في حكم المرفوع، وأخرجه أبو داود في المراسيل (1) من مرسل عطاء الخراساني، ووصله (2) يونس بن راشد عن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، فهذا الحديث المرفوع مع ما عضده قد صرح فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بنهي الجواز، وهو نص في محل النزاع يدفع القول بأن المنسوخ إنما هو الوجوب فقط دفعا لا يبقى بعده شك ولا ريب.
واعلم أن البدر - رحمه الله - قال في آخر رسالته ما لفظه: فعليك أيها الناظر في البحث بتأمله،، وتحققه، وتكرار النظر فيه، حتى يتبين لك الحق (3) بيد من هو، والحمد لله رب العالمين.
ذكر في الأم، حرر في الثلث الأول من ليلة الاثنين لعله تاسع عشر شهر محرم سنة 1210، وكان النقل يوم الخميس 12 شهر محرم سنة 1314.
_________
(1) رقم (349) وقد تقدم.
(2) قاله الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (3/ 92).
(3) وخلاصة القول في ذلك ما قاله الشوكاني في "السيل الجرار" (3/ 693) بتحقيقنا: ولا يخفاك أن هذا حكم على الحديث بأنه متواتر، فلم يبق ما يوجب الاشتغال بالكلام على طرقه والعمل بالمتواتر واجب، وهو بنسخ الكتاب إذا تأخر، فلو قدرنا أن آية الوصية للوالدين والأقربين لم تنسخها آية المواريث لكان هذا الحديث يكفي في نسخها، وقد قدمنا لك أن الاتفاق كائن على أنها منسوخة إما بآية المواريث أو بالحديث، وأيضًا هذا الحديث يقيد ما ورد مطلقًا في القرآن لقوله تعالى:} من بعد وصية يوصى بها أو دين {[النساء: 11]، وما ورد في السنة كالحديث: "ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه" تقدم تخريجه- وهكذا يقيد قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم" تقدم تخريجه- وهكذا سائر ما ورد في مشروعية الوصية مطلقًا، فلم يبق في المقام ما يقتضي عن إبطال الوصية للوارث.(10/4864)
(160) 27/ 1
جواب سؤال ورد من أبي عريش حول الوصية بالثلث
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(10/4865)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: جواب سؤال ورد من أبي عريش حول الوصية بالثلث.
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وسلم وبعد فإنه وصل إلي سؤال في شهر القعدة سنة 1207هـ كراسة فيها اختلاف بين حكام المخلاف السليماني ..
4 - آخر الرسالة: ومن أحسن من الله حكما. انتهى من تحرير المجيب عمدة المسلمين وحاكمهم القاضي محمد بن علي الشوكاني حفظه الله تعالى.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 3 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(10/4867)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وسلم وبعد:
فإنه وصل إلي سؤال في شهر القعدة سنة 1207 هـ، كراسة فيها اختلاف بين حكام المخلاف السليماني من ولاية أبي عريش، وسألوني أن أحكم بينهم في القضية التي تعد، وصفتها أن رجلا مات وخلف أخا، وأوصى بجميع ماله، ثم كتب وصيته بعض حكام ذلك القطر، وأمره أن يقتصر على الثلث لتصح الوصية، فاقتصر عليه، وقامت شهادة متكاثرة أن الموصي قال في مرضه الذي مات فيه، وفي حال صحته: لأحرمن أخي الميراث، فرجح بعض حكام ذلك المحل بطلان هذه الوصية، وإن كانت بالثلث لاشتمالها على الضرار الذي حرمه الله، واستدل على ذلك بأدلة، ورجح بعضهم صحتها بالثلث؛ لأن القربة غير شرط، وقد جعل الله للميت ثلث ماله يتصرف فيه كيف شاء.
والكلام في المسألة معروف مدون في مواضعه، ولكني أذكر منها ما هو الراجح عندي وأبين ما دلت عليه الأدلة باعتبار العمل الأصولي.
فأقول: قد وردت أدلة قاضية بجواز الوصية بالثلث لمن كان له وارث، منها حديث ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " الثلث، والثلث كثير " متفق عليه (1)، وحديث سعد بن أبي وقاص بنحوه عند الجماعة (2) كلهم، ونحوها.
_________
(1) أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (2743) ومسلم رقم (10/ 1629) من حديث ابن عباس قال: "لو أن الناس غضوا من الثلث فإن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "الثلث والثلث كثير".
(2) أخرجه البخاري رقم (1295) ومسلم رقم (5/ 1628) وأحمد (1/ 179) وأبو داود رقم (2864) والترمذي رقم (2116) والنسائي (6/ 241 - 242) وابن ماجه رقم (2708).
قلت: وأخرجه الدارمي (2/ 407) والطيالسي (/ 282 رقم 1433 - منحة المعبود) ومالك (2/ 763 رقم 4) بألفاظ متعددة من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي قال له: "الثلث والثلث كثير- أو كبير- إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" بعد أن قال له سعد: "إنه يريد أن يتصدق بثلثي ماله قال: لا. قال: فالشطر يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: لا. قال: فالثلث؟ قال: "الثلث والثلث كبير"(10/4871)
ولا شك أن الإذن بالثلث مقيد بما ورد من النبي عن الضرار كتابا وسنة، أما الكتاب فقول الله تعالى:} غير مضار {(1) بعد قوله:} من بعد وصية يوصى بها أو دين {(2)، فإن التقيد بعدم الضرار، وبعد إطلاق الوصية يدل دلالة واضحة على أن كل وصية وقعت لقصد الضرار غير صحيحة، ولا فرق بين أن يكون بالثلث، أو بما دونه، أو بما فوق، وقد صرح بهذا العلامة جار الله (3) فقال: وذلك بأن يوصي بزيادة على الثلث، أو يوصي بالثلث فما دونه، ونيته مضارة ورثته ومغاضبتهم، لا وجه الله تعالى. انتهى.
وقال الأمير الكبير الحسين بن محمد في الشفا (4) بعد أن ذكر حديث: " لو أن رجلا عبد الله ستين سنة، ثم ختم وصيته بضرار، لأحبط الضرار عبادته، ثم أدخله النار " ما لفظه: دل على ذلك أن كل وصية مخالفة للشرع النبوي، ومقتضية لتفضيل بعض الورثة على بعض، أو لإخراج المال مضارة للورثة، وميلا عن الحق، وتجنبا للشرع لا يجوز، وأنها من الكبائر، لذلك أحبطت العبادة الواجبة. انتهى.
وهذا الحديث أخرجه أبو داود (5)، والترمذي (6)، والحاكم (7) من حديث أبي هريرة بلفظ: " إن الرجل [1] ليعمل، أو المرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضاران في الوصية، فتجب لهما النار " ثم قرأ أبو هريرة:} مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى
_________
(1) [النساء: 12]
(2) [النساء: 12]
(3) أي الزمخشري في كشافه (2/ 39).
(4) (3/ 425).
(5) في "السنن" رقم (2867).
(6) في "السنن" رقم (2117) وقال حديث حسن صحيح غريب.
(7) لم أجده في المستدرك وهو حديث ضعيف.(10/4872)
بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ {إلى قوله:} وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {(1).
وأخرجه أيضًا أحمد (2)، وابن ماجه (3) بمعناه، وقالا فيه: سبعين سنة. ولا شك أن العمل إذا كان من موجبات دخول النار، ومن أسباب إحباط العمل الكثير محظور، وقد حكى الإمام المهدي في البحر (4) الإجماع على عدم صحة الوصية لمحظور، ولا فرق بين الوصية المحظورة والوصية بالمحظور، لأن مناط المنع واحد، وكذلك حكى الإجماع غيره، كصاحب الوافي (5)، وعلي بن العباس في الوصية للحربي لكونها محظورة، ومن الأدلة القرآنية على عدم جواز الضرار قول الله تعالى:} فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ {(6).
_________
(1) [النساء: 12 - 13].
(2) في "المسند" (2/ 278).
(3) في "السنن" (2/ 902 رقم 2704).
قلت: وفي إسناده شهر بن حوشب: صدوق، كثير الإرسال والأوهام.
"الميزان" (2/ 283)، "التقريب" (1/ 355)، "المجروحين" (1/ 361).
قلت: وأخرجه سعيد بن منصور في "السنن" (1/ 109) رقم (343، 344) والدارقطني في "السنن" (4/ 151 رقم 7) وابن كثير في تفسيره (1/ 471) وقال: رواه ابن أبي حاتم، عن داود بن هند، ورواه ابن جرير عن ابن عباس. وقال: الصحيح أنه موقوف.
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (9/ 88 رقم 16456). عن ابن عباس: "الإضرار في الوصية من الكبائر".
وأخرجه النسائي في "التفسير" عزاه إليه الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 402) عن علي بن مسهر عن داود بن أبي هند به موقوفًا.
(4) (5/ 308 - 309).
(5) عزاه إليه صاحب "الشفاء" (3/ 426). حيث قال: ودل على أن الوصية للحربي باطلة لأنها ليست من الحسنات، قال علي بن العباس: أجمعوا على أن الوصية للحربي باطلة. حكاه عنه في الوافي.
(6) [البقرة: 182](10/4873)
فسر صاحب الكشاف (1) الجنف بالميل عن الحق بالخطأ في الوصية، وفسر قوله: فأصلح بينهم، بإجرائهم على طريق الشرع، ثم قال: لأن تبديله تبديل باطل إلى حق وبلا ريب أن رد وصية الضرار إلى منهج الشرع لا يكون إلا بإبطالها ومحو أثرها، وإزالة رسمها , والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الواردة بمنع الضرار عموما وخصوصا أكثر من أن تحصى، فإن قيل: إن حديث أبي أمامة عند البيهقي (2) والدراقطني (3) بلفظ: " إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم، لتجعل لكم زكاة في أموالكم " وكذلك حديث أبي الدرداء عند أحمد (4) بنحوه، وكذلك حديث أبي هريرة عند ابن ماجه (5) والبزار (6) والبيهقي (7) بنحوه، وكذلك حديث أبي بكر الصديق عند العقيلي في تاريخ الضعفاء (8) بنحوه، تدل على أن
_________
(1) أي الزمخشري في "الكشاف" (1/ 278).
(2) عزاه إليه ابن حجر في "التلخيص" (3/ 194) وفي إسناده إسماعيل بن عياش وشيخه بن حميد وهما ضعيفان.
(3) في "السنن" (4/ 150).
(4) في "المسند" (6/ 440 - 441).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 212) وقال: "فيه أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط".
وأخرجه البزار في مسنده (2/ 139 رقم 1382 - كشف).
وقال البزار: "وقد روي هذا الحديث من غير وجه، وأعلى من رواه أبو الدرداء ولا نعلم عن أبي الدرداء طريقًا غيره، وأبو بكر بن أبي مريم وضمره معروفان وقد احتمل حديثهما".
(5) في "السنن" رقم (2709).
(6) عزاه إليه ابن حجر في "التلخيص" (3/ 91 رقم 1363).
(7) في "السنن" (6/ 269).
وفي سنده "طلحة بن عمرو" متروك كما في "التقريب" (1/ 379 رقم 37) وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 98 رقم 962): "هذا إسناد ضعيف .. ".
(8) (1/ 275).
وأخرجه ابن عدي في "الكامل" (2/ 794) وفيه: حفص بن عمر بن ميمون: متروك.
قال العقلي: "وحفص بن عمر هذا يحدث عن شعبة، ومسعر، ومالك بن مغول والأئمة بالبواطيل".
وقال ابن عدي: "وحفص هذا عامة حديثه غير محفوظ، وأخاف أن يكون ضعيفًا كما ذكره النسائي".
قلت: وأخرجه الدارقطني (4/ 150 رقم 3) والطبراني كما في "المجمع" (4/ 212) وقال الهيثمي: "وفيه عتبة بن حميد الضبي، وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه أحمد".
وهو من حديث معاذ بن جبل.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" كما في "مجمع الزوائد" (4/ 212) من حديث خالد بن عبيد السلمي وقال: إسناده حسن وليس كما قال.
وقال المحدث الألباني في "الإرواء" (6/ 79): بعد ما أورد طرق الحديث: وخلاصة القول: إن جميع طرق الحديث ضعيفة شديدة الضعف إلا الطريق الثانية- من حديث أبي الدرداء- والثالثة- من حديث معاذ بن جبل- والخامسة- من حديث خالد بن عبد السلمي- فإن ضعفها يسير.
ولذلك فإني أرى أن الحديث بمجموع هذه الطرق الثلاث يرتقي إلى درجة الحسن وسائر الطرق إن لم تزده قوة، لم تضره، وقد أشار إلى هذا القول الحافظ في "بلوغ المرام" فقال: رواه الدارقطني يعني عن معاذ، وأحمد. والبزار عن أبي الدرداء، وابن ماجه عن أبي هريرة وكلها ضعيفة لكن يقوي بعضها بعضًا.(10/4874)
الإنسان مفوض في ثلث ماله يتصرف فيه عند موته كيف يشاء من غير فرق بين وصية الضرار وغيرها، فهي أعم من الأدلة القاضية بتحريم الضرار من وجه وأخص من وجه، فلا تصلح أدلة الفرار لتخصيصها ولا لتقييدها، كما تقرر في الأصول أن الدليلين إذا كان بينهما عموم وخصوص من وجه فلا سبيل إلى الجمع، بل يتعين المصير إلى التعارض (1)
_________
(1) التعادل: فهو التساوي. وفي الشرع: استواء الأمارتين.
وقيل التعارض: لغة التمانع. ومنه تعارض البينات لأن كل واحدة تعترض الأخرى وتمنع نفوذها. "مقاييس اللغة" (4/ 247، 272).
وقد ذهب جماهير علماء الأصول إلى استعمال التعادل في معنى التعارض لأنه تعارض إلا بعد التعادل، وإذا تعارضت الأدلة، ولم يظهر- مبدئيًا- لأحدها مزية على الآخر فقد حصل التعادل بينهما، أي التكافؤ والتساوي.
انظر: "اللمع" (ص 66)، "الإبهاج" (3/ 132).(10/4875)
والترجيح (1)، فالجواب عن هذا من وجوه:
الأول: أن أسانيدها (2) كلها ضعيفة كما صرح بذلك الحفاظ، وفي إسناد حديث أبي أمامة إسماعيل بن عياش، وشيخه عتبة بن حميد، وهما ضعيفان، وفي إسناد حديث أبي بكر حفص بن عمر بن ميمون، وهو متروك.
وروي أيضًا من طريق خالد بن عبيد الله السلمي، وهو مع كونه مختلفا في صحبته في إسناده ابنه الحارث بن خالد، وهو مجهول، وبقية الأسانيد ضعيفة كما سلف، وممن صرح بذلك الحافظ (3).
الوجه الثاني: أن يقال: وعلى تسليم صحة الاجتماع بها لتقوية بعضها بعضا فلا
_________
(1) الترجيح: فهو الفضل في أحد جانبي المتقابلين أو جعل الشيء راجحًا ويقال مجازًا لاعتقاد الرجحان.
وفي الاصطلاح: الترجيح تقوية أحد الطرفين على الآخر فيعلم الأقوى فيعمل به ويطرح الآخر.
"المحصول" (5/ 397).
وقيل: الترجيح: اقتران الأمارة بما تقوى به على معارضتها.
من شروط الترجيح.
الأول: التساوي في الثبوت فلا تعارض بين الكتاب وخبر الواحد إلا من حيث الدلالة.
الثاني: التساوي في القوة فلا تعارض بين المتواتر والآحاد بل يقدم المتواتر بالاتفاق كما نقله إمام الحرمين في "البرهان" (2/ 1143).
الثالث: اتفاقهما في الحكم مع اتحاد الوقت والمحل والجهة فلا تعارض بين النهي عن البيع مثلًا في وقت النداء مع الإذن به في غيره.
انظر: "تيسير التحرير" (3/ 153)، "المحصول" (5/ 397).
(2) تقدم ذلك مفصلاً. فانظره.
قلت: إن الحديث حسن والله أعلم.
(3) في "التلخيص" (3/ 91 - 92).(10/4876)
نسلم [2] أن ظاهرها عدم الفرق بين وصية الضرار وغيرها، لأن وصية الضرار قد سلف أنها من محبطات الأعمال، ومن موجبات دخول النار، فهي بلا شك زيادة في السيئات لا زيادة في الحسنات، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد قيد الإذن بالتصرف في الثلث والتفويض فيه بقوله: زيادة في حسناتكم، وفي حديث أبي هريرة (1) المشار إليه بلفظ: زيادة في أعمالكم، فليس في هذه الأحاديث بعد تقييدها بالزيادة في الحسنات , والزيادة في الأعمال ما يدل على أنها تدل على صحة وصية الضرار (2).
الوجه الثالث: أنا لو سلمنا أنها أعم من الأدلة المانعة من وصية الضرار من وجه، وأخص منها من وجه، ولم نلتفت إلى ما قيدت به من الزيادة في الحسنات، والزيادة في الأعمال، وصرنا إلى التعارض والترجيح، فلا يشك من له أدنى تمسك بأذيال العلم أن نصوص الكتاب والسنة القاضية بالمنع من وصية الضرار أرجح من هذه الأحاديث الضعيفة.
وإذا تقرر هذا علم المنصف أن من أجاز الوصية بالثلث ضرارا وإحراما للوارث ليس بيده دليل، وأما ما يستند إليه من قصر باعه، وقلة حظه، واطلاعه من أن الوصية ليس من شرطها القربة فتصح وصية الضرار (3)؛ فهذه غفلة عظيمة سببها عدم الاطلاع على
_________
(1) تقدم تخريجه وهو حديث حسن.
(2) قال الشوكاني في "وبل الغمام" (2/ 396): "بتحقيقي .. فوصية الضرار ممنوعة بالكتاب والسنة، ومن جملة أنواع لضرار تفضيل بعض الورثة على بعض فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمى ذلك جورًا كما في حديث النعمان وقد تقدم".
ومن جملة أنواع الضرار ما أشار إليه بقوله: أو لإخراج المال مضارة للورثة، فإن من أوصى بماله أو بجزء منه لقربة من القرب، مريدًا بذلك إحارم الورثة جميع ميراثهم أو بعضه فوصيته باطلة، لأنه مضار وظاهر الأدلة أنه لا ينفذ من وصية الضرار شيء سواء كانت بالثلث أو بما دونه أو بما فوقه، بل هي رد على فاعلها فتكون أحاديث الإذن بالثلث مقيدة بعدم الضرار.
(3) قال ابن قدامة في "المغني" (8/ 397): وإن وصى لولد وارثه صح، فإن كان يقصد بذلك نفع الوارث لم يجز فيما بينه وبين الله تعالى. قال طاووس في قوله تعالى: " فمن خاف من موص جنفا أو إثما " [البقرة: 186]. قال: أن يوصي لولد ابنته، وهو يريد ابنته. رواه سعيد- أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 265 - 266) والدارقطني (4/ 52).
قال ابن عباس: الجنف في الوصية والإضرار فيها من الكبائر.(10/4877)
الأدلة، وعلى كلام الأئمة؛ لأن عدم اشتراط القرابة إنما يدل على جوازها مع عدمها كالوصية المباحة، أو بالمباح لا جوازها مع وجود المعصية، كأن تكون هي معصية بنفسها أو تؤول إلى المعصية؛ فإنها غير صحيحة، ولا جائزة، وقد تقدم ما يدل على أن ذلك إجماع، وهذا لا يخفى على من له أدنى إلمام بعلم الفروع، فإنه قد صرح في الأزهار (1) الذي هو مدرس صغار الطلبة أنه يجب امتثال ما ذكر (2)، أو عرف من قصده ما لم يكن محظورا (3)، يعني فلا يجب امتثاله، بل لا يجوز، لأن تنفيذه وتصحيحه من المعاونة على الإثم والعدوان، وقد قال الله تعالى:} وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ {(4) فهذا النهي القرآني يدل على تحريم تنفيذ الوصية المشتملة على ....................................
_________
(1) (3/ 672 - 673 مع السيل).
(2) قال الشوكاني في "السيل الجرار" (3/ 673) تعليقًا على ذلك: "وجه هذا أن الميت إذا كانت وصيته تتضمن تخليصه من شيء واجب عليه فقد فعل بالوصية ما يجب عليه، وكان تنجيزها واجبًا على وصيته أو على وارثه أو على سائر المسلمين إن لم يكن ثم وصي ولا وارث والإمام والحاكم أولى بالمسلمين بالقيام بذلك والإلزام به لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
وإن كان الذي أوصى به الموصي من القرب التي ليست بواجبة عليه فقد فعل ذلك في ماله الذي أذن الله سبحانه له بالتصرف فيه فكيف يشاء وإنفاذ ذلك واجب على الوصي أو على الوارث أو على الإمام والحاكم، لأن في إهماله إهمالا لحق امرئ مسلم. وهو منكر يجب إنكاره. وما عرف من القصد فله حكم اللفظ إذ ليس المراد باللفظ إلا مجرد الدلالة على المعنى الذي يريده اللافظ. وقد حصلت هذه الدلالة بالقصد.
(3) قال الشوكاني في "السيل" (3/ 673) أما قوله: "ما لم يكن محظورًا" فوجهه ظاهر لأن ذلك منكر وهو يجب دفعه على كل مسلم ومن دفعه ترك تنفيذه وعدم امتثال أمر الموصي بذلك.
(4) [المائدة: 2].(10/4878)
الضرار (1)، ومن الطاعة للمخلوق في معصية الخالق، وقد ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في دواوين الإسلام أنه قال: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " (2) ومن ترك إنكار المنكر؛ وقد تواترت أحاديث الأمر به , والنهي عن تركه.
وبهذا يتبين أن الوصية التي لا يراد بها وجه الله، بل المضارة للوارث، وإحرامه ما فرضه الله له باطلة من غير فرق بين أن يكون بالثلث، أو بما دونه، أو بما فوقه، فإذا قامت البينة العادلة على إقرار الموصي بما يدل على ذلك فوصيته مردودة، هذا حكم الله، ومن أحسن من الله حكما [3].
_________
(1) قال ابن كثير في تفسيره (1/ 495): قوله: " فمن خاف من موص جنفا أو إثما " قال ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي: الجنف: الخطأ، وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها، بان زاد وارثًا بواسطة أو وسيلة، كما إذا أوصى ببيعه الشيء الفلاني محاباة، أو أوصى لابن ابنته ليزيدها، أو نحوها ذلك من الوسائل، إما مخطئًا غير عامد، بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر أو متعمدًا آثمًا في ذلك، فللوصي- والحال هذه- أن يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي. ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به، جمعًا بين مقصود الموصي والطريق الشرعي، وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء ولهذا عطف هذا فنبه على النهي لذلك، ليعلم أن هذا ليس من ذلك السبيل ..
وقال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (2/ 270) قوله: " فمن خاف " لجميع المسلمين. قيل لهم: إن خفتم من موص ميلاً في الوصية وعدولاً عن الحق ووقوعًا في إثم ولم يخرجها المعروف، وذلك بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته أو لولد ابنته لينصرف المال إلى ابنته، أو ابن ابنه والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه، أو أوصى لبعيد وترك القريب، فبادروا إلى السعي في الإصلاح بينهم، فإذا وقع الإصلاح سقط الإثم عن المصلح، والإصلاح فرض كفاية، فإذا قام أحدهم به سقط عن الباقين، وإن لم يفعلوا أثم الكل.
وقال الشوكاني في "فتح القدير" (1/ 246): قوله: (فأصلح بينهم) أي أصلح ما وقع بين الورثة من الشقاق والاضطرار بسبب الوصية، بإبطال ما فيه ضرار ومخالفة لما شرعه الله، وإثبات ما هو حق كالوصية في قربة لغير وارث.
(2) تقدم تخريجه.(10/4879)
انتهى من تحرير المجيب عمدة المسلمين وحاكمهم القاضي محمد بن علي الشوكاني حفظه الله تعالى.(10/4880)
(161) 13/ 4
المباحث الدرية في المسألة الحمارية
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حلاق
أبو مصعب(10/4881)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: المباحث الدرية في المسألة الحمارية.
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله. - كثر الله فوائدكم - وصل سؤالكم المتضمن لطلب ما عند الحقير في مسألة زوج وأم وأخوين وأم، وأخوين لأم.
4 - آخر الرسالة: وهذا المقدار كفاية وإن كان البحث محتمل للتطويل.
والحمد لله أولا وآخرا بقلم المجيب محمد الشوكاني.
5 - نوع الخط: خط نسخي رديء.
6 - عد الصفحات: 7 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 9 كلمة.
9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(10/4883)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله.
كثر الله فوائدكم وصل سؤالكم المتضمن لطلب ما عند الحقير في مسألة زوج وأم وأخوين لأب وأم، وأخوين لأم، هل الراجح لديه قول من قال: إن للزوج النصف وللأم السدس، والباقي للأخوين لأم، ويسقط الأخوان لأبوين؟ أم الراجح قول من قال: إن الثلث الباقي يشترك فيه الإخوة لأبوين، والإخوة لأم على السواء (1)؟.
_________
(1) اعلم أن آيات المواريث ثلاث جمعت أصول علم الفرائض، وأركان أحكام المواريث: وهي:
1 - قال تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء: 11].
قال تعالى: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) [النساء: 12].
قال تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النساء: 176].
وهناك آيات كريمة وردت في شأن المواريث ولكنها مجملة، تشير على حقوق الورثة بدون تفصيل: أ- قال تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتب الله إن الله بكل شيء عليم) [الأنفال: 75].
ب- قال تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا) [الأحزاب: 6].
ج- قال تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) [النساء: 7].
الأحكام المستفادة من آيات المواريث:
أولاً: أحكام البنين والبنات:
1 - إذا خلف الميت ذكرًا واحدًا، وأنثى واحدة فقط، اقتسما المال بينهما للذكر سهمان، وللأنثى سهم واحد.
2 - إذا كان الورثة، جمعًا من الذكور والإناث، فإنهم يرثون المال للذكر ضعف الأنثى.
3 - إذا وجد مع الأولاد: أصحاب فروض كالزوجين أو الأبوين، فإننا نعطي أصحاب الفروض أولاً ثم ما تبقى نقسمه بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين.
4 - إذا ترك الميت ابنًا واحدًا فقط، فإنه يأخذ كل المال ويؤخذ هذا من مجموع الآيتين: (للذكر مثل حظ الأنثيين) و (وإن كانت واحدة فلها النصف) فيلزم نصيب الابن إذا انفرد جميع المال.
5 - يقوم أولاد الابن مقام الأولاد إذا عدموا، لأن كلمة (أولادكم) تتناول الأولاد الصلبيين وأولاد الابن مهما نزلوا بالإجماع.
ثانيًا: أحكام الأبوين:
1): الأب والأم لكل واحد منهما السدس، إذا كان للميت فرع وارث.
2 - ): إذا لم يكن مع الأبوين أحد من الأولاد، فإن الأم ترث المال. والباقي وهو الثلثان، يرثه الأب.
3 - ): إذا وجد مع الأبوين إخوة للميت (اثنان فأكثر) فإن الأم ترث سدسي المال، والباقي خمسة أسداس للأب، وليس للإخوة شيء أو الأخوات شيء أصلاً لأن الأب يحجبهم.
ثالثًا: الدين مقدم على الوصية.
رابعًا: حكم الزوج:
1 - إذا ماتت الزوجة ولم تخلف فرعًا وارثًا فإن نصيب الزوج (نصف).
2 - إذا ماتت الزوجة، وقد خلفت فرعًا وارثًا فإن نصيب الزوج (الربع).
خامسًا: حكم الزوجة والزوجان:
1 - إذا مات الزوج ولم يخلف فرعًا وارثًا فإن نصيب الزوجة أو الزوجات (الربع).
2 - إذا مات الزوج وكان قد خلف فرعًا وارثًا فإن نصيب الزوجة أو الزوجات (الثمن).
سادسًا: حكم الإخوة أو الأخوات لأم:
1 - إذا مات عن أخ لأم منفرد، أو أخت لأم منفردة، فإن الواحد منهما يأخذ السدس.
2 - إذا مات عن أكثر من ذلك يعني (أخوين لأم، أو أختين لأم) فيستحقون الثلث بالسوية.
سابعًا: حكم الإخوة أو الأخوات لأم:
1 - إذا مات وخلف أختًا شقيقة واحدة أو لابن ولم يكن له أصل ولا فرع، فللأخت الشقيقة أو الأخت لأب نصف التركة.
2 - واحدة فقط، اقتسما المال بينهما للذكر سهمان، وللأنثى سهم واحد. والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضاء عليم كانتا اثنتين فل 2 - إذا مات وخلف أختين شقيقتين فأكثر أو ب، ولم يكن له أصل ولا فرع فللشقيقتين أو لأب الثلثان من التركة.
3 - إذا مات وخلف إخوة وأخوات (أشقاء أو لأب) فإن التركة يتقاسمها الإخوة والأخوات على أساس أن نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى.
4 - إذا ماتت الشقيقة- ولم يكن لها أصل أو فرع- فإن الأخ الشقيق يأخذ جميع المال، وإن كان هناك أكثر من أخ، اقتسموا المال على عدد الرؤوس وهكذا حكم الإخوة والأخوات لأب عند عدم وجود الإخوة الأشقاء أو الأخوات الشقيقات.(10/4887)
فأقول: الحديث الصحيح الثابت في الصحيحين (1) وغيرهما (2) من حديث ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأول رجل ذكر " يدل على ما قاله الأولون في هذه المسألة من اختصاص الإخوة لأم بالثلث الباقي. ووجهه أنهم من أهل الفرائض؛ لأن المراد بها الأنصباء المقدرة المنصوص
_________
(1) أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (6746) ومسلم رقم (1615).
(2) كأحمد (1/ 313) وأبو داود رقم (2898) وابن ماجه رقم (2740) بلفظ: "اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله عز وجل فما أبقت الفرائض فالأولى رجل ذكر".(10/4889)
عليها في كتاب الله أو سنة رسوله، المحدودة بحد معلوم، المحصورة بحاصر معين. وهذه المسألة قد اشتملت على أهل الفرائض المقررة، وهو الزوج والأم والإخوة لأم.
أما الزوج والأم فظاهر، وأما الإخوة لأم فلقوله تعالى:} وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ {(1) فهذه الآية هي في بيان ميراث الإخوة لأم، قال القرطبي في تفسيره (2): أما هذه الآية فأجمع العلماء أن الإخوة فيها عني بها الإخوة لأم، قال: ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم، أو للأب ليس ميراثهم هكذا، فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في قوله:} وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ {(3) هم إخوة المتوفى لأبيه وأمه، أو لأبيه، ولم يختلفوا أن ميراث الإخوة للأم ليس هكذا، فدلت الآيتان أن الإخوة كلهم جميعا كلالة.
والكلالة (4): ما كان سوى الولد والوالدين من الورثة إخوة، وغيرهم من العصبة، وبه قال علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، قال الطبري (5): الصواب أن الكلالة الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده [1ب]. وحكاه القرطبي (6) أيضًا عن أبي بكر الصديق، وعمر، وجمهور أهل العلم، وبه قال صاحب العين (7)، وأبو منصور اللغوي، وابن عرفة، والقيسي، وابن الأنباري، قال سليمان بن عبيد (8): ما
_________
(1) [النساء: 12].
(2) في "الجامع لأحكام القرآن" (5/ 78).
(3) [النساء: 176].
(4) عزاه القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (5/ 78) للشعبي.
(5) في "جامع البيان" (3/ ج- 4/ 283).
(6) في "الجامع لأحكام القرآن" (5/ 76).
(7) (7): الخليل بن أحمد الفراهيدي (ص 849).
(8) عزاه إليه القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (5/ 76).
انظر: "مقاييس اللغة" (5/ 121 - 122).(10/4890)
أراهم إلا قد تواطؤا وأجمعوا على أن الكلالة من مات ليس له ولد ولا والد سموا القرابة كلالة؛ لأنهم أطاقوا بالميت من حواليه، وليسوا منه، ولا هم منهم، بخلاف الولد والوالد، فإنهما طرفان للرجل، فإذا ذهبا أطاق به سائر القرابة، وقال أبو عبيدة (1): الكلالة كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ. قال أبو عمر: ذكر أبي عبيدة الأخ هنا غلط لا وجه له، ولم يذكره في شرط الكلالة غيره، فعرفت اتفاق أهل اللغة على أن الكلالة من القرابة (2) هم من عدا الوالد والوالد، وأن الإخوة لأبوين، أو لأحدهما كلالة، ولكن بعضهم من أهل الفرائض، وهم الإخوة لأم، وبعضهم ليسوا من أهل الفرائض، وهم الإخوة لأبوين أو لأب، فإن الله - سبحانه - لم يقدر ميراثهم بل قال:} لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ {(3). وعرفت إجماع أهل العلم على أن قوله تعالى:} وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ {(4) هي في الإخوة لأم، فصح حينئذ الاستدلال بحديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها) (5) على أن الثلث الباقي بعد فرض الزوج والأم
_________
(1) قال ابن منظور في "اللسان" (12/ 143). اختلف أهل العربية في تفسير الكلالة فروى المنذري بسنده عن أبي عبيدة.
(2) عزاه في "لسان العرب" (12/ 143) للفراء.
وانظر: "مقاييس اللغة" (5/ 122).
(3) [النساء: 11].
(4) [النساء: 12].
(5) تقدم تخريجه.
قال ابن قدامة في "المغني" (9/ 7): قال تعالى: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل وحد منهما السدس).
المراد بهذه الآية الأخ والأخت من الأم، بإجماع أهل العلم ..
والكلالة في قول الجمهور: من ليس له ولد، ولا والد، فشرط في توريثهم عدم الولد والوالد، والولد يشمل الذكر والأنثى، والوالد يشمل الأب والجد.
وممن ذهب إلى أنه يشترط في الكلالة عدم الولد والوالد، زيد، وابن عباس، وجابر بن زيد، والحسن، وقتادة، والنخعي وأهل المدينة والبصرة والكوفة.
وقال القرطبي في "جامع البيان" (3/ ج-4/ 289): والصواب عندي أن الكلالة: الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده وذلك لصحة الخبر الذي ذكرنا عن جابر بن عبد الله أنه قال: قلت يا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما يرثني كلالة، أفأوصي بمالي كله؟ قال: "لا".(10/4891)
للإخوة لأم دون الإخوة لأبوين، وهو قول علي، وابن مسعود، وأبي موسى، والشعبي، وشريك، ويحيى بن آدم، وأحمد بن حنبل، وأبي حنيفة، وابن أبي ليلى، وأبي يوسف، ومحمد، وزفر، وأبي ثور، ونعيم بن حماد، وداود بن علي، واختاره ابن المنذر، وقال عمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، ومسروق، وشريح، ومالك، والشافعي، وإسحاق: أن الإخوة لأبوين والإخوة لأم يشتركون في الثلث قالوا: هب أن أباهم حمارا، وبهذا سميت هذه المسألة الحمارية (1).
_________
(1) قال ابن قدامة في "المغني" (9/ 24 - 25): وإذا كان زوج وأم وإخوة من أم وإخوة لأب وأم، فللزوج النصف وللأم السدس، وللإخوة من الأم الثلث، وسقط الإخوة من الأب والأم.
هذه المسألة تسمى المشركة، وكذلك كل مسألة اجتمع فيها زوج وأم أو جدة واثنان فصاعدًا من ولد الأم وعصبة من ولد الأبوين. وإنما سميت المشركة، لأن بعض أهل العلم شرك فيها بين ولد الأبويين وولد الأم في فرض ولد الأم. فقسمة بينهم بالسوية.
وتسمى الحمارية: لأنه يروى أن عمر رضي الله عنه، أسقط ولد الأبوين فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين هب أنا أبانا حمارًا أليست أمنا واحدة؟ فشرك بينهم.
ويقال: إن بعض الصحابة قال ذلك، فسميت الحمارية لذلك. واختلف فيها أهل العلم قديمًا وحديثًا.
* فذهب أحمد فيها إلى أن للزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة من الأم الثلث. وسقط الإخوة من الأبوين.
* ويروى عن عمر، وعثمان وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنهم شركوا بين ولد الأبوين وولد الأم في الثلث. فقسموه بينهم بالسوية، للذكر مثل حظ الأنثيين، وبه قال مالك والشافعي رضي الله عنهما وإسحاق لأنهم ساووا ولد الأم في القرابة التي يرثون بها، فوجب أن يساووهم في الميراث، فإنهم جميعًا من ولد الأم، وقرابتهم من جهة الأب إن لم تزدهم قربًا واستحقاقًا فلا ينبغي أن تسقطهم. ولهذا قال بعض الصحابة أو بعض ولد الأبوين لعمر وقد أسقطهم: هب أن أباهم حمارًا، فما زادهم ذلك إلا قربًا. فشرك بينهم.
وحرر بعض أصحاب الشافعي فيها قياسًا فقال: فريضته جمعت ولد الأب والأم وولد الأم وهم من أهل الميراث فإذا ورث ولد الأم وجب أن يرث ولد الأب والأم، كما لو لم يكن فيها زوج.
قال ابن قدامة ولنا: قوله تعالى: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل وحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) [النساء: 12].
ولا خلاف في أن المراد بهذه الآية ولد الأم على الخصوص، فمن شرك بينهم فلم يعط كل واحد منهم السدس فهو مخالفة لظاهر القرآن. ويلزم منه مخالفة لظاهر الآية الأخرى وهي قوله تعالى: (وإن كانوا إخوة رجالاً ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين) [النساء: 176]. يراد بهذه سائر الإخوة والأخوات، وهم يسوون بين ذكرهم وأنثاهم.
وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر". ومن شرك فلم يلحق الفرائض بأهلها.
ومن جهة المعنى أن ولد الأبوين عصبة لا فرض لهم وقد تم المال بالفروض فوجب أن يسقطوا، كما لو كان مكان ولد الأبوين ابنتان، وقد انعقد الإجماع على أنه لو كان في هذه المسألة واحد من ولد الأم، ومائة من ولد الأبوين، لكان للواحد السدس وللمائة السدس الباقي لكل واحد عشر عشرة، وإذا جاز أن يفضلهم الواحد هذا الفضل كله، لم لا يجوز لاثنتين إسقاطهم؟.
وأما قولهم: تساووا في قرابة الأم قلنا- ابن قدامة- فلم لم يساووهم في الميراث في هذه المسألة؟ وعلى أنا نقول: إن ساووهم في قرابة الأم فقد فارقوهم في كونهم عصبة من غير ذوي الفروض. فإن الشرع ورد بتقديم ذوي الفروض، وتأخير العصبة، ولذلك يقدم ولد الأم على ولد الأبوين في القدر في المسألة المذكورة وشبهها ولذلك يقدم- ولد الأم- وإن سقط ولد الأبوين كغيره.
وهو الرأي الراجح لدلالة الدليل الصحيح عليه.(10/4892)
والقول الأول أرجح (1) لدلالة الدليل الصحيح عليه، ولم يدفعه أهل القول الثاني بدافع يصلح للتشبث به، وغاية ما استدلوا به هو أن المقتضي لتوريث الإخوة لأم موجود في الإخوة لأبوين، وزيادة كونهم إخوة لأب مع كونهم إخوة [2أ] لأم لا يصلح لكونه مانعا بذلك المقتضى، بل مؤيد له، ومؤكد لاقتضائه للميراث.
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.(10/4893)
ولا يخفى عليك أن هذا مجرد رأي لا يصلح لنصبه في مقابل الدليل الصحيح، وهو قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ألحقوا الفرائض بأهلها " (1) كما تقدم.
لكن هذا إنما يتم على تسليم أن المراد بالفرائض الفروض المقدرة في الكتاب والسنة، وأن ذلك هو معناه اللغوي أو الشرعي، أما لو لم يكن ذلك معناها لا لغة ولا شرعا فلا يصح استدلال من استدل بالحديث على ذلك المدلول الذي قال به القائلون بأن الثلث الباقي بعد فرض الزوج والأم في مسألة السؤال لإخوة لأم دون الإخوة لأبوين، قال ابن بطال (2) - في بيان معنى الحديث -: المراد أن الرجال من العصبة بعد أهل الفروض إذا كان فيهم من هو أقرب إلى الميت استحق دون من هو أبعد، فإن استووا اشتركوا، وقال ابن التين (3): المراد العم مع العمة، وابن الأخ مع بنت الأخ وابن العم مع بنت العم، فإن المذكور يرثون دون الإناث، وخرج من ذلك الأخ مع الأخت لأبوين أو لأب، فإنهم يشتركون بنص قوله تعالى:} وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ {(4)، وكذلك الإخوة لأم أنهم يشتركون هم والأخوات لأم لقوله:} فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ {(5). وهكذا سائر شراح الحديث تكلموا نحو هذا الكلام، ولم يوضحوا أن معنى الفرائض [2ب] في الشرع أو اللغة هو القدرة المسماة (6) في الكتاب والسنة، بل غاية ما هناك أن الفرض عند أهل اللغة يطلق على التقدير.
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) عزاه إليه الحافظ في "الفتح" (12/ 11 - 12).
(3) عزاه إليه الحافظ في "الفتح" (12/ 11 - 12).
(4) [النساء: 176].
(5) [النساء: 12].
(6) قال الحافظ في "فتح" (12/ 11): المراد بالفرائض هنا الأنصباء المقدرة في كتاب الله تعالى وهي النصف ونصفه ونصف نصفه، والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما والمراد بأهلها من يستحقها بنص القرآن.(10/4894)
وقد ورد من معانيه عند أهل اللغة ما فرضه الله، أي أوجبه، ومن معانيه الحكم الشرعي، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن الفرائض المذكورة في الحديث هو جميع ما هو مذكور في الكتاب والسنة، سواء كان مقدرا، أو غير مقدر، ومعنى إلحاقها تقديمهم على الترتيب الشرعي، والمراد بقوله: " وما بقي فلأولى رجل ذكر " (1) يعني ممن لم يذكر في الكتاب العزيز، كالعم، وابن العم، وإلا لزم تقديم أهل الفروض المقدرة على البنين وبني البنين، وهو باطل بالإجماع.
نعم. إن صح ما ذكره النووي في شرح مسلم (2) أن حديث: " ألحقوا الفرائض بأهلها " يدل على أن الباقي بعد استيفاء أهل الفروض المقدرة للعصبات، وأن ذلك مجمع عليه كان الإجماع متمسكا للمستدلين بالحديث في مسألة السؤال.
فإن قلت: على فرض أنه لا يصح الاستدلال بالحديث على اختصاص الإخوة لأم بالثلث الباقي بعد فرض الزوج والأم مما هو الحق عندك من المذهبين المذكورين في مسألة السؤال.
قلت: قد دل قوله - سبحانه -: بقوله} وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ {(3) مع انضمام الإجماع (4) على أن المراد بالأخ والأخت أو أكثر منهما في هذه
_________
(1) قال الحافظ في "فتح" (12/ 11): في رواية الكشميهني (فلأولى) بفتح الهمزة واللام بينهما واو ساكنة أفعل تفضيل من الولي بسكون اللام وهو القرب أي لمن يكون أقرب في النسب إلى المورث، وليس المراد هنا الأحق، وقد حكى عياض أن رواية ابن الحذاء عن ابن هامان في مسلم (فهو الأدنى) بدال ونون وهي بمعنى الأقرب. قال الخطابي: المعنى أقرب رجل من العصبة.
(2) (11/ 53): حيث قال: وقد أجمع المسلمون على أن ما بقي بعد الفروض فهو للعصبات يقدم الأقرب فالأقرب فلا يرث عاصب بعيد مع وجود قريب ..
(3) [النساء: 12].
(4) تقدم ذكره. وانظر: "المغني" (9/ 21، 25).(10/4895)
الآية الإخوة لأم كما تقدم تقريره.
ومع انضمام قراءة من قرأ [3أ]: وله أخ أو أخت من أم إلى ذلك كما في قراءة سعد بن أبي وقاص أخرج ذلك عنه سعيد بن منصور (1)، وعبد بن حميد (2)، والدرامي (3)، وابن جرير (4)، وابن جرير (5)، وابن المنذر، وابن ابن أبي حاتم (6)، والبيهقي في سننه (7) بلفظ: أنه كأنه يقرأ: وله أخ أو أخت من أم، على أنه إذا كان الميت كلالة أي لا ولد له، وإن سفل ولا أب له وإن علا، ووجد في الورثة أخ لأم أو إخوة لأم ثبت لمن وجد منهم الميراث، ولم يشرط الله - سبحانه - في ميراث الإخوة لأم غير هذا الشرط.
ومسألة السؤال قد حصل فيها هذا الشرط، وهو كون الوارث كلالة، وثبت ميراث الإخوة لأم لوجود المقتضى، وهو كون الموروث كلالة، وعدم المانع من ميراث الإخوة لأم، ولا يصح جعل الإخوة لأبوين مع الإخوة لأم مانعا بالاتفاق، أما من جهة القائلين بأن الإخوة لأبوين يشاركون كون الإخوة لأم في الثلث الباقي فكذلك لأنهم لم يدعوا أن وجود الإخوة لأبوين مانعا من ميراث الإخوة لأم، بل ادعوا أنهم يشاركونهم.
والمقتضي [3ب] للمشاركة لا يصح إطلاق اسم المانع عليه. غاية الأمر أنه مانع في البعض، وهو ما صار إلى الإخوة لأبوين مع الإخوة لأم لا مانع في الكل، وعلى كل تقدير أنه لا يصح إطلاق اسم المانع من إرث الإخوة لأم عليه، فقد تقرر بهذا أنه وجد
_________
(1) في سننه (3/ 1187 رقم 592).
(2) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (2/ 448).
(3) في سننه (2/ 264 رقم 2979).
(4) في "جامع البيان" (3/ ج- 4/ 287).
(5) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (2/ 448).
(6) في تفسيره (3/ 887 - 888 رقم 4936).
(7) 6/ 231).(10/4896)
المقتضي لميراثهم وانتفى المانع.
وأما يتعلق به القائلون بأن الإخوة لأبوين يشاركون الإخوة لأم، وهو أنه قد صدق على الإخوة لأبوين أنهم إخوة لأم، ولا يقدح في هذا الصدق كونهم إخوة لأب، لأنه قد حصل المطلوب بكون أمهم وأم الميت واحدة فمندفع بما قدمنا من الإجماع (1) على أن قوله تعالى:} وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ {(2) مع القراءة التي صحت عن الصحابي المتقدم ذكره، وإذا كانت هذه الآية في الإخوة لأم دون سائر الإخوة ثبتت دلالة الدليل على المطلوب [4أ]، ولا يضرنا كون الإخوة لأبوين يصدق عليهم أنهم إخوة لأم، فإنه وإن صدق عليهم هذا الوصف، لم يصدق عليهم أنهم إخوة لأم فقط، وهذه الآية التي دلت على تقديم الإخوة في لأم في مثل مسألة السؤال قد أقمنا البرهان على أنها في ميراث الإخوة لأم فقط.
وأما الإخوة بغير هذا الوصف أعني فقط، فهم مذكورون، ومذكور ميراثهم بعد هذا الدليل الذي دل على ميراث الإخوة لأم فقط، وهو قوله تعالى:} وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ {(3) فهذه الآية هي الدليل على ميراث سائر الإخوة غير الإخوة لأم، وهي لا تعارض آية الإخوة لأم بوجه من الوجوه (4).
وتقرر بهذا أن الدليل [4ب] الدال على تقديم الإخوة لأم فقط على الإخوة لأبوين في مسألة السؤال هو قرآني على فرض أن حديث: " ألحقوا الفرائض بأهلها " (5) لا يدل
_________
(1) انظر "المغني" (9/ 25).
(2) [النساء: 12].
(3) [النساء: 176].
(4) انظر ما قدمنا من مناقشة ابن قدامة للمسألة والرأي الراجح ما قاله الشوكاني.
"المغني" (9/ 25).
(5) (5): تقدم تخريجه.(10/4897)
على ذلك كما قاله من تقدم حسبما أوضحناه، على أنا نقول: إن الظاهر هو دلالة هذا الحديث على تقديم الإخوة لأم في مسألة السؤال، واستحقاقهم للباقي بعد فرض الزوج والأم، وما نقص به الناقص المتقدم ذكره من أنه كان يلزم ذلك في الولد وولد الابن فجوابه أنا نقول بموجب هذا الإيراد، ونقول هذا الإلزام ملتزم ولا نقض ولا إبطال، بل تقدم على الولد وولد الابن جميع من يوجد معهم من أهل الفروض المقدرة كالأم والأب والزوج والزوجة ونحوهم، لا من كان ساقطا بالولد، وولد الابن من أهل الفروض كالإخوة لأم.
فتقرر لك بهذا دلالة الحديث على تقدم الإخوة لأم فقط. فتنضم دلالة السنة إلى دلالة الكتاب (1).
وفي هذا المقدار كفاية، وإن كان البحث محتمل للتطويل.
والحمد لله أولا وأخيرا. بقلم المجيب محمد الشوكاني.
_________
(1) وهو الراجح لدلالة الدليل الصحيح عليه:
أ- قوله تعالى: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل وحد منهما السدس .. ).
ب- للإجماع على أن المراد من هذه الآية ولد الأم على الخصوص.
ج- القراءة الصحيحة للصحابي سعد بن أبي وقاص.
د- قوله تعالى في بيان ميراث سائر الإخوة غير الإخوة لأم: (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) [النساء: 176].
هـ- الحديث النبوي الصحيح: " ... ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكرًا" ودلالته وقد تقدم توضيحه في اختصاص من الإخوة لأم بالثلث الباقي، ووجهه أنهم من أهل الفروض ...
"المغني" (9/ 25 - 26).(10/4898)
(162) 51/ 2
إيضاح القول في إثبات العول
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
وقد صدر هذه الرسالة بجواب عن مسألة دوس الزرع بالحيوانات غير المأكولة كالحمير ونحوها، وتروث وتبول حال دوس الزرع والجواب عن ذلك.(10/4899)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: إيضاح القول في إثبات العول.
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" وبعد حمد الله على كل حال. وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه خير خصبٍ وآل فإنَّه وصل هذان السؤالان من مولاي العلامة المفضال صفي الآل نبراس الكمال والجلال، أحمد بن يوسف زبارة
4 - آخر الرسالة: فلا حاجة بنا إلى إيراده هاهنا، وتكريم الكلام عليهن وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق. حرر في شهر رجب سنة 1217هـ.
بقلم مؤلفه المجيب بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 31 صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 22 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(10/4901)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد حمد الله على كل حال وصلاتِه وسلامِه على سيدنا محمد وآله وصحبه خيرِ صحبٍ وآلهْ. فإن وصل هذان السؤالانِ من موالي العلامةِ المفضال، صفي الله، نِبْراسِ الكمال والجلال أحمدَ بنِ يوسفَ زبراة (1) - ثبت الله إيراده وإصداره- قال: كثر الله فوائده-:
السؤال الأول: فيما يقع في حال الدِّياسِ للزرع من الحميرِ والأُتَنِ من الرَّوْثِ والبولِ على الحبِّ المْداسِ فماذا يكون الحكمُ فيه؟
الأول: هل يجوز ذلك مما لا يؤكل لحمه؛ لأن فيه تعريضَ المداسِ للإهانةِ بوقوعِ الروث النجس، والبولِ النجسِ عليه.
الثاني: إذا وقع على التبن والحبِّ مع المشاهدة هل يجبُ غسلُ الحبِّ جميعًا أو يعفى عن ذلك، أو يُرجَعُ إلى البراءة الأصليةِ؟
أو تقولُ ربَّما أصاب البولُ الحبَّ الكثير فمع تفرُّقِ الحبِّ في الحبوب الكثيرةِ ربما أنه يبقى على الحبة الواحدة ما هو معفوٌّ عنه، أو ما ذلك الحكمِ فقد بحثتُ عن ذلك في مظانَّه لم أجدْ ما يطمئنُّ إليه الخاطر؟ فأفضِلوا بالإفادةِ والتحقيقِ لذلك بما يغني عن الإعادةِ فالمسألةُ حادثةٌ والاستعمالُ لذلك من الزُّراعِ كائنٌ مأنوسٌ، فأدَاها الموروثُ إلى وارثَهُ. انتهى السؤال الأول.
_________
(1) تقدمت ترجمته.(10/4905)
وأقول: إنه وقع الاتفاق بين جميع علماء الإسلام. أن الأصلَ في كل شيء الطهارةُ وأن هذا الأصلَ يجبُ استصحابُه (1) حتى يُعْلَمَ وجودُ الناقلِ عنه، علمًا شرعيًّا لا مجرَّد الظنون (2) الفاسدةِ، التي هي شأن كثير من الموسوسينَ في الطهارةِ، فإن الانتقالَ عن ذلك الأصل المجمعِ عليه [اأ] بشيء من ظنونِ أهلِ الوسوسةِ لم يقل به قائلٌ من أهل العلم، بل هو غير جائز لا سيما في أبواب تطهيرِ النِّجسِ ورَفْعِ الحدث ولهذا ثبتَ عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "فمن زاد فقد أساءَ، وتعدَّ وظلم" (3).
بل جزم بعض أهل العلمِ بِفِسْقِ الموسوسينَ في الطهارةِ، المجاوزين للحدود التي شرعها الشارع.
وإذا تقرَّر ما ذكرناه من الإجماع على أن الأشياءَ جميعَها طاهرةٌ أصالة حتى يُعلمَ وجودُ الناقلِ علمًا شرعيًّا.
فاعلم أن الشارعَ قد أشار على هذا الأصلِ، وأرشدَ إليهن وعمل عليهن وقدَّره في غير موطنٍ، فمن ذلك حديثُ عبَّادِ بنِ تميم عن عمِّه قال: شكى إلى النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والرجلُ يُخيَّلُ إليه أنه يجد الشيء في الصلاةِ قال: "لا ينصرف حتى يسمع
_________
(1) يشير إلى استصحاب البراءة الأصلية ويسميها ابن القيم براءة العدم الأصلية كبراءة الذمة من التكليفات الشرعية حتى يقوم الدليل على ذلك التكليف ... وهي استدامة ما كان ثابتًا ونفي ما كان منفيًّا.
"أعلام الموقعين" (1/ 339)، "إرشاد الفحول"، (772 - 780)
(2) يبنى الاستصحاب على مبادئ منها:
أ- اليقين لا يزول.
ب- الأصل في الأشياء الإباحة.
ج- الأصل براءة الذمة.
وانظر أنواع الاستصحاب وحجيته في "إرشاد الفحول" (ص 773 - 774)
(3) أخرجه: أبو داود، رقم (135)، والنسائي رقم (140)، وابن ماجه، رقم (422)، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بسند حسن.(10/4906)
صوتًا أو يجد ريحًا" أخرجه الشيخانِ (1) وغيرهما، وحديثِ أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا فأشكل عليه أخرجَ منه شيء أم لا فلا يخرج من المسجد حتى يسمعَ صوتًا أو يجد ريحًا" أخرجه مسلم (2) والترمذي (3)، وأخرج نحوه الشيخان (4) أيضًا من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني وأخرج نحوه أيضًا أحمدُ (5) والحاكمُ (6) وابنُ حبَّانَ (7) من حديث أبي سعيد وفي إسناده عليُّ بن زيد بن جدعان. وأخرج نحوَه أيضًا البزَّار (8) والبيهقي (9) من حديث ابن عباس، وفي إسناده أبو أوَيْسٍ لكنَّه تابعه الدَّراوَرْديُّ.
قال النوويُّ في شرح مسلم (10): هذا الحديثُ أصلٌ من أصول الإسلام، وقاعدةٌ عظيمةٌ من قواعد الدين وهي أنَّ الأشياء يُحْكَمُ ببقائها على أصولها حتى يُتيقَّنَ خلافُ ذلك، ولا يضرُّ الشكُّ الطارئ عليها، فمن ذلك مسألةُ الباب التي ورد فيها الحديثُ،
_________
(1) البخاري في صحيحه رقم (137) ومسلم في صحيحه رقم 98/ 361).
(2) في صحيحه، رقم (99/ 362)
(3) في "السنن" رقم (75)، وقال: حديث حسن صحيح. قلت: وأخرجه أبو داود، رقم (177)، وهو حديث صحيح.
(4) البخاري في صحيحه، رقم (98/ 361). قلت: وأخرجه أبو داود، رقم (176)، والنسائي، رقم (160)، وابن ماجه، رقم (513).
(5) في "المسند" (3/ 12).
(6) في "المستدرك" (1/ 134).
(7) في صحيحه رقم (2665). وهو حديث صحيح لغيره.
(8) في مسنده (1/ 147 رقم 281 - كشف). وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 242)، وقال: رواه الطبراني في "الكبير" رقم (6622)، والبزار بنحوه ورجاله رجال الصحيح.
(9) في "السنن الكبرى" (1/ 117، 220). وهو حديث حسن.
(10) (4/ 49).(10/4907)
وهي أن من تيقَّن الطهارةَ وشكَّ في الحديثِ حكمَ ببقائِهِ على الطهارةِ ولا فرق بين حصول الشكِّ في نفس الصلاةِ، وحصولِه خارجَ الصلاة.
وهذا مذهبنا ومذهبُ جماهيرِ [1ب] العلماء من السلفِ والخلفِ. ثم قال: ومن مسائلِ القاعدةِ المذكورةِ أن من شكَّ في طلاق زوجته، أو في عِتْقِ عبدِه أو نجاسةِ الماء الطاهر أو طهاة الماء النجسِ، أو نجاسةِ الثوبِ أو الطعام أو غيرِه، أو أنه صلى ثلاثَ ركعاتٍ أم أربعًا، أم أنه ركعَ وسجد أم لا، أو أنَّه نوى الصومَ، أو الصلاةَ، أو الوضوءَ أو الاعتكافَ، وهو في أثناء هذه العبادات ومن أشبهَ هذهِ الأمثلةَ! فكل هذه الشكوكُ لا تأثير لها، والأصل عدمُ الحادثِ. انتهى.
ومن الأدلة الدالة على ذلك الأصلِ العظيم ما أخرجه الدارقطنيُّ (1) وغيره من حديث ابن عمرَ قال: خرج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بعض أسفاره فسارَ ليلًا، فمرُّوا على رجل جالس عند مِقراةٍ له وهي الحوض الذي يجتمع فيه الماء. فقال عمر: أولغتِ السباعُ عليكَ الليلةَ في مِقْراتِك؟ فقال له النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا صاحب المقراةِ لا تخبره، هذا متكلِّفٌن لها ما حملتْ في بطونِها ولنا ما بقيَ شرابٌ طهورٌ" ففي هذا الحديث إرشاد إلى الوقوفِ على حكم الأصلِ، وهو الطهارة وعدمُ البحث والسؤال عن أسباب النجاسةِ المجوِّزِة، وأن ذلك من التكلُّف الذي يخالفُ الشريعةَ (2).
_________
(1) في "السنن" (1/ 26 رقم 30) وهو حديث ضعيف.
(2) والأصل الطهارة فلا ينقل عنها إلا ناقلٌ صحيحٌ لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليهن لأن كون الأصل الطهارة معلوم من كليات الشريعة المطهرة وجزيئاتها ولا ريب أن الحكم بنجاسة شيء يستلزم تكليف العباد بحكم من أحكام الشرع.
والأصل البراءة من ذلك ولا سيما من الأمور التي تعم بها البلوى، وقد أرشدنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى السكوت عن الأمور التي سكت الله تعالى عنها وأنها عفو فما لم يرد فيه شيء من الأدلة الدالة على نجاسته فليس لأحد من عباد الله تعالى أن يحكم بنجاسته بمجرد رأي فاسد أو غلط في الاستدلال .... ".(10/4908)
وتأملْ موقع هذا الخطابِ من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث يقول: "يا صاحبَ المقراةِ لا تخبره" ثم يواجه هذا الصحابيَّ الجليلَ بقوله: "هذا متكلِّفٌ" فإنَّ في هذا أبلغَ زاجرٍ للمحكِّمينَ للشكوكِ، المتنطعينَ المتكلِّفين، المثبتين في هذه الشريعة ما ليس منها والأحاديث (1) في هذا الباب كثيرة لمن تتبعها، وأمعنَ النظرَ في شأنها.
ولا شك أن الزرعَ الذي وقعَ السؤالُ عنه عند دياسته بدوابً لا تؤكلُ كالحميرِ والأُتنِ محكومٌ له بالطهارةِ؛ لأنه متولِّد بين طاهرينِ: الترابِ الذي نبتَ، والماء الذي سُقي به، بل هما مستحقَّان لوصف زائدٍ على مجرد كونِهما طاهرينِ وهو أنهما مطهَّران لغيرهما.
وإذا تقرر أن الزرع المذكورَ [2أ] طاهرٌ وأن طهارتَه مجمعٌ عليها من جميع المسلمينَ فالواجبُ استصحابُ هذا الأصل. ومن عَرَضتْ له شكوكٌ فسأل عن طهارتِها قلنا كما قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعمر رضي الله عنه أنه متكلِّفٌ.
وأما إذا كان السؤالُ بأشياءَ لا عن مجرَّد شكوكٍ كهذا السؤالِ الذي أورده السائل- كثر الله فوائده- فإنه إنما سأل عن شيء يشاهده ويشاهده غيرُه من دياسِ الزُّرَّاعِ في الجرينِ بالدوابِّ التي لا يؤكلُ لحمُها؟ فنقول: لا شكَّ أن الدياس بها مظنَّة لوقوع البولِ
_________
(1) منها ما أخرجه البخاري رقم (7288) ومسلم رقم (1337) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله فقال: "يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجُّوا". فقال رجلٌ: أكلُ عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثًا فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم" ثم قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلك بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".
ومنها: ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 375) وصحح إسناده ووافقه الذهبي عن أبي الدرداء رضي الله عنه (رفع الحديث) قال: ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله العافية فإنَّ الله لم يكن نسيًّا، ثم تلا هذه الآية: (وما كان ربك نسيا) [مريم: 64](10/4909)
والرَّوث منها في ذلك الشيء الذي تدوسه، فإن لم يحصلْ للإنسان إلا مجرَّدُ هذه المظنة فلا يجوز له أن ينتقل عن الأصل بها لأن المظنَّةَ هي محلُّ الظنِّ أعمُّ من أن يكون صحيحًا أو غيرَ صحيح، والانتقالُ عن ذلك الأصل إنما يكون بالعلم اليقيني عند جميع أهل العلم. ومن سوَّغ الانتقال بالظنِّ المقارِب للعلم فلكونه جعلَه لاحقًا بالعلم، ومن جوَّز الانتقالَ بخبر العدلِ الذي لا يُستفاد منه العلمُ فلكونه ورد الدليلُ العامُّ بالتعبُّد بأخبار العدلِ في مسائلِ العبادةِ ولم يردْ ما يدل على جواز العلم بمجرَّد كون الشيء محلًّا للظنِّ ولا سيما في النقل عن الأصل والبراءة المعتضدينِ بأقوال الشارعِ وأفعالِه، فمن رأى زرْعًا يداسُ بدوابِّ لا يؤكل لحمُها فلا يحلُّ له أن ينتقلَ عن طهارةِ شيء من ذلك، بل الحبُّ والكُدُسُ (1) طاهرانِ ولا أظنه يخالفُ في هذا مخالفٌ من علماء الإسلام.
وأما إذا شاهدَ البولَ والرَّوثَ خارجًا من الدابة التي لا تؤكلُن واقعًا على مجموع الكُدُسِ والحبِّ اللذين يُداسانِ فاعلمْ أن من الجائز أن يكون ذلك الخارجُ واقعًا على الكُدُسِ وحدَه. وهذا هو الظاهر لكونه مثلَ الحبِّ أضعافًا مضاعفةً، ولكونه أيضًا يكون عن الدياسِ مرتفعًا وأما الحبُّ فإنه إذا خرجَ من سنابلهِ انحطَّ إلى تحت الكُدُسِ والحبِّ، ويأخُذ كل جنس حصَّتَه على مقدارِ كَثْرَتِه وقلَّتِهِ ومن الجائز أيضًا أن يكون واقعًا على الأرض عن انحفارِ الكدسِ والحبِّ، وإن كان ذلك نادرًا وهذا إنما هو باعتبار البولِ. وأما الروثُ فقد شاهدنا كثيرًا ممن يدوسُ يتلقَّف ذلك قبل وصوله إلى الأرض ويرمي به خارجًا وإذا وقع شيء من ذلك على الكدسِ أخذَه وأخذ ما قد لصق به من الكدسِ ورمى به خارجًا، ولا يتركونه يبقى ويتلوَّث بالكدسِ والحبِّ أصلًا.
_________
(1) الكُدُسُ: العرمة من الطعام والترم والدراهم ونحو ذلك والجمع أكداس وهو الكدِّيس يمنية.
"لسان العرب" (12/ 45).(10/4910)
وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن مجرد الاحتمالِ المرجوحِ الذي ذكرناه في وقوع البولِ على الحبِّ لا يقول أحدٌ من علماء الإسلام أنَّه مسوغٌ للانتقال عن ذلك الأصلِ المعلومِ المجمعِ عليهن فإنه ليس بظنِّ فضلًا عن أن يكون علْمًا.
وأما ما ذكره- كثر الله فوائده- من أن في الدياسِ بما لا يؤكل لحمهُ تعريضًا لما وقع الدياسُ له للإهانةِ بالبولِ والرَّوث والمحكومِ بنجاستهما فالأمر كذلك. فلا يجوز إلا عند الضرورة، والغالبُ أنهم يدوسونَ الكثيرَ بالبقرِ. والقليل يخبطونه بالخشبِ كما شاهدنا ذلك في غير مكان.(10/4911)
قال- كثر الله فوائده-: السؤال الثاني: فيما ذاكرتُكم به شِفاهًا أيضًا في مسائل العول (1)، واستدلال ابن عباس- رضي الله عنهما- بأن الزوجَ والأمّ لم يخرُجَا عن الفريضةِ بحالٍ، وأشار العلامة الحسن الجلال- رحمه الله- في ضوءه (2) بأن من أعال أغفلَ التقييدَ، وأن ميراثَ الزوجينِ والأمِّ مقيِّداتٌ فروضُها وما عداها من الفروض مطلقاتٌ وأنه لم يحملوا المطلقَ على المقيَّد، وهي مخالفةٌ للعملِ الأصوليِّ، هذا ولم أحقِّقِ البحثَ لأني إنما [3أ] سمعتُه إملاءً من بعض العلماء فقط، فأفضلوا بتحقيق البحثِ
_________
(1) العول لغة: وله معان عدة.
العول: الميل في الحكم إلى الجور: قوله تعالى: (ذلك أدنى ألا تعولوا).
العول: النقصان.
وقال الجوهري في "الصحاح" (2/ 148) العول والعولة رفع الصوت بالبكاء والعول والعويل: الاستغاثة.
وقيل العول: الغلبة والشدة تقول منه: عالني الأمر يعُولني عولًا إذا غلبك واشتدَّ عليك وعجزت عن التغليب عليه.
وقيل العول: الاتفاق على العيال تقول منه: عال الرجل أولاده يعولهم تريد أنفق عليهم.
"لسان العرب" (9/ 478).
العول في الاصطلاح: هو زيادة في مجموع السهام المفروضة، ونقص في أنصباء الورثة، وذلك عند تزاحم الفروض وكثرتها، بحيث تستغرق جميع التركة، ويبقى بعض أصحاب الفروض، بدون نصيب من الميراث فنضطر عند ذلك إلى زيادة أصل المسألة. حتى تستوعب التركة جميع أصحاب الفروض. وبذلك يدخل النقص إلى كل واحدٍ من الورثة، ولكن بدون أن يحرم أحد من الميراث ... فالزوج الذي يستحق النصف، قد يصبح نصيبه الثلث في بعض الحالات، كما إذا عالت المسألة من (6) إلى (9) فعوضًا عن يأخذ (3/ 6) وهو النصف يأخذ (3/ 9) وهو الثلث وهكذا بقية الورثة يدخل عليهم النقص في أنصبائهم في حالة عول المسألة.
وبذلك يتحقق ويتَّضح لنا معنى قول الفرضيين، في تعريف العول: "هو زيادة في السهام المفروضة ونقص في أنصباء الورثة".
(2) أي "ضوء النهار" (4/ 2646).(10/4912)
في ذلك؟ فكلام السيِّد الحسن الجلالِ لا يخلُو عن مقال، إذِ التقييدُ في قوله تعالى:} إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك {(1) كالتقييدِ في قوله تعالى:} ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد (2) إلى آخر الآياتِ، فأفضلوا بالإيضاحِ. وتجويدِ البحثِ بما يكون به كمالُ الإيضاحِ؟ كثر الله فوائدكم، وكتب ثوابكم، وجزاكم الله خيرًا- آمين انتهى السؤالُ الثاني.
_________
(1) [النساء: 176]
(2) [النساء: 12](10/4913)
وأقول مستعينًا بالله، ومتكلًا عليه: إن هذا السؤالَ من أشدِّ الأسئلة إشكالًا، وأقواها إعضالًا؛ لأنه انقضى زمن النبوةِ، وأيامُ نزول الوحي من السماء، ولم تحدث مسألةٌ عائلةٌ إنما حدث العولُ في زمن الصحابة (1) فاختلفوا، وليسوا بملومينَ فإن تزاحُم الفرائضِ التي أهلُها يرثون جميعًا ولا يُسْقِطُ بعضُهم بعضًا قبلَ ذلك التزاحُم إذا قلنا أنَّه يرثُ بعضُهم ويُسْقِطُ بعضٌ عند التزاحمِ كان هذا الإسقاطُ لا دليلَ عليه إلا مجرَّدُ الرأي ولا يخفى أن إبطالَ ميراثِ وارثٍ وأثبتَ اللهُ ميراثَه مع كل وارثٍ من المزاحمينَ له بمجرَّد اجتماعِهم على الميراثِ اجتماعًا زادتْ به أجزاءُ فرائضِهم على أجزاء التركةِ. كما لم يدلُّ عليه دليل لا ترتضيه قلوبُ المتورِّعين، ولا تطمئنُّ به خواطرُ المتقيَن ولا تميلُ إليه عقولُ المجتهدين.
وانظر إلى كل مسألةٍ من مسائل العولِ فإنك تجدُ جميعَ من فيها وارثًا غيرَ ساقطٍ، فمن قال أن البعضَ منهم وارثٌ عند التزاحم والبعضَ الآخرَ ساقِطٌ به فهو محتاجٌ إلى دليل يدلُّ على إسقاطِ ذلك الوارثِ، لا سيما بعد الاتفاقِ على إثباتِ ميراثِه في تلك الفريضةِ، فإن جاء بدليل قبِلْناه، وإن لم يأتِ بدليل إلا مجرَّدَ [3ب] ما يتخيَّلُه من أن التزاحمُ مسوِّغٌ لجعل البعض وارِثًان والبعضِ الآخر ساقطًا فهذا التخيلُ ليس بدليل وهكذا ما قاله بعضُ المانعينَ (2) للعَوْلِ من أنه ليس في المالِ نصفٌ ونصفٌ وثلثٌ. ذهب
_________
(1) روي عن ابن عباس أنه قال في زوجة وأخت وأمٍّ: من شاء باهلتهُ أن المسائل لا تعول إنّ الذي أحصى رمل عالج عددًا أعدلُ من أنه يجعل في مالٍ نصفًا، ونصفًا وثلثًا، هذا نصفان ذهبا بالمال، فأين موضع الثلث؟ فسمِّيت هذه المسألة مسألة المباهلة لذلك، وهي أول مسألةٍ عائلة حدثت في زمن عمر رضي الله عنه، فجمع الصحابة للمشورة، فقال العباس: أرى أن نقسم المال بينهم على قدر سهامهم، فأخذ به عمر رضي الله عنه واتبعه الناس على ذلك .. ".
"المغني" (9/ 28) "موسوعة فقه عمر رضي الله عنه" (ص 73).
(2) وهو قول ابن عباس رضي الله عنه.
أخرج البيهقي في "السنن" (6/ 253) وسعيد بن منصور في سننه (1/ 44) روى الزهري، عن عبد الله بن عتبة قال: لقيت زفر بن أوس البصري فقال: نمضي على عبد الله بن عباس نتحدث عنده فأتيناه فتحدثنا عنده فكان من حديثه، أنَّه قال: سبحان الله الذي أحصى رمل عالجٍ عددًا، ثم يجعل في مال نصفًا، ونصفا، وثلثًا، ذهب النصفان بالمال، فأين موضع الثلث؟ وأيم الله لو قدَّموا ما قدم الله وأخَّروا ما أخر الله، ما عالت فريضة أبدًا فقال زفر: فمن الذي قدمه الله ومن الذي أخَّره الله؟ فقال: الذي أهبطه من فرض إلى فرض فذلك الذي قدمه الله والذي أهبطه من فرض على ما بقي، فذلك الذي أخَّره الله؟ فقال: الذي أهبطه من فرض إلى فرض فذلك الذي قدمه الله، والذي أهبطه من فرض إلى ما بقي، فذلك الذي أخَّره الله. فقال زفر: فمن أوَّل من أعال الفرائض؟ قال عمر بن الخطاب فقلت: ألا أشرت عليه؟ فقال: هِبته وكان امرأ مهيبًا.
قال ابن قدامة في "المغني" (9/ 29): قوله من أهبطه من فريضة إلى فريضة فذلك الذي قدَّمه الله. يريد أنَّ الزوجين والأمِّ، لكل واحد منهم فرض ثم يحجب إلى فرض آخر لا ينقص منه، وأما ما أهبطه من فرض إلى ما بقي، قلَّ أو كثر فكان مذهبه، أنَّ الفروض إذا ازدحمت ردَّ النقص على البناتِ والأخوات.(10/4914)
النصفان بالمال فأين موضع الثلث؟ فإن هذا مجرَّد استبعاد عمليٍّ، وعلى فرض صحَّتِه، والقول بموجبِه فنقول: نعم ذهب النصفانِ بالمال، فأين موضع الثلث؟ لكنْ أخبرونا مَنِ الذي أذنَ لكم عند هذه الحالةِ المستبعدةِ أن تورَّثوا بعضًا وتسقطوا بعضًا؟
إن قلتُم الآذِنُ لكم بذلك هو الله أو رسولُهُ فهذه باطلٌ بلا خلافٍ؛ فإن الله ورسولَه إنما فرضًا مواريثَ الوارثينَ حسبَما تضمَّنه القرآنُ والسنةُ، وبيَّنا الوارثَ والساقطَ، ولم يكن في القرآن ولا في السنة حرفٌ واحد في العولِ، ولا حدثَ ذلك في الأيام التي هي أيامُ نزولِ الوحي على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما قدمنا ذِكْرَهُ.
وأما ما يروى عن ابن عباس وهو رأسُ القائلينَ بعدم العولِ من أنَّه قال: "لو قّدَموا من قدَّم الله، وأخَّروا من أخَّر الله" (1) هكذا حُكيَ
_________
(1) انظر التعليقة السابقة(10/4915)
عنه، وما أظنُّه يصحُّ فإن هذا الدليلَ مع كونه لا يشبهُ كلامَ الفصحاء ولا يحكي كلامَ العرب العرَْباء، فيه غايةُ السقوطِ، والجوابُ عنه من وجوه.
الأول: على فرض صحة صدورهِ عن ابن عباس يقال له ما تريد بالتقديم والتأخير (1) هل تقديمُ الذِّكرِ [4أ] في النزولِ أم التقديم في المصحفِ الشريفِ، أم مرادُكَ بالتقديم أن الله قدَّمهم في تقديم إخراجِ ميراثِهم من التركةِ قبلَ إخراجِ ميراثِ غيرِهم، أو المرادُ بالتقديم أنه جاء عن الله- سبحانه- على لسان رسوله؟ إن قال: المرادُ الأولُ أو الثاني فممنوعانِ، بل بطلانهما ظاهرٌ لا يخفى على عالمٍ. وإن أرادَ الثالثَ فأيُّ دليل من كتاب الله- سبحانه- ورد بأنه يقدِّم إخراجِ ميراث بعض الورثةِ من التركةِ قبل إخراجِ ميراثِ البعضِ الآخَرِ، فإنا لم نسمع بشيء في هذا، فمن وقف على ما يفيد ذلك فلْيُهْدِه إلينا.
وإن أراد الرابعَ فليأتنا بالحجة أنَّه جاء شيء من ذلك على لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والوجه الثاني: أن الورثةَ الذين ينتقلون (2) من فريضةٍ إلى فريضةٍ هم كثيرٌ، فإن البنتَ الواحدةَ مع عصبته فرضُها النصفُ، فإذا وُجدت معها بنتٌ أخرى انتقلتْ من النصف إلى الثلثِ (3)، وهكذا الأخت الواحدةُ لأب وأم، أو لأب مع العُصْبَةِ فرضُها النصفُ. فإذا وجدتْ معها أختُها انتقلت من النصف إلى الثلثِ (4)، وهكذا الأختُ لأبٍ مع العصبةِ
_________
(1) تقدم توضيحه. انظر: "المغني" (9/ 29).
(2) قال ابن قدامة في "المغني" (9/ 29): قوله: وأما أهبط من فرض إلى ما بقي يريد البنات والأخوات فإنَّهنَّ يفرض لهنَّ فإذا كان معهُنَّ إخوتهنَّ، ورثوا بالتعصيب.
(3) قال تعالى: (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ... ) [النساء: 11].
(4) في قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) [النساء: 176].(10/4916)
فرضُها النصفُ. فإن وُجدت معها أخت مثلها انتقلت إلى الثلث، وهكذا الأخ لأمٍّ فرضُه السدسُ، فإن وجدَ معه أخوانِ لأمٍّ انتقل إلى التسع. وهكذا الزوجُ والزوجةُ فإنهما ينتقلانِ من النِّصفِ والرُّبُعِ إلى الرُّبعِ والثُّمُنِ (1)، وهكذا الأمُّ تنتقلُ من الثلثِ إلى السدسِ (2) فهول لا يصدق على كل واحد [4ب] منهم أنه ينتقلُ من فريضةٍ إلى فريضةٍ. فإن كان ابن عباس يجعلُهم جميعًا من المقدَّمين فكيف يصنعُ مثلًا في زوجٍ وأختٍ وأمٍّ! أو في زوج وأختينِ لأبٍ وأمٍّ وأم! أو في زوج وابنتين وأمٍّ،! أو في زوجةٍ وأختينٍ لأبوين وأمٍّ! ونحوِ هذه الفرائضِ، فإن هؤلاء جميعَهم على فرض أنه يقول بأنَّهم ممن قدَّم الله قد تزاحمتْ فرائضهم وعالتْ، فإن قال أنه يرثون جميعًا لأنهم ممن قدَّم اللهُ. فإن كل واحد منهم سيأخُذ فريضتَه المنصوصَ عليها لزمَهُ القولُ بالعولِ. وإن يخصُّ بعضَهم بإعطائِه نصيبَه وينقصُ على غيرِه فهذا تحكُّم محضٌ بعد تسليم أنَّهم جميعًا ممن قدم الله.
فإن قال: إن الذي قدَّمهم الله إنما هو الزوجان والأبوان.
فيقال له: قد وُجِدَ في جميعه ما جعلتَه كالبيانِ لمن قدَّم الله ولمن أخَّر فإن كلَّ واحد من هؤلاء إذا زال عن فريضة في جميعهم ما جلتَه كالبيانِ لمن قدَّم اللهُ ولمن أخَّر فإن كلَّ واحد من هؤلاء إذا زال عن فريضة انتقلَ إلى فريضة أخرى.
فإن قال: المراد بذلك هو الذي لا يسقطُ بحال، بل يكون وارثًا في جميع الأحوالِ، ومع كلِّ وارث. ولكنه ينتقلُ من فريضة إلى فريضة بحسب اختلافِ الورثةِ.
فنقول: البنتُ هكذا لا تسقطُ بحال، بل تنتقل من النصفِ إلى الثلثِ، أو إلى أقلَّ من الثلثِ بحسب عددِّ من يرثُ معهَا.
_________
(1) في قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم تكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم .. ) [النساء: 12].
(2) في قوله تعالى: (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس) [النساء: 11].(10/4917)
ثم ما الدليل على أن من لا يسقط بحالٍ هو الذي [5أ] قدَّمه الله. وعلى فرض هذا فإن خلفت الميتٌ ابنتَها وزوجها وأبويها، فإن كانوا ممن قدَّم الله جميعًا ففرْضُ البنت النصف، والزوجُ الربُع، والأبوينِ الثلثُ. فلا بد من القولِ بالعولِ، فإن قال أن بعضَ هؤلاء أقدمُ من بعض فمن هو الأقدم وما الدليلُ على ذلك مع كون كل واحد منهم لا يسقط بحال وبالجملة فلم يظهر لهذا الكلام الذي يروى عن ابن عباس وجهُ صحةٍ لا من طريق الأثرِ، ولا من طريق النظر. بل هو كلام متهافتٌ متناقضٌ (1).
والوجه الثالث: لو سلَّمنا أن هذا الكلامَ صحيحٌ، وأنه غير متناقضٍ بل مقبولٌ فلا يخفاك أن كلام الصحابي ليس بحجةٍ (2) على ما هو الحقُّ كما تقرَّر في الأصول فلا تقوم على القائلين بالعول الحجةُ بكلامه، وكيف يقومُ بكلامِهِ الحجَّةُ وقد خالفه من هو أكبرُ منه من الصحابة!. كما روي عن علي- عليه السلام- أنه قال على المنبر: "صار ثُمنها تسعًا" (3) بل سيأتي أن الصحابة ..................................
_________
(1) قال ابن قدامة في "المغني" (9/ 29 - 30): وقد يلزم ابن عباس على قوله مسألةٌ فيها: [زوج وأم وأخوان من أمٍّ، فإن حجب الأمّ إلى السدس خالف مذهبه في حجب الأم بأقل من ثلاثةٍ من الإخوة، وإن نقص الأخوين من الأم، ردّ النقص على من لم يهبطه الله من فرض إلى ما بقي، وإن أعال المسألة رجع إلى قول الجماعة وترك مذهبهن ولا نعلم اليوم قائلًا بمذهب ابن عباس، ولا نعلم خلافًا بين فقهاء الأمصار في القول بالعول.
(2) تقدم توضحيه. انظر "إرشاد الفحول" (ص795).
(3) أخرج ابن شيبة في مصنفه (2/ 183) وعبد الرازق في مصنفه (10/ 258) والبيهقي في "السنن" (6/ 253): اشتهر عن علي رضي الله عنه أنه كان يخطب على منبر الكوفة فقال: "الحمد لله الذي يحكم بالحقِّ قطعًا ويجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المآل والرجعى ... ". فقطع عليه ابن الكواء خطبته ليسأله عن رجل توفي وترك زوج وبنتين وأمًا وأبا، فأدرك عليَّ بما حباه الله من ذكاء أن القصد من السؤال هو التأكد من نصيب الزوجة فبادره عليَّ الجواب وقال متابعًا دون توقف "صار ثمنها تسعًا" ومضى في خطبته
وكأنه أراد أن يقول رضي الله عنه أنَّ المسألة قد عالت ولذلك نقص نصيب الزوجة من الثمن إلى التسع.
المسألة أصلها من [24] فأعالها علي رضي الله عنه إلى [27] وقد كان نصيب الزوجة [3/ 24] وهو الثمن فأصبح نصيبها بعد العول [3/ 27] وهو التسع.
بعد العول 27
أصلها 24
صورتها: 3 1/ 8
الزوجة 16 2/ 3
بنتان 4 1/ 6
أم 4 1/ 6
أب(10/4918)
أجمعوا (1) على إثبات العولِ ولم يخالفْهم إلا ابن عباس.
وإذا تقرر لك هذا فاعلم أنَّ السائل- دامت إفادته- لما أشار في سؤاله إلى كلام المحققِ الجلالِ (2) كما عرفَ تعيَّن علينا أن ننقلَ كلامَ الجلالِ بحروفِه ثم نتكلَّم على ما فيه، ثم بعد ذلك نتكلَّم على كلامِه في كل فريضةٍ من الفرائضِ العائلةٍ لتعرفِ الحقِّ في هذه المسألةِ. فإنها مسألةٌ عظيمةٌ يترتَّب عليها اختلافُ التوريثِ في كثير من المسائلِ وذلك هو حق من حقوق العباد [5ب]، ومظلمةٌ ماليَّةٌ لا بدَّ أن يقعَ السؤالُ عنها بين يدي اللهِ لكل من قضى فيها بقضيةٍ أو أفتى فيها بِفُتْيا، فإن من انتقص من نصيبِه بتقديمِ غيرِه عليه أو بمزاحمةِ غيره لا بدَّ أن يتعلَّق بمن صنعَ به ذلك حتى يفكَّه عدلُه,. وموافقتُه للحق أو يوبقْه جَوْره ومخالفته له. وأقلُّ الأحوال أن ينتقصَ أجرُه مع توفيتِه حقَّ الاجتهادِ كما ورد في الحديث المتفق عليه: "إذا اجتهدَ الحاكمُ فأصابَ فله أجرانِ، وإن اجتهدَ فأخطأَ فله أجرٌ" (3).
ولكنه لا يكون هكذا إلا من وفَّى الاجتهادَ حقَّه في هذه المسألةِ، وقليلٌ ما هم.
قال الجلال في ضوء النهار (4) ما لفظه: وقيل: قاله الجمهورُ: لا يقدَّم أحدٌ بل تعولُ
_________
(1) انظر "المغني" (9/ 30).
(2) في "ظهور النهار" (4/ 2654 - 2646).
(3) تقدم تخريجه مرارًا
(4) (4/ 2645).(10/4919)
الفرائضُ أي تميلُ عن مقاسمتِها بحيثُ يصيرُ لكل منهم اسمٌ غير اسمِه الأولِ كما سمّى أمير المؤمنين كرم الله وجهه (1) في الخطبة المنبرية (2) الثمنَ تِسْعًا، لأن [مقسم] (3) الثمن ثمانية فأميل إلى تسعةٍ واحتجَّ القائلون بالعول بأنه استحال أن يكون لشيء ونصفٌ، ونصفٌ وثلثٌ، كما في زوج وأختٍ وأمٍّ مثلًا، فوجب تقسيطُ المال على المقادير، وهو معنى القولِ.
وإلا كان إسقاطُ أحدِ المقاديرِ أو نقصه تحكُّمًا، وأجيبَ بمنع التحكُّم مسنَدًا بأن فرضَ غير الأبوينِ والزوجينِ مطلقٌ (4)، والمطلقُ غيرُ عامٍّ للأحوال المسماةِ بالأوضاعِ والأزمان لأنَّ العامَّ مقيَّدٌ (5) كما علم في الأصول، ولا شيء من المطلق مقيَّدٌ على أنه لو كان
_________
(1) قال السفاريني في "غذاء الألباب". كما في "المناهي اللفظية" (ص 454): "قد ذاع ذلك وشاع وملأ الطروس والأسماع، قال الأشياخ: وإنَّما خص علي رضي الله عنه بقوله كرم الله وجهه، لأنه ما سجد إلى صنم قد وهذا إن شاء الله لا بأس ... ".
فقال صاحب "المناهي اللفظية" (ص 454): أما وقد اتخذته الرافضة- أعداء علي رضي الله عنه والعترة الطاهرة- فلا، منعًا لمجاراة أهل البدع.
ولهم في ذلك تعليلات لا يصح منها شيء ومنها: لأنّه لم يطلع على عورة أحد أصلًا.
ومنها: لأنه لم يسجد لصنم قط، وهذا يشاركه فيه من ولد في الإسلام من الصحابة رضي الله عنهم ... ".
(2) تقد التعليق عليها.
(3) زيادة من "ضوء النهار" (4/ 2645).
(4) قال الأمير الصنعاني في "منحة الغفار على ضوء النهار" (4/ 2645): قوله: بأن فرض غير الزوجين والأبوين مطلق أقول: أي في اللفظ الدال على فرضهم وذلك أن قوله تعالى: (فإن كن نساء فوق اثنتين) وقوله: (وإن كانت واحدة فلها النصف) لم يقيد بوجود أحد ولا بعدمه، بخلاف فرض الأبوين فإنه قيد استحقاقهم الكثير منه بعد وجود الولد واستحقاق القليل منه بوجوده ومثله فرض الزوجين قيد استحقاق القليل منه بوجود الولد واستحقاق الكثير منه بعدمه.
(5) انظر "إرشاد الفحول" (ص 454).(10/4920)
عاما لوجوب تخصيصُه بفرضِ الأبوين والزوجينِ (1)، لأن الأقلَّ مقيَّدٌ بوجود الولد والأكثرَ بعدمِ الولدِ، فهو خاصٌّ في الأحوالِ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العامِّ كما عَلِمَ.
وإذا ثبتَ أنْ لا عمومَ للمطلق (2) فهو صادقٌ في ضمن مقيَّدٍ ما، وهو ما خلا [حالة] (3) مزاحمةِ فروض الأبوينِ والزوجينِ مقيدٌ المعارضةَ للمطلقِ، وإلا لزمَ مخالفةَ أصلينِ متفقٍ عليهما:
أحدهما: أن الاجتهادَ إنما يصح في مقابلةِ الظواهرِ [6أ] بتأويلها وتخصيصِها وتقييدِها بالقياس ونحوه، وأما النصوص الصرائح التي لا تحتملُ تخصيصًا ولا تقييدًا ولا تأويلًا فلا يصحُّ فيها الاجتهادُ.
ثانيهما: أن المقيَّد هو المقدمُ على المطلقِ، وقد عكسَ الأمرين مَنْ قالَ بالعولِ فأخرج السدسَ والرُّبُعَ والثُّمنَ ونحوَهما التي هي نصوصٌ صريحةٌ لا تحتملُ غيرَ معنى واحدٍ من معانيها وقدم المطلقَ على المقيَّد مع أن دلالةَ المقيدِ على مدلوله أقوى من دلالة المطلقِ على ذلك المقيَّد. ولهذا يجب تخصيصُ العامِّ بالخاصِّ إن اختلفَ حكمُهما، ويُحْملُ المطلقُ على المقيَّد إنِ اتَّفق حكمُهُما (4) والقائل بالعولِ قد زاغَ عن الثبوت على جبال هذه القواعد الرسيةِ. وحينئذ يجبُ أن يَستوفي الأبوانِ والزوجانِ فرضَهُما في محلِّهما، وما بقي كان لأقرب فرعٍ تعصيبًا لا فرضًا؛ إذ لا مانعَ من أن يكونَ بعضُ الورثةِ ذا فرضٍ على تقدير وعصَبَةً على آخر كما في الأب والجدِّ فإنهما ذو فرض مع الأولاد، وعصَبَةٌ مع غيرهم، فيجب أن يكون البناتُ كذلك ذواتِ فرضٍ عند انفاردهنَّ مع الأبوينِ والزوجينِ وعصَبَاتٍ معَهما كما يكنَّ عصباتٌ مع إخوتهنَّ، والأخواتُ أيضًا
_________
(1) تقدم. انظر: آيات المواريث.
(2) تقدم مرارًا.
(3) زيادة من "ضوء النهار" (4/ 2644).
(4) تقدم ذلك مفصلًا(10/4921)
مع البناتِ، وكذا الأبوان يقتسمان ما بقي بعد [أحد] (1) الزوجين للذكرِ مثلُ حظ الأنثيينِ على الأصحِّ تعصيبًا لا فرْضًا؛ لأنَّ ما بقي بعد فروضِ الزوجينِ والأبوينِ إن زاد على قدر فرضِ الإناثِ وجب أن يوفين منه على قدرِ فرضهنَّ، وما بقي فلذي فرضٍ أو عصَبَةٍ غيرِهنَّ لئلا يزيدَ ما لهنَّ مع المزاحمِ عليه مع عدمِه. انتهى كلامه (2).
وها أنا أتكلم على كلامه هذا بما تراه فتدبَّر الصوابَ.
أما قوله: وأجيب بمنع التحكُّمِ مسندًا بأن فرضَ غيرِ الأبوينِ والزوجينِ مُطْلَقٌ.
فأقول: ماذا أردتَ بالمطلق؟ إن قلتَ هو ما دلَّ على ماهيَّتِهِ مجرَّدُهُ، أو ما دل على شائعٍ في جنسهِ (3)، فلا فرقَ بين الأبوين والزوجينِ وبين غيرهم من الورثةِ في هذا المفهومِ؛ لأنهم مذكورون في القرآن الكريم على نمطٍ متفقٍ.
فإنه من حكم على قوله تعالى: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم}، قوله: {ولهن الربع مما تركتم} (4)، وقوله: {وورثه أبواه فلأمه الثلث}، وقوله: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} (5) وبالعموم أو الإطلاقِ [6ب] لزمه أن يحكمَ على مثل قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} (6)، وقوله: {فإن كُنَّ نساء فوق اثنتين فلهن ثلث ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف} (7) بمثل ذلك الحكم وهكذا في الآية الواردةِ في ميراث الأخواتِ، وذلك في قوله تعالى: {فإن كانتا اثنتين} الآية. وكذلك قوله: {إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك}
_________
(1) زيادة من "ضوء النهار".
(2) أي الجلال في "ضوء النهار" (4/ 2644 - 2648).
(3) انظر "إرشاد الفحول" (ص 540)، "المسودة" (ص 147).
(4) [النساء: 12].
(5) [النساء: 11]
(6) [النساء: 12]
(7) [النساء: 12](10/4922)
(1)، وكذلك الإخوة لأم، ونحوُ ذلك. وهكذا العكسُ.
وإن أردتَ بالمطلقِ هاهنا هو ما لم يقيَّد بقيدٍ، وميراثُ الزوجين والأبوين مقيَّدٌ. فإن الزوجَ يستحقُّ النصفَ بقيد عدمِ الولدِ، والرُّبُعَ بقيد وجوده، والزوجة الربع أو الثمن بقيدين المذكورين، والأمُّ تستحقُّ والأبُ الباقي بقيد أن لا يكون للميِّت وارثٌ سواهما. فنقول: وهكذا البنتُ تستحقُّ النصفَ بقيد أن لا يكون معها أحدٌ من إخوتها وأخواتِها، وتستحق الثلثَ بقيد وجودِ أختِها معها.
والأختُ لأبوين أو لأب تستحقُّ النصف بقيد عدم وجود أختِها معها، وذلك حيث يخلِّف الميت مثلًا أختًا لأبوينِ أو لأب وعصبَةً كالأعمام، وأولادِ الإخوةِ. وتستحق الثلَث بقيدِ وجودِ أختِها معها، وهكذا الإخوةُ والأخوات لأمٍّ، فإن الواحد منهم يستحقُّ السدسَ بقيد وجودِه منفردًا. أو مع واحدٍ معه منهم، وتستحقُّ التسعَ بقيد وجود اثنين معه. ونحو ذلك كثيرٌ.
فإن قال المرادُ التقييد مع عدمِ السقوطِ بحال. فنقول: والبنتُ أيضًا كذلك، فإنه وُجِدَ التقييدُ فيها مع عدم السقوط بحال، فكيف تقول في امرأة خلَّفت أبوين وابنتين وزوجًا، أو أبوين وبنتًا وزوجةً، إن قال يأخذ الأبوان الثلثَ والزوجُ الربعَ والابنتانِ أو البنتُ الباقي، وهو ثلثٌ ونصف سدسٍ فقد أدخل النقصَ على من هو الميِّتِ بمكان القُرْبِ لا يلحقُ به غيرُه مع كونِه لا يسقطُ بحالٍ، ومع كونه يستحقُّ مقدارًا معينًا بقيدٍ، ومقدارًا آخر بقيدٍ آخَرَ.
وأما قوله: والمطلق غيرُ عام للأحوال المسماة بالأوضاع والأزمانِ، وأن العامَّ مقيد كما علم في الأصول ولا شيءَ من المطلق.
فأقول: هذا الفرق بين [7أ] المطلق والعام لا يتعلَّق به فائدةٌ معتدًّ بها في محل النزاع لأنك قد عرفتَ اتحادَ الصيغِ الواردةِ في ميراث الأبوين والزوجين وغيرِهما، فإن أراد
_________
(1) [النساء: 176](10/4923)
أن الورادَ في ميراث الأبوين والزوجين عامٌّ، والواردَ في ميراثِ غيرِهما مطلقُ فهذا هو التحكُّم البحْتُ، والتكلُّف الصِّرْفُ، وإن أراد أن الصيغَ الواردةَ في الجميع مطلقة، لكن التقييدَ في الأبوين والزوجين صار كالعامِّ من جهة كونِه مقيَّدًا فليس كل مقيَّد له حكم العامِّ، ولا يخالف في ذلك من له أدنى إلمام بعلمِ الأصولِ، بل من له أدنى إلمام باللغة العربية. ومع هذه فقد قررنا فيما سبق أنه لم يختصَّ بالتقييد ميراثُ الأبوينِ والزوجين فقط بل معَهم غيرهم كما عرفت، فالعلَّة موجودةٌ، والإلزام مشتركٌ.
وأما قوله على أنه لو كان عامًّا لوجب تخصيصه بفرضِ الأبوينِ والزوجينِ لأن الأقلَّ مقيَّدٌ بوجود الولدِ، والأكْثَرَ بعدم العولِ، فهو خاص في الأحوال، والخاصُّ مقدم على العامِّ كما عُلِمَ.
فأقول: قد تردد ميراثَ من عدا الأبوين والزوجينِ بين أن يكون مطلقًا أو عامًّا.
وأجاب على فرض العموم بأن ميراث الأبوين والزوجينِ خاصٌّ، والواجبُ بناء العام على الخاصِّ، ولا يخفى عليك أن هذه التفرقةَ بين الأبوين والزوجين وبين غيرهم إن كان من حيث الصيغُ الواردةُ في مواريثهم في القرآن الكريم أو السنة النبوية فممنوعٌ.
فإن من يعرفُ علم البيانِ والأصولِ يعلم أن الحكمَ على الصيغِ الواردةِ في ميراثِ الأبوين والزوجين بالتقييدِ أو التخصيص، وعلى الصيغِ الواردةِ في ميراث غيرهم بالإطلاقِ أو العمومِ باطلٌ لا يرجع إلا قاعدةٍ مقرَّرةٍ، ولا إلى قانون صحيح، بل مجازفةٌ محْضةٌ [7ب]، وتحكُّم خالصٌ. وإن كانت هذه التفرقةُ من حيث كونُ ميراثِ الأبوينِ والزوجينِ مقيَّدينِ بتلك القيود، فميراث غيرِهما أيضًا مقيَّد بمثل تلك القيودِ. وإن كانت من حيث عدمُ السقوطِ بحال فميراثُ غيرِهم كذلك كالبنتِ.
وأما قوله: وإذا ثبت أنه لا عمومَ للمطلقِ فهو صادقٌ في ضمن مقيَّد ما وهو ما خلى عن مزاحمة فرض الأبوينِ والزوجين.
فأقول: هذا إنما يتمُّ بعد تسليم الإطلاقِ في ميراثًِ غير الأبوينِ والزوجينِ، والتقييدِ(10/4924)
في ميراثهما. وقد عرفتَ أنه منقوضٌ على كل تقدير، وأنه قوله: وإلَّا لزم مخالفةً أصلينِ متفقٍ عليهما: أحدُهما أن الاجتهادَ إنما يصحُّ في مقابلةِ الظواهِر بتأويلها وتخصيصِها وتقييدها بالقياسِ ونحوِه.
وأما النصوص الصرائحُ التي لا تحتمل تخصيصًا ولا تقييدًا ولا تأويلًا فلا يصحُّ فيها الاجتهادُ.
فأقول: هذا يرد على القائلين بعدم ثبوت العول، وتقديم الزوجين والأبوين على سائر الورثة لا على القائلين بثبوت العول، وتقديم الزوجين والأبوين على سائر الورثة لا على القائلين بثبوت العول، وبيانه أن الله- سبحانه- جعل للبنتين الثلثينِ، وهذا نصٌّ صريحٌ. فاجتهد القائلون بعدم العولِ بأن الأب والأمِّ يأخذانِ الثلثَ كاملا، والزوجُ الربعَ كاملًا، ولم يجعلوا للبنتين إلا ثلثَ التَّركةِ ونصفَ سُدُسِهِا، وكذلك جعل الله للأختين الثلثين.
فقال النافون للعول: إن للزوج النصفَ وللأبوين الثلثَ وللأختين السدسَ، وهكذا في البنت الواحدة في المسألة الأولى فإنها أخذتْ دون ما فرضه الله لها وهو النصفُ بدون دليل، بل لمجرد اجتهادٍ في مقابلة النصوصِ الصريحةِ، وهكذا الأخت الواحدةُ في المسألة الثانية إذا انفردت عن أختها أخذتِ السدسَ وهو ثلثَ فَرْضِها، وهكذا الأخوانِ للأمِّ مع زوجٍ وأختٍ لأبوين، وغيرت هذهِ الصورِ كثيرٌ.
وستعرف ذلك عند الكلام على كل مسألةٍ من مسائلِ العولِ، فانظر بعين الإنصافِ أيّما أشد مخالفةً للنص هل مَنْ جعلَ الميراثَ [8أ] لبعض الورثةِ، وأسقطَ البعضَ الآخَرَ مع كونهم جميعًا وارثينَ في تلك الفريضة بالنصوص الصحيحة، أم من قسمَ الميراث بينهم جميعًا لكل واحد منهم بمقدارِ فريضتِه؟ ولكنها لما تزاحمتْ وزادتْ فرائضُ الورثة على أجزاء التركةِ جعلوا لكلِّ ذي فرض من الورثةِ بمقدارِ نصيبِه من التركةِ، فإنه لا شكَّ ولا ريبَ أن المثبتين للعول أبعدُ لموافقةِ النصوصِ من النافينَ، لأن المثبتين أعملوا النصوصَ بحسب الإمكانِ، وبغاية الحرص على أن لا يقطعوا ميراثَ وارثٍ، ولا يفضِّلوا عليه غيْرَه بدون دليل.(10/4925)
وأما النافونَ فإنَّهم أعملوا بعضَ النصوص فوفَّروا ما فيها من الفرائض على أهلِها وطرحُوا النصوصَ الآخرةَ فنقصُوا أهلَها من بعض ما يستحقونه، أو من كلِّه بدون برهانٍ ولا قُرآنٍ، ولا عقلٍ ولا نقلٍ، فتأمل في هذا الأصل الأول الذي أورده الجلالُ على القائلينَ بالعول، حتى يتبينَ لك أنه أورد عليهم ما هو واردٌ عليه، عند من أنصفَ فإن القائلينَ بالعول إنما أعملوا النصوصَ ولم يهدُروا شيئًا منها، بل جمعوا بينَها بما يمكن عند التزاحُم، وزيادةِ أجزاء الفريضةِ على أجزاء التركةِ، بخلاف المانعينَ للعول، فإنهم أهدروا بعضَها إهدارًا ظاهرًا، وقدموا البعضَ وأخَّروا البعضَ بل دليل يدلُّ على ذلك، بل بمجرد رأي قد تبين فساده.
وأما قوله: وثانيها أن المقيَّد هو المقدَّمُ على المطلقِ. وقد عكس الأمرينِ من قال بالعول فأخرجَ السدسَ والربعَ والثمنَ ونحوَها التي هي نصوصٌ صريحةٌ لا تحتملُ غيرَ معنى واحد من معانيها، وقدَّم المطلقَ على المقيَّد مع أن دلالةَ المقيد على مدلوله أقوى من دلالة المطلق على ذلك المقيد، إن اتَّفقَ حكمُهما [8ب] والقولُ بالعولِ قد زاغ عن الثبوتِ على جبال هذه القواعدِ الراسيةِ.
فأقول: لا شكَّ فيما ذكره من تقديمِ المقيَّد على المطلق، ولكن نحن نمنع أن بعضَ فرائضِ الورثةِ مطلقةٌ، وبعضَها مقيَّدةٌ كما عرفت ذلك. فهذا الكلامُ إنما يكون نافعًا في محل النزاعِ بعد الاتفاقِ على أن فريضةِ الزوجينِ والأبوينِ مقيَّدةٌ، وفريضةُ مَنْ عداهما مطلقةٌ، وهو غيرُ صحيح كما مرَّ.
وأما دعواه أنه قد عكس الأمر من قال بالعول فباطلٌ. فإنه إنما تتمُّ هذه الدعوى بعد تسليم أنهم قدَّموا المطلقَ على المقيدِ، ولم يفعلوا ذلك، بل جمعوا بين جميعِ الفرائضِ وأخرجوا لكل واحدة منها بمقدارها من التركةِ.
ثم أيضًا هذا الكلام في نفسه فاسدٌ، فإن أهل العولِ لم يقدِّموا المطلقَ على المقيَّد على فرض صحة ما ادَّعاه من كون فريضةِ الأبوينِ والزوجينِ مقدَّرةٌ، وفريضةُ مَنْ عداهم(10/4926)
مطلقةٌ، بل أعطوا كل ذي فرضٍ فرْضَهُ، وإنما يكون التقديمُ لو وفَّروا نصيبَ من عدا الزوجينِ والأبوينِ، وجعلوا النقصَ في نصيبهما عند التزاحم، فالعكسُ الذي ادعاه إنما يصدُق بهذا ولا يصدُق بمجرَّد التسويةِ على أهلِ الفرائضِ المتزاحمةِ، بل الذي جاء بما لا يعقلُ ولا يجري على قواعدِ الأصولِ هو النافي للعولِ، فإنه قُدِمَ مطلقًا على مطلق أو مقيَّدًا على مقيِّد، أو عامًا على عامٍّ، أو خاصًّا على خاصٍّ، على حسب تلك النصوصِ الواردةِ، فإنها متساوية الأقدام. فمن ادَّعى العمومَ أو الخصوصَ في بعضها فالآخر مثلُه، ومن ادَّعى الإطلاقَ أو التقييدَ في بعضها فالآخر أيضًا مثلُه لما عرَّفناك سابقًا.
وأما ما ادعاهُ من إخراجِ السدس والربعِ والثمنِ ونحوِها فأهلُ العول لم يخْرِجُوها كما زعم [9أ]، بل أعطوا كلِّ واحد من أهلها فرْضَهُ المسمَّى له، لكنها لما تزاحمت الفرائضُ، وزادتِ على أجزاءِ التركةِ قسمُوا التركةَ على تلك الفرائضِ من غير إخراجٍ، بل لضرورة عقليةٍ اقتضتْ أنه لا يجتمعُ في المال مثلًا نصفانِ وثلثُ، أو نصفانِ وسدسٌ، أو ثلثانِ ونصفٌ، أو نحو ذلك.
وإنما الذي أخرج وخالف النصوصَ هو الذي أثبتَ بعضَها وأسقطَ بعضَها لمجرد خيالٍ مختلٍّ، وتوهمٍ فاسدٍ. وبهذا تعرف أن عدمَ القولِ بالعولِ هو الذي زاغ عن جبال هذه القواعدِ الراسيةِ.
وأما قوله: وحينئذ يجبُ أن يستوفي الأبوانِ والزوجانِ فرضَهما في محلهما، وما بقي كان لأقربَ نوع تعْصيبًا لا فَرْضًا. إذ لا مانعَ من أن يكون بعض الورثة ذا فرضٍ على تقديرٍ وعصَبَةٍ على آخر كما في الأبِ والجدِّ، فإنهما ذو فرضٍ مع الأولادِ وعصَبَة مع غيرهم فيجب أن يكون البناتُ كذلك ذواتِ فرضٍ عن انفرادهنَّ عن الأبوينِ والزوجينِ، وعصَبَاتٍ معهما كما هنَّ عصباتٌ مع أخوتهنَّ. والأخواتُ أيضًا مع البناتِ على الأصح تعصيبًا لا فرضًا لأن ما بقي بعد فرض الزوجينِ والأبوينِ إن زاد على قدرِ فرضِ الإناثِ وجب أن يوفى منه على قدرِ فرضهنَّ، وما بقي فلذي فرض أو عصبةٍ غيرهنَّ لئلا يزيدَ حالُهن مع المزاحم عليه مع عدمه.(10/4927)
فأقول: لا يخفى على كل ذي لبٍّ وإنصافٍ ما في هذا الكلام من التكلُّف والتهافُتِ، فإنه ما تم عدمُ القول بالعول إلا بقطع ميراث وارثٍ وإحرامه جميعَ ميراثِه أو بعضه، ثم لم يكتف النافون للعول بهذا حتى جاوزه إلى إخراجِ أهل الفرائضِ المقدَّرِة عن فرائضهم وإبطال كونهم [9ب] من ذوي السِّهام، وإلحاقِهم، بالعصَبَاتِ لا لدليل ولا لأمر اقتضاه العقلُ، بل لمجرد رأي فاسدٍ، ثم اقتحام قياس من عالتْ بهم المسألةُ في مصيرهم عصباتٍ في بعض الأحوال على الأبِ والجدِّ الذين ورد الدليل بأنهم كذلك. ثم إخراجُ أقربِ الورثةِ وأحقِّهم بالإحسان، وأمسِّهم رجاءً، وأقدمهم في كل شيء البناتِ الذين هنا قطعةٌ من كبد الميت، وتأثير أحد الزوجينِ وتقديمُه عليهنَّ لا لدليل عقلٍ ولا نقلٍ، فانظر بعين الإنصافِ ما لزم القائلينَ بعد العولِ من المخالفاتِ للأدلةِ الصريحةِ الصحيحةِ، فإنهم رجحوا بل مرجِّحٍ، وقدموا بل سببٍ شرعيٍّ يقتضي التقديمَ، وجعلوا النقضَ على من الأدلةِ والجمعُ بينهما على وجهٍ هو أعدل الوجوهِ وأقومُها، من دون تأثير ولا تقديمٍ ولا العولِ إذا جمعتْ أجزاؤُها زادت على أجزاء التركةِ قسموا التركةَ بين أهل تلك الفرائضِ لكل واحد منهم بمقدارِ فريضتِه، ولم يقعوا في عملٍ يلزمهم به التحكُّمُ من قطع ميراثِ وارثٍ، وتقديمِ غيرِه عليه، وإخراجه عن كونه من أهلِ الفرائضِ المقدرةِ المنصوصةِ في المعادلة بين ما يلزمُ عن كل قول [10أ] من هذين القولين من المصالحِ والمفاسدِ والمطابقةِ للمقاصدِ الشرعيةِ والمخالفةِ لها، فلو لم يكن بيد من أثبتَ العولَ ونفاهُ إلا محضُ الرأي لكان رأي المثبتين أحقَّ بالقبول وأقربَ إلى المنقولِ والمعقولِ.
وهكذا لو نظرنا إلى من قال لا إلا ما قالَ، لكن العملُ بقول الجمهورِ، وهم المثبتونَ للعول أولى من العمل بقولِ شِرْذِمَةٍ يسيرةٍ من العلماء النافينَ للعول. وقد حكى الأمير الحسني صاحبُ .................................................(10/4928)
الشِّفا (1) عن الإمام المؤيَّد بالله أنه قال: أجمع الصحابةُ على القول بالعول، ولم يخالِفْ في ذلك إلا ابنُ عباس، فانظُر أين يقعَ ابنُ عباس- رحمه الله- من جميع الصحابةِ، وأين يقع قوله منفردًا من قول جميعِهم! ومع هذا فهاهنا دليلٌ يصلح للتعويلِ، وهو حديث ابن عباس الصحيحُ المتفقُ (2) عليه بلفظ أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأول رجلٍ ذكرٍ" فإن من تأمل هذه الحديث حقَّ التأمُّلِ وجدَ فيه ما يرد على ابن عباس النافي للعولِ، وعلى سائرِ القائلينَ بقوله، فإن المرادَ بالفرائضِ المذكورةِ في الحديثِ هي الأنصباءُ المقدَّرةُ (3)، وأهلها هم المستحقون لها بالنصِّ.
هكذا فسَّر الحديثَ المحققونَ من شرَّاحِ كتب الحديث. قالوا: والحديثُ يدل على أنَّ الباقي بعد استفياء أهل الفروضِ المقدرةِ لفروضِهم يكون لأقربَ العصَبَاتِ من الرجال ولا [10ب] يشاركُه من هو أبعدُ منه (4). وقد حكى النووي (5) الإجماعَ على ذلك، فعرفتَ أن استيفاءَ أهل الفروض المقدرةِ لفروضِهم لا يكون إلا بإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه أما مع عدم المزاحمةِ بالعول فظاهرٌ، وأما مع المزاحمةِ بالعول فلا يحصلُ العملُ بالحديثِ إلا بإعطاءِ كلِّ وارثٍ في تلك الفريضة بمقدارِ فَرْضِهِ من التركةِ، وتعول المسألةُ بخلافِ إسقاطِ بعض ميراثِ أهلِ الفروضِ المقدرةِ أو كلِّه، فإنه لم يحصل العملُ فيه بالحديثِ لأنه لم يقع إلحاقُ الفرائضِ بأهلها. وقد اعترف الجلالُ في ضوء النهار (6) بأن
_________
(1) أي "شفاء الأوام" (3/ 471).
(2) تقدم تخريجه.
(3) قال الحافظ في "الفتح" (12/ 11) قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها" المراد بالفرائض هنا الأنصباء المقدرة في كتاب الله تعالى وهي النصفُ ونصف نصفه والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما والمراد بأهلها من يستحقها بنص القرآن.
(4) انظر "فتح الباري" (12/ 11 - 12).
(5) في شرحه لصحيح مسلم (4/ 49 - 50).
(6) (4/ 2643).(10/4929)
الفرائض المذكورة في هذا الحديثِ هي الفرائضُ المذكورة في القرآن. فلزمه هو وسائرُ النافينَ للعول أن يقولوا به؛ لأنه يتمُّ إلحاقُ الفرائضِ بأهلها مع تتزاحمِ إلا بالعولِ، لا بتقديمِ البعضِ على البعضِ فإنه ليس بإلحاق لجميع أهل الفرائض بفرائضِهم، بل لبعضِهم. فهذا ما أمكنَ من الكلام على كلام الجلالِ فقد نقلناه بحروفِهِ، وتكلمنا على كل لفظٍ من ألفاظِه، ولم يحضرْ عندي حالَ تحريرِ هذا حاشيتُه للعلامةِ الأميرِ المسماةِ بالمنحة (1) فلينظر فيها هل وافقَ اجتهادُ صاحبها اجتهادَ صاحبِ الشرح أم خالفه؟ وإذا قد فرغنا من الكلام على ما استدلَّ به القائلين بعدمِ العولِ فلنتكلم الآن في كل صورة من صور العولِ التي مثَّل بها لمسائل العولِ (2)، وذكر فيها كيفيةَ التوريث على العول، وكيفية
_________
(1) أي "منحة الغفار على ضوء النهار" (4/ 2642 - 2651): قال ابن الأمير: " ... أن المسألة لا نص فيها إنما اجتهد فيها الصحابة لما دهمهم وليس فيها إلا رأي عمر شبه التركة بالدين والورثة بالغرماء الذين لا تفي التركة بمقدار دينهم، وابن عباس على ما ذكره اجتهادًا منه أيضًا والشارح- أي الجلال- رجح رأي ابن عباس وجعله متنًا وشرحه وفصله.
(2) خلاصة مسألة العول:
1 - أصول سهام الفرائض التي تعول: معنى أصول المسائل: المخارج التي تخرج منها فروضها.
وأصول المسائل كلها سبعة لأن الفروض المحدودة في كتاب الله تعالى ستةٌ: النصفُ والربع، والثمن والثلثان، والثلث، والسدس.
ومخارج هذه الفروض مفردة خمسة:
الثلث والثلثان مخرجهما واحد.
النصف من اثنين والثلث الثلثان من ثلاثة، والربع من أربعة والسدس من ستة والثمن من ثمانية، والربع والسدس أو الثلث أو الثلثين من اثني عشر، والثمن من السدس أو الثلثين من أربعةٍ وعشرين. فصارت سبعةٌ. وهذه الفروض نوعان:
أحدهما: النصف ونصفه، ونصف نصفه.
ثانيهما: الثلثان ونصفهما ونصف نصفهما.
وكل مسألةٍ فيها فرض مفردٌ فأصله من مخرجه، وإن كان فيها فرضان يؤخذ أحدهما من مخرج الآخر فأصلها من مخرج أقلها، وإن كان فيها فرضان من نوعين لا يؤخذ أحدهما من مخرج الآخر. فاضرب أحد المخرجين في الآخر أو وفقه، فما بلغ فهو أصل المسألة، وفيها يكون العول، لأن العول إنما يكون في مسألة تزدحم فيه الفروض، ولا يتسع المال لها، فكل مسألة فيها نصف وفرض من النوع الآخر فأصلها من ستة، لأن مخرج النصف اثنان ومخرج الثلث ومخرج الثلث والثلثين ثلاثة. فتضرب اثنين في ثلاثة تكن ستة.
والمسألة على ثلاثة أضرب: -
عادلة: وهي التي يستوي مالها وفروضها.
- عائلة: وهي التي تزيد فروضها عن مالها.
- رد: وهي التي يفضل مالها عن فروضها ولا عصبة فيها.
1 - ما فيه نصف وسدس:
فإن مخرج النصف اثنان، ويوجد ذلك في مخرج السدس وهو الستة فكان أصلهما جميعًا ستة وهكذا لو كان سدس وثلث أو ثلثان فأصلهما من مخرج السدس ولا يزيد عليه.
2 - ما فيه نصف وثلث أو نصف وثلثان:
فإن مخرج النصف اثنان. ومخرج الثلث والثلثان ثلاثة ولا وفق بينهما. فاضرب أحد المجروحين في الآخر تكن ستة ويصير كل كسر بعدد مخرج الآخر ويدخل العول هذا الأصل لازدحام الفروض فيه، وهي أكثر عدولًا. والعول زيادة في السهام ونقصان في أنصباء الورثة.
قاعدة: فما كان أصلها من ستة كما تقدم تعول إلى سبعة وإلى ثمانية وإلى تسعة وإلى عشرة ولا تعول أكثر من ذلك.
وما فيها ربع وسدس، أو ربع وثلث، أو ربع وثلثان، فأصلهما من اثني عشر وتعول إلى ثلاثة عشر، وإلى خمسة عشر، وإلى سبعة عشر، ولا تعول إلى أكثر من ذلك.
وما فيه ثمن وسدس أو ثمن وسدسان، أو ثمن وثلثان، فأصلهما من أربعة وعشرين، وتعول إلى سبعة وعشرين، ولا تعول إلى أكثر من ذلك.
انظر: "المغني" (9/ 35 - 38).(10/4930)
التوريث على عدمه، وإنما جعلنا الاعتراض منا مختص بما ذكره الجلال في الاستدلال والمثال، لأن السائل- كثر الله فوائده- قد أشار في سؤال الذي قدمنا ذكره إلى كلام الجلال، واستفهم عنه فنقول [11أ]: قال في عول سبعة (1) بعد أن مثلها بزوج وأخت
_________
(1) مثاله: ماتت امرأة وتركت زوجًا وأختًا لأب وجدا، فأصل المسألة من ستة لأن فيها نصفا وسدسا وتعول إلى سبعة.
للزوج ثلاثة فينقص نصيبه بمقدار الفرق بين (3/ 6، 3/ 7) وللأخت ثلاثة كذا وللجد واحد فينقص نصيبه بمقدار بين (1/ 6، 1/ 7).
وانظر: "المغني" (9/ 36).(10/4931)
لأبوين، وأخت لأب أنه يكون للزوج النصف، وللأخت لأبوين النصف، وتسقط الأخت لأب لأنهم إنما قاسوا الأخت لأب مع الأخت لأبوين على بنت الابن مع البنت، ولم يفرض تكملة الثلثين ببنت الابن من البنت إلا في حديث ابن مسعود المقدم يعني ما أخرجه أحمد (1)، والبخاري (2)، وأبو داود (3)، والترمذي (4)، وابن ماجه (5)، والحاكم (6) من حديث ابن مسعود أنه سئل عن بنت وبنت وابن وأخت فقال أقضي فيها بما قضى به رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت. قال: ولا زوج في تلك المسألة، وقضاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك فعل، والفعل لا عموم له كما علم، فتوقف استحقاق بنت الابن والأخت لأب بتكملة الثلثين على مورد النص الذي لا عموم فيه ولا إطلاق أيضًا حتى يكون ظاهرًا، بل الفعل لا ظاهر له فلا عول حينئذ. انتهى.
ولا يخفى عليك أن دعواه أن قضاء رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في البنت وبنت الابن والأخت فعل لا يتم إلا إذا كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) في "المسند" (1/ 389).
(2) في صحيحه رقم (6736) وطرفه رقم (6742).
(3) في "السنن" رقم (2890).
(4) في "السنن" رقم (2890).
(5) في "السنن" رقم (2721).
(6) في "المستدرك" (4/ 334 - 335).
قال الحافظ في "الفتح" (12/ 18): قال ابن بطال: ولا خلاف بين الفقهاء فيما رواه ابن مسعود وعن ابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إلا أبو موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة الباهلي، وقد رجع أبو موسى عن ذلك.(10/4932)
قسمَ التركةَ على ذلك من دون أن يتكلَّم في شأنها بشيء، أما إذا كان القضاءُ منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو أن يقولَ: يكون للبنتِ النصفُ، ولبنتِ الابنِ السدسُ تكملةَ الثلثينِ، وللأخت الباقي، فهذا من قسمِ الأقوالِ لا من قسمِ الأفعال، ومثل هذا لا يخفى على أحدٍ وكثيرًا ما يجعلُ الجلالُ مثلَ هذا من قسمِ الأفعالِ، وهو غلطٌ بحتٌ، ووهْمٌ فاحشٌ، والظاهرُ من قوله قضَى رسول الله أنه أخبرهم بكيفية قسمةِ تلك الفريضةِ، لا أنه قسمَها بنفسه من دون أن يتكلَّم، فإن هذا خلافُ ما كان عليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخلافُ ما يفهمه الناسُ.
وقد عمل الجلالُ بهذا القياس الذي ذكره، فجعل للأختِ لأبٍ مع الأخت لأبوينِ السدسَ تكملةَ الثلثينِ، فرَفْضه لهذا القياسِ هاهنا إن كان لما ذكره من أن ذلكَ فعلٌ، فقد عرفتَ أنه قولٌ [11ب] وليس بفعلٍ، وأيضًا إذا كان كونه فعلًا كما زعمه موجبًا لبطلانِ قياسِ الأختِ لأبٍ على النبتِ فكان يلزمه أن لا يعطيها السدسَ لا في مسألة أختٍ لأبوينِ، وأختٍ لأبٍ، وعصَبَةٍ، ولا في مسألة زوجٍ وأختٍ لأبوين، وأختٍ لأب فما باله عمل بالقياس في المسألة الأولى! فأعطاها السدس كما قرره في ذلك الكتابِ، ولم يعطِها السدس مع الزوجِ بل تركَ العملَ بالقياس، فإن الإلزام مشتركٌ، والمانع مُتَّحِدٌ على زعْمِه، فإذا تقرَّر لك هذا فاعلم أن إعطاءَ الأختِ لأبٍ مع الأخت لأبٍ وأمٍّ، والعصَبَةِ السدسَ يلزمُ مثلُه في مسألة زوجٍ وأختٍ لأبوينِ، وأختٍ لأبٍ. ومن زعم أن الأختَ لأبٍ قد سقطت وبطل إرثها بمجرد تزاحم الفرائضِ احتاجَ إلى دليلٍ يدلُّ على ذلكَ، وإلا كان قط قطع ميراثَ وارثٍ بل حجةٍ شرعيةٍ. وقد عرفتَ فيما قدمنا بأنَّه لا حجَّة للقائلينَ بعد العول فيما حكموا به من إبطال ميراثِ بعض الورثةِ، لا من كتاب ولا من سُنَّةٍ، ولا من قياس، ولا من اجتهاد صحيح.
ومثَّل (1) - رحمه الله- عول ثمانية (2) بزوجٍ، وأم .....................................
_________
(1) الجلال في "ضوء النهار" (4/ 2648).
(2) ومثاله: ماتت امرأة وتركت زوجًا وأمًّا وأختين لأب.
أصل المسألة: من ستة لأن فيها نصفًا وسدسًا.
تعول إلى ثمانيةٍ: للزوج ثلاثة فينقص نصيبه بمقدار الفرق (3/ 6، 3/ 8) وللأم واحد فينقص نصيبها بمقدار الفرق بين (1/ 6، 1/ 8). وللأختين لأب أربعة فينقص نصيبهما بمقدار الفرق بين (4/ 6، 4/ 8).(10/4933)
وأختٍ (1)، وقال: لا فرضَ للأختِ لأن فرضها إنما هو في الكلالةِ ولا كلالة مع وجود الأمِّ، أو لأنَّ الأم أقوى منها، وأخصُّ بمالها من الولادةِ، ولهذا لا تسقُطُ مع الأولادِ بخلافِها، والأختُ الواحدةُ لا تحجُبها عن الثلثِ فحينئذٍ تستوفي الأمُّ الثلثَ، وتأخذ الأختُ ما بقي تعصيبًا كما تأخذه البناتُ. انتهى.
وأقول: إن كان لا كلالة مع وجودِ الأمِّ فلا ميراث للأختِ أصلًا مع وجود الأمِّ فإذا خلّف الميت أمَّه وأختَه لأبويه، وعصبةً كان للأمِّ الثلثُ، والباقي للعصبةِ، ولا شيء للأختِ، وهذا من أغرب الاجتهاداتِ وأبعدِها عن الحقِّ، وأشذِّها عن علماء الإسلامِ!.
فانظر ما وقع فيه النافونَ للعول من المضائقِ المخالفةِ [12أ] للشريعةِ، فإن الأختَ لأبوينِ قد أثبت الله- سبحانه- ميراثَها في محكم كتابه، وجعل لها فريضةٌ مقدَّرةٌ محدودٌ؟ فأيُّ دليلٍ دلَّ على أنه لا ميراثَ لها هاهنا! وما ذاكَ الذي أوجبَ نسخَ ما في كتاب الله عند تزاحم الفرائضِ بالعولِ؟ إن قالوا هو كونُها لا ترِثُ إلا إذا كان الميِّتُ كلالة (2)، وهو من لا ولدَ له ولا والدَ، فما بالُهم أثبتوا ميراثَها مع الأمِّ في غير مسألة! ومن جملتهم المتكلِّم بالكلام المنقولِ، وهكذا أثبتوا ميراثَ الإخوةِ لأمٍّ في غير مسألة! ومن جملتهم المتكلِّم بالكلام المنقولِ، وهكذا أثبتوا ميراثَ الإخوةِ لأم مع الأمِّ مع أنَّ الله يقول: {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخت أو أخت فلكل واحد منهما السدس} (3)، فإن هذا فيه التصريحُ بالكلالةِ، وترتيبِ ميراثِ الأخ والأختِ لأمٍّ على
_________
(1) [زوج وأختٌ وأمٍّ] للزوج النصف وللأخت النصف وللأم الثلث سهما تعول إلى ثمانية وهي مسألة المباهلة وتقدم ذكرها.
وإن كان معهم أختٌ أخرى من أي جهة كانت، أو أخ من أم فهي من ثمانية أيضًا.
(2) تقدم توضيحه.
(3) [النساء: 12](10/4934)
وجودِها، وصرَّحوا أيضًا بأن الإخوةَ مطلقًا يحجبونَ الأمِّ، في الله العجبُ من هذه الاجتهادات التي أبطلتِ النصوصَ، وعطَّلتْ منها العمومَ والخصوصَ! والجلال قط اضطره الحال فصرَّح في بحث ميراث الإخوة لأمٍّ بأنهم يسقطونَ مع الأمِّ اتباعًا للإماميةِ، وعملًا بمجرد مناسبةِ ساقطة ذكرها هنالك لا يجوز العلمُ بها على فرض عدمِ الدليل، فكيفَ مع وجودِه ومع إجماع الأمة إلا من لا يعتد به! وإن كان المانعُ من توريثِ الأختِ لأبوينِ هاهنا هو قولُهُ أو لأن الأمَّ أقوى إلى آخر ما نقلناه عنه، فيقال: إن كانت أقوى منها مطلقًا فينبغي أن تكون أقدمَ من الأختِ في جميعِ الأحوالِ، وعلى كل تقدير لا في مسائلِ العولِ بخصوصِها.
فإن قيل: أنَّه لا يظهر أثرُ هذه الأولوية إلا في مسائِل المزاحمةِ عند العولِ، وأما في غيرها فكلُّ وارث يأخذ نصيبه المقدَّر وفرْضَهُ المسمَّى.
فيقال: وما الدليلُ على هذه الأولوية التي كانت سببًا لإبطال حكمٍ شرعيٍّ مصرِّحٍ به في القرآن الكريم، وهو ميراثُ الأختِ حتى صارَ ميراثها أو بعضَه بيدِ غيرِها؟ وكيف تصلُحُ مثلُ هذهِ الأولويةِ المدَّعاةِ لرفعِ الآياتِ القرآنيةِ والأحاديث الصحيحة [12ب]! وهل هذه إلا معارضةٌ لصريح الدليل بفساد الرأي وكاسد الاجتهادِ الذي لا دليلَ عليه بوجه من الوجوه!
وبالجملة فلو كانت مثلُ هذه الدَّعاوي الباردة نافقًا ومقدِّمًا على أدلةِ الكتاب والسنةِ لقال من شاء ما شاء، وادعى نسخَ القرآنِ الكريمِ والسنةَ الصحيحةَ كلُّ مبطلٍ ومبتدعٍ. فانظر ما وقع فيه المانعونَ للعول فكانوا كما قال:
فكنت كالساعي إلى مثعبٍ ... موايلًا من سُبل الراعد (1)
ومثّل- رحمه الله-: عول تسعةٍ (2) بزوجٍ وأمٍّ وأختٍ وجد، وقال: إن الأختَ.
_________
(1) تقدم ذكر معناه.
(2) مثاله: ماتت امرأة وتركت زوجًا وأختين لأب وأختين لأم، فأصل هذه المسألة من ستة لأن فيها نصفًا وثلثًا، وتعول إلى تسعة.
للزوج: ثلاثة فينقص نصيبه بمقدار الفرق بين (3/ 6، 3/ 9).
وللأختين لأب: أربعة فينقص نصيبها بمقدار الفرق بين (4/ 6، 4/ 9).
وللأختين لأم: اثنان فينقص نصيبهما بمقدار الفرق بين (2/ 6، 2/ 9).(10/4935)
تسقطُ إما بانتفاء الكلالة التي فرضَها فيها بوجود الجدِّ، وإما لأنهما وإن استويا في أنَّ كلًّا منهما وارثٌ بواسطةِ الأبِ فللجدِّ مزيةٌ، الأصالة والولادةِ، وبها ورثَ مع الأولادِ كما قلنا في الأمِّ. انتهى.
أقول: أما ما ادَّعاه من انتفاء الكلالة مع الجدِّ فالجواب عنه كالجواب المتقدم في المسألةِ التي قبلَ هذه. ويالله للعجبُ كيف يحكم المصنفُ وغيرُه من النافينَ للعول بأن الأختَ لأبوين أو لأبٍ ترثُ مع الأم والجدِّ! ولم يلتفتوا إلى اشتراط الكلالةِ فلما أرادوا نفيَ العول وأعْوَزَهُم الحالُ صرَّحوا بأن الكلالةِ، شرط في ميراث الأخت المذكورة فإن كان ميراثها تارة مشروطًا بالكلالة وتارة غيرَ مشروطٍ فما هو الذي اقتضى هذه التفرقةَ والتحكُّمَ والتلاعُبَ بالأدلةِ المصرحة في الكتاب والسنةِ وإن كانت الكلالةُ شرطًا في ميراثِ الأخواتِ فما بالُهم أهملوا هذا الشرطَ في غير باب العولِ وإن كانت ليست بشرط مطلقًا، فما هذه الدَّعاوي الباردةِ المخالفة [13أ] للثابت في الشريعة، وأعجبُ من هذا ما ذكره من مزيةِ الجدِّ فإن كانت هذه المزيةُ مؤثرةٌ في الميراثِ إثباتًا ونفيًا فما الدليلُ على ذلك؟ فما قد سمعنا عن عالم من علماء الإسلام، أنه يثبتُ الأحكام الشرعية بمثل هذه الخيالاتِ المختلَّةِ فضلًا عن أن يبطُلَ بها حكمًا ثابتًا في كتاب الله، أو سنة رسوله. ورحم الله هذا العلامةَ فلقد كان قدوة في الإنصافِ وفي التقيد بالدليل، ولكنه يوقعُ نفسه في كثير من المعاركِ فلا يخرُجُ منها إلا وقد جنى على الكتابِ والسنة جنايةً عظيمةً، ومحبةُ الإغراب والتفرُّدِ لا تأتي إلا بمثل هذا.
ومثَّل (1) - رحمه الله- عولَ ...........................
_________
(1) أي الجلال في "ضوء النهار" (4/ 2648).(10/4936)
عشرةٍ (1) بأمٍّ وزوجٍ وأخوينِ لأمٍّ وأختٍ لأبوينِ وأختٍ لأبٍ، وقال: إنه يبطُلُ فرضُ غيرِ الزوجِ بوجود الأمِّ لما تقدَّم، يعني من اعتبار الكلالةِ، ثم قال: لا سيَّما الأخوين لأمٍّ فإنَّهما إنما يرثانِ بواسطتِهما، وذو الواسطة لا يرثُ مع وجودِها كالجدّاتِ مع وجود الأمِّ، والجدِّ والإخوة مع الأبِ، وذو الأرحامِ مع وجودِ واسطتِهم، وهذا استقراء بعد الزوج والأم إلا السدس، لأن إناث الإخوةِ لا يحجُبها عن الثلثِ فتكونُ الأختُ لأبوينِ أحقَّ بالسدسِ الباقي تعصيبًا، وتسقط الأختُ لأبٍ لأن سدسَها إنما هو بعد استيفاء الأختِ لأبوين النصفَ، ومع غير الزوجينِ كما تقدَّم على أنَّا لو فرضنا [13ب] أن لا أمَّ في المسألةِ حتى تكونَ مسألةُ كلالةٍ لكلِّ من إخوةِ الأمِّ وإخوةِ الأبِ فيها فرضٌ بنصِّ القرآن يوجبُ سقوطَ إخوةِ الأمِّ بالأختِ لأبوينِ؛ لأنَّ ذا النَّسبِ الواحدِ يسقط مع وجود ذي النسبينِ كما قدمنا تحقيقَه في فرض الثلثِ. انتهى.
أقول: فيما ذكره هاهنا إشكالٌ من وجوه:
الأول: الحكمُ ببطلانِ ميراث مَنْ عدا الزوجَ والأمَّ، فإن ميراثَ الأخوينِ لأمٍّ ثابتٌ بصريح القرآنِ (2)، وكذلك ميراثُ الأختِ لأبوينِ، وكذا الأختُ لأب، إما بصدقِ اسم الأختِ عليها، أو للإجماعِ، فكيف أبطلَ الجلالُ الأدلةَ القرآنيةَ وما استدلَّ بها! إن كان مجردُ الفرارِ من العولِ فالأمرُ أيسرُ من هذا، وما بمثل هذه الأمورِ تطرحُ أدلةُ
_________
(1) قال ابن قدامة في "المغني" (9/ 37) فنقول في زوجٍ وأمٍّ وست أخوات متفرقات: الزوج النصف ثلاثة، وللأم السدس سهمٌ وللأختين الثلثان أربعةٌ وللأختين من الأم الثلث سهمان صارت عشرةً.
قال: ومتى عالت المسألة إلى تسعة أو إلى عشرة، لم يكن الميت إلا امرأة؛ لأنها لا بدَّ فيها من زوج ولا يمكن أن تعول المسألة إلى أكثر من هذا، ولا يمكن أن يجتمع فروض أكثر من هذا، وطريق العمل في العول، أن نأخذ الفروض من أصل المسألة، وتضم بعضها إلى بعض، فما بلغت السَّهام فإليه ينتهي .. ".
(2) تقدم، وانظر الرسالة (160).(10/4937)
الكتاب والسنة.
الوجه الثاني: قوله بوجودِ الأمِّ ... إلخ. قد قدَّمنا أن ميراثَ الإخوةِ مطلقًا إن كان مشروطًا بالكلالةِ فلا ميراثَ لهم مع وجودِ الأمِّ، في مسائلِ العول، ولا في غيرِها، وهو خلافُ ما اختارَهُ الجلال في هذا الكلام الذي نحن بصددِ الكلامِ عليه هاهنا، وخلاف ما اختارَه غيرُه من النافينَ للعولِ، فما هو المسوغُ للتفرقةِ؟ وهل هذه التفرقةُ كانت بدليلٍ أو بخيالٍ فاسدٍ ورأي كاسدٍ؟
والوجه الثالث: قولُه لاسيَّما الأخوانِ لأمٍّ فإنَّهما إنما يرثانِ بواسطتِها إلخ.
ولا يخفاكَ أنه يلزمُ من هذا أنْ لا يرثَ الإخوةُ لأمٍّ مع وجود الأمِّ بحالٍ، وهو خلافُ ما عند أهل العولِ، بل قد صرَّحوا في بحث ميراثِ الإخوةِ لأمٍّ بأن وجودها لا يسقُط ميراثهم وخصَّصوا الكلالة بالنسبةِ إليهم بالولدِ والأب [14أ] دونَ الجدَّ، وبعضهم زاد الجد. وأما الأم فلم يجعلْها مسقطةً لميراثِ الإخوةِ لأمٍّ أحدٌ إلا الإماميةُ، وليسوا ممن يُقتدى به أو يُعتدُّ بخلافه.
ومن الغرائب أن الجلالَ (1) قال بعد حكاية مذهبهم أنه الحقُّ، مع أنه قال في أول البحثِ المشارِ إليه ما لفظه: ولولا الإجماعُ (2) على أن الأبَ يسقطُ الإخوةَ لكان في حَجْبٍ الإخوةِ للأمِّ من الثلث إلى السدسِ إيماءً إلى حَجْبِهم الأبَ من الثلثينِ إلى الثلث. انتهى.
فانظر هذا التلوُّن والاضطرابَ.
والوجه الرابعُ: قوله: وهذا استقراءٌ تامٌّ، ولا يخفى عليك أن هذا الاستقراءَ لأفرادِ الساقطينَ مع وجودِ واسطتِهم هو باعتبارِ دلالةِ الأدلةِ على ذلك، أو إجماعِ المسلمينَ أو علماء الفرائضِ منهم لا غيرَ ذلك. فلا استقراءَ تامٌّ قطُّ، فإن الأدلةَ لم تدلُّ على ذلك.
_________
(1) في "ضوء النهار" (4/ 2649).
(2) في "ضوء النهار" (4/ 2633).(10/4938)
وهكذا لا إجماعَ من جميع المسلمينَ، ولا من أهل للفرائضِ فقط، وإن كان هذا الاستقراءُ التامُّ باعتبار اجتهادِه الذي قد اضطربَ في هذه المباحثِ اضطرابًا يخرجُه عن حد الإتقانِ فليسَ بحجةٍ على أحدٍ.
الوجه الخامس: قوله وقياسٌ صحيحٌ، ولستُ أدري كيف كان هذا القياسُ عنده صحيحًا! فإن إثباتَ ميراثِ الإخوةِ لأم مع الأم قد أجمعَ (1) عليه المسلمونَ إلا من لا يُعْتدُّ به، فلو فرضنا أن للقياسِ وجهًا لكان هذا الإجماعُ مانعًا منه.
الوجه السادس: أن إناثَ الإخوةِ لا تحجُبها يعين الأمِّ عن الثلثِ، وإلا يخفى أنَّ هذا مبنيٌّ على ما هو عنده من أنه لا يحجب الأمَّ إلا الإخوةُ لأبوينِ أو الأخواتُ إذا كان معهن أخٌ لهن ذَكَرٌ. مستدلًّا على ذلك بقوله تعالى: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} (2) ويردُّ عليه أن الكلامَ في هذه الآيةِ [14ب] كالكلام في قوله تعالى: {فإن كن نساء فوق اثنتين} (3) بل هذه الآيةُ أدلُّ على اعتبار الزيادةِ على الاثنتين لقوله: {فوق اثنتين} بخلاف تلك، فإن الجمعَ قد يصدُق على الاثنين إما حقيقةً عند مثل الزخشريِّ ومن وافقَه على أن أقلَّ الجمعِ اثنان، وإما مجازًا عند غيره. وكان يلزمُه أيضًا أن لا يحجبها إلاَّ الثلاثة الذكورِ، ولا يكفي في الحجبِ أنثيان مع ذكرٍ كما سوَّغ ذلكَ لأن التغليبَ مع كونه مجازًا هو مع كثرةِ عددِ الإناثِ خلافُ الظاهر، وأيضًا كان يلزمُهُ أن يحجب الأمَّ بالثلاثةِ من الإخوةِ لأبٍ أو الثلاثةِ من الإخوةِ لأمٍّ. فما باله اشترطَ أن يكونوا لأبوين في كلامِه على حجب الأم!
الوجه السابع: قوله: توقُّفٌ يوجبُ سقوطَ إخوةِ الأمِّ بالأختِ لأبوينِ إلى آخرِ كلامِهِ استشعرَ هاهنا أن المسألةَ عائلةٌ بدون الأمِّ، وأنه لا يتم له من سقوط الإخوة لأم
_________
(1) انظر "المغني" (9/ 7).
(2) [النساء: 11]
(3) انظر "التبصرة" (127)، "المستصفى" (3/ 312)، "إرشاد الفحول" (425).(10/4939)
بالأمِّ لكونهم ورثّوا بواسطتِها فأجاب بأنَّهم يسقُطون بالإخوةِ لأبوينِ. وقد ذكر مثلَ هذا فيما سبق له في ميراثِ الإخوةِ لأمٍّ من هذا الكتاب (1)، وجعلَ الدليلُ له في ذلك القياسِ على إسقاطِ الإخوةِ لأبوينِ للإخوةِ لأبٍ، ولكنه اقتصرَ على الأخ لأبوين. وهاهنا توسَّع فصرَّح بأن الأختَ لأبوين تُسْقِطُ الإخوةَ لأمٍّ، فإن كان ذلك بالقياسِ على الأخ لأبوينِ فهو قياسٌ مع الفارقِ؛ لأنه لما قوي على إسقاطِ الأخ لأبٍ قوي على إسقاطِ الأخ لأمٍّ على زعمه بخلافِ الأختِ لأبوين فإنها لا تقوى على إسقاطِ الأختِ لأب، فلا تقوى على إسقاطِ الإخوةِ لأمٍّ.
وأقول: ما أحقَّه- رحمه الله- في هذه الأبحاثِ بقول القائِل:
تفرقت الضِّباءُ على خداشٍ ... فما تدري خداشٌ ما تصيدُ (2)
ولقد انتشرتْ أبحاثُ الفرائضِ عليه انتشارًا عظيمًا حتى خالفَ النصوصَ الصحيحةَ الصريحةَ في الكتاب والسنةِ، وخالف إجماعاتِ الأُمَّةِ، بمجرَّد خيالاتٍ باطلةٍ، وآراء فاسدةٍ فليت شعري ما حملَه على ذلك! فلقد كان له سعةٌ عن الوقوع في مثل هذه المضائقِ المظلمةِ التي ليس له بها أنيسٌ [15أ]، ومثَّل عول ثلاثةَ عشَرَ بزوجٍ وأمٍّ وبنتٍ وبنتِ ابنٍ وقال إنها تصيرُ البنتُ مع الأمِّ عصَبَةً؛ لأن فرضها إنما هو على تقدير الانفراد عن الأبوينِ ولكن لما كان الباقي بعد الزوج والأمِّ أكثرُ من فرض البنتِ منفردةً رُدَّت إلى قدرِ فرضِها لئلا يكونَ ما تأخذُه مع المزاحم أكثرَ مما تأخذه مع الانفراد. مع أن المعقولَ هو العكسُ وحينئذٍ لا يبقى إلا نصفُ سدسٍ، إن قلنا أن بنتَ الابن تصير كالأخت مع البنت عصبةً كان الباقي لها، وذلك من قياس الأولى؛ لأن بنتَ الابن بنتٌ، وهي أخصُّ من الأختِ. وقد بطل عمومٌ فما بقيَ فلأَوْلى رجلٍ ذكرٍ لما عرفناكَ سابقًا، وإن قلنا البنتُ
_________
(1) "ضوء النهار" (4/ 2633).
(2) "ضوء النهار" (4/ 2633).(10/4940)
والأمُّ تصيرانِ كبنتين استوفَيا الثلثينِ، ولا فرضَ لبنتِ الابنِ من غيرِ الثلثينِ كان الباقي للعصَبَةِ. انتهى.
أقول: انظر إلى هذا الاجتهادِ الذي هو شبيهٌ بِلَعبِِ الصبيانِ، حكمَ بكون البنتِ عصَبَةً فأخرجَها عن أهل الفرائضِ، ثم حكمَ برجوعِها إلى أهل الفرائضِ فقصَرَها على فَرْضِها الأصلي، ثم تردَّد في بنتِ الابنِ، هل هي عصَبَةٌ للبنتِ التي عصبةٌ، فتأخذُ الباقي أم ليست بعصبة؟ فيكون الباقي لعصبةِ غيرِها. وهكذا حالت من تعمَّد مخالفةَ النصوصِ؛ فإنَّه يصير كلامُهُ المؤسَّسُ على محضِ الرأي خالصا عن قانونِ المعقولِ والمنقولِ عقوبةٍ من الله- عز وجل- لمن لم يقفْ حيث أوقفه.
فانظر كم الفرقُ بين هذه الطريقةِ العوجاءِ وبين عمل القائلينَ بالعول! فإنَّهم لما وجدُوا النصوصَ من كتاب الله- سبحانه- قد قضتْ بأن للزوج الرٌُّبُعَ مع الولدِ، وللأمِّ السدسَ معه أيضًا، وللبنت النِّصفُ، ولبنتِ الابنِ السدسَ تكملةَ الثلثينِ كما في حديث ابن مسعودٍ السابقِ الثابتِ في الصحيحِ (1) أخذُوا بهذه النصوصِ الواردةِ، ولم يقدِّموا بعض أهل هذه الفرائضِ على بعض؛ لأنَّ هذه الأدلةَ لم يثبتْ تقييدها بقيود تسوِّغُ تقديم بعضِ أهلِها على بعض، ولكن لما كان المالُ لا يتَّسعُ لجميعِ هذه الفرائضِ أعطُوْا كلَّ وارثٍ بمقدارِ فريضتِه من المال، ودخل النقصُ على الجميعِ [15ب] لأن الضرورةَ أوجبتْ ذلك، استعملوا النصوصَ بحسبِ الإمكانِ، ولم يهملوا شيئًا منها.
ومثَّل عولَ خمسةَ عشرَ (2) بزوجٍ وأبوينِ وابنتينِ. وقال: تكون البناتُ عصَبَةً مع
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) أصلها اثني عشر، لأن مخرج الربع أربعة، ومخرج الثلث ثلاثة، ولا وفق بينهما، فإن ضربت أحدها في الآخر، كان اثني عشر، فإذا كان مع الربع سدس فبيَّن الستة والأربعة موافقة، فإذا ضربت وفق أحدهما في الآخر صار اثني عشر.
ولا بدَّ في هذا الأصل من أحد الزوجين؛ لأنه لا بد من الربع، ولا يكون فرضًا لغيرهما.
مثاله: ماتت امرأة وتركت زوجًا وبنتين وأمًّا وأبًا. أصل المسألة من اثني عشر لأن فيها ربعًا وسدسًا.
تعول إلى خمسة عشر:
الزوج: من ثلاثة فينقص نصيبه بمقدار الفرق بين (3/ 12، 3/ 15).
البنتين: لهما ثمانية فينقص نصيبهما بمقدار الفرق بين (8/ 12، 8/ 15).
الأم: اثنان فينقص نصيبها بمقدار الفرق بين (2/ 12، 2/ 15).
الأب: اثنان فينقص نصيبه بمقدار الفرق بين (2/ 12، 2/ 15).(10/4941)
الأبوين.
وأقول: لله درُّ هذا النظرِ الذي جعلَ النقصَ على بناتِ الميِّت لصُلْبِهِ! وأخرجهنَّ من فرائضهنَّ المقدَّرة في كتاب الله، وسنةِ رسول الله! وجعلهنَّ عصبَاتٍ يأخذنَ الباقي كالرجالِ الأباعدِ من العصَبَاتِ بلا دليلٍ اقتضى ذلك، ولا عقلٍ أوجَبه، بل مجرَّد خيالاتٍ مختلَّةٍ قد قدَّمنا إبطالَها.
ومثلَ عولَ سبعَ عشرَ (1) بأمٍّ وزوجةٍ وأخوينِ لأمٍّ، وأختينِ لأبٍ. وقال: تأخذ الأمُّ الثلثَ، والزوجةُ الربعَ، والباقي للأختينِ لأبٍ تعصيبًا، ويسقطُ الأخوانِ لأمٍّ بأمٍّ.
وقد عرفت فيما سبقَ جوابَ هذا، وأهل العولِ يقولون: ميراثُ كلِّ واحد من هؤلاء ثابتٌ في الكتاب العزيز، فالواجبُ العملُ بذلك كما سلف على الصفةِ المتقدِّمةِ من دون طرحٍ لشيء من ذلك، بل معارضٍ راجحٍ، بل بلا معارض مرجوح، بل بمجرَّد رأي فاسدٍ لا يقبلُه العقلُ.
ومثَّل عولَ سبعةً وعشرينَ (2) بأبوينِ وابنتينِ، وزوجةٍ، وجعل البناتِ مع الأبوينِ
_________
(1) وأصل هذه المسألة من اثني عشر تعول إلى سبعة عشرة.
قال ابن قدام في "المغني" (9/ 38): ولا يعول هذا الأصل إلى أكثر من هذا ولا يمكن أن يكمل هذا الأصل بفروضٍ من غير عصبة ولا عول، ولا يمكن أن تعول إلا على الأفراد، لأنَّ فيها فرضًا يباين سائر فروضها، وهو الرب فإنَّه ثلاثة وهي فرد، وسائر فروضها يكون زوجًا، فالسدس اثنان، والثلث أربعة والثلثان ثمانية، النصف ستة، ومتى عالت إلى سبعة عشر لم يكن الميت فيها إلا رجلًا.
(2) أصل هذه المسألة من أربعة وعشرينَ لأنَّ فيها ثمنًا وسدسًا وتعول إلى سبعة وعشرين:
الأب: له أربعةُ فينقص نصيبه بمقدار الفرق بين (4/ 24، 4/ 27).
الأم: لها أربعة فينقص نصيبها بمقدار الفرق بين (4/ 24، 4/ 27).
البنتان: لهما ستة عشر فينقص نصيبها بمقدار الفرق (16/ 24، 16/ 27).
الزوجة: لها ثلاثة فينقص نصيبها بمقدار الفرق (3/ 24، 3/ 27).
وانظر: "المغني" (9/ 38 - 42).(10/4942)
عصَبَةً. وقد تقدم جوابُه في عول ثلاثةَ عشرَ وما بعدَه وما قبله.
وبالجملة فإنه تارةً يجمع الأمَّ مسقطةً للإخوةِ والأخواتِ مطلقًا. وتارةً يخصُّ بالإخوة لأمٍّ، وتارةً يجعلُ البناتِ والأخواتِ من أهل الفرائضِ، وتارةً يجعلهنَّ عصَبَاتٍ مع كون حديثِ: "فما أبقتِ الفرائضُ فلأَوْلى رجلٍ ذكرٍ" (1) يردُّ عليه لأن لم يثبت التعصيب إلا للرجل الذكر. وأما كون الأخواتِ مع البناتِ عصَبَةً، فإذا كان ثابتً بدليل صحيح يصلُح لتخصيص هذا الحديث، كان ذلك مقصورًا على ذلك الخاصِّ لا يجاوزُه إلى غيرِه لا بمجرد القياس عند من قال به، لأن الفارقَ موجودٌ، ولا بمحض الرأي الذي لا مستندَ له فلا وجهَ لمخالفةِ الحديث بلا دليلٍ، وجعل البناتِ عصباتٍ في بعض الحالاتِ بلا مقتضٍ. وقد تكلَّم الجلال- رحمه الله- بعد فراغِه من مسائل العولِ بكلام قد أسلفنا دفْعَهُ فلا حاجةَ بنا إلى إيراده هاهنا، وتكرير الكلامِ عليه. وفي هذا المقدار كفايةُ لمن له هدايةٌ. والله ولي التوفيق. حرر في شهر رجب سنة 1217.
بقلم مؤلِّفه المجيبِ محمد بن علي الشوكانيِّ- غفر الله لهما-.
_________
(1) تقدم تخريجه وتوضيح دلالته.(10/4943)
(163) (6/ 1)
بحث في تعداد الشهداء الواردة بذكرهم الأدلة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(10/4945)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في تعداد الشهداء الواردة بذكرهم الأدلة.
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم بحث في تعداد الشهداء الواردة بذكرهم الأدلة
4 - آخر الرسالة: انتهى البحث بمن الله وفضله والصلاة والسلام على خير خلقه وآله وصحبه.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 5 صفحات ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 10 - 12 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(10/4947)
[بسم الله الرحمن الرحيم]
بحثٌ في تعداد الشهداء الواردةِ بذكرهم الأدلة: قال رضي الله عنه: الأول والثاني والثالث والرابع والخامس: المَبْطونُ والمطعونُ، والغريقُ وصاحبُ الهدمِ والشهيدُ في سبيل الله كما ثبت في البخاري (1) ومسلم (2) وغيرِهما (3). من حديث أبي هريرة، والسادس: ُ صاحبُ ذاتِ الجنبِ.
السابع: صاحبُ الحريقِ.
والثامن: المرأةُ تموت بجمع (4) أي وفي بطنها
_________
(1) في صحيحه رقم (653). وأطرافه (720، 2829، 5733).
(2) في صحيحه رقم (1914).
(3) كمالك في "الموطأ" (1/ 131).
الشهيد: قال الحافظ في "الفتح" (6/ 43): اختلف في سبب تسمية الشهيد شهيدًا.
فقال النضر بن شميل: لأنه حيٌّ فكأن أرواحهم شاهدة أي حاضرة.
قال ابن الأنباري: لأنَّ الله وملائكته يشهدون له بالجنة.
وقيل: لأنه يشهد عند خروج روحه ما أعد له من الكرامة.
وقيل: لأنه يشهد له بالأمان من النار.
وقيل: لأن عليه شاهدًا بكونه شهيدًا.
وقيل: لأنه لا يشهده عند موته إلا ملائكة الرحمة.
وقيل: لأنَّه يشهد يوم القيامة بإبلاغ الرسل.
وقيل: لأن الملائكة تشهد له بحسن الخاتمة.
وقيل: لأن الأنبياء تشهد له بحسن الاتباع.
قال الحافظ: بعض هذه يختص بمن قتل في سبيل الله، وبعضها يعم غيره وبعضها قد ينازع فيه.
المبطون: أي الذي يموت بمرض بطنه كالاستسقاء.
"النهاية" (1/ 136).
(4) المرأة تموت بجُمْع: بضم الجيم وسكون الميم، وقد تفتح الجيم وتكسر أيضًا هي النفساء، وقيل هي التي يموت ولدها في بطنها ثم تموت بسبب ذلك.
وقيل: هي التي تموت بمزدلفة وهو خطأ ظاهر، وقيل التي تموت عذراء.
قال الحافظ في "الفتح" والأول هو الأظهر. "الفتح" (6/ 43).(10/4951)
ولدٌ. هؤلاء الثلاثةُ مذكورون في حديث جابرٍ عند مالكٍ في الموطأ (1) وأحمد (2) وأبي داود (3)، والنسائي (4) والحاكمِ في المستدرك (5) وابن حبانَ (6) والبيهقيِّ في الشعب (7).
والتاسعُ: الذي يموت بالسيل أخرجه الطبراني في الكبير (8) من حديث سلمان.
والعاشر: المسافر يموت، أخرجه ابن ...................................
_________
(1) (1/ 233 - 234).
(2) في "المسند" (5/ 446).
(3) في "السنن" رقم (3111).
(4) في "السنن" رقم (4/ 13).
(5) (2/ 109).
(6) في صحيحه رقم (3189) و (3190).
(7) وفي "السنن" (4/ 69 - 70).
عن جابر بن عتيك أخبره أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء يعود عبد الله بن ثابت، فوجده قد غلب عليه، فصاح به، فلم يجبه فاسترجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: "غلبنا عليك يا أبا الربيع" فصاح النسوة، وبكين، وجعل ابن عتيك يسكِّنهن، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دعهن فإذا وجب، فلا تبكينَّ باكية". فقالوا: ما الوجوب يا رسول الله؟ قال: "إذا مات" قالت ابنته: والله إن كنت لأرجو أن تكون شهيدًا، فإنَّك كنت قد قضيت جهازك فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله قد أوقع أجره على قدر نيَّته وما تعدّون الشهادة؟ " قالوا: القتل في سبيل الله، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المبطون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمطعون شهيد، والحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة بجُمعٍ شهيد".
وهو حديث صحيح.
(8) (6/ 247 رقم 6115).
وفي "الأوسط" رقم (1243).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 301) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه مندل بن علي وهو ضعيف وقد وثق، ورواه البزار.
مندل بن علي وثقه ابن معين في رواية وضعفه في أخرى.
"الميزان" (4/ 180).(10/4952)
ماجه (1) من حديث ابن عباس.
والحادي عشر: من صُرع عن دابته في سبيل الله فمات أخرجه أبو يعلى (2). من حديث عقبة بن عامرٍ.
