السؤال الخامس
كذلك مسألة التعزير (1) بالمال فيمن فعل مَعصيةً لا تُوجب الحدّ هل يُسوَّغ لحاكم الصلاحية أن يُعزِّر به أم لا؟ فإن قلتم لا. فإذا كان يتعذّر الحبسُ ونحوُه أو يكون تغريم المال [9] أبلغَ في الزجْر فهل يكون له منْدوحةٌ في التعزير به لهذا المرجِّح كالإمام؟ فإن قلتم: نعم، فالمصرِفُ المصلحةُ ولا يمكن إذا سبّ رجلٌ آخر أن تطيبَ نفسُ المسبوب إلا بصرف ذلك المال إليه، وربما يكون غيرَ مصرِفٍ فإذا لم يُصْرَفْ ثارت منه الفتنةُ بيّنوا ذلك بالبراهين الصحيحة وجُزيتم خير الدارين بحق محمدٍ وآله.
الجواب قولُه حفظه الله.
أقول: ينبغي أولاً أن تُحقّق مسألة جواز التأديب بالمال لتتّضح التفاصيلُ.
فاعلم أنه قد اختُلف في جواز التأديب بالمال على الإطلاق، فجوّزه الإمام يحيى والهادوية.
قال في الغيث (2): لا أعلم في جواز ذلك خلافًا بين أهل البيت، وإلى ذلك ذهب الشافعيّ (3) في القديم من قولَيه ثم رجع عنه وقال إنه منسوخٌ وهكذا قال البيهقيّ (4) وأكثرُ الشافعية.
قال في التلخيص: وتقّبه النوويُّ (5) فقال: الذي ادّعوه من كون العقوبة كانت
_________
(1) التعزير: - ضربٌ دون الحَدّ.
- شرعًا: تأذيب على ذنبٍ لا حدّ فيه ولا كفارة غالبًا.
انظر: "القاموس الفقهي" لسعدي أبو جيب (ص250).
(2) تقدم التعريف به.
(3) انظر: "المهذب" للشيرازي (5/ 463 - 464).
(4) انظر: "مغني المحتاج" (4/ 191 - 194)، "السنن الكبرى" (8/ 327 - 328).
(5) في "المجموع" (19/ 104).(8/4062)
بالأموال في أول الإسلام ليس بثابت ولا معروف ودعوى النسخ غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ (1)، وقد نقل الطحاوي والغزالي الإجماع على نسخ العقوبة بالمال (2).
وحكى بعضُ المتأخرين عن النووي مثل ذلك، وكلامه الذي ذكرناه سابقًا يدل على خلافه، وزعم الشافعي أن الناسخ حديث ناقة البراء (3) لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (28/ 111): ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة وأطلق ذلك من أصحاب مالك وأحمد فقد غلط على مذهبما، ومن قاله مطلقًا من أي مذهب كان: فقد قال قولاً بلا دليل. ولم يجيء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء قط يقتضي أنّه حرم جميع العقوبات المالية. بل أخذ الخلفاء الراشيدن وأكابر أصحابه بذلك بعد موته دليل على أن ذلك محكم غير منسوخ.
وعامة هذه الصور منصوصة عن أحمد ومالك وأصحابه، وبعضها قول عند الشافعي باعتبار ما بلغه من الحديث.
ومذهب مالك وأحمد وغيرهما: أن العقوبات المالية كالبدنية: تنقسم إلى ما يوافق الشرع، وإلى ما يخالفه، وليست العقوبة المالية منسوخة عندهما، والمدّعون للنسخ ليس معهم حجة بالنسخ، لا مع كتابٍ، ولا سنة.
(2) انظر التعليقة السابقة.
(3) يشير إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 747 رقم 37) عن ابن شهاب عن حرام بن سعد بن مُحيصة، أنّ ناقةً للبراء بن عازب دخلت حائط رجلٍ فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنّ على أهل الحوائط حِفظها بالنّهار. وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامنُ على أهلها".
قلت: وهذا سند مرسل صحيح، وقد أخرجه الدارقطني (3/ 156 رقم 222) والبيهقي (8/ 341) وأحمد (5/ 435 - 436) من طريق مالك به.
وتابعه الليثب بن سعد عن ابن شهاب به مرسلاً. أخرجه ابن ماجه رقم (2332) وتابعهما سفيان ابن عيينة عن الزهري، عن سعيد بن المسيّب، وحرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء ... أخرجه أحمد (5/ 436) والبيهقي (8/ 342).
وتابعهم الأوزاعي، لكن اختلفوا عليه، في سنده، فقال أبو المغير ثنا الأوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيصة الأنصاري به مرسلا.
أخرجه البيهقي (8/ 341). وقال الفريابي عن الأوزاعي به إلا أنه قال: "عن البراء بن عازب" فوصله. أخرجه أبو داود رقم (3570) وعنه البيهقي (8/ 341) والحاكم (2/ 48).
وكذا قال محمد بن مصعب: ثنا الأوزاعي به موصلاً. أخرجه أحمد (4/ 295) والبيهقي (8/ 341) والدارقطني (3/ 155 رقم 219).
وكذا قال أيوب بن سويد: ثنا الأوزاعي به، أخرجه الدارقطني (3/ 155 رقم 217) والبيهقي (8/ 314).
فقد اتفق هؤلاء الثلاثة: الفرياني، ومحمد بن مصعب، وأيوب بن سويد، على وصله على الأوزاعي، فهو أولى من رواية أبي المغيرة عنه مرسلاً لأنهم جماعة. وهو فرد.
وتابعهم معمر، واختلفوا عليه أيضًا، فقال عبد الرزاق؛ ثنا معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء الحديث.
فزاد في السند "عن أبيه" أخرجه أبو داود رقم (3569) وابن حبان (رقم 1168 ـ موارد) والدارقطني (3/ 154 رقم 216) أحمد (5/ 436) والبيهقي (8/ 342).
وقال: "وخالفه وهيب، وأبو مسعود الزجاج عن معمر، فلم يقولا: عنه عن أبيه".
قال ابن التركماني في "الجوهر النقي" (8/ 342 مع السنن): "وذكر ابن عبد البر بسنده عن أبي داود، وقال: لم يتابع أحد عبد الرزاق على قوله في هذا الحديث: "عن أبيه" وقال أبو عمر: أنكروا عليه قوله فيه: "عن أبيه" وقال ابن حزم: هو مرسل .. ".
قال المحدث الألباني في "الصحيحة" (1/ 425): "لكن قد وصله الأوزاعي بذكرالبراء فيه، في أرجح الروايتين عنه، وقد تابعه عبد الله بن عيسى عن الزهري عن حرام بن محيصة عن البراء به.
أخرجه ابن ماجه رقم (2332) والبيهقي (8/ 341 - 342).
وعبد الله بن عيسى هو ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ثقة محتج به في الصحيحين، فهي متابعة قوية للأوزاعي على وصله، فصح بذلك الحديث ولا يضره إرسال من أرسله، لأن زيادة الثقة مقبولة، فكيف إذا كانا ثقتين؟ وقد قال الحاكم (2/ 48) عقب رواية الأوزاعي "صحيح الإسناد، على خلاف فيه بين معمر والأوزاعي" ووافقه الذهبي، كذا قالا، وخلاف معمر مما لا يلتفت إليه لمخالفته لروايات جميع الثقات في قوله: "عن أبيه" على أنَّه لم يتفقوا عليه في ذلك كما سبق، فلو أنهما أشارا إلى خلاف مالك، والليث، وابن عيينة في وصله لكان أقرب إلى الصواب، ولو أن هذا لا يُقلُّ به الحديث لثبوته موصولاً من طريق الثقتين كما تقدم".(8/4063)
حكَم عليه بضمان ما أفسدت. ولم يُنْقَل أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في تلك القضية أضعف الغرامة. ولا يخفى أن تركَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ للمعاقبة بأخذ المال في هذه القضية لا يستلزم الترك مطلقًا ولا تصلح للنسخ بكل حلا، ومن جملة ما تعلّق به المانعون من العقوبة بالمال قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (2)، وكذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في خُطبة الوداع: "فإندماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ كحُرمة يومكن هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلْقَونه".
أخرجه البخاريُّ (3) وأحمد (4) وغيرُهما (5)، وكذلك حديثُ "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبعة من نفسه" (6).
واحتج القائلون بجواز العقوبة بالمال بحُجج منها حديثُ بهزِ بن حكيم عن أبيه عن جدِّه عند أحمدَ (7) والنسائي (8) وأبي داود (9) .....................................................
_________
(1) [النساء: 29].
(2) [البقرة: 188].
(3) في صحيحه رقم (67) وأطرافه رقم (105، 1741، 3197، 3197، 4406 و4662، 5550، 7087، 7447).
(4) في "المسند" (5/ 37).
(5) كمسلم رقم (1679) وأبي داود رقم (1948) كلهم من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(6) وهو حديث صحيح بشواهده وقد تقدم.
(7) في "المسند" (5/ 4).
(8) في "السنن" (5/ 15 رقم 2444).
(9) في "السنن" رقم (1575).(8/4065)
والحاكم (1) والبيهقيِّ (2) قال: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: "في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنةُ لَبون لا يُفَرَّقُ إبلٌ عن حسابها، ومن أعطاها مُؤتجرًا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله".
وفي رواية (3) "وشطْر ماله عزمة من عزمات ربِّنا تبارك وتعالى لا يحل لآل محمد منها شيءٌ".
قال يحيى بنُ معين: إسنادُه صحيحٌ إذا كان مَن دون [10] بهزٍ ثقةً.
وأجاب المانعون عن هذا الحديث بأن في إسناده بهز بن حكيم وقد قال أبو حاتم (4) هو شيخٌ يُكتَب حديثُه ولا يُحتجّ به. وقال الشافعيُّ (5) ليس حجة. وهذا الحديث لا يُثْبتُه أهلُ العلمِ بالحديث، ولو ثبت لقُلنا به وسُئل (6) عنه أحمد بن حنبل فقال: ما أدري ما وجهُهُ، فسُئِل عن إسناده فقال صالح الإسناد. وقال ابن حبان (7) كان بهزٌ يُخْطِئ كثيرًا، ولولا هذا الحديثُ لأدخَلْتُه في الثقات.
وقال ابن الطّلاّع (8) في أوائل الأحكام هو مجهولٌ، وقال ابنُ حزمٍ (9): غيرُ مشهور العدالة.
_________
(1) في "المستدرك" (1/ 397 - 398) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
(2) في "السنن الكبرى" (4/ 105).
(3) في "السنن" عند أبي داود رقم (1575) وقد تقدم.
(4) في "الجرح والتعديل" (2/ 431).
(5) ذكره ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (1/ 437)، وفي "التلخيص" (2/ 161).
(6) ذكره ابن حجر في "التلخيص" (2/ 161).
(7) في "المجروحين" (1/ 194).
(8) ذكره ابن حجر في "التلخيص" (2/ 161).
(9) في "المحلى" (6/ 75).
وقال ابن حزم في "المحلى" (8/ 169): ضعيف.
وقال مرة في "المحلى" (11/ 132): ليس بالقوي.(8/4066)
قال الحافظ (1): وهو خطأٌ منهما، وقد وثّقه خلقٌ من الأئمة. ومما أجابوا به عن هذا الحديث ما رُوي عن إبراهيم الحربيِّ (2) أنه قال في سياق هذا المتْنِ ما لفظُه: وهِمَ فيه الراوي وإنما هو وأنا آخذها من شطر مالِه، أي يُجْعل ماله شطرين ويَتَخَيَّر عليه المُصَدِّقُ ويأخذ الصدقة من خير الشطرين عقوبةً لمنعه الزكاة، فأما ما لا يلزمُه فلا. نقله عن ابن الجوزي في جامع المسانيد، ورُدَّ هذا الجوابُ بأن الأخذَ من خير الشطرين صادقٌ عليه اسمُ العقوبة بالمال لأنه زائدٌ على القدر الواجب، ومما أجابوا به ما قال بعضهم إن لفظهُ: وشُطِرَ ماله بضم الشين المعجمة وكسر الطاء المُهملة، فعلٌ مبنيٌّ للمجهول، ومعناه مثلُ ما قال الحرْبيُّ ويُردّ بما رُدَّ به.
ومن الأدلة القاضيةِ بجوار العقوبة بالمال حديثُ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ همّ بإحراق بيوت المُتخلِّفين عن الجماعة وهو في الصحيحين (3) وغيرِهما (4) وأُجيب عنه بمنع كون هَمِّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ دليلاً لاتفاق أئمة الأصول وغيرهم أن السُّنة أقوالٌ وأفعالٌ وتقريراتٌ لا سُوى. ويردّ بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لا يَهُمُّ إلا بالجائز، والجوازُ هو المطلوب.
ومن الأدلة أيضًا حديثُ عمرَ عند أبي داود (5) قال: قال النبي صلى الله عليه وآله
_________
(1) في "التلخيص" (2/ 161).
(2) انظر: المصدر السابق.
(3) البخاري رقم (644) ومسلم رقم (651).
(4) كمالك في "الموطأ" (1/ 129) وأبي داود رقم (548) والنسائي (2/ 107) وابن ماجه رقم (791) والبيهقي (3/ 55) من حديث أبي هريرة.
(5) في "السنن" رقم (2713).
قلت: أخرجه أحمد (14/ 53 رقم 275 ـ الفتح الرباني) والترمذي رقم (1461) والحاكم في "المستدرك" (2/ 127) والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 103) من حديث عمر بن الخطاب. وفي إسناده صالح بن محمد بن زائدة تركه سليمان بن حرب، وقال عنه البخاري: منكر الحديث، كما في "الميزان" (2/ 299)، و"المجروحين" (1/ 367).
والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم.(8/4067)
وسلم إذا وجدتم الرجلَ قد غلَّ فأحرِقوا متاعَه. وأُجيب عنه بأن في إسناده صالح بن محمد بن زائدة المديني. وقد قال البخاريُّ (1) عامةُ أصحابنا يحتجّون به وهو باطلٌ. وقال الدارَقُطْنيُّ (2): أنكروه على صالح ولا أصل له، والمحفوظ أن سالمًا أمرَ بذلك في رجل غَلّ في غَزاةٍ مع الوليد بن هشام، قال أبو داودَ (3): هذا أصحّ.
ومن الأدلة أيضًا حديثُ ابن عمرِو بن العاص عند أبي داود (4) والحاكم (5) والبيهقي (6) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغالّ وضربوه.
وأُجيب عنه بأن في إسناده زهير بن محمد. قيل هو الخُراسانيُّ وقيل غيرُه وهو مجهولٌ (7). ومن الأدلة أيضًا حديثُ سعد بن أبي وقاص عند مسلم (8)، قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: "من وجدْتُموه يصيد فيه ـ يعني حرم المدينة ـ فخُذوا سَلَبه" وأجيب أنه من باب الفِدية كما يجب على من تصيَّد [11] صيدَ مكةَ، وإنما عيَّن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ هنا نوعَ الفدية بأنه سلب القاصد، فيقتصر على السبب لقصور العلة التي هتْكُ الحُرْمة عند التعْدية.
ومنها حديثُ ابن عمرَ وأيضًا عند أبي .....................................
_________
(1) ذكره ابن حجر في "التلخيص" (4/ 114).
(2) عزاه إليه ابن حجر في "التلخيص" (4/ 114).
(3) في "السنن" رقم (2714) وهو حديث ضعيف جدًّا.
(4) في "السنن" رقم (2715).
(5) في "المستدرك" (2/ 131) وقال: حديث غريب صحيح لم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(6) في "السنن الكبرى" (9/ 102) وهو حديث ضعيف.
(7) انظر: "الجرح والتعديل" (3/ 589).
(8) في صحيحه رقم (1364). وقد تقدم.(8/4068)
داود (1) وسكت عنه، والمنذريُّ (2) أن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ سُئِل عن التمر المعلّق فقال: "من أصاب بفيه من ذي حاجة غير مُتّخذ خبنةً فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجَرينُ فبلغ ثمن المِجَنَّ فعليه القطعُ ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبةُ".
وأخرج نحو النَّسائي (3) والحاكم (4) وصحّحه. ومن ذلك حديثُ تغريم كاتمِ الضالّةِ (5) إذا كتمها أن يردُّها ومثلَها.
ومن ذلك قضيةُ المدَديِّ (6) الذي أغلظ لأجله عوفُ بنُ مالكٍ على خالدِ بن الوليد لما أخذَ سَلَبَه، فقال النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "لا يرد عليه" أخرجه مسلم (7).
ويُجاب بأنه واردةٌ على سبب خاصٍّ فلا تجاوزَ بها إلى غيرها لأنها وسائر أحاديث الباب مما ورد على خلاف القياسِ لما تقدَّم من أدلة الكتاب والسنة القاضية بتحريم مال الغير على العموم فيكون ما صح من هذه الأدلة الخاصّة المتضمِّنة للعقوبة بالمال مُخصِّصًا لذلك العموم ويقتصر عليها. ولا يُلْحق بها غيرُها لقصور عِلَلِها عن التعدّي إلى الغير، فإن فُرِض صلاحيتُها أو بعضِها للتعدّي أُلحِقَ بها ما صح إلحاقُه على الحد المعتبرِ في الأصول
_________
(1) في "السنن" رقم (4390).
(2) في "مختصر السنن" (6/ 223) وهو حديث حسن.
(3) في "السنن" (8/ 58 رقم 4958).
(4) في "المستدرك" (4/ 381).
وهو حديث حسن. وانظر "الإرواء" رقم (3413).
(5) يشير المؤلف إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (1718) عن أبي هريرة، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ضالة الإبل المكتومة غرامتها ومثلها معها".
قال المنذري في "المختصر" (2/ 273): لم يجزم عكرمة بسماعه من أبي هريرة فهو مرسل.
وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
(6) أي رجل من المدد الذين أرسلهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليمن مع جيش مؤتة لإمداده.
(7) في صحيحه رقم (43/ 1753) وقد تقدم.(8/4069)
من كمال الأركان والشروط والسلامة من النقوض، ويكون من باب التخصيص (1) بالقياس عند مجوِّزيه، لا أنه يُلْحق بها كلُّ فردٍ من أفراد العقوبة بالمال.
وقد استدل أيضًا على جواز العقوبة بالمال بآثار (2) عن الصحابة منها إحراقُ عليِّ عليه السلام الطعام المُحتكر ولدور قومٍ يبيعون الخمرَ وهدْمِه لدار جرير بن عبد الله ومشاطَرَةِ عمرَ لسعد بن أبي وقاصٍ في ماله الذي جاء به من العمل الذي بعثه إليه وتحريقه لقصر لما احتجب عن الناس فيه، وتضْمينه لحاطب بن أبي بَلْتَعة مِثْلَي قيمة الناقة التي غصبها عبيدُ وانتحروها وتغليظه هو وابن عباسٍ الدّية على من قتل في الشهر الحرام في البلد الحرام.
وأُجيب عن جميع ذلك بعد تسليم صِحَّة أسانيدها إليه بأنها أفعالُ صحابةٍ لا تنتهض لتخصيص أدلةِ الكتابِ والسُّنة، ولا تَصلُح للاحتجاج بها في مقام النِّزاع.
إذا تقرر هذا علم السائلُ كثّر الله فوائدَه أن العقوبة بالمال لا يجوز استعمالُها في كل قضية بل في قضايا خاصةٍ كما سلف، ثم في تلك القضايا الخاصة لا وجْهَ لتخصيص ذلك بالإمام لأن الأصْلَ في الأحكام الواردة عنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ عدمُ اختصاصها بفردْ أو أفرادٍ ولكنه يُعلم بالضرورة اختصاصُها بأهل الولايات، لأن التأديبَ والتعزيزَ إليهم [12] ولو أجزْنا ذلك لكل فرد لزم أن يأكل الناس أموال بعضهم بعضًا بالباطل وهو باطلٌ، وحاكمُ الصلاحية إذا كان عالمًا من جُملة أهل الولايات الذين تجب طاعتهم. حتى قال بعض المفسِّرين (3): إن العلماء هم المُرادون بقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (4) فيجوز لهم التأيدبُ بالأموال على ذلك الحدِّ وصرْف المال فيمن يكون الصرفُ إليه مصلحةٌ، ولا شك أن الصرْفَ إلى أحد الخصمين ـ إذا
_________
(1) تقدم توضيحه. وانظر "إرشاد الفحول" (ص525).
(2) تقدم ذكره. وانظر الرسالة رقم (126).
(3) انظر "الجامع لأحكام القرآن" (5/ 259 - 261).
(4) [النساء: 59].(8/4070)
كان لا يرضى إلا بصرْف المالِ إليه ويثور عن صَرْفه إلى غيره فتنةٌ، وتنشأ مفسدةٌ ـ مصلحةٌ، لأن المصالح لا تختصّ بنوع من الأنواع فلا أصْلَحَ من الصرْف إليه عند ذلك لأن الأمور التي تندفع بها المفاسدُ مصالحُ إذا لم يتسبَّبْ عنها مفاسدُ مُساويةٌ أو راجحةٌ.(8/4071)
السؤال السادس:
قال: كذلك ما يقول مولانا المجتهدُ بدرُ الإسلامِ أمتع الله به في كيفة ردائه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وأين كان يضعه؟ هل فوق العِمامة أو على عاتقه الأيمن أو على الأيسر، أو اضطباعٌ (1)؟ أم كيف كان يفعل فإن بعضَ الشافعيةِ من أهل زبيد (2) قال: لا يصنع الاضْطباعَ في غير الطوافِ إلا الدُّعارُ، وهو شعارهم فأوضِحوا الكيفية جُزيتم الجنَّةَ بحق محمدٍ وآله.
الجواب: يقول حفظه الله:
أقول: ثبت في صفته لُبْسِه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لردائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كيفياتٌ وكلُّها جائزةٌ، وكان كثيرًا ما يتقنّع.
قال الترمذيُّ في الشمائل (3): بابُ ما جاء في تقنّع رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ حدّثنا يوسفُ بن عيسى حدثنا وكيع حدّثنا الربيعُ عن صُبح عن يزيدَ بن أبانَ
_________
(1) الاضطباع: هو أنْ يأخذ الإزار أو البُرد فيجعل وسطه تحت إبطه الأيمن، ويُلقي طرفيه على كتفه الأيسر من جهتي صدره وظهره وسُمّي بذلك لإبداء الضّبعين. ويقال للإبط الضّبعُ للمجاورة.
"النهاية" (3/ 73).
(2) تقدم التعريف بها.
(3) (ص61).
قلت: وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (5/ 226 رقم 6464) وأورده السيوطي في "الجامع الصغير" رقم (7140) وعزاه للترمذي في "الشمائل" والبيهقي. ورمز السيوطي لحسنه. وقال الحافظ العراقي: سنده ضعيف.
وقال المحدث الألباني في "مختصر الشمائل" (ص36) رقم 26 وفي إسناده ضعيفان، انظر "الضعيفة" رقم (2356).
وقال ابن كثير: فيه غرابة ونكارة.
والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم.(8/4072)
عن أنس بن مالك قال: كان رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُكثر القِناعَ كأنه ثوبَه ثوبُ زيّات.
والقِناعُ والتقنُّع وهو التَغَشّي بالثواب كما في القاموس (1) وغيره (2) من كتب اللغة. وثبت أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جاء إلى أبي بكر متقنِّعًا بالهاجرة.
فإن قلتَ يُشكل على هذا ما قاله ابنُ القيم (3) من أنه لم يُنقل عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه لبس الطَيْلَسان (4) ولا أحدٌ من أصحابه، بل قد ثبت في صحيح مسلم (5) من حديث النّواسِ بن سمعانَ (6) عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه ذكر الدّجال فقال: يخرج معه سبعون ألفًا من يهود أصفهان عليهم الطيالسة.
ورأى أنسٌ جماعةً من الطيالسة فقال: ما أشبَهَهُم بيهود خيبر.
قال ابنُ القيِّم (7): ومن هنا كرِه جماعةٌ [13] من السّلف والخلَفِ لُبْسَ الطيلسانِ لما رواه أبو داودَ (8) الحاكم في المستدرك (9) عن ابن عمرَ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) (ص978).
(2) انظر "لسان العرب" (11/ 323).
(3) في "زاد المعاد" (1/ 142).
(4) الطيالسة: جمع طيلسان بفتح اللام، ولا تكسره العرب في المشهور وكاه والبكريُّ بكسر اللام وهو الكساء. وهو أعجميُّ معرَّب والهاء في جمعه للعجمة.
"المفهم" (7/ 293).
(5) رقم (124/ 2944).
الطيالسة: جمع طيلسان. والطيلسان أعجمي معرب: ثوب يلبس على الكتف يحيط بالبدن ينسج للبس خالٍ من التفصيل والخياطة.
(6) بل هو من حديث أنس بن مالك ولقد وهم ابن القيم وتبعه في ذلك الشوكاني.
(7) في "زاد المعاد" (1/ 142).
(8) في "السنن" رقم (4031).
(9) لم أجده في المستدرك.
قلت: وأخرجه أحمد (2/ 50، 92) والطحاوي في "مشكل الآثار" (1/ 88) وابن أبي شيبة في "المصنف" (5/ 313) وعبد بن حميد في "المنتخب" رقم (848) كلهم من حديث ابن عمر.
وهو حديث صحيح.(8/4073)
أنه قال: "من تشبَّه بقوم فهو منهم" وفي الترمذيّ (1) عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "ليس منّا مَن تشبّه بقوم غيرِنا".
قلتُ: هذا إنما يُشكِلُ إذا كان التقنُّعُ هو التَّطيْلُسُ، وليس كذلك بل هو غيرُه، وقد وقع من ظنَّ اتّحادهما في الإشكال، حتى قال ابنُ القيِّم (2): أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لم يتقنَّع إلا في تلك الساعةِ التي جاء فيها إلى أبي بكر ليختفي بذلك ففعلَه ولم يكن عادته التقنُّع. ثم أجاب عن حديث أنسٍ المذكور بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كان يتقنّع للحاجة من الحرِّ ثم اعترف بعد ذلك بأن التقنُّع ليس هو التَّطَيْلُسَ فلم يبقَ موجِبٌ لتأويل ما ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ من إكثار التقنُّعِ.
وأما الاضطباعُ فلم يفعلْه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلا في الحج عند الطواف كما في حديث يعلى بن أُميّة عند ابن ماجه (3) والترمذيّ (4) وصحّحه وأبي داودَ (5) وأحمد (6) وحديث ابن عباس عند أحمد (7) وأبي داود (8) ولكن لا مانِعَ مِن فعلِه، ومَن زعم عدم
_________
(1) في "السنن" رقم (2695).
وقال الترمذي: هذا حديث إسناده ضعيف.
ولكن يشهد له ما قبله فهو به حسن.
(2) في "زاد المعاد" (1/ 142).
(3) في "السنن" رقم (2954).
(4) في "السنن" رقم (859) وقال: حديث حسن صحيح.
(5) في "السنن" رقم (1883).
(6) في "المسند" (4/ 222). وهو حديث حسن.
(7) "المسند" (12/ 19 رقم 227 ـ الفتح الرباني).
(8) في "السنن" رقم (1884) وهو حديث صحيح.(8/4074)
جوازِه فعليه الدليلُ، لأن الأصلَ جوازُ لُبْس الثياب على جميع الهيئات إلا على هيئة منهيّ عنها، كاشتمال (1) الصَّماء (2)، فإنه قد ثبت النهْيُ عنه من حديث أبي سعيدٍ عند الجماعةِ (3) كلّهم إلا الترمذيّ، وكالتّطيْلُس للدليل المتقدِّم بعد تسليم انتهاضه للاستدلال به على المطلوب.
ويمكن أن يُستَدَلُّ لمن منع من الاضطباع في غير الطواف بما تقدم من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "من تشبَّه بقوم فهو منهم" (4). وتمامُ هذا الاستدلالِ يتوقّف على اختصاص الاضطباع بأهل الشّرارة من الدُّعار.
والاضطباعُ (5) جعلُ الأردية تحت الآباط ثم قذْفُها على العاتق الأيسر.
_________
(1) الاشتمال: افتعال من الشملة، وهو كساء يُتغطّى به ويُتلفف فيه، والمنهيُّ عنه هو التحلل بالثوب وإسباله من غير أن يرفع طرفه.
"النهاية" (2/ 501).
(2) قال في "النهاية" (3/ 54): وإنما قيل صمّاء، لأنه يسدّ على يديه ورجليه المنافذ كلها، كالصّخرة الصّماء التي ليس فيها خرق ولا صدع.
والفقهاء يقولون: هو أن يتغطى بثوبٍ واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبه، فتنكشف عورته.
(3) البخاري رقم (367) ومسلم رقم (1512) وأبو داود رقم (2417) والنسائي (8/ 210) وابن ماجه رقم (3559) وأحمد (3/ 6).
(4) تقدم تخريجه وهو حديث حسن.
(5) تقدم ذكره.(8/4075)
السؤال السابع: قال:
كذلك مسألةٌ حدثتْ في بلادنا وهو أن رجلاً ادّعى على آخرَ نحوَ خمسين قرشًا وأوردَ شاهدًا واحدًا، ثم بعد إيرادِه للشاهد قال للمدّعى عليه: صالحني فهل يكون طلبُه للمصالحة إقرارًا أم لا؟ مع أن الشاهدَ عْدلٌ وإنما طلب المصالحةَ ليستريحَ من الخصام، ثم ترجَّح له من بعدُ أن يُكمل شاهدَه، فهل له ذلك أم لا؟ ولا يخفاكم ما في المقصد الحسنِ. بيِّنوا لنا ذلك جُزيتم خيرًا بحق محمدٍ وآلِه الطاهرين.
الجواب: يقول حفظه الله تعالى:
أقول: طلبُ المدّعي للمصالحة على فرض عدمِ قيامِ شاهدٍ ولا غيرِه من الأمور التي يثبُت بها الحقُّ على طريق الاستقلال أو مع الانضمام إلى الغير ـ لا يكون إقرارًا ببُطلان دعواه [14] ولا إبطالاً لِما يستحقّه زائدًا على ما وقعت به المصالحةُ، لما تقرَّر من أن المصالحات ليست بأحكام يجب على كل واحدٍ من المتصالِحَيْن التزامُها والتوقّفُ على مقتضى ما وقعتْ عليه. بل لكل واحدٍ منهما نقضها متى شاء، وهذا مما لا أعلمُ فيه خلافًا، فقولُ السائلِ كثّر الله فوائدَه: هل يكون طلبُه للمصالحة إقرارًا: إنْ أراد إقرارًا ببُطلان الدعوى فلا مِريَة أن مجرَّد الطلب للصُّلح لا يكون إقرارًا ببطلان الدّعوى. وإن أراد أن يكون إقرارًا بعدم استحقاقِ القدْرِ الزائدِ على ما وقعت به المصالحةُ فكذلك.
نعم لو كان الطالبُ للمصالحة هو المدّعى عليه لكان لذلك الطلبِ شائبةُ إقرار بفَرْع الثبوت.
والحاصلُ أنه يجوز للمدّعي بعد وقوعِ المصالحة ببعض المقدار الذي ادّعاه أن يُطالِبَ بالزائد عليه فإن كان له بُرهانٌ على ذلك فلا شكَّ في صحة ذلك ولزومِه، وإن لم يكن له برهانٌ فله طلبُ اليمين من المدعى عليه أنه لا يستحقُّ عليه ذلك المقدار، أو لا يستحقُّ عليه شيئًا من الأصل، أو لا يستحق عليه زائدًا على ما وقعتْ به المصالحةُ. ثم هذا الصلحُ مع كونه غيرِ ملازمٍ لما عرفْتَ هو أيضًا صلحٌ على إنكار، وقد جزَم أهلُ .........(8/4076)
المذهب (1) بأنه غير صحيحٍ وإن كان الحقُّ أن صحيحٌ.
أما أولاً: فلعدم المانع والأصل الجواز.
وأما ثانيًا: فلأنّ أدلة الكتاب (2) والسنة (3) دلّت على مشروعية مُطلق الصُّلح ومن ادعى مشروعية فرد من الأفراد فعليه الدليل.
وأما ثالثًا: فلما ثبت في الصحيحين (4) وغيرهما أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لمّا سمع من مخاصمة أُبيِّ بن كعب وابن أبي حدْرد في المسجد قال: "يا كعب ضع الشطرَ"
_________
(1) قال صاحبُ "الأزهار" (3/ 427 ـ مع السيل الجرار): "ولا يصح عن حدّ ونسب وإنكار" ورده الشوكاني بقوله: "هذا الصلح مندرجٌ تحت عموم الحديث المتقدم، وليس فيه تحليل حرام، ولا تحريم حلال فلا وجه للمنع منه".
(2) قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].
(3) أخرج ابن ماجه رقم (2353) والترمذي رقم (1352) وقال: هو حديث حسن صحيح. والحاكم (4/ 101) وسكن عليه وقال الذهبي "واهٍ" من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه، عن جده مرفوعًا: بلفظ "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرّم حلالا أو أحلّ حرامًا".
وهو حديث صحيح لغيره.
(4) البخاري رقم (457) ومسلم رقم (1558).
قال ابن قدامة في "المغني" (7/ 6): أنّ الصلح على الإنكار صحيحٌ وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال الشافعي لا يصح. لأنه عاوض على ما لم يثبت له فلم تصح المعاوضة.
ثم قال: فلا يصح هذا الصلح إلا أن يكون المدّعي معتقدًا أنّ ما ادّعاه حقٌّ والمدّعى عليه يعتقد أنّه لا حقّ عليه فيدفع المدّعي شيئًا افتداءً ليمينه وقطعًا للخصومة، وصيانة لنفسه عن التبذل، وحضور مجلس الحاكم، فإنذ ذوي النفوس الشريفة والمروءة يصعب عليهم ذلك، ويرون دفع ضررها عنهم من أعظم مصالحهم، والشّرع لا يمنعهم من وقاية أنفسهم وصيانتها ودفع الشرّ عنهم ببذل أموالهم. والمدّعي يأخذ ذلك عوضًا عن حقه الثابت له، فلا يمنعه الشّرع من ذلك أيضًا، سواء كان المأخوذ من جنس حقّه، أو من غير جنسه بقدر حقّه أو دونه، فإن أخذ من جنس حقه بقدره فهو مستوفٍ له، وإن أخذ دونه، فقد استوفى بعضه وترك بعضه، وإن أخذ غير جنس حقه فقد أخذ عوضًا. ولا يجوز أن يأخذ من جنس حقِّه أكثر مما ادّعاه، لأن الزائد لا مقابل له، فيكون ظالمًا بأخذه ... ".(8/4077)
فقال: رضيتُ يا رسولَ الله، ثم قال لابن أبي حدْرد: "قم فاقْضه" هذا إن كانت المخاصمة الواقعةُ بينهما في المقدار (1)، وإن كانت في التعجيل والتأجيل فليس مما يدل على محل النِّزاع.
_________
(1) قال الشوكاني في "وبل الغمام على شفاء الأوام" (2/ 301): الظاهر أنها تجوز المصالحة عن إنكار، نحو أن يدعي رجل على آخر مائة دينار، فينكره في جميعها، فيصالحه على النصف من ذلك المقدار، لأن مناط الصلح التراضي والمنكر قد رضي بأن يكون عليه بعض ما أنكره. وأي مقتضٍ بمنع هذا وإن كان مثل حديث: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبعة من نفسه" فهذا قد سلم بعضًا مما أنكره طيبة به نفسه، وإن كان غير ذلك فما هو؟.
ثم حديث كعب المتقدم المشتمل على وقوع التنازع بين الرجلين، إن كان التنازع بينهما في المقدار فهو أيضًا في التعجيل والتأجيل فهو أيضًا صلح عن إنكار لأن منكر الأجل قد صولح على أن يتعجل البعض من دينه، ويسقط الباقي إلى مقابل دعوى صاحبه للأجل ... ".(8/4078)
السؤال الثامن: قال:
كذلك إذا اشتهر بين الناس أن هذه الأرض لآل فلان وهم كانوا أهل قوةٍ، وصار كلُ أحدٍ من أهل تلك المحلَّة ينسبُها إليهم ثم ادّعاها رجلٌ من أهل تلك المحلّة بعد التنبيه له من بعض المُميِّزين أن هذه الأرض أرضُ أبيك، وإنما بسطها هؤلاء عُدوانًا وأنا أشهدُ لك وستلْقَى غيري من الكبار يشهدُ لك معي، ثم ادّعى ذلك الرجل أنها أرض أبيه فأجاب الباسطون: أنك مَقِرٌّ أنها لنا فكيف تدّعيها؟ فقال: صحيح قلت ما يقولُ الناسُ لبُسوطكم والآن ظهر لي أنها لأبي وشهودي قيامٌ فهل تُقْبل هذه الدعوى والشهادةُ والحالةُ هكذا أم لا؟ أفيدوا في ذلك فإن المسألة (1) راهنةٌ [15].
_________
(1) إذ توافرت وسائل الإثبات في دعواه فله الحق فيها.
والإثبات لغة: إقامة الثبت وهو الحجة.
والإثبات في اصطلاح الفقهاء: هو إقامة الحجة، أمام القضاء بالطرق التي حددتها الشريعة على حق أو واقعة تترتب عليها آثار شرعية.
فالإثبات في الغالب هو المعيار في تمييز الحق من الباطل، والسمين من الغث وهو الحاجز أمام الأقوال الكاذبة، والدعاوي الباطلة، وهذا الذي نلمسه في الحديث الشريف الذي يعتبر منار القضاء، وأساس الإثبات فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى رجالٌ دماء رجالٍ وأموالهم لكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" ـ حديث صحيح متفق عليه ـ وجه الدلالة أنّه لا يقبل الادعاء بدون دليل، وإلا تطاول الناس على الأعراض وطالبوا بأموال الآخرين وزهقت الأنفس.
فكل ادعاء يحتاج إلى دليل، وكل قول لا يؤخذ إلا بالحجة والبرهان وكل حق يبقى ضعيفًا مهددًا بالضياع، مجردًا عن كل قيمة إذا لم يدعم بالإثبات ويصبح الحق عند المنازعة فيه هو والعدم سواء، ولذلك قال بعض العلماء: إن الدليل فديةُ الحق، أو جزية الحق، ولولا الإثبات لضاعت الحقوق وزهقت الأنفس.
ويشترط في الإثبات أن تتوافر فيه شروط منها:
1 - أن تسبقه دعوى.
2 - أن يوافق الإثبات الدعوى.
3 - أن يكون الإثبات في مجلس القضاء.
4 - أن يكون الإثبات منتجًا في الدعوى.
5 - أن يكون موافقًا للعقل والحس وظاهر الحال.
6 - أن يستند الإثبات إلى العلم أو غلبة الظن.
7 - أن يكون الإثبات بالطرق التي أقرها الشارع.
يتم إثبات الحق أوالواقعة أمام القاضي بوسائل كثيرة: أهمها الإثبات بالشهادة، والإثبات بالإقرار، والإثبات باليمين والإثبات بالكتابة، والإثبات بالقرائن، والإثبات بعلم القاضي، والإثبات بالمعاينة والخبرة".
"بدائع الصنائع" (6/ 277)، "تبصرة الحكام" (1/ 129)، "الطرق الحكمية" (ص88).(8/4079)
الجواب: قال حفظه الله:
أقول: قد اجتمع لثابت اليد على الأرض أمورٌ:
منها الثبوت الذي لا يعادله شيءٌ من القرائن القاضية بثبوت المُلْك ولا يُوازيه.
ومنها الاشتهار والاستفاضة اللذان لا يقصران عن إثبات ظاهر لمن كانت الأرض منسوبةً إليه بهما.
ومنها الأصل الأصيل الذي يكون عليه مدار التعويل، وهو أن من كان ثابت اليد على شيء فالأصل عدم دخوله إليه بوجه غصْبٍ ونحوِه، وعدم خروجه عنه إلا بما يقتضي التمليك للغير، فمن قام في مقابل هذه الأمور وادّعى ما يخالفها لم يكن لديه من إقامة البُرهان الذي ينقل عن الأصل والظاهر والثبوت، وإذا أقامه قبل. ولا يقال إن موافقته للناس في النِّسبة يكذّب دعواه لأنه قد أبان العُذر بأن ذلك كان لأمر فارتفع، فإذا جاء البرهان الصحيح بذلك علمنا صِدْق دعواه وعدم تقدم ما يُكذِّبُها على التحقيق ولكنه لا بد أن تكون الدعوى والبينة الصادرتان منه متضمّنتين لكون أبيه مات مالِكًا لتلك الأرض ولم يقع للشهود علمٌ بالانقال، فإذا أقام البيّنة على هذه الصفة، فتلك(8/4080)
الأمور الثلاثة التي ذكرناها سابقًا قد عُورضت بما هو أقوى منها، ولكنها لا تَبظُلُ بالمرّة وإنما يبطل كونُها موجبة لكون القول قول ثابت اليد، ويصير باعتبار المعارض الراجح القول قول من أقام البيّنة، وينعكس الأمر فيقال لثابت اليد: هل لك دليلٌ ينقُل عن الأصل والظاهر اللَّذين صارا بيد الوارث المذكور، فإن جاء بما يدلُّ على الانتقال من مُلك ذلك الميْتِ أو مُورّثه إلى مُلكه إما بيّنه أو حُكمِ حاكم، أو إقرارٍ كان ذلك أرجح من شهادة الوارث التي أقامها لأنها مُبْقيةٌ على الأصل وهي ناقلةٌ. ولأن غاية مستندها هو الاستصحاب وهو لا يُعوَّل عليه إلا عند فقدِ ما يَنْقُلُ عنه.(8/4081)
السؤال التاسع: قال:
كذلك قد ظهر استقرار الملكين بابن آدم بعد موته أنهما يقومان على قبره (1)،
_________
(1) وهو حديث ضعيف، ورد من حديث أبي بكر، وأبي سعيد، وأنس.
- أما حديث أبي بكر:
فقد أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/ 228) والسيوطي في "اللآلئ" (2/ 432) من طريق إسماعيل بن يحيى التيمي حدثنا قطر بن خليفة، عن أبي الطفيل قال: سمعت أبا بكر يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا قبض العبد المؤمن صعد ملكاه إلى السماء، فقال الله لهما: ارجعا إلى قبره واحمداني وهللاني إلى يوم القيامة، فإنني قد جعلت له مثل أجر تسبيحكما وتحميدكما وتهليلكما، ثوابا مني له فإذا كان العبد كافرًا فمات صعد ملكاه إلى السماء، فيقول الله عز وجل لهما: ما جاء بكما؟ فيقولان: رب قبضت عبدك وجئناك، فيقول لهما: ارجعا إلى قبره والعناه إلى يوم القيامة، فإنه كذبني وجحدني، فإني جعلت لعنتكما عذابا أعذبه يوم القيامة".
وفي سنده "إسماعيل بن يحيى التيمي" عامة ما رويه من الحديث بواطل عن الثقات وعن الضعفاء ـ قاله ابن عدي في "الكامل" (1/ 302).
- وأما حديث أبي سعيد:
فقد أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/ 228) والدارقطني في "الأفراد" كما في "الحبائك" رقم (378) والسيوطي في "اللآلئ" (2/ 432) وأبو نعيم في "الحلية" (7/ 253) من طريق إسماعيل بن يحيى، حدثنا مسعر عن عطية، عن أبي سعيد قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إذا قبض الله عز وجل روح العبد صعد ملكاه إلى السماء فقالا: يا ربنا إنك ولكتنا بعبدك المؤمن نكتب عمله، وقد قبضته إليك، فأذن لنا أن نسكن السماء فيقول: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحوني فيقولون: ائذن لنا أن نسكن الأرض، فيقول: أرضي مملوءة من خلقي يسبحوني، ولكن قوما على قبره، فسبحاني واحمداني وهللاني واكتباه لعبدي إلى يوم القيامة".
قال أبو نعيم: غريب تفرد به سعدان عن إسماعيل. تقدم الكلام عليه.
- وأما حديث أنس: فقد أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/ 229) والسيوطي في "اللآلئ" (2/ 432 - 433) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله عز وجل وكل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله، فإذا مات قال الملكان اللذان وكلا به: قد مات فأذن لنا أن نصعد إلى السماء، فيقول الله عز وجل: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحوني، فيقولان: في الأرض، فيقول: أرضي مملوءة من خلقي يسبحوني، فيقولان: أين، فيقول: قوما عند قبر عبدي، فسبحاني واحمداني وكبراني وهللاني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة".
قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح وقد اتفقوا على تضعيف "عثمان بن مطر" وقال ابن حبان يروي الموضوعات عن الأثبات لا يحل الاحتجاج به.
وقال ابن عراق في "تنزيه الشريعة" (2/ 371): "تعقب: بأن البيهقي أخرج في "الشعب" (7/ 183 - 184 رقم 9931) حديث أنس وقال: عثمان بن مطر ليس بالقوي، ثم إنه لم ينفرد به، فقدتابعه الهيثم بن جماز أخرجه أبو بكر المروزي في "الجنائز" وأبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" (1/ 633 رقم 846) و (1/ 634 رقم 847).
قال البيهقي: وله شواهد أخرى عن أنس، ثم روى بإسنادين عنه مرفوعًا نحوه، والله تعالى أعلم.(8/4082)
وإنما الإشكالُ في مادة الشياطين المُسلَّطين أين يذهبون بعد موته، أفيدوا جُزيتُم خيرًا بحق محمدٍ وآله.
الجوابُ: قال حفظه الله:
أقول: لم أقِفْ إلى الآن على دليل يدُل على خصوص المكان الذي تذهبُ إليه الشياطينُ بعد موت الشخص الذي يلازمونه حال حياته كالقرين ونحوه، وإذا لم يرِدْ هذا عن الشارع فلا مانعَ من أن يقالَ فيه بالرأي نظنُّه أنهم يذهبون [16] إلى الأمكنة التي يستقِرُّ فيها إخوانُهم الشياطين لأن الغالبَ على الفرد من النوع أوا لجماعة منه إذا فارقوا أبناءَ نوعِهم في أمر من الأمور أن يعودوا عند فراغِهم من ذلك إليهم.
والشياطينُ الملازمون للإنسان كذلك. لاسيما وقد ورد أنهم يعودون إلى كبارهم فيقولون: أغوينا فلانًا (1)، أوقعنا الفتنة بين بني فلان، فعلْنا كذا فعلْنا كذا وهؤلاء لعلهم
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم رقم (67/ 2813) عن جابر بن عبد الله، قال قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن إبليس يضع عرشه على الماء ثيم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنةً، يجيء أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركتُه حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال فيدنيه منه ويقول: نعم: أنت".
قال الأعمش: أراه قال: "فيلتزمه".(8/4083)
يعودون إلى كبارهم وأبناء نوعهم فيقولون أغوينا من كنا نصاحبه، ألهيناه عن الشهادة، سولنا له المضارة في وصيته، وعلى فرض أن يكون ذهابهم بعد ذلك إلى غير ما هو الغالب فليس مما يتعلق بها فائدة ولا يحتاج إلى الدراية به.
نعم ورد ما يدل على أنه يأتي الشيطان الإنسان إلى قبره (1) ويتعرض لفتنته وهذا إن كان من الملازمين (2) له حال الحياة فهو يدل على أنهم لا يفارقونه عند الموت مفارقة لا يوافقونه بعدها. اللهم إنا نسألك العصمة من هذا العدو المسلط.
_________
(1) انظر "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة" (1/ 100 - 102).
(2) قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 36 - 38].
قال ابن كثير في تفسيره (7/ 228) هذا الذي تغافل عن الهدي نقيض له من الشياطين من يضله، ويهديه إلى صراط الجحيم، فإذا وافى الله يوم القيامة يتبرم بالشيطان الذي وكل به: {قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} وقرأ بعضهم: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} يعني القرين والمقارن.
قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر: عن سعيد الجريري قال: بلغنا أن الكافر إذا بعث من قبره يوم القيامة سفع بيده شيطان فلم يفارقه، حتى يصيرهما الله إلى النار فذلك حين يقول: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}.
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (2/ 161).
وقال الآلوسي في "روح المعاني" (25/ 81): {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} أي نتح له شيطانا ليستولي عليه استيلاء القيض على البيض وهو القشر الأعلى. {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}: دائما لا يفارقه ولا يزال يوسوسه ويغويه وهذا عقاب الكفر بالختم وعدم الفلاح.(8/4084)
السؤال العاشر قال:
مسألة عصمة أمير المؤمنين أفضِلوا بنقل الأحاديث الدالّة على ذلك وما الحقُّ في المسألة؟ وكذلك الزَّهراء وابْناها تفضّلوا، وإن شقّ عليكم الحالُ فإن السائلَ مستفيدٌ وفي النفس أشياءُ ولكن ستكون شفاءها إن شاه الله أو على حال غير هذا والسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته.
أقولُ: عصمةُ علي وحُجَّة قولِه: ذهب إلى القول بهما جماعةٌ من أهل البيت عليهم السلام وذهبت جماعةٌ منهم وسائرُ المسلمين أجمعين إلى أن المعصوم إنما هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ على الخصوص والحُجّة إنما هي ما جاء عن الله وعنه.
وقد استدل الأولون لذلك بأدلة منها: ما أخرجه الحاكمُ (1) والطبرانيُّ في الأوسط (2) عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "عليَّ مع القرآن والقرآنُ مع عليِّ ولن يفترِقا حتى يرِدا عليَّ الحوضَ (3) ".
_________
(1) في "المستدرك" (3/ 124) وقال: صحيح الإسناد، وأبو سعيد التيمي هو عقيصاء ثقة مأمون. وأقره الذهبي.
- ولكن الذهبي قال في "الميزان" (3/ 88 رقم 5701) "يقال: اسمه دينار، شيعي تركه الداقطني. وقال الجوزجاني: غير ثقة، وروى عنه الأعمش، والحارث بن حصير. وقال ابن عمين: رُشيد الهجري سيء المذهب، وعقيصًا شرُّ منه".
(2) (5/ 135 رقم 4880) من حديث أم سلمة. وأورده الهيثمي في "المجمع" (9/ 134) وقال: فيه صالح بن أبي الأسود وهو ضعيف.
وأخرجه الطبراني في "الصغير" (2/ 28 رقم 720 ـ الروض الداني).
قلت: وقال الذهبي في "الميزان" (2/ 288 رقم 3771): "واهٍ".
وقال ابن عدي في "الكامل" (4/ 1384 - 1385). أحاديثه ليست بالمستقيمة.
والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم.
(3) أما ما ورد في الحوض فقد أخرج البخاري رقم (6579) ومسلم رقم (2292) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء من شرب منها فلا يظمأ أبدًا".(8/4085)
ومنها ما أخرجه الطبرانيُّ (1) والحاكمُ (2) وأبو نُعيم (3) عن زيد بن أرقم من حديث وفيه: فإنه ـ يعني عليًّا ـ لن يُخرجكم من هدى، ولن يُدخلكم في ظلال.
ومنها ما أخرجه أبو نُعيم في الحلية (4) عن حُذيفة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: إن تُولّوا عليًّا تجدوه هاديًا مهديًا يسلك لكم الطريق المستقيم.
وما أخرجه الدَّيلمي (5) عن عمار بن ياسر وأبي أيوب بلفظ: "يا عمار إن رأيت عليًّا قد سلك واديًا وسلك الناس واديًا غيرَه فاسلك مع علي". وما أخرجه الحاكم (6) عن أبي ذرٍ أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: من فارق عليًّا [17] فارقني، ومن فارقني فقد فارق الله".
_________
(1) في "الكبير" (5/ 194 رقم 5067).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (9/ 108) وقال: فيه يحيى بن يعلى الأسلمي، وهو ضعيف.
(2) "المستدرك" (3/ 128) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد.
وتعقبه الذهبي بقوله: أنَّى له الصحة والقاسم متروك، وشيخه ضعيف واللفظ ركيك فهو إلى الوضع أقرب.
(3) في "الحلية" (4/ 349 - 350) وقال: غريب من حديث أبي إسحاق تفرد به يحيى عن عمار، وحدث به أبو حاتم الرازي عن أبي بكر الأعين عن يحيى الحماني عن يحيى بن يعلى".
وخلاصة القول أن الحديث ضعيف جدًّا وهو إلى الوضع أقرب.
(4) (1/ 64).
(5) في "الفردوس بمأثور الخطاب" (5/ 385 رقم 8501).
(6) في "المستدرك" (3/ 146) وصحح إسناده بلفظ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي: "من فارقني فقد فارق الله، ومن فارقك فقد فارقني".
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (12/ 423 رقم 13559) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من فارق عليًّا فارقني ومن فارقني فارق الله" وفيه أحمد بن صبيح لا يساوي شيئًا.(8/4086)
وما أخرجه الدَّيلميُّ (1) عن أبي ذرٍّ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "يا عليّ أنت تُبيّن للناس ما اختلفوا فيه من بعدي".
وما أخرجه الطبرانيُّ (2) عن سلمان من حديث قال فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "هذا فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل" يعني عليًّا.
وأخرج نحوه أيضًا الطبراني (3) عن أبي ذرّ.
وابن عديّ (4) والعُقَيليِّ (5) عن ابن عباس.
وما أخرجه أبو يعلى (6) وسعيدُ بنُ ......................................
_________
(1) في "الفردوس" (5/ 332 رقم 8347) من حديث أنس بن مالك.
(2) عزاه إليه الهيثمي في "المجمع" (9/ 102) وقال رواه الطبراني والبزار (3/ 183 رقم 2522 ـ كشف) عن أبي ذر وحده (وزاد فيه) "أنت أول من آمن وقال فيه والمال يعسوب الكفار" وفيه عمرو بن سعيد المصري هو ضعيف.
قلت: ليس في إسناد البزار عمرو بن سعيد، بل فيه عباد، وهو الرواجني، رافضي داعية.
(3) عزاه إليه الهيثمي في "المجمع" (9/ 102) وقال رواه الطبراني والبزار (3/ 183 رقم 2522 ـ كشف) عن أبي ذر وحده (وزاد فيه) "أنت أول من آمن وقال فيه والمال يعسوب الكفار" وفيه عمرو بن سعيد المصري هو ضعيف.
قلت: ليس في إسناد البزار عمرو بن سعيد، بل فيه عباد، وهو الرواجني، رافضي داعية.
(4) في "الكامل" (4/ 1544) وفيه عبد الله بن داهر، وعامة ما يرويه في فضائل علي وهو فيه منهم.
(5) عزاه إليه السيوطي في "اللآلئ" (1/ 324) وفيه ابن داهر. قال اعلقيلي: كان ممن يغلو في الرفض إسحاق بن بشر الأسدي:
حدثنا خالد بن الحارث عن عوف عن الحسن عن أبي ليلة الغفاري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "ستكون من بعيد فتنة فإذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب فإنّه أول من يارني، وأول من يصافحني يوم القيامة وهو الصديق الأكبر وهو فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل وهو يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين".
قال الحاكم: إسناده غير صحيح.
وفي الميزان (1/ 186 - 188) إسحاق بن بشر كذاب في عداد من يضع الحديث وأورد له هذا الحديث والله أعلم.
(6) في "المسند" (2/ 318 - 319 رقم 78/ 1052).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (7/ 234 - 235) وقال: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.(8/4087)
منصور (1) عن أبي سعيد الخُدْري قال: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "الحقُّ مع ذا الحقُّ مع ذا" يعني عليًّا.
وما أخرجه الخطيبُ (2) عن أنس بن مالك قال: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ "أنا وهذا حجةٌ على أمتي يوم القيامة" يعني عليًّا.
وأخرج الحاكم في المستدرك (3) عن عليّ عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله
_________
(1) لم أجده.
(2) عزاه إليه السيوطي في "اللآلئ" (1/ 365 - 366) من طريق مطر بن أبي مصر عن أنس به، وهو حديث موضوع آفته مطر.
وقال السيوطي: قال الذهبي في "الميزان" (4/ 127 - 128) هذا باطل والمتهم به مطر فإن عبيد الله ثقة شيعي ولكنه آثم برواية هذا الإفك والله أعلم.
(3) (3/ 135).
قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2310) ووكيع في "أخبار القضاة" (1/ 84 - 85) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 86) وابن سعد من "الطبقات" (2/ 337) وأحمد في "المسند" (1/ 83) والنسائي في "تهذيب خصائص الإمام علي رضي الله عنه" (ص40 - 41 رقم 31) من طريق الأعمش عن عمرو بن مرَّة، عن أبي البخْتَري عن علي رضي الله عنه، قال: بعثني رسول الله إلى اليمن. فقلت: يا رسول الله بعثتني وأنا شاب أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء! فضرب صدري بيده ثم قال: "اللهم اهد قلبه وثبت لسانه! فوالذي فلق الحبة ما شككتُ في قضاء بين اثنين".
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.
قلت: واعجبًا وقد صرح النسائي في "الخصائص" (ص44): بأن أبا البختري لم يسمع من علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ويؤيد ذلك رواية شعبة عن عمرو بن مرة، قال: سمعتُ أبا البختري الطائي قال: أخبرني من سمع عليًّا يقول: ... فذكره.
أخرجه أحمد (1/ 136) والطيالسي في "المسند" (ص16 رقم 98) والبيهقي (10/ 86 - 87) ووكيع في "أخبار القضاة" (1/ 85) وإسناده صحيح لولا هذا المبهم. كما قال ابن حجر في "التلخيص" (4/ 182).
وأخرجه أبو داود (4/ 11 رقم 3582) والترمذي (3/ 618 رقم 1331) وابن سعد في "الطبقات" (2/ 337) وأحمد في "المسند" (1/ 111) وابنه في "زوائده" (1/ 111، 149) والطيالسي في "المسند" (ص19 رقم 125) والحاكم في "المستدرك" (4/ 93) والبيهقي (10/ 86) ووكيع في "أخبار القضاة" (1/ 85، 86) من طرق كثيرة عن سماك بن حرب عن حنش بن المعتمر عن علي رضي الله عنه.
قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
قلت: ولم يتفرد به شريك بل تابعه زائدة بن قدامة عند أحمد (1/ 150) والطيالسي في "المسند" (ص119 رقم 125) وأسباط بن نصر، وأبان بن تغلب، وسليمان بن قدم وغيرهم عن وكيع. جميعهم عن سماك به. وسماك وهو ابن حرب في كلام، وحديثه حسن. وحنش بن المعتمر الكوفي ضعفه جماعة، وشريك وهو ابن عبد الله القاضي سيء الحفظ، ولكنه توبع كما تقدم.
وأخرجه البزار كما في "نصب الراية" (4/ 61) وابن سعد في "الطبقات" (2/ 337) ووكيع في "أخبار القضاة" (1/ 85) وأحمد (1/ 88، 156) من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي رضي الله عنه فذكره بنحوه.
وله شواهد عن ابن عباس. وبريدة الأسلمي. وأبي رافع وغيرهم.
قال المحدث الألباني في "إرواء الغليل" (8/ 228) بعد الكلام على هذا الحديث. وجملة القول أن الحديث بمجموع الطرق حسن على أقل الأحوال والله أعلم.(8/4088)
وسلم قال له: "إن الله سيهدي قلبك ويثبِّت لِسانَك".
وأخرج أبو نُعيم في الحلية (1) عن أبي بَرْدَةَ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "إن عليًّا رايةُ الهدى وإمامُ الأولياء" ونحوُ هذه الأحاديث كثيرٌ وقد أجاب الجمهور عنها بأجوبة:
منها: القدحُ في أسانيد بعضِها.
ومنها: المنعُ من دِلالتها على المطلوب.
ومنها: الإلزامُ بأنه لا يختص ذلك بعلي عليه السلام بل تثبُت العصمةُ وحُجّيّةُ القول لجماعة من الصحابة ورَدَ فيهم ما يدل على نحو ما دلّتْ عليه هذه الأحاديث كما
_________
(1) (1/ 66 - 67) بإسناد ضعيف.(8/4089)
ورد في حق ابن مسعود أن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "رضيتُ لأمتي بما رضي لها ابنُ أمّ عبد" (1).
وما ورد في أبي عُبيدةَ من أنه "أمينُ هذه الأمة" (2) بعد أن سُئل النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أن يبعثَ مع أهل اليمن رجلاً يعلِّمُهم السّنة.
وما ورد في حق أبي بكرٍ وعمر من حديث حذيفة عند الترمذي (3) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "اقتدوا باللذين بعدي أبي بكر وعمر" وما أخرجه الشيخان (4) والترمذي (5) من حديث
_________
(1) وهو حديث صحيح.
أخرجه الحاكم في "المستدرك" (3/ 317 - 318) وقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ووافهما الألباني في "الصحيحة"
(3/ 225).
(2) أخرجه البخاري رقم (3744)، ورقم (4382، 7255) ومسلم رقم (53، 54/ 2419). من حديث أنس.
(3) في "السنن" رقم (3662) وقال الترمذي: حديث حسن.
قلت: وأخرجه أحمد في "المسند" (5/ 382، 385، 402) وابن ماجه رقم (97) والحاكم في "المستدرك" (3/ 75) والطحاوي في "مشكل الآثار" (2/ 83 - 84) والحميدي في "مسنده" (1/ 214 رقم 449) وابن سعد في "الطبقات" (2/ 334) وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 109) والخطيب في "تاريخ بغداد" (12/ 20) والبغوي في "شرح السنة" (14/ 101 رقم 3894، 3895) كلهم من طرق عن عبد الملك بن عمير عن ربعّي بن حراش عن حذيفة بن اليمان به.
وأخرجه الترمذي رقم (3663) وأحمد في "المسند" (5/ 399) وابن حبان (رقم 2193 ـ موارد) من حديث حذيفة أيضًا لكن من طريق سالم بن عبد الواحد المرادي، وقيل: ابن العلاء المرادي أبو العلاء.
وأخرجه الترمذي رقم (3805) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه .. والحاكم (3/ 75 - 76) وقال: إسناده صحيح ورده الذهبي بقوله: قلت: سنده واهٍ، والبغوي في "شرح السنة" (14/ 102 رقم 3896) وقال: حديث غريب كلهم من حديث ابن مسعود. لكن من طريق أبي سلمة بن كهيل عن أبي الزَّعْرَاء.
وانظر: "الصحيحة" رقم (1233).
(4) البخاري في صحيحه رقم (75، 143، 3756، 7270) ومسلم رقم (138/ 2477).
(5) في "السنن" رقم (3823) وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه ... وأخرجه الترمذي في "السنن" رقم (3824) وقال: حديث حسن صحيح.(8/4090)
ابن عباس أن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قال لابن عباس: "اللهم فَقّهه في الدين" وفي رواية: "اللهم علّمه الكتابَ" وفي أخرى "الحِكمة".
وأخرج الترمذيُّ (1) وأحمد وابن ماجه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "تمسكوا بهدْي عمّار وما حدّثكم ابن مسعود فصدِّقوه" ومن ذلك حديثُ العِرباضِ بن سارية عند أهل السُّنن وفيه وعليكم بسنّتي وسنّة الخُلفاء الراشدين الهادين (2) "، وحديث "أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتَدَيتُم" (3) وفي إسناده جعفر بن عبد الواحد الهاشميُّ (4) قال فيه الدارَقُطْنيُّ: يضع الحديث وتكلم فيه الحفّاظ بكلام طويل.
قال الجمهور: فهذه الأحاديث ونحوها تدل على عصمة كلّ فرد من أفراد الصحابة أو جماعة منهم ولم يقل به أحدٌ، وعلى حُجيّة أقوالِهم كذلك وأنتم لا تقولون به وإنما قال به مالكٌ وأبو علي وأبو هاشمٍ وأبو عبد الله البصريُّ ومحمد بن الحسن والرازيُّ والبرذعيُّ من الحنفية وأحمدُ في رواية عنه ورجّحه الفناريُّ من متأخّري الحنفية وقال إنه الذي اختاره المتأخرون انتهى.
وأما عِصمةُ الحسَنَين والبَتولِ رضْوانُ الله عليهم [18] فذهب إلى ذلك طائفةٌ يسيرةٌ من أهل البيتِ وخالفهم جميعُ الأمة من أهل البيت وغيرهم واستدلوا على ذلك بالأدلة القاضية بأنهم من أهل الجنة وهي أحاديث صحيحةٌ لا نزاع فيها ولكنه أجاب عنها الجمهور بأنها لا تدل على المطلوب لأن دخول الجنة يستلزم العِصْمة من وقوع كل ذنب، فإن الذنوب المكفّرة والتي وقعت التوبة عنها لا تمنع من دخول الجنة فلا تلازُمَ بين
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه مرارًا. وهو حديث صحيح.
(3) تقدم تخريجه. وهو حديث موضوع.
انظر الرسالة رقم (19، 21، 22، 23).
(4) انظر ترجمته في "الميزان" (1/ 412 رقم 1511)، "اللسان" (2/ 117).(8/4091)
دخول الجنة وعدم التلبس بالذنب والعصمة عنه.
ويجاب أيضًا بعد هذا المنع بأن ذلك يستلزم عصمة جماعة من الصحابة المنصوص على أنهم من أهل الجنة كما في عبد الله بن سلام عند الشيخين (1) من حديث سعد بن أبي وقاص وكما في حديث حارثة بن سراقة عند البخاري (2) والترمذي (3) عن أنس وكما في طلحة بن عبيد الله عند الترمذي (4) بل ورد في العشرة وأهل بدر (5) وأهل بيعة الرضوان (6) ما يدل على أنهم جميعا من أهل الجنة فلو كان دخول الجنة مستلزمًا للعصمة لكان أكثر أكابر الصحابة معصومين واللازم باطل فالملزوم مثله.
_________
(1) البخاري في صحيحه رقم (3812) ومسلم رقم (147/ 2483).
(2) في صحيحه رقم (2809).
(3) في "السنن" رقم (3174) وقال: حديث حسن صحيح.
(4) في "السنن" (3747) عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة".
وهو حديث صحيح.
(5) أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (4654) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال موسى: "فلعل الله".
وقال ابن سنان: "اطلع الله على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم .. " وهو حديث صحيح.
(6) أخرج مسلم في صحيحه رقم (163/ 2496) وأبو داود رقم (4653) والترمذي رقم (3860).
قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول عند حفصة: "لا يدخل النار، إن شاء الله، من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها". قالت: بلى، يا رسول الله، فانتهرها، فقالت حفصة: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71]. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قد قال الله عز وجل: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72].(8/4092)
واستدل على العصمة أيضًا بآية التطهير (1) وبالأحاديث التي فيها "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" (2) والكلام في هذا البحث يتشعب إلى مقاولات ومطاولات تستغرق كراريس كثيرة، والاختصار أولى.
والصواب في هذه المسألة لا يخفى على مثل السائل في علمه وفهمه وإنصافه والله الهادي. فرغ من تحرير هذه الأجوبة حسب نقل المجيب والمؤلف لهذه النسخة القاضي البدر عز الدين والإسلام وعين أعيان العلماء الأعلام محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما وكان الجواب والتحرير في شهر رمضان الكريم سنة 1207.
_________
(1) قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]
(2) أخرجه الترمذي رقم (3871) وقال: هذا حديث حسن وهو كما قال: من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
وأخرجه الترمذي رقم (3205) من حديث عمر بن أبي سلمة. وهو حديث حسن.(8/4093)
(131) 34/ 4
بحث في كون الولد يلحق بأمه
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(8/4095)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "بحث في كون الولد يلحق بأمه".
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله الطاهرين آمين، آمين.
امتع الله العلي بحياة إمامها، وزين بوجوده وجوه أيامها ... "
4 - آخر الرسالة: "كتبه محمد بن علي الشوكاني غفر الله له والله يغفر لنا وله ويكفينا وإياه مهمات الدارين ويجعل الأعمال خالصة لوجهه الكريم، آمين آمين".
5 - نوع الخط: خط نسخي ضعيف لكنه مقروء بصعوبة.
6 - عدد الصفحات: 5 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 18 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 16 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/4097)
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاةُ والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين آمينَ آمينَ.
أمتع الله العليُّ بحياة إمامِها، وزيَّن بوجوده وجوه أيامها، وأسبغَ عليه نعمَهُ منهمرة.
وسلامُ الله الأسنى، ورحمته وبركاته الواسعة الأفياء، تخص المولى الوالدَ الهُمام البدر شيخ الإسلام.
ما قولكم ـ رضي الله عنكم وأرضاكم ـ في قول الجماهير من العلماء في شأن الولد أنه يتبعُ الأمَّ في الحرِّية والرقية مع تبعه للأب في سائر الأحكام، هل له وجه صحيح أو لم تطمئن النفسُ؛ ولا ثبت بيان الشرع لها.
منها أن الولد كجزء من أبيه، وهذا مما لا خفاء في ضعفه، ثم ادعى الإجماع أيضًا، والإشكال في ثبوته أشدُّ لأن قُصارى ما صار الإجماعُ عندهم عدمُ المخالفِ مع عدم البحث والاستقراء التام. وقد وجدنا كثيرًا ما يدّعون الإجماعوالخلافُ قائمٌ، بل وجدنا دعوى الإجماع على حكم وخالفتهم الشافعية بدعوى الإجماع على القضية فمن الإحسان الإفادةُ ـ أحسن الله جزاءكم، وأحيا بحياتكم منار العلم الشريف، وأعز بكم شامخ المجد المنيف ـ وصلى الله على النبي محمد والآل والأصحاب سرمدَ.(8/4101)
فأجاب المولى العلامة الأوحد جلالُه، وفخامة شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني ـ أمتع الله بحياته، وبارك في أوقاته ـ بما لفظه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة على سيد المرسلين وآله الأكرمين.
أقول: الذي علَّلوا به في لحوق ابن الأمة بأمه إذا تزوجها حرًّا قد رضي العبودية لأولاده، لأن سيد الأمة لم يزوِّجه بها إلاَّ لانتفاعٍ بما يحصل من فوائدها، وأولادُها من فوائدها، مع أنهم يجعلون لهذا الولد الكائن من هذه الأمة لزوجها الحرّ حكم أبيه في النسب (1)، فيجعلونه عبدًا مملوكًا، ونسبه في الأحرار. بل قالوا: إنه لو تزوَّج القرشي بأمة غيرِه فجاءت ببنت كان لسيِّد هذه الأمة أن يطأ هذه البنت بالمُلك، مع كونها قرشية النَّسب، وهكذا ذكروا مسائل مترتبة على هذا اللحوق يضحكُ السامع منها عند سماعها كما وقع لهم عند الكلام على أنه يعتبر بالأم في الزكاة وبسنِّ الأضحية، وبالأب في النسب.
_________
(1) قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (31/ 376): "إذا تزوج الرجل المرأة، وعلم أنَّها مملوكة، فإن ولدها منه مملوك لسيدها باتفاق الأئمة، فإن الولد يتبع أباه في النسب والولاء، ويتبع أمه في الحرية والرق".
- قال ابن قدامة في "المغني" (14/ 589): وإذا أصاب الأمة، وهي في ملك غيره، بنكاح فحملت منه، ثمَّ ملكها حاملاً، عتق الجنين وكان له بيعها.
وجملتُه أنَّه إذا تزوّج أمة غيره، فأولدها، أو أحبلها، ثم ملكها بشراء أو غيره، لم تصر أمُّ ولدٍ له بذلك، سواءٌ ملكها حاملاً فولدت في ملكه أو ملكها بعد ولادتها. وبهذا قال الشافعي، رضي الله عنه لأنّها علقت منه بمملوك، فلم يثبت لها حكم الاستيلاد. كما لو زنى بها، ثم اشتراها، ولأنّ الأصل الرّق، وإنّضما خولف في الأصل فيما إذا حملت منه في ملكه، بقول الصحابة رضي الله عنهم ففيما عداه يبقى الأصل.
ونقل القاضي ابن أبي موسى، عن أحمد رضي الله عنه أنَّها تصير أمّ ولدٍ في الحالين وهو قول الحسن وأبي حنيفة لأنّها أم ولد، وهو مالك لها فيثبت لها حكم الاستيلاء. كما لو حملت في ملكه.(8/4102)
والحاصل أنهم لم يُسندوا هذه المقالة إلى شيء من الأدلة قطُّ، ولو كان ما ذكروه من كون اختيار الأب الحرِّ لعبودية أولاده من أمَةِ الغير التي تزوَّجها صالحًا لذلك يلزم مثلُه في أولاده الحادثين بينه وبين الحُرَّة، وهذا لا يقول به عاقل فضلاً عن عالم، والوجه الجامعُ بين هذه الصورة وبين صورة النِّزاع أن سبب الحريَّةِ قد حصل في الجميع، وليس لمزيد وجود سبب الحرية من الجهتين زيادةٌ على وجوده من جهة، وأيضًا كان يلزم أن يكون اختيار السيد لعبودية ولده الحادث من أمَتِه لوطئه لها مؤثِرًا أن مصيره عبدًا لأنه لا سبب للحرية هاهنا إلاَّ من جهة الأب فقط، وهو خلاف الإجماع [1أ] بل خلاف الضرورة الدينية، فكيف لم يكن اختياره في أم نفسه الوالدة على قريبته لوطئِه مؤثرًا في عبودية أولاده، مع كونه مؤثرًا لعبودية أولاِده الحادثينَ من أمة الغير التي تزوَّجها. والعجبُ منهم أنهم حرموا بأن يقضي مسلم بإسلام أحد أبويه، وحرموا بأن الولد الحادث من الأمّ المشتركة، وكان أحدهما حرًا، والآخر عبدًا أنه يلحقُ بالحرِّ دون العبد، ليستفيد من أبيه الحريةَ، ولو كان العبد مسلمًا فإن مزية الحرية مقدَّمةٌ على ذلك كما في قوله في الأزهار (1): فإن اختلفوا فللحرِّ دون العبد ولو مسلمًا، والحال أن هذه أمة مشتركةٌ ليس
_________
(1) (2/ 350 مع السيل الجرار).
قال الشوكاني في "السيل الجرار" (2/ 350): "ينبغي في مثل هذا بحديث زيد بن أرقم الذي أخرجه أحمد (4/ 373) وأبو داود رقم (2270) والنسائي رقم (3488) وابن ماجه رقم (2348) وهو حديث صحيح ـ قال: "أُتي عليٌّ وهو باليمن في ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر فسأل اثنين فقال: أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا. ثم سأل اثنين: أتقرّان لهذا بالولد؟ فقالا: لا فجعل كلما سأل اثنين: أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا. فأقرع بينهم فألحق الولد بالذي أصابته القرعة. وجعل عليه ثلثي الدية، فذكر ذلك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه".
فهذا الحديث يدل على أن الحكم في الأمة المشتركة هو هذا الحكم العلوي مع هذا التقرير المصطفويّ والقُرعة قد ثبت العمل بها في السنة في مواضع كثيرة ... .
وأما ما ذكره المصنف ـ صاحب الأزهار ـ فهو مجرد رأي لا يحمل الرجوع إليه مع ورود أقلِّ دليل وأبعد مستند. وانظر: "المغني (14/ 584).(8/4103)
للحرّ الذي يحق به الولد لنا نصيبٌ منها، فكيف كانت مزية الحرية هاهنا مؤثرة، ولم تؤثر مزية الحرية في الحر الذي تزوَّج بأمةِ الغيرِ! فإن كانت هذه المقالةُ راجعة إلى ما تقرر في الشريعة الإسلامية فها هو هذا الذي تقرر فيها، فإني لم أقف في ذلك على دليل ولا شبه دليل وإن كان باعتبار ما كان متقررًا في أعراف الجاهلية، فالأمر عندهم بخلاف ذلك، ولهذا يقول عنترةُ العبسيُّ (1):
إني امرؤٌ من خَير عبسٍ مَنْصِبًا (2) ... شَطْرِي وأحْمي سائري بالمُنصُلِ (3)
فإن هذا إنما كانت أُمُّه أَمةً، وكان أبوه سيِّدَ عبْس فأثبت لنفسه الحريةَ لحوقًا بأبيه، وجعل ما يلحقه من القالة لكونه ابن أمةٍ محميًا بالسيف يعني أنه يلحقُ بشجاعته، وفتكِه بأولاد الأحرار والحرائر، وإن كان هذا الذي قالوا لعرف متقرِّر عند أهل الإسلام لم يدلّ عليه شرع، فهذا مدفوع، فإن الخليفة المأمون يقول لما كان يعيّر بكون أُمه أَمةً:
لا تزرينَّ بفتى من أن تكونَ له ... أمٌ من الرُّوم أو سوداءُ دعجاءُ
فإن أمهاتِ الناس أوعيةٌ ... مستودَعاتٌ والماء بناء آباءُ
هذا وإن كان في أولاد الإماء المستولَدَات، لكن مقصودنا دفعُ ما قدمنا من أن مجرد اختيار الأب الحر لعبودية أولاده ليس من أسباب [1ب] العبوديةِ لا شرعًا، ولا عقلاً،
_________
(1) انظر ديوانه (ص56) والقصيدة بعنوان (خير من معمّ مخول).
غزت بنو عبس بني تميم وعليهم، قيس بن زهير، فانهزمت بنو عبس، وطلبتهم بنو تميم، فوقف لهم عنترة. ولحقهم بكوكبة من الخيل، فحامى عنترة عن الناس فلم يصب مدبر، وكان قيس بن زهير سيدهم، فساءه ما صنع عنترة يومئذ. فقال حين رجع: والله ما حمى الناس إلى ابن السوداء، وكان قيس أكولاً، فبلغ عنترة ما قال، فقال يعرض به.
(2) المنصب: الأصل والحسب.
(3) المنصل: السيف.
انظر: "ديوان عنترة" (ص57).(8/4104)
وإلا لزمَ في أولاد الإماء المستولدات (1) كما تقدم، بل لزم في أولاد الحرائرِ والأحرارِ كما عرفت، لأن وجود ما يستقل بالسببية يوجب المضيَّ عليها، كما يوجب المضيَّ عليها وجودُ سببين، أو أسبابٍ، لأن المراد حصولُ ما يصلح للسببيةِ. وقد وجد هنا غير معارض بما هو مثلُه، أو رجح منه، فقد حصل المقتضى ولم يوجد مانع يمنع من اقتضاء ذلك المقتضى إلاَّ مجرَّد خيالات مختلَّة، وعلل باطلة معتلة.
فإن قلت: قد ذكروا أن المكاتِبَ يردُّه في الرق اختياره حيث لا وفاء عنده لمال الكتابة (2).
قلت: وأين هذا من ذاك! فإن المكاتب باقٍ في العبودية، وهو عبد ما بقي عليهم درهم (3)، والعبودية أصله، فمقتضى حريته لم تحصل بل وجد المانع منها، وهو عدمُ قدرته على الوفاء بمال الكتابة (4)، فهو هنا إخبار ما هو أصله لعجزه، ولو لم يختر لم يصرِحّوا قطُّ إلاَّ بألوف ما كوتب عليه، ولم يبطل عليه إلاَّ ما قد كان ثبت له من بعض الأحكام المشروطة بالوفاء، وأين هذا من رجل حرٍّ خالصِ الحريةِ، معلومِ النسبِ تزوَّج بأمةِ غيرِه لعدم قدرتِه على نكاح الحرَّةِ، عملاً بقوله ـ عز وجل ـ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ... الآية} (5) فكان هذا الدخول في هذا النكاح الذي أذن الله له به في كتابه العزيز موجبًا لعبودية أولاده شاء أم أبى، لمجرد زعم من زعم أنه لا يتزوَّج بأمة
_________
(1) قال ابن قدامة في "المغني" (14/ 854 - 858): وجملة ذلك أنَّ الأمة إذا حملت من سيِّدها، وولدت منه، ثبت لها حكم الاستيلاد وحكمها حكم الإماء، في حِلّ وطئها لسيدها، واستخدامها، وملك كسبها وتزويجها، وإجارتها، وعتقها، وتكليفها، وحدِّها، وعورتها، وهذا قول أكثر أهل العلم.
وحكي عن مالك، أنَّه لا يملك إجارتها وتزويجها، لأنَّه لا يملك بيعها فلا يملك تزويجها وإجارتها، كالحُرَّة.
قال ابن قدامة: ولنا، أنَّها مملوكة ينتفع بها، فيملك سيّدها تزويجها وإجارتها، كالمدبَّرةِ، ولأنّها مملوكة تعتق بموت سيدها، فأشبهت المدبَّرةَ، وإنَّما منع بيعها، لأنَّها استحقت أن تعتق بموته، وبيعها يمنع ذلك، بخلاف التزويج والإجارة.
وانظر: "المجموع" (16/ 514 - 520).
(2) قاله صاحب "الأزهار" (3/ 138 - مع السيل الجرار): قال الشوكاني تعليقًا على ذلك: "ليس للعبد هذا بعد الدخول في الكتابة والتراضي عليها، ولا وجه لقوله ولا وفاء عنده، فإن الظاهر عدم الجواز مطلقًا، لأنه تلاعبٌ بما قد تحقق فيه المناط الشرعي وهو التراضي، وأما عجزه فظاهرٌ لحديث عمرو بن شعيب ـ أخرجه أحمد (2/ 184) وأبو داود رقم (3927) والترمذي رقم (1260) وقال: حديث حسن غريب.
وابن ماجه رقم (2519) والحاكم (2/ 218) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
عن عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أيّما عبد كوتب بمئة أوقيّة فأدّاها إلا عشر أوقيّات فهو رقيق". وهو حديث حسن.
(3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (3926) بلفظ: "المكاتب رقيق ما بقي عليه من مكاتبته درهمٌ". وهو حديث حسن.
انظر: "الإرواء" رقم (1674).
(4) الكتابة: إعتاق السيِّد عبده على مالٍ في ذمّته يؤدّي مؤجَّلاً. سميت كتابة لأنَّ السيد يكتب بينه وبينه كتابًا بما اتفقا عليه.
وقيل سميت كتابة من الكتب وهو الضمُّ لأن المكاتب يضمُّ بعض النجوم إلى بعض، ومنه سمِّي الخرز كتابًا لأنّه يضم أحد الطرفين إلى الآخر بخرزه.
والنجوم هي الأوقات لأنّ العرب كانت لا تعرف الحساب، وإنّما تعرف الأوقات بطلوع النجوم. والأصل في الكتابة. الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33].
أما السنة: تقدم ذكر الأحاديث.
وأجمعت الأمة على مشروعية الكتابة.
"المغني" (14/ 442).
(5) [النساء: 25].(8/4105)
الغير (1) إلاَّ وهو راضٍ لعبودية أولاده، حتى كأنَّ هذه المسألةَ في أم الكتاب يعرفُها كل مسلم.
وعلى تقدير أنه قد علم بذلك عند الدخول في النكاح، واختار عبودية أولاده فقد عرفتَ أن هذا الاختيار لا يسترقُّ أولاد الأحرارِ. وبعد هذا كلّه فاعلم أنهم قد اتفقوا على أن الولد يلحقُ بأبيه في النسب، وهذا عند التأمل يوجب بطلانَ (2) ما قالوه من عبودية أولاد الحرِّ الذي تزوّج [2أ] بأمةِ غيرِه، وبيان ذلك أنه لا معنى للحوقهِ بأبيه في النسب إلاّ أن يكون نسبه كنسبه، وإذا كان نسبه كنسبه فله ما للأحرار باعتبار الأنساب [ .... ] (3) ثبوت كونهم أحرارًا فكيف يكون ولد الحرِّ عبدًا، وهو يلحقُ بأبيه في النسب!، وهل هذا إلاَّ مناقضةٌ بينةٌ ظاهرةٌ دامغةٌ! فإنه إذا كان عبدًا فقد مسَّه الرِّقُ، ومن مسه الرقُّ فهو أدنى الناس كفاءة، وأضعفهم نسبًا، وأقلهم حسبًا، فما هو هذا النسب الذي استفاده من أبيه، وهو عبد يباع في الأسواق بالتافهِ النَّذْر من القيمة، ويستخدمه من دبّ وراح، ويملكه البّرُّ والفاجر! وإذا كان أمة وطِئَها بالملك الرفيعُ والوضيعُ والحقيرُ والكبير.
وبالجملة فقد كفونا المؤنَة بقولهم: إنه لم يلحق بأبيه في النسب، وأبطلوا نصهم بنصِّهم، ودفعوا قولهم بقولهم، لأن إثبات نسب أبيه له موجبٌ لعدم عبوديته، أو لا يصح أن يقال: إن الفائدة له من إثبات هذا النسب هو كونه يرثُه، لأن المفروض أنه عبد للغير. والرق من موانع الإرث، ولا يصح أن يقال إنه يصير بهذا النسب الذي استفاده من أبيه كفوًا لأمثال أبيه من الأحرار، لأن المفروض أنه عبد، وأنه أدنى الناس كفاءةً،
_________
(1) تقدم ذكره.
وانظر "المغني" (14/ 589 - 591).
(2) انظر "المجموع" (16/ 515)، "مجموع الفتاوى" (31/ 376، 383).
(3) كلمة غير واضحة في المخطوط.(8/4107)
وأنه لا ينكح إلاَّ بإذن سيده، وهو مالك الأمة فهو لا ينتفع بهذا النسب بمنفعة دنيوية قطٌّ لما عرفت، ولا ينتفع به أيضًا بمنفعة دينية، لأن المنافع الدينية إنما تكتسب بالأعمال، وإن كان غاية ما تحصلُ له من المنفعة بإثبات نسبِ أبيه له هو أن يقالَ له هذا ابن فلانٍ، فليس في هذا من النفع شيء، مع أنه هذا يقال له عبدُ فلان، فلا يقوم الرفع بالرق ولا الرفع بالوضع.
فعرفت من مجموع ما ذكرنا التنافض (1) بين قولهم إنه يلحقُ بأمِّه في العبودية، وبأبيه في النسب، وهكذا الأقوال التي لا تنبني على دليل، ولا على رأي مستقيم تكون مضطربةً متناقضةً يدفع بعضُها بعضًا، ويردُّ بعضُها بعضًا.
_________
(1) نجد الشوكاني يخالف ما قاله ابن تيمية وغيره من العلماء.
قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (31/ 376): سئل رحمه الله عن رجل قرشي، تزوج بجارية مملوكة، فأولدها ولدًا، هل يكون الولد حرًّا أم يكون عبدًا مملوكًا؟.
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، إذا تزوج الرجل المرأة، وعلم أنّها مملوكة، فإن ولدها منه مملوك لسيدها باتفاق الأئمة فإن الولد يتبع أباه في النسب والولاء، ويتبع أمه في الحرية والرق.
ثم قال في "مجموع الفتاوى" (31/ 383): وأما إذا تزوج العربي مملوكة فنكاح الحر للمملوكة لا يجوز إلا بشرطين: خوف العنت، وعدم الطول إلى نكاح الحرة، في مذهب مالك والشافعي وأحمد.
وعلَّلوا ذلك بأن تزوجه يفضي إلى استرقاق ولده، فلا يجوز للحر العربي ولا العجمي أن يتزوج مملوكة إلا لضرورة، وإذا تزوجها للضرورة كان ولده مملوكًا، وأما أبو حنيفة فالمانع أن تكون تحته حرة وهو يفرق في الاسترقاق بين العربي وغيره.
وأما إذا وطئ الأمة بزنا فإن ولدها مملوك لسيدها بالاتفاق، وإن كان أبو عربيًّا، لأن النسب غير لاحق. وأما إذا وطئها بنكاح وهو يعتقدها حرة، أو استبرأها فوطئها يظنها مملوكته، فهنا ولده حر، سواء كان عربيًّا أو عجميًّا. وهذا يسمى "المغرور" فولد المغرور من النكاح أو البيع حر، لاعتقاده أنه وطئ زوجة حرة، أو مملوكته وعليه الفداء لسيد الأمة كما قضت بذلك الصحابة، لأن فوت سيد الأمة ملكهم، فكان عليه الضمان، وفي ذلك تفريغ ونزاع ليس هذا موضعه. والله أعلم".
وانظر: "المغني" (14/ 589 - 595).(8/4108)
فالحاصل من البحث أن ولد الحر المتزوج بأمةِ غيره حرٌّ (1) خالص، سواء رضي لعبودية أولاده أو لم يرضَ [2ب]، وسواء رضي مالكُ أو لم يرضَ. ولا يلزم هذا الزوج لمالك الأمة شيئًا، وإن شرط عليه ذلك، لأن هذا الشرط قد تضمن تحليل ما حرَّمه الله ـ سبحانه ـ من عبودية الأحرار، فإن الحديث المتضمن لكون المؤمنين عند شروطهم مقيَّد بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إلا شرطًا أحلَّ حرامًا، أو حرَّم حلالاً" (2) وهذا منه. وأيضًا في حديث بريرة: "ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله! " وفيه الزَّجر البالغ لمن اشترط أن يكون ولاءُ بريرةَ له كما في الصحيحين (3) وغيرهما (4). ومعلوم لكل من يفهم أن اشتراط مجرد الوالاء (5) على من عُتق (6) بعد أن كان عبدًا متحقق العبوديةِ لغير من له الولاء عليه أخف، وأخف من
_________
(1) وما نرجحه قول الشوكاني فتأمله.
(2) تقدم تخريجه مرارًا.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2155) ومسلم رقم (8، 9/ 1504).
(4) كأبي داود رقم (2233) والترمذي رقم (1154) والنسائي (6/ 164 - 165) وابن ماجه رقم (2521) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(5) انظر "المفهم" (4/ 327 - 329)
(6) العتق في اللغة: الخلوصُ. ومنه عتاق الخيل، وعتاق الطَّير أي خالصتها وسمّي البيت الحرام عتيقًا، لخلوصه من أيدي الجبابرة.
وهو في الشرع: تحرير الرقبة، وتخليصها من الرِّقِّ.
يقال: عتق العبدُ، وأعتقته أنا، وهو عتيق، ومعتقٌ والأصلُ في الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3].
وقوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13].
وأما السنة: ما أخرجه البخاري رقم (2517) ومسلم رقم (22/ 1509) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أعتق رقبة مسلمةً أعتق الله بكل عضوٍ منه عضوًا من النار حتى فرجه بفرجه".
وأجمعت الأمة على صحة العتق وحصول القربة به.
والعتق من أفضل القرب إلى الله تعالى، لأن الله تعالى جعله كفارةً للقتل والوطء في رمضان، والأيمان، وجعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكاكًا لمعتقه من النّار، ولأنّ فيه تخليص الآدمي المعصوم من ضرر الرِّق وملك نفسه ومنافعه وتكميل أحكام، وتمكنه من التصرف في نفسه ومنافعه، على حسب إرادته واختياره، وإعتاق الرجل أفضل من إعتاق المرأة.
انظر: "المجموع" (16/ 511 - 514)، "مجموع الفتاوى" (31/ 376).(8/4109)
اشتراط عبودية الأحرار الذين ثبتت لهم الحرية لحرية آبائهم، مع أنه ليس في اشتراط ولاء بريرةَ إلاَّ مجرَّد اختلافِ ثبوت الولاء لأحد الجهتين، مع كونه ثابتًا في الجملة على كل حال. فأين هذا من حظر إثبات عبودية الأحرار بالشروط المدفوعةِ بالأدلة!.
وفي هذا المقدار كفاية، والله ولي التوفيق.
انتهى جواب المفيد الشافي من المولى الوالد العلامة البدر محمد بن علي الشوكاني دام سعده، وخلد مجده، ومن خطه نقل وفي آخره:
كتبه محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله له ـ والله يغفر لنا وله. ويكفينا وإياه مهمات الدارين ويجعل الأعمال خالصةً لوجهه الكريم، آمين آمين [3أ].(8/4110)
(132) 52/ 1
سُؤالٌ في الوقفِ على الذُّريَّة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(8/4111)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "سؤال في الوقف على الذُّرية".
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم.
سؤال في الوقف على الذرية: قال السائل الذي يعرف من قصد الواقفين هو محبتهم أن يكونوا أولادهم أغنياء لا عالةً ...
4 - آخر الرسالة: فإن رجح المنقول إليه ساغ البيع وهذا يشمل كل ما يتصوَّره الذهن من صور الصَّلاح.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 9 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/4113)
بسم الله الرحمن الرحيم
سؤال في الوقف على الذرية:
قال السائل: الذي يعرف من قصد الواقفين هو محبتهم أن يكونوا أولادهم أغنياء لا عالةً يتكففون الناس، وخلاصة السؤال:
هل يجوز البيع عند مسيس الحاجة اللاحقة للموقوف عليه أم لا؟
قال رضي الله عنه: ينبغي ههنا تقديمُ مقدمةٍ هي.
مشروعيَّةُ مُطلقِ الوقف.
لا ريب أنَّ النزاع واقعٌ فيها بين السَّلف والخلف، لكنَّ الحقَّ مشروعيَّتُه لما ثبت في المتَّفق عليه (1) من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر: "حبِّس الأصل، وسبِّل الثمر" وحديث إذْنِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي طلحة بوقف بيْرَحاء، وهو متّفقٌ عليه (2)، وحديث: "أما خالد فقد حبس أدرعه وأعْتُدَهُ في سبيل الله" وهو أيضًا متفق عليه (3). ولصدور الوقوع عن جماعةٍ من أكابر الصحابة كما حكاه البيهقيّ (4)، منهم أميرُ المؤمنين رضي الله عنه وكان صدور ذلك منهم بعد موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتقرر بما ذكرنا ثبوت مشروعية مُطْلق الوقف (5) أعَمَّ مِنْ أنْ يكون على قرابة كما في وقف أبي طلحة وغيره، أو على المسلمين كما في وقف عمر، أو على الجهاد كما في وقف خالد، أو على قُرَبٍ من القُرب كما في حديث: "خيرُ ما يُخلِّفُ المرءُ بعدَهُ ثلاث منه الصدقة الجارية" أخرجه النسائيُّ (6)، وابن ..............................
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2737) ومسلم رقم (15/ 1632) من حديث ابن عمر.
(2) أخرجه البخاري موصولاً رقم (1468) ومعلقًا في صحيحه (3/ 311)، (6/ 99) ومسلم رقم (11/ 983).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1461، 2318، 2752) ومسلم رقم (42/ 998). وقد تقدم.
(4) في "السنن الكبرى" (6/ 126).
(5) انظر: "المغني" (8/ 186 - 190).
(6) في "السنن" (6/ 251).(8/4117)
ماجه (1)، وابنُ حِبَّانَ (2). وحديث: "إذا مات ابنُ آدمَ انقطعَ عنه عملُه إلاَّ من ثلاث" أخرجهُ مسلمٌ (3) وحديثُ أنَّ عثمان وقف بئرَ رُومَة على المسلمين عند الترمذي (4)، والنَّسائيّ (5)، والبخاريّ تعليقًا (6).
ولا شكَّ أنّ المشروعيَّة تثبتُ بدون هذا، فلا اعتبارَ بتشكيكِ مَن شكَّكَ في أصل مشروعيّةِ الوقف (7)، ولا متمسّك له، وما رُويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال: لا حبس بعد نزول سورة النساء (8)، [وليس فيها ما يمنع من هذا] (9)، وكذلك ما رُوي عن
_________
(1) في "السنن" رقم (241).
(2) في صحيحه رقم (93).
من حديث أبي قتادة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "خير ما يخلف الرجل بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقةٌ تجري يبلغه أجرها، وعلم ينتفع به من بعده". وهو حديث صحيح.
(3) في صحيحه رقم (5/ 73 - ط الآفاق).
(4) في "السنن" رقم (3699) وقال: حديث حسن صحيح غريب.
(5) في "السنن" (6/ 235).
(6) رقم الباب (7) في مناقب عثمان (7/ 52 - مع الفتح) وهو حديث صحيح.
(7) يشير إلى ما يروى عن أبي حنيفة من أن الوقف لا يلزم وقد خالفه في ذلك جميع أصحابه إلا زفر.
انظر: "حاشية رد المحتار" لابن عابدين (4/ 338) و"شرح فتح القدير" (5/ 418 - 419) لابن الهمام.
(8) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 126). وفي إسناده ابن لهيعة. لا تقوم به الحجة.
"الميزان" (4/ 166 - 168 رقم 4535/ 3613).
قال الشوكاني في "السيل الجرار" (3/ 49 - 50): مع هذا فهو اجتهاد صحابي ليس بحجة على أحد على أن مراده شيءٌ آخر غير الوقف، وهو أنَّها لا تحبس فريضة عمن أعطاها الله سبحانه كما يدل عليه قوله لا حبس بعد نزول سورة النساء.
ولو قدرنا أنه يريد الوقف لكان محجوبًا بالأدلة الصحيحة وبإجماع الصحابة.
وانظر: "المغني" (8/ 190).
(9) زيادة من نسخة أخرى.(8/4118)
شُريح (1) أنه قال: جاء محمدٌ يمنعُ الحَبْسَ؛ فليس مرادهما وقف المسلمين [بل المراد حبس الجاهلية السَّوائب ونحوها، وكيف يقال ذلك في أوقاف المسلمين] (2) وقد أذِنَ فيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وماتَ وهي باقيةٌ، وفعلها أكابر الصحابة بعده! على أنّه لو كان مراد ابن عباس وشُريح ذلك ما قام بقولهما حُجَّةً على فرض عدم معارضته لما ثبت عن الشارع، فكيف وهو معارضٌ له! ثم أنّ ابن عباس قد أحال على سورة النساء، وليس فيها ما يمنع [1أ] من هذا.
والحاصل أنّ الوقف قُرْبَةٌ (3) من القُرُبات، وصدقة من الصدقات. ومشروعية مطلق الصدقة مُجمعٌ عليه، والوقف صدقة لها وجه خصوصية يرفع من شأنها، وهو كونُها جاريةً لورود الترغيب في ذلك، وقد وقع النِّزاع في لزوم استمرار التحبيس، وعدم جواز نقضِهِ. ومن أهل العلم من زعم أنّه تأويل صدقة جارية، وفي تأويل احتبس أدراعَه، وأعتده في سبيل الله، والإنصافُ لزومُ الاستمرار، وأنّه مُستفادٌ من هذه العبارات، وما قيل من أنّ حسّأن باع نصيبَه من بيرَحاء التي وقفها أبو طلحة فيجاب أولاً أنَّه لا حجَّة في
_________
(1) قال الترمذي في "السنن" (3/ 660): "لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافًا في جواز وقف الأرضين".
وجاء عن شريح أنّه كره، وروى الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 96) عن عطاء بن السائب قال: سألت شُريحًا عن رجل جعل داره حبسًا على الآخر فالآخر من ولده، فقال: وإنما أفضي ولست أفتي قال فناشدته. فقال: لا حبس على فرائض الله.
وانظر: "المغني" (8/ 185) حيث قال ابن قدامة: ولم ير شريح الوقف. وقال: لا حبس عن فرائض الله. قال أحمد: وهذا مذهب أهل الكوفة، وذهب أبو حنيفة أن الوقف لا يلزم بمجرده وللواقف الرجوع فيه، إلا أن يوصي به بعد موته، فيلزم، أو يحكم بلزومه الحاكم. وحكاه بعضهم عن عليِّ وابن مسعود وابن عباس.
(2) زيادة من نسخة أخرى.
(3) انظر "المغني" (8/ 182).(8/4119)
فعلِه. وثانيًا أنه قد أُنكر عليه ذلك كما ثبت في الصحيحين (1) وغيرهما (2) أنَّه لمَّا باعَ قيل له: أتبيعُ صدقة أبي طلحة؟ فقال: ألا أبيعُ صاعًا من تمرٍ بصاعٍ من ذهب؟ وما قيلَ من أنَّ الإنكارَ ليس لكونِ البيعِ ممنوعًا بل لكونِ المالِ جيّدًا فتعسُّفٌ؛ فإنه قيل له أتبيعُ صدقة أبي طلحة؟ ولم يقل [له] (3): أتبيعُ هذا المال الجيِّد. ولكن ينبغي أن يُعلمَ أنَّ هذا في الأوقافِ (4) التي يَغْلِبُ الظنُّ أنها لم تُفعلْ إلاَّ لقصدِ القُربةِ، متجرِّدةً عن المقاصدِ الفاسدةِ، والأغراضِ الدنيويةِ؛ وذلك كأوقافِ المشهورينَ بالعلم والصّلاح.
فإن قلتَ: لِمَ لا [يُكتفى] (5) بالحملِ على الظاهر من دون اعتبارِ غلبة الظنّ؟
_________
(1) البخاري في صحيحه رقم (2758) ومسلم رقم (998).
(2) كأحمد (3/ 141).
وهو من حديث أنس بن مالك قال: لما نزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} جاء أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله يقول الله تبارك وتعالى في كتابه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بيرحاء ـ قال وكانت حديقةً كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخلها ويستظلُّ بها ويشرب من مائها ـ فهي إلى الله عز وجل وإلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرجو برّه وذخره، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بخ يا أبا طلحة ذلك مال رابح قبلناه منك ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين".
فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه. قال وكان منهم أبيُّ وحسّان قال وباع حسّان حصتُه منه من معاوية فقيل له: أتبيع صدقة أبي طلحة؟ فقال: ألا أبيع صاعًا من تمر بصاعٍ من دراهم؟ قال وكانت تلكالحديقة في موضع قصر بني حُديلة الذي بناه معاوية".
(3) زيادة من نسخة أخرى.
(4) قال الحافظ في "الفتح" (5/ 388): قوله "باع حسان حصته من معاوية" هذا يدل على أن أبا طلحة ملّكم الحديقة المذكورة، ولم يقفها عليهم إذ لو قوفها ما ساغ لحسان أن يبيعها، فيعكر على من استدل بشيء من قصة أبي طلحة في مسائل الوقف إلا فيما لا تخالف فيه الصدقة الوقف. ويحتمل أن يقال شرط أبو طلحة عليهم لما وقفها عليهم أن من احتاج إلى بيع حصته منهم جاز له بيعها، وقد قال بجواز هذا الشرط بعض العلماء كعلي وغيره ... ".
