذا الدليلَ فبها ونِعْمَتْ، وإن لم نجده فلا خلافَ أن كلامَ الله ـ سبحانه ـ لا يجوز تقييدُهُ لمجرَّدِ الرأي.
فإن قلت: ماذا تقول أنتَ هل لهذا التقييدِ من دليل يتعيَّن علينا قبولُه، ويلزمُنَا تقييدُ كلامِ الله بهِ؟ قلت: أما قيدُ الوجوبِ فهو إما أن يكون الوجوبُ على الله ـ سبحانه ـ أو على ملائكته، أو على سائر عباده لا يصحُّ أن يُرادَ الوجوبُ على عبادِه، لأنهم لا يتَّصلونَ باللوح المحفوظِ، فضلاً عن أن يكتبونَ فيه، فضلاً عن أن يجبَ عليهم إثبات شيء فيه، ولا يصحُّ أن يُرادَ الملائكةُ، لأنهم يفعلُون ما يؤمرون، وليس لهم من الأمرِ شيءٌ، ولا لاختيارِهم مدخلٌ في ذلك.(12/6193)
إذا تقرر هذا فلم يبق هاهنا إلا أن يكون الوجوبُ على الله ـ سبحانه ـ.
وقد تقرر في علم الكلام أن إثباتَ الواجباتِ على الله تعالى هو مذهبٌ ذهبتْ إليه المعتزلةُ دون مَنْ عَدَاهُم (1)، على أنهم حصروا الواجباتِ على الله سبحانه في ثمانٍ مبيَّنةٍ
_________
(1) وذلك أن المعتزلة بناء على قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين أوجبوا على الله تعالى أمورًا وحرموا عليه أخرى بمحض عقولهم قياسًا لله على العبيد وبئس القياس.
فما أوجبوا عليه، رعاية الصلاح للعباد، والثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، وسموا ذلك عدلاً.
وخالفهم في مذهبهم هذا جماهير المسلمين فقالوا: لا يجب على الله شيء بل له أن يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد.
فقد قال الحافظ في (الفتح) (11/ 490): ـ في شرح حديث عبد الله بن مسعود وقد تقدم ـ واستدل به على أنّه لا يجب على الله رعاية الأصلح خلافًا لمن قال به من المعتزلة لأن فيه أن بعض الناس يذهب جميع عمره في طاعة الله، ثم يختم له بالكفر ـ والعياذ بالله ـ فيموت على ذلك. فيدخل النار فلو كان يجب عليه رعاية الأصلح لم يحبط جميع عمله الصالح بكلمة الكفر التي مات عليها، ولا سيما إن طال عمره وقرب موته من كفره.
قال ابن القيم في (مدارج السالكين) (2/ 338): فعليك بالفرقان في هذا الموضع الذي افترقت فيه الفرق والناس فيه ثلاث فرق: ?
فرقة رأت: أن العبد أقل وأعجز من أن يوجب على ربه حقًا، فقالت: لا يجب على الله شيئًا البتة، وأنكرت وجوب ما أوجبه الله على نفسه. ?
وفرقة رأت: أنّه سبحانه أوجب على نفسه أمورًا لعبده فظنت أن العبد أوجبها عليه بأعماله. ?
والفرقة الثالثة: أهل الهدى والصواب: قالت: لا يستوجب العبد على الله بسعيه نجاة ولا فلاحًا، ولا يدخل أحد عمله الجنة أبدًا والله تعالى بفضله وكرمه أكد إحسانه وجوده بأن أوجب لعبده عليه حقًّا بمقتضى الوعد فإن وعد الكريم إيجاب، ولو بعسى ولعل، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه عسى من الله واجب. ?
ويقول ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم) (2/ 785 ـ 786): لا ريب أن الله جعل على نفسه حقًّا لعباده المؤمنين كما قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]. وكما قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، وفي الصحيحين ـ البخاري رقم (5967)، ومسلم رقم (30) ـ أنَّ النبي صلي الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل وهو رديفه: «يا معاذ ما حق الله على عباده؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقهم عليه أن لا يعذبهم» فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق.
وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا: هل يوجب بنفسه على نفسه؟ على قولين: ومن جوز ذلك احتج بقوله سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وبقوله في الحديث الصحيح: «إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا» ـ تقدم تخريجه ـ.
وأمّا الإيجابُ عليه سبحانه وتعالى، والتحريم بالقياس على خلقه فهذا قول القدرية، وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السنة متفقون على أنّه سبحانه خالق كل شيء ومليكه وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئًا. ولهذا كان من قال على الله شيئًا، كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإنَّ الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم، وهو المرسل إليه الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان، والعمل الصالح ... )).(12/6194)
في ذلك العلمِ، وليس هذا الإثباتُ في اللوحِ المحفوظ منها. ثم الظاهِرُ من هذا التقييدِ أعني كونَ تلك الأشياء مما يجبُ إثباتُه أن ثَمَّ أشياءَ لا تتصفُ بالوجوبِ، وأنها لم تثبت في اللوح المحفوظِ، وهذا مدفوع بشيئين
[4]. الأول: ما يستفاد من قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وأنَّ وقوعَ النكرةِ في سياق النفي يفيدُ العمومَ لمجرَّدِه، (1) وهو من أقوى صيغِ العموم، فكيف إذا انضمَّ إلى ذلك التأكيدُ بـ (من) المزيدةِ في قوله: (من شيء)! فكيف إذا كانت هذه النكرةُ الواقعةُ في سياق هذا النفي المؤكَّدةِ بالحرفِ المزيدِ هي لفظُ شيء! فكيف إذا كانت هذه النكرةُ الواقعةُ في سياق هذا النفي المؤكَّدةِ بالحرفِ المزيدِ هي لفظُ شيء! فإنه أعمُّ العامُّ. وقد صرَّح الزمخشريُّ نفسُه في كشَّافه (2) عند تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى ................
_________
(1) انظر (إرشاد الفحول) (ص410) وقد تقدم مرارًا.
(2) (1/ 311 ـ 312).(12/6195)
شَيْءٍ} (1) فقال: وهذه مبالغةٌ عظيمة، لأن المحالَ والمعدومَ يقعُ عليها اسمُ الشيء، وإذا نُفي إطلاق اسم الشيء عليه، فقد بُولِغَ في تركِ الاعتدادِ به إلى ما ليس بعدَه، وهكذا قولُهم: أقلُّ من لا شيء ... انتهى بحروفه.
فإذا كان الشيءُ يُطلقُ على المحالِ والمعدومُ فضلاً عن الموجودِ عند الزمخشري، كأن حثَّ عليه أن يقولَ في الشيء المذكور في هذه الآية ما قالَه في الشيء المذكور في تلكَ الآية، فكيف يخصَّصُه ببعض الأفرادِ!
والثاني: ما يُستفادُ من الأحاديث الصحيحةِ الثابتة عن جماعة من الصحابة، مرفوعةٍ إلى النبيِّ صلي الله عليه وسلم وموقوفةٍ، فمنها: حديث عبادةَ بن الصامتِ قال: سمعتُ رسولَ الله صلي الله عليه وسلم يقول: «إن أوَّل ما خلقَ الله القلمَ، فقال له: اكتبْ فجرى بما هو كائنٌ إلى الأبدِ ... » أخرجه ابن أبي شيبة، (2) وأحمدُ، (3) والترمذيُّ، (4) وصحَّحَهُ، (5) وابن مردويهِ. (6)
ومنها حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «إنَّ أوَّل ما خلقَ الله القلمَ، قال: اكتُبْ، قال: ما أكتب؟ قال: كل شيء كائنٌ إلى يوم القيامة» أخرجهُ ابنُ جرير (7) والطبرانيُّ. (8)
_________
(1) [البقرة: 113].
(2) في (المصنف) (14/ 114).
(3) في (المسند) (5/ 317).
(4) في (السنن) رقم (2155، 3319).
(5) في (السنن) (4/ 458).
(6) عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 241). وهو حديث صحيح.
(7) في (جامع البيان) (14 جـ 29/ 241).
(8) في (المعجم الكبير) (11/ 433 رقم 12227) وأورده الهيثمي في (المجمع) (7/ 128) وقال: (لم يرفعه عن حماد بن زيد إلاَّ مؤمل بن إسماعيل. قلت: ومؤمل ثقة كثير الخطأ، وقد وثقه ابن معين وغيره وضعفه البخاري وغيره وبقية رجاله ثقات). اهـ.(12/6196)
ومنها حديثُ معاويةَ بن قُرَّةَ عن أبيه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} قالَ: «لوحٌ من نور، وقلمٌ من نور يجري بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة» أخرجه ابن جرير. (1)
ومنها حديثُ أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: «إن أوَّل شيء خلقه الله القلمِ، ثم خلق النونَ، وهي الدواة، ثم قال له: اكتبْ، قال: وما أكتبُ؟ قال ما كان، وما هو كائن إلى يوم القيامة، من عملٍ، أو أثرٍ، أو رزقٍ، أو أجلٍ، فكتب ما يكون، وما هو كائن إلى يوم القيامة». (2)
ومنها حديثٌ آخَرةٌ عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «النون السمكةُ التي عليها قرارُ الأرضينَ، والقلمُ الذي خطَّ به ربُّنا ـ عز وجل ـ القدَر خيرهُ وشرَّه، وضرَّهُ ونَفْعَهُ [5]» (3) ومنها عن ابن عباس أيضًا موقوفًا قال: «إن أوَّل شيء خلقَه الله القلمَ، فقال له: اكتبْ، قال: يا ربَّ وما أكتبُ؟ قال: اكتب القدرَ، فجرى من ذلك اليومِ بما هو كائنٌ إلى أن تقوم الساعة، ثم طوى الكتابِ، ورفع القلم» أخرجه عبد الرزاق، (4) والفريابيُّ، (5) وسعيد بن منصور، (6) وعبد بن حميد، (7) وابن جرير، (8) ....................
_________
(1) في (جامع البيان) (14/ 29\ 15 ـ 16).
(2) عزاه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 24) للحكيم الترمذي.
(3) عزاه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 242) لابن مردويه.
(4) في تفسيره (2/ 307).
(5) في (القدر) رقم (77).
(6) عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 240).
(7) عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 240).
(8) في (جامع البيان) (14/جـ29/ 14).(12/6197)
وابن المنذر، (1) وابن أبي حاتم، (2) وأبو الشيخ في العظمة، (3) والحاكم، (4) وصححه، وابن مردويه، (5) والبيهقيُّ في الأسماء والصفاتِ، (6) والخطيبُ في تاريخه، (7)، وأيضًا في المختارةِ. (8)
ومنها عنه أيضًا قال: «إن الله خلق النونَ، وهي الدواة، وخلق القلم، فقال: اكتبْ، قال: ما أكتُب؟ قال: ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة» أخرجه ابن جرير، (9) وابن المنذر. (10).
ومنها عنه أيضًا قال: «أوَّلُ ما خلقَ اللهُ القلمُ، فأخذه بيمِينه وكلِْتَا يديهِ يمينٌ، وخلق النونَ، وهي الدواءُ، وخلق اللوحَ فكتب فيه، ثم خلق السماوات والأرضَ فكتب ما يكون من حينئذٍ في الدنيا إلى أن تكون الساعةُ من خلقِ مخلوقٍ، أو عملٍ معمول، بَرِّ، أو فجورٍ، وكلَّ رزقٍ حلالٍ أو حرامٍ، رَطْبٍ أو يابسٍ» أخرجه ابن أبي شيبةَ، (11) وابن المنذر. (12)
ومنها عنه أيضًا قال: «خلق اللهُ القلمَ، فقال: أَجْرِهِ فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة» أخرجه عبد بن حميد. (13)
_________
(1) عزاه إلي السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 240).
(2) في تفسيره (10/ 3364 رقم 18936).
(3) رقم (901).
(4) في المستدرك) (2/ 498) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(5) عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 240).
(6) رقم (804).
(7) عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 240). والخلاصة: أن أثر ابن عباس صحيح.
(8) عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 240). والخلاصة: أن أثر ابن عباس صحيح.
(9) في (جامع البيان) (14/جـ29/ 15).
(10) انظر (جامع البيان) (14/جـ 29/ 15 ـ 16).
(11) في (المصنف) (14/ 101).
(12) عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 240).
(13) عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 240).(12/6198)
ومنها عنه أيضًا قال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ما تركنا شيئًا إلا وقد كتبناهُ في أمِّ الكتاب. (1)
ومنها عن عبيدِ الله بن زياد البكري قال: دخلتُ على ابني بشرِ المارِّبيين صاحبي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقلت: يرحمُكُما الله ... الرجلُ يركُبُ منّا الدابةَ فيضربُها بالسوطِ، أو يكبحُها باللّجامِ، فهل سمعتُما من رسول الله صلي الله عليه وسلم في ذلك شيئًا؟ فقالا: لا. قال عبيد الله: فنادتْني امرأة من الداخل فقالتْ: يا هذا، إن الله يقول في كتابه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} فقالا: هذا أختُنا، وهي أكبرُ منَّا، وقد أدركتْ رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم. (2)
وفي الباب عن جماعة من السلف آثارٌ كثيرةٌ. إذا تقرَّر لك هذا عرفتَ أن ما في اللوح المحفوظِ شاملٌ لكل شيء، لا يخرجُ عنه شيء فتقييدُ ذلك بكونه يجبُ إثباتُه إن أرادَ به إخراجَ شيء من الأشياء الداخلةِ في العموم فلا دليلَ عليه، بل هو مدفوعٌ بما ذكرنا من الأدلة، وإن أراد به عدمَ الإخراجِ فهو كلامٌ لا فائدةَ فيه، ولا ثمرةَ له على ما فيه من إثبات واجبٍ على الله ـ سبحانه [6]ـ لم تقلْ به المعتزلةُ فضلاً عن الأشعرية، فضلاً عن السلفِ الصالحِ.
وأما القيدُ الثاني وهو كونُ ذلك الشيء المثبتِ مما يختصُّ به الله ـ سبحانه ـ أو مما يختصُّ به الكتابُ، فهذا القيدُ يُسْتَفَادُ منه أن الأشياءَ التي يُعَلِّمُ بها الملائكةَ، أو الأنسَ، أو الجنَّ مما أدركوه بعقولِهم، أو بسائرِ حواسِّهم، أو بما علَّمهم الله في كتبه المنزلةِ، أو على ألْسُنِ رسلِهِ المرسلةِ لم تثبتْ في اللوحِ المحفوظِ، لأن الله ـ سبحانه ـ لم يختصَّ بعلمِها، بلْ شاركَه في ذلك بعضُ خلْقِه.
هذا على أن قولَه نختصُّ بالنون، وأما على أنه بالياء التحتيةِ أعني الكتابَ ـ أي اللوح المحفوظَ ـ يختصُّ بذلك، فإن أراد بهذا الاختصاصِ إخراجَ ما خرجَ على تقديرِ أن قولَهُ نختص بالنون فهو مثلُه، وإن أراد إخراجَ أمرٍ أخَرَ فما هو؟ وإن لم يردْ باختصاصِ وإن أرادَ إخراجَ ما ذكرناه مما يدركُهُ الملائكةُ والجِنُّ والإنسُ بعقولهم، أو بحواسِّهم، أو بتعليمِ الله لهم، فأيُّ دليل دلَّ على أن هذه الأمورَ لم تكتب في اللوح المحفوظِ، حتى تجعلَ ذلك مخصَّصًا لعموماتِ الكتاب والسنةِ! ولم أقفْ إلى الآن على مخصِّص يصلحُ للاستدلالِ به على ما ذكرنا، بل أدلةُ الكتابِ والسنةِ تدفعُ ذلك وتبطلُهُ كما عرفتَ.
وإذا تقرر لك هذا وفهمتَه كما ينبغي علمتَ أن ما ذكره المقبليُّ من إرجاع الضميرِ في قوله يختصُّ (بالياء التحتية) إلى الشيء، وزَعْمَهُ أن كلامَ الزمشخريِّ على ذلك واضحٌ لا إشكال فيه، وأن السَّعد أخطأَ وفَعَل فعلاً باطلاً من وجوه:
الأول: أنه قدح في رواية نختصُّ بالنون، بكون السعد راويها، وليس ذلك بشيء، ولا ينبغي لمنصفٍ أن يأتي بمثلِه، والسعد إنما قال بما قاله من تقدُّمِهِ من أهل العلم الذين لهم روايةٌ عن صاحب الكشاف، أو اطلاعٌ على النسخةِ التي بخطِّه، ثم لو فرضنا أنه لم يرو ذلك غيرُ السعدِ لكان أوثقَ من أن يكْذِبَ، وأجلَّ من أن يأتي بما لم يكن تنفيثًا لهؤلاء وتزييفًا لمذهب غيرِه.
الثاني: [7]: إن المقبليَّ ـ رحمه الله ـ قال (3) ذلك، ولو جاءت من غيرِه لم تكن فيها شبهةٌ أيضًا: وهذه مراوغةٌ ومغالطةٌ وتدليسٌ لا ينفُقُ، وتلبيسٌ لا يُقبل، وهو ـ رحمه الله ـ كثيرُ التحذير من هذا وأمثالِه في مصنفاتِه، وكان عليه أن يبيَّن ذلك فهو مقامُ الإشكال ومحلُّ اللَّبسِ، وموطنُ الاشتباهِ. وما أظنُّ وقوع مثل هذهِ المراوغةِ منه إلا لمحبةِ صاحبِ الكشافِ مع ذهوله عند تحرير كلامِه ذلك عن هذا كما يقعُ لغيره كثيرًا مما يكثرُ
_________
(1) انظر: (الدر المنثور) (3/ 267)، (جامع البيان) (5/جـ7/ 188).
(2) ذكره السيوطي في (الدر المنثور) (3/ 267).
(3) في (الأبحاث المسددة) (ص81 ـ 83).(12/6199)
التحذير عنه في مؤلفاته.
الثالث: أنه لا ينحلُّ عقالُ الإشكالِ بما زعمه في روايةِ يختصُّ بالياء التحتيةِ على انفرادِها، وبيانُه أنه إذا كان الثابتُ في اللوح المحفوظِ هو ما يختصُّ به ذلك الشيءُ لزمَ أن يخرج الشيءُ في نفسِه فيكون الثابتُ هو الأمورَ المختصّة به دونه.
ومعلومٌ أنَّ كلَّ شيء هو مكتوبٌ في اللوح المحفوظِ أولاً، ثم يختصُّ به ثانيًا، ثم يلزمُ خروجُ الأمور المشتركةِ بين كلِّ الأشياء أو أكثرِها أو بعضِها، فإنَّه لا يوصَفُ الاختصاصُ بمفرد منها ...
وإذا عرفتَ هذا وتبيَّن لك عدمُ تصحيحِ كلامِ الزمخشري بما قاله المقبليُّ فاعلم أن ما شرَحَهُ به السعدُ لا ينشرحُ به الصدرُ، ولا يقبلُه الفهمُ. وبيانُ ذلك أنه قال (وفيه احترازُ عما يتعلَّق بقدرةِ العبادِ وإرادتِهم، فإنها لا تكون من هذا القبيلِ، وإنما تُعْلَمْ تِبْعًا لما يقع) ولا يخفاكَ أن هذا لا يصحُّ لوجهين:
الأول: تخصيصُ ذلك بقدرةِ العبادِ وإرادتهِم. وقد عرفتَ أن اللازمَ من عبارة الزمخشريِّ ما هو أعمُّ من ذلك وأطمُّ كما أوضحناه.
الثاني: قوله: (وإنما يُعْلَمُ تِبْعًا لما وقعَ) فهذا فاسدٌ، وبيانُه أن النزاعَ إنما هو في المكتوب في اللوح المحفوظِ، فلا فيما هو معلومٌ لله سبحانه، فإن علْمَ الله تعالى أعمُّ وأشملُ بل لا يحيطُ به قلمٌ، ولا يحصرُهُ فمٌ، ولا يتناهى، وغايةُ ما في اللوح المحفوظِ الإحاطةُ بما هو كائن إلى يوم القيامة، كما قيَّدتْهُ الأحاديثُ والآثارُ.
ولا يَشُكُّ أحدٌ أن الله ـ سبحانه ـ قد علم بعلمٍ قديمٍ أزليٍّ ما هو كائنٌ بعد يوم القيامةِ إلى ما لا يتناهى، ولا تحيطُ به العقولُ، ولا تدركُهُ الأفهامُ كما عَلِمَ ما هو كائن إلى يوم القيامةِ، ثم قولُ السعدِ: وإنما يُعْلَمُ تِبْعًا كلامٌ فاسدٌ، وبيانٌ باطلٌ لا يصحُّ أن يكون مرادًا لله، ولا لصاحِب الكشافِ ولا لَهُ.
وإذا تبيَّن لك ما حررناه علمتَ أن كلامَ صاحبِ الكشاف في هذا المحلِّ هو منشأُ الإشكالِ، ومعدنُ الاشتباهِ. وقد أوضحنا ما هو الصوابُ بما لا يبقي بعده ريبٌ لمرتاب(12/6201)
إن شاء الله.
حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله له في صباح يوم الأربعاء من ربيع الآخر سنة 1224هـ.(12/6202)
(209) 15/ 3
القول الصادق في ترتيب الجزاء على السابق
حرره الجاني المتكلم فيما لا يعنيه بلسان التواني لطف الله غُفر ذنبه
فمن وقف على تقصير في هذا أصلحه بقلم البيان ومد ثوب ستره
على العريان وعذرني من التقصير فما يستوي الأعمى والبصير
وصلي الله على محمد البشير النذير وعلى آله وأصحابه
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/6203)
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: القول الصادق في ترتيب الجزاء على السابق.
2 ـ موضوع الرسالة: لغة العربية.
3 ـ أول الرسالة: القول الصادق في ترتيب الجزاء على السابق، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي صان كتابه من الخلل وتولى حفظه ......
4 ـ آخر الرسالة: هذا ما ظهر تحريره عند الاطِّلاع على السؤال بدون مراجعة وبحث فليتأمل. وحسبي الله وكفى ونعم الوكيل.
في أصل المخطوط على صفحة العنوان حاشية بقلم العلامة علي بن عبد الله الجلال جوابًا لسؤال العلامة لطف الله لفظها: بعد الحمد لله قوله.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد
6 ـ عدد الصفحات: 5 صفحات.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 16 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.
9 ــ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/6205)
في أصل المخطوط على صفحة العنوان حاشية بقلم العلامة علي بن عبد الله الجلال جوابًا لسؤال العلامة لطف الله لفظها: بعد الحمد لله قولُه: اطلعتُ على هذا السؤالِ الذي حرره الولدُ العلامةُ النبيهُ لطفُ اللهِ، والولد العلامةُ الحسن بن علي حنش جواباتهم المذكورة, وهو سؤالٌ عظيم مما يستشكلُ مثلُه أولوا الأفهامِ, ووقع في الخاطرِ عند ابتداء النظرِ فيه, قبلَ البحث في كلام المفسرينَ أنه لا بد من التجوُّز في المرجع بأن يُرادَ به غيرُ يوم المعادِ, أو يكون الترتيبُ غيرَ زماني, أو بضربٍ من ضروب المجازِ, ورأيت الكشافَ (1) والبيضاويَّ, (2) وغيرَهُما قد أطبقوا أن قول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ... } إلى آخر الآية, (3) تفسيرٌ للحكمِ, لكنهم لم يستشكلوا كزنَ الحكم في القيامة, وعذاب الدنيا متقدمٌ عليه, فكيف يكون تفسيرًا له! وهو محطُّ نظر السائلِ ـ أبقاه الله ـ ثم بحثت حواشي الكشافِ فرأيتُ صاحب الكشاف قد نقلَ الإشكال عن صاحب التحقيق وجواباتِه.
ومثلُه سعد الدين في حواشيه, فإنه قال على قوله في الكشاف تفسيرًا للحكم ما لفظه واعْتُرِضَ بأن الحكمَ مرتَّبٌ على الرجوعِ إلى الله, أعني المعادَ, وذلك في القيامة لا محالةَ, فكيف يصحُّ في تفسيره العذابُ في الدنيا! وأجيبُ بوجوه:
الأول: أن المقصودَ التأبيدُ وعدمُ الانقطاع من غير نظرٍ إلى الدنيا والآخرة, كما في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (4)
_________
(1) (1/ 562)
(2) (1/ 265)
(3) [آل عمران: 55 ـ 57]
(4) [هود: 107]. انظر تفصيل ذلك في الرسالة رقم (18).(12/6209)
والثاني: أن المراد بالدنيا والآخرةِ مفهومُهُما اللغويُّ، أعني الأولَ والأخِرَ، ويكون ذلك عن الدوام، وهذا أبعدُ من الأول جدًّا.
الثالث: أن المرجعَ أعمُّ من الدنيوي والأخروي، كونُه بعدَ (جَعَل) الفوقيةِ الثابتة إلى يوم القيامةِ لا يوجِبُ كونُه بعدَ ابتداء يوم القيامة.
وعلى هذا فوقيةُ الأجور أيضًا تتناولُ نعيمَ الدارينِ. ولا يخفى أن في لفظ: {كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (1) بعضَ نبوَّةِ عن هذا المعنى، وأن المعنى: أحكم بينكم في الآخرة فيما كنتم فيه تختلفونَ فيه فِي الدنيا.
الرابع: أن العذابَ في الدنيا هو الفوقيةُ عليهم، والمعنى: أضمُّ إلى الفوقية السابقةِ عذابَ الآخِرة، وهذا بعيدٌ في اللفظ جدًّا، إذ معنى أعذِّبه في الدنيا والآخرة ليس إلاَّ أني أفعلُ عذابَ الدارينِ. إلاَّ أن يقالَ: إن اتحادَ الكلِّ لا يلزم أن يكون باتحاد كلِّ جزء، فيجوز أن يفعلَ في الآخرةِ عذابَ الدارينِ بأن يفعلَ عذابَ الآخرةِ. وقد فُعِلَ في الدنيا، فيكون تمامُ العذابينِ في الآخرة. انتهى ما أفاده سعدُ الدين ـ قُدس سرُّه ـ.
والمحلُّ محلُّ إشكال. ولا يخفى الراجحُ من تلك الجواباتِ. وقد نقلت كلامَ السعد فقد لا يكونُ لدى السائل نسخةٌ أو لم يكنْ قدِ اطَّلع على البحثِ. والله أعلم.
كتبه عليُّ بن عبد الله الجلال ـ لطف الله به ـ ... انتهى.
_________
(1) [آل عمران: 55].(12/6210)
القول الصادق في ترتيب الجزاء على السابق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي صان كتابه من الخلل وتولى حفظَه فما غيَّره بجراءتِه، ولا بدَّل، وصانه عن الزيغ والتحريفِ، وأبدع إتقانَه، وأحكم منه الترصيفَ.
وإن مما قصُرَ عنه فهمي ولم يصل إلى ذروة معناه علمي وتقاعدتْ عنه مُشَمُخِرهِ همَّتي وحسرتْ في محجَّتِه فكرتي ترتيبُ الجزاء على سابقه في قول الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين (57)} (1).
قال العلامة (2) ـ رحمه الله ـ في تفسيره (3) ما لفظُه: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (4) يعلونَهم بالحجَّةِ وفي أكثر الأحوال بها، وبالسيف ومتبعوه هم المسلمون لأنَّهم متبعوه في أصل الإسلام، وإن اختلفتِ الشرائعُ دون الذين كذَّبوه، وكذبوا عليه من اليهود والنصارى. وتفسير الحكم قوله: (فأعذِّبهم، فنوفيهم أجورهم ... انتهى بلفظه ...
_________
(1) [آل عمران: 55 ـ 57].
(2) الزمخشري.
(3) في (الكشاف) (1/ 562).
(4) انظر الرسالة رقم (29).(12/6211)
فأشكل علينا هذا الكلامُ، وكان قد دار بيني وبين الوالد العلامة درةُ تاجِ الفضلِ والكرامة، مَعيْنُ المعارفِ، سلوةُ المؤلفِ والمخالفِ، الحسن بن علي حنش (1) ـ كثر الله فوائده، ومد على الطلاب موائده [1]ـ فقلت له: أيُّ معنى لتفسير حكم الله في عَرَصاتِ القيامة بين هؤلاء بأنَّه سيعذِّبهم في الدنيا حال كونه يومَ القيامة؟ هل هذا إلا تناقضٌ ظاهرٌ؟ ولو كان سَوْقُ الآية هكذا: (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابًا شديدًا في الآخرة) لكان المعنى واضحًا لا غبار عليه، وكان التفسير للحكم ظاهرًا لمن لمح إليه.
فأجاب الوالد العلامة الحسن ـ دامت فوائده ـ بأن قال: المساقُ صحيحٌ، والتفسير في الآية واضح صريحٌ، وأن الله أخبر أن حُكْمَهُ في الكافرين تعذيبُهم في الدنيا والآخرة، وأن كلام العلامة جار الله (2) لا يحتمل زيادةً على هذا ... وقال ـ عافاه الله ـ لما بشَّر الله عيسى بأنه رافعه ومطهِّرُه، وكذا وكذا رتَّب على تلك البشارةِ بشارةً أخرى لعيسى وغيره فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} إلخ الآيات. لكنه لم يظْهَرْ لي ما قاله ـ أي قول الوالد العلامة الحسنِ ـ عافاه الله ـ ولا تبيَّن لي صحَّةُ كلام جار الله على إيجازه، وعدم الإطالة.
وكان قد ظهر لي بعد التأمل الطويلِ شيءٌ، وهو أن جَعْلَ الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلي يوم القيامة مجهولٌ، (3) بيَّن بأن الذين كفروا معذَّبين في الدنيا: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} (4) والأمرُ كذلك، وفي الآخرة لهم عذابُ النارِ. فهذا معنى جَعْلِ الذين اتبعوه فوقَ الذين كفروا.
وأما الذين آمنوا ففوقيَّتُهم متحققة في الدنيا والآخرة: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) أي الزمخشري في (الكشاف) (1/ 562).
(3) انظر تفصيل ذلك في الرسالة رقم (29).
(4) [آل عمران: 112].(12/6212)
وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} (2)، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (3)، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (4)، {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (5)، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (6).
وفي القيامة كذلك: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ} (7)، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (8)، {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} (9) وآياتٌ عديدة.
فإن قلت: هذا الحكم ظاهرُهُ على مقتضي الآية إنما هو إلى يوم القيامة، ولا تدخل (ما) بعد إلى ما في قبلها.
قلت: لا مانعَ من دخولِه، وعلى فرض عدم التسليم فقد جاءت بمعنى مع كقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (10) أي معَ المرافق.
فإن قلت: سلَّمنا عذابَ الكافرِ في الدنيا بالذِّلَّةِ، فكيف جوَّزتَ إتيان المؤمن الأجر
_________
(1) [التوبة: 32].
(2) [الصف: 14].
(3) [غافر: 51].
(4) [المنافقون: 8].
(5) [المائدة: 3].
(6) [آل عمران: 85].
(7) [الأنبياء: 103].
(8) [المائدة: 69].
(9) [التحريم: 8].
(10) [المائدة: 6].(12/6213)
في دار الدنيا؟ ....
قلتُ: هو صحيحٌ لا مانعَ في إتيانهِ فيها، وقد جاء: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (1) فهذا ما ظهر لي ووضحَ معناه. والآية [2] مشكلةٌ غايةَ الإشكال فيرفع ذلك الكلامُ، ويحال على مولانا العلامة خاتمةِ المجتهدينِ، جَهْبَذِ السادة المحققينَ، نورِ عينِ الذكاء، نادرةِ الدهرِ من أوضح الله له طريق الدقائقِ مسلكًا، وفتحَ له المغْلق، وأطلَعَهُ على سرِّ المقيِّد والمطلقِ، وهدى به العامَّ والخاصَّ، وجعله مرجعًا لأهل الحَلِّ والعقدِ من الخواصِّ، العالم الربَّاني، المترجم عن السرِّ الصمداني محمد بن علي الشوكاني ـ أدام الله إفادته ـ فليكشفْ عن ما وضح، وينصرُ القولُ الصحيح بالدليل الأصحِّ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
_________
(1) [العنكبوت: 27].(12/6214)
[جواب القاضي الشوكاني على الرسالة السابقة]
الحمد لله وحدَه. لما وقفَ الحقير على هذا التحرير ظهر له أن قولَه تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ ... } إلى قوله {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} استئنافٌ (1) تقدير السؤالِ، كأنه لما سمعَ السامعُ ذِكْرَ حزبِ الإيمان وحزب الكفرانِ مع ذكر كونِ طائفةِ المؤمنينَ فوقَ طائفةِ الكافرين تشوَّق إلى استيضاحِ الأمرِ، ومعرفةِ جليِّة الحال عن شأن الحزبينِ، فكأنه قال: ما ذاك تكونُ حالُ طائفةِ الكافرينَ، وطائفة المؤمنين، بعد أن أخبر الله ـ عز وجل ـ أنه جاعل إحدى الطائفتين فوق الأخرى، فإن هذا الجعلَ المجملَ لا ريبَ أنه أعظمُ باعثٍ على أخفاء [3] السؤال عن أسبابه. فقال ـ جل جلاله ـ: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا}. {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} ولا يلزمُ انحصارُ الجعل المجمل في هذا البيان، بل يمكن أن يكون بأسباب كثيرةٍ وقعَ البيان لبعضها، وأهمُّها.
فالحاصلُ أن قولَه تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ} استئناف بيانيٌّ جوابٌ لسؤالٍ منشؤُه قولُه تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} وما رجَّحه جار الله ـ رحمه الله ـ لا ريب أن فيه إشكالاً، لأن الأفعال إذا انضم إليها ذِكْرُ الأزمنة أو الأمكنة تقيَّدتْ بالمذكور. تقول ضَرَبْتُه يوم الجمعةِ، وفي الدار، فكان الضربُ مطلقًا. فلما قيل يومَ الجمعة، وفي الدار لم يبقَ له صدقٌ على ضربٍ واقعٍ في يوم السبتِ مثلاً، وفي المسجد، وهكذا سائرُ القيودِ والمتعلقاتِ.
إذا تقرر هذا فقولُه تعالى: {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} مفيدٌ بكونِه بعد المرجعِ إلى الله، كما تُشْعِرُ به (الفاءُ) الدالةُ على الترتيبِ والتعقيبِ. (2)
_________
(1) الفاء: استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتكون تفسيرًا للحكم بين الفريقين.
انظر: (إعراب القرآن الكريم وبيانه) (1/ 521) محيي الدين الدرويش.
(2) أي أن المعطوف بعد المعطوف عليه بحسب ما يمكن. وهو معنى قولهم إنّها تدل على الترتيب بلا مهملة أي: في عقبه ولهذا قال المحققون منهم: إن معناها التفرق على مواصلة. وهذه العبارة تحكي عن الزجاج وأخذها ابن جني في (لمعه) ومعنى التفرق أنها ليست للجمع كالواو. ومعنى على مواصلة: أي: أن الثاني لما كان يلي الأول من غير فاصل زماني كان مواصلاً له. انظر: (البحر المحيط) (2/ 261 ـ 262).(12/6215)
رجوِعكم إلىَّ أوقعتُ الحكمَ بينكم فيما كنتم فيه تختلفون. فهذا الحكمُ قد تقيَّد بوقتِ الرجوعِ، ولا ريب أن الرجوعَ إلى الله هو بعد المفارقةِ لهذه الدارِ، فلا يصح أن يكون من جملةِ المحكومِ به عذابُ الدنيا الذي قد مضى وانقضى في تلك الحال [4]، وليس الحكم هو مجرَّد الإخبارِ حتَّى يقال أنه أخبرَ بذلك خبرًا خاليًا عن الحكم، بل المرادُ إيقاعُهُ للحكم حينئذٍ، كما هو المشعورُ به من الصيغة والتركيبِ.
ولا أقول أن المعنى كما ذكره السائلُ ـ كثر الله فوائدِه ـ في هذا السؤالِ، وهو أن قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ} إلخ بيانٌ لقوله تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} إلخ، لأنَّ البياناتِ لا تجيء على هذه الصيغة، بل لا بد من توسيطِ تقديرِ السؤالِ والحكمِ على الجملة بالاستئنافِ، فتكون منفصلة عن قوله: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} بخلاف ما لمح إليه السائل ـ عافاه الله ـ فإنه يوجبُ أن تكون متصلةً، وهذا يحتاج إلى مزيدِ تدبُّر لما قُرِّرَ في علمِ المعاني من أحكامِ الوصل (1) والفصل. (2)
_________
(1) الوصل عطف: بعض الجمل على بعض.
قيل للفارسي: ما البلاغة؟ فقال: معرفة الفصل والوصل.
(معجم البلاغة العربية) (ص513).
(2) الفصل: هو ترك هذا العطف ـ فإذا أتت جملة بعد جملة، فالأُولى إما أن يكون لها محل من الإعراب، بأن تكون خبرًا نحو: الله يعز من يشاء ويذل من يشاء. أو حالاً نحو: أبصرت عليًّا يلهو ويلعب. أو صفة نحو: أبصرت ولدًا يلهو ويلعب، أو مفعولاً نحو: أتخال الحق يخفي ويُطمس؟ أو مضافًا إليه نحو: جاء الحق وزهق الباطل. فإذا كان للأولى محل، وقصد تشريك الثانية لها في حكم إعرابها عطفت عليها بالواو وغيرها، ليدل العطف على التشريك المقصود كالمفرد، فإنه إذا قصد تشريكه لمفرد قبله في حكم إعرابه من كونه فاعلاً أو مفعولاً أو نحو ذلك وجب عطفه عليه نحو اقبل عليٌّ وأخوه، وقابلت عليًّا وأخوه (معجم البلاغة العربية) (ص 513 ـ 515). ?
قال الرازي في تفسيره (8/ 71 ـ 72): قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}.
اعلم أن الله تعالى لما ذكر: {مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} بين بعد ذلك مفصلاً ما في ذلك الاختلاف، أما الاختلافُ فهو أن كفر قوم وآمن آخرون وأما الحكم فيمن كفر فهو أن يعذبه عذابًا شديدًا في الدنيا والآخرة، وأما الحكم فيمن آمن وعمل الصالحات فهو أن يوفيهم أجورهم وفي الآية مسائل:
1) أما عذاب الكافر في الدنيا فهو من وجهين:
أ) القتل والسبي وما شاكله حتى لو ترك الكفر لم يحسن إيقاعه به، فذلك داخل في عذاب الدنيا.
ب) ما يلحق الكافر من الأمراض والمصائب. وقد اختلفوا في أن ذلك هل هو عقاب أم لا؟
قال بعضهم: إنّه عقاب في حق الكافر. وإذا وقع مثله للمؤمن فإنه لا يكون عقابًا بل يكون ابتلاءً وامتحانًا.
وقال الحسن: إن مثل هذا إذا وقع للكافر لا يكون عقابًا بل يكون أيضًا ابتلاءً وامتحانًا ويكون جاريًا مجرى الحدود التي تقام على التائب، فإنها لا تكون عقابًا بل امتحانًا والدليل عليه أنّه تعالى يعد الكل بالصبر عليها والرضا بها والتسليم لها وما هذا حاله لا يكون عقابًا.
فإن قيل: فقد سلمتم في الوجه الأول إنه عذب للكافر على كفره: وهذا على خلاف قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} وكلمة (لو) تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فوجب أن توجد المؤاخذة في الدنيا.
وأيضًا قال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} وذلك يقتضي حصول المجازاة في ذلك اليوم لا في الدنيا، قلنا الآية الدالة على حصول العقاب في الدنيا خاصة، والآيات التي ذكر نحوها عامة، والخاص مقدم على العام.
2) لقائل أن يقول وصف العذاب بالشدة، يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد، ولسنا نجد الأمر كذلك، فإن الأمر تارة يكون على الكفار وتارة يكون على المسلمين ولا نجد بين الناس تفاوتًا.
قلنا: بل التفاوت موجود في الدنيا، لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسي عليه السلام، ونري الذلة والمسكنة لازمة لهم. فزال الإشكال.
3) وصف الله هذا العذاب بأنه ليس لهم من ينصرهم ويدفع ذلك العذاب عنهم.
فإن قيل: أليس قد يمتنع على الأئمة والمؤمنين قتل الكفار بسبب العهد وعقد الذمة. قلنا: المانع هو العهد. ولذلك إذا زال العهد حل قتله. انظر: (جامع البيان) (3 جـ3/ 293 ـ 294).(12/6216)
هذا ما ظهر تحريره عند الاطِّلاع على السؤال بدون مراجعة وبحث فليتأمل. وحسبي الله وكفى ونعم الوكيل [5].(12/6218)
فائق الكسا في جواب عالم الحسا
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/6219)
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: فائق الكسا في جواب عالم الحسا.
2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم إياك نعبد وإياك نستعين، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول الأمين ......
4 ـ آخر الرسالة: وعقابه أعظم وفي هذا المقدار كفاية والله وليُّ الهداية ...
حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول
6 ـ عدد الصفحات: 15صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات.
9ـ الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 ـ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/6221)
بسم الله الرحمن الرحيم
إياك نعبد وإياك نستعين، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول الأمين، وآله الطاهرين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين.
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ: وهو العالم المباركُ عبد الله بن المبارك الوافدُ إلى صنعاءَ من ديارٍ نجدٍ، وأصلهُ من الحسا ـ زاد الله في الرجال من أمثاله ـ.
السؤال الأول:
عن تفسير قوله سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (1) فإنه يشْكلُ وجودُ اتِّصافِهم بالإيمان في حالة تلبُّسهم بالشركِ، لأنه يستدعي الجمعَ بين النقيضين في حالة واحدة، وهو باطل فليوضِّحْ لنا السبيلَ في ذلك ـ أوضح الله لنا وله واضح المسالك ـ، فإن الحاجةَ ماسَّةٌ إليه، والخاطر كثيرًا ما يقعُ عليه. انتهى.