والثاني عشر: من مات مرابطًا أخرجه الطبراني (3) من حديث سلمان، وابن .................
_________
(1) في "السنن" رقم (1613). وهو حديث ضعيف.
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (6/ 43): إسناد ابن ماجه ضعيف لأن الهذيل منكر الحديث.
قال البخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 152) منكر الحديث.
وقال ابن عدي في "الكامل" (7/ 124) لا يقيم الحديث.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (11/ 246 رقم 11628) وأبو يعلى (121/ 1) وأورده ابن الجوزي في الموضوعات (2/ 221) من طريق آخر عن عبد العزيز.
وأخرجه العقيلي في "الضعفاء" (4/ 365 - 366) في ترجمة هذيل بن الحكم الأزدي وقال: روى عن طاوس مرسلًا وهو أولى.
وأخرجه الطبراني رقم (11034) من طريق أخرى وفي عمرو بن الحصين وهو متروك. وهو حديث موضوع.
(2) في مسنده (2/ 290 رقم 1752).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 282 - 283) وقال: رواه أبو يعلى وفيه من لم أعرفه.
وقال في "المجمع" (5/ 301): أخرجه الطبراني (17/ 323 رقم 892) ورجاله ثقات.
عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "من صرع عن دابته في سبيل الله فمات فهو شهيد".
(3) في "الأوسط" رقم (4049) وفي "الكبير" رقم (6134) وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 290) وقال: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم.
عن سلمان قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "رباط يوم في سبيل الله خيرٌ من صيام شهر وقيامه ومن مات مرابطًا في سبيل الله أُجير من فتنة القبر وجرى عليه صالح عمله إلى يوم القيامة".
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (163/ 1913) عن سلمان قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "رباط يوم وليلة خيرُ من صيام شهرٍ وقيامه، وإن مات جرى عليه عملُهُ الذي كان يعمله، وأُجري عليه رزقه وأمن الفتان".(10/4953)
حبان (1) من حديث أبي هريرة.
والثالث عشر: المتردَّي من رءوس الجبالِ. أخرجه الطبرانيُّ (2) من حديث ابنِ مسعودٍ وأخرجه أيضًا من وجه آخر بلفظ المتردِّي من دون ذكر رءوس الجبال.
والرابع عشر: الغريُب يموت. أخرجه أيضًا الطبرانيُّ (3) من حديث عبدِ الملكِ [1أ] بن هارونَ بنِ عنترةَ عن أبيه عن جده.
والخامس عشر: من قُتِلَ دون ماله.
والسادس عشر: من قُتِلَ دون دينِه.
والسابع عشر: من قتل دون دمِه، هؤلاء الثلاثة في حديث سعيدٍ بنِ زيدٍ عند أبي داودَ (4) والنسائي (5) وابن ماجه (6). والأول منهم في صحيح .................................
_________
(1) في صحيحه رقم (4627).
(2) كما في "مجمع الزوائد" (5/ 302) وقال الهيثمي رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (5/ 269).
"من تردى من رءوس الجبال وتأكله السباع ويغرق في البحار لشهيد عند الله".
قال الحافظ في "الفتح" (6/ 44) وأخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد صحيح.
(3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (18/ 87 رقم 161) (من) عنترة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذات يوم: "ما تعدون الشهيد فيكم؟ قلنا يا رسول الله من قتل في سبيل الله قال: إن شهداء أمتي إذًا لقليل، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، والبطن شهيد، والمتردي شهيد، والنفساء شهيد، والغريق شهيد ... ".
وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 301) وقال: رواه الطبراني وفيه عبد الملك متروك.
قال ابن حبان: يضع الحديث وقال يحيى بن معين، كذاب وقال السعدي: عبد الملك بن هارون دجال كذاب وسرد له الذهبي أحاديث اتهم بوضعها.
"الميزان" (2/ 666 - 667).
(4) في "السنن" رقم (4772).
(5) في "السنن" رقم (4049).
(6) في "السنن" رقم (2580). وأخرجه الترمذي رقم (1421). وهو حديث صحيح(10/4954)
مسلم (1) عن ابن عمرو.
والثامن عشر: من قُتل دون مظلمةٍ. أخرجه أحمدُ في المسند (2) بإسناد صحيحٍ من حديث ابن عباسٍ.
والتاسع عشر: من أدّى زكاة مالهِ فتعدي عليه في الحق فأخذ سلاحه فقاتل فقُتل أخرجه الطبراني (3) والحاكمُ في المستدرك (4) وقال صحيح على شرط الشيخين من حديث أمِّ سلمةَ.
والموفي عشرين: من قام إلى إمام جائر فأمره بمعروف أو نهاه عن منكر فقتله، أخرجه البزَّار (5) من حديث أبي عبيدةَ بنِ الجراح.
والحادي والعشرون والثاني والعشرون والثالث والعشرون والرابع والعشرون: من وَقَصه
_________
(1) رقم (226/ 141) من حديث ابن عمرو قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد".
وأخرجه البخاري رقم (2480).
(2) في "المسند" (5/ 205) بسند صحيح.
قال الهيثمي في "المجمع" (6/ 244) رواه أحمد. ورجاله رجال الصحيح.
(3) في "الكبير" (23/ 287 رقم 632).
قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 82) رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" ورجال الجميع رجال الصحيح.
(4) (1/ 404) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وفيه: " ... من أدى زكاة ماله طيب النفس بها، يريد بها وجه الله والدار الآخرة فلم يغيب شيئًا من ماله وأقام الصلاة ثم أدى الزكاة فتعدي عليه في الحق فأخذ سلاحًا فقاتل فقتل فهو شهيد".
(5) في مسنده (4/ 109 رقم 3314 - كشف).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (7/ 272) وقال رواه البزار وفيه ولم أعرفه اثنان.
عن أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- قال: قلت: "يا رسول الله، أي الشهداء أكرم على الله؟ قال: رجل قام إلى إمام جائر فأمره بمعروف ونهاه عن المنكر فقتله".(10/4955)
فرسُه أو بعيرُه أو لدغته هامَّةٌ أو مات على فراشه في سبيل الله أخرجه الطبراني (1) من حديث أبي مالكٍ الأشعريِّ وأخرج أيضًا في الكبير (2) من حديث سرّا بنتِ نبهانَ من قتلته الحيَّة، وأخرج (3) أيضًا من حديث ابن عباسٍ بلفظ "اللديغ شهيد".
_________
(1) في "المعجم الكبير" (3/ 282 رقم 3418).
قلت: وأخرجه الحاكم (2/ 78، 79) وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه.
والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 166). وأبو داود في "السنن" رقم (2499). قال الذهبي: ابن ثوبان لم يحتج به مسلم وليس بذاك وبقية ثقة وعبد الرحمن بن غنم لم يدركه مكحول فيما أظن.
قلت: صرح الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (6/ 250) بسماع مكحول من عبد الرحمن بن غنم والله أعلم.
عن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- رفعه: "من وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة، أو مات على فراشه في سبيل الله على أي حتف شاء فهو شهيد".
ولفظ أبي داود عن أبي مالك الأشعري قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "من فصل في سبيل الله فمات أو قُتل فهو شهيد، أو وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامَّة أو مات على فراشه أو بأي حتف شاء الله فإنه شهيد وإن له الجنة". وهو حديث ضعيف.
(2) (24/ 308 - 309 رقم 779).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 45) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" وفيه أحمد بن الحارث الغساني وهو متروك.
أحمد بن الحارث الغساني: بصري شيخ لابن دارة قال أبو حاتم متروك الحديث وقال البخاري: فيه نظر. "ميزان الاعتدال" (1/ 88).
وقال الهيثمي مرَّة في "المجمع" (3/ 78) شيخ لابن دارة ضعيف.
سرّا بنت نبهان بن عمرو الغنوية. صحابية. "الإصابة" (7/ 675).
قالت: سُئل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الحيَّات، ما يُقتل منها؟ فقال: "ما ظهر منها كبيرها وصغيرها أسودها وأبيضها، فإنَّ من قتلها من أمتي كانت فداه من النار ومن قتلته كان شهيدًا".
(3) أي الطبراني في "الكبير" (11/ 263 - 264 رقم 11686).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 300) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" وفيه عمرو بن عطية بن الحارث الوادعي وهو ضعيف.
وفيه: " ... والمرء يموت على فراشه في سبيل الله شهيد، والمبطون شهيد، واللديغ شهيد، والغريق شهيد، والشريق شهيد، والذي يفترسه السبع شهيد والخار عن دابته شهيد، وصاحب الهدم شهيد، وصاحب الجنب شهيد، والنفساء يقتلها ولدها نحرها بسرره إلى الجنة".(10/4956)
والخامس والعشرون من عشَقَ فعفَّ فكتم فمات أخرجه الخطيب في تاريخه (1)، والديلميُّ في مسند الفردوسِ (2) من حديث ابن عباسٍ.
والسادس والعشرون والسابع والعشرون والثامن والعشرون الفريس الذي يفترسه السبع، والخار عن دابَّته من غير تقييدٍ بكونه في سبيل اللهِ أخرجه ................
_________
(1) (12/ 479).
(2) لم أجده.
وأخرجه ابن حبان في "المجروحين" (1/ 349).
قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (2/ 283 - 284): وقد أنكره على سويد الأئمة.
قاله ابن عدي في "الكامل"، وكذا أنكره البيهقي، وابن طاهر، وقال ابن حبان: من روى مثل هذا عن علي بن مسهر تجب مجانبة روايته، وسويد بن سعيد هذا وإن كان مسلم أخرج له في صحيحه فقد اعتذر مسلم عن ذلك. وقال: إنه لم يأخذ عنه إلا ما كان عاليًا وتوبع عليه، ولأجل هذا أعرض عن مثل الحديث.
وقال أبو حاتم الرازي: صدوق وأكثر ما عيب عليه التدليس والعمى.
وقال الدارقطني: كان لما كبر يقرأ عليه حديث فيه بعض النكارة فيجيزه.
وقال يحيى بن معين: لما بلغه أنه روى أحاديث منكرة لقنها بعد عماه فتلقن لو كان لي فرس ورمح لكنت أغزو سويد بن سعيد
وانظر "العلل المتناهية" (2/ 771).
وكلام حفاظ الإسلام في إنكار هذا الحديث هو الميزان، وإليهم يرجع في هذا الشأن، ولم يصححه ولم يحسنه أحد يعوّل في علم الحديث عليه - ويرجع في التصحيح إليه، ولا من عادته التسامح والتساهل، فإنه لم يصف نفسه له، ويكفي أن ابن طاهر الذي يتساهل في أحاديث التصوف، ويروي منها الغث والسمين، قد أنكره وشهد ببطلانه.
وهو حديث موضوع.
"المقاصد الحسنة" رقم (1153)، "سلسلة الأحاديث" الضعيفة للألباني رقم (409).(10/4957)
الطبراني (1) من حديث ابن عباسٍ.
التاسع والعشرون: من حبسه السلطانُ ظلمًا فمات في السِّجن، أخرجه ابنُ منده في كتاب الإيمان [1ب] بالسؤال عن عليِّ بنِ أبي طالب -رضي الله عنه- ولم يرفعه.
الموفي ثلاثين والحادي والثلاثون: من ضُرب فمات في الضرب وكلُّ مؤمن يموت، أخرجه أيضًا ابنُ منده عن علي مرفوعًا كما تقدم قبل هذا.
والثاني والثلاثون المرأةُ تصبِرُ على الغيرة فلها أجر شهيدٍ، أخرجه البزَّارُ (2) والطبراني (3) بسند حسنٍ من حديث ابن مسعود.
والثالث والثلاثون من قال في يوم خمسًا وعشرينَ مرةً اللهم باركْ لي في الموت وفيما بعدَ الموتِ ثم مات على فراشه أعطاه الله أجر شهيد. أخرجه الطبرانيُّ في الأوسط (4) من حديث عائشة.
والرابع والثلاثون: من صلى الضحى وصام ثلاثة أيام من الشهر ولم يترك الوتر في
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) في مسنده (2/ 190 رقم 1495).
(3) في "الكبير" (10/ 107 رقم 10040).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 320) وقال رواه البزار والطبراني وفيه عبيد بن الصياح ضعفه أبو حاتم ووثقه البزار، وبقية رجاله ثقات.
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن الله عز وجل كتب الغيرة على النساء والجهاد على الرجال، فمن صبر منهنَّ إيمانًا واحتسابًا كان لها مثل أجر الشهداء".
(4) رقم (7676) بإسناد صحيح.
وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 301) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه من لم أعرفه.
عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، ليس الشهيد إلا من قتل في سبيل الله؟ فقال: "يا عائشة إن شهداء أمتي إذًا لقليل، من قال في يوم خمسةٍ وعشرين مرةً: اللهم بارك في الموت، وفيما بعد الموت ثم مات على فراشه أعطاه الله أجر شهيد".
وأخرجه أحمد في "مسنده" (3/ 489)، (5/ 317) من طرق.(10/4958)
حضر ولا سفر كُتب له أجر الشهيد أخرجه الطبراني في الكبير (1) بسند حسن من حديث ابنِ عمرَ.
والخامس والثلاثون: المتمسّكُ بالسنة عند فسادِ الأمةِ له أجرُ شهيد. أخرجه الطبرانيُّ في الأوسط (2) من حديث أبي هريرة.
السادس والثلاثون: طالبُ العلم إذا مات في طلبه أخرجه البزّارُ (3) من حديث أبي هريرةَ وأبي ذرَّ.
السابع والثلاثون: من دعا في مرضه أربعين مرةً بقوله سبحانه: {ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} (4) أُعطيَ أجر شهيدٍ أخرجه الحاكمُ في مستدركه (5) من حديث سعدِ بن أبي وقاص.
_________
(1) كما في "مجمع الزوائد" (2/ 241) وقال فيه أيوب بن نهيك ضعفه أبو حاتم وغيره ووثقه ابن حبان وقال: يخطئ."
انظر "ميزان الاعتدال" (1/ 294).
عن ابن عمر - رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "من صلى الضحى وصام ثلاثة أيام من الشهر ولم يترك الوتر في حضر ولا سفر كتب له أجر شهيد". وسنده حسن.
(2) (5/ 315 رقم 5414).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (3/ 208) فيه محمد بن صالح العدوي ولم أر من ترجم له وبقية رجاله ثقات.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر الشهيد".
(3) في "المسند" (1/ 84 رقم 138 - كشف). وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 124) وقال وفيه هلال بن عبد الرحمن الحنفي وهو متروك.
عن أبي هريرة وأبي ذر قالا لباب من العلم يتعلمه الرجل أحب إليَّ من ألف ركعة تطوعًا وقالا: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا جاء الموت لطالب العلم وهو على هذه الحالة مات وهو شهيد".
(4) [الأنبياء: 88].
(5) (1/ 506) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(10/4959)
الثامن والثلاثون: التاجرُ الأمينُ الصَّدوقُ مع الشهداء يوم القيامةِ أخرجه الحاكمُ (1) من حديث ابنِ عمرَ، وأخرجه (2) مثلَه من حديث أبي سعيدٍ.
التاسع والثلاثون: من جلب طعامًا إلى مصر من أمصار المسلمين كان له أجرُ شهيدٍ أخرجه الديلميُّ (3) من حديث ابن مسعود.
الموفي [2أ] أربعين: من سعى على أهله وولدِه وما ملكت يمينُه يُقيم فيهم أمر الله ويُطعمهم من حلال كان حقًّا على الله أن يجعله مع الشهداء في درجاتهم أخرجه الطبراني في الكبير (4) من حديث أبي كاهل. قال الذهبيُّ: إسنادُهُ مُظلم.
الحادي والأربعون: عن ابن عباس: من مات مداريًا مات شهيدًا. أخرجه الديلميُّ (5) من حديث جابر وأخرجه السلفي في المُنتقى من حديث أبي طاهرٍ الخياط.
الثاني والأربعون: المؤذَّنُ المحْتسِبُ كالشهيد المتشحّط في دمه. أخرجه الطبرانيُّ (6) من
_________
(1) (2/ 6). وأخرجه ابن ماجه رقم (2139) وهو حديث ضعيف.
"التاجر الصدوق الأمين مع الشهداء يوم القيامة".
(2) أي الحاكم في "المستدرك" (2/ 6).
وأخرجه الترمذي رقم (1209) وقال: هذا حديث حسن غريب. وهو حديث ضعيف.
(3) عزاه إليه صاحب "كنز العمال" (4/ 9740) والسيوطي في "جمع الجوامع" (1/ 770) ولفظه: "من جلب طعامًا إلى مصر من أمصار المسلمين كان له أجر شهيد".
(4) (18/ 361 - 362 رقم 928).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 219) وفيه الفضل بن عطاء ذكره الذهبي وقال إسناده مظلم.
وهو جزء من حديث طويل وفيه: " ... اعلمن يا أبا كاهل أنَّه من سعى على امرأته وولده وما ملكت يمينه يقيم فيهم أمر الله ويطعمهم من حلال كان حقًّا على الله أن يجعله مع الشهداء في درجاتهم".
(5) عزاه إليه السيوطي في "جمع الجوامع" (1/ 800).
(6) في "الكبير" (12/ 422 رقم 13554).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 3) وقال رواه الطبراني وفيه محمد بن الفضل القسطاني ولم أجد من ذكره.
عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "المؤذن المحتسب كالشهيد يتشحط في دمه حتى يفرغ من أذانه ويشهد له كل رطب ويابس، وإذا مات لم يدود في قبره"(10/4960)
حديث ابن عمر.
الثالث والأربعون: من اغتسل بالثلج فأصابه البردُ فمات أخرجه ابن أبي شيبةَ (1) في المصنف عن الحسن البصري من قوله.
الرابع والأربعون: من صلى على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مائةَ مرة أسكنه الله يوم القيامة مع الشهداء أخرجه الطبراني في الأوسط (2) والصغير (3) من حديث أنس.
الخامس والأربعون: من قال حين يمسي وحين يصبح اللهم إني أشهدك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدكَ لا شريكَ لك وأن محمدًا عبدُك ورسولك أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوءُ بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب غيرُك فمات مات شهيدًا. أخرجه الأصبهانيُّ في الترغيب (4) من حديث حُذيفةَ بنِ اليمانِ.
السادس والأربعون: من قال حين يصبح ثلاثَ مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ الثلاثَ [2ب] الآياتِ من آخر سورة الحشرِ وكّل اللهُ سبعين ألفَ ملكٍ يصلّون عليه حتى يُمسي فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدًا، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلةِ. أخرجه الترمذي (5) من حديث معقل بن يسار.
_________
(1) لم أعثر عليه في المصنف
(2) كما في "مجمع الزوائد" (10/ 163) وقال الهيثمي وفيه إبراهيم بن سالم بن سلم الهجيمي ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.
(3) (2/ 48)
(4) لم أجده في الترغيب للأصبهاني.
(5) في "السنن" رقم (2922).
وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وأخرجه أحمد (5/ 26)، وابن السني في "علم اليوم والليلة"، رقم (80) وهو حديث ضعيف.(10/4961)
السابع والأربعون: من قرأ سورةَ الحشر إذا أخذ مضْجَعَه فمات مات شهيدًا، أخرجه ابن السُّنِّي (1) من حديث أنس.
الثامن والأربعون: من مات يوم الجمعة كتب الله له أجرَ شهيد أخرجه حميدُ بنُ زنجويه في فضائل الأعمال (2) من مرسل إياسِ بنِ بكر مرفوعًا.
التاسع والأربعون: من طلب الشهادة صادقًا أُعطيها ولو لم يُصبها أخرجه مسلمٌ (3) من حديث أنس.
الموفي خمسين: أخرج الحاكم (4) عن عروة أن أبا سفيان بنَ الحارث حلقه الحالق بمنى
_________
(1) في "عمل اليوم والليلة" رقم (718) بإسناد ضعيف عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أوصى رجلًا إذا أخذ مضجعه أن يقرأ سورة الحشر، وقال إن مت مت شهيدًا أو قال من أهل الجنة.
(2) ذكره الحاجي خليفة في "كشف الظنون" (2/ 1274).
(3) في صحيحه، رقم (156/ 1908).
(4) في "المستدرك" (3/ 256) وصححه ووافقه الذهبي.
قال ابن التين كما في "فتح الباري" (6/ 44): هذه كلها ميتات فيها شدة تفضل الله على أمة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن جعلها تمحيصًا لذنوبهم وزيادة في أجورهم يبلغهم بها مراتب الشهداء.
قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن المذكورين ليسوا في المرتبة سواء.
ويتحصل مما ذكر في هذه الأحاديث أن الشهداء قسمان: شهيد الدنيا وشهيد الآخرة وهو من يقتل في حرب الكفار مقبلًا غير مدبر مخلصًا. وشهيد الآخرة وهو من ذكر بمعنى أنهم يعطون من جنس أجر الشهادة ولا تجري عليه أحكامهم في الدنيا ...
وفي حديث العرباض بن سارية - عند النسائي (6/ 17 - 38) وأحمد (4/ 128) مرفوعًا: "يختصم الشهداء والمتوفّون على فرشهم إلى ربنا عز وجل في الذي يتوفّون من الطاعون، فيقول الشهداء: إخواننا قتلوا كما قتلنا ويقول المتوفون على فرشهم: إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا على فرشنا فيقول ربنا عز وجل انظروا إلى جراحهم، فإن أشبهت جراحُهُم جراح المقتولين، فإنهم منهم ومعهم فإذا جراحُهم قد أشبهت جراحهم"- حديث حسن لغيره-.
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (6/ 44): وإذا تقرر ذلك فيكون إطلاق الشهداء على غير المقتول في سبيل الله مجازًا، فيحتج به من يجيز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. والمانع يجيب بأنه من عموم المجاز فقد يطلق الشهيد على من قتل في حرب الكفار لكن لا يكون له ذلك في حكم الآخرة لعارض يمنعه كالانهزام وفساد النية.(10/4962)
وفي رأسه ثؤلولٌ فقطعه فمات قال فيروز إنه شهيدٌ.
انتهى البحثُ بمنّ اللهِ وفضْلِهِ والصلاةُ والسلامُ على خير خلقه محمدٍ وآلِهِ وصحبه.(10/4963)
ترجمة علي بن موسى الرِّضا (1)
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
_________
(1) كذا في المخطوط "العنوان" ولكن موضوع الرسالة يحتم أن يكون عنوان الرسالة "تحريم قتل الكافر بعد قوله: لا إله إلا الله".(10/4965)
وصف المخطوط
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: ترجمة علي بن موسى الرِّضا.
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وجدت بخط المولى شيخ الإسلام -رضي الله عنه- ما لفظه: ذكر الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة علي بن موسى الرِّضا.
4 - آخر الرسالة: هذا غير بعيد فليراجع هذا البحث، فإني لم أكتبه هنا إلَّا لقصد إمعان النظر فيه بعد حين إن شاء الله محمد بن علي الشوكاني.
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 5 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 19 سطرًا، ما عدا الصفحة الأولى فعدد أسطرها 10 أسطر.
8 - عدد الكلمات في السطر: 8 كلمات.
9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(10/4967)
بسم الله الرحمن الرحيم
وجدتُ بخطِّ المولى شيخ الإسلام -رضي الله عنه- ما لفظه: ذكر الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة علي بن موسى الرضا (1) ما لفظُهُ: بعد حذف السندِ منه إليه لما أُدخِلَ على المأمون رجلٌ نصراني قد وُجِدَ مع امرأةٍ هاشميةٍ، فلما أدخل عليه أسْلَمَ فغاظ المأمون ذلك غيظًا شديدًا، فاستفتى الفقهاء فكلٌّ قال: هدمَ إسلامُهُ ما فعلَه، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، اكتب إلى علي بن موسى في هذا. قال: فكتب إليه فوافاهُ علي بن موسى فقال: يا أمير المؤمنين، اضرب عنُقَهُ؛ فإنه إنما أسلمَ [اأ] مخافةً من السيف، فقال الفقهاء: من أين لك هذا؟ قال: فقرأ علي بن موسى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} (2) انتهى.
_________
(1) علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، بن محمد الباقر، بن علي، بن الحسين، الهاشمي العلوي المدني، وأمه ثويبة اسمه سُكينة. كان مولده بالمدينة سنة 148هـ.
قال ابن جرير الطبري في تاريخه (8/ 554): "إن المأمون جعل عليّ بن موسى وليّ عهده لأنه نظر في بني العباس وبني علي، فلم يجد أحدًا هو أفضل ولا أعلم ولا أورع منه وأنه سماه الرضي من آل محمد توفي سنة 203هـ.
انظر "تاريخ الطبري" (8/ 554، 568)، "سير أعلام النبلاء" (9/ 387)، "شذرات الذهب" (2/ 602)، "وفيات الأعيان" (3/ 269).
(2) [غافر: 84، 85].
قال الألوسي في "روح المعاني" (24/ 92 - 93):
"فلما رأوا بأسنا" مترتب على قوله تعالى: " فلما جاءتهم رسلهم بالبينات " تابع له لأنه بمنزلة فكفروا إلا أن " فلما جاءتهم " الآية بيان كفر مفصل مشتمل على سوء معاملتهم وكفرانهم بنعمة الله تعالى العظمى من الكتاب والسنة فكأنه قيل: فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا، ومثلها الفاء "فلم يك ينفعه" عطف على آمنوا دلالة على أن عدم نفع إيمانهم ورده عليهم تابع للإيمان عند رؤية العذاب كأنه قيل: فلما رأوا بأسنا آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم إذ النافع إيمان الاختيار.
" سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ " أي سن الله تعالى ذلك أعني عدم الإيمان عند رؤية البأس سنة ماضية في العباد وهي من المصادر المؤكدة كوعد الله وصبغة الله.
قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (15/ 336) "سنة الله" منصوب على التحذير والإغراء: أي احذروا يا أهل مكة سنة الله في إهلاك الكفرة.
وانظر "جامع البيان للطبري" (12جـ 24/ 90).
قال الرازي في تفسيره (27/ 91 - 92):
المعنى: فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم، فإن قيل اذكروا ضابطًا في الوقت الذي لا ينفع الإتيان بالإيمان فيه.
قلنا: إنه الوقت الذي يعاين فيه نزول ملائكة الرحمة والعذاب لأن في ذلك الوقت يصير المرء ملجأ إلى الإيمان، فذلك الإيمان لا ينفع إنما ينفع مع القدرة على خلافه، حتى يكون المرء مختارًا، أما إذا عاينوا علامات الآخرة فلا.
قال تعالى: "سنة الله التي قد خلت في عباده " المعنى أن عدم قبول الإيمان حال البأس سنة الله مطردة في كل الأمم.
قال ابن كثير في تفسيره (7/ 160):
" فلما رأوا بأسنا " أي: عاينوا وقوع العذاب بهم.
" قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين " أي: وحدوا الله وكفروا بالطاغوت، ولكن حيث لا تقال هذه العثرات ولا تنفع المعذرة، وهذا كما قال فرعون حين أدركه الغرق: " آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ " [يونس: 90].
قال سبحانه وتعالى: "الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " [يونس: 91]. أي: فلم يقبل الله منه، لأنَّه قد استجاب لنبيه موسى دعاءه عليه حين قال: "واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " [يونس: 88]. وهكذا هاهنا أيضًا قال: " فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ": أي هذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب. أنه لا يقبل ولهذا جاء في الحديث: "أن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"- أخرجه الترمذي رقم (3537) وابن ماجه رقم (4253) من حديث ابن عمر - أي: فإذا غرغر وبلغت الروح الحنجرة وعاين الملك، فلا توبة حينئذ ولهذا قال: "وخسر هنالك الكافرون ".(10/4971)
أقول: وهذا استدلال قوي، ودليل قرآني سوي، فإنَّ الله- سبحانه- جاء في هذه الآية بما هو يشفي ويكفي، فذكر أولا وقتَ هذه المقالةِ منهم فقال: {فلما رأوا بأسنا} أي: وقتَ رؤيتهم لبأسنا قالوا آمنا بالله وحده، وذكر مع الجملة الدالةِ على إنشاء الإيمان منهم، وهو قوله: {آمنا بالله} ما يفيد تأكيدَ هذا، ثم لم يكتفِ بهذا حتى جاء بجملةٍ مؤكِّدةٍ لمضمون الجملة الأولى فقال: {وكفرنا بما كنا به مشركين} فهذا المعنى فُهِمَ أولًا من قولهم: {آمنا بالله} ثم فهم ثانيًا من قولهم: {وحده} ثم فهم ثالثا بأبلغ عبارةٍ، وأوضح دلالةٍ، وأتمِّ تصريحٍ من قولهم: {وكفرنا بما كنا به مشركين} وهذا التأكيدُ المستفاد من كلام الله تعالى [1ب] يدلُّ على أنه قد أظهروا بألسنتهم من الإيمان غايةَ ما يمكن من الإظهارِ، وكفروا بما يخالف الإيمانَ أبلغَ كفرٍ، ثم(10/4972)
عقَّب سبحانه هذا بقوله: {فلم يك ينفعهم إيمانهم} فجاء بهذه الجملة المصدَّرة بحرف النفي المتوجِّه إلى نفي النفعِ الكافي له بذلك الإيمانِ، فأفاد ذلك العمومَ، وأنه لا نفعَ لهم في هذا الإيمان الواقع عند رؤية الناس بوجه من الوجوه، كما تقرر من أن الأفعال مشتملةٌ على النكرات، فهو في قوة: لا نفعَ لهم بهذا الإيمان، والنكرةُ في سياق النفي من أبلغ صيغِ العمومِ (1)، ثم كرر هذا ذكر الوقت الذي وقع فيه ذلك الإيمان بعد أن ذكره أولا بلفظه وحروفه فقال: {لما رأوا بأسنا} فكان من التأكيد الدال على عدم نفع الإيمانِ في هذا الوقتِ، فوجهٌ من وجوه النفعِ لم يكتف بهذا حتى أردفه بجملةٍ دالةٍ على أنَّ عدم نفعِ الإيمانِ في هذا الوقت هو سنةُ الله - عز وجل-، ثم لم يكتف بمجرَّد ذكرِ
_________
(1) قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص 410): إن النكرة المنفية بما، أو لن أو لم أو ليس أو لا مفيدةًُ للعموم سواءٌ دخل حرف النفي على فعل ما رأيت رجلًا أو على اسم نحو لا رجلٌ في الدار ونحو ما أحدٌ قائمًا. وما قام أحدٌ.
ولو أنها لم تكن النكرة في النفي للعموم لما كان قولنا لا إله إلا الله نفيًا لجميع الآلهةِ سوى الله سبحانه وتعالى.
"البحر المحيط" (3/ 112)، "تيسير التحرير" (1/ 225).(10/4973)
السنةِ حتى أبانَ لنا بأنَّ هذه السنة (1) هي التي خلتْ في عباده، وأنه شرْعُه الذي ارتضاه لمن مضَى من الأمم، وأنَّ الشرائع التي شرعَها لسابق عبادِه ولاحقِهم في كتبه المنزَّلةِ [2أ]، وعلى ألسنِ رسله هي هذه، ثم ذيَّلَ هذا الكلامَ بقوله: {وخسر هنالك الكافرون} فكان في هذه الجملة [ .... ] (2) أبلغ مناداةِ، فإنه لم يحصلْ لهم من ذلك الإيمانِ عند رؤية الناس إلا الخسران، فلم يعاقبوا بمجرَّد الخيبةِ مما قالوه بألسنتهم، بل ضمَّ لهم إلى ذلك الخسرانَ المشعِرَ بأنه قد نزل بهم من المِحَنِ ما لا يُعَبَّرُ عنه إلا بهذه العبارة المفيدة لجمعِ العقوبةِ لهم على أبلغِ وجهٍ، وأتمِّ صورة، فكان فيها من الدلالة على ما أراده الإمام علي بن موسى - رحمه الله- والمناداةُ بما قصده بما هو أوضحُ من شمس النهار، وأمَّا حديثُ: "الإسلام يجب ما قبله" (3) فغايتُه أنه دلَّ بعمومه باعتبار تعريفِ المسندِ إليه على أنه يجبُّ كلَّ ما تقدَّمهُ، وإن كان قائله إنما قاله عند رؤية الناس، ومخافةِ السيفِ. ولا يصلح مثل هذا الحديث لتخصيص عموم الآيةِ؛ لأنه عامٌّ فيها يعارضُ عموماتٍ، فيطلب المرجح لأحدِهما، لا سيَّما بعد ورودِه على هذا الوجه من التأكيد، والتكرُّرِ، والمبالغةُ في العبارة أرجحُ لكونه قطعيَّ المتنِ، وإن كان ظنيَّ الدلالة لكنه أرجحُ من الحديث، فإنه ظنيُّ المتن والدلالةِ جميعًا [2ب].
_________
(1) تقدم شرحها.
(2) كلمة غير واضحة في المخطوط.
(3) أخرجه أحمد في "المسند" (4/ 199) و (4/ 205).
وأخرجه الطبراني كما في "المجمع" (9/ 350 - 351) وقال: رجالهما رجال الصحيح.
والبيهقي في "السنن الكبرى" من حديث عمرو بن العاص أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "الإسلام يجب ما قبله".
وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (7/ 296 - 497)، من حديث جبير بن مطعم.
وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (192/ 121) من حديث عمر بلفظ: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنَّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله".(10/4974)
فإن قلت: من جملة الأدلة الخارجية القاضيةِ بترجيح عمومِ الحديثِ على عموم القرآنِ ما وقع منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في معاقبته لمحمد بن مسلمةَ، أو لأسامةَ (1) بن زيد على اختلاف الرواية لما قتَلَ كافِرًا تكلَّم بكلمة الشهادةِ عند رؤية السيفِ، أو نحو هذه العبارة. فقال له: "هل شققتَ عن قلبه" (2) وكرر ذلك عليه حتى عاهد الله أن لا يقاتلَ بعدها من تكلَّم بكلمة الشهادةِ. والقصةُ معروفة مشهورةٌ.
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (4269) وطرفه (6872) ومسلم رقم (96) وأبو داود رقم (2643) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما: "بعثنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الحُرَقة، فصبَّحنا القوم فهزمناهم، ولحقتُ أنا ورجلٌ من الأنصار رجلًا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكفَّ الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ " قلت: كان متعوذًا. فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم".
قال الخطابي في "معالم السنن" (3/ 102) فيه من الفقه: أن الكافر إذا تكلم بالشهادة وإن لم يُصَفْ بالإيمان وجب الكف عنه والوقوف عن قتله سواء كان بعد القدرة عليه أو قبلها.
وفي قوله: "هلا شققت عن قلبه"- وفي رواية أبي داود رقم (2643) - دليل على أن الحكم إنما يجري على الظاهر وأن السرائر موكولة إلى الله سبحانه.
وفيه أنَّه لم يلزمه - مع إنكاره عليه- الدية، ويشبه أن يكون المعنى فيه أن أصل دماء الكفار الإباحة وكان عند أسامة إنما تكلم بكلمة التوحيد مستعيذًا، لا مصدقًا بها، فقتله على أنه كافر مباح الدم فلم تلزمه الدية إذ كان في الأصل مأمورًا بقتاله والخطأ عن المجتهد موضوع.
ويحتمل أن يكون قد تأول فيه قول الله تعالى: " فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا " [غافر: 58]. وقوله في قصة فرعون: "الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " [يونس: 91]، فلم يخلصهم إظهار الإيمان عن الضرورة والإرهاق من نزول العقوبة بساحتهم ووقوع بأسه بهم.
قال الحافظ في "الفتح" (12/ 196): كأنَّه حمل نفي النفع على عمومه دنيا وأخرى وليس ذلك المراد، والفرق بين المقامين أنَّه في مثل تلك الحالة ينفعه نفعًا مقيَّدًا بأن يجب الكف عنه حتى يختبر أمره هل قال ذلك خالًصا من قلبه أو خشية من القتل، وهذا بخلاف ما لو هجم عليه الموت ووصل خروج الروح إلى الغرغرة وانكشف الغطاء فإنه إذا قالها لم تنفعه بالنسبة لحكم الآخرة وهو المراد بالآية.
(2) أخرجه أبو داود في "السنن". رقم (2643) وهو حديث صحيح.(10/4975)
وفي هذا ما يدلُّ على اعتبار إسلامِ من تكلَّم بكلمة الشهادةِ عند رؤية السيفِ (1)، ومخافةَ القتل، فيحمل ما في الآية من البأس على ما هو من الله - سبحانه- كما يرشد إليه إضافةُ البأس إلى ضميره - سبحانه- كالقيامةِ، والخسِْف، والصواعقِ، ونحو ذلك.
_________
(1) ويؤيد ذلك الحديث المشهور الذي أخرجه مسلم رقم (33/ 21) والنسائي (6/ 4 - 5) (6 - 7) وابن حبان في صحيحه رقم (218) والطبراني في "الأوسط" (2/ 158 رقم 1294) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 213) وابن منده في "الإيمان" (1/ 162 رقم 23) و (1/ 359 رقم 199) و (1/ 360 رقم 200) من طريق الزهري عن سعيد، عن أبي هريرة: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله".
قال القاضي عياض في كتاب "الإيمان من إكمال المعلّم بفوائد صحيح مسلم" (1/ 206): ومعنى "عصموا" منعوا. قال الله تعالى: " والله يعصمك من الناس " [المائدة: 67]. و" لا عاصم اليوم من أمر الله " [هود: 43]، و {يعصمني من الماء} [هود: 43].
وقد فسره في الحديث الآخر بقوله: "حرم ماله ودمُه"- أخرجه مسلم رقم (34/ 21) - واختصاصه ذلك بمن قال: "لا إله إلا الله" تعبيرٌ عن الإجابة إلى الإيمان وأنَّ المراد بهذا مشركو العرب وأهل الأوثان ومن لا يقر بالصانع ولا يوحده وهم كانوا أوَّل من دُعي إلى الإسلام وقوتل عليه، فأمَّا غيرهم ممن يقر بالتوحيد والصانع فلا يُكتفى في عصمة دمه بقول ذلك إذا كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده فلذلك جاء الحديث الآخر: "وأني رسول الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة".
انظر: "فتح الباري" (3/ 358)، (12/ 279)، "مجموع الفتاوى" (7/ 186 - 189).
وقد بوب مسلم في صحيحه رقم (41) - باب تحريم قتل الكافر بعد قوله: لا إله إلا الله.
وأخرج حديث رقم (155/ 95) عن المقداد بن الأسود أنَّه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلًا من الكفار. فقاتلني. فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا تقتله" قال فقلت: يا رسول الله إنَّه قد قطع يدي، ثم قال بعد ذلك: إن قطعها أفأقتله؟ قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا تقتله، فإن قتلته فإنّه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال".
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (4019).(10/4976)
قلت: هذا غير بعيد فلنراجع هذا البحثَ، فإني لم أكتبه هنا إلّا لقصد إمعان النظر فيه بعد حين - إن شاء الله- محمد بن علي الشوكاني [3أ].(10/4977)
رسالة في حكم صبيان الذميين إذا مات أبوهم
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(10/4979)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: رسالة في حكم صبيان الذميين إذا مات أبوهم.
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: هذا البحث كتب به إلى السيد العلامة الحسين بن عبد الله الكبسي من كوكبان وأجبت بالبحث المذكور بعده.
4 - آخر الرسالة: "فإني كتبه ورسوله قائم بالباب، والله أعلم بالصواب". انتهى من تحرير المجيب حفظه الله، وبارك لنا وللمسلمين في أيامه إنه جواد كريم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 5 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا. ما عدا الصفحة الأولى فعدد الأسطر فيها 20 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(10/4981)
هذا البحث كتب به إلى السيد العلامة الحسين بن عبد الله الكبسي (1) من كوكبان، وأجبت بالبحث المذكور بعده.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، مذاكرة مهمة في شأن الصبيان الذميين (2) إذا مات أبواهم، هل ينزعون من بين الذميين إلى المسلمين؟ فحكى ابن حجر - رحمه الله تعالى- في فتح .............................................
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) الذمة في اللغة: الأمان والعهد.
وأهل الذمة هم المعاهدون من النصارى واليهود وغيرهم ممن يقيم في دار الإسلام. وقد جاء في الحديث الشريف: " ... يسعى بذمتهم أدناهم
"، وفسر الفقهاء "ذمتهم" بمعنى الأمان.
وقالوا في تفسير عقد الذمة بأنه إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة.
وعقد الذمة: هو عقد بمقتضاه يصير غير المسلم في ذمة المسلمين أي في عهدهم وأمانهم على وجه التأييد، وله الإقامة في دار الإسلام على وجه الدوام.
"القاموس الفقهي" (ص 1434)، "كشف القناع" (1/ 704).
شرع عقد الذمة بعد فتح مكة، أما ما كان قبل ذلك بين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبين المشركين فعهود إلى مدد لا على أنهم داخلون في ذمة الإسلام وحكمه.
ويؤيد ذلك أن آية الجزية المتضمنة عقد الذمة، وهي قولة تعالى: " قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ {[التوبة: 29].
قال ابن كثير في تفسيره (4/ 132) نزلت هذه الآية الكريمة أول الأمر بقتال أهل الكتاب، بعدما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فلما استقامت جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى وكان ذلك في سنة تسع ... "
أما الحكمة من مشروعية عقد الذمة فهي أن يترك الحربي القتال مع احتمال دخوله في الإسلام عن طريق مخالطته للمسلمين واطلاعه على شرائع الإسلام، وليس المقصود من عقد الذمة تحصيل المال.(10/4985)
الباري (1)، في كتاب (2) الجنائز عن أحمد بن حنبل أنه قال: من مات أبواه، وهما كافران حكم بإسلامه، وظاهره العموم، سواء كان الأبوان مشركين أو غيرهما لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، ثم يقول: اقرءوا:} فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ {أخرجه الشيخان (3) وغيرهما (4).
زاد البخاري (5): "فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه"، وزاد مسلم (6) في رواية أخرى: "ما من مولود إلا وهو يولد على الملة، حتى يبين عنه لسانه"، وبين ابن حجر (7) أن قوله: اقرءوا فطرة الله إلخ مدرج من قول أبي هريرة، وهذا عام يشمل المرتدين والمشركين والذميين. وذكر ابن حجر (8) اختلاف السلف في المراد بالفطرة في هذا الحديث على أقوال كثيرة. قال: وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام، وعن ابن عبد البر أنه قال: وهو المعروف عند عامة السلف.
وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى:} فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا {(9) وأيد ابن حجر هذا القول بأدلة قرآنية، وسنية، وجزم البخاري في تفسير (10) سورة الروم بأن الفطرة الإسلام.
_________
(1) (3/ 248).
(2) الباب رقم (92) ما قيل في أولاد المشركين.
(3) البخاري في صحيحه رقم (1319) ومسلم رقم (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) كأحمد (2/ 346) وأبو داود رقم (4714) والترمذي رقم (2139).
(5) في صحيحه رقم (1319)
(6) في صحيحه رقم (000/ 2658).
(7) في "الفتح" (3/ 248).
(8) في "الفتح" (3/ 248).
(9) [الروم: 30].
(10) في "فتح الباري" (8/ 512) باب: "لا تبديل لخلق الله".(10/4986)
واستدل أحمد بحديث الباب بناءً على هذا التفسير، وتعقب بعضهم هذا التفسير كما حكاه ابن حجر (1) بأنه كان يلزم أنا لا يصح استرقاقه، ولا يحكم بإسلامه إذا أسلم أحد أبويه. ثم قال ابن حجر: والحق أن الحديث سيق لبيان ما هو في نفس الأمر، لا لبيان الأحكام في الدنيا.
قال ابن حجر (2): ولا حجة فيه لمن حكم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين، كما هو قول أحمد، فقد استمر عمل الصحابة، ومن بعدهم على عدم التعرض لأطفال أهل الذمة انتهى.
وقال أهل المذهب الشريف مثل مقالة أحمد [1]، كما نص الإمام المهدي في الأزهار (3) بقوله: "وبكونه في دارنا دونهما" (4) زاد في الأثمار (5) مطلقًا. قال في الوابل: سواء كان أبواه ميتين في دار الإسلام، أم غائبين عنها، هكذا مفهوم عبارة الأزهار، وهو الموافق للقواعد (6)، ولذلك صرح به المؤلف، وهذا الذي صححه المؤلف
_________
(1) في "الفتح" (3/ 249).
(2) في "الفتح" (3/ 249).
(3) (3/ 789 - مع السيل الجرار).
(4) قال الشوكاني تعليقًا: إذا كان مولودًا على الفطرة الإسلامية، وكان ذلك كافيًا في الحكم به بالإسلام فإسلامه مع إسلام أحد أبويه أظهر، ولا يحتاج إلى الاستدلال بدليل يخص هذه الصورة، وهكذا لا يحتاج إلى الاستدلال بدليل يخص قوله: "وبكونه في دارنا دونهما" لأنه قد اجتمع له الولادة على الفطرة والكون في دار الإسلام، فكان من جملة من يحكم له بالإسلام بالسببين المذكورين. كما استحق من أسلم أحد أبويه أن يحكم له بالإسلام بالسببين، وهما الولادة على الإسلام مع إسلام أحد أبويه، وقد كان أبواه هما اللذان يهودانه، ويمجسانه، فمع إسلام أحدهما صار داعيًا له إلى الإسلام كما صار يدعوه الآخر إلى الكفر وداعي الإسلام أرجح وأقدم؛ لأن الإسلام يعلو، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا.
(5) "الأثمار في فقه الأئمة الأطهار" تأليف الإمام يحيى بن شمس الدين الحسني اليمني.
انظر: "مؤلفات الزيدية" (1/ 44).
(6) مخطوط انظر "مؤلفات الزيدية" (2/ 356).(10/4987)
قد صححه كثير من العلماء، وهو الموافق للأدلة، وكذلك صرح به في الأثمار (1) انتهى.
وقال في الغيث (2): لأنه صار في دار الإسلام، وأبواه في دار الحرب فقد انقطعت ولايتهما، فلا يلحق حكمهما في ذلك، بل يحكم بأنه ولد على الفطرة حتى يعرب (3) عنه لسانه بعد تكليفه لأجل الخبر انتهى.
وروي عن ابن حميد أنه حكاه أن الإمام شرف الدين - رضوان الله عليه- بعث في البلاد لقبض من مات أبواه من صبيان اليهود انتهى. فالذي يظهر لي رجحان ما ذهب إليه أهل المذهب وأحمد.
بقي الكلام في ميراث الصبي من أبويه وغيرهما ما دام صبيًّا، فالواقع عند عامة العلماء أن أبويه يرثانه مع قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم". اتفق عليه الشيخان (4)، وكذا قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ " (5) وسببه كما ذكره ابن دقيق العيد (6) أن أبا طالب لما
_________
(1) تقدم في تعليقة سابقة.
(2) مخطوط انظر "مؤلفات الزيدية" (2/ 297)
(3) أخرج مسلم في صحيحه رقم (000/ 2658) من رواية أبي كريب عن أبي معاوية: "ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة حتى يعبر عنه لسانه".
وأخرجه أحمد في "المسند" رقم (14741 - الزين) بسند صحيح. من حديث جابر قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فإذا أعرب عنه لسانه فإما شاكرًا وإما كفورًا".
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6764) ومسلم رقم (1/ 1614).
قلت: وأخرجه مالك (2/ 519 رقم 10) والطيالسي (1/ 283 رقم 1435) - "منحة المعبود" وأحمد (5/ 200) وأبو داود رقم (2909) والترمذي رقم (2107) والدارمي (2/ 37) وغيرهم من حديث أسامة بن زيد.
(5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1588).
(6) في "إحكام الأحكام شرع عمدة الأحكام" (4/ 18).(10/4988)
مات لم يرثه علي، وجعفر، وورثه عقيل، وطالب؛ لأن عليًّا وجعفر كانا مسلمين حينئذ، فلم يرثا أبا طالب.
وقال في البحر (1): معاذ ومعاوية والناصر- عليه السلام- والإمامية: يرث الكافر لقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه" انتهى. وهذا عموم كما لا يخفى.
قال ابن دقيق العيد (2): ومن المتقدمين من قال بأن المسلم يرث الكافر دون العكس، وكان ذلك تشبيه بالنكاح، حيث ينكح المسلم الكافرة الكتابية بخلاف العكس انتهى. فعلى قول معاذ، والناصر، ومن معهما لا إشكال في ميراث الصبي من أبويه الكافرين، وكذا إذا قلنا بإسلامه كما هو ظاهر حديث: "كل مولود" (3) وكان إثبات التوارث من الجانبين؛ أعني: ميراث الصبي من أبويه، وميراثهما منه بحكم المعاملة له معاملتهما في أحكام الدنيا، وهذا واضح كما يظهر. وإن أشكل فيه أن الصبي يعامل به معاملة أبويه حتى يموت أبواه، فموتهما يثبت له حكم الإسلام مقارنًا لموتهما، فكيف لا يكون مانعًا من إرثه لهما على قول الجمهور (4) من عدم التوارث بين أهل ملتين! فالمقام مقام نظر وإمعان.
ويظهر لي صحة نزع الصبي بوجوبه وبثبوت ميراثه من أقاربه ما دام صبيًّا قبل نزعه، إذ بنزعه تنقطع عنه المعاملة له معاملة أبويه. ويؤيد هذا الظاهر حتى يصير متعينًا وجوبًا.
الوجه الأول: أنه بعد أن ثبت أن المراد بالفطرة (5) الإسلام، وقد ثبت عند عامة
_________
(1) أي البحر الزخار (5/ 369).
(2) في "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" (4/ 17).
(3) تقدم تخريجه.
(4) انظر "درء تعارض العقل والنقل" (8/ 361).
(5) انظر الرسالة رقم (16).(10/4989)
العلماء أو إجماعهم على ما يظهر من عدم حكاية مخالف أنه يرثه أبواه الكافران إذا ماتا مع اختلاف الملة، وما ذاك إلا لحكم معاملته معها معاملة الموافق في الملة.
والوجه الثاني: هو ما أشار إليه ابن حجر (1) بقوله: والحق أن الحديث سيق لبيان ما هو في نفس الأمر، لا لبيان الأحكام في الدنيا، فإنه يفيد أن أحكام الذمي من التوارث والاسترقاق وغيرهما منظور فيهما عند الشارع إلى الظاهر، وإلى معاملة الصبي معاملة أبويه وإن كان ابن حجر - رحمه الله- لم يسلك الحق في ما مضى له من قوله بعد ذلك: ولا حجة فيه؛ أي في حديث "كل مولود" إلخ، لمن حكم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين، كما هو قول أحمد. وأسند عدم الحجة باستمرار عمل الصحابة ومن بعدهم على عدم التعرض لأطفال أهل الذمة. ولا يخفى أنه لا حجة في ذلك الاستمرار إلا إذا كان إجماعًا، ولا إجماع كما هو ظاهر، على أن قول ابن حجر: ولا حجة إلخ مناف لما قد قرره من أن الفطرة الإسلام، تظهر ما قلته لمن تأمل المقام.
والوجه الثالث: إن ثبت كون المراد بالفطرة الإسلام، وثبوت معاملة الصبي معاملة أبويه في الأحكام الدنيوية يصح أن يقال: إن قد قارن موت أحد أبوبه مانع من الإرث، وهو اختلاف الملتين، وارتفاع ولاية أبويه عليه بالمرة، وثبوت الإسلام، وأن ينزع من أيدي أهل الكفر، وزوال المعاملة بالمرة لأنا نقول: قد ثبت عند الشارع إحدى هذه المعاملة في الأحكام الدنيوية في الاسترقاق، فإنه يسترق الصبي من غير فرق بين تقدم هلاك أبويه على استرقاقه وعدمه، وذلك معلوم، وذلك ما ثبت عند عامة العلماء من إثبات ميراث أبويه منه، مع حصول الاختلاف وارتفاع موجب المعاملة، ما ذاك إلا لانسحاب حكم المعاملة بعد الموت. ونظير ذلك عتق المدبر بعد موت سيده، مع حصول المانع، وهو خروجه عن ملك مدبره لموته، ونظير ذلك أيضًا ما قالوه في المملوك إذا مات أبواه أو نحوه، فعتق قبل حوز المال إلى بيت المال أنه يرث أباه، ونحوه مع
_________
(1) في "الفتح" (6/ 43).(10/4990)
حصول مانع الرق عند الموت لانسحاب إعمال حكم القرابة الموجب للتوارث.
هذا ما ظهر مع قصور الباع؛ فإن كان صوابًا فبهداية الله، وأرجو الأجرين من الله تعالى الكريم المنان، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، وأرجو من الله الأجر.
حرر هذا السؤال في شهر رمضان سنة 1209، وقلم السائل السيد حسين بن عبد الله الكبسي - عافاه الله-.(10/4991)
هذا لفظ ما حرره في المقام الولد العلامة الهمام محمد بن علي الشوكاني، أدام الله إفادته، وجعله للمتقين إمامًا، وجعل الجميع ممن يعمل ما يرضيه، ويتجنب ما لا يرضيه.
الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وبعد: فإنه وصل هذا البحث النفيس من سيدي العلامة الأجل شرف الملة - حماه الله ورعاه، وكلأه وبارك للمسلمين في علومه-. وقد أفاد وأجاد، ولكنه خطر بالبال حال تحرير هذه الأحرف من دون بحث كتاب أن مرجع الأمر إلى معرفة ما هو المراد بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "يهودانه، وينصرانه" (1) هل المراد أنهما يصيرانه كذلك بمجرد كون الأب أبًا له، والأم أمًّا له حال كونهما متصفين بوصف الكفر، أو المراد أنهما يحببان إليه ذلك أو المراد أنه يصير بالملازمة لهما متدينًا بدينهما بعد كونه مولودًا على الفطرة، أو المراد أنهما يصيرانه على دينهما عند أن يصير متصفًا بوصف البلوغ الذي هو المناط للأحكام الشرعية؟ فإن هذا كان المراد المعنى الأول فالصبي المولود لليهوديين والنصرانيين يصير كافرًا بمجرد كون أبويه كذلك، سواء كان الأبوان باقيين على الحياة، أو ميتين، وسواء كان الموت عند الولادة أو بعدهما، قبل بلوغ الصبي، فعلى هذا لا يصير الولد مسلمًا بكونه في دارنا دونهما؛ لأن الأبوين قد هوداه ونصراه بمجرد كونهما متصفين بوصف الأبوة، ويرثهما ويرثانه، ولا يثبت له حكم الإسلام إلا باختياره بعد بلوغه (2)، ولكن يبقى الكلام هل تصح على معنى هذا الجملة المضارعية! أعني: قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "يهودانه، وينصرانه"، لما تقرر أنها للاستمرار التجددي، ويمكن أن يقال أن المراد بالاستمرار الذي هو مدلوله المضارعية هو الكائن في حال حياتهما، أي:
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) في حاشية المخطوط ما نصه: لا يخفى أن هذا الوجه ... لا يساعده قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما من مولود إلا ويولد على الملة حتى يبين عليه لسانه، وجعل بيوت الملة له متهيأ بأنه لسانه، ولا آبائه عند بلوغه" تأمل غفر الله له، ومتع المسلمين بأيامه.(10/4992)
يستمر ذلك ما داما في الحياة وإن كانت غير مستمرة إلى حال البلوغ فإذا مثلًا: مات الأبوان بعد ولادة الولد بشهر فقد استمر في تلك المدة جعلهما له يهوديًّا أو نصرانيًّا، وليس في الحديث ما يدل على غير هذا، وإن كان المراد المعنى الثاني فلا يصدق ذلك إلا على من عاش أبواه أو أحدهما إلى زمان يتعقل فيه الصبي ما يقال له، ويؤيد هذا أنه لا بد في كونهم مهودين له أو منصرين من تعقل المفعول به لذلك المعنى، وهو لا يتعقله قبل بلوغ سن التمييز.
وعلى هذا يكون الصبي كافرًا بكفر أبويه، بمجرد إدراكه لهما أو لأحدهما، وهو مميز فلا يصير بعد موتهما مسلمًا بكونه في دارنا دونهما، بل هو على دينهما حتى يبلغ، ويختار خلافه، وحينئذ يرثهما ويرثانه ما دام غير خارج عن دينهما (1) باختياره.
وإن كان المراد المعنى الثالث فالولد يصير متدينًا [4] بدين الأبوين مجرد ثبوت الملازمة لهما، وليس في ذلك ما يقتضي اعتبار استمرارها إلى البلوغ، لصدق مسمى الملازمة على ثبوتها في مدة من المدد. ألا ترى أنه يقال في اللغة (2): لازم فلانًا يومًا، أو يومين، أو ثلاثًا، أو أسبوعًا وسنة. ويأتي ما سلف من اعتبار كونهما بين مميزين.
والظاهر عدم اعتبار ذلك؛ لأنه يقال: لازم فلان داره، أو بلده، أو ضيعته، أو المسجد. وعلى هذا فلا يكون الصبي مسلمًا بعدم وجود أبويه في دارنا، وحكمه حكم غيره من الكفار في أحكام الذمي. وأما في الأحكام الأخرى ففيه الخلاف الطويل العريض في أحكام أطفال الكفار. والأدلة في ذلك مختلفة غاية الاختلاف.
وعلى الجملة فالمسألة من مطارح الأنظار، ومسارح اجتهاد الأئمة الكبار. وقد حررت فيها في سالف الأيام بحثًا مطولًا.
_________
(1) في حاشية المخطوط ما نصه: لا يخفى أن اختيار هذه الإرادة يهدم ما دل عليه الحديث في ثبوت الإسلام حتى يبلغ عنه.
(2) "لسان العرب" (12/ 542) ط: دار صادر- بيروت.(10/4993)
وإن كان المراد المعنى الرابع فلا شك أنه لا يصير متصفًا بوصف الكفر، لكونهما أبوين له، ولا بالملازمة المنقطعة قبل البلوغ؛ لأن تصييرهما له كذلك هو عند البلوغ، وعلى هذا فإذا وجد في دارنا دونهما صار مسلمًا؛ لأنه لم يحصل ذلك المعنى، بل يحكم عليه بالإسلام قبل بلوغه مطلقًا؛ لأن تهويده لم يحصل، وذلك يستلزم نزعه حال صغره، ولو كان الأبوان باقيين؛ لأن كونه في أيديهما يفضي به إلى الكفر، واللازم باطل فالملزوم مثله.
أما الملازمة فلأن المفروض أنه مسلم قبل البلوغ، فكيف يقر في أيدي الكفار! وأما بطلان اللازم فلم يثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ولا عن الصحابة، ولا عن سائر علماء الأئمة أنهم انتزعوا صبيان الكفار على اختلاف أنواعهم، مع وجود الأبوين، أو أحدهما، وأيضًا معنى الحديث وهو قوله: "يهودانه وينصرانه إلخ" لا يدل على ذلك المعنى؛ لأن الظاهر أنه يولد على تلك الصفة فيتعقبه تصيير الأبوين له كذلك. والضمير في قوله: يهودانه إلخ راجع إلى المولود، وإطلاق اسم المولود في عرف اللغة إنما يصح على من كان قريب العهد بها. هذا ما لاح للنظر القاصر بدون تحرير للنظر، ولا تكرير له، وإذا تصفحه المتأهل استفاد، ومنه ما هو الحق في المسألة، فليمعن سيدي الشرفي النظر في ذلك، وإذا عرضه فليعرضه على من له مسرح في المعارف الاجتهادية، ويتعذر إذا رأى فيه ما لا يناسب؛ فإني كتبته ورسوله قائم بالباب، والله أعلم بالصواب.
انتهى من تحرير المجيب - حفظه الله-، وبارك لنا وللمسلمين في أيامه، إنه جواد كريم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.(10/4994)
حل الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(10/4995)
وصف المخطوط: (أ)
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: حل الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال.
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
4 - آخر الرسالة:" .... فربما كانت هذه الأحموقة محمودة عند الله تعالى.
كمل من تحرير جامعه محمد بن علي الشوكاني حفظ الله به الدين وأقام به عمود الدين، وكان التحرير والجمع يوم الجمعة شهر القعدة سنة 1205 هـ وصليت على نبينا محمد وآله وصحبه آمين.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 7 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 23 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(10/4997)
وصف المخطوط: (ب)
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: إزالة الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال.
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله وصحبه. قلتم طول الله مدتكم وحرس مهجتكم في مشرفكم.
4 - آخر الرسالة: ... مدينة صنعاء المحمية بالله تعالى، كتبه الفقير إلى الله عبد الرحمن بن أحمد البهلكي.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 6 صفحات ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 28 سطرًا ما عدا الصفحة السادسة فعدد أسطرها 7 أسطر.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الناسخ: عبد الرحمن بن أحمد البهكلي.
10 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(10/5000)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي على رسولك وآله وصحبه. قلتم - طول الله مدتكم وحرس مهجتكم في مشرفكم-: هل من دليل يدل على إجبار اليهود على التقاط الأزبال؟
فأقول: لم أقف قبل كتب هذه الأحرف على كلام في ذلك لأحد من العلماء، وقد خطر بالبال حال زبر هذه الأحرف من الأدلة خمسة عشر دليلًا.
الأول: قال الله تعالى:} حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ {(1) ضرب الله- جل جلاله-[لجواز] (2) مصالحة الكفار غاية هي إعطاء الجزية، وقيدها بالجملة الحالية (3) وهي قوله: وهم صاغرون، إشعارًا بأن مجرد إعطاء الجزية غير كاف في جواز الموادعة والمصالحة، وحقن الدماء، وجعلها اسمية تنبيهًا على دوام الصغار لهم وثباته كما
_________
(1) [التوبة: 29].
(2) زيادة من (أ).
* على الصفحة الأولى من المخطوط (أ) ما نصه: هذا الجواب على سيدي العلامة الروح عيسى بن محمد بن الحسين حفظه الله تعالى.
(3) قال الشوكاني في "السيل الجرار" (3/ 776 - 777): وجهه أن الله سبحانه قد قال في محكم كتابه: " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " [التوبة: 29]. فهذه الجملة حالية قد أفادت أنه ينزل بهم ما فيه صغار في ملبوسهم وبيوتهم ومركوبهم، ونحو ذلك من شئونهم، ويمنعون مما يخالف الصغار، وهو التشبه بالمسلمين في ملبوسهم وبيوتهم ومركوبهم ونحو ذلك، وقد أخذ عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عهدًا ذكر فيه ما يعتمدون عليه في حالهم ومالهم ومساكنهم وكنائسهم، ومن جملته: أنهم لا يتشبهون بالمسلمين في ملبوساتهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، وفيه أنهم يجزون مقاديم رءوسهم وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم، ولا يظهرون صليبًا ولا شيئًا من كتبهم في طريق المسلمين، وفيه أنهم لا يضربون ناقوسًا إلا ضربًا خفيفًا، ولا يرفعون أصواتهم بالقراءة في شيء في حضرة المسلمين، وهذا العهد العمري.
انظر: "المحلى" (7/ 346 - 347).(10/5005)
قرره أئمة البيان، وصرح به العلامة في مواضع من كشافه (1)، وقرره السعد في جميع كتبه، واعتبار السكاكي، والشريف، وصاحب المجاز للمقامات غير قادح في المطلوب لقضاء المقام بذلك بلا نزاع فهو إجماع.
وضمير الجماعة ظاهر في تعلق الحكم بكل فرد، فلا يصار إلى غيره إلا لموجب، وهذا على فرض تجرده عن الأدلة العاضدة لذلك الظاهر، أما مقام النزاع فهو فيه معقود بالنص والإجماع.
وإهمال اعتباره فيما نحن فيه مستلزم لجواز تقرير بعض أهل الذمة على الصلح بلا جزية ولا صغار، وهو باطل.
أما الأولى: فلأن هجر الظاهر موجب لعدم التعلق بالكل الإفرادي، وغايته التعلق بالمجموع من حيث هو، وأنه غير مناف لخروج البعض.
وأما الثانية: فالنص والإجماع قاضيان قضاء لا ينكر ببطلان تقرير أهل الذمة في جزيرة المسلمين بلا قتال ولا جزية وصغار.
إذا تقرر أن كل فرد من أفراد أهل الذمة لا ينفك عن الصغار بحكم الشرع، وأن الصغار هو الذلة والإهانة كما تقرر في اللغة (2) فدعوى اختصاصه ببعض ما فيه ذلك، أو بوقت دفع الجزية أخذًا بظاهر التقييد ممنوع؛ لأن الأولى تحكم محض.
والثانية: تفت في عضدها أنه يصدق على الذمي أنه معط للجزية في جميع أوقات المصالحة، وإلا لزم بطلان مصالحته، [فأمانه] (3) في وقت عدم الإعطاء بالفعل وهو باطل، وهذا يعود إلى الخلاف في اشتراط بقاء المعنى في إطلاق المشتق (4).
وقد تقرر [1] في الأصول أنه باعتبار الماضي حقيقة على قول، ومجاز على آخر،
_________
(1) انظر: "الكشاف" (3/ 32).
(2) انظر: "لسان العرب" (7/ 352).
(3) في (ب) وأمانه.
(4) انظر: "إرشاد الفحول" (ص 97 - 98).(10/5006)
وباعتبار المستقبل مجاز بالاتفاق كما قرره العضد وشارح الغاية.
قال سعد الملة في المطول ما لفظه: قلت: لا خلاف في أن اسم الفاعل والمفعول فيما لم يقع كالمستقبل مجاز، وفيما هو واقع كالحال حقيقة، وكذا الماضي عند الأكثرين.
فانظر كيف جعل الماضي كالحال في أنه حقيقة، ونسبه إلى الأكثرين لا كما وقع في شرح الغاية من نسبة ذلك إلى أبي علي، وأبي هاشم، وابن سينا فقط. وقد نسبه الشلبي إلى الشافعية وعبد القاهر (1).
وعلى الجملة فإن كل ما في القرآن والسنة من هذا القبيل إلا القليل النادر، وقد جود البحث في ذلك المحلي في شرح جمع الجوامع، وابن أبي شريف في حاشيته.
إذا عرفت هذا علمت أن إعفاء اليهود عن التقاط الأزبال الذي هو أعظم أنواع الصغار وأهمها لا سيما مع استلزامه لإلصاق هذا العار الهادم لكل شعار بالمسلمين - لا محالة- يعود على الفرض المقصود من المصلحة الباعثة على المصالحة بالنقض، ويخدش [1 أ] في وجه تبلج الإسلام خدشًا تظهر للسرور به أسارير وجه الكفر، فلينظر المتفكر، وليتأمل المعتبر ما وسم به المسلمون من التقاط أزبال اليهود، وأي الفريقين صاحب الصغار عند مباشرة المسلمين لهذه النقيصة المشوهة} إنا لله وإنا إليه راجعون {(2) أي مذلة احتملها المسلمون، وأي ضعة ومهانة صبر عليها الأولون؟!
الدليل الثاني: قال الله تعالى:} وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ {(3). وقال عز وجل:} ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ {(4).
_________
(1) انظر: "المحصول" (1/ 239)، "التقرير والتحبير" (1/ 162).
(2) [البقرة: 156].
(3) [البقرة: 61].
(4) [آل عمران: 112].(10/5007)
قال جار الله الزمخشري (1) في تفسير الآية: جعلت [الذلة] (2) محيطة بهم، مشتملة عليهم، فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه، أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضرب لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه.
وقال (3) في تفسير الآية الثانية: والمعنى ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس، يعني ذمة الله وذمة المسلمين؛ أي: لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوا الجزية، ثم قال: وضربت عليهم المسكنة كما يضرب البيت على أهله، فهم ساكنون في المسكنة غير ظاعنين عنها، وهم اليهود عليهم لعنة الله وغضبه. انتهى.
إذا تقرر هذا فربك - جل وعز- قد أخبرك في كتابه أن الذلة مضروبة على اليهود، دائمة لهم بدوامهم، شاملة لجميع الأشخاص في جميع الأزمان، على جميع الأحوال، وليس المراد بذلك الأمر [2] الخلقي الجبلي، بل المراد التسليط عليهم، فلا تزال الحوادث تطرقهم، والمصايب تتعاورهم على ممر الدهور، وتعاقب العصور، وليس المراد بالذلة المضروبة [الذلة الحاصلة بسبب خاص، أو ببعض معين؛ لأن ذلك تحكم لم يدل عليه دليل، بل المراد] (4) [إلا] (5) الذلة الناشئة عن أي سبب كان من الأسباب التي لم يمنع الشارع منها، فإجبارهم على الالتقاط محصل للذلة المضروبة، وكل محصل للذلة المضروبة جائز، فإجبارهم على الالتقاط جائز.
أو يقال: التقاطهم للأزبال ذلة، وكل ذلة مضروبة عليهم، فالتقاطهم للأزبال مضروب عليهم، أو التقاطهم صادق عليه اسم الذلة، وكل صادق عليه اسم الذلة
_________
(1) في "الكشاف" (1/ 276).
(2) في (أ) الدلالة.
(3) أي الزمخشري في "الكشاف" (1/ 610).
(4) زيادة من (أ).
(5) زيادة من (ب).(10/5008)
مضروب عليهم، فالتقاطهم مضروب عليهم.
أما الصغرى فلا شك أن الإجبار على مثل هذا الصغار من [أبلغ] (1) أنواع الذلة في العرف واللغة.
وأما الكبرى فلعدم صحة إرادة ذلة مخصوصة لما عرفت، ويدل لعدم صحة هذه الإرادة قول الله تعالى:} وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ {(2) والمراد بالبعث التسليط كما ذكره العلامة (3)، ولا يخفى ما في الإضافة إلى العذاب المحلى من إباء إرادة المعين وما في جعل يوم القيامة غاية من الدلالة على عدم إرادة مخصوص.
الدليل الثالث: قول الله تعالى:} لهم في الدنيا خزي {(4) قال جار الله (5): قتل، وسبي، أو ذلة بضرب الجزية. وقيل فتح مدائنهم قسطنطينية (6)، ورومية الكبرى، وعمورية.
وأقول: تعين ما به الخزي لا يكون إلا توفيقًا أن يراد به خزي كثير، أو خزي عظيم
_________
(1) في (ب): أعظم أبلغ.
(2) [الأعراف: 167].
(3) الزمخشري في "الكشاف" (2/ 526).
(4) [البقرة: 114]. قال ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (1 \ جـ 1/ 500): قوله: (لهم في الدنيا خزي) فإنه يعني بالخزي: العار والشر والذلة إما القتل والسباء، وإما الذلة والصغار بأداء الجزية.
(5) يعني الزمخشري في "الكشاف" (1/ 313 - 314).
(6) أخرجه ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (1 \ جـ 1/ 501): عن السدي قوله: (لهم في الدنيا خزي) أما خزيهم في الدنيا: فإنهم إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم فذلك الخزي، وأما العذاب العظيم: فإنه عذاب جهنم الذي لا يخفف عن أهله، ولا يقضى عليهم فيموتوا.
وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" (2/ 79).(10/5009)
على جعل التنكير للتكثير، أو للتعظيم، أو مجموعهما على جعله لمجموعهما، ولا يصح القصد إلى فرد من أفراد الخزي، أو إلى نوع منه، لعدم مناسبته لمقام هذا الوعيد الشديد.
إذا تقرر ذلك فاليهود عليهم اللعنة أحق بالخزي العظيم، وما نحن فيه بالغ من العظم إلى غاية لا يقادر قدرها، على أن التنكير هاهنا فيه معنى العموم، وإن لم يصح تناوله للمجموع دفعة كما ذكره الأئمة في نظائره، فيكونون أهلًا لكل فرد من الأفراد الموجبة للخزي.
ولا يخفى فيما تقدم [1 ب] المسند واللازم من المناسبة للمدعي [لما] (1) في المقام.
الدليل الرابع: قول الله عز وجل مخاطبًا لرسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:} واغلظ عليهم {(2) يعني الكفار؛ أي: اغلظ على جنس الكفار، وعلى كل كافر. وخطابه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- خطاب لأمته. أما على القول بأن خطابهم يعم أمته إلا لدليل يدل على الفرق فواضح، وأما على القول بأن خطابه الخاص به لا يعم إلا لقرينة [3]، فالقرائن المقتضية لذلك في المقام لا تخفى على عارف، وإذا كان كل فرد من أفراد المسلمين مأمورًا بالغلظة على الكفار فكيف يتردد في جواز إجبار اليهود على الالتقاط وهم أعداء الدين وأهله.
الدليل الخامس: ما وصف الله به أهل الإسلام من قوله:} أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين {(3)، فالعزة على الكفار على وجه الاستعلاء المشهور به من على وصف مادح للمؤمنين، الانخراط في سلكه أمر يرغب إليه كل نفس أبية، ويطلبه كل همة قسورية، وإن ما نحن فيه - لعمر أبيك- حقيق بأن يكون مقدم قافلة ركب العزة، وعنوان ذلك
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) [التوبة: 73]، [التحريم: 9].
(3) [المائدة: 54].(10/5010)
الشرف الذي ما صادف غير مجزه، فأي عزة لمسلم يعمد إلى جيوش اليهود، ويحمل أزبالهم! وأي فضيلة لإخوانه المسلمين المقرين له على ذلك العمل! الذي عورت به عين عزة الدين، وجدع به مازن شرفه، وقرت به عين ضلال اليهود! وقال لسان حال عداوتهم: انظروا أينا صاحب الصغار يا أولي الأبصار. وهكذا فلتكن غيرة الإسلام وحمية أهله التي لا تضام.
الدليل السادس: أخرج الطبراني في الصغير (1) من حديث عمر، والدارقطني (2) من حديث عابد المزني مرفوعًا: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه" وكل عاقل يعلم أن ملابسة المسلمين لهذه المهنة الخبيثة التي لا أوضع، ولا أفظع، ولا أشنع منها دينًا وعقلًا وعرفًا، مع امتناع اليهود منها تعذرًا واستخباثًا منافية للعلو الذي أخبر به الصادق المصدوق، وموجبة لعكس القضية، وكثير من الأخبار النبوية مراد به الإنشاء كحديث: "لا تغزى مكة بعد اليوم، لا يقتل قرشي بعد اليوم" (3) برفع لام يقتل " [والأمانة] (4) في الأزد، القضاء في الأنصار، الأذان في الحبشة، الخلافة في .................................
_________
(1) (2/ 153 رقم 948 الروض الداني).
قال الحافظ في (التلخيص) (4/ 231 رقم 2315) ورواه الطبراني في "الصغير" من حديث عمر مطولًا في قصة الأعراب والضب، وإسناده ضعيف جدًّا.
(2) في "السنن" (3/ 252)، بسند حسن.
قلت: وأخرجه البخاري في صحيحه معلقًا (3/ 218 - كتاب الجنائز باب رقم (79) إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟
قال الحافظ في "الفتح" (3/ 220): لم يعين البخاري القائل وكنت أظن أنه معطوف على قول ابن عباس فيكون من كلامه، ثم لم أجده من كلامه بعد التتبع الكثير ... ثم وجدته من قول ابن عباس كما كنت أظنه: ذكره ابن حزم في "المحلى" ...
(3) أخرجه أحمد في "المسند" (3/ 412) والطحاوي في "مشكل الآثار" رقم (1508) والطبراني في "المعجم الكبير" (جـ 20 رقم 691) من حديث مطيع. وهو حديث حسن.
(4) في المخطوط (القضاء) والصواب ما أثبتناه من مصدر الحديث.(10/5011)
قريش" (1). ونحو ذلك مما يكثر إيراده. وتخلف هذه في الواقع ضروري لا ينكر، وعدم تخلف الأخبار النبوية ضروري، فلهذا قلنا: إنها أخبار مراد بها الإنشاء.
ولعل حديث: "الإسلام يعلو [ولا يعلى عليه] (2) " من هذا القبيل، فيكون في قوة أمر المسلمين بأن يجعلوه عاليًا ببذل الأنفس والأموال، والتشديد على عداء الله، وهو أدخل في الدلالة على المطلوب.
الدليل السابع: أخرج مسلم (3) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه" (4).
أمر- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الأمة بأن لا يدعوهم يمشون في وسط الطريق؛ لما في ذلك من ظهور العزة، وأمرهم بأن يضطروهم [4] إلى أضيقه إظهارًا لإذلالهم، وإهانتهم وكراهة لمساواتهم المسلمين في جادة الطريق. وفحوى الخطاب ولحنه قاضيان بمنعهم عن
_________
(1) أخرج أحمد في "المسند" (2/ 364) عن أبي مريم أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الملك في قريش، والقضاء في الأنصار، والأذان في الحبشة والسرعة في اليمن" وقال زيد - ابن الحباب- مرة يحفظه: "والأمانة في الأزد".
* ورجاله رجال الصحيح غير أبي مريم وهو الأنصاري، فقد روى له أبو داود والترمذي وهو ثقة.
واختلف في وقفه ورفعه، والموقوف أصح.
(2) زيادة من (ب).
(3) في صحيحه رقم (2167) وأحمد (2/ 436) وأبو داود رقم (5205) من حديث أبي هريرة.
قال القرطبي في "المفهم" (5/ 490): إنما نهى عن ذلك لأن الابتداء بالسلام إكرام، والكافر ليس أهلًا لذلك، فالذي يناسبهم الإعراض عنهم وترك الالتفات إليهم، تصغيرًا لهم، وتحقيرًا لشأنهم، حتى كأنهم غير موجودين.
(4) قال القرطبي في "المفهم" (5/ 490): أي: لا تنتحوا لهم عن الطريق الضيق إكرامًا لهم واحترامًا، وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى والعطف، وليس معنى ذلك أنا إذا لقيناهم في طريق واسع أننا نلجئهم إلى حرفة حتى نضيق عليهم؛ لأن ذلك أذى منا لهم من غير سبب، وقد نهينا عن أذاهم(10/5012)
مساواة المسلمين في مثل هذه الخصلة، وفيما هو أشد ضرارًا منها على المسلمين، ولا يشك عاقل أن هذه الرذيلة التي نحن بصددها أشد وأشد، بل بين الخصلتين مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل، ويبكي لها الإسلام بملء جفونه، والله المستعان.
الدليل الثامن: ثبت تواترًا أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أخرج بني النضير من ديارهم لما في ذلك [2 أ] من المصلحة للمسلمين (1).
وقد قرن الله الخروج من الديار بقتل الأنفس، فإذا كانت مراعاة المصلحة مجوزة للإجبار لهم بمثل هذا الأمر العظيم فكيف لا يجوز إجبارهم بما هو دونه بمراحل في إضرار المجبرين، وفوقه بدرجات في الصلاح.
الدليل التاسع: حديث: "نزلوا الناس منازلهم" (2) وأدلة الكتاب والسنة والإجماع قاضية بأن منزلة المسلم أرفع من منزلة الكافر، فينبغي أن يعطى المسلم من المكاسب ما يليق بدرجته العلية، ويعطى الكافر منها ما يليق بمرتبته الدنية، فإذا قدرنا على ذلك وجب علينا ذلك التنزيل المأمور به، وإجبار من لم يمتثل من الكفار مقدمة للواجب، وكل مقدمة للواجب واجب، فإجبار من لم يمتثل واجب.
الدليل العاشر: أخرج البخاري (3) ومسلم (4) ..............................
_________
(1) انظر تفصيل ذلك في "فتح الباري" (7/ 329 - 334).
(2) أخرجه أبو داود رقم (4842).
عن ميمون بن أبي شبيب، أن عائشة مر بها سائل، فأعطته كسرة، ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة، فأقعدته، فأكل، فقيل لها في ذلك؟ فقالت: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أنزلوا الناس منازلهم". وهو حديث ضعيف. انظر "الضعيفة" (1894).
ولكن أخرج أبو داود في "السنن" رقم (4843) عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط". وهو حديث حسن.
(3) في صحيحه رقم (13).
(4) في صحيحه رقم (45).(10/5013)
والترمذي (1) [والنسائي (2)] (3) عن أنس مرفوعًا: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وهؤلاء المباشرون لهذه النجاسات قد جمعتنا وإياهم أخوة الإسلام، وإيماننًا لا ثبوت له حتى نحب لهم ما نحب لأنفسنا، ومجرد المحبة القلبية مع عدم إبلاغ الجهد في إيصال ما نحبه له به لا سيما مع قدرتنا عليه ليس هو الذي ندب إليه الشارع وحض عليه.
ولا شك في وجوب إزالة المانع عن الأمور التي لها أصل في الوجوب فكيف بالإيمان!
فإذا لم يحل بيننا وبين إيماننا إلا إجبار هؤلاء الملاعين على هذا الأمر فالخطب يسير، والحائل حقير، وكيف يصح من القادر على إنفاذ الأوامر أن يدعي أنه ممن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وهو يرى إخوانه المسلمين في حشوش (4) اليهود وشوارعهم، يلتقطون العذرات، ويجرون على شرف الإسلام الرفيع هذه المذلات.
الدليل الحادي عشر: ما استنبطه الأمير الحسين في الشفاء (5)، والإمام المهدي في الغيث (6) من حديث: "أخرجوا اليهود من الحجاز [5] " (7) قالا: لما قال أخرجوهم
_________
(1) في "السنن" رقم (2515).
(2) في "السنن" (8/ 125).
(3) زيادة من (أ).
(4) حشوش وحشون: بالفتح، النخل الناقص القصير، ليس بمسقي ولا معمور.
"القاموس" (ص 761).
(5) (3/ 569).
(6) تقدم تعريفه.
(7) أخرجه أحمد (1/ 195، 196) والبيهقي (9/ 208) والحميدي في مسنده (1/ 46 رقم 85) بإسناد صحيح.
من حديث أبي عبيدة بن الجراح قال: آخر ما تكلم به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "أخرجوا اليهود من الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب. وفي لفظ: أخرجوا يهود أهل الحجاز".
وانظر الرسالة رقم (14) من "عون القدير من فتاوى ورسائل ابن الأمير" بتحقيقي.(10/5014)
من جزيرة العرب (1) ثم قال: أخرجوهم من الحجاز عرفنا أن مقصوده بجزيرة العرب الحجاز فقط، ولا مخصص للحجاز عن سائر البلاد إلا أن رعاية المصلحة في إخراجهم منه أقوى، فوجب مراعاة المصلحة إذا كانت في تقريرهم أقوى منها في إخراجهم. ولا شك أن امتناعهم من القيام بهذه العهدة التي هي رأس المصالح قادح في جواز التقرير، قادح. قال في الغيث (2): هذا أقوى ما يحتج به أصحابنا في جواز تقريرهم في بلاد العرب. انتهى.
وهذا الاستدلال وإن كان فيه عندي نظر من وجوه ليس هذا محل إيرادها إلا أنه هو الدليل الذي بنيت عليه القناطر عند المتأخرين. وأما تخصيص الأمر بالإخراج بالحجاز فقد ذهب إليه جماعة من العلماء (3)، ونصره العلامة المغربي الحسين بن محمد صاحب البدر، وألف في ذلك رسالة نفيسة، ولكنه إذا نظر المنصف إلى أن آخر ما تكلم به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "أخرجوا اليهود من جزيرة العرب" (4) وأمعن النظر في المسألة الأصولية - أعني بناء العام على الخاص على جميع التقادير-، أو بناه على بعضها دون
_________
(1) أخرجه أحمد (1/ 222) والبخاري رقم (3053) ومسلم رقم (20/ 1637) من حديث ابن عباس قال: اشتد برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجعه يوم الخميس وأوصى عند موته بثلاث: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم" ونسيت الثالثة. والشك من سليمان الأحول.
* وأخرج البخاري في صحيحه رقم (3152) من حديث ابن عمر: أن عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز، وذكر يهود خيبر إلى أن قال: أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء.
(2) تقدم تعريفه.
(3) قال الحافظ في "الفتح" (6/ 171): الذي يمنع المشركون من سكناه منها الحجاز خاصة وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها. لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب، لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يمنعون منها مع أنها من جملة جزيرة العرب، وهو مذهب الجمهور، وعن الحنفية يجوز مطلقًا إلا المسجد، وعن مالك يجوز دخولهم الحرم للتجارة، وقال الشافعي: لا يدخلون الحرم أصلًا إلا بإذن الإمام لمصلحة المسلمين خاصة.
(4) تقدم تخريجه.(10/5015)
بعض. وتأمل ما ثبت في الحديث بلفظ: "لا يجتمع دينان" (1)، "لا يبق دينان بأرض العرب" (2). "لا تجتمع قبلتان" (3). "المسلم والكافر لا تتراءى ناراهما" (4) عرف العلة [2 ب] التي هي الباعثة على الأمر بالإخراج، وعرف الزيادة التي يجب قبولها عند كمال شروطها بالاتفاق في أي الجانبين هي، وتبين له لزوم الإلحاق بالعلة المنصوصة، ولاح له أن مفهوم حديث "أخرجوا اليهود من الحجاز" لا يعارض منطوق ما في الصحيحين وتقرير الأدلة على وجه يلوح به رجحان وجوب (5) إخراجهم من جميع جزيرة العرب
_________
(1) أخرجه أحمد (6/ 275).
من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: آخر ما عهد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن قال: "لا يترك بجزيرة العرب دينان". وهو حديث صحيح لغيره.
(2) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 892).
(3) أخرجه أحمد (1/ 223) وأبو داود رقم (3032). من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا تصلح قبلتان في أرض، وليس على مسلم جزية". وهو حديث ضعيف.
(4) أخرجه أبو داود رقم (2645). من حديث جرير بن عبد الله أن رسول الله بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأمر له بنصف العقل وقال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا: يا رسول الله: ولم؟ قال: لا تتراءى ناراهما".
وهو حديث صحيح دون جملة [العقل].
(5) قال الشوكاني في "نيل الأوطار" (5/ 241): هذا الحديث الذي فيه بالإخراج من الحجاز فيه الأمر بإخراج أهل نجران كما وقع في حديث - ابن عباس- وليس نجران من الحجاز، فلو كان لفظ الحجاز مخصصًا للفظ جزيرة العرب على انفراده، أو دالًّا على أن المراد بجزيرة العرب الحجاز فقط، لكان في ذلك إهمال لبعض الحديث، وإعمال لبعض، وإنه باطل. وأيضًا غاية ما في حديث أبي عبيدة الذي صرح فيه بلفظ: الحجاز. أن مفهومه معارض لمنطوق ما في حديث ابن عباس المصرح فيه بلفظ جزيرة العرب، والمفهوم لا يقوي على معارضة المنطوق، فكيف يرجح عليه؟ فإن قلت: فهل يخصص لفظ جزيرة العرب المنزل منزلة العام لما له من الإجزاء بلفظ الحجاز عند من جوز التخصيص بالمفهوم.
قلت: هذا المفهوم من مفاهيم اللقب وهو غير معمول به عند المحققين من أئمة الأصول حتى قيل: إنه لم يقل به إلا الدقاق، وقد تقرر عند فحول أهل الأصول: أن ما كان من هذا القبيل يجعله من قبيل التنصيص على بعض الأفراد لا من قبيل التخصيص إلا عند أبي ثور.
* أهل الحجاز: الحجاز: مكة، والمدينة، والطائف، ومخاليفها؛ لأنها بين نجد وتهامة، أو بين نجد والسراة، أو: لأنها احتجزت بالحرار الخمس، حرة بني سليم، وواقم، وليلى، وشوران، والنار.
"القاموس" (ص 653).(10/5016)
محتاج إلى بسط طويل يخرجنا عن المقصد الذي نحن بصدده.
والدليل الثاني عشر: أن ملاحظة المسلمين إذا لم تتم إلا بإتعاب النفوس، وتقحم المشاق فليس الأمر بذلك بدعة لما ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من أمر المهاجرين والأنصار بحفر الخندق. وعزة الإسلام التي هي رأس المصالح الدينية إذ لم تتم إلا بإجبار اليهود فهي أولى بالجواز من حفر الخندق.
فإن قلت: إذا كانت المصلحة موجبة لمثل هذا فلم لا يكون تقرير المسلمين على ذلك من هذا القبيل.
قلت: في التقرير مفسدة عظمية، والمصالح مطرحة بجنب المفاسد. وقد صرح أئمة الأصول كابن الحاجب في المختصر (1)، والسبكي في جمع الجوامع (2)، وابن الإمام في الغاية (3) وغيرهم أن المناسبة (4) تنخرم بلزوم مفسدة [6] راجحة أو مساوية، ولم يخالف
_________
(1) (2/ 239).
(2) (2/ 274).
(3) تقدم التعريف به.
(4) المناسبة ويعبر عنها بالإخالة وبالمصلحة وبالاستدلال وبرعاية المقاصد ويسمى استخراجها تخريج المناط وهي عمدة كتاب القياس ومحل غموضه ووضوحه والمناسبة في اللغة الملائمة والمناسب الملائم.
انظر تفصيل ذلك في "البحر المحيط" (5/ 220).
قال في "البحر المحيط" (5/ 220): اختلفوا هل تنخرم المناسبة بالمعارضة التي تدل على وجود مفسدة أو فوات مصلحة تساوي المصلحة أو ترجح عليها على قولين:
1 - أنها تنخرم وإليه ذهب الأكثرون واختاره الصيدلاني وابن الحاجب لأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح ولأن المناسبة أمر عرفي والمصلحة إذا عارضها ما يساويها لم تعد عند أهل العرف مصلحة.
2 - أنها لا تنخرم واختاره الرازي في "المحصول" (5/ 168) والبيضاوي في "المنهاج" (2/ 691).(10/5017)
في ذلك إلى الرازي (1) كما حكاه في جمع الجوامع (2) وشرحه، وهو البعض الذي أشار إليه ابن الإمام في شرح الغاية (3)، وأنت تعلم أنه لا مفسدة في أمر اليهود بذلك.
الدليل الثالث عشر: قد تواترت أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا شك أن أمر المسلمين بالكف عن ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما واجبان. فإذا لم يتم هذا الواجب إلا بإجبار اليهود فما لا يتم الواجب إلا به واجب كوجوبه على ما تقرر في الأصول (4) في مقدمة الواجب.
الدليل الرابع عشر: أن حفظ الدين [أحد] (5) الضرورات الخمس (6) المعروفة في
_________
(1) في "المحصول" (5/ 168).
(2) (2/ 274).
(3) تقدم التعريف به.
(4) انظر "الكوكب المنير" (1/ 357).
(5) في (ب): من.
(6) وهي:
1 - حفظ النفس بشرعية القصاص لقوله تعالى: " ولكم في القصاص حياة} [البقرة: 179].
2 - حفظ المال بأمرين: أ- إيجاب الضمان على المتعدي فإن المال قوام العيش.
ب- القطع بالسرقة: لقوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" [المائدة: 38]. لقوله تعالى: "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " [البقرة: 188].
3 - حفظ النسل بتحريم الزنى وإيجاب العقوبة عليه بالحد. قال تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة" [النور: 2].
4 - حفظ الدين بشرعية القتل بالردة والقتال للكفار.
5 - حفظ العقل بشرعية الحد على شرب المسكر فإن العقل قوام كل فعل تتعلق به المصلحة فاختلاله يؤدي إلى مفاسد عظيمة.
انظر: "البحر المحيط" (5/ 208)، "إرشاد الفحول" (ص 716).(10/5018)
الأصول، وهو أيضًا القسم الأول من أقسام المناسب وأعلاه في إفادة الظن وأقواه، ولا يحفظ دين أولئك المسلمين إلا بمنعهم من ذلك، وأما تقريرهم على ذلك فمناسب ملغى (1) ومعارض بمفاسد، وأمر اليهود بعد تسليم فقد الأدلة مناسب مرسل ملائم (2) إن لم يدع أنه ضروري، فعلى فرض [أنه لا] (3) دليل في المقام هذا الدليل فيه كفاية عند من له إلمام بالأصول، وتدرب [في طرائق] (4) الفحول.
الدليل الخامس عشر: هب أن لا دليل يدل على الحتم ففي حديث: "لأن يهدي الله بك رجلًا" (5) دليل على جواز الإجبار، بل على الندب لتحقق الإثابة على الفعل، وأمن المخافة من العقاب فيه لعدم المانع.
والنفوس الشريفة لا تزال راغبة في اقتناص شوارد [الأجور] (6)، مشجعة على قطع ما يحول بينها وبينه، باذلة الوسع في دركه، وأنتم بحمد الله ...................................
_________
(1) ما علم من إلغاء الشرع له كما قال بعضهم بوجوب الصوم ابتداء في كفارة الملك الذي واقع في رمضان؛ لأن القصد منها الانزجار وهو لا ينزجر بالعتق فهذا وإن كان قياسًا لكن الشرع ألغاه حيث أوجب الكفارة مرتبة من غير فصل بين المكلفين فالقول به مخالف للنص فكان باطلًا.
انظر: "إرشاد الفحول" (ص 721)، "الكوكب المنير" (4/ 180).
(2) وهو ما لا يعلم اعتباره ولا إلغاؤه، وهو الذي لا يشهد له أصل معين من أصول الشريعة بالاعتبار وهو المسمى بالمصالح المرسلة. وقد اشتهر انفراد المالكية بالقول به. قال الزركشي في "البحر المحيط" (5/ 215): وليس كذلك فإن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك.
انظر: "إرشاد الفحول" (ص 721 - 722).
(3) في (ب): ألا.
(4) في (ب): بطرائق.
(5) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (3/ 598) من حديث أبي رافع قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يا علي: لأن يهدي الله على يديك رجلًا خير لك مما طلعت عليه الشمس".
(6) في (ب) الأمور.(10/5019)
[ممن] (1) لا يدرك شأوه، ولا يشق غباره، فقد سبقتم إلى مضمار كل مكرمة سبقًا أتبعتم به من رام اللحوق فما باراكم في هذا الحلبة أحد إلا جلب على نفسه عار القصور، ودعا [3 أ] إلى تسميته بالتبكيت واللطيم بين الجمهور، وفي هذا المقدار من الأدلة كفاية، فإن صادف القبول فبها ونعمت وإن لم يلاحظ بعين الرضا أفضلتم بالإفادة بما يعرف به القاصر قصور ما بناه من بيوت هذه الأدلة، وإشادة. فمنكم يستفاد وعليكم يعول النقاد، وأهدي التمر إلى هجر، وإن كان طليعة من طلائع الحماقة فربما كانت هذه الأحموقة محمودة عند الله تعالى.
[كمل من تحرير جامعه محمد بن علي الشوكاني حفظ الله به الدين، وأقام به عمود الدين، وكان التحرير والجمع في يوم الجمعة شهر القعدة سنة 1205. خمس ومائتين وألف عام. وصليت على نبينا محمد وآله وصحبه آمين] (2).
[حرره جامعه في يوم الجمعة في شهر ذي القعدة سنة 1205. وأقول كتبه من خط مؤلفه حفظه الله، وتم زبره ليلة الأربعاء وقت العشاء لعلها ليلة الثلاثين من شهر محرم الحرام افتتاح سنة 1209 لمحروس مدينة صنعاء المحمية بالله تعالى كتبه الفقير إلى الله عبد الرحمن بن أحمد البهكلي] (3).
_________
(1) في (أ) من.
(2) زيادة من (أ).
(3) زيادة من (ب).(10/5020)
توضيح وجوه الاختلال في إزالة الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
على صفحة الغلاف: "هذا الجواب لبعض علماء صنعاء حرره لما وقف على الرسالة المتقدمة، وسيأتي الجواب عن هذا الجواب إن شاء الله.".(10/5021)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: توضيح وجوه الاختلال في إزالة الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال.
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم حمدًا لمن تفرد بالكلام وعز جلاله فلا نقص يجوز عليه ولا اختلال
4 - آخر الرسالة: والمسارعة إلى الخيرات وإلى مضاعفة الحسنات والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل وتمت ثم بهذا الجواب.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 8 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا ما عدا الصفحة الأولى فعدد أسطرها 18 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(10/5023)
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدًا لمن تفرد بالكلام، وعز جلاله فلا نقص يجوز عليه ولا اختلال، والصلاة والسلام على صفيه من خلقه، من جميع حميد الخلال، وعلى آله وأصحابه المهتدين بهديه في الأقوال والأفعال، وبعد:
فإني وقفت على رسالة (1) لبعض علماء الحصن، جعلها جوابًا على مذاكرة دارت بينه وبين بعض علماء عصره الأخيار، سماها (حل الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال)، وهي من النفاسة بمحل إلا أن بعض أبحاثها غير خال عن زلل أو خلل، كما هو شأن غير الخلاق العليم المفصح عنه الذكر الحكيم بقوله: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} (2)، ولما كان الدين النصيحة كما ثبت عن المختار في صحيح الأخبار، كما في حديث جرير عند مسلم (3) وغيره (4) بلفظ: "الدين النصيحة لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" هكذا لفظه أو معناه، بعثني على التنبيه على تلك الأبحاث، عملًا بمقتضى ذلك الحديث وغيره.
قال بعض شراح الحديث: إن الراوي إذا بايع أحدًا في سلعة، ورضي له بدون الثمن المعروف يقول له: إن ثمن سلعتك كذا، فرحم الله من أمحض أخاه المسلم النصح، ولم يسكت عما فيه زلل، جعلنا الله ممن اقتدى بصالح السلف بحوله وقوته.
ولنقدم مقدمة تتضمن آثارًا عن صالحي السلف، قاضية بتورعهم فيما لا نص عليه نبوي، ما ذاك إلا لخطر الأمر، وأن الإحجام خير من الإقدام.
_________
(1) الرسالة رقم (167).
(2) [النساء: 82].
(3) في صحيحه رقم (55).
(4) كالنسائي (7/ 156) وأبو داود رقم (4944) والترمذي رقم (1926) وقال: حديث حسن صحيح. من حديث تميم الداري. وهو حديث صحيح.(10/5027)
روي عن ابن مسعود وحذيفة أنهما كانا جالسين، فجاء رجل، فسألهما عن شيء فقال ابن مسعود لحذيفة: لأي شيء ترى تسألوني عن هذا؟ قال: يعلمونه ثم يتركونه، فأقبل إليه ابن مسعود وقال: ما سألتمونا عن شيء من كتاب الله نعلمه إلا أخبرناكم به، أو سنة من نبي الله [1] إلا أخبرناكم، ولا طاقة لنا بما أحدثتم.
وقال عطاء: لما سئل عن شيء فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تقول برأيك؟ قال: إني لأستحي من الله أن يدان في الأرض برأيي. وكان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم في ذلك سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، فقال: أتاني كذا وكذا، فإن لم يجد عندهم سنة، جمع رءوس الناس وخيارهم، فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: وأبردها على الكبد إذا سئلت عما لا أعم أن أقول: الله أعلم (1).
وجاء رجل إلى ابن عمر يسأله عن شيء فقال: لا علم لي، ثم التفت بعد أن قفى الرجل، فقال: نعم، قال ابن عمر: سئل عما لا يعلم فقال: لا علم لي؛ يعني نفسه (2).
قال ابن عباس لما رأى طاوسًا يصلي ركعتين بعد العصر، فقال ابن عباس: اتركهما، فقال طاوس: إنما نهى عنها أن تتخذ سلمًا، قال ابن عباس: فإنه قد نهى عنها فلا أدري أتعذب عليها أم تؤجر؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (3).
_________
(1) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" رقم (1569).
(2) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" رقم (1566) بسند صحيح.
(3) [الأحزاب: 36].
أخرجه ابن كثير في تفسيره (6/ 423) وابن أبي حاتم في تفسيره (9/ 3134 - 3135 رقم 17688)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 610) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وعبد الرزاق.
فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هاهنا، ولا رأي، ولا قول.(10/5028)
وكم لهذه الآثار من نظائر عن السلف من التحرج عن الإقدام، وإنما ذكرنا هذه النبذة ليقتدي بهم العالم العامل، ويهتدي بهديهم، ولنعد إلى ما نحن بصدده.
قال - عافاه الله-: قلتم: هل من دليل يدل على إجبار اليهود على التقاط الأزبال؟
فأقول: لم أقف قبل رقم هذه الأحرف على كلام في ذلك لأحد من العلماء، وقد خطر بالبال حال زبر هذه الأحرف خمسة عشر (1) دليلًا أقول: هذا اعتراف منه بعدم النص لأحد من العلماء، إنما هذه الأدلة من مستنبطاته، مع أنه نقل في غصون الأدلة ما يقضي الاستناد إلى أقوال العلماء، الذين استظهر بكلامهم كما ستعرفه.
قال: الدليل الأول: قال الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2) وذكر كلامًا طويلًا حاصله دلالة الآية أن إعطاء الجزية غير كاف لتقييده بالصغار وثباته، واستظهر بكلام الكشاف (3) والسعد على ذلك، وأن متعلقها الكل الإفرادي، فلا بد من الجزية من كل فرد صاغرًا لا الكل المجموعي، وأن الصغار هو الذلة والإهانة.
ثم قرر أن الصغار دائم في جميع الأوقات. ونقل الكلام المعروف لأهل الأصول، وكل هذا ديدنه حول ما يريده من إجبار اليهود على التقاط الأزبال.
وأقول: لا يشك ذو مسكة ودربة أن الآية الكريمة تدل بمنطوقها على أن اليهود يقاتلون حتى يعطوا الجزية، وبعد إعطاء الجزية يكف عنهم، ثم قيد هذه الجملة بقوله [2]: {وهم صاغرون} والمعروف في العربية أن الحال قيد في عاملها، وصدق
_________
(1) انظرها في الرسالة رقم (166).
(2) [التوبة: 29].
(3) (3/ 32).(10/5029)
اسم الفاعل من بعد تقضيه على من أطلق عليه حقيقة كما استظهر به لا يفيده فيما يريده من الاستدلال؛ فإن الذمي إذا أعطى الجزية وهو صاغر فقال: صدق عليه الصغار، ودام عليه بإعطاء الجزية، وما صحبها من الصغار، فلا اشتراط أن يخلفه صغار آخر من التقاط الأزبال، أو نحوه، كما أراده، ثم إن الصغار هو الذل كما قاله المفسرون، وأئمة اللغة. وقال في القاموس (1) الصغر كعنب والصغارة بالفتح خلاف العظم الأولى في الحرم، والثانية في القدر، وصغر ككرم وفرح صغارًا وصغر كعنب، وصغر محركة، وصغرانًا بالضم انتهى المراد.
وقال خير الأئمة (2) المقدم في التفسير على الأئمة في تفسير الصغار أن تقبض الجزية من اليهودي، وتوجئ عنقه، وكذا عن غيره (3) من المفسرين نحوه لم يذكر خصوص هذا الالتقاط. وقال الإمام المهدي عليه السلام في البحر الزخار (4): مسألة: ويلزمهم إصغارهم عند العطاء لقوله: {وهم صاغرون} قيل: معناه أن يطأطئ الذمي رأسه، ونصب الجزية، وكف المستوفي بلحيته إن كانت، ويضرب بيده في لهازمه.
وقيل: أن يعطي الجزية قائمًا، والمستوفي قاعدًا، وقيل: يعطيها باليمين، والمستوفي يأخذها بالشمال، وهذه الكيفيات مستحبة، إذ لا يجب من العقوبات إلا الحدود.
وقيل: معناه إجراء أحكام الإسلام عليهم، وامتثال ما قضى به حكامنا انتهى.
نعم، وكل هذا لا يدل على خصوص المدعى من الأخبار على الالتقاط لا لغة ولا شرعًا، وما كأنه أراد إلا أن التقاط شيء ما يتم معنى الآية إلا به، فإن أراد أن الآية عموم، وأن المراد كل صغار حتى يدخل الالتقاط في الجملة فأين صيغة العموم؟ وإن أراد أن الصغار المراد في الآية هو الالتقاط فلا بد من نقل عليه إما لغوي أو شرعي، وأما ما
_________
(1) (ص 545).
(2) انظر "تفسير القرآن العظيم" (4/ 133)، "جامع البيان" (6/ جـ10/ 110).
(3) انظر "الجامع لأحكام القرآن" (8/ 115).
(4) (5/ 459).(10/5030)
أدلى به وشنع من تخصيص المسلمين بهذه الرذيلة فغير محل النزاع.
ونقول له: هل أمر النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالتقاط الأزبال؟ وهل كتب به العهود؟ وهل أمر به الصحابة والخلفاء من بعده أم كان يكتفي منهم بالجزية لا سواها؟ ولم يؤمروا برفع القمامات وإزالة الأوساخ، وقد كانت الآية نزلت ولم يفهم منها خير الخلائق، ولا أهل بيته وأصحابه ما فهمه - عافاه الله منها-، وقد جاء في كلامه بملازمة عقلية ظاهرها عدم الانفكاك حيث قال: إن إعفاء اليهود من ذلك يستلزم إلصاق هذه العارة بالمسلمين، ولا يخفى بطلان الملازمة، فإن إعفاء اليهود ممكن مع إعفاء المسلمين، والعدول إلى إيقاد الحطب أو اتخاذ ما بقي فلا [3] ملازمة، فلا يخفى ما في كلامه من التهافت.
ثم قال: الدليل الثاني: قال الله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (1) وقال: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا} (2).
ونقل كلام الكشاف (3)، لكنه لا يدل على خصوص مدعاه لا بالنص ولا بغيره.
وأقول: أول ما نورده عليه الاستفسار هل الآية إخبار من الله تعالى بإنزال العقوبة بأعداء الدين، بسبب خذلهم خلص المؤمنين، وتسلية لهم عما نالهم من أذاهم، لئلا يحزنوا ولا تجرح صدورهم؟ بأن العقوبة لاصقة بهم مكافأة على ما فعلوه بضرب الذلة التي من جملتها إعطاء الجزية والفقر والمسكنة.
قال القاضي في تفسيره: فإنك تجد أكثر اليهود فقراء ومساكين، وإذا كان إخبارًا كما هو ظاهره فلا تكليف به على أحد، بل لو وقعت تلك العقوبة من غير المسلمين لما كانوا مخلين بواجب تركوه، فكيف يقال إنه يجب إجبار اليهود على ذلك الالتقاط
_________
(1) [البقرة: 61].
(2) [آل عمران: 114].
(3) (1/ 276 و610).(10/5031)
لتحصيل ما دلت عليه الآية! وهل كانت زمن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- خالية على المدلول حتى اخترع في الزمن الأخير أن توقد المستحمات بالأزبال؟ إن هذا لشيء عجاب.
وإن قال: إن الآية خبر في معنى الأمر (1) فباطل بمثل ما بطل به الأول؛ لأنه لم يأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ولا أصحابُه، اليهودَ بالالتقاط تحصيلًا لما دلت عليه الآية، وإلا كانوا غير ممتثلين، فإن قال: هو عام لكل ذلة وهذا من الجملة فقد حصل الإخلال، وإن قال هو خاص فأين دليله من لغة أو شرع.
وقد ركب قياسًا منطقيًّا من الشكل الأول البدهي الإنتاج، لكنه مختل وقد أخذه مما استنبطه من الآية فقال: إجبارهم على الالتقاط محصل للذلة وكل محصل للذلة جائز.
فإجبارهم على الالتقاط جائز.
فيقال له أولًا: إن أردت أنا مكلفون بما دلت عليه الآية فإنه خبر في معنى الأمر، فالكبرى ممنوعة، بل يجب إبدالها بقوله: وكل محصل للذلة واجب، فينسخ أن إجبارهم على الالتقاط واجب؛ لأن الأمر للوجوب لا للجواز كما عرف في الأصول عند الجمهور، ولا يخفى أنها إن سلمت الكبرى، وهو الحتم على كل مكلف، بل ما يحصل به الذلة لليهود من مأكل، ومشرب، وملبس، ومسكن على كل حال، وفي أي زمان من كل فرد مع اختلاف الأحوال، والأشخاص، والأزمان والأمكنة، والأعراف.
ولهذه الكلية لا تنعقد لهم ذمة، ولا يتم لهم صلح، كيف وقد ثبتت مصالحتهم من سالف الأعصار في كل الأقطار، وثبتت معاملتهم لخير القرون في البيوعات وغيرها بما يطول شرحه، حتى تأجير المسلمين منهم، وقد مات خير خلق الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وسلم [4] ودرعه مرهونة في آصع من شعير كما ثبت في الصحيح (2).
_________
(1) انظر الرسالة رقم (168).
(2) البخاري في صحيحه رقم (2066) من حديث أنس.(10/5032)
ولم يناف عزة الإسلام، وإهانة الكفر وأهله. وقد لزم مما قرره المجيب في دليله هذا الباطل وما لزم عنه الباطل فباطل.
ويقال له أيضًا: كبرى القياس ممنوعة، وسند المنع مصادمتها للنصوص الصريحة إذ يلزم من تلك الكلية نهب أموالهم، وسفك دمائهم، وسبي ذراريهم، ومنعهم طيبات أموالهم من مأكل ومشرب وغير ذلك؛ إذ هو محصل للذلة، واللازم باطل فالملزوم مثله.
ولنا أن نعارض ذلك القياس بقياس من الشكل الأول بأن نقول: إجبارهم على الالتقاط غير ما دون فيه من الشارع، وكل ما لم يأذن به الشارع حرام، فإجبارهم على الالتقاط حرام، ثم ذكر قياسين آخرين ظاهري الاختلال بمثل ما ظهر به الأول، وذكر في سند كلية الكبرى دليلًا من الكتاب، وهو قوله تعالى: {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم} (1) الآية. ويريد أن سوء العذاب عام، وأنه يدخل تحته ما استنبطه من الإجبار على الالتقاط، وهو مبني على أنا مكلفون بما أخبر الله به من إنزال العقوبة بهم، وفيه ما في الأول فلا نكرره (2).
ثم قال: الدليل الثالث: قال الله تعالى: {لهم في الدنيا خزي} (3) وفسر الآية بما هو يدندن حوله، وإلا فالتفاسير مروية عن السلف من الجزية، والسبي، والقتل إن لم يكن توقيفًا، فما صدق عليه الخزي كافٍ، وأي خزي أعظم من أداء الجزية، والذلة، وفتح المدائن، والقتل والسبي! فما الدليل على دخول الالتقاط إن أراد العموم، فلا صيغة، وما الدليل على أن التنكير هنا فيه معنى العموم؟
وجعله التنكير للتعظيم والتنكير (4)، وأن لا شيء أبلغ في الخزي مما نحن فيه غير مسلم؛
_________
(1) [الأعراف: 167].
(2) انظر رد الشوكاني في الرسالة رقم (168).
(3) [البقرة: 114].
(4) لعلها التكثير.(10/5033)
فإن القتل، والسبي، والتمثيل، والتعذيب أفظع وأفظع، ثم إنه وإن يسلم أن المراد من الخزي ما قاله فمن أين لنا التكليف لما دلت عليه الآية؟ إذ لا صيغة أمر حتى يدخل الإجبار على الالتقاط، ويجعله دليلًا لما سأل عنه المستفهم بقوله: هل من دليل على الإجبار؟ فينظر في ذلك.
ثم قال: الدليل الرابع: قول الله تعالى مخاطبًا لرسوله: {واغلظ عليهم} (1) يعني الكفار؛ أي جنس الكفار، وكل كافر، وخطابه خطاب لأمته. واستنبط من الآية أن كل فرد من المسلمين مأمور بالإغلاظ، وإذا كان كذلك فكيف يتردد في جواز الإجبار؟ إلخ ... كلامه وفي كلامه نظر لأنه إن أراد أن هذا هو الإغلاظ لغة فلا نعرفه في اللغة.
قال في القاموس (2): الغلظة مثلثة، والغلاظة بالكسر، وكعنب: ضد الرقة، والفعل ككرم وضرب فهو غليظ وغلاظ، كغراب. والغلظ بالفتح الأرض الخشنة، وأغلظ نزل بها، والثواب وجده غليظًا واشتراه غليظًا كذلك، والقول خشن وغلظ عليه تغليظًا جعله غليظًا، وأغلظ له في القول لا غير انتهى.
ولا يخفى [5] اختصاص أغلظ بالقول، وإن أراد أنه عموم فلا صيغة عموم؛ إذ الأفعال مطلقات لا عمومات، وإن أراد قياسًا صحيحًا فليبينه بشروطه المعتبرة.
ثم قال: الدليل الخامس: ما وصف الله به أهل الإسلام من قوله: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} (3).
وأتى بكلام منمق مسجع يروق السامع، ويأخذ من القلوب بالمجامع، حاصله أن الإيمان شأنه العزة والكفر بضده، فكيف يقر المسلمون على ما فيهم من العزة على حمل
_________
(1) [التوبة: 73]، [التحريم: 9].
(2) "القاموس المحيط" (ص 900).
(3) [المائدة: 54].(10/5034)
الأزبال، وهذا وجه غير وجيه باعتبار ما سأل عنه المستفهم؛ لأنه إنما سأل عن جواز الإجبار إذا لم يحصل امتثال، ولم يقل إني أنزه اليهود عن هذه الرذيلة، وأخص لها أهل الإسلام إهانة مني لهم، وإعزازًا لأعداء الله، وتعظيمًا لهم، فتنزه أهل الإيمان عن الرذائل، لما يشك في حسنها. قل: فالجواب ليس بمطابق للسؤال.
ثم قال: الدليل السادس: أورد فيه حديث: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه" (1). وديدن حول ما أراد من إجبار اليهود على ذلك المراد، ولعمري أن الحديث لا يدل على ذلك، مع تسليم أنه خبر في معنى الأمر كما قرره في كلامه، غايته أنه أمر المسلمين بالعلو، والتنزه عن الرذائل، فمن أين لنا الدليل من الحديث على إجبار اليهود؟ وكيف المأخذ؟ هل مطابقة أو تضمن، أو التزام مع أنه إنما قال لعله خبر في معنى الأمر ترجيًّا: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (2).
ثم قال: الدليل السابع: وذكر حديثًا أخرجه مسلم بلفظ: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه" (3).
ومراده أن أهل الإسلام مأمورون بذلك لما فيه من ظهور العزة، يقال عليه: نعم مأمورون بذلك، فأين الدليل فيه على الإجبار على الالتقاط الذي هو المسئول عنه، وهو محل النزاع؟ فالله المستعان كيف جعل الأمر باضطرار اليهود إلى أضيق الطريق دليلًا على إجبارهم على التقاط الأزبال! فهذا الاستدلال لم يخطر لأحد على بال.
إن كان من النص فالمنصوص إنما هو الاضطرار، وإن كان قياسًا فهو محتاج إلى التصحيح والبيان، وأما التوجع على المسلمين من تلك الخصيلة الشنعاء فأمر وراء الجواب وغير داخل في محل النزاع.
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) [الأحزاب: 4].
(3) تقدم تخريجه.(10/5035)
ثم قال: الدليل الثامن: إجبار بني النضير على الخروج ومراعاة المصلحة هذه حكاية صحيحة منصوصة، لكن أثبتوا لنا وجه الدليل منها، هل بالنص أم بالقياس؟ وهل لعلة مستنبطة أم منصوصة؟ قولكم: فإذا كانت مراعاة المصلحة مجوزة للإجبار لم يمثل هذا الأمر العظيم أي الخروج من ديارهم فكيف لا يجوز إجبارهم بما هو دونه بمراحل في إصرار المجبرين، وفوقه بدرجات في الصلاح؟ يقال عليه [6] يلزم على كلامكم جواز إجبارهم على كل ما هو دون الخروج من الديار المساوي للقتل، ولعل هذا لا يقوله أحد للزومه الباطل كما أشير إليه.
ثم قال: الدليل التاسع: حديث: "نزلوا الناس منازلهم" (1) وطول في ذلك، وأراد أن فيه دليلًا على مقصوده من توزيع الحرف الدنية على الكفار، والحرف الرفيعة على المؤمنين.
ولا دليل فيه على ذلك؛ فقد كانت التجارة أشرف المكاسب، وكم من كافر كان متعلقًا بها وغيرها من المهن، وإن كانت دنية كم من مسلم تلبس بها، وهذا مستمر من عصر النبوة إلى زمننا؛ حتى صار مما يدعى فيه الإجماع، ولم يقع التوزيع من أحد من السلف، ولا من غيرهم، ولم يعلمهم أخلوا بواجب تركوه حيث لم يوزعوا الحرف، فكيف يجعل من مقدمة الواجب! وكل مقدمة الواجب واجب، فإجبارهم من لم يمتثل واجب.
فنقول: الصغرى ممنوعة وسند المنع عدم دلالة حديث: "نزلوا الناس منازلهم" (2) عليه، ولا على وجوبه، مع أنه على تسليم دلالته وجوب تنزيل الناس منازلهم في الحرف هو ممكن بدون إجبار اليهود بالعدول إلى الحطب أو غيره كما قدمناه.
ثم قال: الدليل العاشر: حديث أنس مرفوعًا أخرجه الشيخان (3) والترمذي والنسائي: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ومراده أنا لا نرضى
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.(10/5036)
لإخواننا بهذه المهنة الخبيثة، وأنه لا يتم الإيمان لنا إلا بإجبار اليهود، هذا معنى كلامه.
وأقول: هذا لا يصلح جوابًا عما استفهم السائل عنه من الإجبار، ولا يشك عاقل أن هذه قصة سعى المسارعة إليها، وأما الإجبار فهو محل النزاع.
ثم قال: الدليل الحادي عشر: ونقل فيه كلام الشفاء (1) أو معناه، وما في الغيث وقال آخر: إنه الدليل الذي بنيت عليه القناطر، وأشار إلى ما اعترض به في ضوء النهار (2) من أنه اجتهاد في مقابلة النصوص في شرح قول الإمام عليه السلام: ولا يسكنون في غير خططهم إلا بإذن المسلمين لمصلحة، وذكر الأحاديث التي ذكرها صاحب ضوء النهار (3)، وترجيحه إخراج اليهود من جزيرة العرب بمقتضى الأدلة، وهو غير البحث.
وأقول: لو عول على نقل كلامهم فيه، كما فعل غيره من دون تعرض لتلك الاستنباطات الواهية لكان أحسن، أو قال: إن عقد الأئمة الصلح لهم كان بشرط قبول ما أراده المسلمون منهم من إزالة الأوساخ، والقيام بالمصالح الدنية بالآخرة أو غيرها، على حسب ما يعتادونه كان للكلام وجهًا وجهيا، وأنهم لم يعقد والصلح معهم على أداء الجزية فقط، بل مع ما ذكر، فتأمل ترشد.
ثم قال: الدليل الثاني عشر [7]: إن ملاحظة (4) المسلمين إذا لم تتم إلا بإتعاب النفوس، وتقحم المشاق، فليس الأمر بذلك بدعة، وعزة الإسلام التي هي رأس المصالح الدينية إذا لم تتم بإجبار اليهود فهي أولى بالجواز من حفر الخندق، يريد من المهاجرين والأنصار.
يقال له: نعم هذه من أعظم الملاحظة لعزة الإسلام، لكنها لا تصلح ردًّا على السائل؛ فإن العزة تتم بدون الإجبار بإعفاء الجميع، وإيقاد الحطب أو نحوه كما مر.
_________
(1) (3/ 567 - 568).
(2) (4/ 2573).
(3) (4/ 2573).
(4) كذا في المخطوط ولعلها (مصالح).(10/5037)
كذلك يقال في الرد على الدليل الثالث عشر.
ثم قال: الدليل الرابع عشر وهو الذي عليه التعويل: إن حفظ الدين (1) من الضرورات الخمس، ولا يتم حفظ دين هؤلاء المسلمين إلا بإجبار اليهود.
وأقول: محفوظ لغير إجبار اليهود من ترك المستخم الذي هو غير واجب أو نفاد غير الملتقط المعهود وجعله إجبار اليهود من مناسب المرسل الملائم غير الظاهر؛ لأنهم ذكروا في مثاله اعتبار عين العلة (2) في جنس الحكم، كاعتبار الصغر في الولاية الشاملة للمال والنكاح في تعليل ولاية المال بالصغر، الثابت بالإجماع فأين المنظر من المنظرية؟ فهو محتاج إلى تحقيق، فلم تظهر الكفاية، ومع ظهوره فهو مغني عن التكلفات الواهية لتلك الاستنباطات، وقد اعتبروه في مسائل عدة عند القائلين به. وأما الاستدلال بتلك الاستنباطات فغير ظاهر.
ثم قال: الدليل الخامس عشر: هب أن لا دليل على جواز الإجبار إلخ.
هذه منه تسليم تنزل، وإلا فهو جازم بالوجوب، إلا أنه ناقضه بجعله ذلك للندب والترغيب، ومع هذا فما أفاد في هذا الجواب عما سئل عنه أنه هل يجوز الإجبار مع الامتناع، وأما الترغيب فهو مسلك آخر، وفضيلة لا تنكر، ولا ينكر السائل فضلها وإن تنزه المسلمين عن ذلك، والإنكار عليهم ملابسة تلك القاذورات الثابتة نجاستها بالضرورة الدينية، والأحاديث المتواترة العلية من المهمات، والمسارعة إلى الخيرات، وإلى مضاعفة الحسنات. والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل. وتمت تم بهذا الجواب.
_________
(1) انظر الرسالة رقم (166).
(2) في حاشية المخطوط: المذكور في الأصول أن الملائم المرسل ما اعتبر عينه في جنس الحكم، أو جنسه في غير الحكم، أو جنسه في جنس الحكم، وكلام المعترض يسعى بقصره على الأول، وصدوره من مثله عجيب، ولم يذكر المعترض هذا في جوابه، وكان اكتفى لظهوره عن ذكره كاتبه.(10/5038)
الإبطال لدعوى الاختلال في رسالة إجبار اليهود على التقاط الأزبال
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(10/5039)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: الإبطال لدعوى الاختلال في رسالة إجبار اليهود على التقاط الأزبال.
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الحقير، أسير التقصير، محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما، أسألك اللهم العصمة عن مجبة القيل والقال.
4 - آخر الرسالة: أقول: أما من له فهم وإنصاف فما أظنه يلتبس عليه الصواب.
كمل تحرير مؤلفه حفظه الله في يوم الجمعة شهر محرم الحرام 1206 هـ.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 10 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرًا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 8 أسطر.
8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(10/5041)
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الحقير، أسير التقصير، محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -، أسألك اللهم العصمة عن مجبة القيل والقال، وأعوذ بك من تحمل فوق الطاقة من أعباء المراء والجدال؛ فإنك إن هديتنا إلى معرفة عيوب أنفسنا صرفنا العناية إلى ما هو أولى بنا وأحرى، وإن بصرتنا بما نجهله من قدورنا لم يرَ غيرنا منا ما لا نرى، وبعد حمد الله على كل حال، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه خير صحب وآل، فإنها جرت مذاكرة بيني وبين بعض الأعلام النحار أوجبت تأليف رسالة سميتها بحل الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال، ثم مضت برهة من الأيام، فرأيت رسالة (1) لبعض إخواني من علماء العصر، مستدركًا بها على تلك الرسالة، وقد علم الله أني في شغل شاغل عن المباراة والمماراة ولكن لما رسخ في بالي، وصح عندي أن إجبار اليهود على ذلك، وإعفاء المسلمين منه من أعظم القرب، وأنفس المحاسن، التي ينبغي أن تعد من مناقب العصر وأهله، فإني - كما علم الله - لم أزل مستنكرًا لتقرير المسلمين على ذلك من أيام الوقوف مع الصبيان في المكتب، ورأيت الصغير والكبير، والعالم والجاهل موافقين على ذلك، فحداني محبة نجاز هذا المقتصد، ونجاح هذا المطلب إلى تبيين ما في رسالة المعترض من الأوهام التي لا يحتمل مخافة أن يعتريها، فتكون من الأعذار عن تنجيز هذا العمل، مستعينًا بالله، ومتكلًا عليه، مقتصرًا على الإشارة بأخصر عبارة، فإن التطويل ربما أفضى إلى تحرير كراريس. قال: ولما كان الدين النصيحة (2). . إلى قوله: ولنقدم مقدمة.
أقول: الغرض الباعث على هذه النصيحة، والغاية الجاملة عليها إما أن تكون مخافة أن يعمل من وجهت إليه تلك الرسالة بمقتضاها فيربح المسلمين من التلوث بالنجاسات،
_________
(1) الرسالة رقم (167).
(2) تقدم تخريجه.(10/5045)
ويفرح عليهم من ملابسة [1] حشوش اليهود، والتقاط أزبالهم، ويأمر الملاعين بالنيابة عن المسلمين قلتم در هذا الناصح، وما أمحض نصيحة للمسلمين، وما أغيره على حرمات هذا الدين المتين.
وإما أن يكون الغرض والغاية تنبيه صاحب الرسالة المعترض عليها بأنه غلط في تطبيق هذه الأدلة على ذلك المدلول، وارتكب في رسالته ما يخالف المعقول والمنقول. فنقول مستفسرين لهذا الناصح، ومستور بين لزناد هذا القادح: هل هذا الغلط الذي تزعمه، والمخالفة التي تدعيها قطعيان أم ظنيان؟ لا سبيل إلى الأول لتوقف الجزم به على ما لا وجود له فيما نحن بصدده بإجماع كل ناقل.
والثاني ليس من مواطن المناصحة، لما ثبت في الحديث الصحيح (1) أن المصيب فيه والمخطئ مأجوران، فالظفر بالأجر متحقق بعد بذل الوسع؛ لأن الاجتهاد لا ثمرة له غير الظنون. فإذا كان تسليم الخطأ لا يقدح في ثبوت الأجر فكيف يلام طالب تحصيله ويناصح! ولو كان الاختلاف في الظنيات مستدعيا للمناصحة لكان كل مجتهد متعبدًا بمناصحة كل مخالف له، واللازم باطل بالإجماع، فكذا الملزوم. وإما أن يكون مراده تنبيه الواقف من سائر الناس غير السائل والمجيب، فيعود الكلام على السالف.
وإما أن يكون مراده تنبيه الجميع فيرد عليه الجميع، وإما أن يكون مراده كما قيل:
ويهتر (2) للمعروف في طلب العلا ... لتذكر يومًا عند ليلى شمائله
فهذا شيء لا نرضاه له - عافاه الله - ولا يرضاه لنفسه.
قال: ولنقدم مقدمة تتضمن آثارًا عن صالحي السلف، قاضية بتورعهم فيما لا نص عليه نبوي إلى آخر البحث.
_________
(1) تقدم تخريجه مرارًا.
(2) يهتر هترًا والانهتار الولوع بالشيء والإفراط فيه كأنه أهتر أي خرف.
"لسان العرب" (15/ 24).(10/5046)
أقول: ظاهر هذه العبارة أنهم يتوقفون مع فقد النص النبوي عن القضاء بالكتاب العزيز، وهو فاسد بالإجماع، ففي العبارة قصور. ثم إن هذه المقدمة إنما تصلح عنوانًا لرد الآراء المحضة، ورسالتنا مشحونة بأدلة الكتاب والسنة، مربوطة بقواعد وفوائد لا يعرف قدرها إلا المتأهلون، فكان المجيب - عافاه الله - لا يفرق بين الرواية والرأي، فإن قال: قد بين عدم انطباق هذه الأدلة على المطلوب فمع كون ذلك البيان مبنيًّا على شفا جرف هار كما ستعرفه، لا يستلزم أن يكون الخطأ في الاستدلال من قبيل الأخذ بالرأي، فإن تهافت بدعوى الملازمة، فقد عرفت من الكلام السالف سببية هذا الأمر للأجر والتورع عن طلب الأجور زهد مذموم بإجماع الجمهور، فما هذه المقدمة المبنية على أركان مهدمة! فإن قال مسالك المناظرة أربعة [2]: الدعاء إلى الحق بالحكمة البرهانية، ثم الجدلية، ثم الخطابية، ثم الوعظية؛ وهذا نوع من المسلك الرابع قلنا: فأين المقتضى؟.
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل (1)
لا جرم:
فتشبهوا إن لم تكونوا منهم ... إن التشبه بالكرام فلاح
قال: هذا اعتراف بعدم النص إلخ.
أقول: الذي صرحت به في أول تلك الرسالة تصريحًا لا يلتبس على من له أدنى فهم، أني لم أقف على كلام لأحد من العلماء في إجبار اليهود على التقاط الأزبال.
وما نقلته عن العلماء في تلك الرسالة ليس عين ما نفيته، بل قواعد كلية، وجزئية نقلية، وعقلية لتصحيح الاستناد وربط الدليل بالمدلول، وما كنت أظن أن مثل هذا يلتبس على أحد فانظر - أيها الناظر - إلى هذا الاعتراض الذي افتتح به المعترض رسالته التي حمله عليها محبة النصح وأنشد في عذره:
_________
(1) تقدم توضيح المثل مرارًا.(10/5047)
وإنما يبلغ الإنسان طاقته ... ما كل ماشية بالرحل شملال (1)
قال: وأقول: لا يشك ذو مسكة ودربة إلى قوله، ثم الصغار.
أقول: قد ذكرت في تلك الرسالة أن دعوى اختصاص الصغار ببعض ما فيه ذلك، أو بوقت دفع الجزية أحدًا لظاهر التقييد، كما فهمه المعترض ممنوع، ثم أوردت سند المنع، وسقت كلام الأئمة، فأغمض المعترض عن جميع ذلك، ومنع السند منعًا مجردًا لعدم صحة دليله، وهو خلاف ما تقرر في علم الجدل.
ثم جاء بمقدمة النزاع فجعلها دليلًا، فوقع في مضيق المصادرة، وهو أيضًا مخالف لما تقرر في علم العقول، فكثر الله في المناظرين من أمثاله، وما حمله على ذلك إلا عدم التدبر لكلام خصمه.
غزلت لهم غزلًا فم أجد ... لغزلي نساجًا فكسرت مغزلي
ثم ذكر بعد ذلك معنى الصغار، واستظهر على تخصيصه ببعض أنواعه بما نقله عن المفسرين (2) والبحر (3) وهو كلام قد عرفناه وأشرنا في تلك الرسالة إلى أنه تحكم.
ثم إن المعترض نقل كلام البحر (4) في صفة الصغار عند إعطاء الجزية، ولم ينقل ما في البحر في السير من إلزامهم أنواعًا من الصغار، بل لم ينقل ما في الأزهار هنالك، ولعله لم يحضر ليحال الاعتراض إلا ذلك.
فمالك والتلدد حول نجد ... وقد غصت تهامة بالرجال
قال: نعم وكل وهذا لا يدل على خصوص المدعي إلى قول: غير محل النزاع.
أقول: كلا شقي الترديد غير ما أوردناه، بل المراد أن هذا نوع من الصغار المأذون لنا [3] بإلصاقه بهم، إلا أن يمنع عنه مانع شرعي، ولا مانع فيما نحن بصدده، وعدم أمر
_________
(1) قال في "لسان العرب" (7/ 205): جمل شمل وشملال وشمليل: سريع.
(2) انظر "الجامع لأحكام القرآن" (8/ 115).
(3) (5/ 459).
(4) (5/ 459).(10/5048)
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه بذلك فمخصوصية لا يستلزم عدم الأمر به، أو الإذن مطلقًا، لا سيما مع عدم الحامل على ذلك، لما تقرر من أن الناس كانوا في زمن النبوة على عادة العرب الأولى، يخرجون للتبرز حتى النساء إلى البرية، كما ثبت في الصحيح (1) من حديث عائشة، وهذا ظاهر لا سترة به، ولكن الأمر كما قيل:
وإذا كان في الأنابيب خلف ... وقع الطيش في صدور الصعاد
قال: وقد جاء في كلامه بملازمة عقلية إلخ.
أقول: قد تقرر عند علماء البيان أن اللزوم عقلي وعرفي، وهذا في مختصر التلخيص وتهذيب المنطق، اللذين هما مدرس صغار الطلبة، فما بال المعترض قيد اللزوم، الذي أطلقته في كلامي بالعقلي بغير قرينة، ورتب عليه الاعتراض الذي ليس له انتهاض، وكل ناظر يعلم أن من له أدنى تمسك لا يريد في هذا الموطن اللزوم العقلي، فترك التقييد اتكالًا على هذا الظهور، وبيان الملازمة العادية أنه لما كان بقاء الأزبال مضرًّا بأهل المدن غاية الإضرار جرت العادة بالتقاط جماعة له، فإذا لم يكونوا من الكفار لزم إعادة أن يكونوا من المسلمين؛ لعدم وقوع الالتقاط في العادة من غير نوع الإنسان، ودفع الضرر عن أهل المدن هو المقصود الأهم من ذلك، وإيقاد الحمامات به، إنما هو لإذهاب عينه، وتحصيل الأجرة للمباشرين، ثم إن المعترض جعل الواسطة القادحة في الملازمة إيقاد الحمامات بالحطب، ولا يشك عاقل أن الواسطة بين التقاط الكفار والمسلمين إما ترك الالتقاط من الجميع أو التقاط غيرهم إن فرض، لا إيقاد الحمامات فإنه قال: لازم لترك الجميع الذي هو الواسطة، فلا أزيد الناظر على إيقافه على هذه الملازمة، وما أدري على ما أغبط المعترض.
يقولون أقوالًا ولا يعرفونها ... ولو قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
قال: أول ما نورده عليه الاستفسار إلى قوله: إن هذا لشيءٌ عجيبٌ.
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4750) من حديث عائشة.(10/5049)
أقول: سلمنا أن الآية واردة على ذلك السبب، فالذلة لا تختص بفرد معين دون غيره إلا بدليل، وقد تقرر في الأصول عدم القصر على السبب، وتقرر أن قصر الذلة على مجرد إعطاء الجزية، والفقر، والمسكنة تحكم محض، فما هذا الكلام الذي لا نفاق له في سوق الجدال والخصام، ثم رتب على هذا الكلام أنه إخبار به ولا تكليف به، وكأنه ظن أن التكليف مقصور على الواجب [4] وهو فاسد يدفعه إطباق أئمة الأصول على شموله لغيره من الأحكام.
ثم قال: فكيف يقال أنه يجب إجبار اليهود، وأنت تعلم أن السؤال الذي أجبنا عليه بالرسالة إنما هو في مطلق ما يدل على الإجبار، فما دل على الوجوب، أو الندب، أو أعم منهما - أعني الجواز - فهو صالح لجعله جوابًا؛ لأن السائل لم يسأل عن خصوص ما يدل على الوجوب، ولا اقتصرت في الجواب على هذا الصنف، بل جمعت بين جميع أنواع الجواز، ولم أقصر في بيان هذا الأمر بعد جعلي له عنوانًا لتلك الرسالة، وتصريحي به قبل الشروع فيها، وقد وهم علي المعترض وهمًا فاحشًا، فواخذني في كل دليل لا يدل على الوجوب، وما أدري ما الحامل له على هذه التعسفات، فإن كان مجرد المعارضة من غير مبالاة بما وقع من الخبط والخلط، فما هذا دأب أهل العلم والإنصاف.
إنك إن حملتني ما لا أطيق ... ساءك ما سرك مني من خلق
وغاية الأمر أن الرجل يريد أن يدل دليل على هذه الخصلة بخصوصها، ولو كان ذلك شرطًا في التكليف لاستراح الناس عن أكثر التكاليف، ومن بلغ به الأمر إلى هذا الحد لم يستحق المراجعة.
قال: وإن قال: الآية خبر في معنى الأمر إلى قوله: من لغة أو شرع.
أقول: إبطاله لدلالة هذه الآية على المطلوب بقوله: لأنه لم يأمر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من الغرائب، فإنه لا شك بعد تسليم دلالة الآية على الإذن بضرب الذلة العامة عليهم، أو الإذن بجنسها، أو الأمر بأحد الأمرين أنها متناولة للفرد الكامل من أفراد الذلة تناولًا أوليًّا، إلا أن ينهي الشارع عنه، وتوقف ذلك على أن النبي - صلى الله(10/5050)
عليه وآله وسلم - أمر به بخصوصه، أو أن الدليل دل عليه بخصوصه أمر يعرف اختلاله صغار الطلبة.
إذا رام التخلق جاذبته ... خلائقه إلى الطبع القديم
قال: وقد ركب قياسًا منطبقًا إلى قوله: ولنا أن نعارض ذلك القياس.
أقول: لا يخفى عليك أن الجواز أعم من الوجوب، وأن الواجب جائز، فاختيار لفظ الجواز في تلك المقدمة لشموله للوجوب والندب، ومجرد الجواز بلا تقييد. فإن كانت الآية أمرًا في معنى الخبر فكيف يقال الكبرى ممنوعة! بل يجب إبدالها بقوله: وكل محصل للذلة واجب، وإطلاق لفظ الجائز على الواجب جائز بالإجماع.
ولو سلم عدم صحة التعبير بالأعم عن الأخص لعدم استلزام وجوده فلا يكون إلا مجازًا، لما كان في الاقتصار على أخف مما يدل عليه الدليل ضير.
وإن كانت الآية مجرد خبر فلا شك في صحة التعبير [5] بلفظ جائز ثم إيراده على الكبرى بعد تسليمه لما اشتملت عليه من الحتم في زعمه لزوم منعهم من المأكل، والمشرب، والملبس، والمعاملة، من أفحش الأوهام التي أوقع في مثلها عدم التأمل.
وقد صرحت في تلك الرسالة (1) بما يحسم هذا الإيراد فقلت: بل المراد الذلة الناشئة عن أي سبب كان من الأسباب التي لم يمنع الشارع منها انتهى بحروفه.
وكل ما أورده المعترض مستثنى من تلك الكلية لمنع الشارع منه، وليس الالتقاط من هذا القبيل، لما عرفت من عدم الاحتياج إليه في زمنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وشدة الحاجة إليه في المدن في هذه الأعصار، لا لإيقاد الحمامات كما ظنه المعترض، بل لما في تركه من الضرر العام، فما هذه التخليطات التي يكبر المعترض عنها!.
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح
قال: ولنا أن نعارض ذلك القياس بقياس من الشكل الأول، بأن نقول: إجبارهم
_________
(1) رقم (166).(10/5051)
على الالتقاط غير مأذون فيه من الشارع، وكلما لم يأذن فيه الشارع حرام. إلخ. . .
أقول: قد عرفت مما سبق، ومما سيأتي بطلان الصغرى، وأن الالتقاط مأذون به، وليس للمعترض متمسك، إلا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر به بخصوصه، وقد عرفت بطلان هذا الاشتراط.
وأما الكبرى فممنوعة، والسند إجماع المسلمين، إلا من شذ أن الحل لا يتوقف على الإذن، وأن البراءة الأصلية كافية، لا سيما مع اعتضادها بكليات وجزئيات من الكتاب والسنة، وليسارع المعترض - عافاه الله - إلى تصغير عمامته، وتقصر ذيله، وترك أكل المحور، وترك افتراش الثياب المحشوة بالعطب، وترك شرب القهوة، إلى ما لا نهاية له من هذا الجنس؛ لأن الشارع لم يأذن بشيء منها؛ فهي حرام، وهو قائل بذلك، والعلم العمل، والإنسان أحق الناس باتباع قوله: ونحن لا نرى صحة ذلك، فلا يلزمنا إذا عرفت هذا. فقوله: وكل ما لم يأذن فيه الشارع حرام، وجعله كبرى لصغرى ذلك القياس، مع ما فيه من عدم التكرار المعتبر من الأدلة الدالة على كمال خبرته بالفن، ولله دره، وهكذا وليكن التحقيق، والله يعلم أني أكره إطلاع الناس على هذه السقطات المضحكة، ولكن البادي أظلم، ولولا أن اعتراضاته قد وقعت إلى يد غيري قبل وقوعها في يدي لناصحته باللسان، وتركت شغله وقت فيما لا طائل تحته.
ولو منح الله الكمال ابن آدم ... لخلده والله ما شاء يفعل [6]
قال: وفسر الآية بما هو يدندن حوله.
أقول: أما الأدلة الدالة على النكرة تأتي بالعموم، فقد ذكر الأئمة في مثل أن جاءك رجل فأكرمه، وفي مثل: إن جاءكم فاسق بنبأ، في أمثال ذلك كثير، حتى لقد احتج السيد علي بن محمد بن أبي القيم في رسالته التي أجابها العلامة الإمام محمد بن إبراهيم بمثل ذلك، فسلمه في العواصم، مع استكثار من الاعتراضات والمناقشات. ومن تتبع كتب التفسير في نظائر المدعي، وكذا كتب البيان وغيرها علم صحة ذلك.
وما أسرع ما ذهب من حفظ المعترض ما ذكره العلامة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(10/5052)
الزمخشري (1) في قول الله: {علمت نفس ما أحضرت} (2)، وما ذكره أهل الحواشي، ولم يمر بنا إلا أيام قلائل من قراءة ذلك البحث نحن وهو على شيخنا العلامة، فإن قال: هذا ليس من ذلك القبيل فعليه البيان، على أن ابن كثير قد صرح في تفسيره بأن الخزي عام، ونعم السلف لنا في ذلك.
قوله: فمن أين لنا التكليف بما دلت عليه الآية؛ إذ لا صيغة أمر إلخ.
قلنا: الدليل على الإجبار أعم من ذلك، وقد أسلفنا ما فيه كفاية، وغاية الأمر أن المعترض في هذا البحث وما بعده. . . إلخ الرسالة عول على المنوعات المجردة، وهي غير مقبولة على الأسانيد، وسنجاريه على مشيه.
قال: وأستنبط من الآية أن كل فرد إلخ ثم نقل من القاموس (3) معنى الغلظة، وأغلظ له وعليه، ثم نعم لفهمه السليم أن صاحب القاموس جعل أغلظ مطلقًا ومقيدًا خاصًَّا بالقول وهذا من أقبح الغلظ؛ فإن صاحب القاموس (4) إنما جعل المختص بالقول أغلظ له ولا نزاع فيه، وأما أغلظ عليه فهذا إمام اللغة والتفسير جار الله (5) يقول في كشافه (6) في تفسير هذه الآية نفسها ما لفظه: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين بالاحتجاج، واستعمل الغلظة والخشونة على الفريقين فيما تجاهدهم به من القتال والمحاجة، ثم ذكر روايات عن. . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
(1) في "الكشاف" (6/ 323).
(2) [التكوير: 14].
قال: فإن قلت: كل نفس تعلم ما أحضرت، كقوله: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا) [آل عمران: 30]. لا نفس واحدة فما معنى قوله: (علمت نفس) قلت: هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه. . .
(3) (ص 900).
(4) الفيروز آبادي (ص900).
(5) الفيروز آبادي (ص 900).
(6) أي الزمخشري.(10/5053)
المفسرين (1)، وأنت تعلم أنه تصريح منه بأن الغلظة المأمور بها تكون في الأقوال والأفعال، وهو الإمام الذي جعل استعماله بمنزلة روايته، وصرح أيضًا في تفسير: {عليها ملائكة غلاظ شداد} (2) فقال ما لفظه (3): في إجرامهم غلظة وشدة؛ أي: جفاء وقوة، أو في أفعالهم جفاء وخشونة لا يأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله والغضب له، والانتقام من أعدائه انتهى.
قال: وأتى بكلام مسجع منمق إلى آخر البحث.
أقول: إذا كانت العزة من أوصاف المؤمنين، والذلة من أوصاف الكفار، كما في غير هذه الآية، فإجبار اليهود على ملازمة هذه الصفة التي أخبر الله بها جائز، ومنع المسلمين عن الأمور التي تقدح في العزة جائز، فكيف قلت: ليس الجواب مطلقًا للسؤال! وما ذنب المجيب إن لم يفهم غيره ما أراده.
قال: ودندن [7] حول ما أراد إلى آخر البحث.
أقول: قوله فمن أين لنا الدليل من الحديث على إجبار اليهود بعد أن سلم أن خبر في معنى الأمر من العجائب، فإنا إذا أمرنا بجعل الإسلام عاليًا، ونهينا عن أن يكون شيء عاليًا عليه، ففي تنزيه الكفار عن هذه المهنة الخبيثة مع وقوع المسلمين فيه إعلاءً لهم على المسلمين ظاهر، وهو منهي عنه، ومأمور بخلافه، كيف لا يكون في الحديث دلالة على المطلوب!.
قال: ومراده أن أهل الإسلام إلى آخر البحث.
أقول: قد بينت في رسالتي (4) وجه الدلالة فقلت ما لفظه: وفحوى الخطاب ولحنه قاضيان إلى آخر ما هناك، فانظر إلى قول المعترض كيف جعل الأمر باضطرار اليهود
_________
(1) (3/ 68): سورة التوبة. الآية (73).
(2) [التحريم: 6].
(3) أي الزمخشري في "الكشاف" (6/ 161).
(4) الرسالة رقم (166).(10/5054)
إلخ، فهو يدلك على عدم التدبر للأصل المعترض عليه، أو عدم الفهم، وقد سئمنا ومللنا من إبطال كلامه، حتى لقد وددت أن أجد بحثًا صحيحًا.
أقول: فيه أصبت فلم أجد.
قال: هنا حكاية صحيحة إلى آخر الكلام.
أقول: المصلحة متحققة هاهنا، ومسلك المناسبة (1) مقتضى للإلجاء والالتزام ملتزم لا يستثني منه إلا مانع منه الشارع، أو منع منه العقل.
وقوله: ولعل هذا لا يقوله أحد إلخ ممنوع، والسند ما سلف، قال: وطول في ذلك وأراد أن فيه دليلًا إلى آخر البحث.
أقول: لا شك أن حديث: "نزلوا الناس منازلهم" (2) دال على المدعي وعلى غيره إلا ما خصه دليل، وتبين أنه ما يغتفر فيه التنزيل، وهذا لا ينكره المعترض، ونحن نسلم الإفراد من المكاسب التي أقر الشارع عليها، إذ فرض تلبس المسلمين بمكسب يتنزه اليهود كما نحن بصدده، وندعي دخول محل النزاع بحث الحديث، فكيف يقال لا دلالة فيه على المطلوب! ثم أين لنا - أيها المعترض - أي خصلة تشابه هذه المكاسب التي تنزه اليهود عنها، وتلبس بها المسلمون، وأقرهم السلف والخلف عليها، وأجمعوا على ذلك! فلا أقل لمدعي الإجماع في ذلك.
قوله: تنزيل الناس منازلهم ممكن بدون إجبار اليهود بالعدول إلى الحطب أو غيره.
قلنا: قد عرفت ما على هذا الكلام فلا نعيده.
قال: وهذا لا يصلح جوابًا إلخ.
أقول: إعفاء المسلمين عن ذلك يفضي إلى الإجبار، والواسطة التي يتعلل لها المعترض غير صحيحة.
_________
(1) تقدم توضيحه.
(2) تقدم تخريجه.(10/5055)
ومن أعجب الأمور أن المعترض أورد في أول هذه الرسالة آثارًا دالة على تجنب الرأي ثم اعتذر عن الأدلة التي أوردناها من الكتاب والسنة بهذه الأعذار الباردة، ثم مال هاهنا إلى محض الرأي فقال أو قال: إن عقد الأئمة الصلح إلخ.
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
قال: يقال له: نعم إلى آخر البحث.
أقول: قد عرفت تمسك المعترض لهذا المنع المجرد في جميع هذه الأبحاث، وعرفت ما عليه، وقد طال الكلام.
قال: وأقول: محفوظ بغير إجبار اليهود إلخ.
أقول: هو من ذلك المنع الذي عرفناك، وأي حفظ لدين من تلوث بأزبال المسلمين والكفار، وترك المستخم لا يدفع مؤنة الالتقاط، لما عرفت من أعظم فوائد الالتقاط دفع مضرة المسلمين التي تحصل بعدمه، ثم استنكر جعل اليهود من المناسب المرسل، وذكر المثال المعروف في الأصول [9]، واستبعد إمكانه في محل النزاع، حتى كان اعتبار عين الكفر في جنس أنواع الصغار أمر لا يمكن ولا يتيسر.
قال: هذا منه تسليم تنزل، وإلا فهو جازم بالوجوب.
أقول: قد عرفت مما أسلفنا لك أنا لم نقتصر في هذه الرسالة على أدلة الوجوب فقط، وعلى تسليم الجزم به، فكيف يناقضه التنزيل إلى الندب، وكيف خفي هذا على المعترض بعد تصريحه بأنه تسليم تنزل أن هذا لا يقع لأدنى متأهل.
وقوله: ومع هذا فما أفاد في هذا الجواب.
أقول: أما من له فهم وإنصاف فما أظنه يلتبس عليه الصواب.
كمل تحرير مؤلفه حفظه الله في يوم الجمعة شهر محرم الحرام سنة 1206 [10].(10/5056)
(169) 47 - /1
إرسال المقال على إزالة الإشكال
تأليف
عبد الله بن عيسى بن محمد
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(10/5057)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: إرسال المقال على إزالة الإشكال.
2 - موضوع الرسالة "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله رب العالمين، اللهم وفقنا إلى أوضح السبيل، واجعل كتابك المنير لنا خير دليل. . . . .
4 - آخر الرسالة: انتهى تحرير ذلك ليلة ثامن عشر من الحجة الحرام سنة 1205، وكان انتهى نقلها من السواد إلى البياض آخر يوم الأحد من خامس محرم الحرام سنة 1206 ستة واثنتا عشرة مائة.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 18 صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرا ما عدا الصفحة الأولى فعدد أسطرها ثمانية.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني.(10/5059)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، اللهم وفقنا إلى أوضح السبيل، واجعل كتابك المنير لنا خير دليل، وارزقنا فهم معانيه، والوقوف عند أوامره ونواهيه، واللزوم لحدوده، والثبات عند نصوصه، والتوقف عند متشابهه، والتحرز عن القول فيه بالرأي، وأنه وصل من القاضي القطب الرباني محمد بن علي الشوكاني رسالة (1) في معنى إجبار اليهود على التقاط الأزبال، ولقد أجاد وأحسن الانتقاد، واستخرج بذكائه بنات أفكار كواعب أبكار عز اجتلاؤها على العلماء النظار، وخفيت محجاتها عن الأبصار. ولقد دل على طول باع، وكثرة اطلاع، فلله دره والله دره.
ولا شك أن ما ذهب إليه حسن [1] إلا أنه لم ينحل شكال ذلك الإشكال، ولم تنفك تكلم الأقفال، إذ أشكل على بعض من اطلع عليها بعض ما فيها، وما أسند مقدماته إليها، فطلب القاضي بيان ذلك من القاضي - حماه الله وكثر من فوائده - لا قصد الجدال، بل هداية إلى أحسن مثال، وللاجتماع على ما به حل العقال.
قال: الدليل الأول: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (2) ضرب الله - جل جلاله - لجواز مصالحة الكفار غاية هي إعطاء الجزية، وقيدها بالجملة الحالية وهي قوله: {وهم صاغرون} إشعارا بأن مجرد إعطاء الجزية غير كاف في جواز الموادعة والمصالحة وحقن الدماء، وجعلها اسمية تنبيها على دوام الصغار لهم وثباته كما قرره أئمة البيان إلخ.
أقول: الجملة الاسمية لا شك أنها تدل على الدوام والثبوت إذا كان خبرها اسما، لكن إذا وقعت حالا تصير كالشيء المبتدئ به الذي تجدد وقوعه في تلك الحال، من دون نظر إلى الدوام وعدمه، ولذا قالوا: إنك تقصد في الحال أن صاحبها كان على هذا
_________
(1) الرسالة رقم (166).
(2) [التوبة: 29](10/5063)
الوصف حال مباشرة الفعل، فهي قيد للفعل، وبيان لكيفية وقوعه، بخلاف النعت، فإن المقصود بيان حصول هذا الوصف لذات المنعوت من غير نظر إلى كونه مباشرا لفعل أو غير مباشر، ولهذا جاز أن يقع الأسود والأبيض، والطويل والقصير، وما أشبه ذلك من الصفات التي لا انتقال فيها نعتا لا حالا.
وأما الدوام فعلا يعتبر هنا، وإن اعتبر فليس مقصودا أولا وبالذات، فإن أريد الدوام هنا بالفعل فهو ممتنع، وإن أريد بالقوة، فلا نزاع كما سيأتي.
قال في دلائل الإعجاز (1): إذا قلت: جاء زيد وهو مسرع، أو وغلامه يسعى بين يديه، أو وسيفه على كتفه كان المعنى أنك بدأت وأثبت المجيء، ثم استأنفت خبرًا، وابتدأت إثباتا ثانيا لما هو مضمون الحال، ولهذا احتيج إلى ما يربط الجملة الثانية بالأولى فجيء بالواو كما جيء بها في نحو: زيد منطلق، وعمرو ذاهب انتهى.
وقال في موضع آخر (2): إنك إذا قلت: جاء زيد والسيف على كتفه، أو خرج التاج عليه فكان كلاما نافرا لا يكاد يقع في الاستعمال؛ لأنه بمنزلة قولك: جاءني زيد وهو متقلد سيفه، وخرج وهو لابس التاج في أن المعنى على استئناف كلام، وابتداء إثبات، وأنك لم ترد جاءني كذلك، ولكن جاءني وهو كذلك انتهى.
فعرفت من هذا أن المعنى في قوله تعالى: {وهم صاغرون} على استئناف [2] كلام وابتداء صغار عند إعطاء الجزية من دون نظر إلى الدوام وعدمه، وهو ما فهمه السلف الماضون - رضي الله عنهم - وفهمه إمام البيان والتفسير الزمخشري (3) رحمه الله تعالى إذ قال: أي تؤخذ منهم الجزية على الصغار والذل، وهو أن يأتي بنفسه ماشيا غير
_________
(1) (ص214) لأبي بكر الجرجاني.
(2) أي الجرجاني في "دلائل الإعجاز" (ص 202).
(3) في "الكشاف" (3/ 32).(10/5064)
راكب ويسلمها وهو قائم، والمستلم جالس، وأن يثلثل تلتلة، ويؤخذ بتلبيبه ويقال له أد الجزية وإن كان يؤديها ومزح في قفاه انتهى، وقال الفقيه يوسف في الثمرات (1) في تفسير هذه الآية ما لفظه: وفي هذه الجملة حكمان: الأول: وجوب قتال من هذه صفته حتى يخرج عن هذه الصفة بالإسلام، أو يبذل الجزية فيقر على ذلك، وإن كانوا يرتكبون من المنكرات العظائم من الكفر، وشرب الخمر، وأكل الخنزير، وغير ذلك.
ومثل هذا لا يكون في حق من أسلم أن يؤخذ منه عوض، ويقر على المعاصي؛ لأن الشرع قد ورد بهذا، ولا بد أن يكون مصلحة وإن جهل وجهها، مع أن إقرارهم بالجزية قد يكون لطفا لنا بالشكر على قهرهم، ولطفا لهم يكون لهم باعثا على الدين لأجل المخالطة، انتهى.
وقال السيوطي (2): قوله تعالى: {وهم صاغرون} أخرج ابن أبي حاتم (3) عن المغيرة أنه قال لرستم: أدعوك إلى الإسلام، أو تعطي الجزية وأنت صاغر، قال: أما الجزية فقد عرفتها فما قولك: وأنت صاغر؟ قال: تعطيها وأنت قائم وأنا جالس والسوط على رأسك (4).
وأخرج أبو الشيخ (5) عن سعيد بن المسيب قال: أحب لأهل الذمة أن يتعبوا في أداء
_________
(1) الثمرات اليانعة المصطفة من آي القرآن المجتناة من كلام الإله الرحمن" مؤلفه: يوسف بن أحمد الثلائي اليمني.
مؤلفات الزيدية (1/ 351).
(2) في "الدر المنثور" (4/ 168).
(3) في تفسيره (6/ 1780 - 1781، رقم (10042).
(4) عن أبي سعد قال: بعث المغيرة إلى رستم، فقال له رستم: ما تدعو؟ فقال له: أدعوك إلى الإسلام، فإن أسلمت فلك ما لنا وعليك ما علينا، قال: فإن أبيت؟ قال: فتعطي الجزية عن يد وأنت صاغر، فقال لترجمانه، قل له: أما إعطاء الجزية فقد عرفتها، فما قولك وأنت صاغر؟ قال: تعطيها وأنت قائم وأنا جالس، وقال غير أبي سعد: والسوط على رأسك.
(5) عزاه إليه السيوطي في "الدر المثنور" (6/ 169).(10/5065)
الجزية لقوله: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (1) فاستدل بها من قال: إنها تؤخذ منهم بإهانة فيجلس الآخذ، ويقوم الذمي، ويطأطئ رأسه، ويحني ظهره، ويضعها في الميزان، ويقبض الآخذ لحيته، ويضرب لهزمته، ويرد به عليهم النووي (2) حيث قال: إن هذه هيئة باطلة.
واستدل بالآية من قال: إن أهل الذمة يتركون في بلد أهل الإسلام؛ لأن مفهومها الكف عنهم عن أدائها، ومن الكف أن لا يجلوا.
ومن قال: هي عوض حقن الدم فلا أجرة الدار انتهى، والمراد من ذلك أنه يعطونها في حال هم صاغرون فيه أي صغار، إذ الجملة الحالية إنما يقيد العامل بمضمونها، فمعنى وهم صاغرون في حال صغار.
ولا يخفى أن لفظ صغار يصدق بأدنى شيء من الصغار، ولا يشترط أن يخلفه شيء آخر من الصغار.
وأما ما لحظ إليه من الدوام أي دوام كل صغار على كل فرد، فإن أراد الدوام بالفعل فلا يقول له؛ لما يلزم عنه من اللوازم، وإن أراد بالقوة فلا نزاع.
وما في القوة ليس واجب الوجود.
قوله [3]: واعتبار السكاكي، والشريف، وصاحب المجاز للمقامات غير قادح في المطلوب لقضاء المقام بذلك بلا نزاع فهو إجماع.
أقول: هذا الزمخشري وغيره لم يفهم ما فهمته من دوام الصغار، وعموم أنواع
_________
(1) [التوبة: 29].