(5) في المخطوط: (يقتضي) والصواب ما أثبتناه.(8/4120)
قلتُ: إنّ اختلاط المعروف بالمنكر، وتخبطت المقاصِدِ، وعُلم بالاستقراء صدورُ غالِبَ الأوقاف في هذا العَصْر وما قاربه من العصور السَّالفة لأغراض غير مناسبة؛ فإنَّ من الناس من يُشُحُّ بالمال على ورثته بلا سبب من الوارث، فيحاول إخراجَهُ عن ملكه بعده بكل ممكن. ولو علم في حياته لا يحتاج إليه لأخرجه عن ملكه، ولكنَّه انتفع به مدَّةَ حياتِه، فلما لم يبق له مُستمتَعٌ قال: وقفتُ. وكثيرًا منهم مَن يتحدّثُ بهذا في حياتِهِ. وقد سمعْنا ورأينا وأبطللْنا من هذا الجنس في هذه المُدَّة القريبة ما لا يأتي عليه الحصرُ، والذي يفعل هذا بلا سبب مِنْ وارثه هو الأقلُّ، والأكثر يفعلُ ذلك لعداوةٍ تعرض بينه وبين وارثه وكراهيةٍ. وليت أنّ هذه العداوة والكراهة دينيَّةٌ، ومِن الناس مَن يفعل ذلك في حياتِه فرارًا من لوازمَ شرعيَّةٍ أو عُرفيَّةٍ، ومِن النَّاس من يقفُ [1ب] على الذكور من الأولاد دون الإناث، ومنهم من يقفُ على الذكور والإناث ومنهم من يُخرِجُ الزوجات (1)، وهذا وإن كان فيه خلافٌ لكنَّه مُنادٍ بأنَّ فاعلَهُ لم يُرِدْ بهِ وَجْه الله، وما كان كذلك فهو غيرُ الوقف الذي شرعه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل نهى [عنه] (2) من حيثيَّة أُخرى.
ومِن الناس مَن يقفُ لمحبّضةِ الشُّهرةِ والذّكْرِ والمنافسة، كمن يقف من المسلمنَ وقفًا. وغيرُ هذه المقاصدِ الفاسدةِ مما يطول الكلام بتعداده. ولمَّا كان هذا هوا لأعمَّ الأغلب كان الأصلُ في كل وقفٍ عدم وجود القُربة، فلا يُحكُمُ الحاكمُ بصحَّته إلاَّ بعد غلبَةِ ظنِّهِ بالقُرْبَةِ مما لا يلتبسُ من القرائن الدالة على الخلوص وأقرب الأوقاف إلى الوقف على المسلمين أو على مصالحهم أو على جميع الورثة أو جميع القرابة؛ فهذه في الغالب لا بدَّ أن تقترن بقرائن الخلوص، فقد يغلبُ الظنُّ بأنَّ صدورَهَا كان لأجْلِ القُربة بسرعة (3)، وقد تحتاجُ إلى البحث، وذلك يختلفُ باختلاف الواقف والأحوال التي لا تخفى، فما غالبُ
_________
(1) انظر "الرسالة" رقم (129).
(2) زيادة من نسخة أخرى.
(3) انظر "فتح الباري" (5/ 380)، "المغني" (8/ 185).(8/4121)
الظنِّ بصاحبه أنَّه للقُرْبة المتجددة عن القاصد الفاسدة ـ أو حكم به حاكمٌ مُعتبرٌ له مزيدُ إدراك في أمرين:
أحدُهُما: العِلْمُ؛ فإنَّ مَنْ لم يُطَوِّل الباع في فنونه لا يُوثَقُ بحكمه في الصحَّة والبُطْلان، لأَنَّه قد يَخْفَى عليه ما هو عند مَن هو أعْلَى كعبًا منه من موانعِ الصحّةِ (1).
الأمرُ الثاني: جَوْدَةُ التَّفَرُّسِ، وصدقُ الْحَدْسِ، ومعرفةُ المقاصدِ، وممارسةُ الأحوالِ
_________
(1) قال الشوكاني في "السيل الجرار" (3/ 51 - 52): هذا الوقف الذي جاءت به الشريعة، ورغب فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله أصحابه هو الذي يُتقرب به إلى الله عزَّ وجلّ حتى يكون من الصدقة الجارية التي لا ينقطع عن فاعلها ثوابه. فلا يصح أن يكون مصرفه غير قُربة، لأن ذلك خلافُ موضوع الوقف المشروع لكن القرية توجد في كل ما أثبت فيه الشرعُ أجرًا لفاعله كائنًا ما كان، فمن وقف مثلاً على إطعام نوع من أنواع الحيوانات المحترمة كان وقفه صحيحًا لأنه قد ثبت في السنة الصحيحة: "أنّ في كل كبدٍ رطبة أجرًا" ومثل هذا لو وقف على من يُخرج القذاة من المسجد، أو يرفع ما يؤذي المسلمين في طرقهم، فإن ذلك وقفٌ صحيح لورود الأدلة الدالةِ على ثبوت الأجر لفاعل ذلك فقِسْ على هذا غيره مما هو مساوٍ له في ثبوت الأجر لفاعله.
وما هو آكد منه في استحقاق الثواب، وأما الأوقاف التي راد بها قطع ما أمر الله به أن يوصل، ومخالفة فرائض الله عز وجل فهو باطل من أصله لا ينعقد بحال. وذلك كمن يقف على ذكور أولاده دون إناثهم وما أشبه ذلك فإن هذا لم يرد التقرب إلى الله بل أراد المخالفة لأحكام الله عز وجل. والمعاندة لما شرعه لعباده. وجعل هذا الوقف الطاغوتيّ ذريعةً إلى ذلك المقصد الشيطانيّ، فليكن هذا منك على ما ذكر فما أكثر وقوعه في هذه الأزمنة وهكذا وقف من لا يحمله على الوقف إلا محبةُ بقاء المال في ذريّته وعدم خروجه عن أملاكهم فيقفه على ذريته فإن هذا إنما أراد المخالفة لحكم الله عز وجل، وهو انتقال الملك بالميراث وتفويض الوارث في ميراثه فيتصرف به كيف يشاء وليس أمر غناء الورثة ولا فقرهم إلى هذا الوقف بل هو إلى الله عز وجل. وقد توجد القُربة في مثل هذا الوقف على الذرية نادرًا بحسب اختلاف الأشخاص فعلى الناظر أن يمعن النظر في الأسباب المقتضية لذلك.
من هذا النادر أن يقف على من تمسك بطرق الصلاح من ذريته أو اشتغل بطلب العلم فإن هذا الوقف ربما يكون المقصد فيه خالصا والقربة متحققة والأعمال بالنيات ولكن تفويض الأمر إلى ما حكم الله به بين عباده وارتضاه لهم أولى وأحق.
وانظر: "المغني" (8/ 185).(8/4122)
المختلفةِ؛ فإنَّ من لم يكن كذلك وإن تبَحَّرَ في المعارف ربَّما انخدع بأدنى تلبيس، ونفق عنده ما يقارِبُهُ من التَّدليس، فإذا كان جامعًا للأمرين، وحكم بصحة الوقف، أو بملزومِ الصحّة، وهو القُربةُ لم يحتج مَن يأتي بعدَه يُشغِلَ نفسَه فيعرّف أحوال ذلك الوقف.
والحاصلُ في كلّ وقفٍ من الأوقاف التي أشرْنا إليها عدمُ القُرْبَة حتى تظهر القربة، [أوما] (1) يَحْكُمُ على الصفة المذكورة، أو يبحث فيما لا حُكمَ فيه، حتَّى يغلبَ مع الظنِّ وجودُ قصدِ القُرْبَةِ، وعند ذلك لم يحلُّ نقضُ التَّحبيس إلاَّ لأسبابٍ قد ذَكَر أهلُ الفروعِ منها أربع، فَلْنَذْكُرْ ههنا ما نُرجّحُهُ، فمِنها أن يبلُغَ الحالُ بالموقوفِ عليه إلى حدِّ لو لم يقع البيعُ [2أ] ذهب كمَنْ يقفُ على مسجدٍ ثم أشرفَ على الانهدام (2)، ولم يوجَدْ له ما يقومُ بإصلاحِهِ غيرُ الوقفِ الذي عليهِ؛ فإنَّ ذلك مُسوّغٌ للبيع. والوجْهُ أنَّ الواقف لم يقصد بالوقف عليه إلاَّ استمرار حياته، ودوام عمارته حقيقةً ومجازًا، فإذا تُرِكَ انهدَم، وإذا انهدمَ زال الغَرَضُ المقصودُ من الوقفِ عليه، وهذا معلومٌ من مراد كلِّ واقفٍ، وكذا
_________
(1) زيادة من نسخة أخرى.
(2) قال ابن قدامة في "المغني" (8/ 220 - 221): مسألة: وإذا خرب الوقف، ولم يَرُدّ شيئًا، بيع واشترى بثمنه ما يردّ على أهل الوقف، وجعل وقفًا كالأول، وكذلك الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو بيع، واشترى بثمنه ما يصلح للجهاد.
وجملةُ ذلك أن الوقف إذا خرب، وتعطلت منافعه، كذار انهدمت أو أرضٍ خربت، وعادت مواتًا، ولم تمكن عمارتُها، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه، وصار في موضع لا يصلى فيه، أو ضاق أهله، ولم يمكن توسيعه في موضعه، أو تشعب جميعه فلم تمكن عمارته ولا عمارة بعضه إلاَّ ببيع بعضه، جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته، وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه.
وقال مالك والشافعي لا يجوز بيع شيء من ذلك لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لا يباع أصلُها، ولا تبتاع، ولا توهب، ولا تورث" تقدم تخريجه.
ولأنَّ ما لا يجوز بيعه مع بقاء نافعه، لا يجوز بيعه مع تعطّلها، كالمُعْتِق والمسجد أشبه الأشياء بالمُعْتَقِ.
انظر: الرسالة رقم (129).(8/4123)
إذا كانَ الموقوفُ عليه آدميًا مُعيَّنًا، أو جماعةً مُعيَّنين لم يذكر الواقف غيرَهُم من أولادهم، وبلغُوا في الفاقة إلى حدِّ خُشِيَ عليه التَّلفُ، فإنَّ البيعَ يَسُوغُ حينئذٍ.
وأمَّا إذا كان الوقف على بطنٍ، ثم كذلك فحصل مع أحد البطون من الفاقة ما يُخشى عليهم فيها الهلاكُ فإنْ كان هلاكُهُم مُستَلْزِمُ بطلان حدوث الذرية منهم مثل أن يكونوا جماعةً مُعيّنينَ لم يكن لهم ذرّية حينئذٍ أو كان معهم ذرّيةٌ يُخْشى هلاكُها بهلاكهم، فلا ريب أنه يجوز إبطال الوقف وإن كان معهم ذرية لا يخشى عليه الهلاك بهلاكهم فربَّما يقالُ أنَّ الواقفَ قصدَ بالوقفِ الصَّدقة الجارية التي ورد الترغيب فيها، فبيعُه لخشية هلاك بعض البطون مفوِّتٌ لِغَرَضِهِ، لأنَّ أولئك إذا هلكُوا خلفَهم بطنٌ آخرُ ينتفعونَ بذلك الوقف، ثُم كذلك وخشية هلاك بعض البطون لا يستلزمُ أنَّ مَن بَعْدَهُم من البطون كذلك، لأنَّ الأزمنة تختلف، فقد يحصل في بعض الأزمنة من غِلاَّتِ الوقف ما يقوم بكفاية الموقوف عليهم، فلا يُخشى عليهم الهلاك، وقد يتحصل لهم الأرزاق من وجهٍ آخر ما يكون بانضمامه إلى الوقف معينًا لهم، فحينئذٍ قد لا يُجوز طيبة نفس الواقف بانقطاع الصدقة الجارية الواصل إليه ثوابها، ما دامت كذلك، بسبب خشية هلاك فرد، أو جماعة مُعيَّنين.
وقد يجوزُ طيبة نفس الواقف بانقطاع الصدقة الجارية لاغنتام هذه الفرصة التي لا يقادَرُ قدَرُها؛ وهي حفظُ حياة نفس أو نفوس، ولا سيّما إذا كان الموقوف عليهم الأولاد، فأولادهم؛ فإنَّ الواقف قد يفتدي نفس الواحد بجميع الدنيا لو كانت في يده، فضلاً عن جُزءٍ يسير وصل إليه منها، ويلحقُ بهذا لو لم تبلغ الفاقة بالموقوف عليهم إلى حدِّ خشية الهلاك، إنما بلَغَ به الحالُ إلى الفَقْرِ المُدْقِعِ [2ب]، وتكَفُّف الناس، ورِثَّة اللِّباس، وأعوازِ ما لا بدَّ منه من الطعام والشراب في بعض الحالات، والوصول إلى حدٍّ يرقُّ له الشَّامِتُ، ويبكي له الرَّاحمُ. وفي قيمة ذلك الوقف إغناء ومُستمتعٌ؛ فهذا أيضًا وإن كان دونَ الأُول فهو لا يمنع أن يقال: ربَّما كان في سدّ فاقته من الأجر المتتابع ما لو علم به الواقف لآثره على جريان تلك الصدقة، ولا سيَّما إذا كان من الأولاد، وأولاد الأولاد؛ فإنه لو فُرِضَ مشاهدةُ الواقف لهم على تلك الحال(8/4124)
لباعَ نفائس الأموال كما نُشاهده في كثير من الأحياء من الجدِّ، والاجتهاد، وارتكاب الأخطار، ومتابعة الأسفار، والاغتراب من الوطن، ومفارقة الإلف والمسكن، كلُّ ذلك للقيام بما يسدُّ فاقة قرائبه، ويغنيهم عن تكفّف الناس، وقد يرْتَكبُ الأهوال لتحصِّل الفضلات لهم، التي لا تمسُّ الحاجة إليها كتشييد الدُّور، ورفاهة العيش، ورونق الثياب، وركوب فاره الدَّواب، قاصدًا بذلك أن يتجمَّلوا بما جلبه إليهم، وينبلُوا في الأَعيُن، ويُجلُّوا في الصدرو، ويكفوا مؤونة الاحتقار والاضطهاد.
وربَّما يقتحم لمثل هذه التخيُّلات، بَحُوْرُ الهَلَكات، ونُحُور المعضلات، فيجود بدينه تارةً في جمع الحطام من الحرام، ويُسمِّحُ بنفسه أخرى في معارك الحروب والصَّدام، وكثيرًا ما ترى الأعناق تُضْرَبُ، والأطراف تُقطَعُ، ومارِنُ (1) المروةِ (2) يُجْدَعُ في محبَّةِ الأولادِ والأحفادِ، وربَّما يقال أنّ الواقف لمّا صار في دار غير هذه الدار، ورحل عن دار الاغترار إلى دار القرار ذهَبتْ عنه هذه التُّرهاتُ، وانْقَشَعَ عنه ظلالُ الغرورِ؛ فلم تبق له رغبةٌ في غير الأجورِ، ولا يخطرُ ببالِهِ ما كان عليه من أحوالِ الدنيا وبتصوُّره يُحسِنُ الآن من عطفيه للأقارب، فهو في موطن يفرُّ المرءُ فيه عن أخيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تُؤويه (3)؛ فليس له بِدَفْعِ فاقَتِهِم من حاجةٍ، ولا عنده في بُؤسِهِم وفَقْرِهم لحاجة، فهو
_________
(1) مارنُ: مَرن، يمرن مرانة ومرونة وهو لين في صلابة ومرن الشيء يمرن مرونًا إذا استمر.
ومرنت يد فلان على العمل أي صلبت واستمرَّت.
وقيل: المارن: الأنف، وقيل ما لان منه. وقيل طرفه.
"لسان العرب" (13/ 86).
(2) المروة: حجر أبيض براق، وقيل هي التي يقدح منها النار.
ومروة المسعى التي تذكر مع الصَّفا وهي أحد رأسيه اللذين ينتهي السعي إليهما سميت بذلك.
"لسان العرب" (13/ 89).
(3) يشير إلى قوله تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} [المعارج: 11 - 14].(8/4125)
يؤثر أجر استمرار الصدقة [3أ] الجارية، وثواب الانتفاع بوقفه من البطون التي تأتي بعد هذا البطن الذي أصابته الحاجة، وكيف يسمح بانقطاع الخير الواصل إليه بمجرَّد توفير غرض غيره، وصونه عن ذلك الفقر، واستكانة الحاجة، وضراعة الفاقة، وخضوع القلّة، ولا يقول نفسي نفسي! وقد قال هذه المقالة (1) ذلك الجمع الجم من الأنبياء والمرسلين، وكيف تلتحق هذه الخشية على الموقوف عليه مع وجودا لفرق الذي يتبلَّج وجهُهُ، فإنَّ خشْيَةَ هلاك الموقوف عليه كالمسجد، والمعيَّن من المسلمين، ومصالحهم يستلزم انقطاع ثواب تلك الصدقة الجارية باعتبار الأمر المفعول لأجله، بخلاف ما نحن بصدده فلا خشية هلاك ولا انقطاع.
فإن قلت: هذه مسألة السؤال، وقد سُقْتَ في شأنها هذه الأحوال، فماذا الذي لديكَ؟ فإنَّ هذه ثمرةُ التَّعويلِ عليكَ.
قلتُ: الذي أراده عدم الجَزْمِ بأَمْر مُعيَّن، بل يُفوَّضُ الأمرُ إلى الحاكم المعْتَبَرُ بعد أن تُعْرَض على [عقلِهِ] (2) هذه الأحوال، [ويحيط بما سُقناه من القال، فإن الأحوال] (3) تختلف باختلاف الأشخاص، ولكن مع قصر النَّظر على الموزنة بين أجر التعجيل الموفّر لكونه بالرَّقبة مع شدَّة الحاجة وبين أجر الاستمرار مع بقاء الرَّقبة، وإنّما قلنا هذا لأن الحكم على ميِّت قد صار بين أطباق الثَّرى؛ فإنه لا بُدّ يسألُ عن حرمةُ الثَّواب الواصل إليه فيم حرمه؟ ولم قطع الصداقة الواصل ثوابها إليه، ولا ينفع الجواب إلاَّ بما يرْجُحُ في موازين الحساب، لا بما يصفه الأحياء من أنَّ ذلك لو كان حيًّا لفَعل؛ فإنَّه بموطنٍ
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (3340، 3361، 4712) ومسلم رقم (327/ 194) الترمذي رقم (2434) وأحمد (2/ 435 - 436) من حديث أبي هريرة" ... يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إنّ ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعد مثله، وإنّه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح ".
(2) زيادة من نسخة أخرى.
(3) زيادة من نسخة أخرى.(8/4126)
قد طاحتْ عنه مراعاةُ المروءة، وذهبت عنه المحافظات على ما تُوجِبُهُ الحميَّات، وأنا إلى الآن لم أزل مضطربًا بين أطراف هذا الكلام، مُتردِّدًا إن تصوَّرتُ حقيقة بين الإقدام والإحجامم، وقد نقضتُ وأبرمتُ بحسبِما يقتضيه الحال، وراجيًا من الله عدم المؤاخذة لاستفراغ وُسعي في كلا الطرفين.
وقد يعرض بعد التنفيذ ما يوقع في الحيرة والندامة فأداويه بمرهم دلَّ عليه المختار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وهو ما صحَّ عنه "أنَّ الحاكم إذا اجتهد فأصاب فلَهُ أجران" (1) وفي رواية: جرَّبْتُهُ في الشِّفاء من التهاب [3ب] الأسف على ما فرَّط، وهو أنَّ القصد بهذا الاجتهاد هو باعتبار الوقت الذي وقع فيه النَّقض والإبرام، لا باعتبار ما بعدَهُ، ولو كان كذلك لما صحَّ اجتهادُ المجتهد إلاَّ عند آخر جُزْءٍ من حياتِهِ؛ لأنَّ تجويزَ تصيير الرَّاجح مرجوحًا، أو المرجوح راجحًا لا ينقطعُ ما دامت الحياةُ. وهنا يستلزم ألاَّ يُنجز حكمٌ من أحكام الشريعة من حاكمٍ، ولا مُفتٍ، وهو باطلٌ إجماعًا وعقلاً ونقلاً، ولِنُتمَّ الكلام في بقيةِ المقتَضَيَاتِ للنَّقض باعتبار ما لديّ كما ذكرتُه سابقًا، وإن كان ذلك خارجًا عن سؤال السائل، فهو لا يخلُو عن فائدة.
وقد أشار ـ حفظه الله ـ في آخر الأسئلة أنَّ المجيب يتكلَّمُ على ما يقتضيه المقامُ ممَّا له دَخْلٌ، وعلى ما يتفرَّعُ عليه ممَّا لا يقتضيه، فما وقع في بعض هذه الأجوبة من الاستطراد هو من باب الامتثال لِما رسَمه، فَمِن جُمْلَةِ المقتضياتِ للنقض إذا بلغَ الوقفُ نفسه إلى حالٍ إذا لم يُستدرك عندَها بالبيع أو المعارضة بطل الغرض المقصودُ منه كُلاًّ أو بعضًا؛ فإنه يسوغ بيعُ الكُلِّ إذا كان بيع البعض لا يقومُ بالإصلاح (2)، ويسوغ بيعُ البعضِ إذا
_________
(1) تقدم مرارًا.
(2) تقدم ذكره.
انظر الرسالة (129)، "المغني" (8/ 195).(8/4127)
كان يقومُ بإصلاح البعض. ثُم إذا بيع الكل وجب التعويض لذلك المبيع بمقدار الثَّمن من جنسه، أو من غير جنسه، ممَّا يبقَى وتتأبَّدُ منفعتُهُ.
والوجه في تسويغ البيع أنه يُعْلَمَ أنّ غرض الواقف استمرار الصَّدَقة الجارية، وأنَّ انقطاعها ليس من غرضه، ولا مقصوده، لأنّ المفروض أنَّه من العُقلاء ومِن طلبة الأجْرِ، فوجب حينئذ العمل بما يُعْلَمُ أنَّه من مراده، والمبالغة في نفعه بالثَّواب بكل مُمكن، وليس في الإمكان أبدعُ ممَّا كان. ولا يُعارض هذا تجويز أنَّ بعض ما بطل نفعه قد يرجَى عَوْدُهُ في زَمَنٍ آخرَ، فإنَّ هذا التَّجويزَ ليسَ ممَّا يَعتبرُه العُقلاء في نفع أنفسهم. مثلاً إذا انقطع [الماء] (1) الذي [4أ] تُسقى به الأرض انقطاعًا يَغْلِبُ على الظنِّ عدمُ عَوْدِهِ، والأرضُ لا تُزْرَعُ إلاَّ بذلكَ، فإنّه يُسَوِّغُ البيعَ إن أمكنَ، أو بيعَ البعض لاستخراج الماء، إذا كان العمل يفيدُ في مثل ذلك. ولا يقال أنّ تجويز عَوْدِ الماءِ في زمانٍ مُسْتَقْبَلٍ يمنعُ البيعَ لما سلفَ.
[ومن جُمْلَةِ المقتَضَياتِ للبيع أن يكون ذلك الوقف في مكان مخافة بعد أن كان في مكان أَمِن بحيثُ يتعذَّرُ الانتفاعُ به؛ فإنَّ هذا لاحقٌ بالأولِ، ومثلُهُ أنْ يكون في أرضٍ فارقها سُكَّانُها] (2).
ومن جُملةِ المقتضيات للبيع (3) نَقْلُ مصلحةٍ إلى أصلحَ منْها؛ فإنه إذا كان الوقف في محلٍّ تكثُرُ عليه الغرامات والنَّفقَاتُ، إمَّا لِبعدٍ عن الموقوف عليه، أو لاحتياجه إلى عملٍ كثيرٍ، أو لعروض آفة له في بعض الأوقاف، أو كونه إذا أريد إصلاحه احتاج إلى غرامةٍ لا يقومُ بها الحاصلُ منه، وغيرُهُ بالعكسِ من ذلكَ كالدَّارِ التي تُؤجَّرُ، والأرضُ التي تُزرعُ.
والحاصلُ أنَّ المُعْتَبَرَ أنْ يكونَ الثاني أصلحَ من الأولِ بوجهٍ من الوجوهِ التي لها مدخلٌ
_________
(1) زيادة من نسخة أخرى.
(2) زيادة من نسخة أخرى.
(3) تقدم توضيحه.(8/4128)
في نفع الميِّتِ الواقفِ بما يصلُ إليه من الثَّواب، أو باستمراره، أو نحو ذلك. والوجه في تسويغ البيع لهذا أنَّ المفروض أنّ الواقف وقف لقصد وصول ثواب هذه الصَّدقة إليه، فالعلة معقولةٌ، فما كان أدخلَ في هذه الفائدة المقصودة، وأنفعَ لفاعِلِها فَفِعْلُهُ من باب المعاونَةِ على البِرِّ، وإدخالِ الخيرِ على الغير وهو مندوبٌ إليه للعلم بأنه لا مَقْصِدَ للواقف بتحبيس تلك العين بنفسها، وإن كان غيرُها أصلحَ منها. ولو فُرِضَ أنَّ ذلكَ مقصِدُهُ لكانَ من بابِ الشُّحِّ على بقاء المال، والمحبَّة له، وكراهةِ أن يدخل تحت ملك غيره، وهذا خارجٌ عن الغرض الذي نحن بصدَدِه، وهو أنْ لا مَقْصِدَ للواقفِ إلاَّ القُربة، ووصولَ الخير إليه.
فإن قلتَ: يمكنُ أن يكون تعلُّقُ غَرَضِهِ بتحبيسِ هذه العين [4ب] بخصوصِها، لكونها أنفعَ من وجهٍ من الوجوهِ وأما باعتبار الحال الذي وقعَ فيه، أو باعتبار المآل؟.
فإن اختلفَ وَجْهُ النفعِ أو الصَّلاح، فكان أحدُهُما أصلحَ من الآخرِ من وجهٍ من الوجوهِ، والآخرُ أصلحُ منه من وجهٍ، فلا بُدَّ من الموازنة بين الوجهين، فإن رجَحَ المنقولُ إليه ساغَ البيعُ، وهذا يَشْمَلُ كلَّ ما يتصوَّرَهُ الذّهن من صور الصَّلاح.
انتهى. [5أ].(8/4129)
(133) 25/ 2
بحث في حديث (فدَين الله أحق أن يقضى)
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(8/4131)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في حديث "فدَين الله أحق أن يقضى".
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين وبعد: فإنه ورد من سيدي العلامة ...
4 - آخر الرسالة: وليس ذلك من الدعاء كما لا يخفى.
وفي هذا المقدار كفايةٌ لمن له هداية والله ولي التوفيق كتبه المجيب محمد الشوكاني غفر الله له.
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 7 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
11 - ملحوظة: فقدت مخطوطة السؤال بعد كتابته.(8/4133)
[بسم الله الرحمن الرحيم]
[نص السؤال]
الحمدُ لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلَّم. سأل لعهدة المسلمين اللامة الربّاني محمد بن علي بن محمد الشوكاني ـ كثر الله فوائده ـ وأطال مدَّته: هل يُقدَّمُ حقُّ الله تعالى على حق المخلوق، كما يدل عليه "فَدَيْنُ الله أحقُّ أن يُقْضَى" (1) أمِ العكسُ للإجماع على هجر ظاهر الدليل المذكور، فيما لو أن رجلاً مات ومالُه مستغرَقٌ بِدَيْنِهِ، وقد وجب عليه الحجُّ وقال: يُحَجُّ عنِّي، فالإجماع حاصلٌ على تقديم الدِّين المستغرَق على الحجِّ، ثم لفظ: "فدَينُ الله" من حديث الخثعميةِ (2)، وفيه اضطرابٌ من حيث إنَّ في رواية السائل رجلاً، وفي أخرى امرأة، وفي الصحيحين بغير زيادة: "أرأيت لو كان على أبيك دَيْنٌ ... إلخ" وفي غيرهما بها، وفيه أيضًا مغايرةٌ من الركوبَ على الراحلة، وفي القصة التي فيها الزيادةُ أنه مات. ويعارضُه أيضًا حديثُ المنع عن ابن عمرَ بلفظ: "لا يحجُّ أحدٌ عن أحد" ونحوُه، ثم هو ورد في الحج، وهو من محلّ النزاع، لأنه حقٌّ لله تعالى، فهل يُقَدِّمُ كما هو مدلول أفْعَلَ التفضيل أم لا؟ لكونه إنما ثبت قياسًا للمختلَف فيه على المتَّفق عليه، كما أفاده المسئولُ ـ كثر الله فوائده ـ في شرح المنتقى (3) له.
وإذا تقرر كونُه أحقَّ، وانتفتِ المعارضةُ، فهل يلحقُ، ومن الولد فقط، كما في حديث الخثعمية أم منه، ومن الأخ، أو القريب، كما في حديث ابن عباس: "حُجَّ عن نفسك عن ...........................
_________
(1) سيأتي تخريجه.
(2) "نيل الأوطار" (2/ 252).
(3) "نيل الأوطار" (2/ 252).(8/4137)
شِبْرِمَةَ" (1) أم يتعدَّى إلى الغير، فما هو الدليلُ؟ وإذا كان الغيرُ ممنوعًا، فهل لمن أذِنَ له تأخيرُ غيره أم لا؟ فظاهر الأدلة المنع، وهل للوصية فائدةٌ، ويجب امتثالُها؟ فالذي في البحر (2) عن العترة، وأبي حنيفة (3) وأصحابه، ومالكٍ (4) أنه يسقطُ وجوبُ الحجِّ بالموت، وكذلك سائرُ ما ورد في مثل الصلاة، والصوم، ونحوِهما، هل يصحُّ لقول النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من مات وعليه صومٌ فليصمْ عنه وليُّه" وهو أعمُّ من الولد وغيره، والحديث متَّفقٌ عليه (5) من حديث عائشةَ، وصححه أحمدُ (6)، وزاد البزَّار (7) إن شاء، وضُعِّفَتْ، وله شاهدٌ من حديث بريدةَ عند أحمدَ (8)، ومسلمٍ (9) أم لا يصحُّ؟ فظاهرُ قولِ الله تعالى: ...............................
_________
(1) أخرجه أبو داود رقم (1811) وابن ماجه رقم (2903) والدارقطني (2/ 270).
عن ابن عباس أنّ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة قال: "من شبرمة؟ " قال: أخٌ لي، أو قريبٌ لي، قال: "حججت عن نفسك؟ " قال: لا، قال: "حجَّ عن نفسك ثم حُجّ عن شبرمة".
وعند ابن ماجه قال: "فاجعل هذه عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة".
وعند الدارقطني فيه: "قال: هذه عنك، وحُجَّ عن شبرمة".
وهو حديث صحيح.
(2) (2/ 395).
(3) انظر "البناية في شرح الهداية" (4/ 430 - 431).
(4) انظر: "المفهم" (3/ 444).
(5) أخرجه البخاري رقم (1952) ومسلم رقم (1147).
(6) في "المسند" (6/ 609).
(7) في "مسنده" (2/ 481 - 482 رقم 1023 ـ كشف).
وقال الهيثمي في "المجمع" (3/ 179) هو في الصحيح خلا قوله إن شاء الله رواه البزار وإسناده حسن.
(8) في "المسند" (5/ 359).
(9) في "صحيحه" رقم (1149).(8/4138)
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (1) ولكونه قد ورد النَّهيُ عن ذلك بلفظ: "لا يصلِّ أحدٌ عن أحد، ولا يصم أحدٌ عن أحد" رواه النَّسائي (2) عن ابن عباس، ومثلُه عن ابن عمرَ (3). وفي البخاري (4) في بال النَّذر (5) عنهما تعليقًا مثلُه، فقد اضطربَ الكلامُ، وحصلتِ المعارضةُ والمغايرةُ، وقوي الإشكال والكشفُ عن تلك الإفادة مطلوبةٌ ـ كثر الله فوائده ـ آمين.
بقلم كاتبه. وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم آمينَ.
_________
(1) [النجم: 39].
(2) في "السنن الكبرى" (2/ 175 رقم 2918/ 7).
(3) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (9/ 61 رقم 16346).
(4) في "صحيحه" (4/ 192 ـ مع الفتح).
(5) الباب رقم (42).(8/4139)
[نصُّ الجواب]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين.
وبعد:
فإنه ورد سؤال من سيدي العلامة المِفْضال يحيى بن مطهر (1) بن إسماعيل بن يحيى بن الحسين بن الإمام القاسم ـ رحمهم الله جميعًا وإياي ـ عن حديث: "فَدَيْنُ الله أحقُّ أن يُقْضَى"، وحاصلُ السؤال: هل يدلُّ على أن دَيْنَ الله مقدَّمٌ على دَيْنِ الآدميِّ؟ وهل يصح أن يحج عن الميت غير قريبه بأُجرة وغير أجرة، أم ذلك مختصٌّ بالقريب؟ وهل يلحق الإنسان ما فعله غيرُه من القُرَبِ أم ذلك مختصٌّ ببعض القُرَبِ، وببعض الأشخاص؟.
وأقولُ: الجوابُ عن السؤال عن كون دَيْنِ الله مقدَّمٌ على دَيْن الآدميّ أم العكسُ، أنّ حديث ابن عباس الثابتَ في الصحيح (2) وغيرِه (3) أنّ امرأةً من جُهَيْنَةَ جاءت إلى النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فقالتْ: إنّ أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحجُّ عنها؟ قال: "نعم حجِّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك دينٌ أكنتِ قاضِيته؟ اقضوا الله؛ فالله أحقُّ الوفاء".
وقد روي هذا من طرق عن ابن عباس، ففي بعضها امرأةٌ من جهينَة كما في الرواية السابقة (4)، وفي بعض الألفاظ من حديثه أنَّ امرأةً من خُثْعُمَ قالت: يا رسول الله، إنّ أبي أدركته فريضةُ الله في الحج شيخًا كبيرًا، لا يستطيع أن يستويى على ظهر بعيره، قال: "فحجِّي عنه"، وهذا ثابتٌ في الصحيحين (5) ......................................
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) أخرجه البخاري في "صحيحه" (1852).
(3) كأحمد (1/ 329)، والنسائي (5/ 116).
(4) أخرجه البخاري في "صحيحه" (1852).
(5) البخاري رقم (1513) ومسلم رقم (1335).(8/4140)
وغيرِهما (1).
وأخرج هذه القصة عن الخثعمية أحمد (2)، والترمذيُّ (3) وصححهمن طريق عليِّ ـ كرم الله وجهه ـ.
وأخرجها أيضًا أحمدُ (4)، والنسائي (5) بإسناد صالح من حديث عبد الله بن الزبير، وفي لفظ: من حديث ابن عباس قال: "جاء رجل فقال: إنّ أختي نرت أن تحجَّ" (6).
وأخرج النَّسائيّ (7)، والشافعي (8)، وابن ماجه (9)، والدارقطني (10) من حديث ابن عباس أيضًا قال: أتى النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ رجلٌ فقال: إنَّ أبي مات وعليه حَجَّةُ الإسلام، أفأحُجُّ عنه؟ قال: "أرأيت لو أنَّ أباك ترك دَيْنًا عليه أقضيتَه عنه؟ " قال: نعم، قال: "فاحْجُجْ عن أبيك". [1أ]
فقد دلّت هذه الأحاديثُ، وما ورد في معناها أنَّ القريبَ يحجُّ عن قريبه (11)، سواءٌ أوصى، أو لم يوصِ، إذا طلب القريبُ ذلك وأراده.
_________
(1) كأحمد (1/ 213) وأبو داود رقم (1809) والترمذي رقم (885) والنسائي (5/ 118) وابن ماجه رقم (2907).
(2) في "المسند" (1/ 76).
(3) في "السنن" (885) وقال: حديث علي حديث حسن صحيح.
وهو حديث صحيح إن شاء الله.
(4) في "المسند" (4/ 5).
(5) "السنن" (5/ 118).
(6) أخرجه البخاري رقم (6699) وأحمد (1/ 329).
(7) في "السنن" (5/ 118).
(8) (1/ 385 - 386 رقم 992 ترتيب المسند).
(9) في "السنن" رقم (2904).
(10) في "السنن" (2/ 260).
(11) انظر "المغني" (5/ 38 - 39).(8/4141)
وأما حجُّ الأجنبيَّ عن الأجنبيِ فلم يأت ما يدلُّ على ذلك، فإنّ حديث (1) ابن عباس عند أبي داود (2)، وابن ماجه (3)، وابن حِبَّان (4)، وصححه، والبيهقيُّ (5) وقال: إسناده صحيحٌ، أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ سمع رجلاً يقول: لبيك عن شِبْرِمَةَ، قال: "مَنْ شِبْرِمَةُ؟ " قال: أخٌ لي، أو قريبٌ لي، قال: "حججتَ عن نفسك؟ " قال: لا، قال: "حُجَّ عن نفسك، ثم حُجَّ عن شبرمة".
ولفظُ ابن ماجه: "فاجعل هذه عن نفسك، ثم احْجُجْ عن شبرمةَ"، ولفظ الدارقطنيِّ (6) قال: "هذه عنك، وحُجَّ عن شبرمةَ" فيه التصريح بما يفيد القرابة بينهما، وقد أُعِلَّ الحديث بأنه موقوفٌ (7)، وليس ذلك بعلَّة، لأنّ الرفعَ زيادةٌ يتعيّنُ قبولُها على ما ذهب إليه أهلُ الأصول، وبعضُ أهل الحديث، وهو الحقُّ إذا جاءت الزيادةُ (8) من طريق ثقةٍ، وهي هاهنا كذلك؛ فإن الذي رفع الحديثَ عبده بنُ سليمانَ، وهو ثقةٌ من رجال الصحيح، وقد تابعه على ذلك محمدُ بن بشرٍ، ومحمد بن عُبَيْد الله الأنصاريّ.
وقد اختلف أئمة الحديث في ترجح الرفع على الوقف، أو العكس (9)، فرجَّح الأول عبدُ الحقِّ، وابنُ القطَّان، ورجَّحَ الثاني ......................
_________
(1) وهو حديث صحيح تقدم تخريجه.
(2) في "السنن" رقم (1811).
(3) في "السنن" (رقم 2903).
(4) في صحيحه رقم (3988).
(5) في "السنن الكبرى" (4/ 336)، (5/ 179 - 180).
(6) في "السنن" (2/ 270، 271).
(7) قال الزيلعي في "نصب الراية" (3/ 155): عن ابن القطان في كتابه أنّه قال: وحديث شبرمة علَّله بعضهم بأنّه قد روي موقوفًا والذي أسنده ثقة فلا يضره.
(8) ذكره البيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 336).
وانظر: "تلخيص الحبير" (2/ 426 - 427).
(9) انظر: "تلخيص الحبير" (2/ 426).(8/4142)
الطحاويُّ (1).
والحقُّ ما عرفتَ. وقد قيل (2): إنّ اسم الملبي نبيشةُ، وقيل: هو اسمُ الملبِّي عنه. وقد استدلَّ بعضُ القائلين بأنه يحجُّ الأجنبيُّ عن الأجنبيِّ بحديث ابن عباس هذا. وقد عرفت أنه صرَّح فيه بأنه أخٌ له، أو قريبٌ، فلا يصحُّ الاستدلالُ به على ذلك.
وقد روى سعيد بن منصور وغيره عن ابن عمر بإسناد صحيح أنه "لا يحجُ أحدٌ عن أحد" (3) ونحوَه عن مالك والليث.
وروي عن مالك أنّه إن أوصى بذلك فليحجَّ عنه، وإلاَّ فلا (4).
_________
(1) في "شرح مشكل الآثار" (6/ 384).
(2) أخرجه الدارقطني في "السنن" (2/ 268 رقم 145، 146، 147).
عن الحسن بن عمارة عن عبد الملك عن طاوس عن ابن عباس قال: سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً يلبي عن نبيشة، فقال: أيها الملبي عن نبيشة هل حججت؟ " قال: لا. قال: "فهذه عن نبيشة وحج عن نفسك".
- وهذا وهم وقد بينه الدارقطني في الحديث رقم (148) عن الحسن بن عمارة، عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس، عن ابن عباس: أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من شبرمة؟ " قال: أخ لي، قال: "هل حججت"، قال: لا، قال: "حج عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة".
قال الدارقطني عقب هذا الحديث: "هذا هو الصحيح عن ابن عباس والذي قبله وهم، يقال إن الحسن بن عمارة كان يرويه ثم رجع عنه إلى الصواب فحدث به على الصواب موافقًا لرواية غيره عن ابن عباس، وهو متروك الحديث على كل حال.
وانظر: "الحاوي الكبير" (5/ 27).
(3) تقدم تخريجه.
(4) ذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (26/ 14 - 17).
وانظر: "المغني" (5/ 36).
قال القرطبي في "المفهم" (3/ 443 - 444): وقد اختلف العلماء في النيابة في الحجِّ قديمًا وحديثًا، فحكى عن النخعي وبعض السلف: لا يحج أحدٌ عن أحد جملةٌ من غير تفصيل. وحكى مثله عن مالك.
وقال جمهور الفقهاء: يجوز أن يحج عن الميت، عن فرضه، ونذره، وإن لم يوص به، ويجزئ عنه. واختلف قول الشافعيّ رحمه الله في الإجزاء عن الفرض.
ومذهب مالك، والليث، والحسن بن حييِّ: أنَّه لا يحجُّ أحدٌ عن أحدٍ إلا عن ميِّتٍ لم يحجّ حجَّة الإسلام. ولا ينوب عن فرضه.
قال مالك: إذا أوصى به. وكذلك عنده يتطوّع بالحج عن الميّت إذا أوصى به، وأجاز أبو حنيفة والثوري وصية الصحيح بالحجِّ عنه تطوُّعًا وروي مثله عن مالك.
وانظر: "مجموع الفتاوي" لابن تيمية (26/ 17).(8/4143)
وإذا تقرّر هذا فقولُه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "فَدَيْنُ اللهِ أحقُّ بالوفاء"، وفي رواية: "فدين الله أحقُّ بالقضاء" يدلُّ على أن كل دَيْنٍ لله تثبتُ مشروعيةُ قضائه فهو أحقُّ بأن يُقْضَى (1)، وأقدمُ من حقوق الآدميينَ، لأنَّ ذلك مدلول أفعل التفضيل، والمفضَّلُ عليه مقدَّرٌ، وتقديره: فَدَيْنُ الله أحقُّ بأن يُقْضَى من كل دَيْن، لما تقرَّر في علم المعاني أن حذف المتعلّق (2) مشعِرٌ بالتعميم في المقامات الخطابية [1ب].
وعلى فرض أنه قد تقدَّم ما يخصُّه ببعض الدُّيون لقوله: "أرأيتَ لو كان على أبيك
_________
(1) قال الحافظ في "الفتح" (4/ 66) "أكنت قاضيته" كذا للأكثر بضمير يعود على الدّين وللكشميهني قاضية يوزن فاعله على حذف المفعول. وفيه أن من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله كما أن عليه قضاء ديونه.
فقد أجمعوا على أنّ دين الآدمي من رأس المال فكذلك ما شبه به في القضاء.
ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أوزكاة أو غير ذلك وفي قوله: "فالله أحق بالوفاء" دليل على أنَّه مقدم على دين الآدمي. وهو أحد أقوال الشافعي، وقيل بالعكس. وقيل هما سواء.
قال الطيبي: في الحديث إشعار بأن المسؤول عنه خلف مالاً فأخبره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن حق الله مقدم على حق العباد وأوجب عليه الحج عنه والجامع علة المالية. قلت ـ أي البخاري ـ ولم يتمتم في الجواب المذكور أن يكون خلف مالاً كما زعم لأن قوله: "أكنت قاضيته" أعم من أن يكون المراد مما خلفه أو تبرعًا.
(2) قال الحافظ في "الفتح" (4/ 66) "أكنت قاضيته" كذا للأكثر بضمير يعود على الدّين وللكشميهني قاضية يوزن فاعله على حذف المفعول. وفيه أن من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله كما أن عليه قضاء ديونه.
فقد أجمعوا على أنّ دين الآدمي من رأس المال فكذلك ما شبه به في القضاء.
ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أوزكاة أو غير ذلك وفي قوله: "فالله أحق بالوفاء" دليل على أنَّه مقدم على دين الآدمي. وهو أحد أقوال الشافعي، وقيل بالعكس. وقيل هما سواء.
قال الطيبي: في الحديث إشعار بأن المسؤول عنه خلف مالاً فأخبره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن حق الله مقدم على حق العباد وأوجب عليه الحج عنه والجامع علة المالية. قلت ـ أي البخاري ـ ولم يتمتم في الجواب المذكور أن يكون خلف مالاً كما زعم لأن قوله: "أكنت قاضيته" أعم من أن يكون المراد مما خلفه أوتبرعًا.(8/4144)
دَيْنٌ"، وسلّمنا أنه لا عمومَ في هذه الصيغة، بل هي خاصة بِدَيْنِ الآدميّ فيكون المقدّرُ: فدَيْنُ اللهِ أحقُّ بأن يقضى، أو أحقُّ بالوفاء من دَيْنِ الآدمي، وهو المطلوب على أنّ الدَّيْنَ لا يكون إلاّ لله، أو لآدمي، فالعموم المستفاد من حذف المتعلّق هو كهذا الخاصّ الذي دل على سياق الكلام.
وإنما قلنا: ثبتت مشروعية قضائه، لأن بعض حقوق الله الواجبة على العباد لم تثبت مشروعية قضائها إذا عجز مَنْ هي عليه عنها، أو مات.
وبعضها ثبت مشروعية قضائها على صفة مخصوصة، كالحج، فإنه إنما ورد قضاؤه من القريب كما عرفت، وكذلك الصيامُ، فإنّه إنما ورد "أنّ مَنْ مات وعليه صوم، وصامَ عنه وليُّه" (1). ولم يَرِدْ ما يدلّ على أنه يصوم عنه غيرُ وليه.
إذا تقرّر هذا فالقريب إذا قضى عن قريبه فريضة الحج كان ذلك صحيحًا مجزيًا إجزاءً أحقَّ من إجزاء قضاء القريب عن قريبه ما كان دينًا لبني آدم.
وأما الحجُّ عن العاجز والميت إذا وقع من غير قريب، بل من أجنبيّ بأُجرة، أو بغير أجرة، فهذا لم يأتِ ما يدلُّ على أنه يجري حتى يكون من حقِّ الله الذي هو أحقُّ بأن
_________
(1) أخرجه أحمد (6/ 69) والبخاري رقم (1952) ومسلم رقم (1147) وأبو داود رقم (2400) عن عائشة رضي الله عنها.
قال الحافظ في "الفتح" (4/ 194) واختلف المجيزون في المراد بقوله: "وليه"، فقيل: كل قريب، وقيل: الوارث خاصة، وقيل: عصمته، والأول أرجح، والثاني قريب. ويرد الثالث قصة المرأة التي سألت عن نذر أمها.
واختلفوا أيضًا هل يختص ذلك بالولي؟ لأن الأصل عدم النيابة في العبادة البدنية، ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة في الحياة فكذلك في الموت إلا ما ورد فيه الدليل فيقتصر على ما ورد فيه ويبقى الباقي على الأصل وهذا هو الراجح.
وقيل يختص بالولي فلو أمر أجنبيًّا بأن يصوم عنه أجزأ كما في الحج.
وقيل يصح استقلال الأجنبي بذلك وذكر الولي لكونه الغالب، وظاهر صنيع البخاري اختيار هذا الأخير، وبه جزم أبو الطيب الطبري وقواه بتشبيهه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بالدن والدين لا يختص بالقريب.(8/4145)
يُقْضَى من دَيْنِ بني آدَم (1).
وحاصلُ الكلام أن يقالَ: نحن نمنعُ أن يكون فعلُ الحجِّ من غير القريب بأُجرةٍ أو غيرِها مجزيًا، فضلاً عن أن يكون حقًّا من حقوق الله يجبُ قضاؤه، فلا يتمُّ إدراج مثل ذلك في حديث: "فَدَيْنُ الله أحقُّ أن يُقْضَى" إلاَّ بعد إثبات أنه يجري، وإثبات أنه دَيْنٌ من ديون الله التي يجب قضاؤها ببرهانٍ صحيح، لا بمجرد القياسات التي لا تقوم بها حُجَّةٌ، والمناسبات التي ليست من الأدلة في وِرْدٍ ولا صَدْرٍ، فمن جاءنا بالحُجَّةِ المقبولة فيها ونِعْمَتْ، ومن لم يأت بذلك فلا يُتْعِبْ نفسَه، ويتعب عباد الله بما لم يَشْرَعْهُ الله، ولا أوجبه [2أ]. وقد ظهر بما كرنا الجواب عن السؤال الأول، والسؤال الثاني من الثلاثة الأسئلة المتقدمة.
وأما الجواب عن السؤال الثالث: وهو هل يلحق الإنسن ما فعله غيره من القرب؟ أم لك مختصٌّ ببعض القرب، وببعض الأشخاص؟
فنقول: اعلم أنّ العمومات القرآنية كقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (2) ونحو هذه الآية قد أفاد أنه يكون للإنسان شيءٌ من العمل إلاّ ما هو من سعيه، وقد خُصِّصَ هذا العمومُ بمخصَّصاتٍ.
فمنها ما تقدم من حج القريب (3) عن قريبه.
ومنها ما ثبت في الصحيح (4) من قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من مات
_________
(1) قال ابن قدامة في "المغني" (5/ 23): وفي الاستئجار على الحجِّ والأذان، وتعليم القرآن والفقه، ونحوه ممّا يتعدّى نفعه، ويختصّ فاعله أن يكون من أهل القربة روايتان:
إحداهما: لا يجوز، وهو مذهب أبي حنيفة، وإسحاق.
الأخرى: يجوز. وهو مذهب مالك والشَّافعي وابن المنذر.
وانظر: "مجموع الفتاوى" (26/ 14 - 17).
(2) [النجم: 39].
(3) وهو حديث صحيح. وقد تقدم.
(4) وهو حديث صحيح. وقد تقدم.(8/4146)
وعليه صومٌ صام عنه وليُّه".
ومنها الصدقةُ من الولد، لما أخرجه مسلم (1)، وأحمدُ (2) والنسائيّ (3)، وابن ماجه (4) من حديث أبي هريرة أنّ رجلاً قال للنبيّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "إن أمي افتلتتْ نفسها، وأراها لو تكلّمت تصدقتْ، فهل لها أجرٌ إن تصدقتُ عنها؟ قال: (نعم) " (5)، ومثلُه عد البخاري (6) من حديث ابن عباس، وعند أحمدَ (7) والنسائي (8) أن السائلَ هو سعد بن عبادة، وفي البخاري (9) ما يفيد ذلك أيضًا.
ومنها أيضًا العتق من الولد، كما وقع في .....................................
_________
(1) في "صحيحه" رقم (1630).
(2) في "المسند" (2/ 371).
(3) في "السنن" (6/ 252).
(4) في "السنن" رقم (2716).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رجلاً قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنّ أبي مات ولم يوص، أفينفعه أن أتصدق عنه؟ قال: "نعم".
(5) أمّا لفظ المصنف فهو من حديث عائشة أخرجه البخاري رقم (2760) ومسلم رقم (1004) وأحمد (6/ 51).
(6) في "صحيحه" رقم (2770). عن ابن عباس: أنّ رجلاً قال للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنّ أُمي توفيت، أينفعها إن تصدَّقت عنها، قال: "نعم" فإنّ لي مخرافًا، فأنا أشهدك أني قد تصدقت به عنها.
(7) في "المسند" (5/ 285).
(8) في "السنن" (5/ 255).
(9) في "صحيحه" رقم (2761) وطرفاه (6698، 6959).
- افتلتت: أي ماتت فلتةً، أي فجأة ورواه ابن قتيبة: اقتتلت: بالقاف وفسَّره: بأنه كلمة تقال لمن مات فجأة وتقال أيضًا لمن قتلته الجن، والعشق.
"المفهم" (3/ 49).
وقال الحافظ في "الفتح" (5/ 389) افتلتت بضم المثناة بعد الفاء الساكنة وكسراللام أي أخذت فلتة أي بغتة وقوله نفسها بالضم عن الأشهر وبالفتح أيضًا وهوموت الفجأة بالنفس والروح.(8/4147)
البخاري (1) من حديث سعد.
ومنها الصلاةُ من الولد، لما روَى الدارقطني (2) أن رجلاً قال: يا رسول الله، إنه كان لي أبوان أبرّهما في حال حياتِهما، فكيف لي بِبِرِّهما بعد موتهما؟ فقال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "إنّ من البِرِّ أن تصلِّي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك".
ومنها الدعاء من الولد: لما أخرجه مسلم (3)، وأهل السنن (4) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "إذا مات الإنسانُ انقطعَ عملُه إلاَّ من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنْتَفَعُ به، أو ولدٍ صالحٍ [2ب] يدعو له".
ومنها الدعاءُ من الغير، لحديث فضل الدعاء للأخ بظهر الغيب (5)، وأن المَلَكَ يقول: ولكَ مثلُ ذلك، ولقوله تعالى: & وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ
_________
(1) لم أجده في صحيح البخاري بل أخرجه في "الأدب المفرد" كما سيأتي.
ولكن أخرج مسلم في صحيحه رقم (25/ 1510) وأحمد (2/ 230، 445) وأبو داود رقم (5137) والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (10) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 109) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 289) من طرق عن سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يجزي ولدٌ والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقهُ".
وهو حديث صحيح.
(2) لم أجده في سننه.
(3) في "صحيحه" رقم (1631).
(4) أبو داود رقم (2880) والترمذي (1376) وقال حديث حسن صحيح والنسائي (6/ 251 رقم 3651) من حديث أبي هريرة.
وهو حديث صحيح.
(5) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2732) وأبو داود رقم (1534) عن أمّ الدرداء قالت: حدّثني سيدي أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إذا دعا الرَّجلُ لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة: ولك بمثلٍ".
وهو حديث صحيح.(8/4148)
لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ {(1)، ولما ثبت من الدعاء للميِّت عند الزيارة، كما في الصحيح (2) وغيرِه (3)، فقد كان رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يعلِّمُ الصحابَة أن يقولوا عند زيادة القبور: "السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكمُ العافية"، وقد حكى النوويُّ (4) الإجماع على وصول الدعاء إلى الميت، وكذا حكى الإجماع على أن الصدقة تقعُ عن الميت ويصلُه ثوابُها، ولم يقيِّد ذلك بالولد، وكذلك حكى الإجماعَ (5) على لحوق قضاء الدَّيْنِ، ويدلُّ عليه حديثُ: من تبرَّع عن الميت المديونِ الذي امتنع النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ من الصلاة عليه، فقال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "الآن بردتْ عليه جِلْدَتُهُ" (6)، وهو حديث معروفٌ.
ومنها جميعُ أنواع البِرِّ من الولد، لحديث "وَلَدُ الإنسانِ من سَعْيهِ" (7).
والحاصلُ أن كلَّ عمل من قول، أو فعل ورد في الشريعة المطهرة أنه يجزئ فعلُه من قريب أو غيرِه، بوصية أو غيرها، فهو مخصِّصٌ لعموم الآية الكريمة، ومخصصٌ لعموم حديث: "إذا مات الإنسانُ انقطعَ عملُه إلاَّ من ثلاث ..... " (8)، فمن وجدَ من الأدلة غيرَ ما ذكرناه في هذه الورقات فليُلحِقه بها، ويجعله من جملة المخصِّصاتِ لتلك العمومات إذا خرج من مخرج معمول به، وأما ما لم يرد فيه دليلٌ يخصُّه، فالحقُّ أنه باق تحت عموم:} وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى & (9) ونحوِها، وتحت عموم حديث: "إذا مات الإنسان انقطع عملُه" (10) وهذا [3أ] هو الحقُّ الذي لا ينبغي العدولُ عنه، وبه يحصلُ الجمعُ بين الأدلة.
ومن قال بعدم اللحوقِ مطلقًا مستدلاً بالآية الكريمة، كالمعتزلةِ (11) فقد أهمل هذه المخصَّصات الصحيحة المقبولة.
وكذلك مَنْ قال: إنه يلحقُ كلُّ عمل من كل شخص كما قال في شرح الكنز: أنَّ للإنسان أن يجعلَ ثواب عمله لغيره، صلاةً كان أو صومًا، أو حجًّا، أو صدقة، أو قراءة قرآن، أو غيرَ ذلك، من جميع أنواع البِرِّ، ويصلُ ذلك إلى الميت، وينفعُه عند أهل السنة انتهى.
فقد أهمل العمومات، وخصَّصها بغير مخصِّص، فإنْ قال: إنه خصَّصَ ذلك بالقياس، ولا يخفى أن القياس في أكثر هذه المخصَّصات لا يصح، كقياس الأجنبي على القريب (12)، وغير الولد على الولد، وغير الدعاء على الدعاء، والمشهور من مذهب الشافعيّ، وجماعة من أصحابه أنّه لا يصل إلى الميت ثوابُ قراءة القرآن، وذهب أحمدُ بن حنبلٍ، وجماعةٌ من العلماء، وجماعةٌ من أصحاب الشافعي إلى أنه يصل. كذا ذكره النووي في الأذكار (13)، وفي شرح المنهاج لابن النحوي لا يصل إلى الميت عندنا ثوابُ القراءة على المشهور، والمختارُ الوصولُ إذا شاء إيصال ثواب قراءته، كذا قال علة
_________
(1) [الحشر: 10].
(2) "صحيح مسلم" رقم (104/ 975).
(3) كأحمد في "المسند" (5/ 353، 360) والنسائي (4/ 94 رقم 2040) وابن ماجه رقم (1547) والبغوي في "شرح السنة" رقم (1555) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه.
وهو حديث صحيح.
(4) في "المجموع" (5/ 294).
(5) انظر "المجموع" (5/ 109 - 110)
(6) أخرجه أحمد (3/ 330) والطيالسي رقم (1673) والبيهقي (6/ 75) والبزار رقم (1334) من حديث جابر بن عبد الله وسنده حسن.
(7) تقدم تخريجه.
(8) تقدم تخريجه.
(9) [النجم: 39].
(10) تقدم تخريجه.
(11) تقدم التعريف بها.
(12) تقدم ذكره.
(13) (ص278).(8/4149)
لجوازه عند الوصية.
وعندي أنّ الميت إذا أوصى بذلك لحق وإلاّ فلا، لأنه قد ورد الإذن بالاستئجار على تلاوة القرآن، كما ورد في الصحيح (1): "إن أحق ما أخذتُم عليه أجرًا كتاب الله"، وفي حديث (2) الذي رقى بالفاتحة، وأخذ قطيعًا من الغنم، وسوَّغ له ذلك النبيُّ ـ صلى
_________
(1) تقدم تخريجه مرارًا.
(2) تقدم تخريجه.
انظر: "فتح الباري" (4/ 70).
خلاصة:
اتفق أهل السنة أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين:
أحدهما: ما تسبَّب إليه الميت في حياته.
والثاني: دعاءُ المسلمين واستغفارهم له، والصدقة والحج على نزاع فيما يصل من ثواب الحج. فعن محمد بن الحسن أنه إنّما يصل إلى الميت ثواب النفقة والحجُّ للحاج، وعند عامة العلماء ثواب الحج للمحجوج عنه، وهو الصحيح.
واختلف في العبادات البدنية كالصوم، والصلاة، وقراءة القرآن، والذكر فذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف إلى وصولها، والمشهور من مذهب الشافعي. ومالك عدمُ وصولها.
وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام إلى عدم وصول شيء البتة، لا غيره. وقولهم مردود بالكتاب والسنة لكنهم استدلوا بالمتشابه من قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [يس: 54]. وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286].
وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده" ـ تقدم ـ.
فأخبر أنّه إنّما ينتفع بما كان تسبب فيه في الحياة، وما لم يكن تسبَّب فيه في الحياة فهو منقطع عنه. الدليل على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه:
الكتاب: قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10].
فأثنى عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم فدلَّ على انتفاعه باستغفار الأحياء.
وقد دل انتفاع الميت بالدعاء إجماع الأُمة على الدعاء في صلاة الجنازة والأدعية التي وردت بها النسة في صلاة الجنازة مستفيضة، وكذا الدعاء له بعد الدفن ـ من حديث عثمان قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، فقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت فإنّه الآن يُسأل" ـ أخرجه أبو داود رقم (3221) وكذلك الدعاء لهم عند زيارة القبور: وقد تقدم آنفًا.
وكذلك وصول ثواب الصدقة ـ تقدم ذكر الأحاديث خلال الرسالة.
وكذلك وصول ثواب الصوم. تقدمت أحاديثه.
وذلك وصول ثواب الحج. وقد تقدمت أحاديثه.
وكذلك أجمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمة الميت ولو كان من أجنبي ومن غير تركته. تقدم ذكر الحديث.
وكلّ ذلك جارٍ على قواعد الشرع وهو محضُ القياس، فإن الثواب حقٌّ العامل فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك تمام يمنع من هبة ماله له في حياته وإبرائه له من بعد وفاته.
وقد نبَّه الشارع بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب القراءة ونحوها من العبادات البدنية يوضحه: أن الصوم كف النفس عن المفطرات بالنية وقد نص الشارع عن وصول ثوابه إلى الميت فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية.
والجواب عمّا استدلوا به من قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] وقد أجاب العلماء بأجوبة أصحها جوابان:
1 - أن الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء وأولد الأولاد، ونكح الأزواج وأسدى الخير، وتودَّد إلى الناس، فترحموا عليه، ودعوا له وأهدوا له ثواب الطاعات، فكان ذلك أثر سعيه، بل دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كلٍّ من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم ...
2 - وهو أن القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى.
فأخبر سبحانه أنّه لا يملك إلا سعيه وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه فإن شاء أن يبذله لغيره وإن شاء أن يبقيه لنفسه.
وقوله سبحانه: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 38 - 39] آيتان محكمتان تقتضيان العدل الرباني.
1 - الأولى: تقتضي أنّه لا يُعاقِب أحدًا بجرم غيره، ولا يؤخذه بجريرة غيره كما يفعله ملوك الدنيا.
2 - الثانية: تقتضي أنّه لا يفلح إلا بعمله، ليقطع طعمه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب وهو سبحانه لم يقل: لا ينتفع إلا بما سعى.
وكذلك قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 286] وقوله تعالى: {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54] على أن سياق هذه الآية على أن المنفي عقوبة العبد بعمل غيره. فإنّه سبحانه قال: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54].
انظر: "شرحا لعقيدة الطحاوية" (2/ 664 - 671) لعلي بن أبي العز "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/ 306، 313، 324، 366)، "الروح" لابن القيم (ص 159 - 193).
وانظر: "البناية في شرح الهداية" (5/ 422 - 428). "المجموع" (5/ 293)، "فتح الباري" (4/ 69 - 70).(8/4151)
الله عليه وآله وسلم ـ، وهو حديث صحيحٌ.
ووجهُ الاستدلال بذلك أن النبيّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لما سوّغ الأجر على التلاوة أفاد ذلك أنه يلحقُ من سلَّم الأجر ثوابُ التلاوة، أوما هو مقصود بها.
وأما ما قيل من أن تلاوة القرآن دعاء، وأنه يلحقُ مطلقًا كما تقدم من الإجماع على لحوق الدعاء [3ب] فغير مسلم أنه دعاءٌ، بل هو تلاوةٌ للفظٍ مخصوص، فيه أحكام شرعية وقصص، ومواعظ وعبر، وزواجر، وترغيبات، وترهيبات؛ وليس ذلك من الدعاء كما لا يخفى.
وفي هذا كفايةٌ لمن له هدايةٌ. والله ولي التوفيق.
كتبه المجيب محمد الشوكاني غفر الله له.(8/4153)
(134) 26/ 2
بدر شعبان (1) الطالع في سماء العرفان
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
_________
(1) على صورة الغلاف ما نصه: وجه هذه التسمية أن هذه الرسالة جواب مذاكرة من بعض علماء العصر في شأن رجل يقال له شعبان ملّك بعض أولاده حانوتًا. ا. هـ(8/4155)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بدر شعبان الطالع في سماء العرفان.
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم. أحمدُك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك، وأصلي وأسلم على رسول وآل رسولك.
وبعد ... فهذا بحثٌ تمسُّ الحاجةُ إليه، ويكثر اللَّبس فيه لا سيما على المتصدرين للقضاء
4 - آخر الرسالة: وفي هذا المقدار كفايةٌ لمن له هدايةٌ، والله وليُّ التوفيق.
حرر في الثلث الأوسط من ليلة الخميس لعلَّه يوم عشرين من شهر صفر سنة 1216 بقلم جامعه غفر الله له.
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 15 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 19 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 8 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/4157)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدُك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولكَ.
وبعدُ:
فهذا بحثٌ تمسُّ الحاجةُ إليه، ويكثرُ اللَّبْسُ فيه، لا سيَّما على المتصدِّرين للقضاء والفُتْيَا فيما يفعلُه الإنسان لبعض أولاده من هبةٍ، أو تمليكٍ، أو نَذْرٍ في حال صحته، وجوازِ تصرُّفه، ويظهرُ الانسلاخُ عنه، والتنفيذُ له، فهذا قد يعتقد كثيرٌ من الناس أنه نافذٌ لا يتطرَّق إلى اختلافله متطرِّقٌ، ولا يطرقُهُ من الموانع طارقٌ، بل ربَّما يعتقدُ الغالبُ منا لناس أنَّ هذا متفقٌ عليه بين أهل العلم، وأنَّ القائل بخلافه خارجٌ عن القوانين الشرعية، والرسوم المرضية.
وأقولُ: قد ثبت عن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ من طرق يصعبُ حصرُها، حتى صارَ أصلُ هذا الحديث متواترًا تواتُرًا معنويًّا (1) مُتَلَقَّى بالقبول عند جميع طوائف الإسلام أنَّ امرأة بشيرٍ قالتْ لزوجها: انحلْ ابني غلامًا وأشهدْ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، فأتى النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فقال: إن ابنةَ فلان سألتني أن أنْحَلَ ابنَها غلامي، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "له إخوةٌ؟ " قال: نعم. قال: "فكلُّهم أعطيت مثلَ ما أعطيتَه؟ " قال: لا. قال: "فليس يصحُّ هذا"، أو "إني لا أشهدُ إلاَّ على حقّ" ............................
_________
(1) المتواتر المعنوي: هو ما اختلف في لفظه ومعناه مع رجوعه لمعنى كليِّ. وذلك بأن يخبروا عن وقائع مختلفة تشترك كلها في أمر واحد فالأمر المشترك المتفق عليه بين الكل هو المتواتر فنمه أحاديث رفع اليدين في الدعاء، فقد روي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو مئة حديث في رفع يديه في الدعاء لكنها في قضايا مختلفة، فكل قضية منها لم تتواتر، والقدر المشترك فيها وهو الرفع عند الدعاء تواتر باعتبار المجموع.
انظر: "المسودة" (ص233).(8/4161)
وهذا اللفظ في الصحيح (1).
وفي رواية أنّه قال: "لا تُشْهِدْني على جَوْرٍ"؛ إن [1أ] لِبَنِيكَ من الحقِّ أن تعدلَ بينهَم".
وفي لفظ متفقٍ عليه (2) عن النعمان بن بشير أن أباه أتى به رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فقال: إني نحلتُ ابني هذا غلامًا كان لي". فقال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "أَكُلَّ ولدِك نحلتَ مثلَ هذا؟ " فقال: لا، فقال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "فارجعه".
وفي رواية عن النعمان بن بشير قال: تصدَّقَ عليّ أبي ببعض مالِه، فقالت أمي عَمْرَةُ بنتُ رواحةَ: لا أرضى حتى تُشْهِدَ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، فانطلق بي إليه يُشْهِدُهُ على صَدَقتي، فقال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "أفعلت هذا بولدِك كلِّهم؟ " فقال: لا، فقال: "اتقوا الله واعدِلُوا في أولادكم"، فرجع أبي في تلك الصدقة. وهذا اللفظ أيضًا في الصحيح (3)
وفي لفظٍ العطيةُ مكان الصدقةِ.
وفي لفظ (4): "اعدِلوا بين أولادِكم، اعدِلوا بين أولادِكم".
ولهذا الحديث ألفاظٌ كثيرٌ، وطرقٌ متعددةٌ في دواوين الإسلام وغيرِها.
وقد أوردها أئمتُنا ـ عليهم السلام ـ في كتبهم الحديثيةِ والفقهية، قال الإمام أحمد بن
_________
(1) أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (19/ 1624).
(2) أخرجه البخاري رقم (2586) ومسلم رقم (1623).
قلت: وأخرجه أحمد (4/ 268) وأبو داود رقم (3542) والترمذي رقم (1367) والنسائي رقم (258، 259) وابن ماجه رقم (2375) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 85، 86) وابن حبان في صحيحه رقم (5098، 5099)، والبيهقي (6/ 176، 177).
(3) أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (13/ 1623).
(4) أخرجه أبو داود رقم (3544) والنسائي رقم (3717).(8/4162)
سليمان (1) في أصول الأحكام (2) ما لفظُهُ: خبرٌ: وعن النعمان بن بشير أن أباه نَحَلَهُ غلامًا، فانطلق به إلى رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، فقال: "أكلَّ ولدك نحلتَه؟ " قال: لا، فامتنع.
وقال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في بعض الأخبار: "ارتجعْهُ (3)، وفي بعضها (4): "أشهِدْ عليه [1ب] غيري"، وفي بعضها (5): "إني لا أشهد إلاَّ على حقّ".
قال الإمام أحمد بن سليمان ـ بعد ذكره هذه الألفاظَ ـ دلَّ على أنه لا يجوز إلاَّ التسويةُ بين الأولاد، ثم ذكر التخصيصَ بالبرِّ، وهو عندي تخصيصٌ بغير مخصِّص،
_________
(1) هو الإمام أحمد بن سليمان بن محمد الحسني، اليمني، ينتهي نسبه إلى الإمام الهادي ولد سنة 500هـ.
من مؤلفاته:-
- أصول الأحكام في الحلال والحرام.
- حقائق المعرفة.
- الحكمة الدُّرية والدلالة النورية.
توفي سنة 566هـ.
"أعلام المؤلفين الزيدية" (ص114 رقم 85).
(2) وهو أصول الأحكام في الحلال والحرام.
فيه ما يزيد على ثلاثة آلاف وثلاثمائة حديث في الحلال والحرام من الأحكام الفقهية، وهو مقسم على الكتب مبدوءًا بكتاب الطهارة الأخبار محذوفة الأسانيد ...
(3) عند مسلم في "صحيحه" رقم (9/ 1623).
(4) أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (17/ 1623).
قلت: وأخرجه أحمد (4/ 269، 270) وأبو داود في "السنن" رقم (3542).
وهو حديث صحيح.
(5) أخرجه مسلم رقم (19/ 1624)، وأبو داود رقم (3545).
وهو حديث صحيح.(8/4163)
وذلك لأنَّ الأمر بالتسوية عامٌّ فلا يجوز تخصيصُه إلاَّ بمخصِّص، ولم يرِدْ ما يدلُّ على جواز تخصيصِ البارِّ بشيء دون غيرِه، وكيف يسوغُ ذلك وهذا التخصيصُ هو سبب العقوق! وقد أشار إلى ذلك رسولُ الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ حيث قال في سياق أمرِه اللبشير بالتسوية: "إن أحببتَ أن يكونوا لك في البِرِّ سواء" (1)، فأرشَد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ إلى أن عدمَ التسوية تسبَّبُ العقوق والقطيعة.
ثم أورد الإمام أحمدُ بن سليمان هذا الحديثَ بلفظ آخَرَ من حديث ابن عباس فقال: (خبرٌ): وعن ابن عباس قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "سَوُّوا بين أولادكم في العطيَّة، فلو كنتُ مفضِّلاً فضَّلْتُ البناتِ" (2). قال الإمام أحمد بن سليمان ـ بعدهذا السياق ـ ما لفظُهُ: دل على ما قلناه، ولا خلاف في هذا بين العلماء، وإنما اختلفُوا في كيفية التسوية، فذهب أبو يوسُفَ إلى أنه يساوي بين الأنثى والذكر في العطية، وقال محمد: يجب أن يسوَّى بينهم على حسبِ المواريث: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (3)، ولا نصَّ ليحيى في هذ الاَّ أن مسائلَة تدل على أن التسوية بحسب المواريث ما ذهب إليه محمدٌ، ووجهه أنه لو ماتَ ولم يُعط لاستحقُّوا المالَ على هذا السبيل انتهى.
فانظر كيف حكى إجماعَ العلماء على ما دلّ عليه [2أ] الحديثُ من التسوية، ثم
_________
(1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 177) ومن طريقة الطبراني في "الكبير" (11/ 354 رقم 11997).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 153) وقال: وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث قال عبد الملك بن شعيب ثقة مأمون ورفع من شأنه وضعفه أحمد وغيره.
وقال الحافظ في "الفتح" (5/ 214) إسناده حسن.
وضعفه في التلخيص (3/ 73). وكذلك المحدث الألباني في الإرواء (6/ 67).
(3) [النساء: 11].(8/4164)
أعاد الإمام أحمد بن سليمانَ هذا الحديثَ بلفظ آخرَ فقال: خبرٌ: وعن جابر قال: قالتِ امرأةُ بشير لبشير: انحلِ ابني غلامَك، وأشْهِدْ لي رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، فأتى النبيّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وحكى قولَ زوجتِه فقال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "له إخوةٌ"؟ قال: نعم، قال: "فكلُّهم أعطيتَه؟ " قال: لا، قال: "فإن هذا لا يصلُح، وإني لا أشهدُ إلاَّ على حقّ" (1)، وفي بعض الأخبار: "لا أشهدُ على جَوْرٍ" (2)، وفي بعض الأخبارِ قال: "أيسرُّك أن يكونوا في البِرِّ لك سواءٌ؟ " (3).
ثم ذكر الإمام أحمد بن سليمانَ مَنْ قال: بأن التسويةَ ليست بواجبةٍ، بل مندوبةٍ، ومَنْ قال أنها واجبةٌ، وأنَّ مَنْ لم يسوِّ بين أولاده كان ما فعلَهُ باطلاً، ثم قال: ولم يُخْتَلَفْ في الخبر، وإنما اختُلِفَ في تفسيره. فقال قومٌ: هو على وجه الكراهةِ، وقال قوم ببطلانِ الزيادة على ما تقدم. انتهى.
وقد ذكر الأمير الحسينُ في الشِّفاء (4) هذه الروايات التي ذكرها الإمام أحمد بن سليمان، ثم قال الأمير في آخر البحث: دلَّ ذلك على وجوب المساواة والعدل، لأنه أورده مورِدَ الأمرِ، والأمرُ يقتضي الوجوبَ، ثم ذكر بعد ذلك كيفية التسوية هل على حسب الميراث أم على الرؤوس؟ وذكر مذهب الإمام الهادي كما ذكره الإمام أحمد بن سليمان في ذلك، وهكذا سائر أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ أوردُوا هذا الحديثَ في مصنَّفاتهم الشريفة، وتكلَّموا في ذلك [2ب] بما يشفي ويكفي، ومن أحبَّ الاستقصاءَ راجعَها، وإنما ذكرنا ما ذكره هذان الإمامان لأنَّ كتابَيْهِما هما العُمْدَةُ لأهل المذهب
_________
(1) أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (19/ 1624).
(2) أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (14، 15/ 1623).
(3) تقدم تخريجه.
(4) (3/ 59 - 62).(8/4165)
الشريف في الحديث، في هذه الديار، وهذه الأعصارِ، ولِيَعْلَمَ الواقفُ على هذا البحث أن الحديث متفقٌ عليه بين طوائف المسلمين، وأنه لم يُخْتَلَفْ فيه وإنما اختُلفَ في تفسيره كما قاله الإمام أحمد بنُ سليمان في كلامه السابق، وقاله غيرُهُ، وحينئذٍ فالواجبُ على العالم الذي يعلمُ أنه مسئولٌ عمَّا يقول أن يجعل هذه الحُجَّة الثابتة عن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ باتفاق المسلمين نُصْبَ عينيهِ في قضائه وإفتائه وعملِه في خُوَيْصة نفسه، ثم ينظر في تفسيرها على الوجه المطابق للُغَةِ العربِ، ولقواعد الأصولِ، حتى يترجَّح له أحدُ القولينِ، فإنَّ العلماء أجمعَ أكتعَ لم يقل أحدٌ منهم بأن تركَ التسويةِ جائزٌ من غير كراهةٍ، بل قالت طائفة منهم بالتحريم (1)، وأن من أعطى أحدَ أولاده عطيَّةً دونَ الآخرين فهي باطلةٌ مردودةٌ (2)، من غير فرق بين أن يكون الذي أعطاهُ بارًّا أو غير بارٍّ، وقالت طائفة أخرى: إن ترك التسوية حرامٌ إلاَّ أن يكون الذي وقع له التخصيصُ بالعطيَّةِ بارًّا، أو عاجزًا، .....................................
_________
(1) قال ابن قدامة في "المغني" (8/ 257) بعد ذكر حديث النعمان وهو دليلٌ على التحريم لأنَّه سمَّاه جَورًا، وأمر بردِّه، وامتنع من الشهادة عليه، والجور حرام والأمرُ يقتضي الوجوب، ولأنَّ تفضيل بعضهم يورث بينهم العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم، فمنع منه. كتوازج المراة على عمتها أو خالتها.
قال القرطبي في "المفهم" (4/ 586): أنَّه لا يجوز أنْ يخصَّ بعض ولد بعطاءٍ ابتداءً، وهل ذلك على جهة التحريم، أو الكراهة؟ قولان لأهل العلم. وإلى التحريم ذهب طاووس، ومجاهد، والثوريّ وأحمد وإسحاق وأنّ ذلك يُفسخ إن وقع.
وذهب الجمهور: مالك في المشهور عنه والشافعيُّ وأبو حنيفة وغيرهم: إلى أنَّ ذلك لا يُفسخ إذا وقع.
وقد حكى ابن المنذر عن مالك وغيره جواز ذلك ولو إعطاه ماله كله.
(2) قال ابن قدامة في "المغني" (8/ 256) وجملة ذلك أنَّه يجب على الإنسان التَّسوية بين أولاده في العطية، إذا لم يختصّ أحدهم بمعنى يبيح التفضيل. فإن خصّ بعضهم بعطيّته، أو فاضل بينهم فيها أثم، ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين، إمّا ردُّ ما فضلّ به البعض، وإمّا نصيب الآخر.
قال طاووس: لا يجوز ذلك، ولا رغيفٌ محترقٌ وبه قال ابن المبارك.(8/4166)
أو أنثى (1).
وقالت طائفةٌ: إنَّ تركَ التسويةِ مكروهٌ [3أ] فقط (2).
وها نحن نوضِّح لك ما هو الحقَّ الذي يرضاه كلُّ واقف عليه من أهل العلم فنقول:
اعلم أن الراويات السابقة التي سُقناها قدِ اشتملتْ على ألفاظٍ إذا نظرتَ في معانيها ظهرَ لك الحقُّ ظهورًا بيِّنًا.
فمن ذلك قولُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث الأول: "فليس يَصِحُّ هذا"؛ فإن هذا فيه التصريحُ منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بنفي الصِّحَّة الشرعية، وما لم يصحّ فليس من هذه الشريعة، بل هو باطل ردٌّ على صاحبه. وقد تقرر في الأصول أنَّ الصِّحَّة هي ترتُّبُ الآثار (3) وإذا انتفت الصِّحَّةُ انتفت الآثارُ، والآثارُ في مثل تمليك الابن لذلك الغلامِ هي أن ينتفعَ به من صار في ملكِه بالبيع والاستخدام ويغر ذلك من الآثار، فلما قال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "ليس يصحُّ هذا" فكأنه قال: هذا لا تترتَّبُ عليه الآثارُ، فلا ينتفعُ به مَن صار إليه بأي وجهٍ، وإذا انتفتِ الآثار انتفى المُلْكُ، فكان الغلامُ باقيًا على ملك مالكه، وهو الأبُ.
وهذا تحريرٌ لا ينكره مَنْ يعرِفُ عِلْمَ الأصولِ، وأصولُ أئمَّتنا مصرِّحةٌ بهذا، ومن أنكر ذلك فعليه بغايةِ السُول (4) وشرحِها، والمعيارِ وشروحِه. وإذا تقرر هذا فقوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "فليس يصحُّ هذا" قد أفاد بطلانَ ذلك التمليكِ إفادةً
_________
(1) انظر "فتح الباري" (5/ 214 - 215)، "المغني" (8/ 258).
(2) انظر "فتح الباري" (5/ 214 - 215)، "المغني" (8/ 258).
(3) قال صاحب "الكوب المنير" (1/ 468): فبصحة عقد يترتب أثره من التمكن من التصرف فيها هو له. كالبيع إذا صحَّ العقد ترتب أثره من ملكٍ، وجواز التصرف فيه من هبةٍ ووقفٍ وأكل ولبسٍ وانتفاع وغيره ذلك، وكذا إذا صحَّ عقدُ النكاح والإجارة والوقف وغيرها من العقود، ترتب عليها أثرها مما أباحه الشرع له به فينشأ ذلك عن العقد.
وانظر: "تيسير التحرير" (2/ 238)، "نهاية السول" (1/ 199).
(4) (1/ 199).(8/4167)
واضحةً لا تخفى.
ومن ذلك قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث السابق [3ب]: "إني لا أشهدُ إلاَّ على حقّ" فمعناه: أن هذا غيرُ حقّ، يعني تلك النِّحلَة، ولو كانت حقًّا لشهدَ عليها، وما كان غيرَ حقّ فهو باطلٌ، فتلك النِّحلة باطلةٌ، وما أظنُّه يلتبسُ على من له أدنى فَهْمٍ أن مرادَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بهذا الحصرِ التعريضُ ببطلانِ تلك النِّحلةِ، وهذا هو الدليلُ الثاني على أن تخصيصَ بعض الأولاد في حال الصحة بشيء باطلٌ غيرُ موافقٍ للشريعةِ المطهَّرة.
ومن ذلك قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث السابق: "لا تُشْهِدْني على جَوْرٍ"؛ فإنَّه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ صرَّح بأن ما فعله بشيرٌ من تخصيص ولدِهِ النعمان في حال صحته جَوْرٌ، والجورُ باطلٌ بنصوصِ الشريعة الكلية والجزئية، وهذا دليلٌ ثالثٌ على البُطلان.
ومن ذلك قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث السابق: "إن لبنيكَ عليك من الحقّ أن تعدِل بينَهم" فجعل ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ العدلَ بين الأولاد حقًّا لهم على أبيهم، وإذا كان ذلك حقًّا فهو واجبٌ عليه، وإذا وقعَ منه خلافُ ذلك كان الواجبُ علينا إيصال أولادِه بمالِهم من الحقِّ عليه أبيهم، وإبطالَ ما فعلَه مخالِفًا للحق الذي صرَّح به الصادقُ المصدوقُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ. وهذا دليلٌ رابعٌ على البطلان.
ومن ذلك قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث السابق: "فأرجعْهُ" فهذا أمرٌ منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لبشير بإرجاع ما قد كان نَحَلَه ولدَهُ [4أ]، ولا شك أن الأمرَ بالإرجاع يدلُّ على أن ما فعله غيرُ صحيحٍ، ولو كان صحيحًا لما أمره بإرجاعه، وهذا دليلٌ (1) قاهرٌ لا يحتاج إلى تقريرٍ، بل قد أرشدنا الشارع ـ صلى الله عليه
_________
(1) انظر "فتح الباري" (5/ 211 - 212)(8/4168)
وآله وسلم ـ أن يقول لكلِّ مَنْ فعل هذا الفعل: "أرجِعْهُ" فإن كان متمكِّنًا من الإرجاع وجب عليه الامتثالُ، فإن لم يفعلْ أكرهْنَاه على ذلك، وإن كان قد مات أرجعناه وأبطلناه، وهذا دليلٌ خامسٌ على البطلان (1).
ومن ذلك قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث السابق: "اتقوا الله واعدُلوا بين أولادكم" فانظر كيف قدَّم الأمرَ بتقوى الله، ثم عطفَ على ذلك الأمر بالعدل، فظاهره أنَّ مَنْ لم يعدِل بين أولادِه لم يتق الله، وقد أفاد الأمرُ، وهو قوله: "واعدُلوا بين أولادكم" (2) الوجوبَ، لأنَّه المعنى الحقيقيّ، وأفاد جَعْلَهُ مقترِنًا بالتقوى زيادةَ التأكيد، ومن فعلَ فِعلاً يخالفُ به أمر رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، ويخرج به عن التقوى فقد جاء بما يخالِفُ الشريعة المطهرة، ويُضادُّها. وقد قال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "كل أمرٍ ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ" (3) وهذا أمرٌ ليس عليه أمرُ رسول الله، فهو ردٌّ على صاحبه، وذلك معنى البطلان، وهذا دليل سادسٌ على البطلان.
ومن ذلك قولُ النعمان في الحديث السابق: "فرجعَ [4ب] أبي في تلك الصدقة" فإن هذا يدلُّ على أنه امتثل ما فهمه من رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ من عدم جوازِ ذلك، وهو صاحب القصةِ، وعربيُّ اللسان والفهم، فهو أولى مِنْ فَهْمِ مَنْ فَهِمَ
_________
(1) قال الحافظ في "الفتح" (5/ 214): "أن قوله "أرجعه" دليل على الصحة، ولو لم تصح الهبة لم يصح الرجوع، وإنما أمره بالرجوع لأن للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده وغن كان الأفضل خلاف ذلك، لكن استحباب التسوية رجح على ذلك فلذلك أمره به.
قال الحافظ ابن حجر ردًا على ذلك: وفي الاحتجاج بذلك نظرًا والذي يظهر أن معنى قوله "أرجعه" أي لا تمض الهبة المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة.
(2) تقدم تخريجه".
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2697) ومسلم رقم (18/ 1718) وأبو داود رقم (4606) وابن ماجه رقم (14).(8/4169)
غيرَ ذلك، وهذا دليل سابع على البطلان.
ومن ذلك قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث السابق: "اعدُلوا بين أولادكم، اعدُلوا بين أولادكم" (1)؛ فإنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ كرَّر هذه الصيغة المتضمنَة للأمر، وهذا التكرارُ يفيدُ التأكيدَ، وقد تقرر في الأصول أن الأمر الصيغة المتضمنة للأمر، وهذا التكرار يفيد التأكيد، وقد تقرر في الأصول أن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه (2)، والنَّهيُ عن الشيء يستلزمُ الفساد المرادف للبطلان (3)، وكل هذا معروف في الأصول، وهذا هو الدليل الثامن على البطلان.
ومن ذلك قولُه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "أَشْهِد عليه غيري" (4) فلا يخفى ما في هذه الصيغة من التهديد المشعِرِ بأن هذا الأمر ليس مما يسوغ عنده ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، ولهذا قال محمد بن منصور المراديُّ حافظُ آل محمد في الجامع: أنه ليس المرادُ من قوله: "أشهدْ عليه غيري" الأمرَ له بالشهادة، وإنما هو أمرُ تهديد على سبيل الإنكار، نحو قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (5) انتهى. فعرفتَ أن هذا اللفظ دليلٌ على بطلان ذلك، وهذا هو الدليل [أ5] التاسعُ على البطلان.
ومن ذلك قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث السابق: "ساووا بين
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) انظر الرسالة رقم (66).
(3) تقدم ذكره.
وانظر: "الكوكب المنير" (1/ 474).
(4) قال الحافظ في "الفتح" (5/ 215): ردًّا على ـ من قال: أنقوله: "أشهد على ذلك غيري" إذن بالإشهاد على ذلك ـ فليس كذلك بل هو للتوضيح لما يدل عليه بقية ألفاظ الحديث وبذلك صرح الجمهور في هذا الموضع. وقال ابن حبان: قوله: "أشهِد" صيغة أمر المراد به نفي الجواز وهو كقوله لعائشة: "اشترطي لهم الولاء".
(5) [فصلت: 40].
انظر: "إرشاد الفحول" (ص348).(8/4170)
أولادكم في العطية" (1)؛ فإنه أمرٌ، والأمر قد تقدم معناه الحقيقيُّ، وهذا دليل عاشرٌ على البطلان.
ومن ذلك قولُه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث السابق: "فإنّ هذا لا يصلُحُ" فلا يخفى أن هذا نفيٌ للصلاحيةِ الشرعيةِ، وما ليس بصالحٍ شرعًا فهو باطلٌ، وهذا الدليل الحادي عشرَ على البطلان.
ومن ذلك قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "أيسرُّك أن يكون في البِرّ لك سواءٌ" (2)؛ فإن هذا إرشادٌ منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ إلى التفضيلَ بين الأولاد سببٌ للعقوق، والعقوقُ من أكبر الكبائر (3)، فما كان سببًا له من أبطل الباطلاتِ، وأحرِم المحرِّماتِ، وهذا الدليل الثاني عَشَرَ على البطلان.
فهذه اثنا عشر دليلاً مأخوذةٌ من قول رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في هذا الحديث الذي اتفق على أصله جميعُ المسلمين، ولم يقدحْ فيه قادحٌ، ولا تكلَّم عليه متكلّمٌ، ولا زاعمٌ بأنه منسوخٌ، بل اتفقوا كلهم على وجوب العمل به، وإنما اختلفوا في تفسيره، وها نحن قد شرحناه [5ب] شرحًا ما أظن أحدًا من أهل الإنصاف العارفينَ بكيفية الاستدلال، المطّلعين على العربية والأصول يخالف في ذلك، بل ما أظن أحدًا ممن هو قاصرٌ عن هذه الرتبة يلتبسُ عليه صحةُ ما ذكرناه، وجَرْيُهُ على قانون الإنصاف وتَنكُّبُهُ عن مسالك الاعتساف، وكل واحد من هذه الأدلة يدلُّك على أن تخصيص الرجل لبعض أولاده دون بعض بشيء من مالِه باطلٌ يجبُ على من وقَفَ عليه تغييرُهُ وردُّه
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) انظر "فتح الباري" (5/ 215): حيث قال: وفي الحديث أيضًا الندب إلى التأليف بين الأخوة، وترك ما يوقع بينهم الشحناء أو يورث العقوق للآباء.(8/4171)
إلى الشريعة المطهَّرة، وهذا إنما فيمن فعلَ ذلك صحيحًا من غير فرقٍ بين أوائل عُمْرِهِ، أو أوسَطِهِ، أو آخرِه، فإن بشيرًا الذي هو سبب الحديث المذكور جاء بولده إلى رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يحملُه على ظهره كما ورد في بعض الروايات، وإذا لم يكن في هذه الحالة ـ في حال الصحة ـ، فلا أدري ما هي الصحة، ولا فرق بين ما كان قاصدًا للتوليج والضِّرار، وبين من لم يكن قاصدًا لذلك، فإن من ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنَزَّلُ منزلَة العموم في المقال كما تقرر [6أ] في الأصول (1)، ولم يثبت أن النبيّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال له: هل قصدت الضِّرار؟ هل أردت التوليج؟ بل أرشدَه إلى ما أرشد، وخوَّفه وحذَّره وهدَّده، وسمَّى ذلك جورًا تارةً، وغير حقٍّ أخرى وغير صحيح تارةً، وغير صالح أخرى، وأمرَه بالارتجاع تارةً، وبالردّ أخرى، فهذا حكمٌ شرعيٌّ شرعه لنا من شرَعَ لنا الصلاةَ والزكاةَ، وجاءنا به مَنْ جاءنا بأركان الإسلام، ومن زعم أنه مخصِّصٌ بشيء من المخصِّصات، أو مقيَّدٌ بشيء من القيود فهذا مقام الإفادة والاستفادة، ومن زعم أن له رخصةً عن العمل بالأدلة الأثنى عشر التي أسلفناها فالرخصة له في ترك سائر الأحكام الشرعية أظهرُ، فإن غالبَ المسائل ثبتت بقياس (2) متنازع فيه، أو استصحاب (3) أو ..............................
_________
(1) انظر "إرشاد الفحول" (ص452)، "المحصول" (2/ 386 - 387).
(2) تقدم تعريفه.
(3) الاستصحاب لغة: استفعال من الصحبة وهي الملازمة.
قال في "المصباح المنير" (ص127): "وكل شيء لازم شيئًا فقد استصحبه واستصحب الكتاب وغيره. حملته صحبني. ومن هنا قيل: استصحب الحال إذا تمسكت بما كان ثابتًا، كأنك جعلت تلك الحالة مصاحبة غير مفارقة.
الاستصحاب اصطلاحًا:
قال العضد: الاستصحاب: أن الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه وكل ما هو كذلك فهو مظنون البقاء. "شرح العضد لمختصر" ابن الحاجب
(2/ 284). وقال الغزالي في " المستصفى" (2/ 410): الاستصحاب عبارة عن التمسك بدليل عقلي أو شرعي وليس راجعًا إلى عدم العلم بالدليل، بل إلى دليل مع العلم بانتفاء المغير ـ أو مع ظن انتفاء المغير ـ عند بذل الجهد في البحث والطلب.
-واختلفوا هل هو حجةً عند عدم الدليل على أقوال:
الأول: أنه حجة وبه قالت الحنابلةُ والمالكية وأكثر الشافعية والظاهرية سواء كان في النفي أو الإثبات.
الثاني: أنّه ليس بحجة وإليه ذهب أكثر الحنفية والمتكلمين كأبي الحسن البصري.
والاستصحاب عند الأصوليين أنواع انظرها في "إرشاد الفحول" (ص773)، "الكوكب المنير" (4/ 403).(8/4172)
اجتهاد (1)، والقليلُ منها ثبتَ بمثل دليلٍ واحد من هذه الأدلة الاثنى عشر أو دونَه بمراحل في الصحة، فعلى من كان مجتهدًا أو متمكنًا من الترجيح والموازنة بين الأدلة أن يُمْعِنَ النَّظر فيما حرَّرناه، ويتقيَّدُ به إن رآه راجحًا [6ب]، وما أظنه بعد إمعان النظر يعدلُ عنه إلى غيره، فإن ما أورده القائلون بمجرد الكراهة من دون تحريم لا ينتهض شيء منه لمعارضة دليل من هذه الأدلة، فضلاً عن أن يكون مساويًا، فضلاً عن أن يكون راجحًا. وقد بسطتُ ما قالوه في شرحي للمنتقى (2) في كلام طويل، وكل ذلك مجردُ تأويلٍ (3) لم يلجئ إليه ملجئ، ولا دعت إليه ضرورةٌ، ولا سوَّغته حاجةٌ كقولهم: إن الموهوبَ للنعمان كان جميعَ مالِ بشير، وهذا تأويل فاسدٌ يرُدُّه التصريحُ في الحديث بأنه غلامٌ، وفي لفظ آخر: تصدَّقَ عليَّ أبي ببعض ماله، كما في صحيح .......................................
_________
(1) انظر الرسالة رقم (61).
(2) ك وهو نيل الأوطار (4/ 19).
(3) قال القرطبي في "المفهم" (4/ 588): ومن أبعد تأويلات ذلك الحديث قول من قال: إنَّ النهي فيه إنّما يتناول من وهب ماله كّله لبعض ولده، وكأنّه لم يسمع في الحديث نفسه: إنّ الموهوب كان غلامًا فقط، وإنّما وهبه له لما سألته أمُّه بعض الموهبة من ماله. وهذا يعلم منه على القطع: أنّه كان له مالٌ غيره.(8/4173)
مسلم (1)، وكقولهم: إن قولَه: "أشهِدْ على هذا غيري"، أذنَ به بالإشهاد (2)، وهذا فاسدٌ، فإنه كما تقدم تهديدٌ بدليل قوله: "لا أشهدُ على جَوْرٍ"، وقوله: "إني لا أشهدُ إلاَّ على حقّ"، وكذلك سائر ما ذكروه مما هو أضعفُ من هذا (3)، وقد أوضحت فسادَ ذلك جميعَه في الشرح المذكور.
نعم استدلّ بعضُ العلماء على الجواز مع الكراهة للبارّ بقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (4) وهذا استدلالٌ لا يقعُ مثلُه لمتيقِّظٍ، فإنه عارضَ الدليل [7أ] الخاصّ، وهو التسويةُ بين الأولاد بالدليل العام، ولم يقنع بذلك حتى رجَّحه عليه، وقدِ اتَّفق أهلُ الأصول أجمعُ أكتعُ أنه يُبنى العامّ على الخاص، فهذا الاستدلال مخالفٌ لإجماع أئمتنا وسائر المسلمين أجمعين.
واستدل بعضُهم على جواز نِحْلَةِ البارّ مع كراهةٍ بما روي من نِحْلَةِ بعضِ الصحابة لبعض أولادهم دون بعض (5)، وهذا أيضًا مدفوعٌ من وجوه:
_________
(1) رقم (13/ 1623).
(2) قال القرطبي في "المفهم" (4/ 587) ليس إذنًا في الشهادة وإنّما هو زجرٌ عنها، لأنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سمّاه جورًا وامتنع الشهادة فيه، فلا يمكن أن يشهد أحدٌ من المسلمين في ذلك بوجه.
وانظر: "المغني" (8/ 257).
(3) انظر "فتح الباري" (5/ 214 - 215).
(4) [الرحمن: 60].
(5) قال الحافظ في "الفتح" (5/ 215): " ... عمل الخليفتين أبي بكر وعمر بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عدم التسوية قرينة ظاهرة في أن الأمر للندب".
- أما أبو بكر فرواه مالك في "الموطأ" بإسناد صحيح عن عائشة أن أبا بكر قال لها في مرض موته، "إني كنت نحلتك فلو كنت اخترتيه لكان لك، وإنما هو اليوم للوارث".
- وأما عمر فذكر الطحاوي وغيره أنَّه نحل ابنه عاصم دون سائر ولده قال ابن حجر: "وقد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن إخوتها كانوا راضين بذلك ويجاب بمثلها عن قصة عمر".
أخرج الأثرين البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 178).
وانظر: "الحاوي الكبير" (6/ 412) و"المغني" (8/ 259).(8/4174)
الأول: المنعُ من كونهم فعلُوا ذلك، فما الدليل على أنهم فعلوه؟ ومَنِ الذي فعله منهم؟ فإنّه يبعد كلّ البعد أن يخالفوا ما تواتر عن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ.
الثاني: أنه لا بدّ أن يأتي المدّعي بالبرهان على ذلك، ويعيِّنَ فاعلَه، وأنه فعله من دون رضى سائر أولاده.
الثالث: أنه على فرض وقوع ذلكمن واحد منهم، أو جماعة، فليسوا بحجة على الأمة، إنما الحجةُ قول رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وما جاء به عن الله، وكيف يُعارض بأفعالهم قول رسول الله الثابت عنه ثبوتًا متفقًا عليه! وأيّ قائل من أهل العلم قد قال بهذا! أو سبق إليه! فإنه خلافُ إجماع أهل البيت، وسائر المسلمين.
ثم هذه المسألة [7ب] قد قدمنا الإشارة إلى ما فيها من الخلاف بين أهل العلم، ذكرنا ما ذكره الإمامُ أحمدُ بن سليمان من اتفاق العلماء على ثبوت الحديث، وعلى دلالته على المنع، وتصريحه بأنّ الخلاف إنما هو في مجرّد التفسير والتأويل، وإذا كان الأمر كذلك فمَنْ أحقّ بالنجاة، وأولى بالحقّ هل العاملُ باثني عشر دليلاً ثابتةً عن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ والمتقدي بجمهور أهل البيت ـ سلام الله عليهم ـ وسائر علماء المسلمين ـ رحمهم الله ـ، أم العاملُ بمجرد الخيالات من التأويلات والتعسُّفات من التفسيرات! مع شذوذ القائلِ بمقاله؟ ولعمري إن هذه موازنةٌ لا تلتبسُ على مَنْ لم يعرفِ العِلْمَ، فكيف بمن عرفَه!.
بعد الفراغ من هذا خطر دليلٌ ثالثَ عشرَ وهو قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "لو كنت مفضِّلاً أحدًا لفضَّلْتُ البنات" كما سبق نقلُ ذلك، فإن لو حرف امتناع، فمعنى ذلك: لكني لا أفضِّلُ أحدًا، فلا أفضِّلُ البناتِ، وهذا يفيدُ نفيَ التفضيلِ، ويدلُّ(8/4175)
على بطلانه من الأصل (1).
وفي هذا المقدار كفايةٌ لمن له هدايةٌ، والله وليُّ التوفيق.
حرر في الثلث الأوسط من ليلة الخميس، لعله يوم عشرين من شهر صفر سنة 1216 بقلم جامعه ـ غفر الله له ـ.
_________
(1) قال الحافظ في "الفتح" (5/ 215 - 216) وفي الحديث:
1 - الندب إلى التأليف بين الأخوة وترك ما يوقع بينهم الشحناء أو يورث العقوق للآباء.
2 - أن عطية الأب لابنه الصغير في حجره لا تحتاج إلى قبض، وأن الإشهاد فيها يغني عنا لقبض وقد قيل إن كانت الهبة ذهبًا أو فضة فلا بد من عزلها وإفرازها.
3 - فيه كراهة تحمل الشهادة فيما ليس بمباح وأن الإشهاد في الهبة مشروع وليس واجب.
4 - وفيه جواز الميل إلى بعض الأولاد والزوجات دون البعض وإن وجبت التسوية بينهم في غير ذلك.
5 - أن للإمام الأعظم أن يتحمل الشهادة، وتظهر فائدتها إما ليحكم في ذلك بعلمه عند من يجيزه أو يؤديه عند بعض نوابه.
6 - فيه مشروعية استفصال الحاكم والمفتي عما يحتمل الاستفصال لقوله: "ألك ولد غيره" فلما قال "نعم" قال: "أفكلهم أعطيت مثله" فلما قال: "لا" قال: لا أشهد" فيفهم منه أنه لو قال نعم لشهد.
7 - فيه جواز تسمية الهبة صدقة.
8 - أن للإمام كلامًا في مصلحة الولد، والمباداة إلى قبول الحق.
9 - أمر الحاكم والمفتي بتقوى الله في كل حال.
10 - فيه إشارة إلى سوء العاقبة الحرص والتنطع. لأن عمرة لو رضيت بما وهبه زوجها لولده لما رجع فيه، فلما اشتد حرصها في تثبيت ذلك أفضى إلى بطلانه.