أقول ـ مستعينًا بالله عز وجل، ومتكلاً عليه ـ أن إيضاح ما تضمنه السؤالُ يتوقف على إيضاح ما ذكره أهلُ التفاسير المعتبرة في تفسير هذه الآيةِ، وينحصر ذلك في وجوه اثني عشر، وينضم إلى ذلك ما ذكرتُه أنا فتكون الوجوهُ ثلاثةَ عَشَرَ.
الأول: إن أهل الجاهليةِ كانوا يقرون بأن الله ـ سبحانه ـ خالقُهم ورازقُهم، ويعبدون غيره من أصنامِهم وطواغيتِهم، فهذا الإقرار الصادرُ منهم بأن الله ـ عز وجل ـ خالِقُهم ورازقُهم هو يصدُق عليه أنه إيمانٌ بالمعنى الأعمِّ، أي تصديقٌ لا بالمعنى الاخصِّ ـ أعنى إيمانَ المؤمنين ـ فهذا الإيمان الصادرُ منهم واقعٌ في حال الشرك، فقد آمنوا حالَ كونهم مشركينَ وإلى هذا الوجهِ ذهب جمهور المفسرينَ، ولكنهم لم يذكروا ما ذكرناه هاهنا من تقريره بكونِه إيمانًا بالمعنى الأعمِّ، ولا بد من ذلك حتى يستقيمَ الكلامُ، ويصدقَ عليه مُسمَّى الإيمانَ. (2)
_________
(1) [يوسف: 106].
(2) انظر (روح المعاني) للألوسي (13/ 66).(12/6225)
الوجه الثاني: إن المرادَ بالآية المنافقونَ، لأنهم كانوا يظهرون الإيمان، ويبطنونَ الشركَ، فما كانوا يؤمنون ظاهرًا إلا وهم مشركونَ باطنًا، وروي هذا عن الحسن البصري. (1)
الوجه الثالث: أنهم أهلُ كتابِ يؤمنونَ بكتابهم، ويقلِّدون [1] علماءهم في الكفر بغيره، ويقولون: المسيحُ ابنُ الله، وعزيزٌ ابن الله، فهم يؤمنون بما أنزل الله على أنبيائهم حالَ كونهم مشركينَ. (2)
الوجه الرابع (3): إن المقصودَ بذلك ما كان يقع في تلبيةِ العرب من قولهم: (لبيك لا شريكَ لك إلا شريكٌ هو لك) (4) فقد كانوا في هذه التلبيةِ يؤمنون بالله وهم مشركونَ. روي نحوُ ذلك عن ابن عباس.
الوجه الخامس: إن المراد بهذه الآيةِ المرآؤن من هذه الأمةِ، لأن الرياء هو الشركُ المشارُ إليه بقوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «الشرك أخْفى في أمتي من دبيب
_________
(1) ذكره ابن كثير في تفسيره (4/ 418): قال الحسن البصري في قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} قال: ذاك المنافق يعمل إذا عمل رياء الناس، وهو مشرك بعمله ذاك يعني قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].
وانظر: (الجامع لأحكام القرآن) (9/ 273).
(2) قال الألوسي في (روح المعاني) (13/ 66): وعن ابن عباس أنهم أهل الكتاب أقروا بالله تعالى وأشركوا به من حيث كفروا بنبيه صلي الله عليه وسلم أو من حيث عبدوا عزيزًا والمسيح عليهما السلام.
وقيل: أشركوا بالنبي واتخاذهم وأحبارهم ورهبانهم أربابًا. وانظر: (الجامع لأحكام القرآن) (9/ 273).
(3) ذكره الألوسي في (روح المعاني) (13/ 66). والقرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) (9/ 273).
(4) أخرج مسلم في صحيحه رقم (22/ 1185) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك قال: فيقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: «ويْلكم قدْ قدْ» فيقولون: إلاَّ شريكًا هو لك. تملكه وما ملك يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت).(12/6226)
النمل» (1) فالمراؤن آمنوا بالله حالَ كونهم مشركينَ بالرياء.
وأخرج الإمام أحمدُ في المسند (2) من حديث محمود بن لبيدٍ أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ـ قال: «إن أخوف ما أخافُ عليكم الشركَ الأصغرَ» قالوا: وما الشركُ الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء يقول الله يومَ القيامة إذا جُزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتُم ترآؤن في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟ .. ».
الوجه السادس: (3) إن المراد بالآية من نَسِيَ ربَّه في الرخاء، وذكره عند الشدائدِ .. روي ذلك عن عطاء، وفيه أنه لا يصدقُ على ذلك أنه آمن بالله حالَ كونه مشركًا إلاَّ أن يجعلَ مجرَّدَ نسيانِ الذكرِ والدعاء عند الرخاء شركًا مجازًا، كأنه بنسيانهِ وتركِه للدعاء قد عَبدَ إلهًا آخر، وهو بعيدٌ على أنه لا يمكن اجتماعُ الأمرينِ، لأنه حالَ الذكر والدعاء غير متَّصفٍ بالنسيانِ، وتركِ الذِّكْرِ.
وقد تقرر أن الحالَ قيدٌ في عاملها إلا أن يعتبرَ بما كان عليهِ الشيءُ، فإن ذلك أحدُ العلاقاتِ المصححةِ للتجوَّزِ. ويدل عليه قولُه تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}. (4)
الوجه السابع: إن المراد من أسْلَمَ من المشركين، فإنه كان مشركًا قبل إِيمانه. حكى ذلك الحاكمُ في تفسيره وتقريره إنَّه ما يؤمن أحدُهم بالله إلا وقد كان مشركًا قبل إيمانِه
_________
(1) أخرجه أحمد (4/ 403).
وهو حديث حسن لغيره. وقد تقدم. من حديث أبي موسى الأشعري.
(2) أخرجه أحمد (5/ 428)، والبيهقي في (الشعب) رقم (4831).
وهو حديث صحيح.
انظر: (تفسير القرآن العظيم) لابن كثير (4/ 420).
(3) ذكره القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) (9/ 273).
(4) [العنكبوت: 65].(12/6227)
[2]. والكلامُ فيه كالكلام في الوجهِ الذي قبلَه، والجوابُ الجوابُ.
الوجه الثامن: إن المراد بالشركِ هاهنا ما تُعرض من الخواطرِ والأحوالِ حالَ الإيمان.
قاله الواسطي كما حكاه عنه البِقاعيُّ، (1) وفيه أن هذه الخواطِرَ والأحوالَ إن كانت مما يصدُقُ عليه الشركُ الأكبرُ أو الأصغر فذاك، وإن كانت خارجةً عن ذلك فهو فاسد.
الوجه التاسع: إنهم الذين يشبِّهون الله بخلقِه. رواه في الكشاف (2) عن ابن عباس، وتقريره أنهم آمنوا بالله حالَ تشبيههم له بما يكون شركًا أو يؤولُ إلى الشرك.
الوجه العاشر: هو ما تقوله القدريةُ من إثبات القدرةِ للعبد. حكاه النَّسفيُّ في مداركِ التنزيل، (3) وتقريره أنهم آمنوا بالله حالَ إثباتهم ما هو مختصٌّ به لغيره، وهو شرك أو مُنَزَّلٌ منزلَة الشِّرك.
الوجهُ الحادي عَشَرَ: ما قاله محيي الدين بن عربي في تفسيره: إن أكبر الناس إنما يؤمنون بغير اللهِ، ويكفرون بالله دائمًا، ففي بعض الأحيانِ يشركون الله ـ سبحانه ـ مع ذلك الإله الذي هم مؤمنونَ فلا يؤمن أكثرهم بالله إلا حالَ كونه مشركًا.
وفيه أن ظاهر النظم القرآني أن الإيمان بالله، والشركَ بتشريكِ غيرِه معَهُ لا بتشريكهِ مع غيرهِ، وبين المعنيينِ فرقٌ.
الوجه الثاني عشَرَ: ذكره ابن كثير في تفسيره (4) وهو أن ثَمَّ شركًا خفيًّا لا يشعر به غالبُ ممن يفعله كما روي عن حذيفةَ أنه دخلَ على مريض يزورهُ فرأى في عضدهِ سيرًا فقطعَه، أو انتزعه ثم قال: وما يؤمنُ أكثرهم بالله إلا وهم مشركونَ).
وفي الحديث الذي رواه الترمذيُّ، (5) .........................
_________
(1) في (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) (10/ 238 ـ 239).
(2) (3/ 327 ـ 328).
(3) (2/ 137 ـ 138).
(4): (4/ 418).
(5) في (السنن) (1535).(12/6228)
وحسَّنه (1) عن ابن عمر مرفوعًا: «من حلف بغير الله فقد أشركَ» وأخرج أحمدُ (2) وأبو داودَ (3) من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «إنَّ الرّقى والتمائمَ والتولُّةَ شركٌ». وفي لفظ لهما (4): «الطيرةُ شركٌ» وما منَّا إلاَّ ولكن الله يذهبه بالتوكُّل.
وروى أحمد في المسند (5) عن عيسى بن عبد الرحمن قال: دخلتُ على عبد الله بن حكيم [3] وهو مريضٌ فقيل له: لو تعلَّقتَ شيئًا؟ فقال: أتعلَّق شيئًا، وقد قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه». ورواه النَّسائي (6) عن أبي هريرة. وفي المسند (7) عن عقبةَ بن عامر قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من علَّ تميمةً فقد أشركَ».
وفي صحيح مسلم (8) عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسولَ الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يقول: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشركَ فيه غيري تركتُه وشِرْكَهُ». وروى أحمد (9) نحوَه من حديث غيرِه .....................
_________
(1) في (السنن) (4/ 110) وقال: هذا حديث حسن.
وهو حديث صحيح وقد تقدم.
(2) في (المسند) (1/ 381).
(3) في (السنن) رقم (3883). وهو حديث صحيح.
(4) أحمد في (المسند) (1/ 389).
وأخرجه أبو داود رقم (3910). وهو حديث صحيح.
(5) في (المسند) (4/ 310).
وأخرجه الترمذي رقم (2072). وهو حديث صحيح.
(6) في (السنن) (7/ 112). وهو حديث ضعيف دون جملة التعليق فهي صحيحه.
(7) في (المسند) (4/ 156). بإسناد صحيح.
(8) في صحيحه رقم (2985).
(9) في (المسند) (4/ 215) من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة.(12/6229)
وفي المسند (1) أيضًا «من ردَّته الطِّيرة من حاجة، فقد أشرك». قالوا: يا رسول الله، ما كفارةُ ذلك؟ قال: «أن يقول أحدهم: اللهم لا خيرَ إلا خيرُك، ولا طَيْرَ إلا طيرُك، ولا إلهَ غيرُك».
وأخرج أحمد (2) من حديث أبي موسي قال: خطبَنَا رسولُ الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: ذاتَ يوم فقال: «يا أيها الناسُ اتَّقوا هذا الشركَ، فإنه أخفى من دبيبِ النملِ» ثم قالوا له: كيف نتجنَّبهُ وهو أخْفى من دبيب النمل؟ قال: «قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشركَ بك شيئًا نعلمُه، ونستغفرك لما لا نعلمُه». وقد رُويَ من حديث غيرهِِ. (3)
إذا عرفتَ ما تضمنتْه كتبُ التفسير من الوجوهِ التي ذكرناها، وعرفت تقريرها على الوجه الذي قررناه، فاعلم أن هذه الأقوالَ إنما هي اختلافٌ في سبب النزولِ، وأما النظم القرآني فهو صالحٌ لحملهِ على كل ما يصدقُ عليه مسمَّي الإيمان مع وجودِ مسمَّى الشركِ، والاعتبارُ بما يفيده اللفظُ لا بخصوصِ السبب كما هو مقررٌ في موطِنهِ، فيقال مثلاً في أه الشرك أنه ما يؤمنُ أكثرهم بأن الله هو الخالقُ الرازقُ إلا وهو مشركٌ بالله بما يعبدهُ من الأصنام، ويقال في من كان واقعًا في شرك من الشرك الخفي وهو من المسلمينَ إنه ما يؤمن بالله إلا وهو مشركٌ بذلك الشرك الخفي. ويقال مثلاً في سائر الوجوه بنحوه هذا على التقريرِ الذي قررناه سابقًا، وهذا يصلح أن يكون وجهًا مستقلاً، وهو أوجَهُهَا وأرجَحُها فيما أحسبُ [4].وإن لم يذكرُه أحدٌ من المفسرينَ.
فما قاله السائل ـ كثر الله فوائده ـ من أنه يُشكلُ وجوهُ اتَّصافِهم بالإيمان في حالٍ
_________
(1) في (المسند) (2/ 220).
(2) في (المسند) (4/ 403) وهو حديث صحيح وقد تقدم.
(3) أخرجه أحمد (1/ 9)، وأبو داود رقم (5067)، والترمذي رقم (3392)، والبيهقي في (السنن الكبرى) رقم (1/ 769) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(12/6230)
تلبُّسِهم بالشركِ استشكالٌ واقعٌ موقعَه، وسؤالٌ حالٌّ من محلِّهِ، وجوابُه قد ظهر مما سبق فإنه يقال مثلاً أن أهلَ الجاهليةِ كان إيمانهم المجامِعَ للشرك هو مجردُ الإقرار بأن الله الخالقَ الرازقَ، وهو لا ينافي ما هم عليه من الشركِ، وكذلك يقال إن أهل الإسلام كان يشرك من وقع منهم في شيء من الشركِ الخفي الأصغرِ غيرُ منافٍ لوجود الإيمان منهم، لأن الشرك الأصغر لا يخرجُ به فاعله عن مسمَّى الإيمان. ولهذا كانت كفارتُهُ أن يتعوَّذ بالله من أن يشركَ به، وأن يقول في الطيرة: «اللهم لا طَيْرَ إلا طيرُك، ولا إله غيرك» فقد صح بهذا أنه اجتمع الإيمان الحقيقيُّ والشركُ الخفيُّ في بعض المؤمنينَ، واجتمع الإيمان بالمعنى الأعمِّ، والشركُ الحقيقيُّ في أهل الجاهليةِ، وكذا يقال في أهل الكتاب أنه اجتمعَ فيهم الإيمان بما أنزلَ الله على أنبيائهم، والإشراكُ بجعْلِ المخلوقينَ أبناءً لله ـ عز وجل ـ وهكذا في بقيةِ الوجوه.(12/6231)
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ ...
السؤال الثاني: عن حديثِ: «إنما الأعمالُ بالنيات» هل هو من المتواترِ كما ادَّعاه بعضٌ، أو من الغريب المشهورِ كما قال به آخرون، أو من الغير المشهورِ كما قال به جمعٌ، وهل هو في درجةِ الصحةِ أو درجةِ الضعف؟ أفيدونا ما هو الصحيحُ لديكم فإنا في حاجة إليه.
أقول: هذا الحديثُ ثابتٌ في صحيح البخاري (1) ومسلم، (2) والسننِ الأربعِ، (3) وقد رواه سائر الأئمة المشهورين (4) إلا الإمام مالكٍ فلم يَرْوِهِ في الموطَّأ، (5)، ووهم من زعمَ أنه في الموطأ، (6) ولكنه أخرجه النسائي (7) من طريق مالك. وقد جزم الترمذيُّ والنسائي، والبزَّار، وابن السكن وغيرهم (8) بأنه لم يروهِ عن النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم [5]ـ إلا عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه ولا رواه عن عمرَ إلا علقمةُ بن وقاص الليثي، ولا رواه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولا رواه عن محمد بن إبراهيم إلا يحيى بنُ سعدُ الأنصاري، ثم اشتهر عن يحيى، ورواه الجمعُ الجمُّ، وتلقَّاه الناس بالقَبولِ، فهو في
_________
(1) في صحيح رقم (1).
(2) في صحيحه رقم (1907).
(3) أبو داود رقم (2201)، والترمذي رقم (1647)، والنسائي (1/ 58)، وابن ماجه رقم (4227).
(4) أخرجه أحمد في (المسند) (1/ 25، 43)، والدارقطني في (السنن) (1/ 50 رقم 1)، والبيهقي في (السنن الكبرى) (1/ 41).
(5) بل أخرجه مالك في (الموطأ) (ص341 رقم 983) برواية محمد بن الحسن الشيباني.
(6) في حاشية المخطوط ما نصه:
قلت: قد رواه مالك في (الموطأ) رواية محمد بن الحسن الشيباني كما ذكره السيوطي متعينًا لهذا القول المتقول عن الحافظ ابن حجر وقد رأيته كذلك في موطأ محمد وعلى هذه النسخة شرح على القاري في هذا الموطأ زيادة ونقص وتقديم وتأخير.
(7) في (السنن) (1/ 58).
(8) ذكره الحافظ في (التلخيص) (1/ 91 ـ 92).(12/6232)
اصطلاح أهل علم الحديثِ غريبٌ نسبيٌّ لكونه قد تفرَّد به بعضِ رجالِ السندِ عن بعض، ولكنه لا تنافي بين الغريب والصحيحِ، سواء كان الغريبُ مطلقًا وهو ما رواه الفردُ عن الفردين أول الإسنادِ إلى آخره، أو كان الغريبُ نسبيًّا وهو ما تفرَّد به بعضُ رجال السند دون بعض.
وقد قال الخطابي (1) أنه لا يعرفُ إلا بهذا الإسنادِ بلا خلافٍ بين أهلِ الحديثِ. قال ابن حجر (2): وهو كما قال لكن بقيدينِ:
أحدهما: الصحة، لأنه ورد من طرق معلولةٍ ذكرها الدارقطنيُّ، وأبو القاسم بن منده، وغيرهما ...
ثانيهما: السياقُ لأنه ورد في معناه عِدَّةُ أحاديثَ صحَّتْ في مطلقِ النيةِ كحديثِ عائشةّ، (3) وأمِّ سلمةَ عند مسلمٍ: «يبعثون على نيَّاتِهم» (4) وحديثِ ابن عباس: «ولكنْ جهادٌ ونيَّةٌ»، (5) وحديث أبي موسى: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (6) متفق عليهما ..
وحديثِ ابن مسعود: «رب قتيلٍ بين الصفينِ الله أعلم بنيَّتِه» أخرجه أحمد، (7) وحديثِ عبادةَ: «من غزى وهو لا ينوي إلا عقالاً فله ما نوى» أخرجه النسائي. (8)
_________
(1) ذكره الحافظ في (الفتح) (1/ 11).
(2) في (فتح الباري) (1/ 11).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2118)، ومسلم رقم (2884).
(4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1864) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3077)، ومسلم رقم (85/ 1353).
(6) أخرجه البخاري رقم 02810)، ومسلم رقم (149/ 1904).
(7) في (المسند) (1/ 397) بإسناد ضعيف.
(8) في (السنن) (6/ 24).
وأخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (4619). وهو حديث حسن.(12/6233)
إلى غير ذلك مما يتعسَّر حصْرُهُ. وعرف بهذا غلطُ من زعم أن حديثَ عمر متواترٌ إلا أن حُمِلَ على التواتُر المعنوي فيحتمل ... نعم قد تواتر عن يحيى بن سعيد، فقد حكى الحافظ (1) النقاش أنه رواه عن يحيى بن سعيد مئتان وخمسون نفسًا، وسرد أسماؤهم القاسمُ بن منده فجاوزَ عددُهم ثلاثمائةٍ. وروي عن الحافظ الهروي أنه قال: كتبته من حديث سبعمائة من أصحاب يحيى.
إذا عرفتَ هذا علمتَ منه جوابَ سؤال السائل ـ عافاه الله ـ فهذا [6] من قسم الغريبِ الصحيح المشهورِ المتلقَّى بالقبول، لا كما قال أبو جعفر الطبريُّ أن هذا الحديثَ قد يكون على طريقة بعضِ الناسِ مردودًا لكونه فردًا ... انتهى. (2)
فإن هذا إنما هو إشارةٌ منه إلى قول من يقول أنه يعتبرُ في عدد الرواية ما يعتبر في عدد الشهادةِ، فلا يُقبل إلا ما رواه اثنان فصاعدًا عن اثنين فصاعدًا، وليس هذا بمعتبرٍ عن أحد من أئمة الحديثِ المعتبرينَ، وإنما قال به بعضُ أهل الأصول، وهو قول مدفوعٌ.
وأما ما رواه جماعةٌ عن البخاري أن شرطَهُ أن يروي الحديثَ عن رسول الله صلي الله عليه وسلم صحابيانِ ويروي عن الصحابيين أربعةٌ، وعن الأربعةِ ثمانيةٌ، فهذا نقلٌ، وروايةٌ مدفوعةٌ، فإن هذا الحديثَ الذي سأل عنه السائل ـ عافاه الله ـ هو أولُ حديث في البخاري. (3) وقد تفرد به واحدٌ من الصحابة عن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وتفرَّد به عن الصحابي الواحدِ واحدٌ من التابعينَ، وتفرد به عن التابعيِّ واحدٌ كما عرفت.
_________
(1) ذكره الحافظ في (الفتح) (1/ 11 ـ 12).
(2) كلام الحافظ في (الفتح) (1/ 11 ـ 12).
(3) في صحيحه (1/ 9 رقم 1) وأطرافه (54، 2529، 3898، 5070، 6689، 6953).(12/6234)
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ ...
السؤال الثالث: ما يقول القاضي في رجل قال لزوجته: (إن وطِئْتُكِ فأنت طالق) هل تطلُق لمجرد الإيلاجِ، أو بعد الإخراجِ، أو قبلَ الوْطئ؟ وإن قلتُم أنه لمجرد الإيلاجِ هل يحدُّ في إخراجه أو لا يحدُّ؟ أفتونا مأجورينَ.
أقول: تعليقُ الطلاق بالوطئ صحيحٌ عند الجمهور، (1) وخالف في ذلك البعضُ ثم اختلف القائلون بالصحةِ بماذا يقعُ الطلاقُ؟ فقيلَ يقعُ بالتقاء الختانين بناءً على أن ذلك قد صار حقيقةً عرفيةً (2) للوطئ، وقيل بكمال الإيلاج، فإذا وقع الالتقاءُ للختانينِ عند الأولينِ وقعَ الطلاق، فيكف عن الإيلاج، فإن فعل [7] كان الإيلاج رجعةً في الطلاق الرجعيِّ، وأما في البائن فقيل يجب الحدُّ ...
ولا وجه لذلك، فإن الزِّنا هو إيلاج فرجٍ، وتتمةُ الإيلاج ليست بإيلاج، بل جزءُ إيلاج. هذا عند أهل القولِ الأولِ.
وأما عند أهل القولِ الثاني وهو المعتبرون للإيلاج، فقيل: يجوزُ له النزعُ، ولا يكون آثمًا ولا زانيًا لأنه لا يمكنه الخروجُ من الحرام إلا بذلك. وقيل: يجبُ عليه الحدُّ وهو فاسدٌ لأن الزنا إيلاج فرجٍ في فرجٍ، والنَّزعُ ليس بإيلاج، والمسألة مبسوطةٌ في علم الفروع، والكلام فيها مقررٌ في مواطنه.
وعندي أنه إذا علَّق الطلاقَ بالوطئ جازَ له أن يطأها حتى يُنزلَ، لأنه يصدقُ على ذلك أنه وَطئٌ لغةً وشرعًا، وهو معروف في لغة العرب، وفي لسان الشرع، إلا أن يريدَ وطئًا يوجِبُ الغسلَ فقد ثبتَ عن الشارعِ أنه إذا لاقى الختانُ الختانَ فقد وجب الغسلُ (3)
_________
(1) انظر (المغني) (10/ 482).
(2) تقدم تعريفها.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (88/ 349) من حديث عائشة رضي الله عنها. ?
قال ابن قدامة في (المغني) (10/ 482): وإذا قال لامرأته: إن وطئتك فأنت طالق. انصرفت يمينه إلى جماعها.
وقال محمد بن الحسن: يمينه على الوطء بالقدم. لأنه الحقيقة. وحكى عنه أنّه لو قال: أردت به الجماع. لم يقبل في الحكم.
ولنا: أنَّ الوطء إذا أضيف إلى المرأة كان في العرف عبارةً عن الجماع.
ولهذا يفهم منه الجماع في لفظ الشارع في مثل قول النبي صلي الله عليه وسلم: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة» ـ تقدم تخريجه ـ فيجب حمله عند الإطلاق عليه، كسائر الأسماء العرفيّة، ولا يحنث حتى تغيب الحشفة في الفرج وإن حلف ليجامعها أو لا يجامعها انصرف إلى الوطء في الفرج ولم يحنث بالجماع دون الفرج، وإن أنزل، لأنَّ مبنى الأيمان على العُرف والعرف ما قلناه .... ).(12/6235)
فيقتصر على ذلك، فإن فعل كان آثمًا.
وأما أنه يجبُ عليه الحدُّ فلا، وإن طال العملُ والنَّزع والإيلاج حتى ينزلَ، لأن الحدُود تُدْرَأُ بالشبهاتِ كما صحَّ عن الشارع. وجوازُ أولِ الفعلِ شبهةٌ توجبُ سقوطَ الحدِّ في التمام. هذا على فرض أن الطلاقَ ليس برجعيِّ، وإلا كان التمامُ رجعةً. [8].(12/6236)
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ ...
السؤال الرابع: هل الصحيحُ عند القاضي جوازُ القرآنِ بالسنةِ أو المنعُ؟ (1) فإذا قلتُم بالجواز يشكُلُ قولُه ـ سبحانه وتعالى ـ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
الآية} فإن السنة ليست بمثلِ القرآنِ ولا خيرًا منه، وإن كانت وحيًا لنسبتِها إلى الرسول، ونسبةُ القرآنِ إلى الله وإذا قلتم بالمنع أشكلَ أيضًا آيةُ: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ... الآية} (2) اللهمَّ إلا أن يقالَ: إن هذا من باب تخصيصِ الكتابِ بالسنة، وإلاَّ أشكلَ إبقاؤُها مع قوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «لا وصية لوارثٍ» (3) أفتونا بالتحقيق الذي هو إثباتُ المسألةِ بدلائلها؛ فإن الحاجة ماسَّةٌ إلى ذلك.
أقول: قد ذهب جمهورُ أهلِ الأصولِ إلى جوازِ نسخِ القرآنِ بالسنةِ المتواترةِ، (4) وخالف في ذلك الشافعيُّ، (5) وتابعه على ذلك طائفةٌ، (6) وبه قال أئمة الزيديةِ.
_________
(1) النسخ لغةً: الإبطال والإزالة ومنه نسخت الشمسُ الظلَّ والريح آثار القوم ومنه تناسخ القرون. ويطلق ويراد به النقل والتمويل ومنه نسخت الكتاب أي نقلته ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29].
انظر: (مقاييس اللغة) (5/ 424) (14/ 121).
النسخ في الاصطلاح: هو رفع حكم شرعي بمثله مع تراخيه عنه.
(اللمع) (ص30)، و (البحر المحيط) (4/ 65).
(2) [البقرة: 180].
(3) أخرجه أحمد (4/ 186، 187)، وابن ماجه رقم (2712)، والنسائي (6/ 247)، والترمذي رقم (2121)، وقال: حديث حسن صحيح. من حديث عمرو بن خارجة.
وهو حديث صحيح بشواهده.
(4) انظر (إرشاد الفحول) (ص629 ـ 630) و (البحر المحيط) (4/ 110).
(5) انظر الرسالة (ص106).
(6) قال الشوكاني في (إرشاد الفحول) (ص630): وذهب الشافعي في عامة كتبه كما قال ابن السَّمعاني إلى أنَّه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة بحال وإن كانت متواترةٌ وبه جزم الصيرفيُّ والخفاف ونقله عبد الوهاب عن أكثر الشافعية. وقال أبو منصور: أجمع أصحاب الشافعي على المنع وهذا يخالف ما حكاه ابن فورك عنهم فإنه حكى عن أكثرهم القول بالجواز: ثم اختلف المانعون فمنهم من منعه عقلاً وشرعًا، ومنهم من منعه شرعًا لا عقلاً واستدل على ذلك بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106]. قالوا: ولا تكون السنة خيرًا من القرآن ولا مثله قالوا: ولم نجد في القرآن آية منسوخة بالسنة. وقد استنكر جماعة من العلماء ما ذهب إليه الشافعي من المنع حتى قال إلكيا الهراسي هفوات الكبار على أقدارهم، ومن عد خطؤه عظم قدره. انظر: (البحر المحيط) (4/ 112). قال أبو منصور البغدادي مطلق السنة بل أراد السنة المنقولة آحادًا واكتفى بهذا الإطلاق لأن الغالب في السنة الآحاد. وقال الزركشي في (البحر المحيط) (4/ 115): والصواب أن مقصود الشافعي أن الكتاب والسنة لا يوجدان مختلفين إلا ومع أحدهما مثله ناسخ له. وهذا تعظيم عظيم وأدب مع الكتاب والسنة ومهم لموقع أحدهما من الآخر وكل من تكلم في هذه المسألة لم يقع على مراد الشافعي بل فهموا خلاف مراده حتى غلطوه وأولوه.(12/6237)
واختلف المانعون، فمنهم من منعه عقلاً، كالحارث المحاسبي، وعبد الله بن سعيد القلاسي، وهو رواية عن أحمد بن حنبل، ومنهم من منعه سمعًا كالشيخ أبي حامد الإسفراييني، واحتج الجمهور بأن التكليف بمتواتر السنة كالتكليف بالآية القرآنية، وبأن ذلك قد وقع في هذه الشريعة المطهرة. واحتج الآخرون بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (1) وتقرير الدلالة من وجهين:
أحدهما: أن ما ينسخ به القرآن يجب أن يكون خيرًا أو مثلاً، والسنة ليست كذلك.
ثانيهما: أنه قال (نأت) والضمير لله ـ سبحانه ـ فيجب أن لا ينسخ إلا بما يأتي به الله، وهو القرآن.
وأجاب الأولون عن ذلك بأن المراد بقوله [سبحانه]: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}
_________
(1) [البقرة: 106].(12/6238)
أي بحكم خير منها أو مثلِها في حق المكلَّفِ باعتبارِ الثوابِ، وهذا صحيحٌ، ولا يخالُفه الضميرُ في قوله: {نَأْتِ} فإن القرآنَ والسنةَ جميعًا من عند الله ـ سبحانه [9]ـ قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (1) والكلامُ في المسألةِ طويلٌ، وهو مدوّن في الأصول بما لا يتَّسع المقام لبسطِه، الحقُّ عندي الجوازُ. (2) وأما نسخُ الكتاب بما صحَّ من آحادِ السنةِ فقد منعه الجمهورُ، لأن الآحاد لا تفيد القطعَ، والكتابُ مقطوعٌ به. وذهب جماعةٌ من متأخرين الحنفيةِ إلى جواز نسخ القرآنِ بالخبرِ المشهورِ، وقال في جمع الجوامع (3): إن نسخَ القرآنِ بالآحاد جائز غيرُ واقع ... وقال أبو بكر الباقلاَّني، (4) والغزالي، (5) وأبو عبد الله البصري (6) أنّه جائزٌ في عصره ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لا بعدّه ... ووافَقهم الإمامُ يحيى من أئمة الزيدية. وذهب جمعٌ من الظاهرية إلى جواز ووقوعِه ...
وأقول: إنَّ النزاعَ إن كان في قطعية المتنِ فلا شك أن القرآن كذلك وما صح من آحاد السنة ليس بقطعي وإن كان النزاعُ في الدلالةِ فإن كان القرآنُ المنسوخ عمومًا أو محتملاً فدلالتُه ظنيةٌ كدلالةِ ما صحَّ من الآحادِ، والذي يصلُح أن يكون محلاًّ للنزاع هنا هو الثاني لا الأولُ، على أنه قد وقع نسخُ القطعيَّ بالظنيِّ، فإن استقبالَ بيتِ المقدسِ ثبت ثبوتًا قطعيًّا متواترًا، ثم إن أهلَ قُباءَ استدارُوا إلى الكعبةِ وهم في الصلاة بخبر واحدٍ ولم ينكر عليهم ذلك النبيُّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم (7) ـ.
_________
(1) [النجم: 3 ـ 4].
(2) انظر (إرشاد الفحول) (ص631)، (البحر المحيط) (4/ 115).
(3) انظر: (البحر المحيط) (4/ 109).
(4) انظر (المسودة) (ص202).
(5) في (المستصفي) (2/ 101ـ 104).
(6) انظر (البحر المحيط) (4/ 109 ـ 110).
(7) تقدم ذكره. وانظر: (إرشاد الفحول) (633).(12/6239)
وكذلك ثبت نسخُ الوصيةِ للوالدين والأقربين بقوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «لا وصية لوارث»، (1) وكذلك نُسِخَ قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ... } بقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ما توفي رسولُ الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ حتى أحلَّ الله له أن يتزوجَ من النساء ما شاءَ. ونسخ قولُهُ تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا ... الآية} (2) بنهيهِ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ عن أكل كلِّ ذي ناب، (3) والكلام في هذا يطولُ، ومحلُّه مطوَّلاتُ كتب الأصولِ، فإن استيفاءَ الكلام في
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) [الأنعام: 145].
(3) أخرجه مسلم رقم (1934)، وأبو داود رقم (3803)، والنسائي (7/ 206) من حديث ابن عباس.
وهو حديث صحيح.
قال ابن الجوزي في (ناسخ القرآن ومنسوخه) (1/ 399 ـ 400)، اختلف العلماء في حكم هذه الآية على قولين:
أحدهما: أن المعنى: لا أجد محرمًا مما كنتم تستحلون في الجاهلية إلا هذا قاله طاووس ومجاهد.
ثانيهما: أنها حصرت المحرم، وليس في الحيوانات محرم إلا ما ذكر فيها ثم اختلف أرباب هذا القول.
فذهب بعضهم إلى أنها محكمة، وأن العمل على ما ذكر فيها. فكان ابن عباس لا يرى بلحوم الحمر الأهلية بأسًا. ويقرأ هذه الآية ويقول: ليس شيء حرامًا إلا ما حرمه الله في كتابه وهذا مذهب عائشة والشعبي.
وذهب آخرون إلى أنها نسخت بما ذكر في المائدة، ومن المنخنقة، والموقوذة والمتردية والنطيحة، وما أكل السبع وقد رد قوم هذا القول، بأن قالوا: كل هذا داخل في الميتة. وقد ذكرت الميتة هاهنا فلا وجه للنسخ.
وزعم قوم أنها نسخت بآية المائدة، وبالسنة من تحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وهذا ليس بصحيح.
أما آية المائدة فقد ذكرنا أنها داخلة في هذه الآية. وأما ما ورد في السنة فلا يجوز أن يكون ناسخًا لأن مرتبة القرآن لا يقاومها أخبار آحاد. ولو قيل: إن السنة خصت ذلك الإطلاق أو ابتدأت حكمًا كان أصح. انظر: (إرشاد الفحول) (ص632 ـ 633).(12/6240)
هذه المسألة يحتاجُ رسالةً مستقلةً [10].(12/6241)
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ:
السؤال الخامس: ما يقول القاضي في قول النحاة مثلاً هذا في محلِّ رفع، وهذا في محل نصب، وهذا محلِّ جر، وهذا في محل جزم، وهو شيء أخذه متأخِّروهم عن أولِّيهم، هل تساهلوا في ذلك حيثُ جعلُوا الاسم مثلاً أو الفعلَ بمنزلةِ الحركةِ أو الحرفِ أو الحذفِ، وكان القياسُ أن يقولوا في محلِّ مرفوعٍ، وفي محلٍّ منصوب، وفي محل مجرور، وفي محل مجزوم، أو الاعتراضَ؟ .. وكذلك هل وقع منهم تساهلٌ في قولهم مثلاً في أول الأبوابِ حين يأخذون في حدِّ كل باب:
المبتدأ: هو الاسمُ المجردُ عن العوامل اللفظيةِ المرفوعُ، أو هو الاسم الصريح أو المؤول به المرفوعُ، أو ما ابتدأَ به مرفوعًا. والحالُ وصفٌ فعله منتصبٌ، حيث جعلوا الرفعَ في المبتدأ، أو النصبَ في الحال جزءًا من الماهية، وهو حكم من الأحكام، وهذا عندهم من جملة المردودِ، إذا إدخالُ الأحكام في الحدودِ منتقد وإن جعلوه جزءًا واحدًا لزمَ فيه الدورُ، سواء كان بمرتبةٍ كتوقُّفِ (أ) على (ب) و (ب) على (أ)، أو بمراتبَ كتوقُّفِ (أ) على (ب) و (ب) على (ج) و (ج) على (أ)، أفتنا على ماذا نعتمدُ عليه ونعوِّل عليه؟ ....
أقول: هذا قد اشتمل على سؤالينِ:
وجوابُ الأول: أنه من باب التعبيرِ بالمصدرِ عن اسم المفعولِ، وذلك واقع كثيرًا، ومنه الصورةُ التي ضربها أهلُ النحو مثالاً، وهي قولهم: الدرهمُ أو الدينارُ ضربُ الأمير أي مضروبُهُ، ومن ذلك قول النحاة (1): الكلمةُ لفظ وضعَ مفردٍ كما وقع في كافيةِ (2) ابن الحاجبِ، فإن شُرَّاحِ (3) كلامِه قالوا في الشروح: إن اللفظ هنا بمعنى الملفوظِ، ومن
_________
(1) انظر: (شرح كافية ابن الحاجب) (1/ 21).
(2) (1/ 21).
(3) منهم: رضي الدين محمد بن الحسن الأستراباذي.(12/6242)
ذلك قولُ ابن الحاجب بالضمةِ رفعًا، والفتحة نصبًا، والكسرة جرًّا، فإن الرَّضيَّ قال في شرحه: إن هذه المصادرَ بمعنى المفعولِ كقولهم: الفاعلُ رفعٌ أي مرفوعٌ، وهذا يقعُ كثيرًا في كلامهم، ومنه ما سألَ عنه [11] السائل ـ عافاه الله ـ ... قال الرَّضيُّ (1) عند شرح قول ابن الحاجب: وحكمه أن يختلف آخرهُ لاختلافِ العواملِ لفظًا أو تقديرًا ما لفظُه: فلهذا يقال في نحو هؤلاء أنَّه في محلِّ رفع، أي في موضع الاسمِ المرفوعِ ... انتهى.
وقد ذكر هذا أهلُ المعاني والبيانِ في مواضعَ، ومثَّلوه بقول الشاعر: فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ ... أي مقبلةٌ ومدبرةٌ ...
وجواب السؤال الثاني: إن ما يذكره أهلُ العلم في الأبواب هو من باب الرسول لا من باب الحدودِ، كما حقَّق ذلك جماعةٌ من المحققين، لأن الوقوف على الذاتيات التي مدارُ الحدِّية عليها متعسِّرًا أو متعذِّرًا، وإذا كان ذلك رسمًا لا حدَّا فالمراد تمييزهُ عن مشاركاتهِ في الماهيةِ بالوجهِ لا بالكُنْهِ، ولو كان ذلك بخاصةٍ أو بعرضٍ عامٍّ، وبيانه في مثل الصورةِ التي ذكرها السائلُ ـ عافاه الله ـ إنه لما قيل في حد المبتدأ أنَّه الاسم المجردُ عن العوامل اللفظيةِ بقي كثيرٌ من الأسماء المجردةِ عن العوامل داخلاً في هذا، فلما قال المرفوعُ خرجت تلكَ المشارِكاتِ على زعم من حدَّد المبتدأَ بمثل هذا الحدِّ.
وعندي أنها لا تخرجُ جميعُ المشاركاتِ بقوله المرفوعُ، بل يبقي الخبر داخلاً في حدِّ المبتدأ فإنه اسم مجرَّدٌ عن العوامل اللفظية مرفوعٌ، فلا يصح الحدُّ إلا عند من يجعلُ المبتدأ هو العاملُ في الخبرِ كما نقلَه الأندلسيُّ عن سيبويه.
وروي عن أبي علي الفارسي وأبي الفتح ابن جنيّ. (2) وقال الكسائي والفراءُ: هما مترافعانِ. وقال خلف الأحمرُ: إن المبتدأ يرتفع بإسناد الخبر إليه. وقال بعض الكوفيين: المبتدأ مرتفعٌ بالضميرِ العائد إلى الخبرِ. وقال الزمخشريُّ والجزوليُّ: إن الابتداءَ هو العامل
_________
(1) في (شرح الكافية) (1/ 50).
(2) انظر (اللمع في العربية) (ص72 ـ 73)، (ضياء السالك إلى أوضح المسالك) (1/ 171).(12/6243)
في الخبر. (1)
وإذا تقرر هذا تبيَّن لك أن وقوعَ لفظ المرفوع في حدِّ المبتدأ ليس على ما ينبغي، فالأولى [12] في حدِّ المبتدأ ما قاله ابن الحاجب (2) أنه الاسمُ المجرد عن العوامل اللفظيةِ مسندًا إليه، فإنه بهذا يتميزُ عن الخبرِ، وإن كان الاعتراضُ باقيًا باعتبارِ قول من قال: إن عاملَ المبتدأ لفظيٌّ، لأنه حينئذٍ لا يكون مجرَّدًا عن العوامل اللفظيةِ.
وأما ما قاله السائل ـ عافاه الله ـ من كونهم جعلوا الرفْعَ والنصبَ جزءًا من الماهيةِ، وهو حكمٌ من الأحكام.
فجوابه أن ذلك إنما يراد إذا كان المذكورُ في الباب حدًّا، وأما إذا كان رسمًا كما ذكرناه فلا، فإن الرسْمَ يكون بالخاصَّةِ، وبالعرضِ العامِّ، إذ المرادُ التمييزُ بالوجه لا بالكُنْهِ، ولهذا قالوا: (إن مدارَ الحدَّيةِ على الفصلِ، ومدارَ الرسميةِ على الخاصةِ. وبهذا تعرف جوابَ ما ذكره السائل ـ عافاه الله ـ من لزوم الدورِ ...
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) في (شرح كافية ابن الحاجب) (1/ 196).(12/6244)
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ ....