(2) في "روضة الطالبين" (10/ 316): حيث قال: هذه الهيئة المذكورة لا نعلم لها على هذا الوجه أصلا معتمدا، وإنما ذكرها طائفة من أصحابنا الخراسانيين، وقال جمهور الأصحاب، تؤخذ الجزية برفق، كأخذ الديون، فالصواب الجزم بأن هذه الهيئة باطلة مردودة على من اخترعها، ولم ينقل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أحد من الخلفاء فعل شيئا منها مع أخذهم الجزية.(10/5066)
الصغار لكل فرد في كل، فحسبنا الزمخشري (1) مخالفا وقامعا في الإجماع، فكيف والمخالف غيره كثير.
قوله: وإهمال اعتباره أي اعتبار الظاهر فيما نحن فيه مستلزم لجواز تقرير بعض أهل الذمة بلا جزية ولا صغار وهو باطل.
أقول: هم لا يهملون اعتبار الظاهر، أما في جانب الإعطاء فلما يجيء أنها من كل حالم دينار (2) وأما اعتبار كل صغار بالفعل لكل فرد على جهة اللزوم في حال الإعطاء وإلا
_________
(1) انظر: الكشاف (3/ 32).
(2) أخرجه أبو داود رقم (1576) والترمذي رقم (623) والنسائي (5/ 26) وابن الجارود رقم (1104) والدارقطني (2/ 102رقم 29) والحاكم في "المستدرك" (1/ 398)، والبيهقي (4/ 98)، و (9/ 193) وأحمد (5/ 230)، والطيالسي (1/ 240 رقم 2077 - منحة المعبود) وابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 126 - 127)، وعبد الرزاق في "المصنف" (4/ 21 - 22 رقم 6841)، وابن ماجه رقم (1803)، من حديث معاذ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم، يعني محتلما - دينارا أو عدله من المعافر، ثياب تكون باليمن".
وهو حديث صحيح.
قال ابن قدامة في "المغني" (13/ 209 - 210) وفي مقدار الجزية ثلاث روايات:
1 - أنها مقدرة بمقدار لا يزيد عليه ولا ينقص منه، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرضها مقدرة بقوله لمعاذ - تقدم -: خذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر. . . .
وفرضها عمر بمحضر من الصحابة فلم ينكر عليه، فكان إجماعا.
2 - أنها غير مقدرة بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان، قال الأشرم: قيل لأبي عبد الله: فيزداد اليوم فيه وينقص؟ يعني من الجزية، قال: نعم، يزاد فيه وينقص على قدر طاقتهم، على ما يرى الإمام، وذكر أنه زيد عليهم فيما مضى درهمان، فجعله خمسين، قال الخلال: العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه الجماعة، فإنه قال: لا بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص على ما رواه عنه أصحابه في عشرة مواضع، فاستقر قوله على ذلك، وهذا قول الثوري، وأبي عبيد؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر معاذا أن يأخذ من كل حالم دينارا، وصالح أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والنصف في رجب.
وعمر جعل الجزية على ثلاث طبقات:
- على الغني ثمانية وأربعين درهمًا.
- وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهما.
- وعلى الفقير اثني عشر درهما.
وصالح بني تغلب على مثلي ما على المسلمين من الزكاة، وهذا يدل على أنها إلى رأي الإمام.
قال البخاري في صحيحه (4/ 117)، قال ابن عيينة: عن ابن أبي نجيح، قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جعل ذلك من أجل اليسار، ولأنها عوض فلم تتقدر كالأجرة.
3 - أن أقلها مقدر بدينار، وأكثرها غير مقدر، وهو اختيار أبي بكر، فتجوز الزيادة ولا يجوز النقصان؛ لأن عمر زاد على ما فرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم ينقص منه، وروي أنه على ثمانية وأربعين، فجعلها خمسين.(10/5067)
فليست بجزية فلم يقل به أحد، ولا دليل على وجوبه؛ لأن الصغار الحاصل للكل المجموعي، أو للفرد الكامل عائد إلى الإفراد من ذلك، غاية ما يلزم من ذلك جواز تقرير بعض أهل الذمة بلا صغار مخصوص بالفعل في حال إعطاء الجزية وهو مستلزم.
أو يقال: الصغار ثابت لكل واحد بالفعل في حال إعطاء الجزية، إذ الواقع أنهم يعطونها وهم في حال صغار، ولا يخفى أن نزع العمامة عنهم صغار ثابت لازم لهم، مقارن لإعطاء الجزية، كذلك لبس الغيار صغار.
الزنار (1) المعروف صغار.
كذلك الفقر والمسكنة والذلة التي ضرب الله عليهم صغار، هذا مما هو ثابت بالفعل في عامة الأحوال، وتقارن إعطاء الجزية، وأما ما هو ثابت في بعض الأحوال فكثير.
قوله: وإذا تقرر أن كل فرد من أفراد أهل الذمة لا ينفك عن الصغار بحكم الشرع، وأن الصغار هو الذلة والإهانة كما تقرر في اللغة، فدعوى اختصاصه ببعض ما فيه ذلك،
_________
(1) من زنره ملأه، وزنره الرجل ألبسه الزنار، وهو ما على وسط النصارى والمجوس.
"القاموس" (ص 514).(10/5068)
أو بوقت دفع الجزية آخذا بظاهر التقييد ممنوع؛ لأن الأولى تحكم محض، والثانية يفت في عضدها أنه يصدق على الذمي أنه معط للجزية في جميع أوقات المصالحة، وإلا لزم بطلان مصالحته، وإهانته في وقت عدم الإعطاء بالفعل وهو باطل.
أقول: أما كونهم لا ينفكون عن الصغار والذلة بالقوة فمسلم، وأما عن الصغار والذلة بالفعل فهو معلوم الانفكاك.
قوله: آخذا بظاهر التقييد ممنوع.
أقول: لا ملجئ إلى مخالفة الظاهر وما أطبق عليه المفسرون وعلماء المعاني والبيان.
قوله: لأن الأولى تحكم محض يعني اختصاصها الصغار ببعض ما فيه الصغار.
أقول: هكذا فسره السلف بصغار مخصوص حال إعطاء الجزية، ولو قلنا بعدم الاختصاص لم يلزمنا إجبارهم على التقاط العذرة، إذا ما صدق عليه الصغار كان في المقصود.
قوله: والثانية يفت في عضدها أنه [4] يصدق على الذمي أنه معط للجزية في جميع أوقات المصالحة. . . إلخ.
أقول: لعله يريد أن القول بأن الصغار بالفعل يمنع اعتبار الإعطاء بالقوة، ولا يلزم ذلك؛ لأنا نقول: إن الإعطاء في الآية بالفعل، والصغار الذي هو قيد الإعطاء كذلك بالفعل، وإذا حصل الإعطاء والصغار بالفعل صدق عليهم أنهم معطون بالقوة، وصاغرون بالقوة، إذا لكانت بالفعل وكانت بالقوة ولا عكس.
قوله: إذا عرفت هذا علمت أن إعفاء اليهود عن التقاط الأزبال الذي هو أعظم أنواع الصغار وأهمها لا سيما مع استلزامه لإلصاق هذا العار الهادم لكل شعار بالمسلمين لا محالة يعود على الغرض المقصود من المصلحة الباعثة على المصالحة بالنقص.
أقول: الإجماع حاصل على جواز تأييد صلح الكتابي (1) بالجزية وأنواع الصغار
_________
(1) قال ابن قدامة في "المغني" (13/ 207): ولا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين:
الأول: أن يلتزموا إعطاء جزية في كل حول.
الثاني: التزام أحكام الإسلام، وهو قبول ما يحكم عليهم من أداء حق أو ترك محرم لقوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) [التوبة: 29].
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فادعهم إلى أداء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم" ولا تعتبر حقيقة الإعطاء، ولا جريان الأحكام؛ لأن إعطاء الجزية إنما يكون في آخر الحول، والكف عنهم في ابتدائه عند البدل، والمراد بقوله: (حتى يعطوا الجزية) أي يلتزموا الإعطاء ويجيبوا إلى بذله كقوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) والمراد به التزام ذلك دون حقيقته. . . . .(10/5069)
مخصوصة من أنواع الصغار لا على إلزام أعظم أنواع الصغار، فإلزام أعظم أنواع الصغار محتاج إلى دليل، أو على فرض ثبوت دليل فقد جعلوا عمل الأمة بخلاف الدليل علة فيه.
ثم يقول بعد ذلك: إنه لا فرق عند من له فهم بين إخراج الحشوش ووضع ما فيها من الأموال، وبين التقاط الأزبال ووضعها في الحمام، وقد أباح الشرع الأول، ولم يمنع من الثاني، ولم يأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ اليهود بإخراج الحشوش، ولا بالتقاط الأزبال إلى الحمامات، ولا أجد من الصحابة ولا الخلفاء الأربعة مع اتساع بسطتهم على البلاد، ولا فهموا من هذه الآية ما فهمه القاضي - حماه الله - ولا يقول أحد أن الحمامات لم تكن توجد ذلك اليوم، ولا يقول أحد أن الأموال كانت لا توضع فيها الأزبال.
قال ابن حجر: قوله: وأما تسميد الأرض بالزبل فجائز، قال الإمام: لم يمنع منه أحد للحاجة القريبة من الضرورة، وقد نقله الأثبات عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ انتهى، قد رواه البيهقي (1) من حديث سعد بن أبي وقاص.
وروي عن ابن عمر خلاف ذلك عند ............................
_________
(1) في "السنن الكبرى" (6/ 136) كان سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - يحمل مكتل عرة إلى أرض له.
قال الأصمعي: العرة، هي عذرة الناس.(10/5070)
الشافعي (1)، وأسنده عن ابن عباس مرفوعًا بسند ضعيف، ولفظه: "كنا نكري الأرض على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ نشرط عليهم ألا يزبلوه بعذرة الناس (2) انتهى كلام ابن حجر، وقد سمعت أن إسناد هذا الحديث ضعيف، وأن المروي عن ابن عمر بصيغة التمريض، وأن المروي عن الإثبات جواز تسميد الأرض بالزبل.
وقد استثنى أهل الفقه من عدم جواز الانتفاع بالنجس أمورًا.
منها: تسجير التنور بالعذرة، ومن المعلوم أن المتسجر للتنور ليس يهوديا ولا نصرانيا وكذلك الاستصباح بالنجس فما أباحه الشرع فليس فيه عار، وما أذن فيه فلا يحسن معه إلا الانقياد والتسليم، وقد علم القاضي [5] أن الأمة لا تجتمع على ضلالة بنص الحديث الذي هذا لفظه.
وأن اختلاف هذه الأمة رحمة.
والقضاء بإجبار أهل الذمة على ذلك، وأنه واجب متحتم يقضي بأن الأمة أجمعت على خطأ، وسكتت عن عار، لا شرف للإسلام معه، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (3).
{وما آتاكم الرسول فخذوه ما نهاكم عنه فانتهوا} (4).
قال: الدليل الثاني: قال الله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (5) ثم نقل تفسير جار الله (6) للآية الأولى، ولم يكمله، وتمامه: فاليهود
_________
(1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 139) عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر كان يشترط على الذي يكريه الأرض أن لا يعرها وذلك قبل أن يدع عبد الله الكراء.
(2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 139).
(3) [المائدة: 3].
(4) [الحشر: 7].
(5) [البقرة: 61].
(6) أي الزمخشري في "الكشاف" (1/ 276).(10/5071)
صاغرون، إذا لا أهل مسكنة ومدقعة، إما على الحقيقة، وإما لتصاغرهم وتفاقرهم خيفة أن تضاعف عليهم الجزية انتهى، فتمام كلام الكشاف مخالف لما يريده القاضي من إنزال كل صغار بهم، وكان الواجب عليه نقله.
قوله (1) وقال (2) في تفسير الآية الثانية (3): والمعنى ضربت عليم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس، يعني ذمة الله وذمة المسلمين، أي لا عز لهم قط إلا هذه المواحدة، وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوا من الجزية انتهى، وأول كلام جار الله لم ينقله القاضي وهو: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} (4).
{بحبل من الله} في محل النصب على الحال، بتقدير: إلا معتصمين، أو متمسكين، أو متلبسين بحبل من الله، وهو استثناء من أعم عام الأحوال انتهى. وبعده ما نقله القاضي.
وأقول: على تسليم أن الذلة ليست الأمر الخلقي التي أنزلها الله عليهم، فهذا الآية التي في آل عمران (5) مقيد للآية الأولى في البقرة (6) وإذا كانت مقيدة لتلك كما هو القاعدة أن المطلق يحمل على المقيد، فقد صاروا في كنف الإسلام وحماه وعزته، وقد اكتسبوا حرمة باعتزائهم إلى جانب الإسلام، ودخوله تحت الذمة والعهد والواقع بين المسلمين وبينهم، فيكف يجوز لنا تغيير ما مشى عليه الأولون، وأقروهم عليه من لدن معاذ بن جبل إلى الآن، ولم ينقل عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا معاذ بن جبل أنه أمر اليهود وألزمهم بالتقاط الأزبال، إنما عوهدوا على أداء الجزية.
_________
(1) أي الشوكاني في الرسالة رقم (166).
(2) الزمخشري في "الكشاف" (1/ 610).
(3) من سورة آل عمران (112).
(4) [البقرة: 61].
(5) من سورة آل عمران (112).
(6) [البقرة: 61].(10/5072)
قال الخزرجي في تاريخه: وعن محمد بن إسحاق، وساق كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لأهل اليمن، وفيه: وأنه من أسلم يهوديا أو نصرانيا فإنه من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته، فإنه لا يرد عنها وعليه الجزية على كل حالم ذكر وأنثى، حر أو عبد دينار واف من قيمة المعافر، أو عرضه ثيابا، فمن أدى ذلك إلى [6] رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فإن له ذمة الله وذمة رسوله، وإن منعها فإنه عدو لله لرسوله انتهى محل الحاجة، وذكر أن كتاب ملوك حمير مقدمة من تبوك، وكان جوابه هذا عليهم مقدمة منها أيضًا وهو آخر غزوة غزاها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: إنك سترد على قوم أكثرهم أهل كتاب، فاعرض عليهم الإسلام، فإن امتنعوا فاعرض عليهم لجزية، وخذ من كل دينارا، فإن امتنعوا فقاتلهم، وسبق إلى إيراده هكذا الغزالي في الوسيط (1) وتعقبها ابن الصلاح (2).
قلت: والظاهر أنه ملفق من حديثين: الأول في الصحيحين (3) من حديث ابن عباس فأوله إلى قوله: فادعهم إلى الإسلام، وفيه بعد ذلك زيادة ليست هنا.
_________
(1) (7/ 55).
(2) في مشكل الوسيط (2/ 128) وهو بذل الوسيط.
الحديث الذي ذكره الغزالي - يجمع بين حديثين كلاهما عن معاذ رضي الله عنه أخرج البخاري في صحيحه رقم (1458)، ومسلم رقم (19) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن قال: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه، عبادة الله، فإذا عرفوا، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا الصلاة، فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة في أموالهم وترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس. ". ما أخرجه أبو داود في السنن رقم (1576) عن معاذ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما وجهه إلى اليمن، أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله من المعافر (ثياب تكون باليمن) - تقدم تخريجه.
(3) انظر: " التعليقة السابقة(10/5073)
وأما الجزية فرواه أحمد (1) أبو داود (2) والنسائي (3) والترمذي (4) والدارقطني (5) وابن ماجه (6) ابن حبان (7) والحاكم (8) والبيهقي (9) من حديث مسروق عن معاذ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارًا أو عدله من المعافر - ثياب تكون باليمن -.
قال أبو داود (10) هو حديث منكر، قال: وبلغني عن أحمد أنه كان ينكره، وذكر البيهقي (11) الاختلاف فيه، فبعضهم رواه عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعث معاذا.
وأعله ابن حزم (12) بالانقطاع، وأن مسروقا لم يلق معاذا، وفيه نظر.
_________
(1) في "المسند" (5/ 230).
(2) في "السنن" (1577).
(3) في "السنن" (5/ 26).
(4) في "السنن" (623).
(5) في "السنن" (2/ 102رقم 29).
(6) في "السنن" (رقم 1803).
(7) في صحيحه رقم (4886).
(8) في "المستدرك" (1/ 398).
(9) في "السنن الكبرى" (4/ 98) و (9/ 193) وهو حديث صحيح.
(10) ذكره الحافظ في "التخليص" (2/ 152).
(11) في "السنن الكبرى" (4/ 98).
(12) في "المحلى" (6/ 16) حيث قال وجدنا حديث مسروق إنما ذكر فيه فعل معاذ باليمن في زكاة البقر، وهو بلا شك قد أدرك معاذا، وشهد حكمه وعمله المشهور المنتشر، فصار نقله لذلك، ولأنه عن عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقلا عن الكافة عن معاذ بلا شك.(10/5074)
وقال الترمذي: (1) حديث حسن، وذكر أن بعضهم رواه مرسلا، وأنه أصح انتهى ما في التخليص. وقال الحاكم (2) صحيح على شرطهما انتهى من الخلاصة.
إذا تقرر هذا عرفت أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ صالحهم على الجزية، وعقد لهم بذلك ذمة الله، وذمة رسوله، فيكف يجوز نقض ما عوهدوا عليه، والزيادة على ما سن من السنة، في أهل الكتاب! فنحن نقتصر على ما عاهدهم عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ من الجزية، ومن عدم ابتدائهم بالسلام، ومن إلجائهم إلى أضيق الطريق، وما أذن فيه الشرع على الوجه المعتبر، وقد علمتم أنه يسعى بذمة المسلمين أدناهم (3) وأنها لا تخفر (4) هذه الذمة، فيكف بما عقده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ومشى عليه الخلفاء من بعده وأقرهم الأئمة عليه! وأن هؤلاء اليهود باليمن كما قال الشاعر:
فصرت أذل من وتد بقاع ... يشجج رأسه بالفهر واجي
فلا مزيد على ما هم فيه من الذمة والصغار، ولا نقول: إنها قد سقطت حرمتهم بالمرة فلهم حرمة بسبب دخولهم تحت الذمة.
والعهد مقبرة المسلم والذمي [7] من الثرى إلى الثريا، فلا تزدرع (5) ولا تقوآها حتى يذهب قرارها، وكذلك أباح الشرع نكاح الكتابيات ولو كانوا بحيث لا يؤبه لهم، وأنه
_________
(1) في "السنن" (3/ 20).
(2) في "المستدرك" (1/ 398).
(3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه ابن ماجه رقم (2684) من حديث معقل بن يسار مختصرا بلفظ: "المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم" وهو حديث صحيح.
(4) أخرج مسلم في صحيحه رقم (470/ 1371) من حديث أبي هريرة بلفظ: "إن ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".
(5) المزدرع: الذي يزدرع زرعا يتخصص به لنفسه، وازدرع القوم اتخذوا ذرعا لأنفسهم خصوصا أو احترثوا وهو افتعل إلا أن التاء لما لان مخرجها ولم توافق الزاي أبدلوا منها دالا، لأن الدال والزاي مجهورتان والتاء مهموسة. لسان العرب (8/ 141).(10/5075)
ينبغي أن يكسوا جميع ملابس الصغار والذلة لم يأذن (1) الشارع الحكيم بنكاح الكتابيات.
وهذه المسألة التي الخوض فيها مبنية على التأجير، والتأجير مبني على الرضا، والرضا ينافي الإجبار الذي لحظتم إليه.
قوله: وليس المراد بالذلة، الذلة الحاصلة بسبب خاص أو ببعض معين ليس ذلك إلا تحكم لم يدل عليه دليل.
أقول: لفظ ذلة مصدر نوعي يدل على النوعية، والتاء تدل على الواحدة، واللام في الذلة للعهد الخارجي (2) الذي هو أم الباب، ولذا فسرها أبو السعود (3) لهدر النفس والمال والأهل.
أو ذل التمسك بالباطل، ولا يخفى أنه لم يفسره أحد بما يعم أنواع الذلة، ووجوب إنزال أسبابها بهم، بل إما بالمصدر، وهو صادق على نوعين من الذلة، أو على الذلة الطبيعية، وإما بشيء مخصوص، فالقصد إلى تفسير السلف هو الأولى مع مناسبته للمقام فكيف يقال أن التفسير بسبب خاص، أو ببعض معين تحكم، والحال أن جوهر اللفظ يدل على نوع من الذلة مخصوص.
قوله: ويدل لعدم صحة هذه الإرادة قوله تعالى: {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} (4). . . إلخ.
_________
(1) قال تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) [البقرة: 221].
(2) في حاشية المخطوط ما نصه: والمعهود إما أن يتقدم ذكره لفظا أو معنى، والإشارة باللام إما إلى الحصة من الجنس أو اثنين منها أو ثلاثة ولا يجتمع العهد والاستغراق حتى يقال: إن الإشارة إلى جميع أنواع الذلة، ولم يتفق ذلك إلا في قوله تعالى: (فجمع السحرة) بعد قوله: (بكل سحار عليم) وفيه بعد ذلك كلام. تمت.
(3) في إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 207)، (3/ 374)، بتحقيقي.
(4) [الأعراف: 167].(10/5076)
أقول: قال في الكشاف (1) في تفسير سوء العذاب ما لفظه: "فكانوا يؤدون الجزية إلى المجوس، إلى أن بعث الله محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؛ فضربها عليهم، فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر".
قوله: ولا يخفى ما في الإضافة إلى العذاب المحلى باللام من إباء (2) إرادة المعين وما في جعل يوم القيامة غاية لذلك من الدلالة على عدم إرادة مخصوص.
أقول: اللام (3) هي تستعمل لمعان كثيرة، فلا نص هنا على العموم، بل المقام محتمل أن المراد عذابا معينا، إذ قد أمر الله سبحانه وتعالى أن يقاتلهم حتى يعطوا الجزية وهم صاغرون، فدل على أن سوء العذاب الجزية، وهذا هو اللائم المقيد سقوطه يقوم القيمة أو بعض آياتها مثل نزول عيسى، وفسرها الإمام جار الله بذلك.
قال: الدليل الثالث: قول الله تعالى: {لهم في الدنيا خزي} (4) قال جار الله الزمخشري (5) قتل وسبي، أو ذلة بضرب الجزية إلى أن قال: وأقول تعيين ما به الخزي لا يكون إلا توفيقا، والأحسن أن يراد خزي كثير، أو خزي عظيم إلخ.
أقول: نتكلم هنا مع القاضي في طرفين الأول: أن الآية [8] اختلف في سبب نزولها فعن ابن عباس (6) ومجاهد (7) وقتادة (8) نزلت في النصارى، والقول الثاني عن ابن زيد (9) قال: هؤلاء المشركون حين حالوا بين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية
_________
(1) (2/ 526.).
(2) في المخطوط غير واضحة ولعلها إباء.
(3) انظر: "مغني اللبيب" (1/ 207 وما بعدها).
(4) [البقرة: 114].
(5) في "الكشاف" (1/ 313).
(6) أخرجه ابن جرير في "جامع البيان" (1\ج1/ 499) وابن كثير في تفسيره (1/ 386).
(7) أخرجه ابن جرير في "جامع البيان" (1\ج1/ 499).
(8) أخرجه ابن جرير في "جامع البيان" (1\ج1/ 499).
(9) أخرجه ابن كثير في تفسيره (1/ 386) وابن جرير في "جامع البيان" (1\ج1/ 450).(10/5077)
وبين أن يدخل مكة.
قال ابن كثير (1) وهو الأظهر؛ لأنه لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى شرع في ذم المشركين، فهذه الأقوال كما ترى، ولم يذكر أنها نزلت في اليهود، وإنما استدل القاضي بها؛ لأن العام لا يقصر على سببه، وفيه الخلاف المشهور في الأصول، فإن تقرر عنده ذلك فله الاستدلال بها.
الطرف الثاني: أنه قال: إن تعيين ما به الخزي لا يكون إلا توفيقا، وقد سبقه إلى كون الخزي في الدنيا أعم من ذلك ابن كثير (2) لكن نقول: من جعل الآية عامة للنصارى واليهود فسر الخزي لكل ما يليق به ويناسبه، ففسر السدي وعكرمة ووائل بن داود الخزي في الدنيا المهدي (3) وفسره (4) قتادة بأداء الجزية وهم صاغرون، فهذه الأقوال المحكية عن السلف محتملة للتوقيف، ومحتملة للوقف، لكن الحمل على الطرف الأول أولى، حملا لهم على السلامة من أن يقولوا في كتاب الله برأيهم.
والثاني: فهو الوقف إن كان نظرهم أدى إلى ذلك فذلك مراد الله منهم أنه قال جل وعلا: {لهم في الدنيا خزي} ففهموا أنه إذا حصل أي خزي عظيم فقد كفى، إذ بحصول خزي واحد يصدق أن لهم خزي أي واقع بهم، أو وقع فتصدق الآية عليه.
ولو كان المطلوب منا كل خزي، أو خزي معين عنده تعالى لا نعرفه نحن، وطلب الشارع منا إصابته لكان في ذلك من الحرج والمشقة ما لا يخفى، إذ لا يمكن إنزال كل خزي بهم، ولا نعرفه أنه لم يبق خزي في الدنيا إلا أنزلناه بهم، إذ تحوز العقل أن الخزي المراد لله سبحانه وتعالى لم يصادفه ولم يصبه، فلا يزال يتطلب ذلك، ويلزم من ذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لم ينزل بهم الخزي الذي أراده، ولا أحد من صحابته
_________
(1) في تفسير (1/ 388).
(2) في تفسيره (1/ 390).
(3) ذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 390).
(4) ذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 390).(10/5078)
ولا من بعدهم، وأنهم جميعا لم ينزلوا باليهود شيئا من الخزي المراد لله، ونحو هذا من اللوازم، فلنقف عند قوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (1).
على أنه لا يستفاد من هذه الآية وهي قوله: {لهم في الدنيا خزي} (2) الأمر لنا بإيقاع الخزي، إنما أمرنا بأوامر أخرى أن نقاتلهم، ونسبي ذاراريهم، ونصطفي أموالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وهم صاغرون، فهذه الآية إنما هي وصف لهم بالخزي، والخزي بالفعل مفارقهم في كثير من الأحوال، ولذا قال القاضي: إن المراد [9] أنهم أهل لكل فرد من الأفراد الموجبة للخزي، ولم نقض بأنه واجب علينا إنزال كل فرد من أفراد الخزي لهذه الآية.
وأعلم أنه قد بنى - حماه الله - على أن التنكير إما للتكثير، أو للتعظيم أو مجموعهما وأنه لا يصح القصد إلى فرد من أفراد الخزي، أو إلى نوع منه لعدم مناسبته لمقام الوعيد الشديد.
أقول: لا يجوز أن يكون التنكير للنوعية مع إرادة التعظيم، ولا منافاة بين إرادة النوعية والتعظيم، كما صرح به علماء البيان، فيكون معنى الآية على هذا نوع عظيم من الخزي كما قيل في قوله تعالى: {وعلى أبصراهم غشاوة} (3) ولا مانع من ذلك، وذلك مناسب للمقام، ومعارض لما أيده القاضي - حماه الله - من أن التنكير للتكثير والتعظيم، ومع الاحتمال يبطل الاستدلال لا سبيل إلى القطع بما قاله القاضي، وأن مراد الله ذلك.
قال: الدليل الرابع: قول الله - عز وجل - مخاطبا لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
_________
(1) [التوبة: 29].
(2) [البقرة: 114].
(3) [البقرة: 7].(10/5079)
{وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (1) يعني الكفار أي اغلظ على جنس الكفار، أو على كل كافر، وخاطبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خطاب لأمته. . . إلخ.
أقول: صدر الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (2) قال جار الله (3): جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين بالحجة، واغلظ عليهم في الجهادين جميعا ولا تحابهم.
وكل من وقف منه على فساد في العقيدة هذا الحكم ثابت فيه يجاهد بالحجة ويستعمل معه الغلظة ما أمكن منها.
عن ابن مسعود أن من لم يستطع بيده فبلسانه، وإن لم يستطع فليكفهر في وجهه، فإن لم يستطع فبقلبه (4) يريد الكراهة والبغضاء التبرؤ منه، وقد حمل الحسن (5) جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها انتهى، فعرفت من هذا أن الإغلاظ على الكافرين بالسيف، وعلى المنافقين بالحجة، إذ لا جهاد للمنافقين بالسيف، وأن الأمر بالجهاد للكفار مع بقائهم على الكفر، وعدم تسليم الجزية، فإذا سلموا الجزية فلا جهاد لهم ولا إغلاظ.
وقد قال تعالى {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (6) وقال في الثمرات (7) في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} (8).
_________
(1) [التوبة: 73] [التحريم: 59].
(2) [التوبة: 73]، [التحريم: 59]
(3) أي الزمخشري في "الكشاف" (3/ 68).
(4) أخرجه ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (6\جـ 10/ 183).
(5) أخرجه ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (6\جـ10/ 184).
(6) [العنكبوت: 46].
(7) تقدم ذكره.
(8) [التوبة: 73]، [التحريم: 59].(10/5080)
الآية ما لفظه: دلت على وجوب الجهاد، قيل بالسيف للكفار، وجهاد المنافقين بالحجة، وقيل جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم عن الحسن وقتادة.
وقال الضحاك (1) وابن جريح: جهاد المنافقين بأن يغلظ عليهم الكلام، وهذا حيث لا يقابل ذلك مصلحة [10] فإن ترتب على الرفق بهم مصلحة من رجاء توبة به جازت الملاطفة، وقد جوزوا التعزية لأهل الذمة والوصية، وقال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2) انتهى.
قال: الدليل الخامس: ما وصف الله به أهل الإسلام من قوله: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} (3) فالعزة على الكفار على وجه الاستعلاء المشعور به من على وصف المادح الانخراط في سلكه أمر ترغب إليه كل نفس أبية، وتطلبه كل همة قسورية وأن ما نحن فيه - لعمر أبيك - حقيق بأن يكون مقدم قافلة ركب العزة، وعنوان ذلك الشرف الذي ما صادف غيرة مجزه.
_________
(1) انظر تفسير القرآن العظيم (4/ 178) لابن كثير.
(2) [الممتحنة: 8] قال ابن جرير في "جامع البيان" (14\جـ28/ 66) وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: لا ينهاكم الله عن الذين لا يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم إن الله عز وجل عم بقوله: (الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم) جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح.
(3) [المائدة: 54].(10/5081)
أقول: لا ننكر أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأما كون هذه مقدمة ركب العزة فلا، إذ يلزم من ذلك أنه لا عزة للإسلام في البلاد الخالية عن اليهود، إذ بالضرورة أنهم يلتقطون أزبالهم هم بنفوسهم، أو يقوم بهذه الوظيفة أحدهم، فلا عزة لهم حينئذ، وقد قال ربك سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} (1) قال جار الله (2): هذه الهمزة للإنكار المستقبل بالتجهيل والتعجب من اعتراضهم وتحكمهم، وأن يكونوا هم المدبرين من النبوة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بها، والمتولين لقسمة رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته، ثم ضرب لهم مثلا فاعلم أنهم عاجزون عن تدبير خويصة أمرهم، وما يصلح في دنياهم، وأن الله - عز وعلا - هو الذي قسم لهم معيشتهم، وقدرها ودبر أحوالهم تدبير العالم بها، فلم يسو بينهم، ولكن فاوت في أسباب العيش، وغاير بين منازلهم، فجعل منم أقوياء وضعفاء، أغنياء ومحاويج، وموالي وخدما ليصرف بعضهم بعضا في حوائجهم ويستخدموهم في مهنهم، ويسخروهم في أشغالهم، حتى يتعايشوا، ويترافدوا، ويصلوا إلى منافعهم، ويحصلوا على مرافقهم، ولو وكلهم إلى أنفسهم، وولاهم تدبير أمرهم لضاعوا وهلكوا، فإذا كانوا في تدبير المعيشة الدنية في الحياة الدنيا على هذه الصفة، فما ظنك بهم في تدبير أمر الدين الذي هو رحمة الله الكبرى ورأفته العظمى؟ وهو الطريق إلى حيازة حظوظ الآخرة، والسلم إلى حلول دار السلام انتهى.
فبعد قوله الله تعالى: {ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا} (3) لا مجال للكلام [11] في
_________
(1) [الزخرف: 31 - 32].
(2) أي الزمخشري: في "الكشاف" (5/ 438).
(3) [الزخرف: 32].(10/5082)
أن ذلك عار وشنار وحطة تلحق الإسلام، على أن المسلمين قد دخلوا في حرف كثيرة فيها دناءة وصغار وإن لم يبلغ في الجد هذه، فهلا قيل: إنه لا عز للإسلام مع ذلك.
وقد تقدم أنه لا فرق بين نقل الأزبال إلى الأموال ونقلها إلى الحمامات، وجرى بالأول العرف الذي لا ينكر، كما جرى بالثاني في جميع أقطار اليمن، ومضى عليه الأولون.
وهاهنا أيضًا مانع من الاستدلال بالآية: على العموم، وأن سياق الآية يفهم خلاف ذلك وهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} (1) قال أبو السعود في تفسير قوله: (2): {يجاهدون في سبيل الله} صفة أخرى لقوم، مترتبة على ما قبلها \ مبنية مع ما بعدها لكيفية، عزتهم، أو حال من الضمير في أعزة.
قوله: فأي عز لمسلم يعمد إلى حشوش اليهود، ويحمل أزبالهم، وأي فضيلة لإخوانه المسلمين المقرين له على ذلك العمل إلخ.
أقول: هذا مما لم نعلم بوقوعه عندنا، فإن كان واقعا بصنعاء فأنتم أعرف، وعلى ما فيه فلعل له عذرا وأنت تلوم.
وهو أنه قد تقرر أن الضرورات تبيح المحظورات، قال تعالى: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله} (3) إلى قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (4) فقد تكون الضرورة ألجأته إلى العمل بالأجرة فيما يسد خلته، ويقوم بأود عياله، ويسد رمقه، ويبلغ به البلغة من العيش، وأنه لا يجب عليه أكل الميتة وثمة شيء يتناوله وينتفع بإيقاده، فيحصل من أجرة الإيقاد ما يقتات به،
_________
(1) [المائدة: 54].
(2) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم" (2/ 499).
(3) [البقرة: 173].
(4) [البقرة: 173](10/5083)
ولعمر أبيك أنه ما طلب الدنيا أحد بما تستحق مثل هذا الرجل.
فقد روي عن بعض السلف حكاية ظريفة، وهو أنه رأى رجلا مضحكا عليه آثار النعمة، فقال: ما هذا؟ فقيل: هذا رجل يضحك الملوك بأن يضرط لهم فقال: ما طلب الدنيا أحد بما يليق بها مثل هذا، أو في حديث أعزل الأذى عن طريق المسلمين أخرجه أحمد (1).
وفي الحديث: "استعفف عن السؤال ما استطعت" أخرجه الديلمي (2).
وفي الحديث: "إن الله يحب العبد المؤمن المحترف" أخرجه أحمد (3).
وفيه إن الله يحب العبد ينتحل المهنة، يستغني بها عن الناس، ويبغض العبد يتعلم العلم يتخذه مهنة.
وقد أجر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه في الجنة، نفسه من يهودي، قال ابن حجر (4) حديث علي أنه أجر نفسه من يهودي [12] يسقى له كل دلو بتمرة [أخرجه] (5) ابن. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
(1) في "المسند" (4/ 420) بإسناد حسن.
قلت: وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (131/ 2618) البيهقي في "الشعب" رقم (11165) وابن أبي شيبة (9/ 28) وابن ماجه رقم (3681) وأبو يعلى في مسنده رقم (7472) وابن حبان رقم (541) من طرق عن أبي برزة قال: قلت يا رسول الله علمني شيئا أنتفع به قال: "اعزل الأذى من طريق المسلمين".
(2) لم أجده.
(3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (12/ 308 رقم 13200) وفي "الأوسط" (8/ 380) رقم (8934). وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 62) وقال رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" وفيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف.
أخرجه البيهقي في "الشعب" رقم (1237)، كلهم من حديث عبد الله بن عمر.
(4) في "التخليص" (3/ 134).
(5) زيادة يقتضيها السياق.(10/5084)
ماجه (1) والبيهقي (2) من حديث ابن عباس، وفيه حنش راويه (3) عن عكرمة عنه، وهو ضعيف، وسياق البيهقي أتم، وعندهما أن عدد التمر سبع عشرة، ورواه أحمد (4) من طريق علي بسند جيد، ورواه ابن ماجه (5) بسند صححه (6) ابن السكن مختصرا قال: كنت أدلو الدلو بتمر، واشترط أيضًا جلدة انتهى، كذا أي يابسة جيدة لم يأنف أمير المؤمنين أن يعمل ليهودي، ولم يقل أنه سقط شيء من عزة الإسلام، وقد يكون تعاطي الأعمال الدنية لهضم النفس من الكبر والخيلاء والعجب.
وذلك لا يفي بمن عرف من نفسه عدم الوقوف عند الحد، وهو المناسب لما حكى أن مطرف بن عبد الله بن الشخير (7) نظر إلى المهلب بن أبي صفرة (8) وعليه حلة يسجها، ويمشي الخيلاء، فقال له: يا أبا عبد الله ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله؟ فقال
_________
(1) في "السنن" (2446)
(2) في "السنن الكبرى" (6/ 119) وهو حديث ضعيف جدًا.
(3) اسمه حسين بن قيس، وحنش لقب، قال أحمد: متروك وقال أبو زرعة وابن معين: ضعيف، وقال البخاري: لا يكتب حديثه، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال: متروك، وقال السعدي: أحاديثه منكرة جدًا، وقال الدارقطني: متروك.
الميزان (1/ 546).
(4) في المسند (1/ 90، 135).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 97) وقال: رجاله رجال الصحيح إلا أن مجاهد لم يسمع من علي، وقال ابن الملقن: وهو من رواية مجاهد عنه، يعني علي - وهو منقطع.
(5) في السنن رقم (2447). وهو حديث حسن
(6) ذكره ابن حجر في التلخيص (3/ 134).
(7) هو مطرف بن عبد الله بن الشخير الحرشي العامري أبو عبد الله البصري قال العجلي ثقة.
وذكره ابن سعد في "الطبقات" (7/ 141) في الطبقة الثالثة من أهل البصرة وقال روى عن أبي بن كعب وكان ثقة ذا فضل وورع وأدب.
انظر: "تهذيب التهذيب" (10/ 157 رقم 326)، "التقريب" (2/ 235).
(8) انظر "تهذيب التهذيب" (10/ 293).(10/5085)
المهلب: أوما تعرفني؟ فقال: بل أعرفك أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وحشوك فيما بين ذلك بول وعذرة، قلت: ففي ذلك مناسبة ليكون حمله لذلك ظاهرًا وباطنا، وقد أخذ ابن عون هذا الكلام فنظمه شعرًا:
عجبت من معجب بصورته ... وكان بالأمس نطفة مذره
وفي غد بعد حسن صورته ... يكون في اللحد جيفة قذرة
وهو على تيهه ونخوته ... ما بين هذين يحمل العذرة
قال: الدليل السادس: أخرج الطبراني في الصغير من حديث عمر والدارقطني، من حديث عائذ المزني مرفوعًا: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه" (1) إلخ.
أقول: "الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: من حيث المعنى أنه إذا كان في معنى الأمر، وقد تقرر أن المشرع لم يمنع من بعض المهن التي فيها سقوط، فالإسلام باقي على علوه، إذ لا نقص فيما أباحه المشرع، وجرى عليه العرف، سيما على قول من يقول أن المباح مأمور به (2).
الوجه الثاني في الكلام: على إسناده، قال ابن حجر (3) حديث: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه الدارقطني (4) من حديث عائذ المزني، وعلقه البخاري (5) ورواه الطبراني في الصغير (6) من حديث عمر مطولا قصة الأعرابي والضب، وإسناده ضعيف جدا انتهى.
وفي خلاصة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) انظر "روضة الناظر" (1/ 194) الإحكام للآمدي (1/ 168).
(3) في "تلخيص الحبير" (4/ 231).
(4) في "السنن" (3/ 252).
(5) في صحيحه (3/ 258) كتاب الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟.
(6) (2/ 153) رقم (948) الروض الداني).(10/5086)
البدر (1) من رواية ابن عمرو المزني بإسناد واه أبو نعيم (2) والبيهقي (3) في كتابيهما دلائل النبوة من رواية عمر، ولفظه: الحمد الذي هداك لهذا الدين الذي يعلو ولا يعلى عليه.
قاله للأعرابي في حديث طويل، وفي سنده محمد بن علي بن الوليد [13] السلمي البصري، قال البيهقي: الحمل فيه على السلمي، قاله الذهبي (4) قال: صدق والله الذهبي والبيهقي، فإنه خبر باطل انتهى.
قال: الدليل السابع: أخرج مسلم (5) من حديث أبي هريرة، "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه" إلخ.
أقول: نعمل فيهم بما أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
قوله: وفحوى الخطاب ولحنه قاضيان بمنعهم عن مساواة المسلمين في مثل هذه الخصلة، وفيما هو أشد ضررا منها على المسلمين.
أقول: الشروع غير قاض بالمنع عن المساواة مطلقا، ألا تراه قد أجاز الشارع تساويهم في الحرف الدنية غير هذه، ولم يلزمنا منع المسلم عن الاحتراف بحرفة الكافر ولا العكس، فقياس أمور لم يمنعها الشرع، وجرى بها العرف على هذا الحديث بعيد، فلا نأمن أن نقع في الغلط، وقياس الأولى في هذه ممنوع لإطباق الأمة على جواز تسميد الأرض بالزبل، ولم ينقل عن أحد أنه أجبر اليهود على نقل ذلك.
وحشوش الشام وغيره يجتمع فيه المخرجان، فيصير كأنه طينة الخبال أشد مما رأيتم في اليمن، ولم يسمع أن أحدا من العلماء إلى الآن مع تطاول الزمان، وظهور العلم، وانتشار الأقوال، سير الكتب في الأقطار أن أحدا أجبر اليهود على إخراج طينة الخبال،
_________
(1) (2/ 362) رقم (2607).
(2) في "الدلائل" رقم (320).
(3) في "الدلائل" (6/ 36 - 38).
(4) في الميزان (3/ 651 رقم 7964).
(5) في صحيحه رقم (2167) وقد تقدم(10/5087)
وعلى فرض أنه يقول بذلك قائل فليس بحجة علينا، وبعد انعقاد الإجماع لا ظهور لمخالف.
قال: الدليل الثامن: ثبت تواترا أن رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أخرج بني النضير (1) من ديارهم لما في ذلك لمصلحة للمسلمين، وقد قرن الله الخروج من الديار بقتل الأنفس، فإذا كانت مراعاة المصلحة مجوزة للإجبار لهم بمثل هذا الأمر العظيم، فكيف لا يجوز إجبارهم بما هو دونه بمراحل في إضرار المجبرين وفوقه بدرجات في الصلاح!
أقول: لا قياس: فإن قصة بني النضير في صدر الإسلام بعد قصة بدر التي عاتب الله فيها نبيه في الفدى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} (2) الآية فقتل بني قريظ، وإجلاء بني النضير عوضا عن القتل، وقد كتب الله عليهم ذلك فقال: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3) يعني أن الله قد عزم على تطهير أرض المدينة منهم، وإراحة المسلمين من جوارهم وتوريثهم أموالهم، فلولا أنه قد كتب الجلاء، واقتضته حكمته، ودعاه إلى اختياره أنه أشق عليهم من الموت لعذبهم في الدنيا بالقتل كما فعل بإخوانهم بني قريظة، هذا كلام [14] جار الله (4) فهل كتب الله على هؤلاء اليهود إخراج المزابل، والتقاط الأزبال على لسان نبيه بصريح سنته أو كتابه؟ فالقياس على قضية بني النضير خطر عظيم إذ هم في تلك الحال محاربون، قد كتب الله عليهم الجلاء، ولا يقبل منهم إلا الإسلام، فإن فعلوا؛ نجوا.
_________
(1) تقدم ذكره.
(2) [الأنفال: 67].
(3) [الحشر: 3 - 4].
(4) أي الزمخشري في "الكشاف" (6/ 75).(10/5088)
وأما هؤلاء فقد عقدت لهم الذمة، وسلموا الجزية، فيكف يجوز أن نقيس المحاربين على المعاهدين في شيئين بينهما بون بعيد!.
قال: الدليل التاسع: حديث: "نزلوا الناس منازلهم" (1) وأدلة الكتاب والسنة والإجماع قاضية بأن منزلة المسلم أرفع من منزلة الكافر، فينبغي أن يعطى المسلم من المكاسب ما يليق بدرجته العلية، ويعطى الكفار ما يليق بمرتبته الدنية إلخ.
أقول: إن كان الأمر هنا للندب فالقصد منه الإرشاد، وإن كان المراد الوجوب فهو عام، وقد خصصته السنة بأحكام أهل الذمة، وتبيين منازلهم، وما سنه فيهم، ونحن نقول بموجب ذلك، ونقول: قد أقرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ومن بعده على أمور معروفة، وأخذوا منازلهم، فنحن حاذون حذوهم.
وقد يقال: إن من تعاطى الحرف الدنية من المسلمين فتلك منزلته، إذ لا يتعاطى ذلك إلا أراذل الناس وسفهاؤهم، وبالحكم الضروري والخبر النبوي أن في الناس رؤوسا وأذنابا فقد أعطي كل منزلته.
قال: الدليل العاشر: أخرج. . . (2) البخاري (3) ومسلم (4) والترمذي (5) والنسائي (6) عن أنس مرفوعا: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" إلخ الحديث.
ليس على ظاهره لأنه إما أن يراد: لا يؤمن الإيمان الكامل، وذلك لا يضر، إذ الإيمان الكامل عزيز، والإيمان يزيد وينقص ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم، وعن الحسن أن رجالا سأله أمؤمن أنت؟ قال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسأل عن الإيمان بالله وملائكته
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) كلمة غير مقروءة.
(3) في صحيحه رقم (13).
(4) في صحيحه رقم (45).
(5) في السنن رقم (2515) وقال: هذا حديث صحيح.
(6) في السنن رقم (8/ 114 - 115رقم5013).(10/5089)
وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والجنة النار، والبعث والحساب، فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} (1) فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا (2) انتهى.
وإما أن يراد به لا يؤمن أي: لا يكون مسلما بل كافرا، فالقاضي لا يقول بذلك، وقد تكلموا في معنى الحديث فقال بعض: إن هذا من الصعب الممتنع، قال المناوي: ولم يفهم معنى الحديث، وفسره المناوي بأن المعنى المراد هو أن تحب له حصول مثل ذلك من جهة لا تزاحم فيها، وقال ابن حجر (3) قوله: لا يؤمن أي من يدعي الإيمان، والمراد بالنفي كمال الإيمان، ونفي اسم الشيء على معنى الكمال عنه مستفيض في كلامهم، كقولهم: فلان ليس بإنسان، فإن قيل: فيلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمنا كاملا، وإن لم يأت ببقية الأركان [15] أجيب بأن هذا ورد مورد المبالغة أو استفاد من قوله لأخيه المسلم ملاحظة بقية صفات المسلم، وقد صرح ابن حبان (4) من رواية ابن عدي عن حسين المعلم بالمراد ولفظه: لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان، ومعنى الحقيقة هنا الكمال ضرورة أن من لم يتصف بهذه الصفة لا يكون كافرًا، وبهذا يتم استدلال المصنف يعني: البخاري على أنه يتفاوت، وأن هذه الخصلة من شعب الإيمان، وهي داخلة في التواضع على ما سنقرره انتهى كلامه (5).
قال: في الدليل الحادي عشر: ولا شك أن امتناعهم من القيام بهذه العهدة التي هي رأس المصالح قادح في جواز التقرير قادح.
أقول: لا يجوز القدح فيما أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، إذا عرفت أن النبي
_________
(1) [الأنفال: 2].
(2) ذكره الزمخشري في "الكشاف" (2/ 553).
(3) في "الفتح" (1/ 57).
(4) في صحيحه (رقم 235).
(5) ابن حجر في "الفتح" (1/ 57).(10/5090)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عقد لهم الذمة على الجزية فقط حسب الكتاب الذي كتبه لحمير وما ورد في معناه حسبما نقلناه، وصححه الحاكم (1) وألحق الأئمة بالجزية كل على حسب ما أدى إليه اجتهاده، ولا يلزمنا اجتهاد مجتهد آخر، ولا يجوز لمجتهد أن يعمل بقول مجتهد آخر إلا عند تضييق لحادثة، أو يرتضيه بعد البحث، وقد عرفت ما قاله الفقيه (2) يوسف من أن إقرارهم بالجزية قد يكون لطفا لنا بالشكر على قهرهم، ولطفا لهم يكون باعثا لهم على الدين لأجل المخالطة انتهى.
قال: الدليل الثاني عشر: إن ملاحظة مصلحة المسلمين إذا لم تتم إلا بإتعاب النفوس إلى قوله فهي أولى بالجواز من حفر الخندق.
أقول: قد عرفت أن حفر الخندق (3) إنما كان للحاجة الماسة إلى ذلك من حفظ النفوس والدين معا لليوم الذي قال الله فيه: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (4) فلا يشك عاقل أن حفظ النفس في تلك الحال مع قلة المسلمين، وكثرة الظالمين مقدم على حفظ الدين، فكيف يصح قياس ما فيه مصلحة لا تقطع برجحانها، إذ أن عزة الدين ثابتة وبدونها على ما يجب به حفظ النفس، فقد صار معنى كلامه أنه يجوز الإجبار أو يجوز على هذه المصلحة كما جاز حفر الخندق الذي وقع
_________
(1) تقدم تخريجه، وانظر فتح الباري (6/ 258 - 260).
(2) في الثمرات (مخطوط).
(3) الذي حفر حول المدينة بأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان الذي أشار بذلك سلمان.
وكان ذلك في غزوة الأحزاب لاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين وهم قريش وغطفان واليهود ومن تبعهم، وكانت في شوال سنة خمس للهجرة.
"الفتح" (7/ 392 - 394).
(4) [الأحزاب: 10 - 12].(10/5091)
لحفظ النفس والدين مع أنه لم يقع من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إجبار على حفره، ثم إن ندب الناس لحفر الخندق لفائدة عائدة إليهم، فهم يقبلون إليه رهبة للعدو، ورغبة في الجنة، وأي فائدة لليهود من الإجبار على ذلك؟ هل الأجرة في التأجير من شأنه الرضى أم الفائدة لنا فيعملون بلا أجرة سخرية مكرهين، فهل من دليل؟
قال: الدليل الثالث عشر: [16]: قد تواترت أدلة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهما واجبان، فإذا لم يتم هذا الواجب إلا بإجبار اليهود فما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه.
أقول: قد قدمنا لك أن نقل الأزبال إلى الأموال لا فرق بينه وبين نقلها إلى الحمام، وأنه لم يمنع من ذلك شرع ولا عرف، وقد رددنا الاستنباطات التي سماها القاضي أدلة كما سمعت، وقال تعالى: {وأمر بالعرف} (1) قال السيوطي: قال ابن الغرس: المعنى اقض بكل ما عرفته النفوس مما لم يرده الشرع، وهذا أصل للقاعدة الفقهية في اعتبار العرف (2) وتحتها مسائل كثيرة لا تحصى انتهى.
فهذا الذي جعله القاضي - كثر الله من فوائده - منكر معروف حسب هذا التقرير.
قال: الدليل الرابع عشر: أن حفظ الدين أحد الضرورات (3) الخمس المعروفة في الأصول.
أقول: يستفسر ما أراد بالدين، فإن أراد بالدين الأركان التي بني الإسلام عليها، وأنه لا يتم حفظها إلا بمنع المسلمين عن التقاط الأزبال ممنوع، إذ هي تامة بدون ذلك. وإن أراد بالدين الدين الداخل فيه جميع شعب الإيمان، ومنها المندوب، والمسنون فقد أوجبنا عليه حفظ ما ليس بواجب.
_________
(1) [الأعراف: 199]
(2) انظر"الكوكب المنير" (4/ 448) ومجموع الفتاوى (9/ 16 - 17).
(3) تقدم ذكرها.(10/5092)
ويعارض أيضًا بأن منع المسلم المحترف بتلك الحرفة يؤدي إلى عدم حفظه للدين، لاختلال حاله بالمنع عن تلك الحرفة، وافتقاره فيشرف، وكاد الفقير أن يكون كافرا، ولذا قرن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الفقر بالكفر بالتعوذ منهما.
وقد نهى عن أجرة الحجامة (1) وأعطى الحجام أجره (2) فعرف أن النهي للكراهة لما فيها من الدناءة، فإن الحرف الدنية التي يباشر فيها النجاسة على القول بنجاسة الدم تطيب منها الأجرة، وإلا لما أعطاه الأجرة.
قوله: وأما تقريرهم على ذلك يستفسره من هم؟ هل المراد، تقرير المسلمين على التقاط الأزبال؟ أم تقرير اليهود على الإعفاء عنها؟.
قوله: فمناسب (3) ملغى.
المناسب الملغى ليس بملغى عند مالك، ويحيى بن يحيى الليثي عاقل الأندلس (4) وإن
_________
(1) أخرج أحمد في "المسند" (5/ 435، 436) وأبو داود رقم (3422) والترمذي رقم (1277) وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه رقم (2166) عن ابن مسعود: أنه كان له غلام حجام فزجره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كسبه فقال له: ألا أطعمه أيتامًا لي؟ قال: "لا" قال: أفلا أتصدق به، قال: "لا" فرخص له أن يعلفه ناضخه.
وأخرج أحمد في مسنده (2/ 299، 332، 347، 415، 500) بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن كسب الحجام ومهر البغي وثمن الكلب".
(2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2103) ومسلم في صحيحه رقم (62/ 1577) عن أنس قال: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتجم حجمه أبو طيبة وأعطاه صاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه".
وأخرج مسلم رقم (1202) من حديث ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتجم وأعطى الحجام أجره ولو كان سحتا لم يعطه".
والأولى الجمع بين الأحاديث بأن كسب الحجام مكروه غير حارم إرشادا منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى معالي الأمور.
(3) تقدم ذكره.
وانظر: مختصر ابن الحاجب (2/ 242) "الكوكب المنير" (4/ 180).
(4) أفتى به يحيى بن كثير الليثي صاحب الإمام مالك، إمام أهل الأندلس عبد الرحمن بن الحكم نظر إلى جارية له في رمضان نهارا فلم يملك نفسه أن واقعها، ثم ندم وطلب الفقهاء وسألهم عن توبته، فقال: يحيى بن يحيى: صم شهرين متتابعين. فسكت العلماء، فلما خرجوا قالوا ليحيى: ما لك لم تفته بمذهبنا عن مالك أنه مخير بين العتق والصوم والإطعام؟ قال: لو فتحنا له هذا الباب لسهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة فحملته على أصعب الأمور لئلا يعود.
انظر: الكوكب المنير (4/ 180) جمع الجوامع (2/ 284).(10/5093)
حكا الاتفاق ابن الحاجب (1) على إلغائه.
قوله: وأمر اليهود بعد تسليم فقد الأدلة مناسب مرسل ملائم ينظر من أي أقسام الملائم المرسل هو، هل مما علم اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في غير الحكم، أو جنسه في غير جنس الحكم؟ على أن ملائم (2) المرسل فيه الخلاف، وكذلك المرسل بأقسامه أيضا، على أن المناسبة تنخرم بلزوم مفسدة راجحة، أو مساوية، فلو قيل: إن المصلحة في التقاط المسلمين الأزبال مرجوحة، وفي إجبار اليهود على ذلك راجحة.
قلت: لو لم يلزم من ذلك نقض العهد بالزيادة على ما عوهدوا عليه.
قال: الدليل الخامس عشر: هب أنه لا دليل يدل على الحتم ففي حديث: "لأن يهدي الله بك رجل [17] " (3) دليل على جواز الإجبار بل على الندب.
أقول: لا يدل هذا الحديث على أكثر من الندب على ترغيب المسلم في ترك التقاط الأزبال، إذ الهداية إنما هي للمسلم، وهي تامة من دون إجبار اليهود على أن الذمي المؤدي للجزية المعاهد بعهد من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عليها، فقط الواقف عند الحد الذي نص عليه ولا وجه لإجباره على حمل العذرة، سيما والمفعول لأجله وهو الحمام أمر مباح يتوصل به إلى محظور، وهو خول النساء الحمام، وخضب الكفين والرجلين من الكهل والغلام، وقد عرفت أنه جاء في الحديث: "لعن الله داخلات الحمام" أخرجه الديلمي (4).
_________
(1) تقدم ذكره.
(2) تقدم ذكره، انظر: "إرشاد الفحول" (ص222)، "البحر المحيط" (5/ 215).
(3) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(4) لم أجده. ولكن قد وردت في الحمامات روايات غالبها الضعف وفيها ما هو في رتبة الحسن.
(منها): ما أخرجه أبو داود رقم (4009) والترمذي رقم (2802) وقال: إسناده ليس بالقائم وابن ماجه رقم (3749) وأحمد (6/ 179).
من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن دخل الحمامات، ثم رخص للرجال أن يدخلوها في الميازر، وهو حديث ضعيف.
قال الألباني في "غاية المرام" رقم (191): وذلك لأن أبا عذرة هذا لا يعرف.
وقال ابن المديني: مجهول. كما في "الميزان" وقال الحفاظ في "التقريب" مجهول ووهم من قال: له صحبة، وذكر المنذري في "المختصر" (1/ 89) عن أبي بكر بن حازم أنه قال: لا يعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه، وأبو عذرة غير مشهور.
(ومنها): ما أخرجه أبو داود رقم (4011) وابن ماجه رقم (3748) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنها ستفتح لكم أرض العجم، وستجدون فيها بيوتا يقال لها: الحمامات، فلا يدخلنها الرجال إلا بالأزر وامنعوها النساء إلا مريضة أو نفساء". وهو حديث ضعيف.
قال الألباني في "غاية المرام" (192) وهذا إسناد ضعيف، ابن رافع هو التنوخي المصري، قاضي أفريقية، ضعيف كما في "التقريب" ومثله الراوي عنه ابن أنعم الإفريقي قاضيها، قال الحافظ: ضعيف في حفظه.
(ومنها): ما أخرجه أبو داود رقم (4010) والترمذي رقم (2803) وقال: هذا حديث حسن، وابن ماجه رقم (3750) عن أبي المليح، قال: دخل نسوة من أهل الشام على عائشة رضي الله عنها فقالت: ممن أنتن؟ قلن: من أهل الشام، قالت: لعلكن من الكورة - المدينة والصقع - التي تدخل نساؤها الحمامات؟ قلن: نعم. قالت: أما إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله تعالى". وهو حديث حسن.
(ومنها): وما أخرجه النسائي (1/ 198) والحاكم في "المستدرك" (4/ 288) وأحمد (3/ 339) من طريق أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها خمر" قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وأبو الزبير مدلس وقد عنعنه.
لكن تابعه طاووس، أخرجه الترمذي رقم (2801) من طريق ليث بن أبي سليم عنه به، وقال: حديث حسن غريب.
وقد حسنه الألباني في "غاية المرام" رقم (190).(10/5094)
والأكثر والغالب دخول النساء الحمام لغير ضرورة، ولا يخفى ما ينشأ عن دخول الحمام من الفتنة، وتمكن إبليس من نصب حبائل المحنة.
أما برزن من الحمام مائلة ... أو راكهن صقيلات العراقيب
وأما الولدان المخلدون ... فكم بهم من مفتون
لو شاهدت عيناك والحنا على ... أعطافه ولجسمه لآلأ
لرأيت ما يسبيك منه بقامة ... سال النظار بها وقام الماء
وقد قرأتم في الأزهار (1): ويحرم خضب غير الشيب، وأنه يجب عليكم وعلى مثلكم النكير في دخول النساء الحمام وما شاكلهن، ولقد حمدت الله تعالى على وجود مثلكم في هذا الزمان الأخير، ولعلكم تكونون عوضا عن البدر المنير.
ومما ينبغي التبين له هنا، وهو مقابل هذه الحروف الدنية التي دندنتم حولها تلقى الإفرنج في بندر المخا إلى سيف البحر بالأفراس المحلاة، كالمجللة المكرمة، وضرب الكؤوس والطبول إعلانا بذلك، والمشي بها بين يدي الإفرانجي، فهذه في رفعة الكفر كما ذكرتم في تلك من وضعية الإسلام، وإلى هنا انتهى سوط القلام، ولو بسطنا ما يشاء به ذلك، وفتحنا باب الإنكار لاتسعت المسالك.
اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم يا أرحم الراحمين.
على أنا بعد هذا كله نرغب إلى ترغيب اليهود وإنصافهم بالأجرة، ولا ينكر حسن ذلك، وقد عرفتهم أنه ينبغي إعلام الأجير بقدر الأجرة قبل الشروع في العمل، وأنه
_________
(1) (3/ 284 - مع السيل الجرار).(10/5096)
يعطى الأجرة قبل أن يجف عرقه، ولا يخفى عليكم التشديد في مطل الأجرة، وإن رضا الأجير بالأجرة أمر لازم.
انتهى تحرير ذلك ليلة ثامن عشر من الحجة الحرام سنة 1205 وكان انتهى نقلها من السواد إلى البياض آخر يوم الأحد من خامس محرم الحرام عام سنة 1206 ستة واثنا عشرة مائة [18].(10/5097)
(170) 48 - /1
تفويق النبال إلى إرسال المقال
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(10/5099)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: تفويق النبال إلى إرسال المقال.
2 - موضع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" حمدًا لك يا من هديتنا لحل الإشكال وأرشدتنا إلى دفع الاختلال بالإبطال. .
4 - آخر الرسالة: كمل تحريره كما حرره جزاه الله خير الدارين بحق محمد وآله الأطهار.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 28 صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرًا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها (15).
8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(10/5101)
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدًا لك يا من هديتنا لحل الإشكال (1)، وأرشدتنا إلى دفع دعوى الاختلال بالإبطال، وأعنتنا على رد إرسال المقال (2) بتفويق المقال (3) النبال، وصلاة وسلامًا على رسولك وآله وصحبه أرباب الجلال والكمال، وبعد:
فإنه وصل إلى الحقير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - شموس براهين تعمل بأشعة أنوارها خفافيش الابتداع، ورياض رياحين تموت عند هبوب نسيمها جعل الاختراع، نظم فوائدها، وألف عقد شواردها مولاي العلامة الأوحد عبد الله بن عيسى بن محمد (4)، ولله دره من عالم! ما أعرفه بمسالك المناظرة والمقامرة! وأبعده عن تعسفات المجادلة والمكابرة، فلقد أفاد وأجاد، وحرر لما يجيز حسنه النقاد، وسمى تلك الأبحاث الحسان، والأنضار الرصان: إرسال المقال على حل الإشكال، وهي رسالة كتبت بها إلى والده مولانا العلامة النحرير، بركة اليمن والزمن عيسى بن محمد (5) ولقد أرسل من المقال ما يبهر أعلام الجدال، إلا أني وجدت لي في هذا القطيع شاة، وفي مضيق هذا الوادي الذي يتلون الخريت في حافاته ممشاة، فأحببت التكلم بما خطر حال الاطلاع على تلك الفوائد، والتسبب بذلك إلى الاستكثار من هذه الشوارد. غير مطول لمجال المقال ولا مرسل لعنان أفراس الجدال.
_________
(1) يشير إلى الرسالة رقم (166).
(2) يشير إلى الرسالة رقم (168).
(3) في رسالتنا هذه وتحمل رقم (170).
(4) عبد الله بن عيسى بن محمد بن الحسين الكوكباني ولد سنة 1175 وقيل سنة 1170 هـ.
من مؤلفاته: "اللواحق بالحدائق" وله كتاب ترجم فيه لشعراء عصره. توفي سنة 1224 هـ. "
البدر الطالع" رقم (225)، "نيل الوطر" (2/ 92).
(5) تقدمت ترجمته.(10/5105)
وليعلم قبل الشروع في الجواب أن التمسك بأذيال أقوال الرجال من غير ربط لها بالأدلة غير نافق في سوق المناظرة، إلا أن يكون ذلك في القواعد التي تبني عليها الأدلة [1]، ومرجعها بالآخرة إلى الرواية لا إلى الرأي، كالاحتجاج بأقوال أئمة النحو والصرف، والبيان، والقواعد الأصولية الراجعة إلى ما هو كذلك.
وأما الاحتجاج بما فهمه البعض منهم من الكتاب أو السنة، أو اجتهد فيه رأيه، فهذا ليس بحجة على أحد، وإلا لزم اجتماع النقيضين، وأنه باطل على أن القول بعدم حجية الإجماع بعد النزاع الطويل في إمكانه، ووقوعه، ونقله، والعلم به هو الراجح عند من لم يخبط بأسواط هيبة الجمهور، وركب في سفره إلى دار ليلى كل عاقر جهور، ولم تطف مصباح إنصافه رياح هذه المذاهب، ولا أعشاب بصيرته قتام تلك المواكب.
قال (1) نفع الله بعلومه: الجملة الاسمية - لا شك - أنها تدل على الدوام والثبوت، إذا كان خبرها اسمًا، لكن إذا وقعت حالًا يصير كالمشي المبتدأ به، الذي تجدد وقوعه في تلك الحال من دون نظر إلى الدوام وعدمه، ولذا قالوا: إنك تقصد في الحال أن صاحبها كان على هذا الوصف حال مباشرة الفعل؛ فهي قيد للفعل. إلى قوله: قال في دلائل الإعجاز.
أقول: نستفسر مولانا فجر الإسلام عن قوله من دون نظر إلى دوام أهل الدوام الشامل لجميع الأوقات مطلقًا، حال وقوع المقيد وقبله، وبعد نقتضيه أم الدوام الخالص بزمن المقيد.
الأول: مسلم، ولا يضرنا ولا ينفعكم؛ لأنا لم ندع في تلك الرسالة دوامًا زائدًا على وقت المقيد، ولكنا دللنا على عدم انفكاك صدق الإعطاء الذي هو المقيد عن صاحب الحال، الذين هم اليهود، لما قررناه من الأمور بموادعتهم حال إعطاء الجزية، ولو كان المعتبر في الموادعة الإعطاء بالفعل لما أتم لأهل الذمة أمان على مرور الأزمان،
_________
(1) يشير إلى الفقيه عبد الله بن عيسى في رسالته رقم (169).(10/5106)
لعدم القدرة على دوام الإعطاء بالفعل.
وإذا ثبت هذا الدوام للمقيد فالقيد مثله، ولا يتوقف دلالة ذلك على محل النزاع، على كون إنزال الصغار بهم الذي هو القيد دائمًا بالفعل لعدم إمكان الوفاء بذلك من القدر البشرية، فإلزامهم ما فيه صغار من المهن الدنية ونحوها كاف في إصغارهم، وانفكاكهم عن مباشرة ذلك في بعض الأوقات، كوقت النوم، والطعام، والراحة لا يقدح في حصول الأثر؛ لأنهم صاغرون بجعلنا لذلك لاصقًا بهم كما ترى المتمسكين بالوظائف الوضعية، والمكاسب الدنية، ولا يريد إنزال كل صغار بكل فرد منهم؛ لعدم وفاء قدرهم به، وقدرنا، بل إنزال ما هو أشد الأنواع وأعظمها في الإذلال، ولا أفظع وأوضع من الالتقاط، لا سيما ومباشرته محرمة على المسلمين شرعًا.
وإن أردتم عدم الدوام بالنظر إلى وقت المقيد فهذا لا يقول به أحد. وقد تقرر أن [2] الحال كاشفة لهيئة الصاحب حال تلبسه بعاملها، وإن لم تكن جملة اسمية، فكيف إذا كانت كذلك!.
قال - حفظه الله -: قال في دلائل الإعجاز (1): إذا قلت: جاء زيد وهو مسرع، أو غلامه يسعى بين يديه، أو وسيفه على كتفه كان المعنى أنك بدأت وأثبت المجيء، ثم استأنفت خبرًا، وابتدأت إثباتًا ثانيًا لما هو مضمون الحال، ولهذا احتيج إلى ما يربط الجملة الثانية بالأولى، فجيء بالواو كما جيء بها في نحو: زيد منطلق وعمرو ذاهب. انتهى. ثم نقل - حفظه الله - كلامه من موضع آخر مثل هذا.
أقول: هذا مسلم ولا يضرنا؛ لأنا نثبت اتصاف صاحب الحال بمضمونها قبل ملابسته لعاملها، ولم ندع في محل النزاع لزوم الصغار في شرعنا لليهود قبل إعطاء الجزية، وضرب الذمة، بل من وقت الإعطاء والضرب. وصاحب (2) دلائل الإعجاز لا
_________
(1) (ص 202)، (ص 214) وقد تقدم.
(2) أي الجرجاني.(10/5107)
ينكر هذا، وليس في كلامه ما ينفيه، ومراده بابتداء الكلام الذي هو قيد المجيء، واستئنافه في ذلك المثال إن لم يكن أمرًا ثابتًا قبله، بل إثبات مضمون الحال لصاحبها بعد إثبات مضمون عاملها له، وليس المراد أنه ثبت له المجيء أولًا، ثم الإسراع مثلًا ثانيًا، بل المراد تعقب إثبات الصفة من المتكلم، وفرق بين الثبوت والإثبات، ولا نزاع في مقارن الحال وعاملها في القيام بالصاحب، أو الوقوع عليه، وهذا هو المراد يقول الشيخ في آخر الكلام، وأنك لم ترد جاءني كذلك، ولكن جاءني وهو كذلك؛ لأن الثاني مشعر بثبوت هذه الصفة له، مقارنة للمجيء بخلاف الأول.
قال: فعرفت من هذا أن المعنى في قوله تعالى: {وهم صاغرون} (1) على استئناف كلام، وابتداء صغار عند إعطاء الجزية، من دون نظر إلى الدوام وعدمه، وهو ما فهمه السلف الماضون - رضي الله عنهم -.
أقول: ونحن معكم على هذا إن أردتم بقولكم من غير نظر إلى الدوام. الدوام الزائد على زمن المقيد. قولكم: عند إعطاء الجزية، قلنا: مسلم لكن على الوجه الذي سلف.
قال: وهو الذي فهمه إمام البيان والتفسير الزمخشري (2) - رحمه الله - إلخ.
أقول: أما مجرد فهم هذا الإمام فلا يوجب رفع الجدال والخصام، وإنما الحجة روايته المستندة إلى اللغة، أو إلى من قوله حجة، فإن قلتم: إمامته وعدالته يمنعه من أن يقول في القرآن برأيه، فلكلامه حكم الرفع. قلنا اختلاف أئمة التفسير من الصحابة والتابعين وتابعيهم معلوم لكل باحث، حتى ربما انتهت الأقوال لهم في آية واحدة إلى عشرين أو ثلاثين قولًا، كل واحد منها مخالف للآخر، فإن كانت عدالة كل واحد وإمامته تمنعه من أن يقول في القرآن برأيه فلتفسيره حكم الرفع، ولزم التعبد بالجمع ولا قائل به [3]. وربما اجتمع في بعض المواطن النقيضان، وبطلانه معلوم ضرورة، بل الذي ينبغي تعويل
_________
(1) [التوبة: 29].
(2) في "الكشاف" (3/ 32).(10/5108)
أرباب الإنصاف عليه هو نصر ما يختار منها بالحجج العقلية أو النقلية، أو مجموعهما، لا مجرد الأقوال، والله - جل جلاله - قد أطلق الصغار في كتابه، ولم يقيده بفرد معين ولا بأفراد، ولا بلغنا عن رسوله ما يصلح للتقييد، فعولنا عند ذلك على ما يقتضيه جوهر اللفظ، قائمين في مقام المنع، قائلين: أين دليل التعيين؟ ولا شك أن وظيفة المدعي للتعيين بعد سمعه لمنع دليله ليست إلا إبراز الدليل كما تقرر في علم الجدل.
قال العلامة العضد في آداب البحث (1): إذا قلت بكلام، إن كنت ناقلًا فيطلب منك الصحة، أو مدعيًا فالدليل فنحن مائلون مع جوهر اللفظ القاضي بجوار إلصاق ما فيه صغار، لم يمنعه منه الشارع لهم، لصدق اسمه، على أنه ليس في كلام هذا الإمام ما يشعر بقصر الصغار على ما ذكره، حتى يكون كلامه دليلًا لكم، والتنصيص على البعض لا ينفي غيره. غاية الأمر أنه اقتصر على ذكر ما جرت به غالب العادات عند إعطاء الجزية، وأنه قادح في محل النزاع وما نقلتموه من الثمرات (2) كذلك.
وقوله: أو يبذل الجزية فيقر على ذلك.
وقلنا: إن أراد - رحمه الله - أن مجرد بذل الجزية مجوز للتقرير كما تشعر به ظاهر العبارة ممنوع، والسند وهم صاغرون، وإن أراد مع غيره فمسلم ولا يضرنا.
وأما المنقول عن السيوطي (3) رواية عن المغيرة فهذه هيئة لم تثبت عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ولا أمر بها، ولا فسر بها كتاب الله تعالى. ولهذا قال النووي (4): أنها هيئة باطلة، وثبوت مثل هذا لا يصلح ردًّا على من قال: إنها هيئة لم
_________
(1) انظر "الكوكب المنير" (4/ 354 وما بعدها).
(2) للفقيه يوسف بن أحمد الثلائي اليمني.
(3) في "الدر المنثور" (4/ 168).
(4) في "روضة الطالبين" (10/ 316).(10/5109)
تثبت، والمحل مجال اجتهاد، واجتهاد المغيرة ليس بحجة على الناس، ولا فيه ما يوجب قصر الصغار على ما ذكر، ولا نشك أن ما ذكره صغار، ولكن ما الدليل على تعينه، وعدم جواز غيره، وإن كان أشد منه في الإذلال والإهانة؟ وهذا القرآن مطلق فهل تقولون بتقييده بقول المغيرة، أو سعيد بن المسيب؟ فإن قلتم: المصير إلى تفسير السلف أرجح.
قلنا: ونحن نقول كذلك ونسلم صحة تفسير الصغار بمثل هذا، ولكن ما الدليل على قصر الصغار الصادق على كل فرد صدقًا بدليًّا إن لم يكن شموليًّا بالقرائن المقامية وغيرها عليه؟.
قال: واستدل بالآية من قال: إن أهل الذمة يتركون في بلد أهل الإسلام؛ لأن مفهومها الكف عنهم عن أدائها، ومن الكف أن لا يجلوا.
أقول: إن أراد هذا القائل ببلاد الإسلام جزيرة العرب فغير مسلم؛ لتأخر الأمر [4] بالإخراج منها، حتى قيل: إنه آخر ما تكلم به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما ثبت في الصحيح (1)، فهذا الاستنباط لا يعارض هذا المنطوق الصريح المعلوم تأخره وإن أراد ببلاد الإسلام الجزيرة وغيرها فلا يتم؛ لأن السنة تخصص نصوص القرآن، فكيف بمثل هذا! فحديث: "أخرجوا اليهود من جزيرة العرب" مخصص لهذا المفهوم، وإن أراد ببلاد الإسلام ما عدا جزيرة العرب فمسلم، ولا يحتاج في جواز التقرير في غيرها إلى دليل، وما سكت عنه الشارع ولم يدل على وجوبه العقل فهو عفو، والتقرير في غير الجزيرة من هذا القبيل، ولنا أن نعارض هذا الاستنباط ونقلبه.
فنقول: تقريرهم في بلاد الإسلام فيه نوع إعزاز، وقد أمرنا بأخذ الجزية منهم، ألا وهم في غير بلاد الإسلام، وهذا الاستنباط وإن لم يكن بذاك القوي ولكنه لا ينحط عن
_________
(1) (منها): ما أخرجه أحمد (1/ 222) والبخاري رقم (3053) ومسلم رقم (20/ 1637) عن ابن عباس قال: اشتد برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعه يوم الخميس وأوصى عند موته بثلاث: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم". وقد تقدم.(10/5110)
رتبة مقابله.
قال: والمراد من ذلك إلخ.
أقول: قد سبق تحرير الجواب عليه، على أنا إذا عولنا على أقوال الرجال، قلنا: هؤلاء أئمة أهل البيت؛ فهموا خلاف ما فهمتهم من أنه لا يشترط أن يخلفه شيء آخر من الصغار.
فقالوا (1): ويلزمون زيًّا يتميزون به، فيه صغار لهم من زنار، ولبس غيار، وجز وسط الناصية، ولا يركبون على الأكف إلا عرضًا ثم قالوا: ولا يظهرون شعارهم إلا في الكنائس، ولا يحدثون بيعة، ولهم تجديد ما خرب، ولا يسكنون في غير خططهم إلا بإذن المسلمين لمصلحة، ولا يظهرون الصلبان في أعيادهم إلا في البيع، ولا يركبون الخيل ولا يرفعون دورهم على دور المسلمين، ويبيعون رقًّا مسلمًا شروه، ولا نقول أن هذا حجة عليكم، ولكن أخبرونا هل جعلهم هذه الأمور صحيح أم لا؟ إن قلتم بالأول لم يصح ما ذكرتموه من كفاية الصغار الحاصل عند قبض الجزية، ولا يشترط أن يخلفه صغار آخر.
وتبين لكم صحة قولنا بعدم اختصاص الصغار بنوع معين.
ولاح أن المراد إذلالهم بأبلغ أنواع الإذلال؛ والإهانة التي لم يمنع الشارع منها، ولا شك أن هذا من أبلغها وأهمها لما فيه من الإعلاء الظاهر، ولا شك أن ركوبهم الخيل، ورفع الدور لم يمنعوا منه إلا لما فيه من العز والشرف على المؤمنين، وفي إعفائهم عن هذه القضية من العزة والشرف فرق ذلك بدرجات.
وإن قلتم بالثاني فمع كونه لم يتعرض للاعتراض عليه من اشتهر لمحبة ذلك كالجلال، والمقبلي، فأبينوا لنا وجه عدم الصحة. فكم ترك الأول للآخر، على أنه قد روي ما ذكروه من الصغار عن غيرهم [5] من العلماء، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما
_________
(1) في "الأزهار" (3/ 774 مع السيل الجرار).(10/5111)
أخرجه أبو عبيد في كتاب الأموال (1)، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه زاد على ذلك فقال: يختم رقاب أهل الذمة بخاتم الرصاص، أخرجه أبو عبيد (2) والبيهقي (3).
فإذا فرضنا أن قول الصحابي حجة كما ذهب إليه البعض، وإن كان غير صحيح، فما اقتصر عليه المغيرة من الصغار كما ذكرتم لا يعارض ما روي عن عمر بن الخطاب من الزيادة.
قال الزمخشري (4) وغيره: لم يفهم ما فهمتموه من دوام الصغار، وعموم أنواع الصغار، ولكل فرد، فحسبنا الزمخشري مخالفًا وقادحًا في الإجماع، فكيف والمخالف غيره كثير!.
أقول: قد علمت أن فهم الزمخشري ليس بحجة، وإنما الحجة روايته عن أئمة اللغة أو غيرهم. وقد ذكرنا في حل الإشكال أن الزمخشري من القائلين أن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبات؛ وهذه لا تكون إلا رواية عن أئمة اللغة، فأخذنا بروايته، وتركنا فهمه ورأيه، على أنه لم يدع الحصر في كلامه.
وأما عموم أنواع الصغار لكل فرد فلم نقل به، لما ذكرنا من عدم الاستطاعة له، والذي صرحنا به في حل الإشكال ما لفظه: وجعلها اسمية تنبيهًا على دوام الصغار وثباته، ومنعنا بعد ذلك الاختصاص بالبعض، فأخبرونا من أين أخذتم عموم أنواع الصغار من كلامنا؟ وما صرحنا به من تعلق الحكم بكل فرد فلا نصار إلى غيره إلا لموجب هو المتقرر في الأصول، وليس في ذلك ما يدل أنا أردنا عموم أنواع الصغار. إذ المراد به أن الصغار المخبر به عن الجماعة ظاهر في تعلق الصغار بكل فرد وفرد؛ وهذا لا
_________
(1) (ص 54).
(2) (ص 55).
(3) في "السنن الكبرى" (9/ 202).
(4) في "الكشاف" (3/ 32).(10/5112)
يخالف فيه الزمخشري، وكلامه الذي نقلتموه شاهد له. وقد حقق هذه المسألة - أعني تعلق الحكم بالكل الإفرادي - صاحب جمع الجوامع (1) وشراحه، وأهل الحواشي بما لا مزيد عليه، فلا نطول بذكره.
قال: وأما اعتبار كل صغار بالفعل لكل فرد على جهة اللزوم في حال الإعطاء، وإلا فليست بجزية، فلم يقل به أحد، ولا دليل على وجوبه.
أقول: ولا أقول أنا بوجوب ما جمع تلك القيود، ولا يقول به عاقل لعدم إمكان الإحاطة بأنواع الصغار، وعدم استطاعة الطباع البشرية القيام به، واستحالة عدم الانفكاك منه بالفعل؛ فهذه ثلاثة موانع ضرورية، ويزداد ذلك إحالة إذا اعتبر اجتماعه في وقت مخصوص كما يشعر بذلك قولكم في حال الإعطاء. فإن كنتم بصدد المناقشة لكلامي فأخبروني أين ذكرت هذا الكلام الذي يعرف استحالته كل عاقل؟ وإن كنتم بصدد المناقشة [6] لكلام غيري فلا أدري من هو، ولا دخل له في كلامنا.
قال: لأن الصغار الحاصل للكل المجموعي، أو للفرد الكامل عائد إلى الأفراد إلخ.
أقول: الكل المجموعي لا ينافيه خروج البعض، فما الدليل على أنه إذا حصل الصغار ليهود القدس مثلًا لم يعتبر حصوله ليهود اليمن؟ وإذا راجعتم البحث في جمع الجوامع (2) وشروحه وغيره من كتب الأصول، تبين لكم أن ضمير الجماعة للكل الإفرادي إلا بدليل، وأما كفاية الصغار الحاصل للفرد فما عثرت إلى الآن على قائل يقول أنه يكفي في الصغار المكلف بإنزاله بهم، بمجرد إنزاله بواحد من كبرائهم؛ فما أظن هذا إلا مخالفًا للإجماع، فأخبرونا: هل لكم في هذه المقالة من سلف؟ فإن لم تجدوا، فأفيدونا بالدليل عليها فهو نعم السلف.
قال: أو يقال: الصغار ثابت لكل واحد بالفعل في حال إعطاء الجزية؛ إذ الواقع أنهم يعطونها وهم في حال صغار إلخ.
_________
(1) (1/ 429).
(2) (1/ 429).(10/5113)
أقول: قد حققنا في حل الإشكال أن عدم اشتراط بقاء المعنى هو الحق عند من أمعن النظر، وهو مذهب الجمهور، كما حكاه السعد. وانظروا في أدلة الفريقين؛ فإنكم ستجدون أدلة القائلين بعدم الاشتراط ضعيفة جدًّا ومزيفة بما هو أظهر من الشمس، وستجدون أدلة القائلين بعدم الاشتراط في غاية القوة والصحة، وما أجيب به عليها من مردود مزيف؛ ولهذا اقتصر المحقق ابن الإمام في الغاية (1) وشرحها على الجوابات على حجج القائلين بالاشتراط، ولما احتج للقائلين بعدمه ذكر الجوابات على أدلتهم، ولم يقتصر عليها، بل أجاب عنها واقتصر على ذلك، وإذا ثبت رجحان القول بعدم الاشتراط فالذمي معطٍ للجزية في جميع الأوقات بعد أول مرة.
والصغار لازم له في جميع تلك الأوقات، ولا يقول بأنه يجب تجديد الصغار له في كل وقت، أو استمراره بالفعل، بل نقول إلزامه لما فيه صغار في أي تلك الأوقات جائز، والاكتفاء بمجرد ما يلصق به منه حال إعطاء الجزية لم يدل عليه دليل، وصدق اسم الصغار عليه لا يبقي جواز غيره الذي هو المطلوب؛ فإن كلامنا كله ليس إلا فيما يدل على الإجبار، فعلام الدندنة حول صدق اسم الصغار على الواقع منه حال إعطاء الجزية؟ فإن التعويل عليه إنما ينفعكم في رد الوجوب لا في رد الجواز، فما ثم باعتبار سؤالكم عن دليل يدل على الإجبار ما يوجب المهاولة، والمطاولة، والمناضلة، والمصاولة، والمجادلة والمقاولة. فانظروا بعين الإنصاف؛ فإن بها يحصل الائتلاف، ويرتفع الخلاف الذي لا يشب ناره إلا ركوب [7] مطي الاعتساف، وأنتم - بحمد الله - بريئون من ذلك، منزهون عما هناك.
قال: وأما كونهم لا ينفكون عن الصغار، والذلة بالقوة فمسلم، وأما عن الصغار والذلة بالفعل فهو معلوم الانفكاك.
أقول: هذا كلام صحيح، ونحن لا نقول بخلافه، واحتجاجنا إنما هو على منع
_________
(1) تقدم ذكره.(10/5114)
تخصيص إلصاق الصغار بهم حال دفع الجزية، فقولكم: إن عدم الانفكاك عن الصغار والذلة بالقوة مسلم لا يوجب منع إجبارهم على هذه القضية التي هي محل النزاع؛ لأن صغارهم بعد التلبس بها لا يكون دوامه إلا بالقوة للقطع بتركهم لذلك حال النوم والأكل، والاستراحة؛ وهذا مشي معكم على مقتضى كلامكم، وإلا فتقييدكم للصغار بالقوة تارة، وبالفعل أخرى، غير مناسب؛ لأن الصغار بمعنى الذلة لا يصير بترك مباشرة الذي هو الالتقاط، أو لبس الغيار، أو ما يقع عند أخذ الجزية، أو نحو ذلك صغارًا بالقوة، بل هو صغار بالفعل؛ لأن الذلة التي هي الاستكانة والخضوع ثابتة لهم في جميع الأوقات، وإنما الذي يصح إنصافه بالقوة تارة، والفعل أخرى أسبابه لا هو.
وهذا كما يقال لمن صار للجبن له غريزة جبان، ولا يشترط في تحقيق جبنه بالفعل حدوث أسباب الجبن؛ من مقارعة الأبطال، وتقحم معارك النزال. ونزاعنا ليس إلا في تخصيص الأسباب التي يتأثر عنها هذا الأثر.
فقولنا في حل الإشكال: وإذا تقرر أن كل فرد من أفراد أهل الذمة لا ينفك عن الصغار بحكم الشرع، وأن الصغار هو الذلة والإهانة كما تقرر في اللغة (1) مقدمة لدفع التخصيص الذي ذكرناه، أما التخصيص ببعض ما فيه ذلك فظاهر؛ لأن أسباب الذلة والإهانة أعم من ذلك. وأما التخصيص بوقت دفع الجزية فلذلك، ولعدم تحقق مثل هذا الأثر عنه - أعني الذلة الداعية على الدوام - التي أشعر بها القرآن. وهب أنه يتحقق بها ذلك الأثر، فما الدليل على الاقتصار عليه؟ إن قلت ما سيأتي من أنها إجارة لا تجوز إلا برضا الأجير، فسيأتي الكلام عليه.
قال: لا ملجئ على مخالفة الظاهر، وما أطبق عليه المفسرون، وعلماء المعاني والبيان.
أقول: قد عرفت مما سلف أنه لم يذهب إلى الأخذ بظاهر التقييد أحد؛ لأن ما ذكره الزمخشري (2). . . . . . . . . . . .
_________
(1) انظر "القاموس" (ص 514).
(2) في "الكشاف" (3/ 32).(10/5115)
وغيره إن بينوا نوعًا من أنواع الصغار، وهو الواقع حال إعطاء الجزية، ولم يتعرضوا لنفي غيره، وهذه كتب اللغة على ظهر البسيطة لم يخص أحد من أهلها الصغار بمثل هذا النوع، بل فسره بعضهم بالذلة، وبعضهم بها مع الإهانة، والواجب علينا عند فقد التفسير المرفوع تفسير كتاب الله بما تقتضيه لغة العرب، وقد وجدنا لغة العرب مشعرة بأعم من الصغار الواقع حال إعطاء الجزية فقلنا: يجوز إجبارهم على الالتقاط آخذًا بذلك، فهل في هذا من ضير؟.
وأما [8] أئمة البيان فقد عرفت كلامهم في الجملة الاسمية الواقعة حالًا أنها تدل على دوام مدلولها لصاحب الحال، مدة ثبوت عاملها له، ونحن لا ندعي غير ذلك، لكن بذلك التحقيق الذي أسلفناه، وإنما أردنا بقولنا أحدًا بظاهر التقييد دفع ما يسبق إلى نظر من يسري إلى ذهنه حال الوقوف على ذلك ما قاله النحاة، من أن الحال قيد في عاملها، من غير التفات إلى ما تقرر في البيان والأصول، على ما هو المذهب الحق من عدم اشتراط بقاء المعنى في إطلاق المشتق، كما وقع لبعض الناظرين في حل الإشكال، فتأمل هذا في نظائر محل النزاع.
قال: هكذا فسره السلف بصغار مخصوص حال إعطاء الجزية، ولو قلنا بعدم الاختصاص لم يلزمنا إجبارهم على التقاط العذرة؛ إذ ما صدق عليه الصغار كاف في المقصود.
أقول: قد عرفت أن عمر بن الخطاب (1)، وعمر بن عبد العزيز (2) فسر الصغار بما هو أعم من ذلك، وكذلك أئمة أهل البيت (3) - عليهم السلام - وغيرهم. وتفسير بعض السلف به بصغار مخصوص من دون ادعاء القصر لا يعارض ما ثبت عن البعض الآخر، ولا يقيد مطلق الآية، ومع أداء القصر تنزيلًا منا.
_________
(1) تقدم ذكره.
(2) تقدم ذكره.
(3) انظر "الأزهار" (30/ 774 مع السيل الجرار).(10/5116)
البعض الذي نقل إلينا الزيادة أولى بالقبول، ولم يقع منافيه للمزيد؛ فهي مجمع على العمل بها، وهذا على فرض أن تفسير بعض السلف حجة علينا، وقد عرفت بيان بطلانه فدع الجميع، وانظر إلى مطلق القرآن وفسره بما تقتضيه لغة العرب:
فما كل بيضاء الترائب زينب
قولكم: لم يلزمنا إجبارهم.
قلنا: النزاع أعم من ذلك إن أردتم باللزوم الوجوب، وهذا الدليل كاف في الأعم وإن دل بعض أدلة حل الإشكال (1) على الوجوب كما قررناه هنالك، وسيأتي له مزيد بيان.
قال: ولا يلزم ذلك؛ لأنا نقول: إن الإعطاء في الآية بالفعل، والصغار الذي هو قيد الإعطاء كذلك بالفعل، وإذا حصل الإعطاء والصغار بالفعل صدق عليهم أنهم معطون بالقوة، وصاغرون بالقوة، إذا كانت بالفعل كانت بالقوة، ولا عكس.
أقول: قد عرفت مما أسلفناه أن الآية تدل على ما هو أعم من الإعطاء بالفعل، وإلا لزم ما ذكرناه، وعرفت أن الصغار الذي جعل كافيًا هنا لم يدل دليل على تقييد المطلق به، ولا قائل به على جهة القطع والبت أحد، والتنصيص عليه لا يستلزم القول بأنه متعين، وهذا قد قرر في مواطن من هذه الرسالة فلا نطول بإعادته.
قال: الإجماع حاصل على جواز تأبيد (2) صلح الكتابي بالجزية، وأنواع صغار مخصوصة من أنواع الصغار لا على أعظم أنواع الصغار، فإلزام أعظم أنواع الصغار محتاج إلى دليل، وعلى فرض ثبوت دليل فقد [9] جعلوا عمل الأمة بخلاف الدليل علة فيه.
أقول: إن أردتم بقولكم مخصوصة أفرادًا، معينة مثل الصغار حال إعطاء الجزية، أو نحوه، فما الدليل على ذلك مع إطلاق القرآن؟ فإن قلتم تفسير بعض السلف وبعض
_________
(1) في الرسالة رقم (166).
(2) تقدم توضيحه. وانظر: "المغني" (13/ 207 - 208).(10/5117)
المفسرين فقد أسلفنا ما فيه.
وإن قلتم غير ذلك فما هو؟.
وإن أردتم بالنوع المخصوص هو ما لم يدل دليل على منعه فمسلم، ومحل النزاع لم يمنع مانع منه، وهذا ظاهر قولكم.
فإلزام أعظم أنواع الصغار محتاج إلى دليل.
قلنا: لا تنكرون أن إطلاق الصغار في القرآن يقتضي صدقه على الأعظم، كما يقتضي صدقه على الأوسط، والأحق، فالدليل على جواز ذلك قرآني.
ثم إذا كان الصغار هو الذلة والإهانة فذلك مطلوب للشارع، وما كان أدخل في بابها كان توجه الطلب والقصد إليه أولى، وأما عمل الأمة بغير ذلك فمع كون مجرد العمل بدون قدح في الدليل ولا إنكار، وكون المقام محل خلاف فممنوع، والمسند أن أهل القرى الباقين على أحوال العرب، وأهل المدن الخالية عن أهل الذمة من الأمة. وهل حصل لكم الاستقراء التام في أقطار الأرض بأن الأمة على ذلك العمل؟ عولنا في ذلك عليكم، وأجبنا بما يقدح في حجيته كل إجماع، فكيف بهذا النوع فإن قلتم: إن مثل هذا العمل وإن كان من بعض الأمة لا يخفى على باقيها، فمع كونه قولًا بالظن، وتخمينًا ممنوع، والسند أن ملوك أقطار بأرض الإسلام قد تخفى علينا أسماؤهم وحروبهم، وما هو أشد من ذلك، فكيف لا يخفى مثل هذه القضية وينبغي أن تمعنوا النظر في أصل تذكرة هاهنا ربما أفاد، وهو أن المسلمين بأسرهم أجمعوا (1) على نجاسة العذرة، وتحريم التلوث بها، وأنه منكر يجب اجتنابه، والنكير على ملابسته، ففعل هؤلاء المسلمين محرم بالإجماع، ومنكر بلا نزاع، وتقرير من قررهم لا يكون مخصصًا لهذا الدليل، واحتجاجكم بتسميد الأرض يستحي، الكلام عليه حينئذ وجب عليكم الإنكار على أولئك المسلمين، ومنعهم بدليل إجماعي أنهض من الدليل الذي ذكرتم.
_________
(1) انظر "فتح الباري" (4/ 414 - 417).(10/5118)
ثم لو سلمنا عدم دليل يدل على إجبار اليهود لم يكن ذلك موجبًا لسقوط الإنكار، ولم يعول من أقر المسلمين على ذلك من علماء هذه الديار، إلا على نوع من أنواع المناسب (1)، وكونه من ذلك محل نزاع، بل كون المناسب حجة ما عدا الضروري منه قول مرجوح لمن أنصف ولم يقلد، فكيف يصلح التمسك بذلك في مقابلة الإجماع والنصوص ولقد جعل الصادق المصدوق عامة عذاب القبر من البول، وقال: "وما يعذبان [10] في كبير، بل إنه كبير" (2)، كما ثبت في بعض روايات الصحيح، (3) ولا شك أن نجاسة العذرة أخبث من ذلك وأقذر، وهذا بمجرده كاف في منعكم للمسلمين عن ذلك؛ فتدبروا - طول الله مدتكم -.
قال: ثم يقول بعد ذلك: إنه لا فرق عند من له فهم بين إخراج الحشوش، ووضع ما فيها في الأموال، وبين التقاط الأزبال، ووضعها في ملة الحمام. وقد أباح الشرع الأول، ولم يمنع من الثاني، ولم يأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بإخراج الحشوش، ولا بالتقاط الأزبال إلى الحمامات، ولا أحد من الصحابة، ولا الخلفاء الأربعة.
أقول: إباحة الشرع الأول أعني: إخراج الحشوش، ووضع ما فيها ممنوع والسند أنها لم تكن في المدينة في عصره، ولا في بلاد العرب المجاورين لها، ولهذا ثبت عن عائشة
_________
(1) في هامش المخطوط ما نصه: على أنه من قسم الملغى، لمصادمته النصوص القاضية لتحريم ملابسة النجاسة، وهو مردود إجماعًا، إلا ما يحكى عن يحيى بن يحيى في إفتاء عبد الرحمن بن الحكم بالتكفير بالصوم على التعيين، وهو خلاف الإجماع كما ذكر في الأصول. - وقد تقدم ذكره وبيانه - كاتبه.
(2) يشير إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري رقم (1378) ومسلم رقم (292) وأبو داود رقم (20) والنسائي (1/ 28 - 30) والترمذي رقم (70) وابن ماجه رقم (347).
عن ابن عباس قال: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بقبرين يعذبان فقال: " إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، بل إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله".
(3) يشير إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري رقم (1378) ومسلم رقم (292) وأبو داود رقم (20) والنسائي (1/ 28 - 30) والترمذي رقم (70) وابن ماجه رقم (347).
عن ابن عباس قال: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بقبرين يعذبان فقال: " إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، بل إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله".(10/5119)
في الصحيح (1): وكنا على عادة العرب الأولى نعاف هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم، أو كما قالت: فكيف يقال أن الشارع أباح ما لا وجود له في تلك البلاد!
فإن قلت: وجوده في بعض البلاد الإسلامية في ذلك الوقت كاف، والاحتجاج بتقريره ركن.
قلنا: أين لنا في أي بلاد الإسلام كان ذلك؟ وأين لنا أن المسلمين كانوا يقولون ذلك؟ وأين لنا أنه بلغ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقرره؟ وبعد هذا البيان نقول: النهي عن التلوث بالنجاسة لغير ما واجب أو ندب عام مجمع عليه، فيقتصر في تخصيصه على ذلك المقدار؛ أعني إخراج الحشوش إلى الأموال الحاجة أهلها، وأما إلحاق محل النزاع بذلك فمع كون التخصيص بالقياس محل خلاف، ثم فارق لا يصح إلغاؤه، فيكون معه فاسد الاعتبار، وإلا لزم إلحاق كل تلوث، وأنه باطل. أما الملازمة فلأن إلغاء الفارق يوجب ذلك، وأما بطلان اللازم فضروري.
وأما قولكم: ولا يقول أحد: إن الأموال كانت لا توضع فيها الأزبال، فإن قلتم بتعميم الأزبال الداخلة تحته العذرة فممنوع، ويعود البحث الأول، وما نقلتموه عن الصحابة لا يفيد ذلك، كيف وابن عمر يقول: ويشترط عليهم أن لا يزبلوه بعذرة الناس. وإن قلتم: الأزبال الظاهرة فمسلم، ولا ينفعكم ولا يضرنا.
وإن قلتم: المراد بالأزبال جنسها الشائع في الأفراد، فغاية ما فيه احتمال أن يكون من الطاهرة، واحتمال أن تكون من المتنجسة بعد الاستحالة، كما نشاهده الآن، واحتمال أن يكون من النجسة قبل الاستحالة، والاحتمال قادح في صحة الاستدلال، فتدبروا في قولكم، وقد أباح الشرع الأول.
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (56/ 2770) من حديث عائشة وفيه: ". . . وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع. وهو متبرزنا، ولا نخرج إلا ليلًا إلى ليل. وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا، وأمرنا وأمر العرب الأول في التنزه وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا. . . ".(10/5120)
قولكم: ولم يمنع من الثاني.
قلنا: المنع من التلوث بالنجاسة متواتر.
قال: وقد استثنى أهل الفقه إلخ [11].
أقول: لا ملازمة بين ما ذكرتم، وبين التلوث المحرم، ولا حجة في قول أهل الفقه بعد تسليم الملازمة.
قال: وإن اختلاف هذه الأمة رحمة، والقضاء بإجبار أهل الذمة على ذلك، وأنه واجب متحتم؛ يقضي بأن الأمة أجمعت على خطأ، وسكتت عن عار.
أقول: قد حققنا الكلام على هذا، وأن دعوى الإجماع باطلة، وأن الأمر بالعكس؛ أعني إجماع الأمة على المنع، فلا يفيده، فراجعه.
قال: فتمام كلام الكشاف (1) مخالف لما يريده القاضي من إنزال كل صغار بهم، وكان الواجب عليه نقله.
أقول: إنما تركناه لكونه تفسيرًا للمسكنة، وهي خارجة عن محل النزاع؛ إذ المراد من الآية الاستدلال بضرب الذلة لا بضرب المسكنة، فإنه لا دخل له في المطلوب، فأي مخالفة في ذلك، ولما أردناه؟ وأي قدح له فيما قصدناه؟ فكان اللائق بكم ترك ذكره أولًا، كما فعلنا، وترك الاستنباط منه ثانيًا لخلاف ما أردنا، وجعل المسكنة وتفسيرها علة للصغار لا يوجب حصره فيها، ولا أنه حاصل بها، وتركنا لنقل أول كلام جار الله في تفسير الآية الثانية لذلك، والاقتصار في النقل على محل الحجة هو بإجماع أهل النظر المحجة، والتطويل بذكر ما ليس فيه دليل ما عليه عند أرباب هذا الشأن تعويل.
قال: فهذه الآية التي في آل عمران (2) مقيدة للآية الأولى في البقرة (3)، وإذا كانت
_________
(1) (3/ 32).
(2) [آل عمران: 112].
(3) [البقرة: 61].(10/5121)
مقيدة لتلك كما هو القاعدة أن المطلق يحمل على المقيد، فقد صاروا في كنف الإسلام وحماه وعزته إلخ.
أقول: الذلة والمسكنة مذكورتان في آية آل عمران، مفعولتان لفعل هو ضربت، فأين المقتضي للتقييد؟ فإن قلتم: هو قول الله تعالى: {إلا بحبل من الله وحبل من الناس} (1).
قلنا: هو حجة عليكم لا لكم؛ لأن المراد به نفي العزة عنهم في جميع الأحوال، إلا في حال الالتجاء إلى الذمة بإعطاء الجزية، فهذا الالتجاء والإعطاء هو غاية ما لهم من العزة، وأنتم تجعلون إعطاء الجزية مع ما يصحبه من الإذلال كافيًا في الصغار الذي هو شرط ترك المقاتلة، والقيد مشعر بخلاف ذلك. وهذا القلب مع كون فيه ما فيه لا يقصر عن دليل مطلوبكم من التقييد.
قولكم: إنما عوهدوا على أداء الجزية.
قلنا: القرآن والسنة مشعران بخلاف ذلك، وما نقلتموه عن محمد بن إسحاق لا يفيدكم؛ لأن غايته الاقتصار على الجزية، وفي القرآن زيادة يجب قبولها بالإجماع؛ لعدم منافاتها للأصل، وهي قوله: {وهم صاغرون} وقد سلف تحقيق الصغار منا ومنكم، وكذلك ما نقلتموه عن التلخيص وما بعده.
قال: إذا تقرر هذا، وعرفت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صالحهم على الجزية، وعقد لهم بذلك [12] ذمة الله، وذمة رسوله، فكيف يجوز نقض ما عوهدوا عليه، والزيادة على ما سن من السنة في أهل الكتاب! أقول: لم ينقض ما عوهدوا عليه، فنحن نقول بموجب كل ما ذكرتم، ولم ترد على السنة التي سنها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وكيف لا ونحن لا نطلب منكم إلا ما أذن الله به من الصغار والإذلال، بعد أن حققنا دلالتهما على محل النزاع، فالله المستعان، ولو كان مجرد
_________
(1) [آل عمران: 112].(10/5122)
إلزامهم حصل فيها صغار أو ذلة نقضًا للعهد، ومخالفة لما سنه رسول الله، وخفرًا للذمة لكان أول الواقعين في ذلك عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، والأكابر من أئمة أهل البيت، وهو باطل.
أما الملازمة فلأنكم قد جعلتم مجرد الزيادة على ما ذكرتم موجبًا لذلك، وهؤلاء قد ألزموهم من زي الصغار وغيره ما أسلفناه.
وأما بطلان اللازم فبالإذن القرآني بمطلق الصغار، وسائر ما في تلك الأدلة. قال: ولو كان بحيث لا يؤبه لهم، وأنه ينبغي أن يكسو جميع ملابس الصغار والذلة، لم يأذن الشارع الحكيم بجواز نكاح الكتابيات (1).
أقول: هذا من الجنس الذي عرفناك أنا لم نقل به، ولا قال به غيرنا، لكونه محالًا من وجوه قد قدمناها، وكونهم أحقاء بأي نوع من أنواع الصغار والذلة لا تستلزم أنهم أحقاء بكل نوع.
ولو قلنا: إنهم بكل نوع لم يستلزم إنزال ذلك بهم دفعة، أو في عصر من العصور لتعذر ذلك.
قال: وهذه المسألة التي الخوض فيها هي مبنية على التأجير، والتأجير مبني على الرضا والرضا ينافي الإجبار الذي لحظتم إليه.
أقول: هذا أشق ما مر بنا في هذه الرسالة من المناقشات وأنهضها، وجوابه من وجهين: تحقيق ومعارضة. أما التحقيق فهو ينبني على استفساركم عن تقرير اليهود في اليمن، التي هي من جزيرة العرب إجماعًا، هل يجوز مطلقًا، أو مع المصلحة؟ إن قلتم بالأول نقلنا المراجعة إلى غير البحث الذي نحن بصدده، وكتبنا إليكم برسالة مستقلة في تزييفه.
وإن قلتم بالثاني فهذه مصلحة متبالغة، ونحن نزعم أنها الفرد الكامل في صلاح المسلمين من هذه الحيثية. فإن أبيتم هذا فأرشدونا إلى خصلة أصلح للمسلمين منها من
_________
(1) انظر الرسالة رقم (169).(10/5123)
خصال الصلاح التي يتلبس بها اليهود الآن، وإن سلمتم أن لا خصلة من خصال الصلاح تساميها، فلا نقول لكم: أجبروا اليهود على هذه الخصلة، مع كراهتهم وعدم رضاهم، ولكنا نقول: مروهم بذلك؛ فإن قبلوا ورضوا فبها ونعمت، وإن أبوا أمرتموهم بالخروج من ذلك المحل، ولا يجب عليكم زيادة على ذلك، وكل ما ذكرناه في أدلة حل الإشكال فهو على فرض عدم الإخراج، وإلا فهو المتعين عندنا.
ولو سلم أن هذه الخصلة ليست الفرد الكامل في باب الصلاح، لما كان ذلك قادحًا في جواز أمرهم بالخروج على أصلكم إن لم يحصل [13] الرضا والقبول. ولا شك ولا ريب أنهم يؤثرون قبول هذه الخصلة، ويرضون بها على الخروج المذكور، كما وقع مثل ذلك من يهود صنعاء عند تخييرهم. ولقد صاروا الآن يتحاسدون في ذلك المكسب، ويتنافسون فيه، ويغتبطون به غاية الاغتباط.
وكل قرين إلى شكله ... كأنس الخنافس بالعقرب
وأما المعارضة فيقول: تسليم عدم الجواز ذلك لا يفيدكم في عدم إجبار المسلمين على الترك، لما قررنا من أن مباشرة العذرة محرم، ومنكر بالإجماع، وأدلة إنكار المنكر متواترة؛ فإن اعتذرتم بما سلف من تسميد الأرض، فلا دلالة فيه على المطلوب إن أنصفتمونا.
قال: لفظ ذلة مصدر نوعي، يدل على النوعية، والتاء تدل على الوحدة واللام في الذلة للعهد الخارجي الذي هو أم الباب إلخ.
أقول: اعلم أن وحدة الذلة وعدمه ليس لنا فيه نزاع، إنما النزاع في أسبابها، والذي نفيناه في حل الإشكال هو الذلة الحاصلة بسبب خاص، ولا شك أن وحدة الذلة أو نوعيتها كما ذكرتم لا يستلزم وحدة السبب الذي تحصل عنده؛ فإنه لا يحصل عن الأسباب المتعددة، وإن تبالغت في الكثرة إلا مسمى الذلة، ولهذا لم نحم حول وحدتها وعدمها؛ فاشتغالكم ببيان اللام والتاء في الذلة كاشتغالكم ببيان الصغار بالقوة والفعل؛ وذلك لا يكون إلا باعتبار الإذلال في الأول، والإصغار في الثاني لما سلف، فتنبهوا(10/5124)
- حفظكم الله -، ثم جعل التاء دالة على الوحدة على جهة الجزم لا يستلزم نفي دلالة اللام على الجنس كما قال نجم الأئمة الرضي في شرح الكافية (1) في الكلام على الكلمة ما لفظه: "فإن قيل: إن التاء تنفي لفظ الكلمة للوحدة؛ لأن كلمة وكلمًا كتمرة وتمر، واللام فيه للجنس، فيتناقضان لدلالة الجنس على الكثرة المناقضة للوحدة، فالجواب أن اللام في مثله ليس للجنس، ولا للعهد، كما يجيء في باب المعرفة، ولئن سلمنا ذلك.
قلنا: الجنس على ضربين، أحدهما: استغراق الجنس؛ وهو الذي يحسن فيه لفظ كل، كقوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا} (2)؛ أي: كل إنسان وإلا لم يجز الاستثناء؛ لأنه عند جمهور النحاة يخرج ما لولاه لوجب دخوله تحت المستثنى منه، وهذا الاستغراق مفيد للكثرة فيناقض الوحدة. (3).
والثاني: ماهية الجنس من غير دلالة اللفظ على القلة ولا الكثرة، بل ذاك احتمال عقلي كما في قوله تعالى: {لئن أكله الذئب} (4) لم يكن هناك ذئب معهود، ولم يرد استغراق الجنس أيضًا. ومثله قولكم: ادخل السوق، "واشتر اللحم"، وكل الخبر" وهذا [14] النوع من الجنس لا يناقض الوحدة؛ إذ لا دلالة فيه على الكثرة.
والمقصود في هذا الموضع هو الثاني؛ أي: ماهية الجنس من حيث هي هي؛ لأن الحد إنما يذكر لبيان ماهية [الجنس] (5)، لا لبيان استغراقه انتهى بحروفه (6). وكون اللام للعهد الخارجي ليس هو الأصل، ولا أم الباب، لما اشتهر من الخلاف بين أئمة النحو والبيان،
_________
(1) (1/ 21، 23).
(2) [العصر: 2 - 3].
(3) انظر "شرح الكافية" (1/ 24). رضي الدين محمد بن الحسن الأستراباذي.
(4) [يوسف: 14].
(5) كذا في المخطوط وفي "شرح الكافية" (1/ 24) الشيء.
(6) كلام: رضي الدين في "شرح الكافية" (1/ 23 - 24).(10/5125)
وإن قال بذلك الرضي.
والحق أن الأصل الذي هو أم الباب لام الحقيقة؛ لأنها لا تنفك عن الوجود في ضمن الكل أو الفرد المنتشر، أو الخصة المعينة في الاستغراق، أو الجنس، أو العهد.
قال: وفي الكشاف (1) في سوء العذاب ما لفظه إلخ.
أقول: اقتصاره هاهنا على مجرد إعطاء الجزية، مع تعرضه لغيرها في غيره مما ينفعك في ذاك البحث الذي أسلفناه؛ أعني: أنه إنما اقتصر في تلك الآية على ما يقع حال دفع الجزية، كما اقتصر هاهنا على الجزية، وليس ذلك جزمًا بأن لا صغار إلا ذلك، كما أن هذا ليس جزمًا بأنه لم يضرب إلا ذلك.
قال: نتكلم هنا مع القاضي في طرفين؛ الأول: أن الآية اختلف في سبب نزولها إلخ.
أقول: لا يشك من أمعن النظر في الأصول أن الحق مع من قال أن العام لا يقصر على سببه، فإن كان الترجيح بالأدلة فلا شك أن أدلته راجحة على مقابله بمراتب كثيرة وإن كان بكثرة القائلين فهو قول الجماهير، وأنتم فيما أظن معنا على ذلك.
فإن خالفتمونا في ذلك نقلنا البحث إليه ليظهر الصواب.
قال: الطرف الثاني أنه قال: إن تعيين ما به الخزي لا يكون إلا توفيقًا، وقد سبقه إلى كون الخزي في الدنيا أعم من ذلك، ابن كثير (2)، لكن نقول: من جعل الآية عامة للنصارى واليهود. . . إلى قوله: محتملة للتوقيف، ومحتملة لوقف، لكن الحمل على الأولى أولى، حملًا لهم على السلامة من أن يقولوا في كتاب الله برأيهم.
أقول: هاهنا جوابان، الأول: تحقيق. والثاني: معارضة.
أما التحقيق: فنقول مستفسرين لكم: هل المراد أن المحتمل للتوقيف والوقف كل ما وقع من التفسير من الأئمة المعتبرين، الحائزين للقدر، المعتبر فيه من علومه، سواء
_________
(1) (1/ 313).
(2) في تفسيره: (1/ 387).(10/5126)
كان تفسيرًا للسلف أو للخلف، أم المختص بذلك تفسير السلف فقط؟ إن قلتم بالأول قلنا: قد فسره جماعة (1) من أئمة السلف والخلف بأداء الصغار والجزية، وخروج المهدي، وأعم من ذلك نثبت مطلوبنا، وإن قلتم باختصاص ذلك بالسلف.
قلنا: ما المخصص بعد إحراز نصاب التفسير من غيرهم، مع ما تشعر به العلة التي ربطتم التوقيف بها من عدم الاختصاص؛ لأن الحمل على السلامة لا يختص بالسلف إجماعًا، على أن القول بحمل تفاسير السلف على التوقيف يستلزم المنع [15] من تفسير القرآن بغير المرفوع إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وهو خلاف الإجماع، ويستلزم منع الخلف من تفسير آية فسرها أحد السلف اجتماع، وهو خلاف الإجماع، ويستلزم النقيضين في مواطن التفسير المتقابلة، وهو خلاف الإجماع والضرورة، على أنه لم يدع أحد من السلف فيما نحن بصدده الحصر، حتى يجعل تفسير ابن كثير بأعم من ذلك مخالفًا له.
وأما المعارضة فهذا عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، وأئمة أهل البيت، وغيرهم قد فسروا الصغار بما يقدح في مدعاكم السابق، - أعني تخصيصه - وهم من خير السلف، فلم لا يحملونه على التوقيف؟ وتسلمون لنا ما ادعيناه فيه من عدم الاختصاص، فأنتم أحق لهذه الأولوية التي ذكرتم هنا؛ أعني الحمل على التوقيف.
قال: وأما الثاني وهو الوقف إن كان نظرهم أدى إلى ذلك، فذلك مراد الله منهم إلى قوله: فتصدق الآية عليه إلخ.
أقول: نزاعنا إلا فيما هو الحق، ونحن أخوان في طلبه، فما لنا ومطابقة نظرهم لمراد آية وعدمها، وأي مطلوب يتعلق بها، ونحن نجلكم عن التقليد، ولا نرضى بانخراطكم في سلك أهله، فدعونا من هذا.
فدع عنك نهبًا صيح في حجراته ... وهات حديثًا ما حديث الرواحل
_________
(1) تقدم ذكره.(10/5127)
قال: ففهموا أنه إذا حصل أي خزي عظيم فقد كفى؛ إذ بحصول خزي واحد يصدق عليهم أن لهم خزيًا إلخ.
أقول: قد تقرر لك أن ادعاء كفاية فرد من أفراد الخزي بعينه لا دليل عليه، وقد ذكرت في حل الإشكال أن التنكير فيه معنى العموم، وإن لم يصح تناوله للمجموع دفعة كما ذكر ذلك جماعة من العلماء، وخرج له ابن كثير كما ذكرتم في تفسير هذه الآية، على أن النزاع إنما هو في أسباب الخزي التي يحصل عندها ليس إلا، والأسباب الكثيرة لا يحصل بها إلا مجرد الخزي؛ فلا فائدة في تطويلنا للاحتجاج على ذلك، ولم ندع المطلوب منا إنزال كل موجب للخزي بهم كما ذكرتم.
قلن: إنهم أحقاء بالخزي العظيم، وأهل لكل فرد من الأفراد الموجبة للخزي، لا أن المطلوب منا إنزال جميعها بهم، فهذا لم أقله أنا ولا غيري فيما أعلم؛ لأن القائل بعموم الخزي لا يقول بأن إنزاله بهم جميعه مطلوب، وهذا ظاهر.
قال: فهذه الآية إنما هي وصف لهم بالخزي، والخزي بالفعل يفارقهم في كثير من الأحوال. . . إلى قوله: ولم يقض أنه واجب علينا إنزال كل فرد من أفراد الخزي بهم لهذه الآية.
أقول: إن أردتم بفراق الخزي فراق أسبابه الموجبة له فمسلم، ولم نقل بلزومه [. . . .] (1) وإن أردتم فراقه نفسه فهو من ذلك القبيل الذي نبهناكم عليه في الصغار، ولا يخفاكم أن النزاع في دليل إجبار اليهود، وهو أعم من الوجوب. وقد جمعت في حل الإشكال (2) الأدلة الدالة على الجواز، ومنها ما يفيد الوجوب، ومنها ما لا يفيده [16]، مطابقة لما سألتم عنه.
قال: لم لا يجوز أن يكون التنكير للنوعية، مع إرادة التعظيم ولا منافاة؟ إلخ.
_________
(1) في المخطوط كلمة غير مقروءة.
(2) الرسالة رقم (166).(10/5128)
أقول: سلمنا تنزلًا. فما يقولون في الأسباب الموجبة للخزي هل هي معينة أم لا؟ إن قلتم بالأول فما دليلكم؟ وإن قلتم بالثاني صح استدلالنا، وثبت مطلوبنا.
قال: صدر الآية: {يا أيها النبي جاهد الكفار} (1) إلى آخر البحث.
أقول: غير خاف على فطرتكم السليمة، وفكرتكم القويمة أن صيغة الكفار عامة، ولم يقع الخلاف في مثلها إلا من جهة استغراقها للجموع، أو لما هو أعم من ذلك، وقد اختلف كلام جار الله (2) في ذلك، وقد حقق سعد الملة التالي، ورجحه وكرره في حاشية الكشاف مرات، وطول الكلام في المطول، وزعم أنه مذهب أهل الأصول والتفسير، وعلى ذهني أنه ذكر في حاشيته على شرح المختصر، ولم يطول الكلام أحد في ذلك بمثل ما طوله.
وقد تقرر عدم القصر على السبب؛ فاستدلالنا بها من هذه الحيثية وكون مقام النزاع من أسباب الأغلاظ أمر لا ينكر، والدليل على مدعي التخصيص إن سلم العموم أو التقييد إن لم يسلم، ولا دليل يخرج الالتقاط فيما نعلم، فأفيدونا به، وهذا الدليل صالح للاستدلال به على وجوب الإجبار على هذه القضية، ولا يقال أن الأمر بجميع أسباب الأغلاظ لا يمكن الوفاء به؛ لأنا نقول: أسباب الأغلاظ متفاوتة، وهذه من أهمها، فغاية الأمر أن الأغلاظ عليهم بالأهم ممكن بالفعل، فلا شك في صحة التكليف به. والاستدلال بقوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} (3) مسلم، ولا يضرنا تسليمه؛ لأن البحث في غيره.
قال: لا ينكره أن العزة لله ورسوله وللمؤمنين، وأما كون هذه مقدمة ركب العزة فلا، إذ يلزم من ذلك أنه لا عزة للإسلام في البلاد الخالية عن اليهود إلخ.
_________
(1) [التوبة: 73]، [التحريم: 59].
(2) الزمخشري في "الكشاف" (3/ 68).
(3) [العنكبوت: 46].(10/5129)
أقول: نعم، ولا ذلة عليهم مع عدم مساكنة أعداء الله؛ لأن كون هذه القضية فيها غاية الإهانة على المسلمين بالنسبة إلى إعفاء اليهود منها، ومشاهدتهم لمباشرة المسلمين لذلك، وتقذرهم لفعلهم، حتى تراهم إذا رأوا المسلم يباشر ذلك يتجنبون القرب منه، ويسدون أنافهم، فمن هاهنا - يا فخر الإسلام - جاءت الذلة العظيمة، وكان في تخليص المسلمين منها غاية العزة.
قال: فبعد قول الله: {ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًّا} (1) لا مجال للكلام إلخ.
أقول: وقد صرح - جل جلاله -: برفع المؤمنين ووضع الكفار، وجعل الرفع في هذه المقيدة بما في آية رفع المؤمنين معللًا بقوله: {ليتخذ بعضهم بعضًا [17] سخريًّا} (2) وقد رفعكم الله، ورفعنا بالإيمان، وخصكم بالأقدار على إنفاذ الأوامر؛ فاتخذوا هؤلاء الملاعين سخريًّا. ولا يقولوا قد اتخذناهم سخريًّا في كذا وكذا؛ فإن ذلك أمر مشترك بينهم وبين المسلمين ولكن:
انزلوها بحيث أنزلها الله ... بدار الهوان والإتعاس
ذلها أظهر التودد منها ... وبها منكم كحر المواس
وقد سبق ما أسلفناه في نقل الأزبال إلى الأموال، فلا نعيده هنا في الجواب على ما ذكرتم.
قال: وهاهنا مانع من استدلال بالآية على العموم إلخ.
أقول: لم ندع العموم حتى يرتب على ذلك منعنا من الاستدلال بها، إنما جعلناه وصفًا مادحًا ترغب في التلبس به النفوس، لما قررنا من ظهور عدم عزة أهل هذه الحرفة من المسلمين على اليهود؛ لمباشرتهم لما لا يساعدون عليه، ويرونه من أعظم صفات الذلة، والنقص والمهانة، والمسلم أخو المسلم (3)؛ فبذل الجهد في تحصيل المعزة له
_________
(1) [الزخرف: 32].
(2) [الزخرف: 32].
(3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (32/ 2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه". وهو حديث صحيح.(10/5130)
بتخليصه من هذه الورطة التي لا ذلة أعظم منها أمر ترغب إليه النفوس، ولو سلم أن ثم مدعيًا يدعي العموم في الآية لما كان ما ذكرتم هنا موجبًا للمنع من ذلك؛ لعدم حصر العزة في المذكور بعدها.
قال: فقد تكون الضرورة ألجأته إلى العمل بالأجرة فيما يسد خلته إلخ.
أقول: هل سدت طرق المكاسب على هؤلاء؟ أم غلقت دونهم، أبواب المعايش؟ أم طردهم الناس عن جميع المهن؟ حتى يقال أنهم مضطرون إلى الأجرة من هذه الخصلة اضطرارهم إلى أكل الميتة، وهل عدمت المعاول أم فقدت المكاتل؟!. أم منعوا من نقل الصخور؟ أم ما هو الذي ألجأهم إلى ذلك؟ وأحوجهم إلى ما هنالك؟.
ولو فتحنا هذه الباب، واقتحمنا هذا الاقتحام لقلنا، وكذلك المعتادون للاحتراف بالغناء والمزاهر، والمعازف، ربما ألجتهم الضرورة إلى ذلك، بل هذا أخف من ذلك، لما اشتهر من اختلاف الأدلة والأقوال فيه، بخلاف الاحتراف بمباشرة العذرة حال رطوبتها فإنه محرم بالإجماع، مع ما ينضاف إليه من البيع لها، الذي هو من المحرمات. فما أشبه تقرير هؤلاء بتقرير بائع الخمر على بيعه! والاعتذار عن ذلك بأنه ربما ألجته الضرورة إليه كما يجوز إذا ألجت الضرورة إلى أكل الميتة، لاستواء الخمر، ومباشرة هذه النجاسة كالإجماع على الحرمة، وكذلك على البيع، إلا عن قليل من أهل العلم، على أن العذرة أشد من حيثية النجاسة للإجماع (1) على نجاستها، والاختلاف في نجاسة الخمر، بل الحق عند من أنصف عدم نجاسة الخمر [18]؛ فجهة الاستواء هي التحريم لا النجاسة.
_________
(1) انظر "فتح الباري" (4/ 414، 417).(10/5131)
والحاصل أنا إذا جعلنا تقرير المحترف على حرفته جائزًا لظن أنه ألجئ إليها سددنا باب إنكار المنكر، وضربنا بيننا وبينه بسور، وأدى إلى أن يفعل من شاء ما شاء قائلًا: إنه لم يجد له حرفة غير ذلك، وما أظن إنصافكم يبلغ إلى مثل هذا، فالله المستعان.
وجريان مثل هذا الإلزام في البغايا (1) أظهر، لما ثبت بالضرورة من ضعفهن عن مزاولة الأعمال الشاقة، التي يباشرها الرجال لتحصيل قوام العيش، فالله يحب الإنصاف وأنتم - أهل هذا البيت - الحاملون لرايته والمقتدي بكم بين أهله وعصابته.
وحديث: "إن الله يحب العبد المحترف" (2) لا يقول أحد من الناس أن الاحتراف يعم الحرفة الحلال والحرام، وإلا عاد الإلزام. وتأجير النفس من أهل الذمة في الأعمال الجائزة لا نقول بمنعه، ولا أحد من العلماء، مع عدم استلزامه لذلة تلحق بالمسلمين.
وكذلك حمل الطعام والثياب والإدام والفاكهة إلى مساكنهم، وأين هذا من ذاك! ولقد كان خير القرون يتأجرونهم، ويبايعونهم، ويؤجرون أنفسهم منهم، وليس في ذلك خدش في وجه عزة الإسلام، ولكنهم ما كانوا يلتقطون عذراتهم الذي هو محل النزاع. فإن قلتم: إن ذلك غير واقع عندكم، فلا أقل من إذنكم لأهل الذمة بالدخول إلى محلكم المحروس، وما أظنكم تمنعونهم من قضاء الحاجة ما داموا هنالك.
فانظروا، هل يصح إلحاق محل النزاع بمعاملاتهم مع الاختلاف في أمور؟
أحدها: بمجرده يقدح في صحة القياس، فإن لاحت لكم الصحة أفدتم، وهضم النفس بمباشرة الحرف الدنية إن سلم جوازه في الحرف الحلال، فكيف يجوز التواضع بمباشرة الحرام! فقبح الله هذا التواضع الذي يفضي إلى ذهاب الدين، ويثل عرش عزة المؤمنين؛ فإن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها.
_________
(1) منها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2282) ومسلم رقم (39/ 1567) من حديث أبي مسعود البدري قال: "نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن".
(2) تقدم تخريجه.(10/5132)
قال: الوجه الأول من حيث المعنى أنه إذا كان في معنى الأمر، وقد تقرر أن الشرع لم يمنع من بعض المهن التي فيها سقوط؛ فالإسلام باقِ على علوه؛ إذ لا نقص فيما أباحه الشرع إلخ.
أقول: نحن أولًا نمنع الدخول في المهن التي فيها سقوط، ونقول: لا سقوط في مجرد معاملة الكفار، ولو سلم فأخبرونا عن محل النزاع، هل إباحة الشارع بالنص أو أقستموه على المعاملات؟.
فإن قلتم بالأول فما هو؟.
وإن قلتم بالثاني فقياس المغلظ على المخفف بعد تسليم أن في معاملتهم سقوطًا لا يجوز عند جميع الفحول من أئمة الأصول (1).
قال: الوجه الثاني [19] في الكلام على إسناده. قال ابن حجر (2): حديث "الإسلام يعلو" إلخ.
أقول: قد ثبت بطرق متعددة ليس فيها من يتهم بالوضع، وثبت من طريق عمر وابنه عبد الله، وعايذ، وبعض طرقه تشهد لبعض، وينجبر الضعف بذلك. فأما القصة بطولها فموضوعة، ولم يأت بها إلا السلمي البصري، وهو متهم، ولا شك أنه بطوله كما قال الذهبي. ولكن قد روي من طريق غيره بغير تلك القصة، ولهذا روه البخاري (3)، والبخاري ومعلقاته قد ذكر الحافظ ابن حجر أنه أسندها في مؤلف (4)، ولم يبق منها إلا النزر اليسير، ونفاق الموضوعات على مثل محمد بن إسماعيل من أبعد ما
_________
(1) انظر "إرشاد الفحول" (ص 684، 699)، "تيسير التحرير" (3/ 295).
(2) في "الفتح" (3/ 200).
وانظر: "التلخيص" (4/ 231).
(3) في صحيحه (3/ 218 باب رقم 79) إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟.
(4) "تغليق التعليق" لابن حجر وهو في (5) مجلدات.
دراسة وتحقيق: سعيد عبد الرحمن موسى القزقي.(10/5133)
يقال، ولم يسبق أحد إلى رميه بمثل ذلك، إلا الحافظ ابن حزم؛ فإنه زعم في حديث شريك الذي ذكره البخاري (1) في الشق والإسراء أنه موضوع، ثم فوقت إليه سهام الملام، ونقض الأئمة ما جاء به في ذلك المقام من الكلام، وهكذا في دعواه في حديث مسلم (2) الذي فيه تزويج أبي سفيان لأم حبيبة من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، على أن الأئمة من أهل البيت وغيرهم قد أودعوه في بطون مؤلفاتهم.
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7517).
قال ابن حجر في "هدي الساري" (ص 383): وقد خالف فيه شريك أصحاب أنس في إسناده ومتنه، أما الإسناد فإن قتادة يجعله عن أنس عن مالك بن صعصعة، والزهري يجعله عن أنس عن أبي ذر، وثابت يجعله عن أنس من غير واسطة لكن سياق ثابت لا مخالفة بينه وبين سياق قتادة والزهري، وسياق شريك يخالفهم في التقديم والتأخير والزيادة المنكرة. وقد أخرج مسلم إسناده فقط تلو حديث ثابت وقال في آخره فزاد ونقص وقدم وأخر، وتكلم ابن حزم والقاضي عياض وغيرهما على حديث شريك وانتصر له جماعة منهم أبو الفضل بن طاهر فصنف فيه جزءًا.
انظر مناقشة تفصيله لذلك في "الفتح" (13/ 380). ورد ابن حجر على ابن حزم. . . ".
(2) في صحيحه رقم (168/ 2501) من حديث ابن عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه فقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا نبي الله! ثلاث أعطنيهن، قال "نعم" عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها! قال "نعم" قال: ومعاوية، تجعله كاتبًا بين يديك. قال: "نعم" قال: تؤمرني حتى أقاتل الكفار، كما كنت أقاتل المسلمين؟ قال: "نعم". . . ".
قال القرطبي في "المفهم" (5/ 456): قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: تزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم حبيبة سنة ست من التاريخ، قال غيره: سنة سبع.
فقد ظهر أنه لا خلاف بين أهل النقل أن تزويج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متقدم على إسلام أبيها أبي سفيان، وعلى يوم الفتح. ولما ثبت هذا تعين أن يكون طلب أبي سفيان تزوج أم حبيبة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد إسلامه خطأ ووهم، وقد بحث النقاد عمن وقع منه ذلك الوهم فوجدوه قد وقع من عكرمة بن عمار. . . ".
ثم قال القرطبي في "المفهم" (5/ 457): قد تأول بعض من صح عنده ذلك الحديث بأن قال: إن أبا سفيان إنما طلب من النبي أن يجدد معه عقدًا على ابنته المذكورة ظنًّا منه: أن ذلك يصح لعدم معرفته بالأحكام الشرعية؛ لحداثة عهده بالإسلام. . . ".(10/5134)
قال: الشرع غير قاض عن المساواة مطلقًا؛ ألا تراه قد أجاز الشرع تساويهم في الحرف الدنية غير هذه إلخ.
أقول: لم نقل إلا أن فحوى الخطاب (1) ولحنه قاضيان بمنعهم عن مساواة المسلمين في مثل هذه الخصلة إلخ. فلا يرد علينا تجويز الشارع مثل ذلك في سائر الحرف الدنية؛ لأنا لم ندع المنع من المساواة مطلقًا، بل ادعيناه في هذه الخصلة، وفي ما هو أشد ضررًا منها على المسلمين، وهو محل النزاع، فلا يتم لكم إلزامنا بذلك إلا بعد بيان أنه مساوِ لخصلة النزاع في تأثر الذلة، والقدح في العزة [عه] (2)، وفحوى الخطاب من أقوى المفاهيم وكذلك لحنه. فإذا قضيا بمنع المساواة فكيف لا يقضيان بمنع تفضيل اليهود على المسلمين في هذه الخصلة الذي يستلزمه إعفاؤهم عنها، وإلصاقها بالمسلمين من القائلين بالعمل بالمفهوم! فما عذركم في ترك العمل به هاهنا؟. وإن كنتم من المانعين من العمل به فما الدليل على ذلك؟ فإن مفهوم الموافقة كما نحن بصدده معمول به في كثير من الأحكام، ومقبول عند الخاص والعام، وخلاف من خالف في العمل بالمفهوم ليس على الإطلاق، بل مقيدًا لمفهوم المخالفة، ولهذا لم يقع الخلاف في مفهوم الموافقة إلا من حيث إنه من باب المفهوم، أو من باب القياس، ومن حيث قطعيته وظنيته. وقد عرفتم [20] ما حررناه في تسميد الأرض، فلا حجة لكم فيه.
وقولكم: لم يسمع أن أحدًا من العلماء إلى الآن، مع تطاول الأزمان إلخ. قد أسلفنا لكم الكلام عليه، فلا نطول بإعادته.
قال: لا قياس، فإن قضية بني النضير في صدر الإسلام بعد قضية بدر التي عاتب الله فيها نبيه في الفداء إلى آخر البحث.
أقول: هذا معلوم لكل ناقل، ولم نقل إلى أن إجلاءهم لم يكتب عليهم إلا لمراعاة
_________
(1) تقدم توضيحه.
(2) كلمة غير واضحة في المخطوط.(10/5135)
مصلحة المسلمين، لما نالهم من الأمور التي قد اشتهرت اشتهار النهار، وقد اعترفتم بهذا في كلامكم فقلتم: يعني أن الله قد عزم على تطهير أرض المدينة منهم، وإراحة المسلمين من جوارهم، وتوريثهم أموالهم. والامتنان على المسلمين، من أعظم الأدلة على أن وجه الحكمة في الإخراج هو مصلحة المسلمين فإن كنتم توافقوننا على أن مراعاة المصلحة هي السبب في الجلاء، فالإلحاق صحيح، ولا خطر عظيم كم ذكرتم، ولا موجب للتهويل. وإن أبيتم ذلك، وناقضتم كلامكم الذي في إرسال المقال فأخبرونا عن وجه الحكمة؟، فإن قلتم لا نعلمها فقد علمها غيركم، ومن علم حجة على من لم يعلم.
وقولكم: فكيف يجوز أن يقيس المحاربين على المعاهدين، لعله من سبق القلم والصواب العكس.
قال: إن كان الأمر هنا للندب فالقصد منه الإرشاد، وأن المراد الوجوب فهو عام، وقد خصصه الشارع.
أقول: كلا، يبقى الترديد محصل للمطلوب؛ لأن السؤال إنما هو عن دليل الإجبار، وهو أعم فالأمر كما قيل:
خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه ... كلا جانبي هرشى (1) لهن طريق
ودعوى تخصيص ذلك الأمر بالسنة نستفسركم عنه فنقول: بعد تسليمكم لدخوله تحت العموم، هل خصصت السنة هذا الأمر بعينه أو غيره؟ وهل ذلك الغير مماثل له في المهانة أو فوقه أو دونه؟ الأول: ما أظنكم تدعونه، والثاني: ممنوع، إن قلتم بالأول منه أو الثاني فعليكم الدليل، ولا ينفعكم ما ذكرتم من التسميد لما سلف. وإن قلتم بالثالث منه فلا يضرنا ولا ينفعكم، فأين الإنصاف؟
_________
(1) هرشى: ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة يرى منها البحر ولها طريقان فكل من سلكهما كان مصيبًا.
وقيل: هي ثنية بين مكة والمدينة، وقيل جبل قريب من الجحفة.
"اللسان" (15/ 76). وقد تقدم.(10/5136)
قال: الحديث ليس على ظاهره؛ لأنه إما أن يراد: لا يؤمن الإيمان الكامل؛ وذلك لا يضر؛ إذ الإيمان الكامل عزيز إن قال، وإما أن يراد: لا يؤمن؛ أي: لا يكون مسلمًا بل كافرًا، فالقاضي لا يقول بذلك إلخ.
أقول: قد تقرر أن الأصل في النفي [21] يتوجه إلى الذات، وإن أمكن، وإن لم يمكن توجه إلى الصحة التي هي أقرب إلى الذات، لا إلى الكمال، إلا لقرينة، ولو سلمنا لكم ما ذكرتم لكان كلا شقي الترديد صالحًا للاستدلال به على مطلوبنا.
أما الأول فكيف يرضى المسلم بتقرير المسلمين على ذلك، ويشح باليهود عنه، مع علمه أن إيمانه ينقص بذلك، وكيف يؤثر على طلب كمال إيمانه ما لا فائدة تحته!.
وقولكم: لا يضر إن أردتم بالضر ذهاب الإيمان بمرة فمع كون الأصل توجه النفي إليه كما تقدم، ليس الضرر مقصورًا عليه؛ فإن انتقاص الإيمان الكامل ضرر وأي ضرر.
وليس الضرر مختصًّا بموجبات العقاب؛ فإن فوات منافع كمال الإيمان الموجبة لرفع الدرجات من الضرر، وصعوبة معنى الحديث لا يكفي في التخلص عن عهدته وورطته. ولو سلم أن المعنى ما ذكره النووي (1) من أنه يجب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها، لما خرج عن الدلالة على محل النزاع؛ إذ لا مزاحمة فيه، وكلما ذكرتموه من الأقوال شاهد لدلالة الحديث على محل النزاع.
قال: لا يجوز القدح فيما أمر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلخ.
أقول: قولي في حل الإشكال (2) قادح في جواز التقرير، أردت به ما جعلته عنوانًا
_________
(1) في شرحه لصحيح مسلم (2/ 17): "إذ معناه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام مثل ما يحب لنفسه والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها بحيث لا تنقص النعمة على أخيه شيئًا من النعمة عليه وذلك سهل على القلب السليم وإنما يعسر على القلب الدغل.
(2) انظر الرسالة رقم (166).(10/5137)
لذلك البحث من قولي: الدليل الثاني عشر ما استنبطه الأمير الحسين. . . إلى أن قلت حاكيًا لكلامهم: ولا مخصص للحجاز عن سائر البلاد إلا أن رعاية المصلحة في إخراجهم منه إلخ.
ثم قلت: ولا شك أن امتناعهم من القيام بهذه العهدة التي هي رأس المصالح قادح في جواز التقرير، قادح لأن الأمير ومن معه قد جعلوا مستند التقرير المصلحة، وهذا واضح لا إشكال فيه، فكيف يقال لا يجوز القدح فيما أمر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -! على أنا قد أسلفنا أحاديث الجزية مقيدة بالصغار بنص القرآن، ثم نقول: قد تعقب عقد الذمة الذي ذكرتم ما صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من قوله عند موته، وكان آخر كلامه، كما في بعض الروايات: "أخرجوا اليهود من جزيرة العرب" (1) ونحوه؛ فهو ناسخ لتقريرهم منها بالجزية، للقطع بتأخر القول عن التقرير فلا تقرير، فلا قدح، فتدبروا.
قال: قد عرفت أن حفر الخندق إنما كان للحاجة الماسة إلى ذلك، من حفظ النفس والدين معًا إلى آخر البحث.
أقول: هذا كلام رصين، لكنه - حفظه الله - جرد بالنظر إلى تفاوت المصلحتين، وجعله مانعًا من الإلحاق، ولم يمش على ذلك في إلحاقه للالتقاط بالتسميد، بل بسائر الحرف الجائزة، فليعمل بما حرره هاهنا ولينصف. وأما نحن فنقول: ليصحح ذلك الاستدلال [22]، هل كان ما يتوقعه المسلمون من الكفار عند حفر الخندق من دخول المدينة، وهلاك النفوس، وهتك الحرم معلومًا لهم أم مظنونًا؟ الأول باطل لا يقول به عاقل، والثاني يوجب رجحان المصلحة التي نحن بصددها على تلك المصلحة؛ لأنها وإن نقصت عن تلك بذلك الاعتبار، فقد رفع من شأنها كونها معلومة. ثم نقول ثانيًا: أنتم لا تنكرون أنما نحن بصدده مصلحة واقعة، وتلك التي حفر الخندق من أجلها لم تقع إذ
_________
(1) تقدم تخريجه.(10/5138)
ذاك، ودفع المفاسد الواقعة أرجح من دفع المفاسد التي لم تقع بالإجماع، وبما أسلفناه من أول هذه الرسالة: إلى هنا يجاب قولكم آخر البحث فهل من دليل؟.
قال: قد قدمنا لك أن نقل الأزبال إلى الأموال لا فرق بينه وبين نقلها إلى الحمام، وأنه لم يمنع من ذلك شرع ولا عرف إلخ.
أقول: قد عرفت إبطالنا لذلك فيما سلف، وأنه قياس أولًا على غير دليل، وثانيًا مع الفارق. وكيف يقال لم يمنع من الالتقاط شرع ولا عرف! وأدلة تحريم التلوث بالنجاسة لغير حاجة متواترة، ومجمع على تحريمها. فهب أن جميع الأدلة التي سردناها في إجبار اليهود كما ذكرتم، وأن ما حررناه من رد كلامكم في هذه الرسالة غير ناهض، فما العذر عن تقرير المسلمين على ذلك المنكر، الذي لم يخصه من عموم تحريم ملابسة النجاسة دليل؟ إن قلتم: نقل الأزبال إلى الأموال فنقول: إذا ذهب عن ذهنكم ما مر في أثناء هذه الرسالة فارجعوا إليه لتعلموا أنه لم يدل على ذلك سنة، ولا قرآن، ولا إجماع، ولا قياس ولا استدلال. فكيف التعلق بالقياس على مثله؟! وتخصيص الأدلة المتواترة به، وترديده في هذه الأبحاث، حتى كأنه في أم الكتاب، فما دأب المناظرة إلا المناصرة على طلب الحق لأرمي المنازع بكل هجر ومدر.
وأما قولكم: قد رددنا الاستنباطات التي سماها القاضي أدلة كما سمعت، فما هذه بأول قارورة من قوارير الإنصاف كسرت. وقد علم الله أني نظرت إلى رسالتكم بعين الإنصاف ووطنت النفس عند فض خاتمها على تنكب مزالق الاعتساف، ولو صح لي شيء من تلك الردود لصليت وسلمت. ولا أقول قد وضح الصح لذي عينين، ولا عادت إرسال المقال بخفي حنين، ولكني أكل الأمر إلى إنصافكم، فإن لاح لكم بعد التدبر الاختلال أفدتمونا. وقد نبهنا لها عمرًا وزمنًا، وإن يكن الأخرى فما في الانقياد للحق وصمة وسقوط واحد من تلك الأدلة، أو سقوط بعضها لا يستلزم سقوط جميعها.
وقولكم: هذا الذي جعله القاضي [23] من فوائد منكرًا معروفًا حسب هذا التقرير. أكل الكلام عليه نظركم، وأفوضكم في جعل طرده عكسًا، فقد طال الكلام،(10/5139)
وربما أفضى ذلك إلى ما لا حاجة إليه.
قال: يستفسر ما أراد بالدين، فإن أراد بالدين الأركان الخمسة التي بني الإسلام عليها إلخ.
أقول: المراد بالدين الذي حفظه أحد الضرورات الخمس أعم من الشق الأول، وأخص من الثاني، فما كان يستلزم تركه أو فعله ذهاب الدين وانتقاصه انتقاصًا بوقع في العقاب، فحفظه واجب. وقد قررنا فيما سلف أن نجاسة الغائط مجمع عليها، لم يخالف فيها أحد من المسلمين، كما حكى ذلك الأئمة. وبعد ثبوت هذا الإجماع، وثبوت الأدلة المتواترة في ذلك، وعدم صحة التعلق بنقل الأزبال إلى الأموال في المعارضة من جهة أنه ليس جوازه مرفوعًا إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بقول، ولا فعل، ولا تقرير، ولا دل عليه غير ذلك من الأدلة، ولا أجمعت عليه الأمة، لا قولًا ولا فعلًا، مع كونه لم ينقل أن أحدًا من أهل العلم السلف والخلف أجاز نقل العذرة حال رطوبتها إلى الأموال لتسميدها.
وغاية ما في ذلك حكاية جواز التسميد بالزبل، وهو مع عمومه لكل زبل مع ما نقلتم عن ابن عمر أنه قال: كنا نشرط عليهم ألا يزبلوه بالعذرة، والمجيء بهذه الصيغة المشعرة بإسناده الاشتراط إلى جماعة الصحابة كالمخصص، على أنه لو فرض أن القول بجواز التسميد بالزبل إجماع، وفرض شموله للغائط، لكان مخصوصًا بالإجماع القولي، والدليل الصحيح، القاضيان بنجاسة العذرة، وإلا لزم إن قيل بالتعارض، إما عن جميع الوجوه، أو من وجه كما هو شأن العموم والخصوص، ومن وجه تعارض القواطع، إن جعلتم الإجماع الفعلي على جواز التسميد قطعيًّا، وأنه باطل، وإن جعلتموه ظنيًّا فلا ينتهض لمعارضة القطعي، وهو الإجماع على نجاسة العذرة في مادة الاجتماع. فكيف بمادة الافتراق التي هي محل النزاع! إن قلنا أن بينهما عمومًا وخصوصًا من وجه، فكيف والظاهر أن الإجماع على نجاسة العذرة أخص مطلقًا؛ لأن العموم والخصوص من وجه إنما يتم في نجاسة العذرة بالنظر إلى عموم الحكم بنجاستها للأوقات، والأزمان،(10/5140)
والأشخاص، وأنه غير معتبر مع عموم الأزبال باعتبار الصيغة، فطاحت المسألة على جميع التقادير، واسترحنا من تعبها من جميع الوجوه، ولم يبق ما يصلح متمسكًا للمعارضة.
إذا عرفت هذا التقرير، مع ما ينضم إليه من الأدلة المتواترة على وجوب إنكار المنكر [24]، وإجماع الأمة على أنه واجب، فالمتلوث بالعذرة الواقع في محرم مقطوع به، وهو مخالفة الإجماع لمباشرتها لم يحفظ دينه من هذه الحيثية، والمقرر له على ذلك الواقع في محرم مقطوع به، وهو مخالفة الإجماع، والدليل القطعي بترك إنكار المنكر لم يحفظ دينه أيضًا من هذه الحيثية؛ فهذا مرادنا بالدين الذي استفسرتمونا عنه، ويحفظه الذي جعلناه ضروريًّا على حسب مصطلح أرباب الأصول.
وأما معارضة ذلك بأن منع المسلم المحترف بتلك الحرفة يؤدي إلى عدم حفظه للدين، فمع كونه يستلزم التقرير على كل حرفة محرمة بتجويز هذه المظنة، ويسد عنك باب الإنكار، وتنفتح أبوب كل فساد للأشرار، وحاشا إنصافكم أن تلتزم مثل هذا، فهو لا ينفعكم في مثل ما نحن بصدده؛ لأن هذه مفسدة متيقنة واقعة، وتلك مظنونة لما تقع، وهذه حفظ لمفارقة المحرم، وتلك بملازمته والتقرير عليه. ورفعها لا يقوم بالخرق، وبينهما مفاوز وعقاب تتقطع في قطعهما أعناق مطي الطلاب، وبمثل هذا لا يخفى على من كان في التيقظ مثلكم، وما أظنه إلا وقع في حال سهوِ، وإن كان لكم عليه دليل فما بيننا وبين الحق عداوة، ولو جاءنا به من لا يؤبه له، فكيف بمن هو ابن مجدته ونجدته!.
وأما احتجاجكم بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أعطى الحاجم (1) أجرته فنقول:
أولًا: لا يصح إلحاق العذرة بالدم؛ لأن قياس ما هو أغلظ حكمًا على ما هو أخف
_________
(1) تقدم تخريجه.(10/5141)
لا يجوز.
وثانيًا: أن الحق عدم انتهاض أدلة نجاسة الدم.
وثالثًا: أن مباشرة الحاجم لدم الحجامة حالها ليس بأكثري، ولا كلي، بل وقوعه في حيز الندرة، فكيف يجعل من أدلة النزاع!.
قال: يستفسر من هم: هل المراد تقرير المسلمين على التقاط الأزبال، أم تقرير اليهود على الأعداء؟.
أقول: هم المسلمون.
قال: المناسب الملغى (1) ليس بملغى عند مالك، ويحيى بن يحيى الليثي إلخ.
أقول: إنه سافر إنصافكم إلى التمسك لها في مقابلة جميع المسلمين، فأخبرونا: هل أخذتم بقولهما في كل مناسب ملغى، أم في هذه المسألة فقط، لقصد التخلص عن احتجاج الشوكاني؟ وهل كان ذلك اجتهادًا منكم؟ فما دليله مع مصادمته للإجماع والأدلة، أم تقليدًا؟ فالمسألة أصولية، والحق عدم انتهاض أدلة مطلق التقليد، فكيف بمقيده الذي وافق في عدم جوازه كل مجوز للمطلق إلا من شذ!.
قال: وينظر من أي أقسام الملائم المرسل إلخ.
أقول: من الأول: أعني: اعتبار عين الكفر في جنس الصغار الثابت لأهله بالإجماع [25]، وكونه فيه خلاف ليس بموجب لهجر موطنه، وفراق مسكنه، ولو كان مجرد وقوع الخلاف موحيًا لذلك لاختص التكليف بمسائل الإجماع، على أن ما نحن فيه بحمد الله من ذلك كما قررناه، ولا انخرام لهذه المناسبة؛ لعدم تحقق مفسدة في إجبار اليهود فضلًا عن أن يكون مساوية أو راجحة، وكون ذلك يستلزم نقض العهد على ما عوهدوا عليه، فقد حققنا فيما سلف أن أهل الذمة منسوخ بما قاله رسول الله - صلى الله عليه
_________
(1) تقدم ذكره.
انظر: "إرشاد الفحول" (ص 721 - 722)، "البحر المحيط" (5/ 215).(10/5142)
وآله وسلم - عند نزول الموت به: "أخرجوا اليهود من جزيرة العرب" (1). وعلى تسليم عدم النسخ، فالزيادة التي لا تنافي المزيد مقبولة بالإجماع، وفي القرآن زيادة الصغار. وقد حققنا الكلام فيما سلف فلا نعيده، فلا نقض، فلا مفسدة، فلا انخرام.
قال: على أن الذمي المؤدي للجزية المعاهد بعهد من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عليها فقط إلخ.
أقول: قد كرر - حفظه الله - هذه الدعوى في مواطن من هذه الرسالة، وكررنا ردها كذلك آخر هذا البحث الذي خرجنا منه، فلا نعيد ما سلف. وأما جعل المفعول لأجله هو الحمامات فإن لم يكن موجب الالتقاط عندكم غيرها فأريحوا المسلمين من هذا المنكر الذين هم متلبسون به، واهدموا الحمام الذي صار وسيلة وذريعة إلى هذه القبائح؛ فإن البلاد بلادكم، والأمر أمركم، وأنتم أحق بالعمل بقولكم من غيركم، ودعوا اليهود وشأنهم؛ فإنا لم نقل بإجبار اليهود إلا لما ظنناه من أن ترك الالتقاط يضر بالمسلمين، وأنه لا بد من قائم به من النوع الإنساني، فإذا لم يكن الحامل على الالتقاط إلا الحمامات فقد قربتم المسافة. بعد اعترافكم أنها صارت وسائل إلى المنكرات، فلا تخلوا بإنكار المنكر بالإجماع، لأجل التوسل إلى ما هو أيضًا منكر عندكم، وسنشد عضد ما ذكرتم من أن دخول النساء الحمامات محظور، فنقول: أخرج أبو داود (2) والترمذي (3) عن عائشة قالت: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الرجال والنساء عن دخول الحمام، ثم رخص للرجال أن يدخلوه في المآزر. وهو من حديث حماد بن سلمة بن دينار، عن عبد الله بن شداد، عن أبي عذرة، عنها. وأبو عذرة مجهول. قال الترمذي (4): لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، وإسناده ليس بذلك
_________
(1) تقدم تخريجه مرارًا.
(2) في "السنن" رقم (4009).
(3) في "السنن" رقم (2802).
(4) في "السنن" (5/ 113). وهو حديث ضعيف وقد تقدم.(10/5143)
القائم.
وفي رواية (1) لهما عن أبي المليح الهذلي قال: دخل على عائشة نسوة من نساء أهل الشام فقالت: لعلكن من الكورة التي تدخل نساؤها الحمام، قلن: نعم، قالت: أما أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيت زوجها [26] إلا هتكت ما بينها وبين الله من حجاب" ورجاله كلهم رجال الصحيح؛ لأنه عن شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي المليح، عنها. فلا يقدح في ذلك رواية جرير عن سالم عنها؛ لعدم إدراكه لها. وقال الترمذي (2): حسن.
وفي رواية للنسائي (3) عن جابر: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام إلا من عذر" هكذا بلفظ "إلا من عذر" في الجامع (4)، ولم يذكره الترمذي، ولا وجد الحديث في النسائي، فلعل ذلك في بعض النسخ، فينظر. ولم يذكره الشريف أبو المحاسن في كتابه في الحمام، ولا عزاه إلى النسائي.
وفي رواية للنسائي (5): "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر يدخل الحمام إلا بمئزر" هكذا في الجامع (6)، وهو من حديث طاووس عن جابر، وقال (7): حسن غريب لا نعرفه من حديث طاووس إلا من هذه الطريق، طريق ليث بن أبي سليم. ثم ذكر الاختلاف فيه، لكن رواه أحمد (8) من طريق ثانية عن أبي لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، ولم
_________
(1) أخرجه أبو داود رقم (4010) والترمذي رقم (2803) وهو حديث حسن.
(2) في "السنن" (5/ 114).
(3) لم أجده عن النسائي.
(4) في "جامع الأصول" لابن الأثير (7/ 340).
(5) في "السنن" (1/ 198) وهو حديث حسن.
(6) في "جامع الأصول" لابن الأثير (7/ 340).
(7) أي الترمذي في "السنن" (5/ 113 رقم 2801).
(8) في "المسند" (3/ 339).(10/5144)
يخرجه النسائي منهما. والكلام في ابن لهيعة مشهور. ورواه الشريف أبو المحاسن (1) في كتابه في الحمام من طريق ثالثة منكرة عن سعيد بن عروبة، عن أبي الزبير عن جابر، فمداره على هذه الطرق الثلاث، وليس في واحد منها الاستثناء لعذر.
وفي الباب عن أبي هريرة رواه أحمد (2)، وذكره في المنتقى (3)، وليس فيه ذكر الاستثناء (4). فالظاهر أن دخول النساء الحمام من المحرمات، ولو لم نظن أن هذه العهدة
_________
(1) وهو محمد بن علي بن الحسن الحسيني الدمشقي، من حفاظ الحديث ومن العلماء بالتاريخ 715 - 765 وكتابه المشار إليه اسمه "الإلمام بآداب دخول الحمام".
(2) في "المسند" (2/ 321) وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 277) وقال رواه أحمد وفيه أبو خبرة: بل هو محب بن حذلم ثابت بن زيد، يكنى أبا خبره.
انظر: "الجرح والتعديل" (8/ 444) و"الميزان" (4/ 521) وهو حديث صحيح.
أما "الاستثناء" فقد أخرج أبو داود رقم (4011) وابن ماجه رقم (3748) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنها ستفتح لكم أرض العجم، وستجدون فيها بيوتًا يقال لها: الحمامات فلا يدخلنها الرجال إلا بالأزر، وامنعوها النساء إلا مريضة أو نفساء".
وهو حديث ضعيف.
وانظر مزيد تفصيل في "نيل الأوطار" الحديث رقم (352، 353).
(3) (1/ 318 - 319).
(4) انظر التعليقة رقم (2) في هذه الصفحة.
ومنها أحاديث صحيحة:
حديث أبي أيوب الأنصار رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم فلا تدخل الحمام". أخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (5597) والحاكم (4/ 289) وقال الحاكم: إسناده صحيح ووافقه الذهبي.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" رقم (3873) وفي "الأوسط" رقم (8658) وهو حديث صحيح.
انظر تخريجه مفصلًا في "نيل الأوطار" (1/ 319).
(ومنها): عن أم الدرداء قالت: خرجت من الحمام، فلقيني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "من أين يا أم الدرداء؟ قالت: من الحمام. قال: والذي نفسي بيده ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها إلا وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن".
أخرجه أحمد (6/ 361، 362) والطبراني في "الكبير" (24/ 252، 253، 255 رقم 645، 646، 652) من طرق عن أم الدرداء. وهو حديث حسن.
قال الشوكاني في "نيل الأوطار" وحديث الباب يدل على جواز الدخول للذكور بشرط لبس المآزر وتحريم الدخول بدون مئزر وعلى تحريمه على النساء مطلقًا، واستثناء الدخول من عذر لهن لم يثبت من طريق تصح للاحتجاج بها، فالظاهر المنع مطلقًا.(10/5145)
لا بد من قائم بها من النوع الإنساني من مسلم أو كافر، لما في ترك ذلك من الضرر للمسلمين، لما احتجنا إلى الدندنة حول تلك الأدلة في إجبار اليهود، جعلنا مكانها أدلة تحريم تقرير المسلمين. وقد اشتملت هذه الرسالة على ما فيه كفاية. وكيف يظن بمن يرى تحريم دخول النساء الحمامات، ولم يدخله في عمره إلا مرة واحدة، أنه يشتغل بتأليف الرسائل بما هو وسيلة إليه، فالله المستعان.