11 - فيه أن للإمام أن يرد الهبة والوصية ممن يعرف منه هروبًا عن بعض الورثة.
انظر: "المفهم" (4/ 584)، "المغني" (8/ 256 - 260).(8/4176)
(135) 47/ 2
البحثُ المُسْفِر عن تَحْريم كُل مُسْكِر ومُفْتِر
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(8/4177)
وصف المخطوط: (أ)
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: البحث المسفر عن تحريم كل مسكر ومفتر.
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "لفظ سؤال إلى القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني.
4 - آخر الرسالة: "غفر الله لهما في شهر ربيع الأول سنة 1209هـ وتاريخ النقل في شهر جمادى الأولى سنة 1327".
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 11 صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 30 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/4179)
وصف المخطوط: (ب)
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: البحث المسفر عن تحريم كل مسكر ومفتر.
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم ما يقول سيدنا وشيخنا مجدد العصر الحايز بعلمه الدليل كل الفخر، العالم النحرير البدر المنير أمدّه الله بالتوفيق .....
4 - آخر الرسالة: "مما لا ينبغي أن يقع فيه خلاف بين أهل العلم.
كمل من تحرير المجيب القاضي العمدة بدر العلماء الراسخين عزُّ الإسلام والدين محمد بن علي الشوكاني حفظه الله وأدام لنا في أيامه، إنَّه على كل شيء قدير، وحرّر الجواب في شهر ربيع آخر سنة 1209هـ.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 10 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 16 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/4182)
وصف المخطوط: (ج)
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: البحث المسفر عن تحريم كل مسكر ومفتر.
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم وبه الإعانة والتوفيق ما يقول سيدنا وشيخنا مجدد العصر الحايز بعلمه الدليل كل الفخر العالم النحرير البدر المنير آمين.
4 - آخر الرسالة: حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله له، في شهر ربيعة الأول سنة (1209هـ).
انتهى بلفظه، وحرره الناقل في شهر القعدة سنة (1294هـ).
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 9 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 33 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 20 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/4185)
"لفظ سؤال القاضي العلامة محمد علي الشوكاني. لفظه".
[بسم الله الرحمن الرحيم] (1)
[وبه الإعانة والتوفيق] (2)
ما يقول سيدُنا وشيخُنا مجدِّدُ العصرِ والحائزُ بعلم الدليل كلّ الفخر، العالم النحرير، [و] (3) البدرُ المنير ـ أمده الله بالتوفيق، وسلك به أوضحَ الطريق ـ في الزعفران والجوز الهنديّ ونوعٍ من القات، هل [يحرُم] (4) قياسًا على الحشيشة بجامع التفتير لنهي النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "عن كل مُسْكرٍ ومُفتر؟ " وهل التفتير العلّة الجامعة بين الحشيشة والخمر، فإن حُكم بتحريم ذلك فهل يحرُم القليلُ وإن لم يفتّر كما تحرُم القطرةُ من الخمر وإن لم تُسكِر؟ وهل يجوز بيعُه والانتفاع [به] (5) في غير مأكول؟ جزاكما لله خيرًا ونفع بعلومكم. [آمين اللهم آمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين] (6).
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) زيادة من (ج).
(3) زيادة من (أ).
(4) في (ب) يحرمن.
(5) زيادة من (ب) و (ج).
(6) زيادة من (ب).(8/4189)
[(الجواب)]
الحمدُ لله وحده وصلاته وسلامه على رسوله وآله ورضي الله عن الصحابة الراشدين والتابعين لهم بإحسان أجمعين ـ كثّر الله فوائدكم ونفع بعلومكم ـ الذي يقوله الحقير: إن الذي قامت عليه الأدلةُ هو تحريمُ ما [يصدقُ] (1) عليه اسمُ المُسْكر لما في حديث ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "كل مسكرٍ خمرٌ وكلُ مسكرٍ حرامٌ" أخرجه مسلم (2) وأحمدُ (3) وأهل السنن (4) إلا ابن ماجه وفي لفظ: "كلُ مسكر خمرٌ وكل خمرٍ حرام" أخرجه مسلم (5) والدارقطني (6).
[وأخرجه] (7) الشيخان (8) وأحمدُ (9) عن أبي موسى أن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "كل مسكرٍ حرامٌ" وأخرج أحمدُ (10) ومسلمٌ (11) والنَّسائيُّ (12) عن جابر أن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "كل مسكر حرامٌ" وأخرج أبو داود (13) عن ابن عباس
_________
(1) في (ب) و (ج) صدق.
(2) في صحيحه رقم (74/ 2003).
(3) في "المسند" (2/ 16)
(4) أبو داود رقم (3679) والترمذي رقم (1861) وقال: حديث حسن صحيح والنسائي رقم (5582) من حديث ابن عمر. وهو حديث صحيح.
(5) في صحيحه رقم (75/ 2003).
(6) في "السنن" (4/ 248 رقم 11).
(7) في (ب) و (ج) وأخرج.
(8) البخاري في صحيحه رقم (4341، 4342، 4344، 4345) ومسلم رقم (1833).
(9) في "المسند" (4/ 410\ 416، 417).
(10) في "المسند" (3/ 343).
(11) في صحيحه رقم (2002).
(12) في "السنن" (8/ 327).
(13) في "السنن" رقم (3680) وهو حديث صحيح.(8/4190)
عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "كل مخمَّرٍ خمرٌ وكل مسكرٍ حرامٌ".
وأخرج أحمدُ (1) والترمذي (2) وصحَّحه والنَّسائيّ (3) وابن ماجه (4) من حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "كل مسكر حرام".
وأخرج ابن ماجه (5) من حديث ابن مسعود وأخرج أحمد (6) وأبو داود (7) والترمذي (8) وحسّنه عن عائشة [رضي الله عنها] قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "كل مسكرٍ حرام وما أسكر الفَرْقُ منه فملءُ الكفِّ منه حرامٌ" وأخرج أحمد (9) وأهل السنن (10) وابن حبان (11) في صحيحه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وحسّنه التِّرمذي (12)، ورجال إسناده ثقاتٌ.
وأخرج النسائيُّ (13) والبزّار (14) وابنُ .....................................
_________
(1) في "المسند" (2/ 241، 279).
(2) في "السنن" (4/ 292).
قال الترمذي: هذا حديث حسن وقد روي عن أبي سملة عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحوه وكلاهما صحيح.
(3) "السنن" (8/ 297).
(4) في "السنن" رقم (3401). وهو حديث حسن.
(5) في "السنن" رقم (3388). وهو حديث صحيح لغيره.
(6) في "المسند" (6/ 71، 131).
(7) في "السنن" رقم (3687).
(8) في "السنن" رقم (1866) وقال: حديث حسن. وهو حديث صحيح.
(9) في "المسند" (6/ 71، 72، 131).
(10) أخرجه أبو داود رقم (3687) والترمذي رقم (1866).
(11) في صحيحه رقم (5383).
(12) في "السنن" (4/ 293).
(13) في "السنن" رقم (5609).
(14) في "مسنده" (3/ 306 رقم 1098، 1099).(8/4191)
حبّان (1) والدارقطني (2) عن سعد ابن أبي وقّاص: "نهى رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قليل ما أسكر كثيرُه".
وفي الباب عن علي [بن أبي طالب] (3) رضي الله عنه عند الدارقطني (4) وعن ابن عمر غيرُ حديثه المتقدم عند الطبراني (5) وعن خوات بن جُبير عند الدارقطني (6) والحاكم (7) والطبراني (8) [و] (9) عن عبد الله بن [عمر] (10) عند الدارقطني (11). وكلُها مصرّحة: "بأنّ ما أسكر كثيرُه فقليلُه حرام".
وقد تقرر بهذا أن الشارع لم يحرّم نوعًا خاصًّا من أنواع المسكر دون نوعٍ بل حرّمها على العموم بهذا أن الشارعَ لم يحرِّم نوعًا خاصًّا من أنواع المسكر دون نوعٍ بل حرّمها على العموم وسمّى كلّ ما ستصف بوصف الإسكار خمرًا، فيتناول النصُّ القرآنيُّ أعني قوله تعالى: & إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
_________
(1) في صحيحه رقم (5370).
(2) في "السنن" (4/ 251 رقم 31). وهو حديث حسن.
(3) زيادة من (أ).
(4) في "السنن" (4/ 250 رقم 21).
والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 296) من وجهين ضعيفين.
(5) في "الأوسط" (1/ 197 رقم 626).
(6) في "السنن" (4/ 254 رقم 44).
(7) في "المستدرك" (3/ 413) وسكت عليه الحاكم والذهبي وضعّفه العقيلي.
(8) أورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 75) وقال: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه إسماعيل بن قيس بن سعدوهو ضعيف".
(9) زيادة من (ب).
(10) زيادة من (أ).
(11) في "السنن" (4/ 250).
قلت: وأخرجه أحمد (2/ 91) وابن ماجه رقم (3392) والبزار (3/ 350 رقم 2915 ـ كشف) والبيهقي (8/ 296). وهو حديث صحيح.(8/4192)
فَاجْتَنِبُوهُ & (1) كلّ ما صدُق عليه أنه مسكر، فيكون تحريمه ثابتًا بنص الكتاب وما تواتر من السنة.
ويؤيد هذا أن جماعة من أئمة اللغة جزَموا بأن الخمر إنما سميت خمرًا لِمُخامرتها للعقل وستْرِها له، منهم الدِّينوريّ (2) والجوهري (3) وابن الأعرابيّ (4) وصاحب القاموس (5) والراغبُ في مفردات القرآن (6) وغيرُهم، ولكنه وقع الخلافُ: هل الخمرُ حقيقةٌ في عصير العنب فقط و [مجاز] (7) فيما عداه، أو هي حقيقةٌ في كل مسكرٍ أو في بعض المُسكراتِ دون بعض؟ قال الراغب في المفردات (8) [سُمّي] (9) الخمر لكونه خامرًا للعقل أي ساترًا له، وهو عند بعض الناس: اسمٌ لكل مسكرٍ وعند بعضهم: المُتَّخَذُ من العنب خاصةً، وعن بعضهم: للمتّخذ من العنب والتمر، وعند بعضهم: لغير المطبوخ، ثم رَجَّح أن كل شيء يستُر العقل يسمى خمرًا، وبذلك جزم من قدّمنا ذكْرَه من أئمة اللغة. قال في القاموس (10): "الخمرُ ما أسكر من عصير العِنب أو عامٌّ كالخمرة"، قال: والعموم أصحُّ لأنها حرِّمت وما بالمدينة خمرُ عِنَب، وما كان [شرابها] (11) إلا البسرُ والتمرُ .... انتهى.
_________
(1) [المائدة: 90].
(2) انظر "لسان العرب" (4/ 212 - 213).
(3) في "الصحاح" (2/ 649).
(4) ذكره الجوهري في "الصحاح" (2/ 649) قال: قال ابن الأعرابي: سمِّيت الخمرُ خمرًا لأنَّها تُركت فاختمرت، واختمارها تغيُّر ريحها، ويقال: سمِّيت بذلك لمخارتها العقل.
(5) (ص495).
(6) (ص298).
(7) في (ب) مجازًا.
(8) (ص299).
(9) في (أ) يسمى.
(10) (ص495).
(11) في (ب) شرابهم.(8/4193)
[(زعْم الحنفية في تسمية الخمر للمعتصَر من العِنب حقيقةً، ومجازًا في غيره، ورد المؤلف عليهم)]
[قال]: وجزم ابنُ سيده في المحكم (1) بأن الخمرَ حقيقةً إنما هي العنب، وغيرُها من المسكرات يسمى خمرًا مجازًا. وحكى صاحبُ فتح الباري (2) عن صحاب الهداية (3) من الحنفية أن الخمرَ عندهم ما اختمر من ماء العنبِ إذا اشتد، قال: وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم، قال: وقيل: اسمٌ لكل مسكرٍ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل مسكر خمرٌ" وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "الخمرُ من هاتين الشجرتين" (4)، ولأنه مُخامرة العقل وذلك موجودٌ في كل مسكر، قال: ولنا إطباق أهل اللغة على تخصيص الخمرِ بالعنب، ولهذا اشتهر استعمالُها فيه ولأن تحريمَ الخمرِ قطعيٌّ وتحريمَ ما عدا المتخذ من العنب ظنيٌّ، قال: وإنما سُمي الخمر خمرًا لتخمّره لا لمخامرة العقل، قال: ولا يُنافي ذلك كونُ الاسم خاصًا فيه كما في النجم، فإنه مشتقٌ من الظهور ثم هو خاصٌّ بالثريا اهـ.
قال الحافظ (5): والجوابُ عن الحجة الأولى ثبوتُ النقلِ عن بعض أهلِ اللغة بأن غيرَ المُتخَذِ من العنب يسمى خمرًا.
وقال الخطابي (6): زعم قومٌ أن العربَ لا تعرِف الخمرَ إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة الذين سمَّوا غير المتّخذ من العنب خمرًا فُصحاءُ، فلم لا يكون هذا الاسم
_________
(1) في "المحكم والمحيط الأعظم" (5/ 185).
(2) (10/ 49).
(3) "الهداية" المرغيناني (4/ 108).
(4) أخرجه مسلم رقم (13/ 1985) والترمذي رقم (1875) وقال: حديث حسن صحيح. وأبو داود رقم (3678) والنسائي (8/ 294) ابن ماجه رقم (3378) من حديث أبي هريرة.
(5) في "الفتح" (10/ 49).
(6) في "معالم السنن" (4/ 78).(8/4194)
صحيحًا لما أطلقوه؟ قال ابنُ عبد البر (1): قال الكوفيون: الخمرُ من العنب [2] لقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْرًا} قالوا: فدل على أن الخمر هو ما يعتصر لا ما [يُنبذ] (2)، قال: ولا دليل فيه على الحصر.
وقال أهل المدينة وسائرُ أهل الحجاز وأهل الحديث كلهم: كل مسكر خمرٌ وحكمُه حكمُ المتّخذ من العنب.
ومن الحجة لهم أن القرآن نزل بتحريم الخمر فهِمَ الصحابةُ وهم أهلُ اللسانِ أن كلّ شيء يسمى خمرًا يدخل في النهي، فأراقوا المُتخذ من التمر والرُطب ولم يخصّوا ذلك بالمتخذ من العنب. وعلى تقدير التسليم فإذا ثبت تسميةُ كل مسكرٍ خمرًا من الشارع كان حقيقةً شرعيةً، وهي مقدمةٌ على الحقيقة اللغوية، كما تقرر في الأصول (3).
والجواب عن قوله: إن تحريم الخمر قطعيٌّ وتحريم ما عدا المتخذ من العنب ظنيٌّ بأن اختلاف مشتركين في الحكم في الغلط لا يلزم منه [افتراقهما] (4) في التسمية كالزنا مثلاً، فإنه يصدق على من وطِئَ أجنبيةً وعلى من وطئ امرأةَ جارِه، والثاني أغلظُ من الأول كما ثبت في الحديث الصحيح (5) أن ذلك من أكبر الكبائر، وكذلك يصدق اسمُ الزنا على وطئ المَحْرم وهي أغلظُ من وطء من ليست كذلك.
وأيضًا الأحكامُ الشرعيةُ لا يشترط فيها الأدلةُ القطعيةُ ...............................
_________
(1) في "التمهيد" (1/ 244).
(2) في (أ) ينبذه.
(3) انظر "إرشاد الفحول" (107 - 112) وقد تقدم.
(4) في (ب) اقترافها.
(5) أخرج البخاري في صحيحه رقم (4477، 7461، 6001، 6811، 7520) ومسلم رقم (86) والترمذي رقم (3182) والنسائي (7/ 89، 90) عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تجعل لله ندًا، وهو خلقك" قلت: إنّ ذلك لعظيم، ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك" قلت: ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك".(8/4195)
[ولا] (1) يلزم من القطع بتحريم المتخذ من العنب وعدم القطع بتحريم المتخذ من غيره أن لا يكون حرامًا، بل يحكم بتحريمه إذا ثبت بطريق ظني، فكذلك يحكم بتسميته إذا ثبت [بمثل] (2) تلك الطريق. وقد تقرر أن اللغة ثبتت بالآحاد وكذلك الأسماء الشرعيّة.
وأما قوله: إن الخمرَ إنما سُمّي خمرًا لتخمّره لا لمُخامرة العقل، فهذا مع كونه مخالفًا لأقوال أئمة اللغة ـ كما تقدم ـ هو أيضًا مخالفٌ لما أسلفنا عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ من الحكم على كل مسكر بأنه خمر، ومخالفٌ لما أخرجه أحمد ومسلم وأهل السنن عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (3) قال: قال رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "الخمرُ من هاتين الشجرتين النخلةُ والعِنبةُ" (4)، وما أخرجه الشيخان (5) عن أنس قال: "إن الخمرَ حُرّمت والخمرُ يومئذ البُسْرُ والتمرُ"، وفي لفظ قال: "حُرّمت علينا حين حُرّمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلاً وعامةُ خمرِنا البُسر والتمْرُ" رواه البخاري (6). وفي لفظ: "لقد أنزل اللهُ هذه الآية التي حرَّم فيها الخمرَ وما في المدينة شرابٌ إلا من تمر" أخرجه مسلم (7).
وأخرج البخاري (8) عن أنس أيضًا قال: "كنت أسقي أبا عبيدةَ وأُبي بن كعبٍ من فضيحٍ وتمر فجاءهم آتٍ فقال: إن الخمر حُرّمت فقال أبو طلحة: قم يا أنسُ فأهرقها".
_________
(1) في (ب) فلا.
(2) في (ب) من.
(3) زيادة من (أ).
(4) تقدم تخريجه.
(5) البخاري رقم (5582) ومسلم رقم (1980).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3673) والنسائي (8/ 287، 288).
(6) في صحيحه رقم (5580).
(7) في صحيحه رقم (1982).
(8) في صحيحه رقم (5582).(8/4196)
وأخرج البخاريُّ (1) عن ابن عمر قال: "نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربةٍ [ما فيها] (2) شرابُ العنب".
وأخرج الشيخان (3) عن عمرَ أنه قال على منبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: أما بعدُ أيها الناسُ، إنه نزل تحريمُ الخمرِ وهي من خمسة: من العنب والتمرِ والعسل والحِنْطة والشعير، والخمرُ ما خامر العقل.
وأخرج أحمدُ (4) وأبو داود (5) والترمذيّ (6) وابن ماجه (7) عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إن من الحنطة خمرًا ومن الشعير خمرًا ومن الزبيب خمرًا ومن التمر خمرًا ومن العسل خمرًا" زاد أحمدُ وأبو داود: "وأنا أنهى عن كل مسكر".
فإن قيل [3]: هذه الإطلاقاتُ لا تنافي أني كون ما عدا عصيرَ العنب من المسكرات خمرًا مجازًا، فيقال: وأيّ أمرٍ سوّغ المصيرَ إلى المجاز مع ثبوت إطلاق اسم الخمر على كل مسكر بنقل الجماهير من أئمة اللغة وثبوت ذلك عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن أصحابه وجمهور أهل العلم، وقد تقرَّر أن الأصلَ في الإطلاق الحقيقةُ [فما] (8) الذي نقل عن هذا الأصل وأوجب المصيرَ إلى المجاز؟! ولو سلّمنا أن ذلك إطلاقُ مجازٍ عند أهل اللغة فلا
_________
(1) في صحيحه رقم (5575).
(2) في (ب) منهما.
(3) أخرجه البخاري رقم (5581) ومسلم رقم (3032) وأخرجه أبو داود رقم (3669) والترمذي رقم (1874) والنسائي (8/ 295).
(4) في "المسند" (4/ 267).
(5) في "السنن" رقم (3677).
(6) في "السنن" رقم (1873) وقال: هذا حديث غريب.
(7) في "السنن" رقم (3379). وهو حديث صحيح.
(8) في (أ): فماذا.(8/4197)
نسلّم أنه مجاز عند الشارع وأهلِ الشرع، والحقائقُ الشرعيةُ مقدّمة.
وبالجملة فالأدلةُ المتقدمةُ قد دلت على تحريم كلّ مسكرٍ، وذلك هو المطلوب. قال القُرطبي (1): الأحاديث الواردةُ عن أنس وغيره على صحّتها وكثرتِها تُبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمرَ [لا تكون] (2) إلا من العنب وما كان من غيره لا يسمى خمرًا ولا يتناوله اسمُ الخمر (3)، وهو قولٌ مخالفٌ للغة العرب والسنة الصحيحة وللصحابة، لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهِموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كلّ مسكر، ولم يفرّقوا بين ما [اتُّخذ] (4) من العنب وبين ما يتخذ من غيره، بل سوَّوا بينهما وحرموا كلّ مسكر، ولم يتوقفوا ولا استفصلوا، ولم يُشْكِل [عليهم] (5) شيء من ذلك، بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم أهلُ اللسانِ وبلُغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم فيه تردُّد لتوقَّفوا عند الإراقة حتى يستكشفوا ويستفصلوا ويتحققوا التحريمَ، لما كان مقرَّرًا عندهم من النهي عن إضاعة المال، فلمّا لم يفعلوا ذلك بل بادروا إلى الائتلاف علِمنا أنهم فهموا التحريمَ نصًّا، فصار القائل بالتفريق سالكًا مسلكًا غير سليم، ثم انضاف إلى ذلك خطبة عمر (6) بما يوافقه، وهو من جعل الله الحق على لسانه وقلبه، وسَمِعَهُ الصحابة وغيرهم فلم يُنقل عن أحد منهم إنكارُ ذلك. قال: وإذا ثبت أن كل ذلك يسمى خمرًا لزِم تحريمُ قليله وكثيره، وقد ثبتت الأحاديث
_________
(1) في "المفهم" (5/ 252).
(2) في (أ) لا يكون.
(3) "وإنما يسمى نبيذًا" كذا في "المفهم" (5/ 252).
(4) في (ب) يتخذ.
(5) زيادة من (ب).
(6) وقد خطب عمر بن الخطاب الناس فقال: "ألا وإن الخمر نزل تحريمها يوم نزل، وهي من خمسة أشياء: من الحنطة، الشعير، والتمر، والزبيب، والعسل، والخمر ما خامر العقل" وقد تقدم تخريجه.
انظر: "فتح الباري" (10/ 45).(8/4198)
الصحيحةُ (1) في ذلك، ثم ذكَرها. قال:
وأما الأحاديثُ التي تمسّك بها المخالفُ عن الصحابة فلا يصِحّ منها شيءٌ على ما قال عبدُ الله بن المبارك وأحمدُ وغيرهما، وعلى تقدير ثبوت شيء [منها] (2) فهو محمولٌ على نقيع الزبيبِ والتمرِ من قبل أن يدخُل حدَّ الإسكار جمعًا بين الأحاديث ... انتهى (3). قال ابنُ المنذر (4): قال: إن الخمرَ من العنب ومن غير العنب، عمرُ وعليٌّ وسعدُ وابنُ عمرَ وأبو موسى وأبو هريرة وابنُ عباسٍ وعائشةُ، ومن التابعين ابنُ المسيِّب وعروة والحسن وسعيد بن جبير وآخرون. قال: وهو قول مالك والأوزاعي والثوري وابن المبارك والشافعيّ وأحمد وإسحاق وعامة أهل الحديث.
قال الحافظ في فتح الباري (5): يمكن الجمعُ بأن مَن أطلق الخمرَ على غير المُتَّخذِ من العنب حقيقةً يكون أراد الحقيقةَ الشرعية، ومن نفى أراد الحقيقةَ [4] اللغوية، وقد أجاب بهذا ابنُ عبدِ البرِّ وقال: إن الحكمَ إنما يتعلق بالاسم الشرعيِّ دون اللغوي .. انتهى.
وأيضًا يقال: ما وقع من مبادرة الصحابة إلى إراقة ما لديهم من غير عصيرِ العِنَب من المسكرات وعدم استفصالِهم عن ذلك، إما لفهمهم أن الخمرَ حقيقةٌ في الكل، أو يكونُ فعلُهم على تقدير أن حقيقةٌ في البعض مجازٌ في البعض دليلاً على جواز استعمال اللفظ في جميع معانيه الحقيقية والمجازية، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قرّرهم على ذلك ولم ينكر عليهم، فجاز إطلاقُ الخمرِ على كل مُسكرٍ بذلك، وهو المطلوب، فيكون تحريم كلِّ مسكرٍ ثابتًا بنص القرآن كما هو ثابتٌ بنص السُّنةِ كما تقدم.
_________
(1) تقدم ذكرها.
(2) في (أ) فيها.
(3) أي كلام القرطبي في "المفهم" (5/ 253).
(4) عزاه إليه ابن قدامة في "المغني" (12/ 496).
(5) (10/ 49).(8/4199)
وإذا تقرر لك هذا وعرفت قيام الدليل على تحريم كل مسكر من غير تقييدٍ فاعلم أن كلّ نوع ثبتت له خاصيّة الإسكار فهو محرّمٌ من غير فرقٍ بين المائعِ والجامدِ، وما كان بعلاج وما كان بأصل الخِلْقة. انتهى.
(تعريفُ المُسْكِر والإسكار لغةً)
والمُسكِرُ هو ما حصل به السُّكرُ، والسكرُ نقيضُ الصَّحْو، قال في القاموس (1): سكر كفرح سُكْرًا وسَكْرًا وسَكَرَانًا نقيض صحا ... انتهى. وقد حقق معنى السُّكْرِ جماعةٌ من أهل العلم، فمنهم من قال: هو الطرَبُ والنَّشاةُ، ومنهم من قال: هو زوالُ الهموم وانكشافُ السرِّ المكتوم. ومنهم من قال بغير ذلك مما هو في الحقيقة راجعٌ إليه.
قال المحققُ الشريفُ في التعريفات (2): السُّكْرُ غفلةٌ تعرِض بغلَبة السُّرورِ على العقل لمباشرة ما يوجبها من الأكل والشرب. والسكرُ من الخمر عند أبي حنيفة أن لا يعلم الأرض من السماء، وعند أبي يوسف ومحمدٍ والشافعيّ هو أن يختلط كلامُه، وعند بعضِهم أن يختلِط في مشيه بحركة
انتهى.
وقال في شرح الفتح لابن حُميد: السكرُ مخامرةُ العقلِ وتشويشُه مع حصول طرَبٍ وسُلُوٍّ مخصوصَين قال: وإن لم يذهب إلا بعضُ علومِ العقل أو بعض المستعملين له دون بعض فإنه لا يخرُج بذلك عن كونه مسكرًا ... انتهى. فما كان يؤثّرُ أي هذه التأثيرات ـ على الخلاف ـ أو يؤثّرُها كلَّها ولو لم يحصُل إلا باستعمال الكثير منه دون القليل فهو حرامٌ لِما سلف من الأدلة.
وإلى ذلك ذهب جمهور الصحابة والتابعين والعِتْرةُ جميعًا (3) وأحمد وإسحاق والشافعيّ ومالك.
_________
(1) (ص529).
(2) (ص235).
(3) انظر: "المغني" (12/ 497)، "المفهم" (5/ 253).(8/4200)
[(ضعيف قولُ من قال بحِل ما دون المسكر من غير عصير العنب والتمر)]
وذهب النّخعيّ والثّوريّ وابن أبي ليلى وشريكٌ وابن شُبْرُمة وأبو حنيفة وأصحابه وسائرُ الكوفيين، وأكثر علماء البصرة إلى أنه يحل دون المُسكر من غير عصير العنب والرُّطَب، واستدلوا بما أخرجه البيهقيّ (1) في حديث عبد القيس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال لهم في النبيذ: "فإن اشتدّ فاكسروه بالماء فإن [أعياكم] (2) فأهْريقوه".
وقال البيهقي (3) بعد إخراجه الروايات الثابتة عن وفد عبد القيس خاليةً عن هذه اللفظة، وأخرج نحو ذلك (4) من حديث ابن عباس، وفي ألفاظه أنه من قول ابن عباس، وأخر نحوه (5) أيضًا عن عائشة من قولها، وفي إسناده مجهولٌ، وأخرج نحوَه أيضًا عن أبي هريرةَ [5] مرفوعًا نحوَه وهو من طريق عكرمة بن عمار عن أبي كثير السّخيّ عنه، وهو إسناد ضعيف، لأن عكرمة اختلط، وأخرج أيضًا من حديث الكلْبي نحوَه، والكلبيّ متروك، وأخرج نحوه أيضًا عن ابن عباس من طريق أخرى وفي إسنادها يزيدُ بنُ أبي [زيادة] (6) وهو ضعيفٌ لا يُحتَجّ به. ونحوَه من حديث ابنِ عمرَ وفي إسناده عبدُ الملك بنُ نافعِ بنِ أخي القَعقاع قال يحيى بنُ معينٍ هم يُضعّفونه. وقال البُخاريّ: لم يتابَعْ عليه. وقال النَّسائي: لا يُحتَجّ بحديثه (7). وكل ما في هذا الباب ..............................
_________
(1) في "السنن الكبرى" (8/ 302).
(2) في (أ) أعناكم.
(3) في "السنن الكبرى" (8/ 302 - 303).
(4) البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 303).
(5) انظر "تهذيب التهذيب" (6/ 378).
(6) زيادة من (ب).
(7) انظر "تهذيب التهذيب" (6/ 378).(8/4201)
[فلا] (1) يخلو من ضَعف حتى قال إسحاقُ بنُ راهويَه (2): سمعت عبد الله بن إدريس الكوفيّ يقول: "قلت لأهل الكوفةِ: يا أهل الكوفة: .. إنما حديثكم الذي تحدّثونه في النبيذ عن العُميان والعُوران، أين أنتم من أبناء المهاجرين والأنصار؟! ".
وأيضًا هذه الأحاديث لا تدل على مطلوبهم، فإن كسر النبيذ لا يتعيّن أن يكون لأجل الشدة المستلزمة للسُّكر، فإنه قد يكون الكسرُ لاشتداد الحلاوة أو الحموضة، ومع الاحتمال لا تنتهض للاستدال غللا فرض تجرّدهِ عن المُعارِض فكيف إذا كان ذلك الضعيفُ معارضًا بالأحاديث الصحيحة الكثيرة والقاضية بأن ما أسكر كثيرهُ فقليلُه حرامٌ، كما تقدم! فإذا كان الكثيرُ من الزعفران والجَوزِ الهنديِّ ونوعٌ من القات يبلُغ بمُستعمِله إلى السُكر حرم عليه قليله كما يحرم عليه كثيره، وإذا كان يؤثر ذلك التأثير مع بعض المستعملين له دون البعض الآخر كان التحريم مختصًا بمن يحصل معه ذلك الأثر دون من عداه (3).
فإن قيل: إن هذه الأمور المذكورة إنما يحصل بها التفتيرُ دون السكر، فيقال: إن بلغ هذا التفتير إلى حد السُكر كما يحصل من أكل الحشيش [وشربها] (4) فلا نزاع في أن ذلك من المحرمات وإن لم يبلغ إلى ذلك الحدِّ، بل مجرّد التفتير فقد ورد ما يدل على تحريم كلّ مفتّر، فأخرج أبو داود (5) عن أم سلمة قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه
_________
(1) في (أ) ولا.
(2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 306).
(3) قال الحافظ في "فتح الباري" (10/ 40 - 41):
"قال البيهقي حمل هذه الأشربة على أنهم خشوا أن تتغير فتشتد فجوزوا صب الماء فيها ليمتنع الاشتداد، أولى من حملها على أنها كانت بلغت حد الإسكار، فكان صب الماء عليها لذلك لأن مزجها باملاء لا يمنع إسكارها إذا كانت قد بلغت حد الإسكار. ويحتمل أن يكون صب الماء كون ذلك الشراب كان حِمض ... ".
(4) في (ب) شرابها.
(5) في "السنن" رقم (3686) وهو حديث ضعيف.(8/4202)
وآله وسلم عن كل مسكر ومفتّر. وهذا حديثٌ صالحٌ للاحتجاج به لأن أبا داودَ سكت عنه، وقد رُوي عنه أنه لا يسكُت إلا عمَّا هو صالحٌ للاحتجاج، وصرَّح بمثل ذلك جماعةٌ من الحفاظ كابن الصلاح وزين الدين والنووي وغيرُهم، وإذًا لأردنا الكشفَ عن حقيقة رجال إسناده فليس فيهم من هو متكلِّمٌ عليه إلا شهرُ بنُ حَوشب، وقد اختلف في شأنه أئمة الجرح والتعديل، فوثّقه الإمامُ أحمد ويحيى بن معين وهما إماما الجرَح والتعديل ما اجتمعا على توثيق رجلٍ إلا وكان ثقةً، ولا علىتضعيف رجلٍ إلا وكان ضعيفًا. فأقلُّ أحوالِ حديثِ شهرٍ المذكورِ أن يكون حسنا، والترمِذيّ يصححُ حديثه (1) كما يعرف ذلك من له ممارسةٌ لجامعه.
[(تعريفُ المُفتِّر)]
قال ابنُ رسْلانَ (2) في شرح السُنن: والمُفتِّرُ بضم الميم وفتْحِ الفاء وتشديد المُثنَّاة فوق المكسورة، ويجوز فتحُها ويجوز تخفيفُ التاء مع الكسر، وهو كلُ شرابٍ يورث الفُتورَ والخَدَرَ في أطراف الأصابع، وهو مقدِّمةُ السُكر (3) ... انتهى.
[6] قال في النهاية (4) المُفْتِرُ الذي إذا شُرب أحمى الجسَدَ وصار فيه فتورٌ وهو ضعيفٌ وانكسار، يقال: أفتر الرجلُ فهو مفْترٌ، إذا ضعُفت جفونُه وانكسر طرفُه، فإما أن يكون أفتره بمعنى فتّره أي جعله فاترًا، وإما أن يكون أفتر الشرابُ إذا أفتر صاحبَه كأقطف الرجلُ إذا قُطفتْ دابتُه، ويقتضي هذا سكون الفاءِ وكسرَ المثنّاة فوقُ مع التخفيف.
_________
(1) ذكره المنذري في "مختصر السنن" (5/ 269).
(2) عزاه إليه الآبادي في "عون المعبود" (10/ 92).
(3) قاله الخطابي في "معالم السنن" (4/ 90).
(4) (3/ 408).(8/4203)
وقال الخطابي (1): المُفترُ كلُ شرابٍ يورث الفتورَ والخدَرَ في الأعضاء، قال في القاموس (2): فتَر يفتِرُ فتورًا وفُتارى سكن بعد حدّة ولان بعد شدّة، وفتّره تفتيرًا، وفتر الماءُ سكَن حرُّه فهو فاتر وفاتور، وجسمُه فتورًا: لانت مفاصلُه وضعُف، والفَتَرُ محركةً الضعْف، قال: والفُتار كغراب: ابتداءُ النشْوة، وطرفٌ فاترٌ: ليس بحاد النظر، قال: وأفتر: ضعُفت جفونُه، وانكسر طرفُه، والشرابُ فترَ شاربُه. انتهى.
وعطفُ المُفْتر على المُسكر يدل على أنه غيرُه، لأن العطفَ يقتضي المُغايَرةَ، قال ابنُ رسلانَ (3): فيجوز حملُ المُسكرِ على الذي فيه شدْةٌ مطْرِبةٌ وهو محرمٌ يجب فيه الحدُّ، ويُحمل المُفتِرُ على النبات كالحشيش الذي يتعاطاه السِّفْلةُ. وقد نقل الرافعيُّ والنَّووي (4) في باب الأطمعة عن الرُّوياني أن النبات الذي يُسكر وليس فيه شدةٌ مطربةٌ يحْرُم [أكله] (5) ولا حدَّ فيه.
[(حكمُ البَنْج والزَّعفران والجوَز الهندي)]
قال ابنُ رسلان (6): يقال: إن الزعفرانَ يُسكِر إذا استُعمل مفردًا بخلاف ما إذا استُهلك في الطعام، وكذا البنجُ شربُ القليل من مائة يُزيل العقْل وهو حرامٌ إذا زال العقلُ لكن لا حدَّ فيه ... انتهى.
وإذا ثبت أن الزعفرانَ مسكرٌ (7) إذا استُعمل مفردًا كما ذكره فيحرُم استعمالُه مخلوطًا
_________
(1) في "معالم السنن" (4/ 90).
(2) (583 - 584).
(3) عزاه إليه الآبادي في "عون المعبود" (10/ 92).
(4) في شرحه "لصحيح مسلم" (13/ 149).
(5) في (أ) كله.
(6) عزاه إليه الآبادي في "عون المعبود" (10/ 92).
(7) قال علي بن العباس إمام الفن بلا نزاع قال في كامل الصناعة في الباب السابع والثلاثين: الزعفران حار يابس لطيف مجفف تجفيفًا مع قبض يسير، ولذلك صار يدر البول وفيه قوة منضحة وينفع أورام الأعضاء الباطنة إذا شرب وضمد به من خارج ويفتح السدد التي في الكبد أو في العروق ويقوي جميع الأعضاء الباطنة وينفذ الأدوية التي يخلط بها إلى جميع البدن.
وقال محمد شمس الحق العظيم آبادي في "عون المعبود" (10/ 105) وقد سألت غير مرة من أدركنا من الطباء الحذاق صاحب التجربة والعلم والفهم، فكلهم اتفقوا على أنّه لا يسكر مفردًا.(8/4204)
بغيره من الأطعمة وغيرِها لما تقدم أن ما سكرَ كثيرُه فقليلُه حرامٌ، سواء كان مفردًا أو [مختلطًا] (1) بغيره وسواء كان يقوّي على الإسكار بعد الخلط أو لا يقوّي، وأما إذا لم يكن الزعفرانُ ونحوُه من جنس المُسكرات بل من جنس المُفتّرات فلا يحرُم منه إلا ما وُجد فيه ذلك المعنى، أعني التفتيرَ [بالعقل] (2)، ولا يحرم القليلُ منه كما يخلط [منه] (3) بين كثيرُه فقليلُه حرام، اللهم إلا أن يقال: يحرُم قليلُ المفْتر قياسًا على قليل المُسكر، بجامع تحريمِ الكثير من كل واحدٍ منهما، ولكن هذا إنما يتم بعد تصحيح هذا القياسِ وعدمِ وجودِ فارقٍ يقدَح في صحته.
قال الإمامُ المَهدي في البحر (4) ما لفظُه: وما أسكر بأصل الخِلْقة كالحشيشة والبَنْج والجَزوة فطاهرٌ، وعن بعضهم: نجس. قلت: وهو القياسُ إن لم يمنعَ إجماعٌ. انتهى ...
فهذا الكلامُ يدل على أن الأمورَ المذكورة مسْكرةٌ، وهكذا يدل على ذلك قولُه رحمه الله في الأزهار (5): والمُسكرُ وإن طُبخ إلا الحشيشةَ والبنْجَ ونحوَهما، وفسره شارحُه بالجوز الهندي والقُرَيط وظاهرُ الاستثناء [7] من المُسْكر أن الحشيشة وما معها مُسكرةٌ.
_________
(1) في (أ) مختلطًا.
(2) في (ب) بالفعل.
(3) زيادة من (ب، ج).
(4) (1/ 11).
(5) (1/ 137 ـ مع السيل).(8/4205)
وقال الجلال في "ضوء النهار" (1): إنه استثناءٌ منقطعٌ لأن المذكوراتِ لا تُسْكر وإنما تخدّر أو تغيّر، لأن السكرَ عبارةٌ عن الطرب المثيرِ للنخْوة ولو كانت من السُكر لافتقر تخصيصُها إلى دليل شرعي. انتهى.
[(تحريمُ الحشيشة)]
قال الحافظ ابنُ حجرٍ (2): مجيبًا على من قال: إن الحشيشةَ ليست بمسكرة بل مخدِّرة: إن ذلك مكابرةُ لأنها تُحدِث ما يحدث الخمرُ من الطرَب والنشاة ... انتهى.
وعلى الجملة إنه إذا سُلّم أنها غيرُ مسْكرةٍ فهي مفتّرة، وكلُ واحدٍ من الأمرين يقتضي تحريمَها، وقد حكى الفِرْيابي (3) وابنُ تَيْميةَ (4) الإجماعَ على تحريم الحشيشة، قال: ومن استحلها فقد كفر، [قالا] (5): [وإن] (6) لم يتكلّم فيها الأئمة الأربعة، لأنها لم تكن في زمنهم وإنما ظهرت في آخر المائة السادسة وأول المائة السابعة حين ظهرت دولةُ التتار.
وذكر ابنُ تيمية في كتابِ (السياسة) (7) أن الحدَّ واجبٌ في الحشيشة كالخمر، وحكى الماوَرديُّ (8) أن النباتَ الذي فيه شدةً مطربةٌ يجب فيه الحدُّ. وقال ابنُ البَيطار (9) ـ وإليه انتهت الرياسةُ في معرفة خواص النبات ـ إن الحشيشةَ مُسكرةٌ جدًّا، إذا تناول الإنسانُ منها قدْرَ دِرْهمٍ أو درهميت أخرجتْه إلى حد الرُّعونة، وقد استعملها قومٌ
_________
(1) (1/ 94).
(2) ذكره الأمير الصنعاني في "سبل السلام" (7/ 180).
(3) انظر: "عون المعبود" (10/ 92).
(4) في "مجموع الفتاوى" (34/ 205).
(5) في (أ) قال.
(6) في (ب) وإنما.
(7) "السياسة الشرعية" (ص144).
(8) ذكره الآبادي في "عون المعبود" (10/ 92).
(9) ذكره الآبادي في "عون المعبود" (10/ 92).(8/4206)
فاختلَّت عقولُهم.
وقال ابن دقيق العيد (1) في الجوزة: إنها مسكرة، وقله عنه المتأخرون من الحنفية والشافعية والمالكية واعتمدوه وذكر ابنُ القسطلاني (2) في تكريم المعيشة أن الحشيشة ملحقةٌ بجوزة الطيب والزعفران والأفيون والبنج، وهذه من المسكرات المخدّرات، وقال الزركشي (3): إن هذه الأمور المذكورةَ تؤثر في مُتعاطيها المعنى الذي يدخله في حد السكران فإنهم قالوا: السكرانُ هو الذي اختل كلامهُ المنظوم وانشكف سرّه المكتوم، وقال بعضهم: هو الذي لا يعرِف السماءَ من الأرض. ثم نقل عن الغزالي الخلافَ في ذلك.
قيل (4) والأولى أن يقال: إن أُريد بالإسكار تغطيةُ العقل فهذه كلُها صادقٌ عليها معنى الإسكار، وإن أريد بالإسكار تغطيةُ العقل مع الطربَ فهي خارجةٌ عنه، فإن إسكارَ الخمر يتولّد منه النشأة والنشاطُ والطرَبُ والعَرْبَدة والحميّة، والسكرانُ بالحشيشة ونحوها يكون مما فيه ضدُّ ذلك فتقرر من هذا أنها تحرمُ لِمضرّتها العقلَ ودخولِها في المفتّر المنْهيِّ عنه، ولا يجب الحدُّ على متعاطيها لأن قياسها على الخمر مع الفارق ـ[وقد انتفى] (5) بعضُ الأوصاف ـ لا يصح، كذا قيل.
والحاصلُ أن الحشيشةَ وما في حكمها مما له عمَلُها لا شك ولا ريب في تحريمها لأنها إن كانت من المسْكرات فهي داخلةٌ في عموم أدلةِ تحريمِ المسْكر، وقد عرفْتَ مَنْ جزَم بأنها مسكرةٌ، وإن كانت من المُفترات والمخدّرات فهي محرمةٌ بالحديث المتقدِّم في تحريم كلّ مُفْتر [8]، ولا يخرُج عن هذين الأمرين أصلاً.
_________
(1) ذكره الأمير الصنعاني في "سبل السلام" (7/ 181).
(2) ذكره الآبادي في "عون المعبود" (10/ 92).
(3) ذكره الآبادي في "عون المعبود" (10/ 93).
(4) ذكره الآبادي في "عون المعبود" (10/ 93).
(5) كذا في المخطوط [أ. ب. جـ] وصوابه [وهو انتفاء]. انظر المصدر السابق.(8/4207)
[(تعريف الخَدَر)]
والخَدَرُ ليس أمرًا غيرَ الفتور، بل هو فتورٌ مع زيادة. قال في القاموس (1): الخدَر بالتحريك [امذلال] (2) يغشى الأعضاءَ، خَدِرَ كفرح فهو خدِرٌ، وفتورُ العينِ أو ثقلٌ فيها مِن قَذى .... انتهى. ومع هذا فقد عرفتَ الإجماعَ على تحريمها بحكاية الإمامين الفرْيابي وابنِ تيميةَ (3) فلم يبقَ ارتيابٌ في التحريم (4).
[(قصة يرويها المؤلِّف لبعض المُتهتكين)]
[قال] (5) وقد وأعمى الله بصرَ وبصيرةَ بعض الأدباء المتأخرين من أهل اليمين، فاشتهر بالحشيشة الخبيثة، واستعملها بمَرْأى من العامة ومَسْمع، وكان المسكين رحمه الله ممن له صورة عند العامة جليلةٌ يعتقدون فيه أنه من أعيان العلماء، وليته كان يتكتّم باستعمال هذه الخبيثةِ ويعترف بالمعصية ويُعلن بالتحريم كما يفعله كثيرٌ من العصاة، ولكنه كان يصرِّح بأنها حلالٌ بلا برهان في مواقف جماعةٍ من العامة الذي هم أتباعُ كلِّ ناعق، فجعلوه حُجَّةً لهم، وبالغوا في تعظيمه ووصْفِه بالعلم لموافقته لأهوائهم. وقد روى لي هذه القصة جماعةٌ ممن لا أشك في صدقهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد أحسن مَن قال:
_________
(1) (ص490).
(2) في (ب) انذلالٌ والصواب ما أثبتناه من (أ. جـ) حسب المصدر.
(3) "السياسة الشرعية في إصلاح الرعية" (ص144).
(4) وهذا ما نرجحه.
(5) زيادة من (أ).(8/4208)
فسادٌ كبيرٌ عالمٌ مُتهتِّكٌ ... وأفسدُ منه جاهلٌ متنسِّكُ
هما فتنةٌ للعالمين كبيرةٌ ... لمن بهما في دينه يتمسّك
وقد صارت مِحنةُ ذلك الأديبِ الذي ضلّ وأضل بما صدَر منه من قول وعملٍ في هذه القضية التي هي من أعظم مزالقِ الزّلل باقية إلى الآن كما أخبرني بذلك من له خِبْرةٌ بأحوال الناسِ والاطلاع على أمورهم.
وقد سُقنا في هذه الورقات من الأدلة ونصوص العلماء الأكابرِ على مسألة السؤالِ ما فيه كفاية [لمن له هداية] (1).
فالزعفران والجوز الهنْدي والأفيونُ ونحوُها لاحقةٌ بالمسْكرات إن صح قولُ من قال (2):
_________
(1) زيادة من (أ).
(2) اختلفت أقوال العلماء وعباراتهم ولم يتفقوا على أمرٍ واحدٍ.
تقدم ذكر بعضها: ومنها قال في "الدر المختار": ويحرم أكل البنج والحشيشة هي ورق القنب والأفيون لأنّه مفسد للعقل.
وقال آخر: البنج بالفتح نبات يسمى شيكران يصدع ويسبت ويخلط العقل كما في التذكرة للشيخ داود، والمسبت الذي لا يتحرك.
وذهبت أئمة الحنفية إلى أن ما أسكر كثيره حرم قليله وهو في المائعات دون الجامعات، وهكذا في غيره من الأشياء الجامعة المضرة في العقل أو غيره يحرم تناول القدر المضر منها دون القليل النافع لأن حرمتها ليست لعينها بل لضررها فيحرم عندهم استعمال القدر المسكر من الجامدات دون القليل منها.
وقال القزويني: الزعفران الزائد على الدرهم سم قاتل.
وقال الزركشي: إن هذه الأشياء لا تحرم إلا لمضرتها العقل ودخولها في المفتر المنهي عنه.
وقال الأدبيلي: إن الجوز الهندي والزعفران ونحوهما يحرم الكثير منه لإضراره لا لكونه مسكرًا. -
قال الشيخ ابن حجر المكي في "الزواجر" (1/ 491) الكبيرة السبعون بعد المائة آكل المسكر الطاهر كالحشيشة والأفيون والشيكران بفتح الشين المعجمة وهو البنج وكالعنبر والزعفران وجوزة الطيب.
فهذه كلها مسكرة كما رح به النووي في بعضها وغيره في باقيها ومرادهم بالإسكار هنا تغطية العقل لا مع الشدة المطربة لأنها من خصوصيات المسكر المائع، وبما قررته في معنى الإسكار في هذه المذكورات علم أنَّه لا ينافي أنها تسمى مخذرة وإذا ثبت أن هذه كلها مسكرة أو مخدرة فاستعمالها كبيرة وفسق كالخمر فكل ما جاء في وعيد شاربها يأتي في مستعمل شيء من هذه المذكورات لاشتراكهما في إزالة العقل المقصود للشارع بقاؤه لأنّه الآلة للفهم عن الله تعالى وعن رسوله المتميز به الإنسان عن الحيوان والوسيلة إلى إيثار الكمالات عن النقائص فكان فيتعاطي ما يزيله وعيد الخمر.(8/4209)
إنها تُسكر ولو في حال من الأحوال، وإن صح قولُ من قال: إنها مفترةٌ فهي أيضًا محرَّمةٌ لذلك، لما سلف، فهي مشاركةٌ للمسكر على أحد التقديرين، وللمفتر على الآخر، وكل واحدٍ منهما يقتضي التحريم. وإن لم يصحّ فيها، وصف الإسكار ولا وصف التفتير والتخدير مطلقًا فلا وجه للحكم بتحريمها. فمن أراد العثور على الحقيقة فليسأل من له اختبارٌ عن التأثير الذي يحصل بالأمور المذكورة وبعد ذلك يحكمُ علىكل واحد منهما بما أودعناه في هذه الرسالة، وهذا إن لم يكتف بما نقلناه عن العلماء في وصف تلك الأمور كما سلف.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "الحلالُ بيِّن، والحرام بيِّنٌ، وبينهما مشتبهات والمؤمنون وقّافون عند الشبهات، فمن تركها فقد استبرأ لعِرضه ودينه" (1) وأقلُّ [أحوال] (2) الجَوز الهندي وما ذكر معه أن يكون من الأمور المشتبهات، وثبت [9] عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" صححه ابن حبان (3) والحاكم (4) والترمذي (5). وقد حكي في شرح الأثمار (6) عن الإمام شرف الدين أن الجوزَ الهندي والزعفران ونحوهما يحرمُ الكثير منه لأضراره لا لكونه
_________
(1) انظر الرسالة رقم (58).
(2) زيادة من (ب).
(3) في صحيحه رقم (722).
(4) في "المستدرك" (2/ 13)، (4/ 99).
(5) في "السنن" رقم (2518).
من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(6) تقدم تعريفه.(8/4210)
مسكرًا وكذلك القريط وهو الأفيون. انتهى.
[(حكمُ القات عند المؤلِّف وتفنيده لما قال ابنُ حجر فيه)]
[قال]: وأما القاتُ فقد أكلتُ منه أنواعًا مختلفةً وأكثرتُ منها فلم أجد لذلك أثرًا في تفتير ولا تخديرٍ ولا تغيير، وقد وقعتْ فيه أبحاثُ طويلة بين جماعةٍ من علماء اليمن عند أول ظهورِه، وبلغتْ تلك المذاكرةُ إلى علماء مكة، وكتب ابن حجرٍ الهيثمي في ذلك رسالةً طويلة سماها (تحذير الثقات من أكل الكفتة والقات)، ووقفتُ عليها في أيام سابقةٍ فوجدته تكلم فيها بكلام من لا يعرف ماهية القات.
وبالجملة أنه إذا كان بعض أنواعه تبلُغ إلى حد السكر أو التفتير من الأنواع التي لا نعرفها توجّه الحكمُ بتحريم ذلك النوع بخصوصه، وهكذا إذا كان يضُرّ بعضَ الطباع من دون إسكار وتفتير حرُم لإضراره وإلا فالأصلُ الحِلُّ كما يدل على ذلك عمومات القرآن والسنة.
وأما قولُكم: وهل يجوز بيعه، فالظاهرُ من الأدلة تحريمُ بيع كلّ شيء انحصرتْ نفعتهُ في محرم لا يُقصد به إلا ذلك المحرّم، أو لم ينحصِرْ ولكنه كان الغالبُ الانتفاع به في محرم، أو لم يكن الغالبَ ذلك، ولكنه وقع البيعُ لقصد الانتفاع به في أمر محرم، فما كان على أحد هذه الثلاث الصور كان بيعه محرمًا، وما كان خارجًا عنها كان بيعه حلالاً.
ومن أدلة الصورة الأولى أحاديث النهي (1) عن بيع الخمر والميتة والخنزير، لأن هذه الأمور لا يُنتفع بها إلا في محرم، ولا يُتصوّر الانتفاع بها في أمر حلال، ومن هذا القبيل الحشيشة فإن منفعتها منحصرةٌ في الحرام.
ومن أدلة الصورة الثانية ما أخرجه الترمذي (2) من حديث أبي أمامة أن رسول الله
_________
(1) انظر الرسالة رقم (110، 114).
(2) في "السنن" رقم (1282) وقال: حديث أبي أمامة، إنما نعرِفُهُ مِثْلَ هذا مِنْ هذا الوجه، وقد تكلم بعض أهل العلم في علي بن يزيد وضعفه وهو شامي.
وأخرجه ابن ماجه رقم (2168). وهو حديث حسن.(8/4211)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تبيعوا القينات والمغنيّات ولا تشتروهن ولا تُعلموهن ولا خير في تجارة فيهن، وثمنُهن حرام" ومن المعلوم أن منفعة القينات لم تنحصر في الحرام ولكن لما كان الغالب الانتفاع بهن في الحرام جعل الشارع حكمهن 5ث تحبثما فقثع حكم ما لا يُنتفع به في غير الحرام تنزيلاً للأكثر منزلة الكُلّ، ومن هذا القبيل البنجُ الجوز الهندي وما شابهما.
ومن أدلة الصورة الثالثة ما أخرجه الطبرانيّ في الأوسط (1) بإسناد حسّنه الحافظُ ابن حجر (2) من حديث عبد الله بن بُريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "من حبس العنب أيام القطاف حتى يبعه ممن يتخذه خمرًا فقد تقحّم النار على بصيرة" ولا شك أن العنبَ في الغالب يُنتفع به في الأمور الجائزة ولكنه لما كان القصدُ بيعه إلى من يستعمله في أمر محرم كان بيعُه محرمًا، لأن وسيلة الحرام حرامٌ [10]، وأما ما عدم القصد فلا تحريم، ومن هذا الزعفران فمن باعه إلى من يستعمله في أمر جائز، أو مع عدم القصد فلا تحريم، ومن هذا الزعفران فمن باعه إلى من يستعمله في أمر جائز، أو مع عدم القصد فبيعه حلال، ومن باعه إلى من يستعمله في أمر غير جائز نحو أن يبيعه إلى من يعلم أنه يأكل منه مقدارًا يحصل به التفتير أو الإضرار بالبدن قاصدًا للبيع إلى من كان كذلك فبيعُه غير جائز، وإذا تقرر هذا التفصيل ارتفع ما يرد من الإشكالات على حديث ابن عباس عند الحاكم والبيهقيّ بإسناد صحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "إن الله إذا حرم [على قوم أكل] (3) شيء حرّم .......................
_________
(1) رقم (5356) وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 90) وقال: فيه عبد الكريم بن عبد الكريم، قال أبو حاتم: حديثه يدل على الكذب.
(2) في "بلوغ المرام" (رقم 837).
وهو حديث باطل. انظر الضعيفة رقم (1269).
(3) زيادة من مصدر الحديث.(8/4212)
ثمنه" (1) فإنه قال بعض أهل العلم: إنه يلزم من الأخذ بظاهر هذا الحديث تحريم بيع الحمُر الأهلية وغير [ها] (2) مما يصلُح لحلال وحرام.
ويُجاب بأن الحمر الأهلية إذا باعها البائع إلى من يأكلها كان البيعُ محرمًا مع القصد لما سلف من أن وسيلة الحرام حرامٌ وإن باعها إلى من لا يأكُلها أو مع عدم القصد [فلا وجه] (3) للتحريم، وهكذا كل ما كان من هذا القبيل.
وقال ابن القيم (4): إنه يراد بحديث ابن عباس المذكور أمران: أحدُهما ما هو حرامُ العين والانتفاع جملة كالخمر والميتة والدم والخنزير وآلات الشرك (5)، فهذه ثمنُها حرامٌ كيفما اتفقت. والثاني ما يباح الانتفاع به في غير الأكل وإنما يحرم أكله كجلد الميتة بعد الدباغ وكالحمر الأهلية والبغال ونحوِهما مما يحرم أكلُه دون الانتفاع به، فهذا قد يقال: [إنه] (6) لا يدخل في الحديث وإنما يدخل فيه ما هو حرامٌ على الإطلاق، والصواب ما ذكرنا من التفصيل، فإن هذه الأمور يحرُم بيعها إذا بيعت لأجل المنفعة المحرمة، كما إذا بيع [الحمار والبغلُ لأكلهما وقد قيل إن بيعَ] (7) الشيء الذي يحرم في بعض الأحوال إلى من ينتفع به في ذلك الأمر المحرم مع القصد حرامٌ بالإجماع. ومما يؤيد تحريم بيع الشيء الذي يُنتفع به في الأمور الجائزة في الغالب إلى من يستعمله فيما لا يجوز ما أخرجه البيهقي (8) والبزّار (9) عن عِمران بن حصين مرفوعًا في النهي عن بيع السلاح في الفتنة.
_________
(1) أخرجه أحمد (3/ 370) وأبو داود رقم (3488) من حديث ابن عباس وهو حديث صحيح.
(2) زيادة من (أ).
(3) زيادة من (ب).
(4) انظر "زاد المعاد" (5/ 674 - 675)
(5) قال ابن القيم في "زاد المعاد" (5/ 675) أما تحريم بيع الأصنام فيستفاد منه تحريم بيع كل آلة متخذة للشرك علىأي وجه كانت، ومن أي نوع كانت صنمًا أو وثنًا أو صليبًا، وكذلك الكتب المشتملة على الشرك وعبادة غير الله فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها.
(6) زيادة من (أ).
(7) زيادة من (ب).
(8) في "السنن الكبرى" (5/ 327).
(9) في مسنده (4/ 117 رقم 3333 ـ كشف).(8/4213)
وأما سؤال السائل حفظه الله عن تلك الأمور: هل يجوزُ الانتفاعُ بها في غير الوجه الذي حُرّمَت لأجله فنقول: نعم يجوز أن يُنتفعَ بها في غير الوجه الذي تحرُم من جهته، كما يجوز الانتفاعُ بالحيوانات التي يحرُم أكلُها في غير الأكل، والانتفاعُ بالعِنَب ونحوِه في جميع المنافع ما عدا الصورة المحرّمة التي هي جعلُه خمرًا، وهذا مما لا ينبغي أن يقع فيه خلافٌ بين أهل العلم والله أعلم. انتهى.
[من خطه المعروفِ رحمه الله تعالى حرّره المجيبُ محمدُ بن علي الشوكاني غفر الله لهما في شهر ربيع الأول سنة 1209هـ وتاريخ النقل في شهر جُمادى الأولى سنة 1327] (1).
[كمل من تحرير المجيب القاضي العمدة بدر العلماء الراسخين عز الإسلام والدين محمد بن علي الشوكاني حفظه الله وأدام لنا في أيامه، إنه على كل شيء قدير، وحرّر الجواب في شهر ربيع الآخر سنة 1209هـ] (2)
[حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله له، في شهر ربيع الأول سنة (1209هـ).
انتهى بلفظه، وحرره الناقل في شهر القعدة سنة (1294هـ)] (3).
_________
(1) زيادة من المخطوط (أ).
(2) زيادة من المخطوط (ب).
(3) زيادة من المخطوط (ج).(8/4214)
(136) 32/ 2
الوشي المرقوم في تحريم التحلي بالذهب على العموم
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(8/4215)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: الوشي المرقوم في تحريم التحلي بالذهب على العموم.
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك.
4 - آخر الرسالة: حرر في شهر جمادى الأ, لى سنة 1224 بقلم الحقير علي بن أحمد هاجر غفر الله لهما وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 13 صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الناسخ: علي بن أحمد هاجر.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/4217)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدُك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسم، وأصلّي وأسلّمُ على رسولك، وآل رسولك.
وبعدُ:
فإنه وقع السؤالُ من بعض أهل العلم ـ كثر الله فوائدهم ـ على التحلي بالذهب للرجال، وهل يجوز تخصيص الأدلة الواردة في المنع من التحلي بالذهب لما ورد من أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كان في قبيعةِ سيفيهِ ذهبٌ وفضَّةٌ، فيكون ذلك دليلاً على جواز تحليلة السلاح بالذهب، كالسيف، والجنبية، ونحوهما أم لا يجوز التخصيصُ بمثل ذلك بالنسبة إلى أمّته ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بل هو خاصّ به؟.
وأقول: الجوابُ عن ذلك ينحصر في وجوه:
الأول: الكلامُ على حديث أبي موسى الأشعري، وما ورد في معناه أنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال في الذهب والحرير: "هذان حرامٌ على ذكور أمتي" أخرجه الترمذيّ (1)، والنسائيّ (2)، وأحمد (3) والطبراني (4)، ولفظ الترمذيّ: "حُرّم لباسُ الذهب والحرير على ذكور أمتي، وأُحِلّ لإناثهم" وقال: صحيح، وقد أعلّه أبو حاتم (5) بأنه من طريق سعيد بن أبي هند عن أبي موسى ولم يَلْقَهُ.
وقد رواه أيضًا عن سعيدٍ ابنُه عبدُ الله، ونافع، واختُلِفَ على نافع، فرواه أيوبُ وعبيد الله بن عمر العمري عن نافع، عن سعيد، عن أبي موسى، ورواه عبد الله بنُ عمر العمريّ عنه، عن سعيد، عن رجل، عن أبي موسى، وقال ابنُ حبّان في صحيحه (6): حديثُ سعيد بن أبي هند عن أبي، عن أبي موسى معلولٌ لا يصحُّ، ولكنه يؤيدُ الحديثَ الذي رواه الدارقطني في العلل (7) عن يحيى بن سليمِ، عن عبيد الله بن عمرَ العمري، عن نافع، عن ابن عمر، وأيضًا فقد وافق الترمذيّ على تصحيحه الحافظُ ابن حزم (8) مع أنه لم يقف على كتاب الترمذي ولا عَرِفَهُ.
_________
(1) في "السنن" رقم (1720) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) "السنن" (8/ 190).
(3) في "المسند" (4/ 394، 407).
(4) لم أجده في "المعجم الكبير" من حديث أبي موسى.
(5) في كتاب "المراسيل" (ص75). وهو حديث صحيح بشواهده.
(6) (12/ 250).
(7) (7/ 241 - 242).
(8) في "المحلى" (4/ 37).
قلت: وأخرجه الطيالسي في "المسند" رقم (506) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 275) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 251). وهو حديث صحيح.(8/4221)
وقد أخرجه أيضًا أحمدُ (1)، وأبو داود (2)، والنسائي (3)، وابن ماجه (4)، وابن حبان (5) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أنَّ النبيّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أخذ حريرًا فجعلَه في يمينه، وأخذ ذهبًا فجعلَه في شماله، ثم قال: "إن هذين حرامٌ على ذكور أمتي" زاد ابن ماجه (6): "حلٌّ لإناثهم" قال عبد الحق (7) حاكيًا عن علي بن المديني أنه قال: حديثٌ حسن، ورجالُه معروفونَ انتهى، وهو من رواية ابنِ المبارك [1أ] عن الليث، عن يزيدَ بن أبي حبيب، عن ابن أبي الصعبة، عن رجل من همدانَ، عن عبدِ الله بن زرير، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأما ابنُ أبي الصعبة فقد ذكره ابنُ
_________
(1) في "المسند" (1/ 115).
(2) في سننه رقم (4057).
(3) في سننه (8/ 160).
(4) في سننه رقم (3595).
(5) في صحيحه رقم (5434).
(6) في سننه رقم (3595).
قلت: وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (8/ 351) وأبو يعلى في "مسنده" رقم (272) و (325) والطحاوي في "شريح معاني الآثار" (4/ 250) والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 425) م طريق رجل سماه بعضهم: أبا أفلح وبعضهم صالح، وبعضهم أبا علي الهمداني عن ابن زرير وهو مجهول.
قال الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 223): وذكر عبد الحق في "أحكامه الوسطى" (4/ 184): هذا الحديث من جهة النسائي، ونقل عن ابن المديني أنه قال فيه: "حديث حسن ورجاله معروفون" قال ابن القطان في "كتابه" هكذا قال. وأبو أفلح مجهول، وعبد الله بن زرير مجهول الحال قال الشيخ في الإمام وعبد الله بن زرير ذكره ابن سعد في "الطبقات" ووثقه وقال: توفي سنة إحدى وثمانين في خلافة عبد الملك بن مروان".
قلت: قال العجلي في "الثقات": أبو أفلح الهمذاني بصري تابعي ثقة. وقال الذهبي في "الكاشف" صدوق. وقال الحافظ في "التقريب" رقم (7944): مقبول.
وخلاصة القول أن حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه حديث صحيح.
(7) في "الأحكام الوسطى" (4/ 184).(8/4223)
حبان في الثقات (1)، واسمه عبد العزيز بن أبي الصعبةِ، وأما الرجلُ الهمدانيُّ فيقال له: أبو أفلحَ، ولا يعرف بغير هذا، وأما عبد الله بن زرير فوثّقه العجليُّ، وابن سعد (2).
وأخرجه أيضًا البيقهيّ (3) من حديث عقبة بن عامر بنحوه قال الحافظ ابن حجر (4): إسنادهُ حسنٌ.
وأخرجه البزَّار (5)، والطبراني (6) من حديث قيس بن أبي حازمٍ بنحوه، وفي إسناده عمرو بن جرير البجلي (7) قال ................
_________
(1) (7/ 111) هو عبد العزيز بن أبي الصعبة وثقة ابن حبان.
(2) انظر التعليقة رقم (6) في الصفحة السابقة.
(3) في "السنن الكبرى" (3/ 275 - 276).
قلت: وأخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" رقم (4161، 4821) ورجاله ثقات غير هشام بن أبي رُقيَّة فقد أورده ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/ 2\ 75) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً. وهو من رجال "تعجيل المنفعة".
وأورده ابن حبان في "الثقات" (5/ 501) وقد روى عنه ثقتان فهو حسن الحديث في الشواهد على الأقل قاله الألباني في "الإرواء" (1/ 308).
(4) في "التلخيص" (1/ 88).
وخلاصة القول أن حديث عقبة بن عامر حديث حسن.
(5) في مسنده (1/ 467 رقم 333) وقال البزار: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن إسماعيل عن قيس عن عمر إلاَّ عمرو بن جرير، وعمرو لين الحديث.
(6) في "الأوسط" رقم (3604) و"الصغير" (1/ 167) وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن إسماعيل بن أبي خالد إلا عمرو بن جرير تفرد به داود بن سليمان.
وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 143): وقال: رواه البزار والطبراني في "الصغير" و"الأوسط" وفيه عمرو بن جرير وهو متروك.
(7) عمرو بن جرير، أبو سعيد البجلي، عن إسماعيل بن أبي خالد، كذبه أبو حاتم، وقال الدارقطني: متروك الحديث، وأيضًا كان ضعيفًا، ذكره الساجي والعقيلي في الضعفاء. وقال ابن عدي: لعمرو ابن جرير مناكير في الإسناد والمتن غير ما ذكرت.
انظر: "الجرح والتعديل" (3/ 1\ 224) "الضعفاء" للعقيلي (3/ 264 - 265) "الكامل" (5/ 1798).(8/4224)
البزّار (1): ليِّنٌ.
وأخرجه البزّار أيضًا، وأبو يعلى، والطراني من حديث (2) عبد الله بن عمرو بنحو حديث أبي موسى، وفي إسناده الأفريقيُّ (3)، وهو ضعيفٌ، لكن ليس بقويِّ الضَّعْفِ، بل حديثُه إذا تُوبِعَ عليه صار حسنًا.
وأخرجه أيضًا الطبرانيُّ (4)، والعقيليُّ (5)، وابن حبّان في الضعفاء (6) من حديث زيد بن أرقم، وفيه ثابت بن زيد، وهو ضعيفٌ، ولكنه قد رواه ابن أبي شيبة من حديث أمية بنت زيد بن أبي أرقم عن أبيها.
_________
(1) في "المسند" (1/ 467).
وخلاصة القول أن الحديث حسن لغيره.
(2) عزاه إليهم الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 224) ولم يورده الهيثمي في "المجمع".
قلت: وأخرجه الطيالسي في "المسند" رقم (2253) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 251) وفي "شرح مشكل الآثار" رقم (4819) وابن أبي شيبة في "المصنف" (8/ 352) بسند ضعيف.
(3) هو عبد ارحمن بن زيادة بن أنعم الإفريقي ضعيف.
انظر: "المجروحين" (2/ 50)، "الميزان" (2/ 561).
وخلاصة القول أن حديث عبد الله بن عمرو صحيح لغيره.
(4) في "الكبير" رقم (5125).
(5) في "الضعفاء الكبير" (1/ 174).
(6) لم أجده في "المجروحين" عند ترجمة ثابت بن زيد هذا.
قلت: وأخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" رقم (4820) و"شرح معاني الآثار" (4/ 251).
وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 143) وقال: وفيه ثابت بن زيد بن ثابت بن أرقم، وهو ضعيف.(8/4225)
وأخرجه الطبرانيُّ (1) من حديث واثلَة بن الأسقع، وإسناده مقاربٌ كما قال الحافظ (2).
وأخرجه أيضًا البزّار (3) من حديث ابن عباس بإسنادين واهيين، فهذا الحديث قد روي من هذه الطرق عن هؤلاء الصحابة، وهو إذا لم يكن صحيحا باعتبار طريق من هذه الطرق فهو حسنٌ لغيره باعتبار مجموعها، وهو معمولٌ به عند الجمهور، ومن خالفَ في العمل به، فإنما هو خلافٌ راجعٌ إلى اصطلاح في تسمية الحسن كما هو مبيَّن في مواطنه.
الوجه الثاني: في الكلام على دلالته: اعلم أنَّ التحريمَ إذا تعلَّق بعينٍ من الأعيان فلا بدَّ من تقدير، لأنَّ المحرَّمَ في الحقيقة إنما هو فعلُ المكلَّف لا نفسُ تلك العينِ، فذهب جمعٌ من أهل الأصول (4) إلى أن المقدّر لا يكون عامًا إذا كان يتعلّق بتلك العين أفعالٌ كثيرةٌ من أفعال المكلّفين، وذهب جمعٌ منهم إلى تقدير الجميع، وعلى كل حال فلا يصحُّ أن يُقدَّرَ ما هو معلوم بالضرورة الدينية أنه حلالٌ كَلَمْسِ الذهبِ بالكف، أو حمْلِهِ، أو النظر إليه ولا يصحُّ [1ب] تقديرُ لُبْسِه أيضًا، لأنه لا يمكن أن يكون منسوجًا، والذي يوجدُ في
_________
(1) في "الكبير" (ج22 رقم 234) وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن المقدسي القشيري متروك الحديث.
(2) انظر "التلخيص" (1/ 88 - 89).
(3) في "المسند" (رقم 3006 ـ كشف) وقال: البزار: إسماعيل بن مسلم: ضعيف وقد روي هذا من غير وجهٍ وأسانيدها متقاربة.
وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 143): وقال: رواه البزار والطبراني في "الكبير" و"الأوسط" بإسنادين، في أحدهما: إسماعيل بن إسماعيل (كذا في الزوائد، والصواب. إسماعيل بن مسلم)، ابن مسلم المكي وهو ضعيف، وقد قيل: فيه صدوق يهم.
وفي الآخر إسلام (كذا في الزوائد، والصواب سلام) الطويل وهو متروك.
(4) انظر "إرشاد الفحول" (ص453)، "البحر المحيط" (3/ 162).(8/4226)
الثياب ويسميه الناسُ ذهبًا ليس بذهب، بل هو فضة كما يعرفُ ذلك من يعرفُهُ، بل كل ذهبٍ يجعلُه الإنسان على بدَنِه كالطوقِ والسوارِ ونحوِها والحلقةِ ونحوِها يقال له في لغة العرب حليةً (1)، وكذا ما يجعلُه على سلاحِه. فإن كان المقدّر هو واحدٌ فينبغي أن يكون هو التحلِّي، وإن كان المقدر عامًّا فينبغي أن لا يشملَ ما عُلم بالضرورة أنه حلالٌ من المنافع.
وعلى كل حال فالتَّحلي هو أظهرُ ما يقدَّر إن لم يكن هو المقدَّر وحدَه، وأما الأكلُ والشربُ في آنية الذهب فقد ثبت تحريمُه بدليل على أنه لا يمتنعَ أن يُقدَّرا كما قدِّر التحلِّي فيقال: الذهبُ حرامٌ على الذكور أن يتحلَّوا به، أو يأكلوا أو يشربوا في آنيته.
فإن قلتَ: فقد أخرج أحمدُ (2) والنَّسائيّ (3) من حديث معاوية قال: "نهى رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ عن ركوب النمارِ، وعن لُبْسِ الذهب إلاّض مُقَطَّعًا".
قلتُ: يمكنُ أنْ يرادَ باللُّبس هنا معناه الأعمُّ، أعني المخالطةَ والملابسةَ، ومثلُه ما أخرجه أبو داود (4) من حديث المقدامِ بن معدي كربَ، وفيه النَّهيُ عن لبس الذهب والحرير، على أنَّه لو فُرِضَ أنه يمكن لُبْسُهُ غيرُهُ من الثياب لم يكن ذلك مانعًا من تقديره كما يُقدَّرُ التحلِّي (5).
_________
(1) انظر "النهاية" (1/ 435).
(2) في "المسند" (4/ 95).
(3) في "السنن" (7/ 176 - 177). وهو حديث صحيح.
(4) في "السنن" (4131) وهو حديث صحيح.
(5) قال العمراني في "البيان في مذهب الإمام الشافعي" شرك كتاب "المهذب" كاملاً
(2/ 536). مسألة: [حرمة الذهب على الرجال]: ويحرم على الرجل استعمال قليل الذهب وكثيره، لما روى عليٌّ رضي الله عنه: "أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن لبْس القسيِّ، وعن لبس المزعفر، وعن التختم بالذهب".
وهو حديث صحيح.
ويجوز للرجل أن يتخذ خاتمًا من فضة، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كان له خاتم من فضة فصّها منها، وكان يجعل فصّها إلى راحته".
أخرجه البخاري رقم (5870) ومسلم رقم (62/ 2094) ...
- قال الشوكاني في "نيل الأوطار" (1/ 602 - 603) ركوب النمار وفي رواية "النمور" وكلاهما جمع نمر بفتح النون وكسر الميم ويجوز التخفيف بكسر النون وسكون الميم وهو سبع أخبث وأجرى من الأسد وهو منقط الجلد نقط سود ـ وفيه شبه من الأسد إلا أنه أصغر منه، وإنما نهى عن استعماله جلوده لما فيه من الزينة والخيلاء ولأنه زي العجم وعموم النهي شامل للمذكى وغيره.
قوله: وعن (لبس الذهب إلا مقطعًا) لا بد فيه من تقيد القطع بالقدر المعفوّ عنه لا بما فوقه. جمعًا بين الأحاديث. قال ابن رسلان في شرح سنن أبي داود: والمراد بالنهي الذهب الكثير لا المقطع قطعًا يسيرة منه تجعل حلقة، أو قرطًا أو خاتمًا للنساء أو في سيف الرجل، وكره الكثير منه الذي هو عادة أهل السرف والخيلاء والتكبر ".(8/4227)
الوجه الثالثُ: أنه أخرج أبو داودَ (1) من حديث أبي هريرة: "من أحبَّ أن يُحَلَّقَ حبيبَه بحلقةٍ من نار فلْيُحَلِّقْهُ بحلقةٍ من ذهب، ومن أراد أن يطوِّق حبيبه طوقًا من نار فليطوِّقْهُ طوقًا من ذهب، ومن أحبَّ أن يسوِّرَ حبيبَه بسوار من نار فلْيُسَوِّره بسوارٍ من ذهب، ولكن عليكم بالفضة فالْعبُوا بها". وقد سكت عليه أبو داود، وهو لا يسكت إلاَّ عن صالح للاحتجاج به، وكذلك سكتَ عليه المنذريُّ (2) في تخريجه مع كثرة تحرِّيه، وعدمِ إهماله للكلام على ما يستحقُّ الكلام عليه.
وأقول: هذا الحديثُ إسناده صحيحٌ؛ فإنه قال أبو داود في السنن (3): حدثنا عبد الله ابن مسلمةَ، حدثنا عبد العزيز بن محمدٍ، عن أُسيْدِ بن أبي أسيد البراد، عن نافع بن عياش، عن أبي هريرةَ، فعبدُ الله بن مسلمة هو القعنبيُّ، وهو إمام قد اتفق أهلُ الأمَّهات
_________
(1) في "السنن" رقم (4236).
قلت: وأخرجه أحمد (2/ 334، 378). وهو حديث حسن.
(2) في "مختصر السنن" (6/ 123 - 124 رقم 4071).
(3) في "السنن" (4/ 436).(8/4228)
على إخراج حديثه، وهو متَّفقٌ على توثيقه، وأسيد بنُ أبي أسيد قال في التقريب (1): صدوقٌ، وقال ابن رسلان (2): صدوقٌ أيضًا، ونافعُ بنُ عياش قال في التقريب (3): ثقةٌ من الثالثة، وقال ابن رسلان (4): ثقةٌ فاضلٌ.
وقد أخرج الطبرانُّ في الكبير (5) والأوسط (6) من حديث سهلٍ أنَّ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال: "من أحبَّ أن يسوِّر ولده سوارًا من نار فليسوره سوارًا من ذهب، ولكنِ الفضةُ العبوا بها كيف شئتم" قال في مجمع الزوائد (7): وفي إسناده عبد الرحمن بنُ زيد بن أسلمَ، وهو ضعيف.
وأخرجَ أحمدُ (8) من حدث أبي موسى نحو حديث أبي هريرة المتقدم، وفي آخره: "ولكن عليكم بالفضة العبوا بها لعبًا" وحسَّنه صاحبُ مجمع الزوائد (9) فهذه الأحاديث فيها تحريم هذه الأنواعِ من الحليةِ، ولا فرق بينها وبين غيرها مما يصدُق عليه اسم الحلية.
الوجه الرابع: أخرج أبو داود (10)، والنسائي (11) من حديث رِبعيْ بن خراش عن
_________
(1) (1/ 77 رقم 580). وهو أسيد بن أبي أسيد البرّاد، أو سعيد المديني.
(2) انظر "عون المعبود" (11/ 199).
(3) (2/ 295 رقم 18).
(4) انظر "عون المعبود" (11/ 199).
(5) (6/ 150 رقم 5811).
(6) رقم (7296).
(7) (5/ 147).
(8) في مسنده (1/ 263 - 264).
(9) (5/ 147).
(10) في "السنن" رقم (4237).
(11) في "السنن" رقم (5140) وهو حديث ضعيف.(8/4229)
امرأته، عن أختٍ لحذيفة أنَّ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال: "يا معشر النِّساء أما لكنَّ في الفضة ما تحلَّين به، أما إنه ليس منكنَّ امرأةٌ تحلَّى ذهبًا تظهرهُ إلاَّ عذِّبتْ به" وامرأةُ ربعي مجهولةٌ.
ولكن يشهدُ له ما أخرجه أبو داود (1) والنَّسائي (2) من حديث أسماءَ بنت يزيد أنَّ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال: "أيُّما امرأة تقلَّدت قلادةً من ذهب قُلِّدت في عُنُقِها مثلُهُ من النار يومَ القيامة، وأيُّما امرأة جعَلَت في أُذُنِها خِرْصًا من ذهب جُعِلَ في أُذُنِها مثلُه من نار يومَ القيامة" (3). والحديث الأولُ والآخرُ إذا دلاَّ على تحريم التحلِّي بالذهب للنساء فدلالتُهما على تحريم ذلك على الرجال بفحوى الخطاب،
_________
(1) في "السنن" رقم (4238).
(2) في "السنن" رقم (5142). وهو حديث ضعيف.
- قال الألباني في "آداب الزفاف" (ص259): والجواب من وجهين:
الأول: رد الحديث من أصله لعدم ثبوته فإنه في سنده امرأة ربعي وهي مجهولة كما قال ابن حزم (10/ 83).
ثانيًا: لو كانت العلة هي الإظهار، لكان لا فرق في ذلك بين الذهب والفضة لاشتراكهما في العلة مع أن الحديث صريح في التفريق بينهما، ولا قائل بحرمة خاتم الفضة على المرأة مع ظهوره، فثبت بطلان التمسك بعلة الإظهار ولهذا قال أبو الحسن السندي: " (تظهره) يحتمل أن تكون الكراهة إذا ظهرت وافتخرت به لكن الفة مثل الذهب في ذلك، فالظاهر أن هذه الزيادة التقبيح والتوبيخ. والكلام لإفادة حرمة الذهب (يعني المحلِّق) للنساء مع قطع النظر عن الإظهار والافتخار".
وهذا كله يقال على افتراض صحة الحديث، وإلا فقد عرفت صفته فسقطالاستدلال به أصلاً.
(3) قال الخطابي في "معالم السنن" (4/ 437) وهذا يتأول على وجهين:
أحدهما: إنَّه لما قال ذلك في الزمان الأول، ثم نسخ وابيح للنساء التحلي بالذهب. وقد ثبت أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام على المنبر وفي إحدى يديه ذهب وفيه الأخرى حرير، فقال: "هذان حرام على ذكور متي حلال لإناثها".
والوجه الآخر: أن هذا الوعيد إنما جاء فيمن لا يؤدي زكاة الذهب دون من أداها.(8/4230)
وهذا هو مرادُنا من ذكرِ هذين الحديثين، وقد اختلفت الأحاديث في تحلِّي النساء بالذهبِ، وجمعنا في ذلك رسالة (1) جوابٍ عن سؤال ورد من بعض الأعلام ذكرنا فيها الجمعَ بين الأحاديث المختلفةِ في تحلِّي النساء بالذهب.
الوجه الخامس: أخرج أحمد (2) من حديث عبد الرحمن بن غُنْمٍ قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من تحلَّى ذهبًا، أو حلَّى بَخْرَ بصيصة من ذهب كُوي به يوم القيامة". قال في مجمع الزوائد (3): فيه شهرُ بنُ حوشبٍ، وهو ضعيفٌ يكتُبُ حديثُه، وبقيةُ رجاله رجال الصحيح.
قلت: وقد أخرج حديثَ شهرٍ مسلمٌ في صحيحه (4)، والبخاريُّ في الأدب المفرد، وأهلُ السنن. وقال في التقريب (5): هو صدوقٌ [2ب] كثيرُ الإرسال والتدليس انتهى.
ولكنَّ هذا الحديث لا إرسال فيه. قال في النهاية (6) ما لفظه: مَنْ تحلَّى ذهبًا، أو حلاه ولده مثلَ خُرَبْصيْصةٍ هي الهيئة التي تتراءى في الرمل لها بصيص كأنها عين جرادةٍ. ومنه الحديثُ: "أن نعيمَ الدنيا أقلُّ وأصغر من خربصيصةٍ" انتهى.
فهذان الحديثان يدلاَّن أبلغ دلالة على تحريم التحلي بالذهب، وإن كان شيئًا يسيرًا كالخردلة وما دونَها مما يدركه الطرفُ. والحليةُ تصدقُ على ما هو متصلٌ بالبدن كالطوق، والسوار، وعلى ما هو منفصلٌ عنه ومتّصل بما يتصلُ به من الثياب الملبوسة كحلية السيف، والجنبيةِ، ونحوهما، لأنَّ الكلَّ يحصلُ به الزينةُ. قال في القاموس (7):
_________
(1) انظر الرسالة رقم (137).
(2) في "المسند" (4/ 227). بسند ضعيف. لضعف شهر بن حوشب.
(3) (5/ 147).
(4) لم أجده.
(5) رقم (2830).
(6) (2/ 19).
(7) (ص1647).(8/4231)
الحَلْيُ بالفتح ما تُزُيِّنَ به مصنوع المعدنيات أو الحجارة، الجمع حلِيٌّ كدُلي، أو هو جمع، الواحدة حليةٌ كظبيةٌ بالكسر الحَلْيُ، الجمعُ حِلَّى وحُلَّى، حلَّى السيفَ، وحلاته وحلَّيتُه، وحَلِيتِ المرأةُ كرَضيَ حلْيًا فهي حالٍ وحاليةٌ استفادتْ حَلْيًا أو لبستْه كَتحلَّتْ أو صارتْ ذات حَلْيٍ، وحلاَّها تحليةً ألبسها حَلْيًا أو اتَّخذه لها، انتهى.
وقال في النهاية (1): الحَلْيُ اسمٌ لكل ما يُتزيّن به من مصاغ الذهب والفضة، والجمع حِلي بالضم والكسر انتهى. ولا شك أن الزينة تحصلُ بالحلية التي توضع على البدن بدون حائل، كالطوق، والسِّوار، وتحصل بالحلية التي بينها وبين البدن حائلٌ، كالمناطق التي توضع فوق الثياب، وكالسيف المحلَّى، ونحوِ ذلك. ومَنْ أنكر هذا فهو مكابرٌ ومخالفٌ لما يفيده لغةُ العرب، ولما يفهمه أهلُ اللغة منها، فما كان مثلَ عين الجرادة من الذهب فالتحلّي به حرامٌ، سواء كان على البدن، أو على شيء متصل به ـ بالبدن ـ، كالسيف والمنطقة، والجنبية إذْ صدقَ اسمُ الحلية عليه لغةً فلا يدخلُ في ذلك ما وضعه الإنسان في كُمِّه، أو طرف ثوبه، أو وسطه من الذهب لقصدا لانتفاع به بوجٍ من الوجوه كصرفه في حوائجه أو التداوي به أو نحوِ ذلك، فإن هذا ليس بحليةٍ لا لغةً، ولا شرعًا، ولا عُرفًا.
الوجه السادس: أخرج أحمدُ (2) بإسناد رجالُهُ ثقاتٌ من حديث ابن عمرو عن النبيّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من مات من أمّتي وهو متحلٍّ بالذهب حرَّمَ الله عليه لباسه في الجنة"، وأخرجه الطبرانيُّ (3) أيضًا وهو يدلُّ على تحريم التحلّي بالذهب من غير فرقٍ بين قليله وكثيره، وبين ما كان منه متصلاً بالبدن أو بينَه وبين البدن حائلٌ،
_________
(1) (1/ 435).
(2) في "المسند" (2/ 208) بإسناد صحيح.
(3) عزاه إليه الهيثمي في "المجمع" (5/ 146) وقال: رواه أحمد والطبراني وزاد ومن مات من أمتي يشرب الخمر حرم الله عليه شربها في الآخرة.(8/4232)
وهو [3أ] عليه أنه حليةٌ، ويصدق على من هو عليه أنه مُتَحلٍّ.
الوجه السابع: أخرج النّسائي (1)، والحاكم (2)، وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين من حديث عقبة بن عامر أن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ كان يمنع أهل الحلية والحرير ويقول: "إنكم تحبُّون حليةَ الجنةِ وحريرَها، فلا تلبسوهما في الدنيا".
وفيه التصريح بالنّهي عن لُبْسِ الحلية، وأهل اللغة يقولون: لبسَ السلاحَ لبس لامة الحرب كما يقولون: لبس الثوب. وأما الفرق المذكور في كتب الفقه بين المحمول والملبوس فاصطلاحٌ غيرُ مستندٍ إلى لغة العرب، ولا إلى حقيقة الشرع.
الوجهُ الثامن: حديثُ النَّهي عن لبس الذهب إلاَّ مقطَّعًا، وحديثُ النهي عن لبس الذهب والحرير، وقد تقدما في الوجه الثاني. وتقرير الاستدلال بهما كتقدير الاستدلال بالحديث المذكور في الوجه السابع.
الوجه التاسعُ: حديث أبي أمامة أنه سمع رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيلا يلبس حريرًا ولا ذهبًا" أخرجه أحمدُ (3) بإسناد رجالُه ثقاتٌ، وتقريرُ الاستدلال به كما سبقَ.
الوجه العاشرُ: قد ثبت في أحاديث النهي عن خاتم الذهب أنه علَّل ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ذلك بأنه جمرةٌ من نار كما في صحيح مسلم (4) من حديث ابن عباس، وكما في حديث أبي سعيد عند النسائي (5)، وهذه العلّة المنصوصة مشعِرةٌ بأنه لا فرق بين
_________
(1) في "السنن" (8/ 156 رقم 5136).
(2) في "المستدرك" (4/ 191) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الذهبي لم يخرجا لأبي عشانة. وهو حديث صحيح.
(3) في مسنده (1/ 265 رقم 107 ـ الفتح الرباني).
(4) في صحيحه رقم (52/ 2090) عن ابن عباس أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى خاتمًا من ذهب في يد رجلٍ، فنزعه فطرحه وقال: "يعمد أحدُكم إلى جمرةٍ من نارٍ فيجعلها في يده".
(5) في "السنن" (8/ 170 رقم 5188): عن أبي سعيد الخدري أنّ رجلاً قدم من نجران إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه خاتم من ذهب فأعرض عنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال إنَّك جئتني وفي يدك جمرةٌ من نار".
وهو حديث صحيح.(8/4233)
غيرِه من أنواع حلية الذهب؛ إذ لا تأثير لكونه ذهبًا في موضع خاصّ من البدن، وهو الأُصبع بل لكونه حليةً.
فتقرر بجميع هذه الأدلة المذكورة في هذه الوجوه العشَرَةِ أن حليةَ الذهب محرَّمةٌ على الرجال. أما الحديثُ المذكور في الوجه الأول فالتصريح فيه بالتحريم، وأمَّا الحديثُ المذكور في الوجه الثالث فالتصريح فيه بأن تلكَ الحلية من الذهب تكون نارًا، وكذلك الحديثان المذكوران في الوجه الرابع، ومثل ذلك الحديثان المذكوران في الوجه الخامس، وأما الحديث المذكور في الوجه السادس فللتصريح فيه تارةً أنه يحرُم عليه لباسُهُ في الجنة، وأما الحديثُ المذكور في الوجه السابع فللتصريح فيه بالنهي، وكذلك الحديثان المشار إليهما في الوجه الثامن، وكذلك الحديثُ المذكورُ في الوجه التاسع، وأمَّا أحاديث الخاتَمِ فلما ذكرنا هنا في العلَّة من العلة المنصوصة المقتضية أنه لا فرق بين الخاتم وغيره، المصرِّحة بأنه جمرةٌ من نار، وقد تقرَّر في الأصول (1) أنَّ النهي عن الشيء [3ب] أو التوعُّد عليه بالعذاب، أو بدخول النار، أو بأنه يحرُم على فاعله في الجنة يقتضي كلُّ واحد منها التحريمَ فكيف إذا كانت مجتمعةً!.
الوجهُ الحادي عَشَرَ: في الحديث الذي عورضتْ به هذه الأحاديثُ في بعض أنواع الحلية، وذلك حليةُ السلاح، أخرجه الترمذيُّ (2) وقال (3): حسنٌ غريب عن طالب بن حُجَيْر، حدثنا هُودُ بن عبدِ الله بن سعد عن جدِّه مزيدَةَ قال: دخل النبيّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يوم الفتح وعلى سيفه ذهبٌ وفضةٌ. قال طالبٌ: فسألتُ عن القبيعة
_________
(1) انظر "إرشاد الفحول" (ص384)، "تيسير التحرير" (1/ 375).
(2) في "السنن" رقم (1690) وهو حديث ضعيف.
(3) الترمذي في "السنن" (4/ 200).(8/4234)
قال: كانت قبيعةُ سيفه فضةً. هكذا ساقه الحافظُ في التخليص (1)، ولم يتكلَّم عليه، بل اقتصر على نقل تحسين الترمذيّ له. وقد قال في التقريب (2) ما لفظه: طالب بنُ حجير بمهملةٍ وجيمٍ، مصغَّرٍ العبديُّ البصريُّ صدوقٌ من السابعة. وقال فيه (3) أيضًا ما لفظه: هودُ بن عبد الله العبديّ مقبولٌ من الرابعة انتهى. فعلى هذا يكون الحديثُ حسنًا كما قال الترمذي (4)، ولكنه قد ورد (5) ما هو أرجحُ منه مصرِّحًا بأن قبيعةَ سيفه كانت فضةً، وهو من رواية جرير بن حازم عن قتادة عن أنس، ورواه هشامٌ عن قتادةَ عن سعيد بن أبي الحسن مرسلاً، ورجَّح (6) المرسلَ أحمدُ، وأبو داودَ (7)، والنسائي (8)، وأبو حاتم، والبزار، والدارميُّ، والبيهقي، وقال: تفرد به جرير بنُ حازم، قال الحافظ (9): لكن أخرجه الترمذيُّ (10) والنسائي (11) من حديث هُمامٍ عن قتادةَ عن أنس، وله طريقٌ غيرُ هذه رواها النّسائي (12) من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: كانت قبيعة سيف رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ من فضة. وإسنادُهُ صحيح.
ورواه الطبرانيّ في الكبير (13) من حديث محمد بن حمير، حدثنا أبو الحكم الصيقل،
_________
(1) (1/ 85).
(2) (1/ 377 رقم 13).
(3) أي ابن حجر في "التقريب" (2/ 322 رقم 199).
(4) الترمذي في "السنن" (4/ 200).
(5) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (1691) وهو حديث صحيح.
(6) عزاه إليهم ابن حجر في "التلخيص" (1/ 85).
(7) في "السنن" رقم (2583).
(8) في "السنن" (8/ 219 رقم 5374).
(9) في "التلخيص" (1/ 85).
(10) في "السنن" (4/ 201).
(11) في "السنن" (8/ 219).
(12) في "السنن" (8/ 219 رقم 5373).
(13) (20/ 360 رقم 844). وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 271) وفيه أبو الحكم الصيقل ولم أعرفه وبقية رجال ثقات.(8/4235)
حدثني مرزوق الصيقل أنه صقلَ سيفَ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ذا الفقار، وكانت له قبيعةٌ من فضة. هذا صحابيان قد رفعاه كما رفعه جرير بن حاتم على أنه لو لم يكن في الباب إلاَّ حديثُ أنس مع الاختلاف في رفعه وإرسالِهِ لكان الرفعُ زيادةً يجيب المصيرُ إليها، فمن عَلِمَ حُجَّةٌ على من لم يعلم، ولا سيما وقد تابعَ جريرَ بن حازم (1) على رفعه [4أ] همامٌ، لكنَّ الشأن في مخالفة هذه الأحادي المصرِّحة بأن قبيعة سيفه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ كانت فضةً لحديث (2) طالبِ بن حُجَيْرٍ المذكورٍ سابقًا، مع تصريحه بعد تمام حديثه بأن سأل عن قبيعة السيف فقيل له كانت فضة، فإن لم نعتبر هذه المخالفة، وقلنا: الرواية المصرِّحة بالذهب والفضة مشتملةٌ على زيادة مقبولة، ولا سيما في حديث طالب بن حجير أنّ الذهب كان على القبيعة، بل على السيف، فلا منافاة بينه وبين الروايات المصرِّحة بأن القبيعة كانت من فضة، فإن القبيعة هي التي تكون على رأس قائم السيف وطرف مَقْبَضِهِ، وقيل: ما تحتَ شاربي السيفِ، وقيل ما فوق المقبضِ.
وعلى كل حال فالقبيعة موضعٌ خاصٌّ من السيف، فلا تَعَارُضَ بين الروايات، وقال الحافظ الذهبيُّ في حرف الطاء من الجزء الثاني من الميزان (3) ما لفظه: طالبُ بنُ حَجير عن هود بن عبد الله بنِ سعيد عن جده مَزِيدَة العَصري قال: دخل رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يوم الفتح وعلى سيفِهِ ذهبٌ وفضة كانت قبيعةُ السيف فضةً، قال الترمذي (4): حسنٌ، وقال الحافظ (5) أبو الحسن القطان: هو عندي ضعيفٌ لا حَسَنٌ،
_________
(1) كذا في المخطوط ولعل الصواب حاتم كما تقدم آنفًا.
(2) تقديم تخريجه وهو حديث ضعيف.
(3) (2/ 333 رقم 3971).
(4) (4/ 200).
(5) في "الميزان" (2/ 333).(8/4236)
وصدق أبو الحسن.
قلتُ: تفرَّد به طالب، وهو صالحُ الأمر إن شاء الله، وهذا منكر، فما علمنا في حلية سيفه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ذهبًا. انتهى (1).
الوجه الثاني عشر: في كيفية الجمع بين الأحاديث المتقدِّمة المصرِّحة بتحريم الذهب أو المستلزمة لذلك، وبين هذا الحديث المذكور في الوجه الذي قبل هذا أنّه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ دخل يوم الفتح وعلى سيفه ذهبٌ وفضةٌ.
اعلم أنه قد صرّح أهل الأصول (2) بأنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ إذا أمر بشيء أو نهى عن شيء، ثم تركَ ما أمرَ بفعلِه، أو فعلَ ما نَهَى عن فعله، فإن كان ذلك الأمرُ أو النهيُ ونحوُهما يختصَّان بالأمَّة، ولا يشملانِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لا بطريق التنصيص، ولا بطريق الظهور كما إذا قال لا يحلُّ لكم، لأحدِكم، لا تفعلوا، أو افعلُوا أو هذا حرامٌ عليكم، أو واجبٌ على الأمَّة، أو واجبٌ أو حرامٌ عليها، فلا معارضة بين أمره أو نهيه لنا، وبين فعله أو تركِه المخالفِ لما أمرَ به أو نهى عنه [4ب]، وإن كان الأمرُ أو النهيُ أو نحوُهما يشملانِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بطريق الظهور كأن يقول: ليفعل كلُّ مسلم كذا، أو لا يفعلْ، أو مَنْ فعلَ، أو هذا واجبٌ على المسلمين، أو حرام، فإنَّ فِعْلَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لِمَا نهى عنه، وترْكَهُ لما أمر به يكون مخصِّصًا له من ذلك العموم، فيكون ذلك الفعلُ أوِ التَّركُ من خصوصياته، وإن كان ما أمر به أو نهى عنه أو نحوُهما يتناوله بطريق التنصيص عليه كأن يقول: أُمِرْتُ وأمرتم، أو نُهيتُ ونُهيتم عن كذا، أو يقول: واجبٌ عليَّ وعليكم، أو حرام عليّ وعليكم، ثم فعل ما يخالفُ ذلك كان هذا الفعل نسْخًا لما تقدَّمه من الأمر أو النهي أو نحوِهما في حقِّه. هذا إذا لم يظهر دليل يدلُّ على التأسّي به كان هذا الفعل ناسخًا لما تقدّمه من الأمر أو
_________
(1) كلام الذهبي في "الميزان" (2/ 333).
(2) انظر "إرشاد الفحول" (ص170 - 180)، "تيسير التحرير" (1/ 252)، "العدة" (1/ 260).(8/4237)
النهي المخالفين له في حقِّه، وحق الأمَّة، أو دليلاً على الجواز في جانب الفعل والتّرك.
إذا تقرر هذا فاعلم أنّه لم يكن في دخوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يوم الفتح بسيف عليه ذهبٌ وفضة ما يدلُّ على التأسِّي به في ذلك، فلا يكون مخالفًا للأحاديث الدالّة على تحريم التحلّي بالذهب. لا يقالُ: إن أدلة التاسِّي العامّة كقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (1)، وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (2) وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) ونحو ذلك، لأنا نقول: إن أدلة تحريم التحلِّي بالذهب على الأمة أخصُّ مطلقًا من أدلة التأسِّي العامّة، فتكون مخصِّصة بها. وقد صرح بهذا أهلُ الأصول.
فإن قلت: أبِنْ لي ما زعمتَه من عدم المعارضة بين حديث تحلية سيفه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بالذهب، وبين بعض الأحاديث التي سردتَها في تحريم الذهب، وكيفية التخصيص في البعض الآخر.
قلتُ: أما الحديث المذكورُ في الوجه الأول فلا معارضة، لأنّه مصرِّحٌ بأن التحريم على ذكور أمَّته ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، وهو ليس من ذكور أمَّتهِ، إذ المضافُ غيرُ المضاف إليه، والأمَّةُ هم المؤتمونَ به، المتابعون، وهو الإمام المتبوع والإمام غير المأموم، والتابعُ غيرُ المتبوع.
وأم الحديثان المذكوران [5أ] في آخر الوجه الثاني، وهما المشارُ إليهما في الوجه الثامن فليس فيهما إلاَّ مُطْلَقُ النَّهي، فإن كان المخاطِبُ (4) غيرَ داخلٍ في الخطاب فلا
_________
(1) [الأحزاب: 21].
(2) [آل عمران: 31].
(3) [الحشر: 7].
(4) قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص446 - 447): بعد أن ذكر الاختلاف في هذه المسألة.
- ذهب الجمهور إلى أنه يدخل ولا يخرج عنه إلا بدليل يُخصِّصه.
- وقال أكثر أصحاب الشافعية إنه لا يدخل إلا بدليل.
- قال ابن برهان في "الأوسط": ذهب معظم العلماء إلى أن الأمر لا يدخل تحت الخطاب ونقل القاضي عبد الجبار وغيره من المعتزلة دخوله.
وخالف ابن برهان في نقله عن معظم العلماء الرازي في "المحصول" (2/ 379) وابن الحاجب في "مختصر المنتهى" (2/ 127) ... ".
قال الشوكاني: والذي ينبغي اعتماده أن يقال إن كان مراد القائل بدخوله في خطابه أن ما وضع للمخاطب يشمل المتكلّم وضعًا فليس كذلك، وإن كان المراد أن يشمله حكمًا فمسلّم إذا دل عليه دليلٌ وكان الوضع شاملاً له كألفاظ العموم.