السؤال السادس: ما الفرقُ بين العكسِِ اللغويِّ والعكس الاصطلاحي؟ وذلك في مثل قولِهم: كل بليغٍ فصيحٍ ولا عكسَ، هل المرادُ به ولا عكسَ لغويٌّ أو اصطلاحيُّ؟
أقول: العكس اللغويُّ هو أن يقال مثلاً: كل بليغٍ فصيحٌ وعكسُه ليسَ كلُّ فصيحٍ بليغٍ. وأما العكسُ الاصطلاحيُّ المعروفُ عند أهل المنطقِ فهو ينقسم إلى قسمين: العكسُ المستوي، وعكسُ النقيضِ، ولكل واحد منهما بحثٌ محرر في علم المنطقِ تحريرًا يتبيَّن به كلُّ صورةٍ من صورهِ، ولا يتعلَّق بإيراد ما ذكروه هنا فائدةٌ، لأنه يغني عن ذلك الرجوعُ إلى مختصرٍ من مختصرات علمِ المنطقِ .. فمثلاً قولُه: كل بليغٍ فصيحٌ ينعكسُ بالعكسِ المستوي عند أهل المنطق إلى موجبةِ جزئيةٍ وهي بعض الفصيحِ بليغٌ، وأما عكس النقيض فهو تبديلُ نقيضِ الطرفينِ فاعرفْ هذا.(12/6245)
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ ..
السؤال السابع: ما يقولُ القاضي في قولهم مثلاً: هذا كلامٌ ساذَجٌ، وهذه عبارةٌ ساذَجَةٌ؟ ماذا يريدون بالسَّاذج؟ فإنا قد طالعنا الصحاحَ والقاموسَ فلم نجد لهذا الحرفِ أصلاً فيهما، فعلى هذا فهل تكون مولَّدةً أو عربيةً؟
أقول: هذه اللفظةُ ليست من لغةِ العرب, (1)، ولكنه استعملَها كثيرٌ من المشتغلينَ بالفنون الآلية، والعلوم العقليةِ، فتارةً يريدون بالساذج ما لا معنى له، وتارة يريدون به ما لا دلالة له، وتارة يريدون به ما لا فائدةَ فيه وقد بيَّن بعضُ أهل العلم معناهُ فقال: هو مأخوذٌ من قولهم ثوبٌ ساذجٌ أي لا علامةَ فيهِ، وهذا التبيينُ ساقطٌ، فإنه إنما يحتاجُ إلى هذا في الألفاظ اللغويةِ. وأما الألفاظُ العجميةُ والمولَّدةُ فلا ضرورةَ تستدعي ذلكَ، وتقتضيه، وما أحسنَ ما قالَهُ بعضُ علماء اللغةِ في بعض الألفاظِ العجمية: (إنه عجميٌّ فالعبْ به كيفَ شِئتَ ... ).
_________
(1) سذج: حجّةٌ ساذجة وساذَجَةٌ بالفتح: غير بالغة قال ابن سيده: أراها غير عربية. إنما يستعملها أهل الكلام فيما ليس ببرهان قاطع وقد تستعمل في غير الكلام والبرهان وعسى أن يكون أصلها سادَةْ فعُرّبت كما اعتيد مثل هذا في نظيره من الكلام المعرّب.
ذكره ابن منظور في (لسان العرب) (6/ 223).(12/6246)
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ ...
السؤال الثامن: ما يقول القاضي في أخوين: أحدُهما بالمشرقِ والآخَرُ بالمغربِ، فتوفيَّا في يومِ جمعةٍ حين زالت الشمسُ، فهل يحكُم بتوريثِ أحدِهما من الآخَرِ أم لا؟.
أقول: إن كلامَ أهل العلم في هذه المسألةِ معروفٌ، والذي عندي أنه إذا علم خروجُ روحَيْهما في لحظةٍ واحدةٍ بدون تقدُّمٍ ولا تأخُّرٍ أصلاً فلا توارُثَ بينَهما، بل ميراثُ كلِ واحد منهما لورثتِهِ الأحياء، وإن لم يُعْلَمْ ذلك، بل الْتَبَسَ فالواجبُ أن يكون العملُ فيهما كالعملِ في الغرقاء والهدماء حسبما هو مذكور في علم المواريثِ، فيجب تقدير موتِ كلِّ واحد منهما عن ورثتِه الأحياء والأمواتِ، ثم عن ورثتهِ الأحياء فقط، ثم يفرضُ موتُ كلِّ واحد منهما عن النصيبِ الذي ورثَه من الآخرِ، هذا أرجحُ ما يقالُ في مثل ذلك، وبه يحصل الوفاءُ بما شرعهُ الله ـ سبحانه ـ من التوريثِ والسلامةِ عن الوقوعِ في الوعيد الواردِ في من قطع ميراث وارثٍ. والكلامُ في مثل هذا فقد استوفاه علماءُ الفراضِ في مؤلَّفاتهم. (1)
_________
(1) قال ابن قدامة في (المغني) (9/ 170 ـ 171): وجملةُ ذلك أن المتوارثين إذا ماتا، فجهل أوَّلهما موتًا، فإن أحمد قال: اذهب إلى قول عمر، وعلى وشريح وإبراهيم والشَّعبيِّ: يرث بعضهم من بعض، يعني من تلادِ ماله دون طارفه وهو ما ورثه من حيث معه. وهذا وقل من ذكره الإمام أحمد، وهو قول إياس بن عبد المزنيِّ، وعطاء، والحسن، وحميد الأعرج، وعبد الله بن عتبة وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وشريك ويحيى بن آدم وإسحاق، وحكى ذلك عن ابن مسعود.
قال الشعبي: وقع الطاعون بالشام عام عمواس، فجعل أهل البيت يموتون عن آخرهم، فكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه فكتب عمر: أنْ ورِّثوا بعضهم من بعض.
وروي عن أبي بكر الصديق وزيد، وابن عباس، ومعاذ، والحسين بن علي رضي الله عنهم آنّهم لم يورِّثوا بعضهم من بعض، وجعلوا لكل واحدٍ للأحياء من ورثته. وبه قال عمر بن عبد العزيز، وأبو الزِّناد، والزُّهري، والأوزاعي، ومالك، والشافعي رضي الله عنهم، وأبو حنيفة، وأصحابه، ويروى ذلك عن عمر، والحسن البصري وراشد بن سعد وحكيم بن عمير وعبد الرحمن بن عون. وروي عن أحمد ما يدلُّ عليه. انظر مزيد تفصيل (المغني) (9/ 171). وإذا علم خروج روحهما معًا في حال واحدة، لم يرث أحدهما صاحبه وورث كل واحدٍ الأحياء من ورثته لأنَّ توريثه مشروط بحياته بعده، وقد علم انتفاء ذلك. انظر: المصدر السابق.(12/6247)
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ ...
السؤال التاسع: ماذا يقول القاضي في قول الصرفيينَ: وأبي يأبي شاذٌ وتقسيمُ الشاذِّ إلى ما هو موافقٌ للاستعمال ومخالفٌ للقياس، كمسجدٍ مقبولٍ، وبفتح الجيم عكسُه [14] مقبولٌ، وما خالفهما معًا مردودٌ، هل هذه القاعدةُ محرَّرةٌ أو هي لم تتضحْ إلى الآن ... ؟
أقول: قد ذكر علماءُ الصرف أن الشاذَّ ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شاذٌّ مخالفٌ للقياس وهو مقبولٌ وشاذٌّ مخالفٌ للاستعمالِ وهو أيضًا مقبولٌ، وشاذ مخالف لهما وهو مردودٌ وهذه القاعدةُ محرَّرةٌ مقرَّرةٌ، ولها أمثلةٌ معروفةٌ في علم الصرفِ. وقد ذكرهما علماءُ المعاني استطرادًا، والكلام فيها معروفٍ. وقد نظمها بعضُ أهل العلم بأبياتٍ أولُها:
يشذُّ ما خالفَ القياسَ وإن ... كان كثيرَ الورودِ في الكَلِمِ(12/6249)
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ ...
السؤال العاشر: هل الكذب على العلماء العاملينَ كالكذبِ عليه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أم لا؟
أقول: قد ثبتَ عن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال: «إنَّ كذبًا عليَّ ليس ككذبٍ على أحدكم، إنَّه من كذبَ عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار». (1)
فأفاد هذا أن الكذبَ على رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ ليس كالكذب على غيره من غيرِ فرقٍ بين العلماء العاملينَ وغيرِهم، فحاصلُهُ أن الكذبَ من أعظم الذنوبِ وأشدِّها، ومن الكبائرِ العظيمةِ، ولكنه على رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم أشدُّ، وعقابه أعظم وفي هذا المقدار كفاية والله وليُّ الهداية .... .
حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1291)، ومسلم رقم (4/ 4) من حديث المغيرة.(12/6250)
(211) 30/ 5
فَتْحُ الخَلاَّقِ في جواب مسائل الشيخ العلامة عبد الرزاق الهندي
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/6251)
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: فَتْحُ الخَلاَّقِ في جواب مسائل الشيخ العلامة.
2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك ......
4 ـ آخر الرسالة: سبحانه ربك ربِّ العزة عمِّا يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد
6 ـ عدد الصفحات: 31 + صفحة العنوان.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 20 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 10+ 11 كلمة.
9 ــ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/6253)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك، سيد الأنام، وعلى آله الكرام، وصحبه الفخام. يا فتاح، يا عليم، افتح لنا أبواب الهداية، وافتح علينا بفهم ما استصعبَ من علوم الدراية والرواية، إنَّه لا خيرَ إلاَّ خيرُك، ولا يهب المعارفَ الحقةَ على الحقيقةِ غيرُك، وبعدُ:
فيقول الحقير الجاني محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله له ذنوبه، وستر عن عيون العباد عيوبه ـ وأنه ورد عليَّ، ووفد إلىَّ من الشيخ المحقق العلامة المدقق الفهامة، المتحلِّي من المعارف بما دقَّ وفاق، ورقَّ وراق، الفاضلِ عبد الرزاق، وهو الهنديُّ المستوطن دلّي ـ غفر الله له ولي ـ هذه المسائلُ الرشيقة، والمباحث الأنيقة الدقيقة. وها أنا أذكرها لك بنصِّها، واكتبها بلفظها وفصها، ثم أذكر ما ظهر لي من جوابها مسألةً مسألةً، وبالله الاستعانةُ على فك أقفال كلِّ معضلة ومشكلةِ، قال ـ كثر الله فرائد فوائده ـ ومدَّ على الطُّلاب فوائد فرائده ـ:
مسألة: ما قضية نتجتْ غيرَ مكررة الحد الأوسط، وما الشكل الأول ينفي الصغرى فأنتج وإيجابها مشرّط؟
مسألة: وما اقتراني كالاستثناءِ، وهما نقيضان.
مسألة: وما قضايا حوتْ ثلاثةَ الآلفِ في الحسبان، وما شكل ثانٍ اتفقت مقدمتاهُ إيجابًا وسلبًا، فأنتج دون ما عداهُ.
مسألة: ما بين الصورة الجسمية [1أ]، والصورة النوعيّة من أنواع التقابل الحكمية.
مسألة: وما بين العارضِ والعرضِ من النسبِ الأربع قد عرض، فإن قلتم يتساويان قلنا يتغاير الحدَّان، وإنْ قلتم نقيضان، قلنا يرتفعانِ، وإن قلتم غير ذلك فعليكم البيان.
مسألة وما بين الكمال الأول والثاني من هذه النسبِ، وهل السؤالُ عنها بما أو بأيّ قد وجب.(12/6257)
مسألة وما شيءٌ لا من وجود ولا معدوم، ولا كلِّي ولا جزئي، ولا خاصٍّ ولا عامٍّ. وهل يدخل في مسمَّي الشيء؟ وهل يحسن السؤال عنه بأيِّ؟ وهل معنى لا شيء ولا موجود متَّحدٌ؟ وهل التلازم بين الوجود والشيئية من الأمور الخارجيَّة أو الذهنية، أو لا ملازمة أصلاً؟ وما بين اللاشيء واللاموجود من التقابل حكمًا.
مسألة: قالوا: في قام زيد خمسةٌ وعشرون وجهًا فانعموا بالقيد. مسألة قول الشاعر:
لا يألف الدرهمُ المضروبُ صُرَّتَنا ... لكن يمرُّ عليها وهم منطلقُ
لم آثر لفظ يألفُ على غيره من الألفاظ التي تولفُ، وَلِمَ أتى بالدرهم دون الدينارِ؟ وبلا دونَ ما، ولِمَ اختار التعريفَ على التنكير، والإفراد على جمع التكسير؟ ولم وصَفَه بالمضروب؟ هل فائدة أوقع في القلوب؟ ولم أختار لفظ الصَّرة على ما يقوم مقامَها؟ بيِّنوا سرَّهُ. ولم قدَّم لفظ المرور على ما يرادفُه بما على الألسنة يدور؟ ولمَ جاء به مضارعًا دون ماضٍ؟ وهل زمانه الحالُ، أو الاستقبال، أو الاستمرار؟ وما عليها من الاعتراض. وهل المرور الانطلاق؟ فكيف قيَّده به؟ وتقييد الشيء بنفسه منعه الاتفاق، وهل يصح الاستشهاد بهذا البيت للحشو والتطويل والإيماء؟ وأين موضع كُلّ يا نبيلُ [1ب].
مسألة: هل الإعراب والبناء نقيضان؟ فإن قلتم: نعم. قلنا: يرتفعانِ. وإنْ قلتم: لا. فما بينَهما عند ذوي الشأن، وهل لهما عارضان أو عَرَضَان؟
مسألة: أي خبر مشتق استكنَّ فيه ثلاثةُ ضمائرَ وخبرينِ مشتقَّين ليس فيهما إلاَّ ضميرُ دائرة.
مسألة: ما مبتدأ رفعتُه حال.
مسألة: إذا بنيت من آي على مختال كيف تجمعُه جمعَ السلامةِ. وتصغِّره. وتكسِّره وترخِّمُهُ على القاعدة المقامةِ؟
مسألة: ما حرف ناب عن حرف حذف فنابَ عن ذلك النائبِ اسمٌ ربما عرف(12/6258)
فعرف؟
مسألة إذا سمَّيتَ بلا كيف تثنيه، وكيف تجمعه، وكيف تكسره، وكيف ترخمه منادي، وتصغره؟
مسألة ما به اسمٌ عوضٌ عن نون التثنية في غير الإضافةِ العادية. مسألة: ما حدُّ علةِ الفرق، وعلة الاستغناء، وعلة التوكيد، وعلَّة النقيض، وعلَّة حمل المعنى على المعنى؟ وما علَّة القرب، وما علَّة الوجوب، وما علة المعادلة، وما علة الجواز، وما علة الأصل، وما علة التعليل، وما علَّة المشاكلة؟. وما مثالِ كلٍّ من هذه العلل عند النحاة؟ فأنعموا بالمثل، وما حدُّ العلَّة، وما رسْمُه، وما مثالُه؟ وهل يجوز التعليلُ بالعلَّة القاصرةِ، وما مثاله، وما فساد الاعتبار في علم العربيّة، ومتى تعارض شاذ ولغة ضعيفةٌ، فهل ارتكابُ الضعيف أولى أو لا؟ والله أعلم. تفضَّلوا بتحرير الجواب، ولكم جزيل الثواب انتهى السؤال.
قال المجيب ـ أمدَّ الله أيامه، ونشر بمناهج التحقيق أعلامَه ـ[2أ] وقبل تحرير الجواب تقدم مقدمةً مشتملةً على فوائدَ يزدادُ بها الواقفُ على هذه الأسئلةِ وأجوبتها بصيرة، وينتفع بها فيها انتفاعًا تامًّا.
الفائدة الأولى: اعلم أنَّ المسائل التي يوردها السائل على طريقة التعميةِ والألغاز (1)
_________
(1) الألغاز قصدتها العرب وألغازٌ قصدتها أئمة اللغة، وأبيات لم تقصد العرب الإلغاز بها، وإنما قالتها فصادف أن تكون ألغازًا وهي نوعان:
فإنّها تارة يقع الإلغاز بها من حيث معانيها، وأكثر أبيات المعاني من هذا النوع وقد ألف ابن قتيبة في هذا النوع مجلدًا حسنًا. وكذلك ألف غيره. وإنما سموا هذا النوع أبيات المعاني لأنها تحتاج إلى أن يسأل عن معانيها ولا تفهم من أول وهلة. وتارة يقع الإلغاز بها من حيث اللفظ والتركيب والإعراب. انظر (المزهر في علوم اللغة وأنواعها) للسيوطي (1/ 578).
وقال السيوطي في (الأشباه والنظائر) (1/ 7) واللغز النحوي قسمان:
أحدهما: ما يطلب به تفسير المعنى والآخر ما يطلب به وجه الإعراب. ?
واللُّغز: هو أن يكون للكلام ظاهر عجب لا يمكن وباطن ممكن غير عجب.
واشتقاق اللغز من: ألغز اليربوع ولغَزَ إذا جفر لنفسه مستقيمًا ثم أخذ يمنة ويسرة. يورِّ بذلك ويُعمِّي على طالبه.
قال الخفاجي: إن قيل: فما تقولون في الكلام الذي وضع لغزًا، وقصد ذلك فيه؟ قيل: إن الموضوع على وجه الإلغاز قد قصد قائله إغماض المعنى وإخفاءه، وجعل ذلك فنًّا من الفنون التي يستخرج بها أفهام الناس، وتمتحن أذهانهم، فلما كان وضعه على خلاف وضع الكلام في الأصل كان القول فيه مخالفًا لقولنا في فصيح الكلام. حتى صار يحسن فيه ما كان ظاهره يدل على التناقض، أو ما جرى مجرى ذلك، كما قال بعضهم في الشَّمع:
تحيا إذا ما رؤوسها قطعت ... وهنَّ في الليل أنجم زُهرُ
وقال صاحب البرهان: وأما اللغز: هو قول استعمل فيه اللفظ المتشابه طلبًا للمعاياة والمحاجاة.
والفائدة في ذلك في العلوم الدنيوية، رياضة الفكر في تصحيح المعاني، وإخراجها من المناقضة والفساد إلى معنى الصواب والحق، وقدح الفطنة في ذلك، أو استنجاد الرأي في استخراجه. انظر: (معجم البلاغة العربية) (ص622 ـ 623).(12/6259)
ليس المعتبرُ في حلِّها إلا ما يصلُح أن يكون حلا لها على الوجه المعتبر، سواءً كان ذلك هو الذي قصدَه المورِدُ لها أو غيره، مما يتجلى به إشكالُها، ويتضح عنده إعضالُها، وينفتح لديه مُغْلَقُها. ومن زعم أنه لا يتمُّ الحلُّ، ولا تتضح التعميَّة إلاَّ بالتنصيص على الصورة التي أرادها من جاء بالتعميةِ فقد ركبَ أبعد الشططِ، وغلط أقبحَ الغلطِ. وإذا تقرر لك هذا علمت أنه ليس على المسؤولِ، فالمسائل الواردة على تلك الصورة إلاَّ مجرَّد تخريجها على وجهٍ صحيح، فإن تمَّ له ذلك فقد أصاب في الجواب، وعلى السائل التسليمُ، وإن لم يكنِ الحلُّ بعين تلك الصورة التي قصدها فإن زعم أن ذلك التخريجَ مختلٌّ بوجه من وجوه الاختلال فعليه أولاً إيضاحُ مُعَمَّاهُ، وتقريرُ انطباقهِ على تلك الصورة التي قصدها دون غيرها، وليس له أن يمنعَ منعًا مجردًا، وعليه ثانيًا بيانُ وجه الخللِ في ذلك التخريج الذي جاء به المجيب.
الفائدة الثانية: إنَّ عدم فهم المسألة الواردةِ على طريق التعميةِ لا يستلزم عدمَ فهم نفس تلك المسألةِ لو وردتْ بغير ذلك العنوانِ، وعلى غير تلك الصور، بل المعتبرُ في(12/6260)
تحقيق العلوم، وتدقيق المعارف أن يكون العالمُ عارفًا بالمسائل، [2ب] قادرًا على استخراج الدلائل، متمكنًا من استحضارها على الوجهِ الذي دُوِّنت عليه في العلوم، ولا يلزمه أنْ يفهمَها إذا غُيِّرتْ تغييرًا خرجت به عن الطريقة المألوفة، وخالفت بسببه المسالكَ المعروفةَ. فإنَّ ذلك لا يقدحُ في علم العالِمِ بلا خلاف. ومن أنكر هذا فقد أنكر الأمرَ الواضح البيِّنَ، وما سبيل هذه المسائل التي أوردَهَا السائل ـ كثر الله فوائده ـ إلاَّ سبيلَ ما أورده أذكياء أهل الفنون في فنونهم على اختلافها من المسائل المعمَّاة في كل فن، بحسب ما يتعارفه أهلُه، ويدور بينهم في مجامعهم، فإنَّ ذلك قد يخفي على أكثرهم تدقيقًا، وأكملِهم تحقيقًا. فإذا انكشف وجهُ التعمية وجد ذلك من أصغر ما يعرفه، وأوضح ما يقومُ بتحريره وتقريره، ويلتحق برياضة أذهانِ الطلبةِ بالتعمية في مسائل العلوم ما يعقدُ من التعمية تارةً بالنظم، وتارةً بالنَّثر في أمور معروفة مألوفة. صارت بإيرادها على ذلك الوجهِ مما يصعُب حلُّه، ويبعدُ فهمُهُ، وكثيرًا ما يقع ذلك بين المشتغلين بالأمور الأدبيَّة، والمحاضرات المجلسيَّة. فإذا ظهر وجهها، وحصل حلُّها ظهر عند ذلك أن ذلك المعمَّى الذي تقاصرت الأذهان عن حلِّه، وتعبت في استخراجه في شيء يعرفُه كلُّ أحدٍ.
الفائدة الثالثة: أنَّ مسائل التعمية إذا كان كشفُها وحلُّ ألغازِها بما يشابهها في التغطية. ويناسبها في الوجه الذي وردت عليه، وعلى تلك الصورة التي جاءت بها كان ذلك حَسَنًا مقبولاً، مشتملاً على زيادة فائدةٍ، وهي شَحْذُ ذهن الواقفِ على الجواب [3أ]، وتحديدُ فهمه، وتقوية إدراكِهن وتصيفة صورة تصوُّره، وربما نسلك في بعض هذه الأجوبةِ هذا المسلكَ، ونمشي على هذه الطريقة التي مشَاها السائل ـ كثر الله فوائده ـ.
الفائدة الرابعة: قد كان رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يكره كثرةَ السائل، ولما أكثروا عليه في بعض المواطن غضبَ، ثم طلب منهم أنْ يسألوه، وتقاضَاهم ذلك غيرَ مرَّة حتى قال بعضُهم: مَنْ أبي يا رسول الله؟ فقال: أبوك فلان، ثم(12/6261)
كرر الطلبَ لهم مغضَبًا، فقام عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقال: رضينا بالله ربًّا، والإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولاً، فسكن. والحديث في الصحيح. (1)
وقد ورد في حديث صحيح تعليلُ كراهةِ كثرةِ المسائلِ بأنْ يتسبَّبب السائلُ لإيجاب حكم لم يجب وإثبات شرع لم يثبتْ.
وأفاد ذلك جوازَ المسائل التي لا تستلزمُ مثلَ ذلك، بل جوازَ ما لم يتعلق بأمر الدين منها، ويؤيد ذلك حديثُ ابن عمر الثابت في الصحيح، الذي ترجم عليه البخاري بقوله: باب طرحِ المسألةِ.
وقد كان كثيرٌ من السلف يكرهون المسائلَ التي هي من نوع الأغلوطاتِ، ومن جنس ما لم يكن للناس إليه حاجةٌ.
وقد كان كثير منهم لا يجيبُ في مثل ذلك، ولا يلتفت إليه.
وأمَّا علماء المعقول فقد استكثروا من ذلك، ووضعوا له مؤلَّفات مستقلةً، فإن أرسطا طاليس (2) صنَّف كتابًا مستقلاً في بيان الأمور التي يُقْصَدُ بها التمويهُ، وذكر جميع
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4621)، ومسلم رقم (134/ 2359) من حديث أنس بن مالك قال: بلغ النبي صلي الله عليه وسلم عن أصحابه شيءٌ فخطب فقال: «عرضت على الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً وبكيتم كثيرًا» قال فما أتي على أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم أشدّ منه، قال: غطوا رءوسهم ولهم خنينٌ، قال: فقام عمر فقال: رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا. قال: فقام ذاك الرجل فقال: من أبي؟ فقال: (أبوك فلان) فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}.
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (92)، ومسلم رقم (138/ 2360) عن أبي موسى قال: سُئل النبي صلي الله عليه وسلم عن أشياء كرهها. فلمَّا أُكثر عليه غَضِبَ. ثم قال للناس: «سلوني عم شئتم» فقال رجل: من أبي؟ قال: «أبوك حذافةٌ» فقام آخر فقال: من أبي؟ يا رسول الله، قال: «أبوك سالم مولى شيبة» فلما رأى عمر ما في وجه رسول الله صلي الله عليه وسلم من الغضب قال: يا رسول الله إنّا نتوب إلى الله.
(2) أرسطاليس: ومعناه محب الحكمة، ويقال الفاضل الكامل. وهو أرسطاليس بن نيقوماخس بن ماخامرون. ومن ولد اسقليبادس الذي اخترع الطب لليونانيين. وكان اسم أمه افسيطياء، وترجع إلىاسقلبيادس، وكان من مدينة لليونانيين تسمى اسطاغاريا. وكان أبوه نيقوماخس مطببًا لفيلبس أبي الأسكندر. وهو من تلاميذ أفلاطون ـ عاش ما بين (382 ـ 322 ق. م).
من مصنفاته: الجدل. العبارة أو التفسير. السماء والعالم ..
انظر: (الفهرست) لابن النديم (ص347)، (تاريخ الفلسفة اليونانية) (ص179) ليوسف كرم.(12/6262)
ما يوضِّح الأقاويلَ التي يستعملُها المموهون، وبأيِّ الأشياء تُفْتَتَحُ، وكيف يتحرر الإنسان منها، ومن أين تقع المغالطةُ [3ب] في المطويَّاتِ، وسمَّى هذا الكتابُ سوفسطيقا (1) ومعناه الحكمة المموّهة. وصنف كتابًا آخَرَ في كيفية السؤالِ الجدلي، والجواب الجدلي، وسمَّاه طويبقًا، (2) ومعناه بالعربية المواضعُ الجدليَّة، وصنف كتابًا ثالثًا في الأقوال التي يمتحى بها، وسمَّاه أنا لوطيقنا، (3) ومعناه بالعربية كتاب البرهان.
بسم الله أشرع الآن في الجواب، مستعينًا بفاتح مُغْلَقَاتِ الأبواب.
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ: ما قضية نتجت غيرَ مكررةِ الحدِّ الأوسط.
أقول: القضية هي التي يصحُّ أن يقال لقائلها أنه صادقٌ أو كاذبٌ، كما صرَّح به المحقق الشريفُ في التعريفات، (4) وهي التي يقول فيها أهلُ النحو والبيانِ أنها ما احتملت الصدقَ والكذبَ، فإن كان المرادُ بالنتيجةِ التي ذكرها السائل هي ما تستلزمهُ تلك القضية
_________
(1) نقله ابن ناعمة وأبو بشر متى إلى السرياني، ونقله يحيي بن عدي من تيوفيلي إلى العربي، وللكندي تفسير لهذا الكتاب. (الفهرس) لابن النديم (ص349).
(2) وللفارابي تفسير هذا الكتاب، نقل إسحاق هذا الكتاب إلى السرياني ونقل يحيى بن عدي الذي نقله إسحاق إلى العربي ونقل الدمشق منه سبع مقالات.
(الفهرست) لابن النديم (ص349).
(3) نقله ثيادورس إلى العربي، وللكندي تفسير لهذا الكتاب.
(الفهرست) لابن النديم (ص348).
(4) (ص183 ـ 184) للشريف الجرجاني.(12/6263)
فقد لزم عنها لذاتِها قولٌ آخَرُ، وهو عكسُها، وعكس نَقِيْضِها. وإن كان المراد النتيجة التي تلزم القولَ المؤلِّف من قضايا فجوابه مبين في القضايا التي قياساتُها معها، وما يشابها. فإنَّ قولنا: الأربعةُ زوجٌ نتجت، ولم يتكرر فيها الأوسط، لأنَّ الأوسط هنا معلومٌ لكل من يعلم أنَّ الأربعة عدد منقسمٌ بمتساويينِ، وكلُّ عدد منقسم بمتساويينِ زوجٌ، فالأربعة زوج. فهذه قضية نتجت غَيْرَ مكررةِ الحدِّ الأوسط، ويمكن الحلُّ بقياس المساواةِ على ما رجَّحهُ صاحب المطالع، ثم نقول له على طريقة المشاكلةِ لسؤاله: والمماثلة لمنواله [4أ] ما قضية نتجتْ وليس فيها من الشروط المعتبرةِ. وأخرى لم تنتج مع كمال شروطها المعتبرة.
ثم نقول له أيضًا: ما قضيّةٌ صحَّ فيها أن تكون موجهةً بجهتين متناقضتينِ، وصدقتا لكن بنوع من العنايةِ ترتفع عنده العماية. وما قضيّةٌ صدقتْ موجبةً وسالبةً، وما قضيّة خبريةٌ ليست بصادقة ولا كاذبة.
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ: وما الشكل الأول ينفي الصغرى فأنتج وإيجابها يشترط.
أقول: ينظر السائل جوابه في بحث المعدولاتِ، فإنه عند ذلك يظفر بالمطلوب، وفي المشروطة الخاصَّة، والعُرفيَّة الخاصَّة، والوجودية اللاضرورية، والوجودية اللاذعة ما يغني عن التطويل، ويقتضي الاكتفاءَ بالحلِّ في هذا الكلام القليل على أنه إذا جعلَ موضوع الكبرى ما سلبَ عن الأوسط في الصغرى السالبةِ كان الإنتاج متحقِّقًا، والقياس من الشكل الأول كما صرَّح به السعدُ، ثم نقول له: وما شكل أنتج وصغراهُ منفيَّةٌ وكبراه ليست بكليَّةٍ.
قال السائل ـ عافاه الله ـ مسألة وما اقترافي كالاستثنائي وهما نقيضان.
أقول: إنْ أراد المشابهةَ بينهما في وجهٍ من الوجوه، وعلى حالةٍ من الحالات، ولو بمجرد التألُّف منهما، والصحبة بينهما، فجوابُه مبينٌ في قياس الحلفِ، وإنْ أراد المشابهةَ بينهما في بعض الوجوه ففي مباحث المركَّباتِ ما يرشدُ إلى الحلِّ على بعض الحالات،(12/6264)
وإن أراد المشابهةَ في كل الوجوه ففي صور الاعتبارات، ووجوه عدم تزاحُمِ المقتضياتِ ما يوضَّحُ له هذه [4ب] المقامات، ثم نقول: ما وجه الحصر في النوعين؟ وأي دليل على عدم وجود ثالث للقسمين؟ فإن قال: من العقل، فما هو؟ وإن كان من استقراء أقسام الكلام فأين هو؟
قال: مسألة: وما قضايا حوتْ ثلاثةَ الآلفِ في الحسبانِ.
أقول: لما أطلق القضايا ولم يبينْ لها عددًا، ولا أوضح لها مدَدًا لم يمتنع أن يقال أنَّ هذه القضايا مساويةٌ لما حوتْ مساواةً يطيحُ عندها الإشكالُ، ويطير ببيانها طائرُ الإعضالِ، أو مساوية لمخرج من مخارجها القريبةِ أو البعيدة، مع تكثُّر وجوه الحاوي وتنوُّعه إلى المقدارِ المساوي، ثم نقول على مقتضى هذا الإهمال، ما قضيةٌ واحدة صحيحة القاعدةِ حوتْ ما لا ينحصرُ في الحسبان؟ وما أخرى حوت بالاجتلابِ ألفَ ألفِ ألفِ ثلاثَ مرَّاتٍ؟
قال: وما شكل ثانٍ اتفقت مقدِّمتاه إيجابًا وسلبًا فأنتج دون ما عداه؟ أقول: جواب هذا السؤال قد أرشدْنا إليه فيما سبق، فإنْ أراد السائل مزيدَ الإيضاح ففي تركيبه من كبرى ممكنةٍ خاصَّة مع صغرى اللاضروريةِ يحصلُ الحلُّ، ويتبيَّن به الدٌّقُّ والجُلُّ، ولكن في قوله دون ما عداهُ تساهلٌ لا يرضاه.
ثم نقول له: ما شكل ثانٍ لم يحصلْ ما هو معتبرٌ فيه من دوام صغراهُ، ولا انعكاس سالبة كبراه، أنتج قولاً صحيحًا، واستلزم لذاتِه دليلاً رجيحًا، ثم ما شكل ثالث أنتج مع عدم إيجاب صغراهُ، وما شكل رابع أنتج مع عدم إيجاب كبراه؟
قال: مسألة ما بين الصورة الجسميَّة، والصورة النوعية [5أ] من أنواع التقابل الحكميَّة.
أقول: يتضح الجواب بذكر مفهومي الصورتين، ومفهوم التقابل.
أمَّا الصورة الجسميَّةُ فهي جوهر متصلٌ غيرُ بسيط، لا وجودَ لمحلِّه دونَه، قابل للأبعاد الثلاثة، والصورة النوعيَّة جوهر بسيطٌ لا يتمُّ وجودُه بالفعل دون وجود ما حلَّ(12/6265)
فيه، وأمَّا التقابلاتُ فهما اللَّذان لا يجتمعانِ في شيء واحد من جهة واحدة، وأقسامه أربعة:
أحدها: الضدَّان، وهما الموجودانِ غير المتضايقينِ كالسواد والبياض. (1)
وثانيهما: المتضايقان وهما موجودان يُعْقَلُ كلٌّ واحد منهما بالنسبة إلى الآخر كالأُبوَّة والنبوَّة. (2)
وثالثها: المتقابلانِ بالعدم والملَكَةِ، وهما أمران يكون أحدُهما وجوديًّا، والآخر عدميًّا، لكن لا مطلقًا بل يعتبرُ منهما موضوعٌ قابلٌ لذلك الموجود، بل الوجودي كالبصرِ والعمى، والعلمِ والجهلِ. (3)
ورابعها: المتقابلانِ بالسَّلْبِ والإيجابِ كالفرسيةِ والأفرسيَّة (4) إذا عرفت هذا، وتقرَّر لديك قيدُ البساطةِ في إحدى الصورتينِ وعدمِها في الأخرى علمتَ أن تقابُلَ المقام من النوع الأول من تلك الأقسامِ، وعلى تقدير البساطة فيهما كما قاله البعض يكون توقُّفُ المحلِّ على الحال في الأولى، وتوقُّفُ الحال على المحلِّ في الثانية، مماله مدخل في ذلك التقابُلِ لما تقرر من استلزام تنافي اللوازمِ لتنافي الملزوماتِ، ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: كم عدد ما يطلق عليه اسمُ الصورةِ عند أهل الفنِّ؟ وهل يصحُّ وجود تقابل غيرِ الأربعةِ المذكور لا يصدق عليه مفهومٌ واحد منها؟ فإن قال نعم فما هو؟ وإن قال لا فما وجه الحصر؟ [5ب] ثم هل تنحصرُ الموجوداتُ في الجواهر والأعراض، أو ثَمَّ
_________
(1) هو مقابلة الشيء بضده: قال تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} ألا ترى صحة هذه المقابلة البديعة حيث قابل الضحك بالبكاء. والقليل بالكثير.
(معجم البلاغة العربية) (ص535)، (جواهر البلاغة) (ص291).
(2) انظر: (معجم البلاغة العربية) (ص367).
(3) بناء على أن العجز نفي القدرة عمَّن من شأنه الاتصاف بالقدرة.
(معجم البلاغة العربية) (ص367).
(4) انظر: (معجم البلاغة العربية) (ص279)، (جواهر البلاغة) (ص292).(12/6266)
واسطةٌ بينهما لا يصدقُ عليها مفهوم أحدهما، ولا يندرج تحتَ واحد منهما؟ ولهذا السؤال تعلّق كاملٌ بتحقيق ما سأل عنه السائل.
قال: مسالة: وما بين العارض والعَرَضِ من النِّسبِ الأربع قد عرضَ، فإن قلتم يتساويانِ قلنا تغايَرَ الحدَّانِ، وإن قلتما هما نقيضانِ قلنا: يرتفعانِ، وإن قلتم غيرَ ذلك فعليكم البيانُ.
أقول: العارض أعمَّ من العَرَضِ، إذ يقال للجوهر عارضٌ كالصورة تعرضُ على للهيولَى، (1) ولا يقال لها عرضٌ، صرَّح بذلك المحققُ الشريف، (2) فعرفت أنَّ بينهما عمومًا مطلقًا لصدق العارضِ على الصورة، فإنها عارض للهيولى، وليست بعرض، لأنها من قبيل الجوهر، لكن في قوله: وإنْ قلتُم نقيضانِ قلنا يرتفعان تسامحَ في العبارة، فإنَّ التناقُضَ من النسبِ الأربعِ، إلاَّ أن يريد التبايُن على ما فيه من الخلل، فإنَّ الارتفاعَ لا يمنعُ من التباين، والتباين لا يمنع من الارتفاع، ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: هل يمكن وجود نسبة خامسةٍ؟ فإنْ قال: نعم فما هي؟ وإنْ قال لا فما وجه الحصر؟ ونقول له أيضًا: إذا كان العارض هو المحمولَ على الشيء الخارجَ عنه، فما النسبة بين العارض والمعروض؟ وما النسبة بين العرض الموجود والعرض اللازم؟ وما النسبة بين كل واحد منهما، وبين العرض المفارقِ؟ (3)
قال: مسألة: وما بين الكمال الأول والثاني من هذه النسبِ، وهل السؤال عنها بما أو بأيّ قد وجب؟
_________
(1) كلمة يونانية الأصل، ويراد بها المادة الأولى، وهو كل ما يقبل الصورة وترجع إلى أرسطو، ثم أخذها المدرسون من بعده.
(المعجم الفلسفي) (ص208).
(2) في (التعريفات) (ص139).
(3) انظر: (الكوكب المنير) (1/ 33 ـ 35).
(بغية المرتاد) لابن تيمية (ص 413 ـ 417).(12/6267)
أقول: قال المحقق الشريف (1) وغيره [6أ]: الكمال ما يكملُ به النوعُ في ذاته، أو في صفاته. والأول هو الكمال الأول ليقدمه على النوع، والثاني هو الكمال الثاني لتأخُّره عنه، ووجه تسميّة ما يكملُ به النوعُ في ذاته كمالاً أو لا، فما يكمل به في صفاته كمالاً ثانيًا أنَّ كمال الشيء في صفاتِه متوقِّفٌ على كماله في ذاته، والصفة متأخرة عن الموصوف، وإذا تقوَّى لك هذا، وعلمتَ أنَّ عدم اجتماعِ اللوازِم يستلزمُ عدمَ اجتماع الملزوماتِ عرفتَ أنَّ النسبةَ بينَهما التبايُنُ، وعرفت أيضًا أنه يصحُّ السؤالُ في كل واحد منهما بأيٍّ إذا كان المطلوبُ شرحَ ماهِيَّتهما، ويصح أيضًا السؤالُ في كل واحد منهما بأيِّ إذا كان المطلوبُ تمييزهَ عن المشاركاتِ له، ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: هل الكمالُ الأول متَّحدٌ أو متعددٌ؟ وعلى تقدير التعدُّد هل تلك الأمور المتعددةُ متفاوتةٌ أو متوافقةٌ؟ وهل هي من باب التواطؤ أم من قسم التشكيك؟ وهكذا يقال في السؤال عن الكمال الثاني، ثم يقال أيضًا: هل ثَمَّ كمالٌ ثالثٌ خارجٌ عن الكمالين؟ فإنَّ الوهب الذي لا تحصلُه الذات، ولا تكتسبه الصفاتُ لا يصحُّ أن يقال فيه أنه من الكمال الأول، ولا من الكمال الثاني، فإن كان كمالاً ثالثًا فما وجهُ الاقتصار على كمالين؟ وما النسبة بينَه وبين كل واحد من الكمالينِ؟ وإن كان داخلاً فيهما أو في أحدهما فعليكم ببيان تحقيقِ الدخولِ، وإن كان ذلك مما يبعدُ إليه الوصولُ.
قال: مسألة: وما شيء لا موجودٌ، ولا معدومٌ، ولا كليَّ، ولا جزئي، [6ب] ولا خاصٌّ، ولا عام؟ وهل يدخل في مسمَّى الشيء؟ وهل يحسنُ السؤال عنه بأيِّ؟ وهل معنى لا شيء ولا موجود متحدٌ، وهل التلازمُ بين الوجودية والشيئية من الأمور الخارجية أو الذهنية؟ أولا ملازمةَ أصلاً؟ وما بين اللاشيء واللاموجود من التقابل حكمًا؟
أقول: قد أثبت القاضي أبو بكر الباقلاني، وأبو هاشم المعتزلي وإمام الحرمين
_________
(1) في (التعريفات) (ص196).(12/6268)
الجويني واسطةً بين الوجود والعدمِ، وهو الحال، وأوَّل من قام به أبو هاشم.