وأما ما لمحتم إليه من تحريم خضب غير الشيب، وقولكم: قد قرأتم في الأزهار (1) فنقول: نعم قرأناه وقرأنا الأدلة الموافقة له والمخالفة، فوجدنا ما يخالفه أنهض مما يوافقه في هذه المسألة، فملنا مع الناهض، لكنه إذا كان وسيلة إلى معصية فهو محرم لا لذاته، بل لكونه وسيلة.
قال: ومما ينبغي التنبه له هنا، وهو مقابل لهذه الحرفة الدنية التي دندنتم حولها تلقي الإفرنج إلخ.
أقول: صدقتم، وكم لهذه الهنات من أخوات، ولكن الأمر كما قلته (2) من أبيات:
_________
(1) (3/ 284 - مع السيل الجرار).
(2) الشوكاني. انظر الديوان (ص 102).(10/5146)
لعمرك ما في الركب [حر ولا أرى] (1) ... [بهذا الوادي من طالب (2) للعلية [27]]
فيا طالما قد صحت: هل من مساعد ... ويا طالما قد درت بين البرية
فلم أر إلا شارقًا ببلاهة ... يطيش بها أو مصمتًا بتقية
وبعد فهذا فلنسمك عنان القلم عن التفلت في هذه الشعاب والهضاب، ونكتفي بهذه الوثبة في ميادين خيول أدلة السنة والكتاب، ملقين عن ظهورنا أعباء التكلفات والتوغلات، طارحين عن كواهلنا أحمال أثقال التعسفات والتعصبات، غير متوغلين في مضمار الجدال والنضال، ولا مقتحمين لمحبة القلب أشباح معارك مهالك أبطال المقال. اللهم فاجعل هذه المناظرة مناصرة لا مقامرة، وهذه المذاكرة مباصرة لا مكابرة، وهذه المطاولة مقاولة لا مصاولة، وهذه المجادلة مناولة لا مهاولة، وأعنا على تنقية كدورات الأهوية والعصبية، بمياه الإنصاف، واغننا عن الاحتياج إلى ورود مواردها الوبية بما صفا من معين علوم الأسلاف. وصل وسلم على من قال: "اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، وآله وصحبه يا كريم". وكان فراغ مؤلفه القاضي
_________
(1) كذا في المخطوط وفي الديوان [ذو لوعة ولا].
(2) والذي في الديوان (ص 102):
لعمرك ما في الركب ذو لوعة ولا ... بذا الحي من تزجى إلية مطيتي
فائدة من أقوالهم:
قال النووي في "المجموع" (21/ 329):
الصغار: هو أن تجري عليهم أحكام المسلمين، ولا فرق بين الخيابر وغيرهم في الجزية.
وقال الشافعي في "الأم" (9/ 65) سمعت عددًا من أهل العلم يقولون: الصغار أن يجري عليهم حكم الإسلام.
وما أشبه ما قالوا لامتناعهم من الإسلام فإذا جرى عليهم حكمه فقد أصغروا بما يجري عليهم منه.
وقال الشافعي في "الأم": الصغار أن تؤخذ منهم الجزية وهم قيام والآخذ جالس.
انظر: "المهذب" (5/ 325 - 330) و"البناية في شرح الهداية" (6/ 683 وما بعدها)، "روضة الطالبين" (10/ 315 - 316).(10/5147)
القطب الرباني محمد بن علي الشوكاني - حفظه الله، ومتع المسلمين بحياته - وكان فراغه - حفظه الله - في يوم الخميس سادس عشر محرم الحرام، سنة 1206 كمل من تحريره كما حرره جزاه الله خير الدارين بحق محمد وآله الأطهار.
...
* تنبيه:
* حصلت على رسالة بعنوان "تحقيق المقال وقطع الجدال على حل الإشكال وإرسال المقال" إنشاء الفقير إلى الله: عبد الله بن بشير المالكي مذهبًا.
وتتألف من (15) صفحة في كل صفحة (22) سطرًا إلا أن الصورة المرسلة إلي من الدكتور "هيكل" غير واضحة ولا يمكن كتابتها ليتم تحقيقها.
ومعها رسالة بعنوان "الإعلال لتحقيق المقال" لشيخ الإسلام القاضي محمد بن علي الشوكاني. نفع الله بعلومه.
تتألف من (12) صفحة في كل صفحة (24) سطرًا ما عدا الصفحة الأخيرة فيها (10) أسطر. إلا أن الصورة المرسلة إلي من الدكتور "هيكل" غير واضحة أيضًا ولا يمكن كتابتها ليتم تحقيقها.
والله ولي الهداية والتوفيق.(10/5148)
تنبيه الأمثال على عدم جوز الاستعانة من خالص المال
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(10/5149)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: تنبيه الأمثال على عدم جواز الاستعانة من خالص المال.
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" إياك نعبد وإياك نستعين. أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله وصحبه.
وبعد .. فإنه استدل القائلون بجواز الاستعانة من خالص أموال الرعية بأدلة منها.
4 - آخر الرسالة: وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق كتبه مؤلفه محمد الشوكاني غفر الله له.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 12 صفحة ما عدا العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 11 كلمة.
9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(10/5151)
بسم الله الرحمن الرحيم
إياك نعبد وإياك نستعين. أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله وصحبه.
وبعد ..
فإنه قد استدل القائلون بجواز الاستعانة من خالص أموال الرعية بأدلة منها: قوله سبحانه: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) وقد أجيب عن هذا الاستدلال بهذه الآية بالمنع من دلالتها على الوجوب؛ لقوله في أولها: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم} فإن ذلك لا يستفاد منه إلا مجرد الندب، وكذلك أن قوله في آخر الآية: {ذلك خير لكم} يدل أبلغ دلالة على عدم الوجوب، وأجيب عن الأول بأنه - سبحانه - قرن ذلك بالإيمان وبالجهاد بالنفس، وهما واجبان إجماعًا، فيجب الجهاد بالمال كوجوبهما، ورد هذا الجواب بأن دلالة الاقتران (2) ليست بحجة كما تقرر في الأصول؛ لكثرة اقتران الواجب
_________
(1) [الصف: 10 - 11].
(2) أنكرها الجمهور فقالوا: القران في النظم لا يوجب القران في الحكم.
وصورته: أن يدخل حرف الواو بين جملتين تامتين، كل منهما مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل، بلفظ يقتضي الوجوب في الجميع أو العموم في الجميع، ولا مشاركة بينهما في العلة، ولم يدل دليل على التسوية بينهما.
واحتج المثبتون لها بأن العطف يقتضي المشاركة، وأجاب الجمهور بأن الشركة إنما تكون في المتعاطفات الناقصة المحتاجة إلى ما تتم به، فإذا تمت بنفسها فلا مشاركة كما في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29]، فإن الجملة الثابتة معطوفة على الأول ولا تشاركها في الرسالة، ونحو ذلك في القرآن والسنة كثير، والأصل في كل كلام تام أن ينفرد بحكمه ولا يشاركه غيره فيه، فمن ادعى خلاف هذا في بعض المواضع فلدليل خارجي.
انظر تفصيل ذلك في "إرشاد الفحول" (ص 810 - 812)، "البحر المحيط" (6/ 100 - 103)، "التبصرة" (ص 230).(10/5155)
بما ليس بواجب، كما في قوله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (1) فقرن ما بين الإيمان الذي هو أعظم الواجبات، وبين الحض على طعام المسكين الذي ليس بواجب، مع ما في أول هذه الآية من الوعيد الشديد، وعلى تسليم الدلالة على المطلوب في أنه الجهاد فليس في ذلك أنه يجب على المجاهد بنفسه أن يخرج قطعة من ماله ليتجهز بها غيره، بل غاية ما يجب عليه تجهيز نفسه بما يحتاج إليه. وأما تجهيز غيره بعد تجهيزه لنفسه فليس ذلك بواجب شرعًا، بل مندوب فقط.
ثم لو سلمنا أنه يجب على من كثر ماله، وتمكن من زيادة على تجهيزه لنفسه وما يحتاج إليه من يعوله لكان أمر ذلك يدفعه إلى من يشاء من المجاهدين، وليس عليه أن يدفعه إلى السلطان. ولو كان ذلك من الواجبات الشرعية لأوجبه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على أهل الأموال. ولم يثبت من وجه صحيح أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أوجب على أحد من الصحابة [1 أ] أن يجهز غازيًا، أو أكثر أو أقل، بل غاية ما وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هو الترغيب (2)، وأن ذلك من أعظم
_________
(1) [الحاقة: 30 - 34].
(2) منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2843) ومسلم رقم (1895) وأبو داود رقم (2509) والترمذي رقم (1628) والنسائي (6/ 46) عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير فقد غزا".
ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2841) ومسلم رقم (1027) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزنة الجنة - كل خزنة باب - أي قل هلم، قال أبو بكر: يا رسول الله، ذاك الذي لا توى عليه، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني لأرجو أن تكون منهم".
ومنها: ما أخرجه النسائي (6/ 49) والترمذي رقم (1625) وابن حبان رقم (4628) والحاكم (2/ 87) من حديث خريم بن قاتك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت بسبعمائة ضعف". وهو حديث صحيح.(10/5156)
موجبات الأجور، ومن أكبر أسباب المثوبة. ومع هذا فتلك الترغيبات ليس فيها أنهم يدفعون تلك الأموال إليه حتى يجهز بها الغزاة، بل غاية ما في ذلك [أنه] (1) رغبهم في أن يجهزوا [أنفسهم] (2) ثم بعد هذا كله لا يخفى عليك أن هذه الآية في خصوص الجهاد لمثل من كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يجاهده فإلحاق غير الجهاد به، أو إلحاق جهاد غير الكفار بالجهاد للكفار إن كان بطريق القياس فهو من قياس المخفف على المغلظ، وإن كان بغير القياس فما هو؟.
واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} (3).
ويجاب عن هذا الاستدلال بأن غاية ما في الآية الأمر بالمسارعة إلى ما يوجب المغفرة، والمسارعة إلى ما يوجب الجنة المعدة للمتقين. ثم لو سلم أن الأمر بالمسارعة إلى ذلك أمر بالأسباب الموجبة للمغفرة والجنة لكان آخر الآية وهو قوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} (4) واجبًا، واللازم باطل فالملزوم مثله. ولكانت الأقوال والأفعال الصالحة التي ليست بواجبة واجبة؛ لأنها من الأسباب الموجبة لذلك بلا شك ولا شبهة كصدقة النافلة، وصلاة النافلة، والأذكار المرغب فيها ونحو ذلك، واللازم باطل فالملزوم مثله.
ثم على تسليم الدلالة تنزلًا فغاية ما في ذلك مشروعية الإنفاق في السراء والضراء من صاحب المال، فما الدليل الدال على أنه يجب عليه أن يدفع ذلك إلى السلطان؟ بل ينفق ماله في أي وجه من وجوه الخير كائنًا ما كان، ومن فعل ذلك فقد سارع وفعل ما
_________
(1) في المخطوط أنهم، والصواب ما أثبتناه.
(2) في المخطوط بأنفسهم، والصواب ما أثبتناه.
(3) [آل عمران: 133 - 134].
(4) [آل عمران: 134].(10/5157)
ندبه الله إليه، فالرجل الذي أنفق بعضًا من ماله في الفقراء، أو في صلة الأرحام، أو في سائر القرب المقربة إلى الله - سبحانه - قد امتثل ما ندبه الله إليه في هذه الآية، وإن لم ينفقه في الجهاد، ومن قال إنه لا يكون ممتثلًا إلا بالإنفاق في الجهاد فقد أوجب عليه ما لم تدل عليه هذه الآية [1 ب].
واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1).
وبقوله - سبحانه -: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} ... الآية} (2).
والجواب عن الآية الأولى كالجواب عن الآية المذكورة قبلها.
والجواب عن الآية الثانية أنه ليس فيها إلا الترغيب لأهل الأموال أن ينفقوها في سبيل الله بأنفسهم على حسب اختيارهم، وليس فيها ما يدل على إيجاب ذلك عليهم، وهذا لا شك فيه.
واستدلوا أيضًا بقوله: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} (3) وهذه الآية ليس فيها ما يدل على الوجوب، وأيضًا لو سلم أن فيها دلالة فغاية ذلك الإنفاق في سبل الخير كائنة ما كانت، فمن أنفق في شيء منها فقد فاز بما ندبه إليه الشارع، ونال البر بذلك ومن قال: إنه لا ينال البر إلا بالإنفاق في خصلة خاصة وقربة معينة فقد ألزم العباد بما لا تدل عليه الآية.
وهكذا الجواب عما استدلوا به من مثل قوله سبحانه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (4)
_________
(1) [البقرة: 254].
(2) [البقرة: 261].
(3) [آل عمران: 92].
(4) [آل عمران: 180].(10/5158)
فإن إنفاق بعض من المال في قربة من القرب ينفي عن المنفق وصف البخيل، ويخرجه عن صفة الباخلين، وإلا لزم أنه لا يخرج عن وصف البخل إلا بالإنفاق في الجهاد، وإن أنفق ماله في وجوه الخير. وهذا لا تدل عليه الآية بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام.
وهكذا الجواب عما استدلوا به من قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (1) فإن من أخرج بعضًا من ماله في وجه من وجوه الخير، ونوع من أنواع الإنفاق فيما شرعه الله ليس بباخل قطعًا.
واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} (2)، وبقوله: {وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله} (3)، وبقوله: {من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا} (4)، وبقوله: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} (5) وليس في هذه الآيات دلالة على المطلوب أصلًا، وغايتها الترغيب في الإنفاق في وجوه الخير، ومن فعل شيئًا من ذلك فقد فعل ما ندب إليه، فما الدليل على أنه لا يكون ممتثلًا إلا بالإنفاق في وجه خاص من وجوه الخير؟.
وبالجملة فالآيات القرآنية التي فيها الترغيب في الإنفاق كثيرة جدًّا. ولا شك أن معناها الترغيب لعباد الله في إنفاق شيء من أموالهم فيما أرادوه كائنًا ما كان، ومن فعل ذلك فقد امتثل واستحق الأجر المذكور في تلك الآيات، فمن أوجب عليه بعد ذلك أن
_________
(1) [النساء: 37].
(2) [النساء: 39].
(3) [الحديد: 10].
(4) [الحديد: 11].
(5) [الحشر: 9]، [التغابن: 16].(10/5159)
يدفع جزءًا من ماله إلى غيره لينفقه في شيء من وجوه الخير، فقد ادعى ما لا تدل عليه الآيات القرآنية التي استدل بها هذا على فرض أن هذه الآيات المشتملة على الإنفاق غير محمولة على ما هو واجب في المال بإيجاب الله - سبحانه - كالزكاة ونحوها. وأما إذا كانت محمولة على ذلك كما هو قول الجماهير فلا دلالة فيها على المطلوب من الأصل.
واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1) وليس في هذه الآية شيء من الدلالة على المطلوب، وهو إيجاب الإنفاق والجهاد، وتحتمه، ودفع ما ينفقه صاحب المال إلى السلطان، بل فيها المفاضلة بين الطائفتين، ولا شك في ذلك، وليس المراد بهذه النفقة خصوص النفقة في الجهاد، بل المراد الإنفاق العام في وجوه الخير، ومن جملة ذلك الإنفاق على فقراء الصحابة كأهل الصفة الذين حكى الله عن المنافقين أنهم يقولون في شأنهم: {لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} (2) فهذا الوجه من جملة ما رغب الله فيه من النفقة. وقد أرشد الله سبحانه إلى الإنفاق سرًّا فقال: {وأنفقوا مما رزقناهم سرًّا وعلانية} (3) وورد أن صدقة السر أفضل من صدقة الجهر في أحاديث صحيحة فهي من أفضل أنواع الإنفاق [2 ب] التي وردت الآيات القرآنية بالإرشاد إليها، والحث عليها.
ومن جملة أنواع الإنفاق الفاضلة الإنفاق على النفس والأهل والأقارب، فإنه قد ثبت أن ذلك من أفضل أنواع الإنفاق، وأنه مقدم على سائر الأنواع كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة.
واستدلوا أيضًا بقوله تعالى:
_________
(1) [الحديد: 10].
(2) [المنافقون: 7].
(3) [الرعد: 22].(10/5160)
{هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (1) وليس في هذه الآية ما يفيد وجوب الإنفاق من خالص المال في نوع خاص، بل من أنفق في سبيل الله فقد امتثل، والمراد بسبيل الله كل ما فيه بر وثواب كائنًا ما كان. وعلى تسليم الدلالة فذلك أمر مفوض إلى رب المال يضعه حيث يشاء، وكيف يشاء، وفي من يشاء، فما الدليل على أنه يدفعه إلى السلطان؟ ولو كان ذلك جائزًا لكان أولى الناس به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم. ولم يثبت أنه أكره أحدًا من أرباب الأموال في عصره على دفع شيء من ماله، ولا قبض ذلك منه، وليس في القرآن إلا الأمر للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بأن يأخذ الصدقة الواجبة كما في قوله: {خذ من أموالهم صدقة} (2) ولو كان مطلق الإنفاق الخارج عن الصدقة الواجبة واجبًا لكان الحمل على هذا الواجب والإكراه عليه واجبًا كسائر الواجبات الشرعية، فلما لم يحصل ذلك منه كما حصل في الزكاة المفروضة حيث قال: "فإنا آخذها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا" (3) دل ذلك على أنه لا وجوب لما عدا ذلك إلا بدليل يخصه كالإنفاق على الزوجات بلا خلاف في ذلك، وعلى بعض القرابة كالأبوين والأولاد الصغار على خلاف في ذلك، ولكنه قد أذن (4) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لهند بنت
_________
(1) [محمد: 38].
(2) [التوبة: 103].
(3) أخرجه أحمد (5/ 2 - 4) وأبو داود رقم (1575) والنسائي (5/ 15 - 16 رقم 2444) والحاكم في "المستدرك" (1/ 398) وصححه ووافقه الذهبي والبيهقي (4/ 105) والدارمي (1/ 396) وابن أبي شيبة (3/ 122) والطبراني في "الكبير" (19/ 411 رقم 984 - 988) عبد الرزاق رقم (6824) وابن خزيمة (4/ 18 رقم 2246). من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.
وهو حديث حسن.
(4) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (5364) ومسلم رقم (1714) عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت هند بنت عتبة - امرأة أبي سفيان - على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، إلا ما أخذت من ماله بغير علمه فهل علي في ذلك من جناح؟ فقال: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وما يكفي بنيك".
وقد تقدمت مناقشة الحديث والتعليق عليه.(10/5161)
عتبة زوجة أبي سفيان أن تأخذ من ماله ما يكفيها ويكفي أولادها، فكان ذلك دليلًا على وجوب ذلك.
وأما الإنفاق [3 أ] في الجهاد فقد جعل الله في بيت مال المسلمين الذي هو في الحقيقة مجموع من الأموال التي هي للمسلمين كالفيء والخراج والجزية والمعاملة، وسائر ما يؤخذ من أموال المسلمين من خمس أو عشر أو نصف عشر للجهاد نصيبًا، فإن لم يكن لهم بيت مال فقد أوجب الله عليهم مجاهدة الكفار بالأنفس والأموال، يجاهد كل منهم بنفسه وماله على حسب ما تبلغ إليه طاقته، ويقدم نفسه أولًا، فإذا أراد الاستزادة من الخير جهز من المجاهدين من أراد تجهيزه هذا معنى الجهاد المذكور في الآية، وهو الذي كان عليه عمل الصحابة في عصر النبوة، ولما فتح الله بالخير في أواخر أيام النبوة قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما صح عنه: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن ترك مالًا فلورثته، ومن ترك دينًا فإلي وعلي" (1) ثم هكذا كان الأمر في عصر الصحابة بعد موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ثم عصر التابعين وتابعيهم لم يسمع في هذه العصور التي هي خير القرون أنهم أكرهوا أحدًا على إخراج ماله إلى يد السلطان أو نائبه، بل كان المجاهدون في تلك العصور طائفتين؛ طائفة مرتزقة أي مرتزقة من بيت مال المسلمين وهم جند السلطان، وطائفة متطوعة يخرجون للجهاد ويتجهزون له من أموالهم من غير أن يأمرهم السلطان بالخروج أو يكرههم عليه، وهكذا كان الأمر في العصور
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2298، 2398، 2399، 4781، 5371، 6731، 6745، 6763) ومسلم في صحيحه رقم (14، 15، 16، 17/ 1619)، والترمذي رقم (1070) والنسائي (4/ 66) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(10/5162)
التي بعد عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم.
واستدلوا أيضًا بقوله - سبحانه -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (1) وهذا فيه الأمر للمسلمين بإعداد العدة للجهاد في سبيل الله، فكل واحد منهم يعد ما يحتاج إليه فيه من سلاح ومركوب ونحو ذلك حسب طاقته [3 ب]، وما تبلغ إلى قدرته، ومن زاد الله في حسناته، وليس النزاع في هذا، إنما النزاع في أخذ شيء من أموال الرعايا زيادة على ما فرضه الله عليهم في أموالهم، يأخذه السلطان طوعًا أو كرهًا، رضوا أم أبوا، وقد يأخذون ذلك في جهادات لا تأتي للرعية بنفع، بل فيها عليهم أعظم الضرر كما يقع بين سلاطين الإسلام من الحروب على بعض البلاد، هذا يريد أن تكون الولاية فيها له، والآخر يريد أن تكون الولاية فيها له فإن هذا ليس هو من الجهاد الذي شرعه الله وندب عباده إليه، بل هو شبيه بالحروب الجاهلية.
وكثيرًا ما يقتل أجناد هؤلاء ضعفاء الرعايا، ويأخذون أموالهم، ويهتكون حريمهم، ويتفق بينهم معارك جاهلية، وقتلات طاغوتية، فليس هذا إلا من الظلم البحت، والجور الخالص، فكيف إذا ضم إلى ذلك ظلم الرعايا بأخذ أموالهم المحرمة بحرمة الإسلام، المعصومة بعصمة الدين، ثم بعد أخذ أموال الرعايا يكرهونهم على القتال، ويجمعون لهم بين غرم المال والبدن، ويعرضونهم للجنود الظالمة يأخذون ما بقي في أيديهم، ويسخرون أبدانهم فيما يريدون، كأنهم ليسوا من بني آدم، ولا ممن حرم الله دمه وماله وعرضه.
واستدلوا بقوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2) وليس فيه إلا مجرد الإنفاق في سبيل الله، والامتثال
_________
(1) [الأنفال: 60].
(2) [البقرة: 195].(10/5163)
يحصل بالإنفاق في وجه من وجوه الخير كائنًا ما كان؛ لأنه من سبيل الله.
هذا على فرض أن الأمر هاهنا للوجوب، وليس كذلك، فإن قوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1) يدل على أن ذلك مندوب، وإلا لكان كل إحسان واجبا، واللازم باطل فالملزوم مثله. ولا ريب أن المندوبات بأسرها هي من الإحسان، ومع هذا فإن الآية وردت لسبب خاص، أخرج أبو داود (2) عن أبي أيوب الأنصاري قال: "إنما نزلت هذه فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ [4 أ]- قلنا: هل نقيم في أموالنا ونصلحها؟ فأنزل الله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ... الحديث". فهي للحث (3) لهم على الجهاد لما عزموا على الإقامة في أموالهم وإصلاحها.
ومع هذا فهذه الآيات التي ذكروها المشتملة على الأمر بالإنفاق والترغيب فيه لو سلمنا دلالتها على المطلوب لكان ذلك الإنفاق هو ما بينه الله - سبحانه - في قوله: {ويسألونك ماذا ينفقون قال العفو} (4) والعفو هو الشيء الفاضل الذي لم يكن لصاحبه به حاجة، ولكن هذا ما ثبت في ............................
_________
(1) [البقرة: 195].
(2) في "السنن" رقم (2976). وهو حديث صحيح.
قلت: وأخرجه الترمذي رقم (2972) والنسائي في "السنن الكبرى" رقم (11029).
(3) قال ابن كثير في تفسيره (1/ 530): ومضمون الآية: الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك ذلك بأنه هلاك ودمار وإن لزمه واعتاده، ثم عطف بالأمر بالإحسان وهو أعلى مقامات الطاعة فقال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (4516) عن حذيفة: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: نزلت في النفقة.
(4) [البقرة: 219].(10/5164)
الصحيح (1) عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "يا ابن آدم، إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك" فمعنى الآية المذكورة هو معنى هذا الحديث، وليس فيه ما يدل على الوجوب، بل فيه ما يدل على الندب لقوله: "خير لك". ومن الترغيب في الإنفاق العام الصادق على كل نوع من أنواعه ما ثبت في الصحيح (2) عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "اللهم اجعل لمنفق خلفًا، ولممسك تلفًا" وقوله: "أنفق ينفق عليك، ولا توكي فيوكأ الله عليك" (3). ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (4) فهذا ترغيب في الإنفاق العام الذي يحصل الامتثال بنوع من أنواعه، ومن قام بنوع منه فقد فعل ما طلب منه، ولا يخاطب بنوع خاص، ولا يكره على ذلك. وعلى فرض أن يلزمه أن يصرفه في تجهيز المجاهدين لكونه من أعلى أنواع الإنفاق وأفضلها فذلك أمر مفوض إليه، والخطاب متوجه إليه، وهو المالك لماله، فيكون أمر التجهيز إليه لا إلى غيره.
وإذا أخل بهذا فحكمه حكم من لم يمتثل ما أمر به أو ما ندب إليه من غير إيجاب، ومما يدل على عدم وجوب الإنفاق المذكور في هذه الآيات التي استدلوا بها ما ورد في الكتاب العزيز في آيات كثيرة، وفي السنة المطهرة في أحاديث كثيرة صحيحة من
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1036).
(2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (1442) ومسلم رقم (1010) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا".
(3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (1433) ومسلم رقم (1029) وأبو داود رقم (1699) عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا توكي فيوكأ عليك".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2591) ومسلم في صحيحه رقم (2331) عن أسماء قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انفحي (أو انضحي أو أنفقي) ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك".
(4) [سبأ: 39].(10/5165)
الترغيب في الصدقات تارة بلفظ الأمر، وتارة بما يدل على أعظم ترغيب بترتيب الأجور الكثيرة عليه، والأجزية الفاضلة على فعله، ولم يقل أحد من الناس أنه يجب على أحد أن يتصدق [4 ب] بشيء من ماله. ولا فرق بين الأمر بالإنفاق، والأمر بالصدقة، فإذا قال قائل لغيره: تصدق من مالك كان كقوله: أنفق من مالك، وإذا قال القائل لغيره: أنفق من مالك كان كقوله: تصدق من مالك، لا فرق بينهما. فدعوى وجوب الإنفاق بالآيات التي فيها الأمر به يستلزم القول بوجوب الصدقة في الآيات التي فيها الأمر بها، واللازم باطل فالملزوم مثله.
فإن قال قائل: الأوامر بالصدقة قد اقترنت بما يصرفها عن الوجوب.
قلنا: وكذلك الأوامر بالنفقة قد اقترنت بما يصرفها عن الوجوب، بل كل ما جعل صارفًا للأوامر بالصدقة فهو صارف للأوامر بالإنفاق لما ذكرناه هاهنا، ولا نخرج من ذلك إلا ما دل عليه دليل يفيد إيجابه على طريقة الخصوص كما قدمنا الإشارة إلى ذلك.
وبهذا يتضح لك أن الاستدلال بآيات الإنفاق على وجوب إخراج جزء من المال في الجهاد فوق ما يتجهز به المجاهد مصادرة على المطلوب؛ لأنه استدلال بمحل النزاع، وبموضع الخلاف. ثم هذا النوع الخاص لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه ألزم أحدًا من الصحابة به على طريقة الحتم والجزم، ولا ورد ذلك في حديث صحيح ولا حسن، بل كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يرغب في ذلك بمثل قوله: "من جهز غازيًا كان له مثل أجره" (1)، "ومن جهز غازيًا فقد غزا" (2) فما أحق الإمام الفاضل، والسلطان العادل أن يسلك هذا المسلك النبوي إذا احتاج إلى تجهيز الغزاة!
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1896) وأبو داود رقم (2510) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.
(2) أخرجه الترمذي رقم (1629) وابن ماجه رقم (2759) وابن حبان في صحيحه رقم (4611) من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.(10/5166)
فيقوم بين ظهراني المسلمين مرغبًا لهم في تجهيز الغزاة، نادبا لهم إلى هذه الخصلة الشريفة، والحسنة الرفيعة، والقربة العظيمة، فإن فعلوا فقد ظفروا بالخير، وظفر هو بأجر الدلالة عليه وإن أبوا فلا إكراه لهم ولا إجبار عليهم في أموالهم المعصومة بعصمة الإسلام المحترمة بحرمة الدين.
ثم اعلم أن هذه الآيات التي استدلوا بها معارضة بما هو أوضح دلالة منها، وهي الآيات المصرحة بتحريم أموال العباد كقوله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1) [5 أ] ونحوها، وبالأحاديث الناطقة بالمنع من أخذها كما ثبت في الصحيح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) (2) وكان هذا القول منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في حجة الودع التي تعقبها موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فهو ناسخ لكل ما يظن أن فيه ترخيصًا في أموال العباد، أو توسيعًا لدائرة التهافت على الأموال [المحترمة] (3)؛ لأن الأدلة المتأخرة ناسخة لما تقدمها، فكيف إذا كانت مشتملة على النهي والتحريم! فإنه لو فرض جهل التاريخ لكان النهي أرجح من الأمر، والدال على التحريم أقدم من الدال على الإباحة كما تقرر في الأصول (4).
_________
(1) [النساء: 29].
(2) تقدم مرارًا. وهو حديث صحيح.
(3) كذا في المخطوط ولعلها: المحرمة.
(4) انظر "إرشاد الفحول" (ص 903)، "البحر المحيط" (6/ 169).
والراجح في المسألة ما قاله الشوكاني في "السيل الجرار" (3/ 715 - 716) قوله: "والاستعانة من خالص المال":
أقول - الشوكاني - وجه هذا أن مع خشية استئصال الكفار لقطر من أقطار المسلمين مع عدم وجود بيت مال المسلمين، وعدم التمكن من الاقتراض واستعجال الحقوق قد صار الدفع عن هذا القطر الذي خشي استئصاله واجب على كل مسلم، ومتحتم على كل من له قدرة على الجهاد أن يجاهدهم بماله ونفسه، ومن الاستعداد له - للجهاد -، كالباعة في الأسواق والحراثين تجب عليهم الإعانة للمجاهدين بما فضل من أموالهم، فإن هذا من أهم ما أوجبه الله على عباده، والأدلة الكلية والجزئية من الكتاب والسنة تدل عليه، وعلى الإمام أن لا يدع في بيت المال صفراء ولا بيضاء، وبعين بفاضل ماله الخاص به كغيره، ولكن الواجب أن يأخذ ذلك على جهة الاقتراض، ويقضيه من بيت مال بيت المسلمين عند حصول ما يمكن القضاء منه؛ لأن دفع ما ينوب المسلمين من النوائب يتعين إخراجه من بيت مالهم وهو مقدم على أخذ فاضل أموال الناس؛ لأن أموالهم خاصة بهم، وبيت المال مشترك بينهم، فإن كان لا يمكن القضاء من بيت المال في المستقبل فقد حق الوجوب على المسلمين.
وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن الاستعانة المقيدة بهذه القيود المشروطة باستئصال قطر من أقطار المسلمين هي غير ما يفعله الملوك في زمانك من أخذ أموال الرعايا زاعمين أن ذلك معونة جهاد مؤلف قد منعوه ما هو مؤلف به من بيت مال المسلمين، أو جهاد من أبى من الرعايا أن يسلم ما يطلبونه منه من الظلم البحت الذي لم يوجبه الشرع، أو جهاد من يعارضهم في الإمامة وينازعهم في الزعامة، فاعرف هذا، فإن هذه المسألة قد صارت ذريعة لعلماء السوء يفتون بها من قربهم من الملوك، وأعطاه نصيبهم من الحطام، ومع هذا ينسون أو يتناسون هذه القيود التي قيدها المصنف بها وفاء بأغراض من يرجون منه الأغراض، والأمر لله العلي الكبير.(10/5167)
هذا على فرض أنهم قد تمسكوا بما يدل على ذلك، وقد عرفت مما قدمنا أنهم لم يأتوا بشيء مما يصلح للتمسك به، وقد ثبت بالقطع الذي لا يخالف فيه مسلم أن أصل أموال العباد التحريم، وأن المالك للشيء مسلط عليه، محكم فيه، ليس لغيره فيه إقدام، ولا إحجام، ولا تصرف إلا بدليل يدل على ذلك كالحقوق الواجبة في الأموال، وقد أشرنا إليها فيما سبق فمن ادعى أنه يحل له أخذ مال أحد من عباد الله ليضعه في طريق من طرق الخير، وفي سبيل من سبل الرشد لم يقبل منه ذلك إلا بدليل يدل على ذلك بخصوصه، ولا يفيده أنه يريد وضعه في موضع حسن، وصرفه في مصرف صالح، فإن ذلك ليس إليه بعد أن صار المال ملكًا لمالكه، وهذا لا يخفى على أحد ممن له أدنى علم بهذه الشريعة المطهرة، وبما ورد في الكتاب والسنة، وسأضرب لك هاهنا مثلًا يزيدك فائدة، ويوضح لك ما ذكرناه، وهو أن رجلًا لو كان له مال كثير، وقد أخرج زكاته الواجبة عليه، وفعل ما يجب عليه فيه فقال من له سلطان: لا عذر لهذا الرجل الغني الكثير المال من إخراج بعض من ماله [5 ب] يصرف في فقراء المسلمين، وفي محاويج(10/5168)
العباد، مستدلًّا على ذلك بما تقدم من الآيات التي ذكر فيها الأمر بالإنفاق، والترغيب فيه، قائلًا هذا الإنفاق من جملة ما يدخل تحت هذه الأيات، وتصدق عليه. فهل يقول هؤلاء المستدلون بها على تلك الاستعانة التي استدلوا بها عليها أن هذا الاستدلال صحيح، وأن الذي فعله ذلك الذي له سلطان، وأمر به صواب، أم يقولون هو خطأ وظلم وتصرف في مال الغير بما لم يأذن الله به؟ فإن قالوا بالأول فقد خالفوا إجماع المسلمين أجمعين، وجوزوا ما لم يجوزه أحد من سلف هذه الأمة وخلفها.
وإن قالوا بالثاني، قيل لهم فما الفرق بين ما ذهبتم إليه وألزمتم به الرعايا طوعًا أو كرهًا، وبين ما فعله هذا الرجل الذي له سلطان؟ فإن ما فعله وأمر به مما يصدق عليه آيات الإنفاق التي استدللتم بها ولا تجدون إلى دفع هذا سبيلًا.
فإن قلتم: بعض أنواع الإنفاق أولى من بعض، وأكثر ثوابًا، وأعظم نفعًا.
قلنا لكم: هذه الأولوية والأكثرية والأعظمية ممنوعة، ثم لو سلمنا ذلك بعد تسليمكم أن تلك الآيات تدخل تحتها ما فعله ذلك الذي له سلطان وأمر به، وما فعلتموه أنتم وأمرتم به، فما الدليل الدال على تعين فرد من الأفراد المرادة بذلك الدليل العام؟ مع أنه صدق على من فعل فردًا أو أفرادًا غير ما أردتم وطلبتم أنه قد امتثل ما أمره الله به وندبه إليه، ثم نقول زيادة إيضاح: لم قدمنا لك أنه لا دلالة لما استدلوا به على مطلوبهم، وهو الوجوب، ثم لا دلالة له على أن الفرد الذي أرادوه هو المراد من الآيات دون غيره.
فإن قالوا: هو أحد المرادات من الآيات. لم يتم الاستدلال، ثم بعد هذا كله لا دليل فيما استدلوا به على أنه يجب [6 أ] على رب المال أن يدفع ذلك الذي طلب منه إلى يد السلطان حتى يجهز به من أراد، بل ذلك هو إلى رب المال يجهز به من أراد، ويصرفه فيمن يختار من غير إكراه ولا إجبار.
وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق.
كتبه مؤلفه محمد الشوكاني - غفر الله له [6 ب]-.(10/5169)
بحث في التصوير
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(10/5171)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في التصوير.
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين.
وبعد: فإنه وصل السؤال من سيدي العلامة المفضال جمال الكمال علي بن يحيى - أمتع الله بحياته وكثر فوائده .... .
4 - آخر الرسالة: فقد برئ بذلك من وجوب إنكار المنكر عليه، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هدايةٌ.
والله ولي التوفيق.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 9 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطراً ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها سبعة.
8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.
9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(10/5173)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين
وبعد:
فإنه وصل السؤال من سيدي العلامة المفضال، جمال الكمال علي بن يحيى (1) - أمتع الله بحياته، وكثر فوائده - ولفظه:
خطر بالبال سؤال مولاي - كثر الله فوائده - عن التصوير، هل يصح النهي عنه أم لا؟ وبعد صحة النهي، هل يحمل على التحريم أو على الكراهة. وبعد الحمل على أحدهما، فهل النهي عن تصوير بعض الأشياء دون بعض أو لا؟ وهل ذلك مما يجب فيه الإنكار أم لا؟ انتهى.
_________
(1) علي بن يحيى بن علي بن راجح بن سعيد الكينعي، الصنعاني المولد والمنشأ والدار، ولد سنة 1151 وقرأ على السيد العلامة الحسن بن زيد الشامي وعلى شيخنا العلامة الحسن بن إسماعيل المغربي. وحضر على جماعة من علماء صنعاء. وحفظ المسائل المهمة المتعلقة بأمر الدين.
انظر: "البدر الطالع" رقم (349)(10/5177)
أقول: قد اشتمل هذا السؤال على مسائل أربع.
الأولى: هل صح النهي عن التصوير أم لا؟.
وأقول: قد صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في ذلك ما هو أشد من النهي، وأدل على التحريم منه؛ وهو الوعيد للمصورين بالنار.
أخرج البخاري (1) ومسلم (2) وغيرهما (3) من أهل الأمهات وغيرهم عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: "كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفسًا تعذبه في جهنم، فإن كنت لا بد فاعلاً فاجعل الشجر وما لا نفس له".
وأخرج البخاري (4) ومسلم (5) وغيرهما عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "الذين يصورون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم".
وأخرج البخاري (6) ومسلم (7) وغيرهما أيضًا عن عائشة قالت: قدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من سفر، وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه هتكه، وتلون وجهه، وقال: يا عائشة [1 أ]، أشد الناس (8) عذابًا يوم القيامة الذين
_________
(1) في صحيحه رقم (2225، 5963)
(2) في صحيحه رقم (2110)
(3) كأحمد (1/ 216) والنسائي (8/ 215). وهو حديث صحيح.
(4) في صحيحه رقم (4951)
(5) في صحيحه رقم (2018). وهو حديث صحيح.
(6) في صحيحه رقم (5954)
(7) في صحيحه رقم (2107). وهو حديث صحيح.
(8) قال القرطبي في "المفهم" (5/ 430 - 431) قوله: "أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون" مقتضى هذا: ألا يكون في النار أحد يزيد على المصورين. وهذا يعارضه مواضع أخر منها قوله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46].
قال القرطبي ردًا على ذلك - التعارض - أن الناس الذين أضيف إليهم: أشد، لا يراد بهم كل نوع الناس بل بعضهم المشاركون في ذلك المعنى المتوعد عليه بالعذاب، ففرعون أشد الناس المدعين للإلهية عذابًا ومن يقتدي به في ضلالة كفره أشد ممن يقتدي به في ضلالة بدعة.
ومن صور صور ذات الأرواح أشد عذابًا ممن يصور ما ليس بذي روح، إن تنزلنا على قول من رأى تحريم تصوير ما ليس بذي روح، وهو مجاهد، وإن لم نتنزل عليه فيجوز أن يعني بالمصورين الذين يصورون الأصنام للعبادة، كما كانت الجاهلية تفعل، وكما تفعل النصارى فإن عذابهم يكون أشد ممن يصورها لا للعبادة.
وقال النووي: قال العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد، وسواء صنعه لما يمتهن أم لغيره فصنعه حرام بكل حال، وسواء كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها، فأما تصوير ما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام.
قال البخاري في "الفتح" (10/ 384): ويؤيد التعميم فيما له ظل وفيما لا ظل له ما أخرجه أحمد من حديث علي: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره ولا صورة إلا لطخها أي طمسها".
وقال الخطابي: إنما عظمت عقوبة المصور لأن الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر إليها يفتن، وبعض النفوس إليها تميل، قال: والمراد بالصور هنا التماثيل التي لها روح، وقيل يفرق بين العذاب والعقاب، فالعذاب يطلق على ما يؤلم من قول أو فعل كالعتب والإنكار، والعقاب يختص بالفعل فلا يلزم من كون المصور أشد الناس عذابًا أن يكون أشد الناس عقوبة.(10/5178)
يضاهون بخلق الله" قالت: فقطعناه، فجعلنا منه وسادة أو وسادتين.
وأخرج البخاري (1)، والترمذي (2)، والنسائي (3) من حديث ابن عباس أيضًا قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "من صور صورة عذبه الله بها يوم
_________
(1) في صحيحه رقم (7042).
(2) في "السنن" رقم (1751) وقال: حديث حسن صحيح.
(3) في "السنن" رقم (8/ 215).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (5024) ومسلم رقم (2110) وهو حديث صحيح.(10/5179)
القيامة حتى ينفخ فيها الروح وما هو بنافخ" (1).
فهذه الأحاديث فيها التصريح بأن المصورين يعذبون في النار، وهي من أعظم الأدلة الدالة على تحريم ذلك، لأنه لا يوجب عذاب النار إلا ما هو محرم شرعًا، وهي أيضًا أدل على التحريم من مجرد النهي، فإن النهي قد يكون مصروفًا من معناه الحقيقي، وهو التحريم إلى معناه المجازي، وهو كراهة التنزيه لقرينة توجب ذلك، كما هو مقرر في الأصول بخلاف الوعيد بالنار، فإنه يدل على التحريم دلالة لا يصرفها صارف، ولا يخرج الأمر الذي وقع الوعيد عليه بالنار عن التحريم إلا بدليل يدل على نسخه، وارتفاع حكمه.
ومن جملة الأدلة الدالة على قبح التصوير أحاديث منها: "إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه تماثيل" (2). ومنها: أحاديث فيها التصريح بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - غير ذلك.
_________
(1) قال البخاري في "الفتح" (10/ 394): قال الكرماني: ظاهره أنه من تكليف ما لا يطاق، وليس كذلك وإنما القصد طول تعذيبه وإظهار عجزه عما كان تعاطاه ومبالغة في توبيخه وبيان قبح فعله. وقوله: "ليس بنافخ" أي لا يمكنه ذلك فيكون معذبًا دائمًا. وقد تقدم في "باب رقم 89 عذاب المصورين" من حديث ابن عمر أنه يقال للمصورين أحيوا ما خلقتم وأنه أمر تعجيز، وقد استشكل هذا الوعيد في حق المسلم، فإن وعيد القاتل عمدًا ينقطع عند أهل السنة مع ورود تخليده يحمل التخليد على مدة مديدة. وهذا الوعيد أشد منه لأنه معينًا بما لا يمكن وهو نفخ الروح، فلا يصح أن يحمل على أن المراد أنه يعذب زمانًا طويلاً ثم يتخلص، والجواب أنه يتعين تأويل الحديث على أن المراد به الزجر الشديد بالوعيد بعقاب الكافر ليكون أبلغ في الارتداع وظاهره غير مراد، وهذا في حق العاصي بذلك، وأما من فعله مستحلاً فلا إشكال فيه ... "
(2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (5958) ومسلم رقم (2106) والترمذي رقم (2805) والنسائي رقم (8/ 212، 213) وابن ماجه رقم (3649) من حديث أبي طلحة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب أو صورة".
وفي رواية عن أبي طلحة الأنصاري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة تماثيل". أخرجه البخاري رقم (3235) ومسلم رقم (2106)(10/5180)
ومنها أحاديث أخر تفيد تأكيد القبح. أخرج أحمد (1)، وأبو داود (2)، والترمذي (3) وصححه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "أتاني جبريل - عليه السلام - فقال: إني أتيتك الليلة فلم يمنعني أن أدخل البيت الذي أنت فيه إلا أنه كان في البيت تمثال رجل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي في باب البيت يقطع يصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر يقطع فيجعل منتبذتين [1 ب] يوطئان، وفي لفظ: (فيجعل وسادتان توطئان) ومر بالكلب يخرج"، ففعل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وإذا الكلب جرو كان للحسن والحسين - رضي الله عنهما -.
وأخرج البخاري (4) وأحمد (5) وأبو داود (6) من حديث عائشة: "أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه".
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه من حديث أبي طلحة الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة تماثيل" (7).
وأخرج أبو داود (8) والنسائي (9) من حديث علي قال: قال النبي - صلى الله عليه وآله
_________
(1) في "المسند" رقم (2/ 305، 478)
(2) في "السنن" رقم (4158)
(3) في "السنن" رقم (2806). قلت: وأخرجه مسلم رقم (87/ 2106). وهو حديث صحيح
(4) في صحيحه رقم (5952)
(5) في "المسند" رقم (17/ 285 الفتح الرباني)
(6) في "السنن" رقم (4151). وهو حديث صحيح
(7) تقدم تخريجه آنفًا وهو حديث صحيح
(8) في "السنن" رقم (227، 4152)
(9) في "السنن" رقم (1/ 141) (7/ 185).
قلت: وأخرجه ابن حبان رقم (1205) وأحمد (1/ 83، 104، 139، 150) وابن ماجه رقم (3650) والحاكم في "المستدرك" (1/ 171) وهو حديث ضعيف(10/5181)
وسلم - "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة، ولا جنب، ولا كلب"، وفي إسناده عبد الله بن نجي وفيه ضعف.
وأخرج أبو داود (1) من حديث سفينة قال: دعا علي رضي الله عنه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى طعام صنعه، فجاء فوضع يده على عضادتي الباب، فرأى القرام قد ضرب في ناحية البيت، فرجع، فقيل له في ذلك فقال: "إنه ليس لنبي أن يدخل بيتًا مزوقًا".
وأخرج البخاري (2) عن ابن عباس قال: لما رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الصور في البيت حتى أمر بها فمحيت، ورأى صورة إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام فقال: "قاتلهم الله، والله [ما علموا: ما] (3) استقسما بالأزلام قط" (4).
وأخرج أبو داود (5) عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أتى فاطمة، فوجد على بابها سترًا فلم يدخل، قال: وقل ما كان يدخل إلا - بدأ بها -، فجاء علي فرآها مهتمة فقال: ما لك؟ قالت: جاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلي فلم يدخل، فأتاه علي فقال: يا رسول الله، إن فاطمة اشتد عليها أنك جئتها فلم تدخل عليها، قال: "وما أنا والدنيا والرقم"، فذهب إلى فاطمة فأخبرها بقول رسول الله [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ] فقالت: قل لرسول الله ما يأمرني به؟ قال: "قل لها فلترسل به إلى بني فلان". وفي رواية [2 أ] وكان سترًا موشى. وعلى هذا فلا
_________
(1) في "السنن" رقم (3755) وهو حديث حسن.
(2) في صحيحه رقم (4288).
(3) في المخطوط (إن) والمثبت من صحيح البخاري.
(4) ولفظه في البخاري: "قاتلهم الله، والله ما علموا: ما استقسما بها قد" ثم دخل البيت، فكبر في نواحي البيت، وخرج ولم يصل فيه.
(5) في "السنن" رقم (1494) وهو حديث صحيح(10/5182)
يكون هذا الحديث، ولا حديث سفينة السابق من الأحاديث التي هي واردة في الصور، بل من الأحاديث الواردة في الستور والزينة. وقد أوردهما بعض من أخرجهما في باب التصوير، وبعضهم في باب الستور.
وأخرج أبو داود (1) عن جابر بن عبد الله أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمن الفتح، وهو بالبطحاء، أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حتى محيت كل صورة فيها.
وأخرج مسلم (2)، وأبو داود (3)، والنسائي (4) من حديث ميمونة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني، فلما لقيه جبريل قال: إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة".
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، ولو لم يكن منها إلا الأحاديث الواردة في ذم المصورين ولعنهم، وذم من ذهب يخلق كخلق الله تعالى. والمراد هنا الاستدلال على ما طلبه السائل - كثر الله فوائده - والبعض مما ذكرناه هنا يكفي.
المسألة الثانية: قوله: وبعد صحة النهي، هل يحمل على التحريم أو على الكراهة؟.
وأقول: قد قررنا فيما سبق أن الأدلة الدالة على أن المصور يعذب في النار يستفاد منها التحريم استفادة لا كالاستفادة للتحريم من النهي لما قدمنا؛ فالتصوير للصور الحيوانية حرام، وبيانه أن المصور توعده الشارع بأنه يعذب في النار، وكل من توعده الشارع بأنه يعذب في النار فاعل لمحرم، فالمصور فاعل لمحرم، أما الصغرى فبالأحاديث الصحيحة المذكورة سابقًا.
وأما الكبرى فلما تقرر في هذه [2 ب] الشريعة الإسلامية أنه لا يوجب النار ترك
_________
(1) في "السنن" رقم (4156) بإسناد حسن
(2) في صحيحه رقم (2105)
(3) في "السنن" رقم (4157)
(4) في "السنن" رقم (4288). وهو حديث صحيح(10/5183)
مندوب، أو فعل مكروه كراهة تنزيه، أو فعل مباح أو تركه، فلم يبق إلا فعل المحرم أو ترك الواجب. وتصوير الصور من فعل المحرم، فكان التصوير محرمًا.
المسألة الثالثة: قوله - كثر الله فوائده -: وبعد الحمل على أحدهما، فهل النهي عن تصوير بعض الأشياء دون بعض أو لا؟.
وأقول: قد قدمنا ما يدل على أن ذلك مختص بتصوير الحيوانات فقط، فمن ذلك قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عباس المتفق عليه (1) "فإن كنت لا
_________
(1) تقدم تخريجه.
فائدة رقم (1):
1 - معنى التصوير لغة: الصور جمع صورة وتجمع على تصاوير وهي بكسر الصاد وضمها وقيل أنها مثلثة الصاد.
وهي الشكل، والخط والرسم.
"اللسان" (2/ 492)، "القاموس" (ص 373).
والتصوير يطلق على التخطيط، والتشكيل يقال: صوره، إذا جعل له صورة، وشكلاً، أو نقشًا معينًا، وهذا الاستعمال والإطلاق عام في الصورة المجسمة وغيرها، فالكل يطلق عليه صورة من حيث الاستعمال اللغوي.
"معجم الفقهاء" (ص 278).
وجاء في "معجم الفقهاء" (ص 278): الصورة "شكل مخلوق من مخلوقات الله تعالى مجسمة كانت كالصنم، أو غير مجسمة".
معنى التصوير في الاصطلاح: بما أن التصوير ليس نوعًا واحدًا، بل هو جنس يشمل أنواع ثلاثة، كل نوع يختلف عن غيره من حيث الوسيلة ومن حيث المادة التي تصنع منها الصورة، ومن حيث الكيفية، وبسبب هذا الاختلاف لا يمكن جمع هذه الأنواع في تعريف واحد من حيث الاصطلاح الفقهي وذلك لأن التصوير منه المجسم، والمسطح، والقديم، والحديث مع الاختلاف في وسائل كل نوع وآلاته.
(أ): النوع الأول: التصوير المجسم: "أن الصورة الجسمية هي جوهر متصل بسيط لا وجود لمحله دونه قابل للأبعاد الثلاثة المدركة من الجسم في بادئ النظر والجوهر الممتد في الأبعاد كلها المدرك في بادئ النظر بالحس، وهذا ما يعرف بذوات الظل من المجسمات، التي تتميز عن غيرها بأن لها طولاً وعرضًا، وعمقًا، ويكون لها جسم بحيث تكون أعضاؤها نافرة وبارزة تشغل حيزًا من الفراغ، وتتميز باللمس بالإضافة إلى تميزها بالنظر فيكون عند النظر إلى هذا النوع من الصور كالمخلوق ... ".
وهذا النوع من الصور قد تصنع من جبس أو نحاس أو حديد أو خشب أو حجر أو غير ذلك مما له جرم ومحسوس.
انظر: "التعريفات" للجرجاني (ص 65)، "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفهاني (ص 196).
(ب): النوع الثاني: التصوير اليدوي:
وقد عرف بأنه "من تمثيل الأشخاص، والأشياء بالألوان".
وجاء في "المعجم الوسيط" (ص 528): التصوير اليدوي غير المجسم: "أنه نقش صورة الأشياء، أو الأشخاص، على لوح، أو حائط، أو نحوهما بالقلم، أو بالفرجون أو بآلة التصوير".
(جـ): النوع الثالث: التصوير الضوئي "الفوتوغرافي" وهو آلة تنقل صور الأشياء بانبعاث أشعة ضوئية من الأشياء التي تسقط على عدسة في جزئها الأمامي، ومن ثم إلى شريط أو زجاج حساس في جزئها الخلفي، فتطبع عليه الصورة بتأثير الضوء فيه تأثيرًا كيماويًا".
"المعجم الوسيط" (ص 528).
فائدة رقم (2): الألفاظ ذات الصلة بالتصوير:
1 - التمثال: هو اسم للشيء المصنوع، مشبهًا بخلق من خلق الله حيوانًا كان أو جمادًا.
انظر: "فتح الباري" (10/ 401).
2 - الرسم: وهو تمثيل الأشياء، والأشخاص بالألوان يدويًا.
"المعجم الوسيط" (ص 345).
والمشهور في عرف الناس إطلاق لفظ "الرسم" على ما يوافق إطلاقه اللغوي وهو استعماله في تصوير الصور المسطحة باليد دون الصور المجسمة من ذوات الظل أو الآلية ومن ذلك: الرسوم المتحركة وهي التي كانت ترسم يدويًا. ثم تجمع وترتب لها الأصوات والحركات.
3 - النحت: ويطلق على تقطيع الخشب، والجبال.
قال تعالى: {وتنحتون من الجبال بيوتًا فارهين} [الشعراء: 149]. ويطلق ويراد به النشر والقشر.
والنحت في الاصطلاح: هو الأخذ من كتلة صلبة كالخشب والحجر بأداة حادة كالإزميل، أو السكين، حتى يكون ما يبقى منها على الشكل المطلوب، فإن كان ما بقي يمثل شيئًا آخر فهو تمثال أو صورة وإلا فلا".
"المعجم الوسيط" (ص 906).
4 - النقش والرقم والتزويق والوشي:
- النقش: هو تلوين الشيء بلونين أو بألوان".
وقال في "معجم الفقهاء" (ص 486): النقش بفتح فسكون، من نقش، وجمعه نقوش، ما يرسم أو يطرز من الرسوم على الأشياء.
الرقم: لغة: التخطيط يقال: ثوب مرقوم ومرقم أي مخطط.
واصطلاحًا: يطلق على كل رسم لا ظل له، وذلك كالتطريز على الثوب، والورق ونحو ذلك، سواء كان التطريز بالقلم، أو بفرشة أو أي آلة من آلات الرسم، أو الكتابة، وسواء كان التطريز كتابة أو خطوطًا فقط أو كان صورًا منقوشة مسطحة.
التزويق: يطلق ويراد به التحسين.
وأصل الزاووق: نوع من الدهن يخلط مع الذهب ويدهن به الشيء المراد تزيينه وتحسينه، فإذا وضع في النار ذهب "الزاووق" وبقي الذهب صافيًا حسنًا. ثم توسعوا في استعماله حتى أطلقوا على كل منقش ومزين، ومحسن وإن لم يكن فيه زاووق، فلم يقتصر فيه على جعل الزاووق مع الذهب وطلي الشيء المراد تزيينه وتحسينه، بل تدرج بهم الاستعمال إلى أن أطلقوه بعد على التصاوير المنقوشة والمرسومة باليد.
"القاموس" (ص 1151). "معجم مقاييس اللغة" (6/ 114).
الوشي: يطلق ويراد به التزيين، والتحسين، والتنقيش، ويطلق على الألوان.
قال في "اللسان" (3/ 934): وشى الثوب وشيًا وشيه: حسنه، ووشاه نمقه ونقشه وحسنه ... ".
فائدة رقم (3) علل تحريم التصوير:
1 - في التصوير من المضاهاة لخلق الله تعالى، وتشبيه فعل المخلوق بفعل الخالق سبحانه، فمن صور شيئًا من ذوات الروح فقد وقع في المضاهاة المنهي عنها بمجرد انتهائه من صناعتها، سواء كانت الصورة ممن ذوات الظل أو غير ذوات الظل.
(أ): إذا أراد بفعله: التكسب المادي، أو التسلي، أو غير ذلك من الأغراض التي لا يقصد من ورائها الإبداع وإظهار القدرة البشرية على أنها تشابه قدرة الخالق سبحانه وتعالى.
فهذا الصنيع المجرد عن قصد المضاهاة يعد محرمًا وكبيرة من كبائر الذنوب ولكنه لا يبلغ بصاحبه إلى حد الكفر.
وقد تقدم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون".
(ب): أما من صنع الصورة بقصد محاكاة فعل الخالق بفعله فإنه يكون بهذا القصد كافرًا.
وقد تقدم الحديث: "أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون الذين يضاهون خلق الله ... ".
انظر: "فتح الباري" (10/ 397)، "مغني المحتاج" (3/ 247 - 248).
2 - كون تصوير ذوات الأرواح وسيلة إلى الغلو فيها من دون الله تعالى، وربما جر ذلك إلى عبادة تلك الصورة، وتعظيمها، وسيما إن كانت الصورة لمن يحبهم الناس ويعظمونهم سواء كان ذلك تعظيم علم وديانة، أو تعظيم سلطان ورئاسة أو تعظيم صداقة وقرابة.
أخرج البخاري في صحيحه رقم (4920) عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها أنصابًا، وسموهم بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت".
3 - أن صناعة صور ذوات الروح المحرمة واتخاذها فيه تشبه بفعل من كانوا يصنعون الصور والتماثيل ويعبدونها من دون الله تعالى. سواء كان المصور قاصدًا التشبه بأولئك أم لا، فمجرد صناعته للصورة أو استعمالها على وجه محرم بنصب، أو تعليق أو نحو ذلك يكون حاله شبيهًا بحال المشركين ومقلديهم الذين كانوا يصنعون الصور، ويضعونها في معابدهم، أو بيوتهم تقديسًا وتعظيمًا لها.
هذا إن لم يكن للمصور قصد في التشبه، أما إذا كان قاصدًا التشبه فإن إثمه أعظم وذنبه أشد وأكبر ربما وصل به إلى الكفر بالله تعالى.
انظر: "إغاثة اللهفان" (2/ 322 - 340)، "مغني المحتاج" (3/ 247).
4 - كون صور ذوات الروح مانعة من دخول الملائكة إلى مكان وجودها وقد ورد هذا التعليل في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة". تقدم تخريجه.
انظر: "حاشية ابن عابدين" (1/ 649) بتحقيقنا.
5 - ويعلل بعضهم لتحريم الصور صناعة واستخدامًا: بالنهي عن إضاعة المال وتبذيره، وأن الإنسان مسئول عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وإنفاق المال في التصوير والصور مما لا ضرورة إليه ولا مصلحة تترتب عليه فيه إسراف، وتبذير، وإن كان قليلاً، لأن إنفاقه في غير محله، فأيما درهم أنفق في غير محله فهو إسراف ومجاوزة لحد الإنفاق المباح. فكما أن التقتير تضييق ونقص في الإنفاق، فالإسراف زيادة ومجاوزة للحد في الإنفاق، وكلاهما منهي عنه بقوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا} [الفرقان: 67].
فائدة رقم (4): من أحكام التصوير:
1 - حكم صناعة صور المصنوعات البشرية وتحسينها: والمراد بالمصنوعات البشرية كل ما يكون ليد المخلوق فيه تأثير، وتغيير وصناعة، والصناعة إجادة الفعل وإتقانه ويشمل كل المنتوجات والمصنوعات كالطائرات، والسيارات والسفن البحرية وجميع الآلات الميكانيكية بشتى أنواعها، وكذلك يشمل بنيان الدور، والمصانع ونحوهما مما لم يذكر هنا. وإن كان أصل المادة مخلوقًا لله سبحانه وتعالى، كما بين الله ذلك بقوله جل ذكره.
{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} [البقرة: 29].
الرأي الراجح: وهو الجواز ذهب إليه جماهير العلماء ومن أدلتهم.
1 - ): ما تقدم من حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس تعذبه في جهنم" ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما: "فإن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له".
2 - ): حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان في باب البيت تمثال الرجال، وكان قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال فليقطع، ومر بالستر فيقطع فيجعل منه وسادتين منبوذين".
3 - ): وما أخرجه البخاري رقم (5961) ومسلم رقم (97) من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة النمرقة التي فيها تصاوير حيث قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم" تقدم تخريجه.
انظر: "حاشية ابن عابدين" (1/ 649)، "فتح الباري" (10/ 409).
- حكم صناعة المخلوقات الكونية:
المراد بالمخلوقات الكونية في هذا المطلب: كل ما كان باقيًا على هيئته وخلقته التي خلقه الله عليها من المخلوقات الجامدة والتي لا يمكن أن يكون ليد المخلوق فيه أي تعديل، أو تغيير، أو صناعة وذلك مثل صورة الشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والبحار، والأنهار والأودية.
الراجح: جواز تصوير سائر المخلوقات الكونية ومن أدلتهم: حديث أبي هريرة والذي فيه قول جبريل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع، فيصير كهيئة الشجرة ... ".
فالشاهد من الحديث: هو قول جبريل عليه السلام: "فمر برأس التمثال الذي في البيت فليقطع كهيئة الشجرة ... ".
قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (29/ 370): "فيجوز تصوير الشجر والمعادن في الثياب، والحيطان، ونحو ذلك لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ"، ولهذا قال ابن عباس لمن استفتاه "صور الشجرة، ومالا روح فيه" - تقدم تخريجه وفيه: " ما لا نفس له ". ولعل ابن تيمية ذكر المعنى - وفي "السنن" عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن جبريل قال له في الصورة: "فمر بالرأس فليقطع ... " ولهذا نص الأئمة على ذلك وقالوا: الصورة هي الرأس لا يبقى فيها روح فيبقى مثل الجمادات".
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/ 394): قوله: "من صور صورة في الدنيا" كذا أطلق وظاهره التعميم، فيتناول صورة ما لا روح فيه، لكن الذي فهم ابن عباس من بقية الحديث التخصيص بصورة ذوات الأرواح من قوله: "كلف أن ينفخ فيها الروح" فاستثنى ما لا روح فيه كالشجر.
3 - حكم صناعة صور غير ذوات الأرواح من الأجسام النامية:
الراجح: جواز صناعة صور الأشجار والزروع وسائر النباتات مثمرة وغير مثمرة. وإلى هذا ذهب جماهير العلماء وفي مقدمتهم: أصحاب المذاهب الأربعة سواء كانت تلك الصور مجسمة أو مسطحة، ويدخل في ذلك جواز صناعة الصور المذكورة بالآلات الحديثة.
ودليلهم ... ما تقدم من حديث أبي هريرة وقول جبريل: "فمر برأس التمثال يقطع فيصير كهيئة الشجرة".
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما وقوله لمن سأله: "فإن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له ... ".
4 - حكم صناعة التماثيل الكاملة مما يبقى، ويدوم طويلاً:
والراجح: تحريم صناعة التماثيل المجسمة لذوات الأرواح مطلقًا ما عدا لعب الأطفال فقط.
وهذا قول جماهير العلماء قاطبة.
من أدلتهم:
1 - ) قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} إلى قوله تعالى: {لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين} [الأنبياء: 51 - 54].
2 - ) قال تعالى: {أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 95 - 96].
وانظر الآيات من سورة الأعراف (138 - 139) وفيها. {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها ... }.
3 - ) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4287) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبًا فجعل يطعنها بعود في يده وهو يقول: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا}.
انظر: مزيد تفصيل في فتح الباري (7/ 610)، "إغاثة اللهفان" (2/ 408).
5 - حكم صناعة التماثيل الكاملة مما لا يدوم طويلاً:
والمراد بالتماثيل التي لا تبقى وتدوم طويلاً، ما يصنع من مواد غير قابلة للبقاء لفترات طويلة، وذلك مثل ما يصنع من الطين، والحلوى، والعجين، وقشر البطيخ ونحو ذلك.
والراجح: تحريم صناعة التماثيل لذوات الأرواح مطلقًا سواء كانت صناعتها من مادة تبقى وتدوم طويلاً، كالحديد، والخشب ونحوهما. أو كانت من مادة لا تبقى طويلا، كالطين، والحلوى وما يسرع إليه الفساد.
وإلى هذا ذهب الحنفية والجمهور من المالكية والشافعية وهو المفهوم من مذهب الحنابلة ... ".
انظر: "فتح الباري" (10/ 390)، "كشاف القناع" (1/ 280).
استدلوا على ذلك: بعموم النهي عن صناعة التماثيل من ذوات الروح مطلقًا، والذي ورد في عدد من الأحاديث دون استثناء لأي نوع من الأنواع. أو صناعة من الصناعات أو مادة من المواد، فيبقى الحكم على الأصل وهو التحريم، ومن خص نوعًا أو صناعة، أو مادة من المواد فعليه الدليل.
انظر: "نهاية المحتاج" (3/ 384).
6 - حكم صناعة التماثيل الناقصة والنصفية، والمشوهة:
اتفق جماهير العلماء على جواز صناعة التماثيل لذوات الروح، إذا كانت مقطوعة الرءوس قطعًا كاملاً، يزيل الرأس بعيدًا عن الجسد.
كما أنهم لم يعتبروا وضع الخيط في العنق قطعا للرأس، لأن ذلك لا يخرج الصورة عن كونها صورة، بل ربما زادها ذلك الفعل كمالاً، وجمالاً وزينة، كما يوجد في بعض الطيور ذوات الأطواق من الحمام ونحوها.
ولكن وقع الخلاف فيما إذا كانت الصورة ناقصة عضو، أو أعضاء مما لا تبقى الحياة مع فقدها، أو فقد واحد منها إذا فقدت من الحي، مع بقاء الرأس، فاختلفوا في هذه الحالة على قولين.
(أ): تحريم صناعة التماثيل والصور المجسمة وغيرها ما دام الرأس باقيًا على الجسد سواء كانت لصورة نصفية، أو مشوهة، أو ناقصة أعضاء لا تبقى الحياة إذا فقد شيء منها، لو فرض زوالها من حي.
وإلى هذا ذهب بعض الشافعية والمتأخرين من الحنابلة.
انظر: "تحفة المحتاج" (7/ 434)، "نهاية المحتاج" (6/ 375 - 376).
وهو الراجح. والله أعلم
(ب): أنه إذا قطع من الصورة أي عضو من الأعضاء التي لا يمكن بقاء الحياة مع فقدها لو فرض زوالها من الحي، فإن ذلك يكفي لإباحة الصورة، وزوال المانع، ولو كان الرأس باقيًا في الصورة.
انظر: "بدائع الصنائع" (6/ 2968)، "فتح الباري" (10/ 394)، "تحفة المحتاج" (3/ 216).
7 - حكم صناعة لعب الأطفال المجسمة:
(أ): حكم صناعة اللعب من العهن والرقاع كما كان في العهد القديم:
الجواز مطلقًا، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية وبعض المتأخرين من الحنابلة.
انظر: "فتح الباري" (10/ 395).
واعتمدوا في ذلك على ما أخرجه البخاري رقم (6130) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت ألعب بالبنات عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخل يتقمعن منه فيسر بهن إلي فيلعبن معي".
قال الحافظ في "الفتح" (10/ 527): واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات بهن. وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور. وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور، وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن.
وما أخرجه أبو داود رقم (4932) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها ستر، فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة - لعب - فقال: "ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي! ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رقاع، فقال: "ما هذا الذي أرى وسطهن؟ " قال: فرس! قال: "وما هذا الذي عليه؟ " قالت: جناحان، قال: "فرس له جناحان؟! " قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة؟! "قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه". وهو حديث صحيح.
والسهوة: شبيها بالرف، والطاق يوضع فيه الشيء. قاله الخطابي في معالم السنن (5/ 227).
(ب): حكم صناعة اللعب من البلاستيك مما جد في هذا العصر وفيه قولان:
1 - ): تحريم صناعة اللعب من البلاستيك متى كانت لذوات الأرواح.
انظر: "المنتقى من فتاوى الشيخ الفوزان" (3/ 281).
2 - ): الجواز وذهب إليه الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق والشيخ القرضاوي والدكتور عبد الله ناصح علوان.
انظر: "تربية الأولاد في الإسلام"، "أحكام التصوير في الشريعة الإسلامية".
8 - صناعة الصور المسطحة على وجه الامتهان [منقوشة باليد]:
تحريم صناعة صور الأرواح مطلقًا. لما تقدم من الأدلة ومنها قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله".
انظر: "حاشية ابن عابدين" (1/ 647) و"نهاية المحتاج" (6/ 375 - 376).
9 - صناعة الصور المسطحة المنقوشة مما لا يعد ممتهنًا:
ذهب الجمهور إلى تحريم صناعة الصور المنقوشة التي لا تعد للامتهان، كما لو كانت ممتهنة، بل وأشد تحريمًا ومنعًا من ذلك.
"شرح صحيح مسلم" للنووي (14/ 81)، "حاشية ابن عابدين" (1/ 649).
10 - حكم صناعة المنقوشة باليد بدون الرأس: الجواز وذهب إلى هذا جماهير العلماء. للحديث المتقدم وفيه: "فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة".
11 - حكم صناعة الصورة المنقوشة باليد لذوات الأرواح: إذا كانت نصفية أو ناقصة عضو من الأعضاء التي تزول الحياة بزوالها من الحي حالة كون الرأس باقيًا. (عدم الجواز) وقد تقدم ذكر ذلك.
12 - حكم صناعة ما فصل رأسه عن الجسد بخيط ونحوه:
قال في "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 2968): فإن قطع رأسه، بأن خاط على عنقه خيطًا فذاك ليس بشيء، لأنها لم تخرج عن كونها صورة، بل ازدادت حية كالطوق لذوات الأطواق من الطيور".
وقال في "حاشية ابن عابدين" (1/ 648): وأما قطع الرأس عن الجسد بخيط مع بقاء الرأس على حاله، فلا ينفي الكراهة.
13 - حكم صناعة الصور الخيالية:
الصور الخيالية: كل ما تصوره الشخص بعقله، وتوهمه بفكره من هيئات، وأشكال المخلوقات سواء كان مما له نظير، ووجود في الواقع، أو لم يكن - وسواء كانت من ذوات الأرواح - كرجل له منقار، أو فرس له جناحان - كما يتصور بعض الكتاب في الجرائد والمجلات: أن صورة الشيطان على شكل صورة حيوان مخيفة له قرنان، وذيل
وفي المسألة فيها قولان:
القول الأول: تحريم صناعة الصور الخيالية إذا كانت لذوات الأرواح. ولو كانت لما نظير له في الواقع، كبقر لها مناقير، أو فرس له جناحان أو غير ذلك، وهذا هو رأي الجماهير من فقهاء المذهب الشافعي. وهو الظاهر من كلام بعض الحنفية، وجمهور الحنابلة على حكم صناعة صور ذوات الروح عمومًا، حيث إنهم يرون تحريم صناعة الصور لذوات الأرواح مطلقًا.
ومن أدلتهم: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله".
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم: أحيوا ما خلقتم".
القول الثاني: في مذهب الشافعية: جواز صناعة الصور لما لا نظير له من الإنسان أو الحيوان. ولم يقدموا دليلاً على ذلك.
والراجح هو القول الأول والله أعلم.
14 - حكم صناعة الصور الفوتوغرافية الكاملة:
الراجح والله أعلم يقضي بتحريم التصوير الفوتوغرافي وأنه لا يجوز من ذلك إلا ما دعت إليه ضرورة أو مصلحة عامة.
انظر: "مغني المحتاج" (3/ 248)، "حاشية ابن عابدين" (1/ 648 - 649)، "الجواب المفيد في حكم التصوير" (ص 11 - 22)، "التمهيد" (21/ 200)، "كشاف القناع" (1/ 280)(10/5184)
بد فاعلاً فاجعل الشجر، وما لا نفس له"؛ فإن هذا يفيد جواز تصوير أشكال ما لا نفس له من الجمادات، كصور الجبال، والأودية، والسماء والأرض، والشجر، ومما(10/5193)
يفيد الاختصاص بصور الحيوانات قوله في حديث ابن عمر المتقدم: "أحيوا ما خلقتم"؛ فإن التحدي بالإحياء، وتكليف المصورين بنفخ الأرواح في الأجسام التي صوروها لا يكون إلا إذا كانت الأجسام المصورة حيوانية لا جمادية.
ومثل ذلك ما تقدم في حديث ابن عباس (1) الآخر بلفظ: "من صور صورة عذبه الله بها يوم القيامة حتى ينفخ فيها الروح، وما هو بنافخ".
المسألة الرابعة: قال - كثر الله فوائده -: وهل ذلك مما يجب فيه الإنكار أم لا؟.
أقول: قد تقرر بأدلة الكتاب العزيز (2)، والسنة المطهرة (3) أن إنكار المنكر من أوجب
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) (منها): قوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} [آل عمران: 104].
ومنها قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرًا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} [آل عمران: 110].
ومن الآيات التي تدل على خطورة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قوله تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة: 78 - 79]
(3) أخرج مسلم في صحيحه رقم (49) والترمذي رقم (2172) وابن ماجه رقم (1275، 4013) والنسائي (8/ 11، 112).
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". وهو حديث صحيح.
وأخرج أبو داود رقم (4336) والترمذي رقم (3047) وابن ماجه رقم (4006) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وفيه: " ... والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا".
وهو حديث حسن بشواهده.(10/5194)
الواجبات [3 أ]، بل ورد في السنة ما يفيد أن هذا هو أعظم قواعد الدين، وأقوى دعائمه وأشد أركانه، وأن هذه الأمة لا تزال بخير ما أمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، فإذا تركت ذلك حل بها من العقوبة ما هو معروف، ولم يقع الخلاف بين المسلمين في وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإن اختلفوا في بعض تفاصيله وشروطه، وكيف لا يجمعون على وجوب ذلك وتحريم تركه! وقد صرح به القرآن الكريم في عدة مواضع، وجاء في السنة المطهرة من ذلك ما لو جمع لكان مؤلفًا بسيطًا. وقد قررنا فيما سبق أن تصوير الحيوانات حرام (1).
وتقرر بأدلة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أن كل محرم يجب إنكاره، فالتصوير حرام، وكل حرام منكر، فالتصوير منكر، وكل منكر يجب إنكاره، فالتصوير يجب إنكاره، وأدلة هذه المقدمات معلومة مما تقدم. لا شك فيه من يتعقل الحجج الشرعية. ولكنه بقي هاهنا بحث يحتاج إلى التعرض لبيانه، فإنه يقع السؤال عنه كثيرًا، ويستشكله كثير من أهل العلم، وهو ما وقع في كتب أهل العلم - رحمهم الله - من اشتراط كون التمثال (2) تمثال حيوان كامل مستقل، أو منسوخ، أو ملحم لا مطبوع.
واعلم أن الظاهر من الأدلة [3 ب] اعتبار الكمال، لأن التحريم والوعيد في تلك الأدلة واللعن للمصورين إنما هو في تصوير الحيوانات، والمعنى الحقيقي لهذا هو أن تكون الصورة صورة حيوان كاملة، لأن من صور بعض حيوان لا يصدق عليه أنه صور حيوانًا، بل بعض حيوان، والوعيد إنما ورد على تصوير الحيوان، ولكنه لا بد من اعتبار ما ذكره أهل العلم من ذلك، وهو أنه إذا كان التمثال (3) خاليًا عن بعض ما لا تستقيم
_________
(1) تقدم ذكره.
وانظر: "بدائع الصنائع" (6/ 2968)، "فتح الباري" (10/ 402)
(2) تقدم ذكره.
(3) (أ): اتفق جماهير العلماء على جواز صناعة التماثيل لذوات الروح، إذا كانت مقطوعة الرءوس قطعًا كاملاً، يزيل الرأس بعيدًا عن الجسد.
(ب): تحريم صناعة التماثيل والصور المجسمة وغيرها ما دام الرأس باقيًا على الجسد سواء كانت الصورة نصفية، أو مشوهة، أو ناقصة الأعضاء لا تبقى الحياة إذا فقد شيء منها، لو فرض زوالها من الحي.
انظر: "حاشية ابن عابدين" (1/ 648)، "تحفة المحتاج" (7/ 434)(10/5195)
حياة الحيوان إلا به كان تمثالاً غير محرم، لأنه ليس تمثال حيوان على الحقيقة.
وأما إذا كان التمثال خاليًا عن بعض الأعضاء التي يعيش الحيوان بدونها، ويوجد في الخارج كذلك كالعينين، أو الأذنين، أو نحو ذلك، فهذا وإن نقص منه بعض الأعضاء فهو حيوان كامل، لأنه على شكل حيوان من الحيوانات التي توجد في الخارج، والاعتبار في كل فرد من أفراد الحيوانات بنوعه الذي قصد المصور تصويره، فلو صور شكل نصف إنسان قاصدًا بذلك تصوير النسناس الذي يقول كثير من المؤرخين أنه موجود، وأنه على شكل نصف إنسان كان ذلك التصوير حرامًا على فرض وجود هذا الحيوان في الخارج، فاعتبر بهذا في غير هذه الصورة.
وأما اعتبار كونه مستقلاً بنفسه، أو منسوخًا، أو ملحمًا لا مطبوعًا، فقد استدل على ذلك بأن زيد بن خالد الراوي للحديث السابق عن أبي طلحة دخل عليه في مرضه [4 أ] بشر بن سعيد يعوده؛ فإذا على بابه ستر فيه صورة، قال بشر: فقلت لعبيد الله الخولاني ربيب ميمونة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال: "إلا رقمًا في ثوب". هكذا في سنن أبي داود (1)، وهو بعض من حديث أبي طلحة السابق، وقد أخرجه غيره كما تقدم، ولكنه لا يخفى أن هذا المروي من قول زيد بن خالد لا بد أن يصح رفعه من طريق أبي طلحة، فإذا صح رفعه فقد عورض بمثل الحديث السابق أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أمر عمر يمحو كل صورة في الكعبة فمحاها، والمحو لا يكون إلا
_________
(1) تقدم ذكره.(10/5196)
لما هو مطبوع، ومثله حديث ابن عباس السابق أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أمر بالصور التي في البيت فمحيت. ومن ذلك الأحاديث الصحيحة الواردة في تحريم تصوير الصور؛ فإن ظاهرها أعم من المطبوع وغيره، فالواجب البقاء على ما توجبه هذه الأدلة العامة حتى يصح رفع ما قاله زيد بن خالد من وجه صحيح تقوم الحجة بمثله.
وأما ما وقع في كتب الفقه من أن التصوير إذا كان فراشا (1) فلا بأس به، فقد استدلوا على ذلك بما تقدم في حديث قرام عائشة، وأنها قطعته وسادتين، وارتفق عليها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما ثبت في رواية صحيحة، ومثله ما تقدم في حديث أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أمره جبريل بأن يقطع الستر وسادتين [4 ب] توطئان، وفي ذلك دليل على جواز بقاء الصور المصورة إذا كانت قد صارت فراشًا، ولكنه لا يدل على جواز تصوير الصور على الفراش، بل التصوير حرام على المصور على أي صفة كان، فإذا فعل فقد فعل المحرم. ومن صارت إليه الصورة فجعلها فراشًا فقد برئ بذلك من وجوب إنكار المنكر عليه. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق [5 أ].
_________
(1) جواز استخدام الفرش والسجاجيد التي فيها صور ذوات الروح إذا كانت توطأ، وتمتهن دون أن تعلق، أو تنصب وهذا مذهب جماهير العلماء من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم بما في ذلك الأئمة الأربعة.
قال ابن عبد البر في "التمهيد" (21/ 196) وهذا هو أعدل المذاهب كلها ومن حمل عليه الآثار لم تتعارض.
انظر: "الإنصاف" (8/ 336)، "بدائع الصنائع" (1/ 337)، "المدونة الكبرى" (1/ 91).(10/5197)
إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع (1)
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
_________
(1) كتب في صفحة العنوان ما نصه: "الموجب لتحرير هذا البحث ما وقع من بعض المقصرين، من الافتراء البحت بأن السماع محرم بالإجماع، ولا يخفى أن هذه المقالة مع كونها من الكذب الظاهر تستلزم القدح في جماعة من الصحابة والتابعين، وسائر علماء الدين.
فهذا هو الحامل لتحرير هذه الرسالة، كما سيقع التصريح بذلك في غضون البحث، فلا يظن جاهل أن جمع هذا البحث لقصد الترخيص والترويح فيأبى الله ذلك"(10/5199)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع.
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله وصلى الله وسلم: ذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع.
4 - آخر الرسالة: فيفتقر فيغتم فيعتل فيموت.
كمل من تحرير جامعه القاضي بدر الدين محمد بن علي الشوكاني حفظه الله تعالى بحق محمد وآله.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 16 صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها (13) سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.
9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الأول من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".(10/5201)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. ذهب أهل المدينة، ومن وافقهم من علماء الظاهر (1)، وجماعة من الصوفية (2) إلى الترخيص في السماع، ولو مع العود واليراع (3). وقد حكى الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع أن عبد الله بن جعفر (4) رضي الله عنه كان لا يرى بالغناء بأسًا (5)، ويصوغ الألحان لجواريه، ويسمعها منهن على أوتاره، وكان ذلك في زمن أمير المؤمنين علي - كرم الله وجهه -.
وحكى الأستاذ المذكور أيضًا مثل ذلك عن القاضي شريح، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، والشعبي، وقال إمام الحرمين في النهاية، وابن أبي الدم:
_________
(1) انظر: "المحلي" (9/ 59)
(2) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (5/ 261)، "الرسالة القشيرية" (2/ 645)
(3) اليراع: بفتح التحتية وتخفيف الراء بالمهملة، جمع يراعة، أو اسم جنس واحدة يراعه.
انظر: "كف الرعاع" لابن حجر الهيثمي (ص 121).
قال الجوهري في "الصحاح" (3/ 1310): اليراع القصب، واليراعة القصبة إذا علمت ذلك علمت أن اليراع متعدد.
(4) عبد الله بن جعفر بن أبي طالب القرشي يكنى أبا جعفر، ولدته أمه أسماء بنت عميس بأرض الحبشة وهو أول مولود في الإسلام بأرض الحبشة وقدم مع أبيه المدينة، وحفظ عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى عنه. توفي سنة ثمانين وهو ابن تسعين.
انظر: "الاستيعاب" رقم (1506)، "الإصابة" رقم (4609). " سير أعلام النبلاء " (3/ 459).
(5) قال القرطبي في "الاستيعاب" (3/ 17) كان عبد الله بن جعفر كريمًا، جوادًا ظريفًا، خليقًا عفيفًا سخيًا يسمى بحر الجود ويقال: إنه لم يكن في الإسلام أسخى منه، وكان لا يرى بسماع الغناء بأسًا.
روي أن عبد الله بن جعفر كان إذا قدم على معاوية أنزله له داره، وأظهر له من بره وإكرامه ما يستحقه، فكان ذلك يغيظ فاختة بنت قرظ بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف زوجة معاوية، فسمعت غناء عند عبد الله بن جعفر، فجاءت إلى معاوية، وقالت: هلم فاسمع ما في منزل هذا الرجل الذي جعلته بين لحمك ودمك، قال: فجاء معاوية فسمع وانصرف، فلما كان آخر الليل سمع معاوية قراءة عبد الله بن جعفر، فجاء فأنبه فاختة فقال: اسمعي مكان ما أسمعتني.(10/5205)
نقل الأثبات من المؤرخين أن عبد الله بن الزبير كان له جوار عوادات، وأن ابن عمر - رضي الله عنهما - دخل عليه وإلى جنبه عود، فقال: ما هذا يا صاحب رسول الله؟ فناوله إياه، فتأمله ابن عمر، فقال: هذا ميزان شامي، فقال لابن الزبير: توزن به العقول (1).
وروى الحافظ أبو محمد بن حزم (2) في رسالته في السماع بسنده إلى ابن سيرين قال: إن رجلاً قدم المدينة بجوار، فنزل على عبد الله بن عمر، وفيهن جارية تضرب، فجاء رجل فساومه فلم يهو منهن شيئًا، قال: انطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعًا من هذا قال: من هو؟ قال: عبد الله بن جعفر، فعرضهن عليه، فأمر جارية منهن فقال لها: خذي العود، فأخذته وغنت، فبايعه، ثم جاء إلى ابن عمر، إلى آخر القصة.
قال ابن حزم (3) فهذا ابن عمر، وابن جعفر سمعا الغناء بالعود، وسعى ابن عمر في البيع كما في آخر القصة. وروى صاحب العقد العلامة الأديب أبو عمر الأندلسي أن عبد الله بن عمر دخل على ابن جعفر، فوجد عنده جارية في حجرها عود، ثم قال ابن عمر: هل ترى بذلك بأسًا؟ قال: لا بأس بهذا. وحكى الماوردي عن معاوية، وعمرو بن العاص أنهما سمعا العود عند ابن جعفر. وروى أبو الفرج الأصفهاني (4) أن حسان (5)
_________
(1) انظر: "إيضاح الدلالات في سماع الآلات" (ص 96 - 97) لعبد الغني النابلسي
(2) انظر: "المحلى" (9/ 62 - 63)
(3) انظر: "المرجع السابق".
(4) في "الأغاني" (17/ 164). وقد تقدم التعليق على كتاب الأغاني.
(5) أي حسان بن ثابت قال أبو الفرج الأصبهاني (17/ 666): أخبرنا وكيع، عن حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن الواقدي، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال سمعت خارجة بن زيد يقول: دعينا إلى مأدبة في آل نبيط، قال خارجة: فحضرتها، وحسان بن ثابت قد حضرها، فجلسنا جميعًا على مائدة واحدة وهو يومئذ قد ذهب بصره، ومعه ابنه عبد الرحمن، فكان إذا أتى طعامًا سأل ابنه: أطعام يد أم يدين؟ يعني باليد الثريد وباليدين الشواء، لأنه ينهش نهشًا فإذا قال: طعام يدين أمسك يده، فلما فرغوا من الطعام أتوا بجارتين: إحداهما رائقة والآخرة عزة، فجلستا وأخذتا من مزهريهما، وضربتا ضربًا عجيبًا وغنتا بقول حسان:
انظر خليلي بباب جلق هل ... تبصر دون البقاء من أحد
فأسمع حسان يقول: قد رآني بها سميعًا بصيرًا.
وعيناه تدمعان ...(10/5206)
سمع من عزة (1) الميلاء الغناء بالمزهر بشعر من شعره.
وذكر أبو العباس المبرد نحو ذلك، والمزهر عند أهل اللغة (2). العود، وذكر الأدفوي (3) أن عمر بن عبد العزيز كان يسمع من جواريه قبل الخلافة.
ونقل ابن السمعاني الترخيص عن طاوس، ونقله الحافظ بن قتيبة، وصاحب الإمتاع عن قاضي المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الزهري من التابعين، ونقله الحافظ أبو يعلى الخليلي في الإرشاد (4) عن عبد العزيز بن سلمة الماجشون مفتي المدنية.
وحكى الروياني عن القفال أن مذهب مالك بن أنس إباحة الغناء بالمعازف، وهي الآلات الشاملة للعود وغيره.
وحكى الأستاذ أبو منصور، والفوزاني في العمدة عن مالك جواز العود.
وذكر أبو طالب المكي في فوت القلوب (5) عن شعبة [1] أنه سمع ................
_________
(1) كانت عزة مولاة للأنصار، ومسكنها المدينة، وهي أقدم من غنى الغناء الموقع من النساء بالحجاز، وكانت من أجمل النساء وأحسنهن جسمًا وسميت الميلاء لتمايلها في مشيها. وقيل: بل كانت تلبس الملاء وتشبه بالرجال، فسميت بذلك وقيل هي أول من فتن أهل المدينة بالغناء. وحرض نساءهم عليه. "الأغاني" (17/ 163).
(2) قال الجوهري في "الصحاح" (2/ 675): المزهر: العود الذي يضرب به.
(3) هو أبو الفضل جعفر بن ثعلب بن جعفر بن علي الأدفوي، صاحب كتاب "الإمتاع في أحكام السماع". انظر: "طبقات الشافعية" (9/ 407).
(4) (1/ 310).
(5) ذكره ابن تيمية في "الاستقامة" (1/ 299).(10/5207)
طنبورًا (1) في بيت المنهال بن عمرو المحدث المشهور.
وحكى أبو الفضل بن طاهر (2) في مؤلفه (3) في السماع (4) أنه لا خلاف بين أهل المدينة في إباحة العود.
قال ابن النحوي في العدة: قال ابن طاهر هو إجماع أهل المدينة، قال ابن طاهر: وإليه ذهبت الظاهرية .......................
_________
(1) أخرج العقيلي في "الضعفاء" (4/ 237) من طريق وهب - ابن جرير - عن شعبة قال: أتيت منزل المنهال بن عمرو، فسمعت منه صوت الطنبور، فرجعت ولم أسأله، قلت: هلا سألته، فعسى كان لا يعلم " إسناده إلى شعبة صحيح.
* قال الحافظ ابن جعفر في "هدي الساري" (ص 445 - 446): "هذا اعتراض صحيح فإن هذا لا يوجب قدحًا في المنهال".
* وقال الذهبي في "الميزان" (4/ 192 رقم 8806): " ... ثم في الآخر ترك الرواية عنه شعبة فيما قيل، لأنه سمع من بيته صوت غناء، وهذا لا يوجب غمز الشيخ".
* وقال الألباني في "تحريم آلات الطرب" (ص 105): على أن هذا الأثر يمكن قلبه على المرخصين. لأن شعبة أنكر صوت الطنبور، فهو في ذلك مصيب، وإن كان أخطأ في ظنه أن المنهال كان من المرخصين به.
(2) هو أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المعروف بـ "ابن القيسراني الأثري الظاهري الصوفي. قال يحيى ابن منده: "كان ابن طاهر أحد الحفاظ حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، صدوقًا عالمًا بالصحيح والسقيم كثير التصانيف لازمًا للأثر، ولقد طعن عليه بأنه يذهب مذهب الإباحة، وإطلاق القول بذلك جور قائله، وقد رد الذهبي رحمه الله هذا الإطلاق.
"سير أعلام النبلاء" (19/ 361). "الوافي بالوفيات" (3/ 166 - 168)، "شذرات الذهب" (4/ 18)، "هدية العارفين" (2/ 28).
قال صاحب الشذرات (4/ 18): قال الحافظ ابن ناصر الدين كان - محمد بن طاهر - حافظًا جوالاً في البلاد كثير الكتابة جيد المعرفة ثقة في نفسه حسن الانتقاد ولو لا ما ذهب إليه من إباحة السماع لانعقد على ثقته الإجماع.
(3) (ص 63).
(4) انظر: "السماع" لابن طاهر (ص 63) و"المحلى" (9/ 62 - 63).(10/5208)
قاطبة (1).
قال الأدفوي (2): لم يختلف النقلة في نسبة الضرب بالعود إلى إبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف (3) انتهى.
وإبراهيم المذكور من أئمة الحديث المتوسعين في الرواية، أخرج له الجماعة كلهم، وحكى الماوردي إباحة العود عن بعض الشافعية، وحكى أبو الفضل بن طاهر في كتاب السماع (4) أن أبا إسحاق الشيرازي كان يبيحه ويحضره، وحكاه الأسنوي في المهمات عن الروياني، والماوردي، ورواه ابن النحوي عن الأستاذ أبي منصور، وحكاه ابن الملقن في العمدة عن ابن طاهر، وحكى الأدفوي عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه كان يقول بإباحته.
وحكى صاحب الإمتاع إباحة العود عن أبي بكر بن العربي، وجزم الأدفوي بعد أن استوفى أدلة التحريم والجواز بأن المتجه فيه الإباحة، هكذا في كتابه المعروف بالإمتاع في أحكام السماع؛ وهو كتاب لم يؤلف مثله في بابه. وقد ألف أبو الفتوح الغزالي كتابًا سماه: بوارق الإلماع في تكفير من يحرم السماع؛ وهذه التسمية في غاية الشناعة، ولكنه كان يذكر في ذلك الكتاب مثلاً حديث أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سمع الجواري يغنين بالدف، كما في حديث (5) الربيع بنت معوذ بن عفراء، ثم يقول بعده: فمن قال أن النبي
_________
(1) في "السماع" (ص 63).
(2) انظر: "السماع" لابن طاهر (ص 63) و"المحلى" (9/ 62 - 63).
(3) الإمام الحافظ، أبو إسحاق القرشي الزهري العوفي المدني ولد سنة 108 هـ. كان ثقة صدوقًا، صاحب حديث، وثقة الإمام أحمد، وقال: كان وكيع كف عن الرواية عنه، ثم حدث عنه.
قال أبو حاتم: ثقة، وقال أحمد والعجلي: مدني، ثقة.
قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (8/ 306): كان ممن يترخص في الغناء على عادة أهل المدينة، توفي سنة 184 هـ.
انظر: "تهذيب التهذيب" (1/ 105)، "تاريخ بغداد" (6/ 81 - 86).
(4) في "السماع" (ص 63).
(5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4001) وطرفه رقم (5147) عن الربيع بنت معوذ قالت: دخل علي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غداة بني علي، فجلس على فراشي كمجلسك مني وجويريات يضربن بالدف؛ يندبن من قتل آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية، وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين".(10/5209)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سمع حرامًا، وما منع عن سماع حرام، واعتقد ذلك، فقد كفر بالاتفاق. وساق الأدلة فيه هذا المساق. هذه صورة الخلاف في السماع من آلة من آلات اللهو. وسيأتي ذكر الخلاف في مجرد السماع للغناء بلا آلة، أو مع الدف، ولنبدأ بذكر الأدلة التي استدل بها المختلفون في السماع مع آلة.
فنقول: قال المجوزون: إنه ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، ولا في معقولهما - من القياس والاستدلال، ما يقتضي تحريم مجرد سماع الأصوات الطيبة الموزونة، مع آلة من آلات اللهو.
وقد استدل القائلون بالتحريم وهم الجمهور بأدلة منها: ما أخرجه البخاري (1) من حديث أبي عامر، وأبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف" قالوا: والمعازف: هي آلات اللهو، فيدخل فيها العود والمزمار وغيرهما. وأجاب المجوزون عن هذا الحديث بأجوبة منها: أنه قد أعله جماعة من الحفاظ من وجوه:
أحدها: الانقطاع (2)؛ فإن البخاري إنما علقه عن شيخه هشام بن عمار فقال في
_________
(1) في صحيحه رقم (10/ 51 رقم 5590) بصيغة الجزم.
(2) قال الحافظ محمد بن حزم في "رسالة الملاهي" (ص 434) - مجموعة رسائله -: "وأما حديث البخاري فلم يورده البخاري مسندًا، وإنما قال فيه: قال هشام بن عمار".
وقال في "المحلى" (9/ 59): هذا منقطع، لم يتصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد.
والمترجح أن الحديث صحيح متصل على شرط البخاري وذلك من وجوه:
1 - أن هشام بن عمار من شيوخ البخاري، لقيه، وسمع منه، خرج عنه في الصحيح حديثين غير هذا محتجًا به، كما أفاد الحافظ ابن حجر في "هدي الساري" (ص 448 - 449) يقول فيهما: "حدثنا هشام بن عمار ... " من غير واسطة.
أ - الأول في البيوع (4/ 308).
ب - الثاني في "فضائل الصحابة" باب فضل أبي بكر (7/ 18).
2 - أن قول الراوي: قال فلان بمنزلة قوله "عن فلان" في كونها صيغة محتمة السماع، وإن كان قائلها غير موصوف بالتدليس كانت محمولة على الاتصال على الصحيح الذي عليه الجمهور إن ثبتت المعاصرة كما هو شرط مسلم واللقاء كما شرط البخاري. ولقد تحقق هنا شرط البخاري. وهو ثبوت اللقاء. كما بين في الوجه الأول.
3 - أنه وقع استعمال البخاري لهذه الصيغة (قال فلان) كثيرًا جدًا عن شيوخه في الأسانيد المتصلة، وذلك في "تاريخه الكبير" وهذا وإن لم يعهد منه في "الصحيح" إلا أنه ممكن الوقوع. لا سيما وأنه ليس عندنا تنصيص من البخاري نفسه على تجنب مثل هذا في "الصحيح"، يؤكده قول من قال: "إن البخاري إذا قال في صحيحه "قال فلان" ولم يصرح بروايته عنه وكان قد سمع منه فإنه يكون قد أخذ عنه عرضًا أو مناولة أو مذاكرة.
وقد ورد الحديث موصولاً من طرق عن هشام بن عمار في غير الصحيح.
أخرجه الحسن بن سفيان في "مسنده" و"أبو بكر الإسماعيلي" في "المستخرج" وأبو ذر الهروي على "الصحيح" وابن حبان في صحيحه رقم (6754) والطبراني في "الكبير" (3/ 319 رقم 3417).
ودعلج في "مسند المقلين [ق 1 - 2/ 1] قالا: حدثنا موسى بن سهل الجوني البصري: ثنا هشام بن عمار به مثل رواية البخاري، ومن طريق الطبراني رواه الضياء المقدسي في "موافقات هشام بن عمار" (ق 37/ 1 - 2). كما في "تحريم آلات الطرب" للمحدث الألباني (ص 40) رحمه الله.
- قال الطبراني في "مسند الشاميين" (1/ 334، 588): حدثنا محمد بن يزيد بن (الأصل: عن) عبد الصمد الدمشقي. ثنا هشام بن عمار به.
ومحمد بن يزيد هذا مترجم له في "تاريخ دمشق" للحافظ ابن عساكر (16/ 124) برواية الجماعة عنه. توفي سنة 269 هـ.
- وقال الإسماعيلي في "المستخرج على الصحيح" ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 221) حدثنا سفيان: حدثنا هشام بن عمار به.
والحسن بن سفيان - هو الخراساني النيسابوري حافظ ثبت من شيوخ ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما من الحفاظ - مترجم له في "السير" (14/ 157 - 162).
انظر: "هدي الساري" (ص 59) و"تغليق التعليق" (5/ 18).
وهناك أربعة آخرون سمعوه من هشام، خرجهم الحافظ في "تغليق التعليق" (5/ 17 - 19) والذهبي عن بعضهم في "السير" (21/ 157) (7/ 23). ثم إن هشامًا لم يتفرد به لا هو ولا شيخه (صدقة بن خالد)، بل إنهما قد توبعا، فقال أبو داود في "السنن" رقم (4039): حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، حدثنا بشر بن بكر، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بإسناده المتقدم على أبي عامر أو أبي مالك مرفوعًا بلفظ: "ليكونن من أمتي أقوامًا يستحلون الحر والحرير - وذكر كلامًا قال يمسخ منهم آخرون قردة وخنازير إلى يوم القيامة".
قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/ 260) وهذا إسناد صحيح متصل تبعًا لشيخه في "إبطال التحليل" (ص 23)، لكن ليس فيه التصريح بموضع الشاهد منه، وإنما أشار إليه بقوله: "ذكر كلامًا" وقد جاء مصرحًا به في رواية ثقتين آخرين من الحفاظ، وهو عبد الرحمن بن إبراهيم الملقب بـ (دحيم). قال: ثنا بشر بلفظ البخاري المتقدم. "يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ... ".
أخرجه أبو بكر الإسماعيلي في "المستخرج على الصحيح" كما في "الفتح" (10/ 56) و"التغليق" (5/ 19) ومن طريق الإسماعيلي البيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 272) والآخر (عيسى بن أحمد العسقلاني) قال: نا بشر بن بكر به إلا أنه قال: "الخز" بالمعجمتين، والراجح بالمهملتين كما في رواية البخاري وغيره.
انظر: "فتح الباري" (10/ 55).
وأخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (19/ 156) من طريق الحافظ أبي سعيد الهيثم بن كليب الشاشي: نا عيسى بن أحمد العسقلاني به مطولاً.
قال المحدث الألباني في "تحريم آلات الطرب" (ص 43): وهذه الطريق مما فات الحافظ فلم يذكره في "الفتح" بل ولا في "الغليق".
وقال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في "علوم الحديث" (ص 61 - 62): "ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رده على ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري ... من جهة أن البخاري أورده قائلاً فيه: قال هشام بن عمار، وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جوابًا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح.
وقال الحافظ ابن حجر في "تغليق التعليق" (5/ 22) " هذا حديث صحيح، لا علة له ولا مطعن، وقد أعله أبو محمد بن حزم بالانقطاع بين البخاري وصدقة بن خالد وبالاختلاف في اسم أبي مالك، وهذا كما تراه قد سقته من رواية تسعة عن هشام متصلاً فيهم، مثل الحسن بن سفيان، وعبدان، وجعفر الفريابي وهؤلاء حفاظ أثبات".
وقال الحافظ ابن رجب في "نزهة الأسماع" (ص 44): "هكذا ذكره البخاري في صحيحه بصيغة التعليق المجزوم به، والأقرب أنه مسند فإن هشام بن عمار أحد شيوخ البخاري، وقد قيل: إن البخاري إذا قال في صحيحه: قال فلان، ولم يصرح بروايته عنه، وكان قد سمع منه، فإنه يكون قد أخذه عنه عرضًا، أو مناولة، أو مذاكرة، وهذا كله لا يخرجه عن أن يكون مسندًا، والله أعلم. ثم ذكر وصله عند البيهقي إلى هشام، وقال: فالحديث صحيح، محفوظ عن هشام بن عمار".(10/5210)
صحيحه: قال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد، ثم ساق إسناده، ولم يصرح [2] بالسماع من هشام. قال ابن حزم: ولم يتصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد، وإنما علقه البخاري؛ فلا حجة فيه. انتهى.
وثانيها: أنه حكى ابن الجنيد (1) عن يحيى بن معين أن صدقة بن خالد المذكور ليس بشيء، وروى المروزي (2) عن أحمد أنه ليس بمستقيم.
ثالثهما: ما ذكره ابن حزم، وهو أن الراوي شكك في اسم الصحابي، فجاء بأداة
_________
(1) قال الحافظ في "الفتح" (10/ 54) قال الحافظ ابن الملقن - رحمه الله -: "ليته - يعني ابن حزم - أعل الحديث بصدقة، فإن ابن الجنيد روى عن يحيى بن معين: ليس بشيء، وروى المروزي عن أحمد: ذلك ليس بمستقيم، ولم يرضه".
وأجاب الحافظ على هذا الاعتراض في "الفتح" (10/ 54): "وهذا الذي قاله الشيخ خطأ، وإنما قال يحيى وأحمد ذلك في صدقة بن عبد الله السمين، وهو أقدم من صدقة بن خالد، وقد شاركه في كونه دمشقيًا، وفي الرواية عن بعض شيوخه، كزيد بن واقد، وأما صدقة بن خالد فقد قدمت قول أحمد فيه. وأما ابن معين فالمنقول عنه أنه قال: كان صدقة بن خالد أحب إلى أبي مسهر من الوليد بن مسلم، قال: وهو أحب إلي من يحيى بن حمزة، ونقل معاوية بن صالح عن ابن معين أن صدقة بن خالد ثقة".
قلت - ابن حجر -: ولم ينفرد به صدقة، وإنما تابعه بشر بن بكر. كما تقدم
(2) في المخطوط المزني. والصواب ما أثبتناه من "الفتح" (10/ 54).(10/5213)
الترديد كما سلف.
قال المهلب: وذلك هو سبب كون البخاري لم يقل فيه حدثنا هشام (1).
رابعها: أن الحديث مضطرب سندًا أو متنًا، أما الإسناد فللتردد في اسم الصحابي،
_________
(1) لقد سلف بيان أن جميع الطرق عن هشام بن عمار على الشك في اسم الصحابي، إلا عند ابن حبان رقم (6754) أخبرنا الحسين بن عبد الله القطان، قال: حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا صدقة بن خالد، قال: حدثنا ابن جابر، قال: حدثنا عطية بن قيس، قال حدثنا عبد الرحمن بن غنم، قال: حدثنا أبو عامر وأبو مالك الأشعريان سمعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحرير والخمر والمعازف".
وابن عساكر وقال: "كذا قال: وأبو مالك، وإنما هو: أو أبو مالك بالشك".
وانظر: "فتح الباري" (10/ 54).
ورواية الجماعة بالشك أولى وأصح.
قال الألباني في "تحريم آلات الطرب" (ص 50): قول البخاري عقب حديث إبراهيم - وفيه شك الراوي في صحابي الحديث بقوله: "أبي مالك الأشعري أو أبي عامر".
"إنما يعرف هذا عن أبي "مالك" - ثم ساق دليله، وهي رواية مالك بن أبي مريم عن ابن غنم عن أبي مالك بغير شك -.
انظر: "التاريخ الكبير" (1/ 1/ 305).
قال المحدث الألباني: ففيه إشعار لطيف بأن (مالك بن أبي مريم) معروف عنده؛ لأنه قدم روايته التي فيها الجزم بأن الصحابي هو (أبو مالك الأشعري) على رواية شيخه هشام بن عمار التي أخرجها في "صحيحه" كما تقدم، ورواية إبراهيم المذكورة آنفًا، وفي كل منهما الشك في اسم الصحابي، فلولا أن البخاري يرى أن مالك بن أبي مريم ثقة عنده لما قدم روايته على روايتي هشام وإبراهيم. فلعل هذا هو الذي لاحظه ابن القيم رحمه الله، حين قال في حديث مالك هذا: "إسناده صحيح" والله أعلم.
ثم قال الألباني رحمه الله: وخلاصة الكلام في هذا الحديث: أن مداره على عبد الرحمن بن غنم، وهو ثقة اتفاقًا، رواه عنه قيس بن عطية الثقة، وإسناده إليه صحيح كما تقدم، وعلى مالك بن أبي مريم، وإبراهيم بن عبد الحميد، وهو ثقة، وثلاثتهم ذكروا "المعازف" في جملة المحرمات المقطوع بتحريمها، فمن أصر بعد ذلك على تضعيف الحديث فهو متكبر معاند ... "(10/5214)
فقيل أبو عامر، وقيل أبو مالك كما سلف، ورواه أحمد (1)، وابن أبي شيبة (2) من حديث أبي مالك بغير شك، ورواه أبو داود (3) من حديث أبي عامر، وأبي مالك، وهي رواية ابن داسة عن أبي داود، وفي رواية الرملي عنه بالشك.
وفي رواية ابن حبان (4) أنه سمع أبا عامر، وأبا مالك الأشعريين. وأما اضطراب المتن ففي لفظ: تستحلون كما سلف، وفي طريق ذكرها البخاري في التاريخ (5) بدونه، وعند أحمد (6) وابن أبي شيبة (7) بلفظ: "ليشربن أناس من أمتي الخمر"، وفي رواية "الحر" بمهملتين وهو الفرج، وهو كذلك في معظم الروايات. ولم يذكر عياض ومن تبعه غيره. والمعنى يستحلون الزنا.
وضبطه ابن التين (8) بالمعجمتين، وقال: هو عند البخاري كذلك، وكذا وقع في
_________
(1) في "المسند" رقم (5/ 342)
(2) في "المصنف" (7/ 465 رقم 3810)
(3) في "السنن" رقم (4039).
قال في "عون المعبود" (11/ 58): هكذا بالشك في نسخ الكتاب وكذا المنذري.
ثم ذكر كلام الشوكاني في رسالته "إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع".
قلت: يخالف في هذا الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/ 54) و"التهذيب" (12/ 144) و"تغليق التعليق" (5/ 20) فيذهب إلى أن رواية بشر بن بكر عند أبي داود بغير شك، ويتعقب المزي في ذلك.
وقول الحافظ مرجوح بدلائل، فرواية بشر بن بكر إذا موافقة لرواية هشام بن عمار، وأن الحديث محفوظ عن ابن جابر بالشك فهو حاصل إما منه أو ممن فوقه، والذي يبدو أنه ممن فوقه لمتابعة إبراهيم بن عبد الحميد لعطية بن قيس، فإنه فيها على الشك أيضًا.
(4) في صحيحه رقم (6754).
(5) (1/ 1\ 305)
(6) في "المسند" (5/ 345)
(7) في "المصنف" (7/ 465 رقم 3810)
(8) ذكره الحافظ في "الفتح" (10/ 54 - 55).(10/5215)
رواية أبي داود (1).
وقال ابن الأثير (2): المشهور في رواية هذا الحديث بالإعجام، وهو ضرب من الإبريسم.
وخامس الوجوه: أن لفظة المعازف التي هي محل النزاع ليست عند أبي داود. وقد أجاب المحرمون عن هذه العلل بأجوبة أوردها المجوزون بردود لا نطيل بذكرها.
هذا ما أجاب به المجوزون عن الحديث من حيث ثبوته، وأما من حيث دلالته فقالوا: لا نسلم دلالته على التحريم، وأسندوا هذا المنع بوجوه:
أحدها: أن لفظة يستحلون ليست نصًا في التحريم؛ فقد ذكر أبو بكر بن العربي (3) لذلك معنيين:
أحدهما: أن المعنى يعتقدون أن ذلك حلال.
الثاني: أن يكون مجازًا عن الاسترسال في استعمال تلك الأمور.
الثاني: أن المعازف تختلف في مدلولها، فقيل: هي اسم تجمع العود والطنبور وشبههما، وقيل: آلة لها أوتار كثيرة.
وقال الجوهري في صحاحه (4) هي آلات اللهو، وقيل: أصوات الملاهي، وقيل: الغناء، وحكاه القرطبي (5) عن الجوهري، وليس في صحاحه، وقال ابن الأثير (6): عزيف الجن: جرس أصواتها، وإذا كان اللفظ محتملاً؛ لأن يكون لغير آلة، ولآلة مخصوصة، ولمطلق الآلات، فإما أن يكون مشتركًا بين الجميع، والأرجح عند الجمهور التوقف فيه
_________
(1) في "السنن" رقم (4039)
(2) في "النهاية" (1/ 366)
(3) ذكره الحافظ في "الفتح" (10/ 55)
(4) (4/ 1403)
(5) ذكره الحافظ في "الفتح" (10/ 55)
(6) في "النهاية" (3/ 230)(10/5216)
فلا يحمل أحد معنييه إلا بقرينة، وإما أن يكون حقيقة [3] في أحدها، ولا نعرفه فيكون مجملاً، وعلى فرض صحة حمل المعازف على التفسير الدال على مدعى المحرمين، وهو آلات اللهو، أو أصوات الملاهي، فلا شك أن ذلك يعم الدف والمزمار الذي هو الشبابة، وهم يخصصون ذلك من عموم آلات اللهو أو أكثرها.
وقد ذهب قوم من أهل الأصول إلى أن العام بعد التخصيص يصير مجملاً في الباقي، فلا يحتج به إلا بدليل (1)، وعند آخرين منهم يكون مجازًا فيه (2)، وعند آخرين لا يكون حجة (3)، ولا ينكر أحد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قرر الضرب بالدف، وسمعه ولم ينكره، كما في صحيح البخاري (4) وغيره، ولعله يأتي بيانه، ويحتمل أن تكون المعازف المنصوص على تحريمها هي المقترنة بشرب الخمر كما ثبت في رواية (5) بلفظ: "ليشربن أناس من أمتي الخمر، تروح عليهم القيان وتغدو عليهم المعازف" ويحتمل أن يكون المراد يستحلون (6) مجموع الأمور المذكورة، فلا يدل على تحريم واحد منها على
_________
(1) انظر: "إرشاد الفحول" (ص 468)، "البحر المحيط" (3/ 270).
(2) قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص 462 - 463): اختلفوا في العام إذا خص هل يكون حقيقة في الباقي أم مجازًا؟ فذهب الأكثرون إلى أنه مجاز في الباقي مطلقًا سواء كان ذلك التخصيص بمتصل أو منفصل، وسواء كان بلفظ أو بغيره، واختاره البيضاوي وابن الحاجب والصفي الهندي، قال ابن برهان في "الأوسط": وهو المذهب الصحيح.
وانظر مزيد تفصيل: "التبصرة" (ص 122)، "مختصر ابن الحاجب" (2/ 106)
(3) انظر: "إرشاد الفحول" (ص 466 - 468) و"البحر المحيط" (3/ 269)، "التبصرة" (ص 187).
(4) تقدم تخريجه
(5) أخرجه ابن ماجه رقم (4020) وأبو داود رقم (3688) والبخاري في تاريخه (1/ 1\ 305) و (4/ 1\ 222) وابن حبان رقم (1384) والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 295) وأحمد في "مسنده" (5/ 342) والطبراني في "المعجم الكبير" (1/ 167\ 2). وهو حديث صحيح
(6) قال ابن تيمية في كتاب "إبطال التحليل" (ص 20 - 21): "لعل الاستحلال المذكور في الحديث إنما هو بالتأويلات الفاسدة، فإنهم لو استحلوها مع اعتقاد أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرمها كانوا كفارًا. ولم يكونوا من أمته، ولو كانوا معترفين بأنها حرام لأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ كسائر الذين لم يزالوا يفعلون هذه المعاصي، ولما قيل فيهم: " يستحلون" فإن المستحل للشيء هو الذي يأخذه معتقدًا حله. فيشبه أن يكون استحلالهم الخمر، يعني أنهم يسمونها بغير اسمها كما في الحديث، فيشربون الأشربة المحرمة، ولا يسمونها خمرًا، واستحلالهم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجرد سمع صوت فيه لذة، وهذا لا يحرم كألحان الطيور، واستحلال الحرير وسائر أنواعه باعتقادهم أنه حلال للمقاتلة، وقد سمعوا أنه مباح لبسه عند القتال عند كثير من العلماء فقاسوا سائر أحوالهم على تلك! وهذه التأويلات واقعة في الطوائف الثلاثة التي قال فيها ابن المبارك رحمه الله تعالى:
وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها
ومعلوم أنها لا تغني عن أصحابها من الله شيئًا بعد أن بلغ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين تحريم هذه الأشياء بيانا قاطعًا للعذر، كما هو معروف في مواضعه.
وقال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/ 371 - 372).
"أن المعازف هي آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك. ولو كانت حلالاً لما ذمهم على استحلالها، ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر والحر.(10/5217)
الانفراد، وقد تقرر أن النهي عن الأمور المتعددة، أو ترتيب الوعيد على مجموعها لا يدل على تحريم كل فرد منها، ومن أعظم الأدلة على ذلك قوله تعالى: {خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين} (1) ولا شك أن ترك الحض على طعام المسكين لا يوجب على انفراده ذلك الوعيد الشديد، وليس أيضًا بمحرم.
واستدل المحرمون ثانيًا بما أخرجه ...........................
_________
(1) [الحاقة: 33 - 34].
قال المحدث الألباني رحمه الله ردا على كلام الشوكاني: "ويجاب بأن الاقتران لا يدل على أن المحرم هو الجمع فقط، وإلا لزم أن الزنا المصرح به في الحديث (يعني حديث البخاري ألا يحرم إلا عند شرب الخمر واستعمال المعازف) واللازم باطل بإجماع، فالملزوم مثله ... ".(10/5218)
الترمذي (1) عن الفرج بن فضالة، عن يحيى بن سعيد يرفعه: "إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء" فذكر منها اتخاذ القيان والمعازف. وأخرج (2) أيضًا بسند فيه رميح الجذامي يرفعه وفيه: وظهرت القيان والمعازف.
والجواب عن الأول أن في إسناده الفرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد، وقد تكلم (3) فيه أهل الحديث، وسئل الدارقطني (4) عن حديثه فقال: باطل، وقال أحمد بن ................
_________
(1) في "السنن" رقم (2210).
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" رقم (5) وابن حبان في "المجروحين" (2/ 207) والخطيب في تاريخه (12/ 396) وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص 233 - 234) و"العلل" (2/ 366 - 367) من طرق عن الفرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن علي عن أبيه به مرفوعًا، وقد أعل هذا الإسناد بعلتين:
أ): قال الترمذي عقب الحديث: "هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث علي بن أبي طالب إلا من هذا الوجه، ولا نعلم أحدًا رواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري غير الفرج بن فضالة، والفرج بن فضالة قد تكلم فيه بعض أهل الحديث، وضعفه من قبل حفظه، وقد رواه عنه وكيع وغير واحد من الأئمة".
ب): الانقطاع بين يحيى بن سعيد ومحمد ابن الحنفية، أعله بذلك ابن حزم في رسالة الغناء له (ص 434) قال: "ويحيى بن سعيد لم يرو عن محمد ابن الحنفية كلمة ولا أدركه، وكذلك أعله بهذا العلائي في "جامع التحصيل" (ص 238) فقال: "محمد بن علي هو ابن الحنفية، وذلك مرسل .. . لأن يحيى بن سعيد الأنصاري لم يدركه".
(2) في "السنن" رقم (2211) وهو حديث ضعيف.
(3) قال البخاري: فرج بن فضالة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري منكر الحديث.
وقال أبو حاتم: صدوق لا يحتج به.
"الميزان" (3/ 343 - 345)
(4) انظر سؤالات البرقاني (ص 619).
وقال الخطيب في "تاريخه" (12/ 396): أخبرنا البرقاني قال: سألت الدارقطني عن الفرج بن فضالة؟ فقال: ضعيف. قلت: فحديثه عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن علي عن علي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة ... " الحديث قال: "هذا باطل" قلت: من جهة الفرج بن فضالة؟ قال: نعم".(10/5219)
حنبل: إذا روى عن الشاميين فليس به بأس، وأما عن يحيى بن سعيد فعنده مناكير. وقال مسلم (1): الفرج منكر الحديث.
والجواب عن الثاني: بأن زميح الجذامي: مجهول الحال (2)، ولم يخرج له أحد من أهل الأمهات الست، وبأن الترمذي رواه من طرق (3)، وكلها متفقة على وجود المسخ في هذه الأمة. وقد ثبت في الصحيح (4) أن هذه الأمة لا مسخ فيها، وفيه نظر؛ لأن الجمع ممكن بأن يقال: المرفوع عن الأمة هو المسخ العام لا الخاص بقوم، أو قرية؛ فإن الأحاديث الكثيرة قد دلت على ذلك، وواقع ذلك في مواضع كما صرح به جماعة من ثقات أهل التاريخ.
نعم يمكن الجواب عن الحديثين المذكورين بأن الوعيد المذكور مرتب على مجموع أشياء، فلا يلزم أن يترتب على أحدهما [4] كما سلف.
واستدل المحرمون أيضًا بما أخرجه البيهقي (5) بلفظ: "إن ربي حرم الخمر والميسر،
_________
(1) في "الكنى" (ص 91)
(2) "التقريب" (1/ 253 رقم 109) من الثالثة.
أخرجه الترمذي رقم (2211) حدثنا علي بن حجر. حدثنا محمد بن يزيد الواسطي، عن المستلم بن سعيد، عن رميح الجذامي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... الحديث ... " وهو حديث ضعيف.
(3) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (2212) حدثنا عباد بن يعقوب الكوفي، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن هلال بن يساف، عن عمران بن حصين، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف" فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله! ومتى ذلك؟ قال: "إذا ظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور". وهو حديث حسن.
(4) تقدم في بداية الرسالة.
(5) في "السنن الكبرى" (10/ 222).
من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن الله عز وجل حرم الخمر، والميسر، والكوبة، والغيبراء، وكل مسكر حرام".
وله عنه ثلاث طرق:
الأولى: عن الوليد بن عبدة، ويقال عمرو بن الوليد بن عبدة به.
أخرجه أبو داود رقم (3685) وأحمد (2/ 158، 170) وفي "الأشربة" رقم (207) والفسوي في "المعرفة" (2/ 519) وابن عبد البر في "التمهيد" (5/ 167).
الثانية: عن ابن وهب: أخبرني ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة، عن أبي هريرة أو هبيرة العجلاني عن مولى لعبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إليه ذات يوم وهم في المسجد فقال: إن ربي: "حرم علي الخمر، والميسر، والكوبة، والقنين". الكوبة: الطبل.
أخرجه أحمد (2/ 172) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 222) ورجال البيهقي ثقات. غير المولى فلم يعرفه الألباني ولعله أبو هبيرة وهو مجهول. كما في "تعجيل المنفعة".
الثالثة: عن فرج بن فضالة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر مرفوعًا بلفظ: "إن الله حرم على أمتي الخمر، والميسر، والمزرر، والكوبة، والقنين، وزادني صلاة الوتر".
قال يزيد بن هارون: القنين: البرابط.
أخرجه أحمد في "المسند" (2/ 165 - 167) وفي "الأشربة" (212، 214) والطبراني في "الكبير" (13 رقم 127) بسند ضعيف. وهو حديث حسن لغيره(10/5220)
والكوبة، والقنين" قالوا: والقنين هو العود. وأجيب بأن البيهقي (1) رواه من حديث عمرو بن العاص بإسناد فيه ابن لهيعة، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة كما ذلك معروف، ورواه (2) عن قيس بن سعد بن عبادة بإسناد فيه عبيد الله بن ..................
_________
(1) في "السنن الكبرى" (10/ 222).
(2) أي البيهقي في "السنن" رقم (10/ 222) حدثني الليث بن سعد وابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبدة عن قيس بن سعد مرفوعًا، وزاد: " ... والغبيراء وكل مسكر حرام".
ولعمرو بن الوليد متابع عن قيس، وهو بكر بن سوادة.
أخرجه أحمد في "الأشربة" رقم (27) وابن أبي شيبة (8/ 197) والطبراني في "الكبير" (18/ 352) والبيهقي (10/ 222) من طريقين عن يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن بكر بن سوادة عن قيس به مرفوعًا وقال: " ... وإياكم والغبيراء فإنها ثلث خمر العالم".
وهذا إسناد لين، لكنه لا بأس به في المتابعات، عبيد الله بن زحر صدوق فيه ضعيف.(10/5221)
زحر (1) وهو ضعيف أيضًا عند أهل الحديث، وأيضًا القنين مختلف فيه، فقيل (2) هو الطنبور بلسان الحبشة، وقيل لعبة يتقامرون بها.
حكاه الزمخشري في كتاب الفائق (3) عن ابن الأعرابي. وفي تحريم المعازف وسائر الملاهي أحاديث مروية في غاية الكثرة، ولكنها متكلم عليها من أئمة الحديث، وبعضهم يجزم بوضعها، وما ذكرناه أصح ما روي وأحسنه.
هذا الكلام في الغناء مع آلة من آلات اللهو، وأما مجرد الغناء من غير آلة فقد ذهب إلى تحليله جمهور العلماء، بل قال: الأدفوي في الإمتاع: إن الغزالي نقل في بعض تواليفه الفقهية الاتفاق على حله.
ونقل ابن طاهر (4) إجماع الصحابة والتابعين عليه، ونقل التاج الفزاري، وابن قتيبة إجماع أهل الحرمين عليه، ونقل ابن طاهر، وابن قتيبة أيضًا إجماع أهل المدينة عليه، وقال الماوردي: لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيه بالعبادة والذكر. وقال يونس بن عبد الأعلى: سألت الشافعي (5) عن إباحة أهل المدينة للسماع
_________
(1) قال الدارقطني: ليس بالقوي، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات وقال أبو زرعة: عبيد الله بن زحر صدوق. وقال النسائي: لا بأس به.
"الميزان" (3/ 6 رقم 5359).
(2) في "النهاية" لابن الأثير (4/ 116).
(3) (3/ 284).
(4) في "السماع" (ص 48)
(5) قال الشافعي في "أدب القضاء" إن الغناء لهو مكروه، يشبه الباطل والمحال، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته".
انظر: "كشف الغطاء عن حكم الإسلام في الغناء" (ص 11) لابن القيم.
قال ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص 227): وقد كان رؤساء أصحاب الشافعي رضي الله عنهم ينكرون السماع، وأما قدماؤهم فلا يعرف بينهم خلاف، وأما كبائر المتأخرين فعلى الإنكار منهم أبو الطيب الطبري وله في ذم الغناء والمنع منه كتاب مصنف - الرد على من يحب السماع - ثم قال ابن الجوزي (ص 229): فهذا قول علماء الشافعية وأهل التدين منهم، وإنما رخص في ذلك من متأخريهم من قل علمه وغلبه هواه.
وقال الشافعي: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته"
انظر: "الرد على من يحب السماع" (ص 27 - 28) للشيخ طاهر الطبري.(10/5222)
فقال: لا أعلم أحدًا من أهل الحجاز كره السماع إلا ما كان منه في الأوصاف.
قال ابن النحوي في العمدة: وقد روي الغناء وسماعه عن جماعة من الصحابة، وكذا روي سماعه، والقول بجوازه عن جماعة منهم من التابعين، فمن الصحابة عمر كما رواه ابن عبد البر (1) وغيره .....................
_________
(1) كما في كتاب "السماع" (ص 42) عن يحيى بن عبد الرحمن قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب في الحج الأكبر حتى إذا كان عمر بالروحاء كلم الناس رياح بن المعتمر وكان حسن الصوت بغناء الأعراب، فقالوا: أسمعنا، وقصر عنا الطريق فقال إني أفرق من عمر، قال فكلم القوم عمر: إنا كلمنا رياحًا يسمعنا ويقصر عنا المسير فأبى إلا أن تأذن له، فقال له: يا رياح أسمعهم وقصر عنهم المسير، فإذا أسحرت فارفع واحدهم من شعر ضرار بن الخطاب، فرع عقيرته يتغنى وهم محرمون.
وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" رقم (10/ 224) عن السائب بن يزيد بنحوه بإسناد جيد.
قال الألباني في "تحريم آلات الطرب" (ص 129): وفي هذه الأحاديث والآثار دلالة ظاهرة على جواز الغناء بدون آلة في بعض المناسبات، كالتذكير بالموت أو الشوق إلى الأهل والوطن، أو للترويح عن النفس، والالتهاء عن وعثاء السفر ومشاقه ونحو ذلك، مما لا يتخذ مهنة، ولا يخرج به عن حد الاعتدال، فلا يقترن به الاضطراب والتثني والضرب بالرجل مما يخل بالمروءة كما في حديث أم علقمة مولاة عائشة: أن بنات أخي عائشة رضي الله عنها خفضن فألمن ذلك، فقيل لعائشة يا أم المؤمنين: إلا ندعو لهن من يلهيهن؟ قالت: بلى، قالت: فأرسلت إلى فلان المغني، فأتاهم، فمرت به عائشة رضي الله عنها في البيت فرأته يتغنى ويحرك رأسه طربًا، وكان ذا شعر كثير، فقالت عائشة رضي الله عنها: "أف! شيطان أخرجوه أخرجوه" فأخرجوه.
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 223 - 224) والبخاري مختصرًا في "الأدب المفرد" رقم (1247) بسند حسن. وصححه ابن رجب في "نزهة الأسماع" (ص 61).(10/5223)
وعثمان (1) كما نقله الماوردي (2) وصاحب البيان (3)، وحكاه الرافعي، وعبد الرحمن بن عوف كما رواه ابن أبي شيبة (4) وأبو عبيدة بن الجراح كما أخرجه البيهقي (5)، وسعد بن أبي وقاص كما أخرجه ابن قتيبة، وأبو مسعود الأنصاري كما أخرجه البيهقي (6)، وبلال وعبد الله بن الأرقم، وأسامة بن زيد كما أخرجه البيهقي (7) أيضاً، وحمزة كما في الصحيح (8)، وابن عمر كما أخرجه ابن طاهر (9)، والبراء بن مالك كما أخرجه أبو نعيم (10)، وعبد الله بن جعفر كما رواه ابن عبد البر (11) وغيره، وعبد الله بن الزبير كما
_________
(1) عزاه إليه الماوردي في "الحاوي" (21/ 203 - 205).
قال عمر رضي الله عنه: "الغناء زاد المسافر" أخرجه البيهقي (5/ 68).
وأخرج البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 68): كان لعثمان جاريتان تغنيان في الليل، فإذا جاء وقت السحر قال: أمسكا فهذا وقت الاستغفار وقام إلى صلاته.
قال ابن تيمية في "الاستقامة" (1/ 281): وقد روي عن ابن عمر آثار في إباحته للسماع ... ".
أما النقل عن ابن عمر فباطل، بل المحفوظ عن ابن عمر ذمه للغناء ونهيه عنه وكذلك سائر أئمة الصحابة ... ".
وانظر: "كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء" لابن قيم الجوزية (ص 195)
(2) في "الحاوي" (21/ 204).
(3) "البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (13/ 292 - 294)
(4) في "المصنف" (4/ 192)
(5) في "السنن الكبرى" رقم (10/ 224 - 225)
(6) في "السنن الكبرى" رقم (10/ 225)
(7) في "السنن الكبرى" رقم (10/ 225).
(8) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1/ 1979) من حديث علي بن أبي طالب
(9) في كتاب "السماع" (ص 44).
(10) في "معرفة الصحابة" (3/ 64 - 65)
وانظر "تلبيس إبليس" (ص 294).
(11) الاستيعاب (2/ 300 - 301).(10/5224)
نقله أبو طالب المكي (1)، وحسان كما رواه أبو الفرج الأصبهاني (2)، وعبد الله بن عمر وكما رواه الزبير بن بكار (3)، وقرظة بن كعب كما رواه ابن قتيبة (4)، وخوان بن جبير (5)، ورباح المعترق كما أخرجه صاحب الأغاني، والمغيرة بن شعبة كما حكاه أبو طالب المكي، وعمرو بن العاص كما حكاه الماوردي (6)، وعائشة (7) ........................
_________
(1) في "قوت القلوب" كما في "الاستقامة" (1/ 229).
(2) انظر: "إيضاح الدلالات في سماع الآلات" (ص 79)
(3) ذكره ابن حجر في "الإصابة" (3/ 393) وابن عبد البر في "الاستيعاب" (2/ 300).
(4) ذكره ابن حجر في "الإصابة" (3/ 393) وابن عبد البر في "الاستيعاب" (2/ 300)
(5) انظر: كتاب "السماع" لابن طاهر (ص 44 - 45)
(6) في "الحاوي" (21/ 204).
(7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (949) وأطرافه (952، 987، 3907، 3530، 3931) عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعندي جاريتان تغنيان بغناء يعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فأقبل عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "دعهما" فلما غفل غمزتهما فخرجتا.
وفي رواية دخل علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعندي جاريتان (من جواري الأنصار) وفي رواية (قينتان) (في أيام منى، تدففان وتضربان) تغنيان بغناء.
وفي رواية: بما تقاولت وفي أخرى (تقاذفت) الأنصار يوم بعاث وليستا بمغنيتين) فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر [والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متغش بثوبه] فانتهرني.
وفي رواية: فانتهرهما، وقال: مزمارة، وفي رواية مزمار الشيطان عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي رواية أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [مرتين]؟!.
فأقبل عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي رواية: فكشف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجهه فقال: "دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا" فلما غفل غمزتهما فخرجتا.
قال ابن حجر في "الفتح" (2/ 442):
1 - ): قوله: فانتهرهما: أي الجاريتين ويجمع بأنه شرك بينهن في الانتهار والزجر، أما عائشة فلتقريرها، وأما الجاريتان فلفعلهما.
2 - ): قوله: مزمارة الشيطان بكسر الميم يعني الغناء أو الدف لأن المزمارة أو المزمار مشتق من الزمير وهو الصوت الذي له الصفير، ويطلق على الصوت الحسن وعلى الغناء.
وسميت به الآلة المعروفة التي يزمر بها.
وإضافتها إلى الشيطان من جهة أنها تلهي، فقد تشغل القلب عن الذكر.
3 - ): قوله دعهما: إيضاح خلاف ما ظنه الصديق من أنهما فعلتا ذلك بغير علمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكونه دخل فوجده معطى بثوبه فظنه نائمًا فتوجه له الإنكار على ابنته من هذه الأوجه مستصحبًا لما تقرر عنده من منع الغناء واللهو. فبادر إلى إنكار ذلك قيامًا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك مستندًا إلى ما ظهر له فأوضح له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعرفه الحكم مقرونًا ببيان الحكمة بأنه يوم عيد. أي يوم سرور شرعي. فلا ينكر فيه مثل هذا كما لا ينكر في الأعراس. وبهذا يرتفع الإشكال عمن قال: كيف ساغ للصديق إنكار شيء أمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتكلف جوابًا لا يخفى تعسفه.
4 - ): استدل جماعة من الصوفية بحديث الباب - رقم (949) - على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة. ويكفي في رد ذلك تصريح عائشة في الحديث رقم (952) بقولها: "وليستا بمغنيتين" فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبته لهما باللفظ، لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه العرب النصب بفتح النون وسكون المهملة وعل الحداء. ولا يسمى فاعله مغنيًا وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح.
قال القرطبي في "المفهم" (2/ 534):
قولها: وليستا بمغنيتين أي: ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك. وهذا منها تحرز من الغناء المعتاد عند المشتهرين به، الذي يحرك النفوس، ويبعثها على الهوى والغزل والمجون، الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء، ووصف محاسنهن وذكر الخمور، والمحرمات. لا يختلف في تحريمه، لأنه اللهو واللعب المذموم بالاتفاق.
فأما ما يسلم من تلك المحرمات فيجوز القليل منه وفي أوقات الفرح: كالعرس، والعيد، وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، ثم قال: وأما ما أبدعه الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة، فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية والأغراض الشيطانية على كثير ممن ينسب إلى الخير وشهر بذكره حتى عموا عن تحريم ذلك وعن فحشه، حتى قد ظهرت من كثير منهم عورات المجان والمحانيث والصبيان فيرقصون ويزفنون بحركات مطابقة، وتقطيعات متلاحقة كما يفعل أهل السفه والمجون.
وقد انتهى التواقح بأقوام منهم إلى أن يقولوا: إن تلك الأمور من أبواب القرب وصالحات الأعمال وأن ذلك يثمر صفاء الأوقات وسيئات الأحوال، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة وقول أهل البطالة والمخرقة.
قال الحافظ في "الفتح" (2/ 443) ولا يلزم من إباحة الضرب بالدف في العرس ونحو إباحة غيره من الآلات كالعود ونحوه.
قال القرطبي في "المفهم" (2/ 535): فأما الغناء بآلة فيمنع وبغير آلة اختلف الناس فيه: فمنعه أبو حنيفة وكرهه الشافعي ومالك وحكى أصحاب الشافعي عن مالك: أن مذهبه الإجازة من غير كراهة. قال القاضي: المعروف من مذهب مالك المنع لا الإجازة.
قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/ 257): "فلم ينكر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبي بكر تسميته الغناء (مزمار الشيطان)، وأقرهما لأنهما جاريتان غير مكلفتين، تغنيان بغناء الأعراب الذي قيل في يوم حرب بعاث من الشجاعة والحرب وكان اليوم يوم عيد".
قال أبو الطيب الطبري كما ذكره ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص 223 - 224): "هذا الحديث حجتنا لأن أبا بكر سمى ذلك مزمور الشيطان، ولم ينكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبي بكر قوله وإنما منعه من التغليظ في الإنكار لحسن رفعته لا سيما في يوم العيد. وقد كانت عائشة رضي الله عنها صغيرة في ذلك الوقت ولم ينقل عنها بعد بلوغها وتحصيلها إلا ذم الغناء وقد كان ابن أخيها القاسم بن محمد يذم الغناء ويمنع من سماعه وقد أخذ العلم عنها"(10/5225)
والربيع (1) كما في صحيح البخاري وغيره.
وأما التابعون فسعيد بن المسيب، وسالم بن عمرو بن حسان، وخارجة بن زيد وشريح القاضي، وسعيد بن جبير، وعامر الشعبي، وعبد الله بن أبي عتيق، وعطاء بن أبي رباح، ومحمد بن شهاب الزهري [5]، وعمر بن عبد العزيز، وسعد بن إبراهيم الزهري قاضي المدينة. وأما تابعوهم فخلق لا يحصون: منهم الأئمة الأربعة، وابن عيينة وجمهور الشافعية (2). انتهى كلام ابن النحوي.
واختلف هؤلاء المجوزون. فمنهم من قال بكراهته، قال الماوردي (3) كرهه ....
_________
(1) تقدم تخريجه
(2) تقدم ذكره. وانظر: "الحاوي" (21/ 203)
(3) في "الحاوي" (21/ 203)(10/5227)
مالك (1)، وأبو حنيفة (2)، والشافعي (3) في أصح ما نقل عنهم.
قال الأدفوي: ولا نص لأبي حنيفة، وأحمد على التحريم، ونقل عنهما أنهما سمعاه.
ومنهم من قال باستحبابه لكونه يرق القلب، ويهيج الأحزان والشوق إلى الله تعالى، وإلى ذلك ذهب جماعة من الأكابر كالقشيري، والأستاذ أبي منصور، والغزالي (4)، وابن عبد السلام، والسهروردي (5)، وابن دقيق العيد، وجمع من الصوفية (6) كأبي طالب وحكاه عن الجنيد. وجرى عليه ابن حزم (7) وغيره، وقال الأكثر بإباحته. قال الأدفوي وجزم به صاحب البدائع من الحنفية، قال صاحب الهداية (8) من الحنفية: وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي (9). وقد أطبق على إباحة الغناء الظاهرية (10)، وجماعة ...........
_________
(1) أما الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه نهى عن الغناء وعن استماعه، فقال: "إذا اشترى جارية مغنية كان له ردها بالعيب" وهو مذهب أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد وحده، فإنه قال: حكى أبو يحيى الصاحبي في كتابه أنه كان لا يرى به بأسًا.
انظر: "الرد على من يحب السماع" (ص 29 - 30). "إغاثة اللهفان" (1/ 245).
(2) قال صاحب "البناية" (8/ 172) ولا تقبل شهادة مخنث ... ولا نائحة ولا مغنية لأنهما ترتكبان محرمًا ... ولا من يغني للناس، لأنه يجمع الناس على ارتكاب كبيرة.
قال الطبري في "الرد على من يحب السماع" (ص 31): وأما الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - فإنه يكره ذلك مع إباحته شرب المثلث ويجعل سماع الغناء من الذنوب.
وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة، وسفيان الثوري، وحماد، وإبراهيم النخعي، والشعبي، وغيرهم، لا اختلاف بينهم في ذلك ... "
(3) تقدم ذكره. وانظر: "الحاوي" (21/ 203)
(4) انظر: "الإحياء" (2/ 285) وللأخ علي حسن كتاب بعنوان (كتاب إحياء علوم الدين في ميزان العلماء) فانظره فإنه مفيد في بابه.
(5) انظر كتاب: "عوارف المعارف" (5/ 118 - 119)
(6) انظر: "الإحياء" (2/ 285) وللأخ علي حسن كتاب بعنوان (كتاب إحياء علوم الدين في ميزان العلماء) فانظره فإنه مفيد في بابه.
(7) انظر: "المحلى" (9/ 59)
(8) انظر: "البناية في شرح الهداية" (8/ 177).
(9) في "المبسوط" (16/ 132).
(10) "المحلى" (9/ 59 - 61)(10/5228)
الصوفية (1)، ونصره الغزالي في الإحياء (2)، وأوضح أدلته، وأجاب عن أدلة المحرمين.
وقال أبو الفتوح في الإلماع (3) في تكفير من يحرم السماع: الأحاديث في إباحة الدف والغناء، أحاديث مشهورة. فمن أنكرها فسق، فإن رجح قول أبي حنيفة على فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كفر بالاتفاق انتهى.
ومن جملة ما استدل به على الجواز ما أخرجه البخاري في صحيحه (4)، وأبو داود (5) والترمذي (6) عن الربيع بنت معوذ أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - دخل عليهم صبيحة عرسها، وعندهم جاريتان تغنيان: وتقولان فيما يقولان: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال: "أما هذا فلا تقولاه، لا يعلم ما في غد إلا الله" وفي رواية للبخاري (7) "دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين" وللحديث ألفاظ. وفي الصحيحين (8) وسنن النسائي (9) عن عائشة قالت: دخل عليها أبو بكر في يوم فطر أو أضحى، وعندها قينتان تغنيان بما تقاولته الأنصار يوم بعاث والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مغشى بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عن وجهه وقال له: دعهما يا أبا بكر؛ فإن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا.
وأخرج النسائي في سننه (10) بإسناد صحيح، والطبراني في الكبير (11) أن امرأة جاءت
_________
(1) انظر: "إحياء علوم الدين" (2/ 285)
(2) انظر: "إحياء علوم الدين" (2/ 285)
(3) (ص 71)
(4) في صحيحه رقم (4001، 5147)
(5) في "السنن" رقم (4922)
(6) في "السنن" رقم (1090)
(7) في صحيحه رقم (4001) وقد تقدم
(8) البخاري في صحيحه رقم (52) ومسلم رقم (892) تقدم توضيحه
(9) في "السنن" رقم (3/ 196 - 197)
(10) في "السنن الكبرى" رقم (5/ 310). وفي "عشرة النساء" رقم (74).
(11) (7/ 158). قلت: وأخرجه أحمد (3/ 449) بسند صحيح.(10/5229)
إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال لعائشة: "أتعرفين هذه؟ " قالت: لا يا نبي الله، فقال: "هذه قينة بني فلان، أتحبين أن تغنيك؟ قالت: نعم، فغنتها".
وأخرج ابن ماجه (1) بسند رجاله ثقات عن أنس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مر في أزقة بعض المدينة بجوار من بني النجار يضربن بدفوفهن ويقلن:
نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار
فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "الله يعلم أني لأحبكن".
وأخرج أبو داود (2) والترمذي (3) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لما رجع من بعض مغازيه جاءته امرأة فقالت: يا نبي الله، إن نذرت إن ردك الله سالما [6] أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى، فقال: "أوف بنذرك" قال الترمذي (4) هذا حديث حسن صحيح، ورواه ابن حبان في صحيحه (5)، وفيه فقعد عليه السلام، وضربت الدف.
وفي بعض الروايات (6) أنها غنت بقولها:
_________
(1) في "السنن" رقم (1899) وهو حديث صحيح.
(2) في "السنن" رقم (3312) بإسناد حسن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(3) في "السنن" رقم (3690) من حديث بريدة. وهو حديث صحيح انفرد به الترمذي.
(4) في "السنن" رقم (5/ 621) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث بريدة.
(5) في صحيحه رقم (10/ 232 رقم 4386). وهو حديث صحيح.
قال الخطابي في "معالم السنن" (4/ 382) مع مختصر السنن: ضرب الدف ليس مما يعد في باب الطاعات التي يتعلق بها النذور وأحسن حاله أن يكون من باب المباح، غير أنه لما اتصل بإظهار الفرح بسلامة مقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قدم المدينة من بعض غزواته وكانت فيه مساءة الكفار وإرغام المنافقين صار فعله كبعض القرب من نوافل الطاعات ولهذا أبيح ضرب الدف".
قال الألباني في "تحريم آلات الطرب" (ص 125): ففيه إشارة قوية إلى أن القصة خاصة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهي حادثة عين لا عموم لها كما يقول الفقهاء في مثيلاتها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(6) وقال الألباني "وهذه زيادة باطلة هنا، وضعيفة في قصة قدومه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، وإسنادها معضل، وليس فيها بيان هل كان قدومه من تبوك كما ساقها ابن القيم في "مسألة السماع" (ص 265 - 266).
انظر: "الصحيحة" (5/ 331) و"الضعيفة" (2/ 63).(10/5230)
طلع البدرعلينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داعي (1)
وفي الباب عن عبد الله بن عمرو عند أبي داود (2)، وعن عائشة عند الفاكهي في تاريخ مكة (3) بسند صحيح. وأخرج النسائي (4) والحاكم (5) وقال: صحيح على شرط الشيخين. عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، قال: دخلت على ابن مسعود الأنصاري، وقرظة بن كعب، وثابت بن زيد، وعندهم جوار يغنين بدفوف لهن، فقلت: أتفعلون هذا وأنتم أصحاب محمد! فقالوا: نعم، رخص لنا في ذلك. وأخرج هذا الحديث أيضًا الدارقطني (6) وألزم الشيخين إخراجه.
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) في "السنن" رقم (3312) بإسناد حسن.
(3) عزاه إليه الحافظ في "التلخيص" (4/ 371).
(4) في "السنن" (6/ 135)
(5) في "المستدرك" (2/ 184).
(6) في "الإلزامات والتتبع" (ص 92).
هذا الحديث يرويه أبو إسحاق السبيعي، عن عامر بن سعد به، واختلف عليه فيه. فرواه شريك القاضي، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد قال: دخلت على قرظة بن كعب، وأبي مسعود، وثابت بن زيد.
ورواه عن شريك بهذه الكيفية: ابن أبي زائدة، ويحيى الحماني، ويحيى بن صبيح وعلي بن عابس.
"المعرفة" (3/ 240 - 241) لأبي نعيم. "الموضح" للخطيب (2/ 11 - 12).
وثابت بن زيد: اختلف في اسمه على أوجه.
انظر: "معجم الصحابة" (1/ 131) لابن قانع.
ورواه كل من: علي بن حجر، وأبو غسان، والهيثم بن جميل عن شريك، عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد، به، ولكنهم لم يذكروا "ثابت بن زيد". أخرجه النسائي في "السنن" رقم (6/ 135) والطبراني في "المعجم الكبير" (17/ 248) (19/ 39) مختصرًا. والحاكم في "المستدرك" (2/ 184) ولعل هذا من شريك، فإنه كان سيئ الحفظ كما هو معروف، وزد على هذا أنه خولف، فرواه إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، واختلف عنه: فرواه عبد الله بن رجاء، عنه، عن أبي إسحاق عن عامر، به، وذكر فيه "أبي بن كعب" بدلاً من "قرظة بن كعب".
أخرجه الطبراني في "الكبير" (7/ 247) والحاكم في "المستدرك" (1/ 102) من طريق يحيى الحماني عن إسرائيل، عن عثمان بن أبي زرعة، عن عامر بن سعد به، وخالفهما شعبة - ولعل هذا هو المحفوظ - فرواه عن أبي إسحاق، عن عامر قال: شهدت ثابت بن وديعة، وقرظة بن كعب الأنصاري في عرس ... الحديث. هكذا بدون ذكر لـ (أبي مسعود) في الحديث.
أخرجه الطيالسي في "مسنده" (ص 169) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 289) والحاكم (2/ 184) وصححه.(10/5231)
وأخرج الحاكم في المستدرك (1)، والترمذي (2)، وابن ماجه (3) أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "فضل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت" يعني في النكاح. صححه الحاكم (4)، وألزم الدارقطني (5) الشيخين إخراجه.
وفي البخاري (6) من حديث عائشة قالت: زففنا امرأة لرجل من الأنصار، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "أما كان معكم لهو؛ فإن الأنصار تحب اللهو" وأخرج عبد الرزاق (7) بسند صحيح عن ابن عمران أن داود عليه السلام كان يأخذ المعزفة، فيضرب بها فيقرأ عليها، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لما سمع أبا موسى يقرأ: "لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود" كما في المتفق عليه (8) من حديثه.
_________
(1) (2/ 184).
(2) في "السنن" رقم (1088).
(3) في "السنن" رقم (1896).
قلت: وأخرجه أحمد (3/ 418) من طرق عن هشيم، عن أبي بلج، عن محمد بن حاطب، به. وهو حديث حسن.
(4) في "المستدرك" (2/ 184).
(5) في "الإلزامات والتتبع" (ص 70)
(6) في صحيحه رقم (5162)
(7) في "المصنف" (2/ 481).
(8) أخرجه البخاري رقم (5048) ومسلم رقم (793)(10/5232)
والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وقد قيل أنها متواترة، وبها استدل من قال بجواز الضرب بالدف، وهو مروي عن الجمهور، بل قال ابن طاهر (1) إنه سنة مطلقا لحديث المرأة الناذرة، ولا يصح النذر إلا في قربة.
وعن الإمام أحمد (2) أنه سنة في العرس والختان، وشذ من قال بتحريمه. وقيل بكراهته في غيرهما. وأما ما روي عن ابن الصلاح (3) أنه قال: إن اجتماع الدف والشبابة لم يقل
_________
(1) في كتاب "السماع" (ص 51).
(2) ذكره ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص 293).
وقال ابن رجب في "نزهة الأسماع" (ص 69 - 70) قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى الطباع قال: سألت مالك بن أنس عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: "إنما يفعله عندنا الفساق".
انظر: "المدونة" (4/ 421)، "مسائل عبد الله" رقم (449).
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول: سمعت يحيى القطعان يقول: "لو أن رجلاً عمل بكل رخصة بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة لكان فاسقًا".
"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (ص 17) للخلال. "مسائل عبد الله" رقم (449).
(3) في "فتاوى ومسائل ابن الصلاح" (2/ 499) مسألة رقم (488). أقوام يقولون: إن سماع الغناء بالدف والشبابة حلال، وإن صدر الغناء والشبابة من أمرد دلق حسن الصوت كان ذلك نور على نور وذلك يحضرهم النساء الأجنبيات ... ثم يتفرقون عن السماع بالرقص والتصفيق ويعتقدون أن ذلك حلال وقربة يتوصلون بها إلى الله تعالى.".
فأجاب ابن الصلاح: ليعلم أن هؤلاء من إخوان أهل الإباحة الذين هم أفسد فرق الضلالة ... ولقد كذبوا على الله سبحانه وتعالى وعلى عباده الذين اصطفى، أحبولة نصبوها من حبائل الشيطان خداعًا، وأعجوبة من حوادث الزمان جلبوها خداعًا للعوام.
ثم قال (ص 500): وأما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع والحلال المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل في الشبابة منفردًا والدف منفردًا ... ".
وانظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 228).(10/5233)
بجوازه أحد، وأن من قال بإباحة المفردات لم يقل بإباحتها مجتمعة. فقد رد ذلك عليه جماعة من المحققين كالتاج السبكي وغيره.
وقال الأدفوي: نظرت في نحو مائة مصنف، لم أجد ما ذكره لأحد، وأطال الكلام معه. وقد احتج المحرمون للغناء بأدلة منها قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} (1) وفي الآية الوعيد على ذلك، ولا يكون إلا على حرام.
ولهو الحديث. قال ابن مسعود: هو الغناء، وأشباهه، وأجيب (2) عن ذلك بأن ذلك فيمن فعله ليضل عن سبيل الله، كما يشهد لذلك السبب، وقد سمى الله الحياة الدنيا لعبًا ولهوًا فقال: {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو} (3)؛ فلو كان اللهو محرمًا لكان جميع ما في الدنيا كذلك.
وأخرج الفريابي (4)، وعبد [بن] حميد (5) عن محمد بن الحنفية قال في قوله تعالى:
_________
(1) [لقمان: 6]. أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 223) وابن أبي شيبة (6/ 309) والحاكم (2/ 411) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي وقال: حميد هو ابن زياد صالح الحديث.
وأخرجه ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (11\ جـ 21/ 61)، وابن كثير في تفسيره (6/ 331) وهو أثر صحيح.
(2) قال الواحدي في تفسيره "الوسيط" (3/ 441): "أكثر المفسرين على أن المراد بـ {لهو الحديث} الغناء، قال أهل المعاني ويدخل في هذا كل من اختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن، وإن كان اللفظ ورد بـ (الاشتراء) لأن هذا اللفظ يذكر بالاستبدال والاختيار كثيرًا.
(3) [محمد: 36]
(4) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 283)، وابن كثير في تفسيره (6/ 130).
وأخرجه ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (11/ 48) عن مجاهد في قوله: {والذين لا يشهدون الزور} قال: لا يسمعون الغناء.
ثم قال: وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه أنه خلاف ما هو به، والشرك قد يدخل في ذلك، لأنه محسن لأهله، حتى قد ظنوا أنه حق، وهو باطل ويدخل فيه الغناء لأنه أيضًا مما يحسنه ترجيع الصوت، حتى يستحل سامعه سماعه، والكذب يدخل فيه لتحسين صاحبه إياه، حتى يظن صاحبه أنه الحق، فكل ذلك مما يدخل في معنى الزور ... ".
(5) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 283)، وابن كثير في تفسيره (6/ 130).
وأخرجه ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (11/ 48) عن مجاهد في قوله: {والذين لا يشهدون الزور} قال: لا يسمعون الغناء.
ثم قال: وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه أنه خلاف ما هو به، والشرك قد يدخل في ذلك، لأنه محسن لأهله، حتى قد ظنوا أنه حق، وهو باطل ويدخل فيه الغناء لأنه أيضًا مما يحسنه ترجيع الصوت، حتى يستحل سامعه سماعه، والكذب يدخل فيه لتحسين صاحبه إياه، حتى يظن صاحبه أنه الحق، فكل ذلك مما يدخل في معنى الزور ... ".(10/5234)
{والذين لا يشهدون الزور} (1) هو الغناء واللهو. وأخرج نحو ذلك عبد بن حميد (2) عن أبي الجحاف. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم (3) عن الحسن، ومن ذلك حديث النهي عن بيع المغنيات، وعن شرائهن، وعن كسبهن، وأكل أثمانهن كما أخرجه [7] الترمذي (4) وابن ماجه (5)، وسعيد بن منصور (6) من حديث أبي أمامة، وأخرجه أبو الطيب الطبري (7) من حديث عائشة.
وأخرج الطبراني (8) من حديث عمر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "ثمن
_________
(1) [الفرقان: 72].
(2) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 283) وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره رقم (15450).
(3) في تفسيره رقم (15462).
(4) في "السنن" رقم (1282، 3195) من حديث أبي أمامة.
قال الترمذي عقب الحديث رقم (1282) حديث أبي أمامة، إنما نعرفه مثل هذا من هذا الوجه، وقد تكلم بعض أهل العلم في علي بن يزيد وضعفه وهو شامي.
وقال الترمذي عقب الحديث رقم (3195): هذا حديث غريب إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة، والقاسم ثقة، وعلي بن يزيد يضعف في الحديث. قال: سمعت محمدًا - البخاري - يقول: القاسم ثقة وعلي بن يزيد يضعف.
قلت: علي بن يزيد قد توبع.
وعبيد الله بن زجر قواه أحمد بن صالح وأبو زرعة والنسائي والبخاري.
"الميزان" (3/ 6 - 7 رقم 5359). والقاسم صدوق.
(5) في "السنن" رقم (2168). وهو حديث حسن.
(6) لم أجده.
(7) لم أجده.
(8) في "المعجم الكبير" (1/ 73 رقم 87) عن عمر بن الخطاب قال: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ثمن القينة سحت ومن نبت لحمه على السحت فالنار أولى به".
وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 91) وفيه يزيد بن عبد الملك النوفلي وهو متروك ضعفه جمهور الأئمة ونقل عن ابن معين في رواية لا بأس به وضعفه في أخرى.
انظر: "الميزان" (4/ 433 - 434 رقم 9726).
قال النسائي: متروك. قال أحمد: عنده مناكير. وقال أبو زرعة: ضعيف وقال ابن عدي عامة ما يرويه غير محفوظ.
وهو حديث ضعيف. انظر: "الضعيفة" رقم (3458).(10/5235)
القينة وغناؤها حرام، وأخرج البيهقي (1) عن أبي هريرة يرفعه: "لا تبيعوا المغنيات ولا تشروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام" وأخرج ابن صصري في أماليه (2)، وابن عساكر في تاريخه (3) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "من قعد إلى قينة يستمع منها صب في إذنه الآنك يوم القيامة".
وأخرج الحميدي في مسنده (4) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يحل ثمن المغنية، ولا بيعها، ولا شراؤها، ولا الاستماع إليها" وأخرج الديلمي (5) عن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "ثلاثة لا حرمة لهم: النائحة لا حرمة لها، ملعون كسبها، والمغنية لا حرمة لها ممحوق مالها، ملعون من اتخذها، وآكل الربا لا حرمة له، ممحوق ماله".
وأخرج ابن أبي الدنيا (6)، والطبراني (7)، .....................
_________
(1) في "السنن الكبرى" (6/ 14 - 15) من حديث عائشة.
(2) عزاه إليه صاحب "كنز العمال" (5/ 220 - 221) من حديث أنس.
وانظر: "المحلى" (9/ 57).
(3) عزاه إليه صاحب "كنز العمال" (5/ 220 - 221) من حديث أنس.
وانظر: "المحلى" (9/ 57).
(4) تقدم من حديث أبي أمامة
(5) في "مسنده" (2/ 68) بسند واه.
(6) في "ذم الملاهي" (ص 46 - 47 رقم 43) بإسناد ضعيف جدًا.
(7) في "الكبير" رقم (7749) من طريق الوليد بن الوليد عن ابن ثوبان عن يحيى بن الحارث عن القاسم عن أبي أمامة، به. وسنده ضعيف، فيه الوليد بن الوليد وقيل ابن أبي الوليد، لين الحديث.
"التقريب" (1/ 474).
وأخرجه الطبراني في "الكبير" رقم (7825) من طريق ابن أبي مريم عن يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم به.