وانظر: "البحر المحيط" (3/ 192)، "نهاية السول" (2/ 82).(8/4238)
معارضةً، وإن كان داخلاً فهما شاملان له بطريق الظهور، فيكون تحليةُ سيفه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ تخصيصًا له في ذلك الأمر الخاصّ من الحلية دون ما عداه.
وأما الحديث المذكور في الوجه الثالث فإذا كانت صيغة العموم (1) في قوله: "من أحبّ أن يحلّق حبيبه" شاملةً له، وكانت أيضًأ شاملةً لجميع أنواع الحلية بفحوى الخطاب أو بلحنِهِ فيكون حديثُ تحلية سيفه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ مخصِّصًا له.
وأما الحديثان المذكوران في الوجه الرابع في نهي النساء عن حلية الذهب، فإذا كان داخلاً كغيره من المسلمين بفحوى الخطاب فتحليةُ سيفه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ مخصِّصةٌ له من عموم دليل الفحوى، وهكذا يكون مخصِّصًا له من عموم الحديثين المذكورين في الوجه الخامس، لما فيهما من الصيغة العامة له بطريق الظهور.
وأما الحديث المذكور في الوجه السابع؛ فإن الخطاب لغيره.
وأما الحديثُ المذكور في الوجه التاسع فالقبيعةُ (2) تشمله بطريق الظهور، فيكون تحليةُ
_________
(1) انظر "إرشاد الفحول" (ص404)، "البحر المحيط" (3/ 64).
(2) القبيعة: هي التي تكون على رأس قائم السيف.
وقيل: هي ما تحت شاربي السيف. "النهاية" (4/ 7).(8/4239)
سيفِه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ مخصِّصة له فيتلك الحلية الخاصة، وهكا ما ذكر في الوجه العاشر؛ فإن التعليل بأن الخاتَمَ الذهب جمرةٌ من نار يشملُه، فيكون تحليةُ سيفِه بالذهب مخصِّصةً له في ذلك النوع الخاصّ على ما قررناه من دلالة العلة على تحريم حلية الذهب على العموم.
فتقرَّر لك من جميع ما حررناه أن التحلِّي بالذهب لا يحلُّ سواءٌ كانتِ الحليةُ متصلةً بالبدن كالطوقِ والسِّوارِ، أو كان بينَها وبينَه حائلٌ كمِنْطَقَةِ الذهب، وحليةِ السيفِ، والدِّرع، والجنبيةِ من غيرِ فرقٍ بينَ القليلِ والكثيرِ كما تقدم في حديث الخربصيصة (1)؛ فإنَّ مَنْ جعل على سيفِه أو درعِه أو جنبيته حرفًا من حروف الذهب المعروفة فقد جعل عليه زيادةً على مائة خربصيصةٌ، ومن قال: نحلية الرجل أو درْعَهُ، أو نحوَهُما ليست بحليةٍ للرجل فقد [5ب] خالف اللغةَ والشرعَ والعُرْفَ؛ فإن الرَّجُلَ إنما يجعلُ الحلية على السيف ونحوِه ليتزيَّنَ بها.
وأما تزيين الجماد فليس مما يقصده العقلاء إلاَّ إذا أرادوا نفاقَهُ، ورفعَ ثمنه، وهذا صُنْعُ الصّاغةِ والباعة، وأهل التجارة لا صنعُ من يلبسُ السلاح ويتزيّن به، وبما عليه، ولو كانت الحلية حلالاً إذا كانت في شيء بينه وبين الجمس ما يمنعُ اتصالَه به لكان سوارُ الذهب الذي يكون زونُهُ رطلاً حلالاً إذا جُعِلَ بينَه وبين البدن ما يمنعُ اتصالُه من ثوبٍ أو جلدٍ أو نحوِها، أو كان على صفيحةٍ من فضةٍ أو نحوها، وهذا لا يقولُ به مَنْ يفهمُ لغةَ العرب، ويعرفُ مقاصدَ الشرع.
الوجه الثالثَ عشرَ: اعلم أنه لم ينهضْ دليلٌ على تحريم استعمالِ الذهب والفضةِ، بل الحديثُ الصحيح (2) المجمع عليه، وما ورد في معناه من الأحاديث
_________
(1) تقدم توضيح معناه.
(2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (5634) ومسلم رقم (1/ 2065) عن أم سلمة: "أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن الذي يشرب في إناء الفضة إنّما يجرجر في بطنه نار جهنم".(8/4240)
الصحيحة (1) المصرِّحة بتحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضةِ، والتوعُّدِ على ذلك بأن من فعله فإنما يُجَرْجرُ (2) به في بطنه نار جهنم لا يدلّ على إلحاق سائر الاستعمالات بهما، لا بفحوى الخطاب ولا بِلَحْنِهِ. ولا يدلُّ عليه بمطابقة، ولا تضمّن، ولا التزام. وهكذا لم يرِدْ ما يدلُّ على منع اتخاذ آنية الذهب والفضة لغير الأكل والشرب (3)، وإنما
_________
(1) منها: ما أخرجه البخاري رقم (5426) ومسلم رقم (2067) من حديث حذيفة قال: "سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها، فإنَّها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة".
(2) أي يحدر فيها نار جهنم، فجعل الشرب والجرع جرجرة، وهي صوت وقوع الماء في الجوف.
قال الزمخشري: يروى برفع النار، والأكثر النَّصب، وهذا القول مجاز، لأن نار جهنم على الحقيقة لا تجرجر في جوفه، والجرجرةُ. صوت البعير عند الضجر، ولكنّه جعل صوت جرع الإنسان للماء في هذه الأواني المخصوصة لوقوع النذهي عنها واستحقاق العقاب علىاستعمالها كجرجرة نار جهنم في بطنه في طريق المجاز. هذا وجه رفع النار. ويكون قد ذكر يجرجر بالياء للفصل بينه وبين النار.
فأمّا على النّصب فالشارب هو الفاعل، والنّار مفعوله، يقال جرجر فلان الماء إذا جرعه جرعًا متواترًا له صوت. فالمعنى كأنّما يجرع نار جهنم. "
النهاية" (1/ 255)، "فتح الباري" (10/ 97).
(3) قال القرطبي في "المفهم" (5/ 345): وهذا الحديث ـ أي حديث أم سلمة ـ دليل على تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويُلحق بهما ما في معناهما مثل: التطيُّب، والتكحُّل وما شابه ذلك وبتحريم ذلك قال جمهور العلماء سلفًا وخلفًا. ورُوي عن بعض السلف إباحة ذلك، وهو خلاف شاذّ مطّرح للأحاديث الصحيحة الكثيرة في هذا الباب.
وانظر: "فتح الباري" (10/ 97 - 98).
- وقال القرطبي في "المفهم" (5/ 345 - 346): ثم اختلف العلماء في تعليل المنع، فقيل: إن التحريم راجعٌ إلى عينهما. وهذا يشهد له قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هي لهم في الدنيا، ولنا في الآخر".
وقيل: ذلك مُعلّل بكونهما رؤوس الأثمان، وقيم المتلفات. فإذا اتخذ منهما الأواني قلّت في أيدي الناس، فيجحف ذلك بهم. وهذا كما حُرِّم فيهما رب الفضل، وقد حسّن الغزاليّ هذا المعنى، فقال: إنهما في الوجود كالحكّام الذين حقهم أن يتصرفوا في الأقطار ليظهروا العدل، فلو منعوا نم التصرّف والخروج للناس لأخلّ ذلك بهم، ولم يحصل عدلٌ في الوجود.
وصياغةُ الأواني من الذهب والفضة حبسٌ لهما عن التصرُّف الذي ينتفع به الناس.
وقيل: إنّ ذلك معلّل بالسّرف، والتشبُّه بالأعاجم.
قلت: ـ القرطبي ـ وهذا التعليل ليس بشيء لأنه يلزم عليه أن يكون اتخاذُ تلك الأواني، واستعمالها مكروهًا، لأن غاية السّرف والتشبّه بالأعاجم أن يكون مكروهًا، والتهديد الذي اشتمل عليه الحديث المتقدم مفيدٌ للتحريم لا للكراهة.
وكلُّ ما ذكرناه من التحريم إنَّما هو في الاستعمال، وأما اتخاذ الأواني من الذهب والفضة من غير استعمال: فمذهبنا، ومذهب جمهور العلماء: أن ذلك لا يجوز.
وذهبت طائفة من العلماء: إلى جواز اتخاذها دون استعمالها.
وفائدة هذا الخلاف بناء الخلاف عليه في قيمة ما أفسد منها، وجواز الاستئجار على عملها. فمن جوّز الاتخاذ، قوّم الصياغة على مفسدها. وجوّز أخذ الأجرة عليها. ومن منع الاتخاذ، منع هذين الفرعين.
فأما ما ضُبِّب من الأواني بذهبٍ، أو فضة أو كانت فيه حلقةٌ من ذهب أو فضةٍ. فذهب الجمهور إلى كراهة استعمال ذلك. وأجازه أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد، وإسحاق إذا لم يجعل فمه على التضبيب أو الحلقة، وروي أيضًا مثله عن بعض السلف. قالوا: وهو كالعَلَم في الثواب والخاتم في اليد بشرب به، وقد استحبّ بعض العلماء الحلقةَ دون التضبيب.
انظر: "المغني" (1/ 103 - 105).(8/4241)
ذكرنا هذا الوجْهَ لئلا يظُنّ ظانٌّ بأن هذا لا يحلُّ قياسًا على تحريم الحِلْية، أو على تحريم الأكل والشرب.
الوجهُ الرابعَ عشرَ: "اعلم أنَّه لم يكن في شيء من الأحاديث السابقة ما يدلُّ على تحريم حلية الفضة، فالواجب البقاء على الأصل، وهو أنها حلالٌ استصحابًا للبراءة الأصلية، وعملاً بالعمومات القرآنية: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} (1) و {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} (2) ونحوِهما.
_________
(1) [الأعراف: 32].
(2) [البقرة: 29].(8/4242)
وقد زاد ذلك الأصل، وهذه العمومات تأييدًا وتأكيدًا الحديث المذكور في الوجه الثالث بلفظ: "ولكن عليكم بالفضة فالْعبوا بها لعبًا" (1) فيدخلُ في ذلك التحلّي بها بكل نوع من أنواع الحلية [6أ]، ولبسُها على كل هيئة من هيئات اللُّبس.
وقد ورد ما يدلّ على جواز بعض أنواع الحلية، وهو مما يزيد ذلك الأصل، وتلك العمومات تأييدًا أيضًا كحديث اتخاذه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لخاتم الفضة، وإرشاده إلى اتخاذه كما في حديث بريدة عند أهل السنن (2). قال: جاء رجل إلى النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وعليه خاتمٌ من حديد فقال: "ما لي أرى عليك حلية أهل النار! " ثم جاءه وعليه خاتمٌ من صِفْرٍ، وفي رواية من شبهٍ فقال: "ما لي أجد منك رائحةَ الأصنام! " ثم جاءه وعليه خاتَمٌ من ذهب، فقال: "ما لي أرى عليك منك رائحةَ الأصنام! " ثم جاءه وعليه خاتَمٌ من ذهب، فقال: "ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة! " فقال: فَمِنْ أي شيء اتّخذهُ؟ قال: "من ورقٍ" قال الترمذي (3): هذا حديث غريبٌ، وفي إسناده عبد الله بن مسلم أبو طيبة السُّلمي المروزي (4)، قاضي مَروْ، روى عبد الله بن بريدة وغيره. قال أبو حاتم الرازي (5): يُكْتَبُ حديثُه ولا يُحتَجُّ به، فجمع أنواع الحلية واللُّبس والاستعمال والانتفاع بالفضة حلالٌ لا يخرج من ذلك إلاَّ ما خصَّه الدليلُ، كالأحاديث المصرِّحة بتحريم الأكل والشرب في صِحافِهما.
فإن قلت: قد روى أبو داود (6) من حديث ثوبانَ أن النبيّ ـ صلى الله عليه وآله
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) أخرجه أبو داود رقم (4223) والترمذي رقم (1785) وقال: هذا حديث غريب.
والنسائي رقم (5198).
(3) في "السنن" (4/ 248).
(4) انظر: "ميزان الاعتدال" (2/ 504 رقم 4605).
(6) أخرجه أبو داود رقم (4213).
قلت: وأخرجه أحمد في "المسند" (5/ 275) بسند ضعيف.
- حميد الشامي: قال ابن عدي: أنكر عليه حديثه عن سليمان المنبهي ولا أعلم له غيره قال الذهبي: ولا أخرج له أبو داود سواه في ذكر فاطمة وتعليقها الستر وتحلية ولديها بقلبين.
" الميزان" (1/ 617).
- وسليمان المنبهي: تفرد عنه حميد الشامي، وقال ابن معين: لا أعرفهما.
"الميزان" (2/ 229).
قال الألباني في "ضعيف أبي داود": ضعيف الإسناد منكر.
- قال الإمام النووي في "شرحه لصحيح مسلم" (14/ 33) وعبارته: "وأما الصبيان فقال أصحابنا ـ أي الشافعية ـ يجوز إلباسهم الحلي والحرير في يوم العيد لأنّه لا تكليف عليهم، وفي جواز إلباسهم ذلك في باقي السنة ثلاثة أوجه:
أصحها: جوازه.
والثاني: تحريمه.
والثالث: يحرم بعد سن التمييز" اهـ.
قلت: لا فرق بين الصغير والكبير في الحرمة بعد أن كاد ذكرًا لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدار هذا الحكم على الذكورة يقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هذان حرام على ذكور أمتي" ـ تقدم تخريجه وهو حديث صحيح ـ إلا أن اللابس إذا كان صغيرًا فالإثم على من ألبسه لا عليه لأنه ليس من أهل التحريم عليه.
هذا إذا كان كله حريرًا وهو المصمت، وهذا ما قاله الحنفية ـ "بدائع الصنائع" (5/ 131) ـ والمالكية ـ "حاشية العدوى على الرسالة (2/ 412) ط: عيسى الحلبي ـ وهوا لراجح عند الحنابلة ـ "المغني" (2/ 304) لعموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حرام لباس الحرير على ذكور أمتي لا لإناثهم".(8/4243)
وسلم ـ قدم من غزاةٍ، وكان لا يقدُم إلاَّ حينَ يقدُم ببيتِ فاطمةَ ـ رضي الله عنها ـ فوجدها قد علّقت سِترًا على بابها، وحلّت الحسَنَيْنِ بقلبين من فضةٍ، فتقدّم فلم يدخل عليها، فظنّت أنه إنما منعه أن يدخل ما رأى فهتكت السِّتر، وفكّت القلبين عن الصبيين فانطلقا إلى رسول الله يبكيان، فأخذه منهما وقال: يا ثوبان اذهب بهذا إلى آل فلان إن هؤلاء أهل بيتي أكره أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا. يا ثوبان اشتر لفاطمة قلادة من عصب، وسوارًا من عاج.
قلت: قد أوضح ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في هذا أنه إنما كره لأهل أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، وأرشهدم إلى الزُّهد فيها، وليس في ذلك ما يدل على المنع لهم(8/4244)
جَزْمًا ولا لغيرهم.
الوجه الخامسَ عشرَ: قد رخص [6ب]ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في لُبْس الذهب مقطّعًا كما تقدم في الحديث المذكور في الوجه الثامن، ورخص أيضًا لعرفجةَ بن أسعد لما قُطِعَ أنفه يوم الكلاب أن يتّخذ أنفًا من ذهب، أخرجه أبو داود (1)، والنّسائي (2)، والترمذي (3)، وحسَّنه. فهذان وما ورد موردِهما يخصّص بهما عموم الأحاديث المتقدمة، ويمكن أن يُقالَ: إن اتّخاذ الأنفِ من الذهب، وكذلك السّنّ ليس من الحلية التي يراد بها الزينةُ، بل من التداوي والانتفاع المباح، فلا معارضة بينه وبين الأحاديث المصرّحة بتحريم الحلية.
وفي هذا المقدار كفايةٌ. والله ولي التوفيق.
انتهى نقلاً من خط سيدي القاضي العلامةِ عزّ الإسلام محمد بن أحمد مشحم ـ رحمه الله ـ نقلاً عن خط المجيب شيخنا الإمام العلامة المجتهد محمد بن علي الشوكاني ـ أدام الله فوائده آمين.
حُرِّرَ في شهر جُمادَى الأولى سنة 1224 بقلم الحقير علي بن أحمدَ هاجر ـ غفر الله لهما ـ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
_________
(1) في "السنن" رقم (4232).
(2) النسائي رقم (5164).
(3) في "السنن" رقم (1770). وهو حديث حسن.(8/4245)
تم المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني
والله الحمد والمنة
ويليه المجلد الخامس إن شاء الله(8/4246)
القول الجلي في حل لبس النساء للحلي
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(9/4259)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " القول الجلي في حل لبس النساء للحلي ".
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وآله الطاهرين، ذكرتم - كثر الله فوائدكم ومد على الطلاب موائدكم - أنه أشكل عليكم. . . ".
4 - آخر الرسالة: والله ولي التوفيق. انتهى تحريره بقلم مؤلفه محمد الشوكاني - غفر الله له - في الثلث الأوسط من ليلة الأحد، لعله ليلة اثنين وعشرين من شهر رجب سنة 1216.
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 15 صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 21 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 8 - 10 كلمات.
9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(9/4261)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وآله الطاهرين.
ذكرتم - كثر الله فوائدكم، ومد على الطلاب موائدكم - أنه أشكل عليكم الحديث الذي أورده المحقق المقبلي - رحمه الله - في المنار (1) حيث قال: أخرج أحمد وأبو داود من حديث أسماء بنت يزيد مرفوعًا: " أيما امرأة تقلدت بقلادة من ذهب قلدت في عنقها مثله يوم القيامة، وأيما امرأة جعلت في أذنها خرصا من ذهب جعل في أذنها يوم القيامة ".
فهذا الحديث أخرجه أبو داود في سننه (2) بإسناد لا مطعن فيه، وأخرجه أيضًا أحمد (3) والنسائي (4). وأخرج أيضًا أبو داود (5) عن ربعي بن خراش، عن امرأته، عن أختٍ لحذيفة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " يا معشر النساء أما لكن في الفضة ما تحلين به! أما إنه ليس منكن امرأة تحلى ذهبًا تظهره إلا عذبت به ".
وأخرجه أيضًا النسائي (6) من هذه الطريق. قال المنذري (7): وامرأة ربعي مجهولة.
قال ابن عبد البر (8): إن صح فهو منسوخ. وحكى المنذري (9) عن بعض أهل العلم (10)
_________
(1) (2/ 263).
(2) رقم (4238).
(3) في " المسند " (6/ 460).
(4) في " السنن " رقم (5142). وهو حديث ضعيف.
(5) في " السنن " (4237).
(6) في " السنن " (8/ 157 رقم 5138). وهو حديث ضعيف.
(7) " مختصر السنن " (6/ 124).
(8) في " الاستذكار " (9/ 75).
(9) " مختصر السنن " (6/ 124).
(10) تقدم ذكره في الرسالة رقم (136).(9/4265)
أنه قال: ذلك كان في الزمن الأول، ثم نسخ وأبيح للنساء التحلي بالذهب. وقيل: هذا الوعيد لمن لا يؤدي زكاة الذهب، وأما من أداها فلا.
قلت: ويدل على هذا التأويل - على فرض أنه لم يعلم التاريخ - ما أخرجه أبو داود (1) والترمذي (2) والنسائي (3) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن امرأة أتت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: " أتعطين زكاة هذا؟ " قالت: لا، قال: " أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار يوم القيامة " قال: فخلعتهما فألقتهما إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وقالت: هما لله ولرسوله.
وبالجملة فإن صح النسخ كما قاله ابن عبد البر (4) فلا إشكال، وإن لم يصح لعدم العلم بالتاريخ فالرجوع إلى هذا التأويل متحتم؛ لأن الأحاديث المقتضية لحل الذهب للنساء لا شك أنها أرجح من الحديثين المتقدمين ومن غيرهما مما سيأتي ذكره؛ لأنها وردت من طرق كثيرة، فمنها عن أمير المؤمنين - كرم الله وجهه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أخذ حريرًا فجعله في يمينه، وأخذ ذهبًا فجعله في شماله، ثم قال: " إن هذين حرام على ذكور أمتي " أخرجه أبو داود (5)، والنسائي (6)، وابن ماجه (7)، وأبو حاتم في صحيحه (8)، زاد ابن
_________
(1) في " السنن " رقم (1563).
(2) في " السنن " (637) وقال: هذا حديث قد رواه المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب نحو هذا، والمثنى بن الصباح وابن لهيعة يضعفان في الحديث، ولا يصح في هذا الباب عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء.
(3) في " السنن " رقم (248).
(4) في " الاستذكار " (9/ 75).
(5) في " السنن " رقم (4057).
(6) في " السنن " رقم (8/ 160).
(7) في " السنن " رقم (3595).
(8) رقم (5434).(9/4266)
ماجه (1): " حل لإناثهم "، وأخرجه أيضًا أحمد (2).
قال عبد الحق في الإحكام (3): قال ابن المديني (4): حديث حسن، ورجاله معروفون، وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في الإمام (5): هذا حديث مختلف في إسناده يرجع إلى يزيد بن أبي حبيب، فقيل عنه: عن أبي أفلح الهمداني (6)، عن عبد الله بن زرير (7)، عن علي. هذه رواية ليث عن أبي داود، وقيل فيه: عن يزيد [1ب] عن عبد العزيز بن أبي الصعبة (8)، عن أبي أفلح، وهذه رواية ابن إسحاق عند ابن ماجه.
قال ابن الملقن (9): وهي أيضًا رواية الليث بن سعد وعبد الحميد بن جعفر كما قال الدارقطني في علله (10). قال ابن دقيق العيد (11): وقيل عن أبي الصعبة - ولم يسم - عن رجل من همدان يقال له: أفلح، هذه رواية ابن المبارك عن الليث عن يزيد.
قلنا: ورواه حجاج عن الليث أيضًا كما أخرجه أحمد في المسند (12)، وقيل عن يزيد
_________
(1) في " السنن " رقم (3595).
(2) في " المسند " (1/ 115).
(3) " الأحكام الوسطى " (4/ 184).
(4) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (1/ 87).
(5) عزاه إليه ابن الملقن في " البدر المنير " (2/ 475).
(6) مقبول من الخامسة. " التقريب " (2/ 392).
(7) الغافقي، المصري، ثقة رمي بالتشيع، من الثانية، مات سنة 80هـ. " التقريب " (1/ 415).
(8) التميمي، مولاهم، أبو الصعب، المصري، لا بأس به، من الثالثة. " التقريب " (1/ 509).
(9) في " البدر المنير " (2/ 476).
(10) (3/ 260).
(11) عزاه إليه ابن الملقن في " البدر المنير " (2/ 476).
(12) (1/ 115).(9/4267)
بن أبي حبيب، عن عبد الله بن زرير، أسقط من الإسناد رجلين: ابن أبي الصعبة وأبا أفلح، قاله الدارقطني في علله (1) قال: وقيل عن رجل، عن أم حبيب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن رجل، عن آخر لم يسمهما، عن علي قال: وقيل عن ابن إسحاق، عن سعيد بن أبي هند، عن عبد الله بن شداد، عن عبد الله بن مرة، عن علي، رواه عن ابن إسحاق عمر بن حبيب، قال الدارقطني (2): وهم في الإسناد عمر هذا، وكان سيئ الحفظ، انتهى.
وقيل (3): عن أبي الصعبة، عن أبي علي الهمداني، عن عبد الله بن زرير، وهذه الرواية للنسائي في مسند علي (4) أفادها الحافظ جمال الدين المزي في الأطراف (5).
قال النسائي (6): حديث ابن المبارك أولى بالصواب إلا قوله: " أفلح " فإن أبا أفلح أولى بالصواب (7). وقد علل هذا الحديث بعلة أخرى، وهي جهالة حال أبي أفلح بالفاء لا بالقاف، ذكره ابن القطان (8) كذلك، وقال: عبد الله بن زرير مجهول الحال أيضًا. قال ابن دقيق العيد (9): أما أبو أفلح فلا يبعد ما قال فيه، وإن كان قد ذكر عن علي بن المديني أنه قال في هذا الحديث: حسن، وأما عبد الله بن زرير فقد ذكر أن العجلي (10) [2أ]
_________
(1) (3/ 261).
(2) (3/ 263).
(3) ذكره ابن الملقن في " البدر المنير " (2/ 477).
(4) عزاه إليه ابن الملقن في " البدر المنير " (2/ 477).
(5) (7/ 408).
(6) في " السنن " (8/ 160).
(7) كذا في المخطوط وصوابه: " وحديث ابن المبارك أولى بالصواب، إلا قوله: أفلح، فإن أبا أفلح أشبه والله تعالى أعلم ". " سنن النسائي " (8/ 160).
(8) انظر " البدر المنير " (2/ 478).
(9) عزاه إليه ابن الملقن في " البدر المنير " (2/ 478).
(10) " تاريخ الثقات " (ص257).(9/4268)
ومحمد بن سعد (1) وثقاه، قال ابن دقيق العيد (2): وفي الحديث شيء آخر، وهو أن رواية من رواه عن يزيد عن عبد العزيز بن أبي الصعبة عن أبي أفلح إذا عملنا بها وسلكنا طريقهم في أن نحكم بأن يزيد لم يسمع من أبي أفلح، تصدى لنا النظر في حال عبد العزيز أيضًا. قال ابن الملقن (3): حالته جيدة، روى له النسائي، وابن ماجه، وروى عن أبيه، وأبي علي الهمداني، وعنه يزيد بن أبي حبيب وغيره، وذكره ابن حبان في ثقاته (4).
قلت: الحديث وإن قصر عن رتبة الصحيح، فهو لا ينحط عن رتبة الحسن كما لا يخفى على من تدبر ما سقناه.
ومنها عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " حرم لباس الذهب والحرير على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم " رواه أحمد (5)، والترمذي (6)، وهذا لفظ الترمذي، وقال: حسن صحيح. ولفظ أحمد: " أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي، وحرم على ذكورها ". ورواه النسائي (7) بلفظ: " إن الله تعالى أحل لإناث أمتي الحرير والذهب، وحرمه على ذكورها ".
ورواه الطبراني في معجمه الكبير (8) ولفظه: " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها ". وله ألفاظ أخر بنحو هذا.
_________
(1) في " الطبقات الكبرى " (7/ 510).
(2) عزاه إليه ابن الملقن في " البدر المنير " (2/ 478).
(3) في " البدر المنير " (2/ 478).
(4) (7/ 111). والخلاصة أن حديث علي حديث صحيح.
(5) في " المسند " (4/ 394، 407).
(6) في " السنن " رقم (1720).
(7) في " السنن " (8/ 161) وهو حديث صحيح.
(8) لم أجده من حديث أبي موسى.(9/4269)
ورواه الدارقطني (1) ولفظه: " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي "، ثم قال في علله (2): هذا حديث يرويه عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن أبيه، ويرويه نافع مولى ابن عمر عن سعيد بن أبي هند عن أبيه، ويرويه نافع مولى ابن عمر عن سعيد بن أبي هند عن أبي موسى، ويرويه سويد بن عبد العزيز عن عبد الله بن سعيد المقبري. ووهم في موضعين:
الأول: قوله: عن سعيد المقبري، وإنما هو سعيد بن أبي هند.
والثاني: أنه ترك ذكر نافع في الإسناد، ورواه أيضًا عبد الله بن عمر العمري عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، عن رجل، عن أبي موسى قال: وهو أشبه بالصواب؛ لأن [2ب] سعيد بن أبي هند لم يسمع من أبي موسى شيئًا، وفي حديث النهي عن اللعب بالنرد (3).
قيل عن سعيد بن أبي هند، عن أبي مرة مولى عقيل، عن أبي موسى. وهذا يقوي أنه رواه سعيد عن رجل عن أبي موسى. قال الحافظ عبد الحق (4): هذا الحديث رواه جماعات عن عبيد الله بن عمر، عن نافع عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى مرفوعًا، ورواه من لا يحتج به عن عبد الله، عن نافع عن سعيد، عن رجل من أهل العراق، عن أبي موسى. وذكره عبد الرزاق (5) عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن سعيد، عن رجل، عن أبي موسى. واختلف فيه على أيوب، ثم ذكر عبد الحق (6) قول الدارقطني (7) المتقدم أن سعيد بن أبي هند لم يسمع من أبي موسى، وقد أخرجه الترمذي (8)
_________
(1) (7/ 242).
(2) (7/ 242).
(3) أخرجه بهذا الإسناد أحمد في " المسند " (4/ 394).
(4) في " الأحكام الوسطى " (4/ 184).
(5) في " المصنف " (11/ 68 رقم 19930).
(6) في " الأحكام الوسطى " (4/ 184).
(7) (7/ 242).
(8) في " السنن " رقم (1720).(9/4270)
والنسائي (1) من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى مرفوعًا، قال ابن الملقن (2): وقد صححه الترمذي. فالظاهر سماع سعيد منه، لكن قد قال بمقالة الدارقطني (3) أبو حاتم الرازي (4) فقال: إن سعيد بن أبي هند لم يلق أبا موسى. قال أبو حاتم بن حبان في صحيحه (5): حديث سعيد بن أبي هند عن أبي موسى في هذا الباب معلول لا يصح، ولعله يشير إلى ما تقدم عن الدارقطني وأبي حاتم الرازي، لكنه قد أخرج في صحيحه (6) حديث: " من لعب النرد فقد عصى الله ورسوله " وهو من رواية سعيد عن أبي موسى، فالعلة التي ذكرها في حديث الباب واردة عليه في هذا الحديث، وصحح هذا الحديث أيضًا الذي سقنا الكلام عليه ابن حزم (7).
ومنها عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها " ذكره الدارقطني في علله (8) فيما سئل عنه، وقال: هذا حديث يرويه عبد الله، واختلف عنه فيه، فرواه يحيى بن سليم الطائفي عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا، تابعه بقية بن الوليد [3أ] على معنى هذا القول في الحرير، ولم يذكر الذهب، وكلاهما وهم، والصحيح عن عبد الله، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، وعن أبي موسى، وسعيد لم يسمعه، وروى طلق بن حبيب قال: قلت لابن عمر: سمعت من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في
_________
(1) في " السنن " (8/ 161).
(2) في " البدر المنير " (2/ 474).
(3) تقدم ذكره.
(4) في " المراسيل " (ص75).
(5) (12/ 250) وقد تقدم.
(6) (13/ 181 رقم 5872).
(7) في " المحلى " (4/ 37).
(8) (7/ 241 - 242 س 1320).(9/4271)
الحرير شيئًا؟ قال: لا. وهذا يدل على وهم يحيى بن سليم وبقية في حكايتهما عن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -.
ومنها ما رواه من حديث ابن عمرو، وابن ماجه (1)، والبزار (2)، وأبي يعلى (3)، والطبراني (4) بإسناد فيه عبد الرحمن بن أنعم الإفريقي (5)، وهو ضعيف. وقال: رأيت البخاري يقوي أمره، ولفظه: قال ابن عمرو: خرج إلينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وفي إحدى يديه ثوب من حرير، وفي الأخرى ذهب، فقال: " إن هذين محرم على ذكور أمتي، حل لإناثهم ".
ومنها عن عمر قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وفي يده صرتان: إحداهما من ذهب، والأخرى من حرير، فقال: " هذان حرامان على الذكور من أمتي، حلال لإناثهم " رواه الطبراني (6) في الصغير (7)، ثم قال: لم يروه عن إسماعيل بن أبي خالد إلا عمرو بن جرير البجلي الكوفي، تفرد به داود بن سليمان، ورواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده (8)، ثم قال: هذا الحديث لا نعلم رواه عن إسماعيل عن قيس عن عمرة إلا عمرو بن جرير، وهو لين الحديث، وقد احتمل حديثه.
ومنها عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " الذهب والحرير حلال لإناث أمتي، حرام على ذكورها " رواه الطبراني في أكبر
_________
(1) في " السنن " (3597) وهو حديث صحيح لغيره.
(2) عزاه إليهم الزيلعي في " نصب الراية " (4/ 422). وقد تقدم. انظر الرسالة رقم (136)
(3) عزاه إليهم الزيلعي في " نصب الراية " (4/ 422). وقد تقدم. انظر الرسالة رقم (136)
(4) عزاه إليهم الزيلعي في " نصب الراية " (4/ 422). وقد تقدم. انظر الرسالة رقم (136)
(5) تقدم. وانظر: " الميزان " (2/ 560 رقم 4860).
(6) في " الصغير " (1/ 167) و" الأوسط " رقم (3604).
(7) في المخطوط " الترمذي " وما أثبتناه من " البدر المنير " (2/ 482). وانظر " السنن الكبرى " (3/ 275). وانظر " الميزان " (2/ 561).
(8) (3/ 250 رقم 3005 - كشف). وقد تقدم.(9/4272)
معاجمه (1)، والعقيلي في تاريخه (2) من حديث ثابت بن زيد بن ثابت بن زيد بن أرقم قال: حدثتني عمتي أنيسة بنت زيد بن أرقم عن أبيها زيد بن أرقم به. قال أحمد (3): ثابت هذا له مناكير، وقال ابن حبان (4): الغالب على حديثه الوهم، ولا يحتج به إذا انفرد، وقال العقيلي (5): هذا يروى بغير هذا الإسناد بأسانيد صالحة وأخرجه ابن أبي شيبة. حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد، حدثنا سعيد، حدثنا ابن زيد، أخبرتني أنيسة بنت زيد عن أبيها، رفعه فذكره. وابن زيد هو ثابت.
ومنها عن أسماء بنت واثلة بن الأسقع عن أبيها قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: " الذهب والحرير حل لإناث أمتي، حرام [3ب] على ذكور أمتي " رواه الطبراني في الكبير (6) عن إسماعيل بن قيراط، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن، حدثنا محمد بن عبد الرحمن قال: حدثتني أسماء بنت واثلة عن أبيها به، قال ابن الملقن (7): وهذا سند لا أعلم به بأسًا، وشيخ الطبراني لا أعرفه، وسليمان ذكره ابن حبان في الثقات (8)، وأخوه وثقه أبو زرعة والنسائي. وقال أبو حاتم (9): هو من التابعين لا يسأل عن مثله، وأسماء تابعية لا أعلم حالها الآن.
ومنها عن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أخرج من يده قطعة من
_________
(1) رقم (5125).
(2) في " الضعفاء الكبير " (1/ 174).
(3) في " العلل ومعرفة الرجال " (3/ 94 - 95 رقم 4346).
(4) في " الثقات " (4/ 63).
(5) في " الضعفاء الكبير " (1/ 174).
(6) (ج22 رقم 234) وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن المقدسي القشيري متروك الحديث.
(7) في " البدر المنير " (2/ 484).
(8) (6/ 385).
(9) " الجرح والتعديل " (3/ 2\ 312).(9/4273)
ذهب وقطعة من حرير، فقال: " إن هذين حرامان على ذكور أمتي، وحلالان لإناثهم " أخرجه الطبراني في الكبير (1). وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف متفق على ضعفه.
وأخرجه الطبراني أيضًا من حديث محمد بن الفضل بن عطية، عن أبيه، عن عطاء، عن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قبض على الذهب والحرير وهو يحركه ويقول: " هذا محرم على ذكور أمتي ". ومحمد بن الفضل متروك (2) بالاتفاق، بل قال: صالح بن محمد كان يضع الحديث، ووالده الفضل وثقه ابن راهويه (3)، وقال أبو زرعة (4): لا بأس به، وضعفه الفلاس (5)، وابن عدي (6).
ومنها عن عقبة بن عامر بنحو حديث علي السابق، أخرجه البيهقي (7) من طريق يحيى بن أيوب عن الحسن بن ثوبان، وعمرو بن الحارث، عن هشام بن أبي رقية، سمعت مسلمة بن مخلد يقول لعقبة بن عامر: قم فأخبر الناس ما سمعت من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: سمعته يقول: " الحرير والذهب حرام على ذكور أمتي " وإسناده حسن (8)، وقال ابن الملقن (9): ولا أعلم بسنده بأسًا.
فهذا ما أمكن الإطلاع عليه من طرق هذا الحديث، وبعضها صحيح، وبعضها
_________
(1) في " الكبير " (11/ 152 رقم 11333).
(2) انظر: " تهذيب التهذيب " (9/ 402).
(3) " التهذيب " (8/ 281). " الميزان " (3/ 354).
(4) انظر " الجرح والتعديل " (3/ 2\ 64).
(5) " التهذيب " (8/ 281). " الميزان " (3/ 354).
(6) قال ابن عدي في " الكامل " (6/ 2040): " وروى محمد بن الفضل عن أبيه، أحاديث مناكير، والبلاء من ابنه محمد، والفضل خير من ابنه محمد ".
(7) في " السنن الكبرى " (3/ 275).
(8) ذكره الحافظ في " التلخيص " (1/ 54).
(9) في " البدر المنير " (2/ 480).(9/4274)
حسن لذاته، وبعضها حسن لغيره، وبعضها لم يرتفع إلى رتبة الحسن، ولا يخفى أن البعض من هذه الطرق يصلح للاحتجاج به، فكيف بها جميعها! ومما يصلح للاستدلال به على حل الذهب للنساء ما أخرجه أبو داود [4أ] (1)، وابن ماجه (2) عن عائشة قالت: قدمت على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حلية من عند النجاشي، أهداها له فيها خاتم من ذهب، فيه فص حبشي، فأخذه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعود معرضًا عنه، أو ببعض أصابعه، ثم دعا أمامة بنة أبي العاص ابنة ابنته زينب فقال: " تحلي بهذا يا بنية "، وفي إسناده محمد بن إسحاق بن يسار. هذا مع ما قد ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من تحريم خاتم الذهب على الرجال كما في حديث ابن عمر عند البخاري (3) ومسلم (4) وغيرهما (5)، وحديث ابن مسعود عند أبي داود (6) والنسائي (7)، وغير ذلك، فإنه يدل لمفهومه على تحليله للنساء، فيكون مؤيدًا لحديث عائشة المذكور.
ومن جملة ما يدل على ذلك حديث المرأة التي جاءت إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فإنه لم يقل لها: هذا حرام، بل قال لها: " أتعطين زكاة هذا؟ " وقد تقدم ذلك (8).
وأما ما استدل به المحقق المقبلي - رحمه الله - من حديث عبد الرحمن بن غنم قال:
_________
(1) في " السنن " رقم (4235).
(2) في " السنن " رقم (3644) بإسناد حسن.
(3) في صحيحه رقم (5865).
(4) في صحيحه رقم (53/ 2091).
(5) كأبي داود رقم (4218) والترمذي رقم (1741) وأحمد (2/ 18) والنسائي (8/ 178).
(6) في " السنن " رقم (4222).
(7) في " السنن " رقم (5091). وهو حديث منكر. بلفظ: " كان نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكره عشر خلال: الصفرة يعني الخلوق، تغيير الشيب، وجر الإزار، والتختم بالذهب. . . ".
(8) تقدم تخريجه.(9/4275)
قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -[4ب]: " من تحلى أو حلى بحربصيصة من ذهب كوي به يوم القيامة " (1). قال المقبلي (2): وأخرج البخاري (3) من حديث أسماء بنت يزيد عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من تحلى ذهبًا، أو حلى أحدًا من ولده مثل حربصيصة أو عين جرادة، كوي به يوم القيامة " هكذا ذكر هذا الحديث معزوًا إلى البخاري. ولا أذكر الآن أنه في صحيح البخاري فيبحث عنه، وقد أخرج أبو داود (4) من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أحب أن يحلق حبيبه بحلقة من نار فليحلقه بحلقة من ذهب، ومن أراد أن يطوق حبيبه طوقًا من نار فليطوقه طوقًا من ذهب، ومن أحب أن يسور حبيبه بسوارٍ من نار فليسوره بسوار من ذهب، ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها " فهذه الأحاديث بعد تسليم أنها عامة للرجال والنساء هي مخصصة بالأحاديث المتقدمة المصرحة بحل لبس الذهب والتحلي به للنساء.
فإن قلت: قد أخرج النسائي (5) من حديث أبي هريرة قال: أتت امرأة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، سوارين من ذهب! فقال: " سواران من نار " قالت: طوق من ذهب، قال: " طوق من نار " قالت: قرطين من ذهب، قال: " قرطين من نار ". وكان عليها سواران من ذهب فرمت بهما، وقالت: إن المرأة إذا لم تتزين لزوجها صلفت عنده، أي: لم تحظ عنده. فقال: " ما يمنع إحداكن أن تضع قرطين من فضة، ثم تصفره بزعفران " أو قال: " بعبير ".
_________
(1) تقدم تخريجه. انظر الرسالة رقم (136).
(2) في " المنار " (2/ 263).
(3) لم أجده.
(4) في " السنن " رقم (4236) وقد تقدم. وهو حديث حسن.
(5) في " السنن " (8/ 159 رقم 5142) وهو حديث ضعيف.(9/4276)
وأخرج النسائي (1) أيضًا [5أ] من حديث ثوبان قال: جاءت هند بنت هبيرة إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وفي يدها فتخ من ذهب - أي: خواتم ضخام - فجعل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يضرب يدها، فدخلت على فاطمة - رضي الله عنها - تشكو إليها، فانتزعت فاطمة سلسلة في عنقها من ذهب، فقالت: هذه أهداها أبو حسن، فدخل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - والسلسلة في يدها، فقال: " يا فاطمة أيسرك أن يقول الناس: ابنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في يدها سلسلة من نار؟ " ثم خرج فلم يقعد، فأرسلت فاطمة بالسلسلة فباعتها، واشترت بثمنها عبدًا فأعتقته، فحدث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بذلك فقال: " الحمد لله الذي نجى فاطمة من النار ".
وأخرج أبو داود (2)، والنسائي (3) من حديث أخت حذيفة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " يا معشر النساء، ما لكن في الفضة ما تحلين به، ليس منكن امرأة تتحلى ذهبًا تظهره إلا عذبت به " وهذا الحديث قد قدمنا ذكره في أول هذه الورقات، وذكرنا أن في إسناده امرأة مجهولة، وذكرنا ما قيل فيه من النسخ والتأويل، وهكذا يقال في الحديثين المذكورين قبله.
فإن قلت: هذه أربعة أحاديث مصرحة بتحريم حلية الذهب على النساء، منها حديث أسماء بنت يزيد الذي ذكره المقبلي (4)، وذكرناه في أول هذا البحث، ومنها حديث أبي هريرة المذكور قريبًا، ومنها حديث ثوبان المذكور بعده، ومنها حديث أخت حذيفة، فكيف جعلتها [5ب] منسوخة أو مرجوحة؟
_________
(1) في " السنن " (8/ 158 رقم 5140) وهو حديث صحيح، والله أعلم.
(2) في " السنن " (4237).
(3) في " السنن " (8/ 157 رقم 5138). وهو حديث ضعيف.
(4) في " المنار " (2/ 263).(9/4277)
قلت: أما كونها منسوخة فلأن تصريح أكابر الأئمة بالنسخ كابن عبد البر (1) لا يكون إلا لدليل علمه يسوغ عنده الجزم بالنسخ، أقل الأحوال أن يكون قد علم أن أحاديث التحليل متأخرة عن أحاديث التحريم.
وأما كونها مرجوحة فلما عرفناك سابقًا، وقد أمكن التأويل بما قدمنا ذكره.
ومن أعظم الأدلة الدالة على ترجيح أحاديث التحليل ما روي من أنه قد قام الإجماع على ذلك. قال الإمام المهدي في البحر (2): فصل: وللنساء لبس الحلية على أنواعها، والحرير، وعن قوم منعهن من الحرير، وهو خلاف الإجماع. وقال في شرح الأثمار (3): تنبيه: أما الإناث فلا خلاف يعتد به في جواز الحلي والحرير ونحوه لهن مطلقًا، وما ورد من الأحاديث في نهيهن من التحلي بالذهب فمحمول على أنه خلاف الأولى، أو أنه منسوخ جمعًا بين الأخبار، انتهى.
وعندي أنه لا وجه لحملها على خلاف الأولى مع تصريح أحاديث النهي بأن ذلك يوجب النار، نحو قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " سوارين من نار، طوق من نار، قرطين من نار، قلادة من نار، سلسلة من نار " فإن ما كان خلاف الأولى لا يوجب عذابًا كما تقرر في الأصول، بل الواجب هاهنا المصير [6أ] إلى القول بالنسخ لما تقدم، أو المصير إلى التأويل؛ لدلالة حديث عمرو بن شعيب المتقدم في أول هذا البحث في حديث المرأة وابنتها على ذلك، أو المصير إلى التعارض البحت على تسليم عدم إمكان التأويل، وحينئذ يتحتم ترجيح أحاديث التحليل على أحاديث التحريم؛ لكثرتها ولكونها صريحة في الحل، وللإجماع على العمل بها وترك ما عارضها، وللإجماع أيضًا على تحليل الحرير للنساء، وهو قرين الذهب في تلك الأحاديث.
_________
(1) في " الاستذكار " (9/ 75).
(2) (4/ 365).
(3) تقدم تعريفه.(9/4278)
فإن قلت: هل يمكن الجمع بغير ما تقدم؟ وذلك بأن يقال: إن الأحاديث القاضية بالحل تصرف إلى حل اللبس فقط بقرينة تحليل الذهب مع تحليل الحرير، والحرير لا يكون إلا ملبوسًا، ولا يكون حلية، وتكون الأحاديث القاضية بمنع التحلي بالذهب مقصورة على ما تضمنته من تحريم التحلي به، وحينئذ يمكن الجمع فيمتنع المصير إلى الترجيح.
قلت: الذهب لا يكون ملبوسًا قط، ولا يمكن نسجه، بل لا يكون إلا حلية، أو آنية، أو سبائك، أو دنانير، وما يظن أنه ذاهب في المنسوج من الثياب فهو غلط، بل هو فضة يقينًا [6ب]، ومن لم يتيقن هذا فليأخذ قطعة من الثياب المخلوطة بما يظنه ذهبًا ويلقيها في النار، فإنه سيجد ذلك فضة لا ذهبًا، وهذا يعلمه كل من له خبرة بذلك.
وإذا تقرر هذا علم منه أن أحاديث تحليل الذهب للنساء لا يراد منها إلا تحليل التحلي به فقط، فيحصل حينئذ التعارض الواضح على فرض عدم صحة دعوى النسخ، وعدم صحة التأويل، ويجب الرجوع إلى الترجيح، وأحاديث التحليل أرجح بما تقدم.
فإن قلت: هل يصح أن يقال: إن أحاديث التحليل عامة، والأحاديث الواردة في المنع خاصة بما وردت فيه؟ فإن حديث أسماء بنت يزيد ليس فيه إلا ذكر القلادة والخرص، وحديث أبي هريرة ليس فيه إلا ذكر السوارين والطوق والقرطين، وحديث ثوبان ليس فيه إلا ذكر الفتخ والسلسلة، فيكون المحرم من حلية الذهب إنما هو هذه الأمور فقط، ويحل ما عداها من أنواع حلية الذهب، وهي كثيرة عملاً بالخاص فيما نتناوله والعام فيما بقي، كما هي القاعدة المقررة في الأصول في العام والخاص.
قلت: لا يصح هذا لأمرين:
الأول: أن هذه الأنواع المذكورة في هذه الأحاديث يصدق عليها أنها حلية، وأنها ذهب، ولا فرق بين حلية وحلية، وبين ذهب وذهب، فلا يظهر للتخصيص وجه حكمه، وأي فرق بين ما تضعه المرأة على يدها وهو مسمى باسم السوار، وبين ما تضعه على يدها أيضًا، وهو مسمى باسم آخر، وهكذا لا فرق بين ما تضعه على(9/4279)
عنقها وهو مسمى قلادة أو سلسلة، وبين ما تضعه على عنقها أيضًا وهو يسمى باسم غير ذلك، وهكذا لا فرق بين ما تضعه في أذنها، وهو يسمى خرصًا أو قرطًا، وبين ما تضعه في أذنها أيضًا وهو يسمى باسم غير ذلك.
الوجه الثاني: أن مواضع الحلية من المرأة هي اليدان، والعنق، والأذن، ولا حكم للناذر من وضع الحلية في غير هذه المواضع. وقد صرح - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالمنع من الحلية المختصة بكل موضع من هذه المواضع، فمنع السوارين والفتخ في حلية الأيدي، والقلادة والطوق والسلسلة في حلية العنق، والخرص والقرط في حلية الأذن. وبعد هذا كله فحديث أخت حذيفة المتقدم مصرح بمنع الحلية على العموم، فإنه بلفظ: ليس منكن امرأة تتحلى ذهبًا تظهره إلا عذبت به [7ب].
فتقرر بهذا عدم إمكان الجمع بما ذكر، فلم يبق إلا القول بالنسخ، أو الجمع بالتأويل المقبول، أو هو كونه لمن لا يؤدي الزكاة كما قدمنا، أو المصير إلى التعارض والترجيح لأحاديث (1) الحل بما قدمنا.
_________
(1) قال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (25/ 64): وأما باب اللباس فإن لباس الذهب والفضة يباح للنساء بالاتفاق، ويباح للرجل ما يحتاج إليه من ذلك، ويباح يسير الفضة للزينة، وكذلك يسير الذهب التابع لغيره كالطرز ونحوه في أصح القولين من مذهب أحمد وغيره. . . ".
قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم (14/ 32): وأما النساء فيباح لهن لبس الحرير، وجميع أنواعه، وخواتيم الذهب، وسائر الحلي منه ومن الفضة، وسواء المزوجة وغيرها والشابة والعجوز والغنية والفقيرة. واستدل بحديث: " هذين - الذهب والحرير - حرام على ذكور أمتي حلال لإناثها ".
قال ابن قدامة في " المغني " (2/ 607 - الشرح الكبير): ويباح للنساء من حلي الذهب والفضة والجواهر كل ما جرت عادتهن بلبسه مثل السوار والخلخال والقرط والخاتم، وما يلبسنه على وجوههن وفي أعناقهن وأيديهن وأرجلهن وآذانهن وغيره. . . ".
وقال ابن حجر في " الفتح " (10/ 317) في أثناء شرح الحديث رقم (5863) عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: نهانا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن سبع نهى عن خاتم الذهب أو قال: حلقة الذهب، وعن الحرير والإستبرق، والديباج، والميثرة الحمراء، والقسي، وآنية الفضة. . . ".
قال ابن دقيق العيد: إخبار الصحابي عن الأمر والنهي على ثلاث مراتب:
الأولى: أن يأتي بالصيغة كقوله: افعلوا أو لا تفعلوا.
الثانية: قوله: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكذا ونهانا عن كذا، وهو كالمرتبة الأولى في العمل به أمرًا ونهيًا. وإنما نزل عنها الاحتمال أن يكون ظن ما ليس بأمر أمرًا، إلا أن هذا الاحتمال مرجوح للعلم بعدالته ومعرفته بمدلولات الألفاظ لغة.
الثالثة: أمرنا ونهينا على البناء للمجهول، وهي كالثانية، وإنما نزلت عنها لاحتمال أن يكون الآمر غير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإذا تقرر هذا فالنهي عن خاتم الذهب أو التختم به مختص بالرجال دون النساء، فقد نقل الإجماع على إباحته للنساء.
وقال ابن حجر في " الفتح " (10/ 330) باب الخاتم للنساء، وكان على عائشة خواتيم الذهب. ثم ذكر الحديث رقم (5880) عن ابن جريح: " فأتى النساء فأمرهن بالصدقة، فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال ".
ونقل قول ابن بطال: الخاتم للنساء من جملة الحلي الذي أبيح لهن.
انظر: " المحلى " (10/ 83).(9/4280)
وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية.
والله ولي التوفيق. انتهى تحريره بقلم مؤلفه محمد الشوكاني - غفر الله له - في الثلث الأوسط من ليلة الأحد، لعلها ليلة اثنين وعشرين من شهر رجب سنة 1216.(9/4281)
سؤال عن شأن لبس المعصفر وغيره من سائر أنواع الأحمر
للطف الله بن أحمد بن لطف الله جحاف
ويليه:
جواب القاضي العلامة: محمد بن علي الشوكاني:
القول المحرر في حكم لبس المعصفر وسائر أنواع الأحمر
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(9/4283)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " سؤال عن شأن لبس المعصفر وغيره من سائر أنواع الأحمر، للطف الله بن أحمد بن لطف الله جحاف. ويليه: جواب القاضي العلامة: محمد بن علي الشوكاني: القول المحرر في حكم لبس المعصفر وسائر أنواع الأحمر ".
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: الحمد لله على نعمائه الفرادى والثنى، فهو المستحق لكل حمدٍ صادق وله لا لغيره الثناء. . . .
4 - آخر الرسالة: ". . . إلى شمول القول له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطريق التنصيص أو الظهور أو اختصاصه بسائر الأمة دونه، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق، حرر الجواب في سلخ شهر ربيع الآخر سنة 1209 ".
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 13 صفحة.
7 - عدد الأسطر: 26 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(9/4285)
[صورة صفحة عنوان المخطوط](9/4286)
[صورة الصفحة الأولى من المخطوط] سؤال لطف الله جحاف(9/4287)
[صورة الصفحة الأخيرة من المخطوط] سؤال لطف الله جحاف(9/4288)
[صورة الصفحة الأولى من جواب الشوكاني المخطوط](9/4289)
[صورة الصفحة الأخيرة من جواب الشوكاني المخطوط](9/4290)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمائه الفرادى والثنى، فهو المستحق لكل حمد صادق، وله - لا لغيره - الثناء والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وأصحابه وجنده.
وبعد: فهذه رسالة سائلة بلسان الحال عن جواز لبس الحمرة لا للنساء، بل للرجال، وهل ألفاظ السنة النبوية قاضية بالتحريم أم الإباحة للرجال في لبسها كالإباحة للحريم؟ والمقصود الاطلاع على بدور الأدلة والإشراف على شمس الحقيقة الهادية لا المضلة، وقد وجهتها إلى من أفاد الله بعلومه ومعلوماته، وزينه بالعلم وزاده جسام هباته، وقد سقت بعد المنظوم شيئًا مما لدي من الأدلة، وقلت:
بدر الهدى بالحق أنت الصادع ... ولربقة التقليد أنت الخالع
ولأنت في القوم المعد لفادح ... ذهل اللبيب له وحار البارع
كم بالسهام رمى فكان مصابه ... آراء قوم في الضلال تتابعوا
وأباد منتصبًا لحفظ ظواهر التنزيل ... وهو لدين ربي رافع
قد عم كلاً هديه مذ خصني ... بفواضلٍ قل - للضلال - صوادع
إن كان صمتًا عظمته أولو النهى ... أو فاه فهو لكل سمعٍ قارع
والحق أعطى ما رقمت بواترًا ... في حدها سم المنايا قاطع
فلذاك عزت شرعة المختار واز ... هدّت لشرع الجاهلين صوامع
وبرفعها فرقت ودون محلها ... شمس الضحى والبدر ذاك الطالع
ومنعت غير الكفء منها إنها ... أخذت عليك وللعهود شرائع
وإذا أتاها خاطئ متمذهب ... فحذار لا أسفًا يكون الواقع
وأنه العواذل واجعل التقوى لها ... تاجًا لئلا يطمعن الطامع
واصدع بأمرك ما استطعت وعد عن ... لاحٍ فما ضر الحليم مقاطع
فدقائق التنزيل في كاساتها ... بنمير فطنتك احتساها الشاجع(9/4291)
ورأى الذليل الجاهل المتكاسل ... الغر الحرام بها فظل ينازع
وهي الحلال وأي هادٍ موصل ... جنات بارينا سواها شافع
وإليك أنهيت الشكاية بعد مدح ... من أناس للشريعة ضاجعوا
وهم اللصوص وأيم ربي إنهم ... جعلوا الهداية وصلةً وتراجعوا [1]
وهم الحقيقون الجدير صنيعهم ... بالقتل إذ عرفوا النصوص وخادعوا
والله أسأله السلامة منهم ... وبه أعوذ وما سواه نافع
وإليك لطف الله أنهى سؤله ... إذ أنت للسؤل القويم التابع
وأقول أما بعد فالتحريم في ... لبس المعصفر وهو قان ناصع
فحديث ما شاهدت من ذي لمةٍ ... في حلةٍ حمراء حديث شائع
والأمر بالإحراق والإيذان ... بالنهي الصريح يعد عندي مانع
والقول إن ما دل وهو معارض ... بالفعل فهو لمقتضاه الدافع
والحق مطلوب ولست مشاححًا ... في قول عمرو وارتضاه مجاشع
أو ما يقرر بالرموز لمذهب ... يحكونه وله دليل ضائع
بل حائم حول الدليل بمنهل ... التصحيح إن أومأ إليه الشارع
وإلى محمد اللبيب نصًا منا ... متوجه وعلى خبير واقع
نجم التقى المهدي ومن كمحمد ... في العلم وهو النور فينا الساطع
فجوابه شافٍ وسحر نظمه ... لكن حلال للبديع مطاوع
لا زال في الإنعام من خلاقه ... ولكل خير في البرية جامع
[وما] (1) أشرنا إليه من لبس المعصفر هو الذي طفحت الأدلة بالمنع منه، وكذلك أحاديث وردت في لبس الحمرة على الإطلاق، وقد أشرت إلى [الأدلة المانعة والمجيزة] (2).
_________
(1) في المخطوط (وأما) والصواب ما أثبتناه.
(2) في المخطوط (أدلة المانعة والمجيز) والصواب ما أثبتناه.(9/4292)
أما الأدلة التي في المنع فكثيرة واسعة: فمنها ما أخرجه مسلم (1) عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: " رآني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: أمك أمرتك بهذا؟! قلت: أغسلهما يا رسول الله؟ قال: بل أحرقهما " زاد في رواية (2) أن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسهما. هذه رواية مسلم.
وفي رواية للنسائي (3) " أنه رآه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وعليه ثوبان معصفران فقال: هذه ثياب الكفار. . .، فغضب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وقال: اذهب فاطرحهما عنك، قال: أين يا رسول الله، قال: في النار ".
ولأبي داود (4) قال: " هبطنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من بيته، فالتفت إليّ وعليّ ريطة مضرجة بالعصفر، فقال: ما هذه الريطة عليك؟ فعرفت ما كرهه، فأتيت أهلي وهم يسجرون تنورًا لهم فقذفتها فيه، وأتيته من الغد فقال: يا عبد الله ما فعلت الريطة؟ فأخبرته فقال: أفلا كسوتها بعض أهلك فإنه لا بأس بها للنساء ".
قال المنذري [2] في مختصره (5): وأخرجه ابن ماجه (6): نعم ومفهوم قوله: " فإنه لا
_________
(1) في صحيحه رقم (27، 28/ 2077).
قلت: وأخرجه الحاكم (4/ 190) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي وابن سعد في " الطبقات " (4/ 265) من طرق. . .
وهو حديث صحيح.
(2) في " صحيحه " (27/ 2077).
(3) في " السنن " (8/ 203) رقم (5316، 5317).
(4) في " السنن " رقم (4066).
(5) (6/ 39).
(6) في " السنن " رقم (3603).
قلت: وأخرجه أحمد (6/ 196) وابن أبي شيبة في " المصنف " (8/ 369) والحاكم في " المستدرك " (4/ 190) وقال الحاكم: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وقد اتفق الشيخان - رضي الله عنهما - على النهي عن لبس المعصفر للرجل على حديث علي - رضي الله عنه - وهو حديث حسن.
ريطة: بفتح الراء المهملة وسكون المثناة ثم طاء مهملة، ويقال: رائطة.
قال المنذري في " مختصر السنن " (6/ 39): هي كل ملاءة منسوجة بنسج واحدٍ.
وقيل: كل ثوب رقيق لين، والجمع ريط رياط.
" النهاية " (2/ 289).(9/4293)
بأس بها للنساء ".
يعني وأما الرجال ففيها بأس لهم.
وأخرج أبو داود (1) والترمذي (2) عن عبد الله بن عمرو قال: " مر رجل وعليه ثوبان أحمران، فسلم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فلم يرد عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ السلام " وقال الترمذي (3): حسن غريب من هذا الوجه.
وأخرج مسلم في صحيحه (4) " عن علي - رضي الله عنه - قال: نهاني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن لباس المعصفر ".
وأخرج الطبراني (5) عن عمران بن حصين بلفظ " إياكم والحمرة، فإنها أحب الزينة إلى الشيطان " وأخرج عبد الرزاق (6) عن الحسن مرسلاً " الحمرة زينة الشيطان ".
وأخرجه الحاكم في الكنى (7)، وابن قانع (8)،
_________
(1) في " السنن " رقم (4069).
(2) في " السنن " رقم (2807).
(3) في " السنن " (5/ 116). وهو حديث ضعيف.
(4) في " صحيحه " رقم (31/ 2078).
(5) أخرجه الطبراني بإسنادين في أحدهما يعقوب بن خالد بن نجيح البكري العبدي ولم أعرفه، وفي الآخر بكر بن محمد يروي عن سعيد عن شعبة، وبقية رجالهما ثقات. كما في " مجمع الزوائد " (5/ 130).
(6) في " المصنف " (11/ 79 - 80 رقم 19975) مرسلاً.
(7) لم أجده في القسم المطبوع من الكنى.
(8) لم يخرجه ابن قانع في " معجم الصحابة " المطبوع.(9/4294)
وابن عدي (1) والبيهقي في الشعب (2) عن رافع بن زيد بلفظ: " إن الشيطان يحب الحمرة، فإياكم والحمرة وكل ثوب ذي شهرة ".
وأخرج ابن ماجه (3) عن عبد الله بن عمر - وفي بعض نسخ ابن ماجه: ابن عمرو - بلفظ: " نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن المفدم ".
قال ابن الأثير في النهاية (4): وفيه " أنه نهى عن الثوب المفدم " وهو الثوب المشبع حمرة، كأنه الذي لا يقدر على الزيادة عليه لتناهي حمرته، فهو كالممتنع من قبول الصبغ، ومن حديث (5) علي - عليه السلام -: " نهاني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن أقرأ
_________
(1) في " الكامل " (3/ 1172).
قلت: وأورده ابن حجر في " الإصابة " في الترجمة رقم (2555) وابن الأثير في " أسد الغابة " (2/ 247 رقم الترجمة 1605) وابن كثير في " جامع المسانيد والسنن " (12/ 108 رقم 94305). والمتقي الهندي في " كنز العمال " رقم (41161).
والطبراني في الأوسط رقم (7708) وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5/ 130) وقال: فيه أبو بكر الهذلي وهو ضعيف.
قلت: بل هو متروك.
وذكر الجوزجاني هذا الحديث في كتاب " الأباطيل " (2/ 248 رقم 646) وقال: باطل وإسناده منقطع.
ورده الحافظ في " الإصابة " (2/ 371) وقال: وقوله باطل مردود، فإن أبا بكر الهذلي لم يوصف بالوضع. وقد وافقه سعيد بن بشير، وإن زاد في السند رجلاً فغايته أن المتن ضعيف. أما حكمه عليه بالوضع فمردود ".
وخلاصة القول أن الحديث ضعيف، والله أعلم.
(2) رقم (6327).
(3) في " السنن " رقم (3601).
(4) (3/ 421).
(5) أخرجه أحمد (1/ 114) ومسلم رقم (2078) وأبو داود رقم (404) والترمذي رقم (1737) والنسائي (2/ 217) و (8/ 167 - 168) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأبو يعلى رقم (415) وأبو عوانة (2/ 171) والطيالسي رقم (103) والبزار في " المسند " (919). وهو حديث صحيح.(9/4295)
وأنا راكع أو ألبس المعصفر المفدم " وفي حديث عروة أنه كره المفدم للمحرم ولم ير بالمصرح بأسًا. المصرح دون المفدم وبعده المورد. انتهى كلام النهاية، قال في الصحاح (1): ثوب مفدم، ساكنة الفاء، إذا كان مصبوغًا بحمرة مشبعًا.
وأخرج البخاري (2) والترمذي (3) عن البراء قال: " نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن المياثر الحمر والقسي ".
وأخرج الترمذي، (4) وأبو داود، (5) عن عمران بن حصين بلفظ: " نهى عن ميثرة الأرجوان " (6) قال في النهاية: إن الميثرة تعمل من حرير أو ديباج.
والأرجوان: صبغ أحمر يتخذ كالفراش الصغير، ويحشى بقطن أو صوف، يجعلها الراكب تحته، قال: ويدخل في هذا سائر السروج؛ لأن النهي يشمل كل ميثرة حمراء، سواء كانت
_________
(1) (5/ 2001).
(2) في صحيحه رقم (5849) ولفظه عن البراء قال: " أمرنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسبع: عيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ونهانا عن لبس الحرير، والديباج، والقسي، والإستبرق، والمياثر الحمر ".
(3) في " السنن " (3/ 299).
(4) في " السنن " رقم (2808).
(5) في " السنن " رقم (4051).
من حديث علي - رضي الله عنه - قال: " نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن خاتم الذهب، وعن لبس القسي، وعن الميثرة ".
(6) " النهاية " (4/ 378).
وقال في " النهاية " (4/ 59): القسي هو ثياب من كتان مخلوط بحرير يؤتى بها من مصر، نسبت إلى قرية على شاطئ البحر قريبًا من تنيس يقال لها: القس، بفتح القاف، وبعض أهل الحديث بكسرها. وقيل: أصل القسي: القزي بالزاي، منسوب إلى القز، وهو ضرب من الإبرسيم، فأبدل من الزاي سينا.(9/4296)
على رحل أو سرج، هذا لفظه في النهاية (1).
قلت: والافتراش يسمى لبسًا لغة كما في حديث أخرجه أبو داود (2) وفيه: " فقمنا على حصير قد اسود من طول ما لبس فنضحناه " هذا معنى الحديث أو قريب من معناه.
قال العلامة المقبلي - رحمه الله - في المنار (3) كأنه أراد بالكراهة التحريم.
كما يأتي في اللباس وكما هو مقتضى النواهي، ويرى علماء الشافعية (4) في عصرنا كأنهم ما سمعوا حديثًا يتخيرون الأحمر القاني.
وساق كلامًا لابن القيم (5) وفيه: فكيف يظن بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه لبعض الأحمر القاني، كلا لقد أعاذه الله منه.
وإنما وقعت الشبهة من لفظ الحلة الحمراء، انتهى كلام ابن القيم، وساق حديثًا بعد هذا [3] أخرجه الطبراني (6)، والظاهر أن كلام ابن القيم في جمعه بين النهي وفعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عند لبسه للحلة لا يصح حيث قال: وإنما الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود.
وذكر بعده بيسير أن في بعض السير أنهم كانوا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -
_________
(1) (4/ 378).
(2) في " السنن " رقم (658).
وأخرجه النسائي رقم (738). وأخرج نحوه البخاري في صحيحه رقم (380) عن أنس بن مالك وفيه ". . . فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، فنضحته بماء. . . ".
(3) (2/ 266).
(4) انظر " المجموع " (4/ 336).
(5) انظر " زاد المعاد " (1/ 134).
(6) ذكره المقبلي في " المنار " (2/ 266) من حديث عبادة بن الصامت: بصر رسول الله برجل عليه ملحفة معصفرة، فقال: " ألا رجل يستر بيني وبين هذه النار ".(9/4297)
فرأى على رواحلهم أكيسة فيها خطوط حمر، وقال: " ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم، فقمنا سراعًا لقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حتى نفر بعض إبلنا فأخذنا الأكيسة فنزعناها " رواه أبو داود (1). فإن حمله على أن الحلة التي لبسها ذات خطوط بعيد. وهذا الحديث يقضي باختلال تأويله، والله أعلم.
وأما المجيز فاستدل بما أخرجه الإمام أحمد (2) والبخاري (3) ومسلم (4)، عن البراء بن عازب قال: " كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مربوعًا بعيد ما بين المنكبين له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء لم أر شيئًا قط أحسن منه " وأخرجه أبو داود (5) والترمذي (6) والنسائي (7) بنحوه مثله، وبوب له الترمذي (8) باب (9) ما جاء [في الرخصة] (10) في الثوب الأحمر للرجال. وأخرجه ابن ماجه (11) بلفظ: " ما رأيت أجمل
_________
(1) في " السنن " رقم (4070) بسند ضعيف.
قال الشوكاني في " النيل " في أثناء شرح الحديث (20/ 563): وهذا الحديث لا تقوم به حجة؛ لأن في إسناده رجلاً مجهولاً - هو الرجل من بني حارثة.
(2) في " المسند " (4/ 290).
(3) في " صحيحه " رقم (3551).
(4) في " صحيحه " رقم (2337).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4072) والترمذي رقم (3635) والنسائي (8/ 183) وابن ماجه رقم (3599).
(5) في " السنن " رقم (4072).
(6) في " السنن " رقم (1724).
(7) في " السنن " (8/ 202).
(8) في " السنن " (4/ 219).
(9) رقم (4).
(10) زيادة من سنن الترمذي.
(11) في " السنن " رقم (3599).(9/4298)
من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مترجلاً في حلة حمراء ".
وأخرج أبو داود (1) عن عامر بن عمرو المزني قال: " رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بمنىً وهو يخطب على بغلة وعليه برد أحمر، وعليٌّ - عليه السلام - أمامه يعبر عنه " وذكر المنذري (2) أن في إسناده اختلافًا وأبانه.
وهذا ما لدي من أدلة المجيز والمانع، والمعول عليه في تقوية الراجح لما يرضي الصانع، أو إظهار الجمع الصحيح إذا لم يكن بينهما تمانع.
ولله الحمد رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
كمل تحرير السائل صبح يوم الأحد، لعله رابع وعشرون شهر ربيع الآخر سنة 1209 [4].
_________
(1) في " السنن " رقم (4073).
(2) في " مختصره " (6/ 43) وقال: اختلف في إسناده فقيل: انفرد بحديثه أبو معاوية الضرير، وقيل: إنه أخطأ فيه؛ لأن يعلى بن عبيد قال فيه: عن هلال بن عمرو عن أبيه. وصوب بعضهم الأول.
وعمرو هذا هو ابن رافع المزني، مذكور في الصحابة، وقال بعضهم فيه: " عمرو بن رافع عن أبيه " وذكر له هذا الحديث.(9/4299)
القول المحرر في حكم لبس المعصفر وسائر أنواع الأحمر
" بسم الله الرحمن الرحيم "
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطاهرين، ورضي الله عن الصحابة الراشدين.
بدر بأفلاك البلاغة طالع ... در على جيد الإجادة لامع
أم نظم من لباه من أوج العلا ... ما رام فهو له مطيع سامع
شكل الذكاء وينتجه (1) الفهم الذي ... ما كاد يطمع في مداه الطامع
يا مغنيًا عصر الشبيبة جاهدًا ... في كل علم للعلائق قاطع
يمشي على نص الدليل مباينًا ... للرأي وهو بنص طه قانع
وغدا بهدي محمد وصحابه ... متلبسًا ولما عداه خالع
ظفرت يداك بمنبع العلم الذي ... [من عين أسرار النبوة نابع] (2)
[نفسي الفداء لعصبة نبوية ... مرضية نحو الدليل تسارع] (3)
[لم يلهها عن منهج الحق الذي ... يروي عن المعصوم رأي خادع] (4)
إن امرأً يأبى الدليل تعصبًا ... فهو الذي للأنف منه جادع
من كان قدوته مقال محمد ... فهو الضليع ومن عداه الضالع
كم بين من قال الرسول قضى بذا ... وله به سند صحيح قاطع
وفتىً يقول أبو فلان قدوتي ... أرضى بما يرضاه لست أنازع
_________
(1) في " الديوان " (ص231) نتيجة.
(2) كذا في المخطوط، والذي في الديوان (ص232) يروي عن المعصوم، رأي خادع.
(3) زيادة من المخطوط غير موجود في الديوان (ص232).
(4) زيادة من المخطوط غير موجود في الديوان (ص232).(9/4300)
فالعلم كل العلم إنصاف الفتى ... وبه أتى النص الصريح الشائع
من كان أعرف بالصواب فحظه ... في العلم حظ في الحقيقة واسع
أما الذي جعل التعصب مذهبًا ... فهو امرؤ في الجهل عندي واقع [5]
لو كان في كل المعارف مفردًا ... وإليه كل في الدقائق راجع
وأقول قد وافى إلينا منك يا ... بدر الهدى بحث بديع رائع
عن حكم لبس للمعصفر ما الذي ... قد صح مما قال فيه الشارع
وكذاك سائر كل ثوب أحمر ... هل جاء عنه من الأدلة مانع
واعلم بأن الأمر فيه تخالف ... في السنة الغرآ وفيه تنازع
والجمع بالإجماع صار مقدمًا ... ولديه ترجيح الأدلة ضائع
وأراه فيما نحن فيه ممكنًا ... وهو الذي للشك عندي رافع
قد تم مسلكه بغير تعسف ... فاسلكه فهو لما تفرق جامع
والحق أبلج والدليل محكم ... والكل [من نهر] (1) النبوة كارع
فاستمل ما أمليه دمت منعمًا ... يحبوك بالصنع الجميل الصانع
واعذر فهذا النظم غير مهذب ... ما فيه مما يهوى البليغ البارع
لكنه في بحث علم بيننا ... والشعر للمقصود منه تابع
اعلم أن الثوب المعصفر هو نوع من الثياب الحمر؛ لأن العصفر إذا صبغ به الثوب صار أحمر، كما صرح بذلك جماعة من أهل العلم، فلا يظن أن المعصفر له لون آخر غير لون الحمرة، والأحاديث الواردة في تحريم لبس مطلق الأحمر وفي تحريم لبس نوع منه خاص وهو المعصفر معارضة بأحاديث أخر.
وسنتكلم هاهنا على ذلك بحسب ما تبلغ إليه الطاقة، فنقول: أما الأحاديث الواردة في المنع من لبس مطلق الأحمر، فمنها حديث عبد الله بن عمرو عند أبي .....................
_________
(1) في المخطوط (في نهر) والصواب ما أثبتناه.(9/4301)
داود (1)، والترمذي (2) وقال: حسن (3): " أنه مر على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - برجل وعليه ثوبان أحمران، فسلم فلم يرد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ".
وهذا الحديث لا تقوم به حجة؛ لأن في إسناده أبا يحيى القتات (4)، وهو كوفي لا يحتج بحديثه. قال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا عن عبد الله بن عمرو، ولا نعلم له طريقًا إلا هذا الطريق، ولا نعلم رواه عن إسرائيل إلا إسحاق بن منصور.
قال الترمذي (5): بعد أن ساقه: معناه عند أهل الحديث أنه كره المعصفر. قال: ورأوا أن ما صبغ بالحمرة من مدر (6) أو غيره فلا بأس به إذا لم يكن معصفرًا.
قال الحافظ في الفتح (7): هو حديث ضعيف، وإن وقع في نسخ الترمذي أنه حسن، ومنها حديث " أن امرأة من بني أسد قالت: كنت يومًا عند زينب امرأة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -[6] ونحن نصبغ ثيابها بمغرة، والمغرة صباغ أحمر، قالت: فبينما نحن كذلك، إذ طلع علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فلما رأى المغرة (8) رجع، فلما رأت ذلك زينب علمت أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد كره ما فعلت، وأخذت فغسلت ثيابها، ووارت كل حمرة، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه
_________
(1) في " السنن " رقم (4069).
(2) في " السنن " رقم (2807) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وهو حديث ضعيف كما تقدم.
(3) أي الترمذي في " السنن " (5/ 116).
(4) قال ابن حجر في " التقريب " (2/ 489): " لين الحديث ".
(5) أي الترمذي في " السنن " (5/ 116).
(6) المدر - محركة -: قطع الطين اليابس - والمراد هاهنا هو الطين الأحمر الذي يصبغ به الثوب فيصير أحمر.
(7) (10/ 306).
(8) المغرة: المدر الأحمر الذي تصبغ به الثياب " النهاية " (4/ 345).(9/4302)
وآله وسلم -رجع، فاطلع فلما لم ير شيئًا دخل ". الحديث أخرجه أبو داود (1). وجهالة المرأة المذكورة غير قادحة؛ لأنها صحابية، وجهالة الصحابي مغتفرة؛ لأدلة ناهضة استوفيتها في القول المقبول في رد رواية المجهول من غير صحابة الرسول (2). ولكن في إسناد الحديث المذكور إسماعيل بن عياش (3) وابنه محمد بن إسماعيل (4)، وفيهما مقال مشهور، ومنها حديث رافع بن خديج عند أبي داود (5) قال: " خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فرأى على رواحلنا وعلى إبلنا أكسية فيها خيوط عهن حمر، فقال: ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم! فقمنا سراعًا لقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فأخذنا الأكسية فنزعناها عنها ". ولا تقوم بالحديث حجة؛ لأن في إسناده رجلاً مجهولاً (6)، وذلك لأن محمد بن عمرو بن عطاء المذكور في إسناده قال: عن رجل من بني حارثة عن رافع بن خديج، وهذه الثلاثة الأحاديث على فرض صلاحيتها للاحتجاج بها ليس فيها ما يدل على تحريم لبس الأحمر، بل غاية ما فيها الدلالة على الكراهة فقط.
ومن أدلتهم ما أخرجه البخاري (7) وغيره من حديث البراء " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المياثر الحمر ". ولا يخفى أن هذا الدليل أخص من الدعوى.
_________
(1) في " السنن " رقم (4071) بسند ضعيف.
(2) انظر الرسالة رقم (42).
(3) هو إسماعيل بن عياش بن سليم العنسي، أبو عتبة الحمصي: صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط في غيرهم.
" التقريب " رقم (473).
(4) هو محمد بن إسماعيل بن عياش الحمصي، عابوا عليه أنه حدث عن أبيه بغير سماع. قلت: وخلاصة القول أنه ضعيف.
" التقريب " رقم (5735).
(5) في " السنن " رقم (4070) بسند ضعيف.
(6) تقدم ذكره.
(7) تقدم في السؤال.(9/4303)
وغاية ما فيه تحريم الميثرة الحمراء، فما الدليل على تحريم ما عداها من الملبوس وغيره مع ثبوت لبسه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للأحمر مرات كما سيأتي.
فإن قيل: إن إلحاق غيرها بها بالقياس فسيأتي ما يدل على عدم صحته.
ومن أدلتهم حديث رافع بن برد أو رافع بن خديج كما قال ابن قانع مرفوعًا بلفظ: " إن الشيطان يحب الحمرة، فإياكم والحمرة وكل ثوب ذي شهرة ".
أخرجه الحاكم في الكنى (1)، وأبو نعيم في المعرفة (2)، وابن قانع (3)، وابن السكن (4)، وابن منده (5)، وابن عدي (6)، والبيهقي (7)، ويشهد له ما أخرجه الطبراني (8) عن عمران بن حصين بلفظ " إياكم والحمرة فإنها أحب الزينة إلى الشيطان ".
وأخرج نحوه عبد الرزاق (9) من حديث الحسن مرسلاً، وهذا لو صح كان أنص ما احتجوا به على مطلوبهم، ولكنه سيأتي " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لبس الحلة الحمراء في غير مرة، ويبعد عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يلبس ما حذرنا من لبسه معللاً ذلك بأن الشيطان يحب الحمرة ".
ولا يصح أن يقال هاهنا: إن فعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا يعارض القول الخاص بنا كما صرح بذلك أئمة الأصول (10) [7] لا نقول: تلك العلة - وهي كون الشيطان يحب
_________
(1) لم أجده في القسم المطبوع من الكنى.
(2) (5/ 2675 - 2676 رقم 2883) في ترجمة (نافع بن يزيد الثقفي).
(3) لم يخرجه ابن قانع في " معجم الصحابة " المطبوع.
(4) عزاه إليهما ابن حجر في " الإصابة " (2/ 371 رقم الترجمة 2555) وقال ابن منده: رواه سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن رافع نحوه.
(5) عزاه إليهما ابن حجر في " الإصابة " (2/ 371 رقم الترجمة 2555) وقال ابن منده: رواه سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن رافع نحوه.
(6) في " الكامل " (3/ 1172).
(7) تقدم تخريجه في السؤال.
(8) تقدم تخريجه.
(9) في " المصنف " (11/ 79 - 80 رقم 19975).
(10) انظر تفصيل ذلك في " إرشاد الفحول " (170) " نهاية السول " (3/ 37 - 38).(9/4304)
الحمرة - مشعرة بعدم اختصاص الخطاب.
إذ تجنب ما يحبه الشيطان أو يلابسه هو - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أحق الناس به. وأيضًا الحديث المذكور في إسناده أبو بكر البدلي وهو ضعيف، وقد صرح الحافظ (1) بتضعيفه، وبالغ الجوزقاني (2) فقال: باطل. فعرفت بهذا أن ما تقدم ذكره من الأدلة لا ينتهض للاحتجاج به على فرض انفراده عن المعارض، فكيف وقد ثبت في الأمهات كلها من حديث البراء قال: " كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مربوعًا، بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء لم أر شيئًا قط أحسن منه " (3).
وأخرج البخاري (4) وغيره (5) عن أبي جحيفة: " أنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - خرج في حلة حمراء مشمرًا، صلى إلى العنزة بالناس ركعتين ".
وأخرج أبو داود (6) بإسناد فيه اختلاف عن عامر المزني قال: " رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بمنى وهو يخطب على بغلة وعليه برد أحمر، وعليٌّ - عليه السلام - أمامه ".
قال في البدر المنير وإسناده حسن. وأخرج البيهقي (7) عن جابر " أنه كان له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ثوب أحمر يلبسه في العيدين والجمعة ".
وروى ابن خزيمة في صحيحه (8) نحوه بدون ذكر الأحمر، وقد ثبت لبسه - صلى الله
_________
(1) في " الإصابة " (2/ 371).
(2) في كتاب " الأباطيل " (2/ 248 رقم 646).
(3) تقدم تخريجه.
(4) في " صحيحه " رقم (376).
(5) كمسلم في " صحيحه " رقم (250/ 503) وأحمد (4/ 308).
(6) في " السنن " رقم (4073) وهو حديث صحيح.
(7) في " السنن الكبرى " (3/ 247).
(8) لم أجده في المطبوع.(9/4305)
عليه وآله وسلم - للأحمر بعد حجة الوداع، ولم يلبث بعدها إلا أيامًا يسيرة.
وقد زعم ابن القيم (1) أن الحلة الحمراء التي لبسها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمراء مع الأسود، وغلط من قال: إنها كانت حمراء بحتًا، قال: وهي معروفة بهذا الاسم. ولا يخفاك أن ما تقدم من الصحابة وصفوا ذلك الملبوس بالحمرة، وهم من أهل اللسان، والواجب الحمل على المعنى الحقيقي وهو الحمراء البحت؛ لأن إطلاق لفظ الأحمر أو الحمراء على ما بعضه أحمر دون بعض مجاز لا يحمل ذلك الوصف عليه إلا لموجب، فإن أراد أن ذلك معنى الحلة الحمراء لغة فليس في كتب اللغة ما يشهد لذلك، وإن أراد أن ذلك حقيقة شرعية فيها فالحقائق الشرعية لا تثبت بمجرد الدعوى، والواجب حمل ما قاله ذلك الصحابي على لغة العرب؛ لأنها لسانه ولسان قومه إلا أن يكتب بالنقل اصطلاح للشارع بخلاف الوضع اللغوي وجب حمل ما أطلق من ألفاظه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وألفاظ أصحابه عليه، كما تقرر في الأصول (2) أنها تقدم الحقيقة الشرعية فالعرفية فاللغوية، فإن ابن القيم (3) إنما فسرها بذلك التفسير؛ للجمع بين الأدلة، فمع كون كلامه يأبى ذلك لتصريحه بتغليط من قال: إنها الحمراء البحت لا ملجئ إليه لإمكان الجمع بدونه كما سيأتي، مع أن حمله الحلة الحمراء على ما ذكر ينافي ما احتج به [8] في أثناء كلامه من إنكاره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على القوم الذين رأى على رواحلهم أكسية فيها خطوط حمر (4) كما سلف، وفيه دليل على كراهة ما كان فيه خطوط حمر، فلم ينفعه ذلك التفسير الذي فسر به الحلة؛ لاعترافه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنكر على أولئك القوم ما فيه خطوط حمر، ولكنه لا يليق لمنصف الجزم بتحليل الثوب
_________
(1) في " زاد المعاد " (1/ 132).
(2) انظر تفصيل ذلك:
" إرشاد الفحول " (ص107 - 112) " البحر المحيط " (2/ 158 - 159) " المحصول " (1/ 298).
(3) في " زاد المعاد " (1/ 132).
(4) تقدم تخريجه.(9/4306)
الأحمر على العموم، فإن الثوب المعصفر نوع من الثياب الحمر كما سلف، وقد صح النهي عن لبسه، فأخرج أحمد (1) ومسلم (2) والنسائي (3) عن عبد الله بن عمرو قال: " رأى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: إن هذه ثياب الكفار، فلا تلبسها ".
وعنه أيضًا قال: " أقبلنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ثنية، فالتفت إليَّ وعليَّ ريطة مضرجة بالعصفر، فقال: ما هذه! فعرفت ما كره، فأتيت أهلي وهم يسجرون تنورهم، فقذفتها فيه، ثم أتيته من الغد، فقال: يا عبد الله ما فعلت الريطة؟ فأخبرته فقال: ألا كسوتها بعض أهلك " أخرجه أحمد (4)، وأبو داود (5)، وابن ماجه (6) وزاد " فإنه لا بأس بذلك للنساء ".
والريطة - بفتح الراء المهملة وسكون المثناة من تحت ثم طاء مهملة، ويقال: رايطة. قال المنذري (7): جاءت الرواية بهما، وهي كل ملاءة منسوجة نسج واحد. وقيل: كل ثوب رقيق لين، والجمع ريط ورياط (8). والمضرجة - بفتح الراء المشددة - أي: الملطخة بالعصفر.
وأخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أيضًا قال: " رأى عليَّ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ثوبين معصفرين فقال: أمك أمرتك بهذا؟ قال: قلت: أغسلهما يا رسول [الله]؟ قال: بل أحرقهما " وهذه الرواية تنافي الرواية الأولى، وقد جمع بعضهم بين الروايتين بأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أمر أولاً بإحراقهما ندبًا، ثم لما أحرقهما قال له
_________
(1) في " المسند " (2/ 162).
(2) في " صحيحه " رقم (27/ 2077).
(3) في " السنن " (8/ 203) وهو حديث صحيح وقد تقدم.
(4) في " المسند " (4/ 96).
(5) في " السنن " رقم (4066).
(6) في " السنن " رقم (3603) وهو حديث حسن وقد تقدم.
(7) في " مختصر السنن " (6/ 39).
(8) " النهاية " (2/ 289).(9/4307)
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لو كسوتهما بعض أهلك " إعلامًا له بأن هذا كان كافيًا لو فعله، وأن الأمر للندب.
ولا يخفى ما في هذا من التكليف الذي عنه مندوحة؛ لأن القضية لم تكن واحدة حتى يجمع بين الروايتين بمثل هذا، بل هما قضيتان مختلفتان، وغايته أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في أحد القضيتين غلّظ عليه وعاقبه فأمره بإحراقهما، ولعل هذه المرة التي أمره فيها بالإحراق كانت بعد تلك المرة التي أخبره فيها بأن ذلك غير واجب، وهذا وإن كان بعيدًا من جهة أن صاحب القصة يبعد أن يقع منه اللبس للمعصفر مرة أخرى بعد أن سمع فيه ما سمع المرة الأولى، ولكنه دون البعد الذي في الجمع الأول؛ لأن احتمال النسيان كائن، وكذا احتمال عروض شبهة توجب الظن بعدم التحريم، ولا سيما وقد وقعت منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - المعاتبة على الإحراق.
قال القاضي عياض (1) [9]: " أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالإحراق من باب التغليظ والعقوبة " انتهى.
وأخرج مسلم (2) وأبو داود (3) والترمذي (4) والنسائي (5) عن علي - عليه السلام - قال: " نهاني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن التختم بالذهب، وعن لباس القسي، وعن القراءة في الركوع والسجود وعن لباس المعصفر " وقد قيل: إن هذا النهي مختص بعلي عليه السلام؛ ولهذا ثبت في رواية (6) عنه أنه قال: " ولا أقول نهاكم " ويجاب بأن
_________
(1) في " إكمال المعلم بفوائد مسلم " (6/ 589).
(2) في " صحيحه " رقم (2078).
(3) في " السنن " رقم (4044).
(4) في " السنن " رقم (1737) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(5) في " السنن " (2/ 217) (8/ 167 - 168) وهو حديث صحيح.
(6) ". . . . بأن ظاهر قوله: " نهاني " أن ذلك مختص به؛ ولهذا ثبت في رواية عنه أنه قال: ولا أقول نهاكم. وهذا الجواب ينبني على الخلاف المشهور بين أهل الأصول في حكمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الواحد من الأمة هل يكون حكمًا على بقيتهم أو لا. والحق الأول، فيكون نهيه لعلي وعبد الله نهيًا لجميع الأمة، ولا يعارضه صبغه بالصفرة على تسليم أنها من المعصفر؛ لما تقرر في الأصول من أن فعله الخالي عن دليل التأسي الخاص لا يعارض قوله الخاص بأمته.
فالراجح: تحريم الثياب المعصفرة، والعصفر وإن كان يصبغ صبغًا أحمر كما قال ابن القيم - زاد المعاد (1/ 136) - فلا معارضة بينه وبين ما ثبت في الصحيحين - تقدم من حديث البراء - من أنه " صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يلبس حلة حمراء "؛ لأن النهي في هذه الأحاديث يتوجه إلى نوع خاص من الحمرة، وهي الحمرة الحاصلة عن صباغ العصفر.
وقال البيهقي في " معرفة السنن والآثار " (2/ 452 - 454) رادًا لقول الشافعي: إنه لم يحك أحد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النهي عن الصفرة إلا ما قال علي: " نهاني ولا أقول نهاكم " واعلم أن الأحاديث تدل على أن النهي على العموم، ثم قال بعد ذلك: ولو بلغت هذه الأحاديث الشافعي - رحمه الله - لقال بها.(9/4308)
ذلك ينبني على الخلاف المشهور في الأصول (1) في حكمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على الواحد من الأمة، هل يكون حكمًا على بقيتهم أو لا؟ والحق الأول، وأيضًا لفظ أبي داود وغيره نهي، وهو يفيد العموم؛ لما تقرر في علم المعاني أن حذف (2) المتعلق من المشعرات بالتعميم.
وأخرج أبو داود (3) من طريق أخرى عن عبد الله بن عمرو قال: " رآني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وعليَّ ثوب مصبوغ بعصفر مورد، فقال: ما هذا؟ قال: فانطلقت فأحرقته، فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ما صنعت بثوبك؟ فقلت: أحرقته، فقال: أفلا كسوته بعض أهلك " وفي إسناده إسماعيل بن عياش وشرحبيل بن مسلم الخولاني، وهما ضعيفان.
وأخرج أبو داود (4) من حديث عمران بن حصين أن نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -
_________
(1) انظر " إرشاد الفحول " (ص444) وقد تقدم توضيحه مرارًا.
(2) انظر " إرشاد الفحول " (ص453) و" البحر المحيط " (3/ 195).
(3) في " السنن " رقم (4068) وهو حديث ضعيف.
(4) في " السنن " رقم (4048) وهو حديث ضعيف.(9/4309)
قال: " لا أركب الأرجوان ولا ألبس المعصفر " وهو من رواية الحسن عن عمران بن حصين، ولم يسمع منه فهو منقطع.
وأخرج الطبراني (1) عن عبادة بن الصامت قال: " بصر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - برجل عليه ملحفة معصفرة، فقال: ألا رجل يستر بيني وبين هذه النار؟ " فهذه الأحاديث قاضية بمنع لبس ما كان من الثياب الحمراء (2) المصبوغة بالعصفر، فيتعين الجمع بين الأحاديث المختلفة المتقدمة بأن يحمل ما روي من لبسه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للأحمر على ما كان مصبوغًا بغير العصفر، ويحمل ما روي من النهي عن مطلق
_________
(1) أورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 156) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
(2) قال الحافظ في " الفتح " (10/ 306): إن في لبس الثوب الأحمر سبعة مذاهب:
الأول: الجواز مطلقًا جاء عن علي، وطلحة، وعبد الله بن جعفر، والبراء، وغير واحد من الصحابة، وعن سعيد بن المسيب، والنخعي، والشعبي، وأبي قلابة، وطائفة من التابعين.
الثاني: المنع مطلقًا، ولم ينسبه الحافظ إلى قائل معين، إنما ذكر أخبارًا وآثارًا يعرف بها من قال بذلك.
الثالث: يكره لبس الثوب المشبع بالحمرة دون ما كان صبغه خفيفًا، جاء ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد.
الرابع: يكره لبس الأحمر مطلقا لقصد الزينة والشهرة، ويجوز في البيوت والمهنة. جاء ذلك عن ابن عباس.
الخامس: يجوز لبس ما كان صبغ غزله ثم نسج، ويمنع ما صبغ بعد النسج، جنح إلى ذلك الخطابي.
السادس: اختصاص النهي بما يصبغ بالعصفر، ولم ينسبه إلى أحد.
السابع: تخصيص المنع بالثوب الذي يصبغ كله، وأما ما فيه لون آخر غير أحمر فلا، حكى عن ابن القيم أنه قال بذلك بعض العلماء.
قال الحافظ: والتحقيق في هذا المقام أن النهي عن لبس الأحمر إن كان من أجل أنه لبس الكفار، فالقول فيه كالقول في المثيرة الحمراء، وإن كان من أجل أنه زي النساء، فهو راجع إلى الزجر عن التشبه بالنساء، فيكون النهي عنه لا لذاته، وإن كان من أجل الشهرة أو خرم المروءة فيمنع، حيث يقع ذلك، وإلا فلا فيقوي ما ذهب إليه مالك في التفرقة بين لبسه في المحافل وفي البيوت.(9/4310)
الأحمر وإنكاره على المقيد بكونه مصبوغًا بالعصفر، فيكون الممنوع لبسه من أنواع الأحمر هو المصبوغ بالعصفر فقط دون غيره، وهذا الجمع متعين وهو الراجح عندي (1).
ويؤيده ما أخرجه أحمد (2) وأبو داود (3) والنسائي (4) عن ابن عمر: " أنه كان يصبغ ثيابه ويدهن بالزعفران، فقيل: لم تصبغ ثيابك وتدهن بالزعفران؟ فقال: إني رأيته أحب الأصباغ إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يدهن به ويصبغ به ثيابه " ولا شك أن المصبوغ بالزعفران يكون أحمر.
ولا يعترض على هذا بأن يقال قد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر " أنه قال: وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يصبغ بها، فأنا أحب أن أصبغ بها " لأنا نقول: المراد بالصبغ هاهنا خضاب اللحية.
قال المنذري (5): واختلف الناس في ذلك، فقال بعضهم: أراد الخضاب للحية بالصفرة. وقال آخرون: أراد تصفير الثياب. انتهى. وقد جزم الخطابي (6) بأن المراد [10] خضاب اللحية، ولكنه زاد أبو داود (7) والنسائي ما لفظه: وكان يصبغ بها ثيابه كلها، ولا يخفاك أن الذي جزمنا بمنعه هو المصبوغ بالعصفر فقط، والمذكور في هذا الحديث الصبغ بالصفرة، وقد قدمنا أن العصفر (8) يصبغ صباغًا أحمر، حتى قال ابن القيم (9):
_________
(1) انظر " نيل الأوطار " (1/ 146 - 153) و" المفهم " (5/ 400).
(2) في " المسند " (2/ 97).
(3) في " السنن " رقم (4064).
(4) في " السنن " (8/ 140) وهو حديث صحيح.
(5) في " مختصر السنن " (6/ 38).
(6) في " معالم السنن " (5/ 338 - هامش السنن).
(7) في " السنن " رقم (4064).
(8) انظر " القاموس " (ص567).
(9) في " زاد المعاد " (1/ 131).(9/4311)
إن ذلك معلوم والصباغ بالصفرة خارج عما نحن بصدده، وهذا الجمع الذي رجحناه وهو المروي عن أهل الحديث كما تقدم عن الترمذي (1) في أول البحث، وفي لبس الأحمر خلاف منتشر، ومذاهب متعددة بلغت إلى سبعة كما في فتح الباري (2).
قال النووي في شرح مسلم: واختلف العلماء في المعصفرة هل هي المصبوغة بعصفر؟ فأباحها جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك، لكنه قال: غيرها أفضل منها، وفي رواية أنه أجاز لباسها في البيوت وأفنية الدور.
وكرهه في المحافل والأسواق ونحوها. وقال جماعة من العلماء: هو مكروه كراهة تنزيه، وحملوا النهي على هذا؛ لأنه ثبت " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لبس حلة حمراء " (3).
وفي الصحيحين (4) عن ابن عمر قال: " رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يصبغ بالصفرة ".
وقال الخطابي (5): النهي منصرف إلى ما صبغ من الثياب بعد النسج، فأما ما صبغ غزله ثم نسج، فليس بداخل في النهي، وحمل بعض العلماء النهي هنا على المحرم بالحج أو العمرة؛ ليكون موافقًا لحديث (6) ابن عمر: " نهى المحرم أن يلبس ثوبًا مسه ورس أو زعفران " انتهى.
_________
(1) في " السنن " (4/ 116).
(2) (10/ 306) تقدم ذكرها.
(3) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(4) البخاري في " صحيحه " رقم (166) ومسلم رقم (1187).
(5) في " معالم السنن " (5/ 338 - حاشية السنن).
(6) أخرجه البخاري في " صحيحه " رقم (5852) ومسلم رقم (3/ 1177) وابن ماجه رقم (2930) (2932) والبيهقي في " السنن " (5/ 50) وابن حبان رقم (3787) وأحمد (2/ 66) من طرق. وهو من حديث عبد الله بن عمر.(9/4312)
قال البيهقي (1) في السنن: نهى الشافعي - رحمه الله - الرجل عن المزعفر، وأباح له المعصفر، قال الشافعي: إنما رخصت في المعصفر؛ لأني لم أجد أحدًا يحكي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - النهي عنه إلا ما قال علي - رضي الله عنه -: " نهاني ولا أقول نهاكم " قال البيهقي (2) وقد جاءت أحاديث تدل على النهي على العموم، ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو المتقدم وأحاديث أخرى ثم قال: لو بلغت هذه الأحاديث الشافعي - رحمه الله - لقال بها، ثم ذكر بإسناده ما صح عن الشافعي - رحمه الله - أنه قال: إذا صح حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - خلاف قولي فاعملوا بالحديث ودعوا قولي. وفي رواية (3): فهو مذهبي.
قال البيهقي (4): وقد كره المعصفر بعض السلف، وبه قال أبو عبد الله الحليمي، ورخص فيه جماعة. والسنة أولى بالاتباع. انتهى.
وحكى الإمام المهدي - رحمه الله - في البحر (5) عن العترة وأبي حنيفة أنه يكره للرجل لبس المشبع صفرة وحمرة في غير الحرب، واستدل بحديث عليٍّ - عليه السلام - المتقدم، وظاهر تلك الحكاية عمن ذكر عدم الفرق بين الأحمر بالعصفر أو بغيره.
وحكى أيضًا عن مالك والشافعي عدم الكراهة. وحكى أيضًا عن الإمام يحيى - رحمه الله - أنه لا يكره المصبوغ بالفوه والبقم، وقد [11] اقتصر الإمام المهدي على حكاية الكراهة فقط لمذهب العترة كما في البحر (6) في كتاب اللباس وكتاب الصلاة، والمعروف من مذهب الزيدية التحريم.
وقد صرح في الغيث (7) أنهم صححوا التحريم؛ ولهذا جعل لبس المشبع صفرة وحمرة
_________
(1) في " معرفة السنن والآثار " (2/ 454 رقم 3434).
(2) في " معرفة السنن والآثار " (2/ 454 رقم 3434).
(3) أخرجه البيهقي في " معرفة السنن والآثار " (2/ 454 رقم 3435).
(4) انظر " معرفة السنن والآثار " (2/ 454 - 455).
(5) (4/ 360).
(6) (4/ 360).
(7) تقدم التعريف به.(9/4313)
في الأزهار (1) في باب اللباس من جملة المحرمات، والراجح ما أسلفناه، ويؤيده ما تقدم عن ابن عمر أنه كان يصبغ ثيابه بالزعفران (2).
ويحكى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أنه كان يصبغ ثيابه به " (3).
وأخرج الترمذي (4) من حديث قيلة بنت مخرمة: " أنها رأت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وعليه مليتان كانتا بزعفران وقد نفضتا ومعه عسيب نخلة ".
وأخرج أيضًا (5) من حديث سمرة مثله، فهذه ثلاثة أحاديث عن ثلاثة من الصحابة مصرحة بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يصبغ ثيابه بالزعفران وهو يصبغ أحمر كما لا يخفى. وفي ذلك إرشاد إلى ما ألمحنا إليه من أن المحرم نوع مخصوص من الأحمر وهو المعصفر.
وذكر الجلال في ضوء النهار (6): أنه يجمع بين الأحاديث بحمل النهي على الكراهة، ويبعد ذلك ما تقدم من أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لمن لبس بأن يحرقه، ولا يعاقب على ارتكاب المكروه بمثل هذا، يؤيده بعدًا قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها " (7) فإن المجيء بالنهي بعد بيان أنها مختصة بالكفار يفيد أنه للتحريم؛ لما تقرر من أن التشبه بالكفار حرام، وجعل النهي عن المعصفر مقترنًا بالنهي عن الحرير وخاتم الذهب كما تقدم في حديث عليٍّ - عليه السلام - مما يؤيد التحريم.
قال المقبلي في المنار (8): والظاهر أن ما ساوى المعصفر في نصوع الحمرة فهو مثله،
_________
(1) (3/ 284 - مع السيل).
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.