ولذا يقال حالُ البهشمي (1) فالحال على هذا القول لا موجودٌ ولا معدومٌ، وذهب الجمهور إلى أنه لا واسطةَ بين الموجود والمعدوم، لأنَّ الموجود ما له تحقٌّقٌ، والمعدوم ما ليس له كذلكَ، ولا واسطة بين النفي والإثباتِ في شيء من المفهومات ضرورةً واتفاقًا. والبحث في هذا يطول فليرجعِ السائلُ إلى المواقف العضُدية وشرحِها، والمقاصِدِ السعديةِ وشرحها، وإلى التجريد وشرحِهِ، ففي ذلك ما يغني عن التطويلِ، (2) وأمَّا كون الشيء لا يكون كليًّا ولا جزئيًا فقد تقرر أنَّ الكليةَ والجزئيةً من صفات المفاهيمِ العقليةِ، فالموجوداتُ الخارجية لا تتصف بأحد الوصفينِ، وهكذا يقال في جواب قوله: ولا عامٌّ
_________
(1) قال أبو هاشم الجبائي أن الباري تعالى عالم بذاته بمعني أنّه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتًا موجودًا. وإنما تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها. فأثبت أحوالاً هي صفات لا موجودة ولا معدومة، ولا معلومة ولا مجهولة، أي هي على حالها لا تعرف كذلك بل مع الذات. قال ـ أبو هاشم ـ والعقل يدرك فرقًا ضروريًّا بين معرفة الشيء مطلقًا وبين معرفته على صفة، فليس من عرف الذات عرف كونه عالمًا، ولا من عرف الجوهر عرف كونه متحيزًا قابلاً للعرض ... ).
انظر: (الملل والنحل) (1/ 92 ـ 93).
قال الإسفراييني في (التبصير في الدين) (ص87): وكان من جهالته ـ أبو هاشم بن الجياني ـ قوله بالأحوال حتى كان يقول: إن العالم له حال يفارق به من ليس بعالم، وللقادر حال به يفارق حال العلم ثم كان يقول: إن الحال ليس بموجودة ولا معدومة ولا مجهولة وإن العالم يعلم على حالة ولا يعلم حال العالم ولا حال القادر، ولا يمكن الفرق بين حال العالم وبين حال القادر. إذ لا يعلم حال حيث قالوا: إن الصانع لا معدوم ولا موجود ولا ما من ثابت إلا وهو في الحقيقة وجود. إذ لا واسطة بين العدم والوجود، ولو ثبت بينهما واسطة لجاز أن يخرج الشيء من العدم إلى الثبوت ثم من الثبوت إلى الوجود كما جاز أن يخرج من القيام إلى القعود، ثم من القعود إلى الاضطجاع إذ القعود واسطة بين الطرفين.
(2) انظر (منهاج السنة النبوية) (1/ 269 ـ 271).
(بغية المرتاد) (ص413 ـ 417).(12/6269)
ولا خاصٌّ، فإنَّ العموم والخصوص من خصائص الكلياتِ، وهي التي يكون بينها النسبُ الأربعُ، فالموجودات الخارجية لا تتصفُ بعموم ولا خصوصٍ، ويمكن الجواب عن هذا السؤال بالماهيّةِ، فإنه ذكر الشريف في التعريفات أنها لا موجودةٌ، ولا معدومةٌ، ولا كليةٌ [7أ]، ولا جزئية، ولا عامةٌ، ولا خاصَّةٌ. ولكنَّ ما قدمنا أقربُ إلى الصواب، وأمَّا قوله: وهل يدخل في مسمَّى الشيء؟ فمن جعل الشيءَ هو الموجودَ لم يدخلْ، ومن جعله المعدومَ وهو الجاحظُ والبصريّةُ من المعتزلةِ صحَّ وصفُه بالشيئية، (1) وأمَّا على قول من قال هو للجسمِ، وقول من قال هو حقيقةٌ في الموجود، ومجازٌ في المعدوم، فالتخريج على هذه الأقوال واضحٌ لا يخفى.
وقد يجوز في الكتب الكلامية، وفي علم اللطيف بحث كون المعدومِ شيئًا أم لا، حتى قال المحقق العضُدُ من أمهاتِ المسائل الكلامية، إذ يتفرع عليها أحكام كثيرةٌ جدًّا. وبهذا يعرف جوابَ قولِه: وهل معنى لا شيءَ ولا موجودَ متحدٌ.
وأمَّا السؤال عنه بأيٍّ فيصبحُ إذا كان المطلوبُ تمييزَه عن مشاركاتهِ على القول بأنَّ له مشاركاتٍ لا على غيرهِ، وأمَّا قولُه: وهل التلازمُ بين الوجودي والشيئية من الأمور الخارجيةِ، أو الذاتية، أو لا ملازمةَ أصلاً؟ فجوابه أنَّ لفظ الشيء عند الأشاعرةِ (2) يطلق على الموجود فقط، (3) فكلُّ شيء عندهم موجود، وكل موجود شيء، هكذا حكى عنهم جماعةٌ من محققيهم، وبهذا يتقرر التلازمُ بين الوجودية والشيئيةِ، وبين الوجود
_________
(1) يعرف هذا لدى المعتزلة بشيئية المعدوم. أي أن الأشياء كانت قبل أن تخرج إلى الوجود موجودة قائمة، فالجواهر كانت جواهرًا والأعراض كانت أعراضًا. وأول من ابتدع هذه المقالة في الإسلام هو أبو عثمان الشحام شيخ أبو على الجبائي وتبعه عليها طوائف من القدرية المبتدعة ومن المعتزلة والرافضة.
(2) تقدم التعريف بهم.
(3) انظر: (مجموعة الرسائل والمسائل) لابن تيمية (1/ 19 ـ 20).(12/6270)
والشيء ذاتًا وخارجًا.
وأمَّا على قول غيرهم فمن قال أنَّ الشيء هو المعلومُ، فالشيء أعمُّ من الموجود مطلقًا لإطلاقه على الموجودِ والمعدومِ، بل على المستحيل، ومن قال هو للقديم دون الحادث جعلَه أخصَّ من الموجود مطلقًا، وهكذا تكون النسبةُ [7ب] عند من جعله للحادث وللجسمِ، قال القوشجي في شرح التجريدِ: ولهم تردّد في اتحاد مفهوم الوجودية والشيئية، بل ربما يدعى نفيَه، إذ يقال وجودُ الماهية من الفاعل، ولا يقال بشيئيتها من الفاعل، ويقال هي واجبةُ الوجودِ، وممكنة الوجود، ولا يقال هي واجبةُ الشيئيةِ، وممكنة الشيئيةِ. (1) انتهى.
وبهذا تعرف جوابَ قوله: وما بين اللاشيء واللاموجودِ من التقابل.
ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: هل المعدوماتُ متُمايزة أم لا؟ وما الحق في ذلك؟ وما الدليل عليه الذي لا تتطرَّقه الشبهةُ، ولا يَعْتَوِرُهُ التغوُّض؟ ثم على القول بالتمايز هل الأفراد من قسمِ المتواطئِ أو المشككِ، وما النسبة بينَهما؟ وهل يقال في المعدوم أنه ينقسم إلى قسمين: خارجي وذهني كما انقسم الموجودُ إليهما؟ وكيف يصح قولُهم معدوم خارجي، ومعدوم ذهني؟ وما الحق في الوجود الذهني؟ هل إثباته كما قال الحكماء أو نفيه كما قال غيرهم؟ وما النسبة بينه وبين الوجود الخارجي؟ وهل بينهما واسطة أم لا؟ وهل ذلك التمايُزُ الذي قال به من قال في المعدومات بحسب إدراك العقل فقط أم بغيره من الإدراكات؟ وما الأمر الذي كلَّما أدركه العقلُ كان إدراكُه غلَطًا مع كونه من المعقولات؟ وما الأمر الذي لا يتخيَّر ولا غيرُ متخيَّر، ولا يتصف بالصفات
_________
(1) قال ابن تيمية في (مجموعة الرسائل والمسائل) (1/ 29): فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة العقلاء أن الماهيات مجعولة وأن ماهية كل شيء عين وجوده، وأنّه ليس وجود الشيء قدرًا زائدًا على ماهيته بل ليس في الخارج إلا الشيء الذي هو الشيء وهو عينه ونفسه وماهيته وحقيقته وليس وجوده وثبوته في الخارج زائدًا على ذلك.
وانظر (بغية المرتاد) (ص415).(12/6271)
النفسية، ولا بالصفات المعنوية؟ وما أمر يصحُّ وصفهُ بالوجود تارةً وبالعدم أخرى؟ (1)
قال: مسألة: قالوا في قام زيد خمسةُ وعشرونَ وجهًا فأنعموا بالقيد؟
أقول: في كل واحد من [8أ] الفعل والفاعل مسائلُ، وفي مجموعها كذلك، وبيانه أنَّ قام كلمة موضوع مفرد جزءُ جملةٍ، فعلق ماض، ثلاثي معتل، أجوفُ، مبني، وبناؤه على الفتحِ يدلُّ على الماضي بلفظه، وعلى الحال بقيده وعلى المتقيد بقيده يقدَّم ويؤخَّر، ويحذف جوازًا، ويقتضي الإسنادَ، ويقال له مسندٌ، ويدلُّ على مصدره. وعلى الحدثِ، وعلى النسبةِ، وعلى مطلقِ الزمانِ، وعلى قيامهِ بفاعلِه، وعلى تبعية له في التخييرِ، وعلى كون له به اختصاصٌ ناعتٌ، وعلى أنه لا بدَّ له من مكان يقع فيه، وذاتٌ يقوم بها، ومشتق من المصدر، ويلاقي في الاشتقاق الكبير ما فيه حروفُه غيرَ مترتبةٍ، وفي الاشتقاق الأكبر ما وافقَه في بعضِها، ويجزم بحذف حرف علَّته، ويتكون آخره، ويسند إلى من قام به إسنادًا حقيقيًّا. وإلى من لمْ يقُمْ به إسنادًا مجازيًا، وله معانٍ حقيقيةٌ، ومعانٍ مجازيةٌ.
هل المعاني في الفعل يمكن أن يأتي فيه غيرها، فإنَّ إسناده إلى زيدٍ مسألة، وإسناده إلى عمرو مسألة، وإسناده إلى كل فرد أو أفراد مسألة، فيأتي من ذلك ما لا ينحصر من
_________
(1) قال ابن تيمية في مجموعة (الرسائل والمسائل) (1/ 18): والذي عليه أهل السنة والجماعة عامة عقلاء بني آدم من جميع الأصناف أن المعدوم ليس في نفسه شيئًا وأن ثبوته ووجوده وحصوله شيء واحد، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع القديم، قال الله تعالى لزكريا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9]، فأخبر أنه لم يك شيئًا.
وقال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] فأنكر عليهم اعتقادًا أن يكونوا خلقوا من غير شيء خلقهم أم خلقوا هم أنفسهم ولهذا قال جبير بن مطعم: لما سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم قرأ هذه السورة أحسست بفؤادي قد انصدع، ولو كان المعدوم شيئًا لم يتم الإنكار ... ).(12/6272)
المسائل، وأمَّا زيد فهو كلمةٌ، موضوعٌ، منقولٌ، مفردٌ، اسم، ثلاثي، معربٌ، متصرَّف، مذكَّر، مرفوع، ممكن، مستوعب فاعلَه على قول مبتدأ على آخره، مسند إليه، جزءُ جملة، قام به الفعل، وصار له به اختصاصٌ ناعت، وتبعَه في التخيير، ويدل على الذاتِ [8ب] وعلى قابلِيَّتها لما أسند إليها، هذه المعاني في الاسم وحدَه، ويمكن أن يأتيَ فيه غيرُها، وفي مجموع الفعل والفاعل مسائلُ، فهما كلام، وجملة خبريَّة، وجملة فعليَّة، ويحتمل الصدق والكذبَ، ومسندٌ، ومسند إليه، وجملة ابتدائية، ومستأنَفَةٌ، وتقع صلةَ الموصول، وخبرَ المبتدأ، وحالاً بتقدير قد، وجوابًا لسؤال سائلٍ، وحكايةً لقول قائل، وذات محلٍّ تارة، ولا محلَّ لها أخرى، ويدلُّ على الحدوث، وعلى النقص، ووزن قامَ فَعَلَ، ووزن زيدٌ فُعْلٌ، وهو مشتقٌ من الزيادة، ويبني من كل واحد منهما على زنةٍ، فجملة هذه المسائل ستٌّ وسبعونَ مسألةً، مثلَ ما قال السائل أكثر من ثلاثِ مرَّاتٍ، ويمكن الزيادةُ عليها بكثير، وإنما هذا ما جرى به القلم بدون إطالةِ فكرهِ، ولا تروي، ثم يقال للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: قال بعض المحققين أنه يتخرَّج من قوله ـ سبحانه ـ: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} (1) الآية مائة وخمسونَ نكتةٌ من النكات السَّريةِ المعتبرة عند أرباب المعاني والبيان والبديع، فهل من سبيل إلى سبيل استخراج هذه النكاتِ وتحريرها؟ وقال العلامة جلال الدين السيوطي في الإتقان: إنَّ شرائعَ الإسلام ثلاثُ مائةٍ وخمسَ عشرةَ فأفيدونا بإيضاحِها، فإنَّ حصرها في هذا العدد من أعجب ما يطرقُ الإسماعَ.
قال: مسألة: قولُ الشاعر:
لا يألفُ الدرهمُ المضروبُ صُرَّتَنَا ... لكن يمرُّ عليها وهو منطلقُ
لم آثر لفظ يألفُ على غيره من الألفاظ التي يؤلفُ، ولم أتى بالدرهمِ دون الدينار، وبلا دون ما ولم، ولِمَ اختار التعريفَ على التنكير، والإفرادَ على جمع التكسير، ولمَ
_________
(1) [هود: 44] ٍ.(12/6273)
وصفَه بالمضروب، هل الفائدةُ أوقعَ [9أ] في القلوب، ولمَ اختار لفظ الصُّرَّة على ما يقوم مقامَها؟ بيّنوا سرَّه، ولم قدَّم لفظ المرورِ على ما يرادفه مما على الألسنة يدورُ، ولم جاء به مضارعًا دون ماضٍ، وهل زمانه الحال، أو الاستقبالُ، أو الاستمرار، وما عليهما من الاعتراض، وهل المرور الانطلاق فكيفَ قيَّده به، وتقييد الشيء بنفسِه منعَه الاتفاقُ، وهل يصح الاستشهاد بهذا البيت للحشوِ والتطويلِ والإيجازِ، وأين موضع كلِّ يا نبيل؟
أقول: ما تأثير لفظ يألفُ فلدلالته على طول مدَّةِ البقاء مع المحبَّة كما هو شأن البخيلِ، فإن دِرْهَمَهُ يألفُ صرَّته إلفًا لا يتفارقان عنده إلاَّ في النادرِ الشاذ، فاثبت للممدوح صفةً تخالف صفةَ البخيل، فإنْ قلتَ: نفي الألف الذي هو طول مدة البقاء مع المحبةِ قد دلَّ على أنَّ ذلك الدرهَم يلبثُ في صرة الممدوح لبثًا ليس بالطويلِ، ومجرَّد اللبث يخالفُ الوصفَ المادحَ.
قلت: قد حصل المدح بمجرد عدم الألفِ، وفرقٌ بين من يألفُ الدرهمُ صُرَّتهُ وقتًا يسيرًا ثم يخرج في وجوه الشرفِ، وطرائق المجدِ، وأيضًا قد عقب هذا الذي قلتَ أنه تقيد لبثًا ما بما يقلعُ ذلك الفهمَ من أصله، ويجتثه من مغرسِهِ، فقال لكن يمرُّ عليها وهو منطلقُ فأشْعَرَ هذا بأنه لا لُبْثَ له ظاهر، فاندفع ما فهمتَه تلويحًا بما تعقبَّه تصريحًا.
قوله: ولمَ أتي الدرهم دون الدينارِ؟ وجه ذلك لأنه لو جاء بالدينارِ لا نكسرَ الشعرِ، ولا يطلبُ للشاعر نكتةٌ في تجنب اللفظِِ الذي ينكسِرُ به شعرُه، بل في تأثير لفظ على لفظ يفيدُه معناه، ولا ينكسر البيتُ به [9ب]، ثم لذكر الدرهمِ على تقدير أنه لا ينكسِرُ الشعر بالدينار وجهٌ واضح، وهو كونُه قد تقدم ذكر الدرهم في البيت الذي قبلَه، وهو قوله:
كأنَّا إذا اجتمعتْ يومًا دراهِمُنا ... ظلَّت إلى طرقِ الخيرات تستبقُ
وقوله: وبلا دون ما ولم يجاب عنه بأنَّ لا موضوعةٌ لنفي المستقبلِ والحالِ، وهو المعنى الذي يتأدّى به المدُح بنا، لأنَّ ذلك يفيد أنه لم يألفْ صرَّتَه الدرهمُ في الحال، ولا(12/6274)
يألفُها في مستقبل الزمانِ، وأنَّ الكرمَ قد صار له سجيَّةً وطبيعةً لا تفارقه، لا في الزمن الذي هو فيه، ولا في ما بعده من الأزمنة، ولو جاء في هذا النفي بما لم يفدْ هذا المفادَ، لأنها موضوعةٌ لنفي الحال فقط، فيكون ذلك تمدُّحًا بالحالة الحاضرةِ دون ما بعدَها، وليس في ذلك كثيرُ مدْحٍ، ولا عظيمُ فخْرٍ، ولو جاء به في هذا بِلَمْ لكان معناه نفيَ الماضي فقط، وليس في ذلك من المدح ما في نفيه بلا.
وأمَّا قوله: ولِمَ اختار التعريفَ على التنكير؟ فيجاب عنه بأنه لو جاء بالدرهم منكَّرًا لا نكسَرَ الشعر، ولا يطلب للعدول عما ينكسِرُ به الشعرُ إلى ما لا ينكسِرُ به نكتةٌ، وأيضًا لو فرضنا عدمَ انكسار الشعرِ بالمنكَّر لكان في تأثير المعرَّفِ نكتةٌ سريةٌ، ومدحةٌ جليلة، لأنَّ تحليتهَ بلام الجنس أو الاستغراقِ أو الحقيقةِ يفيدان هذا شأنُ كلِّ درهم يصلُ إليهن على أيّ صفة كان، وفي أيَّ زمان أو مكان حصلَ، ولو قال لا يألفُ درهم، لأشْعَرَ بأنه لا يألفُها إذا جاء واحدٌ منها عقبَ واحدٍ، ويمكن أن يقال أنَّ هذه النكرة الواقعةَ في سياق النفي يفيدُ العموم كما صرَّح به أئمة الأصول (1) والبيان، فيكون المعرَّفُ كالمنكَّرِ.
قلت: هما طريقتان مستويتانِ يسلك الشاعرُ أيَّهما شاء [10أ]، مع كون أحدهما ينكسرُ بها الشعر بخلاف الأخرى.
وأمَّا قوله: والإفراد على جمع التكسيرِ، فيجاب عنه بأنَّ جمعَ التكسير ينكسر به البيت، فلا يطلب للعدول عنه نكتةٌ، ولو سلمنا أنه لا ينكسر به لكان تأثيرُ الدرهم المعروفِ أكثرَ فائدةً، وأجلَّ مدحًا لما تقرر من أنَّ استغراقَ المفرد أشملُ.
وأمَّا قوله: ولم وصفه بالمضروبِ؟ هل الفائدةُ أوقعُ في القلوب؟
أقول: إن كان الدرهم لا يقال إلاَّ على المضروبِ كأنّ ذكر المضروب للكشفِ والبيانِ كما تقول العربُ في وصف الوجهِ الجميلِ كالدرهمِ المنقوشِ، مع أنَّ الدرهم لا
_________
(1) تقدم مرارًا وانظر (إرشاد الفحول) (ص418).(12/6275)
يكون إلاَّ منقوشًا، وإن كان الدرهم يقع على القطعةِ من الفضةِ المقدرةِ بذلك القَدْرِ ففي وصفه بالمضروبِ فائدةٌ زائدةٌ، فإنَّ النفوس على المضروب منها أحرصُ، وإليه أرغبُ، ومنه قولُهُ:
وأصغُر من ضربِ دارِ الملوكِ ... يلوحُ على وجهه جعفرُ
وقول الآخر:
ووجوهٌ مثلُ الدنانيرُ مُلْسُ
ثم لا يعاب الشعرُ بالمجيء بالأوصاف الكاشفة لأجل أن يستقيمَ وزنُه، ويخرجَ عن النثر إلى النظم.
وأما قوله: ولِمَ اختار لفظَ الصُّرَّة على ما يقوم مقامَها؟ بينوا سرَّهُ. فيجاب عنه بأنَّ وجه ذلك ما تفيدُه الصّرةُ من كون الدرهمِ يُصَرُّ فيها، ويحفظ على وجه الرَّبط والشدِّ، فإنه لا يكون بهذه المنزلة في المدح بما يخالفُ حالُ البخيل، فإنَّ في ذكره الصُّرَّة إيضاحُ حالةِ البخيل ونفيُها عن الممدوح على أبلغِ وجهٍ، وليس المراد إلاَّ إثباتَ أوصافٍ للممدوح تخالِفُ أوصافَ البخيلِ، على أنَّ صنيع الناس وعملَهم أنْ يحفظوا الدرهم في الصُّرَرِ ويشدُّوها، فالشاعر جاء بما هو المعروف المألوف، فلا يلزمهُ أن يأتيَ بشيء يخالفُ ما هو العادةُ [10ب] الجاريةُ، والطريقة المستمرة، وأيضًا إذا كان درهمُه لا يألَفُ الصُّرَّةَ المستوثقَ منها بالشدِّ والرَّبط، فدم إلْفِهِ لما لم يكن كذلك ثابتٌ بفحوى الخطاب كما لا يخفى على الفَطِنِ.
وأمَّا قوله: ولم قدَّم المرورَ على ما يرادفه مما على الألسنة يدور؟
فيجاب عنه: بأنَّ هذا الذي يرادُفه إنْ كان مما لا ينكسرُ به الشعر فما هو؟ وإن كان مما ينكسر به كالمضي والسعي والإسراع ونحوِها فلا يطلبُ للعدول عنه نكتةٌ.
ثم لا يخفى أنَّ المرور قد دلَّ على وصوله إليها، وخروجه عنها، وذلك أمدح لما جُبِلَتْ عليه النفوسُ من الشُّحِّ بما قد صار في حوزةِ الإنسانِ، ووصل إليه.(12/6276)
وأمَّا قوله: ولم جاء به مضارعًا دون ماضٍ.
فيجاب عنه: بما تقرَّر أنَّ المضارعَ يفيدُ الاستمرارَ التجدديَّ.
وأمَّا قوله: وهل زمانُه الحالُ، أو الاستقبال، أو الاستمرار، وما عليها من الاعتراض؟
فيجاب عنه: بما في كتب النحو والبيان من الأقوال في ذلك، وقد رجَّح الرضي (1) كونَه حقيقةً في الحال، مجازًا في الاستقبال، والحقُّ أنه حقيقةٌ في الاستقبال، مجاز في الحال، وعليه جمهورُ المحققينَ، ولعلَّه يريد بقوله أو الاستمرارُ الاستمرارَ التجدديَّ، لا الاستمرارَ الذي يساوق، فإنَّ ذلك مدلولُ الجملةِ الاسميةِ.
وأمَّا قوله: وما عليهما من الاعتراض فلعلَّه يشيرُ إلى ما وقع من الكلام على حجج الأقوالِ التي أشرنا إليها من أهل المذاهبِ المختلفةِ، وما اعترضِ به بعضهُم على بعض، وما أورد بعضُهم على بعض، أو إلى ما نقله الرضيُّ عن الحكماء، ودفعَه، أو إلى ما حرَّره بعض أهل الحواشي على بعض شروح الكافيةِ، (2) أو إلى ما نقله بعضُ أهل الحواشي على المطوَّل، أو [11أ] إلى جميع ذلك، فإنه مشتمل على تطويل المقال في الحال فلا نطوّل بذكرهِ.
وأمَّا قوله: وهل المرورُ الانطلاقُ فكيف قيَّده به، وتقييد الشيء بنفسه منعه الاتفاق؟
أقول: في الانطلاق مزيدةُ فائدةٍ لم تكن في المرور، فإنه يشعر بمزيد السرعةِ، فالمعنى أنه مرورٌ لا تُؤَدَةَ فيه، ولا لُبْثَ، ومعلومٌ أنك إذا قلتَ: مررتُ بزيد لمْ ينافي ذلك مشيَه حالَ المرورية مشيًا لطيفًا رفيقًا، بخلاف الانطلاق، فإنه ينافي ذلك في الجملةِ، فتقييد
الفتح 5 من أول ص6278 إلى ص
_________
(1) في شرح كافية ابن الحاجب (4/ 12) ثم قال وهو أقوى، لأنه إذا خلا من القرائن، لم يحمل إلا على الحال، ولا يصرف إلى الاستقبال إلا لقرينة وهذا شأن الحقيقة والمجاز.
(2) انظر: (شرح الكافية) (4/ 12 ـ 13).(12/6277)
المرور بالانطلاقِ لدفع توهُّم ما يستفاد منه مطلقُ المرور، كما ذكرنا على أنَّا لو قدَّرنا أنه لم يأت التقييدُ بالانطلاق بمزيد فائدةٍ، بل معناه معنى المرور، لكان ما يستفادُ من التأكيد فائدةٌ جليلةٌ، وتقويةٌ نبيلة، فإنَّ التقرير معدودٌ في فوائدِ التأكيد كما عدَّ من فوائده دفعُ توهُّم التجوَّزِ، أو السهو، أو عدمُ الشمولِ. هذا على تقديرات الشاعر لم تضْطَرَّه القافية إلى المجيء بقوله منطلقُ، أمَّا لو كان قد اضطرتْه إلى ذلك ولم يحضرْ له غيرُه، ولا تحصَّل له سواهُ فلا يطلب له نكتةٌ، وليس في الإمكان أبدعُ مما كان، وبمجموع ما ذكرناه تعرف أنه لا يصحُّ الاستشهاد بالبيت للحشو والتطويل وذلك ظاهر، ولا للإيجاز أيضًا لأنَّ البيت على ما أوضحناه من قبيل المساواةِ، وأمَّا السؤال عن موضع كل منها فمعروف في علم البيان، محرر في كتبه أحسنَ تحرير، مقررٌ أبلغَ تقرير، موضح بالأمثلة من النظم والنثر.
ونقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: ما عنده في قول المتنبي: (1)
كثيرُ حياةِ المرءِ مثلُ قليلها ... يزولُ وباقي عشيِه مثلُ ذاهبِ [11ب]
لِمَ آثر لفظَ الكثيرِ والقليلِ على لفظ الطويلِ والقصيرِ؟ ولم آثر لفظَ يزولُ على لفظ يمرُّ، ولم آثر باقي على آتي؟ ولم آثر ذاهب على غابر؟ وما يفيد مفاده مما يستقيم في النظم والقافية، ولا ينكسر به الشعر؟
قال: مسالة: هل الإعراب: (2) ..................................
_________
(1) قاله في مدح أبي القاسم طاهر بن الحسين العلوي:
(ديوان أبي الطيب المتنبي) (1/ 150) بشرح أبي البقاء العكبري المسمّى بالتّبيان في شرح الديوان.
(2) الإعراب: هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ، ألا ترى أنك إذا سمعت أكرم سعيد أباه وشكر سعيدًا أبوه علمت برفع أحدهما ونصب الآخر الفاعل من المفعول.
وأما لفظه: فإنّه مصدر أعربت عن الشيء إذا أوضحت عنه، وفلان معرب عمّا في نفسه أي بين له. وموضح عنه.
(الخصائص) لابن جني (1/ 35 ـ 36)، (شرح الكافية) (1/ 48 ـ 49).(12/6278)
والبناء (1) نقيضان؟ فإن قلتم نعم. قلنا يرتفعانِ، وإن قلتم لا. فما بينهما عند ذوي الشأن، وهل هما عَرَضَانِ أو عارضانِ؟
أقول: هما متضادانِ عند من يجعل المفرداتِ قبلَ التركيب لا معربةً ولا مبنيةً، ومن جعلها من المبنيَّاتِ، حتى تُرَكَّبَ فَهُما عنده نقيضان، ولما كان الإعراب والبناء مما يبحثُ عنهما في الفنِّ كانا عَرَضَيْنِ، وقد تقدَّم أنَّ العارِضَ للشيء هو ما يكون محمولاً عليه، خارجًا عنه، وأنه أعمُّ من العرضِ، ثم نقول له هذا الإعرابُ لبعض الكلماتِ المنقولةِ عن العرب، والبناءُ لبعض آخَرَ، هل هو منقول عن العرب سماعًا ومشافهةً؟ فما الدليل على ذلك؟ أو إفادة الاستقراء أو التتبعِ ففيه أنَّا نجدُ بعضَ الكلماتِ في النظم والنثر يخرجُ عن ذلك كما يعرفُه كل عارف بلغةِ العربِ، راسخِ القدمِ في كلامِها، كثيرَ الممارسةِ لما جاء عنها من المنظوم والمنثور، ثم ما الوجهُ الذي لأجله جعلَ النحاةُ بعضَ الجمل لها محلٌّ من الإعراب، وبعضها لا محلَّ لها؟ إنْ قيل لكون بعضِها حلَّ محلَّ المفرد، وقام مقامه، وأوِّلَ به، فيقال مضمون كلِّ جملة سواءً كانت معربةً أو مبنيةً مفردٌ، فهلا كانت كلُّها من هذه الحيثية على نمطٍ واحدٍ، إمَّا معربةً أو مبنيةً، ثم ما الفائدة لوصف بعضِها بثبوت المحليةِ من الإعرابِ دون بعضٍ مع كونها كلِّها متفقةً في عدم ظهورِ أثرِه عليها، وهل هذا مجرَّد اصطلاحٍ أو تتعلَّق به فائدةٌ راجعة إلى اللغة؟
قال: مسألة [12أ]: أيُّ خبر مشتقٍّ استكنانِ ثلاثةِ ضمائرَ في الخبر المشتقِ، نحو الحسنُ وجهًا إذا وقع بعد ثلاثةٍ، ويجوز أيضًا اعتبار مثلِ ذلك في الخبر المشتقِّ
_________
(1) البناء: لزوم آخر الكلمة ضربًا واحدًا من السكون أو الحركة. لا لشيء أحدث ذلك من العوامل. وكأنهم إنَّما سمّوه بناء لأنه لزم ضربًا واحدً فلم يتغير تغير الإعراب سمي بناء. من حيث لازم موضعه، لا يزول في مكان إلى غيره:
(الخصائص) لابن جني (1/ 37 ـ 38).(12/6279)
المشتركِ. بين ثلاثةِ معانٍ إذا اسْتُعْمِلَ في جميعها على ما ذهب إليه طائفةً من أهل العلم. وقد جوز بعضُ متأخري النحاة أنْ تكون في الخبرينِ المشتقينِ نحو: هذا حلوٌ حامضٌ ضميرٌ دائرٌ راجعٌ إلى المبتدأ، وليس في كل واحد منهما ضميرٌ مستقل، وتعقَّبه بعض المحققينَ مصرِّحًا بمنع ذلك، طالبًا لما يشهدُ له من كلام العرب، مسندًا ذلك المنعَ بما صرَّح به المحقق الرضيُّ (1) من عدم جواز بقاء الصفةِ بلا ضميرٍ إذا لم يرفعْ ظاهرًا لقوةِ شبْهِهَا بالفعل.
ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ أيُّ خبر مشتقٍّ استكنَّ فيه ثمانيةُ ضمائرَ وخمسةُ أخبارٍ مشتقةٌ ليس فيها إلا ضميرٌ دائرٌ، وهذا على ما يقتضيه كلامُه، لا على ما هو الراجح عندي؟
قال: مسألة: ما مبتدأُ رفعتَه حالٌ.
أقول: يتخرج هذا على بعض المذاهبِ لا على جميعِها، وبيانه أنَّ من قال بأنَّ المبتدأ الخبر يعملُ كلُّ منهما في الآخر فرافعُ المبتدأ هو الخبرُ، ورافع الخبر هو المبتدأُ، فإذا سدَّ مسدَّ الخبرِ حالٌ نحو: ضَربني زيدًا قائمًا كان ذلك الحالُ السادُّ مسدَّ الخبر هو الرافعَ للمبتدأ، لأنه سدَّ مسدَّ ما هو رافعٌ له، وعاملٌ فيه، وبهذا يحصلُ الحلُّ، فإذا تخرَّج في صورة أخرى لم يكن ذلك قادحًا فيما ذكرناه كما قدّمنا في المقدمة.
ثّمَّ [12ب] نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: أيُّ حال استحقَّتِ النصب وبيّنت هيئتَه، وكانت في عداد العُمَدِ لا في عداد الفَضَلاتِ؟ وأيُّ صفة رفعتْ ظاهرًا مع كونها متحملةً لضمير مستكنٍّ؟
قال: مسألة: إذا بنيت من آي على وزنِ مختالٍ كيف تجمعُه جمعَ السلامة؟ وتصغره، وتكسِّره، وترخمه على القاعدة المقامة؟
أقول: الكلام في مختال كالكلام في مختارٍ منْ صلاحيتهِ لأنْ يكون اسم الفاعلَ أو اسم
_________
(1) انظر (شرح الكافية) (3/ 506 ـ 507).(12/6280)
مفعول، ويتبيّن ذلك بإعلالهِ وردِّه إلى أصلهِ، وهكذا في جمعه وتصغيرِه وتكسيرهِ وترخيمهِ، فإذا بنيتَ آي على زنتهِ جئت من يماثلُه وعاملْتَه معاملتَه، وفي علم الصرف ما يوضِّح ذلك ويبينهُ فالإحالة عليه أولى من المجيء هاهنا برسم يتطرق إليه التغيير الذي يقتضيه التداولُ بين الكتَبَةِ على اختلاف أفهامِهم، وتبايُنِ رسومهم، فإنَّ مثل ذلك يكون منشأً للتغليظِ، وفيما دار بين الأصمعي والجَرْميِّ من الكلام في مثل هذا المقام، ما يتحصلَّ به المرامُ، فليراجعْه السائل ـ دامت فوائده ـ.
ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: إذا بنيتَ من أن أولم على وزن مضْطَرٍّ، كيف تجمعُه وتكسره وترخِّمه وتصغِّرهُ؟
قال: مسألة: ما حرفٌ ناب عن حرفٍ، فناب عن ذلك النائب اسمٌ ربما عُرِفَ فَعُرِفَ؟
أقول: يتخرج هذا في مثل حرفِ القسم إذا نابت عنه الهمزةُ ثم حذفتْ، وبقي الاسم مجرورًا، فإِنَّ الاسم باعتبارٍ عارضٍ من عوارضِه، وهو الجرُّ قد ناب منابَ الهمزة، الهمزة النائبةِ منابِ حرف القسمِ، [13أ] والمراد بالنيابةِ الثانيةِ انفهامُ ذلك منه، ودلالته عليه، ويصحُّ تخريج مثلِ هذا في واو رُبَّ إذا اقتضَى المقامُ حذفَ ربَّ، ثم جُرَّ الاسم بالواو، ثم حذفتْ مع بقاء الجرِّ، ويصحُّ تخريجُ هذا في مثل قولهم: اللهم، فإنَّ الميمَ نابتْ عن حرفِ النداء، فيجوز حذفُهما مع بقاء الاسم مقصودًا به النداءُ الذي أفادَهُ حرفُه، فإنْ كان عند السائل ـ دامت إفادته ـ تخريجٌ أوضحُ من هذا التخريجِ فالفائدةُ مطلوبةٌ، وليس هذا الطلب منا خاصًّا بهذه المسألةِ، بل هو عامٌّ في جميع هذه المسائل.
ثم نقول له ـ كثر الله فوائده ـ: أيُّ حرف تعيَّن حذفُه وجوبًا، وبقي عملُه؟ وأيُّ حرف حال بينَه وبين معموله حرفٌ فمنعه عن العملِ، وأيُّ حرف حالَ بينَه وبين معموله حرفٌ فعملَ.
قال: مسألة: إذا سمِّيتَ بلا كيفَ تثنيهِ، وكيف تجمعُه، وكيف تكسِّره، وكيف ترخِّمه منادي، وكيف تصغِّره؟(12/6281)
أقول: صرَّح المحقق الرّضي (1) وغيره من المحققينَ أنَّ الكلمةَ المبنيَّةَ إذا جُعِلَتْ علمًا لغير ذلك اللفظِ أعربتْ، (2) فإنْ كان ثنائيّةً ثانيها حرفُ علَّة ضُعِّفَ حرف العلَّة فتكون تثنيتهُ على وجهينِ، إمَّا ببقاءِ الحرف الآخَرِ أو بقلبه واوًا، وكذا في جمعه وتكسيره، وأمَّا في تصغيرِه فيقلبُ واوً حتمًا.
وقال المحقق الرضيُّ (3) أيضًا ما نصُّه: ولآء زدتَ على الألفِ لا ألفًا آخَرَ، وجعلته همزةً تشبيهًا برداءِ وكساء، وربما وجب التضعيفُ، لأنك [13ب] لو أعربتَه بلا زيادة أسقطتَ حرف العلَّة للتنوينِ، فيبقي على حرف واحد ولا يجوزُ. (4) انتهى.
وأمَّا ترخيمُه فإنما يجوز عند من جوَّز بقاءَ المرخَّم على حرفينِ، وهما الأخفشُ والفرَّاء، وجماعةٌ من الكوفيينَ، لا عند من منع من ذلك، وهم مَنْ عدا من ذكرنا.
ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ إذا سمَّيْتَ بلا، وهو، وهي، كيف تثنِّيها، وكيف تجمعُها، وكيف تكسِّرها، وكيف ترخِّمها؟
_________
(1) في (شرح الكافية) (3/ 347).
(2) قال فالواجب الإعراب وإن جعلتها اسم ذلك اللفظ بسواء كانت في الأصل اسمًا أو فعلاً، أو حرفًا فالأكثر الحكاية، كقولك: (من الاستفهامية حالها كذا) وضرب فعل ماضٍ. وليتَ تمِّن وقد يجيء معربًا نحو قولك: (ليتٌ ينصب ويرفع) قال من الخفيف:
ليتَ شعري وأين مني ليتٌ ... إنَّ ليتًا وإن لوَّا عناءُ
فإن أوَّلته بالمذكر كاللفظ، فهو متصرف مطلقًا، وإن أوَّلته بالكلمة أو اللفظة فإن كان ساكن الأوسط لـ (ليت) فهو كا (هند) في الصرف وتركه، وإن كان على أكثر من ثلاثة، أو ثلاثيًا متحرك الأوسط فهو غير منصرف قطعًا.
(3) في (شرح الكافية) (3/ 348).
(4) ثم قال: وكذلك لو أوّلناه بالكلمة، أو سمَّينا به، ومنعناه من الصرف، وجب التضعيف لأنّا لا نأمن من التنكير، فيجيء التنوين إذن، وحُكي عن بعض العرب أنه يجعل الزيادة المجتلبة بعد حرف العلة الثاني همزة في كل حال. نحو (لَوءٌ) و (فيء) و (لاءٌ). والأول: أي التضعيف أولى، لكون المزيد غير أجنبي.(12/6282)
قال: مسألة: ما اسم عوض عن نون التثنيةِ في غيرِ الإضافة العاديةِ؟
أقول: يتخرَّجُ هذا في الصفات إذا عُرِّفَتْ بالألف واللامِ الموصولةِ، وعملت فيما بعدَها، ثم حذفتْ نونُها تخفيفًا فنقولُ: الضاربا زيدًا، والضاربو زيدًا، ومنه الحافِظُو عورةَ العشيرةِ إلخ. والمسوِّغ للحذفِ هو التعريفٌ بذلك المعرَّف الاسمي، إذا لا يجوز الحذفُ مع عدمِه، فصار كالعوض عن النونِ، ويصح تخريجُ ما ذكره في اثنى عشر، فإنَّ نونَه حذفتْ لتركيب الاسمينِ لا لمجرَّد الإضافيةِ العادية. (1)
ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: ما حرفٌ ناب عن نون التثنيةِ، ونونِ الجمع فحذفتا حَتْمًا تارةً وجوازًا أخرى؟
قال: مسألة: ما حدُّ علَّة الفرق وعلِّة الاستغناءِ، وعلَّة التوكيدِ، وعلِّةِ النقيض، وعلَّة حمل المعنى على المعنى، وما علَّةُ العرب، وما علِّة الوجوبِ، وما علَّة المعادلة، وما علَّة الجواز، وما علَّة الأصل [14ب] وما علَّة التعليل، وما علَّة المشاكلة؟ وما مثال كل من هذه العلل عند النحاة؟ فأنعموا بالمثل، وما حدُّ العلة وما رَسْمُه؟ وهل يجوزُ التعليل بالعلَّة القاصرةِ وما مثالُه، وما فساد الاعتبار في علم العربية؟ ومتى تعارضَ شاذٌّ، ولغةٌ ضعيفةٌ، فهلِ ارتكاب الضعيفةِ أولى؟ أو لا تفضَّلوا بتحرير الجوابِ، ولكم جزيلُ الثواب.
أقول: سؤالُ السائل ـ كثر الله فوائده ـ اشتمل على اثنتى عَشْرَةَ علَّةً فاقتصر على بعض ما أثبته أهلُ الصناعة في ذلك، فإنهم جعلُوها اربعةً وعشرينَ نوعًا، وبعضهم جعلَها أكثرَ من ذلك.
_________
(1) قال الرضي في (شرح الكافية) (1/ 77): أما نون المثني والمجموع فالذي يقوي عندي، أنَّه كالتنوين في الواحد في معنى كونه دالاً على تمام الكلمة وأنها غير مضافة، لكن الفرق بينهما أن التنوين مع إفادته هذا المعنى يكون على خمسة أقسام، كما مرَّ، بخلاف النون فإنه لا يشوبها من تلك المعاني شيء وإنّما يسقط التنوين مع لام التعريف لاستكراه اجتماع حرف التعريف مع حرف يكون في بعض المواضع علامة التنكير، ولا تسقط النون معها، لأنها تكون للتنكير.(12/6283)
والحاصل: أنَّ عللَ النحويينَ (1) صنفانِ: علَّةُ نظرٍ، وعلى كلام العربِ، وتنساق على قانونِ لغتِهم، وعلَّةٌ تكشفُ عن صحةِ أغراضِهم ومقاصدِهم في موضوعاتِهم، وهم للأُولى أكْثَرُ استعمالاً، وأشدُّ تداولاً، وهي وساعةُ الشُّعب إلاَّ أن مدارَ المشهورةِ منها على اربعةٍ وعشرينَ نوعًا، أو ستة وعشرينَ نوعًا، ولنقتصر على بيان ما سأل عنه.