وأورده الهيثمي في "المجمع" (8/ 119 - 120) وقال: رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها وثقوا وضعفوا(10/5236)
وابن مردويه (1) عن أبي أمامة يرفعه من حديث: "والذي بعثني بالحق، ما رفع رجل عقيرته بالغناء إلا بعث الله له شيطانين يردفان على عاتقه، ثم لا يزالان يضربان بأرجلهما على صدره، حتى يكون هو الذي يسكت" وأخرج ابن صصري في أماليه (2) عن ابن عباس يرفعه: "إياكم واستماع المعازف والغناء، فإنهما ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل" وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (3)، والبيهقي في السنن (4) عن ابن مسعود أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل" وأخرج نحوه البيهقي (5) عن جابر يرفعه، وأخرج نحوه أيضًا الديلمي (6) عن أنس، وأخرج البزار (7)، والضياء المقدسي (8)، وابن ....................
_________
(1) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (5/ 195).
(2) عزاه إليه صاحب "كنز العمال" (15/ 220).
(3) (ص 45 رقم 41)
(4) (10/ 223) وقال البيهقي في "الشعب" (9/ 329) روي مسندًا بإسناد غير قوي وأخرجه أبو داود رقم (4927) من طريق سلام بن مسكين، به عن شيخ شهد أبا وائل في وليمة فجعلوا يلعبون، يتلعبون، يغنون، فحل أبو وائل حبوته، وقال: سمعت عبد الله يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "الغناء ينبت النفاق في القلب".
وهو حديث ضعيف. انظر: "الضعيفة" رقم (2430).
(5) في "الشعب" (9/ 329). وهو حديث ضعيف جدًا.
(6) في "مسنده" (2/ 322) وهو حديث ضعيف جدًا.
(7) في "مسنده" رقم (795 - كشف) وقال البزار: لا نعلمه عن أنس إلا بهذا الإسناد.
(8) في "المختارة" (6/ 188\ 2200، 2201).(10/5237)
مردويه (1)، وأبو نعيم (2)، والبيهقي (3) عن أنس وعائشة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة" وأخرج ابن سعد (4)، والبيهقي في السنن (5) عن جابر أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، عند نعمة لهو ولعب ومزامير الشياطين، وصوت عند مصيبة، وخمش وجه، وشق جيوب، ورنة شيطان".
وأخرج الديلمي (6) عن أبي أمامة مرفوعًا: "إن الله يبغض صوت الخلخال كما يبغض صوت الغناء" والأحاديث المروية في هذا الجنس في هذا الباب في غاية الكثرة. وقد جمع منها جماعة من العلماء مصنفات كابن حزم، وابن طاهر، وابن أبي الدنيا، وابن حمدان الأربلي، والذهبي، وغيرهم، وأكثر الأحاديث المذكورة فيها في النهي عن آلات الملاهي.
_________
(1) عزاه إليه صاحب "كنز العمال" (15/ 222).
(2) من حديث عائشة عزاه إليه صاحب "كنز العمال" (15/ 222).
(3) انظر المصدر السابق.
وهو حديث صحيح. وله شاهد من حديث جابر سيأتي.
(4) في "الطبقات" (1/ 138).
(5) في "السنن الكبرى" (4/ 69) و"الشعب" (7/ 241 رقم 1063، 1064).
قلت: وأخرجه الحاكم (4/ 40) وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" رقم (64). والطيالسي في مسنده رقم (1683) وابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 393) والبغوي في "شرح السنة" (5/ 430 - 431) وأخرجه الترمذي رقم (1005) مختصرًا. وهو حديث حسن لغيره.
قال ابن تيمية في "الاستقامة" (1/ 292 - 293): "هذا الحديث من أجود ما يحتج به على تحريم الغناء كما في اللفظ المشهور، عن جابر بن عبد الله" صوت عند نعمة: لهو ولعب، ومزامير الشيطان" فنهى عن الصوت الذي يفعل عند النعمة، كما نهى الصوت الذي يفعل عند المصيبة، والصوت الذي عند النعمة هو صوت الغناء".
(6) في "مسنده" (1/ 244) بإسناد ضعيف جدًا.(10/5238)
وقد أجاب المجوزون للغناء عن هذه الأحاديث فقال الأدفوي في الإمتاع (1) وقد ضعف هذه الأحاديث الواردة في هذا الباب جماعة من الظاهرية، والمالكية، والحنابلة، والشافعية [8]. ولم يحتج بها الأئمة الأربعة. ولا داود ولا سفيان، وهم رءوس المجتهدين، وأصحاب المذاهب المتبعة. وقد ذكر أبو بكر بن العربي في كتابه الأحكام (2) الأحاديث في ذلك، وضعفها وقال: لم يصح (3) في التحريم شيء يعني من جميع الأحاديث
_________
(1) انظر كتاب: "السماع" لابن طاهر (ص 41).
(2) (3/ 1493 - 1494).
(3) قال المحدث الألباني في "تحريم آلات الطرب" (ص 80):
سبق أن رددت على ابن حزم وغيره من الطاعنين في الأحاديث الصحيحة في المقدمة، وفي أثناء تخريج الأحاديث الستة الصحيحة المتقدمة والذي أريد بيانه الآن. أن أحاديث التحريم بالنسبة لابن حزم ونظرتنا إليها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما ضعفه منها، وهو مخطئ.
الثاني: ما لم يقف عليه منها، أو وقف على بعض طرقها دون بعض ولو وقف عليها وثبتت عنده لأخذ بها، فهو معذور - خلافًا لمقلديه ولا سيما، وقد عقب على ضعف منها بقوله حالف غير حانث إن شاء الله.
"المحلى" (9/ 59).
"والله لو أسند جميعه، أو واحد منه فأكثر من طريق الثقات إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ترددنا في الأخذ به".
هذا الذي نظنه فيه، والله حسيبه، وأما المقلدون له بعد أن قامت عليهم الحجة وتبينت لهم المحجة، فلا عذر لهم ولا كرامة، بل مثلهم كمثل ناس في الجاهلية كانوا يعبدون الجن، فأسلم هؤلاء، واستمر أولئك في عبادتهم وضلالهم كما قال تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورًا}.
الثالث: ما ضعفه منها، ولم يبد لنا اعتراض عليه، فلا شأن لنا به. فسيكون ردي عليه إذن في القسم الأول والثاني فأقول وبالله التوفيق:
القسم الأول: انتقد ابن حزم - الحديث الذي أخرجه البخاري معلقًا - تقدم توضيحه - وهو حديث صحيح. قد صححه: البخاري، ابن الصرح، ابن القيم، ابن حبان، النووي، ابن كثير، السخاوي، الإسماعيلي، ابن تيمية، العسقلاني، ابن الأمير الصنعاني، ابن الوزير الصنعاني.
وانتقد أيضًا ابن حزم الحديث الصحيح.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله حرم علي - أو حرم - الخمر والميسر والكوبة، وكل مسكر حرام".
رواه عنه قيس بن حبتر النهشلي وله عنه طريقان:
الأولى: عن علي بن بذيمة: حدثني قيس بن حبتر النهشلي عنه.
أخرجه أبو داود رقم (3696) والبيهقي (10/ 221) وأحمد (1/ 274) وفي "الأشربة" رقم (193) وأبو يعلى في مسنده رقم (2729) وعنه ابن حبان في صحيحه رقم (5365) والطبراني في "المعجم الكبير" (12/ 101 - 102 رقم 12598، 12599) من طريق سفيان عن علي بن بذيمة، قال سفيان: قلت لعلي بن بذيمة: "ما الكوبة؟ قال: الطبل".
الثانية: عن عبد الكريم الجزري عن قيس بن حبتر بلفظ: "إن الله حرم عليهم الخمر، والميسر، والكوبة - وهو الطبل - وقال: كل مسكر حرام".
أخرجه أحمد (1/ 289) وفي "الأشربة" رقم (14) والطبراني رقم (12601) والبيهقي (10/ 213).
قال الألباني في "تحريم آلات الطرب" (ص 56): هذا إسناد صحيح من طريقه عن قيس هذا، وقد وثقه أبو زرعة، ويعقوب في "المعرفة" (3/ 194) وابن حبان في "الثقات" (5/ 308) والنسائي والحافظ في "التقريب" واقتصر الذهبي في "الكاشف" على ذكر توثيق النسائي. وأقره.
وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" في الموضعين (4/ 158، 218).
أعله ابن حزم بجهالة تابعيه (قيس بن حبتر النهشلي) وهذا من ضيق عطنه وقلة معرفته، فقد وثقه جمع من المتقدمين والمتأخرين.
قال الحافظ بن حجر في "التهذيب" (3/ 446) وقال ابن حزم: مجهول وهو نهشلي من بني تميم.
القسم الثاني: وهو ما لم يقف عليه منها أو وقف على بعض طرقها دون البعض.
(منها) حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة، مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة". تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
وله شاهد من حديث جابر بن عبد الله عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إني لم أنه عن البكاء، ولكني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة - لهو ولعب - ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة ولطم وجوه، وشق جيوب ورنة شيطان". تقدم تخريجه. وهو حديث حسن لغيره.
قال ابن حزم في "المحلى" (9/ 57 - 58) وفي رسالته (ص 97): "لا يدرى من رواه"؟!.
فهذا دليل على صحة قول الحافظ ابن عبد الهادي في ابن حزم: "وهو كثير الوهم في الكلام على تصحيح الحديث وتضعيفه وعلى أحوال الرواة".
انظر: "تحريم آلات الطرب" (ص 54، 90).
ومنها أحاديث لم يذكرها:
1 - ما أخرجه البيهقي (10/ 222) بإسناد حسن رجاله ثقات عن قيس بن سعد رضي الله عنه وكان صاحب راية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك - يعني حديث مولى ابن عمرو المتقدم - قال: "والغبيراء، وكل مسكر حرام".
2 - وأخرج الترمذي في "السنن" رقم (2213) من طرق عن عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن هلال بن يساف، عن عمران بن حصين، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "في هذه الأمة خسف، ومسخ، وقذف" فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله! ومتى ذاك؟ قال: "إذا ظهرت القينات والمعازف. وشربت الخمور".
وهو حديث حسن. انظر: "الصحيحة" رقم (1604).(10/5239)
الواردة في تحريم الغناء والآلات اللهوية، وهكذا قال ابن طاهر: إنه لم يصح فيها حرف واحد.
وقال الشيخ علاء الدين القونوي في شرح التعرف، قال أبو محمد بن حزم: لا يصح في هذا الباب شيء، ولو ورد لكنا أول قائل به، وكلما ورد فيه فموضوع، ثم حلف على ذلك وقال: والله لو أسند واحد حديثًا واحدًا فأكثر من طريق الثقات فهو إلى غير رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ولا حجة في أحد دونه. كما روي عن ابن عباس وابن مسعود في تفسير قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} (1) أنهما
_________
(1) [لقمان: 6].
عن ابن عباس.
أخرجه البيهقي في "السنن" رقم (10/ 223) وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" رقم (27). وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص 219) والبخاري في "الأدب المفرد" (265، 786).
وانظر: "جامع البيان" (11/ جـ 21/ 61) لابن جرير الطبري، "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (6/ 331) وهو أثر صحيح.
أثر ابن مسعود أثر صحيح. تقدم تخريجه.(10/5241)
فسرا لهو الحديث بالغناء.
قال ابن حزم (1) ونص الآية يبطل احتجاجهم بها لقوله تعالى: {ليضل عن سبيل الله} (2)، وهذه صفة من فعلها كان كافرًا، ولو أن شخصًا اشترى مصحفًا ليضل عن سبيل الله، ويتخذها هزوًا لكان كافرًا، فهذا هو الذي ذم الله تعالى، وما ذم من اشترى لهو الحديث ليروح به نفسه، لا ليضل به عن سبيل الله قال: واحتجوا فقالوا: من الحق الغناء أم من غير الحق، ولا ثالث لهما. وقد قال تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (3) وجوابنا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيات" (4) فمن نوى بالغناء عونًا على معصية، فهو فاسق، وكذا بكل شيء غير الغناء، ومن نوى به
_________
(1) في "المحلى" (9/ 60) تقدم التعليق على ذلك.
(2) قال في "المحرر الوجيز" (13/ 9): والآية باقية المعنى في أمة محمد، ولكن ليس ليضلوا عن سبيل الله بكفر. ولا يتخذوا الآيات هزوًا، ولا عليهم هذا الوعيد بل ليعطل عبادة، ويقطع زمانًا بمكروه، وليكون من جملة العصاة والنفوس الناقصة ...
(3) [يونس: 32]
(4) تقدم تخريجه.
قال ابن تيمية في "مجموع فتاوى" (11/ 630): وذلك أن الكلام في السماع وغيره من الأفعال على ضربين:
أحدهما: هل هو محرم؟ أم غير محرم؟ بل يفعل كما يفعل سائر الأفعال التي تلتذ بها النفوس، وإن كان فيها نوع من اللهو واللعب كسماع الأعراس وغيرها. مما يفعله الناس لقصد اللذة واللهو لا لقصد العبادة والتقرب إلى الله.
النوع الثاني: أن يفعل على وجه الديانة، والعبادة، وصلاح القلوب، وتجريد حب العباد لربهم، وتزكية لنفوسهم، وتطهير قلوبهم، وأن تحرك من القلوب الخشية، والإنابة، والحب، ورقة القلوب.
ثم قال رحمه الله (11/ 631 - 632): ومن المعلوم أن الدين له أصلان. فلا دين إلا ما شرع الله ولا حرام إلا ما حرم الله والله تعالى عاب على المشركين أنهم حرموا ما لم يحرمه الله، وشرعوا دينًا لم يأذن به الله.
ولو سئل: عمن يقوم في الشمس. قال: هذا جائز، فإذا قيل: إنه يفعله على وجه العبادة. قال: هذا منكر.
ولهذا من حضر السماع للعب واللهو لا يعده من صالح عمله، ولا يرجو به الثواب وأما فعله على أنه طريق إلى الله تعالى فإنه يتخذه دينًا، وإذا نهى عنه كان كمن نهى عن دينه، ورأى أنه قد انقطع عن الله، وحرم نصيبه من الله تعالى إذا تركه، فهؤلاء ضلال باتفاق علماء المسلمين: إن اتخاذ هذا دينًا وطريقًا إلى الله تعالى أمر مباح، بل من جعل هذا دينًا وطريقًا إلى الله تعالى فهو ضال، مغتر، مخالف لإجماع المسلمين".(10/5242)
ترويح النفس ليقوى به على الطاعات، ويبسط نفسه بتلك على البر فهو محسن، وفعله هذا من الحق، ومن لم ينو لا طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه كخروج الإنسان إلى بستانه، وقعوده على بابه متفرجًا، ومد ساقه، وقبضها وغير ذلك (1).
وقال العلامة مفتي العرب أبو القاسم عيسى بن العلامة ناجي التنوخي المالكي في شرح رسالة أبي يزيد، قال الفاكهاني: لم أعلم في كتاب الله، ولا في السنة حديثًَا صحيحًا صريحًا في تحريم الملاهي، وإنما هي ظواهر وعمومات يتأنس بها لا أدلة قطعية (2).
واستدل ابن رشد بقوله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه} (3) وأي دليل في ذلك على تحريم الملاهي والغناء وللمفسرين فيها أربعة أقوال:
الأول: أنها نزلت في قوم من اليهود. أسلموا فكان اليهود يلقونهم بالسب والشتم،
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) هذا كلام مردود فانظر ما تقدم من الأحاديث.
(3) [القصص: 55](10/5243)
فيعرضون عنهم.
الثاني: أن اليهود أسلموا فكانوا إذا سمعوا ما غيره اليهود وبدلوا من بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وصفته أعرضوا عنه، وذكروا الحق.
الثالث: أنهم المسلمون إذا سمعوا الباطل لم يلتفتوا إليه.
الرابع: أنهم ناس من أهل الكتاب لم يكونوا يهود ولا نصارى، وكانوا على دين الله كانوا ينتظرون بعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فلما سمعوا به بمكة فعرض عليهم القرآن [9] فأسلموا، وكان الكفار من قريش يقولون لهم: أف لكم اتبعتم غلامًا كرهه قومه، وهم أعلم به منكم، وهذا الأخير قاله ابن العربي في أحكامه (1).
وليت شعري كيف يقوم الدليل من هذه الآية على تحريم الملاهي! واستدل بقوله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (2) وهذا لا صراحة فيه كما تقدم.
واستدل أيضًا بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "كل لهو يلهو به المؤمن هو باطل إلا ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه فرسه، ورميه عن قوسه" (3).
_________
(1) (3/ 1482).
قال ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (11\ جـ 20/ 90 - 91): يقول تعالى ذكره وإذا سمع هؤلاء القوم الذين آتيناهم الكتاب: اللغو، وهو الباطل من القول ..
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} لا يجارون أهل الجهل والباطل في باطلهم، آتاهم من أمر الله ما وقذهم عن ذلك.
وبما أن السماع لغو .. وباطل .. فهو محرم.
(2) [يونس: 32].
انظر: "مجموع الفتاوى" (11/ 631 - 632) وقد تقدم توضيح ذلك.
(3) أخرجه أحمد (4/ 144) والترمذي رقم (1637) وابن ماجه رقم (2811) وابن أبي شيبة في مصنفه (9/ 22) وهو حديث ضعيف.
ولكن هناك حديث حسن أخرجه الترمذي رقم (2322) وابن ماجه رقم (4112) والبيهقي في "شعب الإيمان" رقم (1708).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله، وما والاه، وعالمًا ومتعلمًا".
وأخرج الطبراني كما في "المجمع" (10/ 222): عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ما ابتغي به وجه الله ". وهو حديث حسن.(10/5244)
قال الغزالي (1) قلنا: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: فهو باطل، لا يدل على تحريها، بل يدل على عدم الفائدة. وقد سلم ذلك على أن التلهي بالنظر إلى الحبشة وهم يرقصون في مسجده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كما ثبت في الصحيح (2) خارج عن تلك الأمور الثلاثة (3).
والجواب الجواب، وقد سلم الإمام حجة الإسلام الغزالي (4) عدم قيام دليل يدل على تحريم سماع الغناء والدف والشبابة، وانتصر للقول بإباحتها.
وقال: القياس: تحليل العود، وسائر الملاهي، ولكن ورد ما يقتضي التحريم. قال ابن النحوي في العمدة بعد أن نقل عنه ذلك.
_________
(1) في "الإحياء" (5/ 166).
(2) البخاري في صحيحه رقم (454) وأطرافه [455، 950، 988، 2906، 3539، 3931، 5190، 5236] من حديث عائشة.
(3) والرد على الغزالي في شرح ابن حجر لفوائد الحديث السابق.
قال الحافظ في "الفتح" (1/ 549): واللعب بالحراب ليس لعبًا مجردًا بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدو. وقال المهلب: المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه.
وقال الحافظ في "الفتح" (2/ 445): واستدل به على جواز اللعب بالسلاح على طريق التواثب للتدريب على الحرب والتنشيط عليه. واستنبط منه جواز المثاقفة لما فيها من تمرين الأيدي على آلات الحرب.
(4) والرد على الغزالي في شرح ابن حجر لفوائد الحديث السابق.
قال الحافظ في "الفتح" (1/ 549): واللعب بالحراب ليس لعبًا مجردًا بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدو. وقال المهلب: المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه.
وقال الحافظ في "الفتح" (2/ 445): واستدل به على جواز اللعب بالسلاح على طريق التواثب للتدريب على الحرب والتنشيط عليه. واستنبط منه جواز المثاقفة لما فيها من تمرين الأيدي على آلات الحرب.(10/5245)
قلت: لا يصح يعني ما يقتضي تحريم العود، وسائر الملاهي، وجملته ما استدل به القائلون بتحريم آلات الملاهي ما أخرجه أبو داود (1) أن ابن عمر سمع مزمارًا فوضع أصبعه في أذنيه، ونأى عن الطريق، وقال: يا نافع هل تسمع شيئًا قال: لا، فوضع أصبعه، وقال: كنت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فسمع مثل هذا.
والجواب: أولاً: بأن الحديث ضعيف (2)، قال اللؤلؤي، قال أبو داود: هذا الحديث منكر. وقال أبو محمد بن حزم: خرجه أبو داود وأنكره.
وثانيًا: أنه لو صح فهو حجة الإباحة لأنه لو كان حرامًا لما أباحه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عمر، ولا ابن عمر لنافع ولنهي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك وأمر بالسكوت عنه، أو بكسر الآلة، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فإن قيل: فلم سد سمعه عنه؟ قيل: إما لكونه في ذلك الوقت في حال مع ربه لا يجب أن يشتغل عنه فيه بغيره، كما قال لي وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل أو لأنه تجنبه كما تجنب كثيرًا من المباحات، كالأكل متكئًا، وأن يبيت في بيته دينار أو درهم، وأن تعلق الستر على سهوة في البيت، وأمثال ذلك (3).
_________
(1) في "السنن" رقم (4924) وأحمد (2/ 8، 38) وابن سعد (4/ 163) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 222). وابن حبان في صحيحه رقم (2113 - موارد).
(2) بل هو حديث صحيح.
(3) قال ابن تيمية مفرقًا بين السماع والاستماع تعليقًا على حديث عائشة: "وليس في حديث الجاريتين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استمع إلى ذلك، والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع، لا بمجرد السماع كما في الرؤية، فإنه إنما يتعلق بقصد الرؤية لا ما يحصل منها بغير الاختيار، كذلك في اشتمام الطيب إنما ينهى المحرم عن قصد الشم، فأما إذا شم ما لا يقصده فإنه لا إثم عليه وكذلك في مباشرة المحرمات كالحواس الخمس من السمع والبصر والشم والذوق واللمس، إنما يتعلق الأمر والنهي في ذلك بما للعبد فيه قصد وعمل، وأما ما يحصل بغير اختياره فلا أمر فيه ولا نهي.
وهذا مما وجه به حديث ابن عمر: أنه لم يكن يستمع، إنما كان يسمع وهذا لا إثم فيه، وإنما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدل طلبًا للأكمل والأفضل، كمن اجتاز بطريقة فسمع قومًا يتكلمون بكلام محرم فسد أذنيه كيلا - يسمعه فهذا أحسن، ولو لم يسد أذنيه لم يأثم بذلك اللهم إلا أن يكون في سماعه ضرر ديني لا يندفع إلا بالسد".
قال في "عون المعبود" (4/ 435) وتقرير الراعي لا يدل على إباحته لأنها قضية عين، فلعله سمعه بلا رؤية، أو بعيدًا منه على رأس جبل، أو مكان لا يمكن الوصول إليه، أو لعل الراعي لم يكن مكلفًا فلم يتعين الإنكار عليه.
تقدم أن (المعازف) هي آلات اللهم كلها لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك.
أخرج حديث عمر النسائي في "السنن" رقم (2/ 178) وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 270) بسند صحيح. قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: كتب عمر بن عبد العزيز إلى (عمر بن الوليد) كتابًا فيه: " ... وإظهارك المعازف والمزمار بدعة في الإسلام، ولقد هممت أن أبعث إليك من يجز جمتك حمة سوء".
والخلاصة: أن العلماء والفقهاء. وفيهم الأئمة الأربعة، متفقون على تحريم آلات الطرب إتباعًا للأحاديث النبوية، وآثار السلف وإن صح عن بعضهم خلافه فهو محجوج بما ذكر، والله عز وجل يقول: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا}.
الاستقامة" (1/ 281 - 282)، "منهاج السنة" لابن تيمية (3/ 439)، "تلبيس إبليس" (ص 244).(10/5246)
واعلم أنه قد استدل المحرمون بأدلة عقلية:
أحدها: أن الغناء ولا سيما بالآلات المطربة تدعو إلى شرب الخمر، لأن اللذة عند أهل السماع في الغالب إنما تتم بشربه.
الثاني: أنها تذكر غير الشارب لمجالس الشرب، فتنبعث لذلك الشهوة، فيكون الإقدام على الحرام.
الثالث: أن الاجتماع عليها لما صار عادة أهل الفسوق كان محرمًا لحديث: "من تشبه بقوم فهو منهم" (1). وأجيب عن الأول بالمنع، والسند أن اللذة الكاملة تحصل بمجرد السماع من غير احتياج إلى أمر آخر مسكر أو غيره بدليل الحس والوجدان؛ فإن من لا شعور له بشرب المسكر كالبهائم التي هي أغلظ من بني آدم لذلك، فتستحق
_________
(1) تقدم تخريجه.(10/5247)
الأحمال الثقال، وتستقصر المسافات الطوال، كما ذلك معلوم من حال الإبل [10] عند سماع الحادي المجيد، وربما أفضى ذلك إلى تلفها، وأيضًا لو سلم أن السماع بمجرده ليفضي إلى الشراب في حق قريب العهد به، فإنما يحرم استعمالها في حق من كان كذلك، أما من لم يكن قد شربه أصلا إذا كان قد شربه، ثم تاب وحسنت توبته، وطالت مدته فلا تشمله العلة، وهذا هو الجواب عن الدليل الثاني.
والجواب عن الثالث المنع عن من كون ذلك شعارًا مختصًا بأهل الفسوق، لأن غيرهم من أهل العفة والنزاهة، قديمًا وحديثًا، يقع منهم الاجتماع على السماع كما قدمنا حكاية ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين، فمن بعدهم.
وقد استدل المجوزون على ما ذهبوا إليه بأدلة منها قوله تعالى: {ويحل لهم الطيبات ويحرم} (1) ووجه التمسك أن الطيبات جمع محلى باللام فيشمل كل طيب، والطيب يطلق بإزاء المستلذ وهو الأكثر المتبادر إلى الفهم عند التجرد عن القرائن، ويطلق بإزاء الظاهر والحلال، وصيغة العموم كلية تتناول كل فرد من أفراد المعاني الثلاثة كلها، ولو قصرنا العام على بعض أفراده لكان قصره على المتبادر هو الظاهر.
وقد صرح ابن عبد السلام في دلائل الأحكام أن المراد في الآية بالطيبات المستلذات. ومن الأدلة قوله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} (2) وقال: {لتبين الناس ما نزل إليهم} (3) قالوا: ولم يرد نص من كتاب فيه تفصيل تحريمه، ولا سنة صحيحة، كما سبق ذلك عن حكاية جماعة من العلماء.
ومن الأدلة التي ذكروها الإجماع على تحليل السماع (4) مطلقًا. قالوا: وذلك لأنه
_________
(1) [الأعرف: 157]
(2) [الأنعام: 119]
(3) [النمل: 44].
(4) تقدم التمييز بن الاستماع والسماع من كلام ابن تيمية.(10/5248)
اشتهر من فعل (1) عبد الله بن جعفر الهاشمي، وعبد الله بن الزبير وغيرهما. وانتشر ذلك في الصحابة في خلافة علي - عليه السلام - ومعاوية.
ولم ينكر ذلك أحد، ولو كان محرمًا لأنكروه على فاعله، وهذا هو المذهب (2) السكوتي. وقد استكثر من الاحتجاج به أهل المذاهب، وأيضًا البراءة الأصلية (3)، وهي الحل وعدم التحريم مستصحبة لا ننتقل عنها إلا بدليل شرعي؛ فمن ادعى أن السماع الذي تلتذ به الأسماع، وتميل إليه الطباع محرم، فعليه إقامة الدليل الذي تنحسم به مادة النزاع، لا سيما كون ذلك جلب نفع خاص خال عن ضرر، فإنه حسن عقلا.
إذا تقرر هذا تبين للمصنف العارف بكيفية الاستدلال، العالم بصفة المناظرة والجدال أن السماع بآلة وبغيرها من مواطن الخلاف بين أئمة العلم.
ومن المسائل التي لا ينبغي التشديد في النكير على فاعلها، وهذا الغرض هو الذي حملنا على جمع هذه الرسالة؛ لأن في الناس من يوهم لقلة عرفانه بعلوم الاستدلال، وتعطل جراية عن الدراية بالأقوال أن تحريم (4) الغناء بالآلة وغيرها من القطعيات المجمع على تحريمها.
_________
(1) قاله ابن تيمية في "الاستقامة" (1/ 282 - 283).
وأما ما يذكر من فعل عبد الله بن جعفر في أنه كان له جارية يسمع غناءها في بيته فعبد الله بن جعفر ليس مما يصلح أن يعارض قوله في الدين - فضلاً عن فعله - لقول ابن مسعود وابن عمر، وابن عباس وجابر وأمثالهم.
ثم قال رحمه الله: الذي فعله عبد الله بن جعفر كان في داره، لم يكن يجتمع عنده على ذلك. ولا يسمعه إلا من مملوكته، ولا يعده دينًا وطاعة، بل هو عنده من الباطل. وهذا مثل ما يفعله بعض أهل السعة من استماع غناء جاريته في بيته ونحو ذلك، فأين هذا من هذا! هذا لو كان مما يصلح أن يحتج به، فكيف وليس بحجة أصلاً.
(2) أي الإجماع السكوتي. تقدم تعريفه.
(3) تقدم توضيح معناها.
(4) تقدم توضيح ذلك خلال الرد على ابن حزم ومقلديه.(10/5249)
وقد علمت أن هذه قرية ما فيها مزية، وجهالة بلا محالة، وقصور باع بغير نزاع، فهذا هو الأمر الباعث على جمع هذه المباحث، لما لا يخفى على عارف أن رمي من ذكرنا من الصحابة (1) [11] والتابعين وتابعيهم وجماعة من أئمة المسلمين بارتكاب محرم قطعًا من أشنع الشنع، وأبدع البدع، وأوحش الجهالات، وأفحش الضلالات، فقصدنا الذب عن أعراضهم الشريفة، والدفع عن هذا الجناب للعقول السخيفة. وقد علم الله أنا لم نقعد في مجلس من مجالس السماع،
ولا لابسنا أهلة في بقعة من البقاع،
ولا عرفنا نوعًا من أنواعه،
ولا أدركنا وضعًا من أوضاعه،
ولكنا تكلمنا بما تقتضيه الأدلة، وأزحنا عن صدر المتكلم بالجهالة كل علة، ليكون في إيراد الإنكار وإصداره على علم، ويتبين له أن هذه المسألة ليست من المواطن التي يحمد القائم في تضليل أهلها، ولكن كيف يهتدي إلى سبيل الإنصاف من زعم أن مسألة السماع ليست من مسائل الخلاف، فيالله العجب لو نظر هذا المسكين إلى مصنف من مصنفات المسلمين، لعلم بطلان دعواه، وفور جهله وهواه. وهب أن هذه المسألة محرمة بالإجماع، أما درى هذا الغافل أن للناس في كون الإجماع حجة قطعية أو ظنية مذهبين:
أحدهما: أنه حجة ظنية (2) لا يفيد العلم، بل يفيد الظن، وإليه ذهب جمع من المحققين كأبي الحسين البصري (3)، والإمام فخر الدين الرازي (4)، وسيف الدين الآمدي (5) وغيرهم.
_________
(1) انظر: "الاستقامة" لابن تيمية (1/ 280 - 285).
(2) انظر: "البحر المحيط" (4/ 443 - 444).
(3) انظر: "البحر المحيط" (4/ 443 - 444).
(4) في "المحصول" (4/ 64).
(5) في "الإحكام" (1/ 343).(10/5250)
الثاني: أنه حجة قطعية (1)، وإليه ذهب الأكثرون كما قال الأصفهاني (2)، وذهب جمع من محققي الحنفية كالبزدوي، وصدر الشريعة وأتباعهم إلى أن للإجماع مراتب، فإجماع الصحابة مثل الكتاب والخبر المتواتر، وإجماع من بعدهم بمنزلة المشهور من الأحاديث، والإجماع الذي سبق فيه الخلاف في العصر السالف بمنزلة خبر الواحد، ثم القائلون بكونه حجة قطعية اختلفوا في بعض الصور، كالإجماع الذي شذ منه بعض المجتهدين كواحد أو اثنين، وكالإجماع السكوتي؛ وهو ما أتاه بعض المجتهدين قولاً أو فعلاً، وانتشر في أهل الإجماع، وسكتوا عليه، فلم ينكروه، وكالإجماع المسبوق بالخلاف، والمشهور في الأول أنه ليس بإجماع ولا حجة، حكى ذلك أبو بكر الرازي من الحنفية عن الكرخي منهم، وقيل إنه إجماع.
وفي البحر للزركشي (3) أنه المذهب، ونقله الآمدي (4) عن ابن جرير، وإليه يميل كلام الجويني (5)، قال الهندي: والقائلون بأنه إجماع مرادهم أنه ظني لا قطعي.
والمشهور أيضًا في الثاني كما قال الرافعي أنه حجة، وهل هو إجماع؟.
قال الزركشي (6): الراجح أنه إجماع، وقيل ليس بإجماع، وعزى إلى الشافعي.
قال الزركشي (7) وليعلم أن المراد هنا بالخلاف أنه ليس بإجماع قطعي، وبذلك صرح
_________
(1) وبه قال الصيرفي وابن برهان وجزم به من الحنفية الدبوسي وشمس الأئمة.
"البحر المحيط" (4/ 443).
(2) ذكره الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص 294).
(3) في "البحر المحيط" (4/ 443).
(4) في "الإحكام" (1/ 343).
(5) في "البرهان" (1/ 679 - 682).
(6) في "البحر المحيط" (4/ 441).
(7) في "البحر المحيط" (4/ 443).(10/5251)
ابن برهان عن الصيرفي، وكذا ابن الحاجب (1). وإلى كون الإجماع في هاتين الصورتين ظنيًا لا قطعيًا أشار صاحب جمع الجوامع.
وهكذا الإجماع الذي يندر مخالفة إجماع ظني، وإليه يشير كلام إمام الحرمين.
ونقل الزركشي عن صاحب التقويم (2) من الحنفية أنه أدنى مراتب الإجماع. ونقل عن قوم إحالة وقوعه [12]، واختلف القائلون بأن الإجماع حجة قطعية أيضُا في غير ما ذكر من الصور، هل يقبل فيه أخبار الآحاد والظواهر؟ فيه قولان:
قيل: لا يقبل، ونقل عن الجمهور، وصححه القاضي في التقريب، والغزالي في كتبه وعليه فالمنقول بالآحاد إجماع وليس بحجة.
نبه على ذلك الصفي الهندي (3)، وقيل: يقبل وعليه الفقهاء، وصححه المتأخرون. وقد علم من هذا أن الإجماع إما ظني كله عند قوم، أو بعضه ظني، وبعضه قطعي عند آخرين، وأن القطعي منه عند هؤلاء ما علم بطريق يفيد العلم من سماع أو تواتر صدوره عن جميع المجتهدين من الأمة، بحيث لا يشذ أحد منهم بطريق صريح كقولهم: هذا حلال، أو هذا حرام، أو هذا باطل، أو نحو ذلك، كما ذكره الغزالي (4)، ونبه عليه ابن أبي شريف في حاشية شرح الجمع (5).
وإذا علم أن الإجماع منه قطعي، ومنه ظني فمنكر حكم الإجماع الظني، ومعتقد خلافه لا يكفر باتفاق العلماء، وقد نقل إجماعهم على ذلك غير واحد من المحققين، منهم سيف الدين الآمدي (6)، والصفي الهندي في .........................
_________
(1) انظر: "الكوكب المنير" (2/ 260 - 261)، "التبصرة" (ص 349).
(2) في "البحر المحيط" (4/ 443).
(3) انظر: "الكوكب المنير" (2/ 261).
(4) انظر: "المستصفى" (1/ 176، 179).
(5) (2/ 196).
(6) في "الإحكام" (1/ 229).(10/5252)
النهاية (1)، والقاضي عضد الدين في شرح المختصر (2)، وأبو العباس القرطبي فيما نقله عنه الزركشي في البحر (3). وممن جزم بنفي التكفير في منكر حكم الإجماع الظني السعد في شرح التوضيح، والشريف الجرجاني في شرح المواقف، والمحقق ابن الهمام.
وأما منكر حكم الإجماعي القطعي فحكى فيه الآمدي (4)، وابن الحاجب (5) في أصولهما ثلاثة مذاهب، فقال الآمدي (6): اختلفوا في تكفير جاحد المجمع عليه، فأثبته بعض الفقهاء، وأنكره الباقون مع اتفاقهم على أن إنكار حكم الإجماع الظني غير موجب تكفيرًا، هذا والمختار إنما هو التفصيل بين أن يكون داخلاً في مفهوم اسم الإيمان كالعبادات الخمس، ووجوب اعتقاد التوحيد والرسالة؛ فيكون جاحده كافرًا أو لا يكون داخلاً كالحكم بحل البيع، وصحة الإجارة، ونحوه؛ فلا يكون جاحده كافرًا انتهى.
وقال ابن الحاجب في مختصره (7): إنكار حكم الإجماع القطعي.
ثالثها: المختار أن نحو العبادات الخمس تكفر انتهى.
وقال العلامة زيد الدين - المدخل في الملخص -: لا يكفر منكر إجماع سكوتي أو أكثري، أو ظني منقول بالآحاد. قيل: وكذا ما لم يبلغ المجمعون فيه عدد التواتر، ولا يكفر منكر إجماع قطعي على الأصح، إلا إذا كان الحكم ضروريًا، لأن العلم بحجية الإجماع ليس داخلاً في الإيمان، لأنه نظري انتهى.
وقال العلامة ابن القيم (8): الإجماع الذي تقوم به الحجة، وتنقطع معه المعذرة،
_________
(1) انظر: "الكوكب المنير" (2/ 262).
(2) (2/ 33)
(3) (4/ 443)
(4) في "الإحكام" (1/ 229 - 231).
(5) (2/ 32 - 33).
(6) في "الإحكام" (1/ 229 - 231).
(7) (2/ 32 - 33).
(8) انظر: "إعلام الموقعين" (1/ 341 - 343).(10/5253)
وتحرم معه المخالفة هو الإجماع القطعي المعلوم انتهى.
وقال النووي (1) ليس تكفير جاحد الإجماع على إطلاقه، بل من جحد مجمعًا عليه فيه نص، وهو من الأمور الظاهرة الذي يشترك في معرفتها الخاص والعام [13]، كالصلاة، وتحريم الخمر ونحوهما، فهو كافر، ومن جحد مجمعًا عليه ظاهرًا لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف. وقد أشار ابن أبي شريف في حاشية شرح المجمع إلى أن ما لم يبلغ حد الضرورة فلا كفر به، وإن كان مشهورًا.
وقال السعد في شرحه: العقائد: إن من استحل محرمًا لعينه، وقد ثبت بدليل قطعي يكفر، وإلا فلا. بأن كانت حرمته لغيره، أو ثبت بدليل ظني (2) انتهى.
وقال الهندي في النهاية (3) جاحد المجمع عليه من حيث إنه مجمع عليه بإجماع قطعي لا يكفر عند الجماهير، خلافًا لبعض الفقهاء، وإنما قيدنا بقولنا: من حيث هو مجمع عليه، لأن من أنكر وجوب الصلوات الخمس ونحوها يكفر، وهو مجمع عليه، لكن لا لأنه جاحد حكم الإجماع قال: وجاحد الظني لا يكفر وفاقًا انتهى.
وقال شمس الدين القرافي (4) المالكي بعد أن ذكر قول إمام الحرمين: كيف يكفر من جحد حكم الإجماع، ولا يكفر من رد أصل الإجماع، ولا يكون الفرع أقوى من أصله! فقال: جوابه أنا لا نكفر برد المجمع عليه من حيث إنه مجمع عليه؛ بل من حيث الشهرة المحصلة للعلم، فمتى انضافت هذه الشهرة إلى الإجماع كفر جاحده، فإذا لم تنضف لم يكفر، فليس الفرع أقوى من أصله على هذا، وإنما يلزم لو كفرنا به من حيث إنه مجمع عليه، لا من حيث الشهرة انتهى.
_________
(1) انظر "البحر المحيط" (4/ 443 - 445).
(2) انظر: "الكوكب المنير" (2/ 257 - 258).
(3) انظر: "نهاية السول" (2/ 383) و"المستصفى" (1/ 196).
(4) في "شرح تنقيح الفصول" (ص 337).(10/5254)
وقال القرطبي (1) من المالكية: الحق في هذه المسألة التفصيل، فمن قال: إن أدله الإجماع ظنية فلا شك في نفي التكفير، لأن المسائل الظنية اجتهادية، ولا تكفير فيها بالاتفاق، ومن قال أنها قطعية فهؤلاء هم المختلفون في تكفيره، والصواب أنه لا يكفر، وإن قلنا أن تلك الأدلة قطعية متواترة، لأن هذا لا يعم كل أحد بخلاف من جحد سائر المتواترات، والتوقف عن التكفير أولى من الهجوم عليه؛ فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "من قال لأخيه يا كافر فقد باءها بها أحدهما، فإن كان كما قال، وإلا حار عليه" (2) انتهى.
وقال ابن دقيق العيد: من قال أن دليل الإجماع ظني فلا سبيل إلى تكفير مخالفه كسائر الظنيات، وأما من قال أن دليله قطعي فالحكم المخالف له إما أن يكون طريق ثبوته قطعيًا أو ظنيًا، فإن كان ظنيًا فلا سبيل إلى التفكير به.
وإن كان قطعيًا فقد اختلف فيه، ولا يتوجب الاختلاف فيما تواتر من ذلك عن صاحب الشرع بالنقل، فإنه يكون تكذيبًا موجبًا للكفر بالضرورة، وإنما يتوجه الخلاف فيما حصل فيه الإجماع بطريق قطعي، أعني أنه ثبت وجود الإجماع به، ولم ينقل الحكم بالتواتر عن صاحب الشرع (3).
فتلخص أن مسائل الإجماع تارة يصحبها التواتر بالنقل عن صاحب الشرع، فيكون ذلك تكذيبًا موجبًا للكفر بالضرورة، وإنما يتوجه الخلاف فيما حصل فيه الإجماع بطريق قطعي (4)، أعني أنه ثبت وجود الإجماع به ولم ينقل الحكم بالتواتر عن صاحب
_________
(1) انظر: "الكوكب المنير" (2/ 259)
(2) تقدم تخريجه مرارًا
(3) انظر: "إرشاد الفحول" (ص 280 - 281)
(4) ومعنى كونه "حجة قاطعة" بالشرع - أي بدليل كونه حجة قاطعة. أي يقدم على باقي الأدلة. وليس قاطع هنا بمعنى الجازم الذي لا يحتمل النقيض، وإلا لما اختلف في تكفير منكر حكمه وهذا مذهب الأئمة الأعلام منهم الأئمة الأربعة وأتباعهم وغيرهم من المتكلمين.
"تيسير التحرير" (3/ 227)، "الكوكب المنير" (2/ 215).(10/5255)
الشرع [14]، لا فيما صحبه التواتر بالنقل عن صاحب الشرع، كوجوب الصلوات الخمس، فإنه ينتفي الخلاف في تكفير جاحده، لمخالفته التواتر، لا لمخالفة الإجماع ... إلى آخر كلامه الذي نقله الزركشي في البحر (1)، وابن أبي شريف في شرح الإرشاد، وغيرهما من المتأخرين. وقد ذكر أبو إسحاق الشيرازي (2) في الملخص أن الفسق يتعلق لمخالفة الإجماع، والكفر يتعلق برد ما علم من دين الله قطعا ويقينًا:
وقال إمام الحرمين في البرهان (3) إن الضابط فيه أن من أنكر طريقًا في ثبوت الشرع لم يكفر، ومن اعترف بكون الشيء، من الشرع ثم جحده كان منكرًا للشرع، وإنكار جزئه كإنكار كله انتهى.
ولنقتصر على هذا المقدار من نقل أئمة الأصول من أهل المذاهب الإسلامية، وقد خرجنا عن المقصود إلى غيره، ولكنه أخذ بعض الكلام بحجزة بعض، وأردنا تكميل الفائدة في مسألة الإجماع، وحكم مخالفه، ليتيقن المسارع إلى الحكم بالإجماع من دون بصيرة (4).
والجزم على مخالفه مطلقًا بالكفر والضلال، مع أنه قد تقرر في الأصول خلاف من خالف في إمكان الإجماع، ووقوعه، ونقله، وحجيته. وذلك معروف عند كل من له إلمام بعلم الأصول، والتفات إلى طرائق العلماء الفحول. ولقد قال العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في كتابه الروض الباسم (5) إن الضروريات من الإجماع هي الضروريات
_________
(1) (4/ 443).
(2) انظر: "المحصول" (4/ 445) و"البحر المحيط" (4/ 443 - 444).
(3) (1/ 675).
(4) نعلم أن الشوكاني يقول: بعدم حجية الإجماع.
انظر: "إرشاد الفحول"، المقصد الثالث: الإجماع (ص 226).
(5) (1/ 148 - 149).(10/5256)
من الدين، قال: وغالب الإجماعات المنقولة في المسائل الاجتهادية من قبيل الإجماع السكوتي انتهى.
وقال الغزالي في المستصفي (1) كل مجتهد مصيب، ولو خالف الإجماع قبل علمه به حتى يطلع عليه انتهى.
وهذا على فرض أن المسألة التي وقع فيها الإنكار مما يدعى في مثلها الإجماع. فكيف بمسألة السماع التي ادعى المجوزون فيها أنه مجمع على الجواز (2) كما مر تحقيقه (3).
وبالجملة فهذا كلام مع من ير حجية الإجماع، ولهذا لم نورد إلا كلام الأئمة القائلين بحجيته، وأما من لم يقل بحجية الإجماع إما لعدم وجود دليل يدل على أنه حجة، أو لعدم إمكانه في نفسه، أو إمكان نقله، فترك الإنكار عليه مما ادعى فيه الإجماع أوضح من ترك الإنكار على غيره. والقول بعدم حجية الإجماع هو الذي (4) أرجحه لأمور لا يتسع لها المقام، وقد استوفيتها في غيره (5).
وبعد هذا كله فنقول: السماع لا شك بعد ما ذكرنا من اختلاف الأقوال، والأدلة أنه من الأمور المشتبهة، والمؤمنون وقافون عند الشبهات كما ثبت ذلك في الصحيح (6) عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "فمن ترك المشتبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه. ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه". ولا سيما إذا كان مشتملاً على ذكر القدود والخدود، والدلال والجمال، والهجر والوصال، والفم والرشف، والتهتك والكشف
_________
(1) (1/ 182)
(2) انظر: "الأحاديث وآثار السلف ورد دعواهم على ذلك".
(3) قلنا أن الشوكاني يقول بعدم حجية الإجماع.
انظر: "أدلة الإجماع"، "إرشاد الفحول" (ص 275) وما بعدها. "البحر المحيط" (4/ 440 - 446)، "الكوكب المنير" (2/ 210 - 220).
(4) قلنا أن الشوكاني يقول بعدم حجية الإجماع.
انظر: "أدلة الإجماع"، "إرشاد الفحول" (ص 275) وما بعدها. "البحر المحيط" (4/ 440 - 446)، "الكوكب المنير" (2/ 210 - 220).
(5) انظر: "إرشاد الفحول"، المقصد الثالث: الإجماع (ص 226) وما بعدها.
(6) تقدم تخريجه.(10/5257)
[15]، ومعاقرة العقار، وخلع العذار والوقار؛ فإن سامع هذه الأنواع في مجامع السماع لا ينجو من بلية، ولا يسلم من مجنة، وإن بلغ من التصلب في ذات الله إلى حد القصر عنه الوصف.
وكم لهذه الوسيلة من قتيل دمه مطول، وأسير بهموم غرامه وهيامه مكبول، ولا سيما إذا المغني حسن الصورة والصوت، كالمرأة الحسناء، والغلام الجميل، وما كان الغناء الواقع في زمن العرب في الغالب إلا بأشعار فيها ذكر الحرب. وصفات الطعن والضرب، ومدح صفات الشجاعة والكرم.
والتشبيب بذكر الديار، ووصف النعم. فليحذر المتحفظ لدينه، الراغب في السلامة؛ فإن للشيطان حبائل ينصب لكل إنسان منها ما يليق به، وربما كان الغناء على الصفة التي وصفناها من أعظم خدائع الخبيث، ولا سيما لمن كان في زمن الشبيبة؛ فإن نفسه تميل إلى المستلذات الدنيوية بالطبع، وأيضًا السماع من أعظم الأسباب الجالبة للفقر المذهبة للأموال، وإن كانت عظيمة القدر.
وقد قال بعض الحكماء: إن السماع من أسباب الموت، فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: لأن الرجل يسمع، فيطرب، فينفق، فيسرف، فيفتقر، فيغتم، فيعتل، فيموت (1).
_________
(1) وما أعظم كلمات الشوكاني هنا في إشارة إلى أخطار السماع وأثره على النفوس والدين والعرض والمال والمجتمع.
قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/ 352): فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق ونباته فيه كنبات الزرع بالماء. فمن خواصه:
1 / أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدًا، لما بينهما من التضاد، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان والغناء يأمر بضد ذلك كله - ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي، فيثير كامنها، ويزعج قاطنها ويحركها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمر رضيعًا لبان.
وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق في قوم، والعناد في قوم والكذب في قوم، والفجور في قوم، والرعونة في قوم.
ثم قال رحمه الله (1/ 354): ومن علامات النفاق: قلة ذكر الله والكسل عند القيام إلى الصلاة ونقر الصلاة، قل أن تجد مفتونًا من الغناء إلا وهذا وصفه.
- قال تعالى: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً} [النساء: 142].
قال ابن القيم في "كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء" (ص 103 - 104). والتحقيق في السماع أنه مركب من شبهة وشهوة، وهما الأصلان ذم الله من يتبعهما ويحكمهما على الوحي الذي بعث به أنبياءه ورسله.
قال تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم: 23]. فالظن الشبهة وما تهوى الأنفس الشهوة والهدى الذي جاءنا من ربنا مخالف لهذا.
قال تعالى: {كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولادًا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا} [التوبة: 69].
فالاستماع بالخلاق وهو النصيب هو الشهوة، والخوض هو الكلام بمقتضى الشبهة فهذان الداءان هما داء الأولين والآخرين إلا من عصم الله وقليل ما هم، وهذا السماع قد تركب أمره من هذين الأصلين.
فأما الشبهة التي فيه فهي تعلق أهله بالشبهة التي يستندون إليها في فعله، كقولهم حضرة سادات المشايخ ومن لا يطعن عليه، وأقره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته، وسمع الحداء وهو ضرب من سماع الغناء وسمع الشعر وأجاز عليه ... وما هو صريح في الدلالة فكذب موضوع على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن الشبهة التي فيه أن الروح متى سمعت ذكر المحبة والمحبوب والقرب منه ورضاه حرك ذلك لما في قلبه شيء من المحبة الصادقة وهذا أمره لا يمكن دفعه، فهذا نصيب الشبهة منه.
وأما الشهوة فهي نصيب النفس منه، فإن النفس تلتذ بسماع الغناء وتطرب بالألحان المطربة، وتأخذ بحظها الوافر منه، حتى ربما أسكرها وفعل فيها ما لا يفعله الخمر. فإن الطباع تنفعل للسماع والصورة، والخمرة تسكر النفوس بها أتم سكر. ولهذا قال الله تعالى في اللوطية لما أخذهم العذاب {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} [الحجر: 72].(10/5258)
كمل من تحرير جامعه القاضي بدر الدين محمد بن علي الشوكاني - حفظه الله تعالى بحق محمد وآله -.(10/5260)
تم ولله الحمد والمنة المجلد الخامس من كتاب الفتح الرباني
ويليه
المجلد السادس والأخير إن شاء الله(10/5261)
بسم الله الرحمن الرحيم(11/5266)
كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني
المتوفى 1250هـ
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
وضبط نصه ورتبه وصنع فهارسه
أبو مصعب محمد صبحي بن حسن حلاق
بقية القسم الرابع: (الفقه وأصوله) (ص 5273 - ص5962)
القسم الخامس: (اللغة العربية وعلومها) (ص5965 - ص6370)
المجلد السادس(11/5267)
رسائل المجلد السادس
بقية الفقه وأصوله
والقسم الخامس: اللغة العربية وعلومها
174 - بحث في مؤاخاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الصحابة. 40/ 4.
175 - بحث في المتحابين في الله. 34/ 5.
176 - تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل. 43/ 4.
177 - زهر النسرين الفائح بفضائل المعمرين. 18/ 1.
178 - بحث في سؤال عن الصبر والحلم هل هما متلازمان أم لا؟ 25/ 4.
179 - بحث في الإضرار بالجار. 33/ 1.
180 - نثر الجوهر على حديث أبي ذر. 1/ 53.
181 - سؤال وجواب في فقراء الغرباء الواصلين إلى مكة من سائر الجهات ومكثهم في المسجد الحرام. 9/ 5.
182 - رفع الريبة فيما يجوز وما لا يجوز من الغيبة. 10/ 4.
183 - رسالة في حكم القيام لمجرد التعظيم. 20/ 1.
184 - العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي. 17/ 3.
185 - هذه مناقشة للبحث السابق لبعض الهنود الساكنين في تهامة تحقيق الرباني للعالم العمراني على رسالة الشوكاني [العرف الندي في جواز لفظ سيدي]. 17/ 3.
186 - ذيل العرب الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي جوابا على المناقشة السابقة. 18/ 3.
187 - جواب سؤالات وصلت من كوكبان. 41/ 4.
188 - الدواء العاجل لدفع العدد الصائل. 17/ 4.(11/5269)
189 - الحسن في فضائل أهل اليمن. 33/ 4.
190 - مجموعة من الحكم لبعض الحكماء المتقدمين 24/ 3.
191 - بحث: مشتمل على الكلام فيما يدور بين كثير من الناس هل الامتثال خير من الأدب أو الأدب خير من الامتثال. 28/ 5.
192 - بحث في الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 23/ 5.
193 - سؤال وجواب عن الصلاة المأثورة عن رسول الله. 38/ 1.
194 - طيب الكلام في تحقيق لفظ الصلاة على خير من حملته الأقدام. 4/ 5.
195 - بحث في الأذكار الواردة في التسبيح. 24/ 4.
196 - نزهة في التفاضل بين الأذكار. 24/ 5.
197 - الاجتماع على الذكر والجهر به. 12/ 5.
198 - سؤال وجواب عن أذكار النوم. 36/ 1، 5/ 1.
199 - جواب الشوكاني على الدماميني 37/ 4.
200 - سؤال عن الفرق بين الجنس واسم الجنس وبينهما وبين علم الجنس وبين اسم الجنس، واسم الجمع وبين اسم الجمع مع الجواب. 11/ 1.
201 - بحث في تبادر اللفظ عند الإطلاق. 33/ 5.
202 - فتح الخلاق في جواب مسائل الشيخ العلامة عبد الرزاق الهندي. 30/ 5.
203 - نزهة الأحداق في علم الاشتقاق 1/ 5.
204 - كلام في فن المعاني والبيان "تعليق من الشوكاني على كلام صاحب الفوائد الغيائية". 10/ 5.
205 - الروض الوسيع في الدليل المنيع على عدم انحصار علم البديع. 22/ 5.
206 - فتح القدير في الفرق بين المعذرة والتعذير. 2/ 4.
207 - بحث في الرد على الزمخشري في استحسان المربة. 28/ 4.(11/5270)
208 - الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف من اجتماع الاستعارة التمثيلية والتبعية في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}. 20/ 3.
209 - جيد النقد بعبارة الكشاف والسعد. 29/ 3.
210 - القول الصادق في ترتيب الجزاء عن السابق. 15/ 3.
211 - فائق الكسافي جواب عالم الحسا. 5/ 3.
212 - بحث: فيما زاده الشوكاني من أبيات شعرية صالحة للاستشهاد بها في المحاورات وعند المخاصمات وأضافها إلى ما يصلح لهذه الأغراض. 18/ 5.
213 - بحث في سيحون وجيحون وما ذكره أئمة اللغة في ذلك ويليه مناقشة لبعض أهل العلم في البحث السابق ثم جواب المناقشة السابقة. 3/ 3 (1).
214 - الحد التام والحد الناقص (بحث في المنطق) 8/ 5 (2).
_________
(1) قامت الباحثة محفوظة بنت علي شرف الدين بتحقيق الرسائل رقم (178) و (182) و (188) و (208) و (213) من هذا المجلد.
(2) الرقم على يمين الخط يشير إلى رقم الرسالة في المجلد. والرقم على يسار الخط يشير إلى رقم المجلد من الفتح الرباني.(11/5271)
بحث في مؤاخاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بين الصحابة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(11/5273)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في مؤاخاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الصحابة.
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين وصحبه الأفضلين. وبعد:
4 - آخر الرسالة: ومجرد الفعل يصلح لمطلق المشروعية عند وجود السبب وفي هذا المقدار كفاية. وإن كان المقام محتملا للبسط.
كتبه المجيب محمد الشوكاني غفر الله له وتجاوز عنه.
هذا منقول عن خطه نفع الله المسلمين بعلومه آمين.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 7 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 15 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5275)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين، وصحبه الأفضلين. وبعد:
فإنه سأل بعض أهل العلم عن الحكمة فيما وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من المؤاخاة (1) بين الصحابة بعد الهجرة، وذكر في سؤاله تكميلا لما أشكل عليه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ آخى بين غني وغني، وبين مهاجري ومهاجري، حتى
_________
(1) قال الحافظ في "الفتح" (7/ 271) وكان ابتداء المؤاخاة أوائل قدومه المدينة واستمر يجددها بحسب من يدخل في الإسلام أو يحضر المدينة.
وقال الحافظ في "الفتح" (7/ 370): قال ابن عبد البر: كانت المؤاخاة مرتين: مرة بين المهاجرين خاصة وذلك بمكة.
- وقد أنكر ابن تيمية في رده على الرافضي في "منهاج السنة" (7/ 117،361) المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصا مؤاخاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي قال: لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم بعضا، ولتأليف قلوب بعضهم على بعض فلا معنى لمؤاخاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأحد منهم ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري، وهذا رد للنص بالقياس وإغفال عن حكمة المؤاخاة لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة والقوى فآخى بين الأعلى ليرتفق الأدنى بالأعلى ويستعين الأعلى بالأدنى ولهذا تظهر مؤاخاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي لأنه هو الذي كان يقوم به من عهد الصبا من قبل البعثة واستمر، وكذلك مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة لأن زيدا مولاهم فقد ثبت أخوتهما وهما من المهاجرين.
ومرة بين المهاجرين والأنصار. ثم نقل الحافظ في " الفتح" (7/ 370) عن ابن سعد بأسانيد الواقدي إلى جماعة من التابعين قالوا: لما قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار على المواساة وكانوا يتوارثون، وكانوا تسعين نفسا بعضهم من المهاجرين وبعضهم من الأنصار، وقيل كانوا مائة فلما نزل: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ} بطلت المواريث بينهم بتلك المؤاخاة.
قال السهيلي: آخى بين أصحابه ليذهب عنهم وحشة الغربة ويتأنسوا من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد بعضهم أزر بعض، فلما عز الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أبطل المواريث وجعل المؤمنين كلهم إخوة وأنزل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} يعني في التواد وشمول الدعوة، واختلفوا في ابتدائها فقيل بعد الهجرة بخمسة أشهر، وقيل بتسعة، وقيل وهي يبني المسجد وقيل قبل بنائه، وقيل بسنة وثلاثة أشهر قبل بدر.
"فتح الباري" (7/ 270 - 271).(11/5279)
آخى بينه وبين علي رضي الله عنه، وهل الإخاء مرة واحدة أم بحسب التدرج أو الأسباب؟ وما الفرق بين الإخاء والحلف؟ وهل نهى عن الحلف في الإسلام أم لا؟ وهل يجب على الإمام العادل الإخاء بين المسلمين عملا بفعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أم لا؟ انتهى.(11/5280)
وأقول: - حامدا الله سبحانه، ومصليا على رسوله وآله -.
إني لم أقف لأحد من أهل العلم على كلام فيما اشتمل عليه هذا السؤال، وقد تقرر في أصول الشريعة أنه يجب العمل بما ورد عن الشارع، وإن لم نقف على وجه الحكمة فيه، فليس ذلك معتبرا في التعبد بأحكام الشرع، بل يجب علينا قبول ما ورد، والعمل به في العمليات، واعتقاده في الاعتقادات، وإن جهلنا وجهه، ولم نعقل الحكمة (1) فيه.
_________
(1) قال ابن تيمية في "منهاج السنة النبوية " (1/ 141): "وقال الجمهور من أهل السنة وغيرهم: بل هو حكيم في خلقه وأمره، والحكمة ليست مطلق المشيئة، إذ لو كان كذلك لكان كل مريد حكيما، ومعلوم أن الإرادة تنقسم إلى محمودة ومذمومة، بل الحكمة تتضمن ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة، والغايات المحبوبة.
والقول بإثبات هذه الحكمة ليس قول المعتزلة من وافقهم من الشيعة فقط بل هو قول جماهير طوائف المسلمين، من أهل التفسير والفقه والحديث والتصوف والكلام، وغيرهم. فأئمة الفقهاء متفقون على إثبات الحكمة والمصالح في أحكامه الشرعية".
وقال القرطبي في "المفهم" (6/ 216): أن لله تعالى فيما يجريه حكما وأسرارا راعاها ومصالح راجعة إلى خلقه اعتبرها. كل ذلك بمشيئته وإرادته من غير وجوب عليه ولا حكم عقلي يتوجه إليه، بل ذلك بحسب ما سبق من علمه ونافد حكمه، فما اطلع عليه من تلك الأسرار عرف، وما لا فالعقل عنده يقف. وحذار من الاعتراض والإنكار! فإن مآل ذلك إلى الخيبة وعذاب النار.
وقال الحافظ في "الفتح" (13/ 450) في "شرح باب في المشيئة والإرادة": "وقالوا في قوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] أي يعطي من اقتضته الحكمة الملك، يريدون أن الحكمة تقتضي رعاية المصلحة، ويدعون وجوب ذلك على الله، تعالى الله عن قولهم، وظاهر الآية أن يعطي الملك من يشاء سواء كان متصفا بصفات من يصلح للملك أم لا؟ من غير رعاية استحقاق ولا وجوب ولا أصلح بل يؤتي الملك من يكفر به ويكفر نعمته حتى يهلكه، ككثير من الكفار، مثل نمرود والفراعنة، ويؤتيه إذا شاء من يؤمن به ويدعو إلى دينه ويرحم به الخلق مثل يوسف وداود وسليمان - وحكمته في كلا الأمرين علمه وأحكامه بإرادته وتخصيص مقدوراته.
وقال الحافظ في"الفتح" (8/ 600) في شرح كلام البخاري على قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وفيه: "وليس فيه حجة لأهل القدر" - قال الحافظ -: "أنهم يحتجون بها على أن أفعال الله لا بد أن تكون معلومة -[المعتزلة القدرية يقولون بوجوب التعليل في الأحكام، أي معللة بالمصالح وأن هذه الأحكام صدرت عن مصلحة، والوجوب في ذلك كله عندهم بجعل الله له ولكن هذا الوجوب فرضوه على الله تعالى.
قال ابن تيمية في"مجموع فتاوى" (8/ 92 - 93): وهؤلاء المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة يوجبون على الله سبحانه أن يفعل بكل عبد ما هو الأصلح له في دينه وتنازعوا في وجوب الأصلح في دنياه
ثم قال - رحمه الله - وأما سائر الطوائف الذين يقولون بالتعليل من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وأهل الكلام كالكرامية وغيرهم والمتفلسفة أيضًا فلا يوافقونهم على هذا، بل يقولون أنه يفعل ما يفعل سبحانه لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، وقد يعلم العباد أو بعض العباد من حكمته ما يطلعهم عليه وقد لا يعلمون ذلك والأمور العامة التي يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة كإرسال محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فإن إرساله كان من أعظم النعم على الخلق وفيه أعظم حكمة للخالق ورحمة منه للعباد ... ".]- فقال: لا يلزم من وقوع التعليل في موضع وجوب التعليل في كل موضع، ونحن نقول بجواز التعليل لا بوجوبه.(11/5281)
وقد ثبت في هذه الشريعة المطهرة من التعبدات ما لا يمكن أن تتعقل فيه الحكمة [1أ] (1) بوجه من الوجوه، ومن زعم أنه يتعقل ذلك ويعرف وجهه فقد ادعى ما ليس له، وأثبت لنفسه ما لا يقوم به، فإن هذه الصلوات الخمس التي هي رأس الأركان الإسلامية، وأساس الأمور الدينية لا يتمكن أحد أن يبين وجه الحكمة في أعداد الركعات وكونها في بعض الصلوات ركعتين، وفي بعضها ثلاثا، وفي بعضها أربعا، وكون أركانها على تلك الصفة، وأذكارها على تلك الهيئة.
ومن زعم أنه يبلغ علمه إلى معرفة ذلك فقد أثبت لنفسه ما ليس لها، وتحمل ما لا يطيقه، وإذا كان هذا في الصلوات التي هي أعظم شعائر الدين وفرائض الإسلام. فما ظنك بغيرها من الفرائض! بل ما ظنك بغير الفرائض من الأمور التي جاء بها الشرع! وهكذا الكلام في سائر أركان الدين، فإنه لو زعم زاعم أنه يعرف وجه الحكمة في مناسك الحج، وكونها على تلك الأعداد بتلك الصفات، أو زعم أنه يعرف وجه
_________
(1) قال ابن تيمية في "منهاج السنة النبوية " (1/ 141): "وقال الجمهور من أهل السنة وغيرهم: بل هو حكيم في خلقه وأمره، والحكمة ليست مطلق المشيئة، إذ لو كان كذلك لكان كل مريد حكيما، ومعلوم أن الإرادة تنقسم إلى محمودة ومذمومة، بل الحكمة تتضمن ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة، والغايات المحبوبة.
والقول بإثبات هذه الحكمة ليس قول المعتزلة من وافقهم من الشيعة فقط بل هو قول جماهير طوائف المسلمين، من أهل التفسير والفقه والحديث والتصوف والكلام، وغيرهم. فأئمة الفقهاء متفقون على إثبات الحكمة والمصالح في أحكامه الشرعية".
وقال القرطبي في "المفهم" (6/ 216): أن لله تعالى فيما يجريه حكما وأسرارا راعاها ومصالح راجعة إلى خلقه اعتبرها. كل ذلك بمشيئته وإرادته من غير وجوب عليه ولا حكم عقلي يتوجه إليه، بل ذلك بحسب ما سبق من علمه ونافد حكمه، فما اطلع عليه من تلك الأسرار عرف، وما لا فالعقل عنده يقف. وحذار من الاعتراض والإنكار! فإن مآل ذلك إلى الخيبة وعذاب النار.
وقال الحافظ في "الفتح" (13/ 450) في "شرح باب في المشيئة والإرادة": "وقالوا في قوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] أي يعطي من اقتضته الحكمة الملك، يريدون أن الحكمة تقتضي رعاية المصلحة، ويدعون وجوب ذلك على الله، تعالى الله عن قولهم، وظاهر الآية أن يعطي الملك من يشاء سواء كان متصفا بصفات من يصلح للملك أم لا؟ من غير رعاية استحقاق ولا وجوب ولا أصلح بل يؤتي الملك من يكفر به ويكفر نعمته حتى يهلكه، ككثير من الكفار، مثل نمرود والفراعنة، ويؤتيه إذا شاء من يؤمن به ويدعو إلى دينه ويرحم به الخلق مثل يوسف وداود وسليمان - وحكمته في كلا الأمرين علمه وأحكامه بإرادته وتخصيص مقدوراته.
وقال الحافظ في"الفتح" (8/ 600) في شرح كلام البخاري على قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وفيه: "وليس فيه حجة لأهل القدر" - قال الحافظ -: "أنهم يحتجون بها على أن أفعال الله لا بد أن تكون معلومة -[المعتزلة القدرية يقولون بوجوب التعليل في الأحكام، أي معللة بالمصالح وأن هذه الأحكام صدرت عن مصلحة، والوجوب في ذلك كله عندهم بجعل الله له ولكن هذا الوجوب فرضوه على الله تعالى.
قال ابن تيمية في"مجموع فتاوى" (8/ 92 - 93): وهؤلاء المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة يوجبون على الله سبحانه أن يفعل بكل عبد ما هو الأصلح له في دينه وتنازعوا في وجوب الأصلح في دنياه
ثم قال - رحمه الله - وأما سائر الطوائف الذين يقولون بالتعليل من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وأهل الكلام كالكرامية وغيرهم والمتفلسفة أيضًا فلا يوافقونهم على هذا، بل يقولون أنه يفعل ما يفعل سبحانه لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، وقد يعلم العباد أو بعض العباد من حكمته ما يطلعهم عليه وقد لا يعلمون ذلك والأمور العامة التي يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة كإرسال محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فإن إرساله كان من أعظم النعم على الخلق وفيه أعظم حكمة للخالق ورحمة منه للعباد ... ".]- فقال: لا يلزم من وقوع التعليل في موضع وجوب التعليل في كل موضع، ونحن نقول بجواز التعليل لا بوجوبه.(11/5282)
الحكمة في الصيام وكونه على تلك الصفة في ذلك الوقف المخصوص، أو زعم أنه يعرف وجه الحكمة في كون فرائض الزكاة على تلك الصفة في تلك الأعداد لكان زاعما [1ب] زعما باطلا، ومدعيا دعوى مدفوعة، ومتكلفا (1) ما ليس من شأنه، ومتقولا على الله ما لم يقل، وقد ورد في الزجر عن ذلك في الكتاب العزيز ما ترجف له الأفئدة، وتقشعر له الجلود.
قال الله - عز وجل -: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2)، فجعل التقول على الله - سبحانه - قرينا للشرك، وعديلا للفواحش. وكفى هذا زاجرا لكل من: {لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (3).
_________
(1) نقول: إن مذاهب أهل السنة والجماعة في الحكمة والتعليل وهو: "أن أفعال الله تعالى تعلل بالحكم والغايات الحميدة، التي تعود على الخلق بالمصالح والمنافع، ويعود على الله تعالى حبه ورضاه لتلك الحكم، وهذه الحكم مقصودة، ويفعل لأجل حصولها كما تدل عليه النصوص من القرآن والسنة، ورد التعليل في القرآن في مواضع لا تكاد تحصى بأدوات متنوعة".
قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32].
وقال سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ} [البقرة: 143].
وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.
فأهل السنة لا ينكرون إمكان التعليل، وإنما ينكرون وجوبه.
قال ابن تيمية في "مجموعة الفتاوى" (8/ 97): "إذا علم العبد من حيث الجملة أن لله فيما خلقه وأمر به حكمة عظيمة كفاه هذا. ثم كلما ازداد علما وإيمانا ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله، ويبين له تصديق ما أخبر الله به في كتابه حيث قال: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].
(2) [الأعراف: 33].
(3) [ق: 37].(11/5283)
والحاصل أن في الشريعة المطهرة مما لا يمكن تعقل وجه الحكمة فيه ما لا يأتي عليه الحصر، وانظر هل يدعي مدع، أو يزعم زاعم أنه يعرف وجه الحكمة في كون حد الزنا مائة جلدة، وحد القذف ثمانين جلدة، وحد الشرب أربعين أو ثمانين.
فكل عاقل فضلا عن عالم لا يشك ولا يرتاب في بطلان هذه الدعوى، وكذب هذا الزعم.
ولو ذهب ذاهب يتكلم في ذلك لجاء بما يضحك منه كل سامع، ويسخر منه كل عاقل.
وإذا عرفت هذا وتقرر عندك معناه فاعلم أن وجه الحكمة [2أ] في المؤاخاة هو ظاهر الوجه، واضح المنزع، بين السبب، جلي الفائدة. وليس القول فيه من التكلف لما لا يعلم، ولا من التقول على الله بما لا حقيقة له؛ فإن كل عاقل فضلا عن عالم يعرف أن تعاضد الرجلين على أمور المعاش، وتحصيل ما يكون به السداد من عوز الحاجة له مزيد تأثير على ما يكون من الواحد الفرد، وهكذا التعاضد على الأمور الدينية، والتعاون على تحصيلها، فإن ذلك من الأثر ما لا يخفي على عاقل، ولهذا أمر الله - سبحانه - به في قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وهكذا كل ما ورد في الكتاب والسنة من الندب للعباد إلى التعاضد والتناصر والتعاون، فإن وجه الحكمة فيه هو من هذا القبيل، بل لذلك تأثير في التعاضد على مجرد إدارة الرأي والتفاوض فيما ينوب من الأمور كما قال شاعر:
ورأيان أحزم من واحد ... ورأي الثلاثة لا ينقض
ومعلوم أن الأخوة (2) الدينية الكائنة على لسان النبوة المصطفوية الصادرة عن الترجيح المحمدي - عليه أشرف صلاة وأكمل تسليم - يكون لها في قلوب المؤمنين من المواقع ما
_________
(1) [المائدة: 2].
(2) انظر "فتح الباري" (7/ 270 - 271).(11/5284)
لا يكون لإخوة النسب [2ب]، فيجهد كل واحد منهما في تحصيل نفع أخيه بما لا يبلغ إليه الشقيق في النسب، ومن ذلك المواساة من كل واحد منهما للآخر بما تملكه يده، والتعاضد في تحصيل مواد العيش.
وقد يتناوبان في أمور الدين والدنيا فيسعى أحدهما في تحصيل علم الشرع يوما، والأخر في تحصيل أمور المعاش يوما، كما ثبت في الصحيح (1) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتناوب هو وأخوه الأنصاري في الذهاب إلى حضرة النبوة يوما فيوم، فيأتي من نزل منهما الحضرة المصطفوية بما حدث فيها من الأخبار والشرائع، ويقوم الآخر في ذلك اليوم بما يحتاجان إليه من أمور الدنيا، ومن أعظم الفوائد وأجل المقاصد أنه يحصل بهذه المؤاخاة المودة الخالصة، والتحاب الصحيح، وقد ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "أن المتحابين في الله على منابر من نور يوم القيامة" (2) فلو لم يكن من فوائد هذه الأخوة إلا هذه الفائدة فكيف ولها من فوائد الدين والدنيا ما لا يخفى على عاقل! وقد أوضحنا بعضه.
وأما قول السائل - عافاه الله -: وما الفرق بين الإخاء والحلف (3)؟
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (89) معلقا وأطرافه: [2468، 4913، 4915، 5191، 5218، 5843، 7256، 7263] من حديث عبد الله بن عباس، عن عمر قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نتناوب النزول على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينزل يوما، وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره وإذا نزل فعل مثل ذلك ... ".
(2) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (2390) من حديث معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء".
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح: وهو حديث صحيح.
انظر الرسالة الآتية رقم (175).
(3) قال ابن الأثير في "النهاية" (1/ 424 - 425) أصل الحلف: المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا حلف في الإسلام" أخرجه البخاري رقم (6083) من حديث أنس بن مالك. وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الرحم كحلف المطيبين وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" - أخرجه مسلم في صحيحه رقم (206/ 2530) من حديث جبير بن مطعم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" - يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق وبذلك يجتمع الحديثان وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام. والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام.
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا حلف في الإسلام" قاله زمن الفتح فكان ناسخا، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر رضي الله عنه من المطيبين، وكان عمر رضي الله عنه من الأحلاف والأحلاف ست قبائل: عبد الدار وجمح ومخزوم وعدي وكعب وسهم سموا بذلك لأنهم لما أرادت بنو عبد مناف أخذ ما في أيدي عبد الدار من الحجامة والرفادة واللواء والسقاية، وأبت عبد الدار، عقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا، فأخرجت بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعتها لأحلافهم وهم أسد، وزهرة، وتيم، في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها وتعاقدوا، وتعاقدت بنو عبد الدار وحلفاؤها حلفا آخر مؤكدا فسموا الأحلاف لذلك.
وقد أخرج أحمد في "المسند" (1/ 190، 193) وأبو يعلى في مسنده رقم (846) وابن حبان في صحيحه رقم (4373) والحاكم (2/ 219 - 220) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 366) وفي "الدلائل" (2/ 37 - 38) والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (567) عن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "شهدت غلاما مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحب أن لي حمر النعم، وإني أنكثه". وهو حديث صحيح.
قال القرطبي في "المفهم" (6/ 482 - 483): قوله: "لا حلف في الإسلام" أي: لا يتحالف أهل الإسلام كما كان أهل الجاهلية يتحالفون، وذلك أن المتحالفين: كانا يتناصران في كل شيء، فيمنع الرجل حليفه، وإن كان ظالما، ويقوم دونه، ويدفع عنه بكل ممكن، فيمنع الحقوق، وينتصر به على الظلم والبغي، والفساد، ولما جاء الشرع بالانتصاف بالحدود، وبين الأحكام أبطل ما كانت الجاهلية عليه ممن ذلك، وبقي التعاقد والتحالف على نصرة الحق، والقيام به، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجابا عاما على من قدر عليه من المكلفين.(11/5285)
وأقول [3أ]: الفرق بينهما واضح، فإن التحالف الذي كان في زمن الجاهلية، وأوائل الإسلام هو مشتمل على التوارث، وتنزيل الأخ في الحلف منزلة الأخ في(11/5286)
النسب، وليس في المؤاخاة الإسلامية الكائنة عن أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلا مجرد التعاضد والتعاون على أمور الدين والدنيا، وهذه سنة نبوية ثابتة لم تنسخ، ولا ورد ما يرفعها بخلاف التحالف، فإنه قد نسخ (1) وارتفع حكمه في هذه الشريعة، فلا توارث
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2292) وطرفاه (4580، 6747) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما "وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ" [النساء:33]. قال: ورثة. "وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ" قال: كان المهاجرون لما قدموا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون رحمه، للأخوة التي آخى بينهم، فلما نزلت " وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ" نسخت ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ" إلا النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصي له.
قال ابن كثير في تفسيره (4/ 95) في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال:72].
ذكر تعالى أصناف المؤمنين، وقسمهم إلى مهاجرين، خرجوا من ديارهم وأموالهم، وجاءوا لنصر الله ورسوله، وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك، وإلى أنصار، وهم: المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك، آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم، وواسوهم في أموالهم، ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم، فهؤلاء بعضهم أولى ببعض أي: كل منهم أحق بالآخر من كل أحد ولهذا آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المهاجرين والأنصار، كل اثنين أخوان فكانوا يتوارثون بذلك إرثا مقدما على القرابة حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث.
قال الحافظ في" الفتح " (4/ 474): قال الخطابي: قال ابن عيينة حالف بينهم أي آخى بينهم، يريد أن معنى الحلف في الجاهلية معنى الأخوة في الإسلام لكنه في الإسلام جار على أحكام الدين وحدوده، وحلف الجاهلية جرى على ما كانوا يتواضعونه بينهم بآرائهم، فبطل منه ما خالف حكم الإسلام وبقي ما عدا ذلك على حاله.
قال الحافظ في: "الفتح" (4/ 474): واختلف الصحابة في الحد الفاصل بين الحلف الواقع في الجاهلية والإسلام.
فقال ابن عباس: ما كان قبل نزول الآية المذكورة جاهلي وما بعدها إسلامي وعن علي ما كان قبل " لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ " جاهلي.
وعن عثمان: كل حلف كان قبل الهجرة جاهلي، وما بعدها إسلامي.
وعن عمر: كل حلف كان قبل الحديبية فهو مشدود وكل حلف بعدها منقوض، ثم قال الحافظ: وأظن قول عمر أقواها ويمكن الجمع بأن المذكورات في رواية غيره ما يدل على تأكد حلف الجاهلية والذي في حديث عمر ما يدل على نسخ ذلك.
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (16/ 82): المنفي حلف التوارث وما يمنع منه الشرع، وأما التحالف على طاعة الله ونصر المظلوم والمؤاخاة في الله تعالى فهو أمر مرغب فيه.
قال القرطبي في "المفهم" (6/ 479): المؤاخاة: مفاعلة من الأخوة ومعناها: أن يتعاقد الرجلان على التناصر والمواساة. والتوارث حتى يصيرا كالأخوين نسبا، وقد يسمى ذلك حلفا ... وكان ذلك أمرا معروفا في الجاهلية معمولا به عندهم ولم يكونوا يسمونه إلا حلفا، ولما جاء الإسلام عمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به، وورث به على ما حكاه أهل السير.
ثم قال (6/ 483): وسمى ذلك أخوة مبالغة في التأكيد والتزام الحرمة ولذلك حكم فيه بالتوارث حتى تمكن الإسلام، واطمأنت القلوب، فنسخ الله تعالى ذلك بميراث ذوي الأرحام.(11/5287)
به. وقد نزل في شأن ذلك القرآن الكريم، قال الله - عز وجل -: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (1) وتولى الله - سبحانه - تفريض الفرائض، وتقدير المواريث في كتابه العزيز، ونسخ كثيرا مما كان في زمن الجاهلية.
وأما قول السائل - عافاه الله -: وهل يجب على الإمام العادل الإخاء بين المسلمين عملا بفعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ (2) -؟
_________
(1) [الأنفال:75].
(2) قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (35/ 93 - 94): كذلك تنازع الناس هل يشرع في الإسلام أن يتآخى اثنان ويتحالفا كما فعل المهاجرون والأنصار؟ فقيل: إن ذلك منسوخ. لما رواه مسلم في صحيحه رقم (206) - تقدم تخريجه - عن جبير أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة" ولأن الله قد جعل المؤمنين إخوة بنص القرآن، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه".
أخرج الشطر الأول البخاري في صحيحه رقم (2442) ومسلم رقم (58) من حديث عمر رضي الله عنه.
وأخرج الشطر الثاني من الحديث البخاري في صحيحه رقم (13) ومسلم رقم (71، 72) من حديث أنس بن مالك.
فمن كان قائما بواجب الإيمان كان أخا لكل مؤمن، ووجب على كل مؤمن أن يقوم بحقوقه، وإن لم يجر بينهما عقد خاص، فإن الله ورسوله قد عقدا الأخوة بينهما بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وددت أني قد رأيت إخواني" أخرجه مسلم رقم (39).
ومن لم يكن خارجا عن حقوق الإيمان وجب أن يعامل بموجب ذلك فيمد على حسناته ويوالي عليها وينهى عن سيئاته، ويجانب عليها بحسب الإمكان وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قلت يا رسول الله! أنصره مظلوما، فكيف أنصره ظالما؟ قال: "تمنعه من الظلم، فذاك نصرك إياه" أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6952) بنحوه من حديث أنس رضي الله عنه وأخرجه مسلم رقم (62) من حديث جابر.
والواجب على كل مسلم أن يكون حبه وبغضه، موالاته ومعاداته تابعا لأمر الله سبحانه ورسوله، فيحب ما أحب الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله ويوالي من يوالي الله ورسوله، ويعادي من يعادي الله ورسوله.(11/5288)
فأقول: إن كان يظن الإمام أن لذلك مزيد أثر في الأمور العائدة على العباد بمصالح الدين والدنيا فعله، ولا سيما في مبادي ظهور الحق وفشو شرائع الإسلام في ذلك المكان ولم يرد ما يدل على الوجوب، ومجرد الفعل يصلح لمطلق المشروعية عند وجود السبب. وفي هذا [3ب] المقدار كفاية، وإن كان المقام محتملا للبسط.
كتبه المجيب محمد الشوكاني - غفر الله له، وتجاوز عنه -.
هذا منقول عن خطه - نفع الله المسلمين بعلومه - آمين [4أ].(11/5289)
بحث في المتحابين في الله
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(11/5291)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في المتحابين في الله.
2 - موضوع الرسالة: آداب.
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" وجدت بخط المولى شيخ الإسلام ما لفظه: سانحة فكرت بعض الليالي في حديث المتاحبين في الله ..
4 - آخر الرسالة: اللهم أنت الهادي لا هادي سواك اهد قلوبنا إلى سلوك ما فيه رضاك، قال في الأم: حرره قائله محمد بن علي الشوكاني وفقه الله.
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 10 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 20 سطرا. ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها أربعة.
8 - عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5293)
بسم الله الرحمن الرحيم
وجدت بخط المولى شيخ الإسلام ما لفظه: سانحة فكرت بعض الليالي في حديث: "المتحابون في الله على منابر من نور" (1) فاستعظمت هذا الجزاء مع حقارة العمل، ثم
_________
(1) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (2390) من حديث معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء ".
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
- وأخرجه أحمد (5/ 239) والطبراني في "الكبير" (20/ 144، 145، 146، 147، 148، 149، 151) وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 131) من طرق.
- وأخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (577) بلفظ: عن أبي مسلم الخولاني، قال: قلت لمعاذ بن جبل: والله إني لأحبك لغير دنيا أرجو أن أصيبها منك، ولا قرابة بيني وبينك، قال: فلأي شيء؟ قلت: لله، قال: فجذب حبوتي، ثم قال: أبشر إن كنت صادقا، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "المتحابون في الله في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله، يغبطهم بمكانهم النبيون والشهداء".
- وأخرج أحمد في: "المسند" (2/ 292) ومسلم رقم (38/ 2567) والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (350) والبغوي في "شرح السنة" رقم (3465) عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى قال: فأرصد الله له على مدرجته ملكا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، فقال له: هل له عليك من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك، إن الله جل وعلا أحبك كما أحببته فيه".
- وأخرج مسلم في صحيحه رقم (37/ 2566) وأحمد (2/ 237) والدارمي (2/ 312) والبغوي في "شرح السنة" رقم (3462) ومالك في "الموطأ" (2/ 952) من طرق.
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يقول الله تبارك وتعالى أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ". وهو حديث صحيح.
- وأخرج أحمد (5/ 233) والطبراني في "الكبير" (20/ 144، 145، 147، 148) والحاكم (4/ 170) من حديث معاذ. وهو حديث صحيح.
- وأخرج ابن حبان رقم (573) والطبري في "تفسيره" (7 \ جـ11/ 132) والنسائي في: "السنن الكبرى " رقم (11236) بإسناد حسن.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن من عباد الله عبادا ليسوا بأنبياء، يغبطهم الأنبياء والشهداء قيل: من هم لعلنا نحبهم؟ قال: هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب، وجوههم نور على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62].
- وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يا أيها الناس، اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عز وجل عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله" فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس، وألوى بيده إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله! انعتهم لنا جلهم لنا، يعني: صفهم لنا شكلهم لنا، فسر وجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسؤال الأعرابي فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هم ناس أفناء الناس ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها، فيجعل وجوههم نورا، وثيابهم نورا. يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون".
- أخرجه أحمد (5/ 343) وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 276 - 277): " رواه كله أحمد، والطبراني بنحوه ورجاله وثقوا". وهو حديث حسن.
* وأخرجه الحاكم (4/ 170) من حديث عمر بإسناد صحيح.
*وأخرجه أبو يعلى في مسنده رقم (6110) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد في "المسند" (5/ 239) بإسناد صحيح.
*عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يأثر عن ربه تبارك وتعالى يقول: "حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتواصلين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في ".
وقد صحح الحديث الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4320).
* وعن عمرو بن عبسة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " قال الله عز وجل: قد حقت محبتي للذين يتحابون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتزاورون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتباذلون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتصادقون من أجلي ".
- أخرجه أحمد في "المسند" (4/ 386) والطبراني في "الصغير" (1095) وفي "الأوسط" رقم (9076) والبيهقي في "شعب الإيمان" رقم (8996) وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 279) وقال: رواه الطبراني في الثلاثة وأحمد بنحوه ورجال أحمد ثقات. وهو حديث صحيح.
قال القرطبي في "المفهم" (6/ 543): في هذه الأحاديث - ما أخرجه مسلم رقم (37/ 2566)، (38/ 2567) - على أن الحب في الله والتزاور فيه من أفضل الأعمال، وأعظم القرب إذا تجرد ذلك عن أغراض الدنيا وأهواء النفوس، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان".
أخرجه أحمد (3/ 438، 440) وأبو داود رقم (4681) من حديث أبي أمامه وهو حديث صحيح.
- وأخرجه أحمد في "المسند" (3/ 438، 440) والترمذي رقم (2521) والحاكم (1/ 61) والبيهقي في "شعب الإيمان" رقم (15) وأبو يعلى في مسنده رقم (1485) من حديث معاذ بن أنس الجهني عن أبيه رضي الله عنه. وهو حديث حسن.
- وأخرج البخاري في صحيحه رقم (6941) ومسلم رقم (43) والترمذي رقم (2624) والنسائي (8/ 96).
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار.
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (2/ 13 - 14): هذا حديث عظيم أصل من أصول الإسلام، قال العلماء رحمهم الله: معنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات في رضى الله عز وجل ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإيثار ذلك على عرض الدنيا ومحبة العبد ربه سبحانه وتعالى بفعل طاعته وترك مخالفته وكذلك محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم " (1/ 278 - 279): " وذلك لا تتضح محبة الله ورسوله حقيقة، والحب للغير في الله وكراهة الرجوع إلى الكفر، إلا لمن قوى بالإيمان يقينه، واطمأنت به نفسه وانشرح له صدره. وخالط دمه ولحمه، وهذا هو الذي وجد حلاوته. والحب في الله من ثمراته الحب لله.
ومعنى حب العبد لله: استقامته في طاعته، والتزامه أوامره ونواهيه في كل شيء. ولهذا قال بعضهم: المحبة مواطأة القلب على ما يرضي الرب، فيحب ما أحب ويكره ما يكره.
قال الحافظ في "الفتح" (1/ 62): قال يحيى بن معاذ: حقيقة الحب في الله أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما تحاب رجلان في الله إلا كان أحبهما إلى الله عز وجل أشدهما حبا لصاحبه" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد " رقم (544) وابن حبان في صحيحه رقم (566) وأبو يعلى في مسنده رقم (3419) والبزار رقم (3600 - كشف) والحاكم (4/ 171) وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح.
انظر: "الصحيحة" رقم (450).(11/5297)
راجعت الذكر فوجدت التحاب في الله من أصعب الأمور وأشدها، ووجوده في الأشخاص الإنسانية أعز من الكبريت الأحمر، فذهب ما تصورته من الاستعظام للجزاء، وبيان ذلك أن التحاب الكائن بين النوع الإنساني راجع عند إمعان النظر إلى محبة الدنيا، لا يبعث عليه إلا عرض دنيوي، فإنك إذا عمدت إلى الفرد الكامل من نوع المحبة وهو محبة الولد لوالده، والوالد لولده، وأحد الزوجين للآخر وجدته يؤول إلى محبة الدنيا لزواله بزوال الغرض الدنيوي، مثلا لو كان لرجل ولد كامل الأدوات والحواس الظاهرة والباطنة وجدته في الإشفاق عليه والمحبة له بمكان تقصر عنه العبارة؛ لأنه يرجو منه بعد حين أن يقوم بما يحتاج إليه من حوائج الدنيا، فلو عرض له الموت، وهو بهذه الصفة حصل مع والده ما نشاهده فيمن مات ولده من الغم والحزن والتحسر والتلهف [1ب] والبكاء والعويل، ولكن هذا ليس إلا لذلك الغرض الدنيوي، ويوضح ذلك هذا أنه لو حصل مع الولد عاهة من العاهات التي يغلب على الظن استمرارها، وعجز من كانت به عن القيام بأمور الدنيا كالعمى، والإقعاد، وجدت والده عند ذلك يعد أيامه من عافيته، ربما يتمنى موته، وإذا مات كان أيسر مفقود إن لم يحصل السرور للأب بموته، فلو كانت تلك المحبة لمحض القرابة مع قطع النظر عن الدنيا لوجدت الاتحاد في الشفقة بين الحالتين، ولكن الأمر على خلاف ذلك بالاستقراء، مع أن القرابة لا تزول بزوال البصر مثلا، إنما الذي زال ما كان مؤملا من النفع الدنيوي، فكشف ذلك أن المحبوب هو(11/5300)
الدنيا لا الولد لذاته، ولا لقرابته، كذلك محبة الولد لوالده، فإنك تجد الولد قبل اقتداره مع كون والده هو القائم بجميع ذلك لبقاء قوته، وعدم عجزه عن الاكتساب غير من محبة والده لا يقادر قدرها، ولا يمكن تصورها، ولا يمكن تصور كنهها، فإذا عرض موته حصل مع الولد من الجزع والفزع ما نشاهده [2أ] فيمن كانت كذلك، وهو عند التحقيق إنما يبكي لما فاته من المنافع التي كانت تصل إليه، وإلى قرابته من والده، وبرهان هذا أنه لو بلغ الولد إلى حد لا يحتاج معه في الدنيا إلى أحد، وصار وجود والده كعدمه في إدخال المنافع الدنيوية عليه وعلى من يعول كان أهون مفقود عليه، بل ربما حصل له بموته السرور، ولا سيما إذا كان للأب شيء من الحطام، وهذا على فرض بقاء قوة الأب وصحته وسلامته، فالأب باق موجود حي سوي، فلو كانت المحبة للقرابة لكانت هذه الحالة كالتي قبلها، ولكن المحبة إنما هي للدنيا، فحيث يتعلق بالأب الغرض الدنيوي كان له من المحبة ما ذكرناه أولا، وحيث لم يتعلق به ذلك الغرض لم يكن له منها شيء كما ذكرناه ثانيا.
وأما إذا بلغ الأب إلى حد الضعف والقعود والعجز الكلي عن مباشرة الأمور، فربما يتمنى ولده موته، والأبوة والبنوة بحالهما، فالحاصل أن بكاء الأب على ولده بكاء على فوت دنياه الآجلة، وبكاء الولد على والده بكاء لدنياه العاجلة، ومن أنكر هذا كرر النظر فيه، وأمعنه، فإنه يجده صحيحا، كذلك محبة الزوج لزوجته ليس إلا لما [2ب] يناله منها من اللذة الدنيوية، فلو أصيبت بمصيبة أذهبت ما يدعوه إلى محبتها من جمال، أو كمال، أو حسن تدبير في أمور المعاش وحرص على مال الزوج لوجدت الزوج يمج بها للموت، ويعد ذلك من الفرج، فإن تطاول عليه الأمر كان صبره عليها من أعظم المروءة وإلا فالغالب ..... (1) وقطع علاقة محبتها، فإن أحبها في تلك الحالة لكونها ذات أولاد فذلك أيضًا لأمر يرجع إلى الدنيا لما عرفت.
_________
(1) بياض في المخطوط.(11/5301)
كذلك الزوجة إذا وقع مع زوجها ما يذهب غرضها الدنيوي منه كانت مثله فيما سلف، فلو كانت المحبة لمحض الزوجية لم يذهب بذهاب العرض الدنيوي مع بقائها، كذلك المحبة بين الأجانب فإن أعظم أنواعها والفرد الكامل منها هو محبة العاشق للمعشوق، وهي آيلة إلى محبة الدنيا؛ لأن غرض العاشق قرب المعشوق واجتماعه به، والباعث على ذلك إما شفاء الداء الناشئ عن البعد، أو الالتذاذ بالمشاهدة، أو بالكلام أو بالجماع، أو مقدماته، وكل ذلك أغراض دنيوية، فلو عرض للمعشوق ما يزول به الأمر الحاصل على عشقه لما كان العاشق عاشقا حينئذ، فعرفت أن المحبة العشقية [3أ] دنيوية محضة، كذلك محبة الخادم للمخدوم، فإنها ليست إلا لكونه مزرعة لمنافعه، فلو فرض ذهاب الأمر الموجب للخدمة، أو وجود مخدوم آخر يساوي المخدوم الأول، أو يزيد عليه لم يبق من تلك المودة شيء.
إذا تقرر لك أن هذه الأنواع التي هي أقوى أنواع الحب ليست إلا من محبة الدنيا لتصور بعض منافعها في ضمن شخص من الأشخاص تبين لك ما هو دونهما بفحوى الخطاب، فإنه يجعله من محبة الدنيا أولى وأحرى، وذلك كالمحبة الكائنة بين الإخلاء البالغين في التخالل إلى أعلى الدرجات، حتى يستحق كل واحد منهم بالنسبة إلى الآخر اسم الصديق أو .... (1) عن الغاية فيطلق على كل واحد منهم اسم الصاحب، فإنك إذا أمعنت الفكر، ودققت النظر وجدت السبب الحامل على ذلك عرضا دنيويا، وهو جلي وخفي، فإذا مات أحد الإخلاء وذلك الغرض يتعلق به [3ب] كان الحزن عليه حزنا على ذلك الغرض الفائت، وإن مات وذلك الغرض غير متعلق به كان أهون فائت، هذا معلوم لا شك فيه، ومن أنكر فعليه بالاستقراء مع التفكر، وأقل الأعراض في الصحبة مثلا أنس أحد الشخصين بالآخر، والنشاط إلى الاجتماع به، وملاقاته، فإن هذا الغرض ربما يخفى أنه من أغراض الدنيا، وهو منها بلا ريب، فإن ترويح الخاطر بحالة من
_________
(1) كلمة غير مقروءة في المخطوط.(11/5302)
كان كذلك والسرور بملاقاته من الأغراض الدنيوية المحضة، فعرفت أن الأحزان والهموم المتوجه من بعض نوع الإنسان إلى بعض على الدنيا ولها وفيها. وقد كشف هذا المعنى حكيم الشعراء أبو الطيب المتنبي (1) حيث يقول:
كل دمع يسيل منها عليها ... وبفك اليدين منها تخلى (2)
ما أجود فكره، وأحكم شعره، وأدق نظره! وبهذا التحقيق عرفت ما انطوى عليه ذلك الحديث الشريف من الإشارة إلى شرف هذه الخصلة، وهي التحاب في الله، حتى رفع لأهلها في دار الخلد منابر من نور تكريما لهم وتعظيما لقيامهم بنوع من الطاعات، لا يقوم بها إلا من سبقت له [4أ] العناية الربانية.
فإن قلت: صور لي صورة يصدق في مثلها الحديث فإنه لا بد من وجود من يتصف بهذه الصفة (3)؛ لأن الحديث من باب الإخبار، وأخبار الصادق يستحيل تخلفها،
_________
(1) في ديوانه (3/ 131) بشرح أبي البقاء العكبري.
(2) هذا البيت من قصيدة يعزي فيها سيف الدولة بأخته الصغرى أنشدها في رمضان سنة 344، وهي من الخفيف والقافية من المتواتر. ومطلعها:
إن يكن صبر ذي الرزية فضلا ... فكن الأفضل الأعز الأجلا
"الديوان" (3/ 123).
أما معنى البيت الذي استشهد به الشوكاني فيقول شارح الديوان (3/ 131): يريد أن كل من أبكته الدنيا إنما يبكي عليها، ولا يخلي الإنسان يديه عنها إلا قسرا.
(3) نفتح أمامك صفحات مطوية.
أخرج ابن أبي الدنيا في "الإخوان" رقم (162): حدثني رياح بن الجراح العيدي، قال: جاء فتح الموصلي إلى صديق له يقال له عيسى التمار. فلم يجده في المنزل، فقال للخادم: أخرجي إلي كيس أخي، فأخرجته له فأخذ درهمين، وجاء عيسى إلى منزله فأخبرته الخادم بمجيء فتح وأخذه الدرهمين فقال: إن كنت صادقة فأنت حرة، فنظر فإذا هي صادقة فعتقت.
قال الإمام أحمد رحمه الله: لو أن الدنيا جمعت حتى تكون في مقدار لقمة، ثم أخذها أمرؤ مسلم فوضعها في فم أخيه لما كان مسرفا.
انظر: "طبقات الحنابلة" (1/ 106).
قال أبو سليمان الداراني: قد يعملون بطاعة الله عز وجل ويتعاونون على أمره ولا يكونوا إخوانا حتى يتزاوروا ويتباذلوا.
انظر كتاب: "الإخوان" (ص127).(11/5303)
يوجد من يقوم بذلك عند دفع المستحيل، وهو لا يقع فيبطل ما استلزم ذلك.
قلت: يصدق ذلك في مثل رجلين متحابين لمحض عرض أخروي ليس من أعراض الدنيا، ولا يتعلق بشيء ابتداء ولا انتهاء، كمن يتحابان لكونهما يجتمعان على الجهاد في سبيل الله، فينظر كل واحد منهما من صاحبه من النكاية في الكفار، وشدة الشكيمة ما يوجب له المحبة عنده، لكونه قد قام بما أوجب الله عليه، وصار من أهل الجنة، وكذلك الاجتماع على طلب العلم مع خلوص النية، وحسن الطوية، والتجرد عن كل عرض فاسد، فيحب كل واحد منهما الآخر لكونه يستوجب بعمله الجنة، وكذلك سائر الطاعات إذا كانت المحبة لأجلها، ولكن انظر كم ترى من أهل هذه الطبقة، فإن التحاب لمحض العمل الأخروي مما يعز وجوده غاية العزة عند من لم يعتز بالمبادئ، واهتم بالمطالب، وفحص في دون تعليل، ولم ينفق عليه تلبيس [4ب] ولا تغرير.
ومن أعظم فوائد إمعان النظر في مثل هذا البحث أن الإنسان إذا حاط بحقيقته لم يحفل بجلب القلوب إليه وعطف الخواطر عليه؛ لأن ذلك لم يفعل لأجله، بل لأجل المنافع المتعلقة به، فيسموا بنفسه إلى أن يكون جميع ما يفعله مما يستحسنه الناس خالصة لله - جل جلاله -. فإن فعل الخير من كرم أو شجاعة أو حسن خلق أو علم أو عمل إذا كان معظم القصد به أن يكون فاعله محبوبا عند من يعلم ذلك معظما، رفيع القدر، عالي المحل فهو مع كونه من الرياء البحت، والشرك الخفي غرض ساقط لا ترغب في مثله إلا النفوس الساقطة.(11/5304)
ووجه سقوطه أنه وإن كان محصلا لغرض دنيوي لما فيه، رفعه المحل، ونباهة القدر، ونبالة الذكر لكنه عند التحقيق لأسباب هي غير ذلك الشخص، فإنه لو فتش عن قلوب المحبين له في الظاهر لوجدها في الحقيقة محبة لماله أو جماله، أو سائر الأغراض الدنيوية المتعلقة به، يزول بزوالها مع بقاء ذاته، فإنه إذا كان محبوبا لأجل إنفاقه على إخوانه ومعارفه زالت تلك المحبة [5أ] بمجرد ذلك الإنفاق (1)، وانقلبت المحبة عداوة،
_________
(1) قال الحريري: "تعامل الناس في القرن الأول بالدين حتى رق الدين وتعاملوا في القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء، وفي الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة ولم يبق إلا الرغبة والرهبة".
"الإحياء" (2/ 179).
* قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: " أتى علينا زمان وما يرى أحد منا أحق بالدينار والدرهم من أخيه المسلم، وإنا في زمان الدينار والدرهم أحب إلينا من أخينا المسلم".
لذلك عليم أن تحسن اختيار - الأخ - لأن ذلك أصبح جوهرة مفقودة فهنيئا لمن كان له أخ في الله.
* قال علقمة العطاردي في وصيته لابنه حين حضرته الوفاة قال: "يا بني! إذا عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، وإن قعدت بك مؤونة مالك. وإن رأى منك حسنة عدها وإن رأى سيئة سدها، اصحب من إذا سألته أعطاك، وإن سكت ابتداك، وإن نزلت بك نازلة واساك، اصحب من إن قلت صدق قولك، وإن حاولتما أمرا أمرك وإن تنازعتما آثرك.
وللمؤمن حق على أخيه المؤمن:
1 - ): الحق في المال: قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حقت محبتي للمتباذلين في". تقدم تخريجه. والمواساة بالمال على ثلاث مراتب:
1 - أن تقوم بحاجته من فضلة مالك فإذا سنحت له حاجة وكانت عندك فضلة عن حاجتك أعطيته ابتداء ولم تحوجه إلى السؤال فإن أحوجته إلى السؤال فهو غاية التقصير في حقه.
2 - أن تنزله منزلة نفسك وترضى بمشاركته إياك في مالك ونزوله منزلتك حتى تسمح بمشاطرته في المال.
رأى بعض الحكماء رجلين يصطحبان لا يفترقان، فسأل عنهما فقيل: هما صديقان. فقال: ما بال أحدهما فقير والآخر غني؟.
3 - وهي العليا أن تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك وهذه رتبة الصديقين ومنتهى درجات المتحابين.
2 - ): وعليه إطعام الإخوان وكسوتهم:
قال أبو سليمان الداراني: " لو أن الدنيا كلها لي في لقمة، ثم جاءني أخ لأحببت أن أضعها في فمه".
"كتاب الإخوان" (ص235).
وقال: إني لألقم اللقمة أخا من أخواني فأجد طعمها في حلقي".
"الإحياء" (2/ 190).
3 - ): أن يعينه بالنفس والبدن في قضاء الحاجات والقيام بها قبل السؤال، وتقديمها على الحاجات الخاصة.
قال بعضهم: إذا استقضيت أخاك حاجة فلم يقضها فذكره ثانية فلعله أن يكون قد نسي، فإذا لم يقضها فكبر عليه واقرأ هذه الآية: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام:36].
"كتاب الإخوان" (ص240 - 248).
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة".
أخرجه البخاري رقم (2442) ومسلم رقم (2580) وأبو داود رقم (4893) والترمذي رقم (1426) من حديث ابن عمر.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا".
أخرجه البخاري رقم (6064) ومسلم رقم (2563،2564) وأبو داود رقم (4917) والترمذي رقم (1988) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". تقدم تخريجه.
4 - ): أن يتودد إليه بلسانه، ويتفقده في أحواله التي يحب أن يتفقده فيها منها:
1 - أن يخبر بمحبته له.
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه أنه يحبه".
2 - أن تدعوه بأحب الأسماء إليه في غيبته وحضوره.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته أولا، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه.
3 - أن تثني عليه بما تعرف من محاسن أحواله عند من يؤثر هو الثناء عنده.
4 - أن تشكره على صنيعه في حقك.
5 - عليك الذب عنه في غيبته مهما قصد بسوء أو تعرض عرضه بكلام صريح أو تعريض.
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة".
أخرجه الترمذي رقم (1931) من حديث أبي الدرداء وهو حديث صحيح.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه". من حديث أبي هريرة. أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2564).
6 - التعليم والنصيحة:
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" تقدم تخريجه.
قال الشافعي رحمه الله: "من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه ... ".
5 - ): من حقه عليك: أن تعفو عن زلاته وهفواته:
قال الأحنف: حق الصديق أن تحتمل منه ثلاثا: ظلم الغضب وظلم الدالة، وظلم الهفوة وقد قليل:
واغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
6): أن تدعو له في حياته وبعد مماته:
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذ دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة: ولك بمثل".
وقال أبو الدرداء: إني لأدعو لسبعين من إخواني في سجودي أسميهم بأسمائهم.
"الإحياء" (2/ 202).
قال القاضي محمد بن محمد بن إدريس الشافعي: قال لي أحمد بن حنبل: أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم سحرا.
انظر "سير أعلام النبلاء" (11/ 127).
وروى الخطيب البغدادي في "تاريخه" (9/ 361) في ترجمة الطيب إسماعيل أبي حمدون أحد القراء المشهورين قال: "كان لأبي حمدون صحيفة فيها مكتوب ثلاثمائة من أصدقائه، وكان يدعو لهم كل ليلة، فتركهم ليلة فنام، فقيل له في نومه: يا أبا حمدون: لِمَ لم تسرج مصابيحك الليلة، قال: فقعد فأسرج وأخذ الصحيفة فدعى لواحد واحد حتى فرغ
7 - ): من حقه عليك الوفاء والإخلاص:
1 - الثبات على الحب وإدامته إلى الموت معه وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه.
2 - ومن الوفاء مراعاة جميع أصدقائه وأقاربه.
3 - أن لا يصادق عدو صديقه.
4 - أن لا يتغير حاله في التواضع مع أخيه وإن ارتفع شأنه واتسعت ولايته وعظم جاهه.
قال الشاعر:
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
5 - ومن الوفاء أن تجزع من المفارقة:
وقد قيل:
وجدت مصيبات الزمان جميعها ... سوى فرقة الأحباب هينة الخطب
قال الغزالي في "الإحياء" (2/ 204): "اعلم أن ليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر يتعلق بالدين، بل الوفاء لله المخالفة، فقد كان الشافعي رحمه الله آخى محمد بن عبد الحكم وكان يقربه ويقبل عليه ويقول ما يقيمني بمصر غيره، فاعتل محمد فعاده الشافعي رحمه الله فقال:
مرض الحبيب فعدته ... فمرضت من حذري عليه
وأتى الحبيب يعودني ... فبرئت من نظري إليه
6 - ومن الوفاء أن تحسن الظن بأخيك.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" تقدم تخريجه.
8 - التخفيف وترك التكلف والتكليف:
قال الفضيل: إنما تقاطع الناس بالتكلف، يزور أحدهما أخاه فيتكلف له فيقطعه ذلك عنه، وقالوا: من سقطت كلفته دامت ألفته ومن خفت مؤنته دامت مودته.(11/5305)
وكذلك لو ذهب جمال من كان محبوبا لأجل جماله، أو انتقض من كان محبوبا لأجل انبساط أخلاقه، فلا ريب أن هذه المحبة من الأغراض الساقطة، وهمه من أتعب نفسه لأجلها، واقتحم في تحصيلها مهالك الرياء أسقط وأسقط فلم لذي الهمة الرفيعة والقدر السامي إلا اطراح الطلب لذلك، والاشتغال بالأغراض الأخروية، فيجعل جهاده وصدقته وتعليمه وحسن خلقه، وسائل خصاله الخيرية لله - جل جلاله -، ولا يبالي بمن أوصل الخير إليه أشكر أم كفر، صدق أم غدر، مع أنه إذا أخلص النية كان التأثير في النفوس أوقع، وحصول المنافع الدنيوية لمن لم يقصدها أسرع، فإن ستر المرائي مبتوك، وحبل طالب الدنيا بأعمال الدين مبتوك، بخلاف المخلص فإنه أخص بأعماله من أقواله وأفعاله جناب من تعد أزمة الأمور، ومن هو المصرف لقلوب عباده كيف يشاء، ومن نظر في سر الإخلاص علم أن من لم يخلص لم يؤت إلا من قبل نفسه، والفطرة التي تهدي إلى الخير هي هلكة [5ب] العقل، وبها دارت عليه دوامة التوفيق (1).
_________
(1) كلمات لا بد أن نتأملها:
1 - قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
2 - قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
أخرجه مسلم رقم (3638) وأبو داود رقم (3834) وهو حديث صحيح.
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (3336) من حديث عائشة رضي الله عنها.
3 - قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه أبو داود رقم (4833) والترمذي رقم (2379) وقال: هذا حديث حسن غريب.
وهو حديث حسن.
5 - عن أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متى الساعة؟ قال: "وما أعددت لها؟ " قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله قال: "أنت مع من أحببت" قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنت مع من أحببت". قال أنس: فأنا أحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم".
أخرجه البخاري رقم (3688، 6167) ومسلم رقم (2639).
وعن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المرء مع من أحب".
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6170) ومسلم رقم (2640).
6 - عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي".
أخرجه أبو داود رقم (4832) والترمذي رقم (2395) وأحمد (3/ 38) وابن حبان رقم (554). وهو حديث حسن.
7 - عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه".
أخرجه البخاري رقم (660) ومسلم رقم (1031) وأحمد (2/ 439) والترمذي رقم (2391) قال ابن عبد البر في "التمهيد" (2/ 282): هذا أحسن حديث يروى في فضائل الأعمال وأعمها وأصحها إن شاء الله، وحسبك به فضلا لأن العلم محيط بأن كل من كان في ظل الله يوم القيامة لم ينله هول الموقف.
ومن المعاني المشتركة بين الفئات السبعة:
1 - ): الرغبة والرهبة من الله وفي الله.
2 - ): مراقبة الله والإخفاء عن الناس.
3 - ): ارتباط هذه الأجناس بعضها وتأثير بعضها في بعض.
4 - ): اشتراكهم في مخالفة هواهم.
فما عليك إلا أن تعمل جاهدا على أن تكون منهم ومعهم لتأمن هول الموقف وتحشر معهم فأعد العدة للفردوس الأعلى ... والله خير معين.(11/5309)
اللهم أنت الهادي لا هادي سواك، اهد قلوبنا إلى سلوك ما فيه رضاك. قال في الأم: حرره قائله محمد بن علي الشوكاني - وفقه الله [6أ]-.(11/5311)
تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(11/5313)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل.
2 - موضوع الرسالة: آداب.
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله الأطهرين اعلم أنه قد طال الكلام من أهل العلم على ما يظهر في بادي الأمر
4 - آخر الرسالة: ... ودين الله سبحانه بين المفرط والغالي، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق.
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 10 صفحات ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 34 سطر.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5315)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الأطهرين.
اعلم أنه قد طال الكلام من أهل العلم على ما يظهر في بادئ الرأي من التعارض بين هذه الآيات الشريفة، وهي قوله - عز وجل -: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} (1)، وقوله: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} (2)، وقوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (3)، وقوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (4). فقد قيل إنها معارضة لقوله عز وجل: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (5) وقوله - سبحانه -: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (6) وقوله - سبحانه -: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} (7) فذهب الجمهور (8) إلى أن العمر لا يزيد ولا ينقص استدلالا بالآيات المتقدمة، وبالأحاديث الصحيحة كحديث ابن مسعود عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا، ويؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد".
_________
(1) [المنافقون: 11].
(2) [نوح: 4].
(3) [النحل: 61].
(4) [آل عمران: 145].
(5) [الرعد: 39].
(6) [فاطر: 11].
(7) [الأنعام: 2].
(8) [انظر "المحرر الوجيز" (7/ 51).(11/5319)
وهو في الصحيحين (1) وغيرهما (2) وما ورد في معناه من الأحاديث الصحيحة (3).
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6594) ومسلم رقم (2643).
(2) كأبي داود رقم (4708) والترمذي رقم (2137) وابن ماجه رقم (76) وأحمد (1/ 382، 414) وابن حبان في صحيحه رقم (6174) والبغوي في "شرح السنة" (1 \ رقم 71) والحميدي في مسنده (1/ 69) والنسائي في "التفسير" (1/ 593 رقم 266).
قال الحافظ في "الفتح" (11/ 489): وفيه أن تقدير الأعمال ما هو سابق ولاحق، فالسابق ما في علم الله تعالى، واللاحق ما يقدر على الجنين في بطن أمه كما وقع في الحديث وهذا هو الذي يقبل النسخ.
وقال الحافظ في "الفتح" (11/ 488): وفيه أن السعيد قد يشقى وأن الشقي قد يسعد لكن بالنسبة إلى الأعمال الظاهرة، وأما ما في علم الله تعالى فلا يتغير، وفيه الاعتبار بالخاتمة، قال ابن حمزة نفع الله به: هذه التي قطعت أعناق الرجال مع ما هم فيه من حسن الحال لأنهم لا يدرون بماذا يختم لهم.
وفيه أن عموم مثل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ} الآية مخصوص بمن مات على ذلك وأن من عمل عمل السعادة وختم له بالشقاء فهو في طول عمره عند الله شقي وبالعكس وما ورد يخالفه يؤول إلى أن يؤول إلى هذا.
وقد اشتهر الخلاف بين الأشعرية والحنفية وتمسك الأشاعرة بمثل هذا الحديث، وتمسك الحنفية بمثل قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} وأكثر كل من الفريقين الاحتجاج لقوله. والحق أن النزاع لفظي، وأن الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل، وأن الذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي فيقع فيه المحو والإثبات كالزيادة في العمر والنقص وأما ما في علم الله فلا محو فيه ولا إثبات والعلم عند الله.
وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (14/ 492): قال العلماء: إن المحو والإثبات في صحف الملائكة وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالما به، فلا محو فيه ولا إثبات.
(3) منها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2663) وأحمد (1/ 390، 413، 433، 445، 466) من حديث أم حبيبة عندما قالت: اللهم متعني بأبي، أبي سفيان، وبأخي معاوية وبزوجي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد سألت في آجال مضروبة، وأرزاق مقسومة، لا يؤخر منها شيء". قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (18/ 213): وهذا الحديث صريح في أن الآجال والأرزاق مقدرة لا تتغير عما قدره الله تعالى وعلمه في الأزل فيستحيل زيادتها ونقصها حقيقة عن ذلك، وأما ما ورد في حديث صلة الرحم تزيد في العمر ونظائره - "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه" - وقد أجاب العلماء على ذلك بأجوبة منها:
1 - ): الصحيح: أن هذه الزيادة بالبركة في عمره والتوفيق للطاعات وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة وصيانتها عن الضياع في غير ذلك.
2 - ): أنه بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة وفي اللوح المحفوظ ونحو ذلك فيظهر لهم في اللوح أن عمره ستون سنة إلا أن يصل رحمه فإن وصلها زيد أربعون وقد علم الله سبحانه وتعالى ما سيقع له من ذلك وهو من معنى قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} فيه النسبة إلى علم الله وما سبق به قدرة ولا زيادة بل هي مستحيلة وبالنسبة إلى ما ظهر للمخلوقين تتصور الزيادة وهو مراد الحديث.
3 - ): أن المراد بقاء ذكره الجميل يعده فكأنه لم يمت حكاه القاضي وهو ضعيف.
"شرح صحيح مسلم" للنووي (18/ 2114).
ومنها: ما أخرجه أبو داود رقم (4700) والترمذي رقم (2155) والطيالسي في مسنده (ص79 رقم 577) وأحمد (5/ 317) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 204) من حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب. قال: يا رب. ما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة". وهو حديث صحيح.(11/5320)
وأجابوا عن قوله - عز وجل - {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] بأن المعنى يمحو ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه؛ وجملة الناسخ والمنسوخ عنده في أم الكتاب. ولا يخفى أن هذا تخصيص لعموم الآية بغير مخصص (1).
وأيضا يقال لهم: إن القلم قد جرى بما هو كائن إلى يوم القيامة كما في الأحاديث الصحيحة (2). ومن جملة ذلك الشرائع والفرائض فهي مثل العمر، إذا جاء فيما المحو والإثبات جاز في العمر المحو والإثبات. وقيل (3) المراد بالآية محو ما في ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة، لأنهم مأمورون بكتب كل ما ينطق به الإنسان، ويجاب عنه بمثل
_________
(1) تقدم توضيحه.
(2) انظر الحديث المتقدم.
(3) انظر هذه الأقوال في "الجامع لأحكام القرآن" (9/ 331 - 332).(11/5321)
الجواب الأول. وقيل: يغفر الله ما يشاء من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفره. ويجاب عنه بمثل الجواب السابق.
وقيل (1) يمحو ما يشاء من القرون كقوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} (2) وكقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ} (3) فيمحو قرنا ويثبت قرنا، ويجاب عنه أيضًا بمثل ما تقدم. وقيل (4) هو الذي يعمل بطاعة الله، ثم يعمل بمعصيته الله ثم يتوب فيمحوه الله من ديوان السيئات، ويثبته في ديوان الحسنات.
وقيل (5) يمحو ما يشاء يعني الدنيا، ويثبت الآخرة. وقيل غير ذلك (6).
وكل هذه الأجوبة [1أ] دعاوى مجردة. ولا شك أن آية المحو والإثبات عامة لكل ما يشاؤه الله - سبحانه -، فلا يجوز تخصيصها إلا بمخصص، وإلا كان ذلك من التقول على الله - عز وجل - بما لم يقل (7).
وقد توعد الله - سبحانه - على ذلك، وقرنه بالشرك فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (8).
_________
(1) عزاه القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (9/ 232) لعلي بن أبي طالب.
(2) [يس:31].
(3) قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن " (9/ 332) ذكره الثعلبي والماوردي عن ابن عباس.
(4) قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن " (9/ 332) ذكره الثعلبي والماوردي عن ابن عباس.
(5) ذكره القرطبي في تفسيره ولم يعزه لأحد (9/ 332).
(6) (منها): قال الربيع بن أنس. هذا في الأرواح حالة النوم، يقبضها عند النوم، ثم إذا أراد موته فجأة أمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه بيانه قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}. منها: قول الحسن: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} من أجله {وَيُثْبِتُ} من لم يأت أجله.
(7) قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (9/ 329) مثل هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد، وإنما يؤخذ توقيفا، فإن صح فالقول به يجب ويوقف عنده وإلا فتكون الآية عامة في جميع الأشياء، وهو الأظهر والله أعلم. وهذا يروي معناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وأبي وائل وكعب الأحبار وغيرهم وهو قول الكلبي ...
(8) [الأعراف:33].(11/5322)
وأجابوا عن قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (1) بأن المراد بالمعمر الطويل العمر، والمراد بالناقص قصير العمر. وفي هذا نظر، لأن الضمير في قوله: {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} يعود إلى قوله: {مِنْ مُعَمَّرٍ}. والمعنى على هذا: وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمر ذلك المعمر إلا في كتاب، هذا ظاهر معنى النظم القرآني (2)، وأما التأويل المذكور فإنما يتم على إرجاع الضمير المذكور إلى غير ما هو المرجع في الآية، وذلك لا وجود له في النظم.
وقيل (3) إن معنى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} ما يستقبله من عمره. ومعنى (4): {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} ما قد مضى. وهذا أيضًا خلاف الظاهر، لأن هذا ليس ينقص من نفس العمر، والنقص يقابل الزيادة (وما) هنا جعله مقابلا للبقية من العمر، وليس ذلك بصحيح. وقيل (5) المعنى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} من بلغ سن الهرم ولا ينقص من عمره، أي من عمر آخر غير هذا الذي بلغ سن الهرم عن عمر هذا الذي بلغ سن الهرم ويجاب عنه بما تقدم. وقيل (6) المعمر من يبلغ عمره ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل الستين، وقيل غير من التأويلات (7) التي يردها اللفظ ويدفعها.
_________
(1) [فاطر \ 11].
(2) انظر "الجامع لأحكام القرآن" (14/ 333)، "جامع البيان" (12 \ جـ22/ 122).
(3) عزاه القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (14/ 333) لسعيد بن جبير.
(4) ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن " (14/ 333).
(5) انظر الجامع لأحكام القرآن " (14/ 333).
(6) قاله قتادة كما في "الجامع لأحكام القرآن" (14/ 333).
(7) قال ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (12 \ حـ22/ 122): عن ابن عباس قوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} أي: ليس أحد قضيت له طول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر، وقد قضيت ذلك له، وإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت له، لا يزاد عليه، وليس أحد قضيت له أنه قصير العمر والحياة ببالغ العمر، ولكنه ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت له لا يزاد عليه، فذلك قوله: {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} يقول كل ذلك في كتاب عنده " وهو الراجح.
انظر: " تفسير البغوي" (3/ 567)، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (14/ 333).(11/5323)
وأجابوا عن قوله - سبحانه -: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} (1). بأن المراد بالأجل الأول النوم، والثاني الوفاة (2). وقيل (3): الأول: ما قد انقضى من عمر كل أحد، والثاني: ما بقي من عمر كل أحد. وقيل (4) الأول أجل الموت، والثاني أجل الحياة في الآخرة. وقيل (5): المراد بالأول ما بين خلق الإنسان إلى موته، والثاني: ما بين موته إلى بعثه، وقيل غير ذلك مما فيه مخالفة للنظم القرآني.
وقال جمع من أهل العلم: إن العمر يزيد وينقص، واستدلوا بالآيات المتقدمة. فإن المحو والإثبات عامان يتناولان العمر والرزق والسعادة والشقاوة وغير ذلك.
وقد ثبت عن جماعة من السلف من الصحابة ومن بعدهم أنهم كانوا يقولون في أدعيتهم: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني، وأثبتني في أهل السعادة (6). ولم يأت القائلون بمنع زيادة العمر ونقصانه ونحو ذلك بما يخصص هذا العموم. وهكذا يدل على هذا المعنى الآية الثانية. فإن معناها
_________
(1) [الأنعام:2].
(2) انظر "الجامع لأحكام القرآن " (6/ 387).
(3) انظر هذه الأقوال في "التفسير الكبير للرازي " (12/ 153).
(4) انظر "الجامع لأحكام القرآن " (6/ 389).
(5) قال الألوسي في "روح المعاني " (7/ 88): ذهب بعضهم إلى أن الأجل الأول ما بين الخلق والموت، والثاني ما بين الموت والبعث وروي ذلك عن الحسن، وابن المسيب وقتادة والضحاك واختاره الزجاج.
(6) انظره في "الكافي الشافي" (ص139).(11/5324)
أنه لا يطول عمر إنسان ولا ينقص إلا وهو في كتاب أي في اللوح المحفوظ (1).
وهكذا يدل قوله - سبحانه -: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} (2). أن للإنسان أجلين يقضي الله - سبحانه - له بما يشاء منهما من زيادة أو نقص. ويدل على ذلك أيضًا ما في الصحيحين وغيرهما [1ب] عن جماعة من الصحابة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن صلة الرحم تزيد في العمر. وفي لفظ في الصحيحين (3): "من أحب أن يبسط له في
_________
(1) قال ابن تيمية: "فالأجل الأول هو أجل كل عبد الذي ينقضي به عمره، والأجل المسمى عنده هو أجل القيامة العامة، ولهذا قال: مسمى عنده. فإن وقت الساعة لا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي مرسل كما قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} ... وأما أجل الموت فهذا تعرفه الملائكة الذين يكتبون رزق العبد، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد كما ثبت في الصحيحين:" أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ... " الحديث - تقدم - فهذا الأجل الذي هو أجل الموت قد يعلمه الله لمن يشاء من عبادة وأما أجل القيامة المسمى عنده فلا يعلمه إلا هو ".
انظر: "مجموع فتاوى" (4/ 489) "والتفسير الكبير " لابن تيمية (4/ 198 - 199).
وقال الطبري وأولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال: معناه ثم قضى أجل الحياة الدنيا، وأجل مسمى عنده، وهو أجل البعث عنده، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأنه تعالى نبه خلقه على موضع حجته عليهم من أنفسهم فقال لهم: أيها الناس، إن الذي يعدل به كفاركم الآلهة، والأنداد هو الذي خلقكم فابتدأكم وأنشأكم من طين، فجعلكم صورا أجساما أحياء، بعد إذ كنتم طينا جمادا، ثم قضى آجال حياتكم لفنائكم ومماتكم، ليعيدكم ترابا وطينا، كالذي كنتم قبل أن ينشأكم ويخلقكم: {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} لإعادتكم أحياء وأجساما، كالذي كنتم قبل مماتكم وذلك نظير قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
(2) [الأنعام:2].
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2067) وطرفه رقم (5986) ومسلم في صحيحه رقم (2557) وأحمد (3/ 156، 247، 266) وأبو داود رقم (1693) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 227) والبغوي في "شرح السنة " (13/ 18 - 19) وابن حبان صحيحه رقم (440) من طرق عن أنس بن مالك.
* وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (5985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(11/5325)
رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه " وفي لفظ (1): "من أحب أن يمد الله في عمره وأجله ويبسط في رزقه فليتق الله وليصل رحمه" وفي لفظ (2): "صلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار".
ومن أعظم الأدلة ما ورد في الكتاب العزيز من الأمر للعباد بالدعاء كقوله - عز وجل - {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (3) وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (4) وقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (5).
وقوله: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (6). والأحاديث المشتملة على الأمر بالدعاء متواترة وفيها: "إن الدعاء يدفع البلاء، ويرد القضاء " وفيها: "أن الدعاء مخ العبادة " (7)، وفيها الاستعاذة من سوء القضاء. كما ثبت عنه - صلى الله عليه وآله
_________
(1) أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائده" (3/ 266). وقال الهيثمي في "المجمع" (8/ 153) رواه عبد الله بن أحمد والبزار والطبراني في "الأوسط" ورجال البزار رجال الصحيح. غير عاصم بن حمزة وهو ثقة.
والحاكم في "المستدرك" (4/ 160) من حديث علي بن أبي طالب وهو حديث حسن.
(2) أخرجه أحمد في "المسند " (6/ 159). وأورده الهيثمي في "المجمع" (8/ 153) بإسناد صحيح وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أن عبد الرحمن بن القاسم لم يسمع عن عائشة.
(3) [غافر:60].
(4) [النمل: 62].
(5) [البقرة:186].
(6) [النساء:32].
(7) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (3371) من حديث أنس وقال الترمذي هذا حديث غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة. وهو حديث ضعيف بهذا اللفظ.
ولكن أخرجه أبو داود رقم (1479) والترمذي رقم (3247) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في "السنن الكبرى" رقم (11464) وابن حبان في صحيحه رقم (890) والحاكم في "المستدرك" (1/ 491) وصححه ووافقه الذهبي وابن أبي شيبة في المصنف (10/ 200) وأحمد (4/ 267) والبغوي في "شرح السنة" رقم (1384) والطيالسي رقم (801) وابن ماجه رقم (3828) والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (714) وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 120) من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدعاء هو العبادة ثم تلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] " وهو حديث حسن.(11/5326)
وسلم - في الصحيح (1) أنه قال: "اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء، ودرك الشفاء، وجهد البلاء، وشماتة الأعداء"، وثبت في حديث قنوت الوتر أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "وقني شر ما قضيت" (2) فلو كان الدعاء لا يفيد شيئا، وأنه ليس للإنسان إلا ما قد سبق في القضاء الأزلي، لكان أمره - عز وجل - بالدعاء لغوا لا فائدة فيه (3)، وكذلك وعدة بالإجابة للعباد الداعين له. وهكذا يكون ما ثبت في الأحاديث المتواترة المشتملة على الأمر بالدعاء، وأنه عبادة لغوا لا فائدة فيه. وهكذا
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6347) ومسلم رقم (53/ 2707) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعوذ من: "سوء القضاء ومن درك الشفاء ومن شماتة الأعداء وجهد البلاء".
(2) أخرجه أبو داود رقم (1425، 1426) والترمذي رقم (464) وابن ماجه رقم (1178) من حديث الحسين بن علي رضي الله عنه.
(3) قال الشوكاني في "قطر الولي" (ص514): لو كان القضاء السابق حتما لا يتحول فأي فائدة في استعاذته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سوء القضاء.
* وهذا مخالف لما ذهب إليه المحققون من أهل العلم حيث قال الحافظ في "الفتح" (11/ 500): " ... أن الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل، وأن الذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي فيقع فيه المحو والإثبات كالزيادة في العمر والنقص وأما ما في علم الله فلا محو فيه ولا إثبات والعلم عند الله".
وانظر: "مجموع الفتاوى" (14/ 492) و"شرح صحيح مسلم "للنووي (18/ 213).(11/5327)
تكون استعاذته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من سوء القضاء لغوا لا فائدة فيه. وهكذا يكون قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "وقني شر ما قضيت". لغوا لا فائدة فيه وهكذا يكون أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالتداوي، وأن الله - سبحانه - ما أنزل من داء إلا وجعل له دواء لغوا لا فائدة فيه، ومع ثبوت الأمر بالتداوي في الصحيح (1) عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -.
فإن قلت: فعلام تحمل ما تقدم من الآيات القاضية بأن الأجل لا يتقدم ولا يتأخر، ومن ذلك قوله - عز وجل -: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (2). قلت: قد أجاب (3) عن ذلك بعض السلف وتبعه بعض الخلف، بأن هذه الآية مختصة بالأجل إذا حضر، فإنه لا يتقدم ولا يتأخر عند حضوره. ويؤيد هذا أنها مقيدة بذلك، فإنه قال: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} (4)،
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (4/ 278) وأبو داود رقم (3855) والترمذي رقم (2038) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه رقم (3436) وغيرهم من حديث أسامة: "قالت الأعراب: يا رسول الله: ألا نتداوى؟ قال: "نعم عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، إلا داء واحد " قالوا: يا رسول الله وما هو؟ قال:"الهرم".
وهو حديث صحيح.
* قال ابن القيم في "الجواب الكافي" (ص27): "إن هذا المقدور قدر بأسباب ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجردا عن أسبابه، ولكن قدر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور وهكذا، كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج روح الحيوان بذبحه، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال الحسنة ودخول النار بالأعمال السيئة. وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال لا فائدة في الأكل والشرب، وجميع الحركات والأعمال، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء، ولا أبلغ من حصول المطلوب.
(2) [النحل:61].
(3) انظر أول الرسالة.
(4) [المنافقون: 11].(11/5328)
وقوله - سبحانه -: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} (1) فقد أمكن الجمع بحمل هذه الآيات على هذا المعنى.
فإذا حضر الأجل لم يتأخر ولا يتقدم. وفي غير هذه الحالة يجوز أن يؤخره الله بالدعاء أو بصلة الرحم، أو بفعل الخير. ويجوز أن يقدمه لمن عمل شرا وقطع ما أمر الله به أن يوصل، وانتهك محارم الله - سبحانه -.
فإن قلت: فعلام يحمل نحو قوله - عز وجل -: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (2) وقوله سبحانه: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (3) وكذلك سائر ما ورد في هذا المعنى؟
قلت: هذه أولا معارضة بمثلها وذلك قوله - عز وجل -: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (4). ومثل ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح (5) القدسي: " يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد شرا، فلا يلومن إلا نفسه .. ".
وثانيًا: بإمكان الجمع بحمل مثل قوله: {إلا في كتاب} وقوله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} على عدم التسبب من العبد بأسباب الخير من الدعاء، وسائر أفعال الخير، وحمل ما ورد فيما يخالف ذلك على وقوع التسبب بأسباب الخير الموجبة لحسن القضاء، واندفاع شره. وعلى وقوع التسبب بأسباب الشر المقتضية لإصابة
_________
(1) [نوح:4].
(2) [الحديد: 22].
(3) [التوبة:51].
(4) [الشورى:30].
(5) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2577).(11/5329)
المكروه ووقوعه على العبد.
وهكذا يكون الجمع بين الأحاديث الواردة بسبق القضاء. وأنه فرغ من تقدير الأجل والرزق والسعادة والشقاوة، وبين الأحاديث الواردة في صلة الرحم بأنها تزيد في العمر، وكذلك سائر أعمال الخير، وكذلك الدعاء، فتحمل أحاديث الفراغ من القضاء على عدم تسبب العبد بأسباب الخير أو الشر.
وتحمل الأحاديث الأخرى على أنه قد وقع من العبد التسبب بأسباب الخير من الدعاء والعمل الصالح، وصلة الرحم أو التسبب بأسباب الشر، فإن قلت قد تقرر بالأدلة من الكتاب والسنة بأن علمه - عز وجل - أزلي، وأنه قد سبق في كل شيء، ولا يصح أن يقدر وقوع غير ما قد علمه، وإلا انقلب العلم جهلا، وذلك لا يجوز إجماعا.
قلت: علمه - عز وجل - سابق أزلي، وقد علم ما يكون قبل أن يكون، ولا خلاف بين أهل الحق من هذه الحيثية، ولكنه غلا قوم فأبطلوا فائدة [2ب] ما ثبت في الكتاب والسنة من الإرشاد إلى الدعاء.
وأنه يرد القضاء، وما ورد من الاستعاذة منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سوء القضاء، وما ورد من أنه يصاب العبد بذنبه، وبما كسبت يده، ونحو ذلك مما جاءت به الأدلة الصحيحة (1)، وجعلوه مخالفا لسبق العلم ورتبوا عليه أنه يلزم انقلاب العلم جهلا، والأمر أوسع من هذا والذي جاءنا بسبق العلم وأزليته هو الذي جاءنا بالأمر بالدعاء، والأمر بالدواء، وعرفنا بأن صلة الرحم تزيد في العمر، وأن الأعمال الصالحة تزيد فيه أيضا، وأن أعمال الشر
_________
(1) منها: ما أخرجه أحمد (5/ 277، 282) وابن ماجه رقم (90) والنسائي في "السنن الكبرى" (2/ 133) كما في "تحفة الأشراف" والحاكم في "المستدرك" (1/ 493) والطبراني في "المعجم الكبير " (2/ 100) وابن أبي شيبة في "المصنف" (10/ 441 - 442) والبغوي في "شرح السنة" (13/ 6) وابن حبان في صحيحه رقم (872). من حديث ثوبان مرفوعًا بلفظ: " لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه".
وهو حديث حسن.(11/5330)
تمحقه، وأن العبد يصاب بذنبه كما يصل إلى الخير، ويندفع عنه الشر بكسب الخير والتلبس بأسبابه.
فإعمال بعض ما ورد في الكتاب والسنة، وإهمال البعض الآخر ليس كما ينبغي. فإن الكل ثابت عن الله - عز وجل -، وعن رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - والكل شريعة واضحة، وطريقة مستقيمة، والجمع ممكن بما لا إهمال فيه لشيء من الأدلة، وبيانه أن الله - سبحانه - كما علم أن العبد يكون له من العمر كذا، أو من الرزق كذا، أو هو من أهل السعادة أو الشقاوة قد علم أنه إذا وصل رحمه زاد له في الأجل كذا، أو بسط له من الرزق كذا، أو صار من أهل السعادة بعد أن كان من أهل الشقاوة، أو صار من أهل الشقاوة بعد أن كان من أهل السعادة (1).
وهكذا قد علم ما يقضيه للعبد. كما علم أنه إذا دعاه، واستغاث به، والتجأ إليه صرف عنه الشر، ودفع عنه المكروه. وليس في ذلك خلف ولا مخالفة لسبق العلم، بل فيه تقيد المسببات بأسبابها (2) كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء وقدر حصول الزرع بالبذر، فهل يقول عاقل بأن ربط هذه المسببات بأسبابها يقتضي خلاف العلم السابق أو ينافيه بوجه من الوجوه؟ فلو قال قائل: أنا لا آكل ولا أشرب بل أنتظر القضاء، فإن قدر الله لي ذلك كان، وإن لم يقدر لم يكن. أو قال: أنا لا أزرع الزرع، ولا أغرس الشجر، بل أنتظر القضاء، فإن قدر الله ذلك كان، وإن لم يقدره لم يكن. أو قال: أنا لا أجامع زوجتي أو أمتي ليحصل لي منهما الذرية، بل إن قدر الله ذلك كان، وإن لم يقدره لم يكن. لكان هذا مخالفا لما عليه رسل الله، وما جاءت به كتبه، وما كان عليه صلحاء الأمة وعلماؤها، بل يكون مخالفا لما عليه هذا النوع الإنساني [3أ] من أبينا آدم إلى الآن، بل مخالفا لما عليه جميع أنواع الحيوانات في البر والبحر، فكيف ينكر وصول العبد إلى الخير بدعائه أو بعمله الصالح؟! فإن هذا من
_________
(1) تقدم توضيحه. انظر "فتح الباري" (11/ 477).
(2) انظر "الجواب الكافي " لابن القيم (ص27). "شفاء العليل" (ص25 - 26).(11/5331)
الأسباب التي ربط الله مسبباتها بها وعلمها قبل أن تكون، فعلمه على كل تقدير أزلي في المسببات والأسباب، ولا يشك من له اطلاع على كتاب الله - عز وجل - ما اشتمل عليه من ترتيب حصول المسببات على حصول أسبابها. كما في قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (1) وقوله: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (2) وقوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (3) وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (4) وقوله: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (5) وكم يعد العاد من أمثال هذه الآيات القرآنية، وما ورد موردها من الأحاديث النبوية! وهل ينكر هؤلاء الغلاة مثل هذا، ويجعلونه مخالفا لسبق العلم مباينا لأزليته؟ فإن قالوا: نعم، فقد أنكروا ما في كتاب الله - عز وجل - من فاتحته إلى خاتمته، وما في السنة المطهرة من أولها إلى آخرها، بل أنكروا أحكام الدنيا والآخرة جميعا، لأنها كلها مسببات مترتبة على أسبابها، وجزاءات معلقة بشروطها. ومن بلغ إلى هذا الحد في الغباوة وعدم تعقل الحجة لم يستحق المناظرة، ولا ينبغي معه الكلام فيما يتعلق بالدين، بل ينبغي إلزامه بإهمال أسباب ما فيه صلاح معاشه وأمر دنياه حتى ينتعش من غفلته ويستيقظ من نومته ويرجع عن ضلالته وجهالته والهداية بيد ذي الحول والقوة لا خير إلا خيره.
ثم يقال لهم هذه الأدعية الثابتة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في دواوين
_________
(1) [النساء:31].
(2) [نوح: 10 - 12].
(3) [إبراهيم:7].
(4) [البقرة:282].
(5) [الصافات:143 - 144].(11/5332)
الإسلام وما يلتحق بها من كتب السنة المطهرة. قد علم كل من له علم أنها كثيرة جدا بحيث لا يحيط بأكثرها إلا مؤلف بسيط ومصنف حافل (1) وفيها تارة استجلاب الخير وفي أخرى استدفاع الشر، وتارة متعلقة بأمور الدنيا وتارة بأمور الآخرة. ومن ذلك تعليمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لأمته ما يدعون به في صلواتهم [3ب] وعقب صلواتهم وفي صباحهم ومسائهم وفي ليلهم ونهارهم وعند نزول الشدائد بهم وعند حصول نعم الله إليهم. هل كان هذا كل منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لفائدة عائدة عليه، وعلى أمته بالخير خالية لما فيه من مصلحة دافعة لما فيه مفسدة؟ فإن قالوا نعم، قلنا لهم فحينئذ لا خلاف بيننا وبينكم، فإن هذا الاعتراف يدفع عنا وعنكم معرة الاختلاف، ويريحنا ويريحكم من التطويل بالكلام على ما أوردتموه وأوردناه. وإن قالوا ليس ذلك لفائدة عائدة عليه وعلى أمته بالخير، جالبة لما فيه مصلحة، دافعة لما فيه مفسدة، فهم أجهل من دوابهم، وليس للمحاجة لهم فائدة، ولا في المناظرة معهم نفع.
يا عجبا كل العجب! أما بلغهم ما كان عليه أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من أول نبوءته إلى أن قبضه الله إليه من الدعاء لربه، والإلحاح عليه، ورفع يديه عند الدعاء حتى يبدو بياض إبطيه (2)، وحتى يسقط رداؤه كما وقع منه في يوم بدر (3)! فهل يقول عاقل فضلا عن عالم، إن هذا الدعاء منه فعله رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وهو يعلم أنه لا فائدة فيه، وأنه قد سبق العلم بما هو كائن، وأن هذا السبق
_________
(1) انظر "الأذكار " للنووي.
" عمل اليوم والليلة " للنسائي، و" عمل اليوم والليلة " لابن السني. " الكلم الطيب" لابن تيمية، " الوابل الصيب" ابن القيم.
(2) منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1031) وطرفاه رقم (3565، 6341) ومسلم رقم (895) من حديث أنس بن مالك قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء وإنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه".
(3) انظر "فتح الباري" (7/ 292 - 293).(11/5333)
يرفع فائدة ذلك، ويقتضي عدم النفع به؟ ومعلوم أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أعلم بربه، وبقضائه وقدره، وبأزليته وسبق علمه بما يكون في بريته. فلو كان الدعاء منه ومن أمته لا يفيد شيئا ولا ينفع نفعا لم يفعله، ولا أرشد الناس إليه وأمرهم به، فإن ذلك نوع من العبث الذي يتنزه عنه كل عاقل فضلا عن خير البشر وسيد ولد آدم.
ثم يقال لهم: إذا كان القضاء واقعا لا محالة، وإنه لا يدفعه شيء من الدعاء والالتجاء والإلحاح والاستغاثة، فكيف لم يتأدب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مع ربه! فإنه قد صح عنه أنه استعاذ بالله - سبحانه - من سوء القضاء كما عرفناك، وقال: "وقني شر ما قضيت" (1). فكيف يقول هؤلاء الغلاة في الجواب عن هذا! أو على أي محمل يحملونه!.
ثم ليت شعري علام يحملون أمره - سبحانه وتعالى - لعباده بدعائه بقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2) ثم عقب ذلك بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (3)
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) [غافر: 60].
قال الشيخ أبو القاسم القشيري في "شرح الأسماء الحسنى" ما ملخصه: جاء الدعاء في القرآن على وجوه منها:
أ - العبادة: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} [يونس:106].
ب - الاستغاثة: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} [البقرة:23].
ج - السؤال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
د - القول: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس:10].
هـ - النداء: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} [الإسراء:52].
و- الثناء: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110].
قال الحافظ في "الفتح" (11/ 94): هذه الآية ظاهرة في ترجيح الدعاء على التفويض وقالت طائفة الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء. وأجابوا عن الآية بأن آخرها دل على أن المراد بالدعاء العبادة لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} واستدلوا بحديث النعمان بن بشير عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الدعاء هو العبادة" - تقدم تخريجه.
وأجاب الجمهور أن الدعاء من أعظم العبادات وقد تواترت الآثار عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالترغيب في الدعاء والحث عليه كحديث أبي هريرة رفعه: "ليس شئ أكرم على الله من الدعاء" أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (3370) وابن حبان في صحيحه رقم (870) والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (712) والطيالسي (1/ 253) وأحمد (2/ 362) وابن ماجه رقم (3828) - وهو حديث حسن -.
ثم قال (11/ 95): أما قوله بعد ذلك: {عَنْ عِبَادَتِي} فوجه الربط أن الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء وعلى هذا فالوعيد إنما هو في حق من ترك الدعاء استكبارا ومن فعل ذلك فقد كفر، وأما من تركه لمقصد من المقاصد فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار منه أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة في الحث عليه.
قلت: - الحافظ ابن حجر - وقد دلت الآية الآتية قريبا من السورة المذكورة أن الإجابة مشترطة بالإخلاص، وهو قوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} قال الطيي: معنى حديث النعمان أن تحمل العبادة على المعنى اللغوي، إذ الدعاء هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له، وما شرعت العبادات إلا للخضوع للباري وإظهار الافتقار إليه، ولهذا ختم الآية بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} حيث عبر عن عدم التذلل والخضوع بالاستكبار ووضع عبادتي موضع دعائي وجعل جزاء ذلك الاستكبار الصغار والهوان.
وحكى القشيري في "الرسالة" (ص265): الخلاف في المسألة فقال: اختلف في أي الأمرين أولى: الدعاء أو السكوت والرضا؟ فقيل: الدعاء وهو الذي ينبغي ترجيحه لكثرة الأدلة لما فيه من إظهار الخضوع والافتقار وقيل السكوت والرضا أولى لما في التسليم من الفضل.
قلت: وشبهتهم أن الداعي لا يعرف ما قدر له فدعاؤه إن كان على وفق المقدور فهو تحصيل حاصل. وإن كان على خلافه فهو معاندة. والجواب عن الأول أن الدعاء من جملة العبادة لما فيه من الخضوع والافتقار. وعن الثاني أنه إذا اعتقد أنه لا يقع إلا ما قدر الله تعالى كان إذعانا لا معاندة.
وفائدة الدعاء: تحصيل الثواب بامتثال الأمر، ولاحتمال أن يكون المدعو به موقوفا على الدعاء لأن الله خالق الأسباب ومسبباتها.
(3) [غافر:60].(11/5334)
أي عن دعائي كما صرح بذلك أئمة .............................(11/5335)
التفسير (1). فكيف يأمر عباده أولا؟ ثم يجعل تركه استكبارا منهم ثم يرغبهم إلى الدعاء، ويخبرهم أنه قريب من الداعي، مجيب لدعوته بقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (2)، ثم يقول معنوناُ لكلامه الكريم بحرف يدل على الاستفهام الإنكاري والتقريع [4أ] والتوبيخ: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (3) ثم يأمرهم بسؤاله من فضله بقوله: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (4) فإن قالوا: إن هذا الدعاء الذي أمرنا الله به، وأرشدنا إليه، وجعل تركه استكبارا وتوعد عليه بدخول النار مع الذل، ورغب عباده إلى دعائه، وعرفهم أنه قريب وأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأنكر عليهم أن يعتقدوا أن غيره يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف ما نزل به من السوء وأمرهم أن يسألوه من فضله، ويطلبوا ما عنده من الخير أن كل ذلك لا فائدة فيه للعبد، وأنه لا ينال إلا ما قد جرى به القضاء وسبق به العلم. فقد نسبوا إلى الرب - عز وجل - ما لا يجوز عليه، ولا يحل نسبته إليه، فإنه لا يأمر العبد إلا بما فيه فائدة يعتد بها، ولا يرغبه إلا إلى ما يحصل له به الخير، ولا يرهبه إلا عما يكون به عليه الضير (5)، ولا يعده إلا بما هو حق يترتب عليه فائدة فهو صادق الوعد
_________
(1) انظر:"جامع البيان" (12/ 78 - 79).
(2) [البقرة:186].
(3) [النمل:62].
(4) [النساء:32].
(5) وقد فند مثل هذا القول ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى " (8/ 176) إذ قال: "الدعاء في اقتضائه الإجابة كسائر الأعمال الصالحة في اقتضائها الإثابة وكسائر الأسباب في اقتضائها المسببات، ومن قال: إن الدعاء علامة ودلالة محضة على حصول المطلوب المسئول، ليس بسبب، أو هو عبادة محضة لا أثر له في حصول المطلوب وجودا ولا عدما، بل ما يحصل بالدعاء يحصل بدونه فهما قولان ضعيفان، فإن الله علق الإجابة به تعليق المسبب بالسبب كقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وفي الصحيحين عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل له في دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها"، قالوا: يا رسول الله إذا نكثر، قال: "الله أكثر".
أخرجه الترمذي رقم (3573) وهو حديث حسن من حديث عبادة بن الصامت.
وأخرجه أحمد (3/ 18) من حديث أبي سعيد الخدري وهو حديث صحيح.(11/5336)
لا يخلف الميعاد، ولا يأمرهم بسؤاله من فضله إلا وهناك فائدة تحصل بالدعاء، ويكون بسببه التفضل عليهم، ورفع ما هم فيه من الضرر وكشف ما حل بهم من السوء.
هذا معلوم لا يشك فيه إلا من يعقل حجج الله، ولا يفهم كلامه، ولا يدري بخير ولا شر، ولا نفع ولا ضر. ومن بلغ به الجهل إلى هذه الغاية فهو حقيق بألا يخاطب، وقمين بأن لا يناظر. فإن هذا المسكين المتخبط في جهله، المتقلب في ضلاله قد وقع فيما هو أعظم خطرا من هذا، وأكثر ضررا منه، وذلك بأن يقال له: إذا كان دعاء الكفار إلى الإسلام، ومقاتلتهم على الكفر، وغزوهم إلى عقر ديارهم لا يأتي بفائدة، ولا يعود على القائمين به من الرسل وأتباعهم وسائر المجاهدين من العبادة بفائدة، وأنه ليس هناك إلا ما قد سبق من علم الله - عز وجل -، وأنه سيدخل في الإسلام، ويهتدي إلى الدين من قد علم الله - سبحانه - منه ذلك، سواء قوتل أو لم يقاتل، وسواء دعي إلى الحق أو لم يدع إليه كان هذا القتال الصادر من رسل الله وأتباعهم ضائعا ليس فيه إلا تحصيل الحاصل، وتكوين ما هو كائن فعلوا أو تركوا، وحينئذ يكون الأمر بذلك عبثا تعالى الله - عز وجل - عن ذلك.
وهكذا ما شرعه الله لعباده من الشرائع على لسان أنبيائه، وأنزل بها كتبه يقال فيه مثل هذا، فإنه إذا كان ما قد حصل في سابق علمه - عز وجل - كائنا سواء بعث الله إلى عباده رسله وأنزل إليهم كتبه، أو لم يفعل ذلك، كان ذلك عبثا يتعالى الرب - سبحانه - عنه، ويتنزه عن أن ينسب إليه.
فإن قالوا: إن الله - سبحانه - قد سبق علمه بكل ذلك، ولكنه قيده بقيود،(11/5337)
وشرطه بشروط، وعلقه بأسباب فعلم مثلا [4ب] أن الكافر يسلم ويدخل في الدين بعد دعائه إلى الإسلام، أو مقاتلته على ذلك، وأن العباد يعمل منهم من يعمل بما تعبدهم الله به بعد بعثه رسله إليهم وإنزال كتبه عليهم قلنا لهم: فعليكم أن تقولوا هكذا في الدعاء، وفي أعمال الخير، وفي صلة الرحم، ولا نطلب منكم إلا هذا، ولا نريد منكم غيره. وحينئذ قد دخلتم إلى الوفاق من طريق قريبة، فعلام هذا الجدال الطويل العريض، والحجاج الكثير الكبير؟ فإنا لا نقول إلا أن الله - سبحانه - قد علم في سابق علمه أن فلانا يطول عمره إذا وصل رحمه، وأن فلانا يحصل له من الخير كذا، أو يندفع عنه من الشر كذا إذا دعا ربه، وأن هذه المسببات مترتبة على حصول أسبابها. وهذه الشروطات مقيدة بحصول شروطها. وحينئذ فارجعوا إلى ما قدمنا ذكره من الجمع بين ما تقدم من الأدلة، واستريحوا من التعب، فإنه لم يبق بيننا وبينكم خلاف من هذه الحيثية.
وقد كان الصحابة (1) - مثل عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبي وائل، وعبد الله بن عمر الذين كانوا يدعون الله - عز وجل - بأن يثبتهم في أهل السعادة، إن كانوا قد كتبوا من أهل الشقاوة كما قدمنا، أعلم بالله - سبحانه - وبما يجب له، ويجوز عليه.
وقال كعب الأحبار حين طعن عمر وحضرته الوفاة: "والله لو دعا الله عمر أن يؤخر أجله لأخره" (2). فقيل له: إن الله - عز وجل - يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (3). فقال: هذا إذا حضر الأجل، فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد، وينقص، وقرأ قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (4).
_________
(1) انظر "فتح القدير" (3/ 89).
(2) انظر "الكافي الشافي " لابن حجر (ص 139).
أخرج هذا الأثر إسحاق بن راهوية في آخر مسند ابن عباس.
(3) [الأعراف: 34].
(4) [فاطر:11].(11/5338)
ثم قد علمنا من أهل الإسلام سابقهم ولاحقهم سيما الصالحين منهم أنهم يدعون الله عز وجل فيستجيب لهم ويحصل لهم ما طلبوه من المطالب المختلفة بعد أن كانوا فاقدين لها، ومنهم من يدعو لمريض قد أشرف على الموت بأن يشفيه الله فيعافى في الحال، ومنهم من يدعو على فاجر بأن يهلكه الله فيهلك في الحال (1).
ومن شك في شيء من هذا، فليطالع الكتب الصحيحة في أخبار الصالحين كحلية (2) أبي نعيم، وصفوة الصفوة (3) لابن الجوزي، ورسالة (4) القشيري، فإنه يجد من هذا القبيل ما ينشرح له صدره، ويثلج به قلبه، بل كل إنسان إذا حقق حال نفسه، ونظر في دعائه لربه عند عروض الشدائد، وإجابته له، وتفريجه عنه ما يغنيه عن البحث عن حال غيره إذا كان من المعتبرين المتفكرين.
وهذا نبي الله المسيح عيسى بن مريم - عليه السلام - كان يحيي الموتى بإذن الله، ويشفي المرض بدعائه، وهذا معلوم عنه [5أ] حسبما أخبرنا الله - سبحانه - عنه به في كتابه الكريم، وفي الإنجيل من القصص المتضمنة لإحياء الموتى منه، وشفاء المرض بدعائه ما يعرفه من اطلع عليه.
وبالجملة فهؤلاء الغلاة الذين قالوا إنه لا يقع من الله - عز وجل - إلا ما قد سبق به القلم، وإن ذلك لا يتحول ولا يتبدل، ولا يؤثر فيه دعاء ولا عمل صالح فقد خالفوا ما
_________
(1) قال النووي في "الأذكار" (ص567): نقلا عن الغزالي قال: فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء، ووجود الرحمة، كما أن الترس سبب لدفع السلاح، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء، وليس من شرط الاعتراف بالقضاء أن لا يحمل السلاح وقد قال تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] فقدر الله الأمر، وقدر سببه، فالسبب والمسبب كلاهما مقدر من الله سبحانه مكتوب في اللوح المحفوظ.
(2) تقدم التعليق عليهم.
(3) تقدم التعليق عليهم.
(4) تقدم التعليق عليهم.(11/5339)
قدمنا من آيات الكتاب العزيز، ومن الأحاديث النبوية الصحيحة من غير ملجئ إلى ذلك فقد أمكن الجمع بما قدمناه، وهو متعين. وتقديم الجمع على الترجيح متفق عليه، وهو الحق. وقد قابل هؤلاء بضد قولهم القدرية، وهم معبد الجهني وأصحابه، فإنهم قالوا: إن الأمر أنف (1) أي مستأنف، وقالوا: إن الله لا يعلم بالجزئيات إلا عند وقوعها، - تعالى الله عن ذلك -، وهذا قول باطل يخالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين.
وقد تبرأ من مقالة معبد هذه وأصحابه من أدركهم من الصحابة، منهم ابن عمر كما ثبت ذلك في الصحيح (2). وقد غلط من نسب مقالتهم هذه إلى المعتزلة (3)، فإنه لم يقل
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم التعريف بها.
خلاصة:
1 - ذهب الشوكاني رحمة الله إلى أن أجل الإنسان يزيد وينقص، وأن الله سبحانه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ، ويثبت ما يشاء منه واستدل على ذلك بما ذكر من الأدلة في الرسالة.
* وقدمنا الرأي الراجح وأقوال العلماء في ذلك، كابن حجر، وابن تيمية وها نحن نختم بقول الشيخ عبد الرحمن ناصر السعدي حيث قال عند تفسيره لقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ} الآية "يمحو الله ما يشاء من الأقدار ويثبت ما يشاء منها، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه، وكتبه قلمه، فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير، لأن ذلك محال على الله أن يقع في علمه نقص أو خلل ولهذا قال: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أي اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه سائر الأشياء، فهو أصلها، وهي فروع وشعب، فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة، ويجعل الله لثبوتها أسبابا، ولمحوها أسبابا لا تتعدى تلك الأسباب ما رسم في اللوح المحفوظ، كما جعل البر والصلة والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق، وكما جعل المعاصي سببا لمحق بركة الرزق، والعمر، كما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب بحسن قدرته وإرادته وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ.
"تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" (4/ 117).(11/5340)
بها أحد منهم قط، وكتبهم مصرحة بهذا، ناطقة به، ولا حاجة لنا إلى نقل مقالات الرجال. فقد قدمنا من أدلة الكتاب والسنة والجمع بينهما ما يكفي المنصف ويريحه من الأبحاث الطويلة العريضة الواقعة في هذه المسألة، ومن الإلزامات التي ألزم بها بعض القائلين البعض الآخر، ودين الله - سبحانه - بين المفرط والمغالي.
وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق.
كتبه مؤلفه محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -[5ب].
... تمت ***(11/5341)
زهرة النسرين الفائح بفضائل المعمرين
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(11/5343)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: زهرة النسرين الفائح بفضائل المعمرين.
2 - موضوع الرسالة: آداب.
3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطاهرين وبعد.
فإنه وقع السؤال عن حديث التعمير في الإسلام.
4 - آخر الرسالة: وكان تاريخ المجمع والتحرير في شطر الليل الأول من ليلة الاثنين المسفرة عن اليوم السادس عشر شهر القعدة الحرام سنة 1212 اثني عشرة ومائتين وألف.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 8 صفحات ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 18 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5345)
زهرة النسرين، الفائح بفضائل المعمرين للمؤلف حفظه الله بعنايته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطاهرين، وبعد:
فإنه وقع السؤال عن حديث التعمير في الإسلام.
فأجبت بما حاصلة أن هذا الحديث ورد من طرق متعددة:
منها: حديث أبي هريرة أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (1)، من طريق الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إن العبد إذا بلغ أربعين سنة - وهو العمر - آمنه الله من الخصال الثلاث: من الجنون، والجذام، والبرص، فإذا بلغ خمسين سنة - وهو الدهر - خفف الله عنه الحساب، فإذا بلغ ستين سنة - فهو في إدبار من قوته -، رزقه الله الإنابة إليه فيما يحبه، فإذا بلغ سبعين سنة - وهو الحقب (2) - أحبه أهل السماء، فإذا بلغ ثمانين سنة - وهو الخرف (3) - أثبتت حسناته، ومحيت سيئاته، فإذا بلغ تسعين سنة - وهو
_________
(1) (1/ 375) بدون سند. وذكر السيوطي في "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة " (1/ 142) وسند الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والحافظ ابن حجر في" معرفة الخصال المكفرة " (ص97)، هو: "حدثنا داود بن حماد العبسي، حدثنا اليقظان بن عمار بن ياسر، حدثنا ابن شهاب الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، به.
قلت: وهذا الإسناد ضعيف. لجهالة داود بن حماد في لسان الميزان (3/ 416) وضعف اليقظان بن عمار كما الإصابة (2/ 102 رقم الترجمة 1817).
(2) الحقب: جمع حقبة بالكسر وهي السنة، والحقب: بالضم ثمانون سنة، وقيل أكثر، وجمعه: حقاب. "النهاية" (1/ 412).
(3) الخرف: بالتحريك فساد العقل من الكبر، وقد خرف الرجل بالكسر يخرف خرفا فهو خرف: فسد عقله من الكبر، والأنثى خرفة، وأخرفه الهرم.
"اللسان" (4/ 68).(11/5349)
الفند (1) وقد ذهب عنه العقل - غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفع في أهل بيته، وسماه أهل السماء: أسير الله، وإذا بلغ مائة سنة سمي: حبيب الله (2)، حق على الله أن لا يعذب حبيبه في الأرض".
وأخرجه أيضًا ابن مردويه (3) بإسناده من حديثه، وزاد في أوله قصة، وهي أنه قال: " بينما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جالس ذات يوم في عدة من أصحابه، إذا دخل شيخ كبير متوكئ على عكازة له، فسلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فردوا عليه السلام، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اجلس يا حماد، فإنك على خير" قال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - بأبي وأمي يا رسول الله، قلت لحماد: " اجلس، فإنك على خير"؟! قال: نعم يا أبا الحسن، إذا بلغ العبد ... " فذكر الحديث. وقال فيه: " وإذا بلغ ستين سنة وهو الوقف إلى الستين في إقبال من قوته، وبعد الستين في إدبار من قوته".
وأخرجه أيضًا أبو موسى من طريق ابن مروديه (4). وقال: " هذا الحديث له طرق غرائب، وهذا الطريق أغربها [وفيها ألفاظ ليست في غيرها وهو كما ....................
_________
(1) " الفند" في الأصل الكذب، وأفند تكلم بالفند، ثم قالوا للشيخ إذا هرم قد أفند، لأنه يتكلم بالمحرف من الكلام عن سنن الصحة، وأفنده الكبر إذا أوقعه في الفند.
"النهاية" (3/ 475).
(2) في نوادر الأصول" (1/ 375): حبيب الله في الأرض".
(3) في تفسيره كما في "اللآلئ المصنوعة" (1/ 143) و" معرفة الخصال المكفرة" (ص98) وإسناده:" حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد البلخي، حدثنا محمد بن صالح بن سهل الزيدي، حدثنا داود بن حماد بن الفرافصة .. " وإسناده ضعيف.
قال الحافظ ابن حجر في " الإصابة" (2/ 102 رقم الترجمة 1817): في ترجمة "حماد": جاء ذكره في حديث أخرجه أبو موسى من طريق اليقظان بن عمار بن ياسر، أحد الضعفاء، عن الزهري ... ".
(4) في تفسيره كما في اللآلئ" (1/ 143) و" معرفة الخصال المكفرة" (ص99).(11/5350)
قال] (1).
وأخرجه أيضًا الدارقطني في غرائب مالك (2) من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. قال الدارقطني: " لا يثبت هذا عن مالك".
قلت: الطريقة الأولي رواها الحكيم الترمذي (3) عن داود بن حماد القيسي، حدثنا اليقظان بن عمار بن ياسر، حدثنا بن شهاب الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة فذكره.
والطريقة الثانية: أخرجها أيضًا ابن مروديه (4) عن داود بن حامد الفرافصة؛ ولعله القيسي المذكور في الطريقة الأولي، ثم ذكر الإسناد السابق.
والطريقة الثالثة: أخرجها الدارقطني (5) عن أبي الحسن علي بن محمد بن أحمد [1] المصري، حدثنا عبد السلام بن محمد بن عبد السلام الأموي، حدثنا الزبير بن أبي بكر، حدثنا مطرف بن عبد الله، حدثنا مالك عن أبي الزناد بذلك الإسناد، وقال عبد السلام (6): هذا منكر الحديث.
_________
(1) زيادة من "اللآلئ" (1/ 143) و" معرفة الخصال المكفرة" (ص99).
(2) كما في: معرفة الخالص المكفرة" (ص99).
وذكر الدارقطني عقب الحديث كما في المرجع السابق" وعبد السلام - بن محمد بن عبد السلام الأموي - هذا منكر الحديث".
وانظر "لسان الميزان" (4/ 17).
والخلاصة أن الإسناد تالف والله أعلم.
(3) (1/ 375) بسند ضعيف كما تقدم.
(4) في تفسيره كما في: "اللآلئ" (1/ 143) و" معرفة الخصال المكفرة" (ص98) وإسناده ضعيف وقد تقدم.
(5) في "غرائب مالك" كما في" معرفة الخصال المكفرة" (ص99) بسند تالف.
(6) أي الدارقطني قاله عقب الحديث كما في " معرفة الخصال المكفرة" (ص99).
وانظر ترجمته في " لسان الميزان" (4/ 17).(11/5351)
فالحاصل أن حديث أبي هريرة له طريقتان، إحداهما: أخرجها الحكيم الترمذي، وابن مروديه، وأبو موسى. والثانية: أخرجها الدارقطني كما تقدم (1).
ومنها من حديث عثمان بن عفان من طرق:
الأولي: أخرجها ابن مروديه في تفسيره (2)، قال: حدثنا أحمد بن هشام بن حميد، حدثنا يحيى بن أبي طالب، أخبرنا مخلد بن إبراهيم الشامي، حدثنا عبد الله بن واقد عن عبد الكريم بن حرام، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن أبيه، عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا بلغ المسلم أربعين سنة عافاه الله من البلايا الثلاثة: من الجنون، والجذام، والبرص، فإذا بلغ خمسين سنة حاسبه الله حسابا يسيرا، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه، فإذا بلغ سبعين سنة أحبته الملائكة، فإذا بلغ ثمانين سنة كتبت له الحسنات، ومحيت عنه سيئاته، فإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفع في أهل بيته، وسمته الملائكة أسير الله في الأرض".
الطريقة الثانية: أخرجها الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (3) قال: حدثنا عبد الله ابن أبي زياد القطواني، حدثنا سيار بن حاتم العنزي، حدثنا سلام أبو سلمة مولى أم هاني، سمعت شيخا يقول: سمعت عثمان بن عفان يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " قال الله جل ذكره: إذا بلغ عبدي أربعين سنة .... " فذكره.
قال الحكيم الترمذي: هذا من جيد الحديث، قلت: فيه مجهول؛ فلا يكون مع ذلك جيدا.
_________
(1) وخلاصة القول أن حديث أبي هريرة ضعيف والله أعلم.
(2) في تفسيره كما في " اللآلئ " (1/ 142) و" معرفة الخصال المكفرة" (ص93).
وإسناده تالف.
(3) (1/ 375) بدون سند.
وذكر السيوطي في "اللآلئ" (1/ 141 - 142) و" معرفة الخصال المكفرة" (ص92) الحديث بسنده كما هو في هذه الرسالة. وهو إسناد ضعيف.(11/5352)
الطريقة الثالثة: أخرجها ابن مروديه (1) أيضا، قال: حدثنا أحمد بن عيسى بن محمد الخفاف، قال: حدثنا أحمد بن يونس الصبي، حدثنا محمد بن موسى الحرشي البصري، حدثنا عبد الله بن الزبير الباهلي، حدثنا خالد الحذاء عن عبد الأعلى بن عبد الله القرشي، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن عثمان بن عفان ... فذكر نحوه.
الطريقة الرابعة: أخرجها أبو يعلى في مسنده (2)، والبغوي (3)، قالا جميعا: حدثنا عبد الله بن عمر القواريري، حدثنا عزرة بن قيس الأزدي، حدثنا أبو الحسن الكوفي عن عمرو بن أوس، قال: قال محمد بن عمرو بن عثمان عن عثمان ... فذكر نحوه.
قلت: لعل محمد بن عمرو بن عثمان رواه عن أبيه عن عثمان، فإذا لم يكن ما في السند من سقط القلم فهو منقطع.
الطريقة الخامسة: أخرجها أبو محمد بن الأخضر [2] في كتاب نهج الإصابة (4) له، من رواته: الشريف أبو عبد الله بن علي العلوي قال: أخبرنا أبو الطيب محمد بن الحسن بن جعفر، أخبرنا علي بن العباس القانعي، حدثنا محمد بن موسى الحرشي بإسناد ابن مروديه السابق ... فذكره. لكن قال: عبد الله بن عامر بن عبد الرحمن بن الحارث بن نوفل.
_________
(1) في تفسيره كما في " اللآلئ" (1/ 142) و" معرفة الخصال المكفرة" (ص94).
بسنده كما في هذه الرسالة. وهو إسناد ضعيف.
(2) كما في "اللآلئ" (1/ 139) وفي " معرفة الخالص المكفرة" (ص95).
(3) في" معجمه" كما في "اللآلئ" (1/ 139) وفي" معرفة الخصال المكفرة" (ص95).
وأخرجه ابن الجوزي في " الموضوعات" (1/ 180) من طريق البغوي، وإسناده ضعيف.
وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد" (10/ 205 - 206) وقال: رواه أبو يعلى في الكبير وفيه عزرة بن قيس الأزدي وهو ضعيف.
قلت: عزرة بن قيس ضعفه ابن معين، وقال البخاري: لا يتابع على حديثه.
[الميزان (3/ 246) ولسان الميزان (4/ 166)].
(4) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص94).(11/5353)
ومنها من حديث أنس بن مالك من طرق، الأولى: أخرجها أحمد في مسنده (1) قال: حدثنا أنس بن عياض، حدثني يوسف بن أبي ذرة عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء: الجنون، والجذام، والبرص، فإذا بلغ الخمسين، لين الله عليه الحساب، فإذا بلغ الستين، رزقه الله الإنابة لما يحب، فإذا بلغ السبعين أحبه الله، وأحبه أهل السماء، فإذا بلغ الثمانين يقبل الله حسناته، وتجاوز عن سيئاته، فإذا بلغ التسعين غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسمي أسير الله في الأرض".
ورواه أبو يعلى أيضًا (2) قال: حدثنا ابن نمير، حدثنا أنس بن عياض، .... فساقه بالإسناد السابق، قال: وحدثنا أبو خثيمة زهير بن حرب، حدثنا أنس بن عياض، ... فساقه كذلك.
وأخرجه أيضًا ابن مروديه (3) قال: حدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا أحمد بن يونس الضبي، حدثنا زهير بن حرب ... فساقه كذلك.
وأخرجه أيضًا الدينوري في " المجالسة" (4) له، قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز بن المبارك، حدثني أبي، حدثني أنس بن عياض .... فساقه كذلك.
وأخرجه أيضًا الخلعي في" فوائده" (5) قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عمر، حدثنا أنس بن عياض .... فساقه كذلك.
ويوسف ابن أبي ذرة قال ابن ...............................
_________
(1) (3/ 217 - 218) بسند ضعيف جدا.
(2) في "المسند" (7/ 241 رقم 1491/ 4246) بسند ضعيف.
(3) في تفسيره كما في" معرفة الخصال المكفرة" (ص105).
(4) " كما في" معرفة الخصال المكفرة" (ص105).
(5) " كما في" معرفة الخصال المكفرة" (ص105).(11/5354)
حبان (1): إنه منكر الحديث جدا. وقال ابن معين: لا شيء.
الطريقة الثانية: أخرجها أبو الحسن الخلعي (2) قال: أخبرني عبد الرحمن بن عمر إملاء، أخبرنا بكر عبد الرحمن الخلال، حدثنا محمد بن علي بن زيد الصانع، حدثنا إبراهيم بن عمرو بن عثمان عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فذكر نحوه.
والطريقة الثالثة: أخرجها ابن مردويه في تفسيره (3): حدثنا الحسن بن محمد بن إسحاق السوسي، ومحمد بن أحمد بن إسحاق العسكري قالا: حدثنا أحمد بن سهل بن أيوب، حدثنا إبراهيم بن المنذر ... فساقه بالإسناد الأول.
الطريقة الرابعة: أخرجها أبو يعلى الموصلي في مسنده الكبير (4) قال: حدثنا يحيى بن أيوب، حدثنا يحيي بن سليم، حدثني رجلان من أهل العلم، من أهل حران، - وكانا عندي ثقة -[3] عن زفر بن محمد، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن أنس فذكره بنحوه.
الطريقة الخامسة: أخرجها أبو يعلى (5) أيضًا المدني (6) عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن أنس بمثله.
قلت: هكذا رواه هؤلاء عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن أنس، وأدخل غيرهم بين محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وبين أنس رجلا.
فأخرجه أحمد في .....................................
_________
(1) في: "المجروحين" (3/ 131 - 132).
وانظر: "الميزان" (4/ 464) و"اللسان" (6/ 320 - 321)
(2) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص101).بسند ضعيف وفيه انقطاع.
(3) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص101).بسند ضعيف وفيه انقطاع.
(4) (7/ 243 رقم 1494/ 4249) بسند ضعيف وفيه انقطاع.
(5) في "المسند" (7/ 244 رقم 1495/ 4250) بسند ضعيف.
(6) هو سعد بن أبي الحكم المدني.(11/5355)
مسنده (1) عن أبي النضر هاشم بن القاسم، حدثنا الفرج بن فضالة، حدثنا محمد بن عامر، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن عمرو بن جعفر، عن أنس .... فذكره موقوفا، وهذه هي الطريقة السادسة.
ورواه غيره عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وعن جعفر بن عمرو، وهذا هو الصواب، وإنما وقع الوهم من فرج بن فضالة فقال: عمرو بن جعفر.
الطريقة السابعة: أخرجها ابن مردويه قال في تفسيره (2): حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن أيوب، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الموال، حدثني محمد بن موسى بن أبي عبد الله، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، عن أنس فذكر نحوه مرفوعا.
الطريقة الثامنة: أخرجها أبو يعلى أيضًا في المسند (3) له قال: حدثنا أبو عبيده بن
_________
(1) في "المسند " (2/ 89) بسند ضعيف جدا.
وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 285) قائلا: وأما حديث أنس الموقوف ففيه الفرج بن فضالة. قال يحيى والنسائي: هو ضعيف، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن حيان: يقلب الأسانيد، ويلزق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة لا يحل الاحتجاج به.
[انظر: "المجروحين" (2/ 206)، و"التاريخ الكبير" (4/ 1\ 134) و"الضعفاء والمتروكين" للنسائي رقم (491)].
وأما محمد بن عامر فقال ابن حبان: يقلب الأخبار، ويروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم.
[المجروحين: (2/ 304)].
وأما محمد بن عبيد الله فهو العرزمي، قال أحمد: ترك الناس حديثه.
[كتاب "العلل ومعرفة الرجال" (1/ 119 رقم 526)].
(2) كما في "معرفة الخصال المكفرة " (ص 104). بسند ضعيف.
وأخرجه البزار (رقم 3587 - كشف) من طريق عبد الملك الجدي به. وفيه محمد بن عبد الله بن عمرو، وجعفر بن عمرو الضمري. وسنده ضعيف.
(3) (7/ 242 رقم 1493/ 4248).(11/5356)
فضيل بن عياض، حدثنا عبد الملك الجدي، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الموال ... فساقه به.
الطريقة السابعة: أخرجها أيضًا أبو الطاهر الحسن بن فيل في "جزئه" (1) المشهور، قال: حدثنا عمرو بن هشام، أخبرنا عبد الملك بن إبراهيم الجدي، أخبرنا بن أبي الموال ... فساقه به.
الطريقة العاشرة: أخرجها البيهقي في كتاب الزهد (2) له، قال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ وغيره، قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا بكر بن سهل، حدثنا عبد الله بن محمد بن رمح بن المهاجر، حدثنا ابن وهب عن جعفر بن ميسرة، عن زيد ابن أسلم، عن أنس؛ وهذا الإسناد رجاله ثقات. وقد تكلم النسائي في بكر بن سهل، ولكنه قد توبع، فأخرجه إسماعيل بن الفضل الإخشيد في "فوائده" (3) قال: حدثنا أبو طاهر بن عبد الرحيم (4)، حدثنا أبو بكر المقرئ، حدثنا أبو عروبة الحراني، حدثنا مخلد بن مالك، حدثنا حفص بن ميسرة ... فذكره. وهذه هي الطريقة الحادية عشرة.
الطريقة الثانية عشرة: أخرجها الحافظ السلفي (5) قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الطريثيثي، حدثنا فضل الله الميهني، أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي، حدثنا يحيى بن صاعد، حدثنا علي بن سعيد، حدثنا مسروق بن المرزبان الكندي حدثنا خالد بن يزيد بن الزيات عن داود بن سليمان عن عبد الله [4] بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم الأنصاري، عن أنس بن مالك .... فذكر نحوه.
_________
(1) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص104).
(2) (ص 243 - 244 رقم 641) بسند تالف.
(3) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص108).
(4) قال المعلمي في تعليقه على "الفوائد المجموعة" للشوكاني (ص482): " .. أبو طاهر لم أجد له ترجمة ... ".
(5) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 108 - 109) بسند ضعيف.(11/5357)
الطريقة الثالثة عشرة: أخرجها أيضًا السلفي (1)، قال: حدثنا محمد بن إسحاق الصنعاني، حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا خالد بن يزيد ... فساقه به.
الطريقة الرابعة عشرة: أخرجها ابن مردويه في تفسيره (2) أيضا، قال: حدثنا عبد الرحمن بن العباس بن عبد الرحمن، حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا خالد الزيات .... فساقه به.
الطريقة الخامسة عشرة: أخرجها أيضًا ابن مردويه (3)، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن أيوب، أخبرنا علي بن الحسن، حدثنا خالد الزيات .... فساقه به.
الطريقة السادسة عشرة: أخرجها الحكيم الترمذي (4)، قال: حدثنا صالح بن عبد الله، حدثنا خالد الزيات ... فساقه به.
الطريقة السابعة عشرة: أخرجها أبو يعلى الموصلي أيضًا في مسنده (5)، قال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا خالد الزيات ... فساقه به.
قلت: وخالد الزيات مجهول، وداود بن سليمان أيضًا مجهول (6).
الطريقة الثامنة عشرة: أخرجها ابن قتيبة في غريب الحديث (7) له، قال: حدثنا أبو
_________
(1) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص109) بسند ضعيف.
(2) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص109) بسند ضعيف.
(3) في تفسيره كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص109) بسند ضعيف.
(4) في "نوادر الأصول" (1/ 375) بدون سند. وذكره الحافظ ابن حجر في "معرفة الخصال المكفرة" (ص109) بسند الحكيم الترمذي وهو "حدثنا صالح بن عبد الله، حدثنا خالد الزيات، عن داود بن سليمان، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم الأنصاري ". وهذا الإسناد ضعيف.
(5) (6/ 351 رقم 923/ 3678) بسند ضعيف.
(6) قال الذهبي في "الميزان" (2/ 8): "داود بن سليمان، شيخ لخالد بن حميد مجهولان".
(7) لم أجده في غريب الحديث المطبوع. لكن عزاه إليه ياقوت الحموي في معجم الأدباء (10/ 15) بسنده ومتنه. وكذلك عزاه إليه الحافظ ابن حجر في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 110 - 111) بسند تالف.(11/5358)
سفيان الغنوي، حدثنا معقل بن مالك عن عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن أنس، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا بلغ العبد ثمانين سنة؛ فإنه أسير الله في الأرض، تكتب له الحسنات، وتمحى عنه السيئات " هكذا رواه مختصرا. وقد رواه أبو الشيخ الأصبهاني (1) عن عبد الرحمن المذكور من وجه آخر، وهو مجهول.
الطريقة التاسعة عشرة: أخرجها أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج (2)، قال: حدثنا ثابت بن سعد بن ثابت الأملوكي عن أبيه، عن عمه عبادة بن رافع الأملوكي، عن أنس، فذكر الحديث مطولا.
الطريقة المكلمة العشرين: أخرجها البزار في مسنده (3)، قال: حدثنا عبد الله بن شبيب، حدثنا عبد الله بن عبد الملك أبو شيبة، حدثنا أبو قتادة، حدثنا ابن أخي الزهري عن عمه، عن أنس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ... فذكره.
قال البزار: " لا نعلم رواة عن ابن أخي الزهري إلا أبا قتادة ". قال البزار: كان يغلط.
وقال ابن معين: ضعيف، وقال البخاري: تركوه، واسمه عبد الله بن واقد الحراني (4).
_________
(1) في "فوائد الأصبهانيين" كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 111).
(2) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص111 - 112).
(3) (4/ 226 - 3588 - كشف) بسند ضعيف.
(4) عبد الله بن واقد، أبو قتادة الحراني، مات سنة عشر ومائتين.
قال البخاري: سكتوا عنه، وقال أيضا: تركوه. وقال أبو زرعة، والدارقطني: ضعيف. وقال أبو حاتم: ذهب حديثه. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال أيضا: ليس به بأس، كثير الغلط. وقال الجوزجاني: متروك ..
انظر بقية ترجمته في "الميزان" (2/ 517 - 519 رقم الترجمة 4672).(11/5359)
الطريقة الحادية والعشرون: أخرجها أبو نعيم في تاريخ أصبهان (1)، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا أحمد بن عمرو بن صبيح، حدثنا الحجاج بن يوسف ابن قتيبة (2)، حدثنا الصباح بن عاصم الأصبهاني (3) عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ .... فذكره بطوله، والصباح مجهول، وسائر رواته ثقات.
الطريقة الثانية والعشرون [5]: أخرجها ابن منيع في مسنده (4)، قال: حدثنا عباد بن عباد المهلبي؛ حدثنا عبد الواحد بن راشد عن أنس ... فذكره، وهذه الطريقة أوردها ابن الجوزي في الموضوعات (5)، معللا للحديث بعباد المذكور، ورد ذلك الحافظ ابن حجر (6) فيما علقه على موضوعات ابن الجوزي، وقال: ثقة جليل، من رجال
_________
(1) في أخبار أصبهان (1/ 346) وأبو الشيخ في "طبقات الأصبهانيين " (1/ 344) بسند ضعيف.
(2) ذكره أبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 301 - 302) لم يحك فيه جرحا ولا تعديلا.
قلت: والراجح أن المسكوت عنه بحكم الضعيف والله أعلم.
(3) قال الحافظ في "لسان الميزان" (3/ 179): صباح بن عاصم الأصبهاني، لا يعرف وأتى بخبر منكر" ثم ساق هذا الخبر بإسناده من طريق أبي نعيم. وقال: "ورجاله ثقات إلا الصباح" اهـ.
(4) عزاه إليه الحافظ في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 114).
وأخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (3/ 70 - 71) من طريق ابن منيع.
(5) (1/ 179 - 180). وقال ابن الجوزي: " فيه عباد بن عباد، قال ابن حبان: غلب عليه التقشف وكان يحدث بالتوهم فيأتي بالمناكير فاستحق الترك " اهـ.
قال الشيخ جاسم الفهيد الدوسري تعقيبا على كلام ابن الجوزي في تحقيقه: " معرفة الخصال المكفرة " (ص114) رقم التعليقة (2): " قلت: عباد المذكور في الإسناد هو ابن عباد المهلبي، وقد وثقه ابن معين، ويعقوب بن شيبة، والعجلي، وأبو داود، والنسائي وغيرهم، واحتج به الجماعة "التهذيب (5/ 95 - 96) وهم ابن الجوزي فظنه الرملي الأرسوفي، فذكر فيه جرح ابن حبان .. وقد وثقه ابن معين والعجلي والفسوي " التهذيب" (5/ 97) " اهـ.
(6) في "القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد" (ص 64).(11/5360)
الصحيح.
وأما شيخه عبد الواحد بن راشد فقال ابن حجر (1): لم أر للمتقدمين فيه جرحا ولا تعديلا. وقد ذكره الذهبي في الميزان (2) بهذا الحديث.
وأخرجه العراقي (3) في مشيخة ابن البخاري (4) بإسناده المتصل بأحمد بن منيع المذكور، وقال: إن هذا الحديث روي من طرق؛ هذا أمثلها (5).
ومنها حديث شداد بن أوس، أخرجه ابن حبان في كتاب الضعفاء (6) له من طريق زيد بن الحباب عن عيسى، عن لاحق بن النعمان، عن علي بن الجهم، عن عبد الله بن شداد بن أوس، عن أبيه ... فذكر نحو حديث عثمان المتقدم.
قال ابن حبان: " لا أعرف علي بن الجهم هذا من هو".
وليس هو علي بن الجهم (7) الشاعر المشهور؛ فهو متأخر عن المذكور في أيام المتوكل العباسي، وقد جزم ابن حجر بأن المذكور في الإسناد مجهول.
_________
(1) في "معرفة الخصال المكفرة" (ص115): وأما شيخه: عبد الواحد بن راشد فهو شيخ مجهول، لم أر للمتقدمين فيه جرحا ولا تعديلا ...
(2) (2/ 672) وقال عنه "ليس بعمدة".
(3) في أماليه كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 115).
(4) في أماليه كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 115).
(5) وتعقب الحافظ ابن حجر شيخه العراقي قائلا: " والذي يظهر لي أن أمثلها الطريقة الثانية - وهي التي أخرجها البيهقي في "الزهد" (رقم 641) - وكلام شيخنا مقبول بالنسبة إلى الطرق التي ذكرها هو، فإنه لم يذكر الطريقة الثانية التي ذكرتها، إما سهوا وإما إغفالا، والله أعلم " اهـ.
(6) لم أجد ترجمة علي بن الجهم في النسخة المطبوعة من كتاب المجروحين. وقد عزاه لابن حبان السيوطي في "اللآلئ" (1/ 142) والحافظ في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 96).
والإسناد مجهول كما قال الحافظ.
(7) انظر ترجمته في "لسان الميزان" (4/ 210 - 211) فهو ناصبي كثير الحط على "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه، وأهل البيت.(11/5361)
ومنها حديث عبد الله بن أبي بكر الصديق، وله طرق.
الأولى: أخرجها البغوي في " معجم الصحابة" (1)، قال: حدثنا أحمد بن محمد القاضي، قال: حدثنا عثمان بن الهيثم، حدثنا الهيثم بن الأشعث عن الهيثم أبي محمد السلمي، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن عبد الله بن أبي بكر الصديق، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إذا بلغ المرء المسلم أربعين سنة صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء: الجنون، والجذام، والبرص، فإذا بلغ خمسين خفف الله عنه ذنوبه، فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه، فإذا بلغ سبعين أحبته ملائكة السماء، فإذا بلغ ثمانين سنة أثبتت حسناته، ومحيت سيئاته، فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسمي أسير الله في الأرض، وشفع لأهل بيته " (2).
الطريقة الثانية: أخرجها ابن قانع في "معجم الصحابة" (3) له، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، حدثنا عثمان بن الهيثم المؤذن، حدثنا الهيثم بن الأشعث، حدثنا محمد بن الهيثم السلمي عن محمد بن عمار البصري، عن الجهم بن أبي الجهم جهيمة السلمي، عن
_________
(1) عزاه إليه السيوطي في "اللآلئ" (1/ 140) والحافظ في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 89).
(2) أخرجه البزار رقم (3589 - كشف) والعقيلي في "الضعفاء" (4/ 351).
قال البزار: لا نعلم، روى عبد الله بن أبي بكر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا هذا الحديث، وفي إسناده مجاهيل.
وقال العقيلي عن الهيثم بن الأشعث: " يخالف في حديثه ولا يصح إسناده".
وقال أيضا: وفيه اختلاف واضطراب، وليس يرجع منه إلى شيء يعتمد عليه".
وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 206) وقال: رواه الطبراني من رواية عبد الله بن عمرو بن عثمان عن عبد الله بن أبي بكر الصديق ولم يدركه، ولكن رجاله ثقات إن كان محمد بن عمار الأنصاري هو سبط بن سعد القرظ، والظاهر أنه هو والله أعلم، ورواه البزار باختصار كثير وفي إسناده مجاهيل كما قال " اهـ.
والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم.
(3) (2/ 99 - 100 رقم الترجمة 549) بسند ضعيف.(11/5362)
ابن عمرو بن عثمان، عن عبد الله بن أبي بكر ... فذكره. وقد وافق البغوي في إسناده ابن مردوية في تفسيره (1)، فقال: حدثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس؛ حدثنا أحمد بن يونس الصبي، حدثنا عثمان بن الهيثم ... فذكر إسناد البغوي، وهذه هي الطريق الرابعة.
وأخرجه أيضًا الحافظ أبو محمد الأخضر [6] في كتاب "نهج الإصابة" (2) من طريق أبي بكر الشافعي: حدثنا محمد بن غالب، حدثني عثمان بن الهيثم ... فذكره مثل سياق البغوي، وهذه هي الطريقة الخامسة. وفي هؤلاء الرواة لحديث عبد الله بن أبي بكر من لا يعرف حالة، وفيه أيضًا انقطاع، لأن عبد الله بن عمرو بن عثمان لم يدرك عبد الله بن أبي بكر الصديق؛ فإنه مات الثاني قبل مولد الأول.
الطريقة السادسة: أخرجها أبو شجاع سعدون بن محمد بن عبد الله في جزء (3) له، قال: حدثنا أحمد بن خلاد، حدثنا الهيثم بن عثمان الواسطي، حدثني تميم بن الهيثم عن رجل، عن ابن أبي جحيفة، عن أبي ميمونة السلمي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن عبد الله بن أبي بكر الصديق ... فذكره، وفي إسناده مجاهيل.
قال الدارقطني (4): فأما عبد الله بن أبي بكر الصديق فأسند عنه حديث في إسناده نظر، يرويه عثمان بن الهيثم عن رجال ضعفاء.
ومنها حديث ابن عباس أخرجه الحاكم في "تاريخ نيسابور" (5). قال: حدثنا أبو
_________
(1) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 91).
(2) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص94).
(3) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 91 - 92).
وقال الحافظ عقبه: " وهو إسناد مجهول، وأظن سعدون أو شيخ سعدون قلب اسم (عثمان بن الهيثم) فقال: (الهيثم بن عفان)، ثم خبط في باقي الإسناد.
(4) ذكره الحافظ في "معرفة الخصال المكفرة" (ص92).
(5) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 99 - 100) بسند ضعيف.(11/5363)
بكر محمد بن أحمد بن عبدوس، حدثنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد، حدثنا أبو حنيفة محمد بن عمرو، حدثنا أبي عن الحكم بن عبده، عن خالد الحذاء، وعن أبي قلابة، عن ابن عباس، قال، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إذا بلغ العبد أربعين سنة عافاه الله تعالى من أنواع البلاء: من الجنون، والجذام، والبرص، فإذا بلغ خمسين رزقه الله الإنابة إليه، فإذا بلغ الستين حببه الله إلى أهل سمائه وأهل أرضه، فإذا بلغ السبعين سنة استحى الله منه أن يعذبه، فإذا بلغ تسعين كان أسير الله في أرضه، ولم يخط عليه القلم بحرف".
ومنها حديث ابن عمر، فأخرجه [أحمد (1) من طريق] (2) الفرج بن فضالة قال: حدثني محمد بن عبد الله العزرمي عن محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ... فذكر مثل حديث أنس المتقدم. وقد قيل: إنه تخليط من الفرح بن فضالة، وأنه الصواب عن أنس كما تقدم.
ومنها عن عائشة أخرجه ابن حبان في"الضعفاء" (3) من طريق عائذ بن نسير عن عطاء، عن عائشة، عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قال: " من بلغ الثمانين من هذه الأمة لم يعرض، ولم يحاسب".
فحصل من مجموع ما تقدم أن هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا؛ فتكون من قسم الحسن لغيره (4)؛ لأنها مروية من طريق ثمانية من الصحابة، بل لو قيل: إن حديث أنس
_________
(1) في "المسند" (2/ 89) بسند تالف.
(2) زيادة من "اللآلئ" للسيوطي (1/ 143) يقتضيها السياق.
(3) لم أجده في "المجروحين" في ترجمة عائذ بن نسير.
وقد أخرجه ابن عدي في "الكامل" (5/ 1992) وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 215) من طريق عائذ، به. وإسناده ضعيف.
(4) قلت: الراجح ضعف الحديث خلافا للشوكاني رحمه الله.
وممن ضعف هذا الحديث: البيهقي حيث قال في كتاب "الزهد" (ص 245): " ... وقد روي هذا من أوجه أخر عن أنس، وروي عن عثمان وكل ذلك ضعيف والله أعلم.
وحكم عليه ابن الجوزي بالوضع، حيث أورده في موضوعاته (1/ 179 - 181) وأقره على ذلك الحافظ العراقي، كما في القول المسدد (ص40) - وقال: " ومما يستدل به على وضع الحديث مخالفة الواقع، وقد أخبرني من أثق به أنه رأى رجلا حصل له جذام بعد الستين، فضلا عن الأربعين " اهـ.
وأورده ابن طاهر المقدسي في "تذكرة الموضوعات " برقم (685) وقال: " فيه يوسف بن أبي ذره: لا شيء في الحديث " اهـ.
وقال ابن كثير في تفسيره (3/ 207) " هذا حديث غريب جدا وفيه نكارة شديدة" اهـ.
وضعفه المعلمي في تعليقه على الفوائد المجموعة (ص 482 - 486).
- وممن ذهب إلى تقوية الحديث السيوطي في "اللآلئ" (1/ 138 - 147).
والشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص 481 - 483) وقال: " وقد أوردت كثيرا من طرق الحديث في رسالتي التي سميتها ": (زهر النسرين الفائح بفضائل المعمرين) - وهي رسالتنا هذه - وقواه المحدث أبو الأشبال في تعليقه على المسند (8/ 23).(11/5364)
بمجرده من غير نظر إلى بقية الأحاديث لا يقصر عن قسم الحسن لغيره، لكثرة طرقه كما سمعت، لم يكن ذلك بعيدا من الصواب، بل يمكن أن يقال: إن في تلك الطرق المختصة بحديث أنس ما هو من قسم الحسن [7] لذاته، كما يعرف ذلك من له معرفة بالفن. وقد تقرر عند أئمة الفن أن الحسن بقسيمه لاحق بالصحيح في قيام الحجة به، ووجوب العمل بمضمونه، ولم يخالف في ذلك إلا البخاري، وابن العربي، على أن خلافهما إنما هو بناء على اصطلاح لهما في معنى الحديث الحسن، يخالف ما قاله الجمهور. وعلى ذلك فالأخذ بالحسن لذاته ولغيره مجمع عليه. وقد اختلف علماء الاصطلاح في تحقيق الحسن، فمنهم من قال ما هو أشهر رجاله، وعرف مخرجه كما قاله الترمذي، وتبعه غيره، وهذا يصلح تعريفا للحسن لغيره.
وأما الحسن لذاته فحده حد الصحيح إلا في مقدار الضبط، فإنه يعتبر في الصحيح أن يكون كل واحد من رواته تام الضبط، ولا يشترط في الحسن لذاته ذلك، بل يكفي(11/5365)
كونه متصفا بصفة الضبط من غير اعتبار القيد الزائد، وهو التمام. ولهذا قال جماعة من علماء الاصطلاح في تعريف الصحيح: إنه ما اتصل إسناده بنقل عدل، تام الضبط، من غير شذوذ، ولا علة قادحة. وقالوا: فإن حق الضبط فالحسن لذاته.
ومن جملة المصرحين بتمام الضبط في حد الصحيح الحافظ ابن حجر في النخبة (1).
وأما ابن الصلاح (2)، وزين الدين (3) فقالا: ما اتصل إسناده بنقل عدل ضابط عن مثله، من غير شذوذ، ولا علة قادحة.
اللهم اجعلنا من المعمرين في طاعتك، العامرين بأعمارهم بيوت عباداتك، يا عامر القلوب بتقواك، ومثبتها على هداك، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين. انتهى من تحرير جامعه، جمع الله له بين خيري الدارين القاضي [المدره] (4) عز الدين والمسلمين محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما، وتجاوز عنهما، وسامحهما في الدنيا والآخرة، بحق محمد وآله الأمين، وآله الطاهرين. وكان تاريخ الجمع والتحرير في شطر الليل الأول من ليلة الاثنين المسفرة عن اليوم السادس عشر شهر القعدة الحرام سنة 1212 اثني عشرة ومائتين وألف هـ.
_________
(1) (ص 54 - 55).
(2) في "علوم الحديث" (11 - 12).
(3) في "ألفية الحديث" (ص8).
(4) كلمة غير مقروءة في المخطوط.(11/5366)
بحث في جواب سؤال عن الصبر والحلم هل هما متلازمان أم لا؟
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه
محفوظة بنت علي شرف الدين
أم الحسن(11/5367)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في جواب سؤال عن الصبر والحلم هل هما متلازمان أم لا.
2 - موضوع الرسالة: آداب.
3 - أول الرسالة: الحمد لله وبعد: فهذا الجواب من العلامة المحقق محمد بن علي الشوكاني كثر الله إفادته لما سألته هل الصبر والحلم متلازمان؟
4 - آخر الرسالة: حرره كاتبة محمد بن علي الشوكاني غفر الله له ولوالديهما ووالدينا والمؤمنين أجمعين آمين آمين.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 4 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 28 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5369)
الحمد لله وبعد:
فهذا الجواب من العلامة المحقق محمد بن علي الشوكاني - كثر الله إفادته - لما سألته: هل الصبر والحلم متلازمان؟ وأيهما أفضل؟ فقال:
الجواب - بمعونة الوهاب - أن معنى الصبر لغة نقيض الجزع (1)، وقال الشريف في التعريفات (2): الصبر هو ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله إلا إلى الله تعالى، لأن الله أثنى على أيوب بالصبر بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} (3) مع دعائه في دفع الضر عنه بقوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (4) فعلمنا أن العبد إذا دعى الله في كشف الضر عنه لا يقدح في صبره، لئلا يكون كالمقاومة مع الله، ودعوى التحمل لمشاقه، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (5) فإن الرضى بالقضاء لا يقدح فيه الشكوى إلى .............
_________
(1) انظر "لسان العرب" (7/ 276).
وقال الراغب الأصبهاني في "مفردات ألفاظ القرآن" (ص 474):
الصبر: الإمساك في ضيق يقال: صبرت الدابة حبستها بلا علف.
الصبر: حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه. فالصبر لفظ عام، وربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه فإن كان حبس النفس لمصيبة سمى صبرا لا غير.
ويضاده الجزع. وإن كان في محاربة سمي شجاعة ويضاده الجبن. وإن كان في نائبة مضجرة سمي رحب الصدر. ويضاده الضجر. وإن كان إمساك الكلام سمى كتمانا ويضاده المذل.
وقد سمى الله كل ذلك صبرا ونبه عليه بقوله: "وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ" [البقرة:177]. "وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ" [الحج:35].
انظر: "مجاز القرآن" (1/ 64)، "معانى القرآن وإعرابه" للزجاج (1/ 245).
(2) (ص 136).
(3) [ص: 44].
(4) [الأنبياء:83].
(5) [المؤمنون:76].
قال ابن القيم في "عدة الصابرين" (ص33): " والتحقيق أن في الصبر معاني ثلاثة: المنع والشدة والضم، ويقال صبر إذا أتى بالصبر، وتصبر إذا تكلفه واستدعاه، واصطبر إذا اكتسبه وتعلمه وصابر إذا وقف خصمه في مقام الصبر، وصبر نفسه وغيره بالتشديد إذا حملها على الصبر: واسم فاعل صابر وصبار وصبور ومصابر ومصطبر وأما صبار وصبور فمن أوزان المبالغة ... ".
حقيقة الصبر:
قيل حقيقة الصبر فهو خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها.
قال الجنيد بن محمد: الصبر: تجرع المرارة من غير تعبس.
وقال ذو النون: الصبر "التباعد عن المخالفات، والسكوت عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة ".
وقيل: الصبر هو الغنى في البلوى بلا ظهور شكوى.
انظر: "عدة الصابرين" (ص 34 - 35).(11/5373)
الله (1)، ولا إلى غيره، وإنما يقدح في الرضى بالمقتضي ونحو ما خوطبنا بالرضى بالمقضي
_________
(1) وأما إظهار البلاء على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر، قال تعالى في قصة أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص:44]. مع قوله: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء:83].
فالشكوى نوعان:
1 - الشكوى إلى الله وهذا لا ينافي الصبر كما قال يعقوب: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86]. مع قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:83].
2 - شكوى المبتلى بلسان الحال والمقال فهذا لا تجامع الصبر بل تضاده وتبطله.
انظر: "الإحياء" (5/ 67 - 70)، "عدة الصابرين" (ص 36).
قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى " (10/ 666 - 667): " وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في صلاة الفجر: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86]، ويبكي حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف بخلاف الشكوى إلى المخلوق. قرئ على الإمام أحمد في مرض موته أن طاوسا كره أنين المريض، وقال: إنه شكوى، فما أن حتى مات.
وذلك أن المشتكي طالب بلسان الحال، إما إزالة ما يضره أو حصول ما ينفعه والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه، كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8] وقال ابن عباس: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله".
أخرجه أحمد (1/ 293) والترمذي رقم (2516) وقد تقدم.
ولا بد للإنسان من شيئين. طاعته بفعل المأمور، وترك المحظور، وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور، فالأول: هو التقوى، والثاني: هو الصبر.(11/5374)
والصبر هو المقضي به إلى آخر كلامه (1).
وأما الحلم فهو الأناة والعقل عند أهل اللغة (2)، وقال الشريف في التعريفات (3) هو الطمأنينة عند سورة الغضب. وقيل: تأخير مكافأة الظالم انتهى.
وأما الصبور (4) الذي هو من أسماء الله (5) - سبحانه وتعالى - فقد قال في ...................
_________
(1) أي الجرحاني في التعريفات".
(2) انظر "لسان العرب" (3/ 304) "مختار الصحاح" (ص 64).
قال الراغب الأصبهاني في "مفردات ألفاظ القرآن" (ص 253): الحلم ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب وجمعه أحلام قال تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا} [الطور:32]، قيل معناه عقولهم وليس الحلم في الحقيقة العقل، لكن فسره بذلك لكونه من مسببات العقل، وقد حلم وحلمه العقل وتحلم، وأحلمت المرأة: ولدت أولادا حلماء قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75] وقال سبحانه: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101] أي: وجدت فيه قوة الحلم.
وقوله عز وجل: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} [النور:59] أي: زمان البلوغ وسمي الحلم لكون صاحبه جديرا بالحلم.
(3) (ص 98).
(4) الصبور لم يرد به التنزيل وإنما ورد في الصحيح - أخرجه البخاري رقم (7378) ومسلم رقم (2804) من حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله. يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم".
وفي رواية ما لفظه: " لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل إنه يشرك به ويجعل له الولد ثم هو يعافيهم ويرزقهم".
قال القرطبي في "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى " (1/ 138): واختلفوا في تأويله - الصبور - على ثلاثة أقوال:
1 - إنه من صفات الذات ولكن يرجع إلى إرادة تأخير العقوبة والحليم يرجع إلى إسقاطها.
2 - إنه من صفات ذاته، وإنه بمعنى حليم. قاله ابن فورك والقشيري.
3 - إنه من صفات الفعل، ويرجع إلى تأخير العقوبة وإليه ذهب أبو حامد.
والصحيح من هذا أن الصبور يرجع إلى الصبر إرادة تأخير العقوبة وهو المختار وذلك معنى قوله: "لا أحد أصبر من الله" فإنه يعافيهم ويرزقهم وهم يدعون له الصاحبة والولد فأشار إلى تأخير العقوبة عن الكبائر في الدنيا. وهذا المعنى موجود في قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل:61]، وقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42].
وقال المازري في "المعلم بفوائد مسلم " (3/ 197): حقيقة الصبر منع النفس من الانتقام أو غيره فالصبر نتيجة الامتناع فأطلق اسم الصبر على الامتناع في حق الله تعالى لذلك قال القاضي عياض في " إكمال المعلم بفوائد مسلم " (8/ 336) والصبور من أسماء الله تعالى وهو الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام وهو بمعنى الحليم في أسمائه سبحانه وتعالى إلا أن الفرق بينهما أن الصبور يخشى عاقبة أخذه، والحليم هو العفو الصفوح مع القدرة على الانتقام وهذا الفرق بين الصبر والحلم.
(5) الصبور لم يرد به التنزيل وإنما ورد في الصحيح - أخرجه البخاري رقم (7378) ومسلم رقم (2804) من حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله. يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم".
وفي رواية ما لفظه: " لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل إنه يشرك به ويجعل له الولد ثم هو يعافيهم ويرزقهم".
قال القرطبي في "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى " (1/ 138): واختلفوا في تأويله - الصبور - على ثلاثة أقوال:
1 - إنه من صفات الذات ولكن يرجع إلى إرادة تأخير العقوبة والحليم يرجع إلى إسقاطها.
2 - إنه من صفات ذاته، وإنه بمعنى حليم. قاله ابن فورك والقشيري.
3 - إنه من صفات الفعل، ويرجع إلى تأخير العقوبة وإليه ذهب أبو حامد.
والصحيح من هذا أن الصبور يرجع إلى الصبر إرادة تأخير العقوبة وهو المختار وذلك معنى قوله: "لا أحد أصبر من الله" فإنه يعافيهم ويرزقهم وهم يدعون له الصاحبة والولد فأشار إلى تأخير العقوبة عن الكبائر في الدنيا. وهذا المعنى موجود في قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل:61]، وقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42].
وقال المازري في "المعلم بفوائد مسلم " (3/ 197): حقيقة الصبر منع النفس من الانتقام أو غيره فالصبر نتيجة الامتناع فأطلق اسم الصبر على الامتناع في حق الله تعالى لذلك قال القاضي عياض في " إكمال المعلم بفوائد مسلم " (8/ 336) والصبور من أسماء الله تعالى وهو الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام وهو بمعنى الحليم في أسمائه سبحانه وتعالى إلا أن الفرق بينهما أن الصبور يخشى عاقبة أخذه، والحليم هو العفو الصفوح مع القدرة على الانتقام وهذا الفرق بين الصبر والحلم.(11/5375)
القاموس (1) والنهاية (2): هو الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام، قال في النهاية (3) وهو من أبنية المبالغة، ومعناه قريب من معنى الحليم، والفرق بينهما أن المذنب لا يأمن العقوبة كما لا يأمنها في صفة الحليم. وفيه: " لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل (4) أي أشد حلما من فاعل ذلك، وترك العقوبة. انتهى.
والحاصل أن الصبر والحلم باعتبار المعنى اللغوي يمكن أن يقال أن بينهما عموما وخصوصا من وجه، لأن الصبر الذي هو ترك الجزع قد يكون اختيارا وقد يكون اضطرارا، فإن الصبر الاضطراري (5) صبر عند أهل اللغة، لأن صاحبه قد ترك الجزع.
_________
(1) (ص 541).
(2) (3/ 7).
(3) (3/ 7).
(4) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(5) قال ابن القيم في " عدة الصابرين" (ص 43): الصبر ضربان: ضرب بدني وضرب نفساني وكل منهما نوعان: اختياري واضطراري فهذه أربعة أقسام:
1 - البدني الاختياري كتعاطي الأعمال الشاقة على البدن اختيارا وإرادة.
2 - البدني الاضطراري كالصبر على ألم الضرب والمرض والجراحات والبرد والحر وغير ذلك.
3 - النفساني الاختياري: كصبر النفس عن فعل ما لا يحسن فعله شرعا ولا عقلا.
4 - النفساني الاضطراري: كصبر النفس عن محبوبها قهرا إذا حيل بينها وبينه.(11/5376)
وقد شاع ذلك في لسان أهل اللغة وذاع. قال الشاعر:
ليس لمن له حيلة ... موجود أولى من الصبر
وقال آخر:
أرى الصبر محمودا وعنه مذاهب ... فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب
هناك بحق الصبر والصبر واجب ... وما كان منه للضرورة أوجب
وهكذا يطلق الصبر على من صبر عند سورة الغضب (1)، وعلى من صبر لنزول ما
_________
(1) قيل: إذا كان الصبر عند إجابة داعي الغضب سمي (حلما) وضده تسرعا.
- وإن كان صبرا عن شهوة الفرج المحرمة سمي (عفة) وضدها الفجور والزنا.
- وإن كان عن شهوة البطن وعدم التسرع إلى الطعام سمي (شرف النفس وشبع النفس). وضده الشراهة. ووضاعة النفس.
- وإن كان صبر عن إظهار ما لا يحسن إظهاره من الكلام سمي (كتمان السر) وضده إفشاء السر.
- وإن كان صبر عن فضول العيش سمي (زهدا) وضده حرصا.
- وإن كان على قدر يكفي من الدنيا سمي (قناعة) وضدها الحرص.
- وإن كان عن إجابة داعي العجلة سمي (وقاربا وثباتا) وضده طيشا وخفة.
- وإن كان عن إجابة داعي الفرار والهرب سمي (شجاعة) وضده جبنا وخورا.
- وإن كان عن إجابة داعي الانتقام سمي (عفوا) وصفحا وضده انتقاما وعقوبة.
- وإن كان عن إجابة الداعي الإمساك والبخل سمي (جودا) وضده بخلا.
- وإن كان عن إجابة داعي الطعام والشراب في وقت مخصوص سمي (صوما).
وإن كان عن إجابة داعي العجز والكسل سمي (كيسا).
وإن كان عن إجابة داعي إلقاء الكل على الناس وعدم حملهم كلهم سمي (مروءة).(11/5377)
يوجب الحزن والجزع، ويطلق الصبر أيضًا على من صبر أناة وسكوتا، وعلى من صبر وهو على غير هذه الصفة.
والحلم يقال على من سكن عند سورة، وتلقاها بالسكون والطمأنينة والأناة [1أ]، ويطلق أيضًا على من كان متأنيا في أموره غير مستعجل، وإن لم يكن هناك ما يقتضي الجزع والغضب، ولهذا قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للرجل الذي وفد مع قومه على رسول الله، فلما رأوا رسول الله أقبلوا إليه مسرعين، وتأخر الرجل حتى لبس حلته ثم أقبل في سكون وتؤده، فقال رسول الله: " إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة" (1) أو كما قال: والقصة مشهورة (2).
_________
(1) وهو حديث صحيح.
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (26/ 18) والبيهقي في "السنن الكبرى " (10/ 104، 194) وفي "دلائل النبوة " (5/ 325 - 326) من حديث أبي سعيد الخدري.
وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (25/ 17) والبخاري في "الأدب" رقم (586) والترمذي رقم (2011) والطبراني في "الكبير" رقم (12969) والبيهقي في "السنن الكبرى " (10/ 104) من حديث ابن عباس.
(2) أخرجها ابن حبان في صحيحه رقم (7203) وأبو يعلى (12/ 243 - 244) رقم (2/ 6849) عن الأشج العصري أنه أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رفقة من عبد القيس ليزوره فأقبلوا، فلما قدموا. رفع لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأناخوا ركابهم، فابتدر القوم ولم يلبسوا إلا ثياب سفرهم، وأقام العصري فعقل ركائب أصحابه وبعيره ثم أخرج ثيابه من عيبته وذلك بعين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم أقبل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلم عليه فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله. قال: ما هما؟ قال: الأناة والحلم" قال: شيء جبلت عليه أو شيء أتخلقه؟ قال: " لا بل جبلت عليه " قال: الحمد لله.
ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " معشر عبد القيس، ما لي أرى وجوهكم قد تغيرت" قالوا: يا نبي الله نحن بأرض وحمة، كنا نتخذ من هذه الأنبذة ما يقطع اللحمان في بطوننا، فلما نهينا عن الظروف، فذلك الذي ترى في وجوهنا، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الظروف لا تحل ولا تحرم، ولكن كل مسكر حرام، وليس أن تحبسوا فتشربوا، حتى إذا إمتلأت العروق تناحرتم، فوثب الرجل على ابن عمه فضربه بالسيف فتركه أعرج". قال: وهو يومئذ في القوم الأعرج الذي أصابه ذلك.
قلت: فيه المثنى بن ماوي العبدي أبو المنال أحد بني غنيم ذكره ابن حبان في "الثقات" (5/ 444) وأورده البخاري في صحيحه - في "التاريخ الكبير" - (7/ 420) وابن أبي حاتم - في "الجرح والتعديل " - (8/ 326) فلم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا. وباقي رجاله ثقات.
وأورده في "المجمع" (5/ 63 - 64) وقال: " رواه أبو يعلى وفيه المثنى بن ماوي أبو المنازل ذكره ابن أبي حاتم، ولم يضعفه ولم يوثقه، وبقية رجالة ثقات".(11/5378)
ويطلق الحلم أيضًا على ترك الطيش، وتجنب أسباب الحمق على اختلاف أنواعها، وإن لم يكن هناك سبب من الأسباب المقتضية للجزع، فمادة اجتماع الصبر والحلم هي حيث يكون سبب من أسباب الجزع، فيتلقاه الإنسان بالصبر اختيارا، ويكون ذلك على هيئة فيها سكون وأناة وطمأنينة، فإنه يقال لهذا صابر حليم (1).
_________
(1) قال الخطابي: الحليم: هو ذو الصفح والأناة الذي لا يستفزه غضب، ولا جهل جاهل، ولا عصيان عاص، ولا يستحق الصافح مع العجز اسم الحليم إنما الحليم هو الصفوح مع القدرة، المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة ... فإن قيل: فكيف يتضمن الحلم الأناة، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأشج عبد القيس: " إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة" فعددهما، فاعلم أن الأناة قد تكون مع عدم الحلم، ولا يصح الحلم أبدا إلا مع الأناة، والأناة ترك العجلة، فقد تكون لعارض يعرض، ولا يكون الحلم أبدا إلا مشتملا على الأناة متأملة، وكذلك لا يكون الحليم إلا حكيما واضعا للأمور مواضعها، عالما قادرا فإن لم يكن قادرا كان حلمه ملتبسا بالعجز والوهن والضعيف، وإن لم يكن عالما كان تركه الانتقام للجهل، وإن لم يكن حكيما فربما كان حلمه من السفه وتتبع أمثال هذا، فإذا علمت أن هذا الاسم يدل على صفات وأحوال وأفعال وترك وتوقيت فقد يظهر من ذلك على المسمى به وصف جملي وقال أصحاب النقل: اختلف الناس في وجه وصف الباري بالحلم على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه عبارة عن نفي الطيش والسفه وكل ما يضاد الخلق المحمود الذي هو الصبر والثبات في الأمور، وعلى هذا يكون وصفا للذات، سلبيا لتقدس ذاته عن النقائض واستبدادها بالكمال الخالص.
الثاني: أنه من صفات الأفعال يجري مجرى الإحسان والإفضال.
الثالث: أنه إرادة تأخير العقوبة، قال تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس:11].
وانظر: " الأسني في شرح أسماء الله الحسنى" (1/ 95 - 96).(11/5379)
ومادة افتراق الصبر هي فيما عدا هذه الصورة من صور الصبر التي قدمنا بها، ومادة افتراق الحلم هي أيضًا فيما عدا هذه الصورة من صور الحلم التي قدمنا بها، ولا ينافى هذا التقرير ما قدمنا عن أهل اللغة في تفسير صبور الذي هو من أسماء الله - سبحانه -، فإن الموجب لتخصيصه بذلك المعنى الخاص هو عدم جواز إطلاقه على الله - سبحانه - بمعنى يخالف هذا المعنى.
فإن قلت: إذا كانت النسبة بين الصبر والحلم هي العموم والخصوص من وجه، فهل تصح هذه النسبة بينهما على ما نقله صاحب التعريفات في كلامه السابق من أن الصبر ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله، والحلم الطمأنينة عند سورة الغضب (1)؟
قلت: النسبة التي ذكرناها هي باعتبار المفهوم اللغوي المنقول في كتب اللغة، وكلام التعريفات لا يبعد أن يمكن فيه مثل هذه النسبة، فإن ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله قد يكون الترك مع وجود سبب في البلوى يوجب الغضب، فيكون حلما، وقد يكون مع وجود سبب للشكوى لا يوجب الغضب كالمرض ونحوه فلا يكون حلما، وقد يكون الحلم عند الغضب بترك الشكوى إلى الغير مع وجود سبب يقتضي الجزع، فيكون ذلك صبرا. وقد يكون الحلم بحصول الطمأنينة عند سورة الغضب مع حصول الشكوى على الغير فلا يكون ذلك صبرا، فكان بينهما من هذه الحيثية عموم وخصوص من وجه، فقد كانت هذه النسبة [1ب] بين المعنيين الاصطلاحيين كما كانت بين المعنيين اللغويين (2).
فإن قلت: فما النسبة بين معنى الصبر عند أهل اللغة، وبين معناه على كلام صاحب التعريفات؟
قلت: العموم والخصوص المطلق، فإن الصبر عند أهل اللغة بترك الجزع، سواء كان
_________
(1) انظر بداية الرسالة.
(2) قال القرطبي في "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى " (1/ 94): " والصبر داخل تحت الحلم، إذ كل حليم صابر".(11/5380)
ذلك بترك الشكوى عند ألم البلوى لغير الله أو بترك نوع من أنواع الجزع غير ذلك.
فإن قلت: فما النسبة بين معنى الحلم عند أهل اللغة، وبين معناه على كلام صاحب التعريفات؟
قلت: العموم والخصوص المطلق أيضا، فإن الحلم وهو الأناة والعقل قد يكون عند سورة الغضب، وقد يكون عند غيرها، فإن كان المفهوم الذي ذكره صاحب التعريفات للحلم والصبر هو باعتبار الاصطلاح فلا مشاحة فيه، وإن كان باعتبار اللغة فهو غير صحيح ولا مقبول.
إذا تقرر هذا فالصور التي يقال لها صبر (1)، ويقال لها حلم لا سؤال عنها، لأنها تتناولها أدلة الثناء على الصبر، وأدلة الثناء على الحلم، كما يصدق عليها أنها حلم، ويصدق عليها أنها صبر.
وأما الصور التي هي صبر وليست بحلم، والصور التي هي حلم وليست بصبر فكلها خصال فاضلة قد ورد الثناء عليها وعلى صاحبها في الكتاب (2) والسنة (3). وورد الترغيب فيها، وكثرة الثواب لفاعلها. لكن الأدلة الواردة في الترغيب في الصبر أكثر، لا سيما في الكتاب العزيز، فإن الآيات في ذلك كثيرة جدا لو لم يكن منها إلا قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (4) فإنه لم يرد في جزاء الحلم وأجره ما يدل
_________
(1) تقدم ذكرها.
(2) منها: قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].
قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43].
(3) منها: ما أخرجه البخاري رقم (6024، 6356) ومسلم رقم (10/ 2165) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله".
(4) [الزمر:10].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران:200].
وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155].
وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43].
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ... ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر".
أخرجه البخاري رقم (1469، 6470) ومسلم رقم (124/ 1053) من حديث أبي سعيد الخدري.(11/5381)
هذه الدلالة، ويفيد هذه الفائدة، بل يرد في غالب القرب التي هي أركان الإسلام، وما هو من الواجبات المؤكدة ما يفيد هذه الفائدة، فإن الله - سبحانه - قد جعل جزاء الطاعة محدودا بحدود سماها وبينها كقوله في أجر الحسنة عشر (1) أمثالها إلى سبعمائة
_________
(1) يشير إلى قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160].
قال القرطبي في "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" (1/ 141): فيجب على كل مسلم أن يعلم أن الصبور على الإطلاق إنما هو الله عز وجل. ويجب على العبد أن يصبر ويتصبر ويصابر وقد أمره الله بذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] فأمر سبحانه بالصبر على ما يخصه وعلى مصابرة الأعداء والمداومة على الصبر حتى يتخذه إلفا وصاحبا وخلا ومؤانسا وقد أخبر أنه يحب الصابرين وأنه معهم. والصابرون جمع صابر.
والصابر أعلى مقاما من المتصبر. مر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بامرأة تبكي عند قبر فقال لها: " اتقي الله واصبري" الحديث وفيه فقال: " إنما الصبر عند الصدمة الأولى" - أخرجه البخاري رقم (1283 و7154) ومسلم رقم (15/ 926) من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا - وقل ما يكون الصبر عند الصدمة الأولى من المتصبر، وإنما يكون من الصابر أو الصبار أو الصبور، هي مقامات بعضها فوق بعض، فالمتصبر المتكلف ليكتسب الصبر المرة بعد المرة وذلك بحسب مغالبة الهوى، والصابر هو الدائم على قهر هواه وملكه وشهواته.
فقل ما يتكلف الصبر لأنه قهر سلطان الهوى، وملك النفس بزمام التقى، والصبار هو المتمرن في الصبر لتكرره مع الاختيار منه، حتى لا يفكر فيما يترقبه من ذلك، وفيهم قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156 - 157].
قال الأقليشي: واتصاف العبد بالصبر عن الميل إلى دواعي الهوى ليس من صفات الملائكة. إذ هو حبس النفس على الهوى الداعي إلى العصيان، وبهذا فضل العلماء الإنسان على الملك. إذ الملك خلق مبرأ عن الهوى والشهوة فثبت على الطاعة والإنسان سلطت عليه دواعي الهوى، فلما قمعها الصبر وثبت على طاعة الله كان أشرف من الملك، وأعلى. الحديث.
قال بعض العلماء: ذكر الله الصبر في القرآن في خمسة وسبعين موضعا فلا بد من الصبر عاجلا أو آجلا فمن لم يصبر كما أمره الله عز وجل في الدنيا حيث ينفعه صبره صبر لا محالة في الآخرة حيث لا يجدي عليه الصبر شيئا.
قال تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور:16].
ويقولون: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21].
إن قوما صبروا في الدنيا فلم ينفعهم بل ضرهم ذلك قال الكافرون: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا} [الفرقان: 42].
إنما الصبر الحق ما وافق الحق وخالف الهوى، ووافق طاعة المولى. ونقول ألهمنا الله الصبر ورزقناه بمنه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، ولن تعطوا عطاء خيرا وأوسع من الصبر". تقدم خريجه.(11/5382)
ضعف كما تفيد ذلك نصوص الكتاب (1) والسنة (2)، وأما كون الأجر بغير حساب فهذا جزء لا يقادر قدره، وتفخيم لا يساويه غيره. فإنا لو فرضنا أنه قد ورد النص بان أجر الطاعة الفلانية ألف ألف ألف ضعف، أو أكثر من ذلك لكان قوله: بغير حساب أكثر من ذلك، وأوسع وأفخم.
_________
(1) قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
(2) قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت بسبعمائة ضعف" أخرجه الترمذي رقم (1625) والنسائي (6/ 49) وابن حبان رقم (4628) والحاكم (2/ 87) وصححه ووافقه الذهبي. من حديث خريم بن فاتك رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.(11/5383)
فالحاصل أن خصلتي الصبر والحلم يجتمعان في كون كل واحدة منها خصلة فاضلة موجبة للأجر، محبوبة إلى الله وإلى رسوله، وأما مقدار الأجر والثواب فالصبر أكثر أجرا وأوسع جزاء، وأعظم مثوبة. والله أعلم.
فإن قلت: المفهوم [2أ] الثاني الذي ذكره صاحب التعريفات للحلم وهو قوله: وقيل: تأخير مكافأة الظالم، ما النسبة بينه وبين المعنى الأول من معنيي الحلم الذي ذكره؟
قلت: الظاهر أن هذا المفهوم هو بالنسبة إلى الله تعالى (1)، كما أن المعنى الأول هو بالنسبة إلى البشر، كما يفيد ذلك ما تقدم ذكره. وعلى فرض أنهما بالنسبة إلى البشر فلعل النسبة بينهما العموم والخصوص من وجه، لأن الطمأنينة عند سورة الغضب قد تكون مع مكافأة متأخرة، وقد يكون لا تقع مكافأة أصلا، وتأخير المكافأة قد تكون مع حضور غضب عند الابتداء، وقد لا يكون مع ذلك، فكان بينهما عموم وخصوص من وجه.
فإن قلت: ما النسبة بين هذا المعنى الأخير الذي ذكره صاحب التعريفات للحلم، وبين المعنى اللغوي؟
قلت: العموم والخصوص المطلق، فإن الأناة والعقل قد تتأخر معهما المكافأة، وقد لا تقع مكافأة بخلاف تأخير المكافأة، فإنه نوع من الأناة ولا يصح أن يوجد بدونها،
_________
(1) أما اتصاف الله سبحانه بالحلم بمعنى البراءة عن الطيش فمعلوم بالبرهان المؤدي إلى معرفة كمال الله تعالى، وأما اتصافه بالحلم بمعنى تأخير العقوبة أو رفعها، فأحدهما معلوم بالمشاهدة، والثاني بالموارد النقلية وإجماع أهل الملة الحنيفية، أما تأخير العقوبة في الدنيا عن الكفرة والفجرة من أهل العصيان فمشاهد بالعيان، لأنا نراهم يكفرون ويعصون، وهم معافون في نعم الله يتقلبون، وأما رفع العقوبة في الأخرى فلا يكون مرفوعًا إلا عن بعض من استوجبها من عصاة الموحدين، وأما الكفار فلا مدخل لهم في هذا القسم ولا لهم في الآخرة حظ من هذا الاسم.
"الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" (ص97).(11/5384)
فكان معنى الحلم لغة أعم مطلقا من هذا المعنى الذي ذكره صاحب التعريفات.
وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق. انتهى.
قال في المنقول منها: هذه بخط سيدي العلامة إبراهيم بن محمد بن إسحاق، حرره كاتبه محمد بن علي الشوكاني - غفر الله له ولوالديهما ووالدينا والمؤمنين أجمعين - آمين آمين.(11/5385)
بحث في الإضرار بالجار
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(11/5387)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في الإضرار بالجار.
2 - موضوع الرسالة: آداب.
3 - أول الرسالة: الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه لفظ سؤال ورد على القاضي العلامة عز الإسلام محمد بن علي الشوكاني حماه الله
4 - آخر الرسالة: وهو الذي به أدين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الطاهرين.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: صفحتان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: الأولى: 29 سطرا.
الثانية: 4 أسطر.
8 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5389)
الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه:
لفظ سؤال ورد على القاضي العلامة عز الإسلام محمد بن علي الشوكاني - حماه الله -، من بعض تلاميذه في شهر محرم الحرام سنة 1251. وهو: الله يحفظكم، ويبارك في عمركم، ويكتب نواياكم، وأفضل السلام عليكم ورحمة الله.
المراد من أفضالكم إيضاح حكم من يفعل في ملكه شيئا يضر بجاره من تعلية يحصل بها اطلاع على دار جاره، أو إحراما، أو إثارة دخان، أو دق نجارة أو حدادة، أو غير ذلك مما يفعل في الملك ويضر بالجار.
فهل يمنع من ذلك أم لا؟ لأن في المسألة قولين: المختار عدم المنع، وإذا قلنا: إن له ذلك في ظاهر الشرع فهل يأثم في الباطن؟ وأي الدليلين أقوى: هل دليل من قال يمنع أو عدمه؟ وما هو اختياركم في هذه المسألة؟ هذا وجه الإشكال في هذه المسألة - جزاكم الله خيرا، بحق محمد وآله (1) -.
_________
(1) قال أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء: إنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق - لا بحق الأنبياء ولا غير ذلك - يتضمن شيئين:
1 - الإقسام على الله سبحانه وتعالى به، وهذا منهي عنه عند جماهير العلماء.
2 - السؤال به، فهذا يجوز وطائفة من الناس، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف وهو موجود في دعاء كثير من الناس، ولكن ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك كله ضعيف بل موضوع، وليس عنه حديث ثابت قد يظن أنه لهم فيه حجة، إلا حديث الأعمى الذي علمه أن يقول: " أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ". وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه، فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشفاعته .. تقدمت مناقشته.
وقال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (1/ 220) فيحمل قول القائل: أسألك بنبيك محمد على أنه إذا أراد أني أسألك بإيماني به وبمحبته، وأتوسل إليك بإيماني به ومحبته ونحو ذلك ... هذا جائز بلا نزاع.
قيل: من أراد هذا المعنى فهو مصيب في ذلك بلا نزاع. وإذا حمل على كلام من توسل بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد مماته من السلف، كما نقل عن بعض الصحابة والتابعين وعن الإمام أحمد وغيره كان هذا حسنا، وحينئذ فلا يكون في المسألة نزاع.
ولكن كثير من العوام يطلقون هذا اللفظ ولا يريدون هذا المعنى فهؤلاء الذين أنكر عليهم من أنكر.(11/5391)
[الجواب]
وعليكم السلام، ورحمة الله وبركاته: الذي جاءت به الأدلة المتواترة معنى هو النهي عن الإضرار بالجار، بأي وجه من الوجوه، ولو لم يكن من ذلك إلا التوصية منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالجار (1)، والأمر بالإحسان إليه (2)، والنهي عن إضراره (3).
وقد ثبت وصح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يأمن جاره بوائقه " (4). فانظر كيف علق ثبوت الإيمان بذلك الوصف، فلا يأمن لمن لم يأمن جاره بوائقه.
_________
(1) منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6014)، ورقم (6015)، ومسلم رقم (2624، 2625) والترمذي رقم (1942، 1943) وأبو داود رقم (5151، 5152) وابن ماجه رقم (3673) وابن حبان في صحيحه رقم (512، 513) عن ابن عمر، وعائشة: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما زال جبريل عليه السلام يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ".
(2) منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6018) ومسلم رقم (48) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ".
(3) أخرج مسلم في صحيحه رقم (45) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو لأخيه ما يحب لنفسه ".
(4) أخرجه البخاري رقم (6016) ومسلم رقم (46) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه ".
* وأخرج مسلم في صحيحه رقم (46) وأحمد في " المسند " (2/ 373): " لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ".(11/5392)
وما أعظم هذا التهديد، وأشد موقع هذا الوعيد، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد!.
ومع هذا فالضرر ممنوع على العموم، لا يجوز لمسلم الإضرار بمسلم كائنا من كان، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " المؤمن أخو المؤمن، لا يظلمه، ولا يسلمه " ثبت ذلك في الصحيح (1).
_________
(1) وهو حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6951) من حديث ابن عمر قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ".
* وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2442) ومسلم رقم (2580) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ".(11/5393)
وثبت أيضًا في الصحيح (1) عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " فمن ضارر مسلما فقد ظلمه، وأحب له ما يكره لنفسه.
ومن ذلك حديث: " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " (2)، والجار أخص من ذلك كله بأدلته الخاصة، وقد ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قطع نخل رجل كان يضارر جاره وقال له: " إنما أنت مضار " (3). فإذا كان مجرد حصول المضاررة مسوغا
_________
(1) أخرجه أحمد (3/ 176، 272، 278) والبخاري رقم (13) ومسلم رقم (45) والنسائي (8/ 115) والترمذي رقم (2517) وابن ماجه رقم (66) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) أخرجه أحمد (1/ 313) وابن ماجه رقم (2341) والطبراني في " الكبير " (1/ 302 رقم 11806) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ضرر ولا ضرار ... ".
وهو حديث صحيح لغيره.
وأخرجه ابن ماجه رقم (2340) من حديث عبادة بن الصامت وهو حديث صحيح.
وأخرجه الدارقطني في " السنن " (4/ 228 رقم 86) والحاكم (2/ 57) والبيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 69) من حديث أبي سعيد الخدري.
وأخرجه الطبراني في " الكبير " (2/ 86 رقم 387) وأبو نعيم في " أخبار أصفهان " (1/ 344) من حديث ثعلبة بن مالك.
قلت: حديث: " لا ضرر ولا ضرار " حديث صحيح. انظر: " الصحيحة " رقم (250).
(3) عن سمرة بن جندب أنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار، قال: ومع الرجل أهله، قال: وكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به الرجل ويشق عليه فطلب إليه أن يناقله فأبى فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له فطلب إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبيعه فأبى فطلب إليه أن يناقله فأبى قال: " فهبه لي ولك كذا وكذا " أمرا رغبه فيه فأبى فقال: " أنت مضار " فقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصاري: " اذهب فاقلع نخله ".
أخرجه أبو داود في " المراسيل " رقم (407) وفيه محمد بن عبد الله: هو ابن أبي حماد الطرسوسي القطان، روى عنه جمع، وباقي السند رجاله ثقات إلا أن ابن إسحاق مدلس وقد عنعن.
وأخرجه البيهقي (6/ 158) من طريق أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري عن سعيد بن المسيب ..(11/5394)
لإتلاف مال الجار الذي وقع منه الضرار، فكيف لا يجوز منعه عن الضرار والأخذ على يده (1)؟.
_________
(1) قال ابن قدامة في " المغني " (7/ 52): وليس للرجل التصرف في ملكه تصرفا يضر بجاره، نحو أن يبني فيه حماما بين الدور، أو يفتح خبازا بين العطارين، أو بجعله دكان قصارة يهز الحيطان ويخربها، أو يحفر بئرا إلى جانب بئر جاره يجتذب ماءها، وبهذا قال بعض أصحاب أبي حنيفة وعن أحمد رواية أخرى، لا يمنع. وبه قال الشافعي، وبعض أصحاب أبي حنيفة لأنه تصرف في ملكه المختص به. ولم يتعلق به حق غيره فلم يمنع منه، كما لو طبخ في داره أو خبز فيها. وسلموا أنه يمنع من الدق الذي يهدم الحيطان وينثرها.
قال ابن قدامة: ولنا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ضرر ولا ضرار " ولأن هذا إضرار بجيرانه، فمنع منه، كالدق الذي يهز الحيطان وينثرها، وكسقي الأرض الذي يتعدى إلى هدم حيطان جاره، أو إشعال نار تتعدى إلى إحراقها قالوا: هاهنا تعدت النار التي أضرمها، والماء الذي أرسله، فكان مرسلا لذلك في ملك غيره، فأشبه ما لو أرسله إليها قصدا.
قلنا: - ابن قدامة -: والدخان هو أجزاء الحريق الذي أحرقه، فكان مرسلا في ملك جاره فهو كأجزاء النار والماء، وأما دخان الخبز والطبخ فإن ضرره يسير ولا يمكن التحرز منه، وتدخله المسامحة.
ثم قال: وإن كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخر، فليس لصاحب الأعلى الصعود على سطحه على وجه يشرف على سطح جاره، إلا أن يبني سترة تستره.
قال الشافعي: لا يلزمه عمل سترة لأن هذا حاجز بين ملكيهما فلا يجبر أحدهما عليه كالأسفل.
قال ابن قدامة: ولنا أنه إضرار بجاره ... وذلك لأنه يكشف جاره، ويطلع على حرمه، فأشبه ما لو اطلع عليه من صير بابه أو خصاصه، وقد دل على المنع من ذلك قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو اطلع في بيتك أحد ولم تأذن له فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح ".
وهو حديث صحيح. أخرجه البخاري رقم (6902) ومسلم رقم (2158).
انظر: " المجموع " للنووي (13/ 86، 91، 100، 104).(11/5395)
وقد استدل المجوزون لذلك بدليل: هو أن للإنسان أن يتصرف بملكه كيف شاء، لورود الأدلة الدالة على أن الإنسان مفوض في ملكه (1).
وهذا الاستدلال بمحل من الاختلال، لأنه لا معارضة بين مثل هذا الدليل العام والأدلة الخاصة الواردة بمنع الضرار، بل الجمع ممكن بين العام على الخاص، فيجوز للمالك أن يتصرف في ملكه كيف شاء، إلا أن يكون في ذلك التصرف ضرار على جاره أو على مسلم من المسلمين، فلا يجوز له ذلك، وهذا من الوضوح بمكان مكين عند جميع العلماء المصنفين (2)، وهو الذي به أدين.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) وهو الرأي الراجح لما تقدم.
وانظر كلام ابن قدامة في " المغني " (7/ 52 - 53)، " الحاوي الكبير " (8/ 85 - 70).(11/5396)
نثر الجوهر على حديث أبي ذر
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(11/5397)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: نثر الجوهر على حديث أبي ذر.
2 - موضوع الرسالة: آداب.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين، ورضي الله عن الصحابة الراشدين.
وبعد: فإن الحديث القدسي المروي من طريق أبي ذر وغيره ..
4 - آخر الرسالة: وإلى هنا انتهى الشرح لحديث أبي ذر في شهر محرم سنة 1240 هـ بقلم مؤلفه: محمد بن علي الشوكاني. غفر الله لهما.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 54 صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 9 - 12 كلمة.
9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5399)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين، ورضي الله عن الصحابة الراشدين، وبعد:
فإن الحديث القدسي (1) المروي من طريق أبي ذر وغيره لما اشتمل على قواعد جليلة، وفوائد جميلة، يرغب إليها كل ذي فهم ويحرص عليها كل ذي علم، أحببت أن أفرده بشرح مختصر منبها على بعض ما تضمنه من الفوائد الفرائد، والعوائد التي هي لشوارد المسائل كقيد الأوابد، ولم أقف على كلام عليه لأحد من أهل العلم (2) إلا ما ذكره النووي في شرحه لمسلم (3)، وجملة ما شرحه به نصف ورقة، قد نقلنا ذلك عنه كما تقف عليه وسميت هذا الشرح:
" نثر الجوهر على حديث أبي ذر "
ولفظه في صحيح مسلم (4) هكذا: عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) تقدم تعريفه.
(2) بل شرح هذا الحديث شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة العاشرة من الجزء الثالث، من الرسائل المنيرية (ص205 - 246) وفي " مجموع فتاوى شيخ الإسلام " (18/ 136 - 210) وقد قمت بتحقيقها في رسالة مستقلة بعنوان " شرح حديث: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي " بـ (ص96) ط. مؤسسة الريان - بيروت.
(3) (16/ 132 - 133).
(4) رقم (2577).
قلت: وأخرجه البخاري في " الأدب المفرد " رقم (490)، وأبو نعيم في " الحلية " (5/ 125،126) والحاكم في " المستدرك " (4/ 241) والطيالسي في " المسند " (ص62 رقم 463) وأحمد في " المسند " (5/ 160) وعبد الرزاق في " المصنف " (11/ 182 رقم 20272) والترمذي رقم (2495) وابن ماجه رقم (4257) والبيهقي في " الأدب " رقم (1027) وابن حبان في " صحيحه " رقم (618) من طرق.(11/5403)
فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا.
يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم.
يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم.
يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم.
يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم.
يا عبادي إنكم لم تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان منهم مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.
يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله عز وجل، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ".
قال سعيد: كان أبو أدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه.
وأخرجه الترمذي (1) وابن ماجه (2) من طريق: شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنيم عنه.
_________
(1) في " السنن " رقم (2495).
(2) في " السنن " رقم (4257).(11/5404)
ولفظ ابن ماجه (1): قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
" إن الله تبارك وتعالى يقول: يا عبادي! كلكم مذنب إلا من عافيته فاسألوني المغفرة فأغفر لكم، ومن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني بقدرتي غفرت له، وكلكم ضال إلا من هديته فاسألوني الهدى أهدكم، وكلكم فقير إلا من أغنيته فسلوني أرزقكم، ولو أن حيكم وميتكم، وأولكم وآخركم، ورطبكم ويابسكم اجتمعوا فكانوا على قلب أتقى عبد من عبادي، لم يزد في ملكي جناح بعوضة، ولو اجتمعوا فكانوا على قلب أشقى عبد من عبادي لم ينقص من ملكي جناح بعوضة، ولو أن حيكم وميتكم وأولكم وآخركم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا، فسأل كل سائل منهم ما بلغت أمنيته ما نقص من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بشفة البحر فغمس فيها إبرة ثم نزعها، ذلك بأني جواد ماجد، عطائي كلام، إذا أردت شيئا، فإنما أقول له: كن فيكون ".
وأخرجه البيهقي (2) من طريق شهر بن حوشب وإبراهيم بن طهمان عنه، ولفظه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
" يقول الله عز وجل: يا ابن آدم كلكم مذنب إلا من عافيت، فاستغفروني أغفر لكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت، فسلوني أعطكم، وكلكم ضال إلا من هديت، فسلوني الهدى أهدكم ومن استغفرني وهو يعلم أني ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له ولا أبالي، ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب أشقى رجل منكم ما نقص ذلك من سلطاني مثل جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في سلطاني مثل جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم وحيكم
_________
(1) في " السنن " رقم (4257).
(2) في " الآداب " رقم " 1027 " و" الأسماء والصفات " (1/ 263).(11/5405)
وميتكم ورطبكم ويابسكم سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كمغرز إبرة لو غمسها أحدكم في البحر، وذلك أني جواد ماجد، عطائي كلام وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له: كن فيكون ".
وأخرجه الترمذي (1) وحسنه (2) نحوه، إلا أنه قال: " يا عبادي ".
انتهى متن الحديث الذي سنشرحه إن شاء الله، ونبتدئ أولا بالكلام على من تكلم عليه من رجاله ثم نعود إلى شرح ألفاظه فنقول:
1 - شهر بن حوشب، هو مولى أسماء بنت يزيد بن السكن، أبو سعيد الشامي (3). قال ابن عون (4) فيه: شهر نزكوه، بنون، وزاي معجمة، أي طعنوا فيه.
وقال شبابة (5) عن شعبة: لقيت شهرا فلم أعتد به.
وقال ابن عدي (6) شهر ممن لا يعتد بحديثه.
وقال أبو حاتم (7) ليس بدون أبي الزبير، ولا يحتج به، وقال النسائي (8) ليس بالقوي.
وقال أبو زرعة (9) لا بأس به، ووثقه ابن معين، وأحمد بن حنبل (10)، والعجلي (11)،
_________
(1) في السنن " رقم (2495).
(2) في " السنن " (4/ 657).
(3) انظر: " تهذيب التهذيب " (2/ 182).
(4) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (2/ 182).
(5) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (2/ 182).
(6) في " الكامل " (4/ 1355).
(7) في " الجرح والتعديل " (4/ 358).
(8) في " الضعفاء والمتروكين " رقم (310).
(9) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (2/ 183).
(10) كما في " بحر الدم " رقم (447).
(11) في " الثقات " رقم (741).(11/5406)
والفسوي (1)، ويعقوب ابن شيبة (2)، وأخرج له مسلم مقرونا بآخر، وأهل السنن الأربعة والبخاري في التاريخ، وقد أرسل عن تميم الداري وسلمان.
وعنه قتادة ومطر الوراق، عبد الحميد بن بهرام، وثابت، والحكم، وعاصم بن بهدلة، واحتج به غير واحد، وقال الذهبي في كتاب الضعفاء (3) إن حديثه حسن.
وروى أيضًا عن مولاته أسماء بنت يزيد، وابن عباس، وأبي هريرة.
2 - وأما عبد الرحمن بن غنم (4)، الذي روى عنه شهر فهو الأشعري، اختلف في صحبته فزعم يحيى بن بكير أن له صحبة، وقال ابن يونس: قدم في السفينة، وذكره العجلي (5) في كبار التابعين روى عن عمر، وعثمان، وعنه مكحول، وعمير بن هانئ وخلق، قال ابن عبد البر (6): كان أفقه أهل الشام، وقال العجلي (7) وابن سعد (8) شامي تابعي ثقة، وقد أخرج حديثه أهل السنن الأربعة وعلق له البخاري (9)، قال خليفة: مات سنة ثمانون وسبعين.
3 - وأما إبراهيم بن طهمان (10) فهو الإمام الثقة، وقد أخرج له الجماعة كلهم ومن تكلم فيه لم يذكر جرحا يعتد به وغاية ما قيل فيه: أنه كان مرجئا شديد الرد على
_________
(1) في " المعرفة والتاريخ " (2/ 97 - 98).
(2) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (2/ 183).
(3) رقم (2803).
(4) انظر " تهذيب التهذيب " (2/ 543 - 544)، " التقريب " رقم (3978).
(5) في " الثقات " (2/ 85).
(6) في " الاستيعاب " (2/ 424).
(7) في " الثقات " (2/ 85).
(8) في " الطبقات " (7/ 441).
(9) في " صحيحه " (10/ 53 رقم5590).
(10) انظر: " تهذيب التهذيب " (1/ 69 - 70).
قال أبو حاتم وأبو داود: ثقة.
وقال ابن المبارك: صحيح الحديث. وقال ابن معين والعجلي: لا بأس به.(11/5407)
الجهمية، وتلك شكاة ظاهر عنه عارها. وقد روي رجوعه عن الإرجاء، وليس الجرح باختلاف المذاهب والاعتقادات بمعتد به قط، ولا يلتفت إليه من له بصيرة (1).
قوله: عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فيما يروى عن ربه.
فيه التصريح بأن هذا الحديث من جملة الأحاديث القدسية التي رواها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عن الله عز وجل بواسطة الملك، ويمكن أن يكون ذلك بلا واسطة، وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سمعه من ربه سبحانه، ولا مانع من ذلك.
قوله: إنه قال: " يا عبادي ".
العباد جمع عبد، ويجمع أيضًا على أعبد، وعبدان بالضم مثل: تمر وتمران، وعبدان بالكسر، مثل جحش وجحشان، وعبدان بالكسر وتشديد الدال، وعبداء ممدودا ومقصورا، وعبدون، وعبيد مثل كلب وكليب (2).
قال في الصحاح (3) وهو جمع عزيز، وحكى الأخفش: عبد مثل سقف، وسقف، أنشد:
أنسب العبد إلى آبائه ... أسود الجلدة من قوم عبد
وأصل العبودية الخضوع والذل والتعبد التذلل، كذا في الصحاح (4).
قال في القاموس (5) العبد: الإنسان حرا كان أو رقيقا والمملوك.
وقال في الصحاح (6) إن العبد خلاف الحر.
والظاهر من كلام أهل اللغة وكلام أهل الشرع أنه لا يطلق العبد على الحر إلا إذا أضيف إلى الرب عز وجل، لا على الإطلاق كما أشعر به كلام صاحب القاموس.
_________
(1) تقدم التعليق على ذلك.
(2) انظر: " لسان العرب " (9/ 10 - 11).
(3) (2/ 503).
(4) (2/ 503).
(5) (ص378).
(6) (2/ 503).(11/5408)
وهكذا العباد يختص بما يضاف إلى الله عز وجل بخلاف العبيد فإنه يعم مع أنه قد صح النهي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أن يقول الرجل عبدي أو أمتي، ولكن يقول: فتاي أو فتاتي " (1).
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (2552). انظر الرسالة رقم (184).(11/5409)
[معنى الظلم]
قوله: " إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ".
قال في الصحاح (1) في - ظلمة يظلمه ظلما ومظلمة -: وأصله وضع الشيء في غير موضعه.
قال: والظلامة والظليمة والمظلمة: ما تطلبه عند الظالم، وهو اسم ما أخذ منك، وتظلمني فلان أي: ظلمني مالي، وتظلم منه: أي اشتكى ظلمه، وظلمت فلانا تظليما إذا نسبته إلى الظلم فانظلم.
قال زهير (2)
هو الجواد الذي يعطيك نائله ... عفوا ويظلم أحيانا فينظلم (3).
أي: يسأل فوق طاقته فيتكلفه.
وفي ذلك دليل على أن الظلم حرم الله سبحانه على نفسه كما حرمه على عباده.
قال النووي في شرح مسلم (4) قال العلماء: معنى حرمت الظلم على نفسي تقدست عنه وتعاليت، والظلم مستحيل منه سبحانه وتعالى لأنه التصرف في غير ملك، أو مجاوزة حد، وكلاهما مستحيل في حق الله سبحانه، وكيف يجاوز سبحانه حدا وليس فوقه من يطيعه وكيف يتصرف في غير ملك والعالم كله ملكه وسلطانه، وأصل التحريم في اللغة (5) المنع، فسمى تقدسه عن الظلم تحريما لمشابهته الممنوع في أصل عدم الشيء، انتهى.
_________
(1) (5/ 1977).
(2) البيت الثالث عشر من قصيدة يمدح هرم بن سنان المري.
انظر شرح ديوان "زهير بن أبي سلمى" (ص119).
(3) كذا في المخطوط: والذي في الديوان (ص115) فيظلم.
(4) (16/ 132).
(5) انظر " قاموس المحيط " (1411).(11/5410)
واعلم أن الكلام في هذا يطول، وموضعه علم الكلام، وفيه للأمة مذاهب محررة: مذهب المعتزلة (1)، ومذهب الأشعرية (2)، والتفصيل: وهو الحق، فهو عز وجل يمتنع عليه أن ينقص عاملا أجر عمله أو يعذبه بعد توبته (3).
_________
(1) تقدم التعريف بها.
(2) تقدم التعريف بها.
(3) قال ابن تيمية في الرسالة العاشرة من الرسائل المنيرية (ص207) ورسالة محققة بعنوان " شرح حديث يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي " (ص36) بتحقيقي بعد أن ذكر آراء، وأقوال الفرق: ثم يقال لهم الظلم فيه نسبة وإضافة فهو ظلم من الظالم، بمعنى: أنه عدوان وبغي منه، وهو ظلم للمظلوم.
بمعنى: أنه بغي واعتدي عليه، وأما من لم يكن متعدى عليه وبه ولا هو منه عدوان على غيره فهو في حقه ليس بظلم، لا منه ولا له، والله سبحانه خلق أفعال العباد فذلك من جنس خلقه لصفاتهم فهم الموصوفون بذلك، فهو سبحانه إذا جعل بعض الأشياء أسود وبعضها أبيض، أو طويلا أو قصيرا أو متحركا أو ساكنا أو عالما أو جاهلا أو قادرا أو عاجزا أو حيا أو ميتا أو مؤمنا أو كافرا أو سعيدا أو شقيا أو ظالما أو مظلوما، كان ذلك المخلوق هو الموصوف بأنه الأبيض والأسود والطويل والقصير والحي والميت والظالم والمظلوم ونحو ذلك.
والله سبحانه لا يوصف بشيء من ذلك، وإنما إحداثه للفعل الذي هو ظلم من شخص وأكل لآخر، وليس هو بذلك آكلا ولا مأكولا، ونظائر هذا كثيرة، وإن كان في خلق أفعال العباد لازمها أو متعديها حكم بالغة، كما له حكمة بالغة في خلق صفاتهم وسائر المخلوقات. لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك. وقد ظهر بهذين الوجهين تدليس القدرية.
وأما تلك الحدود التي عورضوا بها فهي دعاو ومخالفة أيضًا للمعلوم من الشرع واللغة والعقل، أو مشتملة على نوع من الإجمال، فإن قول القائل: الظالم من قام به الظلم يقتضي أنه لا بد أن يقوم به لكن يقال له: وإن لم يكن فاعلا له آمرا له لا بد أن يكون فاعلا له مع ذلك، فإذا أراد الأول كان اقتصاره على تفسير الظالم بمن قام به الظلم كاقتصار أولئك على تفسير الظالم في فعل الظلم.
والذي يعرفه الناس عامهم وخاصهم أن الظالم فاعل للظلم، وظلمه فعل قائم به، وكل من الفريقين جحد الحق. وأما قولهم من فعل محرما عليه أو منهيا عنه ونحو ذلك، فالإطلاق صحيح لكن يقال: قد دل الكتاب والسنة على أن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة، وكان حقا عليه نصر المؤمنين، وكان حقا عليه أن يجزي المطيعين، وأنه حرم الظلم على نفسه، فهو سبحانه الذي حرم بنفسه على نفسه الظلم، كما أنه هو الذي كتب بنفسه على نفسه الرحمة، لا يمكن أن يكون غيره محرما عليه أو موجبا عليه. فضلا عن أن يعلم ذلك بعقل أو غيره، وإذا كان كذلك فهذا الظلم الذي حرمه على نفسه هو ظلم بلا ريب، وهو أمر ممكن مقدور عليه وهو سبحانه يتركه مع قدرته عليه بمشيئته واختياره، لأنه عادل ليس بظالم كما يترك عقوبة الأنبياء والمؤمنين وكما يترك أن يحمل البريء ذنوب المعتدين.(11/5411)
وفي الحديث أبلغ تشديد وأعظم تأكيد وأشد وعيد على مرتكبي الظلم من العباد فإنه سبحانه حرم على عباده المحرمات ونهاهم عن المنهيات، ولم يذكر في شيء منها ما ذكره في تحريم الظلم من إخبارهم أولاً: بأنه حرم الظلم على نفسه، ثم إخبارهم ثانيًا: بأنه بينهم محرما. فإن في هذا من تقريع الظلمة وتوبيخهم ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه، وذلك لما علمه عز وجل في سابق علمه من كثرة الظلمة في عباده، وندور العادلين منهم، وهذا يعلمه كل من له اطلاع على أخبار العالم، ومعرفة بأحوالهم، وأحوال ملوكهم، وجميع أرباب المناصب الدينية، والرياسات الدنيوية، لا يشك في ذلك شاك، ولا يرتاب فيه مرتاب.(11/5412)
[الظلم محرما بكل أنواعه]
وقد أكثر الله سبحانه في كتابه العزيز من تنزيه جنابه المقدس عن الظلم كقوله سبحانه: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1) وقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (2) وقوله: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (3):، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} (4)، وغير ذلك من الآيات القرآنية.
ونعى على الظلمة ما هم فيه من الظلم من آيات كثيرة.
وقد أجمع المسلمون على تحريم الظلم ولم يخالف في ذلك مخالف، وأجمع العقلاء على أنه من أشد ما تستقبحه العقول، ومن الآيات القرآنية قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (5)، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} (6)، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (7)، {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (8)، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} (9)، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (10)، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} (11) وغير ذلك.
_________
(1) [النحل: 118].
(2) [فصلت: 46].
(3) [الكهف: 49].
(4) [يونس: 44].
(5) [النساء: 40].
(6) [غافر: 31].
(7) [الكهف: 49].
(8) [ق: 29].
(9) [يونس: 44].
(10) [هود: 101].
(11) [الزخرف: 76].(11/5413)
وقد ثبت في السنة المطهرة من تقبيح الظلم وأهله الكثير الطيب فمن ذلك ما في الصحيحين (1) وغيرهما (2) من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إن الله يملي للظالم فإذا أخذه لم يفتله " ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِي ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (3).
وفي الصحيحين (4) وغيرهما (5) من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " الظلم ظلمات يوم القيامة ".
وأخرج مسلم (6) وغيره (7) من حديث جابر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم ".
وأخرج ابن حبان في صحيحه (8)، والحاكم (9) من حديث أبي هريرة عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " إياكم والظلم، فإن الظلم هو الظلمات يوم القيامة ".
وأخرجه الطبراني في الكبير (10) والأوسط (11) من حديث الهرماس بن زياد.
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (4686) ومسلم في صحيحه رقم (2583).
(2) كابن ماجه رقم (4018).
(3) [هود:102]
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2447) ومسلم رقم (2579).
(5) كالترمذي رقم (2030).
(6) في صحيحه رقم (2578).
(7) كأحمد في " المسند " (3/ 323).
(8) في " صحيحه " رقم (6248).
(9) في " المستدرك " (1/ 11).
(10) (22/ 204 رقم 538).
(11) رقم (629).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 235) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفيه عبد الله بن عبد الرحمن بن مليحة وهو ضعيف.(11/5414)
وأخرج أيضًا (1) من حديث ابن مسعود أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تظلموا فتدعوا فلا يستجاب لكم، وتستسقوا فلا تسقوا، وتستنصروا فلا تنصروا ".
وأخرج أيضًا في الكبير (2) بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غشوم، وكل غال مارق ".
وأخرج أحمد (3) بإسناد حسن من حديث ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، ويقول: والذي نفسي بيده ما تواد اثنان فيمزق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما ".
وأخرج أحمد (4) والطبراني بإسناد حسن، وأبو يعلى من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " اتقوا الظلم ما استطعتم فإن العبد يجيء بالحسنات يوم القيامة يرى أنها ستنجيه فما يزال عبد يقوم يقول: يا رب ظلمني عبدك مظلمة، فيقول: أتموا من حسناته، ما يزال كذلك حتى ما يبقى له حسنة من الذنوب ".
_________
(1) الطبراني في " الأوسط " كما في " مجمع الزوائد " (5/ 235) وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه من لم أعرفه.
(2) رقم (8079).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 235) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط رقم (1625) ورجال الكبير ثقات.
(3) في " المسند " (2/ 68) وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 184) وقال: رواه أحمد وإسناده حسن.
(4) انظر تخريجه في " تخريج أحاديث إحياء علوم الدين " للعراقي، وابن السبكي، والزبيدي. استخراج أبي عبد الله محمود الحداد (6/ 2687 - 2689) رقم (4101).(11/5415)
وأخرج البخاري (1) والترمذي (2) من حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من كانت عنده مظلمة لأخيه أو شيء فليتحلله منه اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ".
وأخرج مسلم (3) والترمذي (4) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " أتدرون ما المفلس "؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: " إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار ".
وأخرج البيهقي في " البعث (5) بإسناد جيد، عن أبي عثمان، عن سلمان الفارسي، وسعد بن مالك وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، حتى عد ستة أو سبعة من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قالوا: " إن الرجل لترفع له يوم القيامة صحيفته حتى يرى أنه ناج فما تزال مظالم بني آدم تتبعه حتى ما يبقى له حسنة، ويحمل عليه من سيئاتهم ".
وأخرج مسلم (6) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال:
_________
(1) في صحيحه رقم (2449).
(2) في " السنن " رقم (2419).
(3) في صحيحه رقم (2581).
(4) في السنن رقم (2418).
(5) في " البعث والنشور " رقم (152).
وأخرجه الحاكم (4/ 574) وصححه ووافقه الذهبي.
(6) في صحيحه رقم (2564).(11/5416)
" المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا التقوى هاهنا [و] يشير إلى صدره [ثلاث مرات] بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله ".
وأخرج الطبراني في الصغير (1) والأوسط عن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " يقول الله عز وجل: اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصرا غيري ".
ومن شؤم الظلم وسوء مغبته وقبح عاقبته أن دعوة المظلوم على ظالمه مقبولة لا ترد فيحيق به جزاء ظلمه عن قريب، كما في الصحيحين (2) وغيرهما (3) من حديث ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بعث معاذا إلى اليمن فقال: " اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ".
وأخرج أحمد (4)، والترمذي (5) وحسنه، وابن ماجه (6)، وابن خزيمة (7)، وابن
_________
(1) (1/ 31).
(2) أخرجه البخاري رقم (1496) ومسلم رقم (19).
(3) كأبي داود رقم (1584).
(4) في " المسند " (2/ 305، 348،445، 478، 517، 523).
(5) في " السنن " رقم (2526).
(6) في " السنن " رقم (1752).
(7) في " صحيحه " رقم (1901).(11/5417)
حبان (1) في صحيحهما، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماوات ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين ".
وفي رواية للترمذي (2) " ثلاث دعوات لا شك في إجابتهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على الولد ".
وأخرج الحاكم (3) وقال: رواته متفق عليهم إلا عاصم بن كليب فاحتج به مسلم وحده، من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة ".
وأخرج الطبراني (4) بإسناد صحيح من حديث عقبة بن عامر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " ثلاثة تستجاب دعوتهم: الوالد، والمسافر، والمظلوم ".
وأخرج أحمد (5) بإسناد حسن من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه ".
وأخرج الطبراني (6) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " دعوتان ليس بينها وبين الله حجاب: دعوة المظلوم، ودعوة المرء لأخيه بظهر
_________
(1) في صحيحه رقم (3428).
(2) في " السنن " رقم (3598).
(3) في " المستدرك " (1/ 29).
(4) أورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 151) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن يزيد الأزرق وهو ثقة.
(5) في " المسند " (2/ 367) بإسناد حسن.
(6) أورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 151، 152) وقال: رواه الطبراني وفيه عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي وهو ضعيف.(11/5418)
الغيب ".
وأخرج الطبراني (1) بإسناد لا بأس به من حديث خزيمة بن ثابت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام. يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين ".
وأخرج أحمد (2) برجال الصحيح من حديث أبي عبد الله الأسدي قال: سمعت أنس بن مالك يقول: " دعوة المظلوم وإن كان كافرا ليس دونها حجاب ".
وأخرج ابن حبان في صحيحه (3) والحاكم (4) وصححه من حديث أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: " كانت أمثالا كلها، أيها الملك المسلط المبتلى المغرور! إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها وإن كانت من كافر ... " إلى آخر الحديث.
_________
(1) أورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 152) وقال: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه.
(2) (3/ 153) بسند ضعيف لجهالة أبي عبد الله الأسدي.
قلت: ويقال فيه: أبو عبد الغفار، فقد روى الدولابي - في الكنى (2/ 73) - حديثه من طريق ابن معين، قال: ثنا ابن عفير، قال: أنبا يحيى بن أيوب عن أبي عبد الغفار، عبد الرحمن بن عيسى، قال: سمعت أنسا .. فذكره مرفوعًا وترجم له ابن حجر في تعجيل المنفعة - (2/ 488) - اهـ.
" الفرائد على مجمع الزوائد " تأليف: خليل بن محمد العربي (ص 427).
(3) رقم (361) بإسناد ضعيف جدا.
(4) لم أجده في " المستدرك ".(11/5419)
[نصرة المظلوم واجبة]
وورد أيضًا ما يدل على وجوب نصرة المظلوم.
فأخرج البخاري (1) والترمذي (2) من حديث أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما "، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره؟ قال: " تحجزه عن ظلمه أو تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره ".
وأخرج مسلم (3) من حديث جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " ولينصرن الرجل أخاه ظالما أو مظلوما، إن كان ظالما فلينهه فإنه نصره، وإن كان مظلوما فلينصره ".
وكما ورد الوعيد على الظلمة، ورد الوعد للعادلين.
فأخرج مسلم (4) والنسائي (5)، من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا ".
وفي الصحيحين (6) وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) في صحيحه رقم (2443، 2444، 6952).
(2) في " السنن " رقم (2255).
(3) في صحيحه رقم (2584).
قلت: وأخرجه الدارمي (2/ 311) وأحمد (3/ 324).
وهو حديث صحيح.
(4) في صحيحه رقم (18/ 1827).
(5) في سننه (8/ 221).
قلت: وأخرجه أيضًا أحمد في " المسند " (2/ 160).
(6) البخاري رقم (660) ومسلم رقم (1031).(11/5420)
قال: " سبعة يظلمهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل .. " الحديث.
وأخرج مسلم (1) من حديث عياض بن حمار قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقصد موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف يستعفف ذو عيال ".
وأخرج الطبراني في الكبير (2) والأوسط (3) بإسناد حسن من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة، وحد يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين صباحا ".
وأخرج الترمذي (4) وحسنه والطبراني في الأوسط (5) من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر ".
_________
(1) في صحيحه رقم (2865).
قلت: وأخرجه أحمد (4/ 162) والطبراني في الكبير (17/ 994، 995) وفي الأوسط (2954) والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " رقم (3878).
(2) رقم (11932).
(3) رقم (4765).
وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5/ 197) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه سعد: أبو غيلان الشيباني، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
قال الألباني في الصحيحة (1/ 411): لا بأس به في الشواهد.
(4) في " السنن " رقم (1329) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(5) كما في " المجمع " (5/ 197) وقال: رواه الطبراني وفيه عطية وهو ضعيف.
وأخرجه القضاعي في مسند الشهاب رقم (1305) والبغوي في شرح السنة رقم (2472). وأبو يعلى في مسنده رقم (11025).
وهو حديث ضعيف.(11/5421)
وأخرج نحوه الطبراني في الأوسط (1) بإسناد حسن من حديث عمر بن الخطاب.
وأخرج الطبراني (2) بإسناد رجاله ثقات - إلا ليث بن أبي سليم - والبزار (3) بإسناد جيد من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو قتله نبي، وإمام جائر ".
وأخرج النسائي (4) وابن حبان في صحيحه (5) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أربعة يبغضهم الله: البياع الحلاف، والفقير المختال، والشيخ الزاني، والإمام الجائر ".
وأخرج الحاكم (6) وصححه من حديث طلحة بن عبيد الله أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " ألا أيها الناس لا يقبل الله صلاة إمام جائر ".
وأخرج ابن ماجه (7) والحاكم (8) وصححه والبزار (9) واللفظ له من حديث ابن عمر عن
_________
(1) رقم (348) وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 197) وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف.
وأورده المنذري في " الترغيب والترهيب " رقم (3230) وقال: حديثه حسن في المتابعات.
(2) أورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 236).
(3) في " المسند " رقم (1603 - كشف).
(4) في " السنن " رقم (5/ 86).
(5) رقم (5532).
وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (107) بنحوه وهو حديث صحيح.
(6) في " المستدرك " (4/ 89) وصححه وتعقبه الذهبي بقوله: سنده مظلم وفيه عبد الله بن محمد العدوي، متهم.
وهو حديث ضعيف.
(7) في " السنن " رقم (4019) وهو حديث حسن.
(8) في " المستدرك " (4/ 540) وصححه ووافقه الذهبي.
(9) في مسنده رقم (1590 - كشف).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 196) وقال: رواه البزار وفيه سعد بن سنان أبو مهدي، وهو متروك.(11/5422)
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم من عباده فإن عدل كان له الأجر وكان على الرعية الشكر، وإن جار أو حاف أو ظلم كان عليه الوزر وعلى الرعية الصبر ".
وأخرج أحمد (1) بإسناد جيد واللفظ له، وأبو يعلى (2) والطبراني (3) من حديث أنس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " الأئمة من قريش، إن لي عليكم حقا، ولهم عليكم حقا مثل ذلك، فإن استرحموا رحموا، وإن عاهدوا وفوا، وإن حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
وأخرج أحمد (4) بإسناد رجاله ثقات، والبزار (5)، وأبو يعلى (6) من حديث سيار بن سلامة (7) عن أبي برزة يرفعه نحو الحديث الذي قبله.
_________
(1) في " المسند " (3/ 129، 183).
(2) في مسنده رقم (3644).
(3) في الدعاء " (2122).
وأخرجه النسائي في " السنن الكبرى " (5942) والبخاري في " التاريخ الكبير " (2/ 12) معلقا والطيالسي رقم (2133) والحاكم (4/ 501) والبيهقي (8/ 144).
وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.
(4) في " المسند " (4/ 421، 424).
(5) في " مسنده " رقم (3857 - كشف).
(6) في " مسنده " رقم (3645).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 193) وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى أتم منه وفيه قصة والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح، خلا سكين بن عبد العزيز وهو ثقة.
(7) سيار بن سلامة الرياحي، أبو المنهال البصري، ثقة من الرابعة، روى له الجماعة، مات سنة 129 هـ.
" التقريب " رقم (2715).
وهو حديث صحيح لغيره.(11/5423)
وأخرج أحمد (1) أيضًا بإسناد رجاله ثقات والبزار (2) والطبراني (3) من حديث أبي موسى نحوه أيضا، وزاد - بعد اللعن من الله وملائكته والناس أجمعين -: " إنه لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ".
وأخرج الطبراني بإسناد رجاله ثقات من حديث معاوية قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لا يقدس الله أمة لا يقضى فيها بالحق ويأخذ الضعيف حقه من القوي غير متعتع ".
وأخرجه أيضًا البزار (4) من حديث عائشة.
وأخرجه أيضًا الطبراني (5) من حديث ابن مسعود، بإسناد جيد.
وأخرجه أيضًا ابن ماجه (6) من حديث أبي سعيد.
وأخرج الطبراني في الأوسط (7)، .......................................
_________
(1) في " المسند " (4/ 396).
(2) في " مسنده " رقم (1582 - كشف).
(3) أورد الهيثمي في " المجمع " (5/ 193) وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني ورجال أحمد ثقات.
وهو حديث صحيح لغيره.
(4) في " مسنده " رقم (1352 كشف) وقال البزار: لا نعلمه عن عائشة إلا من هذا الوجه.
وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 196) وقال: رواه البزار، وفيه المثنى بن الصباح وهو ضعيف، ووثقه ابن معين في رواية. وقال في رواية: ضعيف يكتب ولا يترك وقد تركه غيره.
(5) كما في " مجمع الزوائد " (4/ 197) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات.
(6) في " السنن " رقم (2426).
وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " (2/ 248 - 249 رقم 852): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات رواه أبو يعلى ورواته رواة الصحيح.
وهو حديث صحيح، والله أعلم.
(7) رقم (6629).(11/5424)
والحاكم (1) وقال: صحيح الإسناد من حديث معقل بن يسار، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من ولي أمة من أمتي قلت أو كثرت فلم يعدل فيهم كبه الله على وجهه في النار ".
وأخرج الطبراني (2) بإسناد حسن، وأبو يعلى (3)، والحاكم (4) وصححه، من حديث أبي موسى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " إن في جهنم واديا، في الوادي بئر يقال لها: هبهب (5) حقا على الله أن يسكنه كل جبار عنيد ".
وأخرج أحمد (6) بإسناد جيد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه إلا العدل ".
وأخرجه أحمد (7) أيضًا بإسناد رجاله رجال الصحيح، والبزار (8) من حديث سعد بن
_________
(1) في " المستدرك " (4/ 90) وصححه ووافقه الذهبي.
وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 213) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد العزيز بن الحصين. وهو ضعيف.
وهو حديث حسن بشواهده.
(2) في " الأوسط " رقم (3548)، وقال الهيثمي في " المجمع " (5/ 197): رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.
(3) في " المسند " رقم (7249) وفيه أزهر بن سنان، ضعيف.
(4) في " المستدرك " (4/ 597) وقال: هذا حديث تفرد به أزهر بن سنان عن محمد بن واسع، لم نكتبه عاليا إلا من هذا الوجه ووافقه الذهبي.
(5) الهبهب السريع، وهبهب السراب إذا ترقرق. [النهاية (5/ 241)].
(6) في " المسند " (2/ 431) بإسناده قوي.
وأخرجه البزار في مسنده رقم (1640 - كشف) وأبو يعلى في مسنده رقم (6614) و (6629) وابن أبي شيبة (12/ 219) من طرق من حديث أبي هريرة. وهو حديث حسن.
(7) (5/ 284) بإسناد ضعيف.
(8) في مسنده رقم (3739 - كشف). وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 205) وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني وفيه رجل لم يسم، وبقية أحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح.(11/5425)
عبادة وفي إسناده رجل لم يسم.
وأخرجه البزار (1) والطبراني في الأوسط (2) ورجال البزار رجال الصحيح من حديث أبي هريرة.
وأخرجه أيضًا الطبراني في الكبير (3) والأوسط (4) رجاله ثقات من حديث ابن عباس.
وأخرج ابن حبان في صحيحه (5) من حديث أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من والي للأمة إلا لقي الله مغلولة يمينه، فكه عدله، أو غله جوره ".
وأخرج مسلم (6) والنسائي (7) من حديث عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله
_________
(1) في: المسند " رقم (1640 - كشف).
(2) رقم (6221) وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 205) وقال: رواه البزار والطبراني في الأوسط ... ورجال البزار رجال الصحيح. وهو حديث حسن.
(3) رقم (12689).
(4) رقم (286، 9367).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 206) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجاله ثقات. وهو حديث حسن.
(5) في صحيحه رقم (4525) بإسناد ضعيف جدا. فيه إبراهيم بن هشام الغساني، لم يوثقه غير ابن حبان، وكذبه أبو حاتم وأبو زرعة.
انظر: " الجرح والتعديل " (2/ 142 - 143).
(6) في صحيحه رقم (1828).
(7) في " السنن الكبرى " رقم (8873) ولفظه: " اللهم من ولي من أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به ". وأخرجه أحمد (6/ 62، 93، 260). وهو حديث صحيح.(11/5426)
عليه وآله وسلم يقول في بيتي هذا: " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به ".
وأخرج الطبراني (1) بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من ولي شيئا من أمر المسلمين لم ينظر الله في حاجته حتى ينظر في حوائجهم ".
وأخرج الطبراني في الصغير (2) والأوسط (3) من حديث ابن عباس أيضًا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " ما من أمتي أحد ولي من أمر الناس شيئا لم يحفظهم بما حفظ به نفسه إلا لم يجد رائحة الجنة ".
وأخرج مسلم (4) من حديث معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه آله وسلم يقول: " ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش رعيته إلا حرم الله عليه الجنة ".
وفي رواية (5) " فلم يحطها بنصحه لم يرح رائحة الجنة ". وأخرجه أيضًا البخاري (6) من حديثه.
وفي لفظ لمسلم من حديثه أيضًا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة ".
_________
(1) كما في " مجمع الزوائد " (5/ 211) وقال: رواه الطبراني وفيه حسين بن قيس، وهو متروك، وزعم أبو محصن أنه شيخ صدق. وبقية رجاله رجال الصحيح.
(2) (2/ 54).
(3) رقم (7594).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 211) وقال: رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه إسماعيل بن شبيب وهو ضعيف.
(4) في صحيحه رقم (142).
(5) في صحيحه رقم (7150).
(6) في صحيحه رقم (22/ 142).(11/5427)
وأخرج الطبراني في الأوسط (1) والصغير (2) بإسناد رجاله ثقات - إلا عبد الله بن ميسرة أبا ليلى - من حديث أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من ولي من أمر المسلمين شيئا فغشهم فهو في النار ".
وأخرج الطبراني (3) بإسناد حسن من حديث عبد الله بن مغفل قال: أشهد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من إمام، ولا وال بات ليلة سوداء غاشا لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ".
وأخرج أبو داود (4) واللفظ له والترمذي (5) والحاكم (6) وصححه من حديث عمرو بن مرة الجهني قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " من ولاه الله شيئا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب دون حاجته
_________
(1) عزاه إليه الهيثمي في " المجمع " (5/ 213).
(2) (1/ 240 رقم 392 - الروض الداني).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 213) وقال: رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وفيه عبد الله بن ميسرة أبو ليلى، وهو ضعيف عند الجمهور ووثقه ابن حبان وبقية رجاله ثقات.
انظر: " التقريب " رقم (3652).
وهو حديث ضعيف.
(3) عزاه إليه الهيثمي في " المجمع " (5/ 212 - 213).
قال الهيثمي: رواه الطبراني عن شيخه ثابت بن نعيم الهوجي ولم أعرفه، وبقية رجال الطريق الأول ثقات، وفي الثانية محمد بن محمد بن عبد الله بن مغفل ولم أعرفه.
قال ابن حجر في " اللسان " (2/ 79): ثابت بن نعيم أبو معن، ذكره مسلمة بن قاسم في الصلة وقال: " مجهول، حدثنا عنه يعقوب بن إسحاق بن حجر ".
وهو حديث ضعيف.
(4) في " السنن " رقم (2948).
(5) في " السنن " رقم (1333)
(6) في " المستدرك " (4/ 93) وصححه ووافقه الذهبي.
وهو حديث حسن.(11/5428)
وخلته وفقره يوم القيامة ".
وأخرج نحوه أحمد (1) بإسناد جيد من حديث معاذ.
وأخرج نحوه أحمد (2) أيضًا بإسناد جيد من حديث أبي الشماخ الأزدي (3) عن ابن عم (4) له من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
واعلم أن من أقبح أنواع الظلم ما يرجع إلى الأعراض من غيبة، أو نميمة، أو شتم أو قذف.
وقد ثبت جعل العرض مقترنا بالدم والمال في التحريم، وما أكثر الظلمة في الأعراض فإن الظلمة في الدماء والأموال قليلون بالنسبة إلى من يظلم الناس في دمائهم وأموالهم بخلاف الظلم في الأعراض فإنه كان مقدورا لكل أحد، تتابع فيه كثير من الناس ووقع فيه كثير من أهل العلم والفضل، زين ذلك لهم الشيطان حتى صاروا في عداد الظلمة للدماء والأعراض بل أشر منهم مع عدم النفع لهم، فإن الظلمة في الدماء قد شفوا أنفسهم بالوقوع في هذه المعصية، وكذلك الظلمة في الأموال قد انتفعوا بما أخذوه من الأموال، وأما الظلمة في الأعراض فليس لهم إلا مجرد المعصية المحضة، والذنب العظيم، والظلم الخالي عن النفع،
_________
(1) في " المسند " (5/ 239).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 210) وقال: رواه أحمد والطبراني. ورجال أحمد ثقات.
(2) في " المسند " (3/ 441) بإسناد ضعيف. وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 201) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى - رقم (7378) - وأبو السماح - كذا في المطبوع بالسين المهملة ثم آخره مهملة - لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
وهو حديث صحيح لغيره.
(3) قال الحافظ في " تعجيل المنفعة " (2/ 481 رقم 1307): لم يذكره الحاكم أبو أحمد ولا ابن أبي حاتم، وقال الحسيني في التذكرة: مجهول.
(4) هو عمرو بن مرة الجهني. انظر " التاريخ الكبير " (6/ 308) فقد سماه البخاري هناك.(11/5429)
مع أنه أشد على الهمم الشريفة والأنفس الكريمة من ظلم الدم والمال، كما قال الشاعر:
يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول
وقد ثبت في الصحيحين (1) وغيرهما من حديث أبي بكرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال في خطبته في حجة الوداع: " إن دماءكم وأموالكم، وأعراضكم، حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ ".
وأخرج مسلم (2) وغيره (3) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وعرضه، وماله ".
وأخرج أبو يعلى (4) بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: " أتدرون أربا الربا عند الله "؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " فإن أربا الربا عند الله تعالى استحلال عرض امرئ مسلم " ثم قرأ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} (5).
وأخرجه أيضًا البزار (6) بإسناد قوي من حديث أبي هريرة.
وأخرجه أيضًا أبو ............................................
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (67) ومسلم رقم (1679) وقد تقدم.
(2) في صحيحه رقم (2564).
(3) كالترمذي رقم (1927) وأبو داود رقم (4882) وابن ماجه رقم (3933).
(4) في مسنده رقم (4689).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 92) وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح.
وهو حديث حسن.
(5) [الأحزاب: 58].
(6) عزاه إليه الهيثمي في " المجمع " (8/ 92) وقال: رواه البزار بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح غير محمد بن أبي نعيم وهو ثقة وفيه ضعف.(11/5430)
داود (1) من حديث سعيد بن زيد.
وأخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب " ذم الغيبة " (2) من حديث أنس بن مالك قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فذكر أمر الربا وعظم شأنه وقال: " إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل، وإن أربا الربا عرض الرجل المسلم ".
وأخرج الطبراني في الأوسط (3) بإسناد فيه عمر بن راشد - وهو ضعيف - قال العجلي (4) لا بأس به، من حديث البراء بن عازب أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " الربا اثنان وسبعون بابا أدناهما مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربا الربا استطالة الرجل في عوض أخيه ".
وأخرج ابن أبي الدنيا (5)، والبيهقي (6)، والطبراني (7)، من حديث ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الربا نيف وسبعون بابا أهونهن بابا من الربا مثل من أتى أمه في الإسلام، ودرهم ربا أشد من خمس وثلاثين زنية، وأشد الربا وأربا الربا وأخبث الربا انتهاك عرض المسلم، وانتهاك حرمته ".
_________
(1) في " السنن " رقم (4876) وهو حديث صحيح.
(2) في " ذم الغيبة والنميمة " لابن أبي الدنيا (ص 115 رقم 36).
(3) رقم (7151) وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 117) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عمر بن راشد، وثقه العجلي وضعفه جمهور الأئمة.
(4) في " معرفة الثقات " (2/ 166 رقم 1340). وانظر: " التقريب " (2/ 55).
(5) لم أجده.
(6) في " الشعب " رقم (6715) وهو حديث ضعيف.
(7) أخرجه في " الصغير " رقم (224) والأوسط رقم (2968) وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 117) وقال: رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وفيه سعيد بن رحمه وهو: ضعيف.(11/5431)
وأخرج أبو داود (1)، والترمذي (2) وصححه، من حديث عائشة قالت: قلت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: حسبك من صفية كذا وكذا، قال - بعض الرواة -: يعني قصيرة. فقال: " لقد قلت كلمة لو مزجت بها البحر لمزجته ".
وأخرج أحمد (3) بإسناد رجاله ثقات من حديث جابر قال: كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فارتفعت ريح منتنه فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين "!.
وأخرج مسلم (4)، وأبو داود (5)، والترمذي (6)، والنسائي (7)، من حيدث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أتدرون ما الغيبة "؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: " ذكرك أخاك بما يكره " قال: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " (8).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وقد ثبت النهي القرآني عن الغيبة، وتمثيل ذلك
_________
(1) في " السنن " رقم (4875).
(2) في " السنن " (2503). وهو حديث صحيح.
(3) في " المسند " (3/ 351) بإسناد حسن. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم (732، 733) والبيهقي في " الشعب " رقم (6732) من طرق.
وهو حديث حسن قاله الألباني في صحيح الأدب المفرد.
(4) في صحيحه رقم (2589).
(5) في " السنن " رقم (4874).
(6) في " السنن " رقم (1934).
(7) في " السنن الكبرى " (6/ 467 رقم 11518). وهو حديث صحيح.
(8) انظر الرسالة رقم (181).(11/5432)
بأكل الميتة! قال الله عز وجل: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} (1).
فلم يكتف سبحانه بأكل لحم الأخ حتى ذكر أنه ميت، وفي ذلك من التكريه والتنفير ما يزجر كل ذي عقل.
وقد أخرجه ابن حبان في صحيحه (2) من حديث أبي هريرة قال: جاء الأسلمي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات فرجمه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وسمع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب! قال: فسكت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ثم سار ساعة فمر بجيفة حمار شائل برجله، فقال: " أين فلان، وفلان "؟ فقالا: نحن ذا يا رسول الله، فقال لهما: " كلا من جيفة هذا الحمار "، فقالا: يا رسول الله غفر الله لك من يأكل من هذا؟! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفا أشد من أكل هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة ".
ومن الظلم في الأعراض الشتم واللعن، ففي الصحيحين (3) وغيرهما (4) من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ".
وأخرج مسلم (5)، وأبو داود (6)، .....................................
_________
(1) [الحجرات: 12]. انظر الرسالة رقم (181).
(2) رقم (4439).
(3) أخرجه البخاري رقم (6044) ومسلم رقم (64).
(4) كالترمذي رقم (1983)، والنسائي (7/ 121، 122) وابن ماجه رقم (69).
(5) في صحيحه رقم (2587).
(6) في " السنن " رقم (4894).(11/5433)
والترمذي (1) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " المستبان ما قالا فعلى البادي منهما ما لم يعتد المظلوم ".
وفي الصحيحين (2) أيضًا من حديث أبي هريرة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " لعن المسلم كقتله ".
وفي البخاري (3) وغيره (4) من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه " قيل: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: " يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه ".
وأخرج مسلم (5) وغيره (6) من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه
_________
(1) في " السنن " رقم (1981).
وهو حديث صحيح.
(2) البخاري في صحيحه رقم (1363) ومسلم رقم (110).
وأخرجه أبو داود رقم (3257) والنسائي (7/ 5) والترمذي رقم (1543) من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه: " من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة، وليس على رجل نذر فيما لا يملك، ولعن المؤمن كقتله ".
(3) في صحيحه رقم (5973).
(4) كمسلم رقم (90) وأبو داود رقم (5141) والترمذي رقم (1902).
(5) في صحيحه رقم (2598).
(6) كأبي داود رقم (4907). وهو حديث صحيح.
قال القرطبي في " المفهم " (6/ 579 - 580): اللعن في الشرع: البعد عن رحمة الله تعالى وثوابه إلى نار الله وعقابه، وأن لعن المؤمن كبيرة من الكبائر، إذ قد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لعن المؤمن كقتله " - تقدم تخريجه.
وقوله: " لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا ".
صديق: فقيل: وهو الكثير الصدق والتصديق، كما قد تقرر في صفة أبي بكر - رضي الله عنه - واللعان: الكثير اللعن.
ومعنى هذا الحديث: أن من كان صادقا في أقواله وأفعاله مصدقا بمعنى اللعنة الشرعية، لم تكن كثرة اللعن من خلقه، لأنه إذا لعن من لا يستحق اللعنة الشرعية. فقد دعا عليه بأن يبعد من رحمة الله وجنته، ويدخل في ناره وسخطه، والإكثار من هذا يناقض أوصاف الصديقين، فإن من أعظم صفاتهم الشفقة، والرحمة للحيوان مطلقا، وخصوصا بني آدم، وخصوصا المؤمن، فإن التي معناها الهلاك والخلود في نار الآخرة، فمن كثر منه اللعن فقد سلب منصب الصديقية، ومن سلبه فقد سلب منصب الشفاعة والشهادة الأخروية كما قال: " لا يكون اللعانون شفعاء، ولا شهداء يوم القيامة " وإنما خص اللعان بالذكر ولم يقل: اللاعن، لأن الصديق قد يلعن من أمره الشرع بلعنه، وقد يقع منه اللعن فلتة وندرة، ثم يراجع، وذلك لا يخرجه عن الصديقية، ولا يفهم من نسبتنا الصديقية لغير أبي بكر مساواة غير أبي بكر، لأبي بكر - رضي الله عنه - في صديقيته، فإن ذلك باطل بما قد علم: أن أبا بكر - رضي الله عنه - أفضل الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما تقدم، لكن: المؤمنون الذين ليسوا بلعانين لهم حظ من تلك الصديقية. ثم هم متفاوتون فيها على حسب ما قسم لهم منها.(11/5434)
وآله وسلم: " لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة ".
وأخرج نحوه الترمذي (1) وحسنه من حديث ابن مسعود.
وأخرج أحمد (2)، والطبراني (3)، وابن أبي حاتم وصححه من حديث جرموز الجهني (4) قال: قلت: يا رسول الله أوصني، قال: " أوصيك لا تكن لعانا ".
وأخرج أبو داود (5)، والترمذي (6) وصححه، والحاكم (7) وصححه أيضا، من
_________
(1) في " السنن " رقم (1977) وقال: هذا حديث حسن غريب. وصححه المحدث الألباني.
(2) في " المسند " (5/ 70) بإسناد صحيح.
(3) في " الكبير " رقم (2181).
(4) كذا في المخطوط وصوابه الهجيمي: من بني الهجيم بن عمرو بن تميم، وقيل القريعي، وهو بطن من تميم أيضًا له صحبة، روى هذا الحديث الواحد، ومخرجه عن أهل البصرة.
" الاستيعاب " (1/ 262)، " الإصابة " (1/ 471).
(5) في " السنن " رقم (4906).
(6) في " السنن " رقم (1976).
(7) في " المستدرك " (1/ 48) وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث حسن.(11/5435)
من حديث سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لا تلاعنوا بلعنة الله، ولا بغضبه، ولا بالنار ".
وأخرج الطبراني (1) بإسناد جيد عن سلمة بن الأكوع قال: كنا إذا رينا الرجل يلعن أخاه رأينا أن قد أتى بابا من الكبائر.
وأخرج أبو داود (2) من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها [ثم تأخذ يمينا وشمالا] (3) فإن لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن فإن كان أهلا وإلا رجعت إلى قائلها ".
وأخرج نحوه أحمد (4) بإسناد جيد من حديث عبد الله بن مسعود.
وأخرج مسلم (5)، ...........................................
_________
(1) في " الأوسط " رقم (6674) بإسناد جيد.
وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 73) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه، وإسناد الأوسط جيد، وفي إسناد الكبير ابن لهيعة وهو لين الحديث.
(2) في " السنن " رقم (4905) وهو حديث حسن.
(3) زيادة من سنن أبي داود.
(4) في " المسند " (1/ 408، 425).
وأورد الهيثمي في " المجمع " (1/ 408) وقال: رواه أحمد. وأبو عمير لم أعرفه وبقية رجاله ثقات. ولكن الظاهر أن صديق ابن مسعود الذي يزوره هو ثقة، والله أعلم.
وصديق ابن مسعود: أبو عمير الحضرمي قال الحافظ في " تعجيل المنفعة ": " مجهول، ويمكن أن يخرجه من حيز الجهالة كونه صديقا لابن مسعود، وأن ابن مسعود كان يزوره كما ذكر في الحديث - أنه كان صديقا لعبد الله بن مسعود، وأن عبد الله بن مسعود كان زاره في أهله .. " وبقية رجاله ثقات رجال الصحيح غير العيزار بن جرؤل الحضرمي، فليس من رجال الكتب الستة، هو ثقة وثقه ابن معين كما ذكره الحافظ في " التعجيل ".
(5) في صحيحه رقم (2595).(11/5436)
وغيره (1)، من حديث عمران بن حصين قال: بينما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فقال: " خذوا ما عليها فإنها ملعونة ". قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد.
وأخرج أبو يعلى (2)، وابن أبي الدنيا (3) بإسناد جيد من حديث أنس قال: سار رجل مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فلعن بعيره فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " يا عبد الله، لا تسر معنا على بعير ملعون ".
وأخرج ..........................................
_________
(1) كأحمد (4/ 429) وأبو داود رقم (2561).
قال القرطبي في " المفهم " (6/ 580): قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناقة المدعو عليها باللعنة: " خذوا ما عليها فإنها ملعونة " حمله بعض الناس على ظاهره، فقال: أطلع الله تعالى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن هذه الناقة قد لعنها الله تعالى. وقد استجيب لصاحبتها فيها. فإذا أراد هذا القائل: أن الله تعالى لعن هذه الناقة كما يلعن من استحق اللعنة من المكلفين كان ذلك باطلا. إذا الناقة ليست بمكلفة. وأيضا فإن الناقة لم يصدر منها ما يوجب لعنها. وإن أراد أن هذه اللعنة: إنما هي عبارة عن إبعاد هذه الناقة عن مالكتها، وعن استخدامها إياها فتلك اللعنة إنما ترجع لصاحبتها، إذ قد حيل بينها وبين مالها، ومنعت الانتفاع به، لا للناقة؛ لأنها قد استراحت من ثقل الحمل وكد السير، فإن قيل: فلعل معنى لعنة الله الناقة أن تترك ألا يتعرض لها أحد، فالجواب: أن معنى ترك الناس لها إنما هو أنهم لم يؤوها إلى رحالهم، ولا استعملوها في حمل أثقالهم، فأما أن يتركوها في غير مرعى، ومن غير علف حتى تهلك فليس في الحديث ما يدل عليه، ثم هو مخالف لقاعدة الشرع في الأمر بالرفق بالبهائم، والنهي عن تعذيبها، وإنما كان هذا منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأديبا لصاحبتها، وعقوبة لها فيما دعت عليها بما دعت به.
ويستفاد منه: جواز العقوبة في المال لمن جنى فيه بما يناسب ذلك، والله تعالى أعلم.
(2) في " مسنده " رقم (3622).
(3) في " الصمت " رقم (390).
قال الهيثمي في " المجمع " (8/ 77): ورجال أبي يعلى رجال الصحيح.
وهو حديث حسن.(11/5437)
أحمد (1) بإسناد جيد من حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في سفر يسير فلعن رجل ناقته فقال: " أين صاحب الناقة "؟ فقال الرجل: أنا، فقال: " أخرها فقد أجبت فيها ".
وأخرج أبو داود (2)، وابن حبان في صحيحه (3)، من حديث زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة ".
وأخرج البزار (4) بإسناد لا بأس به، والطبراني، من حديث ابن مسعود: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ " نهى عن سب الديك ".
وأخرج البزار (5) بإسناد رجاله رجال الصحيح - إلا عباد بن منصور (6) - من حديث
_________
(1) في " المسند " (2/ 428).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 77) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
وهو حديث حسن.
(2) في " السنن " رقم (5101).
(3) في صحيحه رقم (5731).
قلت: وأخرجه الطيالسي رقم (957) والنسائي في " عمل اليوم والليلة " رقم (945) والطبراني في " الكبير " رقم (5209) والبغوي في " شرح السنة " رقم (3270). وهو حديث صحيح.
(4) في مسنده رقم (2040 - كشف).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 77) وقال: رواه البزار والطبراني في " الكبير " رقم (9796) وفي إسناد البزار مسلم بن خالد الزنجي وثقه ابن حبان وغيره وفيه ضعف. وبقية رجاله ثقات.
(5) في مسنده رقم (2041 - كشف).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 77) وقال: رواه البزار وفيه عباد بن منصور، وثقه يحيى القطان وغيره، وضعفه ابن معين وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(6) عباد بن منصور الناجي، أبو سلمة البصري قاضيها، صدوق، رمي بالقدر وكان يدلس، وتغير بآخره، من السادسة (ت سنة 152 هـ) أخرج له البخاري تعليقا والأربعة.
انظر: " التقريب " رقم (3142).(11/5438)
ابن عباس: أن ديكا صرخ قريبا من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فقال رجل: اللهم العنه، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " كلا إنه يدعو إلى الصلاة ".
وأخرج أبو يعلى (1)، والبزار (2) بإسناد رجاله الصحيح - إلا سويد بن إبراهيم (3) - والطبراني بإسناد رجاله ثقات - إلا سعيد بن بشير (4) - من حديث أنس قال: كنا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فلذعت رجلا برغوث فلعنها، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لا تلعنها فإنها نبهت نبيا من الأنبياء للصلاة ". وفي لفظ: " فإنها توقظ للصلاة ".
وأخرج نحوه الطبراني في الأوسط (5) من حديث علي.
فهذه الأحاديث قد اشتملت على أن السب والغيبة واللعن من أشد المحرمات وأنه
_________
(1) في " مسنده " رقم (2959).
(2) في " مسنده " رقم (2042 - كشف).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 77) وقال: رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط - رقم (5732) - ورجال الطبراني ثقات. وفي سعيد بن بشير ضعف وهو ثقة، وفي إسناد البزار سويد بن إبراهيم، وثقه ابن عدي وغيره، وفيه ضعف، وبقية رجالهما رجال الصحيح.
وهو حديث ضعيف جدا.
(3) سويد بن إبراهيم الجحدري، أبو حاتم الحناط، البصري صدوق سيئ الحفظ، له أغلاط. وقد أفحش ابن حبان فيه القول من السابعة (ت سنة 167) أخرج له البخاري في " الأدب المفرد ".
انظر: " التقريب " رقم (2687).
(4) سعيد بن بشير الأزدي مولاهم، أبو عبد الرحمن، ضعيف من الثامنة (ت سنة 168 هـ) أخرج له الأربعة.
" التقريب " (2276).
(5) رقم (9318) وهو حديث ضعيف جدا.
وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 78) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه سعد بن طريف، وهو متروك.(11/5439)
حرام على فاعله ولو كان الذي وقع اللعن عليه من غير بني آدم، بل ولو كان من أصغر الحيوانات جرما كالبرغوث مع ما يحصل منه من الأذى والضرر، فانظر - أرشدك الله - ما حال من يسب أو يغتاب أو يلعن مسلما من المسلمين وماذا يكون عليه من العقوبة، فكيف بمن يفعل ذلك بخيار عباد الله من المؤمنين. بل كيف من يسب أو يغتاب أو يلعن خيرة الخيرة من العالم الإنساني وهم الصحابة رضي الله عنهم مع كونهم خير القرون (1) كما وردت بذلك السنة المتواترة، فأبعد الله الروافض عمدوا إلى من يعدل مد أحدهم أو نصيفه أكثر من جبل أحد من إنفاق غيرهم كما في الحديث الصحيح من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " فإنه لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " (2).
وورد في الكتاب والسنة من مناقبهم وفضائلهم التي امتازوا بها ولم يشاركهم فيها غيرهم ما لا يفي به إلا مؤلف بسيط! مع ورود الأحاديث الصحيحة في النهي عن سبهم على الخصوص، بل ثبت في الصحيح (3) النهي عن سب الأموات على العموم، وهم خير الأموات كما كانوا خير الأحياء لا جرم، فإنه لم يعادهم ويتعرض لأعراضهم المصونة إلا أخبث الطوائف المنتسبة إلى الإسلام وشر من على وجه الأرض من أهل هذه الملة وأقل أهلها عقولا، وأحقر أهل الإسلام علوما، وأضعفهم حلوما بل أصل دعوتهم لكياد الدين ومخالفة شريعة المسلمين، يعرف ذلك من يعرفه ويجهله من يجهله، والعجب كل العجب من علماء الإسلام وسلاطين هذا الدين كيف تركوهم على هذا المنكر البالغ في القبح إلى غايته ...............................
_________
(1) تقدم تخريجه مرارا.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3673) ومسلم في صحيحه رقم (2540) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه - تقدم.
(3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1393) وطرفه (6516) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: " لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ... ".(11/5440)
ونهايته (1).
فإن هؤلاء المخذولين لما أرادوا رد الشريعة المطهرة ومخالفتها طعنوا في أعراض الحاملين لها الذين لا طريق لنا إليها إلا من طرقهم، واستذلوا أهل العقول الضعيفة والإدراكات الركيكة بهذه الذيعة (2) الملعونة والوسيلة الشيطانية، فهم يظهرون السب واللعن لخير الخليقة ويضمرون العناد للشريعة ورفع أحكامها عن العباد، وليس في الكبائر ولا في معاصي العباد أشنع ولا أخنع ولا أبشع من هذه الوسيلة إلا ما توسلوا بها إليه فإنه أقبح منها؛ لأنه عناد لله عز وجل ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ولشريعته.
فكان حاصل ما هم فيه من ذلك أربع كبائر كل واحدة منها كفر بواح:
الأولى: العناد لله عز وجل.
والثانية: العناد لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
والثالثة: العناد للشريعة المطهرة وكيادها، ومحاولة إبطالها.
والرابعة: تكفير الصحابة رضي الله عنهم، الموصوفين في كتاب الله سبحانه بأنهم {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} (3)، وأن الله سبحانه يغيظ بهم الكفار، وأنه قد رضي عنهم (4).
مع أنه قد ثبت في هذه الشريعة المطهرة أن من كفر مسلما كفر.
كما في الصحيحين (5) وغيرهما (6) من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله
_________
(1) تقدم بيان حكم سب الصحابة.
انظر: " المفهم " (6/ 492).
وانظر الرسالة رقم (44).
(2) كذا في المخطوط ولعلها (الذريعة) تقدم تعريفها.
(3) [الفتح:29]
(4) انظر الرسالة رقم (44).
(5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6104) ومسلم رقم (60).
(6) كأبي داود رقم (4687) والترمذي رقم (2637) ومالك في الموطأ (2/ 984).(11/5441)
عليه وآله وسلم: " إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه ".
وفي الصحيحين (1) وغيرهما (2) من حديث أبي ذر أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " ومن دعا رجلا بالكفر أو قال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه ".
وفي البخاري (3) وغيره من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما ".
وأخرج ابن حبان في صحيحه (4) من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ما أكفر رجل رجلا إلا باء أحدها بها إن كان كافرا وإلا كفر بتكفيره ".
فعرفت بهذا أن كل رافضي (5) خبيث على وجه الأرض يصير كافرا بتكفيرهم لصحابي واحد، لأن كل واحد منهم قد كفر ذلك الصحابي، فكيف بمن كفر كل الصحابة واستثنى أفرادا يسيرة تنفيقا لما هو فيه من الضلال على الطغام الذين لا يعقلون الحجج ولا يفهمون البراهين ولا يفطنون لما يضمره أعداء الإسلام من العناد لدين الله والكياد لشريعته، فمن كان من الرافضة كما ذكرنا فقد تضاعف كفره من جهات أربع كما سلف، وهم طوائف منهم الباطنية (6) .....................................................
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6045) ومسلم رقم (61).
(2) كأحمد (5/ 166).
(3) في صحيحه رقم (6103).
(4) رقم (248).
(5) تقدم تعريف الرافضة (ص 148).
(6) نشأ مذهبهم في منتصف القرن الثالث، وضعه قوم أشرب في قلوبهم بغض الدين وكراهية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفلاسفة والملاحدة والمجوس واليهود ليصرفوا الناس عن دين الله، وكانوا يبعثون دعاتهم إلى الآفاق لدعوة الناس إلى مذهبهم، ومن دعاتهم ميمون بن ديصان القداح التنوي، فظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر
ولهم ألقاب كثيرة منها الباطنية وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنا، ولكل تنزيل تأويلا.
وبالعراق يسمون الباطنية والقرامطة المزدكية، وبخراسان: التعليمة، الملحدة.
" التبصير في الدين " (ص 86)، " الملل والنحل " (1/ 228 - 230).(11/5442)
والقرامطة (1) وأمثالهم من طوائف العجم ومن قال بقولهم، فإنهم غلوا في الكفر حتى أثبتوا الإلهية لمن يزعمون أنه المهدي المنتظر، وأنه دخل السرداب، وسيخرج منه في آخر الزمان!.
وبلغ من تلاعبهم بالدين أنهم يجعلون في كل مكان نائبا عن الإمام المذكور الموصوف بأنه إلههم! ويسمون أولئك النواب حجابات للإمام المنتظر ويثبتون لهم الإلهية! وهذا مصرح به في كتبهم، وقد وقفنا منها على غير كتاب، فانظر إلى هذا الأمر العظيم وإلى أي مبلغ بلغ الملاحدة من كياد الدين والتلاعب بضعاف العقول من الداخلين في الدعوة الإسلامية حتى أخرجوهم منها إلى أكفر الكفر واتخاذ إله غير الله عز وجل وتعالى وتقدس، وخدعوهم [ .... ] (2) بما يظهرونه من المحبة الكاذبة لأهل البيت رضي الله عنهم وهم أشد الأعداء لهم، قد جنوا على ربهم فلم يجعلوا إلها بل جعلوا الإله فردا من أفراد البشر الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى زيادة على ألف سنة، ثم جنوا على رسول الله فأخرجوه من الرسالة وكذبوه فيما يدعيه من النبوة؛ وهو الذي لم يشرف أهل البيت إلا بشرفه، ولا عظموا إلا بكونهم أهل بيته، وقد ثبت في كتب اللغة (3) وشروح ..................................................
_________
(1) تقدم التعريف بها.
(2) هنا كلمة غير واضحة في المخطوط.
(3) انظر " القاموس " (ص 730).(11/5443)
الحديث (1) وكتب التاريخ (2)، أن الرافضة إنما ثبت لهم هذا اللقب لما طلبوا من الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي - رحمه الله - أن يتبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: " هما وزيرا جدي " فرفضوه، وفارقوه فسموا حينئذ الرافضة.
فانظر كيف كان ثبوت هذا اللقب الخبيث لهم بسبب خذلهم لنصرة ذلك الإمام العظيم، وما أحسن ما رواه الإمام الهادي يحيى بن الحسين إمام اليمن في كتابه الأحكام (3) [ .... .. ] (4) مسلسلا بآبائه من عنده إلى عند الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: " إنه سيكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يعرفون به يقال لهم الرافضة فاقتلهم قتلهم الله إنهم مشركون " (5).
هذا ذكره في كتاب الطلاق من الأحكام ولم يذكر في كتابه هذا حديثا مسلسلا بآبائه غير هذا الحديث، وهو الإمام الذي صار علما يقتدى بمذهبه في غالب الديار اليمنية (6).
_________
(1) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (1/ 103): وسموا رافضة من الرفض وهو الترك، قال الأصمعي وغيره: سموا رافضة لأنهم رفضوا زيدا بن علي فتركوه.
(2) انظر " سير أعلام النبلاء " (5/ 389 - 390).
(3) لعله: الأحكام الجامع لقواعد دين الإسلام.
انظر: " مؤلفات الزيدية " (1/ 80).
(4) كلمة غير واضحة في المخطوط.
(5) أخرجه ابن أبي عاصم في " السنة " رقم (979) بإسناد ضعيف ورجاله كلهم ثقات غير محمد بن أسعد التغلبي، قال أبو زرعة والعقيلي: منكر الحديث.
قاله الألباني في " ظلال الجنة في تخريج السنة " (2/ 474).
وانظر الرسالة رقم (19) من الفتح الرباني.
النبز: اللقب والجمع الأنباز.
قيل: التنابز هو التداعي بالألقاب وهو يكثر فيما كان ذما.
" تاج العروس " (8/ 154).
(6) انظر الرسالة رقم (19) من الفتح الرباني.(11/5444)
فالحاصل أن من صدق عليه هذا اللقب أقل أحواله أن يكون معاديا للصحابة، لاعنا لهم، مكفرا لغالبهم، هذا على تقدير عدم تفطنه لما هو العلة الغائبة للرافضة من: العناد لله سبحانه، ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وللشريعة المطهرة.
فتقرر لك بهذا أن من قدر على إنكار صنيع الرافضة ولم يفعل فقد رضي بأن تنتهك حرمة الإسلام وأهله، وسكت على ما هو كفر متضاعف كما سلف، وأقل أحواله أن يكون كفرا بتكفير الأكثر من الصحابة، ومن سكت عن إنكار الكفر مع القدرة عليه فقد أهمل ما أمر الله سبحانه في كتابه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك الإنكار على ما هو كفر بواح وأهمل ما هو أعظم أعمدة الدين وأكبر أساطينه وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1)، فلا بكتاب الله سبحانه ولا بسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ اقتدى، وقد ثبت في الصحيحين (2) وغيرهما (3) من حديث عبادة بن الصامت قال: " بايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ".
وأخرج مسلم (4) والترمذي (5) والنسائي (6) وابن ماجه (7) من حديث أبي سعيد الخدري
_________
(1) تقدم توضيحه مرارا.
(2) أخرجه البخاري رقم (7055، 7056) ومسلم في صحيحه رقم (42/ 1709).
(3) كالنسائي (7/ 137)، وابن ماجه رقم (2866) وأحمد (2/ 314، 318، 319) ومالك في الموطأ (2/ 957).
(4) في صحيحه رقم (49).
(5) في " السنن " رقم (2172) وقال: حديث حسن صحيح.
(6) في " السنن " (8/ 111، 112).
(7) في " السنن " رقم (1275،4013).
وهو حديث صحيح.(11/5445)
قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ".
ولفظ النسائي (1) أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من رأى منكم منكرا فغيره بيده فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ وذلك أضعف الإيمان ".
وأخرج أبو داود (2)، والترمذي (3) وابن ماجه (4) من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، أو أمير جائر ".
وفي إسناده عطية بن سعد العوفي (5)، وقد ضعفه أحمد وغيره، ووثقه ابن معين وغيره وحسن حديثه الترمذي، وهذا الحديث مما حسنه له، وأخرج حديثه ابن خزيمة في صحيحه (6).
وأخرج النسائي (7) بإسناد صحيح عن طارق بن شهاب البجلي الأحمسي: أن رجلا سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وقد وضع رجله في الغرز - أي الجهاد أفضل؟ قال: " كلمة حق عند سلطان جائر ".
وأخرج ابن ماجه (8) بإسناد صحيح من حديث أبي أمامة عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) في " السنن " (8/ 112).
(2) في " السنن " رقم (4344).
(3) في " السنن " رقم (2174). وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه.
(4) في " السنن " رقم (4011). وهو حديث حسن، والله أعلم.
(5) انظر " الميزان " (3/ 80).
(6) في صحيحه رقم (2368).
(7) في " السنن " (7/ 161).
(8) في " السنن " رقم (4012).(11/5446)
أنه قال: " أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر ".
وأخرج الحاكم (1) وصححه من حديث جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ".
وأخرج البخاري (2) وغيره (3) من حديث النعمان بن بشير عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا؟! فلو تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ".
وأخرج مسلم (4) وغيره من حديث ابن مسعود: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون (5). وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ".
وفي الصحيحين (6) من حديث زينب بنت جحش قالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا
_________
(1) في " المستدرك " (3/ 195). وصححه وتعقبه الذهبي بقوله: حفيد الصغار لا يدرى من هو.
وهو حديث ضعيف.
(2) في صحيحه رقم (2493).
(3) كالترمذي في " السنن " رقم (2173).
(4) في صحيحه رقم (50).
(5) في هامش المخطوط، الحواري الناصر.
(6) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3346) ومسلم رقم (2880).(11/5447)
الصالحون؟ قال: " نعم إذا كثر الخبث ".
وأخرج الترمذي (1) وحسنه من حديث حذيفة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله [أن] (2) يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم ".
وأخرج ابن ماجه (3) بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لا يحقرن أحدكم نفسه "، قالوا: يا رسول الله، وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: " يرى أمرا لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه! فيقول الله عز وجل [له] (4) يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشيت الناس! قال: فأنا كنت أحق أن تخشى ".
وأخرج أبو داود (5) واللفظ له، والترمذي (6) وحسنه، من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده! فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال:
_________
(1) في " السنن " رقم (2169).
وهو حديث حسن بشواهده.
(2) زيادة من سنن الترمذي.
(3) في " السنن " رقم (4008). وهو حديث حسن.
(4) زيادة من سنن ابن ماجه.
(5) في " السنن " رقم (4336).
(6) في " السنن " رقم (3047).
وأخرجه ابن ماجه رقم (4006) مرسلا عن أبي عبيدة.
وهو حديث حسن بشواهده.(11/5448)
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} إلى قوله: {فَاسِقُونَ} (1) ".
ثم قال: " كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا ".
وهو من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، ولم يسمع منه.
وأخرجه ابن ماجه (2) عن أبي عبيدة مرسلا.
وأخرج أبو داود (3) وابن ماجه (4)، وابن حبان في صحيحه (5) من حديث: جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه ولا يغيرون إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا ".
وأخرج أبو داود (6) وابن ماجه (7) والترمذي (8) وصححه، والنسائي (9) وابن حبان في
_________
(1) [المائدة:78 - 81].
(2) في " السنن " رقم (4006).
(3) في " السنن " رقم (4339).
(4) في " السنن " رقم (4009).
(5) رقم (302).
(6) في " السنن " رقم (4338).
(7) في " السنن " رقم (4005).
(8) في " السنن " رقم (3057).
(9) في " السنن الكبرى " (6/ 338 رقم 11157).(11/5449)
صحيحه (1) عن أبي بكر الصديق قال: يا أيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ".
ولفظ النسائي (2) إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن القوم إذا رأوا المنكر فلم يغيروا عمهم الله بعقاب ".
وفي رواية لأبي داود (3) " ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب ".
وأخرج الحاكم (4) وصححه من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم ".
وأخرج ابن حبان في صحيحه (5) عن أبي ذر قال: أوصاني خليلي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بخصال من الخير: " أوصاني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأوصاني أن لا أقول إلا الحق وإن كان مرا ".
وأخرج أبو داود (6) من حديث عرس بن عميرة ...................................
_________
(1) في رقم (304). وهو حديث صحيح.
(2) في " السنن الكبرى " رقم (6/ 338 رقم 11157).
(3) في " السنن " رقم (4338).
(4) في " المستدرك " (4/ 96) وصححه ووافقه الذهبي.
وهو حديث حسن.
(5) رقم (449) وأخرجه أحمد (5/ 159). وهو حديث صحيح.
(6) في " السنن " رقم (4345). وهو حديث حسن.(11/5450)
الكندي (1) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها وكرهها - وفي رواية - فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها ". وفي إسناده مغيرة بن زياد الموصلي (2)، ضعفه أحمد، ووثقه أبو حاتم وغيره، وصحح له الترمذي.
وأخرج ابن ماجه (3)، وابن حبان في صحيحه (4) من حديث عائشة: أنها سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول على المنبر: " يا أيها الناس، إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم ".
وأخرج أحمد (5) والترمذي (6) واللفظ له، وابن حبان في صحيحه (7) من حديث ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر ".
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا.
_________
(1) هو: العرس بن عميرة الكندي، صحابي مقل، قيل: عميرة أمه، واسم أبيه قيس بن سعيد بن الأرقم. وقال أبو حاتم: هما اثنان. من رجال أبي داود والنسائي.
" التقريب " رقم (4552).
(2) انظر: " التقريب " رقم (6834).
(3) في " السنن " (4004).
(4) في صحيحه رقم (290).
وهو حديث ضعيف.
(5) في " المسند " (1/ 257).
(6) في " السنن " رقم (1921) وقال: هذا حديث حسن غريب.
(7) رقم (459).
وهو حديث ضعيف.(11/5451)
قوله: " فلا تظالموا ".
بفتح المثناة الفوقية، وأصله: تتظالموا، فحذفت إحدى التاءين كما في نظائره، وفيه زيادة تأكيد لقوله: وجعلته بينكم محرما، وإشعار بالتغليظ، والمراد لا يظلم بعضكم بعضا [ .... ] (1).
قوله: " يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ".
أقول: هذه العبارة الربانية قد أفادت العموم، وأن ذلك شأن كل عبد من عباد الله سبحانه كما تفيده إضافة العباد إلى الضمير، فإن ذلك من صيغ العموم، ثم زاد ذلك شمولا وإحاطة التأكيد بلفظ كل ثم الاستثناء فإنه لا يكون إلا من عموم شامل، فالكلام متضمن للحكم على كل عبد من العباد بالضلال إلا من هداه الله، وأن ذلك أصلهم الذي جبلوا عليه.
قال النووي في شرح مسلم (2) قال المازري (3) ظاهر هذا أنهم خلقوا على الضلالة إلا من هداه الله تعالى، وفي الحديث المشهور: " كل مولود يولد على الفطرة " (4).
قال: فقد يكون المراد بالأول وصفهم بما كانوا عليه قبل مبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أو أنهم لو تركوا وما في طباعهم من إيثار الشهوات والراحة وإهمال الفطر لضلوا [إلا من هداه الله] (5)، وهذا الثاني أظهر. انتهى.
أقول: المجمع (6) بين الحديثين ممكن، فإن أصل كونهم مولدين على الفطرة، لا بد معه من القيام بما شرعه الله لعباده في كتبه المنزلة على لسان رسله المرسلة، فالعباد قبل
_________
(1) عبارة غير واضحة في هامش المخطوط وهي من الأصل كما أشار إليها المؤلف.
(2) (16/ 132).
(3) في " المعلم بفوائد مسلم " (3/ 165).
(4) أخرجه البخاري رقم (1385) ومسلم رقم (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقد تقدم مرارا.
(5) زيادة من " المعلم بفوائد مسلم " (3/ 165) للمازري.
(6) لعلها " الجمع ".(11/5452)
التمسك بشرائع الله في ضلال حتى يتمسكوا بها، فيخرجون من الضلالة إلى الهداية ومن الظلمة إلى النور، فكلهم قبل التمسك بشرائع الله ضال إلا من هداه سبحانه بالشريعة.
ومع تمسكهم بالشرائع المشروعة لهم، لا ينتفعون بذلك كلية الانتفاع إلا بمصاحبة رحمة الله سبحانه لهم، وذلك هو الفضل الذي يتفضل الله عز وجل به عليهم، كما في الصحيحين (1) وغيرهما (2) من حديث عائشة أنها كانت تقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل أحدا الجنة عمله " قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ".
وأخرجه أحمد (3) بإسناد حسن من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لن يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله " قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته، وقال بيده فوق رأسه ".
وأخرجه البزار (4) والطبراني (5) من حديث أبي موسى.