(4) لم أجده.
(5) في " السنن " (4/ 219).
(6) (4/ 1999 - 2002).
(7) تقدم تخريجه.
(8) (2/ 266).(9/4314)
كالأصباغ التي تكون في شيء من الجوخ هي أقنى وأزين من المعصفر إن لم تزد عليه لم تنقص. والشافعية اقتصروا عليه ولا وجه لذلك؛ لأنه لا خصوصية للمعصفر، فيتعدى الحكم بالقياس بعدم الفرق.
وأحاديث كراهة الحمرة كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ألا إن هذه الحمرة قد علتكم " (1) تقوي التعميم، غايته أن المحقق المشبع كما ذكره المصنف، وقد مر في الصلاة ما هو أبسط من هذا. انتهى كلامه (2).
وأقول هذا مبني على ما ذكره ابن القيم (3) من التأويل في الحلة الحمراء التي لبسها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما تقدم، وقد عرفت عدم صحته، والمقبلي - رحمه الله - قد قلده في ذلك، ونقل كلامه في كتاب الصلاة من حاشية المنار (4)، فاستراح بذلك من الأحاديث الواردة في الصحيح وغيره أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لبس الحلة الحمراء والثوب الأحمر كما سلف؛ ولهذا رجح العمل بالقياس لما فيه من حمرة من الثياب مطلقًا على ما كان منها مصبوغًا بالعصفر، ولا يتم ذلك على ما قررنا من أن المعنى الحقيقي لما وصفه [12] الصحابي بالحمرة هو أن جميعه أحمر لا بعضه. وأيضًا ما كان البعض منه أحمر منهيًا عنه كما اعترف به ابن القيم (5).
ولا يخفى أن إلحاق كل ما كان أحمر بما كان معصفرًا استلزم على ذلك التقرير إهدار الأحاديث الواردة بلبسه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للأحمر أو التكليف لدعوى الاختصاص به، وكل ذلك غير مناسب، أما الأول فلا شك أن اطراح دليل صحيح بدليل آخر دونه في الصحة أو مثله بلا مرجح مما لا يقع فيه منصف، وعلى تسليم وجود المرجح كأن
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) المقبلي في " المنار " (2/ 266).
(3) في " زاد المعاد " (1/ 131).
(4) " المنار " (2/ 266).
(5) في " زاد المعاد " (1/ 131).(9/4315)
يقال فيما نحن بصدده مثلاً، الأحاديث القاضية بتحريم الأحمر أقوال وهي أرجح من الأفعال، فلا يتم ذلك أيضًا؛ لأنه مصير إلى الترجيح مع إمكان الجمع وهو غير جائز إجماعًا. وأما الثاني فقد تقرر بنص الكتاب والسنة.
أن التأسي بأفعاله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ثابت على الأمة كالتأسي بأقواله، فالقول بالاختصاص في غير ما تبين وجهه خلاف الظاهر بالإجماع فلا يصار إليه إلا لموجب.
إذا تقرر هذا عرفت أن ما ذكرناه من الجمع بتحريم المعصفر وحده متعين، لا يتم العمل بجميع الأدلة المختلفة على وجه حسن، وعدم الترك لبعضها أو التعسف في تأويل ما لا ملجئ إلى تأويله إلا به. وهذا على فرض عدم العلم بالتاريخ، فكيف وقد علم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لبس الأحمر بعد حجة الوداع (1)، ولم يلبث - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعدها إلا نحو ثلاثة أشهر!.
وقد تقرر في الأصول (2) أن المتأخر ناسخ للمتقدم مع عدم إمكان الجمع، سواء كان المتأخر قولا أو فعلا مصحوبًا بدليل التأسي الخاص والعام على خلاف في ذلك، مرجعه إلى شمول القول له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بطريق التنصيص أو الظهور، أو اختصاصه بسائر الأمة دونه.
وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق، حرر الجواب في سلخ شهر ربيع الآخر سنة 1209 [13].
_________
(1) انظر " فتح الباري " (10/ 259، 306).
(2) انظر " البحر المحيط " (4/ 127)، و" إرشاد الفحول " (ص605) وما بعدها. انظر " فتح الباري " (10/ 306).(9/4316)
الأبحاث البديعة في وجوب الإجابة إلى حكام الشريعة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(9/4317)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " الأبحاث البديعة في وجوب الإجابة إلى حكام الشريعة ".
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، إياك نعبد، وإياك نستعين، أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك. . . .
4 - آخر الرسالة: وهي موجودة في الصحيحين بالغة فيهما إلى حد التواتر المعتبر، فراجعوا ذلك ففيه ما يغني.
والحمد لله أولاً وآخرًا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، ورضي الله عن الصحابة الأخيار.
5 - نوع الخط: خط نسخي عادي.
6 - عدد الصفحات: 45 صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 11 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(9/4319)
بسم الله الرحمن الرحيم
إياك نعبد، وإياك نستعين، أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك.
وبعد:
فإنه وصل إلى الفقير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - سؤال من سيدي السيد العلامة الرئيس الفهامة شرف الدين بن أحمد بن محمد بن الحسين (1) - كثر الله فوائده - حاصله: هل ثم دليل يدل على وجوب إجابة أحد الخصمين إلى حاكم خارج عن المحل الذي يسكنه الخصم الآخر المطلوب؟ فأجبت بجواب لم يكن أصله محفوظًا لدي، وحاصله أن الإجابة إلى الشريعة المطهرة واجبة على كل مسلم، فمن دعا خصمه إلى قاض من القضاة الذين يعرفون حكم الله في تلك الخصومة، ويتمكنون من الحكم بما أمر الله بالحكم به في محكم كتابه، فإنه أمر رسله وسائر عباده بالحكم بما أنزل، وبالعدل وبالقسط، وبما أراهم الله، وجب عليه إجابته. ومعلوم أنه لا يعرف ذلك إلا من يعرف ما أنزل الله في كتابه وعلى لسان رسوله؛ فإن ذلك هو الشريعة المحمدية، وجميع ما يحصل من المسائل الشرعية بالمقايسة الصحيحة هو من جملة ما تناوله الكتاب أو السنة بتلك الواسطة، وكذلك ما كان من المسائل بدليل فحوى الخطاب (2) أو لحنه (3)،
_________
(1) ابن عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين بن الإمام شرف الدين أمير كوكبان وبلادها.
ولد في ربيع الآخر سنة 1159هـ.
قال الشوكاني في " البدر الطالع " رقم (193): وقد كاتبني غير مرة، وذاكرني في مسائل ونصحته فأظهر القبول ولم يفعل. كانت وفاته سنة 1241هـ.
" نيل الوطر " (1/ 158).
(2) المفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة. فمفهوم الموافقة حيث يكون المسكوت عنه موافقًا للملفوظ به، فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به فيسمى فحوى الخطاب.
وإن كان مساويًا له فيسمى لحن الخطاب.
وقال الماوردي والروياني في الفرق بين فحوى الخطاب ولحن الخطاب وجهين:
أحدهما: أن الفحوى ما نبه عليه اللفظ، واللحن ما لاح في ثنايا اللفظ.
وثانيهما: أن الفحوى ما دل على ما هو أقوى منه، واللحن ما دل على مثله.
" إرشاد الفحول " (ص589)، " البحر المحيط " (4/ 8).
مثال: فحوى الخطاب: كدلالة تحريم التأفف على تحريم الضرب؛ لأنه أشد، فتحريم الضرب من قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} [الإسراء: 23]. من باب التنبيه بالأدنى - وهو التأفيف - على الأعلى وهو الضرب.
مثال: لحن الخطاب: تحريم إحراق مال اليتيم الدال عليه قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} [النساء: 10]. فالإحراق مساوٍ للأكل بواسطة الإتلاف في الصورتين.
انظر " الكوكب المنير " (3/ 482)، " المستصفى " (3/ 411 - 412).
(3) المفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة. فمفهوم الموافقة حيث يكون المسكوت عنه موافقًا للملفوظ به، فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به فيسمى فحوى الخطاب.
وإن كان مساويًا له فيسمى لحن الخطاب.
وقال الماوردي والروياني في الفرق بين فحوى الخطاب ولحن الخطاب وجهين:
أحدهما: أن الفحوى ما نبه عليه اللفظ، واللحن ما لاح في ثنايا اللفظ.
وثانيهما: أن الفحوى ما دل على ما هو أقوى منه، واللحن ما دل على مثله.
" إرشاد الفحول " (ص589)، " البحر المحيط " (4/ 8).
مثال: فحوى الخطاب: كدلالة تحريم التأفف على تحريم الضرب؛ لأنه أشد، فتحريم الضرب من قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} [الإسراء: 23]. من باب التنبيه بالأدنى - وهو التأفيف - على الأعلى وهو الضرب.
مثال: لحن الخطاب: تحريم إحراق مال اليتيم الدال عليه قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} [النساء: 10]. فالإحراق مساوٍ للأكل بواسطة الإتلاف في الصورتين.
انظر " الكوكب المنير " (3/ 482)، " المستصفى " (3/ 411 - 412).(9/4323)
ثم ذكرت ذلك في الجواب دليلين من كتاب الله تعالى على وجوب الإجابة إلى الشريعة المطهرة، وهما قول الله - عز وجل -: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} (1) [1أ] وقول الله - سبحانه -: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (2). وأوضحت ما في هاتين الآيتين الشريفتين من الأسرار الربانية التي يمكن الاطلاع على بعضها للبشر بممارسة العلوم الموضوعة لبيان دقائق العربية وأسرارها، جازمًا بأن الدعاء إلى الله وإلى رسوله هو الدعاء إلى ما شرعه الله ورسوله، مبرهنًا على ذلك بإجماع المتشرعين عليه، وبيانه أنه لا يعرف خلاف لفرد من أفراد المسلمين سابقهم ولاحقهم في وجوب إجابة من دعا خصمه إلى التحاكم إلى الشريعة المطهرة، فمن ادعى أن ذلك لا يجب إلا في زمن النبوة إلى رسول
_________
(1) [النور: 51].
(2) [النساء: 65].(9/4324)
الله وحده فقد طوى بساط الشريعة بعد عصر الرسالة، وخالف جميع أهل الملة الإسلامية من لدن الصحابة إلى الآن، فإنهم متفقون على وجوب الإجابة إلى الشريعة، متقيدون بأحكامها قولاً وفعلاً واعتقادًا، فإن قال من قصر وجوب الإجابة على أيام النبوة إلى رسول الله وحده إنه قائم مقام المنع وطالب للدليل، فهذا الإجماع الذي نقلناه يكفي في الجواب عليه، على أن في الكتاب العزيز، وفي السنة المطهرة من الأدلة المصرحة بوجوب الإجابة لما شرعه الله في محكم كتابه وعلى لسان رسوله ما لا يأتي عليه الحصر. ولا فائدة في إيراد شيء من ذلك؛ لأن هذا الأمر هو المقصد الأهم، والغرض الأقدم من الدعوة المحمدية، بل من دعوة جميع الرسل، ولا يظن بمسلم أن يخالف في ذلك، ولو فرضنا وجوده فرضًا اختراعيًا لكان هو المطالب بالدليل؛ لأنه يزعم أن بساط الشريعة قد طوي بعد أيام النبوة [1ب]، وارتفع تعبد الأمة بها.
فيقال له: ما الدليل على ذلك مع كونه [. . . . .] (1) الضرورة الدينية؟ فإن خص ذلك بمسائل الخصومة دون غيرها وقال: لا تجب إجابة دعوة الخصم لخصمه إلى الشريعة بعد عصر النبوة مع تسليمه أن الأمة متعبدة بهذه الشريعة المطهرة قبل مضي عصر النبوة، فيقال له: ما الفرق بين مسائل الصلاة والصيام مثلاً، وبين مسائل البيع والهبة والنذر حتى بقي التعبد بالمسائل الأولى دون المسائل الثانية؟ فإن قال: لا فرق كما هو الظن بكل مسلم، فيقال له: إذا اختلف المسلمان في شيء من المعاملات الشرعية، فقال أحدهما: الحق بيده، وقابله الآخر بمثل دعواه، فما الحيلة في رفع ما بينهما من الاختلاف؟ هذا على فرض عدم الدعوة من أحدهما لخصمه إلى الشريعة المطهرة، فكيف إذا دعاه إليها، وهذا التقدير إنما هو مقدمة لما يأتي في غضون هذه الأبحاث؛ إذ النزاع لم يتعلق به في الظاهر، وإن استلزمه كلام المعترض - عافاه الله - كما سيأتي بيانه.
وإذا تقرر وجوب إجابة الطالب لخصمه إلى الشريعة المطهرة بالضرورة الدينية. فلا
_________
(1) كلمة غير واضحة في المخطوط.(9/4325)
بد أن يكون القاضي المدعو إليه على الصفة التي [2أ] قدمنا من العلم بالشريعة التي هي الكتاب والسنة وما يلتحق بهما، وهو لا يعلم بكتاب الله حتى يعرف محكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وعامه وخاصه، ومجمله ومبينه، ومطلقه ومقيده، وتنزيله وتأويله (1)، ولا يعرف ذلك إلا نحارير العلماء، على أن فهم مدلول تركيباته المشتملة على المسائل الشرعية لا يتم إلا بعد معرفة لغة العرب على الصفة التي كانت عليها، وذلك يتوقف على معرفة علم اللغة، والنحو والصرف، والمعاني والبيان، كما أن بعض الأوصاف السابقة لا يعرف إلا بمعرفة علم الأصول، ومعرفة ما قاله علماء الصحابة فمن بعدهم في تفسير آيات الكتاب العزيز، وبيان أسباب النزول، وتاريخ الوقائع، وهكذا معرفة السنة المطهرة تتوقف على ما يتوقف عليه معرفة الكتاب العزيز من العلوم، مع زيادة البحث عن أحوال الرواة، ومعرفة من يجوز العمل على روايته ومن لا يجوز، وما يكون به الحديث صحيحًا، أو حسنًا، أو ضعيفًا، أو موضوعًا. ولا يعرف ذلك إلا من يعرف علوم الحديث معرفةً يفهم بها هذا الشأن، وهذا عندي هو العقبة الكؤود، فإن أقدام العلماء فيه متفاوتة غاية التفاوت، فمنهم من لا يفهمه ولا يهتدي إليه، ومنهم من يأخذ منه بقدر فهمه.
وأما بلوغ [2ب] درجة التحقيق فيه والإتقان له فقليل جدًا، خصوصًا في ديارنا هذه، فإن وجود من يعرف الأمهات الست فضلاً عن غيرها قليل جدًا، مع أن التوسع في معرفة السنة المطهرة لا بد منه لمن يدعي أنه يقتدر على الحكم بين المتخاصمين بما في الكتاب والسنة؛ لأن دليل المسألة قد يوجد في كتاب ولا يوجد في كتاب آخر، فإن كثيرًا من المسائل التي تقع فيها الخصومة لا يوجد دليلها في الأمهات الست، وهو موجود في غيرها من المسانيد والمستدركات والمستخرجات ونحوها. هذا يعلمه كل باحث عن الأدلة، وناظر في مواطنها، فإذا اختصم الرجلان إلى قاض يعلم بما في الأمهات الست،
_________
(1) انظر " أدب القاضي " (ص19 - 25)، " تبصرة الحكام " (1/ 11).(9/4326)
ولا يعلم بما في غيرها، وكان دليل ما اختصما فيه غير موجود فيها، وهو موجود في غيرها، وقد علمه قاض آخر، فمعلوم أن القاضي الآخر هو الذي يعلم بالحكم الشرعي في تلك المسألة، وهكذا إذا كان أحد القاضيين أوسع رواية ودراية من الآخر، فإن كل خصومة تعرض للقاضي المفضول ولا يجد دليلها لا بد أن يختلج في خاطره، بل وفي خاطر الخصمين إن كان لهما بعض تمييز، بل وفي خاطر غيرهما من الناس أن القاضي الفاضل قد يجد دليل تلك المسألة، وهذا إنما ذكرته ليعلم الواقف عليه أن من كان أكثر علمًا كان أعلم بحكم الله في المسألة، ولا أقول: إنه يجب أن يكون التخاصم إلى الأفضل غير مقيد بقيد القرب الذي لا يكون فيه كثير مشقة على المتخاصمين؛ لأن كل عالم يوجد لا بد أن يجوز العقل أن غيره أعلم منه، بل أقول: إن التخاصم إلى من هو أعلم بالمسائل الشرعية المأخوذة عن الأدلة متعين إذا كان في مكان معلوم لا يحصل به الإتعاب للخصمين، الخارج عن مسلك الشريعة السمحة السهلة، وهذا على تقدير أن يكون في المكان الذي يسكنه الخصمان قاض مفضول، لكنه عالم بالكتاب والسنة ومقدماتها علمًا دون علم الفاضل.
أما إذا لم يكن في ذلك [3أ] قاض كذلك، بل كان من فيه من القضاة ممن له بعض فهم، ولكن لا يتمكن من استخراج الحجة الشرعية؛ لعدم اشتغاله بذلك، أو كان قاصر الفهم على وجه لا يتعقل الحجة الشرعية إذا جاءته، فهذا وجوده كعدمه، وترافعُ الخصمين إليه ليحكم بينهما بالشريعة المطهرة جهل على جهل؛ فإنهما جهلا كونه لا يعلم بالشريعة فترافعا إليه، وهو أيضًا جهل أنه غير عالم بها فقبلهما، وصدر نفسه للحكم بينهما. ولو كشف للخصمين أن القاضي لا يعلم بالشريعة لم يتخاصما إليه؛ لأنهما إنما طلبا الحكم الشرعي؛ فلهذا سلما وقنعا وأذعنا لما حكم به، ولو علم المحكوم عليه منهما أن الحكم عليه في تلك الحادثة مخالف للشريعة المطهرة لم يقنع إلا إذا أكره إكراهًا لا يتمكن معه من طلب حكم الله، وهكذا لو علم القاضي الجاهل بأنه غير عالم بالشريعة المطهرة لم يصدر نفسه للحكم إذا كان فيه أدنى نصيب من الدين وأحقر حصة(9/4327)
من التقوى. ولكنه شبه عليه الأمر، فظن لجهله أن الشريعة المطهرة هي ما يحفظه بعض الممارسين للخصومات من تلك القوانين التي قد وقع الاصطلاح عليها، قأقدم على الحكم إقدام من جهل الحكم الشرعي وجهل أنه جاهل به، وهذا القاضي لا فرق بينه وبين من يتكسب بالوكالة للخصوم في ديارنا هذه، فإن من كان من المتخاصمين غير قادر على الخصومة يقصد رجلاً من الممارسين للخصومة فيجعله وكيلاً له، ويسلم له أجرًا؛ لأنه ظن أن ذلك الوكيل يعرف الشريعة، وأنه سيكفيه مؤونة الخصام؛ فلهذا بذل له ماله وألقى إليه مقاليد أمره، وذلك الوكيل قد ظن أن الشريعة هي تلك المسالك الاصطلاحية التي قد مارسها وتمرن فيها، فصدر نفسه للوكالة، وتكلم في مواقف الخصام بملء فيه، كما ظن ذلك القاضي الجاهل بأنه قد علم بالشريعة المطهرة بمجرد حضوره في مواقف الخصام قبل أن يصير قاضيًا، أو بمجرد اطلاعه على مختصر من المختصرات المدونة في هذا الشأن، ولو رجع إلى عقله واستعان بفهمه، لعَلِمَ [3ب] أن الشريعة المطهرة هي ما شرعه الله في محكم كتابه وعلى لسان رسوله، وأنه لا يعرف ذلك، فإنه لو قال له قائل: هل قرأت العلوم التي يتوقف معرفة كلام الله وكلام رسوله على معرفتها؟ لقال: لا، ولو قال له قائل: هل تروي سنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن شيوخها العارفين بها، وهل قعدت بين أيديهم، وسمعت منهم متونها وأسانيدها، واستوضحت معانيها؟ لقال: لا، ولو قال له قائل: هل أخذت علم تفسير كتاب الله عن شيوخه العارفين به؟ لقال: لا، فلم يبق حينئذ إلا أن يقول: حضرت مواقف الخصومة لدى القاضي الفلاني، فرأيته يصنع كذا، وسمعته يقول كذا، أو حضرت في قراءة المختصر الفلاني ففهمت منه كذا، وعرفت منه كذا.
فإذا قيل له: هل تعلم أن هذا الذي كان يفعله القاضي الفلاني أو رأيته في المختصر الفلاني هو حكم الله الذي شرعه لعباده، وعلى لسان رسوله فلا بد أن يقول: لا أدري؛ لأن المفروض أنه جاهل به، بل لو كان من المقلدين الممارسين لكتب التقليد ممارسة طويلة لم يقدم على هذه المقالة؛ لأن المفروض أنه مقلد، والمقلد هو من يقبل قول(9/4328)
الغير من دون أن يطالبه بحجة.
ولهذا قال أهل الأصول (1) في حد التقليد أنه قبول قول الغير دون حجته، فكل مقلد يعترف على نفسه بأنه لا يطالب بالحجة ولا يتعقلها، فضلاً عن أن يعلم بحكم الله سبحانه.
إذا تقرر هذا، فاعلم أن خلاصة ما أجبت به في الجواب المشار إليه سابقًا عن السؤال المتقدم ذكره هو: أن المحل الذي يسكنه الخصمان إن كان فيه من يتمكن من الحكم بينهما بالشريعة المطهرة على الوجه الذي لخصناه هاهنا، فلا يجوز لأحدهما أن يطالب الآخر بالخروج إلى قاض آخر في مكان غير المكان الذي يسكنانه؛ لأن ذلك مجرد إتعاب، ومحض مشقة، وإن لم يكن فيه من هو كذلك بل لم يوجد فيه قاض، أو وجد فيه، وهو غير عالم بحكم الله - سبحانه - على الوجه المتقدم ذكره، فالواجب [4أ] الترافع إلى قاض يعرف ما شرعه الله لعباده، وإن بعد مكانه؛ لأن الترافع إلى من لا يعرف الشريعة ليس بترافع إلى الشريعة، ومجرد وجود اسم القاضي لا يستلزم أن يوجد في ضمنه المسمى بلا خلاف. وسنورد الآن لفظ الاعتراض الواقع من السائل - كثر الله فوائده - على جوابي الذي هذا خلاصته، وأتعقب كل بحث منه بما يرد عليه، سالكًا في جميع ذلك مسلك الإنصاف، واقفًا على ما ينبغي الوقوف عنده من القواعد العلمية، ماشيًا على قواعد علم المناظرة (2)، غير خارج عن قوانينها المدونة، فأقول: قال - كثر الله فوائده -: وأشكلت علينا فيما ذكرتموه مسألتان، أحببنا عرضها عليكم.
المسألة الأولى: إلزامكم لأولاد القاضي تسليم نصف الأجرة.
المسألة الثانية: في الاستدلال على تكليف الغرماء للرحيل من جهة إلى جهة بالآيتين الكريمتين، فأما المسألة الثانية فالإشكال فيها من وجوه:
_________
(1) انظر " إرشاد الفحول " (ص860). وانظر الرسالة رقم (60).
(2) تقدم ذكرها.(9/4329)
الأول: أن آية النور وما قبلها من قوله تعالى: {إذا دعوا إلى الله ورسوله} (1) الآيات نزلت في المنافق واليهودي حين اختصما إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وليس الدعاء إلى غير رسول الله للحكم كالدعاء إليه؛ للفرق الذي لا يخفى على أحد، ولا يقال: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (2)؛ لأنه يقال: عموم اللفظ مسلم في المؤمنين الذين دعوا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ليحكم بينهم، فيكون العموم من نفس اللفظ في من دعى إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ولا يختص بمن كان سببًا في نزول الآية.
وأما العموم في الحاكم المدعو إليه فمشكل؛ لعدم شمول لفظ الرسول لغيره من الأمة. وقد قال الزمخشري في كشافه (3) في تفسير قوله تعالى: {إذا دعوا إلى الله ورسوله} ما لفظه: معنى: إلى الله وإلى رسوله: إلى رسول الله، كقولك: أعجبني زيد وكرمه، تريد كرم زيد. . . إلخ.
أقول: نورد عليه - كثر الله فوائده - قبل الكلام على كلامه هذا سؤال الاستفسار.
فنقول: هل إجابة من دعا إلى حاكم من حكام الشريعة المطهرة بعد عصر النبوة ليحكم بينهم بما أنزل الله، وهو في بلد المتخاصمين أو خارج عنها، ولا حاكم فيها (4)
_________
(1) [النور: 51].
(2) انظر " إرشاد الفحول " (ص454)، " البحر المحيط " (3/ 198).
(3) (4/ 313).
(4) قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 5 - 6): والقضاء من فروض الكفايات؛ لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه، فكان واجبًا عليهم، كالجهاد والإمامة، قال أحمد: لا بد للناس من حاكم، وإلا أتذهب حقوق الناس؟! وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به وأداء الحق فيه؛ ولذلك جعل الله فيه أجرًا مع الخطأ وأسقط عنه حكم الخطأ، ولأن فيه أمرًا بالمعروف ونصرة المظلوم، وأداء الحق إلى مستحقه، ورد للظالم عن ظلمه، وإصلاحًا بين الناس، وتخليصًا لبعضهم من بعض، وذلك من أبواب القرب؛ ولذلك تولاه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأنبياء من قبله، فكانوا يحكمون أممهم، وبعث عليًا إلى اليمن قاضيًا، وبعث أيضًا معاذًا قاضيًا.(9/4330)
يحكم بما أنزله الله واجبة لديكم أم لا؟ إن قلتم: واجبة، وليست المناقشة [4ب] منكم إلا في مجرد دلالة الآيتين المذكورتين على ذلك فالخطب يسير، والوفاق كائن، وأنتم تقولون بما أقوله، وتوجبون ما أوجبه، إما بعين دليلي، أو بدليل آخر، وحينئذ لا يضرني تسليم ما أوردتم، ولا ينفعكم؛ لأن تقرير المسألة بدليلها في الجملة اتفقنا عليه، ولم يبق الكلام إلا في مجرد تطبيق دليلي على ذلك المدلول المتفق على صحته، وأمره سهل؛ لأن المطلوب قد حصل بالموافقة، وليس من شرط حصول المطلوب أن يكون بدليل خاص، بل المعتبر وجود دليله في الجملة، وهو لازم للوجود المتفق عليه.
وإن قلتم: إن الإجابة إلى حاكم يحكم بما أنزل الله بعد عصر النبوة غير واجبة، لزمكم طي بساط الشريعة، وارتفاع التعبد بها، وعدم لزوم حكمها لجميع الأمة بعد موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. واللازم باطل بالإجماع؛ فالملزوم مثله. أما الملازمة فبيانها أنه إذا لم يجب على المطلوب من الخصمين الإجابة لطالبه إلى حاكم من حكام الشريعة، عند أن يطلب ذلك منه، وهو ظالم له في شيء من الحقوق المالية أو البدنية، ولا يمكن رفع الظلامة وكشفها إلا بالتخاصم إلى الحاكم المذكور، فقد وقعت التخلية بين الظالم والمظلوم، وعدم الإنكار عليه، والأخذ على يده، وهو في نفسه استمر على مخالفة قطعي من قطعيات الشريعة، وتمرد على الله وعلى شريعته، وعلى الحاملين للحجة الشرعية والمبينين لها، الذين أخذ الله عليهم الميثاق في البيان في محكم كتابه، وأما بطلان اللازم فبإجماع المسلمين، وبالضرورة الدينية إما بيان كون ذلك إجماع المسلمين، فغير خافٍ على من له أدنى انتماء إلى الشريعة؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - بعد موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قاتلوا الممتنعين من تسليم الزكاة، وأقاموا الحدود، وجاهدوا الكفار، وألزموا الناس القيام بجميع الواجبات الشرعية، وحالوا بينهم وبين المحرمات الدينية، وأنصفوا المظلوم من الظالم، ونصبوا الحكام، وأوجبوا على الناس الإجابة إليهم، وامتثال أحكامهم، والوقوف على الحدود التي يرسمونها من الشريعة لهم. ثم فعل ذلك التابعون وتابعوهم، ومن بعدهم إلى هذه الغاية، ولو قال قائل في أي عصر(9/4331)
من العصور [5أ] الإسلامية: إن التعبد بهذه الشريعة المحمدية قد ارتفع بموته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وأنه لم يبق على هذه الأمة شيء من أحكامها - لما جاوبه المسلمون عن هذه المقالة إلا بالسيف، كائنًا من كان، وفي أي عصر كان، فضلاً عن أن يسمعوه الحجج الشرعية ويناظروه في ذلك مناظرة من خالف في مسألة من مسائل الدين، وإنما قلنا: إنه يلزم من ذلك طي بساط الشريعة؛ لأنا قد قدمنا أنه لا فرق بين مسائل العبادات وبين مسائل المعاملات، وأن من قال: لا تجب الإجابة إلى حكام الشريعة في مسائل المعاملات، فقد لزمه رفع التعبد بها من بعد عصر النبوة.
ولا وجه لتخصيص عدم التعبد للأمة بمسائل المعاملات دون مسائل العبادات؛ لأن الكل شريعة شرعها الله لعباده في محكم كتابه، وعلى لسان رسوله، فنسبة الكل إلى مطلق الشريعة نسبة واحدة، وليس البعض بالانتساب إلى الشريعة المطهرة أولى من بعض بإجماع المسلمين. وإما كون ذلك معلومًا بالضرورة الدينية فيما يجده كل متشرع من نفسه، سواء كان مقصرًا في معرفة الشريعة، أو كاملاً من العلم الضروري الحاصل عنده في جميع الأوقات أنه وسائر المسلمين متعبدون بهذه الشريعة الموجودة بين ظهراني المسلمين.
وإذا قد فرغنا من سؤال الاستفسار بعد تقريره على هذا الوجه الموجب للاتفاق على أحد شقيه، وهو وجوب إجابة الدعوة إلى الشريعة المطهرة بعد عصر النبوة، فلنتكلم الآن على ألفاظ المناقشة التي أوردها المناقش - كثر الله فوائده -.
فنقول: أما ما ذكره فيما كتبناه سابقًا من كلامه أن الآية التي وقع الاستدلال بها - أعني قوله تعالى -: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} (1) نزلت في المنافق واليهودي، فهذا على تقدير تسليمه لا
_________
(1) [النور: 51].
قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (12/ 294): هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم؛ لأن الله سبحانه ذم من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم، فقال: {أفي قلوبهم مرض}.
قال ابن خويز منداد: واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق. . . ".
وانظر " روح المعاني " للألوسي (18/ 196 - 197).(9/4332)
يضرنا؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - قال في هذه الآية الكريمة: {إنما كان قول المؤمنين} ولم يقل: إنما كان قول اليهودي، ولا قال: إنما كان قول المنافق، وهذا القول منسوب إلى جميع المؤمنين كما يفيد ذلك الألف واللام التعريفية، أو الموصولية على اختلاف [5ب] الرأيين كما تقرر ذلك في علم النحو وعلم المعاني، وانهدام الجمعية، ومصير الصيغة جنسية شاملة محيطة كما هو معروف في علم المعاني أيضًا (1)، فيكون ذلك في قوة إنما كان قول كل مؤمن إذا دعي إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقول: سمعنا وأطعنا.
وأما دعوى أن الدعاء إلى غير رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ليس كالدعاء إليه، فهذا مسلم، لكن بالنسبة إلى الحاكم لا بالنسبة إلى المحكوم به، فإنا نعلم أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لو وزن بجميع أمته لوزنها ورجح عليها، ونعلم أن الحكم المذكور في الآية الكريمة ليس هو مطلق الحكم على أي وجه كان وبأي صفة وقع، بل المراد الحكم بالشريعة المطهرة. وقد بلَّغه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلينا كما أمره ربه - عز وجل - ولم يكتم علينا شيئًا مما أوحى إليه، بل قال الله - عز وجل -: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (2).
وقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما صح عنه: " تركتكم على
_________
(1) انظر " مغني اللبيب " (1/ 50 - 53).
(2) [المائدة: 3].(9/4333)
الواضحة، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا جاحد " (1).
وقال سلمان الفارسي - رضي الله عنه -: " لقد علمنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كل شيء حتى الخراءة " (2) فتقرر بهذا أن الشريعة التي أوجب الله على عباده الإجابة إليها في حياة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هي هذه الشريعة التي تركها بين أظهرنا المزبورة بين دفتي المصحف، والمنقولة في دواوين الإسلام، وما يلتحق بها. ولم يكن إيجاب الإجابة إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لكونه رسول الله، ولا لكونه مختصًا بما لم يكن لأمته من الفضائل والفواضل التي لا يحاط بها، بل لكونه حاكمًا بين الداعي والمدعو بهذه الشريعة الموجودة.
فإن قلت: العصمة الثابتة له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - دون غيره من أمته فارقة بينه وبينهم.
قلت: محل النزاع أن الدعوة بعد موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلى حاكم يحكم بتلك الشريعة التي جاء بها المعصوم، لا إلى حاكم يحكم بمجرد الرأي الذي يكون تارة صوابًا وتارة خطأ، على أن الحكم بالرأي عند عدم وجود الدليل في الكتاب والسنة إن صح دليله فهو من شريعته التي أرشد إليها أمته، فإنه قد أخرج أبو داود من حديث معاذ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: " كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب الله، قال [6أ]:
_________
(1) وهو جزء من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - وهو حديث صحيح.
أخرجه أحمد (4/ 126 - 127) وأبو داود رقم (4607) والترمذي رقم (2676) والدارمي (1/ 44 - 45) وابن ماجه رقم (43، 44) وابن حبان في صحيحه (1/ 104 رقم 5) والحاكم في " المستدرك " (1/ 95 - 97) وقال: هذا حديث صحيح ليس له علة ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (262) وأبو داود رقم (7) والترمذي رقم (16) وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي (1/ 38 رقم 41) وأحمد (5/ 437، 439) والبيهقي (1/ 91، 102، 112) وأبو عوانة في مسنده (1/ 217).(9/4334)
" فإن لم تجد؟ " قال: فبسنة رسول الله، قال: " فإن لم تجد في سنة رسول الله، ولا في كتاب الله؟ " قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صدره وقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " قال المنذري (1): وأخرجه الترمذي (2) وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل. انتهى.
وقد أخرجه أيضًا أحمد (3)، والطبراني (4)، والبيهقي (5)، وابن عدي (6)، وهو من طريق الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة، عن إياس من أهل حمص من أصحاب معاذ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه بعث معاذًا. وفي رواية لأبي داود عن معاذ عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال البخاري (7): الحارث بن عمرو روى عنه أبو عون، ولا يعرف إلا بهذا المرسل.
قلت: قد جمع الحافظ ابن كثير في طرقه وشواهده جزءًا وقال: هو حديث حسن مشهور اعتمد عليه أئمة الإسلام في إثبات أصل القياس، وقواه أيضًا أبو بكر بن العربي المالكي شارح الترمذي. وقد ذكر الدارمي في مسنده (8) بعضًا من طرقه وشواهده.
وقال الدارقطني في العلل (9): رواه شعبة عن أبي عون هكذا، وأرسله ابن مهدي
_________
(1) في " مختصر السنن " (5/ 213).
(2) في " السنن " رقم (1327).
(3) في " المسند " (5/ 230، 242). بسند ضعيف؛ لإبهام أصحاب معاذ وجهالة الحارث بن عمرو.
(4) في " الكبير " (20/ 170 رقم 362).
(5) في " السنن الكبرى " (10/ 114).
(6) في " الكامل " (2/ 194).
(7) في " التاريخ الكبير " (2/ 277).
والخلاصة: أن حديث معاذ ضعيف. انظر: " الضعيفة " رقم (881).
(8) (1/ 60).
(9) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (4/ 377).(9/4335)
وجماعات، والمرسل أصح. وقال ابن حزم (1): لا يصح؛ لأن الحارث مجهول، وشيوخه لا يعرفون. قال: وادعى بعضهم فيه التواتر، وهذا كذب، بل هو ضد التواتر؛ لأنه ما رواه أحد غير أبي عون عن الحارث، فكيف يكون متواترًا! وقال عبد الحق (2): لا يسند ولا يوجد من وجه صحيح.
وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (3): لا يصح، وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه ويعتمدون عليه، وإن كان معناه صحيحًا. وقال ابن طاهر في تصنيف له مفرد في الكلام على هذا الحديث: اعلم أني فحصت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار، وسألت عنه من لقيته من أهل العلم، فلم أجد له غير طريقين: إحداهما عن شعبة، والأخرى عن محمد بن جابر، عن أشعث بن أبي الشعثاء عن رجل من ثقيف، عن معاذ وكلاهما لا يصح. قال: وأقبح ما رأيت قول إمام الحرمين في كتاب أصول الفقه أن العمدة في هذا الباب على حديث معاذ. قال: وهذه زلة منه، ولو كان عالمًا لما ارتكب هذه الجهالة. قال الحافظ ابن حجر (4): أساء الأدب على إمام الحرمين، وكان يمكنه أن يعبر بألين من هذه العبارة [6ب]، مع أن كلام إمام الحرمين أشد مما نقله عنه، فإنه قال: والحديث مدون في الصحاح، متفق على صحته، لا يتطرق إليه التأويل. قال: وقد أخرجه الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه (5) من رواية عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل، فلو كان الإسناد إلى عبد الرحمن ثابتًا لكان كافيًا في صحة الحديث. وقد استند أبو عباس القاضي في صحته إلى تلقي أئمة الاجتهاد والفقه له بالقبول. قال: وهذا القدر مغن عن مجرد الرواية، وهو نظير أخذهم بحديث: " لا وصية لوارث " مع كون رواية
_________
(1) في " الإحكام " (6/ 35).
(2) في " الأحكام الوسطى " (3/ 342).
(3) (2/ 758 رقم 1264).
(4) في " التلخيص " (4/ 337).
(5) (1/ 114)، (2/ 284).(9/4336)
إسماعيل بن عياش.
وقد اعترض صاحب البدر المنير (1) على ابن كثير في تحسينه للحديث في كلامه السابق بأنه لم يصب في ذلك، وأنه جنوح منه إلى قول الجويني. قال: والحديث ضعيف بالإجماع. وقال ابن دحية: هذا الحديث لا أصل له، ورجاله مجهولون، وهو حديث مشهور عند ضعفاء أهل الفقه. وقد استند الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير (2) - رحمه الله - في تقوية هذا الحديث إلى ما قاله ابن كثير. وقد عرفت ما تعقب به، وما قاله من هو أعلم منه بهذا الشأن من الأئمة.
وبالجملة فالاستدلال بهذا الحديث الذي لم يرتق إلى درجة الحسن لغيره، فضلاً عن الحسن لذاته، فضلاً عن الصحيح مشكل غاية الإشكال، لا سيما على مثل هذا الأصل العظيم المقتضي لثبوت ما لا يحصى من المسائل، وعلى كل حال فالحديث إنما يستدل به
_________
(1) انظر " خلاصة البدر المنير " (2/ 424).
(2) في " العواصم والقواصم " (1/ 258).
قال الألباني في " الصحيحة " (2/ 286): هو صحيح المعنى فيما يتعلق بالاجتهاد عند فقدان النص، وهذا مما لا خلاف فيه، ولكنه ليس صحيح المعنى عندي فيما يتعلق بتصنيف السنة مع القرآن وإنزاله إياه معه منزلة الاجتهاد منهما، فكما أنه لا يجوز الاجتهاد مع وجود النص في الكتاب والسنة، فكذلك لا يأخذ بالسنة إلا إذا لم يجد في الكتاب، وهذا التفريق بينهما مما لا يقول به مسلم، بل الواجب النظر في الكتاب والسنة معًا وعدم التفريق بينهما؛ لما علم من أن السنة تبين مجمل القرآن وتقيد مطلقه، وتخصص عمومه كما هو معلوم ".
وقد ذكر حمدي بن عبد المجيد السلفي في تحقيق كتاب " المعتبر " للزركشي (ص68) العلماء الذين ضعفوا الحديث:
1 - البخاري. 2 - الترمذي. 3 - العقيلي. 4 - الدارقطني. 5 - ابن حزم. 6 - ابن طاهر. 7 - الجوزقاني. 8 - ابن الجوزي. 9 - الذهبي. 10 - السبكي. 11 - العراقي. 12 - ابن الملقن. 13 - ابن حجر. 14 - الألباني.(9/4337)
على رأي من يعرف الكتاب والسنة حتى يصح قوله: إنه لم يجد ذلك الحكم في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، فأما رأي من لم يجهد نفسه بالبحث عن الدليل في الكتاب والسنة على فرض أنه يقدر على ذلك فهو باطل لا يلزم المتخاصمين قبوله، ولا يحل لأحد من قضاة المسلمين تقريره، وأما رأي القاصر الذي لا يعرف كتابًا ولا سنة فليس هو الرأي المذكور في الحديث، بل هو طاغوت بحت وجاهلية خالصة.
وهذا القاضي هو أحد القاضيين اللذين هما في النار بنص (1) رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأنه لا يدعي أن ما حكم به هو ما شرعه الله لعباده في محكم كتابه وعلى لسان رسوله؛ إذ هو مقر بأنه لا يعرف إلا مجرد ما قاله فلان دون دليله، ولا يدعي أيضًا أن ذلك الرأي الذي حكم به هو في قضية لم توجد في الكتاب ولا في السنة؛ لأنه لا يصح الحكم منه بالعدم إلا بعد علمه بما حكم بالعدم عليه، وأنه [7أ] لا يعلمه؛ لأن الإعدام إنما تعرف بالملكات، ومن يقر على نفسه بأنه لا يدري بكتاب ولا سنة، كيف يدعي أن ما حكم به غير موجود فيهما!.
فالحاصل أنه إن كان ما حكم به حقًا مطابقًا للشريعة فهو قد حكم بالحق، وهو لا
_________
(1) يشير الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (3573) والترمذي في " السنن " رقم (1322) وابن ماجه رقم (3315) والنسائي في " السنن الكبرى " (3/ 461 رقم 5922/ 1). والحاكم في " المستدرك " (4/ 90) وقال: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله: " قلت: ابن بكير الغنوي منكر الحديث ".
قال الألباني في " الإرواء " (8/ 236): " وشيخه حكيم بن جبير مثله أو شر منه، فقال فيه الدارقطني: متروك، ولم يوثقه أحد، بخلاف البغوي، فقد قال الساجي: " من أهل الصدق، وليس بقوي. وذكر له ابن عدي مناكير، وهذا كل ما جرح به. وذكره ابن حبان في الثقات ".
فقول الذهبي: " منكر الحديث لا يخلو من مبالغة، وقد قال في " الضعفاء " ضعفوه ولم يترك ".
وخلاصة القول أن الحديث صحيح، والله أعلم.
عن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار ".(9/4338)
يعلم بأنه الحق، وهو أحد قاضيي النار، وإن حكم بغير الحق عالمًا بأنه غير الحق، أو جاهلاً أنه غير الحق، فهو أيضًا القاضي الآخر من قضاة النار، فهو لا يخرج عن كونه في النار على كل تقدير، فانظر في هذا بعين الاعتبار؛ لتعلم ما في قضاء المقصرين من الخطر العظيم، فإن القضاة المقصرين إن كانوا يعلمون بالحديث المصرح بأن القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، فقد تهافتوا في النار تهافت فراش عمدًا، وإن كانوا يجهلونه فذلك غير نافع لهم، فإنه يجب عليهم أن يتعلموا العلم، خصوصًا مثل هذا الحديث الذي يخصهم، أعني القضاة، فتفريطهم في العلم به مع توثبهم على التسمي بالقضاة ومباشرة ما يباشره القضاة لا يكون عذرًا لهم، وهذا الحديث قد اتفق على إخراجه أهل السنن (1)، والحاكم (2)، والبيهقي (3) من حديث بريدة، وله طرق غير هذه، جمعها الحافظ ابن حجر في جزء مفرد كما قال في التلخيص (4): فهؤلاء القضاة المقصرون ليسوا بأهل للحكم بنص الكتاب والسنة؛ لأنهم لا يتعقلون الحجج الشرعية، فكيف يكونون أهلاً للحكم بمحض الرأي الذي لا مستند له من كتاب ولا سنة! فإنه لا رأي لهم، ولا رواية، ولا فهم، ولا دراية، بل هم على عاميتهم التي نشؤوا عليها، وإن ظنوا أنهم قد خرجوا عنها بالاطلاع على بعض أقوال أهل العلم، أو على قول عالم واحد، فإن العلم وراء ذلك كله وظنونهم فاسدة، فإنه إنما يعرف العلم أهله. ومعرفة أسماء العلوم لا تستلزم معرفة المسمى، ومن أنكر هذا فليسأل واحدًا منهم عن حد علم من علوم الاجتهاد، أو فائدته، أو موضوعه، أو غايته، أو مسألة من مسائله، وينظر ما يجد عنده من ذاك. وأما القاضي العالم بالشريعة المطهرة على الوجه الذي قدمنا تحقيقه فهو وإن كان على خطر في مباشرته [7ب] باعتبار الأحاديث الواردة في الترهيب عن
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) انظر التعليقة السابقة.
(3) في " السنن الكبرى " (10/ 116 - 117).
(4) (4/ 430).(9/4339)
الأمارة على العموم، وعن القضاء على الخصوص، لكن له مروحات ومسليات، وهي الأحاديث الواردة في الترغيب في ذلك.
وقد أوردت الجميع في شرحي للمنتقى (1)، ولو لم يكن من الترغيبات في ذلك إلا حديث عمرو (2) وأبي هريرة (3) المتفق عليهما بلفظ: " إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران "، ورواه الحاكم (4) والدارقطني (5) من حديث عقبة بن عامر، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر بلفظ: " إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله عشرة أجور " ورواه أحمد (6) أيضًا من حديث عمرو، وطرقه يشهد بعضها لبعض، فيكون ثبوت العشرة الأجور بدليل هو حسن لغيره، وثبوت الأجرين بدليل صحيح، والزيادة مقبولة إذا كانت غير منافية للأصل، كما في هذا.
فالحاكم المجتهد هو في كل ما يأتي من الأحكام فائز مع الإصابة بعشرة أجور، ومع الخطأ بأجر، وهذا مرغب عظيم، ومحسن جليل، فإن الخطأ بالنسبة إلى غير القاضي غاية أمره أن لا يكون فيه عقوبة أخروية مع ثبوت غالب اللوازم الدنيوية كالدية في قتل الخطأ والكفارة ونحو ذلك، فلله در قوم يؤجرون على الخطأ! ويا ويح قوم يعذبون على الإصابة وهم القضاة الذين يحكمون بالحق، ولا يعلمون بأنه الحق، فانظر كم هذا
_________
(1) " نيل الأوطار " (1/ 501) (5/ 536).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7352) ومسلم رقم (1716).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7352) ومسلم رقم (2716) وأبو داود رقم (3574) وابن ماجه رقم (2314) وقد تقدم في الرسالة (1)، وفي الرسالة (2).
(4) في " المستدرك " (4/ 88).
(5) في " السنن " (4/ 210 رقم 4) بإسناد ضعيف.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله: " فرج ضعفوه ". وانظر الرسالة رقم (60)
(6) في " المسند " (4/ 198، 204، 205).(9/4340)
التفاوت، فإنه من أعظم الثمرات التي يستفيدها أهل العلم من علمهم. ومن أعظم البليات التي يبتلى بها أهل الجهل بجهلهم. وقد استوفيت الكلام على هذا، وأوضحت ما على المقصرين المتوثبين على هذا المنصب من الوزر والمحن الأخروية والدنيوية في الكتاب الذي سميته: " القول المفيد في حكم التقليد " وهو مختصر جمعته في العام الماضي جوابًا عن سؤال من سأل عن حكم التقليد (1).
إذا تقرر هذا فاعلم أن المناقش - كثر الله فوائده - يجل عن أن يلتزم ما قدمنا من
_________
(1) انظر الرسالة رقم (60).
قال الشوكاني في " نيل الأوطار " (5/ 537): ولكن هذه الترغيبات إنما هي في حق القاضي العادل، الذي لم يسأل القضاء، ولا استعان عليه بالشقاء، وكان لديه من العلم بكتاب الله وسنة رسوله ما يعرف به الحق من الباطل بعد إحرازه مقدارا من آلاتهما يقدر به على الاجتهاد وفي إيراده وإصداره.
وأما من كان بعكس هذه الأوصاف أو بعضها، فقد أوقع نفسه في مضيق وباع آخرته بدنياه؛ لأن كل عاقل يعلم: أن تسلق القضاء وهو جاهل بالشريعة المطهرة جهلاً بسيطًا، أو جهلاً مركبًا، أو من كان قاصرًا عن رتبة الاجتهاد، فلا حامل له على ذلك إلا حب المال والشرف أو أحدهما؛ إذ لا يصح أن يكون الحامل من قبيل الدين؛ لأن الله لم يوجب على من لم يتمكن من الحكم بما أنزل من الحق أن يتحمل هذا العبء الثقيل قبل تحصيل شرطه الذي يحرم قبوله قبل حصوله، فعلم من هذا أن الحامل للمقصرين على التهافت على القضاء والتوثب على أحكام الله بدون ما شرطه ليس إلا الدنيا لا الدين.
وقال ابن قدامة في " المغني " (14/ 6) وفيه - أي القضاء - خطر عظيم ووزر كبير لمن لم يؤد الحق فيه؛ ولذلك كان السلف - رحمهم الله - يمتنعون منه أشد الامتناع، ويخشون على أنفسهم خطره. قال خاقان بن عبد الله: أريد أبو قلابة على قضاء البصرة، فهرب إلى اليمامة، فأريد على قضائها فهرب إلى الشام فأريد على قضائها وقيل: ليس ههنا غيرك، قال: فأنزلوا الأمر على ما قلتم، فإنما مثلي مثل سابح وقع في البحر، فسبح يومه، فانطلق، ثم سبح اليوم الثاني، فمضى أيضًا، فلما كان اليوم الثالث فترت يداه. وكان يقال: أعلم الناس بالقضاء أشدهم له كراهة. ولعظم خطره قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من جعل قاضيًا فقد ذبح بغير سكين " من حديث أبي هريرة.
وهو حديث صحيح أخرجه أحمد (2/ 230، 365) وأبو داود رقم (3571، 3572) وابن ماجه رقم (2308) والترمذي رقم (1325) وقال: حديث حسن غريب.(9/4341)
اللوازم اللازمة لمن لم يوجب الإجابة إلى الشريعة بعد موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأن التزام ذلك طي لبساط الشريعة المطهرة كما قدمنا، وهو مع كونه خلاف الإجماع القطعي هو أيضًا خلاف [8أ] الضرورة الدينية كما سبق تقريره، ولم يبق النزاع إلا في كون الحكم المذكور في الآيتين منسوبًا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - والجواب عن ذلك من وجوه:
الأول: ما قدمنا من أن الدعاء إليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هو للحكم منه بالشريعة المطهرة لا لأمر يخصه.
الثاني: ما قدمنا من الإجماع القطعي على وجوب إجابة الداعي إلى الشريعة بعد موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. ومن زعم أنه قد خالف في ذلك مخالف فليأتنا به، فإنا قد صححنا إجماع المسلمين في كل قطر وعصر على أن التعبد بالشريعة باق بعد عصر النبوة كما كان قبلها، وهذا الفرد المتنازع فيه الذي هو الإجابة إلى الشريعة داخل في ذلك، ومن زعم أنه خارج فعليه البيان، لا سيما وهو يفضي إلى بطلان التعبد بغيره من مسائل الشريعة؛ لعدم الفرق، ففرديته إنما هي باعتبار كونه قد تعلق به النزاع، لا من حيث ذاته، فإنه إن لم يصح وصف كل حكم من الأحكام الشرعية به، فلا شك أنه يصح وصف أكثرها به. وبيانه أن الاختلاف في مسائل العبادات قد يتسبب عنه وقوع الدعوة من أحد المختلفين للآخر إلى عالم من علماء الإسلام؛ ليبين لهما الحق مما اختلفا فيه، كما يدعو أحد الخصمين الآخر في مسألة من مسائل المعاملات إلى حاكم يحكم بينهما في ما اختصما فيه، فتندرج مسائل العبادات على اختلاف أنواعها من هذه الحيثية تحت قوله تعالى: {إنما كان قول المؤمنين. . .} (1) الآية. وتحت قوله تعالى: {فلا وربك. . .} (2).
_________
(1) [النور: 51].
(2) [النساء: 65].(9/4342)
الوجه الثالث: الضرورة الدينية الحاصلة لكل فرد من أفراد المسلمين أن التعبد بهذه الشريعة ثابت بعد عصر النبوة كما كان قبلها؛ فهذه الوجوه الثلاثة يستفاد منها أن تخصيصه في الآيتين الكريمتين بالدعوة إليه، والتحكيم له، ونسبة الحكم إليه إنما كان لكونه صاحب الشرع، وإلا فالدعوة إلى غيره ليحكم بشريعته حكمها حكم الدعوة إليه، وإذا لم يصلح الإجماع القطعي، والضرورة الدينية للتسوية بينه وبين غيره، فما ذاك الذي يصلح [8ب] بعدهما ويسد مسدهما؟!
الوجه الرابع: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد نصب القضاة في حياته (1)، وبعث الولاة، وأمَّر الأمراء، وأوجب على الناس طاعتهم وامتثال أمرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فلو كانت إجابة الدعوة والتحكيم مختصين برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يثبت ذلك للحكام المبعوثين من جهته، وهو خلاف المعلوم؛ فإنه بعثهم إلى جهات بعيدة كاليمن، ومكة، ونحوهما. ولو كانت الإجابة إليهم غير واجبة لكان بعثهم عبثًا لا فائدة فيه للباعث ولا للمبعوث، ولا للمبعوث إليه، واللازم باطل بالملزوم مثله.
الوجه الخامس: أن إفراده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الآيتين بنسبة التحكم إليه والحكم منه هو كإفراده في قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} (2)، {جاهد الكفار} (3)، {لم تحرم ما أحل الله لك} (4)، {أقم الصلاة لدلوك الشمس} (5)، {ادفع بالتي هي
_________
(1) انظر " المغني " (14/ 8 - 9)، " الحاوي الكبير " (20 - 58 - 60)، " أدب القاضي " (ص11 - 15)، " تبصرة الحكام " (1/ 12 - 18).
(2) [التوبة: 103].
(3) [التوبة: 73]، [التحريم: 9].
(4) [التحريم: 1].
(5) [الإسراء: 78].(9/4343)
أحسن} (1)، ونحو ذلك من الآيات القرآنية التي يكثر تعدادها، ويطول إيرادها. ومنه الآيات التي فيها (قل)، والآيات التي فيها الخطابات للرسول والنبي، فإن قلتم باختصاصه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بجميع ذلك خالفتم الإجماع والضرورة الدينية.
وإن قلتم بعدم الاختصاص فما وجه التعميم في هذه الأمور دون المتنازع فيه؟ وإن قلتم: الدليل يدل على التعميم فهكذا محل النزاع، فإن كل دليل يفرض في هذه الأمور سواء كان من الكتاب أو السنة أو الإجماع فهو كذلك في وجوب الإجابة، فإن الأدلة الدالة على وجوب الإجابة إلى الحكم بالشريعة المطهرة موجودة كثيرة.
الوجه السادس: أنه قد تقرر في الأصول (2) أن خطابات الله ورسوله لواحد من الأمة تعم إذا لم يوجد ما يفيد اختصاص ذلك الواحد بذلك الحكم، ووجوب الإجابة [9أ] لمن دعا إلى الشريعة كذلك، ولا يقدح في ذلك تخصيصه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالخطاب بقوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك} (3) ولا إفراده بالحكم في قوله تعالى: {ليحكم بينهم}.
الوجه السابع: أن الله - سبحانه - قد شرع لنا التحكيم في أمر الزوجين (4)، وفي صيد الحرم (5)، وأوجب علينا الامتثال لما يحكمان به، بل وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - التحكيم في الحديبية (6) ما بين طائفة المسلمين والكافرين لسهيل بن ...................
_________
(1) [المؤمنون: 96]، [فصلت: 34].
(2) انظر " إرشاد الفحول " (ص444)، " البحر المحيط " (3/ 190). وقد تقدم ذكره مرارًا.
(3) [النساء: 65].
(4) لقوله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما}.
(5) لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم}.
(6) انظر " فتح الباري " (7/ 453 - 455).(9/4344)
عمرو (1): وهو إذ ذاك كافر، ووقع ذلك من أمته بعده، فتارة يدعو إلى كتاب الله من كان محقًا كما وقع في صفين (2)، ولم يقل أمير المؤمنين - كرم الله وجهه - يوم صفين إنها لا تجب إجابة الداعين إلى كتاب الله، بل قال: إنهم فعلوا ذلك خدعًا ومكرًا، وأنهم لو كانوا صادقين في الدعوة إلى كتاب الله لكان أولى لذلك منهم، وأحق به، فلم ينكر أصل الدعوة، ووجوب الإجابة إليها، بل أبان أن الداعي لم يرد الدعوة الحقة، بل أراد المكر والخدع، وأنه لو أراد الدعوة الحقة لكان المدعو أحق منه بها، ولو كانت الإجابة للدعوة الحقة عند أمير المؤمنين غير واجبة لم يدع إلى كتاب الله يوم الجمل (3)، ولا يوم النهروان (4)، وكيف ينسب ذلك إليه وهو كاتب كتاب المقاضاة في يوم الحديبية (5)! فإذا كانت الإجابة لدعوة من دعا إلى التحكيم واجبة فكيف لا تجب إجابة من دعا إلى حاكم من حكام الشريعة ليحكم بحكم الله! وكيف يقال: إن الإجابة في الآيتين المذكورتين مختصة برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -!.
الوجه الثامن: أنه قد تقرر في الأصول (6) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذا فعل فعلا أو شرع الله له شرعًا كان التأسي به في ذلك ثابتًا على جميع أمته إلا أن يقوم دليل يدل على اختصاصه به [9ب]، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين، وقد دل عليه كتاب الله - سبحانه - قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (7) وقال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (8)،
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4180، 4181).
(2) انظر " البداية والنهاية " لابن كثير (7/ 264 - 270).
(3) انظر " البداية والنهاية " (7/ 241).
(4) تقدم ذكرها.
(5) انظر " فتح الباري " (7/ 454).
(6) " إرشاد الفحول " (ص429)، " البحر المحيط " (3/ 167).
(7) [آل عمران: 31].
(8) [الأحزاب: 21].(9/4345)
وقال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (1). والآيات والأحاديث الدالة على التأسي به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كثيرة جدًا، وهي مفيدة أن أمته أسوته في كل حكم لم يقم دليل يدل على اختصاصه به، فسيكون الدعاء إلى غيره من الأئمة والحكام والعلماء للحكم بما أنزل الله كالدعاء إليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لعدم وجدان دليل يدل على اختصاصه بهذا الحكم، فلو فرضنا أنه لا دليل يدل على أن الدعوة إلى غيره من المتأهلين للحكم من أمته لها حكم الدعوة إليه لكان دليل التأسي به المجمع عليه كافيًا في ذلك، ولو قال قائل: إن خطابات الله لرسوله بالأحكام الشرعية خاصة به لأن غيره مفضول، وهو فاضل لوقع في مضايق في كثير من الأحكام الشرعية، وخالف ما أجمع عليه المسلمون، وسلك في مسالك قد أراح الله الأمة من سلوكها، وولج في مهاوٍ ولم يلجها غيره، ولا أذن الله له بولوجها وهو - لا محالة - راجع إلى الطريق الواضح، وسالك في المسالك التي يسلكها سلف الأمة وخلفها. ولنقتصر على هذا المقدار؛ ففيه كفاية يندفع بها بل بالبعض منها ما أوردتم على الاستدلال بالآيتين الكريمتين.
وأما ما ذكرتم من قول الزمخشري في كشافه (2) فهو تأويل الدعوة إلى الله، فجعل الدعوة إلى الله تعالى هي الدعوة إلى رسوله كقول العرب: أعجبني زيد وكرمه أي أعجبني كرم زيد، وليس فيه إن إجابة الدعوة إلى الشريعة مختصة برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ولا تجب إلى غيره، فإن ذلك لا يخفى عليه، ومن رام أن يعرف ما يقول به في مثل هذه الآية فلينظر إلى تفسيره لغيرها من الآيات التي فيها الخطاب [10أ] لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وذلك كثير في القرآن؛ ففي كل سورة من
_________
(1) [الحشر: 7].
(2) (4/ 313).(9/4346)
سور القرآن خطابات كثيرة لا تخلو عن ذلك إلا النادر كبعض قصار المفصل، على أن ذلك موجود في غالبها. انظر إلى قوله: {قل أعوذ برب الناس}، {قل أعوذ برب الفلق}، {قل هو الله أحد}، {فصل لربك وانحر}، {فسبح بحمد ربك واستغفره}، {قل يا أيها الكافرون} فإن المأمور بهذه الأوامر كلها هو رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -.
فإن قلت: ما ذكره الزمخشري (1) هاهنا أن الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى رسوله، هل هو متعين أم لا؟ بل يمكن التأويل بما هو مساوٍ له أو راجح عليه.
قلت: ليس بمتعين بل هاهنا تأويل آخر هو أرجح منه، وهو أن تفسر الدعوة إلى الله بالدعوة إلى كتابه الذي أنزله، وهو وإن كان مجازًا لكنه أقرب المجازين فإن ملابسة الكلام للمتكلم أتم من الملابسة الكائنة بين الرسول والمرسل، هذا باعتبار ما نجده في الشاهد، لا باعتبار الجناب الإلهي، فإنه يتنزه ويتعالى ويتقدس عن نسبة الملابسة إليه، ولكنا نسلك في مثل هذه المجازات المسالك التي نجدها في الشاهد كما يفعله أهل العلم في مثل ذلك، وأيضًا في تفسير الدعوة إلى الله - سبحانه - بالدعوة إلى كتابه تأسيس، وهو أولى من التأكيد الذي يستفاد من تفسير الدعوة إلى الله بالدعوة إلى رسول الله، وإني أظن أن هذا الذي قلته قد قال به غيري من أهل التفسير، ولكني لم أنظر عند تحرير هذا في شيء من التفاسير، لا في الكشاف ولا في غيره.
قال - كثر الله فوائده -: ويؤيد هذا إفراد ضمير الفاعل في {لتحكم} الراجع إلى ما قبله فلا يثبت هذا الحكم لغير رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلا بالقياس، وللمانع أبدًا الفارق، وهكذا يقال في آية سورة النساء وهي قوله: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك} (2) الآية. والخصوص فيها أوضح.
_________
(1) (4/ 313).
(2) [النساء: 65].(9/4347)
أقول: إن كانت الإشارة في قوله: ويؤيد هذا [10ب] إلى ما أسلفه من كون الآية واردة في سبب خاص، وهو اختصام المنافق واليهودي فلا تأييد في ذلك أصلا، لأن ذلك السبب هو باعتبار المحكوم عليه وإفراد الضمير في {لتحكم} هو باعتبار الحاكم، فقد اختلف المؤيد اسم مفعول، والمؤيد اسم فاعل على أنه - عافاه الله - قد بادر في كلامه السابق إلى تسليم كون الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقال: ولا يختص بمن كان سببًا فتأييد ما قد سلمه وجزمه بخلافه لا وجه له، بل هو شبه تناقض. وقد قدمنا أن الله - سبحانه - يقول: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا} ولم يقل: إنما كان قول المنافق، ولا قول اليهودي، وإن كان التأييد لما قرره سابقًا من أنه لا عموم في الحاكم لعدم شمول لفظ الرسول ... إلى آخر كلامه فلا يصح لتأييد إفراد الضمير في قوله {ليحكم} (1) لأن مرجع الضمير هو الرسول، فهو تأييد لنفس الدعوى بنفس الدعوى، ولمحل النزاع بمحل النزاع، وهو يندرج تحت المصادرة باعتبار المآل.
وقد صرح أهل علم آداب المناظرة (2) بمنعه ثم قوله: فلا يثبت هذا الحكم لغير رسول الله إلا بالقياس، وللمانع أبدًا الفارق يستلزم ما قدمنا ذكره من طي بساط الشريعة بعد عصر النبوة، والوقوع في مخالفة جميع الأمة، ومخالفة الضرورة الدينية، واللازم باطل فالملزوم مثله. وقد قدمنا بيان الملازمة وبيان بطلان اللازم، وهو - حفظه الله - أجل قدرًا من أن يقع في مثل هذا فإن حكم المخالف لقطعي من قطعيات الشريعة معروف، فكيف بالمخالف لضروري من ضرورياتها! بل كيف بالمخالف لها بأسرها، والجازم بارتفاع حكمها وانقراض التعبد بها! ومعلوم أنه لم يتصور عند تحرير كلامه هذا لزوم ما يستلزمه، بل جرد النظر إلى مناقشة دلالة الدليل على المدلول غير ملتفت إلى ما يستفاد من كلامه، ولو تأمله أدنى تأمل لم يكتبه ولا أورده، ولا اعترض به، فإنه قد صرح بأن
_________
(1) انظر: " إعراب القرآن الكريم وبيانه " (6/ 638).
(2) انظر " الفقيه والمتفقه " (2/ 25)، " الكافية في الجدل " (ص529).(9/4348)
إجابة دعوة الداعي إلى الشريعة لا تجب على المدعو إلا إذا كان المدعو إليه هو رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأن إلحاق غيره بالقياس عليه ممنوع بإبداء الفارق، فكان حاصل هذا أن من دعا غيره إلى الشريعة المطهرة بعد عصر النبوة غير مجاب الدعوة. وقد قدمنا أن الدعوة كما تكون في المعاملات تكون في العبادات [11أ]، وأنه إذا ارتفع التعبد بهذا الأصل العظيم ارتفع بغيره بفحوى الخطاب. أقل حال أن يكون ارتفاعه بلحن الخطاب لتساوي أقدام جزئيات الشريعة في الانتساب إليها. وأما قوله: إن الخصوص في آية سورة النساء أوضح، فإن كان ذلك لقوله تعالى: {حتى يحكموك} فمعلوم أن إيقاع التحكيم من الأمة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ليس بأوضح من إسناد الحكم إليه من قوله في سورة النور: {ليحكم} بل لو قال قائل: إن الأمر بالعكس لم يبعد عن الصواب لما لا يخفى على من يعرف علم النحو وعلم المعاني، وإن كانت الأوضحية لكون ما في سورة النساء خطابًا له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وما في سورة النور ليس بخطاب له، بل إثبات حكم يتعلق به. فغير خاف على ذي فهم أن إثبات الشيء لمن كان غائبًا غير مخاطب يتضمن التسجيل والجزم تضمنًا لا يفيده إثبات ذلك في الخطاب باعتبار ما يستفاد من دقائق العربية وأسرارها بالنسبة إلى المحاورات البشرية، فإن تفويض فرد من أفراد النوع الإنساني لآخر في أمر وهو غير حاضر أقوى من تفويضه وهو حاضر مخاطب لما نجده في الطباع البشرية من أن للحضور مدخلية في التحاشي، وهذا إنما هو باعتبار المحاورات البشرية كما قدمنا، والخالق - عز وجل - يتنزه عنه ولكنه لا يتم البيان في مثل هذا المقام إلا بالتمثيل بما يقع بين أهل اللغة حتى يتضح للسائل - حفظه الله - أن ما ادعاه من الأوضحية غير واضح وإن كان المستند لما ادعاه من الأوضحية هو غير ما ذكرناه فهو لا يصلح لذلك كالقسم وتكرير الضمير، فإن ذلك لا مدخل له فيما يتعلق بالدعوى كما لا يخفى.
قال - كثر الله فوائده -: الوجه الثاني: أن هاتين الآيتين لو دلتا على وجوب(9/4349)
الإجابة إلى غير رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فالدلالة إذًا إنما يكون على وجوب الإجابة إلى الحاكم بحكم الله تعالى في تلك الحادثة التي تشاجر فيها الغرماء، وحكم الله تعالى في تلك الحادثة مظنون كل مجتهد والتعيين بحكم، والاجتهاد في استنباط حكم الله تعالى في تلك الحادثة ليس مما يختص به بعض العلماء دون بعض [11ب]؛ إذ العمدة في ذلك على حصول شروط الاجتهاد في المتأهل لذلك وشروطه هينة على من استعد للتحصيل، ووفقه الله لسلوك ذلك السبيل، وفضل الله غير مقصور ولا محجوز. ولدينا من هو متأهل للنظر، وجامع لكل شرط معتبر. والمراد وجود ما لا بد منه الشروط.
وأما زيادة التفنن والتضلع من العلوم العقلية والنقلية، وبلوغ غايات الكمال في تحقيق المعارف الأصلية والفرعية فنحن لا ننكر أن لكم فيها النصيب الأعلى والقدح المعلا، ولكن المفضول في الاجتهاد حكمه صحيح كالفاضل فيه، إذ المراد استفراغ الوسع لطلب ظن بالحكم. وأما اليقين فهو عند الله تعالى، والأحكام التي يجوزها حكامنا لا نمنع من المراجعة فيها لمن اطلع على خلل، وتنبيه الحاكم على ما وهم فيه فذلك أمر مطلوب من كل متأهل للنظر، وإنما نمنع تكليف الغرماء للرحيل من جهة إلى جهة أخرى مع وجود الحكام بتلك الجهة، والمتصدين لإقامة الشرع الشريف، وإنصاف المظلوم من الظالم.
أقول: هذا الكلام إنما يرد على من قال بوجوب الإجابة إلى حاكم يحكم بحكم الله - سبحانه - في غير جهة الخصمين، مع وجود من يحكم بحكم الله في جهة الخصمين، مع كون كل واحد من الحاكمين عالمًا بكتاب الله وبسنة رسوله، وبما يتوصل به إلى معرفتهما، قادرًا على استخراج الحكم منهما عند حدوث الحادثة، متمكنًا من الجمع بين المتعارضات عند الإمكان، والترجيح عند عدمه. ولم يتقدم مني ما يدل على هذا لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، بل حاصل ما أجبت به عن سؤالكم - دامت إفادتكم - أن الواجب الإجابة إلى حاكم يحكم بحكم الله من الحكام المجتهدين، فإن كان في جهة المتخاصمين من هو كذلك فلا يجاب الداعي إلى غيره، لأن ذلك مجرد إتعاب،(9/4350)
وإن لم يكن في بلد المتخاصمين من هو كذلك وجبت إجابة الداعي إلى حاكم متصف بتلك الصفة، ولا اعتبار بمن في البلد من القضاة الذين لا يتمكنون من الحكم بما أمر الله بالحكم به، ومن كان هذا جوابه لم يرد عليه شيء مما أوردتم، فراجعوا ما أجبت به عليكم، فهو لديكم حتى تعلموا أن ما أوردتم هاهنا غير وارد عليَّ، ولا لازم لي، فهذا دفع إجمالي، ونقض لما أوردتم في هذا الكلام، فلنعد الآن إلى الكلام [12أ] على تفاصيل هذا الكلام.
فنقول: قلتم: وحكم الله في تلك الحادثة مظنون كل مجتهد، والتعيين تحكم، وأقول: هو ممنوع؛ فإن حكم الله - سبحانه وتعالى - في تلك الحادثة وفي غيرها من الحوادث ليس إلا واحدًا يصيبه من أصابه من أهل الاجتهاد، ويخطئه من أخطأه. ولو كان حكم الله هو مظنون كل مجتهد لكان تابعًا لاجتهادات المجتهدين، ومرادات المريدين، وهو يستلزم أنه لا حكم لله في تلك الحادثة أصلا، بل حكمه فيها متجدد بوجود كل مجتهد على حسب ما يقتضيه اجتهاده، وهذا باطل وإن قال به بعض متأخري المعتزلة (1)، وقلده من قلده ممن جاء بعده، فمن جاء بالقول الفاسد فهو رد عليه
_________
(1) قال الماوردي: وهو قول أبي الحسن الأشعري والمعتزلة.
قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص851): فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد وأن بعض المجتهدين يوافقه فيقال له مصيب ويستحق أجرين، وبعض المجتهدين يخالفه ويقال له مخطئ. واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيبًا، وإطلاق اسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر، فمن قال: إن كل مجتهد مصيب، وجعل الحق متعددًا بتعدد المجتهدين فقد أخطأ خطأ بينًا وخالف الصواب مخالفة ظاهرة، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل المجتهدين قسمين قسمًا مصيبًا وقسمًا مخطئًا، ولو كان كل واحد منهم مصيبًا لم يكن لهذا التقسيم معنى.
وهكذا من قال إن الحق واحد ومخالفه آثم فإن هذا الحديث يرد عليه ردًا بينًا ويدفعه دفعًا ظاهرًا؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمى من لم يوافق الحق في اجتهاده مخطئًا ورتب على ذلك استحقاقه للأجر.
فالحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن الحق واحد ومخالفه مخطئ مأجور إذا كان قد وفى الاجتهاد حقه ولم يقصر في البحث بعد إحرازه لما يكون به مجتهدًا.
انظر " الفقيه والمتفقه " (2/ 60)، " مجموع الفتاوى " (19/ 124).(9/4351)
كائنًا من كان، وما استلزم الباطل باطل، وأيضًا ذلك يستلزم باطلا آخر هو أن يكون حكم الله في الحادثة متناقضًا؛ فإنه إذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن عينًا من الأعيان الموجودة في الخارج حلال، وذهب آخر إلى أنها حرام كان حكم الله في تلك العين بأنها حلال، وبأنها حرام وهذا باطل، وما استلزم الباطل باطل.
مثلا قد قال بعض أهل العلم بأن الخيل والضبع (1) يحل أكلهما، وقال آخر، إنه يحرم، فيكون حكم الله في الخيل أنها حلال حرام، وحكم الله في الضبع أنها حلال حرام، وهذا بمكان من الفساد لا يخفى على عارف، ولو لم يثبت في دفعه إلا الحديث الصحيح الوارد من طرق كما بيناه سالفًا: " إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن اجتهد فأصاب فله أجران " (2) أو " عشرة أجور " (3)؛ فهذا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يصف المجتهد بأنه يكون تارة مخطئًا، وتارة مصيبًا، فكيف يتقول على الله وعلى رسوله متقول فيقول: إنه مصيب دائمًا، وأن حكم الله تابع لاجتهاده! مع أن القائلين بتصويب المجتهدين لم يقولوا: إنه مصيب من الإصابة المنافية للخطأ، بل قالوا: إنه مصيب من الصواب الذي لا ينافي الخطأ، وإنما كان صوابًا لكونه يؤجر عليه، وإن كان خطأ كما في الحديث المذكور، ولهذا قال [12ب] بعض المتكلمين على هذه المسألة: إن القائل بأنه مصيب من الإصابة قد تشبه في مقالته هذه بالفرقة الموسومة بالعندية (4)، فإنهم يعتبرون ما عند كل واحد منهم بمجرد الدعوى مثلا إذا قال الرجل لواحد منهم: أنت موجود قال: لست بموجود، فإذا قال: فما هذا الشبح الذي أراه شاغلا للحيز، وأجده عند اللمس، وأسمع حسه؟ قال له: أنا موجود عندك غير موجود عندي، فلا يلزمني ما عندك كما لا يلزمك ما عندي، فهذه أحد الفرق الثلاث المشهورة
_________
(1) انظر الرسالة رقم (71).
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.
(4) انظر " مقدمات في الأهواء والافتراق والبدع " (1/ 43 - 46). الدكتور. ناصر بن عبد الكريم العقل \ دار الوطن الرياض ط2.(9/4352)
بالمشاغبة، والدعاوي الباطلة، الخارجة عن الضرورة، المخالفة للعقل والحس، وما أشبه الفرقة القائلة بأن المجتهد مصيب من الإصابة بها، والفرقة الثانية: العنادية (1)، والفرقة الثالثة: الأدرية (2)، ومقالات هذه الطوائف الثلاث مبنية في كتب الفن الموضوع لبيان هذا، وما يشابهه. وقد قال كثير من الأئمة أن هؤلاء لا يجاوبون إلا بالضرب، فإنه أقرب إلى اعترافهم بفساد ما هم عليه.
والحاصل أن الكلام على هذه المسألة طويل الذيول، وليس المراد هاهنا إلا الإشارة إلى فساد ما ذكره السائل - عافاه الله - من أن حكم الله هو مظنون كل مجتهد. وقد زعم صاحب ضوء النهار (3) أن الحق في هذه المسألة التفصيل، وهو أن ما فوض إلى العدلين كجزاء الصيد، والتفريق بين الزوجين، أو الجمع، وتقدير النفقات، وتقويم المتلفات. ولا نزاع في أن كل اجتهاد فيه صواب، وإصابة. وأما غير ذلك من ما فيه على خصوص الحكم دليل ظني. فإن أريد أن كل مجتهد فيه مصيب من الصواب فلا نزاع فيه، وإن أريد أنه مصيب من الإصابة وأن خصمه مصيب من الإصابة فسرف في الغفلة، هكذا قال. وغير خاف عليك أن كلام الأزهار (4) المشروح بهذا الكلام لا يشمل ما ذكره في القسم الأول، بل هو خاص بالمجتهد في الدليل الظني وهكذا كلام سائر القائلين بأن كل مجتهد مصيب، ومن قال بخلاف قولهم. وأما تقدير النفقات وتقويم المتلفات ونحوهما فليس هو من الاجتهاد الذي هو المراد هنا في شيء، ولم يشترط اجتهاد من يتولى ذلك أحد من أهل العلم، بل يصح أن يكون متوليه مقلدًا بلا خلاف، فخلط البحث بغيره، وإدخال ما هو أجنبي عنه فيه سرف في الغفلة أيضًا.
وقلتم: والاجتهاد في استنباط حكم الله تعالى [13أ] ليس مما يختص به بعض العلماء
_________
(1) انظر " مقدمات في الأهواء والافتراق والبدع " (1/ 43 - 46). الدكتور. ناصر بن عبد الكريم العقل \ دار الوطن الرياض ط2.
(2) انظر " مقدمات في الأهواء والافتراق والبدع " (1/ 43 - 46). الدكتور. ناصر بن عبد الكريم العقل \ دار الوطن الرياض ط2.
(3) (4/ 2202 - 2203).
(4) (3/ 448 - مع السيل).(9/4353)
دون بعض ... إلخ.
وأقول: هذه الكلية ممنوعة الصحة، فإن لمريد التوسع في المعارف الزائدة على العلوم المعتبرة في الاجتهاد مدخلا في ذلك، فقد يختص من هو أكثر علمًا باستنباط ما لا يقتدر على استنباطه والوصول إليه من هو دونه في ذلك، وهذا معلوم لكل عارف، فإن من كان مثلا أرسخ في علم البلاغة يمكنه أن يستخرج بفاضل عرفانه من الكتاب العزيز، والسنة المطهرة ما لا يمكن من هو دونه، وهكذا من كان متبحرًا في أصول الفقه، مطلعًا على دقيقها وجليلها، متدربًا في مباحثها، فإنه يمكنه أن يسلك في مسالك الجمع والترجيح والاستنباط ما لا يسلكه الذي هو دونه في ذلك، مع كونه قد حصل القدر المعتبر في الاجتهاد عنده، وهكذا من توسع في علم السنة، ولم يقف على كتاب، ولا على كتب معينة، بل طول باعه في ذلك تطويلا لم يصل إليه غيره من المجتهدين المعاصرين له، أو بعضهم، فإنه قد يقف على دليل الحكم من مخرج صحيح أو حسن من هو دونه في ذلك لا يدري بأن الدليل موجود فضلا عن أن يستدل به، ومع ذلك فالقرائح مختلفة والأفهام متفاوتة، والإدراكات متباينة، فقد يكون بعض المجتهدين المستويين في المقروءات والمحفوظات أقدر على الاستنباط من الآخر بفاضل ذهنه، وصافي قريحته، وصحيح إدراكه، فكيف يقال: إن الاستنباط لا يختص به بعض العلماء دون بعض، فإن كل عالم قد شاهد الاختلاف في أهل عصره، وطالع مؤلفات المجتهدين فوجدها متفاوتة تفاوتًا يزيد على التفاوت الكائن بين السماء والأرض، والمشرق والمغرب، ومن أنكر هذا فهو مكابر بلا شك ولا شبهة.
وقلتم: وشروطه (1) هينة على من استعد للتحصيل ... إلخ.
_________
(1) ومن أحسن ما يعرفه القضاة كتاب عمر بن الخطاب الذي كتبه إلى أبي موسى. قال الشيخ أبو إسحاق: هو أجل كتاب فإنه بين آداب القضاة، وصفة الحكم، وكيفية الاجتهاد واستنباط القياس. ولفظه: " أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فعليك بالعقل والفهم وكثرة الذكر، فافهم إذا أدلى إليك الرجل الحجة فاقض إذا فهمت وامض إذا قضيت، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف في عدلك.
البينة على المدعي واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا، أو حرم حلالا. ومن ادعى حقًا غائبًا أو بينة فاضرب له أمدًا ينتهي إليه، فإن جاء ببينة أعطيته حقه، وإلا استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ في العذر، وأجلى للعمى. ولا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق، المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حد، أو مجربًا عليه شهادة زور، أو ظنينًا في ولاء أو نسب أو قرابة، فإن الله تعالى تولى منكم السرائر، وادرأ بالبينات والأيمان وإياك والغضب والضجر، والتأذي بالناس عند الخصومة، والتفكر عند الخصومات، فإن القضاء عند مواطن الحق، يوجب الله تعالى به الأجر ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق، ولو على نفسه كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما ليس في قلبه شانه الله تعالى، فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصًا فما ظنك بثواب من الله تعالى في عاجل رزقه، وخزائن رحمته والسلام ".(9/4354)
وأقول: هذا صحيح، فإن كامل الاستعداد يظفر من علوم الاجتهاد في المدة اليسيرة بما لا يظفر به من لم يكمل استعداده في المدة الطويلة، وذلك موجود بالمشاهدة لكل ممارس لأهل العلم [13ب]، أو تصدر للقضاء بين المسلمين بما شرعه الله، أو للفتيا بما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، فهؤلاء لا يتم اجتهادهم إلا بالتبحر في كل علم من تلك العلوم مع إشرافه على ما يرجع إليها ويقويها من سائر العلوم على وجه يحصل له الظن بأنه لم يقصر في واحد منها تقصيرًا يكون بسببه حمل الناس على العمل بخلاف ما شرعه الله لعباده، فإنا قد قدمنا أن استنباط المسائل يتفاوت بتفاوت المجتهدين في العلوم الشرعية، وأنه قد يقف الواحد منهم على الدليل من كتاب الله، أو مما صح عن رسول الله، مع عدم وقوف الآخر عليه، وقد يستخرج المتبحر في العلوم الاجتهادية ما لا يقتدر(9/4355)
من دونه على استخراجه، وأحق هذه العلوم بالتوسع، وأولاها بالتبحر علم السنة (1)، وإمعان النظر فيما لا يتمهر فيها إلا به من الاطلاع على أحوال رواتها، ومعرفة أسباب الجرح والتعديل، وعدم القنوع بالجرح المجمل، حتى يقف على السبب والترجيح عند تعارض التعديل والتجريح، ومعرفة رجال إسناد كل حديث ذاتًا وصفةً، والتدرب في علوم اصطلاح المحدثين، فلهم اصطلاحات موضوعة بينهم لا يمكن تخريجها على المدلول اللغوي، والبحث عن المؤلفات في متون الأحاديث وأسانيدها على ما تبلغ إليه القدرة، ويقبله الفهم، ويحصل عنده الظن بأنه لم يكن في المسألة غير ما قد علمه وحصل له من حفظه وبحثه، ثم أحق العلوم بعد علم السنة بالاستكثار منه، والتوسع فيه علم الأصول، فإنه العلم الذي تدور عليه دوائر الاجتهاد، ويترتب على تحقيقه الإصدار والإيراد، ثم علم البلاغة، ثم سائر العلوم المتعلقة باللغة؛ فإن التوسع فيها يوجب لصاحبها ملكةً في الاستدلال لا توجد عند من هو دونه، فإنه يصير بذلك مفسرًا لكتاب الله من دون مراجعة كتب التفسير، وشارحًا لسنة رسول الله من غير مراجعة للشروح، ثم على هذا المجتهد الذي يتصدر لإرشاد هذه الأمة أن يمعن النظر في أقوال [14أ] المجتهدين، ويحفظ مذاهبهم، أو يراجع المؤلفات الموضوعة لذلك عند الحاجة، فإنه إذا عرف ذلك وجد له في كل مسألة سلفًا، فيقوى جنابه، وينثلج قلبه، ويطمئن خاطره، ويديم النظر في كتب التفسير وشروح الحديث، وإن كان له من الملكة ما يقتدر به على ما يحتاج إليه من ذلك لكنه يجد ثمرات اجتهادات المجتهدين، وأبكار أفكار المحققين محررة هنالك، فيستفيد منها ما لا تفيده ملكته خصوصًا تأليفات الأئمة الكبار، ومجاميع العلماء المشهورين بقوة الأنظار.
ومن أنفع ما يستفيد به من أراد نشر العلم أن يكرر النظر في المؤلفات الموضوعة لتحقيق الحق في مسائل الفقه، فإنه يجد فيها ما يستعين به على مطلوبه، ولا يبادر
_________
(1) تقدم ذلك مرارًا.
وانظر الرسالة رقم (60).(9/4356)
بتحرير مسألة يبرزها للناس في تأليف، أو حكم، أو فتيا حتى يروض فكره في الأدلة القرآنية، ويبحث في مجاميع السنة، فينظر مثلا في جامع الأصول، فإن لم يجد فيه مطلوبه فليبحث الجامع الكبير للسيوطي، أو كنز العمال؛ فإن هذين الكتابين لا يشذ عنهما شيء من السنة إلا النادر الذي لا يقدح تجويز وجوده في الظن الحاصل للمجتهد، فهذه هي علوم الاجتهاد للمجتهد الناصب نفسه للإرشاد، فإن قصر في شيء منها وهو يظن وجوده عند غيره من المجتهدين الموجودين في عصره وقطره فهو لا يحصل له ذلك الظن الذي هو المعيار للاجتهاد إن كان ممن يتقي الله، ويخشى عقابه.
وأما إذا لم يوجد إلا من هو مثله أو دونه في عصره وقطره فعليه أن يبلغ غاية ما يقدر عليه، ويتعلم ما يجده من هذه العلوم على من يجده من أهلها ويبحث كلية البحث، ولا يضره بعد ذلك أن يكون في المجتهدين الأموات من هو أعلم منه، ولا في من سيحدث بعده من أهل الاجتهاد من هو أرسخ منه، ولا يقدح في ظنه الإصابة تجويز أن في أقطار الدنيا البعيدة عنه من هو أعلم منه، لأن الله لم يكلف أهل كل عصر بعلم الأموات، ولا بعلم من سيوجد، ولا بعلم من لا يعرف من الأحياء، بل أقام الله الحجة [14ب] على أهل كل عصر بمن يوجد لهم من الراسخين في العلم، وأخذ على العلماء البيان.
فإن قلت: الأحكام الشرعية متساوية الأقدام بالانتساب إلى الشرع، ومتساوية الأقدام من حيث التعلق بالمتشرعين عند وجود المقتضي، وفقد المانع، فكيف جعلت علوم الاجتهاد المعتبرة في عمل الرجل لنفسه دون العلوم المعتبرة في اجتهاد الرجل لإرشاد غيره!؟.
قلت: لأن الله - سبحانه - لم يتعبد عباده بالبيان للناس، إلا إذا كانوا أهلا للبيان والإرشاد، والمتأهلون لذلك هم الذين يثقون من أنفسهم بأنهم إنما أرشدوا العباد إلى ما هو حق، ولا تحصل هذه الثقة الحاصلة عن ظن الإصابة إلا لمن كان له من العلوم ما ذكرناه، بخلاف عمل الرجل لنفسه في أمر دينه الذي كلفه الله به، فإنه لا يجب عليه أن يقلد من هو أعلم منه، بل عليه أن يأتي بما أوجب الله عليه على الوجه الذي يطيقه ويقدر(9/4357)
عليه، فإن كان عاطلا عن المعارف العلمية وسعه ما وسع المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم من سؤال أهل العلم عن الحكم في الحادثة التي هي من مسائل العبادة، أو المعاملة على وجه استروى النص لا على وجه التقليد، وإن كان قادرًا على الاطلاع على النص، محصلا لما يفهمه به، وهو من جمع تلك العلوم فليس عليه إلا ما تبلغ إليه قدرته، وإذا عجز في بعض الحوادث سأل عنها سؤال من يطلب الرواية لا من يطلب الرأي، ونظر في ذلك المروي بما لديه من تلك العلوم، وهذا اجتهاد لا تقليد. ولا يحل له أن يقوم في مقام الإرشاد للعباد في شيء لم يبلغ إليه دليله مع وجود من هو أعلم منه بالشريعة في عصره وقطره، لأنه يظن في كل من هو أعلم منه أنه يعلم بدليل لا يعلمه، ويقدر على استنباط لا يقدر عليه، وهذا يجده كل رجل من نفسه [15أ].
وقلتم: ولدينا من هو متأهل للنظر ... إلخ.
أقول: هذا مسلم فإن في أهل ذلك البيت الشريف، والمحتد العالي المنيف من هو كذلك وفوق ذلك، بل وفي الواردين إليه المستقرين فيه، ولسنا ممن ينكر وجود المجتهدين في ذلك المحل الذي هو محط رجال العلوم والآداب، ولكنا نقول: يجب عليكم تفويض ما عرض من الشجار بين أهل المحل، وما يرجع إليه إلى من تعرفون أهليته للحكم بما أنزل الله في محكم كتابه، وعلى لسان رسوله، مع الثقة بدينه وأمانته وورعه، وإذا أشكل الأمر، أو تعارضت الأنظار فرفع ما أشكل، ودفع ما تعارض ممكن، ولا تفوضون في القضايا التي لا يرفع الخصام فيها إلا الحكم الشرعي من ليس له أهلية، وملكة يقتدر بها على الحكم بما شرعه الله لعباده، ثم يجب عليكم إذا كان المتخاصمان في مكان بين جهتكم وجهة أخرى، وطلب أحدهما الآخر إلى حاكم جامع للأمور المعتبرة أن تأمروا الآخر بالإجابة له؛ فإن الطالب هو الداعي إلى شرع الله، ولا حجر عليه أن يدعو خصمه إلى حاكم ليس في الجهة التي فيها المتولي عليهما، أو على أحدهما، أو ليس في الجهة التي يسوق أحدهما أو كلاهما زكاته إليها، لأن المفروض أن الخصمين في مكان بين الجهتين وصاحب الدعوة إلى الشريعة مخير في الدعاء إلى قضاة الشرع، ولا أتعاب هنا،(9/4358)
ولا بعد مسافة. وقد وجبت إجابة الداعي إلى الشريعة بمجرد كونه الطالب لها، الداعي إليها. ووجب على المسلمين خصوصًا، وعلى أولي الأمر عمومًا أن يأمروا المدعو بالإجابة إلى الشريعة المطهرة إذا كان الأمر على الصفة التي ذكرناها، ثم إذا تظلم متظلم، وصرخ صارخ بأنه قد وقع الحكم بخلاف الشريعة المطهرة، إما من حاكم متأهل غلطًا، أو جرأة، أو من مقصر خبطًا وجزافًا، وطلب منكم أن ينظر في قضيته [15ب] حاكم آخر ممن تثقون بعلمه ودينه فإجابته واجبة، لأن الحكم المذكور إن كان صوابًا فالحق لا يرد ولا يدفع، وإن كان غلطًا أو جزافًا كما زعمه المتظلم فإنصافه بإيصاله إلى الحق واجب، وليس في ذلك ما يخدش في العزيمة، ولا ما يفت في عضد الرياسة، بل هو من كمال العدل، وتمام البر، لأن نصر الشريعة، وإيصال طالبها إليها، وافتقاد تظلم المتظلم لا يزيد أهل الرياسة إلا فخامة، ولا يكسب أرباب الحل والعقد إلا ضخامة، بهذا جرت عادة الله في المتحملين للأعباء، المتقلدين للأمر والنهي، فأنفدهم أمرًا وأقواهم إيرادًا وإصدارًا، وأشدهم عضدًا، وأكثرهم مددًا، أنصرهم لهذه الشريعة، وأعظمهم اهتمامًا بشأنها، وأكثرهم إشادة لأركانها، ومن كان مطلعًا على أحوال الدول في قديم الزمان وحديثه لم ينكر هذا.
وقلتم: والمراد وجود ما لا بد منه من الشروط ... إلخ.
وأقول: هذا الذي لا بد منه هو الذي وقع فيه الاضطراب والاختلاف؛ فقد تفاوتت مذاهب أهل العلم في بيان ذلك القدر الذي لا بد منه (1)، فقد يكون القاضي مجتهدًا عند بعض أهل العلم غير مجتهد عند البعض الآخر، فالوقوف على مقدار معين لا سبيل إلى التقليد فيه، وأهل الاجتهاد يختلفون في ذلك لاختلاف قرائحهم وفهومهم وعلومهم، فحينئذٍ المقدار الذي لا بد منه لم يقع على تعيينه إجماع حتى يقال هو كذا، ولا هو أمر
_________
(1) انظر تفصيل ذلك " البحر المحيط " (6/ 199)، " المغني " (14/ 10 - 24)، " الفقه والمتفقه " (2/ 152).(9/4359)
مبرهن عليه حتى يكون تقديره مستندًا إلى ذلك البرهان، بل كل عالم يقدره بحسب استعداده، وقابليته، ونفوذ ذهنه، وثقوب فهمه كما نجده في كتب المجتهدين، ويستفيده [16أ] من أنظار الناظرين. وعلى هذا فلا تثبت حجية حكم الحاكم على الخصمين إلا إذا كان مجمعًا على أهليته؛ إذ المختلف في أهليته ليس بمجمع على حجية قوله، وهذا بحث نفيس ينبغي إمعان النظر في تدبره وعدم المسارعة إلى رده بمجرد الاستبعاد له.
وقلتم: ولكن المفضول في الاجتهاد حكمه صحيح كالفاضل فيه.
وأقول: التسوية بين أحكام الحكام، ولزومها للمحكوم عليه على أي صفة كانت إذا كان الحاكم جامعًا للشروط المعتبرة إنما هو باعتبار ما قد رسخ في الأذهان من القواعد المقررة، كقول أهل الفقه: إنه لا ينقض (1) حكم حاكم إلا بدليل علمي ونحو ذلك.
_________
(1) قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 34): وجملة ذلك أن الحاكم إذا رفعت إليه قضية قد قضى بها حاكم سواه، فبان له خطؤه أو بان له خطأ نفسه، نظرت. فإن كان الخطأ لمخالفة نص كتاب أو سنة أو إجماع، نقض حكمه، وبهذا قال الشافعي وزاد: إذا خالف قياسًا جليًا نقضه.
وعن مالك وأبي حنيفة، أنهما قالا: لا ينقض الحكم إلا إذا خالف الإجماع. ثم ناقضا ذلك، فقال مالك: إذا حكم بالشفعة للجار نقض حكمه.
وقال أبو حنيفة: إذا حكم ببيع متروك التسمية، أو حكم بين العبيد بالقرعة نقض حكمه. وهذه مسائل خلاف موافقة للسنة.
واحتجوا على أنه لا ينقض ما لم يخالف الإجماع بأنه يسوغ فيه الخلاف، فلم ينقض حكمه فيه. كما لا نص فيه. وحكي عن أبي ثور، وداود، أنه ينقض جميع ما بان له خطؤه، لأن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى أبي موسى: لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس، ثم راجعت نفسك فيه اليوم، فهديت رشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولأنه خطأ فوجب الرجوع عنه كما لو خالف الإجماع.
وحكي عن مالك أنه وافقهما في قضاء نفسه. قال ابن قدامة: ولنا، على نقضه إذا خالف نصًا أو إجماعًا، أنه قضاء لم يصادف شرطه، فوجب نقضه، كما لو لم يخالف الإجماع، وبيان مخالفته للشرط، أن شرط الحكم بالاجتهاد عدم النص.
انظر " الحاوي الكبير " (20/ 70 - 76).(9/4360)
والذي عندي أن حكام الشريعة إنما هم مترجمون لها، مبينون لما فيها، فمن أصاب الحق فقد أصاب، ومن أخطأه فقد أخطأ، وكون المخطي مأجورًا لا يستلزم لزوم حكمه، وقيام الحجة به. فإذا حكم حاكم بمحض الرأي، ظنًا منه أن دليل ذلك الحكم لا يوجد في الكتاب، ولا في السنة، ثم وجد غيره النص الدال على ذلك الحكم على وجه لا يتطرق إليه الرد، ولا يتعاوره النقض كان حكم الحاكم الأول منقوضًا باطلا، وإن كان له في ذلك الرأي الذي حكم به سلف من أهل العلم قد قالوا بقوله، وإن لم يكن ذلك الدليل الذي وجده غيره قطعيًا. ويقال لذلك الحاكم الذي لم يجد النص: قد اجتهدت فأخطأت، فلك أجر، وأما أن حكمك لازم لغيرك فلا، ولا كرامة بل هو رد عليك، ولم تكن شارعًا للعباد شريعة من عندك حتى تلزمهم ما جئت به من الرأي الذي قد وجد النص من الشارع بخلافه، بل أنت وسائر عباد الله متعبدون بهذه الشريعة التي بين أظهرنا، ليس لكم أن تزيغوا عنها، أو تخالفوها، أو تعارضوها بمحض الرأي، وجهل من جهل النص رد عليه، لأنه أمر مخالف لما كان عليه أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وكل أمر مخالف لما كان عليه أمر رسول الله رد، فهذا رد، أما الصغرى فلأنه قد وجد النص من الشارع، ونصه هو الذي كان عليه أمره بلا شك ولا شبهة، وأما الكبرى فللحديث الصحيح المتلقى بالقبول عند جميع الطوائف الإسلامية، وهو كل ما لم يكن عليه أمرنا فهو رد. لا يقال: إن ترافع الغريمين إلى الحاكم بمنزلة تحكيمهما له في تلك القضية التي اختصما فيها، لأنا نقول: إنه لو كان ذلك كذلك فهما إنما ترافعا إليه ليحكم بينهما بالشريعة المطهرة، لا بمحض رأيه، فإنهما لم يقصداه لذاك، ولا نصبه في منصب القضاء من نصبه إلا ليريح الخصوم بالشريعة المطهرة، ولا يعدل عنها إلى الرأي(9/4361)
إلا عند عدمها. والمفروض أنها هنا موجودة لم تعدم. وجهل من جهل الشريعة [16ب] لم يتعبد الله به أحدًا من عباده، ولا أمر فردًا من أفرادهم باتباعه.
أما إذا لم يكن في المسألة نص، أو ظاهر، أو قياس صحيح، ولم يكن بيد ذلك الحاكم، ولا بيد غيره إلا مجرد الرأي فليس لغيره أن يخالف حكمه بمحض الرأي، فليس رأي أحد الحاكمين بأرجح من رأي الآخر، وهكذا إذا كان كل واحد منهما قد تمسك بنص، أو ظاهر، ولم يترجح أحدهما على الآخر بحجة ظاهرة قاهرة، فليس لأحدهما المخالفة للآخر، ولا نقض حكمه لعدم المرجح، ولأنه لو ساغ النقض والأمر كذلك لم يستقر حكم من أحكام المسلمين.
وقلتم: والأحكام التي يحررها حكامنا لا تمنع المراجعة فيها لمن اطلع على خلل ... إلخ.
وأقول: هذا دأب المنصفين، ومسلك المتورعين، ولكنه ربما قال الحاكم الذي لم يكن متأهلا للحكم: إن حكمه بعد تمسك الغرماء به لا ينقض إلا بدليل علمي باعتبار ما قد عرفه من الأزهار (1)، ذاهلا عن كون الاجتهاد شرطًا من شروط الحاكم في نص الأزهار (2) كما نجده عند كثير من الحكام الذين لم تكن لهم أهلية، وحينئذٍ يطول النزاع، ويكثر الخصام، وربما يقول: إنه حكم بقول عالم من العلماء الذين تضيق أذهان العوام عن تصورهم لما هم عليه من جلالة القدر، ونبالة الذكر، وسعة العلم، فيظنون هم ومن يلتحق بهم أن الحاكم المجتهد إذا نقض حكم ذلك المقلد الذي حكم بقول ذلك العالم قد جاء بإحدى الكبر، وتلبس بأعظم الفواقر، ولا يتعلقون بأن الحاكم الذي حكم بذلك المقول غير متأهل للحكم، وأن نقض حكمه ليس إلا لعدم أهليته، لا لكونه حكم بقول
_________
(1) (3/ 439 - مع السيل): حيث قال: " يجب على من لا يغني عنه غيره ويحرم على مختل شرط، ويندب ويكره، ويباح ما بين ذلك حسب الحال، وشروطه الذكورة، والتكليف والسلامة من العمى والخرس، والاجتهاد في الأصح، والعدالة المحققة وولاية من إمام حق .... ".