فنقول: أمَّا علَّة الفرقِِ (2) فلبيان الوجهِ في رفع الفاعلِ، ونصبِ المفعولِ، وكسر نونِ المثنى، وفتحِ نون الجمع، وغير ذلك مما يحتاجُ إلى التعليل، وقد صرَّح النحاة بجميع ذلك، كلُّ شيء في بابه، وأمَّا علَّة الاستغناءِ فتكون ببيان وجه استغنائهم بشيء عن شيء كاستغنائهم بتركَ عن ودَعَ.
وأمَّا علة التوكيد (3) فمثل بيانِ وجه إدخالهم النون الخفيفةَ تارةً، والثقيلةَ أخرى في فعل الأمرِ لتأكيد [14ب] إيقاعِه، وأمَّا علَّة النقيض فبيانُ الوجهِ في مثل نصْبِهم النكرةَ بلا (حملاً) على المعنى، ومنه: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} (4) انتهى. فذكَرَ فعلَ
_________
(1) اعلم أن علل النحويين أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين وذلك أنهم إنّما يحيلون على الحس، ويحتجون فيه بثقل الحال أو خفتها على النفس، وليس كذلك حديث علل الفقه. وذلك أنها إنّما هي أعلام، وأمارات، لوقوع الأحكام ووجوه الحكمة فيها خفية عنا. غير بادية الصفحة لنا ألا ترى أن ترتيب مناسك الحج وفرائض الطهور والصلاة والطلاق وغير ذلك إنما يرجع في وجوبه إلى ورود الأمر بعمله، ولا تعرف علة جعل الصلوات في اليوم والليلة خمسًا دون غيرها من العدد .... )).
(الخصائص) لابن جني (1/ 48).
(2) قال أبو إسحاق في رفع الفاعل، ونصب المفعول. إنما فعل ذلك للفرق بينهما، ثم سأل نفسه فقال: فإن قيل: فهلا عكست الحال فكانت فرقًا أيضًا؟
قيل: الذي فعلوه أحزم، وذلك أن الفعل لا يكون له أكثر من فاعل واحد وقد يكون له مفعولات كثيرة، فرفع الفاعل لقلته، ونصب المفعول لكثرته، وذلك ليقل في كلامهم ما يستثقلون، ويكثر في كلامهم ما يستخفون فجرى ذلك في وجوبه.
انظر: (الخصائص) (1/ 48 ـ 50).
(3) انظر (اللمع) (ص141).
(4) [البقرة: 275].(12/6284)
الموعظةِ مذكَّرًا حملاً لها على الوعْظِ.
وأمَّا علة القرب (1) والجواز فبيان الوجهِ في مثل الجرِّ بالقرب والجِوارِ، كقولهم: جِحْرُ ضبٍّ خَرِبٍ، يجر خربٍ لمجاورتِه لضبٍّ وقُرْبهِ منه، وكضمِّ لام الله في الحمد لله، لمجاورتِها للدَّالِ المضمومةِ، وأمَّا علَّة الوجوبِ فيكون بيان وجوب الشيء وتحتُّمه كرفع المبتدأ والخبر والفاعل.
وأمَّا علةُ الجواز (2) فتكون ببيان كون الشيء جائزًا غيرَ لازم، كتعليلِ الإمالة بما ذكروه، فإنه إنما يفيدُ جوازَها لا وجوبَها.
وأمَّا علة المعادلةِ فيكون ببيان كونِِ هذا معادلاً لذلك، مثل جرِّهم ما لا ينصرفُ بالفتح حملاً على النصبِ، ثم عادلوا بينهما، فحملُوا النَّصْبَ على الجرِّ في جمع المؤنثِ السالم. (3)
وأمَّا علة الأصل فيكون ببيان كون أصلِ الشيء كذا كتعليلِهم لصرفِ ما لا ينصرف.
وأمَّا علَّة التعليل فيكونُ ببيان الوجه في كون هذا الشيء معلِّلاً بكذا، أو ذلك لا يختصُّ بمادة، ولا بمسألة.
وأمَّا علة المشاكلةِ (4) فبيانُ الوجه في كون هذا الشيء مشاكِلاً لهذا، ومحمولاً عليه، كما في قوله سلاسلاً وأغلالاً.
وأمَّا قوله: وما حدُّ العلَّة وما رسْمُها ومثالُه؟
فنقول: تصوُّر احتياجِ الشيءِ [15أ] إلى غيره ضروريٌّ، فالمحتاج إليه في وجود الشيء يُسمَّى علَّةً له، والمحتاج يسمَّى معلولاً، والعلةَّ إمَّا تامًّةٌ، وأمَّا ناقصةً، والناقصةُ إمَّا
_________
(1) انظر: (الخصائص) (2/ 218 ـ 227).
(2) انظر: (الأصول في النحو) (3/ 160 ـ 163).
(3) انظر (الأصول في النحو) (2/ 401 ـ 407).
(4) انظر: (معجم البلاغة العربية) (ص316 ـ 317).
(معترك الأقران في إعجاز القرآن) (1/ 312).(12/6285)
جزئي الشيء، أو خارجٌ عنه، والأوَّل إن كان به الشيءُ بالفعل كالهيئةِ للسريرِ فهو الصورةُ، وإن كان بالقوة كالخشبِ له فهو المادةُ، والثاني وهو الخارج عنه كالنجارِ للسرير، وهو الذي يقال له العلةُ الفاعليةَ، (1) وأمَّا لأجله الشيء كالجلوسِ عليه، وهو العلةُ الغائيَّةُ. (2)
وأمَّا العلة التامَّة فمنقسمةٌ إلى أقسام يطولُ البحث بذكرها، وهي مقررة في كتب الأصول (3) محرَّرة بحدودها ورسومِها.
وأمَّا السؤال عن حدِّها فنقولُ: العلَّة التامَّةُ هي ما يجبُ وجودُ المعلولِ عنده، وأما جواز التعليل بالعلَّة القاصرة فمنعَ ذلك أهلُ الأصولِ، واختلفَ فيه أهل النحو، قال ابن الأنباري: (4) اختلفوا في التعليلِ بالعلَّة القاصرةِ، فجوَّزها قومٌ، ولم يشترطوا التعديةَ في صحتِها، وذلك كما علَّلوا به قولَهم: ما جاءتْ حاجتُك، وعسى الغويرُ أَبْؤُسًا، فإنَّ جاءتْ وعسَى أُجْرِيَا مُجْرَى صار في هذين الموضعينِ، ولا يجوز أن يجريا مجراها في غيرهما، والحق منعُ التعليل بالعلةِ القاصرةِ كما صرَّح به جماعةٌ من محققيهم.
وأمَّ فسادُ الاعتبارات في علم ا لعربية فهو أن يعلِّل قياسٌ في العربية، ويخالِفَه السماعُ، فإنه لا اعتبار بهذا القياس، بل الاعتبارُ بالسماع. (5)
وأمَّا قوله: ومتى تعارضَ شاذٌّ ولغةٌ ضعيفةٌ، (6) فهل ارتكابُ الضعيفةِ أولى أولاً؟ فجوابُه أنهم اختلفوا في ذلك، فمنهم من رجَّح اللغةَ الضعيفةَ على الشاذِّ، ومنهم من
_________
(1) انظر: (الكوكب المنير) (1/ 441).
(2) نحو: كالتحلي بالخاتم، النوم على السرير.
(الكوكب المنير) (1/ 441).
(3) انظر: تفصيل ذلك. (المدخل إلى مذهب أحمد) (ص66).
(4) انظر: (البحر المحيط) (5/ 192).
(5) انظر: (الخصائص) (1/ 117).
(6) انظر: (الخصائص) (1/ 96 ـ 100).(12/6286)
رجَّح الشاذ على اللغة الضعيفةِ، وممن رجَّح الأول [15ب] ابنُ عصفور، والحق أنَّ الشاذَّ أرجحُ إن كان مخالفًا للقياسِ فقط، أو مخالِفًا للاستعمال فقط، لا إذا كان مخالفًا لهما جميعًا فليس بأرجَح من اللغة الضعيفةِ، بل هو ضعيف مثلُها.
ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ قد أوضحنا ما سأل عنه من العللِ، فلتوضِحْ لنا ما بقي منها، وهي علَّة السماع، وعلةُ التشبيه، وعلةُ الاستثقالِ، وعلة التعويضِ، وعلة التضمينِ، وعلة التغليبِ، وعلةَُ الأشعارِ، وعلةُ التضادُّ، وعلة الأَوْلى، هذه العللُ باعتبار مصطلحِ النحاةِ، ولأهل الأصولِ أسماءُ العللِ معروفةٌ كثيرةُ العددِ لا معنى للسؤال عنها، لأنها موجودةٌ في الفنِّ، وإنما سألنا السائل ـ كثر الله فوائده ـ عن هذه العلل النحويةِ مشْيًا على منوالِ سؤالهِ، وجريًا على مثاله. انتهى نقل الجواب المنقولِ عن الأصل الذي بخط المجيب ـ حفظ الله أيامه، وأناله مُرَامَهُ ـ آمينَ.
وافق الفراغ من التحرير عن القدير ضحوةَ الخميس ثالثَ محرَّم الحرامِ مفتتح سنة 1241 إحدى وأربعينَ بعد المائتين والألفِ ختَمها الله تعالى ما بعدَها بخير آمين، وغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين والمؤمناتِ آمينَ اللهم آمينَ. سبحان ربك ربِّ العزة عمِّا يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين [6أ](12/6287)
(212) 18/ 5
بحث فيما زاده الشوكاني من أبيات شعرية صالحة للاستشهاد بها في المحاورات وعند المخاصمات وأضافها إلى ما يصلح لهذه الأغراض في ديوان ابن سناء الملك
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/6289)
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: بحث فيما زاده الشوكاني من أبيات شعرية صالحة للاستشهاد بها في المحاورات وعند المخاصمات وأضافها إلى ما يصلح لهذه الأغراض في ديوان ابن سناء الملك ...
2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطاهرين وبعد.
فإني لما وقفت على المجموع الذي جمعه ابن سناء الملك
4 ـ آخر الرسالة: إنك إنْ حَمَّلْتني ما لم أطِقْ ... ساءك ما سرَّك مني من خُلق.
وإلى هنا انتهى ما أردت جمعه. كتبه جامعه: محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 ـ عدد الصفحات: 14 صفحة.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 24 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 11 كلمة.
9 ــ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/6291)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطاهرين وبعد:
فإني لما وقفت على المجموع الذي جمعه ابن سناء الملك (1) الأديب المشهور، الذي قال في حقه القاضي الفاضل عبد الرحيم البياني وزير السلطان صلاح الدين أيوب: نعم الصاحب الذي لا يخلفه الأنام، ولا يعرف له نظير من الأقوام، أمانة سمينة، وعقيدة ودٍّ متينة، ومحاسنُ ليس بواحدة، ومساعٍ في نفع المعارف جاهدة.
وكان حافظًا لكتاب الله، مشتغلاً بالعلوم الأدبية، كثيرَ الصدقات نفعه الله، وللأعمال الصالحات عرَّفه الله بركاتها. انتهى.
وذلك المجموع مشتملٌ على الأبيات التي اشتملت على الحِكَمِ النفيسة، التي يهتدي بها من حفظها على مكارم الأخلاق، ويستعين بها من عرفها على إصابة الرأي فيما ينويه من الأمور.
والحاصل أنَّ غالبها من الشعر الذي قال فيه الصادق المصدوق صلي الله عليه وآله وسلم: «إن من الشعر لحكمة» (2) وهي أيضًا مما يصلح للاستشهاد بها في المحاورات
_________
(1) القاضي الأثير البليغ المنشئ أبو القاسم هبةُ الله بنُ جعفر بن القاضي المُلك محمد بن هبة الله المصريّ الشاعر المشهور، قرأ القرآن على الشريف أبي الفتوح، والنّحو على ابن برِّي وله (ديوان) مشهور، ومصنفات أدبية.
قال ابن خلِّكان: هو هبة الله ابن القاضي الرَّشيد أبي الفضل جعفر ابن المعتمد سناء الملك السّعدي، كان أحد الرؤساء النبلاء. توفي سنة 608هـ.
انظر: (سير أعلام النبلاء) (21/ 480 ـ 481)، (شذرات الذهب) (5/ 35 ـ 36)، (وفيات الأعيان) (6/ 61).
(2) تقدم تخريجه.(12/6295)
وعند المخاصمات، فيكون بانتزاع الشاهد منها فصلُ الخطاب، وإلقامُ المنازِع حجرًا، ومع ذلك فالمستشهدُ ببيت منها على ما يطابق مقتضى الحال يَنْبُلُ في الأعين، ويكبرُ في الصدور، وهي كلُّها غُرَرٌ، وجميعُها دُرَرٌ، ولكني استحسنتُ أن أنتقي منها في هذه الأوراق ما فاقَ وَرَاقَ، وأضم إليه ما قد حفظته من أشعار العرب ومن يلحق بهم من المخضرمين، ومَنْ بعدهم من الشعراء المفلقين، حتى يصير مجموعُ ذلك نزهةً للناظرين من المتأدبين، وروضةً للراغبين في نتائج عقول فحول المجيدين من الأولين والآخرين [1أ]
وقد جعلت عَلامَةَ ما زدته من عندي نقطةً مقابلةً له ليتميز بذلك عن أبيات الكتاب، فأول ما ذكره في مجموعه قولُ الشاعر:
الله أنجح ما طلبت به ... والبر حقيبته الرَّحْلُ
[خفْض] (1) الجأش واصبري قليلاً ... فالرازيا إذا توالت تولَّتْ *
ولا خير فيمن لا يوطّن نفسَه ... على نائباتِ الدهر حين تنوبُ * (2)
فقلت لها يا عَزَّ كلُّ مصيبةٍ ... إذا وُطِّنَتْ يومًا لها النّفسُ ذلَّتِ * (3)
وإذا افتقرت إلى الذخائر ... لم يجد ذخرًا كصالح الأعمال *
من يفعل الخير لا يُعدم جوازَيهُ ... لا يذهب العرف بين الله والناس * (4)
_________
(1) كذا المخطوط ولعلها اخفضي.
(2) للشاعر ضابئ بن الحارث بن أرطأة بن شهاب بن عبيد بن خاذل بن قيس، القبيلة بن حنظلة بن مالك، من الطبعة التاسعة.
انظر: (طبقات فحول الشعراء) (1/ 171).
(3) الشاعر كثير عزة ..
انظر ديوانه (1/ 42). وانظر (خزانة الأدب) (5/ 218).
(4) للشاعر: الحطيئة وهو جرول بن أوس بن مالك بن جؤية بن مخزوم بن غالب بن قطعية، ينتمي إلى بني نزار والحطيئة لقب غلب عليه فَعُرفَ واشتهر به، قيل لقصره وقربه من الأرض، وقيل لدمامته،
وهو من قصيدته: [لا يذهب العرف].
انظر: (ديوان الحطيئة) (ص1120).(12/6296)
رُبَّ حُلْمٍ أضاعه عدمُ الما ... ل وجهلٌ غطَّى عليه النعيمُ
من راقب الناس مات غمًا ... وفاز باللذة الجسورُ (1)
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... فاز بالطيباتِ الفاتكُ اللَّهجُ * (2)
وجرم جرَّه سَفَهًا قومٌ ... فحلَّ بغير جارمِهِ العقاب *
لم أكن من جنُاتِها علم الله ... وإني لحرِّها اليومَ صالي *
وإذا تكون كريهةٌ أدعى لها ... وإذا يحاس الحيسُ يدعى جُنْدُبُ
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإنْ خالها تخفي على الناس تُعْلَمِ * (3)
أي خلل الرماد وميض حمر ... ويوشك أن يكون لها اضطرامُ *
...........................................................
_________
(1) هو: لـ (سَلْم الخاسر) أحد تلامذته بشار بن برد ورُواته.
انظر: (الأغاني) (3/ 200).
(2) للشاعر بشار بن بُرْد من قصيدته [قد بحث بالحب] من البحر البسيط.
(ديوان بشار بن برد) (ص236).
قال في (الأغاني) (3/ 200) أخبرنا يحيي قال: حدثنا أبي قال أخبرني أحمد بن صالح وكان أحد الأدباء، قال: غضب بشار على سَلْم الخاسر وكان من تلامذته ورواته فاستشفع عليه بجماعةٍ من إخوانه فجاءوه في أمره، فقال لهم: كلُّ حاجةٍ لكم مقضيةٌ إلا سَلمًا، قال ما جئناك إلا في سلم ولا من أن ترضىعنه لنا، فقال: أين هو الخبيث؟ قالوا: ها هو هذا؟ فقام إليه فقبّل رأسه، ومثل بين يديه وقال: يا أبا معاذ، خرِّيجك وأديبُك، فقال: يا سلْم من الذي يقول:
من راقب الناس مات غمًّا.
قال: أنت يا أبا معاذ، جعلني الله فداءك؟ قال: فمن الذي يقول:
من راقب الناس مات غمًّا ... وفاز باللذة الجسورُ
قال: خريجك يقول ذلك (يعني نفسه).
(3) للشاعر: زهير بن أبي سلمى المَزني في معلقته (ص50).(12/6297)
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلتُ نفسي
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادةُ لي بأني فاضلُ (1)
إذا جهلتْ فضلي رعائفُ خندفٍ ... فقد عرفت قدري غطاريفُ همدان [1ب] *
إنَّ الذين ترونهم إخوانكُم ... يشفي غليلَ صدورِهم أن تُصْرَعُوا
إن جئتَ أرضًا أهلُها كلُهم ... عورٌ فغمِّضْ عينَكَ الواحدة
والذي يُظهر في الذليل مودةٌ ... وأودُّ منه لمن يودُّ الأرقم
ذلُّها أظهر التودُّدَ منها ... وبها منكم كحرِّ المواسي *
ومن يك ذا فم مرٍّ مريضٍ ... يجدْ مُرًّا به الماءَ الزلالا
ومن يقل للمسك أين الشذا ... كذَّبه في الحال من شمَّا *
ومن ذا الذي تُرضي سجاياه كلُّها ... كفي بالمرء نبلاً أن تعدَّ معايبه
إذا أنت لم تُقصر عن الجهل والخَنَا ... أصبتَ حليمًا أو أصابك جاهلُ * (2)
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ... ظمئت وأيُّ الناسِ تصفو مشاربه (3)
والشيخ لا تترك أخلاقُه ... حتى يوارى في ثرى رمسه
وإذا بدا شرُّ اللبيب فإنه ... لكالدهر لا تمارِ بما فعل الدهر
وإنَّ أمير المؤمنين وفعلَه ... فإن عرضتْ أيقنت أن لا أخا ليا
وإنَّ حُسيْنَا كان شيئًا مُلفَّقًا ... فمحَّضه التكشيفُ حتى بدا ليا *
_________
(1) للشاعر أبو الطيب المتنبي.
انظر: ديوانه (3/ 260)، وهي من قصيدة يمدح القاضي أبا الفضل أحمد بن عبد الله الأنطاكي. وهي من الكامل والقافية من المتدارك.
(2) للشاعر: زهير بن أبي سلمى. ديوانه (ص219).
(3) للشاعر: بشار بن بُرْد من قصيدة (موت الفجاءة) بحر الطويل.
(ديوان بشار بن برد) (ص142).(12/6298)
وفتيانٍ حسبتُهم دروعًا ... فكانوها ولكن للأعادي *
ويضمر قلبي عُذْرَها فيعِنُّها ... عليَّ فما لي في الفؤاد نصيبُ *
وعينُ الرضى عن كل عيب كليلةٌ ... ولكنَّ عينَ السُّخطِ تبدي المساويا (1)
فيضاحِكْنَ وقد قُلْنَ لها: ... حسنٌ في كل عينٍ مَنْ تُردْ *
أضحى عرابةُ ذا مال وذا ولدٍ من مالٍ جعد وجعدُ غيرُ محمودِ *
أُحِبُّ أبا ثروان من أجل تمره ... وأعلم أن الرفقَ بالمرء أوفقا *
إن جعتم قلتُم يا عمَّنا ... وإنْ شبعتُم فيا بنَ الأزورِ *
إذا حدَّثتْكَ النفس أنك قادرٌ ... على ما حوتْ أيدي الرجال فكذبِّ [2أ]
رُبَّ هجرٍ يكون من خوفِ هجرٍ ... وفراقٍ يكون خوفَ فراقِ
ولكم تمنيت الفِراقَ مغالطًا ... واجتلتُ في استثمار عرسِ ودادي*
سأطلب بُعْد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا*
إذا ما أُهان امرؤٌ نفسَهُ ... فلا أكرمَ اللهُ مَنْ أكْرَمه
ومن يغترب يحسب عدوًا صديقه ... ومن لم يكرِّمْ نفسَه لم يُكرَّم * (2)
أكرِم تميمًا بالهوانِ فإنهم إن أُكْرِمُوا فسَدوا من الإكرام *
أهِنْ عامِرًا تُكْرَمْ عليه فإنما ... أخو عامر مَنْ مسَّه بهوانِ *
لا تؤمل أني أقول لك اخسْأ ... لستُ أسخو بها لكل الكلابِ
ولقد أمرُّ على اللئيم يسبُّني ... فمضيتُ ثمَّتَ قلت: لا يَعْنِيني *
إنَّما يُدَّّخر المالُ ... لحاجات الرجالِ
وفي السماء نجومٌ ما لها عددٌ ... وليس يُكْسفُ إلاَّ الشمس والقمرُ
_________
(1) انظر: (جواهر الأدب) (2/ 487).
(2) للشاعر: زهير بن أبي سلمى من معلقته.
انظر: (المعلقات العشر) (ص50).(12/6299)
أتي الزمانَ بنوهُ في شبيته ... فسرَّهم وأتيانه على الكِبَرِ *
لا تعتمدْ إلاَّ رئيسًا فاضلاً ... إنَّ الكبارَ أطبُّ للأوجاع
ليس إجلالُكَ الأكابرَ ذُلاً ... إنما الذلُّ أن تُجِلُّ الصِّغارا *
هنيئًا مريًا غيرَ داء مخامرٍ ... لعزَّةَ من أعراضنا ما استحلَّتِ (1)
إذا ضيَّعتَ أوَّلَ كلِّ أمْرٍ ... أبتْ أعجازُهُ إلاَّ التواءَ
وعاجزُ الرأي مِضيًا لفرصـ ... ـته حتى إذا فات أمرًا عاتَب القدرا *
قد يدركُ المتأني بعضَ حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزَّللُ (2)
وربما فات بعضَ القوم أمرُهم ... مع التأني وكانَ الجرمُ لو عَجِلوا *
لا ذا ولا ذاك في الإفراط أَحْمَدُهُ ... وأحمدُ الأمرَ يأتي وهو معتدلُ *
أخْلِقْ بذي الصب أن يحظى بحاجته ... ومُدْمِنِ القرع للأبواب أن يَلِجَا
وما نزلتُ من المكروهِ منزلةً ... إلاَّ وَثْقْتُ بأنْ ألقى لها فرجَا *
وما الحسنُ في وجه اللئيم شرفٌ له ... إذا لم يكن في فعله والخلائقِ [2ب]
إذا كان الفتى ضَخْمَ المعاني ... فليس يضرُّه الجسمُ النحيلُ *
ولست بِنَظَّارٍ إلى جانب الغِنا ... إذا كانتِ العليا في جانب الفقرِ
يصدُّ عن الدنيا إذا هي أقبلتْ ... وإن برزتْ في زيِّ عذراءَ ناهِب *
من عاش أجْلَلَتِ الأيامُ جِدَّتَه ... وفاتَه ثقتاهُ السمعُ والبصرُ
إنَّ الثمانينَ وبُلِّغْتُهَا ... قد أحوجت سمعي إلى تُرْجُمان *
إذا المرءُ أعيتْه السيادةُ ناشئًا ... فمطلبها كهلاً عليه شديدُ
إذا ما أولُ الخطى أخطى ... فلا يُرجي لآخره انتصارُ *
_________
(1) للشاعر: كثير عزة.
انظر: (خزانة الأدب) (5/ 214).
(2) عزاه في (جواهر الأدب) (2/ 464).(12/6300)
قد يَجْمَعُ المالُ غيرُ آكله ... ويأكل المالَ غيرُ من جمعَهْ (1)
تخيرت من نعمانَ عَوْدَ دِراكهِ ... لهندٍ ولكنْ مَنْ تبلِّغُهُ هند
ولله مني جانبٌ لا أضيعُه ... وللَّهْوِ مني والخلافةِ جانبُ
إن الناس غطوني تغطيَّن عنهمُ ... وإن بحثوا عني ففيهم مباحثُ (2)
لا تهتكَنَّ مساوي الناس ما ستروا ... فيَهْتِكُ الناسُ سِتْرًا من مساويكا *
ومَنْ دعا الناسَ إلى ذمِّهِ ... ذمُّوه بالحق وبالباطلِ (3)
قد قيل ما قيل إنْ صِدقًا وإن كذبًا ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا * (4)
ألا قاتل اللهُ الضرورةَ ... تُكَلِّفُ أعلا الخلقِ أدنى الخلائقِ
وإذا لم يكن من الذلِّ بدٌ ... فالْقَ بالذلِّ إن لقيتَ الكبارا *
وما ينفع الأصلُ من هاشمٍ ... إذا كانتِ النفس مِنْ باهِلَهْ
وما الفخرُ بالعْظمِ الرَّميمِ وإنما ... فخَارُ الذي يبغي الفخارَ بنفسِه *
ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يرى ... عدوًا له ما من صداقته بدٌّ
وأسرعُ مفعولٍ فعلتَ تغيّرا ... تكَلُّفُ شيء في طباعك ضِدُّه *
يُرَادُ مِنَ القلب نسيانُكُم ... وتأبى الطباعُ على الناقلِ *
فعاجُوا فأثُنَوْا بالذي أنت أهلُهُ ... ولو سكتوا أثْنَتْ عليكَ الأباعِدُ
_________
(1) قاله الأضبط بن قريع في الأدب العام.
انظر: (جواهر الأدب) (2/ 476).
(2) عزاه أبو فرج الأصبهاني في (الأغاني) (10/ 406) لأبي دلامة.
وقال بعده:
وإن حفروا بئري حفَرَتُ بئارَهم ... فسوف ترى ماذا تُثير النَّبائث
(3) للشاعر كعب بن زهير بن أبي سلمى أحد فحول المخضرمين مادح النبي صلي الله عليه وسلم.
انظر: (جواهر الأدب) (2/ 135).
(4) النعمان بن المنذر.(12/6301)
وإني اللَّبونُ إذا ما لذَّ في قرنٍ ... لم يستطعْ صَبْوَهُ البررُ العناعيسُ
ومن ظنَّ ممن يلاقي الحروبَ ... بأنْ لا يُصابَ فقد ظنَّ عَجْزَا
أرى جَذَعًا إنْ يُثْنَ لم يَقْوَ رائضٌ ... عليه فبادرْ قبل أن ينثني الجذع [3أ]
أُقَلِّبُ طرفي في البلاد فلا أرى ... وجوهَ أحبائي الذين أريدث
واحتمالُ الأذى وَدِيَّةُ جانيهِ ... غداءٍ تضْوَى به الأجسامُ
وكففت عن أثوابه ولو أنني ... كنتُ المقطَّرَ بزَّني أثوابي
شكوتُ وما الشكوى لمثلي عادةٌ ... ولكنْ تغِيضُ العينُ عند امتلائها
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءةٍ ... يواسيكَ أو يُسلِيْكَ أو يتوجَّعُ *
وما منزلُ اللذاتِ عندي بمنزل ... إذا لم أُبَجَّلْ عنده وأُكَرَّمِ
لمن تطْلُبِ الدنيا إذا لم تُرِدْ بها ... سرورَ مُحِبٍّ أو إساءةَ مجرِمٍ
ولو أنَّ صدورَ الأمر [ ..... ] (1) ... كأعقابِه لم تُلْفِه يتنَدَّمُ
ما كلُّ ما يتمنى المرءُ يدركُهُ ... تجري الرياح بما لا تشتهي السَّفن (2)
وقد وَفَيْتُمُونا مرةً بعد مرةً ... وعلمُ بيان الأمرِ عندَ المجرَّبِ
فإنَّ الحسامَ الخضيبَ الذي ... قتلتمُ به في يد القاتلِ
يا عقربَ النعلِ هذي النعلُ حاضرةٌ ... إنْ عُدْتَ عدنا إلى عاداتنا الأُوَلِ *
قضى الله في بعضِ المكارِه للفتى ... برُشْدٍ وفي بعض الهوى فيحاذِرُ
_________
(1) كلمة غير واضحة في الخطوط.
(2) الشاعر: أبو الطيب المتنبي. من قصيدة قالها: لما بلغه أنَّ قومًا نعوه في مجلس سيف الدولة بحلب وهو بمصر. وهي من البسيط، والقافية من المتراكب.
مطلعها:
بم؟ التعلُّل لا أهلٌ، ولا وطنٌ ... ولا نديمٌ، ولا كأسٌ، ولا سكنٌ
انظر: (ديوان أبي الطيب المتنبي) (4/ 233 ـ 236).(12/6302)
وإذا خفيتْ على الغبيّ فعاذرٌ ... أن لا تراني مقلةً عمياء
وليس قولُك من هذا بِضائِرِه ... العُرْبُ تعرف مَنْ أنكرتَ والعجمُ *
وكم من عائبٍ قولاً صحيحًا ... وآفتُه من الفهمِ السقيم (1)
ليس العطاءُ من الفضول سماحةً ... حتى يجودَ وما لذلك قيل
تريدين رُقْيا المعالي رخيصةً ... ولا بُدَّ دونَ الشهدِ من إبَرِ النحل (2)
إذا غامرتَ في شرفٍ مَرْوْمٍ ... فلا تقنعْ بما دونَ النُّجومِ *
فطعمُ الموتِ في أمرٍ حقيرٍ (3) ... كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمٍ * (4)
فإما مكانًا يُضْرَبُ النجمُ دونَه ... سُرَادِقُهُ أو باكيًا لِلجامِ *
إذا ما لم تكن مِلَكًا مُطاعًا ... فكن عبدًا لخالِقه مطيعًا *
وإنْ لم تملكِ الدنيا جميعًا ... كما تهواهُ فاتركْهَا جميعًا *
هما سِيَّانِ من ملكٍ ونُسْكٍ ... ينْبُلانِ الفتى شرَفًا رفيعًا [3ب] *
وضعيفةٍ فإذا أصابتْ قدره فرصةً ... فتكتْ كذلكَ قدرةُ الضعفاءُ
يشمّر لِلُجِّ عن ساقِه ... ويغمرُهُ الموجُ في الساحلِ
يودُّ الفتى طولَ السلامة والغِنا ... فكيف ترى طولَ السلامةِ تفعلُ *
_________
(1) للشاعر أبي الطيب المتنبي.
(2) للشاعر أبي الطيب المتنبي وهو يمدح أبا الفوارس دلَّسيْر بن لشكور سنة 353هـ. وهي من الطويل والقافية من المتواتر.
تريدين لِقيانَ المعاني رخيصةً ... ولا بدَّ دون الشَّهد من إبر النحل
(الديوان) (3/ 290).
(3) للشاعر أبي الطيب المتنبي في قصيدة وقد كسبت أنطاكية.
وهي من الوفر، والقافية من المتواتر.
(الديوان) (4/ 119).
(4) في (الديوان) [صغيرٍ].(12/6303)
مَنْ يسالِ الناسَ يَحْرِمُوهُ ... وسائلُ الله لا يُخيَّبُ
أليسَ من الخسرانِ أنَّ لياليًا ... تمرُّ بلا نفعٍ وتُحْسَبُ من عمْري
لا أَلْفينَّك بعد الموت تَنْدُبُني ... وفي حياتي ما زوَّدتني زادي
ما كان ينفعني مقالُ نسائِهم ... وقُتِلتُ دونَ رجالِهم لا تبعد *
تُعَدُّ ذنوبي عند قومي كثيرةٌ ... ولا ذنبَ لي إلاَّ العُلا والفضائل *
إنْ سمعوا سبةً طاروا بها فرحًا ... مني وما سمعوا من صالحٍ دفنوا *
إنْ يسمعوا الشرَّ يُخْفُوه وإنْ سمعوا ... شرًّا أذاعوا وإن لم يسمعوا أفِكُوا *
ولن يبلغَ البنيانُ يومًا تمامَهُ ... إذ كنتَ تبنيهِ وغيرُكَ يهدِمُ
أيذهبُ يومٌ واحدٌ إنْ جنيتُه ... بصالحِ أيامي وحسنِ بلائيا
متى يُجْمَعِ القلبُ الذكيُّ وصارمًا ... وأنفًا حميًا تَجْتَنْكَ المظالِمُ
سأغسلُ عني العارَ بالسيف جالبًا ... عليَّ قضاءُ الله ما كان جالبًا *
والنجمُ يستصغرُ الأبصارَ رؤيتَهُ ... والذنبُ للعين لا للنجمِ في الصِّغرِ
ما أنت إلاَّ كلحمِ ميِّتٍ ... دعا إلى أكله اضطرار
ولولا الضرورةُ ما جئتُكُم ... وعند الضرورة يؤتى الكنيفْ *
وإنْ بقومٍ سوَّدوك لحاجةٍ ... إلى سيد لو يظفُرونَ بسيِّدِ
ومتى كنت تفعلُ الكثيرَ من الخير ... إذا كنتَ تاركًا لأقلِّهْ
وما بقيتْ من اللذاتِ إلاَّ ... محادثةُ الرجال ذوي العقولِ
كيف احتراسي من عدوي إذا ... كان عدوي بينَ أضلاعي
أسَدٌ عليَّ وفي الحروب نعامةٌ ... فتْخاءُ [تنفر] (1) من صفير الصافر
ومَنْ سَرَّه أن لا يرى ما يسؤُهُ ... فلا تتخذِ شيئًا بخافٍ له
إذا رأيت نيوبَ الليث بارزةً ... فلا تظنَّنَّ أنَّ الليثَ يبتسمُ [4أ]
_________
(1) كلمة غير واضحة في المخطوط.(12/6304)
ينشدُ الشعرَ وإن عاتبتَهُ ... في مُحالٍ قال في هذا لُغَهء
كل ما يصلُح للمو ... لى على العبد حرامُ
وأحييتَ لي ذكرًا وما كان خاملاً ... ولكنَّ بعضَ الذِّكْرِ أنبهُ من بعضِ
إني وقتلى سُلَيْكَا ثمَّ أعْقِلَهُ ... كالثورِ يضربُ لمَّا عافتِ البرةُ
وحمَّلتني ذنبَ امرئ وتركَتهُ ... كذي العُرّ يكون غَيْرَهُ وهو راتِعُ *
قل للذي يحفر بئر الردى ... هيِّئ لرجليك مراقيها
سكتتْ بغابغةُ الزمان ... وأصبح الوطواطُ ناطقْ
في الناس إن فتَّشتَهم ... من لا يُعِزُّكَ أو تُذلُّهْ
وقد تُخْرَجُ الحاجاتُ يا أمِّ مالك ... كرائمَ من ربٍّ له ضنين
إذا صوَّتَ العصفورُ طار فؤادُه ... وليثُ حديدِ النابِ عند الثرائدِ
إذا رام التخلقُ جاذبتهُ ... خلائقُه إلى الطبعِ القديمِ
إذا كان غيرُ الله للمرءِ عِدَةً ... أتتهُ الرزايا من وجوهِ الفوائدِ
يأبى الفتى إلاَّ اتباعَ الهوى ... ومنهجُ الحق له واضحُ
كتاركةٍ بيضَها بالعراءِ ... ومُلْبِسَةٍ ثوبَ أخرى جناحًا
ولستَ بمأخوذٍ بلغوٍ تقوله ... إذا لم تُعَمَّدْ عاقداتِ العزائمِ
والمستجيرُ بعمرو عند كُرْبَتِهِ ... كالمستجيرِ من الرمضاء بالنارِ
وأُديمُ نحوَ محدِّثي نظري ... أني قد فهمت وعندكم عقلي
تحسَبُه مستمعًا منصتًا ... وعقلُه في آفةٍ أخرى
ولا تُكثرنْ في إثر شيء ندامةً ... إذا نزعتْه من يديكَ المقاديرُ
ضاع معروفٌ واضعٌ ... العرف في غير أهلهِ
من ظنَّ أنْ لا بدَّ منه ... فإنَّ منه ألفَ بُدِّ
زعمَ الفرزدق أن سيقتلُ مِرْبَعًا ... أبْشِرْ بطول سلامةٍ يا مِرْبَعُ (1)
_________
(1) الشاعر جرير بن عطية، الخطفي، التميمي، اليربوعي. ولد سنة 42هـ من بني يربوع أحد أحياء بني تميم.