وأخرجه أيضًا الطبراني (6) من حديث أسامة بن شريك.
وأخرجه .....................................................................................
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (6467) ومسلم رقم (2818).
(2) سيأتي ذكره.
(3) في " المسند " (3/ 52). وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 356) وقال: رواه أحمد وإسناده حسن.
(4) عزاه إليه الهيثمي في " المجمع " (10/ 357).
(5) في " الأوسط " رقم (6553).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 357) وقال: رواه البزار والطبراني في الأوسط والكبير إلا أنه قال في الكبير: ما منكم من أحد يدخله عمله الجنة، فقال بعض القوم: ولا أنت، فذكره. وفي أسانيدهم أشعث بن سوار وقد وثق على ضعفه، وبقية رجالهم ثقات.
(6) أورده الهيثمي في " المجمع " (6/ 357) وقال: رواه الطبراني وفيه المفضل بن صالح الأسدي، وهو ضعيف.(11/5453)
أيضا (1) من حديث شريك بن طارق بإسناد جيد.
وكذلك لا بد من جري ألطاف الله على عباده بتخفيف الحساب، كما ثبت في الصحيحين (2) وغيرهما (3) من حديث عائشة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من نوقش الحساب عذب " فقلت: أليس يقول الله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِي كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} (4)؟ فقال: " إنما ذلك العرض، وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك ".
وكذلك التثبيت للعباد من الله عز وجل عند الموت، وعند سؤال الملكين، وعند الحساب، وعند المرور على السراط.
فعرفت أنه إذا لم يهد الله عبده إلى التمسك بشرائعه ويلاحظه بألطافه وتفضلاته، لم ينفعه كونه مولودا على الفطرة، لأن معنى كونه مولودا على الفطرة: أنه قابل بفطرته لما يريه الله من الحق ويهديه إليه، وليس مجرد هذا القبول مستلزما لكونه مهديا غير ضال، ولهذا أثر فيه ما عليه أبواه كما في هذا الحديث: " ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه " (5).
قال النووي (6): وفي هذا دليل لمذهب أصحابنا وسائر أهل السنة أن المهتدي هو من هدى الله، ويهدي الله الذين اهتدوا بإرادة الله سبحانه ذلك، وأنه سبحانه وتعالى ما أراد هداية الآخرين، ولو أرادها لاهتدوا خلافا ......................................
_________
(1) في " الكبير " رقم (7218) وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 357) وقال: رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها رجال الصحيح.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (103) ومسلم رقم (1001).
(3) كأبي داود رقم (3093)، وأحمد (6/ 47، 48، 91).
(4) [الانشقاق: 7 - 9].
(5) تقدم تخريجه
(6) في شرحه لصحيح مسلم (16/ 132).(11/5454)
للمعتزلة (1) في قولهم الفاسد: إنه سبحانه وتعالى أراد هداية الجميع، جل الله أن يريد ما لا يقع، أو يقع ما لا يريد. انتهى.
أقول: هذه المسألة قد طال فيها النزاع بين الأشعرية (2) والمعتزلة وتمسك كل منهم بظواهر قرآنية، وكلامهم يعود إلى مسألة خلق الأفعال (3)، وفيها من الكلام واختلاف الأقوال ما هو معروف، والمذهب الحق الذي لا يتمذهب به إلا أهل التوفيق: هو ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين من الإيمان بما جاء به الكتاب العزيز والسنة المطهرة وإمرار الصفات على ظاهرها من دون تعرض لتأويل ولا اشتغال بتطويل.
وقد أوضحت ذلك في الجواب الذي أجبت به على السؤال الوارد من علماء مكة المشرفة وسميته: " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " (4)، فمن وقف عليه وفهمه حق فهمه وضع عن ظهره عباء (5) ثقيلا وأماط عن قلبه كربا طويلا، والمهدي من هداه الله، بيده الخير كله دقه وجله.
وفي قوله: " فاستهدوني أهدكم " دليل على أنه ينبغي لكل عبد من عباد الله سبحانه أن يسأله الهداية له إلى ما يرضيه منه، فمن هداه الله فاز لأنها إن كانت الهداية:
1 - بمعنى إرادة الطريق، كما في قوله سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} فكل عاقل لا يختار لنفسه بعد أن يرى طريق الحق وسبيل الرشد إلا سلوكه والمرور فيه، فإن اختار طريق الضلالة فهو معاند واقع في الشر على علم به واختيار له، وليس بعد هذا في عمى البصير وفساد العقل شيء، وعلى نفسها تجني براقش (6).
_________
(1) تقدم التعريف بها.
(2) تقدم التعريف بها.
(3) انظر الرسالة رقم (1).
(4) انظر الرسالة رقم (19) من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
(5) كذا في المخطوط وصوابه (عبئا). " القاموس " (ص 59).
(6) تقدم شرح المثل.(11/5455)
2 - وإن كانت بمعنى الإيصال إلى المطلوب، فتلك السعادة التي لا يساويها سعادة، والكرامة التي تقصر عندها كل كرامة، وهي التي سألها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بقوله: " اللهم اهدني فيمن هديت " (1).
_________
(1) أخرجه أبو داود رقم (1425) والنسائي (3/ 133) وابن ماجه رقم (1178) وأحمد (1/ 99 - 200) والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 209). وهو حديث صحيح.(11/5456)
[وجوب التوكل على الله سبحانه وتعالى مع الأخذ بالأسباب]
قوله: " يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ".
أقول: هذا الكلام الإلهي قد أفاد شمول كل عبد من عباد الله كما بيناه قريبا، فلا يوجد عبد من عباده سبحانه إلا والمطعم له هو الله عز وجل، ولو فرض - فرضا لا حقيقة - أن عبدا من عباده لم يطعمه فهو جائع، ولكنه عز وجل قد أطعم الكل من غير فرق بين مسلم وكافر، وذكر وأنثى، وصغير وكبير، وحر وعبد، وكل ما توصل به العباد من الأسباب التي يتحصل بها الرزق في الصورة فهي من الله عز وجل؛ لأنه خالق العبد وموجده، فلولا أنه خلقه وأوجده لم يكن لشيء من تلك الأسباب وجود.
ثم بعد إيجاده للعبد جعل له ما يباشر به تلك الأسباب، من صحة الجوارح والحواس، وسلامتها من الآفة التي تبطل عملها، فلو كان غير قادر على تحريك جوارحه كالمصاب بإقعاد أو شلل لم يتمكن من تلك الأسباب، وهكذا لو كان مسلوب الحواس الظاهرة أو الباطنة، أو مسلوب العقل لم يتمكن من شيء من تلك الأسباب، وهذا لو كان سليم الروح والحواس والعقل ولكنه معتلا بمرض لا يتمكن معه من تلك الأسباب لم يحصل له شيء منها فهو سبحانه المعطي والرازق والمطعم، فمن لم يطعمه الله فهو جائع، ومن لم يستطعم الله فهو غير طاعم.
وفي قوله: " فاستطعموني أطعمكم " إرشاد للعباد أن يسألوا ربهم عز وجل ويطلبوا الرزق منه.
وقد أخرج أبو داود (1)، والترمذي (2) وصححه من حديث ابن مسعود قال: قال
_________
(1) في " السنن " رقم (1645).
(2) في " السنن " رقم (2326).
وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وهو حديث حسن.(11/5457)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق أو آجل ".
وأخرج نحوه الحاكم (1) من حديث وصححه.
وأخرج الطبراني في الصغير (2) والأوسط (3) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من جاع أو احتاج فكتمه الناس، وأفضى به إلى الله، كان حقا على الله أن يفتح له قوت سنة من حلال ".
واعلم أن رازق العباد هو الله عز وجل، وما وصل إليهم على يد بعضهم من بعض فهو من رزق الله عز وجل؛ لأنه المعطي لمن أجرى ذلك على يده والملهم له، فمن رزق ربه أعطى وبإلهامه له فعل ما فعل، لكنه ينبغي للعباد أن يشكروا بعضهم البعض على ما وصل إليهم على يد بعضهم.
فقد أخرج أبو داود (4)، والنسائي (5) واللفظ له، وابن حبان في صحيحه (6)، والحاكم (7) وصححه، من حديث عبد الله ..............
_________
(1) في " المستدرك " (1/ 408). وصححه ووافقه الذهبي.
(2) (1/ 141 رقم 214 - الروض الداني).
(3) رقم (2379).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 256) وقال: رواه الطبراني في " الصغير " و" الأوسط " وفيه إسماعيل بن رجاء الحصني ضعفه الدارقطني.
انظر: " الضعفاء والمتروكين " (ص81) رقم 85.
(4) في " السنن " رقم (1672).
(5) في " السنن " (5/ 82).
(6) رقم (3408).
(7) في " المستدرك " (1/ 412).
وهو حديث صحيح.(11/5458)
بن عمر (1)، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن استجار بالله فأجيروه، ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه ".
وأخرجه الطبراني في الأوسط (2) مختصرا من حديثه بلفظ: " من اصطنع إليكم معروفا فجازوه، فإن عجزتم عن مجازاته فادعوا له حتى يعلم أنكم قد شكرتم، فإن الله شاكر يحب الشاكرين ".
وأخرج أبو داود (3) والترمذي (4) وحسنه، وابن حبان في صحيحه (5) من حديث جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من أعطي عطاء فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثن، فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور ".
وأخرج الترمذي (6) وحسنه من حديث أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرا، فقد أبلغ في الثناء ". وهذا الحديث قد أسقط من بعض نسخ الترمذي!.
_________
(1) في المخطوط (عمرو) والصواب ما أثبتناه من مصادر الحديث.
(2) رقم (29).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 181) وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه عبد الوهاب بن الضحاك وهو متروك.
وهو حديث ضعيف جدا.
(3) في " السنن " رقم (4813).
(4) في " السنن " رقم (2034). وقال: هذا حديث حسن غريب.
(5) في صحيحه رقم (3415).
وهو حديث حسن.
(6) في " السنن " رقم (2035) وقال: هذا حديث حسن جيد غريب لا نعرفه من حديث أسامة إلا من هذا الوجه. وهو حديث صحيح، والله أعلم.(11/5459)
وأخرجه أيضًا من حديثه الطبراني في الصغير (1) مختصرا بلفظ: " إذا قال الرجل: جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء ".
وأخرج أحمد (2). بإسناد رجاله ثقات من حديث الأشعث بن قيس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إن أشكر الناس لله تبارك وتعالى أشكرهم للناس ".
وفي رواية لأحمد (3) أيضا: " لا يشكر الله من لا يشكر الناس ".
وأخرج أحمد (4) أيضًا بإسناد رجاله ثقات - إلا صالح بن أبي الأخضر، وهو مع
_________
(1) (2/ 291 رقم 1184 الروض الداني) من حديث أبي هريرة.
وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 182) وقال: رواه الطبراني في الصغير وفيه موسى بن عبيدة الزيدي، وهو ضعيف.
وأخرج الطبراني في " الصغير " (2/ 291 رقم 1183) عن أسامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صنع إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء ".
وفي إسناده عبد المنعم بن نعيم وهو متروك. ومن طريقه البيهقي في " الشعب " (6/ 516 رقم 9118).
وهو حديث ضعيف جدا. قاله الألباني في " ضعيف الترغيب " (1/ 288 رقم 571/ 3).
(2) في " المسند " (5/ 212).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 180) وقال: رواه أحمد والطبراني. ورجال أحمد ثقات.
قلت: وفي سنده عبد الرحمن بن عدي الكندي تفرد بالرواية عنه عبد الله بن شريك العامري، وقال الحافظ في " التقريب " رقم (3949): مجهول.
والخلاصة أن الحديث صحيح لغيره.
(3) في " المسند " (5/ 211) في سنده انقطاع.
وهو حديث صحيح لغيره.
(4) في " المسند " (6/ 90).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 181) وقال: رواه أحمد والطبراني في " الأوسط " رقم (2484) وفيه صالح بن أبي الأخضر، وقد وثق على ضعفه، وبقية رجال أحمد ثقات.
وهو حديث حسن لغيره.(11/5460)
ضعفه ممن يعتبر به - من حديث عائشة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من أتي إليه معروف فليكافئ به، ومن لم يستطع فليذكره فإن من ذكره فقد شكره، ومن تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور ".
وأخرج أبو داود (1)، والترمذي (2) وصححه من حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يشكر الله من لا يشكر الناس ".
وقد روي هذا الحديث برفع (الله) ورفع (الناس)، وبنصبهما، وبرفع الأول وبنصب الثاني، وبالعكس (3).
وأخرج الطبراني (4) من حديث طلحة بن عبيد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من أولي معروفا فليذكره، فمن ذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره ".
وأخرجه ابن أبي الدنيا (5) من حديث عائشة.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (6) بإسناد لا بأس به، وابن أبي .....................
_________
(1) في " السنن " رقم (4811).
(2) في " السنن " رقم (1954) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وهو حديث صحيح.
(3) قاله الحافظ المنذري في " الترغيب والترهيب " (1/ 733).
(4) في " الكبير " رقم (211).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 181) وقال: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه.
وهو حديث حسن لغيره.
(5) في " قضاء الحوائج " رقم (79).
وهو حديث حسن لغيره.
(6) (4/ 375).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 182) وقال: رواه عبد الله، وأبو عبد الرحمن راويه عن الشعبي لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات
قلت: أبو عبد الرحمن هو القاسم بن الوليد وهو ثقة.(11/5461)
الدنيا (1) من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، ومن تركها كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب ".
وأخرج أبو داود (2) والنسائي (3) واللفظ له من حديث أنس قال: قالت المهاجرون: يا رسول الله، ذهب الأنصار بالأجر كله، ما رأينا قوما أحسن بذلا لكثير، ولا أحسن مواساة في قليل منهم، ولقد كفونا المؤنة! قال: " أليس تثنون عليهم به، وتدعون لهم؟ " قالوا: بلى. قال: " فذاك بذاك ".
وقد ورد ما يدل على قبول العطية من بعض العباد لبعض.
فأخرج أحمد (4) بإسناد رجاله ثقات، والبيهقي (5)، من حديث المطلب بن عبد الله بن
_________
(1) في " قضاء الحوائج " رقم (78).
قال الألباني في " صحيح الترغيب " (1/ 573): هذا يشعر بأن الإمام أحمد نفسه لم يروه، وليس كذلك، فقد أخرجه في موضعين من مسنده (4/ 278، 375) وفي الموضعين رواه ابنه أيضا.
ثم قال: ومن عجائب الهيثمي أنه عزا الحديث لعبد الله بن أحمد دون أبيه، وبزيادة منكرة وقد تكلمت عليها في " الضعيفة " رقم (4854).
(2) في " السنن " رقم (4812).
(3) في " عمل اليوم والليلة " رقم (181).
وأخرجه أحمد (3/ 200 - 204) والترمذي في " السنن " رقم (2487). وقال: حديث صحيح حسن غريب.
وهو حديث صحيح.
(4) في " المسند " (6/ 77، 259).
(5) في " السنن الكبرى " (6/ 184).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (3/ 100) وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أن المطلب بن عبد الله مدلس، واختلف في سماعه من عائشة.
* المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حنطب بن الحارث المخزومي، صدوق، كثير التدليس والإرسال، روى له الأربعة، والبخاري في جزء القراءة خلف الإمام.
" التقريب " رقم (6710).(11/5462)
حنطب: أن عبد الله بن عامر بعث إلى عائشة بنفقة وكسوة، فقالت للرسول: أي بني لا أقبل من أحد شيئا! فلما خرج الرسول قالت: ردوه علي، قالت: إني ذكرت شيئا، قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " يا عائشة، من أعطاك عطاء بغير مسألة فاقبليه، فإنما هو رزق عرضه الله إليك ".
وأخرج أبو يعلى (1) بإسناد لا بأس به من حديث عمر بن الخطاب قال: قلت: يا رسول الله، قد قلت لي أن خيرا لك أن لا تسأل أحدا من الناس شيئا! قال: " إنما ذاك أن تسأل، وما آتاك الله من غير مسألة، فإنما هو رزق رزقكه الله عز وجل ".
وأخرج أحمد (2) بإسناد صحيح، وأبو يعلى (3)، والطبراني (4)، وابن حبان (5) في صحيحه والحاكم (6) وصححه من حديث خالد بن عدي الجهني قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " من بلغه عن أخيه معروف من غير مسألة ولا إشراف نفس فليقبله ولا يرده، فإنما هو رزق ساقه الله إليه ".
وأخرج أحمد (7) بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث أبي هريرة قال: [قال
_________
(1) في المسند رقم (28/ 167) بسند صحيح.
وأورده الهيثمي في " المجمع " (3/ 100) وقال: هو في الصحيح باختصار، ورواه أبو يعلى، ورجاله موثقون.
وهو حديث صحيح لغيره.
(2) في " المسند " (4/ 221).
(3) في " مسنده رقم (925).
(4) في " الكبير " رقم (4124).
(5) رقم (3404، 5108).
(6) في " المستدرك " (2/ 162) وهو حديث صحيح.
(7) في " المسند " (2/ 292). وهو حديث صحيح.(11/5463)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ] (1): " من آتاه الله شيئا من هذا المال من غير أن يسأله فليقبله فإنما هو رزق ساقه الله إليه ".
وأخرج الطبراني في الكبير (2) من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ما المعطي من سعة بأفضل من الآخذ إذا كان محتاجا ".
وأخرجه (3) أيضًا من حديث أنس.
وهذا باعتبار العطايا من بعض العباد لبعض.
وأما العطايا من أموال الله من سلطان أو غيره، ففي الصحيحين (4) وغيرهما (5) من حديث ابن عمر أن عمر قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يعطيني العطاء فأقول: أعطه من هو أفقر مني إليه فقال: " خذه إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله، فإن شئت فكله، وإن شئت تصدق به، وما لا فلا تتبعه نفسك ".
وأخرج أحمد (6) بإسناد جيد، والطبراني (7) والبيهقي (8)، عن عائذ ابن ............................
_________
(1) زيادة من مسند أحمد.
(2) في " الكبير " رقم (13560) وأورده الهيثمي في " المجمع " (3/ 101) وقال: رواه الطبراني في " الكبير " وفيه مصعب بن سعيد وهو ضعيف.
وهو حديث ضعيف.
(3) الطبراني في " الأوسط " رقم (8235).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (3/ 101) وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه عائذ بن سريج وهو ضعيف.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7164) ومسلم في صحيحه رقم (1045).
(5) كالنسائي (5/ 105)، وأبو داود رقم (1671).
(6) في " المسند " (5/ 65).
(7) في " المعجم الكبير " (18/ 19 رقم 30).
(8) في " الشعب " رقم (3554).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (3/ 101) وقال: رواه أحمد والطبراني في " الكبير "، ورجال أحمد رجال الصحيح. وهو حديث صحيح.(11/5464)
عمر (1)! عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من عرض له من هذا الرزق شيء من غير مسألة ولا إشراف فليتوسع به في رزقه، فإن كان غنيا فليوجهه إلى من هو أحوج إليه منه ".
قوله: " يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم ".
هذه العبارة الرحمانية، والكلام الصمداني، تشمل كل فرد من أفراد العباد، لما قدمنا من أن إضافة العباد إلى ضمير الرب سبحانه يفيد العموم، ويزداد ذلك تأكيدا بقوله: " كلكم " ثم بالاستثناء المشعر بعموم المستثنى منه، فالمعنى كل فرد من أفرادكم عار عن اللباس إلا من كسوته.
ثم طلب عز وجل منهم أن يطلبوا منه أن يكسوهم فقال: " استكسوني "، ثم أخبرهم بأنه يجيب هذا الطلب الواقع منهم فقال: " أكسكم ".
ومن أمعن النظر في هذه الفواصل المذكورة في هذا الحديث علم ما عند الرب سبحانه من الرحمة لعباده ومزيد اللطف بهم، فإنه بين لهم ما بهم من مزيد الحاجة إلى عطائه الجم وتفضله العم في أعظم ما تدعوهم الحاجة إليه وهو الطعام الذي لا يعيشون بدونه، وأمرهم أن يطلبوه منه، وتكفل لهم بالإجابة وإعطائهم ما يطلبونه، ثم ذكر لهم ما لا بد لهم منه من ستر أبدانهم بالكسوة التي لولا وجودها لهم لانكشفت عوراتهم وأضر بهم البرد، وأنه الكاسي لهم والمتفضل بذلك عليهم، ثم أمرهم تفضلا منه لهم ولطفا بهم أن يطلبوا ذلك منه، ووعدهم بالإجابة لدعوتهم والتفضل منه لهم لحاجتهم، وهذا بعد أن نهاهم عن التظالم في ذات بينهم، بعد أن أخبرهم أنه حرم الظلم على نفسه؛ ليقتدوا به عز وجل في تجنب هذه الخصلة القبيحة التي تفسد معايشهم؛ وتبطل بها أحوالهم
_________
(1) كذا في المخطوط، والصواب (عمرو) كما في مصادر الحديث.(11/5465)
وأموالهم التي لا قوم لهم إلا بها، وبعد أن أخبرهم أنهم كلهم على الضلال إلا من هداه منهم، ثم أمرهم بأن يسألوه الهداية لأنها عماد الدين ومعيار الفلاح فسبحان الله وبحمده ما أبلغ هذا الكلام وأعلى طبقته وأرفع منزلته، انظر كيف قدم لهم أن يتجنبوا ما يفسد به أمور معاشهم وحال حياتهم، ثم أرشدهم في أمور دينهم إلى أن يطلبوا منه الهداية، ثم ذكر لهم ما هو أهم أمور الحياة وأعظم مهمات المعاش، ثم أرشدهم إلى أن يطلبوا ذلك منه ليتفضل به عليهم ويوصله إليهم، فهل بعد هذه الرحمة البالغة والتفضل العظيم؟ وأن يلبسوا من الثياب ما أحله لهم ورغبهم في لبسه.
كما أخرجه الترمذي (1) وصححه، والنسائي (2)، وابن ماجه (3)، والحاكم (4) وصححه من حديث سمرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " البسوا البياض فإنها أطيب وأطهر، وكفنوا فيها موتاكم ".
وأخرج أبو داود (5)، والترمذي (6) وصححه، وابن حبان في صحيحه (7) من حديث ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم ".
وأن يتجنبوا منها ما حرمه الله عليهم، ففي الصحيحين (8) ................................
_________
(1) في " السنن " رقم (2810).
(2) في " السنن " (4/ 34).
(3) في " السنن " رقم (3567).
(4) في " المستدرك " (4/ 185) وصححه ووافقه الذهبي.
وهو حديث صحيح.
(5) في " السنن " رقم (3878).
(6) في " السنن " رقم (994).
(7) في صحيحه رقم (5399).
وهو حديث صحيح.
(8) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5833) ومسلم رقم (11/ 2069).(11/5466)
وغيرهما (1) من حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لا تلبسوا الحرير، فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ".
وفي الصحيحين (2) أيضًا من حديثه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنما يلبس الحرير من لا خلاق له ".
وفي الصحيحين (3) أيضًا من حديث أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ".
وفي الصحيحين (4) أيضًا من حديث عقبة بن عامر قال: أهدي لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فروج حرير فلبسه ثم صلى فيه ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا كالكاره له ثم قال: " لا ينبغي هذا للمتقين ".
وأخرج البخاري (5) من حديث عقبة بن عامر (6) أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " نهى عن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه ".
والأحاديث في المنع من لبس الحرير كثيرة (7).
وفي الصحيحين (8)، وغيرهما (9) من حديث ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر إليه يوم القيامة "، فقال أبو بكر الصديق: يا
_________
(1) كالترمذي رقم (2817) والنسائي (8/ 200).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6081) ومسلم رقم (3591) وقد تقدم.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5832) ومسلم رقم (2073) وقد تقدم.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5801) ومسلم رقم (2075).
(5) في صحيحه رقم (5837).
(6) كذا في المخطوط. والصواب عن حذيفة رضي الله عنه.
(7) انظر الرسالة رقم (136، 138).
(8) أخرجه البخاري رقم (5784) ومسلم رقم (2085).
(9) كأبي داود رقم (4085) والنسائي (8/ 208).(11/5467)
رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده! فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إنك لست ممن يفعل خيلاء ".
وفي الصحيحين (1) وغيرهما (2) من حديثه أيضًا قال: " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء ".
وفي الصحيحين (3) وغيرهما (4) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا ".
وأخرج أبو داود (5)، والنسائي (6)، وابن ماجه (7)، عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة، من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ".
وأخرج البخاري (8) وغيره (9) من حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار ".
وأخرج أبو داود (10) والنسائي (11)، .....................................
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5783) ومسلم رقم (2085).
(2) كابن ماجه رقم (3569) ومالك في " الموطأ " (2/ 914) والترمذي رقم (1730).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5788) ومسلم رقم (2087).
(4) كمالك (2/ 914) وابن ماجه رقم (3571).
(5) في " السنن " رقم (4094).
(6) في " السنن " (8/ 208).
(7) في " السنن " رقم (3576).
وهو حديث صحيح.
(8) في صحيحه رقم (5887).
(9) كالنسائي (8/ 207).
(10) في " السنن " رقم (4098).
(11) في " عشرة النساء " رقم (371).(11/5468)
وابن ماجه (1)، وابن حبان في صحيحه (2)، والحاكم (3) وصححه من حديث أبي هريرة قال: " لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل ".
وأخرج البخاري (4)، وأهل السنن الأربع (5) من حديث ابن عباس قال: " لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال ".
وفي الباب أحاديث.
قوله: " يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم ".
قال النووي (6) الرواية المشهورة: " تخطئون " بضم التاء، وروي بفتحها وفتح الطاء، خطأ يخطأ إذا فعل ما يأثم به فهو خاطئ، ومنه قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} (7)، ويقال في الإثم أيضا: أخطأ. فهما صحيحان. انتهى.
ويؤيد هذا ما حكاه ابن القطاع في كتاب الأفعال (8) عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال: يقال خطئ وأخطأ بمعنى واحد.
_________
(1) في " السنن " (1903).
(2) في صحيحه رقم (5722).
(3) في " المستدرك " (4/ 194). وهو حديث صحيح.
(4) في صحيحه رقم (5885).
(5) أبو داود رقم (4097)، والترمذي رقم (2784) والنسائي في عشرة النساء رقم (369) وابن ماجه رقم (1904).
(6) في شرحه لصحيح مسلم (16/ 133 - 134).
(7) [يوسف:97].
(8) (1/ 317).(11/5469)
وقال غيره: خطئ في الدين، وأخطأ في كل شيء عامدا [أو غير عامد] (1).
وقيل: خطئ خطأ: تعمد الذنب، وأخطأ أصاب الذنب على غير عمد [هذا الأعم] (2)، وفي لغة أخرى: بمعنى واحد [في غيره العمد] (3).
وقد قدمنا أن هذه العبارة الربانية تفيد العموم من جهات.
لما أرشد سبحانه عباده إلى ما فيه نظام معاشهم مما يحتاجون إليه من الطعام والثياب وأخبرهم أنه الكاسي لهم، وأمرهم بأن يطلبوا منه أن يطعمهم ويكسوهم، ووعدهم بالإجابة.
أرشدهم عز وجل إلى ما فيه نظام دينهم وآخرتهم، فأخبرهم بأنهم يخطئون بالليل والنهار لما في طباعهم من الميل إلى الشهوات، وبشرهم بأنه يغفر لهم الذنوب جميعا، ويا لها من بشارة لا يعادل قدرها ولا يسر بمثلها، فإنه إذا غفر لهم جميع الذنوب نجوا من النار ودخلوا الجنة، وهذا هو الإفضال، هذا العطاء الفياض، هذا الجود، هذا الكرم.
وقد بشر سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بمثل هذه البشارة الواردة إلينا على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فقال: {يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (4).
وقال سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (5).
وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (6).
_________
(1) زيادة من المصدر السابق (كتاب الأفعال).
(2) زيادة من المصدر السابق (كتاب الأفعال).
(3) زيادة من المصدر السابق (كتاب الأفعال).
(4) [الزمر:53].
(5) [النساء:110].
(6) [آل عمران:135].(11/5470)
وقال عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (1).
وقد ثبت في السنة المطهرة من الإرشاد إلى الاستغفار وأنه يمحو الذنوب الكثير الطيب فمن ذلك ما أخرجه مسلم (2) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم " (3).
فانظر ما يفيد هذا الحديث من التخصيص على الاستغفار المتسبب عن الذنوب، وذلك لأن بني آدم من شأنهم أن تكثر منهم الذنوب، لما جبلوا عليه من الميل إلى الشهوات، وأن من حاول منهم أن لا يقع منه ذنب البتة فقد حاول ما لا يكون، لأن العصمة لا تكون إلا للأنبياء، فلو راموا أنهم لا يذنبون أصلا راموا ما ليس لهم!.
وأخرج أحمد (4) وأبو يعلى (5) بإسناد رجاله ثقات من حديث أنس قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله لغفر لكم، والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء الله بقوم يخطئون ثم يستغفرون فيغفر لهم ".
وأخرج أحمد (6) والطبراني (7) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
_________
(1) [الأنفال: 33].
(2) في صحيحه رقم (2749).
(3) انظر الرسالة رقم (194، 195) من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
(4) في " المسند " (3/ 238).
(5) في مسنده رقم (4226).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 215) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله ثقات.
وهو حديث صحيح لغيره.
(6) في " المسند " (1/ 289).
(7) في " الكبير " رقم (12795) وفي " الأوسط " (5072).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 215) وقال: رواه أحمد والطبراني باختصار قوله: " كفارة الذنب في " الكبير " و" الأوسط "، والبزار، وفيه يحيى بن عمرو بن مالك النكري، وهو ضعيف، وقد وثق، وبقية رجاله ثقات ".
انظر: " الميزان " (3/ 286) و" الثقات " (8/ 487).
وهو حديث صحيح لغيره، والله أعلم.(11/5471)
وسلم: " كفارة الذنب الندامة، لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيغفر لهم ".
وأخرج الطبراني في الكبير (1) والوسط (2) من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لو لم تذنبوا لخلق الله خلقا يذنبون ثم يغفر لهم ".
وأخرجه أيضًا البزار (3)، ورجالهم ثقات.
وأخرجه أيضًا البزار (4) من حديث أبي سعيد نحو حديث أبي هريرة المتقدم، وفي إسناده: يحيى بن كثير وهو ضعيف (5)!.
وأخرج الطبراني في الأوسط (6) بإسناد رجاله ثقات من حديث الزبير أن رسول الله
_________
(1) عزاه إليه الهيثمي في " المجمع " (10/ 215).
(2) رقم (2376) و (5073) وقال الهيثمي في " المجمع " (10/ 215): " ... رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط "، وقال في " الأوسط ": لخلق الله خلقا يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم وهو الغفور الرحيم " رواه البزار بنحو " الأوسط " محالا على موقوف عبد الله بن عمرو، ورجالهم ثقات وفي بعضهم خلاف.
(3) في " المسند " (4/ 82 رقم 3247 - كشف).
(4) في مسنده (4/ 82 رقم 3251 - كشف).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 215) وقال: رواه البزار وفيه يحيى بن كثير البصري. وهو ضعيف.
(5) انظر " التقريب " (رقم الترجمة 595).
(6) رقم (839) وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 208) وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " ورجاله ثقات.(11/5472)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار ".
وأخرجه أيضًا البيهقي (1) بإسناد لا بأس به.
وأخرج البزار (2) من حديث أنس بإسناد رجاله رجال الصحيح - إلا تمام بن نجيح وقد وثقه ابن معين، وضعفه البخاري، وغيره - قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ما من حافظين يرفعان إلى الله في يوم فيرى تبارك وتعالى في أول الصحيفة [وفي آخرها] (3) استغفارا إلا قال تبارك وتعالى: قد غفرت لعبدي [ما بين طرفي الصحيفة] (4) ".
وأخرج الترمذي (5) وحسنه، والنسائي (6)، من حديث ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من استغفر الله غفر له ".
وأخرج الترمذي (7)، والنسائي (8)، وابن ماجه (9)، وابن حبان في صحيحه (10)،
_________
(1) في " الشعب " رقم (648).
(2) في " مسنده " (4/ 83 رقم 3252 - كشف).
قال البزار: لا نعلم رواه عن الحسن عن أنس إلا تمام، وهو صالح، ولم يرو هذا الحديث غيره، ولم يتابع عليه، تفرد به أنس.
وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 208) وقال: رواه البزار. وفيه تمام بن نجيح وثقه ابن معين وغيره، وضعفه البخاري وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح.
انظر: " الميزان " (1/ 359) و" الضعفاء والمتروكين " للنسائي رقم (94).
(3) زيادة من مصدر الحديث.
(4) زيادة من مصدر الحديث.
(5) في " السنن " رقم (3470) وقال: هذا حديث حسن غريب.
(6) لم أجده في " المجتبى، ولا الكبرى، ولا عمل اليوم والليلة " وهو حديث ضعيف جدا.
(7) في " السنن " رقم (3334).
(8) في " عمل اليوم والليلة " رقم (418).
(9) في " السنن " رقم (4244).
(10) في صحيحه رقم (926).(11/5473)
والحاكم (1) وصححه من حديث أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة، فإن هو نزع واستغفر صقلت، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله سبحانه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (2) ".
وأخرج الحاكم (3) وصححه من حديث أم عصمة العوصية (4) قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ما من مسلم يعمل ذنبا إلا وقف الملك ثلاث ساعات فإن استغفر من ذنبه لم يوقفه عليه ولم يعذبه به يوم القيامة ".
وأخرجه من حديثها أيضًا الطبراني في الكبير (5)، وفي إسناده أبو مهدي: سعيد بن سنان، وهو متروك!.
وأخرج الطبراني (6) من حديث أبي أمامة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ أو
_________
(1) في " المستدرك " (2/ 517) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) [المطففين:14].
وهو حديث حسن.
(3) في " المستدرك " (4/ 262) وصححه ووافقه الذهبي.
قلت: فيه سعيد بن سنان أبو مهدي الحمصي: متروك.
وهو حديث ضعيف جدا.
(4) العوصية: بمهملتين، نسبة إلى بني عوص، بفتح أوله وسكون ثانيه، ابن عوف بن عذرة، وهي صحابية.
" الإصابة " رقم (12169)، " أسد الغابة " رقم (7539).
(5) في " الأوسط " رقم (17).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 208) وقال: رواه الطبراني وفيه أبو مهدي سعيد بن سنان وهو متروك.
(6) في " الكبير " رقم (7765).(11/5474)
المسيء فإن ندم واستغفر منها ألقاها، وإلا كتبت واحدة ".
قال في مجمع الزوائد (1) رواه الطبراني (2) بأسانيد، ورجال أحدها وثقوا.
وأخرج الطبراني (3) أيضًا من حديثه من وجه آخر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال، فإذا عمل حسنة أثبتها وإذا عمل سيئة قال له صاحب اليمين: امكث ست ساعات، فإن استغفر لم تكتب وإلا ثبتت عليه ". قال في مجمع الزوائد (4) رجاله وثقوا.
وأخرجه (5) أيضًا من وجه ثالث من حديثه بنحوه وفي إسناده: جعفر بن الزبير (6) وهو كذاب.
وأخرج أحمد (7)، وأبو يعلى (8)، والطبراني (9) من حديث أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن إبليس قال لربه عز وجل: وعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال الله عز وجل: فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني ". قال في مجمع الزوائد (10) وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح، وكذلك أحد إسنادي أبي يعلى، وأخرجه أيضا .........
_________
(1) في (10/ 208).
(2) في " الكبير " رقم (7765).
(3) في " الكبير " رقم (7787).
(4) في " المجمع " (10/ 208).
(5) انظر " المجمع " (10/ 208).
(6) جعفر بن الزبير الحنفي أبو الباهلي، الدمشقي، نزيل البصرة، متروك الحديث.
" التقريب " رقم (939).
(7) في " المسند " (3/ 29، 41، 76).
(8) في " المسند " (1399).
(9) في " الأوسط " رقم (8783).
(10) في " المجمع " (10/ 207).(11/5475)
الحاكم (1) وقال: صحيح الإسناد.
وأخرج أبو داود (2)، والنسائي (3)، وابن ماجه (4)، والحاكم (5) والبيهقي (6) من حديث عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب ".
وأخرج ابن ماجه (7) بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن بسر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا ".
وأخرج الطبراني في الأوسط (8) والكبير (9) من حديث عقبة بن عامر: أن رجلا جاء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله أحدنا يذنب؟ قال: " تكتب عليه " قال: ثم يستغفر؟ قال: " يغفر له ويتاب عليه، ولا يمل الله حتى تملوا ".
قال في مجمع الزوائد (10) وإسناده حسن.
_________
(1) في " المستدرك " (4/ 261) وصححه ووافقه الذهبي.
وهو حديث حسن.
(2) في " السنن " رقم (1518).
(3) في " عمل اليوم والليلة " رقم (456).
(4) في " السنن " رقم (3819).
(5) في " المستدرك " (4/ 262) وصححه وتعقبه الذهبي بقوله: الحكم فيه جهالة أي الحكم بن مصعب. قال الحافظ في " التقريب " رقم (502): مجهول.
(6) في " الشعب " رقم (645).
وهو حديث ضعيف.
(7) في " السنن " رقم (3818). وهو حديث صحيح.
(8) رقم (791).
(9) رقم (8689).
(10) (10/ 200). وقال: رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط " وإسناده حسن.(11/5476)
وأخرج الترمذي (1) وحسنه من حديث أنس قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " قال الله عز وجل: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ".
وأخرج أبو داود (2)، والترمذي (3) وابن أبي شيبة (4) وابن حبان (5) من حديث بلال بن يسار بن زيد قال: حدثني أبي عن جدي أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفر له وإن كان قد فر من الزحف ".
قال الترمذي (6) غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، قال المنذري (7) إسناد جيد متصل، فقد ذكر البخاري في تاريخه (8) أن بلالا سمع من أبيه يسارا وأن يسارا سمع من أبيه زيد مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
وأخرجه الترمذي (9) من حديث أبي سعيد، وقال فيه: " ثلاث مرات ".
_________
(1) في " السنن " رقم (3540) وقال: هذا حديث حسن غريب.
وهو حديث حسن لغيره.
(2) في " السنن " رقم (1517).
(3) في " السنن " رقم (3577). وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(4) في " المصنف " (7/ 71).
(5) لم أجده.
(6) في " السنن " (5/ 569).
(7) في " الترغيب والترهيب " (2/ 468).
(8) (2/ 108).
(9) في " السنن " رقم (3575) من حديث أبي سعيد البراد، عن معاذ بن عبد الله بن حبيب، عن أبيه، به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
وأبو سعيد البراد: هو أسيد بن أبي أسيد.
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (5082) والنسائي رقم (5428، 5429) وهو حديث حسن.(11/5477)
وأخرجه الحاكم (1) من حديث ابن مسعود بهذه الزيادة (2)، قال: صحيح.
وأخرجه الطبراني (3) من حديث ابن مسعود بإسناد رجاله ثقات.
وأخرجه أبو داود (4) والترمذي (5) وحسنه والنسائي (6) وابن ماجه (7) وابن حبان في صحيحه (8) من حديث أبي بكر الصديق قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من عبد يذنب فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له "، ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} (9) إلخ.
وأخرج البخاري (10) وغيره من حديث .....................................
_________
(1) في " المستدرك " (1/ 511) وقال: صحيح على شرطهما.
(2) أي " يقولها ثلاثا ".
وهو حديث صحيح، والله أعلم.
(3) في " الكبير " رقم (8541).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 210) وقال: رواه الطبراني موقوفا ورجاله وثقوا.
(4) في " السنن " رقم (1521).
(5) في " السنن " رقم (406) وقال: هذا حديث حسن غريب.
(6) في " عمل اليوم والليلة " رقم (417).
(7) في " السنن " رقم (1395).
(8) في صحيحه رقم (623).
(9) [آل عمران:135].
وهو حديث صحيح.
(10) في صحيحه رقم (6323) عن شداد بن أوس قال: " سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك، ووعدك ما استطعت، أبوء لك بنعمتك وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أعوذ بك من شر ما صنعت ".(11/5478)
[شداد بن أوس] (1) عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " سيد الاستغفار اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أعوذ بك من شر ما صنعت ".
ولفظ أبي داود (2) والنسائي (3) وابن السني (4) من حديثه بلفظ: " سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ".
وأخرجه بهذا اللفظ البخاري (5) في موضع آخر، وأحمد في المسند (6).
وإنما سمي سيد الاستغفار:
1 - لجمعه لمعاني التوبة كلها، استعير له اسم السيد، وهو في الأصل للرئيس الذي يقصد في الحوائج ويرجع إليه في المهمات (7).
2 - وأيضا فيه الإقرار لله سبحانه بالألوهية والعبودية.
3 - والاعتراف بأنه الخالق.
4 - والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه.
_________
(1) في المخطوط أوس بن أوس. والصواب ما أثبتناه من مصدر الحديث.
(2) في " السنن " رقم (5070).
(3) في " السنن الكبرى " (8/ 279).
(4) في " عمل اليوم والليلة " رقم (372).
(5) في صحيحه رقم (6306).
(6) في " المسند " (4/ 122، 125).
(7) قاله الطيبي كما في " فتح الباري " (11/ 99).(11/5479)
5 - والرجاء بما وعد.
6 - والاستعاذة مما جنى على نفسه.
7 - وإضافة النعم إلى موجدها.
8 - وإضافة الذنب إلى نفسه.
9 - ورغبته في المغفرة.
10 - واعترافه بأنه لا يقدر على ذلك إلا هو (1).
_________
(1) قاله ابن أبي حمزة كما في " فتح الباري " (11/ 100).(11/5480)
[تنزيه الله سبحانه وتعالى]
قوله: " يا عبادي إنكم لم تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ".
لما ذكر سبحانه وتعالى ما أنعم به على عباده من أمور الدنيا والآخرة وأرشدهم إليه من مصالح الدين والدنيا، أبان لهم هاهنا أنه لم يفعل ذلك لمصلحة ترجع إليه منهم، ولا لفائدة يوصلونها إليه، لأنهم أحقر وأقل من أن يستطيعوا ذلك، أو يبلغوا إليه بوجه من الوجوه.
ولهذا قال: " إنكم لن تبلغوا ضري "، أي: ليس لكم من القدرة ما تطيقون أن تبلغوا به ذلك، فإني الخالق لما فيكم من القوة والقدرة، والموجد لها فيكم، والمتفضل بها عليكم، فكيف تبلغون إلي ذلك المبلغ الذي أنتم أعجز من أن تصلوا إلى شيء منه، وأقل من أن تبلغوا ما هو دونه.
وصدق الله عز وجل فإن العبد غاية ما يتمكن منه ويصل إليه أن يعصي الله تعالى وتقدس، وهو إنما يضر بذلك نفسه، ويوردها في موارد الخسران، ويقودها إلى العذاب الأليم، والبلاء المقيم، ويتعرض لانتقام منه وحلول سخطه عليه، فيجمع له بين عذاب الدنيا والآخرة، فلا دنياه أبقى، ولا آخرته رجا، فكان كما قلت:
إن أشقى الناس في الناس فتى ... بين ترك الدين والدنيا جمع
صار كالمنبت في الأسفار لا ... ظهره أبقى ولا أرضا قطع
وعلى فرض أن الله سبحانه يمهله ويستدرجه من حيث لا يعلم، ويخلي بينه وبين عصيانه وطغيانه، فمن ورائه نار جهنم، فقد باع الحياة الدنيا الأبدية والنعيم المقيم بعاجل لذة زائلة ونعمة ذاهبة، واستبدل بها عذاب الأبد وشقاء الدهر الذي لا ينفد ولا ينقطع.
وهكذا من كان من العباد مطيعا لله عز وجل، قائما بما أوجبه عليه من الواجبات البدنية والمالية، متصدقا بماله متقربا إلى الله بما خوله من النعم وأعطاه من البر، فهو لم(11/5481)
ينفع بذلك إلا نفسه، وربح الفوز بالنعيم الأبدي والسلامة من العذاب الأخروي، ومع ذلك قد يكون ما فعله من الخير سببا لحراسة ما تفضل الله به عليه في الدنيا عن الزوال، فإن إعمال الخير لا سيما بذل المال للمحاويج؛ من أعظم أنواع الشكر الذي وعد الله عباده إن فعلوه بالمزيد فقال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (1) فهذا قد نفع نفسه في دنياه وأخراه، كما ضر الأول نفسه في عاجلته وآجلته وكلاهما لم يجاوز ضر نفسه ولا نفع نفسه، وذلك غاية قدرته ونهاية استطاعته فسبحان الله العظيم، ما ألطفه وأرأفه بعباده، حتى بلغ معهم في التعليم والإرشاد إلى هذه الغاية، لدفع ما لعله يقع في خواطر الصم البكم الذين هم أشبه بالدواب وإن كانوا في مسلاخ إنسان وجسم بني آدم كما وقع من اللعين حيث قال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} (2).
فسبحان الصبور على مثل هذه الحماقات من هؤلاء الذين هم كالأنعام؛ بل هم أضل سبيلا.
قوله: " يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا ".
لما ذكر الله سبحانه أن عباده لا يبلغون ضره ولا يبلغون نفعه، وكانت عقولهم القاصرة محتاجة إلى مزيد تصريح وتأكيد وطرف من الإيضاح والمبالغة، أخبرهم سبحانه بأن انتفاء ذلك الضر والنفع الذي نفى عوده إلى حضرته المقدسة وجنابه الأعز الأجل، ليس هو باعتبار نوع من أنواع العالم، أو باعتبار أهل عصر من العصور، بل لو اجتمع أول الثقلين وآخرهم، وكانوا على غاية من الصلاح والانقياد والطاعة والتقوى، بل لو
_________
(1) [إبراهيم:7].
(2) [غافر:36].(11/5482)
كانوا على حالة أعلى من هذه الغاية، ومنزلة أرفع من هذه المنزلة، وهي أن يكونوا كالفرد الكامل منهم والرجل كل الرجل في جماعتهم، وهو من ملئ قلبه من التقوى حتى صار أتقى الثقلين الإنس والجن بعد اجتماع أولهم وآخرهم، ولا يخفاك أن أتقى الثقلين عن اجتماعهم المعروض الشامل لأولهم وآخرهم هم الأنبياء عليهم السلام، وأتقى الأنبياء هو سيد ولد آدم الأنبياء وغيرهم، وهو نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فانظر هذه المبالغة البليغة والكلام الفائق.
وقوله: " واحد " للتأكيد كما يقتضيه مقام المبالغة مثل قوله سبحانه: {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} ومثل قوله: {دَكَّةً وَاحِدَةً} (1) ومثل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لأولى رجل ذكر " (2).
ثم لما فرغ سبحانه من المبالغة في جانب دفع النفع، ذكر المبالغة في جانب دفع الضرر فقال: " يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ".
وفيه مثل ما تقدم من المبالغة البليغة والكلام الجاري على أكمل نظام وأتم أسلوب.
وهذا القلب الذي هو أفجر قلوب الثقلين عند الاجتماع المفروض، قد يكون قلب إبليس أو أحد مردة الجن، وقد يكون قلب بعض جبابرة الإنس كفرعون والنمرود ولا يعلم ذلك إلا علام الغيوب.
والمقصود من هذا أن عبادة العابدين، وتقوى المتقين، وزهد الزاهدين، إنما ينتفع بها فاعلها فقط، ومعصية العاصين، وتهتك المتهتكين، وكفر الكافرين، ونفاق المنافقين، إنما تضر فاعلها، وليس إلى الله عز وجل ولا عليه تبارك وتعالى من ذلك شيء.
فإن قلت: قد ثبت في ....................................
_________
(1) [الحاقة:14].
(2) أخرجه البخاري رقم (6732) ومسلم رقم (1615) وقد تقدم.(11/5483)
الصحيحين (1) وغيرهما (2) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم!، والذي نفس محمد بيده؛ لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه ".
قلت: قد أجاب أهل العلم عن معنى قوله عز وجل: " الصوم لي وأنا أجزي به " بأجوبة كثيرة منها ما أجاب سفيان بن عيينة فقال (3)
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1904) ومسلم رقم (3) وقد تقدم.
(2) كأبي داود رقم (2363) والنسائي (4/ 163) وابن ماجه رقم (1638).
(3) ذكره الحافظ في " الفتح " (4/ 107).
قال القرطبي في " المفهم " (3/ 212 - 213) قوله: " كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي " اختلف في معنى هذا على أقوال:
1 - أن أعمال بني آدم يمكن الرياء فيها، فيكون لهم، إلا الصيام فإنه لا يمكن فيه إلا الإخلاص، لأن حال الممسك شبعا كحال الممسك تقربا، وارتضاه المازري.
2 - أن أعمال بني آدم كلها لهم فيها حظ إلا الصيام فإنهم لا حظ لهم فيه. قاله الخطابي.
3 - أن أعمالهم هي أوصافهم، ومناسبة لأحوالهم إلا الصيام، فإنه استغناء عن الطعام، وذلك من خواص أوصاف الحق سبحانه وتعالى.
4 - أن أعمالهم مضافة إليهم إلا الصيام فإن الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفا كما قال: " بيتي وعبادي ".
5 - أن أعمالهم يقتص منها يوم القيامة فيما عليهم إلا الصيام فإنه لله تعالى ليس لأحد من أصحاب الحقوق أن يأخذ منه شيئا. قال ابن العربي.
وقد كنت استحسنته إلى أن فكرت في حديث المقاصة فوجدت فيه ذكر الصوم في جملة الأعمال المذكورة للأخذ منها. فإنه قال فيه: " هل تدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرح عليه، ثم طرح في النار ".
- أخرجه مسلم رقم (2581) وأحمد (2/ 303) - وهذا يدل على أن الصوم يؤخذ كسائر الأعمال.
6 - أن الأعمال كلها ظاهرة للملائكة، فتكتبها إلا الصوم، وإنما هو نية وإمساك فالله تعالى يعلمه، ويتولى جزاءه. قاله أبو عبيد.
7 - أن الأعمال قد كشفت لبني آدم مقادير ثوابها وتضعيفها إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير، ويشهد لهذا مساق الرواية الأخرى التي فيها: " كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " يعني: - والله تعالى أعلم - أنه يجازي عليه جزاء كثيرا من غير أن يعين مقداره، ولا تضعيفه، وهذا كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] وهم الصائمون في أكثر أقوال المفسرين. وهذا ظاهر قول الحسن، غير أنه قد تقدم ويأتي في غير ما حديث أن صوم اليوم بعشرة، وأن صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام رمضان صيام الدهر. وهذه النصوص في إظهار التضعيف، فبعد هذا الوجه بل بطل. والأولى حمل الحديث على أحد الأوجه الخمسة المتقدمة.
انظر: " فتح الباري " (4/ 108 - 109).(11/5484)
1 - معناه إذا كان يوم القيامة، يحاسب الله عز وجل عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم، فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة.
2 - وقيل: إن الصيام لما كان هو الإمساك عن الطعام، وهذا الإمساك ليس من الأفعال التي تظهر للناس، فكان الصيام مما لا يدخله الرياء، لأن الرياء لا يكون إلا بأفعال تظهر للناس مثل الصلاة والصدقة ونحوهما، ومثل غير ذلك.
والظاهر أنه لا حاجة إلى جميع ما ذكروه فقد صرح في هذا الحديث نفسه بما يرشد إلى ما هو المراد.
ففي ............................................................(11/5485)
البخاري (1) وغيره (2) ما لفظه: " يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصوم لي وأنا أجزي به " فهذا قد أفاد أنه لما ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل ربه عز وجل، كان الصوم له أي: لأجله من غير نفع له في ذلك، بل كان النفع للصائم لما ترك طعامه وشرابه وشهوته لأجل ربه، لأن ذلك هو الإخلاص الذي أمر الله به عباده بقوله: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (3).
فليس بين هذا الحديث القدسي الذي نحن بصدد شرحه، وبين الحديث القدسي الذي في الصيام تعارض، فافهم هذا.
فإن قلت: قد ثبت في صحيح مسلم (4) من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ليس أحد أحب إليه المدح من الله تعالى، من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله تعالى، من أجل ذلك حرم الفواحش، وليس أحد أحب إليه العذر من الله تعالى، من أجل ذلك أنزل الكتاب وبعث الرسل ".
قلت: لا تلازم بين كون الشيء محبوبا وكون لمن حصلت له محبة له نفع فيه! فقد يحب الإنسان صفات الخير، وإن كان لا نفع له فيها، ولا ضرر عليه في تركها، كما يجده كل عاقل عند ظهور الخصال المحمودة المطابقة لمنهج الشرع كالعدل، وظهور السنن وارتفاع البدع، وإنما أحب ذلك سبحانه لأن مدحه من عباده هو الشكر له على ما أفاضه عليهم من النعم، وذلك من أعظم ما يتقربون به إليه، ويتوسلون به إلى مرضاته، فيحصل لهم بذلك الفوز بالنعيم الأبدي، والخير الأخروي، ولهذا طلب سبحانه منهم
_________
(1) في صحيحه رقم (1894).
(2) كمسلم رقم (1151).
(3) [البينة:5].
(4) في صحيحه رقم (32/ 2760).
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (4634) وأحمد (1/ 381).(11/5486)
القيام بما شرعه لهم، والكف عما نهاهم عنه، وليس ذلك إلا لفائدة عائدة عليهم، ونعمة حاصلة لهم، فالمدح منهم لربهم هو من أعظم أسباب خيرهم الآجل والعاجل، ولهذا يقول الله عز وجل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (1).
وصح في أدعية الصباح والمساء أن العبد إذا قال في صباح يومه:" اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر ومن قال ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته".أخرجه أبو داود (2) والنسائي (3) وابن حبان وصححه (4)، من حديث عبد الله بن غنام البياضي وجود النووي (5) إسناده، وأخرجه أيضًا ابن حبان (6) من حديث ابن عباس.
وبالجملة فندب الله عز وجل لعباده إلى مدحه، هو مثل ندبه لهم إلى شكره وحمده، والنفع في ذلك كله للعباد، وتعالى وتقدس ربهم عز وجل أن يكون له في ذلك نفع أو في تركه ضر.
وانظر إلى ما اقترنت به محبته عز وجل للمدح من عباده في هذا الحديث، من ذكر الغيرة التي من أجلها حرم الفواحش، والمحبة للعذر التي من أجلها أنزل الكتاب وأرسل الرسل، فإنه لا يقع في ذهن عاقل أن في ذلك شيئا من النفع أو الضر، بل كل ذلك لرعاية الرب الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء لمصالح عباده.
والحاصل أن تسبيحه عز وجل مدح له، وحمده مدح له، وشكره مدح له، وتكبيره
_________
(1) [إبراهيم:7]
(2) في "السنن" رقم (5073)
(3) في "السنن الكبرى" (6/ 5 رقم 9835)
(4) لم يخرجه من حديث عبد الله بن غنام البياضي.
وهو حديث ضعيف.
(5) في "الأذكار" (ص 66)
(6) في صحيحه رقم (861)(11/5487)
مدح له، بل توحيده من أعظم المدح له سبحانه، وقد رغب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلى الاستكثار من هذه الأمور، وبين ما فيها من الأجر العظيم للعباد، فعرفت بهذا معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:" ما أحد أحب إليه المدح من الله "، فلا تعارض بينه وبين حديث الباب.
فإن قلت: قد ثبت في الصحيحين (1) وغيرهما (2) من حديث أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:" لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله بأرض فلاة".
وفي رواية لمسلم (3):" لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت عنه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح".
وفي الصحيحين (4) وغيرهما (5) من حديث الحارث بن سويد عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول:" لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية (6) مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6309) ومسلم رقم (2747)
(2) كأحمد (3/ 213) وابن حبان في صحيحه رقم (617).
(3) في صحيحه رقم (7/ 2747)
(4) أخرجه البخاري رقم (6308) ومسلم رقم (2744)
(5) كأحمد (1/ 383) وابن حبان في صحيحه رقم (618)
(6) في حاشية المخطوط: فلاة مهلكة.
قال ابن الأثير في "النهاية" (2/ 143):الدو: الصحراء التي لا نبات بها.
والدوية منسوبة إليها وقد تبدل من إحدى الواوين ألف، فيقال: داوية على غير قياس.
* في هذا الحديث: إثبات الفرح لله عز وجل، فنقول في هذا الفرح: إنه فرح حقيقي، وأشد فرح ولكنه ليس كفرح المخلوقين.
الفرح بالنسبة للإنسان هو نشوة وخفه يجدها الإنسان من نفسه عند حصول ما يسره، ولهذا تشعر بأنك إذا فرحت بالشيء كأنك تمشي على الهواء ولكن بالنسبة لله عز وجل، لا نفسر الفرح بمثل ما نعرفه من أنفسنا فنقول هو فرح يليق به عز وجل مثل بقية الصفات، كما أننا نقول: لله ذات، ولكن لا تماثل ذواتنا، فله صفات لا تماثل صفاتنا، لأن الكلام عن الصفات فرع عن الكلام في الذات.
فنؤمن بأن الله تعالى له فرح كما أثبت ذلك أعلم الخلق به، محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنصح الخلق للخلق، وأفصح الخلق فيما ينطق به عليه الصلاة والسلام.
ونحن على خطر إذا قلنا: المراد بالفرح الثواب، لأن أهل التحريف يقولون: إن الله لا يفرح، والمراد بفرحه: إثابته التائب. أو: إرادة الثواب لأنهم هم يثبتون أن لله تعالى مخلوقا بائنا منه هو الثواب ويثبتون الإرادة، فيقولون في الفرح: إنه الثواب المخلوق أو: إرادة الثواب.
ونحن نقول: المراد بالفرح: الفرح حقيقة، مثلما أن المراد بالله عز وجل نفسه حقيقة ولكننا لا نمثل صفاتنا بصفات الله أبداً.
ويستفاد من هذا الحديث:
مع إثبات الفرح لله عز وجل وكمال رحمته جل وعلا ورأفته بعباده، حيث يحب رجوع العاصي إليه هذه المحبة العظيمة .... هارب من الله، ثم وقف ورجع إلى الله
. يفرح الله به هذا الفرح العظيم.
ومن الناحية المسلكية: يفيدنا أن نحرص على التوبة غاية الحرص، كلما فعلنا ذنبا، تبنا إلى الله.
قال تعالى في وصف المتقين: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) أي فاحشة: مثل الزنى، اللواط، نكاح ذوات المحارم قال تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا) [النساء:22].
(وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) [الإسراء:32].
وقال لوط لقومه: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) [الأعراف:80].
إذا: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ) ذكروا الله تعالى في نفوسهم، ذكروا عظمته، وذكروا عقابه وذكروا ثوابه للتائبين.
(فَاسْتَغْفَرُوا لذُنُوبِهِمْ) فعلوا ما فعلوا ولكنهم ذكروا الله في نفوسهم واستغفروا لذنوبهم.
قال تعالى (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) [آل عمران: 135].
فأنت إذا علمت أن الله يفرح بتوبتك هذا الفرح الذي لا نظير له. لا شك أنك سوف تحرص غاية الحرص على التوبة.
"شرح العقيدة الواسطية" (2/ 19 - 21)(11/5488)
نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه، فالله تعالى أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته".
قلت: الفرح منه عز وجل بتوبة عبده، هو لعظيم لطفه به ومزيد رأفته عليه لسلامته - بتوبته- من العذاب الأليم، وهذا هو من رحمته عز وجل لعباده، ولهذا صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حاكيا عن الرب عز وجل أنه قال:" سبقت رحمتي غضبي" (1) ومعلوم أن نفع هذه التوبة هو للعبد، كما أن ضر تركها هو عليه، وليس للرب تعالى وتقدس في ذلك نفع، ولا عليه سبحانه في خلافه ضرر، فليس بين هذا الحديث وبين حديث الباب تعارض.
والمراد بالفرح المنسوب إلى الرب عز وجل هو: الرضا بما وقع من ذلك العبد! البالغ إلى أشد من الرضا الحاصل لواجد تلك الضالة عند وجودها (2)
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (7553) ومسلم رقم (2751).
(2) نجد أن الشوكاني لم يلتزم بالمنهج الذي ذكره في "التحف في مذاهب السلف" وهي الرسالة رقم (3) من "الفتح الرباني" (ص 259 - 260).
فقد قال: ونعرف أن مذهب السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وتابعيهم هو إيراد أدلة الصفات على ظاهرها، من دون تحريف لها، ولا تأويل متعسف لشيء منها، ولا جبر ولا تشبيه ولا تعطيل يفضي إليه كثير من التأويل.
وقال الدكتور محمد حسين الغماري في " الشوكاني مفسراً" أن الشوكاني رجع عن بعض هذه التأويلات في رسالته التحف لأنها من آخر ما ألف ولم يؤيد ما ذهب إليه بأي دليل إلا حسن الظن به.
* ونقف معا على أسس سليمة وقواعد مستقيمة:
1 - أن أسماء الله وصفاته توقيفية، بمعنى أنهم لا يثبتون لله إلا ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله في سنته من الأسماء والصفات ولا يثبتون شيئا بمقتضى عقولهم وتفكيرهم، ولا ينفون عن الله إلا ما نفاه عن نفسه في كتابه أو نفاه عنه رسوله في سنته. لا ينفون عنه بموجب عقولهم وأفكارهم، فهم لا يتجاوزون الكتاب والسنة، وما لم يصرح الكتاب والسنة بنفيه وإلا إثباته، كالعرض والجسم والجوهر، فهم يتوقفون فيه بناء على هذا الأصل العظيم.
2 - أن ما وصفه الله به نفسه أو وصفه به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو حق على ظاهره، ليس فيه أحاج ولا ألغاز بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه، فأهل السنة يثبتون ألفاظ الصفات ومعانيها، فليس ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المتشابه الذي يفوض معناه، لأن اعتبار نصوص الصفات مما يفهم معناه يجعلها من الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، والله تعالى قد أمرنا بتدبر القرآن كله، وحضنا على تعقله وتفهمه، وإذا كانت نصوص الصفات مما لا يفهم معناه، فيكون الله قد أمرنا بتدبر وتفهم ما لا يمكن تدبره وتفهمه وأمرنا باعتقاد ما لم يمكن تدبره وتفهمه وأمرنا باعتقاد ما لم يوضحه لنا تعالى الله عن ذلك.
إذا، فمعاني صفات الله تعالى معلومة يجب اعتقادها، وأما كيفيتها فهي مجهولة لنا، لا يعلمها إلا الله تعالى، ولهذا يقول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه لما سئل عن قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5]. كيف استوى؟ قال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة".
وما قال الإمام مالك في الاستواء هو قاعدة في جميع الصفات، وهو قول أهل السنة والجماعة قاطبة، فمن نسب إلى السلف أنهم يفوضون معاني الأسماء والصفات، ويجعلون نصوصها من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه فقد كذب عليهم، لأن كلامهم يخالف كلام هذا المفتري.
3 - السلف يثبتون الصفات إثباتا بلا تمثيل، فلا يمثلونها بصفات المخلوقين لأن الله ليس كمثله شيء، ولا كفء له، ولا ند له، ولا سمي له، ولأن تمثيل الصفات وتشبيهها بصفات المخلوقين ادعاء لمعرفة الموصوف والله تعالى لا يعلم كيفية ذاته إلا هو والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أن لله ذاتا لا تشبه الذوات، فكذلك له صفات لا تشبه الصفات:) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11]، أي لا يشبهه أحد لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فيجب الإيمان بما وصف الله به نفسه، لأنه لا أحد أعلم من الله بالله: (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) [البقرة: 140]، فهو أعلم بنفسه وبغيره.
كما يجب الإيمان بما وصفه به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه لا أحد بعد الله أعلم بالله من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي قال الله في حقه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3 - 4]. فيلزم كل مكلف أن يؤمن بما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وينزه ربه جل وعلا من أن تشبه صفته بصفة الخلق.
4 - وكما أن أهل السنة والجماعة يثبتون لله الصفات التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله على وجه يليق بجلاله ولا يشبهونه بخلقه، فهم ينزهونه عن النقائص والعيوب تنزيها لا يفضي بهم إلى التعطيل بتأويل معانيها أو تحريف ألفاظها عن مدلولها بحجة التنزيه، فمذهبهم في ذلك وسط بين طرفي التشبيه والتعطيل، تجنبوا التعطيل في مقام التنزيه وتجنبوا التشبيه في مقام الإثبات.
5 - طريقة أهل السنة والجماعة فيما يثبتون لله من الصفات وما ينفون عنه من النقص هي طريقة الكتاب والسنة، وهي الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات كما في قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11]. فأجمل في النفي وهو قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وفصل في الإثبات وهو قوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وكل نفي في صفات الله فإنه يتضمن إثبات الكمال، وليس هو نفيا محضا، لأن النفي المحض ليس فيه مدح لأنه عدم محض والعدم ليس بشيء.
ومن أمثلة النفي المتضمن لإثبات الكمال: قوله تعالى: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49] أي: لكمال عدله سبحانه.
وقوله: (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا) [البقرة: 255] أي: لكمال قدرته وقوته.
وقوله: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) [البقرة: 255] أي: لكمال حياته وقيوميته.
"الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد" (ص149 - 152).
وانظر: "الرسالة في اعتقاد أهل السنة" (ص 403)، "مجموع الفتاوى" (6/ 518).(11/5490)
فالتعبير عن الرضا بالفرح لقصد تأكيد معنى الرضا في نفس السامع، والمبالغة في(11/5492)
تقريره، وقد حكي النووي في شرح مسلم (1) عند شرحه لهذا الحديث عن المازري (2) أن الفرح ينقسم إلى وجوه منها: السرور والسرور يقارنه الرضا بالمسرور به ثم ذكر نحو ما ذكرناه.
قال في الصحاح (3) فرح به سر.
قوله: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر".
قوله: المخيط، هو بكسر الميم، وفتح التحتية، وهو: الإبرة (4).
قال النووي (5) قال العلماء: هذا تقريب إلى الأفهام، ومعناه لا ينقص شيئا، كما قال في الحديث الآخر: " ... لا يغيضها نفقة" (6) أي لا ينقصها، لأن ما عند الله لا يدخله نقص، وإنما يدخل النقص المحدود [الفاني] (7)، وعطاء الله تعالى من رحمته وكرمه وهما صفتان لا يتطرق إليهما نقص، فضرب المثل بالمخيط في البحر لأنه غاية ما يضرب به المثل في القلة، والمقصود التقريب إلى الأفهام بما [شاهدوه] (8)، فإن
_________
(1) (17/ 60، 61).
(2) في "المعلم بفوائد مسلم" (3/ 187 - 188).
(3) (1/ 390)
(4) انظر: "القاموس المحيط" (ص 860)
(5) في شرحه لصحيح مسلم (16/ 133)
(6) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4684) وأطرافه (5352، 7411، 7419، 7496) ومسلم في صحيحه رقم (993) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قال الله عز وجل: أنفق أنفق عليك، وقال: يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يده، وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع".
(7) في المخطوط [في المعاني] وما أثبتناه من "صحيح مسلم" (16/ 133 - النووي).
(8) في المخطوط [يشاهدونه] وما أثبتناه من "صحيح مسلم" (16/ 133 - النووي)(11/5493)
البحر من أعظم المرئيات عيانا وأكبرها! والإبرة من أصغر الموجودات! مع أنها صقيلة لا يتعلق بها ماء والله أعلم. انتهى.
أقول: انظر إلى هذا الكلام الفياض والعطاء الجم! فإن اجتماع جميع الإنس والجن، أولهم وآخرهم في مكان واحد، ثم تفضله عز وجل بإعطاء كل سائل مسألته على أي صفة كانت، وفي أي مطلب من المطالب اتفقت، كرم لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه.
ولعل المراد من هذا الإخبار الرباني لعبيده الضعفاء -الذين خلقهم وأحياهم ورزقهم ثم يميتهم ثم يحييهم الحياة الأبدية إنما لنعيم مقيم أو لعذاب أليم- هو تأكيد استغناءه عز وجل عنهم، وعدم حاجته إليهم، وأن من كان هذا شأنه يعطي جميع العالم من الإنس والجن -عند اجتماعهم المفروض أولهم وآخرهم- كل سائل مسألته، ولك مستعطٍ عطيته، هو ذا الغنى المطلق الذي لا يتعاظمه شيء، ثم ترغيبهم في سؤاله واستعطائه، وأنه عز وجل لا تفني خزائن ملكه، ولا تنقص بالعطاء بحار كرمه، ولا يؤثر فيها سؤال السائلين، وإن كانوا في الكثرة على هذه الصفة التي تقصر العقول عن الإحاطة ببعض البعض من أهل عصر من العصور، فكيف بجميع الناس من عند آدم إلى ما لا نهاية له معلومة لنا، فكيف إذا انضم إليهم الجن أولهم وآخرهم.
فسبحانه ما أعظم شأنه، لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، لا جرم إذا ضاقت أذهان العباد عن تصور كرمه وتفضله، فهو خالق الكل، ورب العالم، وليس عالم الإنس والجن بالنسبة إلى كل العالم من المخلوقات إلا القدر اليسير، وهو يعطي الكل الخير، لأنه إذا كان شأنه هذا الشأن العظيم من إعطاء السائلين، فهو قد تكفل لهم بأن يخلف عليهم ما أنفقوا كما قال في كتابه العزيز: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (1).
_________
(1) [سبأ: 39](11/5494)
انظر إلى هذه الآية الكريمة، فإنه سبحانه أخبرهم بأنه يخلف لهم كل ما أنفقوه وجاء بهذه الكلية الشاملة، فإن قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ} يفيد بعمومه المستفاد من الشرطية الكلية أن يخلف كل حقير وجليل من أنواع ما أنفقوه، ثم أكد ذلك بقوله: {مِنْ شَيْءٍ} فإنه يتناول ما يصدق عليه لفظ الشيء، وهو يصدق على الخردلة إذ لا خلاف أنها شيء بل يصدق على أقل جزء من أجزائها، ثم ذيل هذه الجملة الشرطية بقوله: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (1).
فانظر إلى ما في هذه الجملة التذييلية من تطمين خواطر المنفقين وتشويقهم إلى ما يخلفه عليهم من هو خير الرازقين، فإن في ذلك ما يجذب خواطر المتقين إلى أن يكونوا من المنفقين المنتظرين لما وعدهم به خير الرازقين، فإنه كونه خير الرازقين لا يكون ما يخلفه عليهم إلا أضعاف أضعاف ما ينفقون، كما تراه في أحوال بني آدم فإن من كان منهم موصوفا بالكرم لا يكافئ إلا بالكثير الذي يكون بالنسبة إلى ما كافأ به عليه فوقه بكثير.
فكيف إذا كان ملكا من ملوك الدنيا الذي ينزعه إلى الكرم عرق، فكيف إذا كان ملك الملوك وربهم وخالقهم ورازقهم، ومع هذا الخلف الذي يخلعه على المنفقين، فلهم الجزاء الأخروي بما أنفقوا الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، كما وعد به الرب سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (2).
وقد ورد في السنة المطهرة الترغيب في الإنفاق بالأحاديث الكثيرة الصحيحة منها ما في .......................................
_________
(1) [سبأ: 39].
قال صاحب "الدر المصون" (9/ 196): قوله: (الرَّازِقِينَ) إنما جمع من حيث الصورة لأن الإنسان يرزق عياله من رزق الله، والرازق في الحقيقة للجميع إنما هو الله تعالى.
(2) [الزلزلة: 7 - 8].(11/5495)
الصحيحين (1) وغيرهم (2) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ - فإِنَّ اللَّهَ يَقبلها بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِها كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ ".
وأخرج مسلم (3) والترمذي (4) من حديث أبي هريرة أيضًا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال:" مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ عز وجل ".
وأخرج مسلم (5) من حديثه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي، مَالِي! وإِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ أَعْطَى فَأبقى (6) وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ ".
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1410) ومسلم رقم (1014)
(2) كالنسائي (5/ 57) والترمذي رقم (661) وابن ماجه رقم (1842).
(3) في صحيحه رقم (2588).
(4) في "السنن" رقم (2029). وهو حديث صحيح.
(5) في صحيحه رقم (2959). وهو حديث صحيح.
(6) قال النووي في "شرحه لصحيح مسلم" (18/ 94) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ وَلِمُعْظَمِ الرُّوَاة: (فَاقْتَنَى) بِالتَّاءِ وَمَعْنَاهَا: اِدَّخَرَهُ لِآخِرَتِهِ أَي ادَّخَرَ ثَوَابه وَفِي بَعْضهَا " فَأَقْنَى " بِحَذْفِ التَّاء، أَيْ أَرْضَى.
وقال القرطبي في "المفهم" (7/ 111 - 112): قوله: "يقول ابن آدم مالي مالي" أي يغتر بنسبة المال إليه وكونه في يديه، حتى ربما يعجب به ويفخر، ولعله ممن تعب هو في جمعه، ويصل غيره إلى نفعه، ثم أخبر بالأوجه التي ينتفع بالمال فيها وافتتح الكلام بـ (إنما) التي هي للتحقيق والحصر فقال: "إنما له من ماله ثلاث" وذكر الحديث.
وقوله: "أو أعطى فأقنى" هكذا وقع هذا اللفظ عند جمهورهم، ووجهه أعطى الصدقة فاقتنى الثواب لنفسه، كما قال في الرواية الأخرى: "تصدقت فأمضيت" - عند مسلم رقم (3/ 2958) وقد رواه ابن هامان:"فأقنى" بمعنى: أكسب غيره، كما قال تعالى (أغنى وأقنى) [النجم: 48].(11/5496)
وأخرج البخاري (1) والنسائي (2) من حديث ابن مسعود: قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ " قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه. قال: "فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر".
وفي الصحيحين (3) من حديث عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة".
وأخرج أحمد (4) بإسناد صحيح من حديث ابن مسعود بلفظ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "ليتق (5) أحدكم وجهه من النار ولو بشق تمرة".
وأخرجه أحمد (6) أيضًا بإسناد حسن من حديث عائشة بلفظ: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "استتري من النار ولو بشق تمرة، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبع".
وقد أخرج نحوه أبو يعلى (7)، والبزار (8) من حديث أبي بكر الصديق.
_________
(1) في صحيحه رقم (6442)
(2) في "السنن" (6/ 237)
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6539) ومسلم رقم (1016).
(4) في "المسند" (1/ 446). وأورده الهيثمي في "المجمع" (3/ 105) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وهو حديث صحيح لغيره.
(5) في المخطوط [ليق] وما أثبتناه من مصدر الحديث.
(6) في "المسند" (6/ 79) وأورده الهيثمي في "المجمع" (3/ 105) وهو حديث حسن لغيره
(7) في مسنده (1/ 85)
(8) في مسنده رقم (933 - كشف). وأورده الهيثمي في "المجمع" (3/ 105) وقال: رواه أبو يعلى والبزار وفيه محمد بن إسماعيل الوساوسي وهو ضعيف جدا. وهو حديث ضعيف جدا.(11/5497)
وروي نحوه أيضًا من حديث أنس (1)، وأبي هريرة (2)، وأبي أمامة (3)، والنعمان بن بشير (4).
وأخرج الترمذي (5) وصححه من حديث معاذ بن جبل أنه قال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "ألا أدلك على أبواب الخير؟ " قلت: بلى يا رسول الله. قال: "الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار".
وأخرج ابن حبان (6) نحوه من حديث كعب بن عجرة.
وأخرج الترمذي (7) وحسنه، وابن حبان وصححه (8) من حديث أنس قال: قال
_________
(1) أورده الهيثمي في "المجمع" (3/ 106) وقال: البزار والطبراني في "الأوسط" ورجال البزار رجال الصحيح.
(2) قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 106) وقال: رواه البزار - في مسنده رقم (937 - كشف) وفيه عثمان بن عبد الرحمن الجمحي قال أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به وحسن البزار حديثه. وقال البزار في مسنده (1/ 444 - كشف) قد روي عن أبي هريرة من غير هذا الوجه وهذا الإسناد عن أبي هريرة أحسن إسناد يروى في ذلك وأصحه.
(3) قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 106): رواه الطبراني في "الكبير" -رقم (8017) - والأوسط وفيه فضال بن جبير وهو ضعيف.
(4) قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 106): رواه البزار -في مسنده رقم (935 - كشف) والطبراني في "الكبير"، وفيه أيوب بن جابر وفيه كلام كثير وقد وثقه ابن عدي.
(5) في "السنن" (2616) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وهو حديث صحيح لغيره.
(6) في صحيحه رقم (5567). وهو حديث صحيح لغيره.
(7) في "السنن" رقم (664) قال الترمذي: حديث حسن غريب.
(8) في صحيحه رقم (3309). وهو حديث حسن.(11/5498)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء".
وأخرج الترمذي (1) وصححه، وابن ماجه (2) من حديث أبي كبشة الأنماري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وفيه: " ... ما نقص مال عبد من صدقة".
وفي الصحيحين (3) وغيرهما (4) من حديث أبي هريرة قال: "ضرب لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مثل البخيل والمتصدق: كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرب أيديهما وثديهما إلى تراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفوا أثره، وجعل البخيل كلما هم بالصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها".
وأخرج أحمد (5) وابن خزيمة (6) والحاكم (7) وصححه من حديث عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: "كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس".
قال يزيد بن أبي حبيب: فكان (أبو مرثد) لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة. وأخرج أحمد (8) ..................
_________
(1) في "السنن" رقم (2325).
(2) في "السنن" رقم (4228).
وهو حديث صحيح لغيره.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5797) ومسلم رقم (1021).
(4) كالنسائي (5/ 70 - 72).
(5) في "المسند" (4/ 147).
(6) في صحيحه رقم (2431).
(7) في "المستدرك" (1/ 416) وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح.
(8) في "المسند" (5/ 350).(11/5499)
والبزار (1) والطبراني (2) وابن خزيمة في صحيحه (3) والحاكم (4) وصححه البيهقي (5) عن بريدة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "لا يخرج رجل شيئا من الصدقة حتى يفك عنها لحيي سبعين شيطانا".
وفي الصحيحين (6) وغيرهما (7) من حديث أنس قال: لما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (8) قام أبو طلحة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله إن أحب أموالي بيرحاء، وإنها صدقة أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله يا رسول الله، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "بخ ذاك مال رابح، ذاك مال رابح".
وأخرج البيهقي (9) عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطى الصدقة".
وأخرج الترمذي (10) وصححه وابن ....................................................
_________
(1) في مسنده رقم (934 - كشف).
(2) في "الأوسط" رقم (1038)
(3) رقم (2457)
(4) في "المستدرك" (1/ 417) وصححه ووافقه الذهبي.
(5) في "الشعب" رقم (3774) وفي "السنن الكبرى" (4/ 187)
وهو حديث ضعيف.
(6) أخرجه البخاري رقم (1461) ومسلم رقم (998)
(7) كالترمذي في "السنن" رقم (1997) والنسائي (6/ 231 - 232).
(8) [آل عمران: 92].
(9) في "السنن الكبرى" (4/ 189). رواه البيهقي مرفوعًا وموقوفا على أنس ولعله أشبه، وهو حديث ضعيف جدا. قاله الألباني في "ضعيف الترغيب" رقم (522).
(10) في "السنن" رقم (2863). وقال: حديث حسن صحيح.(11/5500)
خزيمة (1) وابن حبان في صحيحه (2) والحاكم (3) وصححه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "إن الله أوحى إلى يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن"، فذكر الحديث ... إلى أن قال فيه: "وآمركم بالصدقة، ومثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه، وقربوه ليضربوا عنقه جعل يقول: هل لكم أن أفدي نفسي منكم؟ وجعل يعطي القليل والكثير حتى فدى نفسه" الحديث.
وأخرج البيهقي (4) من حديث عمرو بن عوف قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إن صدقة المسلم تزيد من العمر وتمنع ميتة السوء، ويذهب الله بها الكبر والفخر".
وأخرج ابن خزيمة (5) وابن حبان (6) في صحيحيهما والحاكم (7) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "من جمع مالا حراما ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه". وفي إسناده دراج أبو السمح وهو ضعيف (8).
_________
(1) في صحيحه (2/ 64 رقم 930)
(2) في صحيحه رقم (6233)
(3) في "المستدرك" (1/ 236) وقال: صحيح على شرطهما.
كلهم من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.
(4) في "الكبير" رقم (31). وأورده الهيثمي في "المجمع" (3/ 110) وقال رواه الطبراني و"الكبير"، وفيه كثير بن عبد الله المزني، وهو ضعيف.
(5) في صحيحه رقم (2471).
(6) في صحيحه رقم (797 - موارد).
(7) في "المستدرك" (1/ 390)
(8) دراج بن سمعان، أبو السمح، قيل اسمه عبد الرحمن، ودراج لقب السهمي مولاهم المصري القاص صدوق، في حديثه عن أبي الهيثم ضعف، من الرابعة، مات سنة 126هـ أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة. انظر: "التقريب" رقم (2436).(11/5501)
وأخرج ابن خزيمة في صحيحه (1) من حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "خير الصدقة ما أبقت غني، واليد العليا خير من السفلى، وابدأ بمن تعول، ... ".
وأخرج أبو داود (2) وابن خزيمة في صحيحه (3) والحاكم (4) وقال: صحيح، من حديث أبي هريرة أيضًا أنه قال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: "جهد المقل وابدأ بمن تعول".
وأخرج الترمذي (5) وصححه وابن حبان في صحيحه (6) عن أم بجيد أنها قالت: يا رسول الله، إن المسكين ليقوم على بابي فما أجد له شيئا أعطيه إياه؟ فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إن لم تجدي إلا ظلفا محرقا فادفعيه إليه في يده".
وفي الصحيحين (7) وغيرهما (8) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان من السماء فيقول
_________
(1) في صحيحه رقم (2436).
(2) في "السنن" رقم (1677)
(3) رقم (2451)
(4) في "المستدرك" (1/ 414). وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح
(5) في "السنن" رقم (665)
(6) في صحيحه رقم (2473). وهو حديث صحيح.
(7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4684) ومسلم رقم (1010)
(8) كابن حبان رقم (3323) وأحمد (2/ 305، 306، 347)(11/5502)
أحدهما: "اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا".
وفي الصحيحين (1) وغيرهما (2) من حديثه أيضًا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "قال الله تعالى: يا عبدي، أنفق أنفق عليك، وقال: يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما بيده وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع".
وأخرج مسلم (3) والترمذي (4) من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "يا ابن آدم، إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى".
وأخرج أحمد (5)، وابن حبان في صحيحه (6) والحاكم (7) وصححه والبيهقي (8)، عن أبي الدرداء، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "ما طلعت شمس قط إلا وبجنبتيها ملكان يناديان: اللهم من أنفق فأعقبه خلفا ومن أمسك فأعقبه تلفا".
وفي الصحيحين (9) وغيرهما (10) من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: قال لي رسول
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4684) ومسلم رقم (993)
(2) كأحمد (2/ 242، 313، 500) وابن ماجه رقم (197) وقد تقدم.
(3) في صحيحه رقم (1036)
(4) في "السنن" رقم (1093).
(5) في "المسند" (5/ 197).
(6) في صحيحه رقم (3319)
(7) في "المستدرك" (2/ 444، 445)
(8) في "شعب الإيمان" رقم (3412).
وهو حديث صحيح.
(9) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1433) ومسلم رقم (1029)
(10) كأبي داود رقم (1699) والترمذي رقم (1960)(11/5503)
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "لا توكي فيوكى عليك". وفي رواية (1) "أنفقي، أو انفحي، أو انضحي، ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي الله عليك".
وفي الصحيحين (2) وغيرهما (3) من حديث ابن مسعود عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها".
وفي رواية: (4) "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجلا آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار".
وأخرج الطبراني في الكبير (5)، وأبو الشيخ، ابن حبان (6)، والحاكم (7) وصححه، من حديث بلال قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "يا بلال، مت فقيرا ولا تمت غنيا". قلت: وكيف لي بذلك يا رسول الله؟ قال: "ما رزقت فلا تخبأ، وما سئلت فلا تمنع". فقلت: يا رسول الله، وكيف لي بذلك؟ فقال: "هو ذاك أو النار".
وأخرج الطبراني في الكبير (8) بإسناد رجاله ثقات محتج بهم في الصحيح من حديث
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2591) ومسلم رقم (2331)
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (73) ومسلم رقم (815، 816)
(3) كأبي داود في "السنن" رقم (4208)
(4) أخرجه البخاري رقم (5025) ومسلم رقم (267/ 815)
(5) رقم (1021)
(6) في كتاب "الثواب" كما في "الترغيب" (1/ 700)
(7) في "المستدرك" (4/ 316) وصححه وتعقبه الذهبي فقال: واه.
وهو حديث ضعيف
(8) رقم (5990).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (3/ 124) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله رجال الصحيح وهو حديث صحيح والله أعلم.(11/5504)
سهل بن سعد الساعدي قال: كانت عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سبعة دنانير وضعها عند عائشة فلما كان عند مرضه قال: "يا عائشة، ابعثي بالذهب إلى علي"، ثم أغمي عليه، وشغل عائشة ما به حتى قال ذلك مرارا، كل ذلك يغمى على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ويشغل عائشة ما به، فبعث إلى علي فتصدق بها، وأمسى رسول الله (في جديد الموت) (1) ليلة الاثنين، فأرسلت عائشة بمصباح لها إلى امرأة من نسائه فقالت: "أهدي لنا في مصباحنا من عكتك السمن، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أمسى في جديد الموت".
وأخرج ابن حبان في صحيحه (2) معناه من حديث عائشة.
وأخرج أحمد (3) بإسناد رجاله رجال الصحيح عن عبد الله بن الصامت الغفاري البصري -وهو ثقة- قال: كنت مع أبي ذر فخرج عطاؤه ومعه جارية له، فجعلت تقضي حوائجه، ففضل معها سبعة فأمرها تشتري بها فلوسا، قال: قلت: لو أخرته للحاجة تنوبك أو للضيف ينزل بك؟ قال: إن خليلي عهد إلى أن: "أيما ذهب أو فضة أوكي عليه جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل".
_________
(1) في المخطوط حديد وما أثبتناه من "صحيح الترغيب" (1/ 552). وانظر: "الصحيحة" رقم (2653)
(2) في صحيحه رقم (3212، 3213) ولكن ليست فيه قصة الموت والمصباح.
* عكتك: العكة من "السمن أو العسل" هي وعاء من جلود مستدير تختص بهما، وهو بالسمن أخص.
"النهاية" (3/ 284)
(3) في "المسند" (5/ 165، 176).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (3/ 125) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وهو حديث صحيح.(11/5505)
وأخرجه أيضًا الطبراني (1) بإسناد رجاله رجال الصحيح.
وأخرج أبو يعلى (2) بإسناد رجاله ثقات، والبيهقي (3) من حديث أنس قال: أهديت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ثلاث طوائر، فأطعم خادمه طائرا، فلما كان من الغد أتيته بها، فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "ألم أنهك أن ترفعي شيئا لغد فإن الله يأتي برزق غد".
وأخرج ابن حبان في صحيحه (4) والبيهقي (5) من حديث أنس قال:" كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لا يدخر شيئا لغد".
وأخرج مسلم (6) وغيره (7)! من حديث أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كان يقول: " اللهم إني أعوذ بك من البخل والكسل، وأرذل العمر، وعذاب القبر،
_________
(1) في "الكبير" رقم (1641) وأورده الهيثمي في "المجمع (3/ 125) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" وأحمد بنحوه، ورجاله ثقات، وله طريق رجالها رجال الصحيح.
(2) في مسنده رقم (4223).
(3) في "الشعب" رقم (1348، 1349).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 241) وقال: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.
قال الألباني وفيه من لم يوثقه أحد إلا ابن حبان، وضعفه البخاري والعقيلي -هو هلال بن سويد. انظر: "الضعيفة" رقم (6743).
وهو حديث ضعيف.
(4) رقم (6322، 6344).
(5) في "الشعب" رقم (1464، 1478).
وأخرجه الترمذي في "السنن" رقم (2362) وفي "الشمائل" رقم (347).
وهو حديث صحيح.
(6) بل أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2823) وأطرافه (4707، 6367)، 6371).
(7) كأبي داود رقم (1540) والنسائي في "السنن" (8/ 257)، وأحمد (3/ 113، 117، 179، 231، 235)(11/5506)
وفتنة المحيا والممات".
وأخرج الترمذي (1) من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:" خصلتان لا تجتمعان في قلب مؤمن: البخل، وسوء الخلق".
وأخرج أبو داود (2)، والترمذي (3) بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:" المؤمن غر كريم، والفاجر خب لئيم" (4).
_________
(1) في "السنن" رقم (1962) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صدقة بن موسى وهو حديث صحيح لغيره.
(2) في "السنن" رقم (4760).
(3) في "السنن" رقم (1964) وقال: حديث غريب.
وهو حديث صحيح لغيره.
(4) قال ابن الأثير في "النهاية" (3/ 354 - 355):" المؤمن غر كريم، أي ليس بذي نكر، فهو ينخدع لانقياده ولينه، وهو ضد الخب، يقال فتى غر وفتاة غر، وقد غررت تغر غرارة. يريد أن المؤمن المحمود من طبعه الغرارة، وقلة الفطنة للشر، وترك البحث عنه، وليس ذلك منه جهلا، ولكنه كرم وحسن خلق.
الخب: بالفتح الخداع، وهو الجربز الذي يسعى بين الناس بالفساد رجل خب وامرأة خبة. وقد تكسر خاؤه. فأما المصدر فبالكسر لا غير.
"النهاية" (2/ 4).(11/5507)
[عدل الله في خلقه].
قوله: " يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله عز وجل، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" (1).
_________
(1) قال ابن تيمية في شرحه للحديث (ص89 - 95): في رسالة يا عبادي ... بتحقيقنا.
ثم ختمه بتحقيق ما بينه فيه من عدله وإحسانه فقال:" يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" فبين أنه محسن إلى عباده في الجزاء على أعمالهم الصالحة إحسانا يستحق به الحمد؛ لأنه هو المنعم بالأمر بها، والإرشاد إليها، والإعانة عليها ثم إحصائها ثم توفية جزائها. فكل ذلك فضل منه وإحسان، إذ كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل، وهو وإن كان قد كتب على نفسه الرحمة وكان حقا عليه نصر المؤمنين كما تقدم بيانه، فليس وجوب ذلك كوجوب حقوق الناس بعضهم على بعض الذي يكون عدلا لا فضلا؛ لأن ذلك إنما يكون لكون بعض الناس أحسن إلى البعض فاستحق المعاوضة، وكان إحسانه إليه بقدرة المحسن دون المحسن إليه، ولهذا لم يكن المتعاوضان ليخص أحدهما بالتفضل على الآخر لتكافئها، وهو قد بين في الحديث أن العباد لم يبلغوا ضره فيضروه ولن يبلغوا نفعه فينفعوه فامتنع حينئذ أن يكون لأحد من جهة نفسه عليه حق، بل هو الذي أحق الحق على نفسه بكلماته فهو المحسن بالإحسان وبإحقاقه وكتابته على نفسه فهو في كتابة الرحمة على نفسه وإحقاقه نصر عباده المؤمنين ونحو ذلك محسن إحسانا مع إحسان فليتدبر اللبيب هذه التفاصيل التي يتبين بها فصل الخطاب في هذه المواضع التي عظم فيها الاضطراب فمن بين موجب على ربه بالمنع أن يكون محسنا متفضلا، ومن بين مسوي بين عدله وإحسانه وما تنزه عنه من الظلم والعدوان، وجاعل الجميع نوعا واحدا، وكل ذلك حيد عن سنن الصراط المستقيم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وكما بين أنه محسن في الحسنات متم إحسانه بإحصائها والجزاء عليها بين أنه عادل في الجزاء على السيئات فقال:" ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" كما تقدم بيانه في مثل قوله: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [هود:101] وعلى هذا الأصل استقرت الشريعة الموافقة لفطرة الله التي فطر الناس عليها، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري - (رقم 5947 - البغا) - عن شداد بن أوس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " ففي قوله:" أبوء لك بنعمتك علي " اعتراف بنعمته عليه في الحسنات وغيرها وقوله:" وأبوء بذنبي " اعتراف منه بأنه مذنب ظالم لنفسه، وبهذا يصير العبد شكورا لربه مستغفرا لذنبه، فيستوجب مزيد الخير وغفران الشر من الشكور الغفور، الذي يشكر اليسير من العمل ويغفر الكثير من الزلل.
وهنا انقسم الناس ثلاثة أقسام في إضافة الحسنات والسيئات التي هي: الطاعات والمعاصي إلى ربهم وإلى نفوسهم، فشرهم الذي إذا ساء أضاف ذلك القدر، واعتذر بأن القدر سبق بذلك، وأنه لا خروج له عن القدر فركب الحجة على ربه في ظلمه لنفسه، وإن أحسن أضاف ذلك إلى نفسه ونسي نعمة الله عليه في تيسيره لليسرى، وهذا ليس مذهب طائفة من بني آدم ولكنه حال شرار الجاهلين الظالمين الذين لا حفظوا حدود الأمر والنهي، ولا شهدوا حقيقة القضاء والقدر. كما قال فيه الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به.
وخير الأقسام وهو القسم المشروع وهو الحق الذي جاءت به الشريعة أنه إذا أحسن شكر نعمة الله عليه، وحمده إذ أنعم عليه بأن جعله محسنا ولم يجعله مسيئا، فإنه فقير محتاج في ذاته وصفاته وجميع حركاته وسكناته إلى ربه، ولا حول ولا قوة إلا به. فلو لم يهده لم يهتد، كما قال أهل الجنة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) [الأعراف:43]. وإذا أساء اعترف بذنبه واستغفر ربه وتاب منه وكان كأبيه آدم الذي: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23]. ولم يكن كإبليس الذي قال: (بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر: 39 - 40] ولم يحتج بالقدر على ترك مأمور ولا فعل محظور مع إيمانه بالقدر خيره وشره، وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء ونحو ذلك.
وهؤلاء هم الذين أطاعوا الله في قوله في هذا الحديث:" فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه "- تقدم تخريجه-.
ولكن بسط ذلك وتحقيق نسبة الذنب إلى النفس مع العلم بأن الله خالق أفعال العباد فيه أسرار ليس هذا موضعها. ومع هذا فقوله تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء:78 - 79]، ليس المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعة والمعاصي، كما يظنه كثير من الناس حتى يحرف بعضهم القرآن ويقرأ: (فَمِنْ نَفْسِكَ) ومعلوم أن معنى هذه القراءة يناقض القراءة المتواترة، وحتى يضمر بعضهم القول على وجه الإنكار له وهو قول الله الحق فيجل قول الله الصدق الذي يحمد ويرضى قولا للكفار يكذب به ويذم ويسخط بالإضمار الباطل الذي يدعيه من غير أن يكون في السياق ما يدل عليه.
ثم إن من جهل هؤلاء ظنهم أن في هذه الآية حجة للقدرية - تقدم التعريف بهم - واحتجاج بعض القدرية بها، وذلك أنه لا خلاف بين الناس في أن الطاعات والمعاصي سواء من جهة القدر. فمن قال: إن العبد هو الموجد لفعله دون الله أو هو الخالق لفعله وأن الله لم يخلق أفعال العباد. فلا فرق عنده بين الطاعة والمعصية. ومن أثبت خلق الأفعال وأثبت الجبر أو نفاه، أو أمسك عن نفيه وإثباته مطلقا وفصل المعنى أو لم يفصله فلا فرق عنده بين الطاعة والمعصية. فتبين أن إدخال هذه الآية في القدر في غاية الجهالة. وذلك أن الحسنات والسيئات في الآية المراد به المسار والمضار دون الطاعات والمعاصي، كما في قوله تعالى: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف:168] وهو الشر والخير في قوله: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء:35]. وكذلك قوله: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) [آل عمران:120] وقوله تعالى (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي) [هود:10].وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [الأعراف:94 - 95]. وقوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف:131]. فهذه حال فرعون وملئه مع موسى ومن معه كحال الكفار والمنافقين والظالمين مع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، إذا أصابهم نعمة وخير قالوا: لنا هذه أو قالوا: هذه من عند الله، وإن أصابهم عذاب وشر تطيروا بالنبي والمؤمنين وقالوا: هذه بذنوبهم. وإنما هو بذنوب أنفسهم لا بذنوب المؤمنين. وهو سبحانه ذكر هذا في بيان حال الناكلين عن الجهاد الذين يلومون المؤمنين على الجهاد فإذا أصابهم نصر ونحوه قالوا: هذا من عند الله. وإن أصابتهم محنة قالوا: هذه من عند هذا الذي جاءنا بالأمر والنهي والجهاد، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) إلى قوله: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) إلى قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ) إلى قوله: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا) أي: هؤلاء المذمومين يقولون: (هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) أي: بسبب أمرك ونهيك قال الله تعالى: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) من نعمة (فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء: 71 - 72] أي: فبذنبك. كما قال (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى:30]، وقال (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) [الروم:36].
وأما القسم الثالث: في هذا الباب: فهم قوم لبسوا الحق بالباطل وهم بين أهل الخير وبين شرار الناس وهم الخائضون في القدر بالباطل. فقوم يرون أنهم هم الذين يهدون أنفسهم ويضلونها ويوجبون لها فعل الطاعة وفعل المعصية بغير إعانة منه وتوفيق للطاعة ولا خذلان منه في المعصية. وقوم لا يثبتون لأنفسهم فعلا ولا قدرة ولا أمرا، ثم من هؤلاء من يبخل عنه الأمر والنهي فيكون أكفر الخلق وهم في احتجاجهم بالقدر متناقضون، إذ لا بد من فعل يحبونه وفعل يبغضونه، ولا بد لهم ولكل أحد من دفع الضرر الحاصل بأفعال المعتدين. فإذا جعلوا الحسنات والسيئات سواء لم يمكنهم أن يذموا أحدا ولا يدفعوا ظالما ولا يقابلوا مسيئا وأن يبيحوا للناس من أنفسهم كل ما يشتهيه مشته ونحو ذلك من الأمور التي لا يعيش عليها بنو آدم، إذ هم مضطرون إلى شرع فيه أمر ونهي أعظم من اضطرارهم إلى الأكل واللباس".(11/5508)
لما ذكر لهم سبحانه وتعالى ما هو رأس مصالح المعاش والمعاد: وهو تحريم الظلم، وأنه حرمه على نفسه وجعله محرما بينهم، ثم نهاهم عن التظالم ليتم لهم فيما بينهم سيرة العدل ومسلك الخير.
ثم ذكر لهم ثانيًا: أنهم على ضلال إلا من هداه الله عز وجل وأخرجه من ظلمات(11/5511)
الضلال إلى أنوار الهداية، وأمر بأن يطلبوا منه الهداية ليظفروا بها بخير الآخرة، ويفوزوا بالنعيم المقيم.
ثم ذكر لهما ثالثًا: أن ما يحتاجون إليه في هذه الدار مما تدعو الضرورة إليه ولا يتم المعاش إلا به، وهو قوام الأنفس من الطعام ووقاية الأبدان من ضرر ما لا بد منه البر وستر العورات، وهو من فضله العميم وجوده الواسع، وأمرهم أن يطلبوا ذلك منه ليتفضل به عليهم ويعطيهم طلبتهم، ويسعفهم بقضاء حاجتهم.
ثم ذكر لهم: ما جلبوا عليه من كثرة الخطايا في غالب أوقاتهم، وندبهم إلى ما يمحو ذلك عنهم، ويزيل أثره، وهو الاستغفار، ووعدهم أنه سيغفر لهم ويتجاوز عنهم، ثم ذكر لهم: أنه فعل ما فعل لهم وتفضل بما تفضل به عليهم من غير أن يكون له منهم فائدة أو عليه مضرة، وأنه إنما أعطاهم ما أعطى ومنحهم ما منح لمجرد الفضل العميم والكرم الجسيم.
ثم أخبرهم: بأن عطاه الجم وتفضله العم لا ينقص بكثرة العطايا، وإن يلعب أبلغ المبالغ ووصلت إلى حد يقصر عنه الوصف، ويضيق الذهن عن تصوره، وتقصر العقول عن إدراكه.
ثم بعد هذا كله: أخبرهم بأن ما وجدوه من الخير فهو من إنعامه عليهم لا من كسبهم ولا من سعيهم، ثم أمرهم: بالحمد له سبحانه عليهم، وما وجدوه من غير الخير فهو عقوبة أعمالهم وجزاء ضلالهم، فليعودوا باللوم على أنفسهم في الجالبة لذلك عليهم (وعلى نفسها براقش تجني) (1)، ولولا رحمته التي وسعت كل شيء، ومغفرته للمستغفرين، وتوبته على التائبين، لكانوا أحقاء بما كان لأعمالهم جزاء وفاقا، ولكسب أيديهم مثلا طباقا، وسبحان من كتب على نفسه الرحمة، ومن سبقت رحمته غضبه، وما في هذا الحديث القدسي هو مثل ما في الكتاب العزيز من قوله عز وجل: {مَا
_________
(1) تقدم شرح المثل.(11/5512)
أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (1).
وقوله سبحانه: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} (2).
وقوله سبحانه: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (3).
ولا ينافي ما في هذه الآيات قوله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ ... } (4) إلى آخر الآية.
لأن غاية ما في هذه الآية: أن ذلك سابق في الكتاب وهو اللوح المحفوظ، وكل أسباب الخير والشر سواء كانت من العبد أو من غيره هي في الكتاب، قد سبق العلم بها وجف القلم بما هو كائن، ومثل هذا قوله عز وجل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (5).
والكلام في هذا البحث يطول، وقد أوضحناه في كثير من مؤلفاتنا.
والحاصل أنه لا تعارض بين سبق العلم وكون ما وقع من العبد هو بقضاء الله وقدره وبين عقوبة العاصي بمعصيته، وهذا لا يفهمه إلا من فهم الفرق بين الحقائق الكونية والحقائق الدينية.
قوله: قال سعيد، كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثى على ركبتيه.
أقول: سبب هذا عند رواية هذا الحديث العظيم ما اشتمل عليه من المواعظ، والزواجر، والترغيبات، والترهيبات، والبشارات، والإنذارات.
_________
(1) [النساء: 79].
(2) [طه: 15]
(3) [البقرة: 286].
(4) [الحديد: 22]
(5) [التوبة: 51](11/5513)
وحق لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أنه يحصل معه عند رواية هذا الحديث أو سماعه ما يرجف قلبه، ويقشعر له جلده، خوفا من الله عز وجل وتعظيما لشأنه العظيم.
قوله: "إن الله تبارك وتعالى يقول: يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيته، فاسألوا المغفرة أغفر لكم، ومن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة واستغفرني بقدرتي غفرت له".
ذكر في هذه الرواية أن كل العباد لا يخلو أحد منهم من الذنب إلا من عافاه الله، وفي الرواية الأولى أنهم جميعا يخطئون بالليل والنهار إلا من غفر له، ولا مخالفة بين الروايتين؛ لأن العافية منه عز وجل إذا تفضل بها على عبده عصمه عن مواقعة الذنب، ومن أذنب فقد أمره بأن يسأله المغفرة، وأيضا العافية هي الشاملة لعافية الدنيا والآخرة، ومغفرة الذنوب هي الفرد الكامل من أفرادها، وعليها تدور مصالح المعاد، وبها النجاة من النار والفوز بالجنة، ولهذا قال بعد ذكر العافية في هذه الرواية: "فاسألوني المغفرة أغفر لكم".
وقد ورد في طلب العافية من الرب عز وجل أحاديث متواترة ومنها:
ما أخرجه أحمد (1) والترمذي (2) وحسنه، والنسائي (3)، وابن ماجه (4)، وابن حبان (5) والحاكم (6) وصححاه من حديث أبي بكر الصديق أنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه
_________
(1) في " المسند" (1/ 3، 4، 5، 7، 8، 9، 11) بإسناد حسن.
(2) في "السنن" رقم (3558) وقال: حديث حسن غريب.
(3) في "السنن"، وفي "عمل اليوم والليلة" رقم (879، 888) وفي "السنن الكبرى" (6/ 220 رقم 10715) من طرق عن جماعة من الصحابة وأحد أسانيده صحيح.
(4) في "السنن" رقم (3849)
(5) في صحيحه رقم (952)
(6) في "المستدرك" (1/ 529) وصححه ووافقه الذهبي(11/5514)
وآله وسلم عام أول على المنبر -ثم بكى- فقال: "سلوا الله العفو والعافية، فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية". وإنما لم يصححه الترمذي لأن في إسناده: عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه مقال (1).
وقد حكى البخاري (2) أن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه والحميدي كانوا يحتجون بحديثه.
وأخرج البزار (3) بإسناد رجاله رجال الصحيح -غير موسى بن السائب وهو ثقة- من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "ما سأل العباد شيئا أفضل من أن يغفر لهم ويعافيهم".
وأخرج البزار (4) أيضًا بإسناد رجاله ثقات من حديث أنس قال: مر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بقوم مبتلين فقال: "أما كان هؤلاء يسألون الله العافية".
_________
(1) قال ابن معين: ضعيف، وقال الترمذي: صدوق، وقال ابن حبان: رديء الحفظ. قال الذهبي: حديثه في مرتبة الحسن.
"الميزان" (2/ 484 رقم 4536). وفي "الثقات" (2/ 58 رقم 963): قال العجلي: عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب مدني تابعي ثقة، جائز الحديث.
(2) انظر "الميزان" (2/ 485 رقم 4536)
(3) في مسنده (4/ 51 - 52 رقم 3176 - كشف).
وقال البزار: لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه، وسالم لم يسمع من أبي الدرداء.
وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 174) وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير موسى بن السائب وهو ثقة.
(4) في مسنده (4/ 36 رقم 3134 - كشف).
وقال البزار: لا نعلمه رواه عن حميد إلا ابن عياش.
وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 147) وقال: "رواه البزار وإسناده حسن، ورواه أبو يعلى بنحوه كذلك".(11/5515)
وأخرج الطبراني (1) بأسانيد ورجال بعضها رجال الصحيح -غير يزيد بن أبي زياد وهو حسن الحديث- من حديث العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول الله علمني شيئا أدعو الله تعالى به؟ فقال: "سل ربك العافية". قال: فمكث أياما ثم جئت فقلت: يا رسول الله علمني شيئا أسأله ربي؟ فقال: "يا عم، سل الله العافية في الدنيا والآخرة".
وقد أخرج هذا الحديث الترمذي في سننه (2) قال: "حدثنا بن منيع، حدثنا عبيد بن أحمد عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن العباس بن عبد المطلب، فذكره ... ".
قال الترمذي (3) بعد إخراجه: هذا حديث صحيح، وعبد الله هو ابن الحارث بن نوفل، وقد سمع من العباس بن عبد المطلب. انتهى.
وأخرج الطبراني في الكبير (4) من حديث ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال لعمه العباس: "يا عم، أكثر الدعاء بالعافية". وفي إسناده هلال بن خباب (5) وقد ضعفه جماعة، وهو ثقة كما قال في مجمع الزوائد (6)، وبقية رجاله ثقات.
وأخرج ...................................................................
_________
(1) أورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 175). وقال رواه الطبراني بأسانيد ورجال بعضها رجال الصحيح غير يزيد بن أبي زياد وهو حسن الحديث. قلت: الحديث إسناده حسن.
(2) في "السنن" رقم (3514)
(3) في "السنن" (5/ 535). وهو حديث صحيح.
(4) رقم (11908) وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 175) وقال: رواه الطبراني وفيه هلال بن خباب وهو ثقة وقد ضعفه جماعة وبقية رجاله ثقات.
(5) انظر "التقريب" رقم (7334)، "والميزان" (4/ 312)
(6) (10/ 175).(11/5516)
الترمذي (1) وحسنه من حديث أنس: أن رجلا جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، أي الدعاء أفضل؟ قال: "سل ربك العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة". ثم أتاه في اليوم الثاني فقال: يا رسول الله أي الدعاء أفضل؟ فقال له مثل ذلك. ثم أتاه في اليوم الثالث فقال له مثل ذلك، قال: "فإذا أعطيت العافية في الدنيا وأعطيتها في الآخرة فقد أفلحت".
وأخرج الطبراني أيضًا في الكبير (2) من حديث معاذ بإسناد رجاله رجال الصحيح قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "ما من دعوة أحب إلى الله أن يدعو بها عبد من أن يقول: اللهم إني أسألك المعافاة أو (العافية) (3) في الدنيا والآخرة".
وأخرج الطبراني في الكبير (4) أيضًا من حديث محمد بن عبد الله بن جعفر قال: كنت مع عبد الله بن جعفر إذ جاءه رجل فقال: مرني بدعوات ينفعني الله بهن، قال: نعم سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وسأله رجل عما سألتني عنه فقال: " سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة".
وفي إسناده [سليمان بن داود] (5) الشاذكوني، وفيه ضعف.
وأخرج البزار (6) من حديث ابن عباس قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) في "السنن" رقم (3558) وقال: حسن غريب. وهو حديث ضعيف.
(2) رقم (346) وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 175) وقال رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير العلاء بن زياد وهو ثقة، ولكنه لم يسمع من معاذ.
(3) في "مجمع الزوائد" (والعافية)
(4) أورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 175) وقال رواه الطبراني، وفيه سليمان بن داود الشاذكوني وهو ضعيف.
(5) في المخطوط (سليمان بن موسى) وما أثبتناه من "الميزان" (2/ 205 رقم 3451).
(6) في مسنده (4/ 60 رقم 3196 كشف).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 175) وقال رواه البزار، وفيه يونس بن خباب وهو ضعيف.(11/5517)
يقول: "اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ... " الحديث.
ومن ذلك ما أخرجه الترمذي (1) وحسنه، والنسائي (2)، وابن خزيمة (3) وابن حبان (4) وصححاه، من حديث أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة"، قيل: ماذا نقول يا رسول الله؟ قال: "سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة".
وأخرج النسائي (5) وغيره (6) من حديث أبي هريرة عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "سلوا الله العفو والعافية".
والأحاديث في الباب واسعة جدا.
ولما طلب منهم سبحانه سؤاله المغفرة، أخبرهم بأنه يغفر لهم لمجرد هذا الطلب، ثم ضم إلى ذلك أنه يغفر لمن علم من عباده أنه ذو قدرة على المغفرة واستغفره بقدرته غفر له وكل عبد من العباد وإن كان له من الإسلام أقل حظ يعلم أنه عز وجل يقدر على مغفرة الذنوب، وكيف يشك في ذلك شاك أو يتخالج عبد من عباده ريب، وهو خالق العالم بأسره ورب الكل، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو المتفضل الكريم المطلق،
_________
(1) في "السنن" رقم (3594) وقال: هذا الحديث حسن.
(2) في "السنن الكبرى" (6/ 22 رقم 9895).
(3) في صحيحه رقم (425، 426، 427).
(4) في صحيحه رقم (1696).
قال الألباني: منكر الحديث بهذا التمام.
انظر: "الإرواء" (1/ 362)
(5) في "السنن الكبرى" (6/ 221 رقم 10722).
(6) " كابن حبان رقم (950). وأحمد في "المسند" (1/ 4).
وهو حديث صحيح لغيره.(11/5518)
المتجاوز العفو الغفور.
وفي هذه المفاصلة الفاضلة بشارات:
1 - منها أن عافيته سبحانه تعصم من عافاه من عباده عن الذنوب.
2 - ومنها أنه يغفر للمستغفرين.
3 - ومنها أنه يغفر لمن علم أنه ذو قدرة على مغفرة الذنوب.
فانظر هذه الرحمة الواسعة والفضل الجم والكرم الفياض، وتصوره في الأحوال -ولله المثل الأعلى- لو رأيت بعض ملوك الدنيا وقد أشرف على عبيد له، يقول لهم هذه المقالة، لما وجدت عبارة تفي بوصف ما جبل عليه من الرأفة والرحمة والعلم، مع أنه مخلوق مثلهم، ومحتاج لما يحتاجون إليه من خالقه ورازقه وخالقهم ورازقهم، فكيف إذا كان القائل لهذه المقالة هو خالق السموات والأرض وما فيها، وخالق كل المخلوقات، ورازق جميع من يحتاج إلى الرزق من جميع خلقه، فإنك تجد ذهنك قد ضاف عن تصور بعض البعض من هذه الرحمة الواسعة والحلم العظيم والكرم العميم.
سبحانك ما أعظم شأنك، سبحانك ما أعز سلطانك، سبحانك ما أجل إحسانك، سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأقول (1)
لو كأن لي كل لسان لما ... وفيت بالشكر لبعض النعم
فكيف لا أعجز عن شكرها ... وليس لي غير لسان وفم (2)
قوله:" وكلكم ضال إلا من هديته، فاسألوني الهدى أهدكم".
في هذه الرواية زيادة تصريح على ما في الرواية الأولى لأنه قال هنا:" فاسألوني الهدى أهدكم"، وفيما سبق قال:" فاستهدوني أهدكم"، ومعنى استهدوني: اطلبوا مني
_________
(1) أي الشوكاني رحمه الله
(2) انظر "ديوان الشوكاني" (ص 328). ثم قال:
هذا هو الإفضال هذا العطا الـ ... فياض هذا الجود هذا الكرم(11/5519)
الهداية (1)،والمعنى أنه سبحانه سجل على جميع عباده بالضلال فكان لهذا من الموقع في
_________
(1) قال ابن تيمية في شرحه للحديث: فلما ذكر في أول الحديث ما أوجبه من العدل وحرمه من الظلم على نفسه وعلى عباده ذكر بعد ذلك إحسانه إلى عباده مع غناه عنهم وفقرهم إليه، وأنهم لا يقدرون على جلب منفعة لأنفسهم ولا دفع مضرة إلا أن يكون هو الميسر لذلك، وأمر العباد أن يسألوه ذلك وأخبر أنهم لا يقدرون على نفعه ولا ضره مع عظم ما يوصل إليهم من النعماء ويدفع عنهم من البلاء، وجلب المنفعة ودفع المضرة إما أن يكون في الدين أو الدنيا.
فصارت أربعة أقسام:
الهداية والمغفرة: وهما جلب المنفعة ودفع المضرة في الدين والطعام والكسوة، وهما جلب المنفعة ودفع المضرة في الدنيا.
وإن شئت قلت: الهداية والمغفرة يتعلقان بالقلب الذي هو ملك البدن وهو الأصل في الأعمال الإرادية، والطعام والكسوة يتعلقان بالبدن الطعام لجلب المنفعة واللباس لدفع المضرة، وفتح الأمر بالهداية فإنها وإن كانت الهداية النافعة هي المتعلقة بالدين فكل أعمال الناس تابعة لهدي الله إياهم، كما قال سبحانه: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) [الأعلى: 1 - 3].
وقال موسى: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه:50].
وقال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد:10].
وقال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان:3].
ولهذا قيل الهدى أربعة أقسام:
1 - الهداية إلى مصالح الدنيا فهذا مشترك بين الحيوان الناطق والأعجم وبين المؤمن والكافر.
2 - الهدى بمعنى دعاء الخلق إلى ما ينفعهم وأمرهم بذلك، وهو نصب الأدلة وإرسال الرسل. وإنزال الكتب، فهذا أيضًا يشترك فيه جميع المكلفين سواء آمنوا أو كفروا، كما قال تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) [فصلت:17].
وقال تعالى: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) [الرعد:7].
وقال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى:52]. فهذا مع قوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص:56]، يبين أن الهدى الذي أثبته هو البيان والدعاء والأمر والنهي والتعليم وما يتبع ذلك ليس هو الهدى الذي نفاه وهو القسم الثالث الذي لا يقدر عليه إلا الله.
3 - الهدى الذي هو جعل الهدى في القلوب وهو الذي يسميه بعضهم بالإلهام، والإرشاد وبعضهم يقول: هو خلق القدرة على الإيمان كالتوفيق عندهم ونحو ذلك وهو بناء على أن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل فمن قال ذلك من أهل الإثبات جعل التوفيق والهدى ونحو ذلك خلق القدرة على الطاعة، وأما من قال إنهما استطاعتان:
إحداهما: قبل العقل وهي الاستطاعة المشروطة في التكليف كما في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران:97] ..
والثانية: المقارنة للعقل وهي الموجبة له وهي المنفية عمن لم يفعل في مثل قوله: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) [هود:20].
4 - الهدى في الآخرة، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) [الحج:23 - 24].(11/5520)
قلوب العباد ما تضيق له الصدور وتقشعر له الجلود، ثم فتح [لهم] (1) باب الهداية، وعرفهم أنهم يخرجون من هذه الظلمة إلى النور بمجرد سؤاله عز وجل الهداية لهم، وأنه سيهديهم لا محالة إذا طلبوا ذلك منه، وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد، وقد تقدم بيان سبب كونهم مجبولين على الضلال.
قوله:"وكلكم فقير إلا من أغنيته فسلوني أرزقكم".
هذه الرواية أعم من الرواية الأولى، وأكثر فائدة، فإنه سبحانه هنالك قال:" يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم". فلقد خص في هذه الرواية: الطعام والكسوة لكونهما أهم ما يحتاجه العباد وأعظم ما تدعو حاجتهم إليه.
_________
(1) في المخطوط (لكم) والصواب ما أثبتناه(11/5521)
وأما قوله:" كلكم فقير إلا من أغنيته"، فالافتقار كما يكون إلى الطعام والكسوة يكون أيضًا إلى غيرهما من الشراب والمسكن وما يقوم به المعاش في هذه الدار، ثم قال: "إلا من أغنيته": أي " كفيته جميع ما تدعوا حاجته إليه من كل ما لا بد منه، ثم قال:" فسلوني أرزقكم" فأمرهم بالسؤال مطلقا، وقد تقرر في علم البيان: أن حذف المتعلق مشعر بالعموم (1).
فالمعنى: سلوني ما شئتم حتى أرزقكم إياه وأعطيكم ما تطلبون من كل حاجة تحتاجونها كائنة ما كانت.
_________
(1) قال الزركشي في "البحر المحيط" (3/ 162) حذف المعمول نحو زيد يعطي ويمنع، يشعر بالتعميم، وقوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ) [يونس:25] أي كل أحد وهذا لم يتعرض له الأصوليون، وإنما ذكره أهل البيان، وفيه بحث، فإن ذلك إنما أخذ من القرائن وحينئذ فإن دلت القرينة على أن المقدر يجب أن يكون عاما فالتعميم من عموم المقدر سواء ذكر أو حذف، وإلا فلا دلالة على التعميم فالظاهر أن العموم فيما ذكر إنما هو دلالة القرينة على أن المقدر عام، والحذف إنما هو لمجرد الاقتضاء لا التعميم. وانظر:" معترك الأقران في إعجاز القرآن" (228 - 230).(11/5522)
[ملك الله لا ينقص بالعطاء].
قوله:" ولو أن حيكم وميتكم، وأولكم وآخركم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا فكانوا على قلب أتقى عبد من عبادي، لم ينقص من ملكي جناح بعوضة".
هذه الرواية أشمل من الرواية الأولى لأنه سبحانه قال هناك:" لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ... إلخ" وقال هنا:" لو أن (جميع) (1) حيكم وميتكم"، فصرح بالأموات فكان أوضح من ذكر مجرد ذكر الأولية والآخرية، وقد دخل في قوله:" يا عبادي " الجن كما دخل الإنس.
ثم صرح بما يشمل الأولين والآخرين بقوله:" وأولكم وآخركم" ثم جاء بما يشمل الجمادات كلها ناميها وغيره، فقال:" ورطبكم ويابسكم"، وبهذا تعرف أن في هذه الرواية زيادة فائدتين:
الأولى: التنصيص على الأموات بعد الأحياء.
الثاني (2) ذكر أعم العام وهو كل رطب ويابس.
وأما التعبير بجناح البعوضة فهو لقصد المبالغة في التعميم، ولا نقص أصلا كما تقدم.
قوله:" ولو أن حيكم وميتكم، وأولكم وآخركم، ورطبكم ويابسكم، [اجتمعوا] (3) فسأل كل سائل منهم ما بلغت أمنيته، ما نقص من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بشفة البحر فغمس فيها إبرة ثم نزعها، ذلك بأني جواد ماجد، عطاي كلام، إذا أردت شيئا فإنما أقول له: كن فيكون".
ذكر سبحانه في هذه الرواية أن كل سائل ما بلغت أمنيته، وذكر فيما تقدم أنه أعطى
_________
(1) ليست كلمة (جميع) من متن الحديث. انظر نص الحديث.
(2) صوابه (الثانية)
(3) زيادة من نص الحديث: انظره فقد تقدم آنفا(11/5523)
كل إنسان منهم مسألته، والظاهر أن هذه الرواية أشمل مما تقدم لأنه جعل مدى المسألة ما بلغت إليه أمنيته، وما يتمناه الإنسان من الفوائد العاجلة والآجلة في غاية الكثرة، بخلاف إعطاء السائل مسألته، فإن المسألة قد تكون بالكثير من الفوائد وقد تكون بالواحدة منها، وأما قوله:" فغمس فيها إبرة ثم نزعها"، فهو كقوله في الرواية المتقدمة:" ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط ... "، لأن الإبرة هي المخيط وإن اختلفت في الصغر والكبر.
وأما قوله:" ذلك بأني جواد ماجد عطاي كلام إذا أردت شيئا إنما أقول له: كن فيكون". فهو يفيد أن قوله في الرواية الأولى:" ما نقص مما عندي"، وأن قوله هنا:" ما نقص من ملكي" (1)، ومعناها: من مقدوري، وأما قوله:" إذا أردت شيئا إنما
_________
(1) قال ابن تيمية في شرحه للحديث (ص 82 - 88):
فبين أن جميع الخلائق إذا سألوا وهم في مكان واحد وزمان واحد فأعطى كل إنسان منهم مسألته لم ينقصه ذلك مما عنده، إلا كما ينقص الخياط: (وهي الإبرة) إذا غمس في البحر. وقوله:" لم ينقص مما عندي "فيه قولان:
(أحدهما): أنه يدل على أن عنده أمورا موجودة يعطيهم منها ما سألوه إياه وعلى هذا فيقال: لفظ النقص على حاله، لأن الإعطاء من الكثير.
وإن كان قليلا فلا بد أن ينقصه شيئا ما، ومن رواه:" لم ينقص من ملكي" يحمل على ما عنده، كما في هذا اللفظ فإن قوله:" مما عندي" فيه تخصيص ليس هو في قوله:" من ملكي" وقد يقال: المعطى إما أن يكون أعيانا قائمة بنفسها، أو صفات قائمة بغيرها.
فأما الأعيان: فقد تنقل من محل آخر، كما يوجد نظير علم المعلم في قلب المتعلم من غير زوال علم المعلم، وكما يتكلم المتكلم بكلام المتكلم قبله من غير انتقال كلام المتكلم الأول إلى الثاني، وعلى هذا فالصفات لا تنقص مما عنده شيئا وهي من المسؤول الهادي، وقد يجاب عن هذا بأنه هو من الممكن في بعض الصفات أن لا يثبت مثلها في المحل الثاني حتى تزول عن الأول، كاللون الذي ينقص وكالروائح التي تعبق بمكان وتزول. كما دعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حمى المدينة أن تنقل إلى مهيعة وهي الجحفة (أ).
(أ) أخرجه البخاري رقم (1889، 3926) ومسلم رقم (480/ 1376).
(والقول الثاني): أن لفظ النقص هنا كلفظ النقص في حديث موسى والخضر الذي في الصحيحين (أ) من حديث ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيه:" أن الخضر قال لموسى لما وقع عصفور على قارب السفينة فنقر في البحر فقال يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر " ومن المعلوم أن نفس علم الله القائم بنفسه لا يزول منه شيء بتعلم العباد وغنما المقصود أن نسبة علمي وعلمك إلى علم الله كنسبة ما علق بمنقار العصفور إلى البحر ومن هذا الباب كون العلم يورث كقوله:" العلماء ورثة الأنبياء" (ب) ومنه قوله: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) (جـ) ومنه توريث الكتاب أيضًا كقوله: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) (د) ومثل هذه العبارة من النقص ونحوه تستعمل في هذا وإن كان العلم الأول ثابتا، كما قال سعيد بن المسيب لقتادة، وقد أقام عنده أسبوعا سأله فيه مسائل عظيمة حتى عجب من حفظه وقال: "نزفتني يا أعمى". وإنزاف القليب ونحوه هو رفع ما فيه بحيث لا يبقى فيه شيء، ومعلوم أن قتادة لو تعلم جميع علم سعيد لم يزل علمه من قلبه كما يزول الماء من القليب. لكن قد يقال التعليم إنما يكون بالكلام والكلام يحتاج إلى حركة وغيرها مما يكون بالمحل ويزول عنه، ولهذا يوصف بأنه يخرج من المتكلم كما قال تعالى: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) (هـ).
(أ): تقدم تخريجه مرارا.
(ب): وهو جزء من حديث حسن وقد تقدم.
(جـ) [النمل:16].
(د): [فاطر:32].
(هـ): [الكهف:50].
ويقال قد أخرج العالم هذا الحديث ولم يخرج هذا. فإذا كان تعليم العلم بالكلام المستلزم زوال بعض ما يقوم بالمحل وهذا نزيف وخروج. كان كلام سعيد بن المسيب على حقيقته ومضمونه أنه في تلك السبع الليالي من كثرة ما أجابه وكلمه ففارقه أمور قامت به من حركات وأصوات بل ومن صفات قائمة بالنفس كان ذلك نزيفا.
ومما يقوي هذا المعنى أن الإنسان وإن كان علمه في نفسه فليس هو أمرا لازما للنفس لزوم الألوان للمتلونات، بل قد يذهل الإنسان عنه ويغفل، وقد ينساه ثم يذكره فهو شيء يحضر تارة ويغيب أخرى وإذا تكلم به الإنسان وعلمه فقد تكل النفس وتعيا حتى لا يقوى على استحضاره إلا بعد (مدة) فتكون في تلك الحال خالية عن كمال تحققه واستحضاره الذي يكون به العالم عالما بالفعل، وإن لم يكن نفس ما زال هو بعينه القائم في نفس السائل والمستمع.
ومن قال: هذا يقول كون التعليم يرسخ العلم من وجه لا ينافي ما ذكرناه، وإذا كان مثل هذا النقص والنزيف معقولا في علم العباد كان استعمال لفظ النقص في علم الله بناء على اللغة المعتادة في مثل ذلك، وإن كان هو سبحانه منزها عن اتصافه بضد العلم بوجه من الوجوه أو عن زوال علمه عنه لكن في قيام أفعال به وحركات نزاع بين الناس من المسلمين وغيرهم وتحقيق الأمر أن المراد: ما أخذ علمي وعلمك من علم الله وما نال علمي وعلمك من علم الله وما أحاط علمي وعلمك من علم الله كما قال: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [البقرة: 255]. إلا كما نقص أو أخذ أو نال هذا العصفور من هذا البحر أي: نسبة هذا إلى هذا كنسبة هذا إلى هذا، وإن كان المشبه به جسما ينتقل من محل إلى محل ويزول عن المحل الأول، وليس المشبه كذلك، فإن هذا الفرق هو فرق ظاهر يعلمه المستمع من غير التباس كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر" (متفق عليه). فشبه الرؤية بالرؤية وهي وإن كانت متعلقة بالمرئي في الرؤية المشبهة والرؤية المشبه بها، لكن قد علم المستمعون أن المرئي ليس مثل المرئي فكذلك هنا شبه النقص بالنقص وإن كان كل من الناقص والمنقوص، والمنقوص منه المشبه ليس مثل الناقص والمنقوص والمنقوص منه المشبه به.
ولهذا كل أحد يعلم أن المعلم لا يزول علمه بالتعليم، بل يشبهونه بضوء السراج الذي يحدث يقتبس منه كل أحد ويأخذون ما شاءوا من الشهب وهو باق بحاله. وهذا تمثيل مطابق، فإن المستوقد من السراج يحدث الله في فتيلته أو وقوده نارا من جنس تلك النار، وإن كان قد يقال أنها تستحيل عن ذلك الهواء مع أن النار الأولى باقية. كذلك المتعلم يجعل في قلبه مثل علم المعلم مع بقاء علم المعلم، ولهذا قال علي رضي الله عنه: العلم يزكو على العمل أو قال: على التعليم والمال ينقصه النفقة، وعلى هذا فيقال في حديث أبي ذر أن قوله: " مما عندي" وقوله:" من ملكي" هو من هذا الباب وحينئذ فله وجهان: (أحدهما): أن يكون ما أعطاهم خارجا عن مسمى ملكه ومسمى ما عنده، كما أن علم الله لا يدخل فيه نفس علم موسى والخضر.
(والثاني): أن يقال بل لفظ الملك وما عنده يتناول كل شيء وما أعطاهم فهو جزء من ملكه ومما عنده، ولكن نسبت إلى الجملة هذه النسبة الحقيرة ومما يحقق هذا القول الثاني أن الترمذي روى هذا الحديث من طريق عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر مرفوعًا فيه:" لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ورطبكم ويابسكم سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كمغرز إبرة غمسها أحدكم في البحر وذلك أني جواد ماجد واجد عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون". فذكر سبحانه أن عطاءه كلام وعذابه كلام يدل على أنه هو أراد بقوله:" من ملكي " "ومما عندي" أي: من مقدوري فيكون هذا في القدرة كحديث الخضر في العلم والله أعلم.
ويؤيد ذلك أن في اللفظ الآخر الذي في نسخة أبي مسهر:" لم ينقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص البحر" وهذا قد يقال فيه: إنه استثناء منقطع أي: لم ينقص من ملكي شيئا لكن يكون حاله حال هذه النسبة وقد يقال: بل هو تام والمعنى على ما سبق.(11/5524)
أقول له كن فيكون "، فالمراد بالشيء: هو المعلوم له عز وجل قبل إبداعه، وقبل توجيه هذا الخطاب إليه، وليس المراد بالشيء هو الموجود في الخارج، فإن ذلك يستلزم تحصيل الحاصل، وهو محال.
فالحاصل أن هذا من خطاب التكوين: وهو الذي يكون به عز وجل المخاطب ويخلقه به بدون طلب فعل من المخاطب ولا قدرة للمخاطب ولا إرادة ولا وجود، بخلاف خطاب التكليف (1) فإنه: الذي يطلب به من المأمور فعلا أو تركا يفعله بقدرته وإرادته، وإن كان ذلك جميعه بحول الله وقوته، وقد اختلف الناس في:" خطاب التكليف هل يصح أن يخاطب به المعدوم أم لا؟ " والبحث مستوفى في الأصول (2).
_________
(1) قال ابن تيمية: إن الإرادة نوعان إرادة الخلق وإرادة الأمر، فإرداة الأمر أن يريد من المأثور فعل ما أمر به، وإرادة الخلق أن يريد هو خلق ما يحدثه من أفعال العباد وغيرها. والأمر مستلزم للإرادة الأولى دون الثانية. والله تعالى أمر الكافر بما أراده منه بهذا الاعتبار. فإنه لا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد وإرادة الخلق هي المشيئة المستلزمة لوقوع المراد، فهذه الإرادة لا تتعلق إلا بالموجود، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ... ".
"منهاج السنة النبوية" (1/ 388)، (2/ 296)، "إرشاد الفحول" (ص74).
(2) قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص 77): وقع الخلاف بين الأشعرية والمعتزلة هل المعدوم مكلف أم لا؟. فذهب الأولون إلى الأول، والآخرون، إلى الآخر، وليس مراد بتكليف المعدوم أن الفعل أو الفهم مطلوبان منه حال عدمه فإن بطلان هذا معلوم بالضرورة فلا يرد عليهم ما أورده الآخرون من أنه إذا امتنع تكليف النائم والغافل امتنع تكليف المعدوم بطريق الأول، بل مرادهم التعلق العقلي أي توجه الحكم في الأزل إلى من علم الله وجوده مستجمعا شرائط التكليف واحتجوا بأنه لو لم يتعلق التكليف بالمعدوم لم يكن التكليف أزليا لأن توقفه على الوجود الحادث يستلزم كونه حادثا واللازم باطل؛ فالملزوم مثله لأنه أزلي لحصوله بالأمر والنهي وهما كلام الله وهو أزلي، وهذا البحث يتوقف على مسألة الخلاف في كلام الله سبحانه، وهي مقررة في علم الكلام.
واحتج الآخرون بأنه لو كان المعدوم يتعلق به الخطاب لزم أن يكون الأمر والنهي والخبر والنداء والاستخبار من غير متعلق موجود وهو محال، ورد بعدم تسليم كونه محالا بل هو محل النزاع.
قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" بعد ذلك (ص78): وتطويل الكلام في هذا البحث قليل الجدوى بل مسألة الخلاف في كلام الله سبحانه وإن طالت ذيولها وتفرق الناس فيها فرقا وامتحن بها من امتحن من أهل العلم وظن من ظن أنها من أعظم مسائل أصول الدين ليس لها كثير فائدة، بل هي من فضول العلم. ولهذا صان الله سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم عن التكلم فيها.(11/5527)
ومن التكوين: ما أخرجه مسلم (1) وغيره (2) عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "إن الله خلق مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة".
وما أخرجه البخاري (3) وغيره (4) من حديث عمران بن حصين عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض".
ومن ذلك حديث (5) "إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: ما
_________
(1) في صحيحه رقم (16/ 1653).
(2) كالترمذي رقم (2156).
(3) في صحيحه رقم (3190).
(4) كالنسائي في "الكبرى" رقم (11240)
(5) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (2155) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه وهذا الشطر المذكور من الحديث حسن والله أعلم. قال القرطبي في "المفهم" (6/ 668 - 669) قوله: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة". أي: أثبتها في اللوح المحفوظ، أو فيما شاء، فهو توقيت للكتب، لا للمقادير، لأنها راجعة إلى علم الله تعالى وإرادته، وذلك قديم لا أول له، ويستحيل عليه تقديره بالزمان، إذ الحق سبحانه وتعالى بصفاته موجود، ولا زمان ولا مكان، وهذه الخمسون آلأف سنة سنون تقديرية، إذ قبل خلق السموات لا يتحقق وجود الزمان، فإن الزمان الذي يعبر عنه بالسنين والأيام والليالي إنما هو راجع إلى أعداد حركات الأفلاك، وسير الشمس، والقمر في مدة في علم الله تعالى لو كانت السموات موجودة فيها لعددت بذلك العدد، وهذا نحو مما قاله المفسرون في قوله: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [الأعراف: 54] أي: في مقدار ستة أيام، ثم هذه الأيام كل يوم منها مقدار ألف سنة من سني الدنيا. كما قال تعالى: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج: 47]. وكقوله تعالى: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) [السجدة: 5].
هذا قول ابن عباس وغيره من سلف المفسرين على ما رواه الطبري في "تاريخه" عنهم ويحتمل أن يكون ذكر الخمسين ألف جاء مجيء الإغياء في التكثير، ولم يرد عين ذلك العدد، فكأنه قال: كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق هذا العالم بآحاد كثيرة وأزمان عديدة وهذا نحو مما قلناه في قوله تعالى: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) [التوبة: 80]، والأول: أظهر وأولى.
وقال القاضي عياض في "الإيمان من إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم" (2/ 696 - 697) وفيه -الحديث- حجة لمذهب أهل السنة في الإيمان بصحة كتاب الوحي المقادير في كتب الله تعالى من اللوح المحفوظ وما شاء بالأقلام التي هو تعالى يعلم كيفيتها على ما جاءت به الآيات من كتاب الله، والأحاديث الصحيحة -انظر ما تقدم منها- وأن ما جاء في ذلك على ظاهره، لكن كيفية ذلك وجنسه وصورته مما لا يعلمه إلا الله أو من أطلعه على غيبه من ذلك من ملائكته ورسله ومما لا يتأوله ويحيله عن ظاهره إلا ضعيف النظر والإيمان". إذا جاءت به الشريعة ودلائل العقول لا تحيله. والله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، حكمة من الله، وإظهارا لما شاء من غيبة لمن شاء من ملائكته وخلقه وإلا فهو الغني عن الكتب والاستذكار لا إله غيره.
انظر: "مجموع الفتاوى" (3/ 148) (7/ 381 - 386).
انظر: "فتح الباري" (3/ 245 - 247) (6/ 477 - 515)، "شفاء العليل" لابن القيم (1/ 91).(11/5528)
أكتب؟ قال: ما هو كائن إلى يوم القيامة".
فالمراد (في الآية) (1) أنه سبحانه يقول للشيء الثابت في علمه كن فيكون، وليس المراد أنه يقول للشيء الموجود في الخارج في كن فيكون حتى يلزم المحال، فالذي يقال له كن هو الذي يراد قبل أن يخلق لأنه متميز في علم الله سبحانه وسابق قدره.
قوله في الرواية الثالثة: "يا ابن آدم كلكم مذنب إلا من عافيت، فاستغفروني أغفر لكم".
أخبر سبحانه عباده بأنهم متلوثون بالذنوب مقارفون للمعاصي للعلة التي ذكرناها فيما تقدم إلا من عافاه الله منهم من الوقوع في موجبات الذنوب وأسبابها، وهؤلاء المذنبون قد فتح لهم عز وجل باب الرحمة، وندبهم إلى الاستغفار، وسد باب الإياس وأغلقه، لأنه سبحانه لا يتعاظمه ذنب كائنا ما كان حتى الشرك بالله! والكفر به!، فإنه لا خلاف أن الكافر إذا أسلم غفر الله له ذنوبه وجب الإسلام ما قبله، ولهذا يقول سبحانه: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ... } إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا} (2) وفي الآية الأخرى: {فَإِنْ تَابُوا} إلى قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (3). وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} إلى قوله: {أَفَلَا يَتُوبُونَ .... } (4).
فالتوبة من هذا الذنب الذي هو أشد الذنوب تمحوه! ويصير التائب من الذنب كمن لا ذنب له! وما عدا ذلك من الذنوب فالاستغفار يرفعه لأن مجرد الاستغفار مشعر بالتوبة إلا أن يكون الذنب من حقوق بني آدم المالية، فلا توبة منه إلا برده أو استطابة نفس
_________
(1) يشير إلى قوله تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل: 40].
(2) [التوبة: 5]
(3) [التوبة: 11]
(4) [المائدة: 73 - 74].(11/5530)
مالكه، وكذلك ما كان من حقوق بني آدم من الدماء فلا توبة إلا ببذل النفس للقصاص، أو الأرش فيما لا قصاص فيه، أو الإبراء، وما كان منها في الأعراض فلا بد من التحلل الكائن عن رضا وطيبة نفس، وإذا لم يحصل شيء من ذلك فالموعد القيامة بين يدي الحاكم العدل.
وقد أخرج مسلم (1)! وغيره (2) من حديث أبي سعيد عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض من مظالم كانت بينهم في الدنيا، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ... ".
وصح (3) عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه في دم أو مال فيتحللها منه قبل أن يأتي يوم ليس فيه درهم ولا دينار إلا الحسنات والسيئات، فإن كان له حسنات أخذ من حسناته بقدر مظلمته، وإلا أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم طرح في النار".
وأخرج البخاري في كتاب الأدب (4)، واستشهد به في صحيحه (5)، وأحمد (6)، وغيره (7) من حديث جابر قال: "إذا كان يوم القيامة فإن الله يجمع الخلائق في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه
_________
(1) بل أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2440) وطرفه (6535)
(2) كأحمد في "المسند" (3/ 13، 57، 63، 74).
(3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (449) وطرفه (6534) في كتاب "المظالم والغصب" باب رقم (10/ 10) وفي كتاب الرقاق باب (48/ 48) القصاص يوم القيامة.
(4) في "الأدب المفرد" رقم (973)
(5) أي البخاري في صحيحه (1/ 173 - 174 رقم 78) تعليقا بصيغة الجزم.
(6) في مسنده (3/ 495).
(7) انظر "فتح الباري" (1/ 174)(11/5531)
من قرب: أنا الملك الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ولأحد من أهل الجنة قبله مظلمة حتى أقضيه منه".
قوله: "وكلكم فقير إلا من أغنيت فسلوني أعطكم".
في هذا إرشاد للعباد إلى التوكل (1) على ربهم في أرزاقهم، وأن جميعهم فقراء إلا من
_________
(1) قال ابن تيمية في "شرح حديث:" يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي" ص62، وأما قوله: "يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ... " يقتضي أصلين عظيمين:
أحدهما: وجوب التوكل على الله في الرزق المتضمن جلب المنفعة كالطعام ودفع المضرة كاللباس، وأنه لا يقدر غير الله على الإطعام والكسوة قدرة مطلقة، وإنما القدرة التي تحصل لبعض العباد تكون على بعض أسباب ذلك ولهذا قال سبحانه: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 233].
وقال: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ) [النساء: 5].
فالمأمور به هو المقدور للعباد وكذلك قوله: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، َتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) [البلد: 14، 15، 16].
وقوله: (وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) [الحج: 36] ... فذم من يترك المأمور به اكتفاء بما يجري به القدر، ومن هنا يعرف أن السبب المأمور به أو المباح لا ينافي وجوب التوكل على الله في وجود السبب بل الحاجة والفقر إلى الله ثابتة مع فعل السبب إذ ليس في المخلوقات ما هو وحده سبب تام لحصول المطلوب، ولهذا لا يجب أن تقترن الحوادث بما قد يجعل سببا إلا بمشيئة الله تعالى فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فمن ظن الاستغناء بالسبب عن التوكل فقد ترك ما أوجب الله عليه من التوكل، وأخل بواجب التوحيد، ولهذا يخذل أمثال هؤلاء إذا اعتمدوا على الأسباب فمن رجا نصرا أو رزقا من غير الله خذله الله كما قال علي رضي الله عنه: لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه وقد قال تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فاطر: 2]. وهذا كما أن من أخذ في التوكل تاركا لما أمر به من الأسباب فهو أيضًا جاهل ظالم، عاص لله يترك ما أمره، فإن المأمور به عبادة لله وقد قال تعالى: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود: 123].
وقال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5].(11/5532)
أغناه الله، فدفع الفقر لا يغني فيه سعي ولا كسب، ولا حيلة للعبد في شيء من ذلك، بل الغنى بيد الله عز وجل، من أفاض عليه من خزائن ملكه صار غنيا، ولا ينافي ذلك السعي في أسباب الرزق، كما في قوله عز وجل: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ .... } (1).
فإن الله عز وجل هو مسبب الأسباب، وهو الفاتح لأبواب الخير، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} (2) الآية.
وقال سبحانه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} (3).
قوله: "وكلكم ضال إلا من هديت فسلوني الهدى أهدكم، ومن استغفرني وهو يعلم أني ذو قدرة على أن أغفر له، غفرت له ولا أبالي".
لما كان أصل هذا النوع الإنساني الضلال والجهل، لأن الهدى والعدل لا بد أن يتقدمه علم، إذ من لا يعلم لا يدري ما العدل ولا ما الهدى حتى يعلم بذلك، فأخبر الله سبحانه عباده أن كلهم ضال إلا من هداه عز وجل، فهو الهادي، لا هادي سواه، ثم أرشدهم إلى أن يسألوه الهداية لهم، وكفل لهم إذا سألوه ذلك أن يجيبهم ويمنحهم ما سألوه، ويعطيهم ما طلبوه، ثم أرشدهم إلى أن يطلبوا منه المغفرة لذنوبهم بعد أن يعلموا أنه ذو قدرة على ذلك، وكل مسلم يعلم ذلك، فالتقييد بهذه الزيادة فيه الإشعار لهم بأنه
_________
(1) [الملك: 15]
(2) [فاطر: 2]
(3) [يونس: 107](11/5533)
سيغفر لهم لا محالة، لأنه لا يوجد مسلم يخالف في هذه القدرة الربانية على مغفرة الذنوب، ثم زيادة قوله سبحانه: "ولا أبالي" تفيد مزيد التأكيد أنه فاعل لذلك، وأنه لا يتعاطفه شيء، ولا يبالي من شيء، ومن ذاك الذي يبالي به رب العالم وخالق الكل، والجميع عبيده وخلقه وتحت قدرته وتصرفه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقد قدمنا شرح هذه الكلمات المذكورة في هذه الرواية الثالثة فيما قبلها، ولكنا نتعرض لمزيد فائدة وتقييد شاردة.
قوله: "ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا على قلب أشقى رجل منكم، ما نقص ذلك من سلطاني مثل جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زادوا في سلطاني مثل جناح بعوضة".
قد قدمنا الكلام على [هذا] (1) الفصل مستوفى، والمراد من هذا أنه سبحانه بين لهم أنه يحسن إليهم بما سبق ذكره وغيره، ولا يزيد إحسان المحسنين في سلطانه شيئا، فإن ذلك إنما هو عادة المخلوقين، فإن غالب أعطياتهم لبعضهم البعض لجلب النفع أو دفع الضر، وأما رب العالم وخالقهم ومحييهم ومميتهم فهو الغني المطلق، الذي لا يبلغ عابده نفعه ولا يستطيعون ضره، وكيف يستطيع ذلك من هو في الضعف والعجز بمكان، بحيث لا يجلب لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا، فكيف يقدر على أن يجلب لغيره من المخلوقات نفعا أو يدفع عنهم ضرا، فتعالى الله الملك الحق وتقدس عن أن يقع في خلد أحد من عباده، مسلمهم وكافرهم، ومطيعهم وعاصيهم، أنه يعود إلى ربه الخالق له، والرازق والمحيي له والمميت، زيادة في سلطانه من طاعته أو نقص فيه من عصيانه.
قوله:" ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم، سألوني
_________
(1) في المخطوط (هذه) والصواب ما أثبتناه.(11/5534)
حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم، فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كمغرز إبرة لو غمسها أحدكم في البحر، وذلك أني جواد ماجد، عطاي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له: كن فيكون".
هذا الفصل قد تقدم شرحه مستوفى فلا نطيل الكلام عليه.
وإلى هنا انتهى الشرح لحديث أبي ذر في شهر محرم سنة: (1240 هـ) بقلم مؤلفه محمد بن علي الشوكاني، غفر الله لهما.(11/5535)
(181) 9/ 5
سؤال وجواب في فقراء الغرباء الواصلين إلى مكة من سائر الجهات ومكثهم في المسجد الحرام
تأليف:
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(11/5537)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: سؤال وجواب في فقراء الغرباء الواصلين إلى مكة من سائر الجهات ومكثهم في المسجد الحرام.
2 - موضوع الرسالة: آداب.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد فإنه وصل هذا السؤال من مكة المشرفة وهذا لفظه:
4 - آخر الرسالة: ...... ربما يقول به قائل ممن لا يعقل حجج الله، ولا يفهم براهينه وفي هذا المقدار كفاية والله ولي التوفيق.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 5 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 30 سطرا. ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها خمسة أسطر.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5539)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد:
فإنه وصل السؤال من مكة المشرفة، وهذا لفظه:
ما قولكم - رضي الله عنكم- في فقراء الغرباء الواصلين إلى مكة - شرفها الله - الواردين إليها من سائر الجهات، ومكثهم في المسجد الحرام بما معهم من الأمتعة، واتخاذهم إياه مسكنا، ونومهم فيه من صحيح ومريض وجريح، مع كشف عورات أغلبهم، وكثرة صياحهم وتشويشهم على المصلين في آخر المسجد مع الإمام اشتباه الإمام عليهم، ولو كان مبلغ بسبب رفع أصواتهم وترك بعضهم الصلاة مع الجماعة، ومنهم لغالب بقاع المسجد على المصلين بما معهم من الأمتعة المسترذلة، وتلويثهم المسجد بالأوساخ، والبزاق، والمخاط، والقيح والدم، والبول، والغائط المشاهد كل ذلك حسا وعيانا، المؤدي ذلك إلى هتك حرمة البيت الشريف الواجب تعظيمه وتوقيره، والمكث فيه مع الجنابة. وعلى ذلك مما هو مستقبح شرعا هل يباح مكثهم فيه على ما ذكر قياسا على فقراء المهاجرين من أهل الصفة (1) من الصحابة الكرام الذين أشرقت عليهم أنواره - عليه الصلاة والسلام - أم لا يباح ذلك؟ وعلى ولاة الأمر من القضاة والحكام منعهم وإخراجهم عنه، ولو منعوا من سكنى ما كان لهم من أربطة ودور ونحوها واستيلاء الغير عليها؟ أفيدوا بالجواب، ولكم من الله الوهاب جزيل الثواب آمين.
_________
(1) أهل الصفة: كانوا أضياف الإسلام، كانوا يبيتون في صفة مسجده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو موضع مظلل من المسجد. ولمزيد تفصيل عن أهل الصفة انظر كتاب "رجحان الكفة في بيان نبذة من أخبار أهل الصفة "للعلامة الحافظ: محمد بن عبد الرحمن السخاوي. تحقيق أبي عبيدة وأبي حذيفة ط. دار السلف(11/5543)
أجاب مولانا العلامة البدر محمد بن علي الشوكاني - كثر الله فوائده -.
أقول: حامدا لله - سبحانه -، ومصليا على رسوله وآله - قد ثبت في هذه الشريعة المطهرة تنزيه المساجد على العموم بما هو دون هذه الأمور المذكورة في السؤال بكثير، فكيف بالمسجد الحرام الذي له من الفضائل الجزيلة، والمناقب الجميلة ما يصعب حصره، وتعسر الإحاطة به! وهو بيت الله - سبحانه - في أرضه، وقبلة العالم، ومكان حجهم! فمن جملة ما ورد في تنزيه المساجد على العموم ما أخرجه الشيخان (1) وغيرهما (2) عن ابن عمر قال:" بينما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوما إذ رأى نخامة في قبلة المسجد، فتغيظ على الناس ثم حكها قال: وأحسبه قال: فدعا بزعفران فلطخه به، وقال:" إن الله قبل وجه أحدكم إذا صلى فلا يبصق بين يديه".
وأخرج ابن ماجه (3) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده القاسم بن مهران، وهو مجهول (4)، وأخرج نحوه ابن خزيمة في صحيحه (5) من حديث أبي سعيد، وأخرج أيضا
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (406) ومسلم رقم (547) عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى بصاقا في جدار القبلة، فحكه، ثم أقبل على الناس فقال:" إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه إذا صلى".
(2) كأبي داود رقم (479) واللفظ له.
(3) في:"السنن" رقم (1022).
قلت: وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (550) وأحمد (2/ 250)، وهو حديث صحيح
(4) بل هو القاسم بن مهران القيسي [مسلم، النسائي، ابن ماجه] خال هشيم فثقة. له عن أبي رافع الصائع، وعنه شعبة وعبد الوارث. وثقه ابن معين. حديثه في الزجر في القبلة.
"ميزان الاعتدال" (3/ 380 رقم 6849).
(5) (2/ 46، 63 رقم 880،926) وأخرجه أبو داود رقم (480) واحمد (3/ 24) والحاكم (1/ 257) بإسناد حسن.
عن أبي سعيد الخدري قال: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعجبه العرجين أن يمسكها بيده، فدخل المسجد ذات يوم، وفي يده واحد منها، فرأى نخامات في قبلة المسجد فحتهن حتى أنقاهن، ثم أقبل على الناس مغضبا فقال:" أيحب أحدكم أن يستقبله رجل فيبصق في وجهه، إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة، فإنما يستقبل ربه، والملك عن يمينه فلا يبصق بين يديه ولا عن يمينه".(11/5544)
نحوه أبو داود وغيره (1) من حديث ابن عمر أيضا. وأخرج أبو داود (2)، وابن خزيمة (3)، وابن حبان (4) في صحيحيهما عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -:" من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه". وأخرجه الطبراني في الكبير (5) عن أبي أمامة بنحوه.
وأخرجها ابن حبان (6)، وابن خزيمة (7) في صحيحيهما، والبزار (8) عن ابن عمر بنحوه.
وأخرج الشيخان (9) وغيرهما (10) من حديث أنس عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -
_________
(1) أخرجه ابن خزيمة رقم (1312 و1313) وابن أبي شيبه (2/ 365).
(2) في "السنن" رقم (3824)
(3) في صحيحه (2/ 63 رقم 925)
(4) في صحيحه رقم (1637) من حديث حذيفة. وهو حديث صحيح
(5) (8/ 293 رقم 7960) عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من بزق في قبلته ولم بوارها جاءت يوم القيامة أحماما تكون حتى تقع بين عينيه".
وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 19) وقال: وفيه جعفر بن الزبير وهو ضعيف جدا.
قلت وهو حديث ضعيف جدا
(6) في صحيحه رقم (1636).
(7) في صحيحه رقم (2/ 278 رقم 1313)
(8) في مسنده (رقم 413 - كشف).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 19) وقال رواه البزار وفيه عاصم بن عمر، ضعفه البخاري وجماعة وذكره ابن حبان في الثقات. وهو حديث صحيح.
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه".
(9) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (415) ومسلم رقم (552)
(10) كأبي داود رقم (475) والنسائي (2/ 51)(11/5545)
قال:" البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها" وأخرجه أحمد (1) من حديث أبي أمامة بإسناد لا بأس به. وأخرج [1أ] أبو داود (2) وابن حبان في صحيحه (3) عن أبي سهلة السائب بن خلاد من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: (أن رجلا أم قوما فبصق في القبلة، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ينظر، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: لا يصلي بكم هذا ". فأراد بعد ذلك أن يصلى بهم فمنعوه، وأخبروه بقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال:" نعم" قال: وأحسبه قال:" إنك آذيت الله ورسوله").
وأخرجه الطبراني في الكبير (4) بنحوه من حديث ابن عمرو، وذكر أن الصلاة هي الظهر. وأخرج الطبراني (5) بإسناد فيه نظر عن أبي أمامة رفعه قال:" إن العبد إذا قام في الصلاة فتحت له الجنان، وكشف له الحجب بينه وبين ربه، واستقبلته الحور العين ما لم يتمخط أو يتنخع". والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا. وقد ثبت النهي عن إنشاد الضالة في المسجد، وهو في الصحيح (6).
_________
(1) في "المسند" (5/ 260).
وأخرجه ابن أبي شيبة (2/ 365) والطبراني رقم (8091، 8092، 8093، 8094). وهو حديث حسن لغيره.
(2) في "السنن" رقم (481)
(3) رقم (1634). وهو حديث حسن
(4) كما في "المجمع" (2/ 20) وقال رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله ثقات وهو حديث حسن.
(5) كما في "المجمع" (2/ 19 - 20) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" من طريق طريف بن الصلت عن الحجاج بن عبد بن هرم، ولم أجد من ترجمها. وهو حديث ضعيف
(6) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (568) وأبو داود رقم (473) وابن ماجه رقم (767) وابن حبان في صحيحه رقم (1649) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا ". وهو حديث صحيح.(11/5546)
وثبت أيضًا النهي عن البيع والشراء (1) والخصومة، ورفع الأصوات، ومن ذلك ما أخرجه ابن ماجه (2) من حديث واثلة بن الأسقع أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال:" جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وشراءكم وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمروها في الجمع".
وأخرجه الطبراني في الكبير (3) من حديث أبي الدرداء، وأبي أمامة، وواثلة، ورواه في الكبير (4) أيضًا بتقديم وتأخير من رواية مكحول عن معاذ، ولم يسمع منه.
_________
(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا رأيتم من كان يبيع، أو يبتاع في المسجد، فقولوا لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالة، فقولوا: لا رد الله عليك".
أخرجه الترمذي رقم (1321) والنسائي في "عمل اليوم والليلة " رقم (176) وابن خزيمة (2/ 274) وابن حبان رقم (1650) والحاكم (2/ 56). وهو حديث صحيح.
(2) في "السنن" رقم (750).
وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 265 رقم 282): هذا إسناد ضعيف أبو سعيد هو محمد بن سعيد الصواب، قال أحمد عمدا كان يضع الحديث. وقال البخاري: تركوه وقال النسائي: كذاب.
قلت: والحارث بن نبهان ضعيف ... وهو حديث ضعيف جدا
(3) عزاه إليه الهيثمي في "المجمع" (2/ 19 - 20) وقال رواه الطبراني في "الكبير" من طريق طريف بن الصلت عن الحجاج بن عبد الله بن هرم، ولم أجد من ترجمهما.
(4) في "المعجم الكبير" (20،173 رقم 369).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 26) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" ومكحول لم يسمع من معاذ".
قلت: وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف " (1/ 441 - 442 - 1726) عن عبد ربه بن عبد الله عن مكحول ليس بينهما يحيى بن العلاء.
وخلاصة القول أن الحديث ضعيف والله أعلم.(11/5547)
وأخرج الترمذي (1)، وقال حديث حسن صحيح، والنسائي، وابن خزيمة، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم من حديث أبي هريرة عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال:" إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالة فقولوا: لا ردها الله عليك ". وأخرج ابن حبان في صحيحه (2) الشطر الأول منه.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه قد ثبت في إنزال الغرباء في المساجد أحاديث منها أحاديث إنزال أهل الصفة بمسجده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وهي ثابتة في كتب الحديث والسير، والصفة موضع مظلل في مؤخرة المسجد يأوي إليه المساكين من المهاجرين، وأنزل فيها أيضًا رهطا من عكل لما قدموا على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما في البخاري (3) وغيره (4) من حديث أنس، وأنزل وفد ثقيف المسجد. كما أخرجه أبو داود (5) من حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي، وأخرجه الطبراني في الكبير (6) من حديث عطية بن عبد الله بن سفيان، وفي إسناده محمد بن إسحاق، وقد عنعنه، ومنها ما أخرجه أحمد (7) والطبراني (8) من حديث أسماء بنت يزيد:" أن أبا ذر كان يخدم رسول
_________
(1) تقدم تخريجه آنفا. وهو حديث صحيح
(2) رقم (1650)
(3) في صحيحه رقم (233) ومن أطرافه [1501، 3018، 4192، 4193 ... ]
(4) كمسلم في صحيحه رقم (1671).