(2) (3/ 439 - مع السيل): حيث قال: " يجب على من لا يغني عنه غيره ويحرم على مختل شرط، ويندب ويكره، ويباح ما بين ذلك حسب الحال، وشروطه الذكورة، والتكليف والسلامة من العمى والخرس، والاجتهاد في الأصح، والعدالة المحققة وولاية من إمام حق .... ".(9/4362)
فلان. وإذا لم يتعلقوا لهذا مع كونه مصرحًا باشتراط اجتهاد الحاكم في المختصرات الفقهية، فكيف يتعقلون ما هو أدق من ذلك! مثلا لو قال لهم القائل: إنه قد وقع الإجماع على عدم جواز تقليد الأموات كما نقل ذلك العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في القواعد (1)، وتابعه على تقرير ذلك من جاء بعده من العلماء المنصفين، أو قال لهم القائل مثلا: إن هذا الإمام الذي حكم الحاكم القاصر بقوله قد صح عنه أنه لا يجوز التقليد للأموات أو مطلقًا؛ فإنهم لا يتعقلون هذا، ولا ما يماثله من الحجج، بل ربما يعدونه هم والحاكم الذي لم يكن متأهلا من مسائل أهل النصب [17أ]، ومن أكاذيب المبتدعة ومن دسائس المنحرفين عن المذهب الشريف. وهذه اللطائف قد تلقنها غالب المقصرين، وجعلوها منفقة لما يأتون به من الجهالات، وتستروا بها عن كشف عوارهم وبوارهم، وفضائح جهلهم، فكانت لهم مجنًا يدفعون به ما يرد عليهم من العلماء المتأهلين، وحصنًا حصينًا يمنعهم عن انتقاد المنتقدين المبرزين، وذلك لأنهم عرفوا من أنفسهم العجز عن ربط ما يأتون به بدليله، والقصور عن دفع ما يرد عليه، لكونهم لا يعرفون الحجج الشرعية، بل لا يعقلونها، فعدلوا إلى هذه اللطيفة، ونفقها لهم من هو مثلهم، فكانت من أعظم الوسائل الشيطانية، والذرائع الطاغوتية، وداراهم من داراهم من المتأهلين، إما لمحبة السلامة والعافية، أو لفتوره عن البيان الذي أمر الله به، أو لمخافة فوات غرض من أغراض الدنيا، أو لحفظ قلوب السواد الأعظم عن النفور عنه، ورغوب النفس إلى عدم ذهاب الجاه الذي يعيش في ظله، ويشرب من وبله وطله، فطم الأمر، وعم، ووجد الشيطان اللعين السبيل إلى طمس معالم الشريعة، وإطفاء نورها، واهتظام حملتها القائمين ببيانها للناس، والله المستعان.
قال - كثر الله فوائده -: وغير خاف عليكم أن اختيار من هو متأهل للحكم بأحوال
_________
(1) القواعد: مخطوط بالجامع الكبير " مجاميع " (96 ق 62/ 100) وأخرى في مكتبة عبد الله الحبشي. انظر: " مصادر الفكر " (176).(9/4363)
الغرماء والشهود مرجح له على غيره، لكثرة ملابسته لهم، ومعرفة مبطلهم من محقهم، ومعرفة المواضع المتشاجر فيها، إلى غير ذلك من تسهيل الأمر عليهم، وعدم تكليفهم للغرامات التي تشق عليهم، وتضييعهم لمن يعولون.
أقول: هذا المرجح لا شك فيه باعتبار إذا كان الشهود في محل الخصمين، أو كان الشجار في شيء من الدور أو العقار يحتاج إلى المشاهدة، وكذلك للاختبار بحال الخصمين مزيد خصوصية في ظهور المحق من المبطل، وفي تخفيف الأمر عليهما. ولهذا ذكرنا في الجواب السابق أن طلب أحد الخصمين لخصمه الذي في جهته الخروج إلى حاكم في غير تلك الجهة ليس فيه إلا مجرد إتعاب ومشقة إذا كان الحاكم في الجهة من المتأهلين للحكم بما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، ولكن هذا المرجح إنما هو باعتبار الأمور التي ذكرها - كثر الله فوائده - وذكرنا.
وأما باعتبار [17ب] حكم الله في تلك الحادثة فالمرجح هو التوسع في علم الشريعة.
وإنا قد قدمنا أن من كان أكثر علمًا كان أبصر بالحق، وأقمنا على ذلك البراهين التي مرجعها إلى الوجدان والتجريب والاستقراء. ومن المرجحات أيضًا كثرة الورع، والتعفف عن الحطام، وتأثير الحق حيث كان، وتقديم الأدلة الشرعية على اجتهادات المجتهدين، وعدم التعصب لمذهب من المذاهب، أو عالم من العلماء، فهذه هي المرجحات بالنسبة إلى حكم الله تعالى في تلك الحادثة. وإذا عارضتها تلك المرجحات التي هي بالنسبة إلى حال الخصمين والشهود فهذه أرجح منها، لأن الحاكم ليس عليه إلا النظر في الدليل الشرعي، والموازنة بين المتعارضات من النصوص والظواهر وترجيح الراجح منها عند تعذر الجمع، وهو لا يجد عن هذه المرجحات بالنسبة إلى حكم الله بدلا ولا عوضًا، بخلاف المرجحات بالنسبة إلى حال الخصمين والشهود والمكان المتنازع فيه، فإنه يتمكن من معرفة ذلك بسؤال العارفين بأحوال الخصمين، وبطلب المعدل والخارج بالنسبة إلى الشهود، ويبعث العدول بالنسبة إلى المكان المتنازع فيه. وأما ما يلزم الغرماء من الغرامات فإن كان منها شيء للقاضي فليس هو القاضي الذي نحن بصدد الموازنة بينه(9/4364)
وبين غيره من القضاة، بل هو من جملة أهل المكس، وأرباب الظلم. وإن كانت الغرامة للغريمين أنفسهما ولشهودهما ومن ينفعهما بوجه من وجوه النفع، فليس على القاضي من ذلك شيء، بل عليه إمعان النظر في القضية، وعدم التراخي عن فصلها بحسب الإمكان، فإن كان فصلها محتاجًا إلى تكثير الخصام، وتطويل البقاء فذلك من أوجب الواجبات على القاضي، وأهم المهمات، فإنه إذا لم يثبت ويستوفي [18أ] المدارك الشرعية كان حكمه قبل أن يعلم بأنه الحق، فيكون من قضاة النار، ولا سيما مع ما قد صار في طبائع الخصوم من التباعد عن الحق والغمط لوجه الصواب، وإظهار التعمية والتلبيس والتمسك بالشبه، وتكثير الجدل والمغالطة؛ فإن الحاكم محتاج أتم حاجة إلى الاستقصاء، حتى يستوعب جميع ما يبطنه الغريمان ويكتمانه، وهما إذا طالت مدة خصومتهما، وتكاثرت غرامتهما فبجنايتهما على أنفسهما؛ فإنهما لو قعدا بين يدي الحاكم، وتكلما بنفس ما فيه الخصام، وكشفا وجه القضية على ما هو عليه، وأبانا محل اختلافهما لم يحتاجا إلى تطويل خصومة، ولا إلى تكثير غرامة، بل قد لا يقعدان بين يدي الحاكم غير ذلك المقعد الذي وصلا إليه فيه، فما على الحاكم إذًا ممن جنى على نفسه بنفسه، واختار المشقة على ما هو أخف عليه.
قال - كثر الله فوائده -: وهذا الوجه الثاني إنما هو فيمن دعا إلى حاكم بحكم الله في تلك الحادثة، وأما في من دعا إلى من يفصل بينهما بالرأي والاستحسان (1) والأعراف المألوفة، أو بوجه الإصلاح كما هو الواقع كثيرًا، أو إلى حاكم مجتهد، لكنه لا يتولى النظر بنفسه في شجار الغرماء، بل يصرفهم إلى منصوبين مقلدين، أو إلى أحد من أعوانه، أو نحو ذلك ففي تكليف الغريم بوجوب الإجابة إلى غير جهته أعظم الإشكال.
_________
(1) تقدم تعريفه.
وانظر " إرشاد الفحول " (ص786).(9/4365)
أقول: هذا الحاكم الذي يحكم بالرأي والاستحسان، إن كان عالمًا متأهلا متمكنًا من الحكم بما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، فالحادثة التي حكم فيها بالرأي والاستحسان لا تخلو إما أن يكون دليلها موجودًا في كتاب الله، أو في سنة رسوله، أو في قياس صحيح، أو إجماع معلوم، فعدول الحاكم عن ذلك إلى الرأي والاستحسان يخرجه عن مسمى القاضي إلى مسمى الخائن لله وللمسلمين وللشريعة، بل يلحقه ويلحق حكمه بالطاغوت وأهله، لأنه عدل عن حكم الله إلى حكم نفسه، وقدم رأيه على رأي الشارع، وآثر هذيانه [18ب] على ما رضيه الله لعباده، ودبر الأمة بغير التدبير الذي دبرها الله به، فهو عن الحاكم الذي يحكم بالشريعة المطهرة بمعزل، ولا تلزمه الإجابة إليه، ولا امتثال حكمه، بل يجب على كل مسلم عزله، والحيلولة بينه وبين المسلمين، فإنه مع كونه ظالمًا للعباد بالحكم عليهم بغير الشرع هو أيضًا ظالم للشريعة، معاند لله ورسوله وشريعته؛ فهو أشر من الظلمة الذين يظلمون الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، لأنه شاركهم في ظلم الناس، وزاد عليهم بكذبه على الله، وعلى رسوله، وعلى الشريعة، وحكم بين العباد بالطاغوت بصورة الشرع، لكونه منتصبًا في منصب المترجمين عن الشرع، هذا على فرض أنه متأهل لا يخفى عليه ما شرعه الله في تلك الحادثة، وأما على فرض أنه جاهل لا يعقل الحجة بل يقر على نفسه بذلك، ويظهره للناس كما هو شأن غير المتأهلين، فهذا وإن كان من قضاة النار، ومن أشر الأشرار لكنه ليس كمن ذهب يكذب على الله وعلى شريعته، عالمًا بأنه كذلك، متعمدًا للعدول عما يعلمه من الشرع إلى رأيه الفاسد، لأن غير المتأهل هو لا يعلم الشرع حتى يقال عدل عنه إلى رأيه، أو رأي غيره، بل ذلك عنده هو الشرع بعينه.
ومن هذه الحيثية كررت في هذه الورقات، وفيما قبلها من التأليفات التحذير والإنذار عن تولية غير المتأهلين لمثل هذا المذهب الذي هو أساس الدين، وأما إذا كان ذلك المتأهل الذي قضى بالرأي والاستحسان إنما قضى به بعد أن لم يجد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، ولا في القياس الصحيح، مستندًا لتلك الحادثة فهذا لا إنكار عليه؛ فقد عمل(9/4366)
بحديث معاذ (1) الذي تقدم ذكره، وهو رخصة له تمنع من الإنكار عليه إلا لمن وجد النص كما تقدم تحريره وتقديره. ثم الجزم على حاكم من حكام الشريعة بأنه يعدل إلى الرأي مع وجود النص لا ينبغي أن يقوله إلا من كان يعلم بالشريعة، علمًا يفرق به بين ما هو منها وما هو من غيرها، فإن الحاكم الذي قد رسخ قدمه في الشريعة ربما يترك الاستدلال [19أ] على حكمه بأدلة الكتاب والسنة مع كونه متمكنًا من ذلك، قادرًا عليه لقصد الاختصار، أو لقصور كثير من الأذهان عن تعقل الحجة، أو لكونه مبتلى بقوم يعادون ما وجدوه مربوطًا بالأدلة لاعتقادهم أن الصواب ما أدركوا عليه الحكام المقصرين العاجزين عن إيراد الحجج من القضاء بمحض الآراء، وتغليق باب الاجتهاد مع ما قدمنا الإشارة إليه من إيهامهم العامة بأن ذلك الذي يقضون به هو الموافق لقول العالم الفلاني الذي إليه الاعتزاء، ونحو ذلك من الدسائس، فإذا وجد كثير من العامة حكمًا مربوطًا بالأدلة، مشحونًا بالكتاب والسنة اعتقدوا .... أنه مخالف لما يألفونه، فيكون ذلك سببًا لفتحهم باب الاستفتاء لمن يشاركهم في الغالب في مسمى العامية، وإن ظن وظنوا أنه متميز عنهم فهو ظن فاسد؛ فإن الارتفاع عن هذه الطبقة إنما تكون بالعلوم الاجتهادية، أو بالمدارك العقلية، لا بما عداهما.
ولقد تعاظمت المحنة على الإسلام وأهله بقوم نفروا عن الأحكام والفتاوى المستندة إلى نصوص الكتاب والسنة، ويأنسون بالأحكام والفتاوى المنسوبة إلى بعض أفراد الأمة الذين هم مكلفون بالشريعة كغيرهم، ومتعبدون بأحكامها كسائر الناس، وليسوا بشارعين بل متشرعين، ولا متبوعين بل تابعين، وناهيك خسارًا وبوارًا وجهلا بمن يؤثر كلام من هو من جملة المتعبدين بالشرع على كلام من جاء بالشرع فضلا عن أن يسوي بينهما، فضلا عن أن يقدم ما يجب تقديمه. وقد رأينا من هذا وسمعنا ما يحجم القلم عن سرده حياءً من الله - سبحانه -؛ فإنه من أعظم التجري عليه، والتنقص له، تعالى عن كل ذلك. ولا يستبعد هذا من لم
_________
(1) وهو حديث ضعيف تقدم تخريجه.(9/4367)
يشاهده، بل عليه أن يحمد الله على السلامة والعافية.
وأما الاستناد في الأحكام الشرعية إلى الأعراف (1) [19ب] المألوفة فلا ينبغي أن ينسب ذلك إلى الشرع إلا في مثل حمل إقرار المقر، وحلف الحالف، ونحو ذلك من المحاولات على عرف بلده وتشابهه، فإن هذا له مدخل فيما يتعلق بالقضاء من هذه الحيثية، لا من حيث جعله دليلا للحكم؛ فإن ما وقع في كتب الأصول والفروع من الكلام على الأعراف (2) لا يراد به إلا هذا، إلا في مثل تقديمهم مثلا لعرف الشرع على
_________
(1) تقدم تعريف العرف والكلام عنه. انظر الرسالة رقم (128).
(2) الاستعمالات الفقهية للعرف تنحصر في أربعة استعمالات وهي:
(أ): العرف الذي يكون دليلا على مشروعية الحكم ظاهرًا: وهو أن العرف يكون دليلا على الحكم ظاهرًا، والدليل في الحقيقة: ما رجع إليه من السنة أو الإجماع أو اعتبار المصالح أو أصل إباحة، أو غير ذلك من الأدلة، ومن أمثلته المعاملات، التصرفات التي بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والناس يعتادونها، ويتعاملون بها، فأقرهم عليها، كالمضاربة، والسلم والاستصناع، وكالقسامة.
(ب): العرف الذي يرجع إليه في تطبيق الأحكام المطلقة على الحوادث، والمراد من هذا النوع: الرجوع إلى العرف في إقامة الأحكام الكلية حال تطبيقها على جزئيات الحوادث .. فالفقيه إذا عرضت له حادثة، لم يرد من الشرع إلا حكم كلي مطلق يجمعها مع أمثالها ونظائرها " رجع في تطبيق هذا الحكم على هذه الحادثة الجزئية إلى تحكيم العرف والعوائد وضابط هذا النوع. وكليته الدالة عليه هي " كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له فيه، ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف ".
ومن أمثلة هذا الاستعمال العرفي الكبير: مالية الأشياء، التعزير وأسبابه - إحياء الموات ما يخل بالمروءة، وما يحقق شروط العدالة، الإذن في الضيافة، انتفاع المستأجر للعين المؤجرة بما جرت به العادة
ومن أمثلة الرجوع إليه فيما يقدر: الحيض، والطهر أقله وأكثره، ومدته أكثر مدة الحمل، سن اليأس.
ومما يندرج تحت هذا الاستعمال: الرجوع إلى العرف في معرفة أسباب الأحكام من الصفات الإضافية، ومن أمثلته:
1 - صغر ضبة الفضة وكبرها، ثمن مثل، مهر مثل، كفء نكاح مؤنة، ونفقة وكسوة وسكنى.
فالعرف في كل هذه الأمثلة وتظافرها هو ضابط مطلقات الأحكام الكلية المستفادة من النصوص.
(ج): العرف الذي ينزل منزلة النطق بالأمر المتعارف: تجري بين الناس في تصرفاتهم عادات وأعراف دالة على الإذن في الشيء أو المنع منه أو تفيد الإلزام به، أو بيان نوعه أو قدره، وقد تكون قرينة تسوغ للشاهد أن يشهد، وللقاضي أن يقضي، وللمفتي أن يفتي.
فهذه الفوائد تجري مجرى النطق بالعبارات الدالة على مضمونها .. ويكون للعرف الجاري بها قوة النطق باللفظ في اعتبار الشارع، يرتب عليه ما رتبه على الألفاظ من الأحكام، بمعنى أن قيام هذا النوع من العرف بين الناس يكون بمثابة نطق المتصرف، وإنما تركوا التلفظ به اتكالا على إفادة العرف له، وإعفاءً لأنفسهم من عمل تكلفت به طبيعة زمنهم.
ودليله من حديث عروة بن أبي الجعد البارقي - رضي الله عنه - " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاه دينارًا ليشتري به أضحية، أو شاة، فاشترى به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة في بيعه ... ".
فأنت ترى عروة - رضي الله عنه - اشترى شاتين وباع إحداهما بغير إذن لفظي وأقره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما ذاك إلا اعتمادًا من عروة على الإذن العرفي، فإن مما جرى به العرف أن الوكيل مأذون له في مخالفة موكله إلى خير مما أمره به.
(د): الاستعمال الرابع: العرف القولي:
أهم مجال يطبق فيه ويظهر فيه مداه الرحب الألفاظ المتعلقة بالتصرفات والعقود، ألفاظ الوصايا والأوقاف، الطلاق والعتاق، ذلك لما تقرر من أن كل متكلم إنما بقصد ما يتعارفه، وأن مطلق الكلام بين الناس ينصرف إلى المتعارف
انظر مزيد تفصيل: " الأشباه والنظائر " (ص98)، " فتح الباري " (4/ 406)، " إعلام الموقعين " (2/ 393).(9/4368)
اللغة، ونحو ذلك من المباحث، فإنه يراد به عرف الشارع، وأهل الشرع، لا ما اصطلحه قوم بينهم، وجعلوه عرفًا لهم؛ فإن ذلك لا مدخل له في الشرع إلا من تلك الحيثية، وأما ما في الكتاب العزيز (1) من الإرشاد إلى العمل بالعرف والمعروف، وكذلك
_________
(1) اعلم أن كل ما تكرر من لفظ " المعروف " في القرآن فالمراد به ما يتعارفه الناس في ذلك الوقت من مثل ذلك الأمر، وضابطه: كل فعل رتب عليه الحكم ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة.
نجد أن الكلمة الكريمة الطيبة " المعروف " وردت في القرآن الكريم ثمانيًا وثلاثين مرة.
منها: قال تعالى: {الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف} [البقرة: 180].
قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة: 228].
وانظر الآيات: [178، 229، 231، 232، 233، 234، 235، 236، 240، 241، 263] من سورة البقرة.
ومنها: قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف} [آل عمران: 104] وانظر الآيات [110، 114] من آل عمران.
" القول المعروف " جاء في ستة مواضع:
منها: قوله تعالى: {ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا} [البقرة: 235].
ومنها قوله تعالى: {وقلن قولا معروفا} [الأحزاب: 32].
و" الأمر بالمعروف " جاء في أحد عشر موضعًا:
منها قوله تعالى: {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 104].(9/4369)
في السنة المطهرة من الأحاديث المصرحة بالأمر بالمعروف (1) فهو المقابل للمنكر، والمراد المعروف في الشرائع، وعند أهلها، والمنكر في الشرائع وعند أهلها، وكذلك ما يلائم عقول المتشرعين من تحسين العدل، وسائر الملكات النفسانية المستحسنة؛ فإنه من المعروف، وما كان منافرًا لها من الظلم وما يشابهه فهو من المنكر.
وبالجملة فتحقيق هذا المبحث يحتاج إلى تطويل يشتمل على بيان ما في كل آية من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية من المعاني الخاصة ببعض المعاني تارة، والعامة
_________
(1) منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7056) ومسلم رقم (1709) عن عبادة بن الصامت وفيه: " .. وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ".
ومنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (49) من حديث أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ".(9/4370)
لجميعها أخرى.
وأما ما ينسبه أهل الأصول (1) إلى بعض الطرائق الإسلامية من العمل بالأعراف والعادات فينبغي حمله على ما ذكرناه، لأنه يبعد كل البعد أن يقول عالم من علماء الإسلام أن ما اصطلح عليه قوم فيما بينهم بعد عصر النبوة بعصور يكون شرعًا لهم.
وأما الاصطلاح الذي أشار إليه - كثر الله فوائده - فهو مما أرشد إليه القرآن الكريم، والسنة المطهرة، ومما يستحسن تقديمه قبل الحكم في كل خصومة، فذلك من الشرع إذا كان على وجه التراضي، وإلا فليس هو هذا الصلح المشروع، بل هو حكم، فإن خرج مخرج الحكم الشرعي فذاك، وإلا كان مما قدمنا [20أ] الإشارة إليه.
_________
(1) كما قلنا أن العرف ليس بدليل مستقل ولكنه يرجع إلى أدلة الشريعة المعتبرة، كالإجماع، المصلحة المرسلة وسد الذرائع.
ومن أشهر أدلة العرف على الإطلاق:
- قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف: 199].
- حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما رآه المسلمون حسنا فهو حسن ".
أورده الهيثمي في المجمع (1/ 177 - 178) وقال: " رواه أحمد (22/ 170 - الفتح الرباني) والبزار (1/ 81 رقم 130 كشف) والطبراني في الكبير (9/ 118 رقم 8582) ورجاله موثقون ".
وأخرجه الطيالسي في " المسند " (ص33 رقم69) وأبو نعيم في " الحلية " (1/ 375) وأورده السخاوي في " المقاصد " (581) وقال عقبة: " وهو موقوف حسن " على عبد الله بن مسعود.
وابن بديع في " تمييز الطيب " (ص146)، والزرقاني في " مختصر المقاصد " (ص168) والعجلوني في " كشف الخفاء " (2/ 245).
وأخرجه الحاكم (3/ 78 - 79) من قوله: " فما رأى المسلمون " وزاد: وقد رأى الصحابة جميعًا أن يستخلفوا أبا بكر - رضي الله عنه - وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
والخلاصة أنه موقوف حسن ولا أصل له في المرفوع.
انظر تفصيل ذلك في " البحر المحيط " (3/ 41)، " الطرق الحكمية " (ص92)، " مدارج السالكين " (2/ 304).
وانظر أدلة المانعين والمجيزين هنا. " أصول مذهب الإمام أحمد " (ص540 - 541).(9/4371)
وأما ذكره الحاكم المجتهد الذي لا يتولى النظر بنفسه ... إلخ.
فينبغي أن يفصل في ذلك فيقال: إن كان ما وقع من الحاكم المجتهد من الأمر لأعوانه أو بغيرهم من الحكام المقصرين (1) بالنظر فيه هو نفس الحكم، أو ما يترتب عليه الحكم ترتبًا قريبًا فالآمر والمأمور شريكان في المظلمة وفي المخالفة للشريعة، وإن كان الذي أمر بالنظر فيه هو غير ذلك، كتحرير ما يأمره الحاكم بتحريره إجمالا، أو النظر لمكان وقع عليه الخصام ليحكي له الصورة التي يشاهدها كما يقع في الشفعة ونحوها، أو يأمره بأن يقسم ميراثًا بين أهله بعد أن عرفه كيف يكون التقسيم، أو يرقم ما يدعيه أحد الخصمين وما يجيب عليه به الخصم الآخر، ويعرض ذلك عليه بمحضر الغرماء فهذا ونحوه لا بأس بتفويضه إلى من تعرف عدالته وأمانته، وإن لم يكن من أهل العلم في ورد ولا صدر.
وهؤلاء هم الذين كان يلقبهم السلف العدول، ويلقبهم أهل عصرنا في هذه الديار الأمناء، وما بمثل هذا بأس؛ فإن قبول أخبار العدول ليس من التقليد في شيء، وتوليهم لما يتولونه ليس من الحكم الذي هو من عمل القضاة، ولو كلف القاضي بأن يقسم التركات، وينظر مكان الخصومات، ويحرر السجلات لكان قد كلف بما لا يطيقه، ولا يدخل تحت قدرته، وأضر ذلك بأهل الخصومات، لا سيما عند أن يشد الرحل، ويتزود للسفر إلى مكان بعيد ينظر أسباب الشفعة بين البدوي الفلاني وغريمه، أو يقسم تركتهما المفرقة في جوانب الأرض؛ فإن هذا يعود على الغرض المقصود من نصيبه للأحكام
_________
(1) انظر " تبصرة الحكام " (1/ 60 - 63). وانظر الرسالة رقم (142).
يحتاج القاضي في وظيفته إلى أعوان يعينونه على تمشية أعمال القضاء منهم:
1 - جماعة من أهل العلم والفضل يشاورهم فيما يعرض عليه من قضايا وما ينبغي لها من أحكام شرعية مناسبة. وهذه المشاورة مطلوبة من القاضي ولو كان عالمًا.
2 - أعوان القاضي: الكاتب، الحاجب، البواب، المترجم، الجلواز، الشهود، الأجرياء، صاحب السجن، المزكون، والمؤدبون.
انظر تفصيل ذلك " أدب القاضي " للماوردي (1/ 261 - 265).(9/4372)
الشرعية بالنقض. ومن قال: إن هذا من عمل القاضي فهو لا يدري ما هو القضاء، بل الذي يجب على القاضي [20ب] أن يقول للورثة المتخاصمين إليه بكيفية القسمة على الفرائض الشرعية، ويقول للمتخاصمين في الشفعة بعد أن يحكي له العدل صورة الأسباب: إن المستحق للشفعة صاحب هذا السبب دون هذا، ونحو ذلك، وينبغي له أن يقول للخصوم قبل بعث العدل أو العدول: عرفاني بصفة الأسباب التي تتنازعان فيها، فإن اتفقا على أمر كان ذلك مغنيًا له عن بعث غيرهم، وإن لم يتفقا أخذ على العدل أو العدول تصوير صورة ذلك على وجه التمام، فربما تقصر عبارة بعض الناس عن حكاية ما قد شاهده على التمام. وهكذا في سائر الأمور المشابهة لهذا. وأما إذا كان من يأمره القاضي بالنظر في القضية من المتأهلين للحكم فيها بالشريعة المطهرة، فلا حرج على القاضي في ذلك، وسواء كان المأمور قاضيًا أو غير قاض؛ فإن تفويضه من القاضي يجعله بمنزلة القاضي، وله أن يفوض الحكم إليه، لأنه يثق منه بأنه لا يزيغ عن الحق لورعه وأمانته، ولا يحكم خبطًا وجزافًا لعلمه بالشريعة المطهرة، وتأهله للحكم بها، ولكنه لما كان مأمورًا بأمره مباشرًا بتفويضه كان عليه أن ينظر في حكمه، ومستنده أخذًا بالجزم، وعملا بالعزيمة؛ فإن المتأهل غير معصوم من الخطأ، وقد يخفى عليه مع علمه بالشريعة بعض دقائقها، فإذا اعتضد نظره بنظره، واجتمع علمه مع علمه كان ذلك غاية ما يجب، ونهاية ما يلزم.
قال - كثر الله فوائده -: ولو صح لمجتهد وجوب الإجابة إلى غير الجهة مع وجود حاكم معتبر في البريد (1) لما لزم الغير اجتهاده، ولا وجب على الراعي إلزام رعيته بذلك، سواء كان مجتهدًا أو مقلدًا. ولا يخفاكم أن الحاكم لا يلزم غيره اجتهاده إلا بعد حصول شرائط التداعي بين الخصمين، هذا إذا كان المقصود هو السلوك في المنهج الشرعي [21أ]، وإبلاء العذر بين يدي الله تعالى، وإن كان القصد غير ذلك من نفوذ الكلمة
_________
(1) تقدم التعريف به وكذلك توضيح مقداره.(9/4373)
- وحاشاكم عن ذلك - فالجواب عنه لا يخفى.
أقول: قد ذكرت في هذه الأبحاث غير مرة أن الذي أجبت به في الجواب السابق هو أن الإجابة ليست إلا مجرد إتعاب ومشقة مع وجود حاكم في الجهة يتمكن من الحكم بما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله. والجواب لدى السائل - عافاه الله - فليراجعه حتى يعلم ذلك ويتيقنه.
وأما ما ذكره من أن الحاكم لا يلزم غيره اجتهاده إلى آخر الكلام.
فليعلم - أدام الله بقاءه - أن هذه الكلمة وإن كانت دائرة على الألسن، محررة في الدفاتر ففيها من الإشكال ما لا يحيط به المقال، وبيانه أن كلامنا وكلامه في حاكم يحكم بما أنزل الله، وما جاءت به السنة المطهرة، والأحكام العامة للأمة في الكتاب والسنة التعبد بها قدر مشترك بين العباد في قديم الدهر وحديثه، لا يختص بالتكليف بها هذا دون هذا، هذا معلوم لكل متشرع، فالحاكم المذكور هو لم يأت بشيء من تلقاء نفسه، ولا بشيء جاء به غير الشارع، ولا بحكم يلزم البعض دون البعض، بل بشريعة عامة، وحكم شامل قد تعبد الله به عباده.
وإذا كان هذا هو المراد من الحاكم، فما معنى قولكم: إنه لا يلزم غيره اجتهاده؟ إن كان المراد بهذا الاجتهاد جميع ما يحكم به من الأحكام الواردة على منهج الشريعة الموافقة لها فإن هذا الذي جاء به هو ما جاء به القرآن، أو ما نطقت به السنة. وقد وقع الإلزام به للأمة من عند البعثة المحمدية، فهذا القاضي إنما بين للناس ما شرع لهم، وحكم عليهم بما حكم الله به عليهم، فكيف لا يكون لازمًا لهم! وبهذا يتقرر أن المسألة على شهرتها [21ب] وتنزيلها عند المتمسكين بها منزلة القواطع مبنية على شفا جرف هار.
وإن كنتم تريدون باجتهاد القاضي الذي لا يلزم غيره هو محض رأيه الذي لا مستند له من كتاب ولا سنة فنحن معكم على هذا، فإن رأي هذا العالم لا يلزم هذا العالم، وكذلك رأي هذا الحاكم لا يلزم هذا الحاكم.
أما إذا كان في المسألة دليل يخالف ذلك الرأي فلا يلزم الخصمين ولا غيرهما، وأما إذا(9/4374)
لم يكن فيها دليل بل ليس إلا مجرد الرأي فليس رأي هذا بأولى من رأي هذا، ولا ينقض رأي برأي. فإن كنتم تريدون هذا فهو صحيح مسلم، ولكن لا يستقيم لكم إيراد هذه المسألة على إرادة هذا المراد في هذا الموضع؛ فإنكم أوردتم هذا الكلام في مساق الاحتجاج على عدم لزوم الإجابة إلى قاض خارج عن الجهة، مع وجود قاض فيها، وإنما يتم لكم الاحتجاج بهذه القاعدة إذا أردتم المعنى الأول من اجتهاد القاضي كما أراده المدونون لها، وقد أبطلناه.
أما إذا أردتم المعنى الثاني المستقيم فنقول لكم: من أين علمتم أن القاضي الذي وقع الطلب إليه سيحكم بالرأي في تلك الحادثة التي ستحدث حتى يقولوا: لا يلزم اجتهاده غيره! وقد علمتم أن محل النزاع بيننا هو القاضي الذي يحكم بالشريعة المطهرة بعد تأهله للقضاء بها.
قال - كثر الله فوائده -: الوجه الثالث: ما ذكرتموه في شأن القضاة المقلدين (1)، وكلامكم هو الحق الذي لا ريب فيه، ولكنه أشكل علينا أنكم خليتم بينهم وبين المتشاجرين، ولم تنكروا عليهم ذلك مع إمكانه عليكم بالفعل، بل تصرفون إليهم الغرماء، وتأمرونهم بالحكم بينهم، وفصل شجارهم، وتلزمون الغرماء بمقتضى ما رقموه في المراسيم، وتنفذون لهم جميع ما رأوه ورجحوه، ولا يصح الاعتذار بأنهم يعرضون عليكم المراسيم، وأنكم لا تنفذون وتلزمون إلا بعد النظر فيها، والتقرير [22أ] لما ترجحونه أنتم، لأنا نقول: إنهم لا يعرضون عليكم الأشياء مفصولا قد رقمن في
_________
(1) قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 14): أن يكون أهل الاجتهاد، وبهذا قال مالك، والشافعي، وبعض الحنفية. وقال بعضهم: يجوز أن يكون عاميًا فيحكم بالتقليد، لأن الغرض فصل الخصومات فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز، كما يحكم بقول المقومين.
قال ابن قدامة: ولنا قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49] ولم يقل بالتقليد. وقال: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء: 105].(9/4375)
مراسيمهم، ولم يعرضوا عليكم الدعوى والإجابة حتى تنظروا صحة ذلك من فساده، ولا عرضوا عليكم البينات، ولا جميع ما يحصل من أسباب الحكم وشرائطه، وكل ذلك لا يصح النظر فيه إلا لمجتهد، وإلا فلا وجه لترجيح الإنكار على هذا دون هذا.
أقول: الحكام المتصفون بهذه الصفة لا يخلى بينهم وبين الغرماء إلا في مثل هذه الأمور التي قدمنا ذكرها في بحث الاستعانة بالأمناء والقضاة المقصرين على التحقيق الذي سبق، وإنما يفوض الحكم إلى من كان منهم متأهلا كما تقدم تقريره، ولدينا من القضاة من هو مجتهد متبحر في كل علم، ولدينا منهم من هو في الورع والتأني والتثبت راسخ القدم، مع تحليه من المعارف العلمية بما يوجب له الأهلية، فإن كنتم تريدون أنا نصرف الغرماء إلى هؤلاء، ونركن عليهم فمسلم، مع أنا لا نترك الأشراف على ما يحكمون به تحريًا وتحوطًا لكون السرف إليهم له مدخلية في مشاركتهم في الصواب والخطأ، وإلا فهم ممن تبرأ الذمة بالتفويض إليه.
وإن كنتم تريدون من صرحتم بقصورهم فلا نسلم أنا نخلي بينهم وبين الغرماء في الأحكام الشرعية. وغاية ما يفعلونه هو ما يفعله الأمناء والعدول على حسب التفصيل السابق.
وأما أنهم يستقلون بحكم شرعي يفتقر إلى النظر والاجتهاد فلا؛ فإنه إذا نابهم شيء من ذلك أحالوه على من هو من أهله، ولا يستبدون به، ولو فرضنا استبداد واحد منهم من ذات نفسه لم يقبل الحكم منه الخصم المحكوم عليه، بل يأتي ويتظلم ويصول ويجول، فيكون فعله هذا سببًا لكشف القضية والبحث عن أولها وآخرها ومستندها وإعادتها جذعة، وإنما يستبد هؤلاء بتحرير ورق المصادقة، وتقدير النفقات، وقيم المتلفات والنكاحات، والطلاقات، وضروب المعاملات الجارية بين الغرماء على حساب تراضيهم، ولهم من العدالة ما يعتبر في العدول على وجه لا يفترون كذبًا، ولا يكتبون باطلا.(9/4376)
وقد قال تعالى: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} (1) وقال: {وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد} (2)، وهذا ليس من الحكم في شيء، ولا هو مما يقوم به الحكام وحدهم.
وهكذا قد يتولون قسمة التركات، والنظر في المحلات المتنازع فيها، ونحو ذلك.
وقد قدمنا أن هذا يصح من العدول الذين لا تعلق لهم بالعلم، لأنهم إنما يقسمون كما يؤمرون، أو يحكمون الصورة التي يشاهدونها، فإن كنتم تريدون أنا خلينا بينهم وبين المشتجرين، وصرفنا إليهم في مثل هذه الأمور فمسلم، ولا يضرنا ذلك، وإن كنتم تريدون تفويض الأحكام الشرعية في الأمور التي تحتاج إلى الحكم بالشريعة فممنوع. وحاصله أن هؤلاء ليسوا بقضاة على التحقيق بل هم النواب عن القضاة. وقد كان السلف يصنعون ذلك، فإن الذي كان يفعله حكام العصور السالفة في جميع أقطار الأرض هو أن ينصب (3) الخليفة أو السلطان قاضيًا، ويقتصر عليه في مملكته جميعًا وإن كانت متسعة الأطراف، ولا ينصبون قاضيًا غيره، بل يأذنون له بالاستنابة فيستنيب في كل بقعة من بقاع الأرض نائبًا، وقد يستنيب في المكان [22ب] الواحد جماعة إذا كان واسعًا كالمدائن الكبار، وكانوا لا يعرضون عليه إلا ما يحتاج إلى النظر والبحث من المسائل بعد أن يلخصوا له أطراف المسألة الحادثة تلخيصًا لا يحتاج الحاكم معه إلا بيان وجه الحكم، وكشف ما عرض فيه الإشكال.
وأما ما ذكرتم من عدم الإنكار عليهم فالذنب في هذا الاعتقاد محمول على من نقله إليكم؛ فإنه محض الزور. فقد علم الناس أنا لا نسمع متظلمًا في أمر يتعلق بالشريعة المطهرة إلا وكشفنا ظلامته، وفحصنا عن أمره، ولا نرى رقمًا يخالف المنهج الشرعي إلا وأبطلناه، وإن كان راقمه من المتأهلين فضلا من غير المتأهلين. ولا يختص بهذه
_________
(1) [البقرة: 282].
(2) [البقرة: 282].
(3) انظر " مجموع الفتاوى " (18/ 763) " أدب القاضي " للماوردي (1/ 137).(9/4377)
الخصوصية بعض البقاع دون بعض، بل لا ندع شيئًا باطلا نقف عليه، وإن كان القاضي الذي حرره في أطراف القطر اليمني، وليس علينا إلا إنكار ما بلغنا، وإبطال ما علمنا بطلانه، ولم يكلفنا الله في علم ما لم نعلمه، ولا إنكار ما لم يبلغ إلينا، وهذا غاية ما يجب علينا. ومع هذا فإني لا أدعي لنفسي ما لا تستحقه، فإني لست بمعصوم عن الخطأ، بل أطلب من غيري إذا وجد كلامًا لي في حكم أو فتيا مخالفًا للشريعة المطهرة أن يصلحه، أو يرشدني إلى إصلاحه، ويفعل معي ما أفعله مع غيري.
وأما ما أشرتم إليه من أنه لا يصح النظر في أسباب الحكم وشرائطه إلا لمجتهد (1)، فهذه الكلية ممنوعة، فإن الذي يحتاج إلى المجتهد إنما هو نفس الحكم وما يترتب عليه ترتبًا قريبًا كما قدمنا تقريره، وأما مثل تحرير ما يتحاور به الخصمان، ومثل رقم ما يقربه كل واحد منهما على نفسه، ومثل النظر لمحل الشجار، ومثل تقويم التالف، وتقدير الباقي، ونحو ذلك من الأمور، فهذا يقوم به العدول الذين يوثق بدينهم وأمانتهم، وإن لم يكونوا من أهل العلم فضلا عن أهل العلم.
وقد كررنا هذا في هذه الورقات لتكريره في هذه الأبحاث التي تكلمنا عليها. وفيما سبق ما يغني عن تكريره.
وأما ما لمحتم إليه من أجرة الرسول، وكيفية [كان] (2) تقسيطها، وما المستند في ذلك؟ فهذا البحث إذا بسطنا القول فيه، ونقلنا كلامكم عليه خرجنا إلا ما لا حاجة بنا وبكم إليه لاستلزامه للكلام على مباحث وجوب الطاعة، ومن تجب له. وقد كفانا وكفاكم عن هذا نصوص القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة المتواترة، وهي موجودة في الصحيحين، بالغة فيهما إلى حد التواتر المعتبر، فراجعوا ذلك ففيه ما يغني.
والحمد لله أولا وآخرًا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، ورضي الله عن الصحابة الأخيار [23أ].
_________
(1) تقدم ذكره وانظر الرسالة (60).
(2) في المخطوط [كان] أسقطت لعدم الضرورة.(9/4378)
الجوابات المنيعة على الأبحاث البديعة
تأليف
شرف الدين بن أحمد
أمير كوكبان
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(9/4379)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " الجوابات المنيعة على الأبحاث البديعة ".
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين الطاهرين.
وبعد: فإنها وصلت إلينا الرسالة التي اشتملت على أبحاث تشد إليها الرحال ويعجز عن مثلها العلماء الأمثال .... "
4 - آخر الرسالة: " وهو يهدي السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
حرر صبح الأحد 13 شهر شعبان الكريم سنة 1218هـ ".
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 17 صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة 24سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(9/4381)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الطاهرين.
وبعد:
فإنها وصلت إلينا الرسالة (1) التي اشتملت على أبحاث تشد إليها الرحال، ويعجز عن مثلها العلماء الأمثال، إلا أنها وإن تضمنت أنواعًا من الفوائد المتعددة، وعقودًا من الفرائد المتبددة، فهي لم تفد في حل ما أشكل من الأبحاث المسددة، بل سلك المجيب - كثر الله فوائده - في غالبها واديًا لم نرده فيما أوردناه، ولا ورد عين ما أوردناه، واستدل في بعضها بما لا ينهض في حل ما استشكلناه، فهو في بابه من بدائع الفوائد، يجب أن يعتمده كل من جعل في عنقه من أمور المسلمين القلائد، فلا تناط أحكام الله تعالى إلا بمن يعرف صحة ما يحكم بدليله الوارد عن الله ورسوله.
ولا يخفى المجيب - كثر الله فوائده - أن ملخص الجواب الذي أجبنا به عليه هو أن الاستدلال بالآيتين الكريمتين على وجوب الإجابة إلى الحاكم مشكل، وأن دلالتهما لو تمت على وجوب الإجابة إلى الحاكم لما دلت على محل النزاع، وهو وجوب إجابة الغرماء إلى الخارج عن البريد (2)، مع وجود حاكم معتبر في البلد، وأن في بلدنا من كملت فيه الشروط المعتبرة في صحة الحكم، ولا يلزم من القول بعدم دلالة الآيتين على هذا المعنى طي بساط الشريعة، ولا أن يكون القائل بذلك مخالفًا للإجماع القطعي، وللشريعة المطهرة، ورافعًا للتعبد بها، ولا يفضي به ذلك إلى كفر وفسق، بل كتب أئمتنا - عليهم السلام - وغيرهم مصرحة بعدم وجوب الخروج مع وجود حاكم معتبر في البلد، ولم يلزمهم بذلك طي بساط الشريعة، ومخالفة القطعي الموجب لما يخفاكم،
_________
(1) يشير إلى الرسالة رقم (139).
(2) تقدم توضيحه.(9/4385)
فالتهويل منكم في غير محله.
نعم. هو مفيد فيمن نفى وجوب الإجابة إلى الحكام رأسًا، ولم يقل به أصلا، كيف ولفظ كلامنا في الجواب هو ما صورته، وأشكلت علينا فيما ذكرتموه مسألتان:
المسألة الأولى: إلزامكم لأولاد القاضي تسليم نصف الأجرة.
المسألة [1أ] الثانية: في الاستدلال على تكليف الغرماء للرحيل من جهة إلى جهة بالآيتين الكريمتين ... إلى آخر كلامنا.
وبهذا التقرير يندفع جميع ما أوردتم علينا من التهويل بلزوم طي بساط الشريعة، وبمخالفة الإجماع القطعي، والنصوص القرآنية، والأحاديث المتواترة، ونحو ذلك من التطويل بالتبكيت العريض الطويل.
قوله - كثر الله فوائده -: فإنه وصل إلى آخر كلامه - عافاه الله تعالى -.
نقول: الذي استشكلناه هو إيجاب الرحيل على الغريم إلى خارج البريد لإجابة الحاكم، مع وجود حاكم معتبر في البلد، وأن الإيجاب لذلك لا يذهب إليه أحد من أهل البيت، ولا من أئمة المذاهب، ولم يستشكل ما ذكره - عافاه الله - لأنه لم يتعرض لذكر ما هو مصب الغرض من الاستشكال الأصلي، وهو قولنا: مع وجود حاكم معتبر في البلد.
قوله - أبقاه الله تعالى -: أقول: نورد عليه قبل الكلام على كلامه هذا سؤال الاستفسار (1) فنقول: هل إجابة ... إلخ.
نقول: هذا الترديد ليس واردًا من أصله، لأنه في وجوب الإجابة إلى الحاكم الخارج عن البريد، مع عدم وجود مثله في البلد، وكلامنا في حكم الإجابة إلى الحاكم الخارج عن البريد مع وجود مثله في البلدة، فاندفع الترديد وما ترتب عليه.
قوله - عافاه الله -: فلنتكلم الآن على ألفاظ المناقشة - إلى قوله -: فهذا على
_________
(1) انظر تعليق الشوكاني في الرسالة رقم (141).(9/4386)
تقدير تسليمه لا يضر ... إلخ.
نقول: السياق في الآيات قاض بأنها نزلت (1) فيمن يظهر الإيمان، ويعرض عن الإجابة إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ليحكم بينه وبين غريمه، فبكت الله عليهم ذلك، وأخبر بأن المؤمن لا يكون قوله إذا دعي إلى رسول الله ليحكم بينه وبين غريمه إلا أن يقول: سمعنا وأطعنا، وهذا التقرير لا يدافع بأنه لو كان المراد ذلك لقال: إنما كان قول المنافق أو اليهودي كما لا يخفى.
قوله - أبقاه الله -: كما يفيد ذلك الألف واللام التعريفية أو الموصولية على اختلاف الرأيين ... إلخ [1ب].
نقول: ليس اللام في مثل المؤمن والكافر ونحوهما اسمًا موصولا، وإن كان صفة، إنما ذلك في الصفات التي يقصد بها الحدوث فتعمل، لا في الصفات التي صارت بمنزلة الصفة المشبهة كالمؤمن ونحوه، فاللام فيها حرف تعريف اتفاقًا. وقد بسط الكلام على ذلك السعد في حاشية الكشاف، وأما تقرير العموم بانهدام الجمعية، ومصير الصيغة جنسية شاملة محيطة فلا حاجة إليه، لأن الجمع (2) المعرف باللام المشار بها إلى الجنس نفسه من حيث الوجود على الإطلاق من صيغ العموم عند الجمهور من الأصوليين بدون ذلك التقدير.
قوله: فهذا مسلم لكن بالنسبة إلى الحاكم لا بالنسبة إلى المحكوم به ... إلخ.
نقول: قال الله تعالى - بعد تلك الآيات في آخر سورة النور -: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} (3) وهو اسم جنس مضاف من صيغ العموم وإن كان سببه خاصًا، والمراد العموم في الدعاء إلى تعليم الشرائع أو فصل الخصومات،
_________
(1) انظر " روح المعاني " للآلوسي (196 - 197). " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (12/ 294).
(2) انظر " إرشاد الفحول " (ص415)، " تيسير التحرير " (1/ 191 - 192).
(3) [النور: 63].(9/4387)
أو غير ذلك، وسر ذلك أن من دعي إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فأبى عن الإجابة عليه عنادًا كفر باتفاق الأمة، ومن امتنع عن الإجابة إلى حاكم كامل الشروط بالإجماع لم يكفر بالاتفاق. غاية الأمر أنه يكون عاصيًا وهذا هو الذي أردناه بالخصوص في قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (1) من القسم العظيم على نفي الإيمان عنهم حتى يحكموه فيما شجر بينهم، ثم نفي الحرج فيما قضى، والتسليم المؤكد لذلك.
وأما ما ذكره المجيب - كثر الله فوائده - من الكلام على حديث معاذ (2)، وما يتعلق به فكلام نفيس جدًا، ونحن قائلون به، ولكنه لا يفيد في إبطال ما قلناه.
قوله - أبقاه الله -: الثاني ما قدمنا من الإجماع القطعي على وجوب الإجابة للداعي إلى الشريعة ... إلخ.
نقول: إن أراد ما ذكره دليل على صحة الاستدلال بالآيتين على وجوب الإجابة إلى الحاكم فهو لا يفيد [2أ] ذلك، وإن أراد أن ذلك دليل على وجوب الإجابة إلى الحاكم في البلد من غير نظر إلى كونه مدلول الآيتين فمسلم ولا ننكر ذلك أصلا، ولم يكن في كلامنا ما يدل على الإنكار بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، إنما استشكلنا الاستدلال بالآيتين فقط، وهكذا نقول في الوجه الثالث.
قوله: الوجه الرابع: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قد نصب الحكام ... إلخ.
نقول: نعم نصب الحكام (3)، وبعث بالولاة، وأمر الأمراء، وهو دليل لنا ليستكفي
_________
(1) [النساء: 65].
(2) تقدم مرارًا وهو حديث ضعيف.
(3) انظر " المغني " (4/ 11)، " تبصرة الحكام " (1/ 12 - 15).(9/4388)
أهل كل قطر بما لديهم من الحكام، وغيرهم مع وجوده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وهو إمام الكل، ولم يوجب على الغريمين الوصول إليه، بل نصب لهم الحكام تسهيلا للأمر الذي بعث به من الشريعة السمحة السهلة، ولم يؤثر عن أحد من قضاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يوجب على المتشاجرين الوصول إليه من الأقطار البعيدة، مع وجود حاكم عندهم، وعلى مدعي ذلك بيانه.
نعم. لو لم يكن في اليمن إلا قاض واحد لوجب الوصول إليه، فليس كلامنا إلا في وجوب الخروج عن البريد مع وجود الحاكم المعتبر في البلد.
قوله - كثر الله فوائده -: الوجه الخامس: أن إفراده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الآيتين بنسبة التحكيم إليه والحكم منه هو كإفراده في قوله: {خذ من أموالهم صدقة} (1) ... إلى آخر ما ذكره - عافاه الله - بما محصله أن خطاب الله لرسوله يفيد التعميم لكل الأمة.
نقول: قد تقرر في الأصول (2) عند الجماهير من أئمتنا وغيرهم أن الخطاب الخاص بالرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا يتناول الأمة إلا بدليل خارجي كما هو معروف، وهذه الآيات التي ساقها قد قامت الأدلة الخارجية على عمومها، ولم يذهب إلى أن الخطاب الخاص بالرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - عام بنفس اللفظ إلا أبو حنيفة وأحمد (3).
قوله - كثر الله فوائده -: إنه تقرر في الأصول أن خطابات الله ورسوله لواحد من الأمة يعم إذا لم يوجد ما يفيد اختصاص ذلك الواحد ... إلخ.
نقول: الذي تقرر في الأصول [2ب] عند أئمتنا وغيرهم من جماهير العلماء أن
_________
(1) [التوبة: 103].
(2) تقدم ذكره. وانظر: " إرشاد الفحول " (ص430).
(3) " البحر المحيط " (3/ 167)، " الكوكب المنير " (3/ 255).(9/4389)
خطاب الواحد (1) لا يكون للعموم، ولا يتناول سائر الأمة إلا بدليل.
وقد أخرج مسلم (2) عن علي بن أبي طالب - عليه السلام - قال: " نهاني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن القراءة في الركوع والسجود، ولا أقول: نهاكم " ولم يذهب إلى عمومه إلا الحنابلة وجماعة من الناس، والمسألة مشهورة مدونة في كتب الأصول (3).
قوله - أبقاه الله تعالى -: الوجه السابع: أن الله تعالى قد شرع لنا التحكيم ... إلخ.
نقول: التحكيم باب آخر، ولا يشترط في المحكم الاجتهاد، ولا نزاع في ذلك، بل ولا نزاع في وجوب الإجابة إلى الحاكم الخارج عن البريد مع عدم وجود الحاكم في البلد ومنع الاستدلال بالآيتين لا يلزم منه منع الإجابة مطلقًا، وليس في كلامنا ما يدل على المنع الكلي.
_________
(1) انظر " إرشاد الفحول " (ص444)، " البحر المحيط " (3/ 191)، " تيسير التحرير " (1/ 252).
(2) في صحيحه رقم (211/ 480).
قلت: وأخرجه أحمد (1/ 81) وأبو داود رقم (4046) والنسائي (2/ 188 - 189).
قال القرطبي في " المفهم " (2/ 86 - 87): وقول علي - رضي الله عنه -: " نهاني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا أقول نهاكم " لا يدل على خصوصيته بهذا الحكم، وإنما أخبر بكيفية توجه صيغة النهي الذي سمعه فكأن صيغة النهي التي سمع: " لا تقرأ القرآن في الركوع " فحافظ حالة التبليغ على كيفية ما سمع حالة التحمل وهذا من باب نقل الحديث بلفظه. ولا شك أن مثل هذا اللفظ مقصور على المخاطب، من حيث اللغة، ولا يعدى إلى غيره إلا بدليل من خارج، إما عام كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حكمي على الواحد كحكمي على الجميع " تقدم تخريجه - أو خاص في ذلك الحكم كقوله: " نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا، أو ساجدًا ".
وانظر: " تلخيص الحبير " (1/ 377). " إرشاد الفحول " (ص444). " البحر المحيط " (3/ 191) تقدم مرارًا.
(3) انظر الرسالة رقم (137).(9/4390)
قوله - عافاه الله -: الوجه الثامن: أنه قد تقرر في الأصول (1) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذا فعل فعلا، أو شرع الله له شرعًا كان التأسي به في ذلك ... إلخ.
نقول: الذي تقرر في الأصول أن فعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذا لم يكن جبليًا (2) ولا دل دليل على الخصوصية فيه إما أن يكون معلوم جهته أو لا، فمعلوم الجهة افترقت فيه الأصوليون إلى أربعة مذاهب:
الأول: أن أمته مثله (3).
الثاني: لا تكون مثله.
الثالث: أنهم مثله في العبادات.
الرابع: أنه يكون كمجهول الجهة، ومجهول الجهة فيه أربعة أقوال أيضًا وهي: الوجوب (4)، والندب (5)، والإباحة (6)، والوقف (7). هذا في فعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -.
_________
(1) انظر " إرشاد الفحول " (ص145)، " البحر المحيط " (4/ 64).
(2) كالقيام والقعود ونحوهما فليس فيه تأس ولا به اقتداء ولكنه يدل على الإباحة عند الجمهور.
" نهاية السول " (3/ 16)، " إرشاد الفحول " (ص157).
(3) أي أن أمته في ذلك الفعل إلا أن يدل دليل على اختصاصه به وهذا هو الحق.
(4) وقد روي عن ابن سريج قال الجويني في " البرهان " (1/ 493 - 494) وابن خيران وابن أبي هريرة والطبري وأكثر متأخري الشافعية.
" إرشاد الفحول " (ص165).
(5) قال الزركشي في " البحر " (4/ 183) وهو قول أكثر الحنفية والمعتزلة ونقله القاضي وابن الصباغ عن الصيرفي والقفال الكبير.
(6) اختاره الجويني في البرهان (1/ 194) وهو الراجح عند الحنابلة.
(7) الوقف حتى يقوم دليل. نقله ابن السمعاني عن أكثر الأشعرية قاله الزركشي في " البحر المحيط " (4/ 183 - 184).
انظر أدلة كل قول ورد الشوكاني عليهم في " إرشاد الفحول " (ص164 - 166).(9/4391)
وأما في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فإن كان عامًا فلا شك في عمومه، وإن كان لواحد فقد قدمنا الكلام عليه من أنه لا يعم غيره إلا بدليل. وأما خطابات الله تعالى له فإن كانت عامة بنفس اللفظ فلا خلاف فيها، وإن كانت خاصة به فقد قدمنا أنه لا يتناول غيره إلا بدليل، فقول المجيب - كثر الله فوائده -: وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين غير مسلم لما ذكرناه من الخلاف، والمسألة معروفة في الأصول.
قوله: وأما ما ذكرتم من كلام الزمخشري [3أ] في كشافه (1) - إلى قوله -: وليس فيه أن إجابة الدعوة إلى الشريعة مختصة برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ولا تجب إلى غيره ... إلخ.
نقول: ومن أين فهم من كلامنا أن الدعوة إلى الشريعة مختصة برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -؟ فليس في كلامنا ما يدل عليه بشيء من الدلالات، ويأبى الله أن نريد ذلك، أو أن يريده متدين. ولم نذكر كلام الزمخشري للاستدلال على ذلك، وإنما ذكرناه استظهارًا لما قررناه من كون دلالة الآية نفسها على مدعاكم مشكلا وأن الدعاء إلى الله هو الدعاء إلى رسوله، وسياق الآيات واضح في ذلك.
قوله: فإن قلت: ما ذكره الزمخشري ... إلخ.
نقول: تفسير الزمخشري لذلك يجعله من باب أعجبني زيد وكرمه بعد مطابقة المقام لأن المقام للتبكيت على من أعرض عن الدعاء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فبكت الله تعالى عليهم بما يفيد تلك النكتة البديعة. ولا يخفى أن التفسير بما وافق بلاغة القرآن وإعجازه هو المتعين، ولهذا كان الإمام الزمخشري هو المجمع على تفسيره العظيم عند المؤالف والمخالف.
قوله - كثر الله فوائده -: أقول: إن كانت الإشارة في قوله: ويؤيد هذا إلى أسفله من كون الآية .. إلخ.
_________
(1) (4/ 313).(9/4392)
نقول: الإشارة في هذا إلى كلام إمام البيان الزمخشري (1) - رحمه الله - من جعله الدعاء إلى الله تعالى هو الدعاء إلى رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وأن ذلك من باب أعجبني زيد وكرمه لكونه هو المطابق لمقتضى الحال، ولما كان المراد في هذه الآية من الدعاء إلى الله هو الدعاء إلى رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أفرد الضمير (2) أي ليحكم أي: ليحكم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بينهم، وهذا واضح لا يخفى.
قوله - أبقاه الله -: ثم قوله: فلا يثبت هذا الحكم لغير رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلى قوله: يستلزم ما قدمنا ذكره ... إلخ.
نقول: قد أكثر المجيب - غفر الله له - من التهويل بطي بساط الشريعة، والوقوع في مخالفة جميع الأمة، ومخالفة الضرورة الدينية، وغير ذلك، وهو تهويل في غير محله؛ إذ صريح [3ب] كلامنا إنما هو استشكال للاستدلال بالآيتين على المدعي فقط، وأنشده بالله هل يجزم متدين بأن الحكم بالآيتين ثابت على من دعي إلى التحاكم لدى قاض معين من نفي إيمانه حتى يحكمه فيما شجر بينه وبين غريمه، ثم ينتفي وجدان الحرج في نفسه مما قضى، ثم التسليم لذلك، وأن يقول: سمعنا وأطعنا. وقد قدمنا أن من امتنع عن الإجابة إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنادًا كفر بالإجماع ولا كذلك من امتنع عن الإجابة إلى حاكم.
قوله: وأما قوله: إن الخصوص في آية سورة النساء أوضح ... إلخ.
نقول: وجه الأوضحية واضح بما قدمناه قريبًا، ومن ملاحظة المقام الذي لا يكون الكلام بليغًا إلا بمطابقته على وفق مقتضى الحال.
_________
(1) (4/ 313).
(2) قال صاحب " الدر المصون " (8/ 426) قوله (ليحكم) أفرد الضمير وقد تقدمه اسمان وهما: الله ورسوله، فهو كقوله تعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} [التوبة: 62] لأن حكم الله ورسوله هو حكمه.(9/4393)
قوله - عافاه الله تعالى -: أقول: هذا الكلام إنما يرد على من قال بوجوب الإجابة إلى حاكم يحكم بحكم الله تعالى ... إلخ.
نقول: فما عدي مما بدا فإذا قد اتفقنا نحن وإياكم على تكليف الغريم للرحيل من الظلم مع وجود من يحكم بحكم الله تعالى في جهة الخصمين، فما شأن إلزامكم بعد ذلك لمن في بلاده من كملت فيه شروط الاجتهاد المجمع عليها عند أئمتنا - عليهم السلام -!؟ وغيرهم من أئمة الأصول!.
وإن قلتم: إن ذلك دعوى فالعمر هو الشاهد. وهذا الفرس وهذا الميدان. وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان، وملاحة الدينار يظهر فضله في حكه لا في ملاحة نقشه. والمناظرة لم تزل دائرة بين العلماء في جميع الأزمان. والله المستعان.
قوله - كثر الله فوائده -: فنقول: قلتم: وحكم الله تعالى في تلك الحادثة مظنون كل مجتهد ... إلخ.
نقول: قولنا: حكم الله مظنون كل مجتهد صادق على القولين، وهما قول من يقول بالإصابة أو بالصواب، أما من يقول بالإصابة فواضح، وأما من يقول بالصواب فحكم الله هو مظنون للمجتهد في المسائل الظنية لا متيقن له، والفرض [4أ] أن حكم الله واحد والمصيب له غير متعين، فالتعيين له بأنه هذا دون ذاك تحكم ولم نعتبر بهذه العبارة إلا لاحتمالها للقولين. وتقديرنا صحيح عليهما؛ إذ المراد من ذلك أن قول المجتهد لا يلزم التكليف به دون قول المجتهد الآخر بل هما سواء، لأنهما مصيبان إما من الصواب أو الإصابة فجزمكم بأحد الاحتمالين لمدلول عبارتنا فيه ما فيه، وهذه المسألة كما ذكرتم طويلة الذيول، وهي معروفة في جميع كتب الأصول، إلا أنه ليس للخلاف (1) فيها ثمرة،
_________
(1) قال ابن فورك: في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدهما: أن الحق في واحد وهو المطلوب وعليه دليل منصوب، فمن وضع النظر موضعه أصاب ومن قصر عنه فقد الصواب فهو مخطئ ولا إثم عليه، ولا نقول إنه معذور لأن المعذور لن يسقط عنه التكليف لعذر في تركه كالعاجز عن القيام في الصلاة، وهو عندنا كلف إصابة المعين لكنه خفف أمر خطابه وأجر على قصده الصواب وحكمه نافذ على الظاهر. وهذا مذهب الشافعي وعليه نص كتاب الرسالة (ص496).
الثاني: أن الحق واحد إلا أن المجتهدين لم يكلفوا إصابته وكلهم مصيبون لما كلفوا من الاجتهاد وإن كان بعضهم مخطئًا.
الثالث: أنهم كلفوا الرد إلى الأشبه على طريق الظن.
وذهب قوم إلى أن الحق واحد والمخالف له مخطئ آثم ويختلف خطؤه على قدر ما يتعلق به الحكم، فقد يكون كبيرة وقد يكون صغيرة. ومن القائلين بهذا القول الأصم والمريسي وابن علية. وحكي عن أهل الظاهر وعن جماعة من الشافعية وطائفة من الحنفية.
انظر: " إرشاد الفحول " (ص849 - 850)، " المسودة " (ص495)، (البحر المحيط) (6/ 245).(9/4394)
لأن القائل بتخطئة البعض قائل بأنه يثاب المخطئ، ولا مخالف في عدم ثوابه إلا الأصم، وابن علية، والمريسي (1). وقد ذكر العلماء أنهم خالفوا العقل والنقل، ولا أرى إلا أن المخطية يعينون الشيطان في تفريق المذاهب، ونشر العداوة، وجعل الدين عضين، وكل حزب بما لديهم فرحون، لأنهم يقولون الحق مع واحد، ويسكتون عن كون المخطئ مأجورًا. وينبغي التنبه لفائدة ذكرها شيخ الإسلام الوجيه عبد القادر بن أحمد - رضي الله عنه - وهي: أن الأحاديث (2) الواردة في أجر المصيب والمخطئ هي في الحاكم المجتهد، لا في مطلق المجتهد؛ فالحاكم إذا اجتهد وعمل بشهادة عادلة، وقطع بها الحق فقد أصاب حكم الله تعالى، فإن كانت الشهادة زورًا إما لوهم الشهود، أو لنحو ذلك فقد أخطأ الواقع مع إصابته لحكم الله، فإنه تعالى أمره بالعمل بالشهادة بدليل قطعي لا تجوز مخالفته، ولا إثم على من عمل بحكم الله تعالى وأخطأ الواقع، ولذا قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " فإنما أقطع له قطعة من نار " (3) فجعل أحاديث الحاكم وتخطئته في
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) انظر الرسالة رقم (139).
(3) أخرجه البخاري رقم (457) ومسلم رقم (1558) من حديث أم سلمة قالت: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ".(9/4395)
الواقع لا في الحكم دليلا على تخطئة المجتهد، وأنه ليس بمصيب من الإصابة من نصب الدليل على خلاف محل النزاع.
وإذا تقرر أن الخلاف في هذه المسألة لا ثمرة له فلا تشنيع على من ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب من الإصابة، ولا يليق الإنكار عليه [4ب]، ولا يقال في حقه: إنه متقول على الله وعلى رسوله، وإنه جاء برأي فاسد، ومذهب باطل خصوصًا مثل الإمام المهدي أحمد بن يحيى (1) - عليه السلام - فالناس في القطر اليمني عالة عليه، وإن ادعوا خلاف ذلك.
قوله - أبقاه الله -: وقلتم: والاجتهاد - إلى قوله - وأقول: هذه الكلية ممنوعة ... إلى آخر الكلام، وهو قريب من نصف كراسة اشتملت على بيان تفاوت العلماء في الاستنباط، وعلى تقسيم المجتهد لنفسه، ومجتهد يحكم أو يفتي، أو يؤلف، وأنه يشترط في الثاني ما لا يشترط في الأول.
نقول: أما تفاوت العلماء (2) فلا شك في ذلك، وقل أن يترشح أحد من أبناء الزمان
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) انظر " المغني " (14/ 15 - 16).
وقال الحافظ في " الفتح " (13/ 146): قال أبو علي الكرابيسي صاحب الشافعي في " كتاب آداب القضاء " له: لا أعلم بين العلماء ممن سلف خلافًا أن أحق الناس أن يقضي بين المسلمين من بان فضله وصدقه وعلمه وورعه، قارئًا لكتاب الله، عالمًا بأكثر أحكامه، عالمًا بسنن رسول الله حافظًا لأكثرها وكذا أقوال الصحابة، عالمًا بالوفاق، والخلاف وأقوال فقهاء التابعين، يعرف الصحيح من السقيم يتبع في النوازل الكتاب فإن لم يجد فالسنن فإن لم يجد عمل بما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن ثم بالسنة ثم بفتوى أكابر الصحابة عمل به، ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم والمشاورة لهم مع فضل وورع، ويكون حافظًا للسانه وبطنه وفرجه، فهمًا بكلام الخصوم، ثم لا بد أن يكون عاقلا ماثلا عن الهوى، ثم قال: وهذا وإن كنا نعلم أنه ليس على وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات، ولكن يجب أن يطلب من أهل كل زمان أكملهم وأفضلهم.(9/4396)
للنظر في الأدلة إلا وهو متوسع في العلوم النافعة، ويعتقد أنه بلغ إلى رتبة لم يبلغها غيره مع إقامته الدليل على ما ادعاه من تأليفه لمسائل، وتقريره لمباحث، وتحريره لأنظار ونحو ذلك مما يدل البعض فيه على الكل، ولا يشترط في إقامة الدليل على دعواه أن يكون بتصنيف الكتب الكبار، أو بتأليف الرسائل المتعددة، وربما كان ميل بعضهم إلى الخمول، أو عدم الرغوب إلى التأليف فلا يشتهر كاشتهار غيره. وفضل الله تعالى ليس مختصًا بواحد بعينه حتى لا يتجاوزه إلى غيره، ولا يشار بالبيان إلا إليه، ولا تؤخذ أحكام الله إلا منه.
وأما تقسيم المجتهد إلى ما ذكره المجيب - كثر الله فوائده - فهو غريب، وقد أكثر العلامة الجلال في مؤلفاته من تقرير أن العامل بنصوص الأدلة ليس بمقلد ولا مجتهد، قال: وهو الذي كان عليه عامة الصحابة والصدر الأول. وهذا الكلام موافق لما ذهبتم إليه من حيث المعنى، ولكن الجلال لم يجعل العامل كذلك مجتهدًا ولا سيما العمل بالنصوص اجتهادًا، وذلك لأن الاجتهاد هو استفراغ الوسع في تحصيل ظن بحكم شرعي، فالعامل بالنصوص ليس بمستفرغ [5أ] للوسع في ذلك، وكذلك العمل بالأدلة القطعية ليس باجتهاد، بل الاجتهاد أمر خاص فيما تعارضت فيه الأدلة، أو لم يوجد دليل على المطلوب بخصوصه أو نحو ذلك. ثم غير خاف عليكم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد نصب قضاة، وكان في الصحابة من هو أعلم منهم، وقد حكم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بأن أمير المؤمنين عليًا - رضي الله عنه - (أقضى الصحابة) وقد قامت الأدلة أنه أعلم الناس بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. ومع هذا فلم تكن أحكام القضاة الآخرين مع وجوده غير صحيحة ولا متوقفة على اجتهاده، بل مع وجود النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الذي هو أعلم الناس أجمعين، ولولا أن ذلك ظاهر للعالم بالأخبار لوسعنا البحث فيه، وأطلنا ذيوله، ولكن الإشارة كافية في ذلك، وبذلك يندفع ما قرره المجيب - عافاه الله - في آخر البحث.
فقال - أبقاه الله -: إنه لا يحل لأحد أن يقوم في مقام الإرشاد للعباد مع وجود من(9/4397)
هو أعلم منه بالشريعة في عصره وقطره، لأنه يظن في كل من هو أعلم منه أنه يعلم بدليل لا يعلمه ويقدر على استنباط لا يقدر عليه، وهذا يجده كل رجل من نفسه. انتهى كلامه.
وبهذه الطريقة سد المتأخرون من مقلدي الفقهاء أبواب الاجتهاد بعد أئمتهم، لأن الشافعية مثلا لما أحسنوا الظن بالإمام الشافعي قالوا: إنه يعلم بدليل لا نعلمه، ويقدر على استنباط لا نقدر عليه، فما بقي إلا التقليد له، وإذا وجدوا حديثًا صحيحًا يخالف مذهب الشافعي قالوا: من البعيد أن لا يطلع عليه الشافعي، بل قد اطلع عليه ولم يعمل به، إما لعدم صحته عنده، أو لكونه منسوخًا لديه، أو لوجوده لدليل أصح منه وأقوى لم نعلمه نحن ولا اطلعنا عليه، ونحو ذلك من التعصبات والتمذهبات التي يلزم منها طي بساط الشريعة، ومخالفة الأدلة ورد الشريعة المطهرة، وكذا وكذا من ذلكم التهويل [5ب] الذي كررتموا ذكره.
قوله - كثر الله فوائده -: ولكنا نقول يجب عليكم تفويض ما عرض من الشجار ... إلى آخر ما ذكره.
نقول: هذا هو صنيعنا وديدننا، فإنا نجمع الحكام لدينا للنظر في الخصومات، ثم نعرض ما صح على من لدينا من العلماء، فإن وقع خلاف وقفنا الشجار حتى يحصل الاتفاق، ثم نجزم بما حصل الاتفاق عليه بعد التثبت والبحث، هذا إذا كان في حكم، وأما إذا كان على جهة الصلح فالعمدة رضى الغريمين على أي جهة كانت. وأما تكليفنا للغريمين بالوصول إليكم مع وجود المجتهدين لدينا فشيء لم يقم عليه أثارة من علم، ولم يكلف معاذ أهل اليمن الوصول إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وهو سيد ولد آدم، وكذلك غيره من قضاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بل اكتفى بهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأقرهم على أن يحكموا بين الناس، ولم يقل لهم: لماذا تحكمون ولا ترفعون إلينا، لأن عندنا من العلم ما لم يكن عندكم، ونحن نعلم بدليل لا تعلموه، ونقدر على استنباط لا تقدرون عليه، هذا وقد أعطاه الله علم(9/4398)
الأولين والآخرين، وسلك الخلفاء الراشدون بعده هذا المسلك، وكل ذلك تسهيل للأمة من التعسير الذي نهى عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -؛ فإنه لم يبعث إلا بالشريعة السمحة السهلة، وبعد ذلك تعرفون أن قولكم: إن ذلك من كمال العدل، وتمام البر ليس على ما ينبغي، بل تكليف الغريم بما لم يجب عليه من كمال الجور، وتمام العقوق. على أنا - والله - لو نعلم بأن تظلم الغريم من حكامنا لأمر ديني لبادرنا إلى إلزام الغريم بإجابته إلى الخارج عن البريد، ولو نحتمل غرامة مؤنته من بيت المال، إنما نحن نعلم يقينًا أن هرب الغريم من الحكام، ونفوره إلى غيرهم لشهوة نفسانية، ومنافسة دنيوية، وتشوش شيطاني لدواع تظهر لمن يعرف الحقائق، ويميز بين الخطأ والصواب، ويمارس أحوال الناس، ويجرب حوادث الأيام. والله المستعان. [6أ]
قوله: فلا يثبت حكم الحاكم على الخصمين إلا إذا كان مجمعًا على أهليته ... إلخ.
نقول: إن أردتم بالإجماع عليه في مذهب المتشاجرين فقد عرفتم أن المتشاجرين في هذا القطر أكثرهم زيدية، والحاكم المجمع عليه عندهم على المذهب أعز من بيض الأنوق (1). وإن أردتم بالإجماع عليه بين العلماء جميعهم فلا يخفاكم ما على الإجماع من الإشكالات في الأصول. وإن أردتم علماء مدينته أو غالب أهل قطره فلا يفيد.
قوله - كثر الله فوائده -: والذي عندي أن حكام الشريعة - إلى قوله -: فإذا حكم الحاكم بمحض الرأي ظنًا منه أن دليل ذلك الحكم لا يوجد في الكتاب ولا في السنة، ثم وجد غيره النص الدال على ذلك الحكم ... إلخ.
نقول: وهذا الذي عنده - كثر الله فوائده - هو الذي عند بعض العلماء.
_________
(1) قالوا: الأنوق الرخمة، وعز بيضها لأنه لا يظفر به، لأن أوكارها في رءوس الجبال والأماكن الصعبة البعيدة، قال الأخطل:
من الجاريات الحور، مطلب سرها ... كبيض الأنوق المستكنة في الوكر
" مجمع الأمثال " (2/ 390).(9/4399)
قال أي الإمام في الغاية (1): مسألة: اختلف في نقض الحكم إن لم يخالف قاطعًا فقيل بالمنع لفوات مصلحة نصب الحكام، وقيل بالجواز إن خالف نصًا أو حديثًَا، وهو على التخطئة ظاهرًا، انتهى. وإنما لم يذهب الإمام المهدي إلى هذا لأن مذهبه أن كل مجتهد مصيب من الإصابة، ولهذا قال: ولا ينقض حكم حاكم إلا بدليل علمي (2).
قوله - عافاه الله -: لأنا نقول إنه لو كان ذلك كذلك فهما إنما ترافعا إليه ليحكم بينهما بالشريعة المطهرة لا بمحض رأيه ... إلخ.
نقول: قد قدمنا أن غالب المتشاجرين بل جميعهم زيدية المذهب، وهم إنما يترافعون إلى الحاكم ليحكم بينهم بمذهب من قلدوه، ولم يحكموه إلا لظنهم الحكم بذلك، ولو أنه يقال لهم: إن الحاكم الفلاني سيحكم بينكم في هذه الحادثة باجتهاده، وبما أداه إليه نظره، أو يحكم بما يخالف مذهبكم، أو بما يذهب من قلدتموه إلى خلافه لم يرضوا بذلك، ولنفر الغريم وغريمه من ذلك الحاكم، وهذا شيء قد سمعناه عنهم، وشاهدناه منهم، ولا يوقف الغرماء من النفور إذا علموا بذلك إلا الخوف من الحبس والتنكيل ونحو ذلك لأجل ذلك، مع ملاحظة عدم التنفير وجمع القلوب التي أرشد إليها الشارع.
كان بعض أكابر العلماء المحققين وهو من مشائخنا ومشائخكم إذا أداه نظره إلى [6ب] الحكم بما يخالف المذهب نظر إلى من يقول بذلك الذي ذهب إليه من أهل البيت - عليهم السلام - ثم يصدره فيما يحرره من الأحكام، لئلا يظن به المتشاجرون مخالفة أهل البيت - عليهم السلام - في حكمه، وهم لا يريدون منه إلا الحكم بمذهب أهل البيت، مع كون ذلك موافقًا لاجتهاده، وكان بعض شيوخ هذا العلامة إذا ورد إليه سؤال أجاب فيه بأنه إذا كان السؤال عن المذهب الشريف فالأمر على كيت وكيت، وإن كان السؤال عما يترجح لدي فكيت وكيت، فسأله تلميذه عن سبب صنيعه هذا فقال: إن هؤلاء يسألون هذه السؤالات ليس قصدهم بها إلا أن يجاب عنها بالمذهب.
_________
(1) انظر: " مؤلفات الزيدية " (2/ 293).
(2) تقدم ذكره.(9/4400)
قوله: مثلا لو قال لهم القائل أنه قد وقع الإجماع على عدم جواز تقليد الأموات كما نقل ذلك العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في القواعد (1) ... إلخ.
نقول: الذي في الذهن أن السيد محمد بن إبراهيم إنما نقل عن الإمام الهادي - عليه السلام - عدم جواز تقليد الأموات (2)، ثم بكت على من يقلد الهادي بعد موته بأنه مقلد لمن لا يجوز تقليده. وأما نقل الإجماع فلم يكن في الذهن أنه نقله، ولا يظن به ذلك؛ إذ هو بمحل من التثبت في النقل، كيف وقد قال الإمام المهدي في الأزهار (3): والحي أولى من الميت، وهو أجل من أن ينقل ما أجمعت الأمة أو أهل البيت على خلافه.
قوله: لمثل هذا المنصب الذي هو أساس الدين.
نقول: أساس الدين هو اتباع القدم المحمدي في جميع ما جاء به، ونشر العلم، والعكوف على العبادة والجهاد في سبيل الله الذي هو سنام الدين، والنهي عن المنكر، والأمر بالمعروف، وإقامة حدود الله على الوجه المشروع، فمجموع هذا هو أساس
_________
(1) تقدم ذكره.
(2) قال الزركشي في " البحر المحيط " (6/ 297 - 300) فإن قلد ميتًا ففيه مذاهب:
أحدها: وهو الأصح وعليه أكثر أصحابنا كما قاله الروياني، الجواز، وقد قال فيه الإجماع، وأيده الرافعي بموت الشاهد بعدما يؤدي شهادته عند الحاكم فإن شهادته لا تبطل.
الثاني: المنع المطلق: إما لأنه ليس من أهل الاجتهاد، كمن تجدد فسقه بعد عدالته، لا يبقى حكم عدالته. وإما لأن قوله وصف له وبقاء الوصف مع زوال الأصل محال، وإما لأنه لو كان حيًا لوجب عليه تجديد الاجتهاد، وعلى تقدير تجديده، لا يتحقق بقاؤه على القول الأول فتقليده بناءً على وهم أو تردد والقول بذلك غير جائز.
وهذا الوجه نقله ابن حزم عن القاضي، وحكى الغزالي في " المنخول " فيه إجماع الأصوليين.
الثالث: الجواز بشرط فقد الحي، وجزم به إلكيا وابن برهان.
الرابع: التفصيل بين أن يكون الناقل له أهلا للمناظرة، مجتهدًا في ذلك الاجتهاد الذي يحكى عنه، فيجوز، وإلا فلا قاله الآمدي والهندي.
(3) (1/ 111 - مع السيل).(9/4401)
الدين، وليس أساس الدين مجرد وصول قبيلي يدعي في شفعة أو نحوها ليحكم الحاكم له أو عليه. نعم هذا من الدين لا أنه أساس الدين.
قوله: وأما إذا كان ذلك المتأهل الذي قضى بالرأي ... إلخ.
نقول: العمل بالرأي المحض غير صحيح، وحديث معاذ (1) مع ضعفه ظني لا ينهض في محل النزاع، والمسألة أصولية لا يثبت بالظنيات كما علم، فالحاكم الذي لم يجد إلا الرأي لم يكلفه الله بالتشريع لعباده، ولا أذن له في ذلك، ولا أوجب عليه الحكم في كل جزئي من جزئيات المتشاجرين، فإذا وقع مثل ذلك فلا وصمة عليه أن يقول: لا علم لي [7أ] بذلك، اذهبوا إلى غيري، بل هو من كمال العلم، ومزيد الورع، وشدة التقوى، وتمام البر. وقد قال بعض السلف: من ترك لا أعلم أصيبت مقاتله. وما أحسن ما قيل:
قد كان لا أدري (2) لهم في دينهم ... تلبية بل كانت عمود نصابه
وقد كانت الفتوى تدور في أيام الصحابة حتى ترجع إلى الأول.
قوله: وأما الاستناد في الأحكام الشرعية إلى الأعراف المألوفة ... إلخ.
نقول: مرادنا بالأعراف المألوفة الإشارة إلى أحد القواعد الكلية التي يذكرونها أئمة الأشباه والنظائر في قواعد الفقه، وهي أن العادة محكمة، وفرعوا عليها مسائل كثيرة. وقد بسط الكلام عليها الحافظ السيوطي (3)، وصدر الدين ابن الوكيل (4) في كتابيهما:
_________
(1) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف.
(2) وحكي أن مالكًا سئل عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين منها: لا أدري. ولم يخرجه ذلك عن كونه مجتهدًا.
وقيل: من يجيب في كل مسألة فهو مجنون، وإذا ترك العالم: لا أدري أصيبت مقاتله. انظر: " المغني " (4/ 16).
(3) في " الأشباه والنظائر " (ص119).
(4) في " الأشباه والنظائر " (1/ 165).(9/4402)
الأشباه والنظائر. ومن الأعراف المألوفة لحكام زماننا ما صاروا يعتمدون عليه في مثل مسألة بيت العاضي، وهي شركة الأولاد في الكسائب مع أبيهم من جعلهم ذلك نصفًا على النفقة، ونصفًا على التركة، وهذا هو الذي ذكرنا في الجواب عليكم أن دلالة الآيتين لو تمت فإنما تدل على وجوب الإجابة إلى الحاكم بحكم الله في تلك الحادثة، وشجار بيت العاضي لم يكن الحكم فيه إلا بما عرفتم، ولم يستند الحكم إلى دليل يخصه من كتاب أو سنة. وقد ورد " أنت ومالك لأبيك " (1) فكان الأولى العمل به، ولا يعدل إلى الرأي إلا بعد فقدان النص كما قررتم سابقًا.
منحوه بالجزع السلام وأعرضوا ... بالغور عنه فما عدى مما بدا
قوله: وأما ما ذكره الحاكم في المجتهد الذي لا يتولى النظر بنفسه ... إلخ فينبغي أن يفصل في ذلك فيقال ... إلخ.
نقول: هذا كلام حسن، ولكن الواجب أن المأمون ينفذ إلى محل الشجار ينظره ويصف لكم كيفية تحضره الغرماء جميعهم ليصدقوه أو يكذبوه، ثم ترجحون ما أدى إليه نظركم. وأما أنه ينفذ إلى محل الشجار، ثم يرقم ما يريده ولا يجيء إليكم إلا بورقة محررة، وغاية ما تصنعونه أن تعلموا على تلك الورقة من دون استفصال لشيء، أو تستفصلون من المأمون من دون حضور الغرماء، أو في حضورهم. ولا يلتفتون إلى كلامهم، فلا ينبغي الركون على المأمون، فكم أمين رأينا غير مأمون فيأكل أموال الناس وأنتم لا تشعرون، وحاشاكم أن ترضوا [7ب] بذلك، وأن تعلموا به وتغضوا عنه، فإنا نعلم قطعًا أنه لم يأت حاكم في الدولة القاسمية مثلكم، ولا جمع حاكم ما جمعتموه من الفضائل، ولله الحمد.
قوله: أقول: قد ذكرت في هذه الأبحاث غير مرة إلى آخر كلامه.
نقول: لفظ كلامنا الذي أجبنا به عليكم هو قولنا: ولو صح لمجتهد في وجوب الإجابة
_________
(1) تقدم تخريجه مرارًا.(9/4403)
إلى غير الجهة ... إلخ، فمرادنا بذلك أن المجتهد لا يلزم الغير اجتهاده، وهذا مجمع عليه عند الكل.
وأما الحاكم فلا يلزم اجتهاده غيره إلا بعد حصول شرائط التداعي بين الخصمين، فالمراد من ذلك أنه إذا كان اجتهادكم وجوب إجابة المدعي إلى الحاكم الخارج عن البريد مع وجود حاكم معتبر في البلد، فإن هذا الاجتهاد لا يلزم غيركم، سواء كان الغير مجتهدًا أو مقلدًا.
أما إذا كان مجتهدًا فهو لا يجوز له العمل باجتهاد غيره، وأما إذا كان مقلدًا فهو إنما قلد إمامه ولا إنكار على من فعل ما يجوزه إمامه.
قوله: الحكام المتصفون بهذه الصفة ... إلخ.
نقول: نعم. إذا كان الأمر على ما وصفتم فقد أحسنتم، ولكنه لم يبلغنا إلا أن كل من نصب في صنعاء وغيرها يحكم فيما يريد، ولا يتوقف على أمر دون آخر بل قد يصل المتظلم شاكيًا إليكم من الحاكم الذي ظلمه فتجيبون عليه أنه قد تقلد بكم حاكم خصوصًا إذا كان من كبارهم، ولا ينقضون حكمًا من حاكم خالف اجتهادكم مع كونه مقصرًا مقلدًا. هذا الذي تواتر عنكم ولم ينقم عليكم إلا هذا، وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه.
قوله - كثر الله فوائده -: وأما ما لمحتم إليه ... إلخ.
نقول: قد عرفتم أن الأحاديث كلها مقيدة لوجوب الطاعة بما لم يكن إثمًا، وأي إثم أعظم من أكل أموال الناس بالباطل! الذي أطبقت الشرائع كلها على حرمته!؟.
وعلى الجملة إن تحسين الألفاظ، وحسن المسلك في الاستدلال مع المعرفة للحقيقة لا ينفع بين يدي الله تعالى، والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
حرر صبح الأحد 13 شهر شعبان الكريم سنة 1218. [8ب](9/4404)
الذريعة إلى دفع الأجوبة المنيعة على الأبحاث البديعة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(9/4405)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " الذريعة إلى دفع الأجوبة المنيعة على الأبحاث البديعة ".
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي أرشد إلى الهداية، وأوضح طرائق الحق بما علم من علم الرواية والدراية ... "
4 - آخر الرسالة: " وأنه قد يتمكن من وجود الدليل في المواطن التي لم تكن بيد غيره فيها إلا محض الرأي.
وفي هذا المقدار كفاية إن شاء الله ".
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 15 صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة 27 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(9/4407)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرشد إلى الهداية، وأوضح طرائق الحق بما علم من علم الرواية (1) والدراية (2)، وجعل الإنصاف في مواضع الخلاف والاعتراف بالحق، لا الاعتساف من سيما المتقين، وشمائل المتورعين، والصلاة والسلام على من قال: " أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس " كما أخرجه الحاكم في مستدركه، وصححه، وعلى آله الذين دانوا بقبول الحق، وتنكبوا مزالق الجدل، ووقفوا عند الشبه، وبعد، فإنها وصلت الجوابات (3) المنيعة المكتوبة على جوابي الذي سميته بالأبحاث البديعة (4) في وجوب الإجابة إلى حكام الشريعة، ورأيتها مع رصانة أبحاثها، ومتانة معانيها، وقوة مبانيها محتاجة إلى إيضاح بعض ما تضمنته معاونة على البر والتقوى فأقول:
قوله - كثر الله فوائده -: فهي لم تفد في حل ما أشكل من الأبحاث المسددة ... إلخ.
أقول: ينبغي هاهنا أن يحرر حاصل سؤال السائل، ثم جوابي الأول عليه، ثم جواب
_________
(1) علم الحديث رواية: هو علم يشتمل على أقوال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأفعاله وتقريراته وصفاته وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها، وموضوعه هو ما أضيف إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو الصحابي أو التابعي فإنه يبحث في هذا العلم عن روايتها وضبطها ودراسة أسانيدها ومعرفة كل حديث أنه صحيح أو حسن أو ضعيف، كما أنهم يبحثون في هذا العلم عن معنى الحديث وما يستنبط منه من الفوائد.
" تدريب الراوي " (1/ 21).
(2) قال ابن جماعة " علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن ".
وقيل: " علم يعرف منه حقيقة الرواية، وشروطها، وأنواعها وأحكامها وحال الرواة، وشروطهم وأصناف المرويات وما يتعلق بها ".
انظر: " تدريب الراوي " (1/ 22)، " منهج النقد في علوم الحديث " (ص30 - 33) نور الدين عتر.
(3) الرسالة رقم (140).
(4) الرسالة رقم (139).(9/4411)
السائل على جوابي على السؤال.
أما تحرير سؤال السائل فحاصله أنه سأل هل يكلف الغرماء بالإجابة إلى حاكم خارج عن الجهة التي هم فيها مع وجود الحكام فيها؟ ثم قال - أطال الله بقاءه - بعد هذا السؤال ما لفظه: فإذا لديكم وجه شرعي مسوغ للإجبار على ذلك، وتكليف الغرماء للحضور إلى خارج البريد أجبتم بالإفادة به، وسنقلدكم في ذلك، ويجعل عذرًا لنا عند الله لما أنتم عليه من الاجتهاد والتضلع من العلوم، ولا يركن على غيركم من الحكام أصلا، انتهى. فهذا حاصل السؤال.
وأما حاصل جوابي على هذا السؤال فهو: أن الجهة التي فيها [1أ] الغريمان إن كان فيها حاكم يحكم بما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، ويعلم من علم الشريعة ما يبلغ به إلى رتبة الاجتهاد فلا تجب الإجابة إلى غيره، وإن لم يكن فيها من هو كذلك وجبت الإجابة إلى حاكم يتصف بتلك الصفة.
وأما حاصل ما أجاب به على الجواب فهو المناقشة في بعض ما أوردته من الأدلة في جواب السؤال، ثم الرجوع إلى الكلام على أن في جهة السائل - كثر الله فوائده - حكامًا مجتهدين، وأن الإجابة إلى غيرهم من الحكام الذين هم خارجون على الجهة لا يجب، ثم ذكر مباحث آخرة خارجة عن ذلك، فكان الجواب مني على ذلك الجواب الذي هو جواب عن جواب السؤال بدفع ما أورده من المناقشة على ما أوردته من الأدلة ثم بالتصريح مرة بعد مرة بأن الإجابة مع وجود الحاكم المجتهد في الجهة التي لا تجب، وكررت هذا في ذلك الجواب الذي سميته " الأبحاث البديعة في وجوب الإجابة إلى حكام الشريعة " (1) تكريرًا كثيرًا، وأوضحت أن جوابي الأول لم يكن فيه ما يدل على وجوب الإجابة مع وجود حاكم مجتهد في الجهة لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، بل فيه التصريح بعدم الوجوب، وأن القول بالإجابة - والحال كذلك - مخالف للشريعة. وأحلت
_________
(1) الرسالة رقم (139).(9/4412)
السائل - عافاه الله - على جوابي الأول ليعلم أن ما أورده في جواب الجواب لم يصدر عن تدبر.
وإذا تقرر هذا فكيف يقول هاهنا أن الجواب لم يفد في حل ما أشكل، وهو قد أفاده مرة بعد مرة، فعليه - أدام الله فوائده - أن يتدبر سؤاله، ثم جوابي الأول عليه، ثم ما حرره وحررناه بعد ذلك، هذا إذا كان مراده بالأبحاث المسددة مضمون السؤال وما يتعلق به، وإن كان مراده بها ما أورده على جوابي من عدم انطباق دلالة الدليل على المدلول فقد أوضحته إيضاحًا يفهمه كل فاهم، ويعرفه كل عارف.
فإن قال: هذا [1ب] الذي تزعمه واضحًا لم يتضح لي، فنقول: كان ينبغي أن يطلب - عافاه الله - زيادة الإيضاح، ويدع ما جزم به من عدم الإفادة بادي بدء، اللهم إلا أن يريد أن نفي الإفادة لم يكن باعتبار الواقع، ولا باعتبار أصل الكلام، ولا بالنسبة إلى كل المستفيدين، بل بالنظر إلى من يحتاج إلى زيادة الإيضاح، وتكرير التصوير، وتكميل التمثيل، فسيأتي في ذلك ما يفيد السائل - كثر الله فوائده - بهذا الاعتبار، ومن هذه الحيثية.
قوله - كثر الله فوائده -: ولا يخفى المجيب أن ملخص الجواب الذي أجبنا به عليه ... إلخ.
أقول: الجواب الذي وصل إلينا مشتمل على أطراف ثلاثة:
الطرف الأول: قال السائل فيه ما لفظه: فلا يثبت هذا الحكم لغير رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلا بالقياس، وللمانع إبداء الفارق، انتهى.
وهذا الكلام مصرح باختصاص ذلك برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وعدم إلحاق غيره به في ذلك، إلا بمجرد القياس الممنوع بإبداء الفارق الموجب له طلاق الإلحاق فكانت المؤاخذة منا على هذه العبارة التي يفهم مضمونها كل ناظر فيها مع أنا لا نظن به أن يكون قائلا بذلك، بل هو بمكان مكين من العدل والدين. وقد أشرنا إلى هذا في " الأبحاث البديعة " ولكنا أوردنا على الكلام ما يحتمله كما جرت بذلك قاعدة المتناظرين(9/4413)
في العلم، ولم يكن إيراد ما أوردناه على من قال بأنها لا تجب الإجابة إلى حاكم خارج عن الجهة مع وجود حاكم مجتهد فيها، وكيف يورد ذلك على شيء قد جزمنا به غير مرة، وارتضينا، فما معنى قوله - كثر الله فوائده -: بل كتب أئمتنا وغيرهم مصرحة بعدم وجوب الخروج (1) إن أراد بهذا المغالطة فهو أجل من ذلك، وإن أراد التهويل على المجيب فهو لا يهاب إلا الدليل، لا القال والقيل.
قوله - عافاه الله -: لأنه لم يتعرض لذكر مصب الغرض ... إلخ.
أقول: سبحان الله وبحمده، تعرضنا له في الجواب الأول الذي بخطي لديكم، وتعرضنا له في الأبحاث البديعة مرة بعد مرة، فما هذا الإنكار؟ وأين الإنصاف؟.
قوله - عافاه الله -: هذا الترديد ليس واردًا من أصله ... إلخ.
أقول [2أ]: لم أسمع إلى الآن في علم المناظرة بأنه يجاب عن سؤال الاستفسار بمثل هذا الجواب؛ لأنه في حكم سؤال مستقل، فكيف يقال لا يرد، فإنه لو جاز دفع الأسئلة بمثل هذا لاستراح كل مسئول، ثم لو فرضنا أن هذا السؤال لم يحرر هذا التحرير بل حرر تحرير النقص الإجمالي أو التفصيلي، أو المعارضة فهو ناشئ عن منشأ صحيح مقبول؛ لأنكم قلتم: إن الآيتين مختصتان برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فلو فرضنا أنه لم يكن في كلامكم إلا هذا فقط لصح أن يقال: هل لغيره بعد موته حكمه في هذا الأمر أم لا؟ فهل يقال هذا الترديد غير وارد على مثل هذا الكلام على فرض أنه لم يكن في الكلام سواه، فكيف وقد صرحتم بأن ذلك مختص برسول الله، ولا يلحق به
_________
(1) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (3/ 476 - 477):
ولكن إنما تجب الإجابة بشرطين:
1 - أن يكون الحاكم الذي طلب إليه جامعًا للشروط السابقة وإلا فهو ليس بحاكم بل متوثب على ما ليس له، داخل فيما لا يحل له الدخول فيه قاعد في مقعد يجب من باب النهي عن المنكر إقامته منه.
2 - أن لا يكون في طلب الوصول إلى الحاكم الذي طلب الوصول إليه إضرار بالخصم وإتعاب له إذا كان يمكن وجود غيره بدون ذلك.(9/4414)
غيره إلا بقياس قد اعترفتم ببطلانه.
قوله: فاللام فيها حرف تعريف اتفاقًا ... إلخ.
أقول: المطلوب بيان هذا الاتفاق بنقل صحيح صريح، فإن ما كان مشتقًا إذا لم يقصد به الحدوث جاز اعتبار أصله، وهو الصفة، وجاز اعتبار ما هو عليه عند عدم القصد، ولا أظن أحدًا من علماء هذا الشأن ينكر هذا، بل قد صرحوا بجواز اعتبار المعنى الوصفي في الصفات التي قد صارت أعلامًا، فكيف بالصفات التي لم تصر أعلامًا بل استعملت استعمال غير المشتقات. قال المحقق الرضي في شرح الكافية (1) ما لفظه: والدليل على إمكان لمح الوصفية مع العلمية قولهم: " إنما سميت هانئًا لتهنأ " (2) وقول حسان (3):
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد (4)
ثم تكلم بكلام (5) طويل قبل هذا أو بعده فليراجع، بل قد أجاز جماعة من النحاة أن يكون الاسم الجامد المعرف باللام موصولا، قال الرضي في شرح الكافية (6) أيضًا ما لفظه: وقد ذهب أهل الكوفة إلى أنه يجوز أن يكون الاسم الجامد المعرف باللام موصولا
_________
(1) (1/ 129).
(2) وهو مثل يضرب في الحث على العطاء.
" جمهرة الأمثال " (1/ 513)، " لسان العرب " (1/ 186).
(3) وهو حسان بن ثابت.
انظر: ديوانه (ص338).
(4) والشاهد فيه: أنه يمكن ملاحظة الوصف مع العلمية، أي يمكن أن نلمح بعد العلمية الوصف الذي كان في الاسم قبل جعله علمًا، فـ (محمد) وضع علمًا لنبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع ملاحظة معناه في اللغة وهو كثرة خصاله الحميدة.
(5) أي " الرضي " في " الكافية " (1/ 128 - 129).
(6) (3/ 97 - 98).(9/4415)
قالوا في قوله:
لعمري [لنعم] (1) لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالأصائل
إن التقدير: لأنت الذي أكرم أهله. وعند البصريين أن اللام [2ب] غير مقصود قصده، والمضارع صفة له كما في قوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني (2) انتهى.
فإذا جاز اعتبار الوصفية في الأعلام المنقولة من الصفات، فكيف لا يجوز اعتبارها في الصفات الباقية على ما هي عليه من دون نقل! وكيف لا يجوز أن يقال الرجل الكافر، أو الرجل المؤمن، أو الكافر بالله، أو المؤمن بالله، فإنه لا شك أن الكافر والمؤمن إذا وقعا صفات لموصوف، أو تعلق بهما ظرف من الظروف الحقيقية أو المجازية كان ذلك رجوعًا إلى معنى الحدوث والاشتقاق، فكيف يقال: لا يكون التعريف الذي فيهما موصولا! وقد جاز أن يكون التعريف في الجامد البحث موصولا عند طائفة من النحاة! وكيف يدعى الاتفاق في مثل هذا! وقد أشار السائل - كثر الله فوائده - إلى أن السعد بسط ذلك في حاشية الكشاف، فإن كان ذلك البسط إنما هو باعتبار جواز كون التعريف فيهما غير موصول في حال عدم ملاحظة الوصفية فهذا قد ذكره الجمع الجم من أهل الفن، وإن كان السعد قد ادعى الاتفاق كما ادعاه السائل فهذه الدعوى باطلة مردودة على ناقلها كائنًا من كان.
قوله - كثر الله فوائده - وأما تقرير العموم بانهدام الجمعية، ومصير الصيغة شاملة محيطة فلا حاجة إليه ... إلخ.
_________
(1) زيادة من الكافية.
(2) وهو من (الكامل) لرجل من سلول في " الدر " (1/ 78).
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
وقيل لشمر بن عمرو الحنفي. " الأصمعيات " (ص126).
وبلا نسبة في " الأشباه والنظائر " (3/ 90) و" مغني اللبيب " (1/ 102)، " لسان العرب " (12/ 781).(9/4416)
أقول: ليس ذلك تقريرًا لمجرد العموم، بل هو تقرير للشمول التام والإحاطة، وقد صرحت بهذا في الأبحاث البديعة، بل صرح به السائل - عافاه الله - في كلامه هذا الذي نقلناه عنه، ولعله لم يخطر ببال السائل - عافاه الله - عند تحرير هذا الكلام ما في التلخيص حيث قال: واستغراق المفرد أشمل بدليل صحة: لا رجال في الدار، إذا كان فيها رجل أو رجلان دون لا رجل، انتهى. وقد شرحه السعد في المطول بشرح طويل.
فالمراد بقولنا: وانهدام الجمعية ومصير الصيغة جنسية (1) شاملة محيطة الإشارة إلى هذا المعنى، فإن الجمع لو لم ينهدم لم يكن محيطًا بل يكون عمومه متناولا للجموع لا لكل فرد فرد. وقد أحلت السائل في الجواب الأول على علم المعاني، ولكنه لم يتدبر الكلام كما ينبغي، وبادر بالاعتراض [3أ] قبل التأمل فإنه لو فهم مدلول قولي: شاملة محيطة لم تحتج إلى تحرير هذا الاعتراض. وقد ذكر أهل العلم أن المعترض غير معذور إذا كان للكلام المعترض عليه وجه صحة، فكيف يعذر إذا كان الكلام مشتملا على ما يدفع الاعتراض اشتمالا في غاية الوضوح والجلاء!.
قوله - كثر الله فوائده -: قال الله تعالى بعد تلك الآيات في آخر السورة: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} (2) ... إلخ.
أقول: محل النزاع هو الدعاء الكائن من بعض الأمة لبعض إلى الرسول ليحكم بينهم بالشريعة، كما يدل عليه قوله تعالى: {وإذا دعوا إلى الله} وقوله: {حتى يحكموك}. وأما دعاء الرسول فهو شيء آخر سواء كان ذلك من باب إضافة المصدر إلى الفاعل أو إلى المفعول.
قوله - عافاه الله - ومن امتنع عن الإجابة إلى حاكم كامل الشروط بالإجماع لم يكفر
_________
(1) انظر " معترك الأقران في إعجاز القرآن " (2/ 56 - 57).
انظر: " البحر المحيط " (3/ 93)، " اللمع " (ص15).
(2) [النور: 63].(9/4417)
بالاتفاق.
أقول: المطلوب صحة النقل، فإن دعوى الاتفاق هنا فائدة إن صحت؛ لأن رد القطعي فضلا عن الضروري الديني له حكم معروف. وإذا نقلتم البحث إلى هذا بعد تصحيح تلك الدعوى تكلمنا فيه.
قوله - كثر الله فوائده -: إن أراد ما ذكره دليل على صحة الاستدلال بالآيتين ... إلخ.
أقول: لا وجه لترديد ما أردناه بعد أن أوضحنا ما هو مرادنا قبل هذا الكلام وبعده، وصرحنا بأن تخصيصه في الآيتين الكريمتين ليس إلا لكونه صاحب الشرع، فهو كسائر الخطابات العربية التي يخص بها كبير قوم في شيء يعمهم، وهذا معلوم في لغة العرب.