وهذا البيت أشد بيت في التهكم. (جواهر الأدب) (2/ 152).(12/6305)
وَلَرُبَّ نازلةٍ يضيقُ بها الفتى ... ذَرْعَاً وعند الله منها المخرجُ
ولم أرَ كالمعروف أمَّا مذاقُةُ ... فحلوٌ وأما وجهُهُ فجميلُ
إذا لم تستطيع شيئًا فدعْهُ ... وجاوِزْهُ إلى ما نستطيعُ [4ب]
وقد يحزنُ المءُ من موتِ ما ... تكونُ السلامة في موتِهِ
تفرَّقتِ الطباءُ على خِراشٍ ... فما يدري خراش ا يصيبُ
ما عابني إلا اللئامُ ... وتلكَ لي إحدى المناقِبْ
إذا محاسني اللاتي أمتُّ بها ... غدت ذنوبًا فقل لي كيفَ أعتذرُ
يريكَ البشاشةَ عند اللقاء ... ويبريكَ في الغيب بَرْيَ القلمْ
ويحييني إذا لاقيتهُ ... وإذا نحلُو له جسمي رَتَعْ *
ألا ربما ضاقَ الفضاءُ بأهلهِ ... وأمكن من بين الأسِنَّةِ مخرجُ
كأنك لم تسبق من الدهر ِ ليلةً ... إذا أنت أدركتَ الذي أنت تطلبُ
وغير تعني بأمرِ الناس بالنعي ... طبيبٌ يداوي الناسَ وهو عليلُ*
وكنّأ نستطشبُّ إذا مرِضْنا ... في الداء من قِبَلِ الطبيبِ*
وإنك لنترى طَرْدًَا لحرٍ ... كالصياقِ به طرفُ الهوانِ
يهون علينا أن تُصابَ جسومُنَا ... وتسلمَ أعراضٌ لنا وعقولُ*
ومستعجبٍ مما يرى من أناتِنا ... ولو زبنتُهُ الحربُ لم يتزمزمِ
لم يخلقِ الله مسجونًا تسائلُه ... ما بال سجنِك إلا قال مظلومُ
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيهُ ... فالكل أعداءٌ له وخصومُ
لولا اشتعالُ النار فيما جاورت ... ما كان يظهرُ طِيْبُ نَشْرِ العودِ*
ونُبِّئْتُ قومًا يحسدونَ [محاسنًا] (1) ... وذو الفضلِ لا تلقاه إلا َّ محسَّدا
_________
(1) كلمة غير واضحة في المخطوط(12/6306)
وإذا حَذِرْتَ من الأمور مقدَّرًا ... وفررتُ منه فنحوَهُ تتوجهُ
توَقَّ ملاحاةَ الرجال وذمَّهم ... فإن لهم علمًا بسوء المثالبش
إن النساء متى ينهيْنَ عن خلُقٍ ... فإنه واقع لابدُّ مفعولُ
من لم يَعُدْنَا إذا مرِضْنَا ... إن مات لم تشهدِ الجنازهْ
ولست بالموجبِ حقًا لمن ... لا يوجِبُ الحقَّ على نفسِهِ*
لو بغير الماء حلقي شرَقْ ... كنتُ كالغصَّان بالماء اعتصاري
إلى الماء يسعى من يغصُّ بلقمةٍ ... إلى أين يسعى من يغصُ بماء*
إذا اعتاد الفتى خوضَ المنايا ... فأهون ما يمر به الوحولُ [5أ]
إنَّا لفي زمن تركُ القبيح به ... من أكثر الناس إحسانًا وإجمالاً
لولا المشقةُ ساد الناس كلُّهم ... الجودُ يُفْقِرُ والإقدامُ قتَّالُ
وكلٌّ يرى طُرُقَ الشجاعةِ والندى ... ولكنَّ طَبْعَ النفسِ قائدُ*
ولست بمستبقٍ لا تلِمُّه ... على شَعَثٍ أيُّ الرجال المهذَّبُ (1)
ومن ينفق الساعاتِ في جمع أموالِه ... مخافةَ فقرٍ فما الذي فعلَ الفقرُ
ومن يأمنِ الدنيا يكن مثلَ قابضٍ ... على الماء خانتْه فروجُ الأصابعِ
وما المرءُ إلا كالشهاب وضوءُهُ ... يعود رمادًا بعد إذ هو صادعُ
إذا لم يكن فيْكُنَّ ظِلٌّ ولا جنى ... فأبْعَدَكُنَّ الله من شجراتِ
وكنت إذا قومٌ غزوني غزوتُهم ... فهل أنا في ذايالِ همدانَ ظالمُ
_________
(1) للشاعر: النابغة الذبياني, من قصيدة (أي الرجال المهذب). نظمها معتذرًا إلى النعمان بن المنذر مادحًا إياه وفيها:
فإنك شمسٌ والملوك كواكبٌ ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكبُ
(ديوان النابغة الذبياني) (ص 28). وانظر: (جواهر الأدب) (2/ 40).(12/6307)
فإنك لم تفخر عليك تفاخُرٌ ... ضعيفٌ ولم تغلِبُكَ مثلُ تَغْلِبِ
ولو أني بُليتُ بها شمسي ... خؤُلُتُهُ بنو عبدِ المدانِ *
لهانَ عليَّ ما ألقى ولكنْ ... تعالوا فانظروا بمن ابتلاني *
لو كما تنقصُ تزدادُ ... إذًا نِلْتَ السماء
ومما يقتُلُ الشعراء غمًا ... عداوةُ من يقلُّ عن الهجاء
بلاءٌ ليس يشبُهُه بلاءٌ ... عداوةُ غير ذي حسَبٍ ودينِ *
يبيحُك منه عِرضًا لم يَصُنْهُ ... ويرتع منك في عِرْضٍ مصونِ *
رأيتَ حياةَ المرء تُرْخِصُ قَدْرَهُ ... فإن مات أغلتْهُ المنايا الطوائحُ
وما للمرء خيرٌ في حياةٍ ... إذا ما عُدَّ من سَقَطِ المتاعِ
يريد المرءُ أن يُعطى مُناه ... ويأبى الله إلا ما يشاءُ
وما بقاءً علىَّ تركتماني ... ولكنْ خِفْتُمَا صدَّ النِّبالِ
ألم تر أنَّ سيرَ الخير رَبْتٌ ... وإنَّ الشرَّ راكبُه يطيرُ
ليس من مات فاستراح بميْتٍ ... إنما الميْتُ ميِّتُ الأحياء
فيا ليت حظي من غدانَةَ ... أنها تكون كفافًا لا علىَّ ولا ليا [5ب]
تغطَّى بجلباب لها حُرَّ وجهِهَا ... وتبدي اسْتَهَا هذا الحياءُ المخالفُ
كل شيء إذا تناهي تناهى ... وانتقاصُ البدورِ عند التمامِ
تُوقَّى البدورُ النقصَ وهي أهلَّةٌ ... ويدركها النقصانُ وهي كواملُ *
فإن يكنِ الفعل الذي ساءَ واحدًا ... فأفعالُه اللائي سَرَرْن ألوفا
جرى طَلِقًا حتى إذا قيل سابقًا ... تداركه غُرْفُ اللئام فبلَّدا
وأكذبُ ما يكون إذا تألَّى ... وشدَّدها بأيمانٍ غلاظِ
يَحْلُبُ غيري وأكونُ الذي ... يرضى من العنزِ بقرنينِ
نكون حماتَها ونَذُبُّ عنها ... ويأكل خرجَها القومُ اللِّئامُ *
معاذَ الله حتى تنتضيها ... عقائِرَ في العَجَاجِ لها انتسامُ *(12/6308)
إذا المال لم ينفعْكَ إلا تخزنُهُ ... فبَرُّ بلادِ الله مالُكِ والبحرُ
أنت للمال إذا أمسكتَهُ ... وإذا أنفقتَه فالمالُ لكْ
وأنت كمثلِ الجوز تُمْنَعُ أكلَه ... صحيحًا وتعطي أكلَه حينُ يُكْسرَ
ومن يحتفر في الشر بئرًا لغيرِهِ ... يَبِتْ وهو فيها لا محَالَهَ واقعُ
وأدركُه حالاتِه فخذلتُهُ ... ألا إن عِرقَ السوء لا بدَّ مدرْكُ
وإنَّ كبيرَ القوم لا عِلْمَ عندَه ... صغيرٌ إذا التفتْ عليه المحافلُ *
عيُّ الشريفِ يشينُ منصبَه ... وترى الوضيعَ يزيْنُهُ أدبُهْ
إذا الشافعُ استقصى لك الجهدَّ كلَّه ... وإن لم تنلْ بِحِجَا فقد وجب الشكرُ
وعلىَّ أن أسعى وليس علـ ... ــــيَّ إدراكُ النجاحِ
وأنت امرؤ منَّا خُلِقْتَ لغيرنا ... حياتُكَ لا نفعٌ وموتُكَ فاجعُ *
لا ألفيتُك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زوَّدتني زادي*
فلا تعتذر بالشُّغل عنَّا فإنما ... تُناطُ بك الآمالُ ما اتَّصل الشُّغْلُ
ولا أكون كمن ألقى رِحَالتَهُ ... على الحمارِ وخلَّى صهوةَ الفَرَسِ
وإنَّ مقيماتٍ بُمنْعَرَجِ اللِّوي ... لا قربَ من ليلى وهاتيكَ دارُها
كالعيسِ في البيداء يتلِفُها الظما ... والماء فوقَ ظهورِهِا محمولُ*
أرى ماءً وبي عطشٌ شديدٌ ... ولكنْ لا سبيلَ إلى الورودِ *
عسى الهمُّ الذي أمسيتَ فيه ... يكونُ وراءه فرجٌ قريبُ [6أ]
ربما تكره النفوسُ من الأمرِ ... له فُرْجَةٌ كَحَلٌ العِقَالِ *
فما بالُنا أمْسى أسدُ العرين ... وما بالُنا اليومَ شاءَ النجفُ
هل يستطيعُ جحودَ ذنبٍ قد مضى ... رجلٌ جوارحُهُ عليه شهودُ
إنَّ عَمْرًا يكون آخرَه الموتُ ... سواءٌ طويلُه والقصيرُ
قليلُ حياة المرء مثلُ كثيرِها ... يزولُ وباقي عيشِه مثلُ ذاهبِ *
ومَنْ جهلتْ نفسه قَدْرَهُ ... رأى غيرُهُ منه ما لا يَرَى(12/6309)
من رامَ ما يعجزُ عنه طوقُه ... تقاصرتْ عنه فسيحاتُ الخطا *
وأظلمُ أهلِ الظلمِ من باتَ حاسِدًا ... لمن باتَ في نَعْمائِهِ يتقلَّبُ
وكل امرئ: تولي الجميلَ نجيبُ ... وكلُّ مكانٍ يُنْبِتُ العرَّ طيِّبُ
أعزُّ مكانٍ في الدنا سرُج سابحٍ ... وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ *
أشدُّ الغمِّ عندي في سرور ... تيقنَّ عنه صاحبُهُ انتقالا
خلاَ لكِ الجو فبيضي وأصفري ... ونقري ما شئتِ أن تنقري
أبا منذر أفنيتَ فاستبقِ بعضَنا ... حنانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهونث من بعضِ
استرزقِ الله مما في خزائنهِ ... فبينها الجرادُ دارتْ مناشيرُ
وحالتْ حياضُ الموت بيني وبينها ... وجادتْ بوصلٍ حيث لا ينفعُ الوصلُ
فإنكَ والكتابَ إلى عليٍّ ... ليس بالظنِّ أنه إذا ذلَّ مولى المرء فهو ذليلُ *
لك العزُّ إنْ مولاكَ عزَّ ... وإنْ يَهُنْ فأنت فِدَى بُحْبُوبَةِ الهُونِ كائنُ
إذا وَتَرْتَ امرءًا فاحذر عدواتَهُ ... من يزرع الشوكَ لا يحصدْ به عِنبًا
إن العدوِّ وإن أبدى مسالمةً ... إذا رأى منك يومًا فرصةً وثبا
فاليومَ نقنعُ بالسلامةِ منكم ... لا تأخذوا منا ولا تعطُونَا
كفاني الله شرَّك يا حبيبي ... فأمَّا الخيرَ منكَ فقد كفاني [6ب]
إذا كنت تبغي (1) العيشَ فابْغِ توسُّطًا ... فعند التناهي يقصرُ المتطاوِلُ
ما زدتَ حين وَلِيْتَ إلاَّ خسَّةً ... والكلبُ أنجسُ ما يكون إذا اغتسلْ
إذا اجتمع الآفاتُ فالبخلُ شرُّها ... وشرٌّ من البخيل المواعيدُ والمُطْلُ
_________
(1) في الهامش (إذا ما أردت).(12/6310)
يزداد من القلب نسيانُكُم ... وتأتي الطّّباعُ على الناقلِ
وأصعبُ مفعولٍ فعلتَ تغيَّرا ... تُكَلَّفُ شيئًا في طباعكَ ضِدَّهُ
فما يديمُ سرورًا ما سررتَ به ... ولا يُرَدُّ عليك الفائتَ الحزْنُ
إن كان سمَّاكَ شمسًا من ضلالته .... فالخنفساء تسمِّي بنتَها القمرا
إذا عبت قومًا بالذي فيك مثلُهُ ... وكيف يُعيبُ العُوْرَ مَنْ هو أعورُ
اذْكُرْ محاسنَ ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تُعِبْ أحدًا منهم بما فيكا
أزمعتُ يأسًا مبينًا من نوالِكُمُ ... ولن ترى طاردًا للحرِّ كاليأسِ
فقد صِرْتَ أُذُنًا للوشاةِ سمعيةً ... ينالون من عِرضي ولولاكَ ما نالوا
وقاهم جدُّهم ببني أبيهم ... وبالأشقينَ ما حلَّ العقابُ
قد كان في الموت له راحةٌ ... والموتُ ختم في رقابِ العبادِ
شقِيتْ بنو أسدٍ بشعر مساورٍ ... إنَّ الشقيَّ بكل حَبْلٍ يُخْنَقُ
إنَّ الشقيَّ بالشقاء مولعٌ ... لا يملكُ الردَّ له إذا أتى
تعلِّلُني بالموتِ والموتُ دونَه ... إذا متُّ عطشانًا فلا نزلَ القطرُ
نحلتْ له نفسي النصيحةَ إنه ... عند الشدائدِ تذهبُ الأحقادُ
تهوى حياتي وأهوى موتَها أنفًا ... والموتُ أكرمُ نوَّالِ على الجُرْمِ
ولله سرٌّ في علاكَ وإنما ... كلام العدى ضرب من الهذيان
إذا أنت أعْطِيت السعادة لم تَبَلْ ... ولو نظرتْ شَرَرًا إليك القبائلُ *
وقد يتزيَّا بالهوى غيرُ أهلهِ ... ويستعجبُ الإنسانُ مَنْ لا يلائمهْ
لا بأس بالقومِ من طول ومن قِصَرٍ ... جسمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ [7أ]
وما ذاك بخلا بالسيوفِ وبالقَنَا ... ولكنَّ صَدْمَ الشرِّ بالشرِّ أحْزَمُ
عرفتَ الشرَّ لا للشرِّ لكن لتوقيهِ ... ومن لا يعرفُ الخيرَ من الشرِّ يقع فيه ما*
وإنما يبلُغ الإنسانُ طاقتَهُ ... كل ماشيةٍ بالرجل شِملالُ
ستبدي لك الأيامُ ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّدِ
وإنَّ ابنَ عمِّ المرْ فاعلم جناحُهُ ... وهل ينهضُ البازي بغير جناحِ
لعلَّ عَتْبَكَ محمودٌ عواقُبهُ ... وربما صحَّ الأجسام بالعلِلِ
والهجْرُ أقْتَلُ لي مما أراقبهُ ... أنا الغريقُ فما خوفي من البَللِ
فرشتُ منك بغيرِ ما أمَّلْتُهُ ... والمرءُ يِشْرَقُ بالزُّلال الباردِ
أنكرتُ طارقهَ الحوادثِ مرَّةً ... حتى اعترفتُ بها فصارتْ ديدنَا
وزادني كَلَفًا بالحبِّ أنْ مَنَعَتْ ... وحُبُّ شيء إلى الإنسان ما مُنِعَا
وبيننا لو رعيتُم ذاك معرفةٌ ... إنَّ المعارفَ في أهل النُّهى ذِمَمُ
وأُغَبطُ من ليلى بما لا أناله ... ألاَّ كلُّ ما قرَّتْ به العينُ صالحُ
أعاتبُ نفسي إن تبسمتُ خاليًا ... وقد يضحكُ الموتورُ وهو حزينُ
وفي الشك تفريطٌ وفي الحزم قوةٌ ... ويخطي الفتى في حدسه ويصيبُ
يجود بالنفسِ إنْ حنَّ الجبان بها ... والجودُ بالنفس أقصى غايةِ الجودِ
سيذكرني قومي إذا ضنَّ جِدُّهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقدُ البدرُ (1)
لا تعجبنَّ لخير زلَّ عن يدهِ ... فالكوكبُ النحس يسقي الأرضَ أحيانًا
ومن مذهبي حبُّ الديارُ وأهلِها ... وللناسِ فيما يعشقون مذاهبُ
إني أرى فتنةً تغلي مراجلها ... والملكُ تعداني لعلى لِمَنْ غلبَا
وغيظي على الأيام كالنار في الحشا ... ولكنه غيظُ الأسيرُ على القَدِّ
أمِنَ المنونِ ورَيْبِها تتوجَّعُ ... والدهرُ ليس بمعتبٍ مَنْ يجزعُ
ولاتك فيها مفرطًا أو مفرطًا ... كلا طرَفَيْ قصدُ الأمورِ ذِمَيمْ [7ب]
إذا تضايق أمرٌ فانتظرْ فرجًا ... فأضيقُ الأمرِ أدناهُ إلى الفَرَجِ
_________
(1) للشاعر أبي فراس الحمداني. من قصيدة (أراك عصيَّ الدمع).(12/6311)
أراها وإن كانت تُجَبُّ فإنَّها ... سحابةُ صيفٍ عن قليل تَقَشَّعُ
لعمرُكَ ما المكروهُ إلاَّ ارتعابُهُ ... وأعظمُ مما حل ما يُتوقَّعُ
وإني لا أزالُ أخا حروبٍ ... إذا لم أجْنِ كنتُ مجنَّى جاني
إني لأُكْثِرُ مما سُمْتَني عجَبًا ... يدٌ تشحُّ وأخرى منك تأسوني
تلقى بكلِّ بلادٍ إنْ حَلَلْت بها ... أهلاً بأهل وجيرانًا بجيرانِ
يقولون أقوالاً ولا يعملونها ... ولو قيل هاتوا حقَّقوا لم يحقِّقُوا
إنك إنْ حَمَّلْتني ما لم أطِقْ ... ساءك ما سرَّك مني من خُلق.
وإلى هنا انتهى ما أردت جمعه.
كتبه جامعه: محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.(12/6313)
(213) 3/ 3
بحث في سيحون وجيحون وما ذكره أئمة اللغة في ذلك ويليه مناقشة لبعض أهل العلم في البحث السابق ثم جواب المناقشة السابقة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقته وعلَّقت عليه وخرَّجت أحاديثه
محفوظة بنت على شرف الدين
أم الحسن(12/6315)
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في سيحون وجيحون وما ذكره أئمة اللغة في ذلك.
2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الأكرمين، وصحبه الأنجبين وبعد.
4 ـ آخر الرسالة: فليس له منزلٌ ينزله إلا منزل الحيرة التي أرشدنا إليها ... أرشدنا الله إلى ما يرضيه آمين.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 ـ عدد الصفحات: 24 صفحة.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 11 ـ 12 كلمة.
9 ــ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/6317)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الأكرمين، وصحبه الأنجبين وبعد ....
فإنه ورد السؤالُ من بعض الأعلامِ فيما ذكره مجدُ الدين صاحبُ القاموس ـ رحمه الله ـ في سيحانَ وجيحانَ. سبكَ السؤالَ في قالبِ من النظم بديع الأسلوبِ، غزيرُ الشؤبوبِ. (1)
وها أنا أقدم بيان ما ذكره المجد في قاموسه لتعلُّق السؤال به، ثم أذكر ما ذكره غيره.
فأقول: قال في المجد في القاموس (2) ما لفظه: وسيحانُ نهرٌ بالشام وآخَرُ بالبصرةِ، ويقال فيه ساحينَ، وقرية بالبلقاء بها قبرُ موسى ـ عليه السلام (3) ـ وسيحونُ نهرٌ بما وراء
_________
(1) الشؤبوب: الدُّفعة من المطر، وحدُّ كل شيء وشدةُ دفعه وأول ما يظهر من الحسن وشدة حرٍّ الشمس.
(القاموس المحيط) (ص127).
(2) (ص288).
(3) جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3407) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أُرْسِلَ ملك الموت إلى موسى عليهما السلام، فلما جاءه صكَّهُ، فرجع إلى ربه، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت. قال: ارجع إليه، فقل له يضع يده على متن ثورٍ، فله بما غطَّت يده بكلِّ شعرةٍ سنة. قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: الموت، قال: فالآن. قال: فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رميةً بحجر. قال أبو هريرة: فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لو كنت ثمَّ لأريتكم قبره، إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر» قال الحافظ في (الفتح) (6/ 442): الكثيب الأحمر: الرمل المجتمع. زعم ابن حبان أن قبر موسى بمدين بين المدينة وبين المقدس، وتعقبه الضياء بأن أرض مدين ليست قريبة من المدينة ولا من بيت المقدس، قال: وقد اشتهر عن قبر بأريحاء عنده كثيب أحمر أنَّه قبر موسى، وأريحاء من الأرض المقدسة.
انظر: (مجموع الفتاوى) (4/ 329).
* وقيل: أنّه لا يصحُّ تعيين قبر نبيّ غير نبينا محمد صلي الله عليه وسلم نعم قبر إبراهيم في الخليل لا بخصوص تلك البقعة. نقله الفاري عن الجزري في (أسنى المطالب) (ص380).(12/6321)
النهر، ونهر بالهند. انتهى.
فأفاد هذا أن سيحان نهرانِ: أحدُهما بالشامِ والآخَرُ بالبصرةِ، وأن سيحون نهرانِ: أحدهما بما وراءَ النهرِ والآخَر بالهند، وهذا يقتضي تغايُرَ مسمَّى سيحانَ ومسمى سيحونَ لاختلافِ الأمكنةِ المذكورةِ، فإن الشام والبصرة غيرُ ما وراء النهر، والهند لا شكَّ في ذلك.
وقال ياقوت بن عبد الله الرومي في كتابه (المشترك وضعًا المختلِف صقعًا) (1) ما لفظه: بأن سيحانَ وسيحون، وسيحانُ بسينٍ مفتوحة وياء ساكنةٍ وحاء مهملةٍ وألف ونونٍ.
الأول: نهر كبيرٌ جرارٌ من نواحي (المصيصةِ) بالثغرِ، وهو نهر أذنه بين أنطاكيةَ والرومِ بالقرب منه نهرٌ يقال جيحانُ، (فالبثغر) إذن سيحانُ وجيحانُ، و (بخراسانَ) سيحونُ وجيحونُ.
الثاني: سيحانُ ماءٌ (لبني تميم) بالباديةِ.
الثالث: سيحانُ نهر بالبصرة ذكرتْهُ شعراءُ الأعراب (2). قال البلاذري (3): حَفَرَهُ البرامكةِ وسمُّوه بهذا الاسمِ. انتهى.
فأفاد هذا أن سيحانَ اسمٌ لثلاثةِ أنهارٍ: الأولُ النهر الكبيرُ الذي بالشام، لأن المصيصة بلدٌ بالشام، والثاني ماء لبني تميم، والثالثُ بالبصرة. ً
_________
(1) (ص314) حيث قال: سيحان: نهرٌ كبير جرار، في ثغر المصيصة وهو نهر أذنة بين أنطاكية والروم، يصبُّ في البحر الأعظم، وبالقرب منه نهر يقال له: جَيْحَان، فبالثغر سيحان وجيحان، وبأرض الهياطلة سيحون وجيحون، وسيحان ماء لبني تميم في البادية، وسيحان نهر بالبصرة، ذكرته شعراء الأعراب، قال البلاذري: حفرته البرامكة وسمّوه كذلك.
(2) انظر: (معجم البلدان) (قال: قدم ابن شدقم البصرة فآذاه قذرها فقال:
إذا ما سقى الله البلاد فلا سقى ... بلادًا بها سيحانُ برقًا ولا رعدً).
(3) ذكره ياقوت في (معجم البلدان) (3/ 294).(12/6322)
وأفاد أيضًا أن سيحون نهرٌ بخراسانَ فوافقَ كلامَ القاموس في سيحانَ، وزاد عليه أنه يطلقُ على ماءٍ لبني تميمٍ. ووافقَهُ في مغايرةِ سيحانَ لسيحونَ وإن خالفَه في قصرِه على اسمٌ لمسمَّى واحد لا لاثنين. وأفاد أيضًا أن جيحانَ غيرُ جيحونَ. وسيأتي الكلامُ على جيحانَ وجيحونَ بعد الفراغ من الكلام على سيحانَ وسيحونَ [1].
وقال صاحب النهاية (1) في مادة (س ي ح) ما لفظه: وفيه ذكر سيحان هو نهرٌ بالعواصمِ من أرض المصيصةِ، وقريبًا من طرطوسٍ، ويذكر مع جيحانَ ... انتهى.
وقال في مادة (ج ي ح) ما لفظه فيه ذكر سيحنَ وجيحانَ، وهما نهرانِ بالعواصم عند أرض المصيصةِ وطرطوسٍ .. انتهى.
فأفاد هذا سيحانَ نهرٌ واحد بالشام، وجيحانَ نهرٌ واحدٌ بالشام أيضًا. وهذا لا يعارض ما تقدم عن القاموسِ، (2) وكتابِ (المشتركِ وضعًا المختلِفِ صقْعًا)، (3) لأن صاحب النهاية إنما تعرَّض لتفسير ما وردَ في الحديث الثابت في الصحيح: «إنَّ سيحانَ وجيحان من أنهارِ الجنة» (4) فتلخَّص من مجموع ما ذكرناه أن سيحانَ اسمٌ لأربعة
_________
(1) (2/ 433).
(2) (ص288).
(3) (ص314).
(4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2/ 2839). وأخرجه أحمد (2/ 289، 440) والخطيب في (تاريخ بغداد) (1/ 54 ـ 55) من طريق حفص بن عاصم عن أبي هريرة مرفوعًا.
وأخرجه أحمد (2/ 261)، وأبو يعلى في مسنده رقم (81/ 5921)، والخطيب في (تاريخ بغداد) (1/ 44) و (8/ 185) عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه مرفوعًا بلفظ: «أربعة أنهار فجرت من الجنة: الفرات، والنِّيل نيل مصر، وسيحان وجيحان» بإسناد حسن.
وأخرجه الخطيب في (تاريخ بغداد) (1/ 54) من طريق الأودي عن أبيه مرفوعًا مختصرًا بلفظ: «نهران من الجنة: النيل والفرات».
وإدريس هذا مجهول. كما في (التقريب). وسيأتي شاهد له من حديث أنس.(12/6323)
مسمياتٍ: نهرٌ بالشامِ، وآخر بالبصرة باتفاق صاحب المشترك والمختلف، وصاحب القاموس، وماءٌ لبني تميم كما أفاده ياقوتٌ، ولا يقدح في ذلك إهمالُ صاحب القاموس له، وقريةٌ بالبلقاء ولا يقدحُ في ذلك إهمالُ ياقوتٍ (1) لها. وأن سيحوت اسمٌ النهر بما وراء النهر باتِّفاق ياقوت والمجدِ، ونهرٌ بالهند كما أفاده صاحبُ القاموس، (2) ولا يقدح في ذلك إهمالُ ياقوتٍ له، ويتعين أن سيحانَ الذي هو نهر من أنهار الجنة هو الكائنُ بالشام كما بيَّنه صاحب النهاية، وفسره بعضُ شرَّاح الحديثِ لا غيرهِ، مما بيَّنه صاحب القاموس وياقوتٌ، لأنهما بصدد بيانِ المسميَّاتِ بهذا الاسم من غير نظرٍ إلى تخصيصِ ما ورد عن صاحب الشرع، فلم يبقَ إشكالٌ فيما نقله المجدُ، لا باعتبار تعدُّدِ المسميَّاتِ، ولا باعتبار أن سيحان غيرُ سيحونَ، لأن غاية ما أوردَهُ في قاموس هو أن سيحانَ اسمٌ لنهرينِِ وقريةٍ، وسيحون اسم لنهرينِ، ولم يقل إنَّ النهر الذي وصفَه النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بأنه من أنهار الجنة هو كذا منها. ولا قال بالاشتراك بين سيحانَ وسيحونَ، بل فسَّر كلَّ واحد منهما بتفسير يميزه عن غيره، فقال: سيحانُ نهر بالشام
_________
(1) في (معجم البلدان) (3/ 293): سيْحان: بفتح أوله، وسكون ثانيه ثم حاء مهملة، وآخره نون، فعلان من ساح الماء يسيح إذا سال: وهو نهر كبير بالثغر من نواحي المصيصة، وهو نهر أذنة بين أنطاكية والروم يمرّ بأذنه ثمّ ينفصل عنها نحو ستة أميال فيصب في بحر الروم، وإياه أراد المتنبي في مدح سيف الدولة:
أخو غزوات ما تُغبُّ سيوفه ... رقابهم إلاَّ وسيخان جامد
يريد أنّه لا يترك الغزو إلاَّ في شدة البرد إذا جمد سيحان، وهو غير سيحوم الذي بما وراء النهر ببلاد الهياطلة، في هذه البلاد سيحان وجيحان، وهناك سيحون وجيحون، وذلك كله ذكر في الأخبار.
وسيحان أيضًا: ماء لبني تميم. وسيحان قرية من عمل مآب بالبلقاء يقال بها قبر موسى بن عمران عليه السلام، وهو علي جبل هناك، ونهر بالبصرة يقال له سيحان.
وقال (3/ 294): سيحون: بفتح أوله، وسكون ثانيه وحاء مهملة، وآخره نون: نهر مشهور كبير بما وراء النهر قرب خَجندة بعد سمرقند يجمد في الشتاء حتى تجوز على جمده القوافل، وهو في حدود بلاد الترك.
(2) (ص288).(12/6324)
وآخرُ بالبصرةِ.
ولا شك أن الشامَ يتميَّزُ عن البصرةِ، لأن البصرة من أرض العراق، فكذلك يتميَّز [2] كلُّ واحد من النهرين عن الآخَرِ، ثم قال: وقريةٌ بالبلقاء بها قبرُ موسى، فبيَّن أنها من أرض البلقاء، ثم بينها ببيان آخرَ وهو: أن قبرَ موسى ـ عليه السلام ـ فيها، ثم قال: وسيحونَ نهر بما وراءَ النهرِ، ونهرٌ بالهند، فميَّز كلَّ واحد منهما عن الآخر، وتضمَّن ذلك المغايرةَ بين سيحانَ وسيحونَ، وغايةُ ما يقال عليه أنه لم يبيِّن أنها نهرُ الجنة وعذرُه في ذلك واضحٌ، لأنه بصدد بيان المفهوماتِ اللغوية، وقد بينه من هو بصدد بيانِ ما ورد في كلام الشارع كما عرفتَ.
وأما كون هذه الأسماء حقائقَ لمسميَّاتِها، أو مجازاتٍ، أو مختلطةٍ، فقد عرف من صنع المجدِ وقبلَه صاحبُ الصحاح عدمُ التعرضِ لتمييز ذلك وإن كان مقلِّلاً للفائدة، لكنه لا يختصُّ الكلامُ عليه بهذه المادة، بل جميع ما في الكتابين كذلك.
وأما جيحانُ وجيحونُ فقال في القاموس (1) ما لفظه: وجيحونُ نهرُ خوارزم، وجيحانُ نهر بين الشام والروم معرَّب جهانِ. انتهى.
فأفاد المغايرةَ بين جيحانَ وجيحونَ، وأن كل واحد منهما اسمٌ لمسمى واحد، فجيحون نهرُ خوارزم، وجيحان نهر بين الشام والروم، وقد تقدم في كلام ياقوتٍ في كتاب: (المشتركُ وضعًا المختلفُ صقْعًا) (2) أن جيحانَ بالقرب من سيحانَ الذي هو بالشام بين أنطاكيةَ والرومِ، وهو أن جيحون بخراسانَ، فوافق كلامَ صاحب القاموس فيهما. وفي (شمس العلوم) (3): جيحونَ اسم نهرٍ بلخٍ فطابق ما في القاموس، لأن
_________
(1) (ص1530).
(2) (ص314).
(3) (شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم).
تأليف أبي سعيد نشوان بن سعيد بن نشوان الحميري (573هـ) وهو معجم لغوي مهم مرتَّب على الحروف، ومقسَّم إلى الأبواب، لكل حرفٍ باب، وكل بابٍ في شطرين، أحدهما للأسماء والآخر للأفعال. وجعل لكل حرف من الأسماء أو الأفعال بابًا يشرحها فيه .. وهو في ثمانية مجلدات. (مؤلفات الزيدية) (2/ 214 ـ 215).(12/6325)
خوارزم وبلخ من خراسانَ. وقال في كتاب (المسالك والممالك) (1): جيحون نهر بلخٍ وبلخٌ من خراسان، ثم يخرج من بلاد خراسانَ ويجري بين بلاد خوارزم حتى يصب في بحيرتها.
ثم قال: وجيحان بالألف نهر يخرج من حدود الرومِ ويمتدُّ إلى أقرب حدودِ الشام. هكذا قال فوافق صاحب القاموس فيهما. وقال ياقوت في معجم البلدان (2): جيحانُ بالفتح ثم السكونِ، والحاءُ مهملةٌ، وألفٌ ونونٌ نهر بالمصيصةِ بالثغر الشامي، ومخرجُهُ [3] من بلاد الروم، ويمرُّ حتى يضيقَ بمدينة تعرفُ بكفرسا باب المصيصةِ، وعليه عند المصيصة قنطرةٌ من حجارة روميةِ عجيبةٍ قديمةٍ عريضةٍ، فيدخل منهما إلى المصيصةِ، وينفذ منها ليمتد أربعةَ أميال، ثم يصب في بحر الشام. ثم ذكر قولَ المتنبي (3):
سريتُ إلى جيحانَ من أرض آمدٍ ... ثلاثًا لقد أعياك ركَضٌ وأبعدا
ثم ذكر أبياتًا لعدي بن الرِّقاع العاملي (4) فيها ذكر جيحانَ، ثم قال: جيحون بالفتح وهو اسمٌ أعجميٌّ، وقد تعسَّف بعضهم وقال هو من جاحة إذا استأصلَه، ومنه الخطوب الجوائحُ، سمِّيَ بذلك لاجتياحهِ الأرضين.
_________
(1) المسالك والممالك: تأليف: محمد بن الحسن الكلاعي الحميدي (بعد 404هـ) نقله من كتاب (المسالك والممالك) للعزيزي الحسن بن محمد المهلبي المتوفي سنة 380هـ. وهو في صفة بيت المقدس.
(2) (2/ 196).
(3) في قصيدة يمدح سيف الدولة ويهنئه بعيد الأضحى ومطلعها:
لكل امرئ من دهرِهِ ما تعوَّدا ... وعادات سيف الدولة الطَّعن في العدا
(ديوان أبي الطيب المتنبي) (1/ 283).
(4) ومنها:
فقلت لها: كيف اهتديت ودوننا ... دُلُوكٌ وأشراف الجبال القواهرُ
وجيحانُ جيحانُ الملوك وآلسٌ ... وحَزْنٌ خزازي والشعوب القواسرُ(12/6326)
قال حمزة (1): أصلٌ اسم جيحون بالفارسيةِ هارونُ، وهو وادي خراسانَ، وعلى وسطه مدينةٌ يقال لها جيحانُ، فنسبه الناسُ إليها، وقالوا: جيحونُ على عادتهم في تغيير الألفاظِ.
قال ابن الفقيه (2): يجيء جيحونُ من موضع يقال له أبو سارانَ، وهو جبل يتصلُ بناحية السندِ والهندِ وكابُلٍِ، ومنه عينٌ تخرج من موضعٍ يقال له عندمين.
وقال الأصطخري (3) بعد أن أطال الكلام، وذكر أنها تنصبُّ إليه خمسةُ أنهار، وذكر أسماءها وأمكنتها، ثم ذكر أن أصلَ مخرجهِ من بلاد التركِ، ثم ذكر مواضِعَ يمرُّ بها حتَّى يمرُّ في حدود بلخٍ إلى التَّرمذ (4)، آمُلٍ، (5) ثم ذرعانَ، أو لأرض خوارزمَ، ثم مدينة خوارزمَ. قال: ولا ينتفعُ بهذا النهر من هذه البلادِ التي يمرُّ بها إلا خوارزمُ، ثم ينحدرُ من خوارزمُ حتى ينصبُّ في بحيرة تعرفُ ببحيرة خوارزمَ، وهي بحيرة بينها وبين خوارزمَ ستةُ أيام، وهي في موضع أعرضُ من دِجْلَةَ. قال ياقوت (6): وقد شاهدتُه وركبتُ فيه، ثم ذكر جمودَه إذا اشتدَّ البردُ. ثم قال: وهو سمِّيَ نهر بلخٍ لأنَّه مجازًا لأنَّه يمر بأعمالِهما، فأما مدينةُ بلخٍ فإن أقربَ موضع منه إليها مسيرةٌ اثني عَشَرَ فرسخَا انتهى.
فقد وافق ما رواه صاحبُ المعجمِ عن نفسهِ وعن غيرِه ما ذكره صاحبُ القاموس [4]
_________
(1) عزاه إليه ياقوت الحموي في (معجم البلدان) (2/ 196 ـ 197).
(2) عزاه إليه ياقوت الحموي في (معجم البلدان) (2/ 196 ـ 197).
(3) هو: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفارسي ـ المعروف بالكرخي، له مسالك الممالك، وصور الأقاليم.
انظر: (معجم المؤلفين) (1/ 68 رقم 507).
(4) ترمذ: في خراسان، وهي على الضفة الشرقية من جيحون.
(الروض المعطار) (ص132).
(5) آمل: مدينة من مدن خراسان، بينها وبين مرو على شط نهر جيحون ست مراحل، وبين آمل وجيحون ثلاثة أميال.
(الروض المعطار) (ص5).
(6) في (معجم البلدان) (2/ 197).(12/6327)
في جيحانَ وجيحونَ، وإنما خصصَ نهر جيحون بخوارزم لما عرفتَ من أنه لا ينتفعُ به إلا خوارزمُ.
وبالجملة فما ذكره صاحب القاموس هو ما ذكره مَنْ قبلَه من هؤلاء الأئمةِ، فإن حاصل ما يستفادُ من كلامهم المغايرةُ بين جيحانَ وجيحون، وإن كلَّ واحد منهما بالمكان الذي ذكره، وأما تعيين النهر الذي من الجنة منهما فقد عيَّنه المفسِّرون لما وقع في كلام النبوةِ، وأنه جيحانُ كما تقدم عن صاحب النهاية (1) وغيرهِ، وعذرُ صاحبِ القاموس في عدم تعيين النهرِ الذي من الجنة منهما هو ما قدمنا في سيحانَ وجيحانَ، فالنهرانِ اللذانِ من الجنة هما سيحانُ وجيحانُ، لا سيحونُ وجيحونُ كما تقدم بيانُه، وهو ثابت في الصحيح (2) بلفظ: «سيحانُ وجيحانُ».
_________
(1) (1/ 323 ـ 324).
(2) عند مسلم في صحيحه رقم (26/ 2839).
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (17/ 176 ـ 177): قوله صلي الله عليه وسلم: «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة» اعلم أن سيحان وجيحان غير سيحون وجيحون، فأمَّا سيحان وجيحان المذكوران في هذا الحديث اللذان هما من أنهار الجنة في بلاد الأرمن فجيحان نهر المصيصة وسيحان نهر إذنة وهما نهران عظيمان جدًّا أكبرهما جيحان فهذا هو الصواب في موضعهما.
وأمّا قوله الجوهري في صحاحه (2/ 433): جيحان نهر بالشام فغلط أو أنَّه أراد المجاز من حيث أنه ببلاد الأرمن وهي مجاورة للشام، قال الحازمي: سيحان نهر عند المصيصة قال وهو غير سيحون. وقال صاحب (النهاية) ـ (1/ 323 ـ 324) ـ سيحانه وجيحان نهران بالعواصم عند المصيصة وطرطوس، واتفقوا كلهم على أن جيحون بالواو نهر خراسان عند بلخ، واتفقوا على أنَّه غير جيحون وكذلك سيحون غير سيحان وأمّا قول القاضي عياض هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الإسلام فالنيل بمصر والفرات بالعراق، وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان ففي كلامه إنكار من أوجه:
أحدها: قوله الفرات بالعراق وليس بل هو فاصل بين الشام والجزيرة.
والثاني: قوله سيحان وجيحان يقال سيحون وجيحون فجعل الأسماء مترادفه وليس كذلك بل سيحان غير سيحون وجيحان غير جيحون باتفاق الناس.
الثالث: أنَّه ببلاد خراسان وأمَّا سيحان وجيحان ببلاد الأرمن بقرب الشام والله أعلم. وأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة ففيه تأويلات ذكرهما القاضي عياض ـ في (إكمال المعلم بفوائد مسلم) (8/ 372) ـ:
أحدهما: أن الإيمان عم بلادها وفاض عليها، وأنَّ الأجسام المتغذية بهذه المياه صائرة إلى الجنة.
الثاني: وهو الأصح أنه على ظاهره، وأنَّ لها مادة من الجنة، إذ الجنة موجودة مخلوقة عند أهل السنة وانها التي أنزل منها آدم.
وقد ذكر مسلم أول الكتاب في حديث الإسراء: أنّ النيل والفرات يخرجان من أصلها، وبينه في البخاري (4/ 134) فقال: من أصل سدرة المنتهى.(12/6328)
وأما زَعْمُ من زعم المعارضةَ بين قوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «سيحانُ وجيحانُ والنيلُ والفراتُ من أنهار الجنة» وبين قوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «وإذا أربعةُ أنهارٍ: نهران ظاهرانِ، ونهران باطنانِ، أما الظاهرانِ فالنيلُ والفراتُ، وأما الباطنانِ فسيحانُ وجيحانُ» (1) ثم صار إلى الجمع بأنه لم يثبتْ في سيحانَ وجيحانَ أنهما من الجنة، فهذا ليس يجمع، بل إهدار لما وقع في الحديثين جميعًا من ذكر سيحانَ وجيحانَ، والأمر أقربُ من ذاك، ومعنى كلام النبوة أوضحُ، فإن غاية ما يستلزمه كونُ سيحانَ وجيحانَ باطنينِ أن لا يظهرُ انصبابُهما من نفسِ الجنةِ بأن يجريا من باطنِها إلى باطن الأرضِ، ثم يظهرانِ من حيثُ ظهرا، ويظهر انصبابُ النيل والفرات من ظاهر الجنةِ إلى ظاهر الأرضِ، ثم يتصلُ ظهورهما وجريُهما بالمواضع المعروفة الآن [5].
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5610) تعليقًا وقد وصله البخاري في صحيحه رقم (3207)، ومسلم رقم (264/ 164).
وأبو عوانة (1/ 120 ـ 124).
والنسائي في (السنن) (1/ 76 ـ 77)، وأحمد 04/ 207 ـ 208)، من طرق عن قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة مرفوعًا بحديث الإسراء بطوله، وفيه: « ... وحدّث نبي الله صلي الله عليه وسلم أنّه رأى أربعةَ أنهارٍ، يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان، فقلتُ: يا جبريل، ما هذه الأنهار؟ قال: أمَّا النهران الباطنان فنهران في الجنة، وأمَّا الظاهران فالنيل والفرات».(12/6329)
وهكذا جمُعُ من جمَعَ بعدم ظهورِ سيحانَ وجيحانَ على وجه الأرضِ وإن كانا من أنهار الجنة نظرًا منه إلى ما وقع من توصيفِهما بكونهما باطنينِ، فإنه ليس في هذا الوصف ما يستلزمُ أنهما لا يظهرانِ أبدًا، إذا صدقُه يوجدُ بما ذكرناه، ولو كان الأمر كما قال هذا لم يكن لإخبارِه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ للأمَّةِ بأن الأربعة الأنهارِ من أنهار الجنة كثيرٌ فائدةٍ بعد تسميته لها بأسمائها المعروفةِ عند أهل الدنيا، مع اعتقادهم بوجود مسميَّاتِها في بقاع الأرضِ، وليست ذلك من قبيل الأخبار بما في الجنة كما وقع في الكتاب العزيز من أخبار الله ـ عز وجل ـ بما فيها من أنهار الماء والعسلِ والخمرِ واللبنِ، (1) بل من باب الأخبار بما صار في الدنيا من أنهار الجنةِ كما تفيده ألفاظُ الأحاديث وسياقاتُها.
فتقرَّر بمجموع ما ذكرنا صحةُ ما قاله صاحب القاموس في سيحانَ وجيحانَ، وسيحون وجيحونَ. وتبين ما هو منها من أنهار الجنةِ وما ليس منها، وظهر تعيينُ مواضعِ ما هو من الجنةِ، وتعيينُ مواضعِ ما ليس منها، ولم يبقَ في الكلام على هذا التقرير إشكالٌ.
وأما ما سأل عنه السائل ـ كثر الله فوائده ـ من تغليط صاحب القاموس (2) لصاحبِ الصحاح في مواضعَ كثيرةٍ جدًّا كما هو مصرَّحٌ بذلك في القاموس.
وحاصلُ السؤال أنه هل يقبل من صاحب القاموس مجرَّدُ ما يقعُ منه من دعوى غلطِ صاحب الصحاح من دون أن يقيمَ على ذلك برهانًا مقبولاً، أم لا بدَّ من البرهان على
_________
(1) لقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ} [محمد: 15].