عكل: بضم المهملة وإسكان الكاف قبيلة من تميم الرباب، من عدنان.
(5) في "المراسيل" (ص 80 رقم 17) بسند رجاله ثقات
(6) لم أعثر عليه في المعجم الكبير
(7) في "المسند" (6/ 457) بإسناد ضعيف.
(8) في "الكبير" رقم (1623).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 222 - 223) وقال: رواه أحمد والطبراني بعضه في "الكبير" وفيه شهر بن حوشب وفيه كلام وقد وثق.(11/5548)
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فإذا فرغ من خدمته أوى إلى المسجد، وقد كان بيته فيضطجع فيه".
وأخرجه الطبراني في الأوسط (1) من حديث أبي ذر نفسه. وثبت في الصحيحين (2) وغيرهما:" أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربط ثمامة بن أثال بسارية من سواري المسجد " وثبت أيضًا في الصحيحين (3) وغيرهما:" أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنزل سعد بن معاذ في المسجد ليعوده من قريب، فلم يرعهم، وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل إليهم "الحديث.
وثبت عند البخاري (4) وغيره من حديث عائشة في شأن المرأة السوداء في قصة
_________
(1) رقم (4456).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 223) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا أن أبا سلسل ابن نفير لم يدرك أبا ذر.
وأخرجه أحمد في "المسند" (5/ 144) بسند ضعيف.
وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 223) وقال: رواه أحمد وفيه شهر بن حوشب وهو ضعيف وقد وثق.
(2) أخرجه البخاري رقم (469) ومسلم رقم (541)
(3) أخرجه البخاري رقم (4122) ومسلم رقم (1769)
(4) في صحيحه رقم (439) عن عائشة رضي الله عنها قالت أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها فكانت معهم. قالت: فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور قالت فوضعته أو وقع منها. فمرت به حدياة وهو ملقى فحسبته لحما فخطفته، قالت فالتمسوه فلم يجدوه قالت. فاتهموني به قالت: فطفقوا يفتشون، حتى فتشوا قبلها، قالت: والله إني لقائمة معهم إذ مرت الحدياة فألقته، قالت: فوقع بينهم. قالت: فقلت هذا الذي اتهمتموني به زعمتم وأنا منه بريئة. وهو ذا هو، قالت: فجاءت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلمت. قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حفش قالت: فكانت تأتيني فتحدث عندي، قالت: فلا تجلس عندي مجلسا إلا قالت:
ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ... ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني
قالت عائشة: فقالت لها: ما شأنك لا تقعدين معي مقعدا إلا قلت هذا فحدثتني بهذا الحديث.(11/5549)
الوشاح، وكان لها خباء في المسجد أو حفش. وثبت في الصحيح (1) "إنزال وفد الحبشة في المسجد، ولعبهم بجرابهم فيه، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ينظر ". وثبت [1ب] في الصحيح (2) أيضاً: " أن ابن عمر كان ينام في المسجد، وهو شاب أعزب لا أهل له " ونحو هذه الأحاديث الثابتة في نزول الغرباء المسجد، وانزل كل غريب من الوفد لا يجد له منزلا، وليس فيها ما ذكره السائل من صنيع هؤلاء النازلين به الآن من تلويثه بالنجاسات، واحتجازه بأمتعتهم، وتشويش المصلين برفع أصواتهم؛ فإن مثل هذه الأمور تصان المساجد عما هو دونها بكثير فضلا عن المسجد الحرام، فتركهم والحالة هذه منكر، وتفويت لما بنيت المساجد له كما في حديث:" أن المساجد لم تبن لهذا، إنما بنيت لذكر الله والصلاة " (3) فهؤلاء قد فوتوا بهذا العمل منهم ما بنيت له المساجد.
وقد ورد النهي عن أن يشغل القارئ من كان مصليا مع أن تلاوة القرآن من أفضل الذكر التي بنيت له المساجد، ولكنه لما صاحب هذه التلاوة التي هي عبادة محضة ما هو مفسدة، وهو التشويش على المصلين خرج ذلك من باب المعصية، فكيف بما هو لغو بحت، وضوضاة محض، وجلبة لا يراد بها شيء من طاعات الله - سبحانه -، ولا يحل لعالم أن يحتج لفعل مثل هؤلاء المسؤول عنهم بمثل ما وقع لسعد بن معاذ من انفجار
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (454) وأطرافه (455، 950، 988، 3529، 3931، 5190، 5136) ومسلم في صحيحه رقم (892) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (440) وأطرافه [1121، 1156، 3738، 3740، 7015، 7030] من حديث ابن عمر
(3) أخرجه مسلم رقم (569) من حديث بريدة رضي الله عنها وفيه:" لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له وهو حديث صحيح وقد تقدم.(11/5550)
جرحه وسيلانه في المسجد، فإن ذلك وقع اتفاقا عن غير قصد. وقد صرح الحديث المتقدم في إنزاله بالعلة التي لأجلها أنزل بالمسجد، وهو أن يعوده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من قريب، ولا يحل أيضًا الاحتجاج بفعل الحبشة ولعبهم بالحراب، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالغ في إكرامهم مكافأة للنجاشي بما صنعه من المعروف مع الصحابة المهاجرين إليه، حتى كان في بعض الحالات قد يتولى خدمتهم بنفسه الشريفة تكميلا لتلك المكافأة.
ومع هذا فهم إنما فعلوا ما هو صناعة من صنائع الحرب ودقيقة من دقائقه. وعلى كل حال فأين هذا من صنيع هؤلاء الذين لوثوه بالنجاسات، وقذروه بالوساخات، وكشف العورات، ورفع الأصوات، وتشويش أهل العبادات. وانظر إلى ما أخرجه عبد الرزاق (1) من حديث جابر قال:" أتانا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ونحن مضطجعون في مسجده فضربنا بعسيب في يده وقال: قوموا لا ترقدوا في المسجد".
وفي إسناده حرام (2) بمهملتين، وهو ضعيف، ولكنه يقويه ما أخرجه الطبراني (3) بإسناد رجاله ثقات عن أبي عمرو الشيباني قال: كان ابن مسعود يعس بالمسجد فلا يدع سوادا إلا أخرجه " ولا يحل أيضًا الاحتجاج لهؤلاء المنجسين لبيت الله المقذرين له بما روي من
_________
(1) في مصنفه (1/ 422 - 423 رقم 1655).
(2) وهو حرام بن عثمان الأنصاري.
قال مالك ويحيى ليس بثقة، قال أحمد: ترك الناس حديثه.
قال إبراهيم بن يزيد الحافظ سألت يحيي بن معين عن حرام. فقال: الحديث عن حرام حرام.
وقال الذهبي بعد ذكره الحديث. هذا حديث منكر جداً.
"الميزان" (1/ 468 - 469) رقم (1766).
(3) في "الكبير" (9/ 293 رقم 9266).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 24) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله موثقون.
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (1654)(11/5551)
أكله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في نادر الحالات في المسجد كما أخرجه الطبراني في الكبير (1) من حديث ابن الزبير بإسناد فيه ابن لهيعة قال:" أكلنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يوما شواء، ونحن في المسجد ". وكما أخرجه أحمد (2) من حديث بلال برجال ثقات مع انقطاع فيه:" أنه جاء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يؤذنه بالصلاة فوجده يتحسر في مسجد بيته".
وكما أخرجه أحمد (3)، وأبو يعلى (4) من حديث: [ابن عمر] (5) أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - شرب فضيخا في مسجد يقال له مسجد الفضيخ " وفيه عبد الله بن نافع ضعفه البخاري، وأبو حاتم والنسائي. وقال ابن معين: يكتب حديثه. وكما في حديث عبد الله [2أ] بن الحارث قال:" كنا نأكل على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في المسجد الخبز واللحم". أخرجه ابن ماجه (6).
فليس في هذا وأمثاله من التقذير والتنجيس شيء، فالواجب على أولي الأمر أن
_________
(1) كما في "مجمع الزوائد" (2/ 21) وقال الهيثمي رواه الطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وفيه كلام.
(2) في "المسند" (6/ 13) وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 21) وقال رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أن أبا داود قال: لم يسمع شداد مولى عياض من بلال والله أعلم.
قلت: شداد مجهول، ولم يدرك بلالا فالسند ضعيف منقطع.
(3) في "المسند" (2/ 106).
(4) في مسنده رقم (5733).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 21) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى إلا أنه قال: أتي بجر فضيخ بسر وهو في مسجد الفضيح. فشربه فلذلك سمي مسجد الفضيخ. وفيه عبد الله بن نافع. ضعفه البخاري وأبو حاتم والنسائي وقال ابن معين يكتب حديثه.
انظر:"الميزان" (3/ 512 - 513).
* الفضيخ: شراب يتخذ من البسر المفضوخ أي المشدوخ. أي غير مسكر.
(5) زيادة يقتضيها السياق
(6) في "السنن" رقم (3300) وهو حديث صحيح(11/5552)
ينزهوا بيت الله - عز وجل - عن هذه الأمور التي لا يحلها الشرع في شيء من مساج المسلمين، فكيف ببيت رب العالمين الذي شرفه الله على كل مسجد من مساجد الدنيا بمضاعفة الصلاة فيه إلى تلك الأضعاف المذكورة في حديث:" صلاة في مسجدي هذا " (1) الحديث.
وأخرج أحمد (2)، وابن ماجه (3) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -:" من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيرا، أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله، ومن دخل لغير ذلك كان كالناظر إلى ما ليس له"، وفي لفظ:" بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع لدى غيره".
وإذا ثبت هذا في مسجده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فهو في المسجد الحرام ثابت بفحوى الخطاب فما ينبغي اعتماده في مثل هؤلاء هو أن يقال لهم بالمعروف إذا نزلتم في هذا المسجد الشريف الذي يقصده العالم من أطراف الأرض فلا تقذروه بشيء من الأقذار، ولا تلوثوه بشيء من النجاسات، ولا تحجزوه على من يقصده لعبادة الله، ولا ترفعوا فيه صوتا، ولا تكشفوا فيه عورة، ولا تهتكوا فيه حرمة، وأحيوه بالعبادة والذكر، وارفعوا من أمتعتكم ما يمنع الوافدين إليه من الصلاة فيه، والعمل الصالح، فإن
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (1190) ومسلم رقم (1394) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام".
(2) في "المسند" (2/ 350 - 527).
(3) في "السنن" رقم (227).
قلت: وأخرجه ابن حبان رقم (97) والحاكم (1/ 91) وابن أبي شيبة (12/ 209) من طرق.
وهو حديث صحيح.
وأخرج الطبراني في "الكبير" (5911) من حديث سهل بن سعد قال قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من دخل مسجدي هذا لبتعلم خيرا، أو ليعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن دخله لغير ذلك من أحاديث الناس كان بمنزلة من يرى ما يعجبه وهو شيء غيره".(11/5553)
أطاعوا فذاك، وإن أبوا خرجوا كرها شاءوا أم أبوا.
فحرمة هذا البيت العظيم فوق كل حرمة، وشرفه الله فوق كل شرف، وهؤلاء المسؤول عنهم إن كانوا على الصفات المذكورة فليسوا من القوم الذي ينزلون بهذا البيت العظيم، ولا هم من الوفد الذين يقفون فيه بل هم من الهاتكين لحرمته التي عظمها الله، المانعين لمن وفد إليه من عباده، وهل يعد التقذير بالنجاسات، وكشف العورات من عمل يخالف تلك الحرمة، وينافي تلك العظمة، ويضاد ذلك الشرف، وينافي تلك الجلالة ولو لم يكن من أفعال هؤلاء إلا تصغير حرمة البيت الحرام عند القاصدين له من أقطار المعمورة، فإنها داره عند وفوده إليه، ووقوفه بأبوابه، وهو على تلك الصفات قد احتجز أكثر أمكنته هؤلاء المقذرة ثيابهم، البادية سوآتهم، ورأى فيه النجاسات والقاذورات، وسمع صراخهم وعويلهم حتى كأنهم في سوق من الأسواق، أو حمام من الحمامات، وكان هذا الوافد من أطراف الأرض من عوام أهلها، فمعلوم لكل عاقل أنه يقع في خاطره، ويثبت في تصوره غير ما كان يعتقده، ودون ما كان يسمعه. وهذه مفسدة عظيمة تقتضي وحدها تنزيه البيت عنهم إذا لم يتركوا ما صاروا فيه من التلاعب [2ب] بهذه الحرمة العظيمة، والتهاون بهذه المزية الشريفة.
فإن قال قائل: لهم حرمة. قلنا: أي حرمة إن كان فعله هذا الفعل في أشرف بقاع الأرض، ولو سلمنا الحرمة لكانت حرمة البيت أعظم من حرمتهم، وما حصل فيه من هتك حرمته، وتصغير عظمته، ومنع الوافدين - إلى بيت الله الكريم - من الطاعات، تارة بالحجز لأمكنته، وتارة برفع الأصوات المشوشة لكل مصل فيه أعظم وأطم مما حصل فيهم من الإخراج منه إذا لم يمتثلوا للوقوف فيه على ما يسوغه الشرع، ويجوزه الدين. ومعلوم أن التسوية التي أثبتها الله للحرم الشريف، والمسجد المعظم بقوله: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) (1) لم يرد بها التسوية بين الطاعة والمعصية في الحق والباطل،
_________
(1) [الحج:25](11/5554)
وفي الخير والشر. ومثل هذا مما لا ينبغي بأن يقع فيه خلاف. ومعلوم لكل من له فهم ونصيب من علم أن هذا البيت الشريف لم يكن لغير الطاعات، ولم يوضع لمثل هذه المنكرات، ومن قال من أهل العلم بأنه يخير من فر إليه من الخائفين.
قيد ذلك بأن لا يكون ارتكابه للمعصية فيه، ولهذا وإن كان أجنبيا عما سأل عنه السائل لكنه ربما يقول به قائل ممن لا يعقل حجج الله، ولا يفهم براهينه.
وفي هذا المقدار كفاية. والله ولي التوفيق.(11/5555)
(182) 10/ 4
رفع الريبة فيما يجوز وما لا يجوز من الغيبة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه
محفوظة بنت علي شرف الدين
أم الحسن(11/5557)
وصف المخطوط: (أ)
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: رفع الريبة في بيان ما يجوز وما لا يجوز من الغيبة.
2 - موضوع الرسالة: آداب.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم وبعد حمد الله والصلاة والسلام على رسوله وآله فإنه قد اتفق أهل العلم على تحريم الغيبة.
4 - آخر الرسالة: وفي هذا المقدار كفاية والله ولي التوفيق، كتبه المجيب محمد الشوكاني غفر الله له.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 14 صفحة عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 28 سطرا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 9 أسطر.
8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5559)
وصف المخطوط: (ب)
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: رفع الريبة في بيان ما يجوز وما لا يجوز من الغيبة.
2 - موضوع الرسالة: آداب.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم وبعد حمد الله والصلاة والسلام على رسوله وآله فإنه قد اتفق أهل العلم على تحريم الغيبة.
4 - آخر الرسالة: وفي هذا المقدار كفاية والله ولي التوفيق، كتبه المجيب محمد الشوكاني غفر الله له، انتهى نقل هذه الرسالة العظيمة في يوم الثلاثاء سابع شهر شوال سنة أربع وثلاث عشر مائة بعد الألف سنة 1304 ختمت وما بعدها بخير آمين، صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم آمين.
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 9 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة:29 سطرا.
8 - عد الكلمات في السطر:15 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5563)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد حمد الله، والصلاة والسلام على رسوله وآله.
فإنه اتفق أهل العلم أجمع على تحريم الغيبة للمسلم، وذلك لنص الكتاب العزيز، والسنة المطهرة.
أما الكتاب [قوله] (1) {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} (2) فهذا نهي قرآني عن الغيبة مع إيراد مثل لذلك يزيده شدة وتغليظا، ويوقع
_________
(1) في (ب) فقوله تعالى.
(2) [الحجرات:12].
قال الألوسي في "روح المعاني" (26/ 158) تمثيل لما يصدر عن المغتاب من حيث صدوره عنه ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه وأشنعه طبعا وعقلا وشرعا مع مبالغات من فنون شتى، الاستفهام التقريري من حيث أنه لا يقع إلا في كلام هو مسلم عن كل سامع حقيقة أو ادعاء، وإسناد الفعل إلى أحد - إيذانا بأن أحدا من الأحدين لا يفعل ذلك وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، وجعل المأكول أخا للآكل وميتا، وتعقيب ذلك بقوله: (فَكَرِهْتُمُوهُ) حملا على الإقرار وتحقيقا لعدم محبة ذلك أو لمحبته التي لا ينبغي مثلها.
وكنى عن الغيبة بأكل الإنسان للحم مثله؛ لأنها ذكرت المثالب وتمزيق الأعراض المماثل لأكل اللحم بعد تمزيقه في استكراه العقل والشرع له.
وجعله ميتا؛ لأن المغتاب لا يشعر بغيبته. ووصله بالمحبة لما جبلت عليه النفوس من الميل إليها مع العلم بقبحها.
قال أبو زيد السهيلي: ضرب المثل لأخذ العرض بأكل اللحم؛ لأن اللحم ستر على العظم، والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه
انظر:" الجامع لأحكام القرآن" (16/ 337 - 339).
قال محيي الدين الدرويش في "إعراب القرآن الكريم" (9/ 275): الاستعارة التمثيلية الرائعة في قوله تعالى: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ).
فقد شبه من يغتاب غيره بمن يأكل لحم أخيه ميتا وفيها من المبالغات:
1 - الاستفهام الذي معناه التقرير كأنه أمر مفروغ منه مبتوت فيه.
2 - جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة.
3 - إسناد الفعل إلى كل أحد للإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك.
4 - أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان وهو أكره اللحوم وأبعثها على التقزز حتى جعل الإنسان أخا.
5 - أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتا.
إن الغيبة على ثلاث أضرب:
1 - ):أن تغتاب وتقول لست أغتاب؛ لأني أذكر ما فيه فهذا كفر، ذكره الفقيه أبو الليث في "التنبيه" لأنه استحلال للحرام القطعي.
2 - ): أن تغتاب وتبلغ غيبة المغتاب فهذه معصية لا تتم التوبة عنها إلا بالاستحلال؛ لأنه أذاه فكان فيه حق العبد أيضا، وهذا محمل قوله عليه الصلاة والسلام:" الغيبة أشد من الزنا" قيل: وكيف؟ قال: "الرجل يزني ثم يتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه".
3 - ): إن لم يبلغ الغيبة فيكفيه التوبة والاستغفار له ولمن اغتابه.(11/5567)
في النفوس من الكراهة له والاستقذار لما فيه ما لا يقادر قدره؛ فإن أكل لحم الإنسان من أعظم ما يستقذره بنو آدم جبلة وطبعا، ولو كان كافرا أو عدوا مكافحا، فكيف إذا كان أخا في النسب أو في الدين؟! فإن الكراهة تتضاعف بذلك، ويزداد الاستقذار، فكيف إذا كان ميتا؟! فإن لحم ما يستطاب ويحل أكله يصير مستقذرا بالموت، لا يشتهيه الطبع، ولا تقبله النفس. وبهذا [يعرف] (1) ما في هذه الآية من المبالغة في تحريم الغيبة، بعد النهي الصريح [عن ذلك] (2).
وأما السنة فلأحاديث النهي عن الغيبة، وهي ثابتة في الصحيحين وفي غيرهما من دواوين الإسلام، وما يلتحق بها، مع اشتمالها على بيان ماهية الغيبة، وإيضاح معناها؛ فإنه لما سأله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - سائل عن الغيبة فقال:" ذكرك أخاك بما يكره " قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال:" إن كان فيه ما تقول فقد
_________
(1) زيادة من (أ).
(2) في (ب) تعرف.(11/5568)
اغتبته، وإن لم يكن فقد بهته " وهذا ثابت في الصحيح (1).
فعرفت تحريم الغيبة (2) كتابا وسنة وإجماعا، ولكنه قد وقع في كلام جماعة من العلماء الاستثناء لصور صرحوا بأنه يجوز فيها الغيبة، وكلماتهم في ذلك متفاوتة، وما ذكروه من الأعداد المستثناة مختلف.
فلنقتصر هاهنا على ذكر ما أورده النووي في شرح .............................................
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2589) وأبو داود رقم (4874) والترمذي رقم (1934) وقال: حديث حسن صحيح.
وأحمد (2/ 384، 386) والدارمي (2/ 297) والبغوي في "شرح السنة" رقم (3560) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 247) من طرق. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وهو حديث صحيح.
(2) الغيبة: قال ابن الأثير في "النهاية" (3/ 399) هو أن يذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه، فإذا ذكرته بما ليس فيه فهو البهت والبهتان، وقال صاحب "تاج العروس" (2/ 297): الغيبة من الغيبوبة، والغيبة من الاغتياب. يقال: اغتاب الرجل صاحبه اغتيابا إذا وقع فيه: وهو أن يتكلم خلف إنسان مستور بسوء أو بما يغمه [لو سمعه] وإن كان فيه، فإن كان فيه صدقا فهو غيبة، وإن كان كذبا فهو البهت.
وقال ابن فارس في "مقاييس اللغة" (4/ 403). غيب الغين والياء والباء أصل صحيح يدل على تستر الشيء عن العيون، ثم يقاس. من ذلك الغيب: ما غاب مما لا يعلمه إلا الله. ويقال غابت الشمس تغيب غيبة وغيوبا وغيبا، وغاب الرجل عن بلده. وأغابت المرأة فهي مغيبة إذا غاب بعلها، ووقعنا في غيبة وغيابة، أي هبطة من الأرض يغاب فيها، قال تعالى في قصة يوسف عليه السلام: (وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ).
والغيبة: الوقيعة في الناس من هذا؛ لأنها لا تقال إلا في غيبة.
* البهت: الباء والهاء والتاء أصل واحد، وهو كالدهش والحيرة، يقول: بهت الرجل يبهت بهتا، والبهتة الحيرة. فأما البهتان فالكذب، يقول العرب: يا للبهيتة. أي الكذب.
"مقاييس اللغة" (1/ 307).
وقيل: البهتان: الباطل الذي يتحير من بطلانه والكذب.
"لسان العرب" (1/ 513). وانظر:" تاج العروس" (3/ 19).(11/5569)
مسلم (1) له، ثم نذكر بعد ذلك تصحيح ما هو صحيح من كلامه، ونتعقب ما هو محل للتعقب، ونستدل على ما لم يذكر الدليل عليه، حتى يكون هذا البحث تاما وافيا شاملا كاملا، فإنه من المهمات الدينية [1أ]؛ لعظم خطر الوقوع فيه، مع تساهل كثير من الناس في شأنه، ووقوعهم في خطره، إلا من عصمه الله من عباده.
[بيان ما يباح من الغيبة].
قال النووي في شرح مسلم (2) [له] (3) عند ذكر ما ورد في تحريم الغيبة ما لفظه:" لكن تباح الغيبة لغرض شرعي، وذلك لستة أسباب:
أحدها: التظلم؛ فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه، ويقول: ظلمني فلان، أو فعل بي فلان كذا (4).
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب. فيقول لمن يرجو قدرته: فلان يعمل كذا، فازجره. أو نحو ذلك.
الثالث: الاستفتاء بأن يقول للمفتي: ظلمني فلان، أو أبي، أو أخي، أو زوجي بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص [منه] (5)، ودفع ظلمه عني؟ ونحو ذلك؛ فهذا جائز للحاجة، والأحوط أن يقول: ما تقول في رجل، أو زوج، [أو والد، أو ولد] (6) كان من أمره كذا؟ ولا يعين ذلك، والتعيين جائز؛ لحديث هند وقولها: إن أبا سفيان رجل شحيح (7).
_________
(1) (16/ 142)
(2) (16/ 142)
(3) زيادة من (أ)
(4) انظر"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (28/ 225)." الجامع لأحكام القرآن" (16/ 339)
(5) في (ب) معه
(6) في (ب) أو ولد أو والد.
(7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5364) ومسلم رقم (1714) وقد تقدم.(11/5570)
الرابع: تحذير المسلمين من الشر، وذلك من وجوه:
منها: جرح المجروحين من الرواة [1] والشهود والمصنفين، وذلك جائز بالإجماع بل واجب، صونا للشريعة.
ومنها: الإخبار بغيبة عند المشاورة في مواصلته.
ومنها: إذا رأيت من يشتري شيئا معيبا، أو عبدا سارقا، أو شاربا، أو زانيا، أو نحو ذلك؛ [تذكرة] (1) للمشتري إذا لم يعلمه، نصيحة لا لقصد الإيذاء والإفساد.
ومنها: إذا رأيت متفقها يتردد إلى فاسق، أو مبتدع يأخذ عنه علما، وخفت عليه ضرره؛ فعليك نصيحته ببيان حاله، قاصدا للنصيحة.
ومنها: أن يكون له ولاية؛ ليستبدل أو يعرف حاله، ولا يغتر به، أو يلزمه الاستقامة.
الخامس: أن يكون مجاهرا بفسقه أو بدعته؛ كالخمر والمصادرة للناس، وجباية المكوس، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ولا يجوز بغيره إلا بسبب آخر.
السادس: التعريف؛ فإن كان معروفا بلقب، كالأعمش، والأعرج، والأزرق، والقصير، والأعمى، والأقطع، ونحوها، جاز تعريفه، ويحرم ذكره بها تنقصا، ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى ". انتهى كلامه بحروفه (2).
وأقول - مستعينا بالله ومتكلا عليه -: قبل التكلم على هذه الصور: اعلم أنا قد قدمنا أن تحريم الغيبة (3) ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، والصيغة الواردة في الكتاب والثابتة [1ب] في السنة عامة عموما شموليا يقتضي تحريم الغيبة من كل فرد من أفراد
_________
(1) في (ب) تذكر.
(2) النووي في " شرحه لصحيح مسلم " (16/ 142).
(3) قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (16/ 377). لا خلاف أن الغيبة من الكبائر.(11/5571)
المسلمين لكل فرد من أفرادهم، فلا يجوز القول بتحليل ذلك في موضع من المواضع لفرد أو أفراد إلا بدليل يخصص هذا العموم، فإن قام الدليل على ذلك فبها ونعمت، وإن لم يقم فهو من التقول على الله بما لم يقل، ومن تحليل ما حرمه الله بغير برهان من الله - عز وجل -.
[الصورة الأولى: التظلم].
إذا عرفت هذا فاعلم أن الصورة الأولى - من الصور التي ذكرها، وهي جواز اغتياب المظلوم لظالمه - قد دل على جوازها قول الله - عز وجل -: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} (1) فهذا الاستثناء قد أفاد جواز ذكر المظلوم للظالم بما يبين للناس وقوع الظلم له من ذلك الظالم، ورفع صوته بذلك، والجهر به في المواطن التي يجتمع الناس بها. أما إذا كان يرجو منهم نصرته، ودفع ظلامته، ودفع ما نزل به من ذلك الظالم، كمن له منهم قدرة على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من الولاة والقضاة وغيرهم؛ فالأمر ظاهر، وأما إذا كان لا يرجو منهم ذلك، وإنما أراد كشف مظلمته وإشهارها في الناس فظاهر الآية الكريمة يدل على جوازه؛ لأنه لم يقيدها بقيد يدل على أنه لا يجوز الجهر بالسوء من القول إلا لمن يرجو منه النصرة، ودفع المظلمة.
وإن كان ما قدمنا من كلام النووي يفيد قصر الجواز على من يقدر على دفع الظلم لكن الآية لا تدل على ذلك [فقط] (2) ولا تمنع مما عداه.
[جواز الجهر بالسوء لمن ظلم].
وهاهنا بحثان:
البحث الأول: لا يخفاك أن الأدلة الدالة على تحريم الغيبة تشمل المظلوم وغيره،
_________
(1) [النساء: 148]
(2) زيادة من (أ).(11/5572)
والآية الدالة على جواز الجهر بالسوء لمن ظلم تفيد جواز ذلك في وجه الظالم وفي غيبته.
فأدلة تحريم الغيبة أعم من وجه وهو شمولها لغير المظلوم، وأخص من وجه، وهو أعم من تناولها لما يقال في وجه من يراد ذكره بشيء من قبيح فعله.
وآية جواز ذكر المظلوم للظالم أعم من وجه وهو جواز ذكر ذلك في وجه الظالم وفي غيبته، وأخص من وجه وهو عدم تناولها لغير المظلوم وظالمه.
ولا تعارض في مادتين: وهما دلالة أدلة تحريم الغيبة على عدم جوازها لغائب غير ظالم، ودلالة آية جواز الجهر بالسوء على أنه يجوز للمظلوم في وجه الظالم، وإنما التعارض في مادة واحدة، [وهي] (1) ذكر المظلوم للظالم بظلمه له في غيبته.
فأدلة تحريم الغيبة قاضية بالمنع من ذلك، والآية قاضية بالجواز، ولا يخفاك أن أدلة [2أ] تحريم الغيبة أقوى؛ لصراحة دلالة الآية على تحريمها، مع اعتضادها بالأدلة من قطيعة السنة، واشتداد عضدها بوقوع الإجماع عليها. وآية جواز ذكر المظلوم للظالم وإن كانت قطعية المتن فهي ظنية الدلالة، وقد عارضها ما هو مثلها من الكتاب العزيز في قطعية متنه وظنية دلالته، وانضم إلى ذلك المعارض ما شد [من] (2) عضده، وشال بضبعه من السنة والإجماع، [فتقصر] (3) دلالة آية جواز ذكر المظلوم للظالم على ذكره بالسوء الذي فعله من الظلم الذي أوقعه على المظلوم في وجهه، ولا يجوز له [2] ذكره في غيبته، ترجيحا للدليل القوي، ومشيا على الطريق السوي، فلا تكون هذه الصورة - التي جعلها النووي عنوانا للصور المستثناة - صحيحة؛ لعدم قيام مخصص صحيح صالح للتخصيص يخرجها من ذلك العموم.
البحث الثاني: هل جهر المظلوم بالسوء الذي أصابه من ظالمه جائز فقط، أم له رتبة
_________
(1) في (ب) وهو.
(2) زيادة من (ب).
(3) في (ب) فتصير.(11/5573)
أرفع من رتبة الجواز؟ لأن الاستثناء من قوله: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ} (1) يدل على أن جهر المظلوم بالسوء الذي وقع عليه محبوب لله، وإذا كان محبوبا لله كان فعله من فاعله يختص بمزية زائدة على الجواز، ورتبة أرفع منه، وهذا على تقدير أن الاستثناء متصل، حتى يثبت للمستثنى ما نفي عن المستثنى منه (2).
وأما إذا كان منقطعا فلا دلالة في الآية على أنه مما يحبه الله، بل لا يدل على [سوء] (3) جوازه، لكن على تقرير الاتصال؛ هاهنا مانع من أن يكون لذكر المظلوم لظالمه بالسوء رتبة زائدة على رتبة الجواز، وهو أن الله - سبحانه - قد رغب عباده في
_________
(1) [النساء: 148].
(2) قال الطبري في "جامع البيان" (4\جـ6/ 4) فالصواب في تأويل ذلك:" لا يحب الله أيها الناس أن يجهر أحد لأحد بالسوء من القول (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) بمعنى: إلا من ظلم فلا حرج عليه أن يخبر بما أسيء إليه ... وإذا كان ذلك معناه: دخل فيه إخبار من لم يقر أو أسيء قراه، أو نيل بظلم في نفسه أو ماله عنوة من سائر الناس، وكذلك دعاءه على من ناله بظلم أن ينصره الله عليه. لأن في دعائه عليه إعلاما منه لمن سمع دعاءه بالسوء له، وإذا كان ذلك كذلك، "فمن" في موضع نصب، لأنه منقطع عما قبله. وأنه لا أسماء قبله يستثنى منها فهو نظير قوله: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ).
وقال الرازي في تفسيره (11/ 90 - 91): أن هذا الاستثناء منقطع والمعنى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول. لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته.
وللمظلوم أمور منها:
1 - قال قتادة وابن عباس: لا يحب الله رفع الصوت بما يسوء غيره إلا المظلوم فإن له أن يرفع صوته بالدعاء على من ظلمه.
2 - قال مجاهد: إلا أن يخبر بظلم ظالمه له.
3 - لا يجوز إظهار الأحوال المستورة المكتومة، لأن ذلك يصير سببا لوقوع الناس في الغيبة ووقوع ذلك الإنسان في الريبة لكن من ظلم فيجوز إظهار ظلمه بأن يذكر أنه سرق أو غصب وهذا قول الأصم.
4 - قال الحسن: إلا أن ينتصر من ظالمه.
(3) في (ب) سواء(11/5574)
العفو (1)، وندبهم إلى ترك الانتصاف، والتجاوز عن المسيء، حتى ورد الإرشاد للمظلوم إلى ترك الدعاء على ظالمه، وأنه إذا فعل ذلك انحط عليه من أجر ظلامته ما هو مذكور في الأحاديث، وقد صرح الكتاب العزيز في غير موضع بالأمر بالعفو، والترغيب فيه، وعظم أجر العافين عن الناس (2)، وهكذا وقع في السنة المطهرة ما هو الكثير الطيب من ذلك (3).
ومجموع هذا لا يفيد أن الانتصاف وترك العفو غايته أن يكون جائزا، وهكذا ما في هذه الآية من جواز ذكر المظلوم للظالم بالسوء الذي ناله ..........................................
_________
(1) انظر الرسالة رقم (31).
(2) منها قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 133 - 134].
ومنها: قوله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22].
ومنها: قوله تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى: 43].
(3) منها: ما أخرجه مسلم رقم (2588) والترمذي (2029) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" ما نقصت صدقة من مال ". وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه عز وجل ". وهو حديث صحيح.
ومنها: ما أخرجه أحمد (4/ 231) والترمذي رقم (235) وابن ماجه رقم (4228) من حديث أبي كبيشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه.
قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزا ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ... " واللفظ للترمذي. وقال: حديث حسن صحيح.
وهو حديث صحيح.
ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3477) ومسلم رقم (1792) عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:" اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".(11/5575)
منه (1)، للقطع بأن الله يحب العفو عن الناس، وذلك معلوم بالكتاب والسنة والإجماع، والأدلة عليه من كليات الشريعة وجزئياتها تحتاج إلى طول بسط [2ب] (2).
[الصورة الثانية: الاستعانة على تغيير المنكر].
وأما الصورة الثانية: التي ذكرها النووي (3) فيما قدمنا - وهي الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب - فاعلم أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر هما من أعظم عمد الدين (4)؛ لأن بهما حصول مصالح الأولى والأخرى، فإن كانا قائمين قام بقيامها سائر الأعمدة الدينية، والمصالح الدنيوية، وإن كانا غير قائمين لم يكثر الانتفاع بقيام غيرهما من الأمور الدينية والدنيوية، وبيان ذلك، أن أهل الإسلام إذا كان الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فيهم ثابت الأساس، والقيام به هو شأن الكل أو الأكثر من الناس، فالمعروف بينهم معروف، وهم يد واحدة على إقامة من زاغ عنه، ورد غواية
_________
(1) قال الشوكاني في "فتح القدير" (1/ 623 - 624): اختلف أهل العلم في كيفية الجهر بالسوء الذي يجوز لمن ظلم، فقيل هو أن يدعوا على من ظلمه وقيل: لا بأس أن يجهر بالسوء من القول على من ظلمه بأن يقول: فلان ظلمني أو هو ظالم أو نحو ذلك.
وقيل: معناه: إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول من كفر أو نحوه فهو مباح له.
والظاهر من الآية أنه يجوز لمن ظلم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه ويؤيده الحديث الثابت في الصحيح "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته ". تقدم تخريجه.
وأما على القراءة - إلا من على البناء للمعلوم - فالاستثناء متقطع أي إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له.
وقال الألوسي في "روح المعاني (26/ 161): وقد تجب الغيبة لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا بها وتنحصر في ستة أسباب. الأول التظلم فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن له قدرة على إزالة ظلمه أو تخفيفه ...
(2) تقدم ذكره.
(3) في شرحه لصحيح مسلم (16/ 142)
(4) تقدم مرارا(11/5576)
من فارقه، والمنكر لديهم منكر، وجماعتهم متعاضدة عليه، متداعية إليه - متناصرة على الأخذ بيد فاعله وإرجاعه إلى الحق، والحيلولة بينه وبين ما قارفه من الأمر المنكر.
فعند ذلك لا يبقى أحد من العباد في ظاهر الأمر تاركا لما هو معروف، ولا فاعلا لما هو منكر، لا في عبادة، ولا في معاملة؛ فتظهر أنوار الشرع، وتسطع شموس العدل، وتهب رياح الدين، وتستعلن كلمة الله في عباده وترتفع أوامره ونواهيه، وتقوم دواعي الحق، وتسقط دواعي الباطل، وتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو المرجوع إليه [والمعمول] (1) به، وكتابه الكريم، وسنة رسوله المصطفى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هما المعيار الذي توزن به أعمال العباد، ونرجع إليهما في دقيق الأمور وجليلها؛ وبذلك تنجلي ظلمات البدع، وتنقصم ظهور أهل الظلم، وتنكسر نفوس أهل معاصي الله، وتخفق رايات الشرع في أقطار الأرض، وتضمحل جولات الباطل في جميع بلاد الله عز وجل.
[أضرار ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر].
وأما إذا كان هذان الركنان العظيمان غير قائمين، أو كانا قائمين قياما صوريا لا حقيقيا فيالك من بدع تظهر، ومن منكرات تستعلن، ومن معروفات تستخفي، ومن جولات للعصاة وأهل البدع تقوى وترتفع، ومن ظلمات بعضها فوق بعض تظهر في الناس، ومن هرج و [مرج] (2) في العباد يبرز للعيان، وتقر به عين الشيطان؛ وعند ذلك يكون المؤمن كالشاة العائرة، والعاصي كالذئب المفترس، وهذا بلا شك ولا ريب [3أ] هو [المحيي] (3) رسوم الدين، وذهاب نور الهدى، وانطماس معالم الحق. وعلى تقدير وجود أفراد من العباد يقومون بفرائض الله، ويدعون مناهيه، ولا يقدرون على أمر
_________
(1) في (ب) والمعول
(2) في (ب) ترج
(3) في (ب) المحمي(11/5577)
بمعروف، ولا نهي عن المنكر؛ فما أقل النفع بهم! وأحقر الفائدة على الدين منهم!؛ فإنهم وإن كانوا ناجين بأعمالهم، فائزين بتمسكهم بعروة الحق الوثقى، لكنهم في زمان غربة الدين، وانطماس معالمه، وظهور المنكر، وذهاب المنكر بين أهل السواد [3] الأعظم، وفيما يتظاهر به الناس؛ وحينئذ يصير المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، ويعود الدين غريبا كما بدأ.
وإذا تقرر لك هذا، وعرفت ما في قيام الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في الناس من مصالح المعاش والمعاد، وفوائد الدنيا والدين (1) - فاعلم أن هذا الذي رأي منكراً، إن كان قادرا على تغييره بنفسه (2)، أو بالاستنصار بمن يمكن .............................
_________
(1) قال تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110].
وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
وقال سبحانه وتعالى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165].
وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
قال ابن كثير في تفسيره (2/ 396) فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في المدح كما قال قتادة: بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها رأي من الناس دعة فقرأ هذه الآية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ثم قال من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم بقوله: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.
(2) قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". من حديث أبي سعيد الخدري.
أخرجه مسلم رقم (49) وأبو داود رقم (1140و 4340) والترمذي رقم (2173) والنسائي (8/ 111) وابن ماجه رقم (4013).
قال القرطبي في "المفهم" (1/ 233): هذا الأمر على الوجوب لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الإيمان ودعائم الإسلام، بالكتاب والسنة وإجماع الأمة ولوجوبه شرطان:
1 - العلم بكون ذلك منكرا أو معروفا.
2 - القدرة على التغيير.(11/5578)
الاستنصار به (1)، بأن يقول لجماعة من المسلمين: في المكان الفلاني من يرتكب المنكر، فهلموا إلي، وقوموا معي حتى ننكره ونغيره، فليس به إلى الغيبة- التي هي جهد من لا
_________
(1) قال القرطبي في " المفهم" (1/ 334): إذا كان المنكر مما يحتاج في تغييره إلى اليد. مثل كسر أواني الخمر، وآلات اللهو كالمزامير والأوتاد والكبر-الطبل- وكمنع الظالم من الضرب والقتل وغير ذلك. فإن لم يقدر بنفسه استعان بغيره، فإن خاف من ذلك ثوران فتنة، وإشهار سلاح، تعين رفع ذلك. فإن لم يقدر بنفسه على ذلك غير بالقول المرتجى نفعه من لين أو إغلاظ حسب ما يكون أنفع، وقد يبلغ بالرفق والسياسة ما لم يبلغ بالسيف والرياسة، فإن خاف من القول القتل أو الأذى، غير بقلبه، ومعناه أن يكره ذلك الفعل بقلبه، ويعزم أن لو قدر على التغيير لغيره ... ".
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان أو أمير جائر". من حديث أبي سعيد الخدري.
أخرجه أبو داود رقم (4344) والترمذي رقم (2174) وابن ماجه رقم (4011). وهو حديث حسن.
وقد ورد الخطاب- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- للأمة عامة ولكن المسؤولية تتأثر على صنفين من الناس وهما العلماء والأمراء أما العلماء فلأنهم يعرفون من شرع الله تعالى ما لا يعرفه غيرهم من الأمة ولما لهم من هيبة في النفوس واحترام في القلوب مما يجعل أمرهم ونهيهم أقرب إلى الامتثال وأدعى إلى القبول.
وأما الأمراء والحكام فإن مسئوليتهم أعظم وخطرهم إن قصروا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكبر لأن الحكام لهم ولاية وسلطان ولديهم قدرة على تنفيذ ما يأمرون به وينهون وحمل الناس على الامتثال ولا يخشى من إنكارهم مفسدة لأن القوة والسلاح في أيديهم والناس ما زالوا يحسبون حسابا لأمر الحاكم ونهيه فإن قصر الحاكم في الأمر والنهي طمع أهل المعاصي والفجور ونشطوا لنشر الشر والفساد دون أن يراعوا حرمة أو يقدسوا شرعا ولذا كان من الصفات الأساسية للحاكم الذي يتولى الله تأييده، ونصرته، ويثبت ملكه ويسدد خطئه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
" الوافي في شرح الأربعين النووية" (ص 263).(11/5579)
له جهد- حاجة، لأن وازع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر إذا كان موجودا في عباد الله، فلا يحتاجون إلى تعيين فاعل المنكر، وبيان أنه فلان ابن فلان، وإن لم يكن فيهم ذلك الوازع الديني، والغيرة الإسلامية؛ فهم لا ينشطون إلى إجابته بمجرد التسمية والتعيين، إذ لا فرق في مثل هذا بين الإجمال والتعيين، اللهم إلا أن يكون سيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كليلا. وعضده ضعيفا عليلا ضئيلا، فإنهم قد ينظرون مع التسمية والتعيين في فاعل المنكر؛ فإن كان قويا جليلا [تركوه] (1)، وإن كان ضعيفا حقيرا قاموا إليه وغيروا ما هو عليه. وهذا هو غربة الدين العظيمة، ولكن في الشر خيار وبعضه أهون من بعض.
فإذا كانوا بمنزلة من ضعف العزيمة، بحيث لا يقدرون إلا على الإنكار على المستضعفين المستذلين؛ فذلك فرضهم، وليس عليهم سواه [3ب]. وحينئذ لا بأس بالتعيين، والغيبة التي هي غاية ما يقدر عليه المستضعفون، ونهاية ما يتمكن منه العاجزون والله ناصر دينه، ولو بعد حين.
وجواز هذه الغيبة في مثل هذا المقام، هو بأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الثابتة بالضرورة الدينية، التي لا يقوم بجنبها دليل لا صحيح ولا عليل.
[الجمع بين أدلة المسألة]:
فإن قلت: هاهنا دليلان بينهما عموم وخصوص من وجه، هما أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأدلة تحريم الغيبة، فكيف لم تعمل هاهنا كما عملت في الصورة الأولى؟.
قلت: قد عملت هاهنا كما عملت في الصورة الأولى، فرجحت العمل بالراجح، كما رجحت في الصورة الأولى العلم الراجح، وإن اختلف موضعا الترجيح، ففي
_________
(1) زيادة من (ب)(11/5580)
الصورة الأولى رجحت أدلة الغيبة؛ لما تقرر من أن العمومين الواردين على هذه الصورة إن رجح أحدهما على الآخر باعتبار ذاته، وجب المصير إليه، وإن لم يرجح باعتبار ذاته وأمكن الترجيح باعتبار أمر خارج؛ وجب الرجوع إليه.
وقد وجد المرجح هنالك باعتبار الأمر الخارجي، وهو أدلة السنة والإجماع؛ فإنها أوجبت ترجيح أدلة تحريم الغيبة في تلك الصورة التي وقع فيها التعارض، على جواز الجهر بالسوء للمظلوم على طريقة [الاغتياب] (1)، وهاهنا كان الترجيح في صورة التعارض بكون أحد الدليلين ثابتا بالضرورة الدينية دون الآخر، ولهذا قدمنا لك [ما قدمنا] (2) في فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعرفناك أنه لا شيء من الأمور الدينية يقوم مقامهما، ولا يغني غناهما.
[الصورة الثالثة: جواز الغيبة للمستفتي].
وأما الصورة الثالثة: وهي جواز الغيبة للمستفتي:
فأقول: لا يخفاك أن أدلة تحريم الغيبة ثابتة بالكتاب، والسنة، والإجماع كما قدمنا، فصار تحريمهما من هذه الحيثية من قطعيات الشريعة، وليس في تسويغها للمستفتي إلا سكوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن الإنكار على هند لما قالت له:" إن أبا سفيان رجح شحيح" (3)، وهذا السكوت الواقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عند سماع الغيبة من امرأة [حديثة] (4) عهد بجاهلية لرجل حديث عهد بجاهلية، مع كونه في
_________
(1) في (ب) الاعتبار
(2) زيادة من (أ).
(3) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
قال الحافظ في "الفتح" (9/ 509) واستدل بهذا الحديث على جواز ذكر الإنسان بما لا يعجبه إذا كان على وجه الاستفتاء والاشتكاء ونحو ذلك وهو أحد المواضع التي تباح فيها الغيبة.
(4) في (ب) حديث.(11/5581)
تلك الحال لم يكن قد ظهر منه يدل على خلوص إسلامه، واستقامة طريقه، وإنما ظهر منه ذلك بعد موته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فهذا التقرير بالسكوت الكائن على هذه الصفة في مثل هذه الحالة بعد ثبوت تحريم الغيبة في القرآن الكريم [4أ]، وفي السنة المطهرة، وعلم الصحابة به وإجماعهم عليه- لا ينبغي التمسك بمثله، ولا يحل القول بصلاحيته للتخصيص؛ لأن السامعين من المسلمين في تلك الحالة قد علموا تحريم الغيبة، وتقرر عندهم حكمها، فلو لم يكن السكوت إلا لكون حكم الغيبة قد صار معلوما واضحا مشتهرا عندهم، لكان ذلك بمجرده قادحا في الاستدلال به، وتخصيص الأدلة القطعية بمثله، وهذا على تقدير أن أبا سفيان لم يكن حاضرا في ذلك الموقف، فإن كان حاضرا- كما قيل- اندفع التعلق بسكوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من الأصل، ومع هذا فلا ضرورة ملجئة للمستفتي إلى التعيين، حتى يقال: إنه لا يتم مطلوبة من الاستفتاء إلا بالتعين؛ فإنه يحصل مطلوبة بالإجمال؛ لأن المقصود استفادة الحكم الشرعي، و [هي] (1) حاصلة بمعرفة ما يقوله المفتي مع الإجمال كما يحصل معرفته [4] بما يقوله مع التفصيل والتعيين، وهذا مما لا شك فيه ولا شبهة.
وبهذا تعرف أن هذه الصورة ليست من صور تخصيص تحريم الغيبة (2)؛ لعدم انتهاض دليلها، يعرف ذلك كل عارف بكيفية الاستدلال.
[الصورة الرابعة: جواز الغيبة لتحذير المسلمين من الشر].
وأما الصورة الرابعة: وقد جعلها النووي (3) -رحمه الله- في كلامه السابق على أقسام خمسة:
القسم الأول: الجرح والتعديل للرواة والمصنفين والشهود: واستدل على جواز ذلك
_________
(1) في (ب) وهو.
(2) انظر "روح المعاني" للألوسي (26/ 161)،"فتح الباري" (9/ 509).
(3) في شرحه لصحيح مسلم (16/ 143).(11/5582)
- بل على وجوبه - بالإجماع، وكلامه صحيح، واستدلاله بالإجماع واضح؛ فإنه ما زال سلف هذه الأمة وخلفها يجرحون من يستحق الجرح من رواة الشريعة، ومن الشهود على دماء العباد وأموالهم وأعراضهم، ويعدلون من يستحق التعديل. ولولا هذا لتلاعب بالسنة المطهرة الكذابون، واختلط المعروف بالمنكر، ولم يتبين ما هو صحيح مما هو باطل وما هو ثابت مما هو موضوع، وما هو قوي مما هو ضعيف؛ للقطع بأنه ما زال الكذابون يكذبون على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -.
وقد حذر من ذلك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال: " إنه سيكون في هذه الأمة دجالون كذابون، فإياكم وإياهم ". وهذا ثابت في الصحيح (1)، وثبت في الصحيح (2) أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " إنه سيكذب علي، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " وثبت عنه في الصحيح (3) أيضًا أنه قال: " إن كذبا علي ليس ككذب على أحدكم ". الحديث.
وثبت عنه في الصحيح (4) أيضًا أنه قال [4ب]: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم
_________
(1) أخرج مسلم في صحيحه رقم (7/ 7) وأحمد في " المسند " (2/ 349) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، ولا يضلونكم ولا يفتنونكم ".
(2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (110، 6197) ومسلم رقم (3) في المقدمة، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (107) وأبو داود رقم (3651) وابن ماجه رقم (36) وابن أبي شيبة في " المصنف " (8/ 360) وأحمد (1/ 165، 167) من حديث الزبير بن العوام، ولفظه: " من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار ".
(3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (1291) ومسلم رقم (4) في المقدمة من حديث المغيرة بن شعبة بلفظ: " إن كذبا علي ليس ككذب على أحد ".
(4) تقدم تخريجه مرارا من حديث عمران بن الحصين، وابن مسعود، والنعمان بن بشير.
انظر " الصحيحة " رقم (700).(11/5583)
ثم الذين يلونهم، ثم يفشوا الكذب ". ففيه دليل على أن الكذب قد كان قبل انقراض القرن الثالث، ولكن من غير فشو، ثم فشا بعده.
وبهذا [يعرف] (1) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد [أخبر] (2) بأنه سيكذب عليه خصوصا، ويفشوا الكذب عموما، ثم وقع في الخارج ما أخبر به الصادق المصدوق، فإنه لم يزل في كل قرن من القرون كذابون يكذبون على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ويضعون الأكاذيب المروية عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويحدثون بها. فلولا تعرض جماعة من حملة الحجة لجرح المجروحين، وتعديل العدول، وذبهم عن السنة المطهرة، وتبيينهم لكذب الكذابين، لبقيت تلك الأحاديث المكذوبة من جملة الشريعة، وعمت بها البلوى. فكان قيام الأئمة - في كل عصر - بهذه العهدة من أعظم ما أوجبه الله على العباد، ومن أهم واجبات الدين، ومن الحماية للسنة المطهرة، فجزاهم الله خيرا وضاعف لهم المثوبة؛ فلقد قاموا قياما مرضيا، وخلصوا عباد الله من التكاليف بالكذب، وصفوا الشريعة المطهرة، وأماطوا عنها الكدر والقذر، وأخرسوا الكذابين، وقطعوا ألسنتهم وغلغلوا رقابهم، والحمد لله على ذلك (3).
وهكذا جرح الشهود وتعديلهم، فإنه لو لم يقع ذلك لأريقت الدماء وهتكت الحرم، واستبيحت الأموال بشهادات الزور، التي جعلها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من أكبر الكبائر، وحذر منها.
والحاصل: أن كليات الشريعة وجزئياتها وقواعدها وإجماع أهلها، تدل أوضح دلالة
_________
(1) في (ب) تعرف.
(2) في (ب) أخبرنا.
(3) قال الإمام الحافظ ابن الصلاح في " علوم الحديث " (ص389 - 390): " الكلام في الرجال جرحا وتعديلا جوز؛ صونا للشريعة ونفيا للخطأ والكذب عنها، وكما جاز الجرح في الشهود جاز في الرواة ".
ثم إن على الآخذ في ذلك أن يتقي الله تبارك وتعالى، ويتثبت ويتوقى التساهل؛ كيلا يجرح سليما أو يسم بريئا بسمة سوء يبقى عليه الدهر عارها، ويلحق المتساهل من تساهله العقاب والمؤاخذة.(11/5584)
على أن هذا القسم لا شك ولا ريب في جوازه، بل في وجوب بعض صورة؛ صونا للشريعة، وذبا عنها، ودفعا لما ليس منها، وحفظا [لدماء العباد وأموالهم] (1) وأعراضهم. وهذا كله هو داخل في [الضرورات] (2) الخمس المذكورة في علم الأصول (3)، ومما يدل على ذلك دلالة بينة ما ورد في النصيحة لله، ولكتابة، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم وخاصتهم (4)؛ فإن بيان كذب الكذابين من أعظم النصيحة الواجبة لله ولرسوله، ولجميع المسلمين. وأدلة وجوب النصيحة متواترة، وكذلك جرح (5) من شهد في مال أو دم أو عرض بشهادة زور (6)؛ فإنه من النصيحة التي أوجبها الله على عباده، وأخذهم بتأديتها، وأوجب عليهم القيام بها.
القسم الثاني: الإخبار بالعيب عند المشاورة:
أقول: الوجه في تجويز الغيبة في هذه [5أ] الصورة، أنه قد ثبت مشروعية المشاورة، ثم مشروعية المناصحة الثابتة بالتواتر، وهي من جملة حقوق المسلم على المسلم، كما ثبت في الصحيح (7) .................................................
_________
(1) في (ب) لأموال العباد ودمائهم.
(2) في (أ) الضروريات.
(3) انظر " إرشاد الفحول " (ص 790 - 791) تقدم ذكرها مفصلة.
[حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال].
(4) تقدم تخريجه.
(5) انظر " المغني " (14/ 123، 178).
(6) والتي هي من أكبر الكبائر، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: " الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس، فقال: ألا وقول الزور! " فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
(7) أخرج مسلم في صحيحه رقم (5/ 2162) والبخاري في " الأدب المفرد " رقم (925) والبيهقي في " السنن الكبرى " (5/ 347) (10/ 108) والبغوي في " شرح السنة " رقم (1405) وأحمد (2/ 32) عن حديث أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " حق المسلم على المسلم ست " قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: " إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه ".(11/5585)
[وفيه] (1) " وإذا استنصحك فانصحه "، ولكن [ليس] (2) في هذا القسم من الضرورة الملجئة إلى التعيين ما في القسم الأول، فإنه يمكن القيام بواجب النصيحة بأن يقول الناصح: لا أشير عليك بهذا، أو: لا تفعل كذا، أو نحو ذلك، وليس عليه من النصيحة زيادة على هذا، فالتعيين والدخول فيما هو من الغيبة فضول من الناصح، لم يوجبه الله عليه، ولا تعبده به، ولا ضرورة تلجئه إليه كما في القسم الأول. فليس هذا القسم من الأقسام المستثناة من أدلة تحريم الغيبة، وبهذا تستريح عن الكلام في تعارض الدليلين اللذين بينهما عموم وخصوص من وجه.
القسم الثالث: قوله: ومنها إذا رأيت من يشتري شيئا معيبا أو عبدا سارقا. . . إلخ.
أقول: وهذا القسم أيضًا كالقسم الذي قبله، لا يصح جعله من الصور المستثناة من تحريم الغيبة؛ لأن القيام بواجب النصيحة يحصل بمجرد قوله: لا أشير عليك بشراء هذا، أو نحو هذه العبارة، فله عن الدخول في خطر الغيبة [5] مندوحة، وعن الوقوع في مضيقها سعة.
القسم الرابع: قوله: ومنها إذا رأيت متفقها يتردد إلى فاسق. . . إلخ.
أقول: وهذا القسم أيضًا كالذي قبله، لا يصح جعله من الصور المستثناة من تحريم الغيبة؛ لأن القيام بواجب النصيحة يحصل بالإجمال، ولم يتعبده الله بالتفصيل، وذكر المعائب والمثالب، بل يكفيه أن يقول: لا أشير عليك بمواصلة هذا، أو: لا أرى الأخذ عنه، أو نحو هذه العبارة، فالتصريح بما هو غيبة فضول، لم يوجبه الله عليه ولا طلبه منه.
القسم الخامس: قوله: ومنها أن يكون له ولاية. . . إلخ.
_________
(1) في (ب) ففيه.
(2) زيادة من (أ).(11/5586)
أقول: وهذا القسم أيضًا كالأقسام التي قبله، لا يصح جعله من الصور المستثناة من تحريم الغيبة؛ لأنه إذا قال له: لا تستعمل هذا، أو لا أرى لك الركون عليه، فقد فعل ما أوجبه الله عليه من النصيحة، والزيادة على هذا المقدار فضول، ليس لله فيه حاجة، ولا للمنصوح، ولا للناصح [5ب].
[الصورة الخامسة: ذكر المجاهر بالفسق]:
وأما الصورة الخامسة: وهي ذكر المجاهر بالفسق بما جاهر به.
فأقول: إن كان المقصود بجواز ذكره بما جاهر به هو التحذير للناس، فقد دخل ذلك في الصورة الرابعة، وقد أوضحنا ما فيها فلا نعيده، ومع هذا فحصول المطلوب من التحذير يمكن بدون ذكر ما جاهر به، بأن يقول لمن ينصحه: لا تعاشر فلانا، أو: لا تداخله، أو: لا تذهب إليه؛ فإن هذا الناصح المشير يقوم بواجب النصيحة بهذا المقدار، من دون أن يذكر نفس المعصية التي صار العاصي يجاهر بها، وما أقل فائدة التعرض لذلك وأخطره! فإنه لم يأت دليل يدل على جواز ذكره بما جاهر به، بل ذلك غيبة محضة.
وأما ما يروى من حديث: " اذكروا الفاسق بما فيه؛ كيما يحذره الناس " (1) فلم
_________
(1) وهو حديث موضوع.
أخرجه العقيلي في " الضعفاء " (1/ 202) وابن عدي في " الكامل " (2/ 595) و (3/ 1137) (5/ 1784) و (5/ 1863) والبيهقي في " السنن الكبرى " (10/ 214 - 215) والخطيب في " تاريخ بغداد " (1/ 382) و (3/ 188) و (7/ 262) وغيرهم من طريق الجارود بن يزيد، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده مرفوعا.
قال العقيلي: ليس له من حديث بهز أصل، ولا من حديث غيره، ولا يتابع عليه من طريق يثبت.
وقال البيهقي: هذا يعرف بالجارود بن يزيد النيسابوري وأنكره عليه أهل العلم بالحديث، سمعت أبا عبد الله الحافظ الحاكم يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ غير مرة يقول: كان أبو بكر الجارودي إذا مر بقبر جده يقول: يا أبت لو لم تحدث بحديث بهز بن حكيم لزرتك.
قال ابن عدي والبيهقي: وقد سرق عنه جماعة من الضعفاء فرووه عن بهز بن حكيم، ولم يصح فيه شيء.
والخلاصة أن الحديث موضوع، والله أعلم.(11/5587)
يصح ذلك بوجه من الوجوه، على أنه إنما [سمي] (1) مجاهرا بمجاهرته بتلك المعصية والاستظهار بها بين الناس، وإيقاعها علانية، وعند ذلك يعلم الناس منه ذلك ويعرفونه بمشاهدته، فلا يبقى لذكره به كثير فائدة، وإن كان المقصود بجواز ذكره بما جاهر به استعانة الذاكر على الإنكار عليه لمن يذكر له ذلك الذنب، فهذه الصورة داخلة في الصورة الثانية التي قدم النووي ذكرها، وقدمنا الكلام عليها، فلا فائدة لجعلها صورة مستقلة.
فإن استدل مستدل على جواز مثل هذا بما وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من قوله: " بئس أخو العشيرة " (2). فيقال له: أولاً: إن هذا القول الواقع منه - صلى
_________
(1) في (ب) سمى.
(2) أخرجه البخاري رقم (6054) ومسلم رقم (73/ 2591) عن عائشة قالت: أن رجلا استأذن على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " ائذنوا له، فلبئس ابن العشيرة، أو بئس رجل العشيرة ". فلما دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله قلت له الذي قلت، ثم ألنت له القول؟ فقال: " يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه أو تركه الناس اتقاء فحشه ".
قال الخطابي: " جمع هذا الحديث علما ودبا، وليس في قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمته بالأمور التي يسميهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه أن يبين ذلك ويفصح به ويعرف الناس أمره، فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة، ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق، أظهر له البشاشة ولم يجبه بالمكروه؛ لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله وفي مداراته؛ ليسلموا من شره وغائلته.
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (10/ 454) تعليقا على كلام الخطابي: وظاهر كلامه - الخطابي - أن يكون هذا من جملة الخصائص، وليس كذلك، بل كل من اطلع من حال شخص على شيء وخشي أن غيره يغتر بجميل ظاهره فيقع في محذور ما، فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك قاصدا نصيحته، وإنما الذي يختص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكشف له عن حال من يغتر بشخص من غير أن يطلعه المغتر على حاله، فيذم الشخص بحضرته ليتجنبه المغتر ليكون نصيحة، بخلاف غير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن جواز ذمه للشخص يتوقف على تحقق الأمر بالقول أو الفعل ممن يريد نصحه.
قال القرطبي في " المفهم " (6/ 573): جواز الغيبة: المعلن بفسقه ونفاقه، والأمير الجائر والكافر، وصاحب بدعة، وجواز مداراتهم اتقاء شرهم، ولكن يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى.
وقال القاضي عياض في " إكمال المعلم بفوائد مسلم " (8/ 63 - 63): هذا من المداراة وهو بذل الدنيا لصلاح الدنيا والدين، وهي مباحة مستحسنة في بعض الأحوال، خلاف المداهنة المذمومة المحرمة، وهو بذل الدين لصلاح الدنيا، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هنا بذل له من دنياه حسن عشرته، ولا سيما كلمته وطلاقة وجهه، ولم يمدحه بقول ولا روي ذلك في حديث، فيكون خلاف قوله فيه لعائشة.
وانظر: " فتح الباري " (10/ 453).
وقال القاضي عياض في " إكمال المعلم " (8/ 62): وهذا الرجل هو عيينة بن حصن، وكان حينئذ لم يسلم - والله أعلم - فلم يكن القول فيه غيبة، أو أراد - عليه الصلاة والسلام - إن كان قد أظهر الإسلام أن يبين حاله؛ لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه، وقد كان منه في حياة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبعده من هذه الأمور ما دلت على ضعف إيمانه.
قال الحافظ في " الفتح " (10/ 471 - 472) وقد نوزع في كون ما وقع من ذلك غيبة، وإنما هو نصيحة ليحذر السامع، وإنما لم يواجهه المقول فيه بذلك لحسن خلقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو واجه المقول فيه بذلك لكان حسنا، ولكن حصل القصد بدون مواجهة.
والجواب: أن المراد أن صورة الغيبة موجودة فيه وإن لم يتناول الغيبة المذمومة شرعا، وغايته أن تعريف الغيبة المذكور أولا هو اللغوي، إذا استثني منه ذكر كان ذلك تعريفها الشرعي. وقوله في الحديث: " إن شر الناس " استئناف كلام كالتعليل لتركه مواجهته بما ذكره في غيبته.
ويستنبط منه - الحديث - أن المجاهر بالفسق والشر لا يكون ما يذكر عنه في ذلك من ورائه من الغيبة المذمومة. قال العلماء: تباح الغيبة في كل غرض صحيح شرعا حيث يتعين طريقا إلى الوصول إليه بها: كالتظلم، والاستعانة على تغيير المنكر، والاستفتاء، والمحاكمة، والتحذير من الشر، ويدخل فيه تجريح الرواة والشهود، وإعلام من له ولاية عامة بسيرة من هو تحت يده، وجواب الاستشارة في نكاح أو عقد من العقود، وكذا من رأى متفقها يتردد إلى مبتدع أو فاسق ويخاف عليه الاقتداء به، وممن تجوز غيبتهم من يتجاهر بالفسق أو الظلم أو البدعة. . . ".(11/5588)
الله عليه آله وسلم - لا يجوز لنا الاقتداء به فيه؛ لأن الله - سبحانه - قد حرم علينا الغيبة في كتابه العزيز، وحرمها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - علينا بما تقدم ذكره من قوله الصحيح، وبإجماع المسلمين.(11/5589)
فعلى تقدير أن هذا القول مما يصدق عليه اسم الغيبة، يكون وقوعه منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في حكم المخصص له من ذلك العموم (1)، لكن على هذه الصورة الإجمالية وبهذه الصفة الصادرة منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأيضا فالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يعلم ما لم نعلم، ويأتيه الوحي بما لم يأتنا، ويبين الله له ما لم يبين لنا، فلا يجوز لنا أن نقتدي به في قول صادر منه على هذه الصفة؛ لجهلنا بالحقائق، وعدم اطلاعنا على ما في باطن الأمر؛ ولهذا رد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على من وصف رجلا في مقامه بأنه مؤمن، فقال: " أو مسلم هو " (2).
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (27) ومسلم رقم (237/ 150) عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى رهطا - وسعد جالس - فترك رسول الله رجلا هو أعجبهم إلي، فقلت: يا رسول الله مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا. فقال: " أو مسلما " فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي فقلت: مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا، فقال: " أو مسلما " ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي، وعاد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال: " يا سعد إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار ".
قال الحافظ في " الفتح " (1/ 80 - 81): أرشده النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أمرين:
1 - إعلامه بالحكمة في إعطاء أولئك وحرمان (جعيل) مع كونه أحب إليه ممن أعطى؛ لأنه لو ترك إعطاء المؤلف لم يؤمن إرتداده فيكون من أهل النار.
2 - إرشاده إلى التوقف عن الثناء بالأمر الباطن دون الثناء بالأمر الظاهر، فوضع بهذا رد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سعد، وأنه لا يستلزم محض الإنكار عليه، بل كان الجوابين على طريق المشورة بالأولى والآخر عن طريق الاعتذار. وفي الحديث فوائد منها:
(أ): التفرقة بين حقيقتي الإيمان والإسلام وترك القطع بالإيمان الكامل عن ما لم ينص عليه.
(ب): جواز تصرف الإمام في مال المصالح وتقديم الأهم فالأهم، وإن خفي ذلك وجهه على بعض الرعية.
(جـ): مراجعة المشفوع إليه في الأمر إذ لم يؤد إلى مفسدة.
(د): الإسرار بالنصيحة أولى من الإعلان، فقد جاء في رواية: " فقمت إليه فساررته ".
(هـ): الاعتذار إلى الشافع إذا كانت المصلحة في ترك إجابته.
(و): أن لا عيب على الشافع إذا ردت شفاعته.
(ز): استحباب ترك الإلحاح في السؤال.
(ي): أنه لا يقطع لأحد بالجنة على التعيين إلا من ثبت فيه نص كالعشرة وأشباههم، وهذا مجمع عليه عند أهل السنة.
وانظر: " شرح صحيح مسلم " للنووي (2/ 181).(11/5590)
ورد على آخرين بما وصفوا رجلا بالنفاق فقال: " أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ " وهذا كله ثابت في الصحيح (1)، وأيضا فذلك الرجل الذي قال فيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " بئس أخو العشيرة " (2)، لم يكن إذ ذاك قد صلح إسلامه (3)، بل هو من جملة من كان يتبع الإسلام ظاهرا مع اضطراب حاله. وبقي أثر الجاهلية عليه [6أ]. وقد كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يتألف أمثال هذا، ويعاملهم معاملة المسلمين الخالصي الإسلام، مع علمه وعلم أصحابه بما هم عليه، وكان يقول لمن يأتيه منهم: " هذا سيد بني فلان، هذا سيد قومه، هذا سيد الوبر " (4) ونحو ذلك، بل كان يتآلفهم
_________
(1) أخرجه مسلم رقم (54/ 33) عن أنس بن مالك، قال: حدثني محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك قال: قدمت المدينة، فلقيت عتبان، فقلت: حديث بلغني عنك، قال: أصابني في بصري بعض الشيء، فبعث إلي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي فأتخذ مصلى. قال: فأتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن شاء الله من أصحابه، فدخل وهو يصلي في منزلي، وأصحابه يتحدثون بينهم، ثم أسندوا عظم ذلك وكبره إلى مالك بن دخشم، قالوا: ودوا أنه دعا عليه فهلك، وودوا أنه أصابه شر، فقضى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة. وقال: " أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ " قالوا: إنه يقول ذلك، وما هو في قلبه. قال: " لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فيدخل النار أو تطعمه ".
قال النووي في " شرحه لصحيح مسلم " (1/ 244): وفي هذا دليل على جواز تمني هلاك أهل النفاق والشقاق ووقوع المكروه بهم.
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.
(4) أخرج الطبراني في " الكبير " (18/ 239) رقم (870) والحاكم في " المستدرك " (3/ 612) والبخاري في " الأدب المفرد " رقم (953) عن قيس بن عاصم المنقري، وفيه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: " هذا سيد الوبر ".
وأخرج الحاكم في " المستدرك " (3/ 611) عن قيس بن عاصم المنقري، وفيه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: " هذا سيد الوبر ". وهو حديث حسن لغيره.(11/5591)
بالكثير من المال والنصيب الوافر من المغانم، ويكل خلص المؤمنين من المهاجرين والأنصار إلى إيمانهم ويقينهم، هذا معلوم لا يشك فيه عارف، ولا يخالف فيه مخالف، فلا يحل لأحدنا أن يعمد إلى من يعلم أنه خالص الإسلام، صحيح النية فيه، مؤمن بالله وبرسوله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فيغتابه بمعصية فعلها أو خطيئة جاهر بها، مستدلا على ذلك بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " بئس أخو العشيرة " (1)؛ لما أوضحنا لك، وليس الخطر هاهنا بيسير، ولا الخطب بقليل؛ فإن الإقدام على الغيبة المحرمة بالكتاب والسنة والإجماع إذا لم يكن فيه برهان من الله - سبحانه - كان الوقوع فيه وقوعا فيما حرمه الله ونهى عنه، والقول بجوازه بدون برهان من التقول على الله بما لم يقل، وهو أشد من ذلك وأعظم وأخطر، والهداية بيد الله - عز وجل -.
[الصورة السادسة: التعريف بالألقاب]
وأما الصورة السادسة: وهي التعريف بالألقاب.
فأقول: قد نهى عن ذلك القرآن الكريم، قال الله - عز وجل -: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} (2).
وهذا النهي [6] يدل على تحريم التلقيب، ولا يجوز شيء منه إلا بدليل يخصص هذا العموم، فقد اجتمع على المنع من هذا دليلان قويان سويان:
أحدهما: أدلة تحريم الغيبة.
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) [الحجرات: 11].(11/5592)
والثاني: دليل تحريم التلقيب.
فإن كان ذكر ذي اللقب بلقبه في غيبته، كان الذاكر جامعا بين تحريم الغيبة، وتحريم التلقيب، وإن كان ذكر ذي اللقب في وجهه كان الذاكر واقعا في التلقيب [المحرم] (1).
فإن قلت: إذا علمنا أن المذكور بلقبه لا يكره ذكره به.
قلت: إذا علمنا ذلك لم يكن غيبة محرمة؛ لأن الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره، ولكن الذاكر له بذلك اللقب واقع في مخالفة النهي القرآني المصرح بالنهي عن التنابز بالألقاب كما لا يخفى.
فإن قلت: إذا كان [6ب] ذكره باللقب أقرب إلى تعريفه، كمن يشتهر بالأعرج والأعمش والأعور، ونحو ذلك.
قلت: هذه الأقربية لا تحلل ما حرمه الله، فينبغي ذكره [بالأوصاف] (2) التي لا تلقيب فيها، وإن طالت المسافة وبعدت، وانظر ما في مثل هذا من الخطر العظيم، وهو الوقوع في النهي القرآني، ومما يزيدك [عن] (3) هذا وأمثاله بعدا قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لمن سمعها تذكر امرأة أخرى بأنها قصيرة فقال: " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " (4) والحديث صحيح.
_________
(1) زيادة من (أ).
(2) في (ب): بأوصافه.
(3) في (ب): على.
(4) أخرجه أبو داود رقم (4875) والترمذي رقم (2503) وأحمد (6/ 189) من طريق أبي حذيفة عن عائشة. قال الترمذي حديث حسن صحيح.
وهو حديث صحيح.
قال الحافظ في " الفتح " (10/ 468 - 469) أن اللقب إن كان مما يعحب الملقب ولا إطراء فيه مما يدخل في نهي الشرع، فهو جائز أو مستحب، وإن كان مما لا يعجبه فهو حرام أو مكروه، إلا إن تعين طريقا إلى التعريف به حيث يشتهر به ولا يتميز عن غيره إلا بذكره.
ومن ثم أكثر الرواة من ذكر الأعمش والأعرج ونحوهما، وعارم وغندر وغيرهم، والأصل فيه قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ركعتين من صلاة الظهر فقال: أكما يقول ذو اليدين. . . وساق بعض ألفاظ الرواية.
ثم قال ابن حجر: وكأن البخاري لمح بذلك حيث ذكر قصة ذي اليدين وفيها: " وفي القوم رجل في يديه طول. قال ابن المنير: أشار البخاري إلى أن ذكر مثل هذا إن كان للبيان والتمييز فهو جائز، وإن كان للتنقيص لم يجز. قال: وجاء في بعض الحديث عن عائشة في المرأة التي دخلت عليها فأشارت بيدها أنها قصيرة. فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اغتبتها " وذلك أنها لم تفعل هذا بيانا، وإنما قصدت الإخبار عن صفتها، فكان كالاغتياب ".(11/5593)
فإن قلت: هذه دواوين الإسلام، ومسانيدها، ومعاجمها، وسائر المصنفات في السنة مشحونة بذكر الألقاب؛ كالأعمش، والأعرج، والأعور، ونحوها.
قلت: [لا يصلح] (1) إيراد مثل هذا في مقابلة النهي القرآني المصرح بتحريم التنابز بالألقاب، وإنما يقتدي الناس بأهل العلم في الخير، فإذا جاءوا بما يخالف الكتاب والسنة فالقدوة الكتاب والسنة، مع إحسان الظن بهم، وحملهم على محامل حسنة مقبولة.
فإن قلت: فإن كان صاحب اللقب لا يعرف إلا به، ولا يعرف بغيره أصلا؟
قلت: إذا بلغ الأمر إلى هذه النهاية، ووصل البحث إلى هذه الغاية، لم يكن ذلك اللقب لقبا، بل هو الاسم الذي يعرف به صاحبه؛ إذ لا يعرف باسم سواه قط. والتسمية للإنسان باسم يعرف به، لا سيما من كان رواة العلم الحاملين له المبلغين ما عندهم منه إلى الناس، أمر تدعو [الحاجة إليه] (2) وإلا بطل ما يرويه من العلم، خصوصا ما كان قد تفرد به ولم يشاركه فيه غيره، وعلى هذا يحمل ما وقع في المصنفات من ذكر الألقاب؛ فإنها أهلها وإن كانت لهم أسماء، ولآبائهم ولأجدادهم، فغيرهم يشاركهم فيها، فقد يتفق اسم الرجل مع الرجل، واسم أبيه مع أبيه، واسم جده، فلا يمتاز أحدهما عن الآخر [7أ] في كثير من الحالات إلا بذكر الألقاب ونحوها.
_________
(1) في (ب): لا يصح.
(2) في (ب): إليه الحاجة.(11/5594)
وحينئذ لم يبق لتلك الأسماء فائدة؛ لأن المقصود منها أن يتميز بها صاحبها عن غيره، ولم يحصل هذا الذي هو المقصود بها. بل إنما حصل من اللقب، فكان هو الاسم المميز في الحقيقة، فلم يكن ذلك من التنابز بالألقاب.
[خاتمة الرسالة]
فاعرف هذا وتدبره، فإنه نفيس، وبه يندفع ما تقدم من إيراد ما جرى عليه [عمل] (1) أئمة الرواية.
وهكذا يرتفع الإشكال عن القارئ لتلك الكتب، ولا يقال له: إنه يروي [الألقاب] (2)، ويغتاب أهلها بقراءتها في كتب السنة.
_________
(1) زيادة من (أ).
(2) في (ب): بالألقاب.
قال الغزالي في " الإحياء " (3/ 144): اعلم أن الذكر باللسان إنما حرم؛ لأن فيه تفهيم نقصان أخيك وتعريفه بما يكره، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول، والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام.
اعرف الأسباب الباعثة على الغيبة تصفو نفسك وتطهر:
1 - أن يشفي الغيظ، وذلك إذا جرى سبب غضب به عليه، فإنه إذا هاج غضبه يشتفي بذكر مساويه، فيسبق إليه بالطبع إن لم يكن دين وازع، وقد يمتنع من تشفي الغيظ عند الغضب، فيحتقن الغضب في الباطن فيصير حقدا ثابتا، فيكون سببا دائما لذكر المساوي، فالحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة.
2 - موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام، فإنهم إذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض غير أنه لو أنكر عليهم أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه، فيساعدهم ويرى في ذلك المعاشرة، ويظن أنه مجاملة في الصحبة.
3 - أن يستشعر من إنسان أنه سيقصده ويطول لسانه عليه، أو يقبح حاله عند محتشم أو يشهد عليه بشهادة، فيبادر قبل أن يقبح هو حاله ويطعن فيه ليسقط أثر شهادته، أو يبتدئ بذكر ما فيه صادقا ليكذب عليه بعده، فيروج كذبه بالصدق الأول، ويستشهد ويقول: ما من عادتي الكذب، فإني أخبرتكم بكذا وكذا من أحواله، فكان كما قلت.
4 - أن ينسب إلى شيء فيريد أن يتبرأ منه فبذكر الذي فعله، وكان من حقه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعل، فلا ينسب غيره إليه، أو يذكر غيره بأنه كان مشاركا له في الفعل ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله.
5 - إرادة التصنع والمباهاة، وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره.
6 - الحسد، وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبونه ويكرمونه، فيريد زوال تلك النعمة عنه، فلا يجد سبيلا إليه إلا بالقدح فيه.
7 - اللعب والهزل والمطايبة وتزجية الوقت بالضحك، فيذكر عيوب غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة، ومنشؤه النكير والعجب.
8 - السخرية والاستهزاء استحقارا له، فإن ذلك قد يجري في الحضور، ويجري أيضًا في الغيبة، ومنشؤه التكبر واستصغار المستهزئ به، وهناك أسباب خاصة فهي أغمض وأدق تلك الأسباب؛ لأنها شرور خبأها الشيطان في معرض الخيرات وفيها خير، ولكن شاب الشيطان بها الشر.
1 - ): أن تنبعث من الدين داعية التعجب في إنكار المنكر والخطأ في الدين، فيقول: ما أعجب ما رأيت من فلان، فإنه قد يكون صادقا ويكون تعجبه من المنكر، ولكن كان في حقه أن يتعجب ولا يذكر اسمه، فيسهل عمل الشيطان عليه ذكر اسمه في إظهار تعجبه، فصار به مغتابا وآثما من حيث لا يدري.
2 - ): الرحمة، وهو أن يغتم بسبب ما يبتلى به فيقول: مسكين فلان قد غمني أمره وما ابتلي به، فيكون صادقا في دعوى الاغتمام، ويلهيه الغم عن الحذر من ذكر اسمه فيذكره، فيصير به مغتابا، فيكون غمه ورحمته خيرا، وكذا تعجبه، ولكن ساقه الشيطان إلى شر من حيث لا يدري، والترحم والاغتمام ممكن دون ذكر اسمه فيهيجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل ثواب الاغتمام وترحمه.
3 - ): الغضب لله تعالى، فإنه قد يغضب على منكر قارفه إنسان إذا رآه أو سمعه، فيظهر غضبه أو يذكر اسمه، وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يظهر على غيره أو يستر اسمه ولا يذكره بالسوء.
انظر مزيد تفصيل: " إحياء علوم الدين " (3/ 108 - 161) كتاب آفات اللسان.
واعلم أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله ". أخرجه مسلم رقم (2564) من حديث أبي هريرة.
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (67) ومسلم رقم (1679) عن أبي بكرة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في خطبته في حجة الوداع: " إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت ".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (11) ومسلم رقم (42) عن أبي موسى الأشعري قال: قلت: يا رسول الله أي المسلمين أفضل؟ قال: " من سلم المسلمون من لسانه ويده ".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (6474) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه، أضمن له الجنة ". وقد ذكر قوله - عز وجل -: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].(11/5595)
وفي هذا المقدار كفاية. والله ولي التوفيق [كتبه المجيب محمد الشوكاني - غفر الله له -] (1).
[انتهى نقل هذه الرسالة العظيمة في يوم الثلاثاء سابع شهر شوال سنة أربع وثلاث عشر مائة بعد الألف سنة 1304 ختمت وما بعدها بخير آمين - وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم آمين] [7] (2).
_________
(1) زيادة من (أ).
(2) زيادة من (ب).(11/5597)
(183) 20/ 1
رسالة في حكم القيام لمجرد التعظيم
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(11/5599)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: رسالة في حكم القيام لمجرد التعظيم.
2 - موضوع الرسالة: آداب.
3 - أول الرسالة: هذا البحث لشيخنا القاسم بن يحيى الخولاني رحمه الله، وأجيب عنه بما بعده.
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الراشدين، وبعد، فإنه لما بلغ السماع في جامع الأصول على مولانا وشيخنا العلامة وحيد الدين عبد القادر بن أحمد.
4 - آخر الرسالة: انتهى من خط المجيب حفظه الله وبارك لنا في أيامه ولياليه بحق محمد وآله وسلم.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 14 صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرا ما عدا الصفحة الأولى فعدد أسطرها 20 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5601)
هذا البحث لشيخنا العلامة القاسم بن يحيى الخولاني (1) رحمه الله، وأجيب عنهما بعده.
[بسم الله الرحمن الرحيم]
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الراشدين وبعد:
فإنه لما بلغ السماع في جامع الأصول (2) على مولانا وشيخنا العلامة وحيد الدين عبد القادر بن أحمد (3) - فسح الله في مدته - إلى حديث كعب بن مالك (4)، ومجيئه إلى النبي -
_________
(1) القاسم بن يحيى الخولاني ثم الصنعاني، ولد سنة 1162، ونشأ بصنعاء فأخذ عن جماعة من أكابر علمائهم منهم: العلامة أحمد بن صالح بن أبي الرجال. برع في جميع العلوم.
قال الشوكاني في " البدر الطالع " في ترجمته رقم (385): ولازمته وانتفعت به، فقرأت عليه الكافية في النحو وشرحها للسيد المفتي جميعا وشرحها للخبيصي جميعا، وحواشيه وشرح الرضي شيئا يسيرا من أواخره، والشافية في الصرف وشرحها للشيخ لطف الله جميعا، والتهذيب للسعد في المنطق وشرحه للشيرازي جميعا وشرحه للبزدي. . . وغيرها الكثير. . . وكان - رحمه الله - يطارحني في البحث مطارحة المستفيد تواضعا منه، وجرت بيني وبينه مباحثات في مسائل يشتمل عليها رسائل.
توفي سنة 1209هـ.
" البدر الطالع " رقم (385)، و" نيل الوطر " (2/ 184 رقم 387).
(2) (2/ 179).
(3) هو عبد القادر بن أحمد بن عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين، ابن الإمام شرف الدين بن شمس الدين بن الإمام المهدي أحمد بن يحيى، ولد سنة 1135، نشأ بكوكبان، فقرأ على من به من العلماء، ثم ارتحل إلى صنعاء، فأخذ عن أكابر علمائها كالسيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، والسيد العلامة هاشم بن يحيى وغيرهم.
قال الشوكاني في " البدر الطالع " رقم الترجمة (243): أخذت عنه في علوم عدة فقرات.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4418) ومسلم في صحيحه رقم (2769) وأخرجه أبو داود رقم (2202) والترمذي رقم (3101) والنسائي (6/ 152) وأحمد (3/ 459، 460) من حديث كعب بن مالك.
قال الحافظ في " الفتح " (11/ 52): واحتج النووي بقيام طلحة لكعب بن مالك.
وأجاب ابن الحاج بأن طلحة إنما قام لتهنئته ومصافحته؛ ولذلك لم يحتج به البخاري للقيام، وإنما أورده في المصافحة. ولو كان قيامه محل النزاع لما انفرد به. فلم ينقل أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام له ولا أمر به ولا فعله أحد ممن حضر، وإنما انفرد طلحة لقوة المودة بينهما على ما جرت به العادة أن التهنئة والبشارة ونحو ذلك تكون على قدر المودة والخلطة، بخلاف السلام فإنه مشروع على من عرفت ومن لم تعرف، والتفاوت في المودة يقع بسبب التفاوت في الحقوق، وهو أمر معهود.
قلت - ابن حجر -: ويحتمل أن يكون من كان لكعب عنده من المودة مثل ما عند طلحة لم يطلع على وقوع الرضا عن كعب واطلع عليه طلحة؛ لأن ذلك عقب منع الناس من كلامه مطلقا، وفي قول كعب: " لم يقم إلي من المهاجرين غيره " إشارة إلى أنه قام إليه غيره من الأنصار.
قال ابن الحاج: وإذا حمل فعل طلحة على محل النزاع لزم أن يكون من حضر من المهاجرين قد ترك المندوب، ولا يظن بهم ذلك.
" شرح صحيح مسلم " للنووي (17/ 96)، " كتاب الترخيص في الإكرام بالقيام " للنووي (ص 29 - 34).(11/5607)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لما أنزل الله توبته، وقيام طلحة بن عبد الله يهرول حتى صافحه وهناه، واستفيد من جواز القيام للداخل كما وقع من طلحة لكعب، لتقرير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فأورد بعض الحاضرين من العلماء الأعلام حديثا رواه أبو داود (1) يقضي بالمنع من القيام للداخل، ثم جمع بين الحديثين بحمل ما وقع من طلحة على القيام مع المصافحة كما هو كذلك، وإطلاق المنع من ما عداه؛ لما في حديث أبي داود، ولم يبتئس في تلك الحال استيفاء البحث، فبقي في النفس منه شيء، ولما يسر الله البحث عن ذلك، رأيت رقم ما وقفت عليه، وعرضه على شيخنا حفظه الله.
فأقول: لفظ الحديث في أبي داود: عن أبي أمامة قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - متوكيا على عصا، فقمنا إليه فقال: " لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا ". قال الحافظ المنذري في مختصر السنن (2) وأخرجه ابن ماجه (3)،
_________
(1) في " السنن " رقم (5230) وهو حديث ضعيف.
(2) (8/ 93).
(3) في " السنن " رقم (3836).(11/5608)
وفي إسناده أبو غالب حزوره، ويقال: نافع. ويقال: سعيد بن الحزور. قال يحيى بن معين: صالح الحديث. وقال مرة: ليس به بأس، وقال مرة: ترك شعبة أبا غالب، وضعفه شعبة على أنه تغير عقله، وقال موسى بن هارون: ثقة (1)، وقال أبو حاتم الرازي (2) ليس بالقوي، وقال ابن حبان (3) لا يجوز الاحتجاج به، إلا فيما يوافق الثقات، وقال ابن سعد في الطبقات (4) سمعت من يقول: اسمه نافع، وكان ضعيفا منكر الحديث، وقال النسائي (5) ضعيف. وقال الدارقطني (6) لا يعتبر به، وقال مرة ثقة. انتهى كلام المنذري (7).
ثم قال بعد هذا: وقد أخرج مسلم في صحيحه (8) من حديث أبي الزبير عن جابر أنهم لما صلوا خلفه قعودا، قال: " إن كدتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود؛ فلا تفعلوا " انتهى. فكيف يقال لمعارضة هذا الحديث الذي في إسناده من سمعت ما قيل فيه [1]؛ لما وقع في حديث كعب بن مالك المتفق عليه (9)، ولو فرضت صحته إسنادا إلى توثيق من وثق أبا غالب من الأئمة، فهو محمول على القيام في حال قعود من كان القيام لأجله كما في حديث مسلم المذكور آنفا. ويدل على حمله على ذلك إيراد الحافظ المنذري لحديث مسلم (10) عقيب كلامه على إسناد ذلك الحديث.
_________
(1) انظر " تهذيب التهذيب " (4/ 570)، " ميزان الاعتدال " (1/ 476 رقم 1799).
(2) انظر " تهذيب التهذيب " (4/ 570).
(3) في " المجروحين " (1/ 267)
(4) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (4/ 570).
(5) في " الضعفاء والمتروكين " (ص 262) رقم (696).
(6) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (4/ 570).
(7) في " مختصر السنن " (8/ 93) وهو حديث ضعيف.
انظر: " الضعيفة " رقم (346).
(8) رقم (413).
(9) تقدم تخريجه.
(10) رقم (413).(11/5609)
هذا لو لم يكن الدليل على جواز القيام إلا تقرير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لما فعله طلحة، فكيف وقد أخرج البخاري (1)، ومسلم (2)، وأبو داود (3)، والنسائي (4) حديث سعد بن معاذ لما أرسل إليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فجاء، فقال لمن عنده: " قوموا إلى سيدكم، أو خيركم ". وأخرج أبو داود (5)، والترمذي (6)، والنسائي (7) من حديث عائشة أنها قالت: " ما رأيت أحدا كان أشبه سمتا، ودلال، وهديا " وفي رواية (8) حديثا وكلاما برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من فاطمة - كرم الله وجهها (9) - كانت إذا دخلت عليه قام إليها، فأخذ بيدها فقبلها واجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبلته، وأجلسته في مجلسها (10). انتهى. واللفظ لأبي داود (11)، قال العامري في البهجة: في حديث كعب هذا فوائد، ثم ساقها حتى قال: ومنها استحباب القيام للوارد إكراما له، إذا كان من أهل الفضل، بأي نوع كان، وجواز سرور المقول له بذلك، كما سر كعب بقيام طلحة - رضي الله عنه - وليس بمعارض لحديث: " من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار " (12)؛ لأن هذا الوعيد للمتكبرين ومن يغضب إن لم يقم له.
_________
(1) في صحيحه رقم (3043) وأطرافه (3804، 4121، 6262).
(2) في صحيحه رقم (1768).
(3) في " السنن " رقم (5215).
(4) في " فضائل الإمام علي " رقم (118).
(5) في " السنن " رقم (5217).
(6) في " السنن " رقم (3872).
(7) لم أجده. قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (1621) وهو حديث صحيح.
(8) قال الحسن حديثا وكلاما ولم يذكر السمت والهدي والدل برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فاطمة.
(9) تقدم التعليق على هذه الجملة، والأولى رضي الله عنها.
(10) سيأتي تخريجه.
(11) في " السنن " رقم (5217) وهو حديث صحيح.
(12) سيأتي تخريجه.(11/5610)
وقد كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقوم لفاطمة - رضي الله عنها - سرورا بها، وتقوم له كرامة له، وكذلك قيام أثمره الحب في الله، والسرور لأخيك بنعمة الله، والبر لمن يتوجه بره، والأعمال بالنيات، والله أعلم. انتهى.
قال الإمام الرافعي (1) ويكره للداخل أن يطمع في قيام القوم، ويستحب لهم أن يكرموه. انتهى. قال الحافظ ابن حجر في التلخيص (2) كأنه أراد أن يجمع بين الأخبار الواردة في الجواز والكراهة.
فأما الأول: ففيه حديث معاوية: " من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار " (3).
وأما الثاني: ففيه حديث أبي سعيد: " قوموا إلى سيدكم " رواه البخاري (4) وحديث جرير: " إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه " رواه البيهقي (5)، والطبراني (6)، والبزار (7)، وإسناده (8) أقوى من إسنادهما. انتهى.
_________
(1) ذكره ابن حجر في " التلخيص " (4/ 180).
(2) في " التلخيص " (4/ 180).
(3) أخرجه أبو داود رقم (5229) والترمذي رقم (2756) وقال: هذا حديث حسن.
(4) في صحيحه رقم (3043) وقد تقدم.
(5) في " السنن الكبرى " (8/ 168).
(6) في " الكبير " (2/ 304، 325 رقم 2266، 2358).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 15) وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه حصين بن عمر وهو متروك.
(7) في مسنده (2/ 402 رقم 1959 - كشف).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 15 - 16) وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " والبزار باختصار، وفيه من لم أعرفهم.
(8) أي البيهقي.(11/5611)
فظهر مما سبق نقله أن القيام للوارد بمدلول عليه بالسنة قولا، وفعلا، وتقريرا أن حديث أبي أمامة في أبي داود لا يقوى على معارضة ما في الصحيحين لو صح سنده، وأن القول بحمله على ما لم تصحبه المصافحة، وحمل حديث كعب على القيام مع المصافحة تكلف لا حاجة إليه، لكن يبقى الكلام هل هذا القيام جائز مع الكراهة كما يستفاد من كلام الحافظ ابن حجر (1) المنقول آنفا؟ وهو مشروع، أعني مستحبا، كما صرح به العامري في البهجة، فلا كراهة.
والظاهر أنه مستحب [2] إذ لا يأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالمكروه كما وقع في حديث سعد بن معاذ. وجعل الحافظ ابن حجر (2) لحديث معاوية دليلا على الكراهة - أعني كراهة القيام - لا يتم؛ إذ مقتضى حديث معاوية المنع من السرور بالقيام، وهو إنما يقع للوارد المعني بقوله: من سره أن يتمثل له الرجال. . إلخ (3)، والمأمور بالقيام من وقع الورود عليه، فلم يتوارد ما يدل على القيام، وما يدل على منع السرور منه على محل واحد، حتى يحمل المثبت منهما على الجواز مع الكراهة، نعم المكروه حصول السرور من الوارد؛ لحديث معاوية المذكور، وإنما قيل بالكراهة بدون التحريم لما عرفت من سرور كعب بن مالك بقيام طلحة، وتقرير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لذلك السرور كما أفاده العامري. هذا ما ظهر للراقم، وفوق كل ذي علم عليم.
_________
(1) في " التلخيص " (4/ 180 - 181).
(2) في " التلخيص " (4/ 180 - 181).
(3) قال ابن تيمية في " مجموع فتاوى " (1/ 375): " وليس هذا القيام المذكور في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار " فإن ذلك أن يقام له وهو قاعد، ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء؛ ولهذا فرقوا بين أن يقام إليه وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد ".(11/5612)
هذا الجواب مني (1) على بحث شيخنا العلم رحمه الله، وكانت هذه المباحث بيني وبينه، وأنا في أيام الصغر، قبل الإمعان في الطلب كما ينبغي، فليعلم ذلك.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد، فإنه وقف الحقير على هذا البحث النفيس الذي حرره شيخنا العلامة (2) - نفع الله بعلومه - في شأن تلك المذاكرة، التي جرت بيننا حال السماع على شيخنا الإمام الوجيه، كشف الله بأنوار علومه دياجير الظلم، وبدد بهديه القويم شمل الابتداع.
وقد أفاد وأجاد، وأحسن ما شاء - أحسن الله إليه - ولا غرو أن نثر علينا من هذه الدرر الثمينة فهو البحر التيار، أو جلى في هذه الحلبة فصلينا وسلمنا فهو السابق في ذلك المضمار، إلا إنه علق بالذهن العليل عند أسامة شرح اللحظ في هذه الحديقة الأنيقة ما جرى به القلم في هذا القرطاس، لا لقصد المعارضة، بل رجاء العثور ببركة شيخي على الحقيقة.
فأقول: ليعلم أولا أن محل النزاع القيام المقيد بالتعظيم لا المطلق، وقد دل على تحريم الأول حديث أبي أمامة عند أبي داود (3) بلفظ: " خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - متوكيا على عصا، فقمنا إليه، فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضا ". ولا يخفى عليك أن مناط النهي ههنا هو التعظيم المصرح به، وقد شهد لهذا الحديث حديث مسلم (4) الذي ساقه شيخنا؛ ولهذا أورده المنذري (5) في
_________
(1) أي الشوكاني رحمه الله.
(2) أي العلامة القاسم بن يحيى الخولاني رحمه الله.
(3) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف.
(4) في صحيحه رقم (413) من حديث جابر. وفيه: ". . . إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم. . . ".
(5) في " المختصر " (8/ 93).(11/5613)
هذا البحث، لا لما ذكره العلم - حفظه الله - من أن الغرض من إيراده بيان أن القيام محمول على القيام في حال القعود؛ فإنه يأباه لفظ " خرج " المقيد بـ " متوكيا "، المعلق عليه، فقال: بالفاء التي هي غالبة في الفوز [3]، ويشهد له أيضًا حديث: " من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار " (1) فإنه محمول على التعظيم حمل المطلق
_________
(1) تقدم وهو حديث صحيح.
قال الخطابي: ". . . وفيه قيام المرءوس للرئيس الفاضل والإمام العادل والمتعلم للعالم مستحب، وإنما يكره لمن كان بغير هذه الصفات، ومعنى حديث: " من أحب أن يقام له " أي: بأن يلزمهم بالقيام له صفوفا على طريق الكبر والنخوة. ورجح المنذري الجمع عن ابن قتيبة والبخاري وأن القيام المنهي عنه أن يقام عليه وهو جالس.
وقد رد ابن القيم في (8/ 85 - حاشية مختصر السنن) على هذا القول بأن سياق حديث معاوية يدل على خلاف ذلك، وإنما يدل على أنه كره القيام له لما خرج تعظيما؛ ولأن هذا لا يقال له القيام للرجل، وإنما هو القيام على رأس الرجل أو عند الرجل.
قال ابن القيم: والقيام ينقسم على ثلاث مراتب:
1 - قيام على رأس الرجل وهو فعل الجبابرة.
2 - قيام إليه عند قدومه ولا بأس به.
3 - قيام له عند رؤيته وهو المتنازع فيه.
قال البخاري: وورد في خصوص القيام على رأس الكبير الجالس ما أخرجه الطبراني في " الأوسط " رقم (6680) عن أنس قال: " إنما هلك من كان قبلكم بأنهم عظموا ملوكهم بأن قاموا وهو قعود ".
- وما أخرجه مسلم رقم (413) من حديث جابر وفيه: " إن كنتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهو قعود ".
وحكى المنذري قول الطبري: وأنه قصد النهي عن من سره القيام له لما في ذلك من حمية التعاظم ورؤية منزلة نفسه، ورجح ذلك النووي.
وقال النووي في الجواب عن حديث معاوية: أن الأصح والأولى بل الذي لا حاجه إلى ما سواه أن معناه زجر المكلف أن يحب قيام الناس له. وقال: وليس فيه تعرض للقيام بمنهي ولا غيره، وهذا متفق عليه. قال: والمنهي عنه حمية القيام، فلو لم يخطر بباله فقاموا له أو لم يقوموا فلا لوم عليه، فإن أحب ارتكب التحريم، سواء قاموا أو لم يقوموا. قال: فلا يصح الاحتجاج به لترك القيام.
واعتراض ابن الحاج بأن الصحابي الذي تلقى ذلك من صاحب الشرع قد فهم منه النهي عن القيام للذي يقام له في المحذور. فصوب فعل من امتنع من القيام دون من قام، وأقروه على ذلك. وكذا قال ابن القيم في " حواشي السنن ": في سياق حديث معاوية رد على من زعم أن النهي إنما هو في حق من يقوم الرجال بحضرته؛ لأن معاوية إنما روى الحديث حين خرج فقاموا له.
ثم ذكر ابن الحاج من المفاسد التي تترتب على استعمال القيام أن الشخص صار لا يتمكن فيه من التفصيل بين من يستحب إكرامه وبره، كأهل الدين والخير والعلم، أو يجوز كالمستورين، وبين من لا يجوز كالظالم المعلن بالظلم، أو يكره كمن لا يتصف بالعدالة وله جاه. فلولا اعتبار القيام ما احتاج أحد أن يقوم لمن يحرم إكرامه أو يكره، بل جر ذلك إلى ارتكاب النهي لما صار يترتب على الترك من الشر، وفي الجملة متى صار ترك القيام يشعر بالاستهانة أو يترتب عليه مفسدة امتنع، وإلى ذلك أشار ابن عبد السلام.
قال ابن كثير في تفسيره عن بعض المحققين التفصيل فيه فقال: المحذور أن يتخذ ديدنا كعادة الأعاجم كما دل عليه حديث أنس -: " إنما أهلك من كان قبلكم بأنهم عظموا ملوكهم بأن قاموا وهم قعود ". وأما إن كان لقادم من سفر أو لحاكم في محل ولايته فلا بأس به.
قال الحافظ ابن حجر: ويلتحق بذلك ما تقدم، كالتهنئة لمن حدثت له نعمة، أو لإعانة العاجز، أو لتوسيع المجلس أو غير ذلك.
وقال الغزالي: القيام على سبيل الإعظام مكروه، وعلى سبيل الإكرام لا يكره.
" فتح الباري " (11/ 53 - 54).(11/5614)
على المقيد، لا يقال: الوعيد ههنا للمقوم له لا للقايم، وليس مما يخفى فيه لا أنا نقول: الوعيد على المرة بالفعل قاض بعدم جوازه؛ إذ المرة بالجايز جائزة بلا نزاع.
فإن قلت: هذا الحديث وارد في القيام على القاعد، لا في القيام إلى الوارد.
قلت: التقييد بحال القعود خلاف ما دل عليه الحديث؛ للقطع باندراج القيام للقائم تحته.
فإن قلت: التقييد بحديث مسلم بلفظ: " يقومون على ملوكهم وهم قعود ".
قلت: قد عرفت حديث أبي أمامة ودلالته على المنع من القيام تعظيما، وحكاية أن(11/5615)
ذلك من فعل الأعاجم، فليس أحد الحديثين بالتقييد أولى من الآخر، فالحق منع القيام بمجرد التعظيم مطلقا (1).
وقد شدت هذه الشواهد من عضد حديث أبي أمامة، فصلح للاحتجاج على تحريم ذلك القيام المقيد بالتعظيم، ونحن نقول بموجب ما احتج به شيخنا على الجواز من تقرير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لفعل طلحة، وأمر قوم سعد بالقيام إليه، وقيامه إلى فاطمة، وقيامها إليه؛ لأن هذه الأدلة خالية عن ذلك القيد الذي جعلناه مناط النهي، وهي أدلتنا على جواز القيام الخالي عن التعظيم، سواء كان الباعث عليه المحبة أو الإكرام، أو الوفاء بحق القاصد كالقيام للمصافحة أو غير ذلك، على أنه قد قيل في حديث سعد أن أمر أصحابه بالقيام إليه لإعانته على النزول عن ظهر مركوبه؛ لضعفه عن النزول بسبب الجراحة التي أصابته (2)، وهذا وإن كان خلاف الظاهر، إلا أنه يعين على قبوله
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) قال الحافظ في " الفتح " (11/ 51): ثم نقل المنذري عن بعض من منع ذلك مطلقا أنه رد الحجة بقصة سعد بأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أمرهم بالقيام لسعد لينزلوه عن الحمار؛ لكونه كان مريضا. قال: وفي ذلك نظر.
قلت: كأنه لم يقف على مستند هذا القائل، وقد وقع في مسند عائشة عن أحمد في " المسند " (6/ 143) من طريق علقمة بن وقاص عنها في قصة غزوة بني قريظة وقصة سعد بن معاذ ومجيئة مطولا، وفيه: " قال أبو سعيد: فلما طلع قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قوموا إلى سيدكم فأنزلوه ". وسنده حسن، وهذه الزيادة تخدش في الاستدلال بقصة سعد في مشروعية القيام المتنازع فيه، وقد احتج به النووي في كتاب " القيام " (ص 33 - 36) ونقل عن البخاري ومسلم وأبي داود أنهم احتجوا به، ولفظ مسلم: لا أعلم في قيام الرجل للرجل حديثا أصح من هذا.
وقد اعترض عليه الشيخ أبو عبد الله الحاج " في كتاب المدخل " فقال ما ملخصه: لو كان القيام المأمور به لسعد هو المتنازع فيه لما خص به الأنصار، فإن الأصل في أفعال العرب التعميم، ولو كان القيام لسعد على سبيل البر والإكرام لكان هو - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أول من فعله وأمر به من حضر من أكابر الصحابة، فلما لم يأمر به ولا فعله ولا فعلوه دل ذلك على أن الأمر بالقيام لغير ما وقع فيه النزاع، وإنما هو لينزلوه عن دابته لما كان فيه من المرض كما جاء في بعض الروايات؛ ولأن عادة العرب أن القبيلة تخدم كبيرها؛ لذلك خص الأنصار بذلك دون المهاجرين، مع أن المراد بعض الأنصار لا كلهم وهم الأوس منهم؛ لأن سعد بن معاذ كان سيدهم دون الخزرج، وعلى تقدير تسليم أن القيام المأمور به حينئذ لم يكن للإعانة، فليس هو المتنازع فيه، بل لأنه غائب قدم والقيام للغائب إذا قدم مشروع، قال: ويحتمل أن يكون القيام المذكور إنما هو لتهنئته بما حصل له من تلك المنزلة الرفيعة من تحكيمه والرضا بما يحكم به، والقيام لأجل التهنئة مشروع أيضا، ثم نقل عن أبي الوليد بن رشد أن القيام يقع على أربعة أوجه:
1 - محظور: وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبرا وتعاظما على القائمين إليه.
2 - مكروه: وهو أن يقع لمن لا يتكبر ولا يتعاظم على القائمين، ولكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يحذر، ولما فيه من التشبه بالجبابرة.
3 - جائز: وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك ويؤمن معه التشبه بالجبابرة.
4 - مندوب: وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحا بقدومه ليسلم عليه، أو إلى من تجددت له نعمة فيهنئه بحصولها، أو مصيبة فيعزيه بسببها.
وقال التوربشتي في " شرح المصابيح ": معنى قوله: " قوموا إلى سيدكم " أي: إلى إعانته وإنزاله من دابته، ولو كان المراد التعظيم لقال: قوموا لسيدكم. وتعقبه الطيبي بأنه لا يلزم من كونه ليس للتعظيم أن لا يكون للإكرام، وما اعتل به من الفرق بين إلى واللام ضعيف؛ لأن (إلى) في هذا المقام أفخم من اللام، كأنه قيل: قوموا وامشوا إليه تلقيا وإكراما. وهذا مأخوذ من ترتب الحكم على الوصف المناسب المشعر بالعلية، فإن قوله: " سيدكم " علة للقيام له، وذلك لكونه شريف القدر.(11/5616)
تخصيص هذه الحالة التي صار فيها جريحا بأمر أصحابه بالقيام إليه دون غيرها وغيره، سلمنا أن القيام ليس لهذا الباعث، فقضى الغرض منه على التعظيم الذي هو محل النزاع ممنوع، والسند تعدد المقتضيات، وانتفى المقتضى للتعيين، والنهي عنه بخصوصه، وكلام العامري مسلم؛ لأن القيام للكراهة والسرور والمحبة والبر من الجائز، إنما النزاع في قيام التعظيم الذي هو سنة الأعاجم، وقد أفاد العامري في كلامه هذا الذي نقله شيخنا فائدة قد أشرنا إليها فيما سبق، وهي تعميم القيام في قوله: " من سره أن يتمثل " سواء كان الذي قيم له قائما أو قاعدا؛ ولهذا حمل ذلك القيام الذي ورد الوعيد عليه على القيام للمتكبرين ومن يغضب إن لم يقم له، لا قيام المحبة ونحوها، كما كان من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة ومنها له.(11/5617)
ولا شك أن قيام كل واحد منهما ليس في حال قعود الآخر، فتدبر. وبهذا يعرف أن قول شيخنا - حفظه الله - أن [4] حديث أبي أمامة لا يقوى على معارضة ما في الصحيحين. . إلخ غير مناسب؛ إذ لا تعارض بين مطلق ومقيد؛ إذ هو يحمل أحدهما على الآخر عند استلزام حكم المطلق أمرا منافيا لحكم المقيد بأن يقيد المطلق بقيد، قيل: المقيد كما تقرر في الصول، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن الأمر بالقيام المطلق ينافي المنهي عنه مقيدا بالتعظيم إلا عند تقييده بضد، قيل: المقيد وهو عدم التعظيم.
قال المحقق ابن الإمام في شرح الغاية (1) في بحث الإطلاق: والتقييد ما لفظه: إلا إذا استلزم حكم المطلق بالاقتضاء أمرا ينافيه حكم المقيد، إلا عند تقييده بضد قيده، نحو أعتق عني رقبة - مع لا [. . . . .] (2) - كافرة، فإنه يجب تقييد المطلق حينئذ ضد قيد المقيد، وهو الإيمان. انتهى.
ووزن هذا أوزان ما يخفى فيه، وخلاصة البحث أن القيام جائز مطلقا إلا لقصد التعظيم، سواء كان للوارد أو للقاعد، فما ورد من الأدلة قاضيا بالجواز خاليا عن ذلك القيد كحديث طلحة وسعد، فهو دليل الجواز فيما عداه تقييد للمطلق بضد قيد المقيد كما سبق، وما ورد منها قاضيا بالمنع خاليا عن ذلك القيد كحديث: " من أحب أن يتمثل له الناس. . . " (3) الحديث، فهو محمول على ذلك المقيد بقيد التعظيم، حمل المطلق على المقيد تقييدا له بمثل قيده؛ لاتفاقهما سببا وحكما، وما ورد فيها دالا على الجواز كحديث قيام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة وقيامها له مقيدا بقيد الإكرام ونحوه، فهو كذلك لذلك، وما ورد منها دالا على المنع مقيدا بقيد التعظيم كحديث أبي أمامة فهو أيضًا كذلك لذلك، هذا ما ظهر، ولا أقول: ما ثبت وتقرر. والعلم عند
_________
(1) تقدم التعريف به.
(2) كلمة غير واضحة في المخطوط.
(3) تقدم تخريجه.(11/5618)
الله. انتهى من تحرير القاضي محمد بن علي الشوكاني، حفظه الله، وفسح لنا في مدته، آمين آمين إنه جواد كريم [5].(11/5619)
هذا البحث لشيخنا العلم رحمه الله، وقد تقدم الجواب عليه قبل بورقتين.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد، فإني لما وقفت على ما حرره الصنو العلامة النحرير، والبدر الفهامة المنير، واسطة عقد نظام المحققين، وإمام ذوي الإنظار، المتعين على تلك المذاكرة التي جرت في موقف شيخنا وحيد الإسلام، وفي جواز ما جرت به العادة لمن ورد على جماعة من تعظيمهم وإكرامهم له بالقيام، توهمت في مواضع من كلامه أنها صادرة مع عجلة، أو في حالة اشتغال، فعرفته بذلك شفاها على جهة الإجمال، فطلب مني رقم ذلك، ملاحظا للعثور على ما هو الحق في المسألة كما هي طريقة أهل الكمال، لا توسلا إلى فتح باب الجدال، فقوله - حفظه الله تعالى -: دل على تحريم الأول حديث أبي أمامة (1).
أقول: ما المراد بهذه الدلالة؟ إن أردتم أنه دل على تحريم القيام المقرون لقصد التعظيم من حيث إن العلة - وهي التعظيم - منصوص، فغير مسلم؛ إذ التصريح بالعلة في اللفظ لا يستلزم نصوصيتها كما هو مقرر في القواعد الأصولية (2)، وإن أردتم أنها ظاهرة في العلية من حيث ترتيب الراوي لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقوموا " على قيامهم بـ " الفاء "، وأنها وإن كانت في المرتبة الثالثة (3) من مراتب ما هو ظاهر ...........................................................
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) انظر " إرشاد الفحول " (ص703).
(3) واعلم أن التعليل قد يكون مستفادا من حرف من حروفه وهي " كي " نحو قوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7].
(اللام): قال تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78].
(إذن): قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم، قال: " فلا إذا ".
(من): قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].
(الباء): قال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40].
(الفاء): قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38].
انظر: " البحر المحيط " (5/ 187).(11/5620)
في التعليل (1)، فقد شملها اسم الظهور فهو مسلم، لكنه قد تقرر جواز مخالفة ما هو في أول مرتبة من مراتب الظهور في دليل صحيح معتبر لدليل مساو له في الصحية، فكيف لا تجوز مخالفة ما هو في المرتبة الثالثة منه في دليل لا تقوم به الحجة لما في أعلى درجات الصحة؟! وكيفية مخالفة الظاهر فيه حمل القيام المنهي عنه على القيام حال القعود، بجعل القيام الصادر منهم المرتب على خروجه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عليهم مستمرا بعد قعوده، فنهاهم بقوله: " لا تقوموا كما يقوم الأعاجم " فتكون العلة في النهي قعود من كان القيام لأجله لا التعظيم، ومما يرشد إلى صحة هذا الحمل وتعين المصير إليه مع العمل لهذا الحديث تشبيه هذا القيام المنهي عنه بقيام الأعاجم. وقد فسر قيام الأعاجم بقوله في رواية مسلم: " يقومون على ملوكهم وهو قعود ". ولولا هذا الحمل لم يبق للتشبيه فائدة، ولكان يكفي أن يقول [6]: لا تقصدوا التعظيم بهذا القيام، واقصدوا المحبة
_________
(1) قد قسموا النص على العلة إلي صريح وظاهر.
فالصريح: الذي لا يحتاج فيه إلى نظر واستدلال، بل يكون اللفظ موضوعا في اللغة له.
قاله الآمدي في " الإحكام " (3/ 278).
وقال ابن الأنباري: ليس المراد بالصريح المعنى الذي لا يقبل التأويل، بل المنطوق بالتعليل فيه على حسب دلالة اللفظ الظاهر على المعنى.
" البحر المحيط " (5/ 187).
وأما الظاهر فينقسم إلى أقسام، أعلاها (اللام)، ثم (أن) المفتوحة المخففة، ثم (إن) المكسورة الساكنة، بناء على أن الشروط اللغوية أسباب، ثم (إن) المشدودة، ثم الباء، ثم الفاء إذا علق بها الحكم على الوصف وذلك نوعان:
1 - أن يدخل على السبب والعلة ويكون الحكم متقدما، كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث ملبيا ".
2 - أن يدخل على الحكم وتكون العلة متقدمة، كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}، لأن التقدير: من زنى فاجلدوه.
" انظر تفصيل ذلك: " إرشاد الفحول " (ص704 - 705)، " البحر المحيط " (5/ 192).(11/5621)
والإكرام؛ فإن المحرم على ما يدعونه إنما هو قصد التعظيم لا القيام (1).
قوله: وقد شهد بهذا الحديث حديث مسلم (2).
أقول: هاهنا صورتان: القيام على رأس القاعد كما هو فعل الأعاجم، والثانية قيام الرجل عند وصول أخيه تعظيما له وإكراما، أو محبة أو فرحا، أو لغير ذلك من الأسباب، وحديث مسلم إنما دل على منع الصورة الأولى، مقتضى تفسيره القيام الذي وقع النهي عن مثله بالجملة الحالية أعني: " وهم قعود "، والصورتان متباينتان قبل الحمل الذي ذكرناه آنفا، فكيف يكون دليل الصورة الأولى شاهدا لحديث أبي أمامة؟! وإنما يكون الشاهد مجبورا به ضعف الحديث حدثا كان الشاهد نصا أو ظاهرا فيما دل عليه ذلك الضعيف، وبهذا يعرف أن الاستشهاد بحديث مسلم على حديث أبي أمامة بعيد، وأبعد منه الاستشهاد عليه بحديث: " من سره أن يتمثل الناس. . " إلخ (3).
قوله: الوعيد على المسرة بالفعل قاض بعدم جوازه. هذا أكبر دليل على تحرير مولاي العزي - حفظه الله تعالى - لهذا البحث مع عجله أو شغله، مصدية للذهن؛ فإن المسرة فعل قلبي، والقيام فعل آخر مغاير لها، وأي مانع من تحريم أحدهما وجواز الآخر ولو كان من فاعل واحد، يزيده وضوحا أن فعل الطاعة مطلوب للشارع، والعجب بها محرم منهي عنه، وهو مرة بحصول أمر بصحتها تطاول على من لم تحصل له، فهل ورود الوعيد عليه يقضي بعدم جواز فعل الطاعة، مع كون الفاعل واحدا! فكيف مع تعدده كما نحن فيه! إذا عرفت هذا عرفت أن إطلاق قوله: إذ المسرة بالجائز جائزة، ليس على ما ينبغي؛ إذ لا يجوز من المسرة إلا ما لم يمنعه الشارع، وأما ما منعه منها فلا يجوز ولو كانت مباحا أو مشروعا.
_________
(1) انظر " المفهم " للقرطبي (3/ 593).
(2) تقدم تخريجه.
(3) انظر: فتح الباري " (11/ 51 - 52) وقد تقدم توضيحه.(11/5622)
قوله: فإن قلت: هذا الحديث وارد في القيام على القاعد، الإشارة في هذا السؤال إن كانت عائدة إلى حديث أبي أمامة (1) الذي وقع منه الاستدلال به، لم يناسبه الجواب بقوله: قلت: التقييد. . إلخ؛ إذ لا تفسد فيه وإن كانت عائدة إلى حديث " من سره أن يتمثل. . . " إلخ كما هو الظاهر، فلا حاجة إلى إيراد هذا السؤال والجواب، كما أنه لا حاجة إلى إيراد السؤال الذي بعده، فإن السرور بالقيام محرم أو مكروه مطلقا، سواء كان ذلك القيام جائزا كالقيام للوارد، أو محرما كالقيام على رأس القاعد.
قوله: فالحق منع القيام بمجرد التعظيم. كان الأظهر على ما تزعمونه أن يقال: فالحق منع قصد التعظيم؛ إذ لا يقال لمن يصدق رياء: الحق ترك الصدق رياء، بل يقال له: الحق ترك الرياء بمجاهدة النفس بإخلاص العمل.
قوله: وقد شدت هذه الشواهد من عضد حديث أبي أمامه الذي سبق، إنما هما [7] شاهدان (2). وقد عرفت بطلان شهادتهما، فبقي دعوى منع التعظيم بالقيام مستندة إلى حديث ضعيف لا تقوم به الحجة، ولا شاهد يعضده.
قوله: ونحن نقول بموجب ما احتجت به.
أقول: من موجب ما وقع به الاحتجاج القيام للتعظيم، عملا بإطلاق القيام في تلك الأدلة، وأنتم لا تقولون به، والمقيد لذلك الإطلاق على زعمكم لا يصلح للتقييد لو كان نصا في محل النزاع، فكيف وهو ظاهر فيه! فكان قولكم: لأن هذه الأدلة خالية عن ذلك التقيد دعوى بلا برهان. وخلاصة المقال في هذا المقام أن هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة الشاملة لأقسام السنة قد دلت على جواز مطلق القيام للوارد، سواء كان لتعظيم أو غيره، فلا ينتقل عن هذا الإطلاق تخصيصه لغير التعظيم إلا بدليل صحيح مساو لتلك الأدلة أو دونها، بحيث تصلح للاحتجاج، ومن ادعى تحريم قصد التعظيم
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) انظر أول الرسالة.(11/5623)
بالقيام مستدلا بحديث أبي أمامة لزمه العمل بالحديث الضعيف في غير فضائل الأعمال أيضا، فإن قال: قد أسلفت في أول هذا الكلام تأويله وحمله على القيام على القاعد، وهذا الصنيع فرع التزام صحته.
قلنا له: إنما ذلك مشي معك على التنزل، وإلا فهو ليس بحجة مع ما قد سبق نقله عن الحافظ المنذري (1) من تضعيف من ذكر في إسناده، فإن قال: لم يقع الإجماع من أئمة هذا الشأن على تضعيفه، حتى نسوغ مقالتك هذه، بل قد نقل المنذري عن جماعة توثيقه.
قلنا: إذا تعارض الجرح والتعديل فالجرح مقدم مطلقا، ولو كان عدد المعدلين أكثر. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في علوم الحديث (2) ما لفظه: إذا اجتمع في شخص جرح وتعديل فالجرح مقدم؛ لأن المعدل يخبر عما ظهر، والجارح يخبر عن باطن
_________
(1) في " المختصر " (8/ 93).
قال: وفي إسناده أبو غالب خزورة.
انظر: " تهذيب التهذيب " (1/ 476 رقم 1799).
واعلم أن الحديث ضعيف - حديث أبي أمامة - والله أعلم.
(2) كتابه " علوم الحديث " (ص109). انظر " مقدمة ابن الصلاح " (ص140 - 141) في تعارض الجرح والتعديل وعدم إمكان الجمع بينهما، وفيه أقوال:
1 - أن الجرح مقدم على التعديل وإن كان المعدلون أكثر من الجارحين، وبه قال الجمهور، وقال ابن الصلاح: إنه الصحيح؛ لأن مع الجارح زيادة علم لم يطلع عليها المعدل.
انظر: " إرشاد الفحول " (ص256).
2 - القول الثاني: أنه يقدم التعديل على الجرح؛ لأن الجارح قد يجرح بما ليس في نفس الأمر جارحا، والمعدل إذا كان عدلا لا يعدل إلا بعد تحصيل الموجب لقبوله جرحا.
" البحر المحيط " (4/ 297).
3 - أنه يقدم الأكثر من الجارحين أو المعدلين. وقد ضعف الرازي هذا القول.
انظر: " المحصول " (4/ 41).
4 - أنهما يتعارضان فلا يقدم أحدهما على الآخر إلا بمرجح.
انظر: " الكوكب المنير " (2/ 429).(11/5624)
خفي على المعدل، وإن كان عدد المعدلين أكثر فقد قيل: التعديل أولى، والصحيح (1) الذي عليه الجمهور أن الجرح أولى؛ لما ذكرناه، والله أعلم. انتهى.
وليقتصر على هذا القدر فيما أوردناه، وبه تعرف ما يرد على بقية تلك الأبحاث مما أوردناه، إلا ما ذكره مولاي العزي - حفظه الله - في آخر كلامه من قوله: ولهذا تعرف أن قولك: إن حديث أبي أمامة لا يقوى على معارضة ما في الصحيحين - غير مناسب، فلا يكفي فيه الإجمال، فبيان هذه القاعدة وإيضاحها من المهمات؛ لكثرة دورانها.
فأقول: المطلق والمقيد، ومثلهما العام والخاص قبل حمل أحدهما على الآخر متصف كل واحد منهما بأنه معارض للآخر؛ إذ قد دل بإطلاقه، والعام بعمومه على خلاف ما دل عليه المقيد والخاص، وهذا معنى التعارض.
قال العلامة ابن الإمام: أما التعارض الواقع بين الظاهر من الكتاب والسنة؛ فإن كانت السنة متواترة [8] فهي كالكتاب، وإن كانت آحادا فإن تساويا في المتن وفيما يرجع إلى أمر خارج، فالكتاب أولى؛ لتواتره، وإن كان متنها قطعيا دون متنه فالسنة أولى من ظاهر الكتاب، كأن يكون خاصه وهو عام، أو مقيده وهو مطلق (2) انتهى.
فهذا تصريح باتصاف المطلق والمقيد، والعام والخاص بالتعارض، ثم يقول: إذا كان كل من المتعارضين أحاديا، وكل منهما أيضًا صالح للاحتجاج، فالعمل بمقتضى ما دل عليه أحدهما إهدارا للدليل الآخر، أو نقضه، والمفروض أنه مساو له في صلاحية الاحتجاج به، فلم يبق إلا الجمع بينهما بحمل أحدهما على الآخر، بأن يعمل بالعام والمطلق في ما عدا الخاص والمقيد، ملاحظة لإعمال الدليلين ما أمكن، وهذا معنى قولهم
_________
(1) انظر " إرشاد الفحول " (ص 256)، " علوم الحديث " (ص109).
(2) انظر " إرشاد الفحول " (ص 890 - 896)، " المستصفى " (4/ 162)، " البحر المحيط " (6/ 115).(11/5625)
بني أو حمل العام على الخاص، والمطلق على المقيد (1).
وقولهم: جمع بينهما، فإذا قيل مثلا: هذا الدليل لا يقوى على معارضة هذا الدليل، فالمراد أنهما غير مستويين في صلاحية الاحتجاج حتى تجمع بينهما بحمل أحدهما على الآخر، وحينئذ يتوجه العمل بكل ما دل عليه الصالح للاحتجاج، ويترك الآخر وإن اتصف بالمعارضة. ويقول فيه: لا يقوى على معارضة ذلك الصالح. أصلح الله لي ولكم القول والعمل، وجنبنا الزيغ والزلل، وسلك بنا فيما يرضيه الطريق الأمثل، آمين، وصلى الله على سيدنا محمد الأمين، وآله الكرمين، وصحبه الراشدين.
_________
(1) تقدم ذكر شروط حمل المطلق على المقيد.
انظرها في: " إرشاد الفحول " (ص 546 - 550)، " الإحكام " للآمدي (3/ 6 - 7).(11/5626)
هذا البحث جواب مني على البحث المحرر بعده لشيخنا العلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدك لا أحصي ثناء عليك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله وصحبه وبعد: فإنه لما أحث شيخنا العلامة النحرير المجتهد المطلق التواضع بالبحث مع تلميذه في مسألة القيام لورود الوارد، وحرر وحررت ما ظن كل واحد منا أنه الصواب، ثم طلبت منه، - حفظه الله - أن يكتب علي بما كتبته في ذلك، فكتب ما لا يقدر عليه إلا هو، ثم أحببت الاستفادة منه بسؤاله عن أشياء فيما كتبه، وأوردتها على صورة الانتقاد والعرض ذلك، فليعلم.
قوله: ما المراد بهذه الدلالة إلى قوله: فهو مسلم.
أقول: في هذا أبحاث:
الأول: أن الذي وقع في كلامي أن العلة مصرح بها من غير تعرض للنصوصية، وشأن الترديد الاحتمال، فلم يقع هنا موقعه.
الثاني: أن قوله: إذ التصريح بالعلة في اللفظ لا يستلزم نصوصيتها، أقول: ليس النصوصية على العلة إلا التصريح بها، أي: بلفظها في سياق الكلام، كقول الشارع: لعله كذا (1)، فكيف قال شيخنا: إذ التصريح بالعلة. . إلخ، ولعله أراد بالتصريح بالعلة لا بلفظها، وإن كانت عبارته قاضية بالأول.
الثالث: أن العلة واقعة ههنا في لفظه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وهي قوله: " ليعظم
_________
(1) الصريح ينقسم إلى أقسام، أعلاها أن يقول: لعله كذا أو السبب كذا، أو نحو ذلك.
وبعده أن يقول: لأجل كذا أو من أجل كذا. قال ابن السمعاني: وهو دون ما قبله؛ لأن لفظ العلة تعلم به العامة من غير واسطة، بخلاف قوله: " لأجل " فإنه يفيد معرفة العلة بواسطة أن العلة ما لأجلها كي يكون كذا.
" إرشاد الفحول " (ص704)، " البحر المحيط " (5/ 187).(11/5627)
بعضها بعضا "، بهذه العلة في المرتبة الثانية من مراتب الصريح، لا كما ذكره شيخنا.
الرابع: أن قوله من حيث ترتيب الراوي إلى قوله في المرتبة الثالثة من مراتب غير الصحيح (1) في التعليل خلاف ما في الغاية، فإنه جعل ما دخلت فيه الفاء في لفظ الراوي في المرتبة الرابعة من مراتب الصريح في التعليل، فإن كان استناد شيخنا إلى ما فيها، فهذا الذي رأيناه فيها، وإن كان إلى غيرها فلا مانع من ذلك.
قوله: لكن قد تقرر جواز مخالفة ما هو في أول مرتبة من مراتب الظهور إلى قوله: وكيفية مخالفة الظاهر فيه أبحاث أيضا:
الأول: أن شيخنا - حفظه الله - قد نقل البحث إلى ما ذكره أهل الأصول في أقسام المنطوق من النص، والظاهر هو مغالطة، وأظنها غير مقصودة لتفاوت حقيقة النص، والظاهر في التباين، وبيانه أن مرادهم بالنص في بحث العلة التصريح بلفظها بأن يقال: لعله كذا، والظهور فيها عدم التصريح بلفظها، كأن يقال لكذا، أو بكذا، أو من كذا أو نحو ذلك (2). والنص في بحث المنطوق ما أفاد معنى لا يحتمل غيره (3)، والظاهر ما احتمله اللفظ احتمالا راجحا.
إذا عرفت هذا عرفت صدق حد النص في باب المنطوق على كثير من الظاهر في باب العلة، فإن قول القائل: أكرمتك لقرابتك من باب الظهور في العلة، مع أنه صدق عليه حد النص [9] المذكور في باب المنطوق؛ لأن القرابة تفيد معنى لا يحتمل غيره، وما نحن
_________
(1) تقدم توضيحه.
(2) تقدم ذكره.
(3) المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النص، أي: يكون حكما للمذكور وحالا من أحواله.
والمنطوق ينقسم إلى قسمين:
1 - ما لا يحتمل التأويل، وهو النص.
2 - ما يحتمله وهو الظاهر.
والأول ينقسم إلى: صريح إن دل عليه اللفظ بالمطابقة أو التضمن، وغير صريح إن دل عليه بالالتزام.
" تيسير التحرير " (1/ 91)، " جمع الجوامع " (1/ 235)، " إرشاد الفحول " (ص587).(11/5628)
فيه من هذا القبيل؛ لأن اللفظ: تعظم بعضها بعضا يفيد معنى لا يحتمل غيره، مع أنه من قبيل الظهور في اللغة؛ لأنه باللام المقدرة.
البحث الثاني: إن مخالفة الظاهر لدليل راجح عليه، أو مساو له في الصحة مسلمة، لكنها إنما تكون عند التعارض والترجيح، لا عند الإطلاق والتقييد كما هو المدعى. وسيأتي لهذا مزيد فائدة إن شاء الله.
الثالث: أنه يصلح للتقييد كل ما يصلح للتخصيص؛ لاستواء أحكامهما كما صرح بذلك أئمة الأصول (1)، فإذا جاز التخصيص بالقياس (2)، والمفهوم (3)، والعادة (4) عند بعض جاز التقييد بها، فكيف لا يجوز التقييد بها هو من أقسام المنطوق!
قوله: ومما يرشد إلى صحة هذا الحمل - إلى قوله - لم يبق للتشبيه فائدة.
أقول: هذا كلام نفيس إلا أنه يقال: دعوى انتفاء فائدة التشبيه ممنوعة؛ فإن المراد تشبيه القيام المصحوب بالتعظيم بالقيام من غير نظر إلى صفة من قيم له، وفي هذا فائدة تامة، ومساواة المشبه للمشبه به في جميع ما يمكن اعتباره لم يشترطها أحد، لا سيما إذا كان ذلك الأمر خارجا عما نحن فيه للقطع بصحة قولنا:
_________
(1) انظر: " إرشاد الفحول " (ص500 وما بعدها).
(2) ذهب الجمهور إلى جوازه، وقال الرازي في " المحصول " (3/ 96) وهو قول أبي حنيفة والشافعي ومالك وأبي الحسن البصري والأشعري وأبي هاشم أخيرا.
انظر: " البحرالمحيط " (3/ 369).
(3) قال الآمدي في " الإحكام " (2/ 353): لا أعرف خلافا في تخصيص العموم بالمفهوم بين القائلين بالعموم والمفهوم.
" البحر المحيط " (3/ 381).
(4) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 531): ذهب الجمهور إلى عدم جواز التخصيص بها - العادة - وذهبت الحنفية إلى جواز التخصيص بها.
انظر: " الإحكام " للآمدي (3/ 358). فهناك تفصيل.(11/5629)
ضربت عمرا كضرب زيد له، عند استواء الضربين، وإن كان المضروب قائما عند ضرب أحدهما، قاعدا عند ضرب الآخر، أو الضارب كذلك.
قوله: أقول: ههنا صورتان - إلى قوله - من سره أن يتمثل له الناس.
أقول: إنما جعلناه شاهدا باعتبار أن في كل واحد منهما قيام تعظيم، لا باعتبار صفة من قيم له، فإن أراد شيخنا بالتباين المذكور بالنسبة إلى من قيم له فمسلم، وهو غير المدعي، وإن أراد بالنسبة إلى القائم فممنوع، وإن أراد بالنسبة إلى المجموع فهو غير المدعى أيضا.
قوله: هذا أكثر دليل على تحرير - إلى آخر هذا البحث -.
أقول: قد جعل شيخنا هذا البحث برهانا له على ما ادعاه من وقوع ذلك الجواب عن غير تثبت، وهو جعل عجيب، فإني لا أعلم أحدا منع من مجرد المسرة على ما يجوز من الأفعال والأقوال، وقد حكى الله سبحانه هذا في كتابه عن عباده المؤمنين، لم يمنعهم، وقد وقع من رسول الله في مواطن يضيق المقام عن حصر بعضها، فكان في بعضها يضحك حتى تبدو نواجذه (1)، وفي بعضها يبتسم (2)، وفي بعضها يظهر أثر ذلك
_________
(1) قد بوب البخاري في صحيحه (10/ 502 باب رقم 68) التبسم والضحك وأورد أحاديث منها:
الحديث رقم (6087) وفيه: ". . . أين السائل؟ تصدق بها. قال: على أفقر مني؟ والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا ". فضحك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت نواجذه، قال: فأنتم إذا " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (6085) وفيه: ". . . فلما استأذن عمر تبادرن الحجاب، فأذن له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدخل والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضحك، فقال: أضحك الله سنك يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فقال: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب " من حديث عمر بن الخطاب.
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (6089) عن جرير - رضي الله عنه - قال: عنه ما حجبني النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي ".(11/5630)
في وجهه بظهور أساريره، وهكذا الصحابة أجمع ومن بعدهم، فكيف يخفى هذا على من هو في العلم والتأييد بتحريم العجب على إبطال ما ادعيناه مما لا يفيد شيئا [10]!؟ فإن العجب ليس مجرد المسرة، بل مع التطاول المحرم كما ذكره شيخنا، والذي أوجب تحريمه هو ذلك التطاول لا غير.
ودعوى التغاير بين الفعلين وتجويز تحريم أحدهما دون الآخر مسلمة، لكنا نرى أن ذلك التجويز غير واقع، ولو فتحنا باب التجويزات لانسدت علينا طرق الشريعة الفسيحة وصرنا في حيرة، وشيخنا - متع الله به - لا ينكر تحريم مسرة الرجل بقتل أخيه المؤمن، وكفره، وتورطه في المعاصي، وذهاب ماله، وموته، وموت أقاربه، ونحو ذلك مما لا يحصى، ولا ينكر أيضًا جواز مسرة المؤمن بما حصل له من الطاعات، وبما عصم عنه من المعاصي، وبحدوث ولد له، وحصول مال، وإيمان أخيه المؤمن وإسلامه، وانتصاره على أعدائه من الكفار، ونحو ذلك من الصور التي لا تدخل تحت الحصر أيضا.
وهذا هو ما ادعيناه، فأي تساهل في تلك القاعدة التي أوردناها في ذلك الجواب!؟ وإن ورد النقض عليها بجزئيات يسيرة، فلا يوجب ذلك انتفاضها، كما هو شأن كثير من القواعد الكلية، على أني لا أعلم الآن واحدا من تلك الجزئيات.
قوله: إذ لا يجوز من المسرة إلا ما لم يمنعه الشارع. . إلخ.
أقول: مسلم على فرض وقوع المنع، وقد أقر شيخنا - حفظه الله - بأن جنس المسرة جائز إلا ما منعه الشارع، ونحن ننكر الوقوع، فليأت - حفظه الله - بذلك المنع لمجرد المسرة بالفعل الجائز.
قوله: الإشارة في هذا السؤال - إلى آخر هذا البحث -.
أقول: ليعلم أولا أنه لا نزاع في دلالة هذا الحديث - أعني: من سرة. . إلخ - على تحريم المسرة بالقيام ممن قيم له، والغرض الذي سقته له دلالته على تحريم القيام من القائم إذا(11/5631)
اقترن بالتعظيم؛ لأن الوعيد على المسرة قرينة قاضية بأنه مقترن به، بناء على تلك القاعدة التي أسلفتها؛ ولهذا أظهر الاحتياج إلى السؤال الثاني الذي ذكرته.
وأما السؤال الأول فهو لدفع توهم الاختصاص بحال القعود كما سمعناه من شيخنا - متع الله به - حال تلك المذكرة، وبهذا يعلم أنه لم يسبق لغرض الاستدلال على تحريم السرور حتى يلزم استدراك ذينك السؤالين كما ذكره شيخنا.
قوله: كان الأظهر على ما تزعمونه. . إلخ.
أقوله: معرفة صحة هذا الانتقاد متوقفة على معرفة حكم العمل المقترن بالزنا ونحوه، فإن جعل ذلك العمل معصية باعتبار انضمامه إلى ذلك المقصد، فالحق منعه حال ذلك الانضمام، وإن لم يجعل معصية بأن يمنع تأثير القصد في العمل فالحق ما ذكره شيخنا، والتعظيم الذي هو علة التحريم في مسألتنا لا يحرم مجردا عن القيام للقطع بجوازه، بل وجوبه للأبوين، والمعلم، وذوي الفضل، والإمام، ونحو ذلك، فلو [11] قلنا: الحق منع قصد التعظيم كما ذكره شيخنا يعم كل تعظيم مجرد؛ لأنه مصدر مضاف، وهو لا يتم، فكان صواب العبارة في الانتقاد أن يقال: فما لحق منع التعظيم في القيام.
قوله: الذي سبق إنما هو شاهدان، كأن شيخنا يشير بهذا إلى الاعتراض على جمع الشواهد، وشواهد الجمع كثيرة، وهو مذهب العلامة جار الله وغيره.
قوله: وقد عرفت بطلان شهادتهما.
أقول: قد عرفت بطلانه.
قوله: أقول: من موجب به الاحتجاج - إلى آخر البحث -.
أقول: قد عرفت تقييد ذلك الإطلاق، وبطلان دعوى عدم صلاحية ذلك القيد بما سلف، فلا يقيده.
قوله: وخلاصة المقال - إلى آخر البحث -.
أقول: قد عرفت مما سبق أن مساواة الدليل شرط في التعارض لا في التقييد؛ فإنه(11/5632)
يصلح له القياس والمفهوم، بل العادة عند بعض كما سبق، فهذا البحث من شيخنا أعاده لما سبق، وإن كان لا يخلو عن فائدة، ودعوى ضعف ما وقع به التقييد مبنية على انتفاء شهادة تلك الشواهد، وقد عرفت ما فيه.
قوله: فبيان هذه القاعدة - إلى آخر البحث -.
أقول: جزى الله شيخنا عنا خيرا؛ فلقد أفادنا بهذا البحث إفادة تامة، إلا أنه بقي ههنا أبحاث:
الأول: أن كلامه - حفظه الله - قد أشعر بأن العام لا يبنى على الخاص، والمطلق لا يحمل على المقيد (1)، إلا بعد النظر فيهما، فإن تساويا صح البناء والحمل، وإن كان أحدهما أرجح فلا بناء ولا حمل، وهذا هو الترجيح بعينه. وقد تقرر أنه لا يصار إليه مع إمكان الجمع.
الثاني: أنه قد جاز تخصيص النص وتقييده بالقياس، والمفهوم، وبما دونهما، وهما غير مساويين له، فلم لا يرجح النص، ويطرح ذلك المخصص لنقصانه على مقتضى هذا التقرير؟
الثالث: أن قول العلامة ابن الإمام وإن كان متنها قطعيا دون متنه، فالسند أولى من ظاهر الكتاب، كأن يكون خاصه وهو عام، أو مقيده وهو مطلق، لا كلام أنه مشعر بما ذكره شيخنا من اتصاف المطلق والمقيد والعام والخاص بالتعارض، وهو يقدح في كلام ابن الإمام ههنا في الشرح ما سبق له قوله بقليل في المتن من أنه لا تعارض بين قطعي وظني (2)، وقد حكم ههنا - أي في الشرح - بأن أحدهما قطعي والآخر ظني، وأدخلهما في حيز التعارض، فكلامة مشكل، ومثل عبارة المتن عبارة المعيار للمهدي، جعلنا الله وإياكم من المهتدين، ولا برحتم في حفظ الله، والسلام عليكم ورحمة الله
_________
(1) تقدم ذكر شروط بناء العام على الخاص وحمل المطلق على المقيد.
(2) انظر " إرشاد الفحول " (ص882).(11/5633)
وبركاته.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
انتهى من خط المجيب - حفظه الله - وبارك لنا في أيامه ولياليه بحق محمد وآله وسلم [12].(11/5634)
(184) 17/ 3
العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(11/5635)
وصف المخطوط: (أ)
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي.
2 - موضوع الرسالة: آداب.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك.
وبعد، فإنه وفد إلي كتاب من بعض الأعلام الأفاضل المشهورين بالزهد والورع. . . .
4 - آخر الرسالة: فإن هذا غلط على الشريعة، والحمد لله أولى وأخرى، حرر ضحوة يوم الأربعاء لعله ثامن شهر جمادى الأولى سنة 1219 هـ.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الصفحات: 6 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 22 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5637)
وصف المخطوط: (ب)
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي.
2 - موضوع الرسالة: آداب.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك.
وبعد، فإنه وفد إلى كتاب من بعض الأعلام الأفاضل المشهورين بالزهد. . .
4 - آخر الرسالة: بقلم المؤلف عافاه الله، ونقلته من خطه ثاني يوم تحريره دامت إفادته، والله حسبي. بلغ قصاصه (ويرد من الحجج قوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} تمت).
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 6 صفحات ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 28 سطرا. ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 12 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(11/5640)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك.
وبعد: فإنه وفد إلي كتاب من بعض الأعلام الأفاضل المشهورين بالزهد والورع والوقوف عند حدود الشرع، وفي عنوانه من فلان بن فلان، ولا شك ولا ريب أن هذا العنوان هو الذي كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم في جميع مكاتباتهم، بل هو العنوان الذي كان الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعنون به كتبه الشريفة إلى الأقطار، فهو من هذه الحيثية سنة حسنة، وخصلة مستحسنة، ولكنه نشأ قوم يعتقدون أن من عنون كتابه بما جرت عليه عادات المتأخرين من لفظ سيدي فلان، ونحو ذلك فقد ارتكب عظيما، وفعل جسيما، وتلبس بغير شعار الإسلام، وارتطم في أعظم مهاوي الآثام، وليس الأمر كذلك، فالخطب يسير، والخطر في مثل هذا حقير.
وها أنا أذكر ما تمسك به هؤلاء المتشددون، وما يرد به عليهم لقصد الإفادة لذلك الذي كاتبني من نبلاء السادة القادة، فليجعل هذا البحث عنوانا يقيس عليه سائر المسائل التي حدث التشديد فيها، وعظم النكير على من خالفها على أنحاء يتعذر تلافيها.
فأقول: استدلوا على المنع من إطلاق لفظ السيد وسيدي ونحو ذلك بما أخرجه النسائي (1) بإسناد جيد عن عبد الله بن الشخير قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقلنا له: أنت سيدنا، فقال: " السيد الله تبارك وتعالى " قلنا: وأفضلنا وأعظمنا طولا، قال: " قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرنكم الشيطان "، وفي رواية (2) " ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله ورسوله،
_________
(1) في " عمل اليوم والليلة " رقم (246).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4806)، وهو حديث صحيح.
(2) أخرجها النسائي في " عمل اليوم والليلة " رقم (248) وأحمد (3/ 241، 249) من حديث أنس، وهو حديث صحيح.(11/5645)
ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل ".
فهذا هو حجتهم على تشديد النكير على من كاتب أو خاطب بلفظ سيدي، ونحو ذلك، فاسمع ما نملي عليك مما خطر على البال من الحجج الشرعية، وحضر عند تحرير هذه الأحرف من البراهين المرضية، وذلك [أربع] (1) عشرة حجة:
الحجة الأولى [1أ]: ما صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دواوين الإسلام المعتبرة أنه قال: " أنا سيد ولد آدم " فهذا الحديث صحيح (2) يفيد أنه سيد الأحياء والأموات من بني آدم [1]،
_________
(1) في (ب): ثلاث.
(2) أخرج مسلم في صحيحه رقم (3/ 2278) وأبو داود رقم (4763) والترمذي رقم (3615) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع ".
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (1/ 2176) والترمذي رقم (3605) و (3606) وأحمد (4/ 107) والطبراني في " الكبير " (22/ 161) وابن حبان رقم (6242) من حديث واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم، فأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع ".
قال القرطبي في " المفهم " (6/ 48): السيد: اسم فاعل من ساد قومه، إذا تقدمهم بما فيه من خصال الكمال وبما يوليهم من الإحسان والإفضال.
وأصله: سَيْوِد؛ لأن ألف ساد منقلبة عن واو، بدليل أن مضارعه يسود، فقلبوا الواو ياء وأدغموها في الياء فقالوا: سيد، وهكذا كما فعلوا في ميت.
وقد تبين للعقل والعيان ما به كان محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيد نوع الإنسان، وقد ثبت بصحيح الأخبار ماله من السؤدد في تلك الدار، فمنها أنه قال: " أنا سيد ولد آدم " قال: " وتدرون بما ذاك؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد " أخرجه مسلم (194) حديث الشفاعة، تقدم.
ومضمونه: أن الناس كلهم إذا جمعهم موقف القيامة وطال عليهم وعظم كربهم، طلبوا من يشفع لهم إلى الله تعالى في إراحتهم من موقفهم، فيبدؤون بآدم عليه السلام، فيسألونه الشفاعة فيقول: نفسي، نفسي، لست لها، وهكذا يقول من سألها من الأنبياء، حتى ينتهي الأمر إلى سيدنا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقول: " أنا لها "، فيقوم أرفع مقام ويخص بما لا يحصى من المعارف والإلهام، وينادي بألطف خطاب وأعظم إكرام: " يا محمد، قل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع " وهذا مقام لم ينله أحد من الأنام ولا سمع بمثله لأحد من الملائكة الكرام ".(11/5646)
فمن قال منهم مخاطبا له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنت سيدنا أو سيد بني آدم، فما قال إلا ما أثبته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنفسه، فقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوفد بني عامر: " السيد الله " يريد أن الفرد المطلق في السيادة هو الله - تعالى - كما تدل على ذلك آلة التعريف في السيد، فإنها في مثل هذا المقام تفيد الحصر (1) كما صرح بذلك علماء المعاني والبيان والأصول، كما يقول القائل: أنت الرجل علما أو شجاعة أو نحو ذلك، أي: الفرد الكامل في العلم [أو] (2) الشجاعة، فالحصر في مثل هذا هو باعتبار الكمال [لا] (3) أنه حصر حقيقي، بل حصر ادعائي لقصد المبالغة في وصفه بالكمال.
وأهل علم المعاني والبيان هم القائمون ببيان دقائق العربية وأسرارها، وأهل الأصول هم المبينون لقواعد لغة العرب الكلية، ولا شك ولا ريب أن هذه الشريعة المطهرة هي كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهما على لسان العرب، فالفهم لهما إنما يكون [بفهم] (4) لغة العرب، وقد تغيرت لغة العرب من قديم الزمن، بل من عصر الصحابة؛ ولهذا كان وضع علم النحو في أيامهم لما سمعوا التخليط من أهل ذلك العصر، وكان أول من أرشد إلى علم النحو هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولغة العرب الآن أشد تغيرا، بل قد التحقت في كثير من المساكن التي كان تسكنها العرب بلغة العجم، فمن أراد الآن أن
_________
(1) انظر " معترك الأقران في إعجاز القرآن " (1/ 136).
(2) في (ب): و.
(3) في (ب): إلا وما أثبتناه من (أ).
(4) في (ب): لفهم.(11/5647)
يفهم كتاب الله وسنة رسوله [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (1) على مقتضى لغة العرب فلا يتم له معرفة أصل معنى اللفظ إلا بمعرفة علم اللغة، ولا يتم له معرفة أصل أبنية الألفاظ العربية إلا بمعرفة علم الصرف، ولا يمكنه معرفة الحركات الإعرابية إلا بعلم النحو، ولا يمكنه معرفة دقائق العربية وأسرارها إلا بعلم المعاني والبيان، ولا معرفة قواعد اللغة الكلية إلا بعلم الأصول.
ولهذا كانت هذه العموم هي المقدمة في العلوم الاجتهادية، وإن خالف في [اعتبار] (2) البعض منها في الاجتهاد بعض أهل العلم، فالحق اعتبار الجميع (3)؛ لأن فهم لغة العرب على الوجه المطابق لما كانت عليه اللغة لا يتم [1ب] إلا بذلك، ولا ريب أن دقائق اللغة يستفاد من العلم بها العلم بدقائق الكتاب والسنة، والدقائق [2] تستخرج منها الأحكام الشرعية كما تستخرج من الظواهر.
إذا تقرر لك هذا فاعلم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[إنما] (4) قال لوفد بني عامر لما قالوا: أنت
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) في (ب) اختيار.
(3) تقدم ذكر ذلك مرارا.
انظر الرسالة رقم (60)، (64).
(4) في (ب): أنه.
قال الخطابي في " معالم السنن " (5/ 155): قوله: " السيد الله " يريد أن السؤدد حقيقة الله عز وجل، وأن الخلق كلهم عبيد له.
وإنما منعهم - فيما ترى - أن يدعوه سيدا مع قوله: " أنا سيد ولد آدم "، وقوله لبني قريظة: " قوموا إلى سيدكم " - يريد سعد بن معاذ، تقدم - من أجل أنهم قوم حديثو عهد بالإسلام، وكانوا يحسبون أن السيادة بالنبوة كما هي بأسباب الدنيا، وكان لهم رؤساء يعظمونهم، وينقادون لأمرهم ويسمونهم السادات، فعلمهم الثناء عليه وأرشدهم إلى أدب ذلك، فقال: " قولوا بقولكم " يريد: قولوا بقول أهل دينكم وملتكم، وادعوني نبيا ورسولا كما سماني الله - عز وجل - في كتابه فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}، ولا تسموني سيدا كما تسمون رؤساءكم وعظماءكم، ولا تجعلوني مثلهم، فإني لست كأحدهم، إذ كانوا يسودونكم بأسباب الدنيا، وأنا أسودكم بالنبوة والرسالة، فسموني نبيا ورسولا.(11/5648)
سيدنا [قال] (1) " السيد الله "؛ لأنه قد فهم من مقصدهم أنهم أرادوا بالسيد المعنى الذي لا يصح إطلاقه على البشر، ولم يريدوا به المعنى الذي يطلقه البشر على الأنبياء وغيرهم، ويويد هذا ما قاله لهم من بعد: " ولا يستجرنكم الشيطان " " ولا يستهوينكم الشيطان " فإن مخاطبته لهم بهذا الخطاب تدل أبلغ دلالة على أنه قد فهم منهم الغلو (2)، فكان ذلك سببا لقوله لهم: " السيد الله "، وهذا في غاية الوضوح والجلاء، فعرفت بهذا أن ذلك الحديث لا يدل على مطلوب المستدل.
وذكر في النهاية (3) ما يفيد أن في هذا الحدث زيادة لفظ يدل على جواز إطلاق لفظ السيد على بني آدم، فقال ما لفظه: ومنه الحديث لما قالوا له: أنت سيدنا فقال: " قولوا بقولكم، ادعوني نبيا أو رسولا كما سماني الله، ولا تسموني سيدا كما تسمون رؤساءكم؛ فإني لست كأحدكم ممن يسودكم في أسباب الدنيا ... " انتهى.
فهذا يدل على جواز إطلاقه على البشر لا على منعه، فالدليل حجة عليهم لا لهم.
الحجة الثانية: ما ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحيحين (4) وغيرهما (5) أنه قال في الحسن بن
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) تقدم الكلام على الغلو.
(3) لابن الأثير (2/ 417).
قال الحافظ في " الفتح " (5/ 179): ويمكن الجمع بأن يحمل النهي عن ذلك على إطلاقه على غير المالك والإذن بإطلاقه على المالك، وقد كان بعض أكابر العلماء يأخذ بهذا ويكره أن يخاطب أحدا أو كنايته بالسيد، ويتأكد هذا إذا كان المخاطب غير تقي، فعند أبي داود والمصنف في " الأدب " من حديث بريدة مرفوعا: " لا تقولوا للمنافق سيدا ".
(4) بل أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2704) وأطرافه (3629، 3746، 7109).
(5) كأحمد في " المسند " (5/ 37 - 38) والنسائي في " المجتبى " (3/ 107) و" عمل اليوم والليلة " رقم (252)، وقد تقدم.(11/5649)
علي - رضي الله عنه -: " إن هذا ابني سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين " فإن في هذا الحديث أبلغ دلالة وأكمل تصريح على جواز إطلاق لفظ سيد على أفراد بني آدم.
الحجة الثالثة: ما ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دواوين الإسلام أنه قال: " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة " (1)، " أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة " (2).
الحجة الرابعة: ما ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله للأنصار يوم بني قريظة لما وصل سعد بن معاذ بعد التحكيم له من بني قريظة، وكان مريضا شديد المرض من ذلك السهم الذي
_________
(1) أخرجه الترمذي رقم (3768) وأحمد (3/ 3) وفي " الفضائل " رقم (1384) والطبراني في " الكبير " رقم (2611، 2612) وأبو يعلى رقم (1169) وابن أبي شيبة (12/ 96)، وابن حبان رقم (6959) من حديث أبي سعيد الخدري، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وهو حديث صحيح.
وأخرج النسائي في " الفضائل (260) وزاد في آخره: " وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة " من حديث حذيفة.
وأخرجه أحمد (5/ 391 - 392) والنسائي في " الفضائل " (194) والترمذي رقم (3781) وابن حبان رقم (6960) والحاكم (3/ 381) من حديث حذيفة من طرق وفيه: ". . . إن هذا ملك لم ينزل الأرض قط قبل هذه الليلة، استأذن ربه أن يسلم علي، ويبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ".
وهو حديث صحيح، انظر: " الصحيحة " رقم (2785).
(2) أخرجه ابن ماجه رقم (100) عن أبي جحيفة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلا النبيين والمرسلين ".
وهو حديث صحيح.
وأخرجه الترمذي في " السنن " رقم (3665) و (3666) وابن ماجه رقم (95)، من حديث علي رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.
وأخرجه الترمذي في " السنن " رقم (3664) من حديث أنس، وهو حديث صحيح.(11/5650)
أصابه يوم الخندق، فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قوموا إلى سيدكم يا معشر الأنصار " (1).
الحجة الخامسة: ما قاله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيس بن عاصم المنقري سيد بني تميم لما وفد [2أ] إليه فقال: " هذا سيد أهل الوبر " (2) وهو إذ ذاك مشرك.
الحجة السادسة: أنه سأل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ص:3] بعض قبائل العرب فقال: " من سيدكم؟ " [قالوا] (3) فلان على بخل فيه فقال: " وأي داء أدوأ من البخل! " (4) وهذه الأحاديث كلها مذكورة في كتب الحديث المعتبرة، والسير المشتهرة، لا يشك أحد من أهل العلم في شيء منها.
الحجة السابعة: أنه كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل الوفود الذين يفدون عليه من الجهات عن سيدهم من هو؟ فيدلون عليه بعبارة أو إشارة.
الحجة الثامنة: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كل بني آدم سيد، فالرجل سيد أهل بيته، والمرأة سيدة أهل بيتها " (5).
الحجة التاسعة: حديث أنه سئل هل في أمته سيد؟ فقال: " من آتاه الله مالا، ورزق
_________
(1) تقدم، انظر الرسالة رقم (181).
(2) أخرجه الحاكم في " المستدرك " (3/ 611) من حديث قيس بن عاصم، والبخاري في " الأدب المفرد " (730) والطبراني في " الكبير " (18/ 870) والبزار في مسنده رقم (2744 - كشف) وأحمد (5/ 61) والنسائي (1/ 262) مختصرا.
وهو حديث صحيح لغيره.
(3) في (ب): فقالوا.
(4) أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " رقم (227) عن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من سيدكم يا بني سلمة؟ " قلنا: جد بن قيس، على أنا نبخله، قال: " وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم عمرو بن الجموح ". وكان عمرو على أصنامهم في الجاهلية، وكان يولم عن رسول الله إذا تزوج.
وهو حديث صحيح.
(5) ذكره السبكي في " طبقات الشافعية الكبرى " (2/ 26).
وقال: هذا حديث صحيح غريب.(11/5651)