قوله - عافاه الله -: ولم يؤثر عن أحد من قضاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يوجب على المتشاجرين الوصول إليه ... إلخ.
أقول: هذا هو الذي نريده؛ لأن كلامنا في إيجابه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للإجابة إلى قضاته في الأقطار كالإجابة إليه، ولو لم يكن حكمهم حكمه في ذلك (1) لما بعثهم، ولا أوجب الإجابة إليهم. وقد أوضحنا ذلك في تلك الأبحاث فهذا القلب لا يقبله القلب.
قوله - كثر الله فوائده - قد تقرر في الأصول عند الجماهير من أئمتنا وغيرهم أن الخطاب الخاص بالرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا يتناول الأمة ... إلخ (2).
أقول: الانتقال إلى مسألة الخطاب خروج عن البحث، أو مغالطة، ومقصودنا أن أمته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أسوته في وجوب الإجابة [3ب] إلى القائمين بالهداية والبيان للناس كما كانت إليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وهذا هو مذهب أئمتنا والجمهور، ولم يذهب إلى الاختصاص إلا ................................................................
_________
(1) تقدم في الرسالة رقم (139).
(2) تقدم في الرسالة رقم (139).(9/4418)
الكرخي (1) ومن بايعه، فقالوا: يختص بالرسول حتى يقوم دليل الشركة. وأما ما ذكرتم من أن تلك الآيات التي ذكرناها قد قامت الأدلة الخارجية على عمومها فأوضحوا لنا هذه الأدلة الخارجية حتى نبين لكم صدق ما قلناه من أن كل دليل يفرض في تلك الآيات فمحل النزاع مثله.
قوله: الذي تقرر في الأصول عند أئمتنا وغيرهم من جماهير العلماء أن خطاب الواحد لا يكون للعموم ... إلخ (2).
أقول: إن أردتم أنه لا يعم باعتبار الصيغة فلا نخالفكم في هذا، وإن أردتم أنه لا يعم لا من حيث الصيغة، ولا من حيث الأدلة الدالة على العموم كقوله: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة، وكقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ما قولي لامرأة واحدة إلا قولي لمائة امرأة " (3) فباطل، بل خلاف الإجماع، وهذا الوجه الآخر هو الذي
_________
(1) انظر " البحر المحيط " (3/ 189).
قال في " البحر المحيط ": واعلم أن مثل هذا الخطاب نوعان:
نوع مختص لفظه بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكن يتناول غيره بطريق الأولى كقوله: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك} [التحريم: 1].
ثم قال: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم: 2].
وقوله: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} [الطلاق: 1].
ونوع يكون الخطاب له وللأمة، وأفرده بالخطاب، لكونه هو المواجه بالوحي وهو الأصل فيه. والمبلغ للأمة والسفير بينهم وبين الله، وهذا معنى قول المفسرين: الخطاب له، والمراد غيره ولم يريدوا بذلك أنه لم يخاطب بذلك أصلا كما يقول السلطان لمقدم العساكر: اخرج غدًا، أو انزل بمكان كذا.
ومنه قوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء: 79].
وقوله تعالى: {وأرسلناك للناس رسولا} [النساء79].
(2) تقدم. انظر الرسالة رقم (139).
(3) تقدم تخريجه مرارًا.(9/4419)
أردناه في تلك الأبحاث، فإنما قلنا إن الخطابات لواحد تعم، ولم نقل أن ذلك العموم مستفاد من الصيغة حتى يرد ما اعترضتم به، فكان عليكم أن تقولوا إن أراد المجيب كذا فمسلم، وإن أراد كذا فممنوع، كيف وقد أوضحت هذا المراد بقولي بعد ذلك: ولا يقدح في ذلك تخصيصه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالخطاب! فإني لو أردت العموم من حيث الصيغة لكان هذا التخصيص قادحًا وأي قادح!.
قوله: قال: نهاني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن القرآن في الركوع والسجود.
أقول: هذا عليكم لا لكم، فإنه لو كان الخطاب للواحد خاصًا على كل تقدير لم يحتج - كرم الله وجهه - إلى أن يقول هذا، بل كان فهم العرب على مقتضى لغتهم يغني عن هذا البيان، فلم يقل هذه المقالة إلا دفعًا لما يفهمه السامعون من كون غيره له حكمه في ذلك، وهذا واضح لا سترة به.
قوله: التحكيم باب آخر ... إلخ.
أقول: لعله - كثر الله فوائده - لم يتدبر ما ذكرناه في هذا الوجه، فإنا قلنا في آخره ما لفظه: فإذا كانت الإجابة لدعوة من دعى إلى التحكيم واجبة فكيف لا تجب إجابة من دعى إلى حاكم من حكام الشريعة، انتهى!. فهذا الكلام هو في قوة القياس بفحوى الخطاب، فكيف غاب عنه - عافاه الله -!.
قوله - كثر الله فوائده -: فقول المجيب: لا خلاف فيه بين المسلمين غير مسلم ... إلخ.
أقول: ما كان من أفعاله جبليًا (1) يعلم كل من لديه علم أنه غير مراد، ولا يحتاج [4أ] إلى إخراجه إلا إذا كان الكلام مع من لم يعرف كلام أهل الأصول، وأما الخاص فقد أخرجناه في تلك الأبحاث.
_________
(1) انظر الرسالة رقم (140).(9/4420)
وأما ما ذكرناه من الإجماع فقد صرح به أهل الأصول عند تحرير الأدلة في هذه المسألة فقالوا: إن السلف كانوا يرجعون إلى فعله من دون تخصيص، ولم ينكر عليهم أحد فكان إجماعًا. وهذا موجود منصوص عليه في كتب الأصول (1) فليراجعها السائل - عافاه الله - حتى يعلم أنا لم نتكلم في ذلك إلا بما تكلم به غيرنا.
قوله: لأن المقام للتبكيت ... إلخ.
أقول: التبكيت لهم قد حصل بجعل الدعوة إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مقترنة بالدعوة إلى الله، ولا يختص حصول هذا المعنى بما قاله الزمخشري (2) من جعل الكلام من باب أعجبني زيد وكرمه، بل قد حصل النعي عليهم، والتبكيت لهم بأن هذا الرسول الذي لا يجيبونه الدعوة إليه كالدعوة إلى الله تعالى للعطف المؤذن بذلك إيذانًا يفهمه من يفهم أسرار كلام العرب كما يقول القائل: من كان صادق الطاعة لهذا الملك فليلب دعوته عبده، فإن في هذا الاقتران من رفع شأن العبد، والتبكيت على من لم يجب دعوته ما لا يقادر قدره، ولا يتوقف حصول ذلك على كون تلك الدعوة إلى الملك هي الدعوة إلى العبد، بل قد يفوت هذا المعنى السري بذلك، لأنه لم يكن على هذا التقدير اقتران بين الدعوتين وإن وقع بين المدعوين صورة، فإذا انضم إلى هذا فائدة التأسيس مع سلوك أقرب المجازين كان ذلك أدخل في بلاغة الكلام، وأتم وأبهج لا جرم الزمخشري كما ذكرتم هو المجمع على تفسيره، ولا سيما وقد تقدم عصره قبل هذا العصر بنحو سبعمائة سنة.
قوله - كثر الله فوائده -: الإشارة في هذا إلى كلام إمام البيان الزمخشري ... إلخ.
أقول: يأبى هذا الحاكم بالكتاب على تقدير أنه المراد بالدعوة إلى الله هو رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - والترافع هو إليه، فإفراد الضمير هو كائن على كلا
_________
(1) انظر " إرشاد الفحول " (ص158)، " البحر المحيط " (4/ 179).
(2) في " الكشاف " (4/ 313).(9/4421)
التقديرين فلا يكون الإفراد مؤيدًا لكون ذلك من باب أعجبني زيد وكرمه، ويأبى ذلك أيضًا قول السائل - كثر الله فوائده -: عقب ذلك: فلا يثبت هذا الحكم لغير رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلا بالقياس ... إلخ؛ فإن هذا هو كالنتيجة لذلك التأييد، ومعناه أنه لا يثبت لغيره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من الناس ما ثبت له، ولو كان ذلك تأييدًا لما قاله الزمخشري لكان المناسب أن يقول فلا يثبت ذلك لله - سبحانه -، ويأبى ذلك أيضًا قول السائل - عافاه الله - عقب ذلك، وهكذا يقال في آية سورة النساء، فإنه لا يصح [4ب] أن يقال في هذه الإشارة كما قيل في الإشارة الأولى، لأن ما في سورة النساء ليس فيه ذكر الدعوة إلى الله، ولا التحكيم له، وإن كان يريد أن الإشارة إلى ما قاله من الاختصاص به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - دون غيره من الناس كان الكلام غير متناسب الأطراف، ولا متلائم الضمائر والإشارات، والأمر في مثل هذا سهل، ولكن لما قال - عافاه الله - إن ذلك واضح لا يخفى أردنا أن نبين له ما فيه من الخفاء وعدم الوضوح.
قوله: وأنشده بالله هل يجزم متدين ... إلخ.
أقول: إن كان هذا التشديد والتهديد الكائن في الآيتين الكريمتين هو لرفع منار الشرع الذي شرعه الله في محكم كتابه، وعلى لسان رسوله، فهو باق بين أيدينا، والتعبد به مستمر، وليس تعبد السلف به يخالف تعبد الخلف فالسمع والطاعة، وكذلك عدم الحرج والتسليم ليست للقاضي بل للشريعة التي هي كتاب الله وسنة رسوله، وليس هذا التشديد تعظيمًا بالنسبة إلى عظم الشريعة المطهرة التي هي سبب الفوز بالجنة، والنجاة من النار، فكيف لا يجزم المتدين على من حكم عليه بما شرعه الله أنه لا يكون مؤمنًا حتى يسمع ويطيع ويسلم لحكم الله غير متحرج ولا متأسف، وإن كان ما في هاتين الآيتين ليس المقصود به إلا تعظيم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وتعريف الأمة بما يجب له من الحق، فقد عرفوا من حقه ما هو أدخل من ذلك في التعظيم، فإن الله - سبحانه - قد أخبرهم أنه أولى بهم من أنفسهم، ولم نقل ولا قال(9/4422)
أحد من الناس أن ما في هاتين الآيتين تعظيم للقاضي، وتشييد لأمره، فإنه لو حكم بغير الشرع لم يستحق أن يقال له: سمعنا وأطعنا، بل يستحق أن يقال له: لا نسمع ولا نطيع، وحكمك رد عليك، ومضروب به في وجهك؛ فالسائل - عافاه الله - إنما استبعد هذا الاستبعاد حتى ناشد المسئول هذه المناشدة، لأنه ظن أن القاضي المسكين لا يستحق أن يكون من خاصم إليه غير مؤمن حتى يحكمه ويسلم لحكمه، ويسمع ويطيع غير متحرج.
وهكذا نقول: ومن هو القاضي حتى يكون له هذا الشأن؟ وإنما قلنا: إن السمع والطاعة والتسليم وعدم الحرج للشريعة المطهرة لا القاضي.
قوله - كثر الله فوائده [5أ]-: فما شأن إلزامكم بعد ذلك لمن في بلاده من كملت فيه شروط الاجتهاد ... إلخ؟.
أقول: ومتى ألزمت مع وجود من هو كذلك، فبالله عليكم! أخبروني أين أوجبت ذلك ومتى قلته؟ فإن جوابي الأول لديكم، وكذلك الرسالة (1) المسماة بالأبحاث البديعة، وقد ذكرت فيها قبل نقل كلامكم ما لفظه: فاعلم أن خلاصة ما أجبت به في الجواب المشار إليه سابقًا عن السؤال المتقدم ذكره هو أن المحل الذي سكنه الخصمان إن كان فيه من يتمكن من الحكم بينهما بالشريعة المطهرة على الوجه الذي لخصناه هاهنا فلا يجوز لأحدهما أن يطالب الآخر بالخروج إلى قاض آخر في مكان غير المكان الذي يسكنانه، لأن ذلك مجرد إتعاب، ومحض مشقة.
انتهى بلفظه وحروفه. فهل وجدتم هذا في النسخة التي أرسلتها إليكم أم لا؟ ثم هل كررت هذا المعنى بعد ذلك بقليل في سؤال الاستفسار، ثم ذكرت عند الكلام على الوجه الثاني من كلامكم ما لفظه: هذا الكلام إنما يرد على من قال بوجوب الإجابة إلى حاكم يحكم بحكم الله - سبحانه - في غير جهة الخصمين، مع وجود من يحكم بحكم الله في جهة الخصمين، مع كون كل واحد من الحاكمين عالمًا بكتاب الله وبسنة رسوله .....
_________
(1) رقم (139).(9/4423)
إلى أن قلت: ولم يتقدم مني ما يدل على هذا لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام. بل حاصل ما أجبت به إلى آخر ما سردته في تلك الأبحاث. فأخبروني هل هذا مكتوب لديكم في تلك النسخة المرسلة أم لا؟ وهل بعد هذا التصريح والتنصل وتقرير محل النزاع، وجوابه مرة بعد مرة! فإن كنتم قرأتم هذا وفهمتوه فما بالكم توردون علي ما لم أقل به وتحملون كلامي ما لا يحتمله! فإن هذه المباحثة الجارية بيني وبينكم في هذه المادة مركبة على غير قياس، ومبنية على غير أساس، وبيان ذلك أني أجبت في جوابي الأول بالفرق بين وجود الحاكم المجتهد في المحل وعدمه، فجاء عنكم ما يفيد أنكم قد نسيتم هذا أو تناسيتموه، فأجبت عليكم بالرسالة وكررت هذا، وتنصلت من ذلك الوهم الذي وهمتوه [5ب] في مواضع من تلك الرسالة، فظننت أن ذلك من الإطناب والتكرير الذي تمجه الأسماع، فلما وصلت منكم هذه المباحثة الآخرة ازداد تعجبي، وترددت هل أحملكم على عدم الاطلاع على جميع ما قد كتبته إليكم، أو على عدم الإنصاف إن حملتكم على عدم الاطلاع فكيف تعترضون على ما لم تطلعوا عليه! وإن حملتكم على عدم الإنصاف فما هو الظن بكم؟ فأنتم أهله ومحله.
قوله - كثر الله فوائدكم -: وإن قلتم: إن ذلك دعوى، والعمل هو الشاهد وهذا الفرس والميدان ... إلخ.
أقول: وهذا أيضًا هو من جنس ما فرغنا منه، فإني قلت في تلك الأبحاث عند أن ذكرتم أن لديكم من هو متأهل للنظر، وجامع للشروط ما لفظه: أقول: هذا مسلم فإن في أهل ذلك البيت الشريف، والمحتد العالي المنيف من هو كذلك وفوق ذلك، بل وفي الواردين إليه المستقرين فيه، ولسنا ممن ينكر وجود المجتهدين في ذلك المحل الذي هو محط رجال العلوم والآداب، انتهى بلفظه وحروفه. فهل وجدتم هذا مزبورًا في تلك الأبحاث المسماة " بالأبحاث البديعة "؟. إن قلتم: نعم ففيم طلب المبارزة لمن قد سلف منه هذا الاعتراف. وإن قلتم: لم نقفوا عليه هنالك فأعيدوا نظرًا، فإنه مزبور هنالك بيقين، ووجوده يكفينا عن المخاطرة بالمناظرة، وتغنينا عن أن يقال لنا: ما قاله الشاعر:(9/4424)
يا سالكًا بين الأسنة والقنا ... إني أشم عليك رائحة الدم
قوله: ولم يعبر بهذه العبارة إلا لاحتمالها للقولين ... إلخ.
أقول: حكم الله مبتدأ، ومظنون كل مجتهد خبره، وهذا التركيب يفيد الحكم على حكم الله بأنه مظنون كل مجتهد، هذا من غير نظر، إلى ما يقتضيه اسم الجنس (1) المضاف من العموم، وإيضاح مثل هذا لمثلكم عبث، فإنكم تفهمون ما هو في الدقة تابع إلى غايتها، فكيف بهذا الواضح! والله يحب الإنصاف.
قوله - كثر الله فوائده -: فالحاكم إذا اجتهد وعمل بشهادة عادلة ... إلخ.
أقول: وهكذا المجتهد إذا عمل بدليل ظني صحيح في ظاهر الأمر، ثم انكشف أنه موضوع، فلا فرق بينه وبين الحاكم إذا حكم [6أ] بشهادة عادلة في الظاهر، وانكشف زورًا، لأن المجتهد مأمور بالعمل بأخبار الآحاد بدليل كالدليل المتضمن للأمر للحاكم بالعمل بالشهادة، فما الفرق؟ فإن جميع مدارك الحكم من الشهادة واليمين والإقرار لا يحصل بكل واحد منها من الظن إلا دون ما يحصل للمجتهد بأخبار الآحاد الخارجة مخرج الصحيح، بل لا يبعد أن يقال إن خطأ الحاكم في دماء المسلمين وأموالهم فيه من الخطر العظيم بالجناية على مال الغير أو على دمه ما ليس في خطأ المجتهد من الخطر إذا عمل باجتهاده في مسألة الطهارة، أو الصلاة، أو نحو ذلك، فإذا كان الخطأ مغفورًا بل مأجورًا عليه في الجناية على مال الغير ودمه فكيف لا يكون مغفورا بل مأجورا عليه في عمل المجتهد لنفسه في غير جناية على نفس الغير، ولا على ماله؟.
_________
(1) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص416): الإضافة من مقتضيات العموم كالألف واللام من غير فرق بين كون المضاف جمعًا نحو عبيد زيد أو اسم جمع نحو جاءني ركب المدينة. أو اسم جنس نحو: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [النحل: 18]. " ومنعت العراق درهمها ودينارها ومنعت الشام قفيزها وصاعها ".
وانظر " المسودة " (ص101)، " تيسير التحرير " (1/ 219).(9/4425)
قوله: وإذا تقرر أن الخلاف في هذه المسألة لا ثمرة له ... إلخ.
أقول: كيف يقال هذا وأحد القولين (1) جازم بأن حكم الله في الحادثة التي اختلفت فيها الأقوال هو واحد فقط، والقول الآخر جازم بأن حكم الله في تلك الحادثة التي اختلفت فيها الأقوال هو واحد فقط، والقول الآخر جازم بأن حكم الله في تلك الحادثة متعدد بحسب تعدد أقوال المجتهدين، فإذا لم يكن لهذا الخلاف ثمرة فلا ثمرة لكل خلاف.
قوله - كثر الله فوائده -: وإن ادعوا خلاف ذلك.
أقول: هذا يعود على ما قد تم من قولكم، وهذا الفرس والميدان بالنقض، فإن من كان عالة على عالم من علماء الإسلام فهو ليس من الاجتهاد في قبيل ولا دبير، ولا من أهلية النظر في ورد ولا صدر.
قوله: ويعتقد أنه بلغ إلى رتبة لم يبلغها غيره .. إلخ.
أقول: أما هذا الاعتقاد فقد صان الله عنه علماء الاجتهاد، فإنهم وإن بلغوا إلى المراتب العلية يزدادون اعترافًا بأنهم مقصرون لاطلاعهم على مؤلفات الأئمة الأكابر في كل فن، وتراجم المحققين الذين لا يلحق بهم غيرهم خصوصًا الذين قطعوا غالب العمر في فن فإنهم يبلغون في تحقيقه ما لا يتهيأ لمن اشتغل بفنون أن يلحق بهم في ذلك الفن، فكل مجتهد يعترف بقصوره عن رتبة سيبويه وأمثاله في النحو، والرازي وطبقته في الأصول، والسكاكي وأشباهه في علم البلاغة، وأحمد بن حنبل وأنظاره [6ب] في الحديث، والشافعي ونحوه في الفقه، والزمخشري ومن يلتحق به في التفسير. وهكذا غير هذه الفنون لها رءوس يعترف كل عارف بقصوره عن اللحوق بهم.
قوله - كثر الله فوائده -: حاكيًا لكلامي في الأبحاث البديعة أنه لا يحل لأحد أن يقوم مقام الإرشاد وللعباد مع وجود من هو أعلم بالشريعة ... إلخ.
أقول: قد أسقط - عافاه الله - من كلامي قيدًا هو مذكور في النسخة التي لديه
_________
(1) تقدم ذكره مرارًا.(9/4426)
صححته بخطي لما أهمله الناسخ. ولفظ كلامي هكذا: ولا يحل له أن يقوم مقام الإرشاد والمعياد في شيء لم يبلغ إليه دليله مع وجود من هو أعلم منه بالشريعة في عصره وقطره ... إلى آخر ما ذكرته. وهذا صواب، فإن من لم يكن عنده إلا محض الرأي لا يحل له أن يدبر الأمة به، مع وجود من يقوم بتدبيرهم بالدليل في عصره وقطره، فلا يلزم من هذا الكلام ما ألزم به - أبقاه الله -.
قوله - عافاه الله -: وهم إنما يترافعون إلى الحاكم ليحكم بينهم بمذهب من قلدوه ... إلخ.
أقول: نصب الحكام لم يشرعه الشارع لقطع الخصومات بما يوافق إعراض أهلها، بل ليحكم بينهم بالشريعة المطهرة الواردة عن الله وعن رسوله، ويقطع خصوماتهم بحكم الله سبحانه، ويدبرهم بما دبرهم الله به. ولو كانت مطابقة مقاصد المتحاكمين، وموافقة أغراضهم ومراداتهم من عمل القضاة لكان الحق الذي يريده الله من العباد دائرًا مع مذاهب الخصوم، فالخصمان إذا كانا من الخوارج، أو الروافض، أو سائر أهل البدع لا يريدان إلا الحكم بمذهبهما، وما لهذا شرع الله نصب حكام الشريعة، ولا بهذا أمرهم، وأن هذا هو الجمود البحت، والتقليد المحض، وعنه تلزم اللوازم التي قدمها السائل - عافاه الله - قبل هذا الكلام من سد باب الاجتهاد ونحو ذلك، فإن كان يريد بهذا الكلام أمرًا خاصًا وهو مطابقة أغراض مقلدة هذه الديار دون غيرهم فمع كون ذلك تخصيصًا بغير مخصص، وتقييدًا لكلامه بما لا يصلح لتقييده فليعلم - أبقاه الله - أن من مذهبهم الذي يعرفونه ويجدونه في المختصرات كالأزهار (1) ونحوه أن القاضي لا يكون إلا مجتهدًا، ومعلوم قطعًا أن صاحب الأزهار وغيره لا مقصد لهم بكون القاضي مجتهدًا إلا أن تكون أحكامه صادرة عن اجتهاده لا أن يكون واقفًا مع المقلدين، بل مع العامة من المتشاجرين، ولو كان هذا مرادًا لكان ذلك الاشتراط ضائعًا، لأن المقلد يقوم
_________
(1) (3/ 439 - مع السيل).(9/4427)
بالحكم [7أ] بما هو المعتقد لأهل بلده أتم قيام، فليت شعري كيف جرى قلمه - عافاه الله - بمثل هذا! وكيف نفق على ذهنه السليم، وفكره القويم! فإن هذا كلام لا تقبله أذهان أهل الجمود من المقلدين، لأن كل واحد منهم يعلم أن القاضي المستجمع للشروط المذكورة في الأزهار (1) هو القاضي على الحقيقة، وأن بلوغه إلى درجة الاجتهاد يمنعه من التقليد، بل قد عرفوا هذا وهم في المكتب، فإن أول ما يفتق أذهانهم بعد كتاب الله أن التقليد جائز لغير المجتهد، لا له. ولو وقف على نص أعلم منه.
وقد نقل أئمة الأصول الإجماع على أن المجتهد بعد اجتهاده ممنوع من التقليد، لا جرم: " بدأ الدين غريبًا، وسيعود إلى غربته " (2) وجرى أقلام أهل العلم بمثل هذا الكلام من الغربة ومن علامات القيامة، ومن مصير المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا.
ومن هاهنا تتفرق السبل، وتتفاوت الأقدام، وتتباين المراتب، وتتخالف القرائح. فدع عنك نهبًا صيح في حجراته.
قوله - كثر الله فوائده -: وأما نقل الإجماع فلم يكن في الذهن ... إلخ.
أقول: قد ذكرت لكم أنه في كتابه الذي سماه بالقواعد فطالعوه حتى يرتسم ذلك في الذهن، وكيف يستبعدون ذلك - وقد روى هذا الإجماع جماعة من الأئمة المشهورين -! كما نقلنا ذلك عنهم في " القول المفيد في حكم التقليد " (3).
قوله: وهو أجل من أن ينقل ما أجمعت الأمة، أو أهل البيت على خلافه.
أقول: عليه - أبقاه الله - أن يبحث ولا يرد الكلام بمجرد الاستبعاد، فإن حكايته هاهنا لإجماع الأمة أو إجماع أهل البيت من الغرائب، ولو نظر في مختصر من مختصرات
_________
(1) (3/ 439 - مع السيل).
(2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (232/ 145) وابن ماجه رقم (3986) من حديث أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: " بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء ". وهو حديث صحيح.
(3) الرسالة رقم (60).(9/4428)
الأصول كالغاية وشرحها لوجد المنع من تقليد الأموات من الأكثرين، ونصوص أئمة المذاهب الأربعة في المنع مطلقًا موجودة لدينا، معزوة إلى كتبهم المعروفة إذا أراد - أبقاه الله - الوقوف عليها أوقفناه. ولقد رسخ في قلبه من محبة التقليد ما رسخ حتى قال فيما سبق: إن الناس عيال على عالم من العلماء، ثم جاوز ذلك حتى قال في البحث الذي قبل هذا ما قال من أن الحاكم المجتهد يحكم بما يعتقده الخصوم، ثم جاوز ذلك حتى حكى هنا الإجماع على تقليد الأموات (1)، فلا أدري ما أقول!
وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد [7ب] (2)
قوله - عافاه الله -: وليس أساس الدين مجرد وصول قبيلي يدعي في شفعة ... إلخ.
أقول: الدين هو هذه الشريعة المطهرة التي جاءنا بها محمد بن عبد الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - والعلماء والقضاة هم المترجمون لها، الذين أخذ الله عليهم بيانها للناس، وأمرهم أن يقضوا بينهم فيما اختلفوا فيه بما شرعه لهم، وهم ورثة الأنبياء، وأمناء الله على دينه، والمبلغون له إلى عباده، فإذا لم يكن هذا المنصب حقيقًا بالتعظيم والتبجيل فليت شعري ما هو المستحق لذلك! ويا لله العجب من استصغار منصب العلم وتحقيره، والإزراء عليه وعلى أهله بإيراد مثل هذه العبارة البالغة في الشناعة إلى حد يقصر عنه الوصف.
ألم يكن من عمل أهل هذا المنصب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم معالم الدين، وإرشاد المسترشدين، وبأقلامهم تضرب الأعناق، وتقام الحدود، وتتعارك الجيوش. وبهم يصير الإمام إمامًا، والسلطان سلطانًا، وعليهم تدور رحى مسائل
_________
(1) تقدم توضيحه.
(2) من [الطويل] والشاعر دريد بن الصمة وهو من قصيدة يرثي عبد الله أخاه وقد قتلته بنو عبس.
* غزية قبيلة من هوازن وهي رهط الشاعر وهو اسم أحد أجداده " غزية بن جشم ".
انظر " الديوان " (ص47) حيث قال: [وهل أنا إلا من غزية]. وهو من شواهد " لسان العرب " (10/ 68).(9/4429)
العبادات والمعاملات، وجميع الشرعيات، وهم من لا تستغني عنه المخدرات من النساء في أمور دينهن ودنياهن، فكيف بغيرهن من الرجال على اختلاف طبقاتهم؛ فتلك شكاة ظاهر عنك عارها.
قوله - كثر الله فوائده -: العمل بالرأي المحض غير صحيح ... إلخ.
أقول: هذا صواب، وهكذا السلف الصالح، لكن هذا غير مناسب لما أسلفه من أنه لا اجتهاد في النصوص، وأنه كما قال أهل الأصول استفراغ الفقيه الوسع إلى آخره. فإن هذا يصدق على الرأي مطلقًا، ثم لا يناسب أيضًا ما قدمه من تسويغ التقليد، بل دعوى الإجماع عليه؛ فإن التقليد هو قبول رأي الغير دون روايته، ثم لا يناسب ما ذكره من الحكم بين المتشاجرين بما يطابق ما يعتقدونه، فإن الذي لزمهم هو قبول رأي الغير دون روايته، ثم لا يناسب ما قدمه أن الناس في هذا القطر اليمني عيال على فرد من أفراد العلماء؛ فإنهم لا يكونون عيالا عليه إلا وهم مقلدون له في رأيه دون روايته.
سقوني وقالوا لا تغني ولو سقوا ... جبال جنين ما سقيت لغنت
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء
قوله - كثر الله فوائده -: ولم يستند الحكم إلى دليل يخصه ... إلخ.
أقول: إن كنتم تنكرون ثبوت الشركة وتفاصيلها، وتقولون إنها لم تكن من مسائل الشريعة، ولا دل عليها دليل نقلنا البحث معكم إلى هنا، وإن كنتم تعترفون بذلك وتخصون الإنكار بتلك المسألة فقط أوضحنا لكم برهانها بما تعلمون به صحة ما كررناه، من أن تفويض أحكام الله لا تكون إلا لكامل الأهلية، وأنه قد يتمكن من وجود الدليل في المواطن التي لم تكن بيد غيره فيها إلا محض الرأي.
وفي هذا المقدار كفاية - إن شاء الله -.(9/4430)
منحة المنان في أجرة القاضي والسجان والأعوان
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(9/4431)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " منحة المنان في أجرة القاضي والسجان والأعوان ".
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد حمد ذي الجلال، والصلاة والسلام على الرسول والآل، فإنه ورد السؤال من بعض أرباب الكمال ... "
4 - آخر الرسالة: " فيجعل الخصومة بينه وبين نفسه والحاكم، كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، وحسبي الله ونعم الوكيل.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الصفحات: 15 صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 28 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(9/4433)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد حمد ذي الجلال، والصلاة والسلام على الرسول والآل، فإنه ورد السؤال من بعض أرباب الكمال، وهو سيدي العلامة الحسن بن زبارة (1) - كثر الله فوائده - وهذا نصه: أشكل علي ما يفعله الحكام والعمال في هذا الأوان في شأن أجرة الأعوان والسجان على الخصوم، وإلزام من عليه الحق في غالب الحالات بالتسليم للأجرة، لكون الحق عنده، ونص أهل الفروع كما عرفتم أن أجرتهم من ذي الحق هذا وما أدري ما هو المستند معهم، وكذلك أجر الحكام أنفسهم، فإني لم أجد لهم مسوغًا في قبض الأجرة من الخصمين، بل ومن بيت المال إلا ما روي أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: " لما استخلف أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي، وشغلت أمر المسلمين، وسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، وأحترف للمسلمين فيه ". أخرجه البخاري (2).
وما رواه في الأحكام (3) والشفاء (4): " أن عليًا - رضي الله عنه - كان يرزق شريحًا القاضي من بيت المال خمسمائة درهم "، وغير ذلك من الآثار غايته أنها أفعال الصحابة وقد عرفتم ما فيها، هذا وأما قبض الأجرة من الخصمين فلم أعثر على دليل فيه. وقد قال في الغيث (5) أنه لم يكن في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ولا في عهد أحد من الصحابة؛ وروي المنع عن ابن عمر. وفي روضة النووي (6) ما لفظه: فرع:
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) في صحيحه رقم (2070).
(3) انظر " مؤلفات الزيدية " (1/ 83).
(4) " شفاء الأوام " (3/ 288).
(5) " الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار ". للإمام أحمد بن يحيى المرتضى الحسني، وهو شرح على كتاب " الأزهار في فقه الأئمة الأطهار " في أربع مجلدات. " مؤلفات الزيدية " (2/ 297).
(6) (5/ 188).(9/4437)
الاستئجار على القضاء باطل. انتهى.
فعلى هذا يكون ما قبضه الحكام رشوة توجب العزل أم ماذا نقول؟ وحديث: " لعن الله الراشي والمرتشي " أخرجه عبد الرزاق (1)، وابن ماجه (2) وأخرجه الطبراني (3)، وأحمد (4)، وأبو داود (5)، والترمذي (6)، وقال (7): حسن صحيح. والحاكم (8) والبيهقي (9) عن ابن عمرو، وأخرجه أبو داود (10) عن ابن عمرو، وأبو سعيد النقاش في القضاء عن عائشة، وعبد الرزاق (11) عن عبد العزيز بن مروان بلاغًا، وأخرجه أحمد (12)، والحاكم (13)، والترمذي (14)، وقال: حسن عن أبي هريرة، والطبراني (15) والنقاش عن أم سلمة بزيادة في الحكم. وعلى الجملة فهو حديث صحيح. ورواياته متعددة فأوصلوا الجواب كامل الأطراف محتويًا على ما فيه العدل والإنصاف، مع تبيين
_________
(1) في مصنفه (8/ 148 رقم 14669).
(2) في " السنن " رقم (2313).
(3) في " الصغير " (1/ 28) وقال الهيثمي في " المجمع " (4/ 199): أخرجه الطبراني ورجاله ثقات.
(4) في " المسند " (2/ 164، 190، 194، 122).
(5) في " السنن " رقم (3580).
(6) في " السنن " رقم (1377).
(7) في " السنن " رقم (3/ 623).
(8) في " المستدرك " (4/ 102 - 103) وصححه ووافقه الذهبي.
(9) في " السنن الكبرى " (10/ 138 - 139). وهو حديث صحيح.
(10) في " السنن " رقم (3580).
(11) في مصنفه (8/ 148 رقم 14670).
(12) في " المسند " (2/ 387 - 388).
(13) في " المستدرك " (4/ 103).
(14) في " السنن " رقم (1336) وقال: حسن صحيح. وهو حديث صحيح.
(15) في " الكبير " (23/ 398 رقم 951) وأورده الهيثمي في " المجمع " وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.(9/4438)
الدليل الذي يشفي الغليل - لا زلتم في حماية الله وكفايته ورعايته آمين - انتهى السؤال [1أ]؟.(9/4439)
الجواب بمعونة الله وفضله: أما ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده - من جعل أجرة السجان وأعوان الحكام على من عليه الحق مع نص أهل الفروع على أنها من مال المصالح، أو من ذوي الحق، لا ممن عليه الحق. فأقول: اعلم أن الذي ينبغي اعتماده في هذا هو أن المسجون ومن احتاج إلى أعوان الحاكم لا يخلو إما أن يكون قد تقرر عليه حق للغير يجب عليه التخلص منه كالدين ونحوه، فامتنع مع تمكنه من ذلك بوجه من الوجوه، وعدم وجود عذر شرعي له كالإعسار الشرعي، فمن كان هكذا فما لزم للسجان والأعوان فهو عليه من ماله، ولا يحل أخذه من خصمه، ولا من مال المصالح، أما كونه لا يحل أخذه من خصمه فظاهر، لأنه مظلوم، وقد رفع مظلمته إلى شرع الله، فوجب على القاضي أن يوصله إلى ما طلبه من الحق، ويدفع عنه الظلم بإلزام خصمه الظالم له بتسليم ما ظلمه فيه، فإذا ألزمه بشيء من أجرة السجان والأعوان فقد ظلمه إلا أن يقتضي الحال، وتوجب الضرورة ذلك، كمن يطالب غريمًا له في القصاص وكان المقتص منه فقيرًا، ولم يكن في الوجود مال مصالح من خراج، ومعاملة، وجزية، وفضلة سهم سبيل الله، أو كان ولكنه بأيدي قوم يتغلبون عليه، وكان هذا المطلوب بالقصاص لا يمكن استيفاء ذلك منه إلا بإرسال الأعوان عليه، وحفظه في السجن، وكان الأعوان والسجان لا يفعلون ذلك إلا بأجرة، فهذا الطالب للقصاص قد صار لا يمكن من استيفاء ما أوجبه الله له إلا بتسليم ما يعتاد لأولئك من أجرة، وعلى القاضي أن يوضح له ذلك، ويقول له: إما رضيت لنفسك بهذا الذي لا يمكن الوصول إلى حقك إلا به أو تركت.
وأما كونه لا يحل أخذ أجرة السجان والأعوان من مال المصالح حيث كان ممن عليه الحق متمكنًا منه، ممتنعًا من تسليمه بعد الحكم عليه فلعدم الوجه المسوغ لذلك، فإن مصرف مال المصالح هو المصالح، وهذا الرجل الممتنع من تسليم ما عليه بعد حكم الشرع قد صار جانيًا على نفسه، ووجب علينا استخلاص الحق منه، والأخذ على يديه [1ب]، حتى يتخلص من الحق الذي عليه، ولما كان هذا الاستخلاص، ودفع(9/4440)
الظلم، والحكم بالحق لا يمكن إلا بإرسال الأعوان (1)، وحفظه في السجن كان ذلك مما يتم الواجب إلا به فوجب علينا فعله، وحل لنا إلزامه (2) بما يطلبه الأعوان والسجان من الأجرة على وجه العدل، فإنه ظالم. وقد سمى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فعله ظلمًا فقال: «لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته» كما ثبت في الصحيح (3). والعقوبة لا تختص بنوع معين، بل يجوز لنا أن ننزل به ما يصدق عليه اسم العقوبة، وأحق العقوبات ما لا يمكن استخلاص الحق منه إلا به من الحبس، وأجرة السجان
_________
(1) في هامش الأصل: قد صرح المفرعون في هذا الموضع وهو الموضع الرابع من الأجر التي هي إلى الإمام وحده بجوازها للحاكم. قال في حواشي الأزهار: أو حاكمه أو المجيب، أو من جهة الصلاحية تمت.
قال صاحب " الأزهار " (3/ 453 مع السيل) وأجرة السجان والأعوان من مال المصالح، ثم من ذي الحق كالمقتص.
وقال الشوكاني في " السيل " (3/ 459): قوله: " وأجرة السجان والأعوان من مال المصالح. ثم من ذي الحق كالمقتص ".
أقول - الشوكاني - هذا صحيح لأنه يحصل بهم نفاذ حكم الشرع وتمام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن تعذر الأخذ لهم من مال المصالح كان لهم الأجرة ممن تمرد عن الحق فلم يمتثل لحضور مجلس الشرع إلا بإحضار الأعوان له، ومن المحبوس بحق لأنهما الجانيان على أنفسهما بسبب الإخلال بما هو واجب عليهما.
وأما قوله: " ثم من ذوي الحق " فلا وجه له، ولا وجه لقياسه على المقتص لأن المباشر للقصاص نيابة عمن هو إليه لا واجب عليه بخلاف الخصم الذي لم يمتثل للإجابة إلى الشرع، أو صار في الحبس بسبب عدم تخلصه مما يجب عليه. فإن الحق ثابت وهو مخل بما يجب عليه شرعًا، فأين هذا ممن يتولى القصاص بالنيابة، فإنه أجير كسائر الأجراء.
(2) في هامش المخطوط: المعاقبة بأخذ المال ليست إلا للإمام فقط كما هو صريح كلام أهل الفروع فليحقق ويبحث عن الدليل.
(3) أخرجه أحمد (4/ 222، 388، 389) والبخاري (5/ 62) تعليقًا وأبو داود رقم (3628) والنسائي (7/ 316) وابن ماجه رقم (2427).
وقد تقدم وهو حديث حسن.(9/4441)
والأعوان، وهذا ظاهر، بل لو لم يرد هذا الحديث الصحيح لكان تسويغ ذلك معلومًا من قواعد الشريعة لما قدمنا من وجوب رفع المظلمة علينا، وأن ما لا يتم ذلك إلا به يجب كوجوبه، وإن من تمام ذلك ما يعتاده السجان والأعوان، ولولا ذلك ما فعلوا ما نأمرهم به. وهذا الظالم هو الذي تسبب بظلمه وامتناعه عن التخلص من الحق إلى ما يحتاج إلى غرامة مالية.
هذا إذا كان من عليه الحق على الصفة التي ذكرنا، أما لو كان فقيرًا قد تبين فقره فهذا لا يحل إرسال الأعوان عليه ولا سجنه، بل يجب الحيلولة بينه وبين المطالب له بنص القرآن الكريم: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} (1) فإن حبسه الحاكم، أو أرسل عليه كان ظالمًا، وكان واجبًا عليه أن يسلم أجرة من أرسله، وأجرة السجان من
_________
(1) [البقرة: 280].
قال ابن قدامة في " المغني " (6/ 585 - 586): " أن من وجب عليه دين حال، فطولب به، ولم يؤده، نظر الحاكم، فإن كان في يده مال ظاهر أمره بالقضاء، فإن ذكر أنه لغيره - فعلى الحاكم التأكد من ذلك - وإن لم يجد مالاً ظاهرًا فادعى الإعسار، فصدقه غريمه لم يحبس. ووجب إنظاره، ولم تجز ملازمته لقول الله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280].
ولقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغرماء الذي كثر دينه: " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك " ولأن الحبس إما أن يكون لإثبات عسرته أو لقضاء دينه، وعسرته ثابتة والقضاء متعذر، فلا فائدة في الحبس، وإن كذبه غريمه فلا يخلو، إما أن يكون عرف له مال أو لم يعرف. فإن عرف له مال لكون الدين ثبت عن معاوضة، كالقرض والبيع، أو عرف له أصل مال سوى هذا، فالقول قول غريمه مع اليمين، فإذا حلف أنه ذو مال، حبس حتى تشهد البينة بإعساره.
قال ابن المنذر: أكثر من تحفظ عنه من علماء الأمصار وقضاتهم، يرون الحبس في الدين، منهم: مالك والشافعي، وأبو عبيد والنعمان، وسوار وعبيد الله بن الحسن. وروي عن شريح والشعبي. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: يقسم ماله بين الغرماء ولا يحبس. وبه قال عبد الله بن جعفر، والليث بن سعد.
قال ابن قدامة: ولنا أن الظاهر قول الغريم، فكان القول قوله كسائر الدعاوى.
انظر: " فتح الباري " (4/ 466).(9/4442)
ماله. وأما إذا لم يكن قد تبين فقره وإعساره عن تسليم ما عليه، ولكنه يدعي ذلك وخصمه يخالفه وينكر، فإن كان حضوره إلى القاضي، ووقوفه مع خصمه لديه ممكنًا بدون إرسال الأعوان عليه فلا يحل الإرسال عليه، بل على الحاكم أن يطلب منه البرهان على دعواه، فإن جاء به أنظره إلى ميسرة، وإن عجز عنه أو جاء غريمه بما يفيد إيساره ألزمه بالتسليم، فإن امتنع مع ذلك كان الكلام فيه كالكلام في الموسر الذي امتنع من التخلص مما عليه، وقد تقدم.
وأما حبس الملتبس حاله فقد اختلف [2أ] أهل العلم في ذلك، فسوغ بعضهم حبسه حتى يتضح الأمر. وقال آخرون: إنه لا يحل حبسه، بل يجب العمل على ما ينتهي إليه الحال. وعندي أن هذا محل نظر للحاكم، فإن ذلك يختلف باختلاف الناس، فمنهم من يكون في حبسه مصلحة تظهر عندها أنه ممكن من التخلص، وأن دعواه التي ادعاها لا حقيقة لها، ولا صحة، وأنه إنما فعل ذلك فرارًا من الحق، ومراوغة وبعدًا عن الإنصاف، ومنهم من يكون عرضه أعز عليه من ماله، وهم أهل التستر والحياء والمروءة، وكذلك أرباب الديانة الذين يغلب على الظن أنهم لا يدعون الإعسار إلا عند الضرورة، فمن كان من هؤلاء فلا يحل حبسه، ولا إنزال نوع من أنواع الهوان به، بل ينتظر ما يصح من أمره، وينتهي من حاله، ولا مسوغ لحبس ولا غيره؛ فإنه لم يتبين أنه واجد حتى يكون مطله ظلمًا يحل عرضه وعقوبته، ولا تهمة تحصل في بطلان دعواه كما يحصل في بطلان دعوى الأول، حتى يكون ذلك مسوغًا لحبسه. وقد حبس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في التهمة (1). ولا فرق بين تهمة وتهمة، فإن قلت: إذا كان الحبس
_________
(1) في حاشية المخطوط: رواه في الغيث (أ) والبحر (ب). وهو حديث لا يصح (ج) كما نبه عليه شيخ الإسلام ابن حجر (د) وغيره من شراح الحديث، فعلى المجيب - كثر الله فوائده - التصحيح.
الحديث رواه أبو داود (هـ) والترمذي (و) والنسائي (ز) من حديث بهز بن حكيم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " حبس رجلاً في تهمة " زاد النسائي (ز) ثم خلى عنه. وكذا الترمذي (ح) وقال: حسن ورواه أيضًا الحاكم (ط). وقال صحيح الإسناد.
وله شاهد من حديث أبي هريرة (ي) انتهى.
فهذان إمامان من أئمة الحديث حسنه أحدهما وصححه الآخر، ولعل ما ذكره الكاتب عن الحافظ ابن حجر في الحديث، وهو من جهة بهز بن حكيم (ك) وهو لا يصح بحديثه عند الكثير، وقد (ل) جماعة كما ذكره الحافظ وأما (ل) (أ): تقدم التعريف به.
(ب): انظر " البحر الزخار " (5/ 89، 113).
(ج): بل هو حديث حسن.
(د): انظر " تهذيب التهذيب " (1/ 251).
(هـ): في " السنن " رقم (3630).
(و): في " السنن " رقم (1417).
(ز): في " السنن " رقم (8/ 66 - 67).
(ح): في " السنن " رقم (4/ 28).
(ط): في " المستدرك " (4/ 102) وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(ي): أخرجه الحاكم في " المستدرك " (4/ 102).
(ك): بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة أبو عبد الملك القشيري.
قال أبو حاتم: هو شيخ يكتب حديثه، ولا يحتج به.
قال النسائي: ثقة.
قال ابن حبان: كان يخطئ كثيرًا.
قال ابن عدي: قد روى عنه ثقات الناس، وقد روى عنه الزهري وأرجو أنه لا بأس وبه ولم أر له حديثًا منكرًا.
وقال ابن معين ثقة.
انظر " تهذيب التهذيب " (1/ 251 - 252).
وخلاصة القول أن الحديث حسن والله أعلم.
(ل): غير واضحة في حاشية المخطوط.
ولفظ الحديث: " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حبس رجلاً في تهمة ساعة من نهار ثم خلى سبيله ".(9/4443)
لمجرد تهمة، أو كان الأمر ملتبسًا على الحاكم وهو يرجو اتضاح الحق بعد طول الخصومة، وكان يخشى نفور أحد الخصمين فاستوثق منه بحبسه على من تكون أجرة السجان والأعوان.
قلت: يكون هاهنا من مال المصالح، فإن لم يكن مال مصالح، أو كان ولا يمكن الوصول إليه للحاكم أن يجعلها بعد اتضاح الحال على من كان متعديًا مخاصمًا في باطل، لأنه بسبب تفعله إلى لزوم ما لزم من الأجرة، وهكذا ينبغي أن يكون أجرة هؤلاء من مال المصالح إذا كان المسجون ممن يخشى على الناس من ضرره إذا أطلق كمن تكرر منه السرق، أو قطع الطريق، أو الأذية للمسلمين بنوع من الأنواع، وكان لا يندفع ضرره عنهم إلا بحفظه في السجن كمن كان ينزجر بإقامة الحد عليه، فإنه لا يحل حبسه بعد ذلك [2ب] , وهكذا تكون أجرة السجان والأعوان من مال المصالح إذا كان الحبس لمسوغ شرعي نحو من يجب عليه القصاص، وفي الورثة قاصر أو غائب، وهو مسلم لنفسه غير ممتنع من استيفاء حكم الله منه، فإن لم يكن ثم مال مصالح، أو كان ولا يمكن الوصول إليه كان ذلك من المقتص.
وبالجملة فمن كان محبوسًا بحق عليه يجب عليه التخلص منه وهو متمكن من ذلك. وقد تقرر الحق عليه بحكم الشرع، فما لزم بسبب سجنه فعليه لا على غريمه، ولا على خصمه، ومن كان أمره ملتبسًا وكان حبسه سائغًا لوجه من الوجوه فما لزم فمن مال المصالح، فإذا لم يكن مال مصالح فللحاكم أن يجعله على من صح أن يخاصم في باطل، ومطالب بما لا يقتضيه الشرع عمدًا منه مع علمه، ومن كان محبوسًا لمصلحة راجعة إلى المسلمين، أو كان باذلاً لما عليه من الحق لكنه عرض ما يقتضي الانتظار كان ذلك من مال المصالح، فإن لم يكن فللحاكم أن يجعله من المسلمين إذا كان الحبس لمصلحتهم، أو ممن له الحق إذا كان الحبس لمصلحته.(9/4445)
وأما ما سأل عنه - كثر الله فوائده - من أجرة الحكام المأخوذة من الخصمين، وذكر أنه لم يجد لذلك دليلاً.
فأقول: إن كان ما يأخذه الحكام من الخصوم إلى مقابل عمل يعملونه كرقم السجلات والسير إلى الأمكنة المتنازع فيها مما يحتاج إلى مشاهدة، كأسباب الشفعة، ونحو ذلك، وكان الحاكم لا جراية له من بيت المال يضيفها إلى مقابل أجرته، وكان ما يأخذه بمقدار عمله الذي عمله مع طيبة من نفس الخصوم، فهذا لا شك أنه حلال يسوغ قبضه. ولا فرق بينه وبين من يعمل مع الناس، ويحترف بنوع من أنواع الحرف من نجارة، أو خياطة، أو عمارة، أو نحو ذلك؛ فإن ما يأخذه هؤلاء حلال طلق، لأنه في مقابل عملهم. وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بإيفاء الأجير أجره، والحاكم على تلك الصفحة داخل في هذا العموم، لأنه أجير أخذ أجره بطيبة من نفس المؤجر [3أ]، وطيبة النفس بمجردها محللة لمال الغير كما في حديث: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» (1)، وأما ما يعتبره كثير من أهل الفقه من اعتباره أمر زائد على طيبة النفس، كالإيجاب والقبول بألفاظ مخصوصة أو نحو ذلك فلا دليل عليه، وأما إذا كان ما يأخذه القاضي المذكور زائدًا على مقدار عمله، ولم تطب به النفس، أو كان له جراية من بيت المال فما يأخذه بسحت حرام (2)، وأكل لمال الغير بالباطل، وقد قال الله عز وجل: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (3) لا يقال إن ما يأخذه القاضي هو إلى مقابل الحكم، وهو واجب عليه، والأجرة على الواجب حرام، لأنا نقول: ليس ما يأخذه هاهنا أجرة عن الحكم، بل عن ما ذكرناه من رقم السجلات، والنظر في الأمكنة التي تتعلق بها الخصومات، وذلك غير ...................................
_________
(1) وهو حديث صحيح تقدم تخريجه.
(2) قال تعالى: {أكالون للسحت} [المائدة: 42].
(3) [النساء: 29].(9/4446)
واجب (1) عليه.
وأما ما سأل عنه من الجراية (2) التي يأخذها القاضي من بيت المال، وأنه لم يجد لذلك مستندًا إلا ما ذكره، فاعلم أن أموال المصالح (3) كالخراج، والجزية، والمعاملة، وسائر ما يصدق عليه اسم بيت المال لا شك ولا ريب أن مصرفه الذي ينبغي وضعه فيه هو
_________
(1) في هامش المخطوط: قال هلا كان مما لا يتم الواجب إلا به وهو يجب كوجوبه ما تحقق له من تقدم الواجب، فإن تقدمها قد وجب حتى يتنبه الخصم ففعله هو من عهدة الخصم فهو عليه.
(2) قال الحافظ في " الفتح " (3/ 150): قال الطبري: ذهب الجمهور إلى جواز أخذ القاضي الأجرة على الحكم لكونه يشغله الحكم عن القيام بمصالحه. غير أن طائفة من السلف كرهت ذلك ولم يحرموه مع ذلك.
وقال أبو علي الكرابيسي: لا بأس للقاضي، أن يأخذ الرزق على القضاء عند أهل العلم قاطبة من الصحابة ومن بعدهم، وهو قول فقهاء الأمصار لا أعلم بينهما خلافًا. وقد كره ذلك قوم منهم مسروق، ولا أعلم أحدًا منهم حرمه.
وقال المهلب: وجه الكراهة أنه في الأصل محمول على الاحتساب لقوله تعالى لنبيه: {قل لا أسألكم عليه أجرا} فأرادوا أن يجري الأمر فيه على الأصل الذي وضعه الله لنبيه، ولئلا يدخل فيه من لا يستحقه فيتحيل على أموال الناس.
وأما من غير بيت المال ففي جواز الأخذ من المتحاكمين خلاف، ومن أجازه شرط فيه شروطًا لا بد منها، وقد جرى القول بالجواز إلى إلغاء الشروط، وفشا ذلك في هذه الأعصار بحيث تعذر إزالة ذلك والله المستعان.
وانظر: " المغني " (14/ 9 - 10).
(3) قال الحافظ في " الفتح " (13/ 150 الباب رقم 17): قوله " باب رزق الحاكم والعاملين عليها. والرزق ما يرتبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين، وقال المطرزي: الرزق ما يخرجه الإمام كل شهر للمرتزقة من بيت المال. والعطاء ما يخرجه كل عام، ويحتمل أن يكون قوله " والعاملين عليها " عطفًا على الحاكم، أي ورزق العاملين عليها أي على الحكومات. ويحتمل أن يكون أورد الجملة على الحكاية يريد الاستدلال على جواز أخذ الرزق بآية الصدقات، وهم من جملة المستحقين لها لعطفهم على الفقراء والمساكين ... ".(9/4447)
ما كان فيه للمسلمين مصلحة، وأعظم مصالح المسلمين تشييد معالم الدين، والعمل فيهم بما شرعه الله لهم، فإن المصالح الدنيوية ليست بمنظور إليها لجنب المصالح الدينية، والمصالح الدينية بعضها أهم من بعض، وفيها ما هو مقدم على غيره، ولا تزال متفاضلة في ذات بينها حتى ينتهي الفضل إلى رأسها، بل وأساسها وأعلاها وأولاها، وهو نشر هذه الشريعة التي طلبها الله من عباده، وأرسل إليهم بها رسله، وخلق الجنة لمن عمل بها، والنار لمن تركها، وخلق عباده ليعبدوه ويبلوهم أيهم أحسن عملاً (1) كما نطق به كتابه العزيز. وإذا كانت هذه [3ب] الخصلة هي المصلحة التي لا تدانيها مصلحة، ولا توازيها منفعة، فلا شك ولا ريب أن أعظم الناس قيامًا بها وتحملاً لها هو القاضي العادل؛ فإنه الذي يقطع الخصومات العارضة لعباد الله بما شرعه لهم في كتابه، وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. وهكذا من يعلم الناس معالم دينهم من العلماء العاملين، وهذا من يفتيهم في أمر دينهم. فهؤلاء إذا لم يكونوا مصارف لأموال المصالح فلا مصارف لها، وإذا لم تحل لهم لم تحل لغيرهم. وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يجمعون مال الله، ثم يفرقونه بين المسلمين، ويسمون ذلك العطاء، ويفاضلون بينهم بتفاضل درجاتهم في العلم والدين والسبق. هذا معلوم من فعلهم لا يشك فيه أحد. وكان للمشتغلين بالعلم منهم والمتصدرين لرواية سنة رسول الله، وتفسير كتاب الله، ومن يؤخذ عنه العلم منهم بنوع من أنواع الأخذ كالقاضي والمفتي وغيرهم النصيب الأوفر، والحظ الأكبر، بل قد كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقسم بين المسلمين ما يوافيه من أموال الله كمال البحرين (2) ونحو ذلك كما ثبت ذلك ثبوتًا لا شك
_________
(1) يشير إلى قوله تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور} [الملك: 2].
(2) أخرج البخاري في " صحيحه " رقم (421 و3165) معلقًا.
عن أنس - رضي الله عنه - قال " أتي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمال من البحرين فقال: انثروه في المسجد، فكان أكثر مال أتي به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاءه العباس فقال: يا رسول الله أعطني، فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلاً. فقال: خذ. فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال: يا رسول الله أؤمر بعضهم يرفعه إلي، قال: لا. قال: فارفعه أنت علي قال: لا، فنثر منه ثم ذهب يقله فلم يرفعه فقال: يا رسول الله: أؤمر بعضهم برفعه علي قال: لا، قال: فارفعه أنت علي قال: لا، فنثر منه ثم احتمله فألقاه على كاهله ثم انطلق، فما زال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبعه بصره حتى خفي علينا. عجبًا من حرصه، فما قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وثم منها درهمًا ".
قال ابن حجر في " الفتح " (1/ 517) وفي هذا الحديث بيان كرم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعدم التفاته إلى المال قل أو كثر، وأن الإمام ينبغي له أن يفرق مال المصالح في مستحقيها ولا يؤخره.(9/4448)
فيه ولا ريب.
فإذا لم يكن لمن يقضي بين المسلمين بشرع الله في أموال الله حظ لم يكن لمن يغزو أو يرابط في ثغورهم، أو يدفع عن حوزتهم أو نحو ذلك حظ، وعند هذا تصير أموال الله التي أمر أئمة المسلمين وسلاطينهم بقبضها من أهلها ووضعها في مواضعها ضائعة متروكة هملاً، فتذهب ثغور المسلمين ويبطل الغزو، وينهدم ربوع الشرع، ويذهب رونقه، وتتغير بهجته، ويصير الناس في فتنة عمياء صماء، وينخرم النظام، وتنقطع السبل، ويأكل القوي الضعيف، وتنتهك الحرم وتراق الدماء، وتنهب الأموال؛ فإنها إنما انتظمت المعائش، وقامت الأديان، وحفظت الحرم بصرف هذه الأموال في هذه المصارف العائدة على المسلمين بمصالح الدين والدنيا؛ فإن الناس أنواع، فمنهم من يشتغل بالزرائع [4أ]، ومنهم من يقوم بالتجارة ونحوها من الحرف، ومنهم من يسعى في تحصيل الأمور التي تحتاج إليها في المعاش، ومنهم من يحفظ للناس دينهم ويعلمهم معالم الإسلام، ومنهم من يجاهد الأعداء ويكف يد القوي عن الضعيف، وينتصف المظلوم من الظالم، وتؤمن السبل، تقيم الحدود وهم الأئمة ومن معهم من الجنود، فإذا لم تؤخذ أموال الله من مواضعها وتصرف في مصارفها لم يبق من يحفظ على الناس دينهم، ولا من ينتظم به أمر معاشهم، لأن الجنود المتطوعة الذين لا يرتزقون لا يوجدون إلا في أندر الأزمنة، وأقل الأحوال، وكذلك القائمون بالوظائف الدينية من القضاء والإفتاء(9/4449)
والتعليم، فليس في ذلك من النفع والدفع ما يكون عند إدرار أموال الله على مصارفها، فلا يزال في ضعف وسقوط وانطماس حتى ينتهي الحال إلى خراب أحوال الدنيا مع أحوال الدين، فلا يأمن الزارع على نفسه، ولا على ماله، ولا التاجر على تجارته، ولا المحترف على حرفته، فيذهب الدين والدنيا، والعاجل والآجل، ويعم الضرر جميع العباد، ويكثر في الأرض الفساد.
ومن رام أن يحيط بهذا علمًا، ويقتله خبرًا، ويعلمه علمًا لا يداخله شك ولا شبهة، فلينظر ما يقع فيه عباد الله عند اضطراب الدول من الهرج والمرج، وهتك الحرم، وذهاب معالم الدين، وضياع الشرع، وتقاصر ظله، وتقلص أطرافه.
ومن نظر في التواريخ المتضمنة لشرح أحوال الدول علم علمًا يقينًا أنه لا انتظام للدين ولا للدنيا إلا بوضع حقوق الله في مواضعها، مع أخذها على الوجه الذي جاء به الشرع.
وبالجملة فلا نطيل المقال في هذا فهو من الوضوح بمكان، وليس المراد إلا بيان أن القاضي والمفتي والمعلم هم أحق الناس بوضع أموال الله فيهم [4ب]، وإدرارها عليهم. وقد ثبت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يفرض الأرزاق لمن يستعمله كما في حديث بريدة مرفوعًا بلفظ: «أيما عامل استعملناه، وفرضنا له رزقًا فما أصاب بعد رزقه فهو غلول» (1)، ونحو هذا مما ورد في فرض أرزاق أهل الأعمال. وقد كان يستعمل على القضاء كما يستعمل على غيره من الأعمال، وكان عماله يأكلون من أموال الله، وكذلك الخلفاء الراشدون كانوا يفرضون لأنفسهم (2)، ولمن يلي لهم
_________
(1) أخرجه أبو داود رقم (2943) بإسناد صحيح.
(2) ذكر البخاري في صحيحه باب (17) رزق الحاكم والعاملين عليها، وكان شريح القاضي يأخذ على القضاء أجرًا وقالت عائشة: يأكل الوصي بقدر عمالته. وأكل أبو بكر وعمر.
قد تقدم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما استخلف أبو بكر قال: قد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وقد شغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال وأحترف للمسلمين فيه ".
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2070).
قال ابن حجر في " الفتح " (4/ 305): قال ابن التين وفيه دليل على أن للعامل أن يأخذ من عرض المال الذي يعمل فيه قدر حاجته إذا لم يكن فوقه إمام يقطع له أجرة معلومة.
قال ابن حجر في " الفتح " (13/ 151): لكن في قصة أبي بكر أن القدر الذي كان يتناوله فرض باتفاق الصحابة فروى ابن سعد بإسناد مرسل رجاله ثقات قال: " لما استخلف أبو بكر أصبح غاديًا إلى السوق على رأسه أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فقال: كيف تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالوا نفرض لك، ففرضوا له كل يوم شطر شاة.
قال عمر بن الخطاب " إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيم اليتيم إن استغنيت عنه تركت، وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف ".
أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " (12/ 324 رقم 12960) وابن سعد في " الطبقات " (3/ 197) والبيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 354).
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (13/ 151): سنده صحيح.
وأخرج الكرابيسي بسند صحيح عن الأحنف قال: كنا بباب عمر - فذكر قصة وفيها فقال عمر: " أنا أخبركم بما استحل: ما أحج عليه وأعتمر، وحلتي الشتاء والقيظ وقوتي وقوت عيالي كرجل من قريش ليس بأعلاهم ولا أسفلهم ".
" الفتح " (13/ 151).(9/4450)
الأعمال أرزاقًا من أموال الله، وهذا معلوم عنهم لا يختلف أهل العلم فيه، وهم الذين يقول فيهم الصادق المصدوق: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين " كما في الحديث الصحيح (1).
فإن قلت: ما هو القدر (2) الذي يحل للقاضي من أموال الله؟
قلت: هو رزقه الذي يكفيه ويكفي من يعول - والكفاية هي الكفاية بالمعروف،
_________
(1) وهو حديث صحيح تقدم تخريجه مرارًا.
(2) انظر التعليقة السابقة.(9/4451)
فلا ينفق على نفسه إنفاق أهل الإسراف، ولا إنفاق أهل التقتير، بل يقتدي بعادة أمثاله من أهل بلده الذين يسلكون مسالك التوسط، ويمشون مشي من لا يبسط يده كل البسط، ولا يقبضها كل القبض. وفي قصة الصديق - رضي الله عنه - قدوة وأسوة، فإنه قال لما استخلف: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين، وسيأكل آل أبي بكر من هذا المال وأحترف للمسلمين فيه) (1) هكذا في البخاري (2) فانظر ما في هذا الكلام الصادر عن الصديق - رحمه الله - من الفوائد التي ينبغي لمن يعمل عملاً للمسلمين أن يقتدي بها، ويمشي على سننها فإنه قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، فقدم هذه المقدمة أمام المقصد الذي يريده ليعلم الصحابة أنه لا يأخذ من بيت مالهم لنفسه شيئًا يستأثر به دونهم، لكونه قد صار إمامًا لهم، مالكًا لأمرهم، بل الذي يأخذه هو أجرة [5أ] عوضًا عن عمله الذي كان يعمله ليعود به على أهله وهي الحرفة التي كان يرتزق بها هو وأهله. وقد كانت تقوم بكفايته ولا يعجز عنه حتى يحتاج إلى غيرها، وهو الآن قد صار مشتغلاً بالاحتراف للمسلمين في أمورهم العامة أو الخاصة، وغير ممكن من العمل في حرفته الأصلية، فهو لا يطلب منهم إلا ما كان يحصله من حرفته الخاصة به، وهو الكفاية والكفاف على وجه يكون الحاصل له من بيت مال المسلمين في كل يوم ما كان يحصل له من حرفته في كل يوم، ولم يجعل لنفسه فرقًا بين حاله وهو سوقة، وحاله وهو ملك، ولا بين كونه كان يدور في الأسواق كأحد المسلمين، وبين كونه صار أمير المؤمنين فلله در هذا الورع
_________
(1) تقدم آنفًا.
(2) في صحيحه رقم (2070).
قال: أحترف أني كنت أكتسب لهم ما يأكلونه، والآن اكتسب للمسلمين.
قال الطيبي: فائدة الالتفات أنه جرد من نفسه شخصًا كسوبًا لمؤنة الأهل بالتجارة، فامتنع لشغله بأمر المسلمين عن الاكتساب، وفيه إشعار بالعلة، وأن من اتصف بالشغل المذكور حقيق أن يأكل هو وعياله من بيت المال. وخص الأكل من بين الاحتياجات لكونه أهمها ومعظمها.(9/4452)
الشحيح، والصلابة الشديدة، والدين القوي! فهكذا ينبغي أن يكون ولاة أمور المسلمين من القضاة، وأهل الأعمال، فإن كل ولاية وإن جلت وعظم شأنها وهي دون الولاية العامة والزعامة التي لا تكون فوق يد صاحبها يد. وينبغي للإمام العادل أن ينظر إلى من يوليه الأعمال في نفسه ومؤنة أهله، فيجعل لهم ما يقوم به على وجه لا يحتاج معه إلى أن يرفع رأسه إلى رزق من جهة أخرى يقضون رزقه الذي يجعله له إمامه عن مؤنة نفسه وأهله، ولا يجعل له من أموال الله ما يجاوز كفايته التي يحتاجها، فإن غيره من المسلمين أحوج بها، ومصارف أموال الله على ظهر البسيطة فإن موت الأموال (1) وإن بلغت في الكثرة كل مبلغ لا تفضل عن أرزاق من يستحقها بل يفضلون عنها، ولولا ذلك ما كان في كل عصر من العصور فقراء عالة الناس يسألونهم [5ب] ويحتاجون إلى ما في أيديهم.
فإن قلت: قد كان لجماعة من الصحابة والتابعين الأموال التي يطول ذيلها، ويتعاظم قدرها حتى اتسعوا في عمارة الدور الأنيقة، والدواب الفارهة، والمماليك الدوقة (2)، والملابس الفاخرة، والضياع المشتبكة، والأنهار المطردة، والذخائر الكثيرة حتى مات الواحد منهم عن مئين الألوف وألوف الألوف مما تركه لمن يرثه بعد أن عاش مرفهًا موسعًا على نفسه وأهله، يعطي العطايا الواسعة، ويبذل البذولات الرابعة لمن يقصده من الفقراء والشعراء وأهل الكمالات، وأرباب الغرامات.
قلت: صحيح ما ذكرته وغير مستنكر ولا مستعظم ذلك عليهم، فقد كان لهم من الغنائم التي عادت بها عليهم سيوفهم ما لا يقادر قدره، ولا يمكن التعبير عنه، وتضيق الأذهان عن تصوره، فإن الله - سبحانه - مكنهم من الممالك العظيمة كمملكة كسرى
_________
(1) غير واضحة في المخطوط.
(2) " الدوقة والدوقانية ": الفساد والحمق، وقيل أداقوا به أحاطوا به.
" تاج العروس " (13/ 151).(9/4453)
وقيصر، فما تركوه وهو قليل بالنسبة إلى ما أعطاهم الله - عز وجل - ذلك شيء خارج عما نحن بصدده من كفاية الإمام لمن يقوم بأمر من أمور المسلمين.
فإن قلت: إذا كان للرجل القائم بعمل من أعمال المسلمين أعوان ينفذون له ما يريده من الأمر والنهي، غير أهله ومن يعول ولا يتم له ما يؤيده من القيام بالحق إلا بهم نحو من يحتاج إليه للأخذ على يد الظالم والنصفة للمظلوم، واستخلاص الحق ممن هو عليه لمن حوله، ومن يحتاجه لتحرير السجلات، وتقرير الخصومات، وحفظ ما يكون لديه من الأحكام، ومن يحجبه عن الناس في الأوقات التي يخلو فيها بنفسه وأهله لحوائجه الخاصة [6أ] التي يسوغ له الشرع الاحتجاب لها، ولا سيما إذا كان انفراده بنفسه، لتدبير الأمور المتعلقة به، والبحث عن أدلة المسائل التي تعرض له، والنظر في دفاتر العلم المدونة، وفي مجاميع السنة، وكتب التفسير؛ فإن ذلك من أهم الأمور، بل من أوجب ما يجب عليه، فقد يعرض له في اليوم الواحد من المسائل العويصة الدقيقة ما يحتاج إلى أوقات كثيرة يستغرقها في البحث والنظر حتى يظفر فيها بالصواب، ويجتهد رأيه فيما لا تتضح قرينة دلالته، أو معارض مآخذه.
قلت: يجب على الإمام أن يعرض لهؤلاء جميعًا من الأرزاق ما يغنيهم عن التكالب على أموال الناس، والتهافت على الحطام، والتلاعب بأهل الخصومات، فإن كفاية هؤلاء الوزعة والحجبة والكتبة من أهم الأمور التي تلزم أئمة المسلمين، فيجعل لهم أرزاقًا تقوم بهم، أو يوفر على القاضي ونحوه رزقه توفيرًا تقوم به وبأهله ووزعته وحجبته وكتبته، فإن تقاصرت أموال الله عن القيام بما يحتاج إليه هؤلاء كان على القاضي أن يفرض لهم من الأجرة على من يستحق الفرض عليه من أهل الخصومات بقدر أعمالهم على التفصيل الذي قدمنا تحريره.
فإن قلت: فما تقول فيما نقله السائل - كثر الله فوائده - عن روضة النووي (1) أن
_________
(1) (5/ 188).(9/4454)
الاستئجار على القضاء باطل (1).
قلت: إن أراد بذلك استئجار القاضي على الحكم من الخصم الذي يستحق الحكم له، فلا شك في بطلان هذا، لأنه نوع من الرشوة المحرمة بالإجماع، وإن أراد أنه لا يجوز للقاضي أن يأخذ أجرة على القضاء من أموال الله، فهو باطل بإجماع المسلمين، وبما قدمناه من الأدلة، وإن أراد أنه لا يأخذ ما يأخذه [6ب] من أموال الله على نفس الحكم، بل يأخذه على ما يزاوله من مقدمات الحكم كالنظر في الشهادة، والإقرار، وقرائن الأحوال، فذلك مبني على تحريم أخذ الأجرة على الأمور الواجبة، وفيه عندي إشكال لا يتسع له المقام لطول ذيله، وتشعب أطرافه. وليس في ذلك دليل يدل على تحريمه إلا ما روي من حديث (2) أبي في القوس الذي أهداه إليه بعض أهل الصفة، وكان يتعلم عليه القرآن، وفي الحديث ضعف، وفي وجه دلالته إشكال، وهو معارض بما هو أرجح منه (3)، مع كونه أخص من الدعوى على أن تلك المقدمات التي سوغ القائل بالمنع
_________
(1) في هامش الأصل: الظاهر أن البطلان لشيء آخر وهو جهالة العمل، وفي البحر ما نصه: فرع (ي) - أي الإمام يحيى - لا يصح عقد الإجارة على القضاء إذ العمل غير معلوم. انتهى.
(2) أخرجه ابن ماجه رقم (2158) والبيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 125 - 126) وهو حديث صحيح بشواهده.
انظر هذه الشواهد في " الصحيحة " (رقم 256، 257، 258، 259، 260).
(3) منها ما أخرجه البخاري رقم (5737) من حديث ابن عباس " أن نفرًا من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مروا بماء فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم من راق فإن في الماء رجلاً لديغًا أو سليمًا، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرًا حتى قدموا المدينة فقالوا يا رسول الله: أخذ على كتاب الله أجرًا! فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله ".
وأخرجه البخاري في " صحيحه " رقم (2276، 5007، 5736، 5749) ومسلم رقم (2201) وأحمد (3/ 10، 44) وأبو داود رقم (3900) والترمذي رقم (2064) وابن ماجه رقم (2156) من حديث أبي سعيد.(9/4455)
من الأجرة على الحكم أخذ الأجرة عليها هي مما لا يتم الواجب إلا به فهي من مقدمة الواجب، وحكمها حكمه كما تقرر في الأصول (1)، فيعود الإشكال على من سوغ أخذ الأجرة عليها، ويقال له مقدمة الواجب (2) كالواجب، لا فرق بينهما.
وبالجملة فنحن لا نقول إن القاضي يأخذ من أموال الله على نفس الحكم، ولا على مقدماته، بل نقول يأخذ من بيت المال ما يقوم بكفايته وكفاية من يمون، لأنه قد شغل بهذه الأعمال التي هي في مصالح المسلمين ومنافعهم عن التكسب لنفسه ولأهله، والسعي فيما يقوم بمعاشه، ويغنيه عن تكفف الناس كما كان من الصديق - رضي الله عنه - مما سمعته قريبًا، فاشدد يديك على هذا، واحرص عليه، ودع عنك ما يقوله المشتغلون بعلم الرأي من كون هذه أجرة على واجب، هذه أجرة على حرام، ونحو ذلك من العبارات، فإن الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة (3)، والمؤمنون وقافون عند الشبهات، [7أ] فما يأخذه أهل الأعمال كالقاضي من ثبوت الأموال قد ثبت
_________
(1) يشير إلى القاعدة الأصولية وهي " ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورًا للمكلف فهو واجب.
قال الزركشي في " البحر " (1/ 223 - 224) " ما لا يتم الواجب إلا به، هو إما أجزاء الواجب، أو شروطه الشرعية، أو ضروراته العقلية والحسية، لا تنفك عن هذه الثلاثة. فالأول، واجب بخطاب الاقتضاء. والثاني: بخطاب الوضع، والثالث: لا خطاب فيه فلا وجوب فيه لأن الوجوب من أحكام الشرع.
انظر: " الأشباه والنظائر " لابن الوكيل (1/ 400)، " الإحكام " للآمدي (1/ 157)، " الإبهاج في شرح المنهاج " للسبكي (1/ 103).
(2) قال الزركشي في " البحر " (1/ 223): وأما ما يتوقف عليه إيقاع الواجب ودخوله في الوجود بعد تحقق الوجوب: فإن كان جزءًا فلا خلاف في وجوبه، لأن الأمر بالماهية المركبة أمر بكل واحد من أجزائها ضمنًا، وإنما الخلاف إذا كان خارجًا كالشرط والسبب، كما تقرر أن الطهارة شرط. ثم ورد الأمر بالصلاة فهل يدل الأمر بها على اشتراط الطهارة؟ هذا موضع النزاع؛ ولهذا عبر بعضهم عنه بالمقدمة، لأن المقدمة خارجة عن الشيء متقدمة عليه. بخلاف الجزء فإنه داخل فيه.
(3) تقدم تخريجه.(9/4456)
بالشرع، وصح عن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وعن الخلفاء الراشدين، ولم يسمع عن أحدهم أنه قال في أعمال القاضي أو الوالي ما هو واجب عليه، فلا يحل له أن يأخذ عليه أجرًا، بل قالوا إنه قد شغل عن أعماله الخاصة بنفسه وأهله في تحصيل رزقهم، والاحتراف لهم بالأعمال العامة لمصالح المسلمين، وكان رزقه ورزق أهله، ومن يعول من بيت مال المسلمين، فنحن نقول كما قالوا، ونعمل على ما عملوا عليه، ونفتي بما أفتوا به، ولا نجاوز ذلك إلى تلك التفاصيل التي جاء بها أهل الرأي، فقد أغنتنا الرواية عن الرأي، والدليل عن الدراية. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل (1).
فإن قلت: فما تقول فيما يأخذه القاضي (2) ونحوه من الرزق الذي يعرضه له الإمام أو السلطان من بيت المال إذا كان بيت المال قد اختلط فيه المعروف بالإنكار، والحق بالباطل، والعدل بالجور؟.
قلت: إن كان يقنعك الجواب بما قاله أهل العلم المتكلمين على هذه المسألة ونحوها من المسائل فاعلم أن في كلامهم ما يغنيك عن هذا السؤال، لأن هذا المال غاية ما فيه أن بعضه مأخوذ على وجه العدل، وبعضه مأخوذ على وجه الجور، وما أخذ على وجه الجور إن كان متميزًا معلومًا وصاحبه معروفًا لا يلتبس بغيره كان على صاحب العمل القابض رزقه من ذلك أن يرده على صاحبه إن كان ما قبضه هو عين مظلمة ذلك الرجل [7ب]؛ فالحلال بين والحرام بين، وإن كان ما يدفعه السلطان إليه قد اختلط
_________
(1) تقدم ذكر معنى المثل.
يضرب في الاستغناء عن الأشياء الصغيرة إذا وجد ما هو أكبر منها وأعظم نفعًا.
ونهر معقل: في البصرة وقد احتفره معقل بن يسار في زمن الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فنسب إليه.
انظر: " مجمع الأمثال " للميداني (1/ 88)، " الأمثال اليمانية " (1/ 95 رقم 237).
(2) تقدم توضيحه.
انظر: " فتح الباري " (13/ 150).(9/4457)
على وجه لا يتميز، بل كان بعضه من أموال الله مأخوذ على وجه العدل، وبعضه مظلمة ملتبسة، فمصارف المظالم الملتبسة على كلامهم معروف، وهذا القاضي ونحوه منهم، وإن كان لا يقنعك الجواب بما قاله أهل العلم، فاعلم أن ما يأخذه القاضي ونحوه هو عوض ما تركه من الاحتراف على نفسه، ومن يمول بالاحتراف على ما هو مصلحة عامة من مصالح المسلمين، فما دفعه إليه السلطان أخذه.
وقد صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما ثبت في الصحيح أنه قال: «ما جاءك من هذا المال - وأنت غير مستشرف، ولا سائل - فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك» (1). فيأخذ ما دفع إليه إن كان لا يعلم فيه بشيء يحرم عليه، فإن علم فيه
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (1473) وطرفاه (7163، 7164)، ومسلم رقم (1045) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
قال ابن حجر في " الفتح " (13/ 154) قال الطبري: في حديث عمر الدليل الواضح على أن من شغل بشيء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك، كالولاة والقضاة وجباة الفيء وعمال الصدقة وشبههم لإعطاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمر العمالة على عمله.
وذكر ابن المنذر أن زيد بن ثابت كان يأخذ الأجر على القضاء.
قال ابن بطال في تعليل الأفضلية - ما جاء من المال عن غير سؤال أفضل من تركه - أن الأخذ أعون في العمل وألزم للنصيحة من التارك، لأنه إن لم يأخذ كان عند نفسه متطوعًا بالعمل، فقد لا يجد جد من أخذ ركونًا إلى أنه غير ملتزم بخلاف الذي يأخذ، فإنه يكون مستشعرًا بأن العمل واجب عليه فيجد جده فيها.
قال القرطبي في " المفهم " (3/ 90): قوله " وأنت غير مشرف ولا سائل " إشراف النفس: تطلعها وتشوفها وشرحها لأخذ المال. ولا شك أن هذه الأمور إذا كانت هي الباعثة على الأخذ للمال، كان ذلك من أدل دليل على شدة الرغبة في الدنيا والحب لها، وعدم الزهد فيها، والركون إليها والتوسع فيها، وكل ذلك أحوال مذمومة. فنهاه عن الأخذ على هذه الحالة اجتنابًا للمذموم، وقمعًا لدواعي النفس، ومخالفة لها في هواها. فإن من لم يكن كذلك جاز له الأخذ للأمن من تلك العلل المذمومة.
وقال القرطبي في " المفهم " (3/ 91) وهذا الحديث أصل في أن كل من عمل للمسلمين عملاً من أعمالهم العامة: كالولاية، والقضاء والحسبة والإمامة فأرزاقهم في بيت مال المسلمين، وأنهم يعطون ذلك بحسب عملهم.(9/4458)
بشيء يحرم عليه وجب عليه أن يرده لصاحبه إن كان معينًا معلومًا، فإن كان ملتبسًا فالمفروض أن هذا المتولي للقضاء ونحوه مجتهد متمكن من النظر لنفسه فيما يعرض له من الأمور الخاصة من النظر فيما يعرض له من الأمور العامة، فعليه أن ينظر في هذا المال المتصف بتلك الصفة نظرًا يلقي به الجواب بين يدي الله - عز وجل - ويعمل على ذلك فيصرفه فيما يوجبه ذلك النظر ويقتضيه وجه الشرع، ومر الحق، ويعمل لنفسه كما يعمله بين الخصوم، فيجعل الخصومة بينه وبين نفسه، والحاكم كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -.
وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، وحسبي الله ونعم الوكيل [8أ].(9/4459)
(143) 14/ 3
إرشاد السائل إلى دلائل المسائل
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه
محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن(9/4461)
وصف المخطوط: الأسئلة:
1 - عنوان الرسالة: " هذا السؤال ورد إلي من بلاد أبي عريش وأجيب بما سيأتي ".
2 - موضوع الرسالة: " أسئلة فقهية ".
3 - أول المخطوط: " بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وبعد: فهذه أسئلة موجهة إلى من يؤمل عنده بيانها للمسترشدين
4 - آخر المخطوط: تمت السؤالات بحمد الله الموفق لمن أراد من عبادة من الكمالات والتفضل على عبده بما شاء من الطاعات مع الاستعمالات بمنه وكرمه آمين آمين آمين.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 8 صفحات.
7 - عدد الأسطر: 23 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 10 - 11 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(9/4463)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وبعد:
فهذه أسئلة موجهة إلى من يؤمل عنده بيانها للمسترشدين، معولاً معتمدًا في فتواه على الكتاب والسنة، غير مقلد لمن يقدمه من الأئمة.
السؤال الأول: هل يجوز للحاكم متولي القضاء فصل الأقضية بين المسلمين أن يحكم بين الغريمين بما يعرفه من كتب أهل مذهبه، وسماعه على أستاذه، مع عدم تمكنه من الدليل عند ورود الحادثة عند من يقول بعدم صحة قضاء المقلد، لأنه إن ترك الغريمين حتى يبحث عن الدليل أدى إلى المخالفة والمشاققة، وإثارة الفتنة، فهل الراجح الترك؟ وإن وقعت الفتنة هلا يظهر من هذا الحديث جواز التقليد «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» (1) فقد تدينا إلى الأخذ بأقوال الصحابة، وهو عين التقليد. الفائدة مطلوبة.
السؤال الثاني: عن حال الأعراب سكان البادية الذي ليس معهم من أمور الشريعة إلا التكلم بالشهادتين، وإن وجدنا منهم الفرد يصلي، فهي صلاة ناقصة لا وضوء لها مستكمل، ولا أركان، ومنهم من يصوم وإن حج الشاذ فهو مقلد لأهل الحضر لا
_________
(1) أخرجه أحمد (4/ 26 - 27) وأبو داود رقم (4607) والترمذي رقم (2667) وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه رقم (43، 44) والدارمي (1/ 44 - 45) وابن حبان في صحيحه رقم (5) وهو حديث صحيح.
عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: " صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فما تعهد إلينا؟ قال: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ".(9/4467)
حقيقة عنده بأن الحج من فرائض الله المكتوبة عليه بشرطه الاستطاعة، والتخلص من كل حق، وهم أهل منعة في بلدهم. هل يجوز للمسلمين غزوهم إلى دورهم، وقتلهم ونهب أموالهم؟ وقد ورد في الحديث (1) «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ومتى قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» فإن يقال يجب على أهل الحضر تعليمهم أركان الإسلام بعد معرفتهم الشهادتين، والتكلم بهما، ومتى تمردوا عن قبول التعليم جاز غزوهم. نقول: علمنا يقينًا من هؤلاء عدم قبول التعليم مع المخالطة لهم، وهم لا يجحدون الواجبات إذا عرفناهم بما جهلوه، إنما يغلب عليهم إبليس [1] بل لا يصبرون نفوسهم على مخالفته، فهل يجوز مع هذا قتلهم ونهب أموالهم؟ وهل دارهم دار حرب؟ مباح كل ما فيها، وإن لم يحاربونا الفائدة مطلوبة. فلأهل المذاهب أقوال مختلفة، والرجوع إلى الكتاب والسنة هو الأكمل الأتم.
السؤال الثالث: عن الأحاديث المصرحة بنجاة أهل البيت عن طرف على طرف على الإطلاق، وأن عصاتهم لا يعاقبون بالنار مع عصاة الأمة تكريمًا للمصطفى - صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه الخلفاء الراشدين -، وقد ورد في القرآن العظيم بالوعيد على التعميم من ذلك قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} (2)، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} (3) إلى قوله: {ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا} (4)، وفي آية أخرى: {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا} (5)
_________
(1) وهو حديث متواتر له طرق عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
انظر هذه الطرق في الرسالة رقم (4) (ص347 - 349).
(2) [النساء: 93].
(3) [النساء: 29].
(4) [النساء: 30].
(5) [الفرقان: 68 - 69].(9/4468)
، وفي الحديث: «إذا مشى الرجل إلى الرجل فقتله فالقاتل في النار، والمقتول في الجنة» (1)، وكم نعد من الآيات والأحاديث! ومما ورد في نجاتهم ما أخرجه الحاكم (2) عن أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «وعدني ربي في أهل بيتي من أقر منهم بالتوحيد ولي بالبلاغ ألا يعذبهم»، وما أخرجه ابن سعد عن عمران بن الحصين قال: «سألت ربي أن لا يدخل النار أحدًا من أهل بيتي فأعطاني ذلك» (3)، وأخرج الطبراني (4) ..................................................
_________
(1) أخرجه الطبراني في " الأوسط " رقم (1994) من حديث عبد الله بن عمر.
وأورده الهيثمي في " المجمع " (7/ 297) وقال: " رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح ".
(2) في " المستدرك " (3/ 150).
وقال: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله " بل منكر لم يصح ".
قلت: وأخرجه ابن عدي في " الكامل " (5/ 1704) وقال ابن عدي: " وقوله: في أهل بيتي " في هذا المتن منكر بهذا الإسناد ".
وأورده السيوطي في " الجامع الصغير " رقم (9623) ورمز لصحته.
وضعفه المناوي والمحدث الألباني.
وعلته: " عمر بن سعيد البصري الأبح " فهو منكر الحديث قاله البخاري.
وخلاصة القول أن الحديث منكر، والله أعلم.
(3) عزاه إليه المناوي في " فيض القدير " (4/ 77).
وعزاه أيضًا لأبي القاسم بن بشران في " أماليه " ولأبي سعيد في " شرف النبوة " والملا في " سيرته " من حديث عمران بن حصين. وهو عند الديلمي وولده بلا سند.
ورمز السيوطي في " الجامع الصغير " رقم (4605) لضعفه.
وحكم الألباني عليه بالوضع في ضعيف الجامع وفي " الضعيفة " رقم (322).
(4) في " الكبير " (3/ 41 - 42 رقم 2625) و (22/ 406 - 407 رقم 1018).
قلت: وأخرجه البزار (3/ 235 رقم2651 - كشف) والحاكم (3/ 152) والعقيلي في " الضعفاء " (3/ 184 رقم 1179) وابن عدي في " الكامل " (5/ 1714) وأبو نعيم في " الحلية " (4/ 188) وابن الجوزي في " الموضوعات " (1/ 422) من طريق معاوية بن هشام ثنا عمر بن غياث، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود مرفوعًا.
قال الهيثمي في " المجمع " (9/ 203): رواه الطبراني في " الكبير " وفيه عمرو بن عتاب، وقيل: ابن غياث، وهو ضعيف.
قال ابن عدي: " وهذا لا يرويه عن عاصم غير عمر بن غياث، ولا عن عمر غير معاوية، ولم يسنده عن معاوية غير أبي كريب وعلي بن المثنى ".
وقال أبو نعيم: " هذا حديث غريب، تفرد به معاوية ".
وقال الحاكم: " صحيح الإسناد " ورده الذهبي بقوله: " قلت: بل ضعيف تفرد به معاوية وضعف، عن ابن غياث وهو واه بمرة ".
* وأخرجه بن شاهين في " فضائل فاطمة " رقم (11): من طريق حفص بن عمر الأيلي، ثنا عبد الملك بن الوليد بن معدان، وسلام بن سليمان القاري عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن حذيفة بن اليمان، مرفوعًا.
قلت: فيه حفص بن عمر كذاب، انظر " المجروحين " (1/ 257) والميزان (1/ 560) وعبد الملك بن الوليد ضعيف لا يحتج به. " الميزان " (2/ 666).
وقال ابن تيمية في " منهاج السنة " (4/ 62): " هذا الحديث كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث ".
* وأخرجه ابن شاهين في " فضائل فاطمة " رقم (12) من طريق تليد، عن عاصم، عن زر عن عبد الله مرفوعًا.
قلت: فيه: تليد بن سليمان كذبه أحمد بن حنبل وابن معين، وقال: دجال لا يكتب عنه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
انظر " الميزان " (1/ 358). وخلاصة القول أن الحديث موضوع والله أعلم.(9/4469)
والدارقطني (1) عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار»، وغير ذلك تركناها اختصارًا، فإذا صح الحديث هذا كيف العمل بآيات الوعيد العامة للمرسل إليهم؟ هل هذه الآيات تخصصهم من بين الأمة؟ [2] وقد قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - «لما نزلت الآية
_________
(1) لم أجده في سننه.(9/4470)
الكريمة: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (1) دعا بأعلى صوته: " يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئًا» (2) فإذا صح حديث النجاة على الإطلاق، وأن الذرية لهم أخصية عن الأمة بكون ذنوبهم مغفورة، سواء كانت الذنوب عن حق الله أو لعباده أوضحوا ما تطمئن به النفس بصرف آيات الوعيد عن الظواهر، وإذا قال قائل: إن الأحاديث واردة فيمن دخل تحت الكساء من أولاد فاطمة (3) فلفظ الحديث مشعر بعموم الذرية، وإن يقال: إنهم يختم لهم في آخر أعمارهم، يقال له فشاهد الكثير منهم يموت إما بالقتل أو فجأة أو قبل أن يتخلص من حقوق الآدمي، فأشكل علينا الأمر على فرض صحة الحديث، فاستمدينا ما يزيح الإشكال ويريح البال.
السؤال الرابع عن حال أهل مدينة جمعهم وجماعتهم واحدة إلا أن اعتقاداتهم متباينة في أمور أهمها وأولاها بالبحث والاسترشاد اختلافهم في شأن الخلافة بعد المصطفى - صلوات الله عليه وعلى آله الحنفاء - فطائفة تقول: إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب هو الأحق بمقام الخلافة بعد نبينا المبعوث رحمة للعالمين، وأن من تقدمه من الثلاثة الخلفاء مخالف للصواب، إلا [أن] (4) لهم شيئًا من التفائض ملاحظة لسوابقهم بين يدي معلم الشريعة من بذل أنفسهم وأموالهم، ولهم أدلة ناهضة في معتقدهم، والطائفة الثانية تقدم
_________
(1) [الشعراء: 214].
(2) وهو جزء من حديث أخرجه البخاري رقم (4771) ومسلم رقم (351/ 206) والترمذي رقم (3185) والنسائي رقم (3644) من حديث أبي هريرة.
(3) عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج علينا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غداة وعليه مرط مرحل، من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} [الأحزاب: 33].
(4) في " المخطوط " أنهم والصواب ما أثبتناه.(9/4471)
الثلاثة مطابقة للواقع لا عن نص قاطع، وحملوا الصحابة على السلامة حتى أداهم حملهم على سلامتهم من الخطأ، وهم لا يثبتون لهم عصمة إن أدخلوا معاوية ومن شايعه في مسمى الصحابة المترضى عنهم. ومع ما قد ورد في صحيح الخبر أن رئيس الفئة الباغية قتلة عمار بن ياسر (1)، وقد حارب عليًا وعاداه القائل في حقه الصادق [3] المصدوق بمشهد من الصحابة، وخشي الجفاء بعد ترحم: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله " (2) وهذه الأخواض وإن كنا غير متعبدين بها إلا أنه يتحصل منها موالات من يجب موالاته، ومعاداة من يجب علينا معاداته، والموالاة والمعاداة لها أصل في الشريعة، فإن الترضية عن الباغي موالاة، وشتمه معاداة. قال تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} (3) إلى آخر الآية، فإذا كان هذا حال أهل البلد في المخالفة وتخطئة كل للآخر، هل أحدهما يصيب والآخر يخطئ؟ أم يصيبان؟ أم يخطئان؟ وكيف حال صلاة أحد هؤلاء بعد الآخر على ما يعتقده من خطئه في هذه العقيدة؟ وإن أتى بصلاته كاملة الشروط على مذهبه، وهل يصوغ أن يترك من أراد الحضور معهم لجمعة أو جماعة، أم كيف يكون الحال معهم؟ بينوا الطريقة المنجية لجايئها بحسب ما عرفتم.
السؤال الخامس عن الاجتماعات في المساجد للدرس على الميت والتعزية ثلاثة أيام، ويقع من الإنشاد ما صار حكم اللازم، ثم البيوت لقراءة المواليد ليلة سابع
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (73/ 2916) وأحمد (6/ 289، 300، 315) والبيهقي في " السنن الكبرى " (8/ 189) والطيالسي (1598) والنسائي في " فضائل الصحابة " (170) والطبراني في " الكبير " (23/ 852 و854 و855، 856) والبغوي في " شرح السنة " رقم (3952) من طرق، من حديث أم سلمة. قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تقتل عمارًا الفئة الباغية ".
(2) أخرجه الطبراني في " الكبير " (4/ 16 - 17 رقم 3514).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (9/ 106) وقال: ورجاله وثقوا.
(3) [المجادلة: 22].(9/4472)
المولود وختانه، وغير ذلك. وفي شهر رجب ونحوه أمور ما ورد عن الشارع فعلها إلا أنه إذا دعاك جارك أو قريبك إلى الحضور ولم تحضر تكدر خاطره، وإذا لم تحضر معه في المسجد للعزاء تعبت نفسه أعظم، وربما ينسبك إلى التكبر، وإن حضرت معه طابت نفسه، فهل يسوغ الحضور طلبًا لحسن المخالقة التي لها أصل في الشريعة، وجبر خواطر مكسورة من فراق الأحبة؟ أم تقول هذه مبتدعات لا يلاحظ بها مخالفة ولا معاشرة؟ وهل هذه البدعة تخرجهم عن وصيفة تسميتهم بالمؤمنين، أم تقول صاروا أهل بدع لا تصوغ مخالطتهم ولا حضور جماعتهم، ويجب الإنكار لمن أمكنه ذلك؟.
السؤال السادس عن الحلف برأس أبيه، أو بولي من الأولياء أو بالسلطان، وهو غير قاصد بالمحلوف به المشاركة في عظمة الله - تعالى جلاله - بل صارت عادة [4] لأهل البلد في محاوراتهم، وربما يقصد المميز منهم تنزيه الله - تعالى - أن يحلف به، ويحنث، وإذا حنث عند الحلف بأبيه أو بولي خف عليه الأمر.
السؤال السابع عن تبقية شعر الرأس، هل هو مسنون إذا علم عن نفسه التقصي على تخليله بالماء عند وجوب الغسل، أم يجب عليه إزالته حذرًا من عدم الإتيان بالواجب، وهو تخليله بالماء؟ على أنه كان في عصر معلم الشريعة - صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين - وفي خير القرون بعده جل أهله لهم لمم من الشعر، ولم يرد الإنكار عليهم، أو تقول: تركه في هذا الزمن من باب: دع ما لا بأس به حذرًا مما به البأس.
السؤال الثامن عن أمر يتعلق بأمور متعلقة بالمال، وذلك عن أرض فيها أثار ملك متقادمة، وقد صارت بعيدة عن الحي مغمورة بالأشجار، بل قد صارت مأوى للقطاع، ولم يعرف لها مالك محقق، إنما بعض أفراد من الناس بأيديهم مرقومات قديمات قاضية بأن لأوائلهم أملاكًا في هذه المحلات ملتبسة بغيرها، لا يمكن تمييزها، فهل يصوغ لآحاد المسلمين إن استطاع البسوط على بعضها أو كلها، ويبقي أشجارها ويجعلها مزرعة، وتكون من أملاكه، أم تقول ليس له ذلك، إنما تبقى على نظر ذي الولاية يقسطها في طرق المصالح، أو كيف يكون الحال فيها، فإنها إذا بقت على حالها لا نفع فيها لأحد(9/4473)
من المسلمين، بل تكون مأوى للمتخربين، وقد لا يستطيع على الإقامة بها، وبتخريج أشجارها إلا ذو شوكة كسلطان البلد، فإنه ربما يعمرها للسكنى، ويتحول مكان المخافة أمنًا؟ ومع العناية بالحرث والزرع يعيش بها الناس والمواشي مما هذا حاله من الأرض، فهل يكون فيه حقًا لغير الباسط المغالي كذلك من جهل مالكه أو علم وجهل محل ملكه على السواء، أم بينهما فارق بينوا وأفيدوا؟.
السؤال التاسع عن المال الذي تأخذه الولاة من الرعايا مثل الزكوات، [5] والتأديب بالمال عند حصول قتل أو نحوه، هل يصوغ له ذلك؟ وهؤلاء الرعايا لا يتخلصون من الواجبات من نفوسهم إلا غلبت عليهم العامية، وأكثرهم لا يقوم بحقوق الله تعالى من صلاة وصيام، فضلاً عن تأدية زكاة شرعية في مصارفها، فما يكون حال هذا الذي يقبضه منهم السلطان، هل هو صائغ في حقه، أم نقول لا حق عليهم في أموالهم، وإن كانوا عصاة؟ وهل يجوز للسلطان إذا قلتم له أخذ هذا المال منهم أن يدفعه إلى من يخشى ضرره على البلد يألفهم بذلك، أم ليس له إلا صرفه في مستحق الزكاة في مصارفها ومال التأديب في المصارف؟ نعم وما هو الذي يجب في المال بعد الزكاة؟ والذي يجوز تناوله منه؟ وما هو الذي يستباح عنده الدم والمال إذا ارتكبه من يستحق ذلك؟ فإن القتل لا يكون إلا لكافر حربي، أو مرتد، أو عن قصاص، أو زان محصن؛ فالمال ليس فيه حق غير الزكاة، فالعالم بنيان الله، والله يغضب إذا هدم بنيانه من غير حق، وليس المراد إلا بيان ما جهلناه، والله يعلم أن المراد الاستفادة وتنقيح المراد من كتاب أو سنة، ومن هداه الله إلى العمل بهما فهو السعيد في الأزل.
كذلك وقع من أفعال المسلمين ما لم يقع في عصر الرسول - صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين - ولا في وقت الخلفاء من بعده من عمارة المنائر والصوامع في المساجد في حرم الله، وحرم رسوله، وفي غيرهما من المدن، واختصاص كل أهل مذهب من المذاهب بمحل يصلون فيه، ثم التعلية في البيوت فوق الحاجة إلا أنه لا ضرر في ذلك(9/4474)
على مسلم، فهل المبتدع لا يجب إنكاره إلا مع حصول المصادرة فيه أم يقولون كل مبتدع تجب إزالته لمخالفته أفعال الرسول؟ ولا تقع بدعة مستحسنة في الدين، فإن أكثر الموجودات المشاهدات ما فعلها الرسول، ولا أمر بها إنما استحسنها المسلمون.
وقد ورد: ما " رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن " (1)، والله أعلم بصحة هذا.
وقد [6] جرى على هذا العلماء في كل عصر من مدة حدوث المقامات بالحرم الشريف إلى وقتنا هذا ما أنكرها عالم، ولا أقام عليها دليلاً، بل قصارى ما نقوله بدعة مستحسنة لا يجب الإنكار على فاعلها، فالفائدة مطلوبة عن جميع ما حررناه، وسألنا لإزاحة ما في النفس من اللبس عند كثرة الواردات التي ما تلقيناها من محقق منصف لا غرض له فيما يرويه.
والمقصود - والله - الاطلاع على ما يكون هو الحق - إن شاء الله تعالى - ثم البحث أيضًا عن أفعال العباد الصادرة من الفعل القبيح، وارتكاب المحرمات التي يغضب الله لها، ويعاقب عليها، هل هي بمقدورات الله التي لا يستطيع العبد مدافعة نفسه عند
_________
(1) أخرجه أحمد (22/ 170 - الفتح الرباني). وأورده الهيثمي في " المجمع " (1/ 177 - 178) وقال: رواه أحمد والبزار، والطبراني في " الكبير " (9/ 118 رقم 8582) ورجاله موثقون ".
وأخرجه الطيالسي في " المسند " (ص33 رقم 69) وأبو نعيم في " الحلية " (1/ 375) وأورده السخاوي في " المقاصد الحسنة " (ص581). وقال عقبه " وهو موقوف حسن " وابن الديبع في " التمييز " (ص146) والزرقاني في " مختصر المقاصد " (ص168) والعجلوني في " كشف الخفاء " (2/ 245). وأخرجه الحاكم (3/ 78 - 79) من قوله " فما رأى المسلمون ..... " وزاد " وقد رأى الصحابة جميعًا أن يستخلفوا أبا بكر - رضي الله عنه - وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
قلت: والخلاصة أنه موقوف حسن ولا أصل له في المرفوع.
وهو أثر عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: " إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسنًا، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيء ".(9/4475)
إتيانها، أم هي باختيار ورغبة منه؟ وإنما العلم لله سابق بأن العبد يفعلها. وفي الحديث: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» (1).