(2) قال صاحب (القاموس): العلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي في مقدمة القاموس (ص35): ثم إنّي نبَّهت فيه على أشياء ركب فيها الجوهري ـ رحمه الله ـ خلاف الصواب، غير طاعن فيه، ولا قاصدٍ بذلك تنديدًا له، وإزراء عليه، غضًّا منه، بل استيضاحًا للصَّواب، واسترباحًا للثواب، وتحرزًا وحذارًا من أن ينمى إلىَّ التصحيف، أو يعزى إلىَّ الغلط والتحريف ... ".(12/6330)
ذلك؟
وأقول: هذا سؤالٌ قويٌّ، وبحث سويٌّ، والجوابُ عنه من وجوه:
الأول: إنه لا يقولُ [6] قائلٌ من أهل العلم أن نسبةَ عالمٍ للغلط إلى عالم آخرَ مقبولةٌ بمجرَّد الدَّعوى، وكما أن هذا لم يقلْ به أحدق فهو أيضًا لا يطابقُ قاعدةً من قواعد العلومِ على اختلافِ أنواعِها، فإن من قال في مقام النقل عن أهل اللغةِ: إن من لغتَهم كذا فليس لأحدٍ أن يقولَ: هذا باطلٌ أو غلطٌ، ولا سيما إذا كان الناقلُ مثلَ الجوهري في إمامِته وثقتهِ وقبولِ الناس لروايتِه قرنًا بعد قرن، واحتجاجِ أهلِ العلم بما نقلَه في صحاحِه من عصره إلى الآنَ. (1)
الوجه الثاني: غايةُ ما يقال لمن ينقل عن العرب شيئًا من لغتِهم بعد ثبوت كون الناقلِ ثقةً: نحن نطلبُ منك تصحيحَ النقلِ، فإن جاء بما يفيدُ ذلك، وإما برواية صحيحةٍ عن العرب على الحدِّ المعتبرِ في نقل اللغةِ كما هو مدوَّنٌ في الأصول، أو باستخراجِ ذلك من كلماتِهم التي قد اشتغلَ بجمعِها الثقاتُ الأثباتُ، كدواوين أشعارهم ومجاميعِ خُطَبهم
_________
(1) قال أبو بكر زكريا الخطيب التَّبريزي اللُّغوي: كتاب الصحاح هذا كتاب حسن الترتيب، سهل المطلب لما يراد منه، وقد أتى بأشياء حسنة، وتفاسير مشكلات من اللغة، إلا أنَّه مع ذلك فيه تصحيفٌ لا يشك في أنَّه من المصنف لا من الناسخ، لأن الكتاب مبنيٌّ على الحروف، قال: ولا تخلو هذه الكتبُ الكبار من سهوٍ يقع فيها أو غلطٍ، غير أن القليل من الغلط الذي يقع في الكتب إلى جنب الكثير الذين اجتهدوا فيه وأتعبوا نفوسهم في تصحيحه وتنقيحه معفوٌ عنه.
قال الثعالبي اللغوي في كتابه (يتيمة الدهر) في محاسن أهل العصر: كان الجوهريُّ من أعاجيب الزمان وهو إمام في اللغة وله كتاب الصحاح. وفيه يقول أبو محمد إسماعيل بن محمد بن عبدوس النيسابوري:
هذا كتاب الصِّحاح سيدُ ما ... صُنِّف قبل الصحاح في الأدب
تشمل أبوابه وتجمع ما ... فُرِّق في غيره من الكتب
وقال ابن بزيّ: الجوهري أنْحى اللغويين.
انظر: (المزهر في علوم اللغة) وأنواعها (1/ 97 ـ 99) للسيوطي.(12/6331)
ومحاوراتهم المشهورةِ عند الناس شهرةً بالغةً إلى الحدِّ المعتبرِ في ذلك فبها ونْمَتْ، وإن لم ينهضْ بذلك فليسَ لأحدٍ أن يقولَ له: هذه الروايةُ باطلةٌ أو غلطٌ، بل غايةُ ما يقال فيها أن راويْها لم ينقلْها على الوجه المعتبرِ، فلم تثبتْ بها الحجةُ، ولا يجوزُ الأخذُ بها حتى يصحِّحَ نقلَها هو أو غيرُه ممن هو أطولُ باعًا منه. وفَرْقٌ بين وصفِ الشيء بكونه لا تقومُ به الحجةُ، أو أنه لا يؤخذُ به، وبين وصِفِهِ بكونه باطلاً أو غلطًا، فإنه يكفي في الأول مجرَّدُ عدمِ تصحيح النقل، ولا يكفي في الثاني إلا وجودُ البرهانِ [7] المسوِّغِ لنسبةِ الغلطِ إلى الناقلِ أو البطلانِ للمنقولِ، وذلك إما باستقراء لغةِ العربِ استقراءً تامًا على وجه لا يبقى بعده شكٌّ في غلط الناقلِ، أو بطلانِ ما نقلَه، أو بأن يحكي الناقلُ عن نفسه أن جميعَ ما نقلهَ في مؤلَّفه هو من كتاب كذا فلا يوجد ذلك في الأصلِ أو يصحِّفه الناقلُ.
الوجه الثالث: أنه قد تكلم جماعةٌ من أهل العلم المتبحرينَ في اللغة على أحرف مما نقلَه الجوهري في الصحاح، وبرهنوا على ذلك في كتبهم، فنقل عنهم صاحبُ القاموس ما ذكروه مجرَّدًا عن البرهانِ، وقبل الناسُ ذلك منه لثقته وإمامتهِ واضْطِلاعِه بفنِّ اللغةِ.
وعلى فرض عدمِ نَقْلِ ما ذكره صاحبُ القاموس عن التغليطِ لصاحب الصحاحِ من غيره فهو أهلٌ للاستقراء العامِّ والبحثِ الكامل.
الوجه الرابع: إن قلت: فما الحكمُ فيما وجدناه منقولاً في الصحاح للجوهري متعقبًا في القاموس بأنه غلطٌ أو باطلٌ، من دون وجود ما يقتضي تصحيحَ ما نقلَه الجوهريُّ، ولا وجودَ برهان مسوِّغٍ لنسبة الغلط والبطلان؟
قلت: إن تمكن الناظر في الكتابين من البحث المفضِي إلى تصحيح ما نقلَه الجوهري بالطريقة التي قدمنا ذكْرَها فلا اعتبارَ بما ينقلُه صاحب القاموس على الوجهِ المتقدم فلا حكمَ لما ينقلُه صاحبُ الصحاح في ذلك الحرفِ، ولا تقوم به الحجةُ. وإن لم يمكن الوقوفُ على تصحيح النقلِ، ولا على برهان الغلطِ فلا يجوزُ العملُ بشيء من تلك الأحرفِ التي نقلها صاحبُ الصحاح، ونسبَهُ صاحبُ القاموس إلى الغلط فيها، لأن جزمَ مثل صاحبِ(12/6332)
القاموس بالغلط يفتُّ في عَضُدِ الظنِّ الحاصلِ بروايةِ صاحب الصحاح، على فرض قبولِ نقل الآحادِ في اللغة، ويقدحُ في المعتبرِ من التواترِ على القول باعتباره في نقلها، وهذا معلومٌ بالوجدان لكل أحد، فإن من أخبره ثقةٌ بخبرٍ، ثم أخبره ثقةٌ آخر مثل الأول بأن المخبرَ غلطٌ مع علمِ السامعِ بأن الآخَرَ لا ينسِبُ الغلطُ إلى الأولِ مجازفةً وعبثًا، فإنه يحدثُ عند السامع ذلك وقفةً وحيْرَةً حتى يتخلَّص بالبحث إن أمكن، وإن تعذَّرا استمرَّ حائرًا .... واللهُ أعلم [8].(12/6333)
هذه مناقشة لبعض أهل العلم في البحث السابق
[9]. بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاةُ والسلام على سيدنا محمد الأمين وآلِه الطاهرينَ، وعلى أصحابه الراشدين آمينَ.
قول شيخنا العلامِةِ البدرِ ـ كثر الله فوائده ـ في جوابه عن السؤال الذي نظمُتُه إليه: ويتعيَّن أن سيحانَ الذي هو من أنهار الجنةِ هو الذي بالشام إلى آخره، فيه بحثٌ، وهو أنه قد ثبت اشتراكُ هذا الاسم بين نهرين مشهورينِ: أحدُهما بالبصرةِ، والآخر بالشام كما اتفق عليه صاحبُ القاموس (1) وصاحب المعجم (2)، وماءٌ لبني تميم على ما ذكره صاحب المعجمِ، وقريةٌ بالبلقاءِ على ما ذكره صاحب القاموسِ (3). وحينئذٍ فلا بدَّ من قرينةٍ تعيِّنُ المرادُ به في الحديث من هذين النهرينِ.
وقولُ صاحب النهاية (4) أنه النهرُ الذي بالشام بمجرَّده لا يكفي، وكذلك تفسير بعض شُرَّاحِ الحديثِ، (5) وليس تفسير صاحب النهايةِ لما وقع في الحديث فيما قدمت أنه مشتركٌ، ويصح صرفُ اللفظ إلى كل من معنييهِ من قبيل نقل العدلِ للغةِ، ونفي سوى ما نقلَه. فقد صحَّ الاشتراك بنقل الثقاتِ الأثبات. (6)
_________
(1) (ص288).
(2) (معجم البلدان) (3/ 293).
(3) (ص288).
(4) (1/ 323 ـ 324).
(5) انظر ما قال النووي في (شرحه لصحيح مسلم) رقم (17/ 176 ـ 177).
(6) اللفظ المشترك: هو اللفظةُ الموضوعةُ لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعًا أولاً من حيث هما كذلك. (المحصول) (1/ 261).
وقال ابن الحاجب في (شرح المفصل) كما في (البحر المحيط) (2/ 122) وهو اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين أو أكثر دلالة على السواء عند أهل اللغة سواء كانت الدلالتان متفاوتتين من الوضع الأول أو من كثرة الاستعمال، أو استفيدت إحداهما من الوضع والأخرى من كثرة الاستعمال وهو في اللغة على الأصح.
قال الشوكاني في (إرشاد الفحول) (ص100): اختلف أهل العلم في المشترك فقال قومٌ إنّه واجب الوقوع في لغة العرب، وقال آخرون إنّه ممتنع الوقوف، وقالت طائفةٌ إنّه جائز الوقوع. ثم ذكر الشوكاني ـ رحمه الله ـ أدلة القائلين بالوجوب، وأدلة المجوّزين ثم قال: (ص105): إذا عرف هذا لاح لك عدم جواز الجمع بين معنييَ المشترك أو معانيه، ولم يأت من جوَّزه بحجة مقبولة. وقد قيل إنّه يجوز الجمع مجازًا لا حقيقةً، وبه قال جماعة من المتأخرين وقيل: يجوز إرادةُ الجمع لكن بمجرد القصد لا من حيث اللغة. وقد نسب هذا إلى الغزالي والرازيُّ.
وقيل: يجوز الجمع في النفي لا في الإثبات. فيقال مثلاً: ما رأيتُ عينًا يراد العين الجارحة، وعين الذهب، وعين الشمس، وعين الماء. ولا يصح أن يقال عندي عينٌ وتراد هذه المعاني بهذا اللفظ.
وقيل: بإرادة الجميع في الجمع فيقال مثلاً عندي عيونٌ ويراد تلك المعاني. وكذا المثنى فحكمه حكم الجمع فيقال مثلاً عندي جَوْنانِ ويراد الأبيض والأسود ولا يصحُّ إرادة المعنيين أو المعاني بلفظ المفرد وهذا الخلاف إنّما هو في المعاني التي يصح الجمع بينها وفي المعنيين اللذين يصحُّ الجمع بينهما لا في المعاني المتناقضة.
انظر: (الإبهاج) (1/ 263)، (نهاية السول) (2/ 138 ـ 140).(12/6334)
ومحلُّ السؤال هو تعيينُ النهر المرادِ بسيحانَ في الحديث من هذينِ النهرينِ اللذين وُضِعَ لكل منهما هذا الاسمُ وضعًا على حِدَةٍ، ونُصِبَ الدليلُ من قرينة صريحة صحيحة، أو حديثٍ خاصٍّ، أو روايةٍ مجمعٍ عليها تقومُ به الحجةُ.
ولعله يقال: قد صرح المجيبُ في أثناء الجوابِ بما يفيد التعيينُ فيما نقلَه ـ نفع الله بعلومه ـ عن البلاذري (1) من أنه نهرَ البصرة حفرهُ البرامكة، ومع هذا فلا يصح تفسير ما ورد في الحديث به لعدمِه، وعدمِ وضع هذا الاسم له في أيام النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ ولكن يبقي الكلامُ في أن المجيبَ ـ دامت إفادته ـ قد ذكر أن صاحبَ القاموس بصددِ بيان المفهوماتِ اللغويةِ. فإذا كان وضعُ هذا الاسم لنهر البصرةِ لغةً من لغة العرب اندفع ما ذكره البلاذري أنه من أوضاع البرامكةِ، أو ثبت التعارضُ بين كلامه
_________
(1) ذكره ياقوت في (معجم البلدان) (3/ 293).(12/6335)
وكلام المجدِ كما لا يخفي.
وأيضًا فإنَّ ماءَ بني تميم المسمَّى بسيحانَ إما أن يكون نهرًا جرّارًا، أو نهرًا يوردُ أو بئرًا أو بريكةٍ لماء المطر. وعلى التقديرينِ الأوَّلينِ فهما مما يحتملُه اللفظ في الحديث، ويصحُّ تفسير المعنى به لاستقامةِ المعنى. إذن فيبقى الإشكالُ بحاله.
قوله ـ نفع الله بعلومه ـ أن جيحانَ بالقربِ من سيحانَ الذي هو نهر بالشام بين أنطاكيةَ والروم، وأن جيحون بخراسان فوافق كلامَ صاحبِ القاموس فيهما.
أقول [10]: لا موافقةَ في تفسير جيحانَ بين كلاميهما، لأنه قد تقدم في كلام ياقوتٍ (1) الذي نقلَه المجيبَ عنه ما لفظُه: فبالثغر إذن سيحانُ وجيحانُ يعني في ثغر الشام وسيأتي قريبًا نقلاً عنه أيضًا بعد أن ضبطَ حروفَ جيحانَ أنه نهر بالمصيصةِ بالثغرِ الشاميِّ. والمصيصةُ مدينةٌ بالشام كما أفاده المجيبُ، وصرح به الجوهري في صحاحِه. (2).
قال فيه والمصيصةُ بالتخفيف غيرُ مُثَقَّلٍ مدينة بالشام، والمجدُ في قاموسه (3) قال فيه: والمصيصةُ كسفينةٍ بلدٌ بالشام ولا تشدَّدُ. انتهى هذا تفسير ياقوتٍ له.
وقول صاحب القاموس (4): إنه نهر بينَ الشام والرومِ لا في أصلِ الشام ينافيهِ منافاةً ظاهرةً إلا أن يقال: إن البيِّنةَ نسبيةٌ لا استقلال لها كما يقالُ في أمثال العرب (بين جمادى ورجبٍ ترى العجبَ). (5) مع أنه لا وقتَ خارجٌ عن مسمَّى جمادى ورجبٍ هو
_________
(1) في (معجم البلدان) (3/ 293) وقد تقدم بتمامه.
(2) (2/ 433).
(3) (ص288).
(4) (ص288).
(5) (العجب كلُّ العجب بين جمادى ورجب).
أول من قال ذلك عاصم بن المشعرِّ الضَّبِّيّ كان أخوه أبيدة علق امرأة الخنيفس بن خشرم الشيباني، فعلم الخنيفس بذلك فقتل أبيدة. ولما علم أخوه عاصم بقتله لبس أطمارًا من الثياب، وركب فرسه، وتقلّد سيفه، وذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة، وبادر فقتل قاتل أخيه قبل دخول رجب، لأنّهم لا يقتلون في رجب أحدًا. فقال: (العجب كل العجب بين جمادى ورجب) فأرسلها مثلاً ورجع إلى قومه.
(مجمع الأمثال) للميداني (2/ 354 ـ 355) بتصرف.(12/6336)
بينهما، بل الوقت إما من جمادى أو رجب لا يتحقَّق فاصلٌ بينَهما هو من غيرهما وفيه نظر لا يخفى سيَّما إذا كانت البيَّنةُ في الأمكنةِ كما إذا قلت: كرمانُ إقليمٌ بين فارسَ وسجستانَ فلا بدَّ من تحقيق إقليمٍ لا يطلق عليه أنه من فارسَ، ولا يطلق عليه أنه من سجستانَ، وإنما تتصلُ به بلاد فارسَ من جهةٍ، وبلاد سجستانَ من جهةٍ أخرى. هذه حقيقةُ هذا اللفظ ..
نعم لكن ما ذكره ياقوتٌ في تعيين محلِّ جيحانَ هو الذي ذكره صاحبُ النهاية في قوله: سيحانُ وجيحانُ نهرانِ بالعواصمِ، لأن العواصمَ من المصيصةِ، والمصيصة من القطر الشامي كما تقدم.
وكذلك ذكره الجوهري في الصحاح قال فيه: وجيحونُ نهرُ بلخٍ، وهو فَيْعوْلُ، وجيْحانُ نهر بالشامِ .. انتهى.
وقال فيه أيضًا: وسيحانُ نهرٌ بالشام، وساحينُ نهر بالبصرةِ، وسيحونَ نهر بالهندِ هذا كلامه.
وقد غلَّطه الشيخُ محيي الدين النواوي ـ رحمه الله ـ في شرحه لصحيح مسلم عند الكلام في شرحه لصحيحِ مسلمٍ (1) عند الكلام على هذا الحديثِ المذكورِ في تفسير جيحانَ بأنه نهرٌ بالشام، فقال ما لفظه: اعلم أن سيحانَ وجيحانَ غيرُ سيحونَ وجيحونَ فأما سيحانُ وجيحانُ المذكورانِ في هذا الحديثِ فهمًا في بلاد الأرمنِ، فجيحانُ نهرُ المصيصةِ، وسيحانُ نهر أذنةَ، وهما نهران عظيمانِ جدًّا، أكبرهما جيحانُ. وقل الجوهري: جيحانُ نهرٌ بالشام غلطٌ ... انتهى.
وهذا هو الذي قصد في النظم في هذه الأبيات.
_________
(1) (17/ 176 ـ 177).(12/6337)
ورُوينا في صحاحِ ... الجوهري الغَرْطرَّا
إن جيحانَ بقطرِ الشامِ ... نهرٌ ليس يكرى
ثم في شرح النواوي ... جعلَه زورًا ونُكرى
وأقول: بل الغلطُ ما ذكره الشيخ محيي الدين، فإنه أثبت ما هو شبهُ الأخصِّ، ونفيَ ما هو شبهُ الأعمِّ، وكلَّما وُجِدَ الأخصُّ وجِدَ الأعمُّ، فإنه إذا صدقَ الإنسانُ صدقَ الحيوانِ بالضرورةِ، فإذا كان جيحانُ [11] بالمصيصة كما ذكره كان بالشام؛ إذ لا خلافَ أن المصيصةَ من بلاد الشام .. وقولُه: الأرمنُ لم يتعرض لها في القاموسِ في مظانها ولم يبيِّنْ معناها، ولكنِ استطردَ ذكرَها في مادة (ط ر س) فقال ما لفظه (1): وطرسوسٌ كجلزونٍ بلدٌ إسلامي مخصِبٌ، كان للأرمن ثم أُعيدَ إلى الإسلام في عصرنا ... انتهى.
فظهر منه أنهم قومٌ كفَّار، أو ملكٌ كافر. وأذنةُ محرَّكةً بلد قرب طرطوسٍ. وقوله كجلزونٍ، هذا اللفظ كثيرً ما يزينُ به ولم يذكره في موضعه في كتابه، ولا بين معناه ومما زان به العَربُوس. وهذا كما ذكر البقْسَ (2) وقال إنه شجرٌ كالآسِ ورقًا وجَبًا، أو هو [الشمساد] (3) ولم يذكر [الشمسارَ] (4) في موضعهِ، وهذا تعريف بمجهولٍ، بل يُخِلُّ
_________
(1) (ص713).
وذكرها (ص684) في مادة (أ ي س) وتأيَّسَ: لانَ وكسحابٍ بلد للأرمن فُرْضَةَ تلك البلاد صارت للإسلام. ?
الأرمن: سكان أرمينية، وهي بلد معروف يضمُّ كورًا كثيرة وهي أمةٌ كالروم. فتحت في زمن عثمان، فتحها سلمان بن ربيعة الباهلي سنة 24هـ. انظر: (الروض المعطار) (ص25).
(2) قال في (القاموس) (ص687): البقسُ يقال: بَقْسيسٌ: شجر كالآسي ورَقًا وحبًا، أو هو الشّمْشاذُ قابض، مُجفَّفٌ.
(3) كذا في المخطوط والذي في القاموس الشّمْشاذُ. قال في (المعجم الوسيط) (1/ 493) والشَّمذة شجرة تُعد لتمتد عليها شجرة متسلِّقة جمعها شُمُذ وشِماذ ولعل ذلك معروف، فلم يُبيِّن معناه واكتفى بذكره.
(4) كذا في المخطوط والذي في القاموس الشّمْشاذُ. قال في (المعجم الوسيط) (1/ 493) والشَّمذة شجرة تُعد لتمتد عليها شجرة متسلِّقة جمعها شُمُذ وشِماذ ولعل ذلك معروف، فلم يُبيِّن معناه واكتفى بذكره.(12/6338)
بما ادَّعاه من الإحاطة .... والله أعلم
قوله ـ طاب ذكره ـ: وفي شموس العلوم (1) جيحونُ اسمُ نهرِ بلخٍ فطابقَ ما في القاموس لأن خوارزمَ من خراسانَ.
أقول: تبايُنُ الكلامينِ ظاهرٌ لأن الذي في القاموسِ أنه نهرٌ بخوارزمَ، والذي في شمس العلوم أنه نهر بلخٍ، خوارزم غيرُ بلخٍ قطعًا. وكونُ القطرينِ يشملُهما اسمُ خراسانَ لا يفيدُ في ذلك شيئًا، كما لو قال قائل: قصرُ غمدانَ بصنعاءَ، وقال آخر: قصرُ غمدان بذمارٍ، وصرْنا إلى أن القولينِ متَّفِقانِ، لأن المحلَّين من اليمنِ لما كان شيئًا يعتدُّ به، وإنما كان يحصلُ التطابُقُ لوقوع في كلام صاحبِ شمس العلوم أنه نهرٌ بخراسانَ، وخراسانُ يشملُ بلخَ وخوارزمَ كما أفاده المجيبُ.
على أن ما نقل عن صاحب كتاب المسالكِ والممالكِ ينافي القولَ بأنَّ خوارزمَ من خراسانَ، حيثُ قال: ثم يخرجُ من بلادِ خراسان ويجري بين بلاد خوارزمَ، فجعلَه خارجًا من بلاد خراسانَ جاريًا بين بلاد خوارزمَ، فلو كانتْ خوارزمُ من خراسانَ لما صحَّ أنه خارجٌ عن بلاد خراسانَ حال كونِه جاريًا في بلاد خوارزمَ، التي هي منها، وهو ظاهرٌ، ويؤيِّده قولُ الشيخُ مُحيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم (2) عند الكلام على الحديثِ (3) المذكورِ. وأما جيحونُ بالواو فنهرٌ وراءَ خراسانَ عند بَلْخٍ، وظاهر هذا أنه ليس في خراسانَ.
بقي هاهنا سؤالٌ، وهو أنه ورد في الحديث (4): «نهرانِ مؤمنان، ونهرانِ كافرانِ،
_________
(1) تقدم ذكره.
(2) (17/ 176 ـ 177).
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم تخريجه.(12/6339)
أما المؤمنان فالنيلُ والفراتُ، وأما الكافرانِ فدجلةُ ونهر بِلْخٍ». فهل المرادُ بنهر بلخٍ جيحونُ على ما في شمس العلوم، أو غيرُه من أنهارهِ؟
قوله ـ زاده الله علمًا ـ ثم قال: جيحونُ بالفتح وهو اسمٌ أعجميٌّ.
فعلى هذا هو غير منصرفٍ للعلميةِ والعجمية مع تكاملِ شروطِها، وهو أنه لم يُسْتَعْمَلْ في لغة العرب إلا عَلَمًا كما قرَّره الرَّضي، (1) فتنوينُه في حالةِ الرفع والجرِّ وكسر بالألفِ المنقلبةِ عن النونِ في حالةِ النصبِ كما وقع بخط شيخِنا ـ أبقاه الله ـ.
في أثناء الجواب ليس في محلِّه وكذلك سيحونُ.
قوله: كثر الله فوائده: وقد تعسَّف بعضُهم فقال [12] هو من جاحَهُ إذا استأصلَهُ ... إلى آخره.
يؤيد أنّه قول معسَّف قولُ حمزةَ الآتي أنه بالفارسيةِ هارونُ، وظنَّ شيخُنا ـ أبقاه الله ـ أنه على عادتهم في تغيير الألفاظِ، وأنا أظن أنه في تعريب الألفاظ، ولأن تغييرَ الألفاظ ليس بعادةٍ بخلاف التعريبِ، فإن تغيير بعض الحروف لا بد منه، فلا بد من تغيير بين المعرّب والمقرّب إليه بحروف مخصوصةٍ، ولو بقي على حاله لما صدق معرَّبٌ ومعرَّبٌ إليه، لأنه واحد بالشخص مع عدم التغيير بأي شيء. وقد نص عليه الخفاجي في الريحانةِ حيث قال: الشرموزةُ هو النعلُ المعروف، ويقولون شرموجةُ على قاعدتهم في التعريب فإنها تقلب فيه الزاي جيمًا) .. انتهى.
ونظير ذلك الخَوَرْنَقُ. قال في القاموس (2): إنّه معرّبُ خورنكاه، (3) والجنابذُ قال ابن حجر (4) جمع جنبذة معرَّبُ كنبذةٍ، والدرهمُ قال في ................................
_________
(1) في (شرح كافية ابن الحاجب) (1/ 123 ـ 124).
(2) (ص1135).
(3) انظر: (المزهر) (1/ 280).
(4) في (فتح الباري) (1/ 463) أن الجنابذ شبه القباب واحدها جنبذة بالضم، وهو ما ارتفع من البناء فهو فارسي معرب وأصله بلسانهم كنبذة يوزنه لكن الموحدة مفتوحة والكاف ليست خالصة.(12/6340)
الصحاح (1): إنه معرّب. وزاد في الريحانة أنه معرّبُ دَرِم، وعزا في ذلك قصةٌ إلى ما ذكره السُّكريُّ في شرح ديوان الأعشي، ويمكن توجيهُ العبارة بأنه على عادتِهم في تغيير الألفاظِ للتعريب.
وظاهر صنعِ صاحب النهايةِ (2) يقضي بأنه من جاحه، ألا تراه ذكَرَهُ في مادة (ج ي ح) فجعل أصولَه الجيمَ والألفَ المنقلبةَ عن الياء والحاء المهملة فهو من الاجتياحِ على هذا إن كان لا يعتبرُ الزائدُ الأول لأن هذا ليس منه كما لا يخفى.
وأما صاحب القاموس (3) فذكره في باب النونِ فجعل أصولَه (ج ح ن) وجعلَ أيضًا جيحونَ من هذه المادةِ كما نقله شيخُنا عنه، وذكر في القاموس (4) أن جيحانُ معرَّبُ جِهَانَ.
قلت: ولعلَّ التعريبَ هو الوجهُ في جعْلِه النونَ أصليةً، إذ لا اشتقاقَ الجهانَ الذي جيحانُ معرَّبُهُ بخلافِ سيحانَ فليس بمعرَّب شيء بل هو مشتقٌّ من السَّيْحِ، فذكره في (س ي ح). (5)
قوله ـ نفع الله بعلومه ـ: وأما تعيينُ النهر الذي من الجنة منهما فقد عيَّنه المفسِّرون لما في كلام النبوةِ، وأنه جيحانُ لا جيحونُ كما تقدم عن صاحب النهاية (6) وغيرِه.
أقول: قد عيَّنه النبيُّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بصريح قولِه: «سيحانُ وجيحانُ، والنيلُ والفراتُ كلِّ من أنهار الجنةِ» وإنما عيَّن المفسرونَ (7) في أي موضع هو
_________
(1) (5/ 1918): الدرهم فارسي معرب.
(2) (1/ 323 ـ 324).
(3) (ص1530).
(4) (ص1530)
(5) (ص288).
(6) (1/ 323 ـ 324).
(7) انظر: (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي (13/ 104)، (16/ 237).(12/6341)
وغلَّطوا من وَهِمَ اسمٌ لنهر واحد كما تقدم عن النووي. (1)
قوله ـ أبقاه الله ـ: وأما زَعْمُ من زعم المعارضَةَ: أقول: لا معارضةَ بين الحديثينِ، ولا أدرى من زعمَهما وإنما وقع في كلام الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2) ما يُفْهِم الترادُفَ فقال فيه في شرح قوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «وإذا أربعةٌ أنهارٍ: نهرانِ ظاهرانِ، ونهرانِ باطنانِ، فقلتُ ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهرانِ في الجنة، وأما الظاهران فالنيلُ والفراتُ» ما لفظه: وأما الحديثُ الذي أخرجه مسلم (3) بلفظ: «سيحانُ وجيحانُ، والنيلُ والفراتُ من أنهار الجنة» فلا يعارضُ هذا لأن المرادَ به أن في الأرض أربعةَ أنهارٍ أصلُها من الجنة، وحينئذ لم يثبت لسيحونَ وجيحونَ أنهما يُنبعانِ من أصلِ سِدْرَةِ المنتهى، فيمتاز النيلُ والفراتُ عليهما وجيحون بذلك [13]. وأما الباطنانَ المذكورانِ في حديث الباب فهما غير سيحونَ وجيحونَ، والله أعلم ... انتهى.
فانظر كيف بيَّن عدمَ التعارُضِ بين حديث: «سيحانُ وجيحانُ .. » إلى آخره ...
وبين حديث: «وإذا أربعةُ أنهارٍ ... » المذكورِ. بأنه لم يثبتْ لسيحونَ وجيحونَ أنهما ينبعان من أصل سدرةِ المنتهى، يعني كما ثبت ذلك للنيلِ والفراتِ في حديث المعراجِ، مع أنه لا ذكر لسيحونَ وجيحونَ في الحديث أصلاً، ما ذاك إلا بناءً على ترادُفِ سيحانَ وجيحانَ، وسيحون وجيحونَ، وهو غلط لا يخْفَى، وسائر كلامه صحيحٌ.
فقد ثبت في صحيح مسلم (4) من حديث أنس رضي الله عنه ما لفظه: وحدّثَ نبيكم أنه رأى
_________
(1) في شرحه لصحيح مسلم (17/ 167 ـ 177).
(2) (7/ 213 ـ 214)، ورقم الحديث (3887) من حديث أنس بن مالك بن صعصعة رضي الله عنه الحديث.
(3) في صحيحه رقم (26/ 2839).
(4) في صحيحه رقم (264/ 164)، وأخرجه البخاري رقم (3207) وقد تقدم.(12/6342)
«أربعةَ أنهار يخرجُ من أصلها: نهرانِ ظاهرانِ، ونهران باطنانِ، فقلت: يا جبريلُ، ما هذه الأنهارُ؟ قال: أما النهرانِ الباطنانِ فنهرانِ في الجنةِ، وأما النهرانِ الظاهرانِ فالنيلُ والفراتُ» فهذا ما بني عليه قولَه: وحينئذ لم يثبتْ لسيحونَ وجيحونَ أنهما ينبعانِ من أصل سدرةِ المنتهى، فيمتازُ النيلُ والفراتُ عليهما بذلك، أي لأنه قد ثبتَ لهما ذلك في الحديث الصحيح المذكور.
قوله ـ زاده الله علمًا ـ: أعني حديثَ المعراجِ، بل لم يردْ عنه في رواية ضعيفةَ فضلاً عن صحيحة. قال القرطبي (1): لعل تركَ ذكرِهما في حديث الإسراء لكونهما ليسا أصلاً برأسيهما، وإنما يحتمل أن يتفرَّعا عن النيل والفرات. وقد ثبت فيهما أنهما ظاهرانِ، والعجبُ كلَّ ا لعجب من شيخنا العلامةِ ـ أدام الله علاه ـ مع طول باعه، وسَعَةِ اطلاعهِ وشدة فهمهِ، وكثرة علمه. كيف وقع هذا في كلامه، وبنى عليه، ولم ينكره! بل وجَّهَهُ وقرَّره، وبيَّن معناه، وفرع عليه دفعَ المعارضةِ، وصرَّح بأنه من كلام النبوةِ، بل لم يقل أحد من أئمة الحديث فيما أعلم مع شدة البحثِ في ذلك أن النهرينِ الباطنينِ المذكورين في حديث المعراج هما سيحانُ وجيحانُ، وكيف يقولُ ذلك وقد صرَّح في الحديث المذكور مع صحتِه أن النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ سأل جبريلَ ـ عليه السلام ـ عنهما فقال: «أما الباطنان ففي الجنة»، أو في لفظ للبخاري (2) ومسلم (3): «فنهران في الجنةِ، وأما الظاهرانِ فالنيلُ والفراتُ» فمعنى قوله ففي الجنة أن منبعَهما ومستقرَّهما والانتفاعَ بهما كائنٌ في الجنة، لا في الدنيا، وإلا لما كان لتخصيصهما بقوله ففي الجنَّة معنى يُعْتَدُّ به، لأن الجميعَ من أنهار الجنة قد شاهدها تنبعُ من أصل سدرةِ
_________
(1) ذكره الحافظ في (الفتح) (7/ 214).
(2) في صحيحه رقم (3207، 3887).
(3) في صحيحه رقم (3207، 3887).(12/6343)
المنتهى كما في صحيح البخاري. وإنما التقسيم للكينونةِ التي يتفرَّع عنها الانتفاعُ.
وقد وقع في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عنه ـ صلي الله عليه وآله سلم ـ في حديث المعراج: «فإذا فيها عينٌ تجري يقال لها السلسبيلُ، فينشقُّ منها نهران: أحدُهما الكوثرُ، والآخر يقال نهرُ الرحمةِ» (1) قال الحافظ في فتح الباري، (2) قلت: فيمكن أن يفسَّر بهما النهرانِ الباطنانِ المذكورانِ في حديث الباب، وكذا روى عن مقاتل قال: الباطنانِ السلسبيلُ والكوثرُ انتهى.
قلتُ: فيما روي [14] عن مقاتل نظرٌ، فإنه ثبت أن الكوثرَ من السلسبيلِ فيكون قد قسم الشيءَ إلى نفسهِ، فالأصح ما ذكره الحافظ ـ رحمه الله ـ.
قوله ـ كثر الله فوائده ـ: ثم صار إلى الجمعِ بأنه لم يثبتْ في سيحانَ وجيحانَ أنهما من الجنةِ ليس لأحدٍ أن يقول ذلك، وكيف يقولُه وقد ورد عن النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ في حديث صحيح صريحٍ! ولهذا ردَّه شيخان ـ أبقاه الله تعالى ـ وقد صار بعضهم إلى حملها على المجازِ والمرادُ أنها لشدةِ عذوبتِها وكثرةِ منافعِها وبركتِها كأنهار الجنة، أو أن في الجنة أنهارًا تسمَّى بهذه الأسامي، أو أن الإسلام قد طبقَ الأراضي التي هي فيها فالأجسامُ المتعديةُ بها صائرةٌ إلى الجنة، وحملُها على ظاهرِها أولى.
وأما قوله ـ أبقاه الله ـ: والأمر أقربُ من ذاك، ومعنى كلام النبوة أوضحُ. فإن غاية ما يستلزمُهُ كونُ سيحانَ وجيحانَ باطنينِ أن لا يظهر انصبابُهما من نفسِ الجنةِ، بأن يجريا من باطنِها إلى باطن الأرضِ، ثم يظهران حيث ظهرا، فكلامٌ مبنيٌّ على غير أساسٍ لما عرفت من عدم وقوعِه في الحديث أصلاً.
قوله ـ حرس الله ذريته ـ: وكذا جمع من جمع لعدم ظهورِ سيحانَ وجيحانَ على
_________
(1) وهو حديث ضعيف جدًّا.
أخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) (2/ 136 ـ 142).
(2) (7/ 214).(12/6344)
وجه الأرض، وإن كانا من أنهارِ الجنةِ نظرًا منه إلى ما وقع من توصيفهما بكونهما باطنينِ إلى آخره.
هذا إن كان قائلُه من العلماء فهو من أعظم زلاَّتِه، بل لا ينبغي ذِكْرُهُ عنه لوجوه ثلاثة:
الأول: إن قوله بعد ظهور سيحانَ وجيحانِ على وجه الأرض يكذِّبه العقلُ، والنقلُ، والحٍسُّ، ثم أيُّ نفعٍ لهما إذا لم يظهرا على وجه الأرض، وكيف يصيرُ إليه ذو فهم؟
الثاني: إن نظَرَهُ إلى توصيفهما بكونهما باطنينِ قد عرفتَ أن وصفَهما بذلك ليس في الحديثِ، فإما أن يكون غلطًا فاحِشًا أو تساهلاً في أمر الرواية. وإما أن يكون كذبًا على رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ، ومَنْ كذب عليه متعمدًا فليتبوأ مقعدَه من النار. (1)
الثالث: إن قوله: وإن كانا من أنهار الجنة عكس ما كان ينبغي أن يقال، لأن حاصله أنهما لا يظهران، وإن كانا من أنهار الجنة مفهومه، وأما لو كانا من أنهار الدنيا فعدم ظهورهما أولى وأحرى، لأن (إن) هاهنا هي التي بمعنى (لو) كما ذكره
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (108)، ومسلم رقم (2/ 2) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «من تعمد على كذبًا فليتبوأ مقعده من النار». ?
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (106)، ومسلم رقم (1/ 1) من حديث على قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لا تكذبوا على، فإنه من يكذب على يلج في النار». ?
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (3/ 3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار». ?
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (1291)، ومسلم رقم (4/ 4) من حديث المغيرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «إن كذبًا على ليس ككذب على أحد فمن كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار».(12/6345)
الرَّضيُّ (1) وغيرُه، ومثَّلوا ذلك بقولهم: (زيدٌ وإن كان غنيًّا بخيلٌ)، و (لا تقُم من مقامك وإن أُهِنْتَ) وهذا باطلٌ لأن مقتضى ما في الجنةِ أن لا يظهر على وجهِ الأرض، إلا إذا جاء بدليله، وكان ينبغي أن يقال: لا يظهرانِ وإن كانا من أنهارِ الدنيا التي من شأن ما فيها أن يظهر نظرًا إلى وصفِهما بكونهما باطنينِ ... إلى آخره.
ويصير مفهومُهُ: وأما لو كانا من أنهار الجنةِ فعدمُ ظهورهما أولى وأحرى، وكل ذلك عرفت ما فيه.
قوله ـ أدام الله علاه ـ وعلى فرض عدم نقلِ ما ذكره صاحبُ القاموس لصاحب الصحاحِ عن غيرِه فهو أهل للاستقراءِ التامِّ، والبحثِ الكامل.
أقول [15]: حاصلُ الوجه الأولِ أن نسبةَ عالمٍ للغلطِ إلى عالم آخر غيرُ مقبولة، ولم يقل بها أحدٌ، ولا تطابقُ قاعدةً من قواعد العلومِ، سيَّما مثل نقل الجوهري: وحاصلُ الوجه الثاني أنه لا يقال للناقل العدْل إن نقلَه باطلٌ أو غلطٌ، حتى ينصبَ البرهانَ الصحيحَ. وهذا هو الحقُّ الحقيقُ بالقبول الذي بنى عليه الفحول، فكيف يصحُّ على هذا الفرضِ المذكورِ أن يقبلَ ما ذكره صاحبُ الصحاح من التغليظِ الصريحٍ، والحكم بالبطلانِ مجرَّدًا عن البرهان! لا يكفي في ذلك كونُه أهلاً للاستقراء التامِّ، والبحث الكامل، فإن الجوهريِّ بهذه المثابةِ، وهو قد بنى أنه إنما ذكر ما هو صحيح عن العرب، ولهذا سمَّى كتابه الصحاحُ، فلا يخلو هذا منافاة لحاصل الوجهينَ المتقدِّمين.
نعم قد يكون الغلط من الجوهري مما يعرفُه كلُّ من له أدنى عرفانٍ، فلا يحتاج مع ذلك إلى برهانٍ، كقوله (2): عرفاتُ موضعٌ. بمنى سمَّيت به، لأن آدمَ وحوَّاءَ تعارَفَا بها وفي ..............................................
_________
(1) انظر: (شرح كافية ابن الحاجب) (4/ 345 ـ 358).
(2) في (الصحاح) (4/ 1401).(12/6346)
القاموس (1) أنه موقف الحاجِّ، ذلك اليومِ على اثني عشرَ ميلاً من مكةَ، وغلطَ الجوهريُّ في قوله ذلك. وكقوله (2): الأظفورُ جمعُ ظفرٍ، وهو مفرد قطعًا. وأما قبولُ الناس ذلك منه فليسَ على إطلاقه، بل البعضُ يقبلُه جميعهَ، والبعضُ يردُّه جميعَه، ويتأول ما ظهرَ غلطُه مثلَ ما تقدمَّ. والبعضُ في أحرف دونَ أحرفٍ، والله تعالى أعلم.
وقد بلغني أن بعض العلماء المتأخرينَ (وهو المولى العلامةُ عبد القادر بن أحمد) لم يسلِّم من تغليط القاموس للصحاحِِ إلا حرفينِ فقط، ولا أدري ما هما، وقد يكون تغليطُه له في الحرف الأصلي والمزيدِ، ووضعِ الكلمةِ في غير محلِّها من الكتاب كما وقع ذلك في أوله كثيرًا. وهذا أمرٌ مع كونه مرجعِهِ علمَ التصريفِ سهلٌ غيرُ موقِعٍ في خطرٍ غلطِ التفسيرِ على صحَّةِ تسليمهِ. والله تعالى أعلم [16].
_________
(1) (1080).
(2) (2/ 729).
وقال في (القاموس) (ص556) الظُّفُر: بالضم وبضمتين، وبالكسر شاذٌ يكون للإنسان وغيره. كالأظفور. وقول الجوهري: جمعه أظفورٌ غلط وإنّما هو واحد.(12/6347)
هذا جواب المناقشة السابقة
[17] بسم الله الرحمن الرحيم
والحمدُ لله رب العالمين، والصلاةُ والسلام على سيدنا محمد الأمين وآلِه الطاهرينَ.
قال ـ كثر الله فوائده ـ فيه بحثٌ، وهو أنه قد ثبتَ اشتراكُ هذا الاسم ... إلخ.
أقول: مجردُ الاشتراكِ لا يمنعُ تعيينُ المراد بالقرائنِ، وقد صرَّح بهذا أهلُ الأصول (1) وغيرُهم. وهاهنا قرينتانِ تصلحُ كلُّ واحدة منهما لتعيين المراد:
الأولى: أن الماءَ الذي لبني تميم، والنهرَ الذي حفرَه البرامكةُ لا يقول عاقلٌ فضلاً عن عالم أنّه يصحُّ تفسيرُ سيحانَ الذي هو نهرٌ من أنهار الجنة بأحدِهما، إذ المرادُ بقولهم: ماءٌ لبني فلان أنّه نهرٌ يستقونَ منه دونَ غيرهم كما نراه ونشاهده في الأنهارِ الصغيرةِ المختصَّةِ بأهل قريةٍ دون قريةٍ، وقوم دون قومٍ، ويبعد كلَّ البعد عقلاً وعادةً أن يخصَّ اللهُ بهذا النهر الذي من أنهار الجنةِ فخذًا من أفخاذِ العربِ، وقريةٍ من قراهم دون سائرِ عبادِه، بعد إخبار رسوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بذلك وندائه في الناس أن هذا النهرَ خارج من الجنةِ ينتفع به العبادُ، وتختص به طوائف منهم. وما لماء بني تميم ولهذا، وأين يقع من سيحان الجنة.
وأما النهرُ الذي حفرَه البرامكةُ فكل أحد يعلم أنه لا يصحُّ تفسيرُ ما وقع في لفظ النبوةِ به، وبطلانُ ذلك غيرُ محتاجٍ إلى تطويلٍ، فإن النبيَّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أخبر عن شيء موجودٍ بين ظهراني العبادِ في هذه الأرض، لا عن شيء ستحفره طائفةٌ من مسلمةِ المجوس بعد مائةٍ وسبعينَ سنةً من الهجرةِ، فهذه القرينة الأولى المفيدة لتعيين المشتركِ.
القرينة الثانية: أنه قد تقرر أن صاحبَ النهاية وغيرَهُ ممن يتكلَّم في تفسير الحديثِ
_________
(1) تقدم توضيحه.(12/6348)
عهدَ لهم بيانَ ما وقعَ في الحديث، والاقتصارَ عليه من دون تعرُّضِ لبقيةِ ما يشتركُ مع ذلك لغةً أو عُرْفًا. (1) وهذا معلومٌ من صنيعِهم، فلما اقتصروا على تفسير ما في الحديث لفردٍ من أفراد المشتركِ كان ذلك قرينةً على أنه المرادُ، فما لنا ولكونِ ذلك مشتركًا عند أهل اللغةِ! فليس السؤال إلا عن تعيينِ ما هو المرادُ في لفظ النبوةِ، فلما فسَّره المتكلمونَ على ما وقع في ألفاظِ النبوةِ بشيء معيَّن كان المصيرُ إلى ذلك متعيَّنًا
[18]. وقد أوضحت هذا في أصل الجواب فقلتُ: ويتعيَّن أن سيحانَ الذي هو نهرٌ من أنهار الجنةِ هو الكائنُ بالشام كما بينه صاحب النهايةِ، (2) وفسَّره بعضُ شراح الحديثِ لا غيرُه مما بيَّنه صاحبُ القاموس، (3) وياقوتٌ، (4) لأنهما بصدد بيانِ المسميَّاتِ بهذا الاسم من غير نظرٍ إلى تخصيصِ ما وردَ عن صاحبِ الشرع ... إلخ.
قال ـ عافاه الله ـ: فإذا كان وضع هذا الاسم لنهر البصرةِ لغةً من لغة العرب اندفع ما ذكره البلاذري (5) أنه من أوضاعِ البرامكةِ
إلخ.
أقول: هذا مبنيٌّ على أن صاحبَ القاموس لا يذكر في كتابه من الأمكنةِ إلا ما كان موجودً في أيام العرب الأولى، وهو باطل، فإنه يذكر ما حدث من الأبنيةِ ونحوها إلى زمنِه، وذلك معلومٌ من صنيعه.
قال ـ عافاه الله ـ: أقول لا موافقةَ ...
أقول: ما ذكره المجدُ من البينيةِ أما أن تكونَ بحيثُ لا يكون له نسبةٌ إلى الطرفين، أو بحيث يكون له نسبةٌ إليهما، أو يكون من أحدهما فقط، أو يكون بعضُه من هذا الطرف
_________
(1) تقدم توضيحه.
(2) (2/ 433).
(3) (ص288).
(4) في (معجم البلدان) (3/ 294).
(5) ذكره ياقوت الحموي في (معجم البلدان) (3/ 294).(12/6349)
وبعضهُ من الطرف الآخر.
لا يصحُّ تفسيره بالأولِ لأن أقلَ الأحوالِ أن يكون مجاورًا للطرف ومتصلاً به، وهذه نسبة مصححةٌ لما ذكره ... والثاني يصحُّ التفسير به بمجرَّد كونِه منسوبًا إلى كلِّ واحد منهما بأي وجهٍ من وجوه النسبة ...
والثالثُ يتوقَّف على النقلِ أنه أرادَه ولا نقلَ. والرابعُ ... يصحُّ التفسيرُ به وما كان بعضُه من الشام صحَّ أن يقال أنه من الشامِ ولو مجازًا، ثم قدمنا في ذلك الجوابَ أن ياقوتَ بنَ عبد الله الروميَّ قال بالقربِ منه نهرٌ يقال له جيحانُ، فالاتفاقُ الذي أشرنا إليه هو من هذه الحيثيةِ، فإن لفظ القربِ لا ينافي لفظ البينيةِ التي ذكرها المجدُ.
قال ـ عافاه الله ـ: أقول: تبايُنُ الكلامينِ ظاهرِ
أقول: إن كان التبايُنُ من جهة اختلافِ خوارزمَ وبلخٍ، وأنهما في مكانين، وإن جمعتهما ولاية، وشملَهما إقليمٌ فقد وجد الجامعُ بين الكلامينِ، وهو أن النَّهر المذكور يمرُّ بكل واحد منهما كما ذكرتُه عن كتاب المسالكِ والممالكِ، فالاتفاقُ بين الكلامينِ من هذه الحيثيةِ لا من حيثُ إنه يجمعُهما بقعةٌ واحدة من الأرضِ، وما ذكرتُه من أن كلَّ واحد منهما من خراسانَ بيانٌ جامعٌ آخر غيرُ الجامعِ الذي هو مجاورةُ النهر لكل واحد منهما، ومرورهُ بهما، فقد اشتركها في أمرين: المرورُ لكل واحد منهما، وإطلاقُ اسمِ واحدٍ عليهما يشملُهما، وإن كان النزاعُ في كون خوارزمَ من خراسانَ فليرجعْ ـ عافاه الله ـ إلى البحث عن تحقيق هذه الدعوى حتى يجد البرهانَ عليها في الكتب الموضوعةِ بهذا الشأن كالمعجمِ ونحوِه.
قال ـ كثر الله فوائده ـ: فعلى هذا هو غيرُ منصرفٍ ... إلخ.
أقول: هكذا هو [19] عند من جزم بأنه أعجميٌّ، وأما من جعله عربيًّا وتعرُّض لأصلهِ وقال: هو من جَحَنَ، وعلى ذلك يدلُّ صنيعُ صاحبِ القاموس وغيرِه فإنه يجعلُه عربيًّا، ويكون لكتبه بالألفِ فائدةٌ وهي الدلالةُ على أصوله وصرفِه، لعدم العجمةِ والأمرُ أوضحُ من أن يخْفَى.(12/6350)
قال ـ كثر الله فوائده ـ: وظن شيخُنا ... إلخ.
أقول: لا أدري من أين استفادَ هذا الظنَّ فالكلامُ منقول عن الغير كما يفيدُه قولي في آخره ... انتهى.
قال ـ عافاه الله ـ أقول بل قد عينَه النبيُّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بصريح قولِه: «سيحانَ وجيحانَ».
أقول: فرقٌ بين تسميةِ الشيء وتعيينِ مكانهِ، فالأول وقع من النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ في سيحان وجيحانَ. والثاني: وقع من المفسرين لكلامِه، فقالوا: إنه في مكان كذا فهذا هو المرادُ بالتعيين، فكيف قال قد عيَّنه النبيُّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ! ولا شكَّ أن التعيينَ المرادَ هنا هو أخصُّ من التعيين الحاصلِ بالاسم، وهذا لا يخفى علي مثلِه ـ زاد الله في أهل العلم من أمثاله ـ فإن المشخصاتِ قد تكون بحيثُ تفيدُ تعيينًا ما أعنى بوجهٍ من الوجوه وقد تكون بحيثُ تقيدُ تعيينًا لكل وجه، وقد تكون بحيث يفيد بعضُها ما لا يفيده الآخرُ، ولكل منها مدخلٌ في التشخيص ...
قال ـ كثر الله فوائده ـ: أقول لا معارضةَ ... إلخ.
أقول: قد أطال ـ عافاه الله ـ والكلام مع من زعم المعارضةَ وقد دفعتُه وأجبتُ عنه وزيَّفتْهُ فلم يبقَ للكلامِ على ذلك مدخلٌ إلا مجرَّدَ الإيضاحِ لما أوردتُه ...
قال ـ عافاه الله ـ: هذا ليس في الحديث ...
أقول: نعم لم يكن ذلك في الحديث لكنَّه وقع في كلامَ مَنْ زعم التعارُضَ فأوردناه كما أوردَه، وحكيناه عن قائلِه، فليس هاهنا ما يوجب العجبَ، فقد أسندنا القولَ إلى قائلِه، وتعرَّضنا لتأويلِه ودفْعِه. ومع هذا فتوصيفُ نهرينِ من الأربعةِ بالظهور يفيدُ توصيفَ النهرينِ الآخرينِ بما يقابلُه، وهو كونُهما باطنينِ، فما وقع في تلك الحكايةِ من قول المحكيِّ عنه، وأما الباطنانِ فسيحانُ وجيحانُ هو مستفادٌ من كلام النبوةِ، وإن لم يكن منطوقًا به من النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ فانتفي سببُ العجبِ فضلاً عن(12/6351)
كل العجبِ الذي ذكره ـ عافاه الله ـ بقوله: والعجبُ كلَّ العجبِ وانتفاؤُه من وجهينِ:
الأول: إن الكلامَ محكيٌّ عن الغير.
الثاني: أنه مستفادٌ من كلام النبوة.
قال ـ كثر الله فوائده ـ: ليس لأحد أن يقولَ ذلك ...
أقول: هكذا هو، ولكن الكلامَ الباطلَ لا بدَّ من دفْعِهِ بما يقبلُهُ السامعُ، لا بمجرَّد الدَّعوى بأنه باطلٌ، فإن ذلك لا يفيدُ من قصَّر عن تعقُّل الحججِ وترتيبِ المقدماتِ الموصلةِ إلى البرهانِ، فلهذا [20] تعرَّضنا لدفعهِ.
قال ـ كثر الله فوائده ـ: وكلامُهُ مبنيٌّ على غير أساسٍ.
أقول: إن كان دفعُ الكلام الباطلِ يحتاجُ إلى أن يكون الكلامُ المدفوعُ الباطلُ أساسٌ كان ذلك قادِحًا في دعوى بُطْلانِه. وقد قدمنا أنَّ كلامنا مع من قال هذه المقالة وأوضحنا بطلانها وقدمنا الجمع على الترجيحِ كما يصنعُه أهلُ العلم، فعلى فرض صحةِ ما زعَمَهُ الزاعمُ قد حملنا على وجهٍ لا ينافي ما أردْناه، وعلى فرضِ عدمِ صحَّتهِ فلا يضرُّنا ولا يقدحُ فيما نحن بصددِه، فكيف يقالُ في التعرض للكلامِ على كلام باطل أنه مبنيٌّ على غير أساسٍ: فإن كان المرادُ بالأساس المذكورِ أساسَ الدفع في نفسه فالمجيب عافاه الله لا ينكر أنه مبني على أساس صحيح، وإن المراد أساسَ الكلامِ المدفوعِ فنفي أساسه لا يعترضُ به على منِ اعترضَ، أو حملَه على غير ما يقدحُ في الكلام الصحيحِ، وعلى كل حال فاستفادتُه من كلام النبوة كما قدمنا أساسٌ، وأيُّ أساس! فالقولُ بأنه مبنيٌّ على غير أساس.
قال ـ كثر الله فوائده ـ: بل لا ينبغي ذكرُهُ عنه.
أقول: إذا كان هذا القائلُ متمسِّكًا بمفهوم الحديث حسبما ذكرناه سابقًا من دلالة ظهور بعض المعدودِ فيه على كمونِ البعض الآخَرَِ، ثم أخذ هذا القائلُ بما يفيدُه المفهومُ،(12/6352)
وبني على ظاهره فكيف يقال إن هذا قول لا ينبغي ذكره! وقد ذكر أهل العلم ما هو ضد للأدلة الشرعية ودفعوه، فكيف مما يزعم قائله أنه مأخوذ من كلام الشارع! ومع هذا فقد وقع التعرض لدفعه في الجواب بما لا يحتاج معه إلى زيادة، فكيف يعترض ـ عافاه الله ـ على حكاية كلام قد تعرض الحاكي له لدفعه، فإنه لو لم يكن من فوائد حكايته لذلك القول الباطل إلا مجرد دفعه ورده وبيان بطلانه فهل جرت عادة أهل العلم بإنكار دفع الأقوال الباطلة والضعيفة على دافعها؟
وأما الوجوه الثلاثة التي ذكرها فلا يخفي أنه يقدح في الأول ما وقع للسائل ـ عافاه الله ـ نفسه من طلب تعيين مكان ما دل عليه الحديث، وصرح به بأنه من أنهار الجنة، والمناقضة لما ذكره المفسرون للسنة من تعيين مكان ما ورد في لفظ الشارع، فكيف يقال مع هذا أنه يكذبه العقل والنقل والحس! فليتدبر السائل.
وأما قوله: ثم أي نفع لهما ... إلخ
[21]؟ فقد صرح المجيب بمثل هذا، وحرره في الجواب، وأما ما ذكره في الوجه الثاني فقد قدمنا أنه دل عليه كلام الشارع بالمفهوم (1) فليس بكذب على رسول الله ـ صلي الله
_________
(1) المفهوم: ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق: أي يكون حكمًا لغير المذكور وحالاً من أحواله. وينقسم إلى قسمين:
مفهوم الموافقة: حيث يكون المسكوت عنه موافقًا للملفوظ به، فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به فيسمى فحوى الخطاب. ومثاله: كدلالة تحريم التأفف على تحريم التأفف على تحريم الضرب لأنه أشد فتحريم الضرب من قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]. من باب التنبيه بالأدنى وهوالتأفيف ـ على الأعلى، وهو الضرب. ?
وإن كان مساويًا له فيسمى لحن الخطاب ومثاله: تحريم إحراق مال اليتيم الدال عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10]، فالإحراق مساو للأكل بواسطة الإتلاف في الصورتين.
انظر: (الكوكب المنير) (3/ 482)، (إرشاد الفحول) (ص589).(12/6353)
عليه وآله وسلم ـ من قائله، ومع هذا فنحن نعترفُ بفساد ما جاء به ذلك القائلُ، وقد دفعنا بما لا يحتاجُ إلى زيادة، ولكن الشأنَ في إنكار حكايتِه على الحاكي المتعرِّضِ لدفعِه وإطالة ذيل الكلام في ذلك بما لا طائل تحته.
وأما الوجه الثالث فلا أزيد الناظر على إحالته على النظرِ في هذه المناقشةِ وعلى السائلِ ـ عافاه الله ـ أن يقدِّمَ قبل هذه المناقشةِ تقريرَ محلِّ هذه الجملةِ من الإعراب حتى يعرفَ وقوعَها موقعَها على وجهٍ لا يلزم عنه ما ألزم به من الاستدلالِ بالمفهومِ الذي ذكره ثم لو كان لما ذكره وجهُ صحَّةٍ من الأخذ بالمفهومِ لم يكن له وجهٌ فيما نحن بصدده، فإن الشيءَ الواردَ من الجنة إلى الدنيا سواءٌ كانت في محلٍّ مرتفعٍ على الدنيا أو مساوٍ لها في السمتِ يكون ظهُورُهُ على وجه الأرضِ وانكشافُهُ للعَيَانِ أولى مما هو من نفس الأرض، فإنه لا يكون منبعُه إلا من مكان منخفضٍ منها، ولا شك في ذلك، فإن جميعَ أنهار الدنيا منبعُها من بطن الأرض. وقد أرشد إلى ذلك قوله تعالى: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} (1) وبعد هذا كلَّه فالكلامُ المعترضُ عليه هو من كلام المحكي عنه المتعقَّبِ بالدفع.
قال ـ كثر الله فوائده ـ: فلا يخلو هذا من منافاة لحاصلِ الوجهينِ المتقدمينِ.
أقول: حاصل ما ذكرتُه في الجواب المحرَّر في تلك الوجوهِ الأربعةِ هو أنه لا تقبلُ نسبةُ الغلطِ للناقلِ الثقةِ بمجرَّد الدعوى، بل يطلب من الناقل تصحيحُ النقل على الصفةِ التي ذكرتُها في الجواب من قبول ما برهن عليه الناقلُ بالنقل، والتوقُّفِ فيما لم يبرهنْ عليه إلا أن يوجدَ المصحِّحُ لنسبةِ الغلطِ بمثل ما ذكرتُه هنالك، ثم ذكرتُ استثناءَ حروف مما نقله صاحبُ الصحاحِ قد تكلَّم عليها أهلُ العلم فنقلَ ذلك عنهم صاحبُ القاموس مجرَّدًا عن البرهانِ، اكتفاءً بما وقع من البرهان فيما نقل عنه من كتب اللغةِ.
وهذا حاصلُ الثلاثة الوجوهِ الأولى، ثم ذكرتُ في الوجهِ الرابعِ محلَّ الإشكال ومنشأَ السؤالِ، وهو ما تعقَّبه صاحب القاموس على صاحب الصحاحِ من دون وجود ما
_________
(1) [الزمر: 21].(12/6354)
يقتضي تصحيحَ ما نقلَه الجوهريُّ، ولا وجودِ برهان لما نسبه صاحبُ القاموس إليه [22] من الغلطِ في نفس الكتابينِ، ثم ذكرت أن الناظر في الكتابينِ إن تمكن من البحث في غير الكتابين المفضي إلى وجودِ برهان يقتضي تصحيحَ ما نقلَه الجوهري فقد تعيَّن عليه العملُ بما وجده من تصحيحِ الروايةِ، وعدمِ التعويلِ على من نقل الغلطَ، وإن تمكَّن من الوقوفِ على ما هو برهانٌ للتغليظ كان عليه الجزمُ به وإن لم نقفْ في الكتابينِ، ولا في غيرهما على برهان يصححُ النقل، أو يوضِّحُ الغلطَ، وجبَ عليه التوقُّفُ في ذلك الحرف، لأن إمامةَ ناقلِه التي هي كالقرينةِ على صحةِ ما نقلَه قد عُورِضَتْ بإمامة من خالفه في ذلك الحرفِ، فإنها كالقرينة على صحة ما نسبهُ من الغلط، فكان المقامُ مقامَ توقُّفٍ بين الإمامينِ، والموضعُ موضعُ حيرةٍ عن التخلُّص من البينِ. ولا معارضةَ بين ما ذكرناه في هذا الوجهِ الرابعِ من ذلك الجوابِ، وبين ما ذكره في الوجه الأول منه بوجهين:
الأول: إن نفي قبولِ التغليط الذي صرَّحنا به في الوجه الأول هو فيما كان منه مجرَّدًا ليس فيه إلا دعوى بحتةٍ، وما ذكرناه في الوجه الرابع هو حيثُ اقترنَ بذلك من إمامة الناقل وثقتِه ما يكون كالقرينة المقتضية لتصحيح ما قاله.
الوجه الثاني: إن ما ذكرناه في الوجهِ الأولِ من الوجوه الأربعةِ هو عدمُ قبول التغليطِ المجرد، وما ذكرناه من التوقُّف في الوجهِ الرابعِ غيرُ منافٍ لعدم القبولِ، لأن قبول تغليطِ صاحب القاموس يستلزمُ الجزمَ بما جزم به من الغلط بخلافِ مجرَّد التوقُّفِ، فإنه لا قبولَ فيه بل حيَّرهُ بين ما وقع في كلامِ الإمامينِ، فلا منافاةَ بين عدم القبولِ جزمًا، وبين مجرَّدِ التوقُّف لا بمطابقةِ، ولا تضمُّنٍ، ولا التزامٍ، فعرفتَ بها عدمَ صحة ما زعمه السائل ـ عافاه الله ـ من المنافاة، بل الوجوهُ متعاضدةٌ والكلامُ متناسقٌ.
قال ـ كثر الله فوائده ـ: نعم قد يكون الغلطُ من الجوهري بما يعرفه كل من له أدنى عرفانٍ فلا يحتاج مع ذلك إلى برهان ... إلخ.
أقول: هذا الذي يعرفُه من له أدنى عرفانٍ هو من البرهانِ بأعلى مكان [23] فإنّا لم نخصَّ البرهانَ بما يجده الناظرُ في كتب اللغة، أو يسمعه من الرواة بالسند المتصل، بل(12/6355)
أطلقنا البرهانَ فتناولَ ما ذكره تناولاً أوليًا، لأن معرفة كل من له أدنى عرفانٍ لذلك، يدلُّ علي أنه من الظهور بمكانٍ مكينٍ، إما لكون المنقول يخالفُ ما يشهدُ به الحسُّ، أو كونِه مخالفًا لما عند العرب مخالفةً يشتركُ في معرفتها المقصِّر والكاملُ، فكيف قال ـ كثر الله فوائده ـ: إن ما كان كذلك لا يحتاجُ إلى برهان، وأيُّ برهان أقوى من ذلك البرهان!
قال ـ كثر الله فوائده ـ: وقد بلغني أن بعضَ العلماء المتأخرينَ لم يسَمْ من تغليط القاموسِ للصحاحِ إلا حرفين فقط.
اقول: إن كان هذا البعضُ متأهلاً للكشفِ من أهل الاستعدادِ للحكم بين هذين الإمامينِ، فَنِعْمَ ما فعل، وحبَّذا ما صنع، وعلينا أن ننظر كنظرهِ ونكشف مثل كشْفِه حتى نوافقَه فيما قال، أو نخالفه، وليس لنا أن ندفعَ ما يقوله صاحب القاموس بمجرد ذلك، وعندي في هذا المنقول عن ذلك البعض وِقفةٌ، فإنذَ الصنعاني (1) وهو الإمام الذي لم يأت بعده من يماثُله استدرك كثيرًا مما في كتاب الصحاح، وكذلك ياقوتٌ نقل على الصحاح في حواشيه من التغليطاتِ ما يكثُر تعدادُه، فعلى الطالب للوقوف على الصواب في مثل هذا أن ينظر فيما ذكرناه، فإن لم يجد ذلك فليس له منزلٌ ينزله إلا منزل الحيرة التي أرشدنا إليها ... أرشدنا الله إلى ما يرضيه آمين.
_________
(1) هو محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الأمير الحسني اليمني الكحلاني المولد الصنعاني النشأة والوفاة مولده سنة 1099هـ. توفي سنة 1182هـ.
انظر: (البدر الطالع) (2/ 139). وقد تقدم.
وانظر: الرسالة رقم (135) من عون القدير من فتاوى ورسائل ابن الأمير جواب وسؤال للأمير عن قول ابن الوزير:
لمجد الدين في القاموس مجد ... وفخر لا يوازيه موازي
وانظر: (المزهر في علوم اللغة وأنواعها) للسيوطي (1/ 97 ـ 99، 110).(12/6356)
(214) 8/ 5
الحد التام والحد الناقص (بحث في المنطق)
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(12/6357)
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: الحد التام والحد الناقص (بحث في المنطق).
2 ـ موضوع الرسالة: في المنطق.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه ثقتي. ذكر أهل علم المنطق الذاتيات والعرضيات ....
فإني لما وقفت على المجموع الذي جمعه ابن سناء الملك
4 ـ آخر الرسالة: فليمعن النظر في ذلك من له فضل رغبةٍ في هذا الفنِّ انتهى من خط مؤلِّفه شيخ الإسلام القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني رحمه الله.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 ـ عدد الصفحات: صفحتان.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 24 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 ــ الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(12/6359)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي. ذكر أهل علم المنطق الذاتياتِ (1) والعرضياتِ، ثم رتَّبوا على ذلك الحد (2)
_________
(1) الذاتي: كل وصف يدخل في ماهية الشيء وحقيقته دخولاً لا يتصور فهم معناه بدون فهمه. كالجسمية للفرس، واللونية للسواد فإن من فهم الفرس. فقد فهم الفرس: فقد فهم جسمًا مخصوصًا فالجسمية داخلة في ذات الفرسية دخولاً به قوامها في الوجود والعقل. بحيث لو قدر عدمها في العقل، لبطل وجود الفرس ولو خرجت عن الذهن لبطل فهم الفرس. فلا بد من إدراجه في حد الشيء، فمن يجد النبات، يلزمه أن يقول: (جسم نام) لا محالة. ?
وأما اللازم: فما لا يفارق الذات ـ البتة ـ ولكن فهم الحقيقة والماهية غير موقوف عليه، كوقوع الظل لشخص الفرس والنبات والشجر عند طلوع الشمس فإن هذا أمر لازم، لا يتصور أن يفارق وجوده عند من يعبر عن مجاري العادات باللزم ويعتقده، ولكنه من توابع الذات ولوازمه وليس بذاتي له.
قال الغزالي: أعني به: أن فهم حقيقته غير موقوف على فهم ذلك له إذا الغافل عن وقوع الظل يفهم الفرس والنبات، بل يفهم الجسم الذي هو أعم منه، وإن لم يخطر بباله ذلك. ?
العارض: ما ليس من ضرورته أن يلازم بل يتصور مفارقته إما سريعًا، كحمرة الخجل أو بطيئًا، كصفر الذهب وزرقة العين ..
انظر: (المستصفى) (1/ 39 ـ 41).
انظر: (روضة الناظر) (1/ 29).
(2) الحد: في اللغة: المنع ومنه سمي البواب حدادًا لأنه يمنع من يدخل الدار، والحدود حدودًا، لأنّها تمنع من العود إلى المعصية. وإحداد المرأة في عدتها لأنّها تمنع الطيب والزينة، وسمي التعريف حدًّا: لمنعه الداخل من الخروج والخارج من الدخول.
(المصباح المنير) (ص194)، (المفردات) للراغب الأصبهاني (ص108). ?
الحد في الاصطلاح: الوصف المحيط بموصوفه. وقال الغزالي في (المستصفى) (1/ 35) حدُّ الشيء نفسه وذاتُه وقيل هو اللفظ المفسر لمعناه على وجه يجمع ويمنع.
انظر: (البحر المحيط) (1/ 91)، (الكوكب المنير) (92 ـ 93). ?
قال ابن تيمية في الرد على المنطقيين (ص5): الحد اسم جامع لكل ما يعرف التصور وهو القول الشارح، فيدخل فيه (الحقيقي) والرسمي، اللفظي، أو هو الحقيقي خاصة فيقرن به الرسمي، واللفظي ليس من هذا الباب. أو الحد اسم للحقيقي والرسمي دون اللفظي فإن كل نوع من هذه الثلاثة اصطلاح طائفة منهم. ثم (الحد) إنما يتألف من الصفات (الذاتية) إن كان (حقيقيًا) وإلا فلا بد من (العرضية) وكل منهما إما أن يكون (مشتركًا) بين المحدود وغيره، وإما أن يكون (مميزًا) له عن غيره. فالمشترك الذاتي (الجنس) والمميز الذاتي (الفصل) والمؤلف منهما (النوع. والمشترك العرض هو العرض العام والمميز العرضي هو (الخاصة) وقد يعبر بـ (الخاصة) عما يعرض له (النوع) عن الأنواع الإضافية التي هي بالنسبة إلى ما فوقها (نوع) وبالنسبة لما تحتها (جنس).(12/6363)
التامِّ، (1) والحد الناقصَ، (2) والرسم .....................................
_________
(1) الحد التام: وهو الأصل وإنما يكون حقيقيًّا تام إن أنبأ عن ذاتيات المحدود الكلية المركبة كقولك ما الإنسان؟ فيقال: حيوانٌ ناطق ولذا أي ولهذا أي ولهذا القسِمِ (حدٌّ واحد) لأنَّ ذات الشيء لا يكون لها حدَّان.
(2) الحد الناقص: حقيقي ناقص. وله صورتان. أشير إلى الأولى منهما بقوله: إن كان بفصلٍ قريب فقط كقولنا: ما الإنسان؟ فيقال: الناطق وأشير إلى الصورة الثانية بقوله: (أو مع جنس بعيد) أي إن كان الحدُّ بفصلٍ قريبٍ مع جنس بعيد كقولنا ما الإنسان؟ فيقال: جسم ناطق، فالجنس البعيد: هو الجسم والفصل القريب: هو الناطق. ?
ويجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن الكلي إن كان داخلاً في الذات بحيث يكون جزءًا من المعنى المدلول للفظ: فيقال له كلي ذاتي، كالحيوان الناطق بالنسبة للإنسان، وإن كان خارجًا عن الذات بأن لم يكن كذلك، فيسمى كليًّا عرضيًّا، كالماشي والضاحك بالنسبة له والكلي الذاتي: إمّا أن يكون مشتركًا بين الماهية وبين غيرها وإما أن يكون مختصًّا بها.
فالأول: يسمى (جنسًا) كالحيوان بالنسبة للإنسان، والثاني يسمي (فصلاً) كالناطق بالنسبة له. والكلي العرضي إما أن يكن مشتركًا بين الماهية وبين غيرها وإما أن يكون مختصًّا بها. فإن كان مشتركًا بين الماهية وغيرهما فيسمى (عرضًا عامًّا) كالماشي بالنسبة للإنسان، وإن كان خاصًّا بها فيسمى بين الماهية وغيرهما فيسمى (عرضًا عامًا) كالماشي بالنسبة للإنسان، وإن كان خاصًّا بها فيسمى (خاصة) كالضاحك بالنسبة له، والكي الذي هو عبارة عن نفس الماهية، كالإنسان، فإنه عبارة عن مجموع الحيوان الناطق فيسمى (نوعًا) فهذه هي الكليات الخمس التي هي مبادئ التصورات ثم إن الجنس ثلاثة أقسام قريب، كالحيوان بالنسبة للإنسان، وبعيد: كالجسم بالنسبة له، ومتوسط كالجسم النامي بالنسبة له، أما الفصل فينقسم إلى قسمين. قريب وبعيد فالقريب كالناطق بالنسبة للإنسان، والبعيد كالحسّاس بالنسبة له. (تحرير القواعد المنطقية) (ص46).(12/6364)
التام، (1) والرسم الناقص. (2) وفي هذا إشكالٌ، لأنهم إمّا أن يريدوا بالذاتي المنسوبَ إلى الذاتِ، وبالعرض المنسوب إلى العَرَضِ كما هو شأن المنسوب في لسان العرب، أو يريدوا بالذاتي ما تركبتْ منه الذات كتركُّبِ الجسم من الجوهرِ، وبالعَرَضي ما هو عارض للذاتِ خارجٌ عنها، أو يريدوا بالذاتي ما هو جزء مفهومُ الذات، وما يقال عليها. وبالعرض ما لا مدخل له في هذه الجزئيّة، فإنْ أرادوا الأول فالأَعراضي ينسبُ إلى الذات بلا خلاف بين أهل المعقول، سواءً قلنا في تفسير القيام أنه الاختصاصُ الناعت كما ذهب إليه البعض، أو التبعيّة في التحيُّز كما ذهب إليه البعض الآخر، لأنَّ الجميعَ متَّفقون على أنَّ العرض كالحركةِ مثلاً قائمٌ بالذات، وما قام بالشيء فقد لابَسَهُ، والملابسة بمجرَّدها مسوِّغةٌ للنسبة، فتقرر بهذا أنه لا يصحُّ أن يكون الذاتي هو المنسوب إلى الذات، وإن أرادوا الثاني كان منقوطًا باتفاقهم على أن النطقَ بمعنى إدراكه المعقولاتِ ذاتيٌّ، فإنَّ الذات متركبةٌ من الأجزاء التي صارت بها ذاتًا، وإدراكُ المعقولات هو شيء غيرُ الذات، فإنَّ هذا الإدراك حصل بالعقل وهو جوهرٌ مجرَّدٌ عن المادة، متعلِّقٌ بالبدن
_________
(1) أي ليس بحقيقي، وهو تامٌّ إن كان بخاصة مع جنس قريب كقولنا ما الإنسان؟ فيقال: حيوان ضاحك فالجنس القريب: هو الحيوان. والخاصَّة: هو الضاحك.
(الكوكب المنير) (1/ 95).
(2) وله صورتان: أشير إلى الأولى منهما بقوله: (إنْ كان بها) أي بالخاصّة (فقط) لـ (الإنسان ضاحك) وأشير إلى الصورة الثانية من الرسمي الناقص بقوله: (أو مع جنس بعيدٍ) أي عن كان الحدُّ بالخاصة مع جنسٍ بعيد لـ (الإنسان جسم ضاحك).
انظر: (الرد على المنطقيين) (ص74 ـ 75).(12/6365)
تعلُّقَ التصرفِ والتدبيرِ، غيرُ متصلٍ به. وعلى هذا اتفق أهل هذا الفنِّ ومن وافَقَهم من الحكماء، ومن أهل علم اللطيفِ المجعولِ مقدمةً لكثير من العلوم.
فتقرَّر بهذا أنه لا يصح أن يكون أصلاً في ما تركبت منه الذات، وإن أرادوا الثالث: فيقال لهم: ما الذات التي كان هذا الذاتي جزءًا مفهومًا؟ فإنا قد علمنا اتفاق أهل المعقولِ على انحصار الموجوداتِ الحادثة في الجواهر والأعراضِ، وعلمنا اتفاقَهم على أن الجواهر هو ماهيةٌ ما إذا وجدت كانت لا في موضوع، وعلى أن العَرَضَ هو ماهية ما إذا وجدت كانت في موضوع فما هي هذه الذات التي جعلتْه الذاتي هو ما كان جزءًا لمفهومِها؟ فإن قالوا: إن علمهم هذا هو إنما هو في الكلام على الكليَّاتِ [1أ]، ولا يتكلمون على الأمور المتشخصة بوجه من الوجوه.
قلنا: فَمِنْ أين عرفتم أن بعض المتعلِّقاتِ بذلك الكلي ذاتيِ له، وبعضها عَرَضيٌّ له؟ وما الذي استفدتم منه هذا حتى جعلتم النطق ذاتيًّا لتلك الماهية الكلية دون ما يشارُكُه في كونه في كونه ماهيةً ما إذا وجدت كانت في موضوعٍ؟ مع أن هذا الحدَّ الذي اتفقتم عليه في كونه مفهومَ العرضِ يصدقُ على النطق الذي جعلتموه ذاتيًّا كما يصدق على الخاصَّة والعَرَضِ العامِّ.
وبهذا يتقرر لك أنَّ جَعْلَ بعض المتعلقاتِ ذاتيًّا وبعضِها عرضيًّا، وإدخالَ النطقِ في الذاتياتِ مجرَّدُ دعوى لم يقم عليها برهانٌ، (1) مع كونهم زاعمينَ أن هذا العلم هو الذي
_________
(1) قال ابن تيمية في (الرد على المنطقيين) (ص62 ـ 63): الوجه السادس التفريق بين (الذاتي) و (العرضي) باطل: أن يقال: المفيد لتصور الحقيقة عندهم هو الحد التام وهو (الحقيقي) وهو المؤلف من الجنس والفصل من (الذاتيات) المشتركة والمميزة دون (العرضيات) التي هي (العرض العام) و (الخاصة) والمثال المشهور عندهم أن الذاتي المميز لـ (الإنسان) الذي هو الفصل هو (الناطق) والخاصة هي (الضاحك). فنقول: مبني هذا الكلام على الفرق بين (الذاتي) و (العرضي). وهم يقولون: المحمول الذاتي داخل في حقيقة الموضوع ـ أي: الوصف الذاتي داخل في حقيقة الموصوف بخلاف المحمول العرضي، فإنّه خارج عن حقيقته. ويقولون: (الذاتي) هو الذي تتوقف الحقيقة عليه بخلاف العرضي. ويقسمون العرضي إلى (لازم) و (عارض) واللازم إلى (لازم لوجود الماهية دون حقيقتها، كالظل للفرس، والموت للحيوان وإلى لازم للماهية كالزوجية والفردية للأربعة والثلاثة).
والفرق بين لازم الماهية ولازم وجودها أن لازم وجودها يمكن أن تعقل الماهية موجودة دونه بخلاف لازم الماهية، لا يمكن أن يعقل موجودًا دونه.
وجعلوا له خاصة ثانية وهو أن الذاتي ما كان معلولاً للماهية بخلاف اللازم، ثم قالوا: من اللوازم ما يكون معلولاً للماهية بغير وسط، وقد يقولون ما كان ثابتًا لها بواسطة، وقالوا أيضًا: الذاتي ما يكون سابقًا للماهية في الذهن والخارج بخلاف اللازم فإنه ما يكون ثابتًا.
فذكروا هذه الفروق الثلاثة، وطعن محققوهم في كل واحد من هذه الفروق الثلاثة وبينوا أنّه لا يحصل به الفرق بين (الذاتي) وغيره. ?
قال ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل) (3/ 321): بل الذي عليه نظَّار الإسلام أن الصفات تنقسم إلى: لازمة للموصوف لا تفارقه إلا بعدم ذاته، وإلى عارضة لم يمكن مفارقتها له مع بقاء ذاته.
وهذه اللازمة منها: ما هو لازم للشخص دون نوعه وجنسه، ومنها ما هو لازم لنوعه أو جنسه.
وأما تقسيم اللازمة إلى ذاتي وعرضي وتقسيم العرضي إلى لازم للماهية ولازم للوجود، وغير لازم بل عارض فهذا خطأ عند نظار الإسلام وغيرهم.
بل طائفة نظار الإسلام قسموا اللازم إلى: ذاتي ومعنوي وعنوا بالصفات الذاتية: ما لا يمكن تصور الذات مع عدمه، وعنوا بالمعنوي: ما يمكن تصور الذات بدون تصوره، وإن كان لازمًا للذات فلا يلزمها إلا إذا تصور معينًا يقوم بالذات.
فالأول: عندهم مثل كون الرب قائمًا بنفسه وموجودًا.
والثاني: عندهم مثل كونه حيًّا وعليمًا وقديرًا ...(12/6366)
يستفاد منه البرهانُ، ويتحصل بالاشتغال به.
ومع هذا الجزم منهم فإنه لا نظر لهم في غير الكليات، قد جزموا أيضًا بأنَّ هذه الكلياتِ لا وجودَ لها في الخارج. أمَّا الكلي العقليُّ، والكليُّ المنطقي فهم متفقونَ على ذلك. وأما الكليُّ الطبيعيُّ فقال الأول منهم أنه موجودٌ بوجود أفراده، ودَفَعه الأكثرون دفعًا لا يبقى عنده ريبٌ.
وإذا كان الأمر هكذا فمن ذا الذي يتعقّل ذاتياتِ هذه الكلياتِ التي لا وجود لها، ويميَّز بينها وبين عرضِيَّاتِها.
ولقد أصاب جماعةٌ من أكابر أهل هذا الفن حيث قالوا: الوقوف على الذاتياتِ متعسِّرٌ بل متعذِّرٌ، (1) وآخر من نقلَ ذلك السيدُ الشريفُ الجرجانيُّ، فظهر بمجموع ما ذكرناه أن هذا الفنَّ لا يستفادُ منه التصوراتُ (2) كما ينبغي، فكيف يستفاد منه التصديقات! والحمد لله أولا وآخرًا. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله.
قال في الأصل: هكذا خطر ببال فحرَّر هذا البحث ـ عفى الله عنه ـ فليمعن النظر في ذلك من له فضل رغبةٍ في هذا الفنِّ.
_________
(1) انظر: (الرد على المنطقيين) (ص30 ـ 31).
(2) انظر (درء تعارض العقل والنقل)، (الرد على المنطقيين) (ص88 ـ 90) لابن تيمية.
قال ابن تيمية في (نقص المنطق) (ص183): لا ريب أن كلامهم كله منحصر في الحدود التي تفيد التصورات، سواء كانت الحدود حقيقية أو رسمية أو لفظية وفي الأقيسة التي تفيد التصديقات سواء كانت أقيسة عموم وشمول أو شبه وتمثيل، أو استقراء وتتبع. وكلامهم غالبه لا يخلو من تكلف إما في العلم وإما في القول، فإما أن يتكلفوا علم ما لا يعلمونه: فيتكلمون بغير علم، أو يكون الشيء معلومًا لهم فيتكلفون من بيانه ما هو زيادة وحشو وعناء وتطويل طريق، وهذا من المنكر المذموم في الشرع والعقل قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}. وقد ذم الله القول بغير علم في كتابه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وهؤلاء كلامهم في الحدود غالبه من الكلام الكثير الذي لا فائدة فيه، بل قد يكثر كلامهم في الأقيسة والحجج، كثير منه كذلك وكثير منه باطل وهو قول بغير علم وقول بخلاف الحق.
أمّا الأول بأنهم يزعمون أن الحدود التي يذكرونها يقيدون بها تصور الحقائق، وأن ذلك إنما يتم بذكر الصفات الذاتية المشتركة والمميزة حتى يركب الحد من الجنس المشترك والفصل المميز. وقد يقولون: إن التصورات لا تحصل إلا بالحدود، ويقولون: الحدود المركبة لا تكون إلا للأنواع المركبة من الجنس والفصل دون الأنواع البسيطة.
انظر: تفصيل ذلك في (نقص المنطق) (ص184) وما بعدها.(12/6367)
انتهى من خط مؤلِّفه شيخ الإسلام القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني رحمه الله.(12/6369)