فمن الميسر له على فعل الطاعة والمعصية، فهذه المسائل هي - والله - لمراد الفائدة، والأعمال بالنيات. ثم ما هو المعتمد لديكم بالدليل الصحيح في استعمال شجرة التنباك التي عمت به البلوى في جميع البلدان؟ فالأشجار أصلها الإباحة إلا ما ورد الشرع بتحريمه، ولم يرد عن الشارع تحريم استعمال شجر بعينه إلا أنكر قياسًا على الخمر، أو قوله: «كل مسكر حرام» (2) إذا ورد لفظ الحديث هكذا أو بالمعين.
والتتن هذا لم يكن من المسكرات، ولا بأس بأنه مستقذر عند العلماء والمتعلمين، وقد يشغل عن المحافظة على توقيت الصلوات المفروضة، وإذا قيل إنه يغير رائحة الفم فيشغل المصلين في الجماعة. نقول: إذا كانت على التحريم هذا على فرض القول بحرمة استعماله قد يستعمل شاربه ما يذهب خبث رائحته من الفم فتزول العلة، وإنما المطلوب الدليل على حرمته لعينه، أو بقائه على أصل الإباحة، فإن يوجد الدليل الواضح على التحريم فبها ونعمت، وإن هو مستنبط من [7] أدلة فذاك، إنما حيث كان حدوثه في بعد من البعثة، وأوقات الصحابة والتابعين، وما بقي إلا فجعل دليله من طريق القياس الذي لا يحتج إليه من عمله على صرائح الآيات والسنة، وإذا جعلنا العلة في تحريمه إشغال شاربه عن التوقيت فغيره مثله من الأمور الملهية التي أصلها الإجابة، والفائدة مطلوبة - لا
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4947) (4949) ورقم (6217) ومسلم رقم (2647) من طرق عن علي بن أبي طالب.
(2) أخرجه مسلم رقم (2003) وأبو داود رقم (3679) والترمذي رقم (1861) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي (8/ 297 رقم 5586) وأحمد (2/ 16) والطبراني في " المعجم الكبير " (12/ 312 رقم 13213) (12/ 332 رقم 13268) وابن ماجه رقم (3390) عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ".(9/4476)
برحتم في مقام الإفادة -، كذلك التوسل بالأنبياء والأولياء وكل من له درجة رفيعة، هل هو جائز ولا ينكره أحد من العلماء، أم مكروه، أم هو خلاف الأولى؟ بينوا لنا ذلك بالأدلة الصحيحة - جزيتم خيرًا -، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
تمت السؤالات بحمد الله الموفق لمن أراد من عباده من الكمالات، والمتفضل على عبده بما شاء من الطاعات مع الاستعمالات بمنه وكرمه آمين آمين آمين.(9/4477)
وصف المخطوط: الأجوبة:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " إرشاد السائل إلى دلائل المسائل ".
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا. وسيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل
4 - آخر الرسالة: جواب هذه الأسئلة على انفراده على كراريس، فما الظن بجميعها، والحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
فرغ من تحريره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في ليلة الأحد لعلها ليلة العشرين من محرم سنة 1217.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الصفحات: 22 ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 19 سطرًا ما عدا الصفحة الأخيرة ففيها 6 أسطر.
8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(9/4479)
[نص الأجوبة]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فما له من هاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(وبعد): فإنه أرسل إلي بعض الأعلام بأسئلة يذكر أنها من المخلاف السليماني (1)، وأنه حصل الاختلاف بين أهله في شأنها.
وحاصل السؤال الأول: هل الراجح جواز قضاء المقلد أم لا؟
وأقول: الأوامر القرآنية ليس فيها إلا أمر الحاكم بأن يحكم بالعدل والحق، وما أنزل الله، وما أراه الله، ومن المعلوم لكل عارف أنه لا يعرف هذه الأمور إلا من كان مجتهدًا؛ إذا المقلد (2) إنما هو قائل قول الغير دون حجته، ولا طريق إلى العلم بكون الشيء حقًا أو عدلاً إلا الحجة، والمقلد لا يعقل الحجة إذا جاءته، فكيف يهتدي للاحتجاج بها! وهكذا لا علم عنده بما أنزل الله، إنما عنده علم بقول من هو مقلد له، فلو فرض أنه يعلم بما أنزل الله، وما جاء عن رسول الله -[صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ]- علماً صحيحًا لم يكن مقلدًا، بل هو مجتهد، وهكذا لا نظر للمقلد، فإذا حكم بشيء فهو لم يحكم بما أراه [1] الله، بل بما أراه إمامه (3)، ولا يدري أذلك القول الذي قاله إمامه
_________
(1) تقدم تعريفها.
(2) التقليد اصطلاحًا: هو العمل بقول الغير من غير حجة، فيخرج العمل بقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والعمل بالإجماع ورجوع العامي إلى المفتي ورجوع القاضي إلى شهادة العدول، فإنها قد قامت الحجة في ذلك.
" إرشاد الفحول " (ص862)، " المسودة " (ص553).
انظر: الرسالة رقم (60).
(3) قال الزركشي في " البحر " (6/ 281) عن المزني أنه قال: يقال لمن حكم بالتقليد، هل لك من حجة؟ فإن قال: نعم، أبطل التقليد؛ لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد. وإن قال بغير علم قيل له: فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج والأموال وقد حرم ذلك إلا بحجة؟ فإن قال: أنا أعلم أني أصبت وإن لم أعرف الحجة؛ لأن معلمي من كبار العلماء، قيل له، تقليد معلم معلمك أولى من تقليد معلمك؛ لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عن معلمك كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عنك، فإن قال: نعم، ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه. وكذلك حتى ينتهي إلى العالم من الصحابة، فإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له: كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علمًا، ولا يجوز تقليد من هو أكبر وأغزر علمًا، وقد روي عن ابن مسعود أنه قال: لا يقلد أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر. أخرجه ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " (2/ 114).
وقال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص872) تعقيبًا على ذلك: وعند أن ينتهي إلى العالم من الصحابة، يقال له: هذا الصحابي أخذ علمه عن أعلم البشر المرسل من الله إلى عباده المعصوم عن الخطأ في أقواله وأفعاله، فتقليده أولى من تقليد الصحابي الذي لم يصل إليه إلا شعبة من شعب علومه، وليس له من العصمة شيء. ولم يجعل الله سبحانه قوله ولا فعله ولا اجتهاده حجة على أحد من الناس.
انظر: " أعلام الموقعين " (2/ 196 - 197).(9/4483)
موافق للحق أم مخالف له.
وبالجملة فالقاضي هو من يقضي بين المسلمين بما جاء عن الشارع كما جاء في حديث معاذ (1) عند أبي داود، والترمذي أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن «قال: كيف تقضي إذا اعترض لك القضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله -[صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]- لما يرضي رسول الله». وهذا الحديث وإن كان فيه مقال فقد جمع طرقه وشواهده الحافظ ابن كثير في جزء وقال: هو حديث حسن مشهور اعتمد عليه أئمة الإسلام. وقد أخرجه أيضًا أحمد، وابن عدي، والطبراني،
_________
(1) وهو حديث ضعيف تقدم بطرقه.
انظره في الرسالة رقم (139).(9/4484)
والبيهقي، ولأئمة الحديث كلام طويل في هذا الحديث، فبعضهم يقول: باطل لا أصل له، وبعضهم يقول: حسن معمول به، وبعضهم يقول: ضعيف، والحق أنه من الحسن لغيره، وهو معمول به.
وقد دل هذا الحديث على أنه يجب على القاضي أن يقدم القضاء بكتاب الله، ثم إذا لم يجد فيه قضى بما في سنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ثم إذا لم يجد فيهما اجتهد رأيه، والمقلد لا يتمكن من القضاء بما في كتاب الله (1)؛ لأنه لا يعرف الاستدلال ولا كيفيته، ولا يمكنه القضاء بما في سنة (2) رسول الله -[صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ]- لذلك، ولأنه [2] لا يميز بين الصحيح والموضوع والضعيف المعلول بأي علة، ولا يعرف الأسباب ولا يدري بالمتقدم والمتأخر، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، بل لا يعرف مفاهيم هذه الألفاظ، ولا يتعقل معانيها فضلاً عن أن يتمكن من أن يعرف اتصاف الدليل بشيء منها.
وبالجملة فالمقلد إذا قال: صح عندي فلا عند له، وإن قال: صح شرعًا فهو لا يدري ما هو الشرع. وغاية ما يمكنه أن يقول: صح هذا من قول فلان، وهو لا يدري هل هو صحيح في نفس الأمر أم لا.
_________
(1) قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 15): أما معرفته بكتاب الله فيحتاج أن يعرف من عشرة أشياء: الخاص، والعام، والمطلق، والمقيد، والمحكم، والمتشابه، والمجمل، والمفسر، والناسخ، والمنسوخ في الآيات المتعلقة بالأحكام وذلك نحو خمسمائة، ولا يلزمه معرفة سائر القرآن.
(2) أما السنة فيحتاج إلى معرفة ما يتعلق منها بالأحكام دون سائر الأخبار، من ذكر الجنة والنار والرقائق، ويحتاج أن يعرف منها ما يعرف من الكتاب ويزيد معرفة التواتر، والآحاد، المرسل، المتصل، والمسند، والمنقطع، والصحيح، والضعيف، ويحتاج إلى معرفة ما أجمع عليه. وما اختلف فيه. ومعرفة القياس، وشروطه، وأنواعه وكيفية استنباطه الأحكام، ومعرفة لسان العرب فيما يتعلق بما ذكر، ليتعرف به استنباط الأحكام من أصناف علوم الكتاب والسنة.
" المغني " (14/ 15)، " الأحكام السلطانية " للماوردي (ص62)، " الفقيه والمتفقه " (1/ 90).(9/4485)
فهو بلا ريب أحد قضاة النار (1)؛ لأنه إما أن يصادف حكمه الحق فهو حكم بالحق، ولا يعلم أنه الحق، أو يحكم بالباطل وهو لا يعلم أنه باطل، وكلا الرجلين في النار، كما ورد بذلك النص عن المختار (2)، وأما قاضي الجنة فهو الذي يحكم بالحق، ويعلم أنه الحق، ولا شك أن من يعلم بالحق مجتهد لا مقلد.
هذا يعرفه كل عارف، فإن قال المقلد: إنه يعلم أن ما حكم به من قول إمامه حق؛ لأن كل مجتهد مصيب، فنقول له: هل أنت مقلد في هذه المسألة؟ أعني أن كل مجتهد مصيب، أم مجتهد؟ فإن [قال]: كنت مقلدًا في هذه المسألة فقد جعلت ما هو محل النزاع دليلاً لك، وهو مصادرة باطلة؛ فإنك لا تعلم بأنها حق في نفسها فضلاً عن أن تعلم بزيادة على ذلك، وإن كنت مجتهدًا في هذه المسألة فكيف خفي عليك أن المراد بكون كل مجتهد مصيبًا هو من الصواب لا من الإصابة، كما أقر بذلك القائلون بتصويب المجتهدين (3)، وحرروه في مؤلفاتهم المعروفة الموجودة بأيدي الناس! وإذا كان
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (3573) والترمذي رقم (1322) وابن ماجه رقم (2315) والبيهقي في " السنن الكبرى " (10/ 116 - 117) من طرق عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، رجل قضى بغير الحق فعلم ذلك فذاك في النار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة " وهو حديث صحيح.
(2) انظر التعليقة السابقة.
(3) قال الزركشي في " البحر المحيط " (6/ 244 - 245): قال ابن فورك في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الحق في واحد وهو المطلوب، وعليه دليل منصوب، فمن وضع النظر موضعه أصاب، ومن قصر عنه وفقد الصواب فهو مخطئ ولا إثم عليه، ولا نقول إنه معذور؛ لأن المعذور من يسقط عنه التكليف لعذر في تركه كالعاجز عن القيام في الصلاة، وهو عندنا قد كلف إصابة المعين لكنه خفف أمر خطابه وأجر على قصده الصواب وحكمه نافذ على الظاهر.
وهذا مذهب الشافعي وأكثر أصحابه وعليه نص في الرسالة (ص496 - 497).
الثاني: أن الحق واحد إلا أن المجتهدين لم يكلفوا بإصابته، وكلهم مصيبون لما كلفوا من الاجتهاد وإن كان بعضهم مخطئًا.
الثالث: أنهم كلفوا الرد إلى الأشبه على طريق الظن.
وذهب قوم إلى أن الحق واحد والمخالف له مخطئ آثم، ويختلف خطؤه على قدر ما يتعلق به الحكم، فقد يكون كبيرة، وقد يكون صغيرة، ومن القائلين بهذا القول الأصم والمريسي وابن علية.
والرأي الراجح هو الرأي الأول.
" الفقيه والمتفقه " (2/ 60)، " مجموع الفتاوى " (19/ 124).(9/4486)
ذلك من الصواب لا من الإصابة، فلا يستفاد من المسألة ما تزعمه من كون مذهب إمامك حقًا، فإنه لا ينافي الخطأ. ولهذا صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر» (1) وهذا لا يخفى إلا على أعمى، وإذا لم تتعقل الفرق بين الصواب والإصابة فاستر نفسك بالسكوت، ودع عنك
_________
(1) تقدم تخريجه مرارًا. وهو حديث صحيح.
قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص851): فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد، وأن بعض المجتهدين يوافقه فيقال له مصيب ويستحق أجرين، وبعض المجتهدين يخالفه ويقال له مخطئ. واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيبًا، وإطلاق اسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر.
فمن قال كل مجتهد مصيب، وجعل الحق متعددًا بتعدد المجتهدين فقد أخطأ خطأ بينًا، وخالف الصواب مخالفة ظاهرة فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل المجتهدين قسمين: قسمًا مصيبًا وقسمًا مخطئًا، ولو كان كل واحد منهم مصيبًا لم يكن لهذا التقسيم معنى.
ومن قال إن الحق واحد ومخالفه آثم فإن هذا الحديث يرد عليه ردًا بينًا ويدفعه دفعًا ظاهرًا.
ثم قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص851): فالحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن الحق واحد ومخالفه مخطئ مأجور إذا كان قد وفى الاجتهاد حقه ولم يقصر في البحث بعد إحرازه لما يكون به مجتهدًا.
انظر: " التبصرة " (ص496)، " البحر المحيط " (6/ 247).
* الفرق بين الإصابة والصواب:
أن إصابة الحق هي الموافقة له بخلاف الصواب فإنه قد يطلق على من أخطأ ولم يصبه من حيث كونه قد فعل ما كلف به واستحق الأجر عليه وإن لم يكن مصيبًا للحق وموافقًا له.
" البحر المحيط " (6/ 255).(9/4487)
الكلام في المباحث العلمية، وتعلم ممن يعلم حتى تذوق حلاوة العلم. فهذا حاصل ما لدي في هذه المسألة. وإن كانت طويلة الذيل، والخلاف فيها مدون في الأصول والفروع، لكن السائل لم يسأل عن أقوال الرجال، إنما سأل عن تحقيق الحق. فإن قلت: إذا كان التخاصم ببلد لا يوجد فيها مجتهد، [3] هل يجوز للخصمين الترافع إلى من بها من القضاة المقلدين؟ قلت: إذا كان يمكن وصولهما إلى قاض مجتهد لم يجز للمقلد أن يقضي بينهما بل يرشدهما إلى القاضي المجتهد، أو يرفع القضية إليه ليحكم فيها بما أراه الله، فإن كان الوصول إلى القاضي المجتهد متعذرًا ومتعسرًا، فلا بأس بأن يتولى ذلك القاضي المقلد فصل خصومتهما، لكن يجب عليه أن لا يدعي علم ما ليس من شأنه، فلا يقول: صح له، ولا صح شرعًا، بل يقول: قال إمامه كذا، ويعرف الخصمين أنه لم يحكم بينهما إلا بما قاله الإمام الفلاني. وفي الحقيقة هو محكم لا حاكم.
وقد ثبت التحكيم في هذه الشريعة المطهرة، كما جاء ذلك في القرآن في شأن الزوجين، وأنه يوكل الأمر إلى حكم من أهل الزوج، وحكم من أهل الزوجة (1)، وكما في قوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} (2)، وكما وقع في زمن النبوة، ومع الصحابة في غير قضية، ومن لم يجد ماءً تيمم بالتراب. والعور خير من العمى، ولا يغتر العاقل بما يزخرفه المقلدون، ويموهون به على العامة من تعظيم شأن من يقلدونه، ونشر
_________
(1) قال تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما} [النساء: 35].
(2) [المائدة: 95].
قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 14 - 15): " اشترطوا في القاضي أن يكون مجتهدًا وبهذا قال الإمام مالك والشافعي والحنابلة، وحجتهم أن القضاء آكد من الإفتاء؛ لأنه إفتاء وإلزام، والمفتي لا يجوز أن يكون عاميًا مقلدًا، فالقاضي أولى أن لا يكون مقلدًا، واحتجوا بقوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} وما أنزل الله يعرفه العالم المجتهد لا المقلد باختصار.(9/4488)
فضائله ومناقبه، والموازنة بينه وبين من يبلغ رتبة الاجتهاد في عصر هؤلاء المقلدين، فإن هذا [4] خروج عن محل النزاع، ومغالطة قبيحة. وما أسرع نفاقها عند العامة! لأن أفهامهم قاصرة عن إدراك الحقائق، والحق عندهم يعرف بالرجال. وللأموات في صدورهم جلالة وفخامة. وطبائع المقلدين قريبة من طبائعهم، فهو إلى قبول أقوالهم أقرب منهم إلى قبول أقوال العلماء المجتهدين؛ لأن المجتهدين قد باينوا العامة، وارتفعوا إلى رتبة تضيق أذهان العامة عن تصورها، فإذا قال المقلد مثلاً: أنا أحكم بمذهب الشافعي، وهو أعلم من هذا المجتهد المعاصر لي، وأعرف بالحق منه، كانت العامة إلى تصديق هذه المقالة والإذعان لها أسرع من السيل المنحدر، وتنفعل أذهانهم لذلك أكمل انفعال.
فإذا قال المجتهد مجيبًا على ذلك المقلد: إن محل النزاع هو الموازنة بيني وبينك، لا بيني وبين الشافعي، فإني أعرف العدل والحق، وما أنزل الله، وأجتهد رأيي إذا لم أجد في كتاب الله وسنة رسوله نصًا، وأنت لا تعرف شيئًا من ذلك، ولا تقدر على أن تجتهد رأيك، إذ لا رأي لك، ولا اجتهاد؛ لأن اجتهاد الرأي هو إرجاع الحكم إلى الكتاب والسنة بالمقايسة، أو بعلاقة يسوغها الاجتهاد، وأنت لا تعرف كتابًا ولا سنة، فضلاً عن أن تعرف كيفية الإرجاع إليهما [5] بوجه مقبول. كان هذا الجواب الذي جاء به المجتهد مع كونه حقًا بحتًا بعيدًا عن أن تفهمه العامة، أو تذعن لصاحبه.
ولهذا ترى في هذه الأزمان الغريبة الشأن ما ينقله المقلد عن إمامه أوقع في النفوس مما ينقله المجتهد من كتاب الله وسنة رسوله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]، وإن جاء من ذلك بالكثير الطيب، وقد رأينا وسمعنا ما لا نشك أنه من علامات القيامة على أن كثيرًا من المقلدين قد ينقل في حكمه أو فتواه عن مقلد مثله قد صار تحت أطباق الثرى، وإمامه عنه براء، فيجول ويصول وينسب ذلك إلى مذهب الإمام، وينسب من يأتي بما يخالفه من كتاب أو سنة إلى الابتداع، ومخالفة المذهب، ومباينة أهل العلم، وهو لو ارتفعت رتبته عن هذا الحضيض قليلاً لعلم أنه هو المخالف لإمامه لا الموافق له. ولنوضح هذا بشيء يعرفه(9/4489)
المقلدون في ديارنا هذه فنقول: إذا قال الحاكم المجتهد في مسألة من المسائل بخلاف ما في متن الأزهار (1) فلا يعدم جماعة من المقلدين ينكرون عليه هذه المخالفة لما في الأزهار، ويتقربون إلى العامة بأنهم يحافظون على العمل بما في هذا الكتاب، وأنهم مشيدون للمذهب، قائمون بنشره، وأن ذلك المجتهد يخالفه. ولو أنصفوا لعلموا أنهم هم المخالفون لما في الأزهار، وأن ذلك المجتهد أسعد منهم بموافقته، فإن في أول فصل من فصول [6] الأزهار أن التقليد جائز لغير المجتهد لا له، ولو وقف على نص أعلم منه. وقال بعد ذلك بقليل: وبعد الالتزام يحرم الانتقال إلا إلى ترجيح نفسه، فهذا الأزهار (2) مصرح في أوائله بأن عمل المجتهد بما في مسائله تقليدًا غير جائز له، والمقلد المسكين يريد من هذا المجتهد أن لا يعمل باجتهاده، ولا يرجع إلى ترجيح نفسه، بل يقلد مؤلف الأزهار في المسائل الفرعية التي فيه، فيوقعه فيما لا يجوز بنص الأزهار. ثم هذا المقلد الذي يريد أن يكون قاضيًا ويعتقد صحة قضائه هو أيضًا مخالف للأزهار، فإنه مصرح في باب ............................................
_________
(1) " الأزهار في فقه الأئمة الأطهار " مؤلفه: الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى الحسني.
وهو مختصر من كتاب " التذكرة الفاخرة في فقه العترة الطاهرة " للفقيه الحسن بن محمد المذحجي. ونقل عن ابن مفتاح أن مسائل الأزهار منطوقها ومفهومها تسعة وعشرون ألف مسألة
وقيل أن المهدي ألفه في السجن لخوفه نسيان ما حفظه من الفقه، فكان يلقي مسائله السيد علي بن الهادي فيكتبه السيد بالجص على الأبواب لمنع البواب من إدخال أدوات الكتابة عليهما ثم يمحوه بعد الحفظ عن ظهر الغيب، وطال التأليف والكتابة عدة سنين ... "
" مؤلفات الزيدية " (1/ 112 - 113 رقم 276).
(2) (1/ 89 - مع السيل): قال في مقدمة " الأزهار "
مقدمة " لا يسع المقلد جهلها ".
فصل: التقليد في المسائل الفرعية العملية الظنية والقطعية جائز لغير المجتهد لا له، ولو وقف على نص أعلم منه ولا في عملي يترتب على علمي كالموالاة والمعاداة.
وانظر: تعقيب الشوكاني على ذلك فقد أجاد وأفاد.(9/4490)
القضاء (1) أن من شروط القاضي أن يكون مجتهدًا، فإنه قال: والاجتهاد في الأصح. فهذا المقلد ليس بقاض بنص الأزهار، كما أنه مخطئ في إنكاره على من يخالف الأزهار من المجتهدين بنص الأزهار، وهو أيضًا مخطئ في إنكاره على اجتهادات المجتهدين بنص الأزهار فإنه قال في كتاب السير (2): في فضل إنكار المنكر: (ولا في مختلف فيه على من هو مذهبه) (3)، وهذا المقلد قد نصب نفسه لإنكار اجتهاد ذات المجتهدين تلبيسًا على
_________
(1) (3/ 439 - مع السيل).
قال الشوكاني في " السيل الجرار " (3/ 448): والحاصل أن نصب المقلد للحكم بين عباد الله إذن له بالحكم بالطاغوت لأنه لا يعرف الحق حتى يحكم به، وما عدا الحق فهو طاغوت، ولو قدرنا أنه أصاب الحق في حكمه لكان قد حكم بالحق وهو لا يعلم به. فهو أحد قاضيي النار، وإن حكم بغير الحق فهو القاضي الآخر من قضاة النار.
ثم قال الشوكاني وقد ثبت عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن من علامات القيامة أن يتخذ الناس رؤساء جهالاً يفتون بغير علم فيضلون ويضلون ورأس الرياسات الدينية هو القضاء بلا شبهة.
أخرج البخاري رقم (100) ومسلم رقم (13/ 2673) من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ".
(2) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (3/ 791 مع السيل).
(3) قال الشوكاني في "السيل الجرار" (3/ 794): قوله: " ولا في مختلف فيه على من هو مذهبه ".
أقول: هذه المقالة قد صارت أعظم ذريعة إلى سد باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما بالمثابة التي عرفناها - العمل بهما واجب بإجماع الأمة، وهما العمادان العظيمان من أعمدة هذا الدين والركنان الكبيران من أركانه - وقد وجب بإيجاب الله عز وجل، وبإيجاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذه الأمة الأمر بما هو معروف من معروفات الشرع، والنهي عما هو منكر من منكراته، ومعيار ذلك الكتاب والسنة، فعلى كل مسلم أن يأمر بما وجده فيهما أو في أحدهما معروفًا. وينهى عما هو فيهما أو في أحدهما منكرًا.
وإن قال قائل من أهل العلم بما يخالف ذلك فقوله منكر يجب إنكاره عليه أولاً، ثم على العامل به ثانيًا. وهذه الشريعة الشريفة التي أمرنا بالأمر بمعروفها والنهي عن منكرها هي هذه الموجودة في الكتاب والسنة.
وأما ما حدث من المذاهب فليست بشرائع مستجدة، ولا هي شرائع ناسخة لما جاء به خاتم النبيين - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما هي بدع ابتدعت وحوادث في الإسلام حدثت، فما كان منها موافقًا للشرع الثابت في الكتاب والسنة فقد سبق إليه الكتاب والسنة، وما كان مخالفًا للكتاب والسنة فهو رد على قائله مضروب به في وجهه كما جاءت بذلك الأدلة الصحيحة التي منها " كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد " - تقدم تخريجه.
فالواجب على من علم بهذه الشريعة، ولديه حقيقة من معروفها ومنكرها أن يأمر بما علمه معروفًا، وينهى عما علمه منكرًا، فالحق لا يتغير حكمه، ولا يسقط وجوب العمل به، والأمر بفعله، والإنكار على من خالفه بمجرد قول قائل أو اجتهاد مجتهد أو ابتداع مبتدع.
فإن قال تارك الواجب، أو فاعل المنكر: قد قال بهذا فلان، أو ذهب إليه فلان أجاب عليه بأن الله لم يأمرنا باتباع فلان، بل قال لنا في كتابه العزيز {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] فإن لم يقنع بهذا حاكمه إلى كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما أمرنا الله سبحانه في كتابه بالرد إليهما عند التنازع.
قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59].(9/4491)
العوام، وترويجًا لقصوره على غير ذوي الأفهام.
وبيان ذلك أنه إن كان عالمًا بهذه النصوص التي ذكرناها في الأزهار فهو في إنكاره وترشيحه لنفسه بما ليس من أهله مخالف لما يعتقد أنه الحق، بل لما يقصر الحق عليه، وإن كان جاهلاً [7] لهذه النصوص فهو بهيمة (1)، لأنه يدعو الناس إلى ما لا يعرفه، ويرشدهم إلى ما ليس عنده، وينصب نفسه للإنكار على أكابر العلماء، وهو لا يعرف التقليد فضلاً عن أن يعرف ما فوقه. ومن كان بهذه المنزلة فهو صاحب الجهل المركب الذي لا يستحق أن يخاطب، بل على كل صاحب علم أن يرفع نفسه عن مجادلته، ويصون لسانه عن مقاولته، إلا أن يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله.
و (السؤال الثاني) حاصله: ما حكم الأعراب، سكان البادية الذين لا يفعلون شيئًا من الشرعيات إلا مجرد التكلم بالشهادة، هل هم: كفار أم لا؟ وهل يجب على
_________
(1) رحم الله الشوكاني ما تلفظ بهذا إلا لشدة إنكاره على المقلدة.(9/4492)
المسلمين غزوهم أم لا؟
وأقول: من كان تاركًا لأركان الإسلام، وجميع فرائضه، ورافضًا لما يجب عليه من ذلك من الأقوال والأفعال، ولم يكن لديه إلا مجرد التكلم بالشهادتين فلا شك ولا ريب أن هذا كافر شديد الكفر، حلال الدم والمال، فإنه قد ثبت بالأحاديث المتواترة (1) أن عصمة الدماء والأموال إنما تكون بالقيام بأركان الإسلام، فالذي يجب على من يجاور هذا الكافر من المسلمين في المواطن والمساكن أن يدعوه إلى العمل بأحكام الإسلام، والقيام بما يجب عليه القيام به على التمام، ويبذل تعليمه ويلين له القول، ويسهل عليه الأمر، ويرغبه في الثواب، ويخوفه من العقاب، فإن قبل منه ورجع إليه وعول عليه وجب عليه أن يبذل نفسه لتعليمه، فإن ذلك من أهم الواجبات (2) وآكدها، أو يوصله
_________
(1) انظر الرسالة رقم (4).
قال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (28/ 502): كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه.
ثم قال رحمه الله (28/ 503) .. فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضة، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، والأموال، والخمر والزنا والميسر، أو عن نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته.
- التي لا عذر لأحد في جمودها وتركها - التي كفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء.
وانظر: " المغني " (13/ 29 - 31).
(2) وتجب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث إما الإسلام أو الجزية أو السيف لحديث سليمان بن بريدة عن أبيه قال: " كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا ثم قال: " اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم الذي يجري على المسلمين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم ".
أخرجه مسلم رقم (3/ 1731) وأبو داود رقم (2612) والترمذي رقم (1617، 1408) وهو حديث صحيح.
قال أحمد: إن الدعوة قد بلغت وانتشرت، فمن بلغتهم لا يدعون.
قال ابن قدامة في " المغني " (13/ 29): وهذا يحتمل أنه كان في بدء الأمر قبل انتشار الدعوة وظهور الإسلام فأما اليوم. فق انتشرت الدعوة، فاستغنى بذلك عن الدعاء عند القتال.
قال أحمد: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو إلى الإسلام قبل أن يحارب. حتى أظهر الله الدين، وعلا الإسلام ولا أعرف اليوم أحدًا يدعى، فقد بلغت الدعوة في أول الإسلام والروم قد بلغتهم الدعوة وعلموا ما يراد منهم، وإنما كانت الدعوة في أول الإسلام وإن دعا فلا بأس.(9/4493)
إلى من هو أعلم منه بأحكام الإسلام [8]، وإن أصر ذلك الكافر على كفره وجب على من يبلغه أمره من المسلمين أن يقاتلوه حتى يعمل بأحكام الإسلام على التمام، فإن لم يعمل فهو حلال الدم والمال، حكمه حكم أهل الجاهلية.
وما أشبه الليلة بالبارحة! وقد أبان لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قولاً وفعلاً ما نعتمده في قتال الكافرين (1)، والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية في هذا الشأن كثيرة جدًا معلومة لكل فرد من أهل العلم، بل هذا الأمر هو الذي بعث الله - سبحانه -[فيه] رسله، وأنزل لأجله كتبه، والتطويل في شأنه والاشتغال بنقل برهانه من باب الإيضاح الواضح، وتبيين البين.
وبالجملة فإذا صح الإصرار على الكفر فالدار دار حرب بلا شك، ولا شبهة، والأحكام الأحكام، وقد اختلف المسلمون في غزو ....................
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.(9/4494)
الكفار إلى ديارهم (1)، هل يشترط فيه الإمام الأعظم أم لا؟ والحق الحقيق بالقبول أن ذلك واجب على كل فرد من أفراد المسلمين، والآيات القرآنية (2) والأحاديث النبوية (3) مطلقة غير مقيدة.
_________
(1) انظر " المغني " (13/ 16 - 17).
(2) منها قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29].
ومنها قوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين} [التوبة: 36].
(3) منها ما أخرجه أبو داود رقم (2504) وأحمد (3/ 124، 153، 251) والنسائي (6/ 7 رقم 3096) وابن حبان في صحيحه رقم (1618 - موارد) والحاكم (2/ 81) والبيهقي (9/ 20).
من حديث أنس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ". وهو حديث صحيح.
قال ابن قدامة في " المغني " (13/ 6): فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع كفرض الأعيان، ثم يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط بفعل بعض الناس له، وفرض الأعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره.
والجهاد من فروض الكفايات في قول أهل العلم. وحكي عن سعيد بن المسيب أنه من فروض الأعيان لقوله تعالى: {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} [التوبة: 41].
وقوله تعالى: {كتب عليكم القتال} [البقرة: 216].
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق ".
قال ابن قدامة في " المغني " (13/ 6 - 7): ولنا قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى} [النساء: 95]. وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، وقال تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين} [التوبة: 122]. ولأن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث السرايا، ويقيم هو وسائر أصحابه.(9/4495)
(السؤال الثالث): حاصله ما قيل من أن العصاة من أهل بيت النبوة (1) لا يعاقبون على ما يرتكبون من الذنوب، بل هم من أهل الجنة على كل حال، تكريمًا وتشريفًا هل ذلك صحيح أم لا؟.
وأقول: لا شك ولا ريب أن أهل البيت المطهر لهم من المزايا والخصائص والمناقب ما ليس لغيرهم، وقد جاءت الآيات القرآنية (2)، والأحاديث النبوية (3) شاهدة
_________
(1) اعلم أن للعلماء في حقيقة أهل البيت خمسة أقوال:
1 - إنهم الذين حرمت عليهم الصدقة، وبذلك فسرهم زيد بن أرقم الصحابي في صحيح مسلم رقم (2408).
2 - إن آله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أزواجه وذريته خاصة. حكاه ابن عبد البر عن قوم، واستدلوا بالحديث الذي أخرجه البخاري (6/ 407 رقم 2369) ومسلم (4/ 127 شرح النووي) عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه -.
3 - إن آله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتباعه إلى يوم القيامة، حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم.
4 - إن آله هم الأتقياء من أمته، حكاه القاضي حسين، والراغب، وغيرهما ويستدل له بحديث: " آل محمد كل تقي ". وهو حديث موضوع.
انظر: " العلل المتناهية " (1/ 266 - 267 رقم 429) و" الضعفاء " للعقيلي (4/ 286 - 287).
5 - إن آله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم الذين جللهم بالكساء، ومن تناسل منهم من أولادهم إلى يوم القيامة.
واستدلوا بحديث عائشة. تقدم ذكره.
وأقوى هذه الأقوال وأقربها بالاستدلال القول الأول والخامس والله أعلم.
(2) منها قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} [الأحزاب: 33].
(3) تقدم ذكر حديث عائشة.
وانظر الرسالة رقم (20، 222).
ومنها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (36/ 2408) من حديث يزيد بن حبان وفيه: " ... أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب. وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به " فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: " وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، وأذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ".(9/4496)
لهم بما خصهم الله به من التشريف والتكريم، والتجليل والتعظيم. وأما القول برفع العقوبات عن عصاتهم، وأنهم لا يخاطبون بما اقترفوه من المآثم، ولا يطالبون بما جنوه [9] من العظائم، فهذه مقالة باطلة ليس عليها أثارة من علم، ولم يصح في ذلك عن الله ولا عن رسوله حرف واحد، وجميع ما أورده علماء السوء المتقربون إلى المتعلقين بالرياسات من أهل هذا البيت الشريف فهو إما باطل موضوع (1)، أو خارج عن محل
_________
(1) (منها): " أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ": قال الألباني في " الضعيفة " رقم (62): " موضوع وهو في نسخة أحمد بن نبيط الكذاب ".
قال الذهبي في " الميزان " (1/ 82) عن هذه النسخة: فيها بلايا!! وأحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط بن شريط لا يحل الاحتجاج به فإنه كذاب.
(ومنها): الحديث الذي أخرجه العقيلي في " الضعفاء " (2/ 180) عن جابر بن عبد الله قال: " خطبنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسمعته وهو يقول: من أبغضنا أهل البيت حشره الله يوم القيامة يهوديًا. قال: قلت يا رسول الله: فإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، قال: نعم، وإن صام، وصلى وزعم أنه مسلم، إنما احتجز بذلك من سفك دمه وأن يؤدي الجزية عن يد وهو صاغر ... ".
قال: منان بن سدير فدخلت مع أبي على جعفر بن محمد، فحدثه أبي بهذا الحديث، فقال جعفر ابن محمد: ما كنت أرى أبي حدث بهذا الحديث أحدًا. وهو ليس له أصل.
وانظر: " الموضوعات " لابن الجوزي (2/ 6)، " الفوائد المجموعة " (ص396 رقم 128).
(ومنها): حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنا وفاطمة وعلي والحسن والحسين في حظيرة القدس في قبة بيضاء سقفها عرش الرحمن ".
* هذا حديث لا يصح.
أخرجه ابن الجوزي في " الموضوعات " (2/ 3).(9/4497)
النزاع، بل القرآن أعدل شاهد، وأصدق دليل على رد قول كل مكابر جاحد، فإنه قال - عز وجل - في نساء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} (1) وليس ذلك إلا لما لهن من رفعة القدر، وشرافة المحل بالقرب من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأشرف قدرًا وأعلى محلاً وأكرم عنصرًا، وأفخم ذكرًا. ولو كان الأمر كما زعم هذا الزاعم لم يكن لقوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (2) معنى، ولا كبير فائدة.
وإذا كان المصطفى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لفاطمة البتول التي هي بضعة منه يغضبه ما يغضبها ويرضيه ما يرضيها: " يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئًا " (3) فليت شعري من هذا من أولادها الذي خصه الله بما لم يخصها، ورفعه إلى درجة قصرت عنها! فأبعد الله علماء السوء، وقلل عددهم! فإن العاصي من أهل هذا البيت الشريف المطهر
_________
(1) [الأحزاب: 30].
(2) [الشعراء: 214].
(3) أخرجه البخاري رقم (4771) ومسلم رقم (31/ 206) من حديث أبي هريرة.
قال الحافظ في " الفتح " (8/ 502) واستدل بعض المالكية بقوله في هذا الحديث: " يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئًا ".
أن النيابة لا تدخل في أعمال البر، إذ لو جاز ذلك لكان يتحمل عنها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما يخلصها، فإذا كان عمله لا يقع نيابة عن ابنته فغيره أولى بالمنع.
وتعقب بأن هذا كان قبل أن يعلمه الله تعالى بأنه يشفع فيمن أراد وتقبل شفاعته حتى يدخل قومًا الجنة بغير حساب، ويرفع درجات قوم آخرين، ويخرج من النار من دخلها بذنوبه، أو كان المقام مقام التخويف والتحذير أو أنه أراد المبالغة في الحض على العمل، ويكون قوله: " لا أغني شيئًا " إضمار إلا إن أذن الله لي في الشفاعة.
قال الحافظ في " الفتح " (8/ 305): والسر في الأمر بإنذار الأقربين أولاً أن الحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم، وإلا فكانوا علة للأبعدين في الامتناع وأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة فيحابيهم في الدعوة والتخويف. فلذلك نص له على إنذارهم.(9/4498)
إذا لم يكن مستحقًا على معصيته مضاعفة العقوبة فأقل الأحوال أن يكون كسائر الناس (1). فيا من شرفه الله بهذا النسب الشريف، إياك أن تغتر بما ينمقه لك أهل التبديل والتحريف [10].
(السؤال الرابع): حاصله الاستفهام عن مذهب الحق في شأن ما شجر بين
_________
(1) قال ابن تيمية في " منهاج السنة " (7/ 79): هب أن القرآن دل على طهارتهم وإذهاب الرجس عنهم كما أن الدعاء المستجاب لا بد أن يتحقق معه طهارة المدعو لهم وإذهاب الرجس عنهم، لكن ليس في ذلك ما يدل على العصمة من الخطأ.
والدليل عليه أن الله لم يرد بما أمر به أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا يصدر من واحد منهن خطأ، فإن الخطأ مغفور لهن ولغيرهن، وسياق الآية يقتضي أنه يريد ليذهب عنهم الرجس - الذي هو الخبث كالفواحش ويطهرهم تطهيرًا من الفواحش وغيرها من الذنوب.
والتطهير من الذنب على وجهين كما في قوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر: 4].
وقوله تعالى: {إنهم أناس يتطهرون} [الأعراف: 82].
فإنه قال فيها: {من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30].
والتطهير عن الذنب إما بأن لا يفعله العبد، وإما بأن يتوب منه كما في قوله: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103]. لكن ما أمر الله به من الطهارة ابتداء وإرادة فإنه يتضمن نهيه عن الفاحشة، لا يتضمن الإذن فيها بحال، لكن هو سبحانه ينهى عنها ويأمر من فعلها بأن يتوب منها.
ثم قال (7/ 82 - 83): وليس من شرط المتقين ونحوهم أن لا يقع منهم ذنب، ولا أن يكونوا معصومين من الخطأ والذنوب، فإن هذا لو كان كذلك لم يكن في الأمة متق، بل من تاب من ذنوبه دخل في المتقين، ومن فعل ما يكفر به سيئاته دخل في المتقين قال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما} [النساء: 31].
ثم قال: وبالجملة فالتطهير الذي أراده الله، والذي دعا به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس هو العصمة بالاتفاق، فإن أهل السنة عندهم لا معصوم إلا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(9/4499)
الصحابة في الخلافة، وما يترتب عليها.
وأقول: إن كان هذا السائل طالبًا للنجاة، مستفهمًا عن أقرب الأقوال إلى مطابقة مراده مولاه، كما يشعر بذلك تصرفه في سؤاله، فليدع الاشتغال بهذا الأمر، ويترك المرور في هذا المضيق الذي تاهت فيه الأفكار، وتحيرت عنده أفكار أهل الأنظار، فإن هؤلاء الذين يبحث عن حوادثهم، ويتطلع لمعرفة ما شجر بينهم قد صاروا تحت أطباق الثرى، ولقوا ربهم في المائة الأولى من البعثة.
وهانحن الآن في المائة الثالثة عشرة فما لنا والاشتغال بهذا الشأن الذي لا يعنينا! " ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " (1). وأي فائدة لنا في الدخول في الأمور التي فيها ريبة! وقد أرشدنا إلى أن ندع ما يريبنا إلى ما لا يريبنا (2)، ويكفينا من تلك القلاقل والزلازل أن نعتقد أنهم خير القرون وأفضل الناس، وأن الخارجين على أمير المؤمنين - رضوان الله عليهم - المحاربين له، المصرين على ذلك، الذين لم تصح توبتهم بغاة، وأنه المحق وهم المبطلون. وما زاد على هذا المقدار فمن الفضول الذي يشتغل به من لا يبالي بدينه. وقد تلاعب الشيطان بكثير من الناس فأوقعهم في الاختلاف في خير القرون (3) الذي قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شأنهم لبعض من هو من جملتهم لكنه تأخر
_________
(1) أخرجه الترمذي رقم (2317) وابن ماجه رقم (3976) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ".
قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا من هذا الوجه. وهو حديث حسن.
(2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي رقم (2518) والنسائي رقم (5711) عن أبي الحوراء السعدي قال: قلت للحسن بن علي - رضي الله عنه - ما حفظت من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال حفظت منه: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ". وهو حديث حسن.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2652) ومسلم رقم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود. وقد تقدم مرارًا.(9/4500)
إسلامه عنهم: " لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم [11] ولا نصيفه " (1) فإذا كان مثل أحد ذهبًا من المتأخرين من الصحابة المخاطبين بهذا الخطاب لا يبلغ مد أحد متقدميهم ولا نصيفه فما أظنه يبلغ مثل أحد ذهبًا منا مقدار حبة من أحدهم ولا نصيفها، فرحم الله امرءًا اشتغل بالقيام بما أوجبه الله عليه، وطلبه منه، وترك ما لا يعود عليه بنفع لا في دنيا ولا في آخرة، بل يعود عليه بالضر، ولو لم يكن من الضر إلا مجرد مخالفة ما أرشدنا إليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " (2) [لكفى] فهذا - والله - مما لا يعنينا، ومن ظن خلاف هذا فهو مغرور مخدوع، قاصر الباع عن إدراك الحقائق، ومعرفة الحق على وجهه كائنًا من كان.
والله لو جاء أحدهم يوم القيامة بما يملأ الدنيا من الحسنات ما كان لنا من ذلك شيء، ولو جاء أحدهم (وصانهم الله) بما يملأ الدنيا من السيئات ما كان علينا من ذلك شيء، ففيم التعب، وعلام تضيع الأوقات في هذه الترهات (3)!؟.
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (3637) ومسلم رقم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.
(2) تقدم تخريجه. وهو حديث حسن.
(3) قال القاضي عياض في " الشفا " (2/ 611 - 615):
من توقيره وبره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
1 - توقير أصحابه وبرهم ومعرفة حقهم.
2 - الاقتداء بهم.
3 - وحسن الثناء عليهم.
4 - الاستغفار لهم.
5 - الإمساك عما شجر بينهم.
6 - معاداة من عاداهم.
7 - الإضراب عن أخبار المؤرخين، وجهلة الرواة وضلال الشيعة والمبتدعين القادحة في أحد منهم.
8 - أن يلتمس لهم فيما نقل عنهم من مثل ذلك فيما كان بينهم من الفتن أحسن التأويلات، ويخرج لهم أصول المخارج إذ هم أهل لذلك.
9 - لا يذكر أحد منهم بسوء، ولا يغمض عليه أمر، بل تذكر حسناتهم وفضائلهم وحميد سيرتهم، ويسكت عما وراء ذلك.
كما قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذا ذكر أصحابي فأمسكوا " من حديث عبد الله بن مسعود. وهو حديث حسن بشواهده.
تقدم تخريجه. انظر الرسالة رقم (20، 19، 21). وانظر: " العقيدة الواسطية " لابن تيمية (ص25): حيث قال " ويمسكون - أي أهل السنة - عما شجر بين الصحابة - رضي الله عنهم - ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساوئهم، منها ما هو كذب، ومنها: ما قيد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه ".
والصحيح منه هم معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون ".(9/4501)
السؤال الخامس: حاصله الاستفهام عن الأعراف الجارية في بعض البلدان من الاجتماع في المساجد لتلاوة القرآن على الأموات، وكذلك في البيوت، وسائر الاجتماعات التي لم ترد في الشريعة، هل يجوز ذلك أم لا؟.
أقول: لا شك أن هذه الاجتماعات المبتدعة إن كانت خالية عن معصية سليمة من المنكرات فهي جائزة، لأن الاجتماع ليس بمحرم في نفسه [12]، لا سيما إذا كان لتحصيل طاعة كالتلاوة ونحوها. ولا يقدح في ذلك كون تلك التلاوة مجعولة للميت، فقد ورد جنس التلاوة من الجماعة المجتمعين كما في حديث: " اقرأوا على موتاكم يس " (1) وهو حديث حسن (2)، فلا فرق بين تلاوة يس من الجماعة الحاضرين عند الميت أو على قبره، وبين تلاوة جميع القرآن أو بعضه لميت في مسجده أو بيته (3).
_________
(1) أخرجه أبو داود رقم (3121) وابن ماجه رقم (1448). والنسائي في " عمل اليوم والليلة " (ص581 رقم 1074) والحاكم (1/ 565) والبيهقي (3/ 383) وأحمد (5/ 26، 27) وابن حبان رقم (720 - موارد) والطيالسي (ص126 رقم 931) من حديث معقل بن يسار. وهو حديث ضعيف.
انظر: " الإرواء " (3/ 151 - 153)، " تلخيص الحبير " (2/ 104).
(2) بل هو حديث ضعيف كما تقدم.
(3) القراءة على الأموات ليس لها أصل يعتمد عليه ولا تشريع، وإنما المشروع القراءة بين الأحياء ليستفيدوا ويتدبروا كتاب الله ويتعقلوه، أما القراءة على الميت عند قبره أو بعد وفاته قبل أن يقبر أو القراءة له في أي مكان حتى تهدى له فهذا لا نعلم له أصلاً ..
* وقراءة يس عند الميت لم يصح فيها حديث.
" أحكام الجنائز وبدعها " للألباني (ص11).
بل أنكر الإمام مالك رحمه الله القراءة عند الميت سورة يس والأنعام وعلل ذلك بأنه لم يكن من عمل الناس - الصحابة والتابعين -.
" المدخل " لابن الحاج (3/ 240).
* ولم يصح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قرأ يس أو غيرها من القرآن على القبر، والخير كل الخير في اتباع سنة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والشر كل الشر في الابتداع، فلا تفعل للأموات بخلاف الصدقة عنهم والدعاء لهم والحج والعمرة وقضاء الدين، وقد جاءت بها النصوص وثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " تقدم تخريجه.
وقال سبحانه وتعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} [الحشر: 10].
وانظر: " البدع والمحدثات " وما لا أصل له. (ص564 - 566).(9/4502)
وبالجملة فالاجتماعات العرفية التي لم يرد جنسها في الشريعة إن كانت لا تخلو عن منكر فلا يجوز حضورها، ولا يحل تطييب نفس الجار بحضور مواقف المنكرات والمعاصي وإن كانت خالية عن ذلك، وليس فيها إلا مجرد التحدث بما هو مباح، فهذا لا نسلم أنه لم يرد جنسه في الشريعة المطهرة، فقد كان الصحابة الراشدون يجتمعون في بيوتهم ومساجدهم، وعند نبيهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويتناشدون الأشعار، ويتذاكرون الأخبار، ويأكلون ويشربون، فمن زعم أن الاجتماع الخالي عن الحرام بدعة فقد أخطأ، فإن البدعة هي التي تبتدع في الدين، وليس هذا من ذاك.
* (السؤال السادس): حاصله الاستفهام عن الحلف بغير الله كالحلف بالسلطان والأولياء والقرآن (1) من دون قصد لتعظيم المخلوق به، بل لأجل الاعتياد لذلك في
_________
(1) يلاحظ أن الشوكاني جعل الحلف بالقرآن كالحلف بمخلوق من مخلوقات الله، كما يتضح من صيغة السؤال، وهذا رأي باطل قال به المعتزلة، وأتباعهم، والصحيح أن القرآن كلام الله تكلم الله به حقيقة بلفظه ومعناه، وهو سبحانه موصوف بالكلام، فعلى هذا يكون الحلف بالقرآن حلفًا بصفة من صفات الله سبحانه وتعالى، وصفات الله سبحانه غير مخلوقة فالقرآن غير مخلوق، والحلف به جائز لأنه حلف بكلام الله.
ويعقد به اليمين، وهذا ما أجمع عليه السلف أهل السنة، وقد احتجوا فيما احتجوا به بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعوذ بكلمات الله التامات ". قالوا قد استعاذ بها، ولا يستعاذ بمخلوق.
انظر: " مجموع فتاوى " (1/ 336)، " شرح العقيدة الطحاوية " لابن أبي العز الحنفي (ص191).(9/4503)
المجاورة.
* وأقول: هذا لا يحل لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر. وقد ورد النهي عنه في الأحاديث الصحيحة (1)، وورد أيضًا في الأحاديث (2) ما يفيد أن فاعل ذلك يكفر إذا كان حلفه باللات والعزى ونحو ذلك من الطواغيت. وورد أن من فعل ذلك لم يرجع إلى الإسلام سالمًا [13].
وهذه أحاديث صحيحة ثابتة في دواوين الإسلام، فإن سبق لسان الحالف إلى شيء من ذلك لأجل تمرنه عليه فعليه أن يتدارك نفسه بالاستغفار، ويعود نفسه ولسانه الخير
_________
(1) (منها): ما أخرجه البخاري رقم (6108) ومسلم رقم (1646) وأحمد (2/ 11\ 17، 142) وأبو داود رقم (3249) والترمذي رقم (1534) وابن ماجه رقم (2094) وغيرهم.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلفن بالله وإلا فليصمت ".
(ومنها): ما أخرجه أبو داود رقم (3268) والنسائي رقم (3769) وابن حبان (ص286 رقم 1176 - موارد) والبيهقي (10/ 29) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون ". وهو حديث صحيح.
(2) ما أخرجه أبو داود رقم (3251) والترمذي رقم (1535) والحاكم (1/ 52) من حديث سعد بن عبيدة عن ابن عمر أنه سمع رجلاً يقول: لا والكعبة. فقال ابن عمر: لا يحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ". وهو حديث صحيح.(9/4504)
ما استطاع، ولا يقع فيما نهى عنه الشارع وتوعد عليه، فالنفس قابلة للتعليم، واللسان إذا عودت غير ما قد اعتادت عادت إلى الموافقة ولو بعد حين (1).
* (السؤال السابع): عن تبقية شعر الرأس، هل هو مسنون إذا علم من نفسه النقص عن تخليله بالماء عند وجوب الغسل أن يجب عليه إزالته؟.
* أقول: خير الأمور السالفات على الهدي، وشر الأمور المحدثات. وقد كان لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمة إلى شحمة أذنه، وكذلك للمشاهير من أصحابه الذين نقلت إلينا حليتهم. وقد جاءت الأحاديث (2) الصحيحة الصريحة بذلك، فمن أراد الاقتداء بالهيئة التي كان عليها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليترك له جمة كالجمة التي كانت لسيد الأمة [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] من دون أن يحلق بعض شعر الرأس، ويبقى بعضه، كما يعتاده البدو (3) في
_________
(1) وخلاصة القول: إذا كان الحالف بغير الله لا يعتقد أن عظمة المحلوف به كعظمة الله لم يكن الشرك شركًا أكبر يخرج صاحبه عن الملة، بل كان شركًا أصغر، أما إذا اعتقد أن عظمة المحلوف به كعظمة الله أو أعظم منها فهذا شرك أكبر بلا ريب.
انظر: " فتح الباري " (11/ 540).
(2) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد وكان له شعر فوق الجمة ودون الوفرة ".
أخرجه الترمذي في " الشمائل " (ص19 رقم24).
وأخرجه أيضًا الترمذي في " السنن " رقم (1755) وابن ماجه رقم (604) الجزء المتعلق بالغسل.
وأخرج ابن ماجه رقم (3635) الجزء المتعلق بالشعر.
وأخرج أبو داود رقم (77) ورقم (4187) مفرقًا. وكذا ابن سعد في " الطبقات " (1/ 429) وأحمد في مسنده (6/ 108 و118).
* الجمة: الجمة من شعر الرأس ما سقط على المنكبين.
" النهاية " (1/ 300).
* الوفرة: شعر الرأس إذا وصل إلى شحمة الأذن.
" النهاية " (5/ 210).
(3) في المخطوط البدوان وما أثبتناه من " المعجم الوسيط " (1/ 45).(9/4505)
الجهات المتصلة بصنعاء، فإن ذلك منهي عنه، لأن التحليق إن كان لموضع الحلاقة فقد ورد عنه النهي الصحيح، وإن كان لمواضع من الرأس فهو القزع المنهي عنه بالحديث الصحيح (1)، وهكذا حلق البعض، وتقصير البعض. وأما حلق الرأس كله فلم يرد ما يدل على النهي عنه (2)، وإن كانت خلاف السنة، وإن كان لغير النسك. وقد ثبت أن التحليق سيما الخوارج ولعلهم يفعلون ذلك معتقدين لمشروعيته.
نعم ورد الأمر النبوي لمن أسلم أن يلقي [14] عنه شعر الكفر (3)، فمن دخل في
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (5920) ومسلم رقم (113/ 2120) وأبو داود رقم (4193) والنسائي (8/ 182) وابن ماجه رقم (3637) عن نافع مولى عبد الله أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقول: " سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن القزع؟ قال عبيد الله: وما القزع؟ فأشار لنا عبيد الله قال: إذا حلق الصبي وترك هاهنا شعرة وهاهنا فأشار لنا عبيد الله إلى ناصيته وجانبي رأسه، قيل لعبيد الله: فالجارية والغلام؟ قال: لا أدري، هكذا قال " الصبي. قال عبيد الله: وعاودته فقال: أما القصة والقفا للغلام فلا بأس بهما، ولكن القزع أن يترك بناصيته شعر وليس في رأسه غيره، وكذلك شق رأسه هذا وهذا ".
(2) بل ورد عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بحلق الرأس مرة واستحسنه أخرى.
* أخرج أبو داود رقم (4192) والنسائي (8/ 135) عن عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمهل آل جعفر ثلاثًا أن يأتيهم ثم أتاهم فقال: " لا تبكوا على أخي بعد اليوم " ثم قال: " ادعوا لي بني أخي " فجيء بنا كأنا أفرخ، فقال: " ادعوا لي الحلاق " فأمره فحلق رءوسنا.
وهو حديث صحيح.
* وأخرج أبو داود رقم (4190) وابن ماجه رقم (3636) والنسائي (8/ 135) عن وائل بن حجر، قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولي شعر طويل. فلما رآني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ذباب ذباب " قال: فرجعت فجزرته، ثم أتيته من الغد فقال: " إني لم أعنك، وهذا أحسن ". وهو حديث صحيح.
(3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (356) عن عثيم بن كليب عن أبيه عن جده أنه جاء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال قد أسلمت، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألق عنك شعر الكفر" يقول: احلق، قال: وأخبرني آخر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لآخر معه: " ألق عنك شعر الكفر واختتن ".
وهو حديث صحيح.(9/4506)
الإسلام بعد الكفر فعليه أن يحلق شعره الذي كان على بدنه في الكفر، وهو شعر الرأس لا شعر اللحية ونحوه مما لا يرد الشرع بحلقه. هذا على تسليم أن أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهذا الفرد من أفراد الكفار يكون أمرًا لكل فرد منهم، والخلاف في المسألة معروف في الأصول (1). ولم ينقل إلينا أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أحدًا ممن أسلم من أكابر الصحابة أن يحلق شعره، ولا من غيرهم من متأخري الإسلام غير هذا الرجل. ومع هذا فالحديث المذكور في حلق الرأس ضعيف كما أوضح ذلك علماء هذا الشأن (2).
_________
(1) انظر " إرشاد الفحول " (ص444) تقدم ذكره.
وانظر: " البحر المحيط " (3/ 190)، " تيسير التحرير " (1/ 252).
(2) أما حكم حلق شعر الرأس فإنه يختلف باختلاف الداعي إليه:
(أ): فإن حلق للحج أو العمرة فهذا نسك قد أمر الله به في كتابه وأمر به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفعله هو والمسلمون.
(ب): وإن حلقه لحاجة كمرض أو نحوه فهذا قد أذن الله فيه وقت الإحرام، قال تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة: 196].
ورخص فيه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكعب بن عجرة حين جيء به إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو محرم والقمل يتناثر من رأسه، فقال له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يؤذيك هوام رأسك؟ قال: نعم، قال: احلق رأسك وانسك شاة: أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم فرقًا بين ستة مساكين "
أخرجه البخاري رقم (4159) ومسلم رقم (120).
فإذا جاز ذلك للمحرم الذي يمنع من حلق شعره جاز لغيره بطريق الأولى.
(ج): أن يحلقه لغير حاجة ولا نسك:
روي عن الإمام أحمد أنه يكره، وروي عنه أنه لا يكره، لكن تركه أفضل وهذا هو الصحيح من المذهب.
" الإنصاف " (1/ 123)، والمغني (1/ 122).
* ويرى الحنفية أن الحلق سنة. " الفتاوى الهندية (5/ 357).
* ويرى الشافعية أن الحلق جائز، فقد ذكر النووي في " المجموع " (1/ 347) " أن الغزالي قال: لا بأس لمن أراد التنظيف، ولا بأس بتركه لمن أراد دهنه وترجيله ".
* ويرى المالكية في حلق الرأس لغير ضرورة شرعية قولان: الجواز والكراهة.
انظر: " كفاية الطالب الرباني " (2/ 366 - 367).
قلت: الراجح جواز حلق الرأس وتركه لحديث ابن عمر الصحيح أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى صبيًا قد حلق بعض رأسه وترك بعضه فنهاهم عن ذلك. وقال: " احلقوا كله أو ذروا كله ".
أخرجه أحمد (2/ 88) وأبو داود رقم (4195) والنسائي (8/ 130 رقم 5048) وهو حديث صحيح.
ولحديث جعفر عبد الله بن جعفر الصحيح قد تقدم.(9/4507)
* (السؤال الثامن): حاصله عن أرض فيها آثار ملك متقادمة، ولا يد عليها في الحال، ولا يعرف مالكها، ولبعض الناس أوضاع شرعية تفيد أن له ملكًا فيها، ولكنه غير معين في جهة من جهاتها، فهل يجوز إحياؤها أم لا؟.
* أقول: إن الأرض التي فيها آثار ملك (1) لمالك غير معروف إن كانت في البلاد
_________
(1) قال ابن قدامة في " المغني " (8/ 146) وجملته أن الموات قسمان:
أحدهما: ما لم يجر عليه ملك لأحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة، فهذا يملك بالإحياء بغير خلاف بين القائلين بالإحياء.
الثاني: ما جرى عليه ملك مالك وهو ثلاثة أنواع:
أ/- ماله مالك معين وهو ضربان: - صلى الله عليه وسلم -
أحدهما: ما ملك بشراء أو عطية فهذا لا يملك بالإحياء بغير خلاف.
قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن ما عرف يملك مالك غير منقطع أنه لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه.
الثاني: ما ملك بالإحياء ثم ترك حتى دثر وعاد مواتًا فهو كالذي قبله سواء.
وقال مالك: يملك هذا لعموم قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أحيا أرضًا ميتة فهي له " ولأن أصل هذه الأرض مباح فإذا تركت حتى تصير مواتًا عادت إلى الإباحة.
وقال ابن قدامة ولنا أن هذه أرض يعرف مالكها، فلم تملك بالإحياء، كالتي ملكت بشراء أو عطية، والخبر مقيد بغير المملوك، بقوله في الرواية الأخرى: " من أحيا أرضًا ميتة ليست لأحد " وقوله " في غير حق مسلم ". وهذا يوجب تقييد مطلق حديثه.
ب\- ما يوجد فيه آثار ملك قديم جاهلي. كآثار الروم ومساكن ثمود ونحوها، فهذا يملك بالإحياء لأن ذلك لا حرمة له.
وقد روي عن طاوس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هو بعد لكم " رواه سعيد بن منصور في سننه، وقال أبو عبيدة في الأموال - (ص 272). عادي الأرض: التي كان بها ساكن في آباد الدهر فانقرضوا، فلم يبق منهم أنيس وإنما نسبها إلى عاد، لأنهم كانوا مع تقدمهم ذوي قوة وبطش وآثار كثيرة فنسب كل أثر قديم إليهم، ويحتمل أن كل ما فيه أثر الملك، ولم يعلم زواله قبل الإسلام، أنه لا يملك، لأنه يحتمل أن المسلمين أخذوه عامرًا فاستحقوه، فصار موقوفًا بوقف عمر له، فلم يملك، كما لو علم مالكه.
ج\- ما جرى عليه الملك في الإسلام لمسلم، أو ذمي غير معين، فظاهر كلام الخرقي أنها لا تملك بالإحياء. وهي إحدى الروايتين عن أحمد. ولأن هذه الأرض لها مالك، فلم يجز إحياؤها: كما لو كان معينًا، فإن مالكها إن كان له ورثة فهي لهم، وإن لم يكن له ورثة، ورثها المسلمون والرواية الثانية أنها تملك بالإحياء. وهو مذهب أبي حنيفة ومالك لعموم الأخبار؛ ولأنها أرض موات، لا حق فيها لقوم بأعيانهم، أشبهت ما لم يجر عليه ملك مالك، ولأنها إن كانت في دار الإسلام فهي كلقطة دار الإسلام، وإن كانت في دار الكفر فهي كالركاز.(9/4508)
الإمامية فهي بيت مال يكون أمرها إلى الإمام، يجعلها لمصلحة من مصالح المسلمين، أو يبيعها، أو يؤجرها. وإن كانت في أرض غير إمامية كان أمرها إلى أصلح أهل تلك البلد، يجعلها في مصالح المسلمين على أي صفة من الصفات التي يعود نفعها على المسلمين، وإذا كان لآحاد الناس أوضاع صحيحة تفيد أنه يملك فيها مقدارًا معلومًا غير معين في جهة من جهاتها كان له ذلك المقدار في أوسط بقاعها الذي يكون متوسطًا بين أعلاها وأدناها إذا كانت مختلفة، فإن كانت متحدة كان للإمام أو الحاكم من جهته، أو حاكم الصلاحية أن يعين لصاحب الوضع ما اشتمل عليه وضعه في أي جهة من جهاتها، والمفروض أنه لا ثبوت يد عليها حتى يعارض الوضع الذي بيد المتمسك به، وإذا كانت تلك الأرض لقوم معروفين وهي منسوبة إليهم نسبة تفيد الملك فإن كان [15] نصيب كل واحد منهم معلومًا غير معين في جهة قسمت بينهم على قدر الأنصباء، وإن كان(9/4509)
النصيب مجهولاً قسمت بينهم على الرءوس مع عدم البرهان الشرعي بوجه من الوجوه.
* (السؤال التاسع): حاصله هل يجوز التأديب بالمال (1) إذا حصل من أحد الرعايا قتل أو نحوه أم لا يجوز؟ وإن كانوا لا يقومون في الغالب بما أوجبه الله عليهم من صلاة وصيام ونحوهما، وهي في أموالهم حق غير الزكاة؟.
* أقول: قد شرع الله لعباده الشرائع، وحد لهم الحدود، وجعل لكل ذنب عقوبة، فالقاتل يقتل أو يسلم الدية إن لم يكمل شروط القصاص، أو كملت ورضي الورثة بالدية، والجاني يقتص منه فيما يجب فيه القصاص، ويسلم الأرش في الجناية التي لا قصاص فيها، والزاني والسارق والقاذف والسكران قد جاءت الشريعة بعقوبات مقدرة في كل واحد منهم. وتارك أركان الإسلام أو بعضها إذا أصر على الترك، ولم يتب وجب قتاله (2) بحسب الطاقة، وهكذا جاءت الشريعة المطهرة بما يلزم كل من فعل محرمًا، أو ترك واجبًا. ولم يأت في شيء من هذه الأمور الشرعية التأديب بالمال، وإن ورد شيء من ذلك في الشريعة كتضعيف الغرامة في بعض المسائل، وأخذ شطر من لم يسلم الزكاة (3)، وأخذ ثياب من يقطع أشجار حرم المدينة (4)،
_________
(1) جواز التأديب بالمال تقدم ذكره في الرسالة (130).
(2) تقدم ذكره.
(3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (5/ 4) وأبو داود رقم (1575) والنسائي (5/ 15، 16). عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها، وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى، لا يحل لآل محمد منها شيء ".
وهو حديث حسن.
(4) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1364) وأحمد (1/ 168) من حديث سعد بن أبي وقاص: " أنه ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبدًا يقطع شجرًا أو يخبطه فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم فقال: معاذ الله أن أرد شيئًا نفلنيه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبى أن يرد عليهم ".(9/4510)
ونحو ذلك فهو مقصور على محله لا تجوز مجاوزته إلى غيره. وقد استوفيت الكلام على ذلك في رسالة مستقلة (1) [16]، وسردت فيها المواضع التي وردت، وأوضحت هنالك أن الأصل الأصيل المعلوم بالضرورة الدينية هو تحريم مال المسلم (2)، وعصمته، وعدم تسويغه إلا بطيبة من نفسه (3)، وأن تلك المواضع التي فيها التأديب بالمال كالمخصصة لهذا العموم، فيقتصر عليها. ولا تجوز مجاوزتها إلى غيرها، وأنه لا يجوز ذلك في هذه المواضع التي وردت إلا لأئمة المسلمين المتبحرين في معرفة أحكام الدين، ولا تجوز لأفرادهم كائنًا من كان.
ولا يشك عالم أن تلك المواضع اليسيرة واردة على خلاف الأصل في هذه الشريعة، فإن الأصل المعلوم بالضرورة هو ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من العقوبات المقدرة للعصاة. وقد تهافت الظلمة في هذه المسألة تهافتًا شنيعًا، حتى عطلوا الحدود الواجبة، واستحلوا أموال المسلمين بغير حقها، فأخذوا ما حرم الله عليهم أخذه، وهو مال المسلم، وأهملوا ما أخذ الله عليهم القيام به، وهي الحدود الشرعية، فجمعوا بين خطيئتين شنيعتين هما استحلال أموال المسلمين وأكلها بالباطل، وتعطيل حدود الله التي شرعها لعباده، وأعانهم على ذلك علماء السوء فأفتوهم بما وجدوه في نصوص أهل العلم من الكلام على التأديب بالمال، فضلوا وأضلوا، وكانوا شركاءهم في المظلمة، مع أن نصوص أهل العلم مقيدة بقيود مشروطة بشروط، وكذلك الأدلة [17] الواردة في ذلك، فإنها في مواطن خاصة مباينة لما يفعله أهل الظلم، مبنية على
_________
(1) رقم (130).
(2) قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء: 29].
(3) قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " وهو حديث صحيح تقدم تخريجه.(9/4511)
مصالح عامة وخاصة، لا يقف على وجه الحكمة فيها إلا أفراد العلماء. وأما ما سأل عنه السائل من قوله: " هل في المال حق سوى الزكاة؟ ".
فأقول قد تكلم علماء التفسير والحديث والفقه في ذلك بكلام طويل، والراجح أن حديث: " ليس في المال حق سوى الزكاة " (1) عام مخصص بمثل وجوب الضيافة، وسد رمق محترم الدم كما وردت بذلك الأدلة الخاصة، وبمثل قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} (2)، وقوله [تعالى] {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم} (3) ونحو ذلك مما وردت به الشريعة المطهرة، لا ما لم ترد به مما ابتدعه أهل الظلم، وجعلوه ذريعة إلى أكل أموال الناس بالباطل (4).
_________
(1) أخرجه ابن ماجه رقم (1789) من حديث فاطمة بنت قيس.
وهو حديث ضعيف.
(2) [الأنعام: 141].
(3) [التوبة: 41].
(4) وسؤال: هل في المال حق سوى الزكاة؟ فيه مذهبان:
الأول: أن الحق الوحيد في المال هو الزكاة، فمن أخرج زكاته فقد طهر ماله. وبرئت ذمته، ولا يطالب بعدها بشيء آخر. إلا ما تطوع به، رغبة في ثواب الله.
من أدلة هذا المذهب:
ما أخرجه البخاري (46) ومسلم رقم (8/ 11) ومالك (1/ 175 رقم94) وأحمد (1/ 162) وأبو داود رقم (391) والنسائي (1/ 226 - 227) من حديث طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته، ولا نفقه ما يقول حتى دنا، فإذ هو يسأل عن الإسلام فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خمس صلوات في اليوم والليلة " قال هل علي غيرهن؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وصيام شهر رمضان " قال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع، قال: وذكر له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أفلح الرجل إن صدق ".
وما أخرجه البخاري رقم (1397) ومسلم رقم (15/ 14) من حديث أبي هريرة أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: " تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان " قال: والذي بيده لا أزيد على هذا شيئًا أبدًا، ولا أنقص منه، فلما ولى، قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ".
* في الحديث الأول أخبر الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجل: أن لا شيء عليه غير الزكاة إلا أن يتطوع، وهو دليل ظاهر.
* وفي الحديثين أعلن الرجلان السائلان: أنهما لا يزيدان على الزكاة المفروضة شيئًا ورضى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهما ذلك. بل أخبر أنهما من أهل الجنة، ولو كان في المال حق سوى الزكاة ما استحقا الجنة مع تركه.
المذهب الثاني: أن في المال حق سوى الزكاة.
ومن أدلة هذا المذهب:
الأول: قول الله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} [البقرة: 177].
* الشاهد في الآية أنها جعلت من أركان البر وعناصره إيتاء المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ... ثم عطف على ذلك إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والعطف يقتضي المغايرة، فدل على أن ذلك الإيتاء غير إيتاء الزكاة.
الدليل الثاني: قول الله تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأنعام: 141].
* والشاهد في الآية. أن الحق المأمور به في الآية هو شيء غير الزكاة، لأن الآية مكية نزلت قبل فرض العشر في المدينة.
الدليل الثالث: أحاديث صحيحة في حقوق الإبل والبقر والغنم.
منها: ما أخرجه مسلم رقم (28/ 988) والنسائي (5/ 27 رقم 2454) عن جابر بن عبد الله، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها، إلا أظهر لها يوم القيامة بقاع قرقر. تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن. قلنا يا رسول الله: وما حقها؟ قال: إطراق فحلها وإعارة دلوها. ومنيحتها، وحلبها على الماء. وحمل عليها في سبيل الله ... ".
* ووجه الدلالة في هذا الحديث وأمثاله، أنها رتبت الوعيد على منع الحقوق المذكورة فدلت على أنها حقوق واجبة، وهي حقوق أخرى غير الزكاة.
الدليل الرابع: أحاديث صحيحة في إيجاب حق الضيف على المضيف.
(منها): ما أخرجه البخاري رقم (6135) ومسلم رقم (14/ 48) ومالك رقم (22) وابن ماجه رقم (3675).
عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يخرجه ".
* دلالته: أن للضيف الطارق حقًا أكيدًا في حال أخيه المسلم الذي أضافه حتى إن الجماعة ليجب عليها معاونته ونصره حتى يأخذ هذا الحق المؤكد وهو حق غير الزكاة.
الدليل الخامس: ما جاء من الوعيد بشأن الذين يمنعون الماعون.
قال تعالى: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون} [الماعون: 4 - 7].
الدليل السادس: النصوص الجمة التي أوجبت التعاون والتكامل بين المسلمين وفرضت إطعام المسكين والحض عليه.
منها: قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة: 2].
وقوله تعالى: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} [الإسراء: 26].
وقوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} [النساء: 36].
الشاهد في هذه الآيات وغيرها أن الله أوجب على الأغنياء حق المساكين وابن السبيل مع حق ذي القربى. وافترض الإحسان إلى الأبوين وذي القربى والمساكين والجار وما ملكت اليمين، والإحسان يقتضي كل ما ذكرنا، ومنعه إساءة بلا شك. وواضح أن هذا الحق شيء غير الزكاة.
* والذي نراه أن شقة الخلاف بينهما ليست بالسعة التي نتخيلها، فإن بينهما مواضع اتفاق لا شك فيها، ولا ينازع فيها أحد الطرفين:
(أ): فحق الوالدين في النفقة إذا احتاجا، وولدهما موسر، لا نزاع فيه.
(ب): وحق القريب لا نزاع فيه كذلك من حيث المبدأ، وإنما اختلفوا في درجة القرابة الموجبة للنفقة ما بين موسع ومضيق.
(ج): وحق المضطر إلى القوت، أو الكساء، أو المأوى، في أن يقات لا نزاع فيه.
(د): وحق جماعة المسلمين في دفع ما ينوبهم من النوازل العامة التي تنزل بهم، كصد خطر العدو واستنقاذ أسرى المسلمين من أيدي الكفار. ومقاومة الأوبئة والمجاعات ونحوها، وأن وجوب المساهمة في هذه النوازل موضع إجماع من علماء المسلمين.
" الاعتصام " للإمام الشاطبي (2/ 121).
يتضح لنا أن الذين صرحوا بأن لا حق في المال سوى الزكاة، إنما قصدوا نفي المكوس الجائرة التي يفرضها بعض الحكام، توسعة على أنفسهم وأتباعهم، تضيقًا على شعوبهم، وإن لم تدفع إلى ذلك حاجة، ولم تقتضه مصلحة عامة. وكأنما خشي هؤلاء العلماء أن يتخذ الحكام الظلمة قولهم ذريعة إلى فرض المكوس والضرائب المرهقة بغير حق فسدوا عليهم الباب، وقطعوا عليهم السبيل بقولهم لا حق في المال سوى الزكاة.
* ولكن هناك جملة مواضع اختلف فيها الطرفان اختلافًا حقيقيًا:
(أ): حق الزرع والثمر عند الحصاد، والراجح أن المراد به العشر ونصف العشر.
(ب): حق الضيف والراجح وجوب هذا الحق.
(ج): حقوق المواشي في الإبل والغنم والبقر ... والراجح أنها حقوق واجبة غير الزكاة.
انظر " فقه الزكاة " للقرضاوي (1/ 344 - 348)، " نيل الأوطار " للشوكاني (8/ 157 - 158).
(د): حق الماعون. والراجح أنه واجب للوعيد الشديد الذي ذكره الله في كتابه.
وأخيرًا فيما تأويل الأحاديث الصحيحة التي يفيد ظاهرها أن لا حق في المال سوى الزكاة، إلا بتطوع المالك، وأن من زكاته فقد قضى ما عليه؟؟ يتضح لنا من تلك الأحاديث الصحيحة، أن الزكاة هي الحق الدوري المحدد الثابت في المال، والواجب على الأعيان بصفة دائمة، شكرًا لنعمة الله وتطهيرًا وتزكية للنفس والمال. وهو حق واجب الأداء. ولو لم يوجد فقير يستحق المواساة أو حاجة تستدعي المساهمة.
فالفرد المسلم المالك للنصاب في الظروف العادية لا يطالب بشيء في ماله غير الزكاة، فإذا أداها فقد قضى ما عليه، وأذهب عن نفسه شر ماله، وليس عليه شيء آخر، وتتغير بتغير العصور والبينات والملابسات.
وهي في الغالب لا تجب على الأعيان بل على الكفاية، إذا قام بها البعض سقط الحرج عن الباقين، وقد تتعين أحيانًا كأن يرى الشخص مضطرًا وهو قادر على دفع ضرورته فيجب عليه دفعها. أو يكون له جار جائع أو عريان وهو قادر على معونته، كما أن الغالب أن توكل هذه الحقوق إلى إيمان الأفراد وضمائرهم دون تدخل السلطة. إلا أن يرى حاكم مسلم أن يفرض بقوة القانون فرضًا ما أوجبه الإيمان إيجابًا وخاصة إذا كثرت حاجات الأفراد واتسعت نفقات الدولة وأعباؤها، فحينئذ لا بد من تدخل الدولة وإلزامها.
" فقه الزكاة " د. القرضاوي (2/ 961 - 992).(9/4512)
* (السؤال العاشر): عن العمائر المستحدثة في الحرم الشريف كالمقامات والمنارات، وكذلك التعلية في البيوت زيادة على الحاجة.
* أقول: عمارة المقامات بدعة بإجماع المسلمين، أحدثها أشر ملوك الشراكسة فرج ابن برقوق (1) في أوائل المائة التاسعة من الهجرة، وأنكر ذلك أهل العلم في ذلك العصر، ووضعوا فيه مؤلفات. وقد بينت ذلك في غير هذا الموضع (2). ويا لله العجب من بدعة يحدثها من هو من شرار ملوك المسلمين في خير بقاع الأرض،
_________
(1) وهو فرج بن برقوق الجركسي الملقب بالناصر. ولد سنة 791 في وسط الفتنة " فتنة يلبغا الناصري ومنطاش فسماه أبوه بلفاق ثم سماه فرجا، فكان اسمه الحقيقي هو الأول.
واستفتوا العلماء فأفتوا بوجوب قتله لما كان يرتكبه من المحرمات والمظالم والفتك العظيم، فقتل في ليلة السبت سابع عشر من صفر سنة 815 هـ.
" الأعلام " للزركلي (5/ 140)، " الضوء اللامع " (6/ 168).
(2) " البدر الطالع " رقم (369).(9/4516)
كيف لم يغضب لها من جاء بعده من الملوك المائلين إلى الخير (1) [18]، لا سيما وقد صارت هذه المقامات سببًا من أسباب تفريق الجماعات! وقد كان الصادق المصدوق ينهى عن الاختلاف والفرقة، ويرشد إلى الاجتماع والألفة كما في الأحاديث الصحيحة، بل نهى عن تفريق الجماعات في الصلوات.
وبالجملة فكل عاقل متشرع يعلم أنه قد حدث بسبب هذه المذاهب التي فرقت الإسلام فرقًا مفاسد أصيب بها الدين وأهله، وأن من أعظمها خطرًا وأشدها على الإسلام ما يقع الآن في الحرم من تفريق الجماعات، ووقوف كل طائفة في مقام من هذه المقامات، كأنهم أهل أديان مختلفة، وشرائع غير مؤتلفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون (2).
[حكم رفع المنارة] (3).
وأما رفع المنارات فأصل وضعها المقصد صالح، وهو إسماع البعيد عن محل الآذان، وهذه مصلحة مسوغة إذا لم تعارضها مفسدة، فإن عارضتها مفسدة من المفاسد المخالفة للشريعة فدفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، كما تقرر في الأصول (4).
[حكم تشييد البنيان فوق الحاجة].
_________
(1) تم إزالتها ولله الحمد.
(2) قلنا والحمد لله قد تم إزالتها ولم يبق لها أثر.
(3) قال الألباني في " الأجوبة النافعة " (ص18): " ... ، فالذي نجزم به أن المنارة المعروفة اليوم ليست من السنة في شيء غير أن المعنى المقصود منها. وهو التبليغ، أمر مشروع بلا ريب - فإذا كان التبليغ لا يحصل إلا بها، فهي حينئذ مشروعة لما تقرر في علم الأصول: أن ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب. غير أن من رأيي أن وجود الآلات المكبرة للصوت اليوم يغني عن اتخاذ المأذنة كأداة للتبليغ، لا سيما وهي تكلف المبالغ الطائلة، فبناؤها والحالة هذه مع كونه بدعة - ووجود ما يغني عنه غير مشروع لما فيه من إسراف وتضييع للمال، ومما يدل دلالة قاطعة على أنها صارت اليوم عديمة الفائدة، أن المؤذنين لا يصعدون إليها البتة مستغنين عنها بمكبر الصوت ".
(4) انظر " البحر المحيط " (6/ 76)، و" تيسير التحرير " (4/ 171).(9/4517)
وأما تشييد (1) البنيان ورفعه فوق حاجة الإنسان، فقد ورد النهي عنه (2)، والوعيد
_________
(1) (منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5672) من حديث خباب مرفوعًا " ... إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه، إلا في شيء يجعله في التراب ".
قال الحافظ في " الفتح " (11/ 62) وقد ورد في ذم تطويل البناء مطلقًا.
(منها): ما أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (2483) عن حارثة بن مضرب قال أتينا خبابًا نعوده وقد اكتوى سبع كيات فقال: لقد تطاول مرضي ولولا أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لا تمنوا الموت لتمنيت " وقال: " يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب أو قال في البناء ".
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وهو حديث صحيح. والله أعلم.
(ومنها): ما أخرجه الطبراني في " الأوسط " (8/ 381 رقم 8939) بإسناد ضعيف من حديث أبي بشر الأنصاري أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا أراد الله بعبد هوانًا أنفق ماله في البنيان ".
وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 69) وقال فيه من لم أعرفه.
(ومنها): ما أخرجه أبو داود رقم (5236) ورقم (5235) والترمذي رقم (2335) وابن ماجه رقم (4160) وابن حبان (2996، 2997) من طرق.
عن عبد الله بن عمرو قال: " مر بي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أطين حائطًا فقال: الأمر أعجل من ذلك ".
وفي لفظ " مر علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نعالج خصًا لنا، فقال: ما هذا؟ فقلنا قد وهى فنحن نصلحه قال: ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك " وهو حديث صحيح.
* قال الحافظ في " الفتح " (11/ 93) بعد سرده هذه الأحاديث " وهذا كله محمول عن ما لا تمس الحاجة إليه مما لا بد منه للتوطن، وما يقي البرد والحر ".
وقد أخرج أبو داود في " السنن " رقم (5237): من حديث أنس أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج، فرأى قبة مشرقة فقال: " ما هذه " قال له أصحابه: هذه لفلان رجل من الأنصار، قال: فسكت وحملها في نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم عليه في الناس أعرض عنه، صنع ذلك مرارًا، حتى عرف الرجل الغضب فيه والإعراض عنه، فشكا ذلك إلى أصحابه، فقال: والله إني لأنكر رسول الله، قالوا: خرج فرأى قبتك - قال: فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض، فخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم فلم يرها، قال: " ما فعلت القبة " قالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه، فأخبرناه فهدمها فقال: " أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا مالا، إلا ما لا " يعني ما لا بد منه.
وهو حديث صحيح. انظر " الصحيحة " رقم (2830).
* قال الحافظ في " الفتح " (11/ 92 - 93): تعليقًا على ما أخرجه البخاري في صحيحه الباب رقم (53) قال أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " من أشراط الساعة إذا تطاول رعاة البهم في البنيان ".
وأشار بإيراد هذه القطعة إلى ذم التطاول في البنيان وفي الاستدلال بذلك نظر. ثم قال ابن حجر لم يتقدم للإثم في الخبر ذكر حتى يعترض به، وكلامه يوهم أن في البناء كله الإثم، وليس كذلك بل فيه تفصيل. وليس كل ما زاد منه عن الحاجة يستلزم الإثم، ولا شك أن في الغرس من الأجر من أجل ما يؤكل منه ما ليس في البناء، وإن كان في بعض البناء ما يحصل به النفع لغير الباني، فإنه يحصل للباني به التراب والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد أخرج البخاري حديث أبي هريرة موصولاً رقم (50): قال الحافظ في " الفتح " (1/ 123): قال القرطبي: " المقصود الإخبار عن تبدل الحال بأن يستولي أهل البادية على الأمر ويتملكوا البلاد بالقهر فتكثر أموالهم وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به، وقد شاهدنا ذلك في هذه الأزمنة ".
(2) (منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5672) من حديث خباب مرفوعًا " ... إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه، إلا في شيء يجعله في التراب ".
قال الحافظ في " الفتح " (11/ 62) وقد ورد في ذم تطويل البناء مطلقًا.
(منها): ما أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (2483) عن حارثة بن مضرب قال أتينا خبابًا نعوده وقد اكتوى سبع كيات فقال: لقد تطاول مرضي ولولا أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لا تمنوا الموت لتمنيت " وقال: " يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب أو قال في البناء ".
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وهو حديث صحيح. والله أعلم.
(ومنها): ما أخرجه الطبراني في " الأوسط " (8/ 381 رقم 8939) بإسناد ضعيف من حديث أبي بشر الأنصاري أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا أراد الله بعبد هوانًا أنفق ماله في البنيان ".
وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 69) وقال فيه من لم أعرفه.
(ومنها): ما أخرجه أبو داود رقم (5236) ورقم (5235) والترمذي رقم (2335) وابن ماجه رقم (4160) وابن حبان (2996، 2997) من طرق.
عن عبد الله بن عمرو قال: " مر بي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أطين حائطًا فقال: الأمر أعجل من ذلك ".
وفي لفظ " مر علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نعالج خصًا لنا، فقال: ما هذا؟ فقلنا قد وهى فنحن نصلحه قال: ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك " وهو حديث صحيح.
* قال الحافظ في " الفتح " (11/ 93) بعد سرده هذه الأحاديث " وهذا كله محمول عن ما لا تمس الحاجة إليه مما لا بد منه للتوطن، وما يقي البرد والحر ".
وقد أخرج أبو داود في " السنن " رقم (5237): من حديث أنس أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج، فرأى قبة مشرقة فقال: " ما هذه " قال له أصحابه: هذه لفلان رجل من الأنصار، قال: فسكت وحملها في نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم عليه في الناس أعرض عنه، صنع ذلك مرارًا، حتى عرف الرجل الغضب فيه والإعراض عنه، فشكا ذلك إلى أصحابه، فقال: والله إني لأنكر رسول الله، قالوا: خرج فرأى قبتك - قال: فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض، فخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم فلم يرها، قال: " ما فعلت القبة " قالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه، فأخبرناه فهدمها فقال: " أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا مالا، إلا ما لا " يعني ما لا بد منه.
وهو حديث صحيح. انظر " الصحيحة " رقم (2830).
* قال الحافظ في " الفتح " (11/ 92 - 93): تعليقًا على ما أخرجه البخاري في صحيحه الباب رقم (53) قال أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " من أشراط الساعة إذا تطاول رعاة البهم في البنيان ".
وأشار بإيراد هذه القطعة إلى ذم التطاول في البنيان وفي الاستدلال بذلك نظر. ثم قال ابن حجر لم يتقدم للإثم في الخبر ذكر حتى يعترض به، وكلامه يوهم أن في البناء كله الإثم، وليس كذلك بل فيه تفصيل. وليس كل ما زاد منه عن الحاجة يستلزم الإثم، ولا شك أن في الغرس من الأجر من أجل ما يؤكل منه ما ليس في البناء، وإن كان في بعض البناء ما يحصل به النفع لغير الباني، فإنه يحصل للباني به التراب والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد أخرج البخاري حديث أبي هريرة موصولاً رقم (50): قال الحافظ في " الفتح " (1/ 123): قال القرطبي: " المقصود الإخبار عن تبدل الحال بأن يستولي أهل البادية على الأمر ويتملكوا البلاد بالقهر فتكثر أموالهم وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به، وقد شاهدنا ذلك في هذه الأزمنة ".(9/4518)
عليه. وثبت أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بهدم بعض الأبنية، وليس ذلك مجرد بدعة، بل خلاف ما أرشد إليه الشارع.
* (السؤال الحادي عشر): عن شجرة التنباك هل يجوز استعمالها على الصفة التي يستعملها كثير من الناس الآن أم لا؟. [19]
* أقول: الأصل الذي شهد له القرآن الكريم، والسنة المطهرة هو أن كل ما في الأرض حلال، ولا يحرم شيء من ذلك إلا بدليل خاص كالمسكر، والسم القاتل، وما فيه ضرر عاجل أو آجل كالتراب ونحوه، وما لم يرد فيه دليل خاص فهو حلال استصحابًا للبراءة الأصلية، وتمسكًا بالأدلة العامة كقوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} (1)، {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما} (2)، إلى آخر الآية.
_________
(1) [البقرة: 29].
(2) [الأنعام: 145]. وتتمتها {على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به}.(9/4519)
وهكذا الراجح عندي أن الأصل في جميع الحيوانات الحل، ولا يحرم شيء منها إلا بدليل يخصه، كذا الناب من السباع (1)، والمخلب من الطير، والكلب والخنزير (2)، وسائر ما ورد فيه دليل يدل على تحريمه.
إذا تقرر لك هذا علمت أن هذه الشجرة التي يسميها بعض الناس التنباك، وبعضهم (التتن) لم يأت فيها دليل يدل على تحريمها، وليست من جنس المسكرات، ولا من السموم، ولا من جنس ما يضر آجلاً أو عاجلاً، فمن زعم أنها حرام فعليه الدليل، ولا يفيد مجرد القال والقيل. وقد استدل بعض أهل العلم على حرمتها بقوله تعالى: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} (3) وأدرج هذه الشجرة تحت الخبائث بمسلك من مسالك العلة المدونة في الأصول. وقد غلط في ذلك غلطًا بينًا؛ فإن كون هذه الشجرة [20] من الخبائث هو محل النزاع (4)، فالاستدلال بالآية الكريمة على ذلك فيه شوب
_________
(1) اخرج مسلم في " صحيحه " رقم (16/ 1934) من حديث ابن عباس قال " نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ".
(2) قال تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به} [المائدة: 3].
(3) [الأعراف: 157].
(4) وبما أن علماء الطب والتحليل تبين لهم أن الدخان مضر بالجسم الإنساني ويقضي على سعادة الإنسان وهنائه.
انظر: " التدخين بين المؤيدين والمعارضين " د. هاني عرموش (ص29 - 76).
قال ابن حزم في " المحلى " (6/ 111): " وأما أكل ما يستضر به من طين أو إكثار من الماء أو الخبز. فحرام ... وأما أكل ما أضر فهو حرام
قال النووي في " روضة الطالبين " (3/ 281): كل ما ضر، كالزجاج، والحجر والسم يحرم ... ".
قال الشيخ محمود شلتوت في " الفتاوى " (ص354): ومن هنا نعلم أخذًا من معرفتنا الوثيقة بآثار التبغ السيئة في الصحة والمال، أنه مما يمقته الشرع ويكرهه. وحكم الإسلام على الشيء بالحرمة أو الكراهة لا يتوقف على وجود نص خاص بذلك الشيء، فعلل الأحكام، وقواعد التشريع العامة، قيمتها في معرفة الأحكام. وبهذه العلل وتلك القواعد كان الإسلام ذا أهلية قوية في إعطاء كل شيء يستحدثه الناس حكمه في حل أو حرمة، وذلك عن طريق معرفة الخصائص والآثار الغالبة للشيء، فحيث كان الضرر كان الخطر، وحيث خلص النفع أو غلب كانت الإباحة، وإذا استوى النفع والضرر كانت الوقاية خيرا من العلاج ".
انظر: " التدخين. مادته وحكمه في الإسلام " للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين.(9/4520)
مصادرة على المطلوب، والاستخباث المذكور إن كان بالنسبة إلى من يستعملها ومن لا يستعملها فهو باطل، فإن من يستعملها هي عنده من الطيبات لا من المستخبثات، وإن كان بالنسبة إلى بعض هذا النوع الإنساني فقد وجد فيهم من يستخبث العسل، وهو من أطيب الطيبات.
وقد صح أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأكل الضب (1)، وقال أجدني أعافه فأكله بعض الصحابة بمرأى ومسمع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن أنصف من نفسه وجد كثيرًا من الأمور التي حللها الشارع من الحيوانات وغيرها، أو كانت حلالاً بالبراءة الأصلية، وعموم الأدلة في هذا النوع الإنساني من يستخبث بعضها، وفيهم من يستطيب ما يستخبثه غيره، فلو كان مجرد استخباث البعض مقتضيًا لتحريم ذلك الشيء عليه وعلى غيره لكان العسل ولحوم الإبل والبقر والدجاج من المحرمات، لأن في الناس من يستخبث ذلك ويعافه. واللازم باطل فالملزوم مثله، فتقرر بهذا الاستدلال على تحريم (2) (التتن) لكون البعض يستخبثه غلط، أو مغالطة.
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (5391) ومسلم رقم (44/ 1946) ومالك في الموطأ (2/ 968 رقم 10) وأبو داود رقم (3794) والنسائي (7/ 198 رقم 4317) وابن ماجه رقم (3241) من حديث ابن عباس.
(2) تبعًا للآثار السيئة " للتدخين " على جهاز التنفس. وخاصة الرئة وما يسببه من سرطانات رئوية .. وقد أثبتت الدراسات أنه إصابة الجهاز التنفسي بالالتهابات القصبية والرئوية المزمنة تكثر عند المدخنين.
- وكذلك أثر التدخين على الجهاز العصبي تأثيرًا بالغًا يؤدي إلى إصابة المدخن بالصداع والدوار وضعف الذاكرة ووهن في النشاط الذهني.
وقد يصاب المدخن بمرض ضعف الأعصاب وربما يصاب بشلل الأعصاب الجزئي إذا كان من المفرطين جدًا في التدخين.
وذهب البعض إلى أن التدخين يؤدي إلى التهاب الأعصاب البصرية وتخفيف حدة الرؤيا.
- وأثر التدخين السيئ على الجهاز الهضمي. فقد ذهب الأطباء إلى أنه يسبب:
- اضطرابًا في الوظيفة الإفرازية للغدد الهاضمة.
- اضطراب الوظيفة الحركية للمعدة فتتأثر ويخف إفرازها بشكل عام كما تصاب بالوهن والضعف.
- يؤثر التدخين على الغدد اللعابية فيزيد إفرازها ويتغير تركيب اللعاب الكيميائي ..
- أثر التدخين السيئ على القلب والضغط الدموي. وقد يصاب المدخن بالاحتشاء (الجلطة) وقد يصاب المدخن بمرض تصلب الشرايين، ويؤدي إلى التهاب الشريان التاجي المغذي للقلب.
لذلك ولأثار كثيرة جدًا يكتشفها الأطباء .. لذلك حرم بعض العلماء المعاصرين التدخين. والله تعالى أعلم.(9/4521)
وقد انقضى الجواب على سؤالات السائل مع المبالغة [21] في الاختصار، ليسهل الانتفاع بذلك على طالب الفائدة، ولو بسطنا الجواب بعض البسط لجاء جواب بعض هذه الأسئلة على انفراده على كراريس، فما الظن بجميعها! والحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
فرغ من تحريره المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - في ليلة الأحد لعلها ليلة العشرين من محرم سنة 1217 [22].(9/4522)
(144) 15/ 4
تشنيف السمع بجواب المسائل السبع
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(9/4523)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " تشنيف السمع بجواب المسائل السبع ".
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم وصلى اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه يا كريم ماذا يقول شيخنا حاكم القطر وعالم المصر
4 - آخر الرسالة: إنما قلت: ما قلت على الفرض والتقدير وعدم وجودك له لا يستلزم عدم قبولك لكلامي هذا.
وإلى هنا انتهى الجوانب بقلم المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الصفحات: 17 صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 31 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(9/4525)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه يا كريم.
ماذا يقول شيخنا حاكم القطر، وعالم المصر، واسطة عقد نظام الأعلام، وشيخ مشايخ الإسلام، صاحب الفضل الواضح الجلي أبو علي مولانا محمد بن علي لا زالت شموس علومه على الخلق مشرقة، ولا برحت رياض معارفه وعوارفه للطالبين مونقة في أسئلة لا تزال تخطر ببالي، وتمر على خيالي منذ أعوام عويمة، وأيام قديمة، وإنما يسأل بها عالم مثله، قد رسخت قدمه في علم السنة النبوية، وطالت يده في العلوم الشرعية حتى صار قافيًا في أقواله وأفعاله الطريقة المحمدية، سائرًا في جميع أموره السيرة الرضية المرضية، مائلاً عن القيل والقال، معرضًا عن آراء الرجال، لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يبالي عند قول الحق بمقالة ظالم، فليمعن النظر مولانا - كثر الله فوائده - في جوابها، وليبن بنير علمه طريق صوابها - جزاه الله خيرًا، ووقاه ضيرًا -.
السؤال الأول: إنا نرى حكام الأقطار في هذه الأعصار يحلفون اليمين المسماة يمين العنت، ويلزمون الخصم أن يحلفها لخصمه، فهل لهم دليل فيما يفعلونه أم لا؟ فإني فتشت جل الكتب العلمية، وبحثت أكثر المجاميع الحديثية، فلم أجد فيها عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حرفًا واحدًا إلا أن الفقيه حسن (1) ذكرها في تذكرته (2)، وتتابع بعده المفرعون في ذكرها حتى تهور الإمام شرف الدين فجعلها نظرية، ولم يعلم أن الحاكم إنما نصب ليحكم بين الناس بما جاء عن الله تعالى، أو عن رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا ليحكم بشرع جديد من عند نفسه، أو يزيد في دين الله ما لم يكن منه، كيف وقد قال الله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} (3)
_________
(1) الفقيه الحسن بن محمد المذحجي الصنعاني.
(2) التذكرة الفاخرة في فقه العترة الطاهرة.
" مؤلفات الزيدية " (1/ 279 - 280).
(3) [النحل: 116].(9/4529)
وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - " كل ما لم يكن عليه أمرنا فهو رد " (1).
السؤال الثاني: أنه قد صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه " (2) وقال: " شاهداك أو يمينه " (3) إلى غير ذلك مما يؤدي هذا المعنى. وهذا الكلام يدل بمنطوقه أن الواجب على المدعي إقامة البينة على ما ادعاه أولاً، فإن لم تكن له بينة حلف له المدعى عليه، وكف عنه، وهذا الصنيع هو الواجب على الحاكم عند أن يحضر إليه الخصمان، وإنا لنراهم الآن يعكسون فيبدءون بتحليف المدعى عليه، ثم يستبقي المدعي يمينه ولمتحصل الشهادة، وما هذا إلا قلب لما كان عليه هدي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - والسلف الصالح من بعده، والمطلوب المستند.
السؤال الثالث: أنه قد تقرر من قواعد الشريعة المطهرة أن النصاب (4) المعتبر في الشهادة هو رجلان، أو رجل وامرأتان لا غير، وإنا لنراهم الآن يلزمون الخصم بعد أن يأتي بالنصاب لما يسمونه تكميل الشهادة، وذلك مما لا دليل عليه، بل هو من الزيادة -
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (2697) ومسلم رقم (1718) وأبو داود رقم (4606) وابن ماجه رقم (14) من حديث عائشة رضي الله عنها " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد ".
(2) أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (10/ 252) وهو حديث صحيح.
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (4552) ومسلم رقم (1/ 1711) من حديث ابن عباس قال: " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى باليمين على المدعى عليه ".
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2669، 2670) ومسلم رقم (220/ 138) من حديث الأشعث بن قيس.
(4) قال تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة: 282].(9/4530)
في الدين - المردودة، لأنه إن قد صح للحاكم ما قد أقامه الخصم فذاك، ولا وجه للتكميل، وإن لم يصح ألزمه أن يأتي بالنصاب من الشهادة على الحد المشروع، فما وجه ما يفعلونه.
السؤال الرابع: أنه قد علم من قواعد الشريعة المطهرة أن العدالة معتبرة في الشهادة بقوله تعالى: قال تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} (1) أو بقوله تعالى: {اثنان ذوا عدل منكم} (2)، وهي في اللغة (3) التوسط في الأمر من غير إفراط ولا تفريط في الزيادة والنقصان. وقد حدها الأصوليون (4) بما لا يوجد له معنى إلا في رجل معصوم كما لا يخفى.
وقد استحسن العلماء ما قاله الشافعي (5) في حقيقة العدل حيث قال: لو كان العدل من لم يذنب لم نجد عدلاً، ولو كان كل ذنب لا يمنع من العدالة لم نجد مجروحًا، ولكن من ترك الكبائر، وكانت محاسنه أكثر من مساويه فهو عدل انتهى. [1ب] وعلى كل تقدير فلا بد من معرفة حال الشاهد ليعلم الحاكم عدالته المعتبرة، ولذا قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لشاهدين شهدا عنده: إني لا أعرفكما ولا يضركما أني لا أعرفكما ائتيا بمن يعرفكما، فأتاه رجل فقال: كيف تعرفهما؟ قال: بالصلاح والأمانة، قال:
_________
(1) [البقرة: 282].
(2) [المائدة: 106].
(3) انظر " لسان العرب " (9/ 85 - 86).
(4) انظر: " البحر المحيط " (4/ 274)، " الكوكب المنير " (2/ 389).
(5) قال الشافعي في " الأم " (13/ 380): وليس من الناس أحد نعلمه إلا أن يكون قليلا بمحض الطاعة والمروءة حتى لا يخلطهما بشيء من معصية ولا ترك مروءة، ولا بمحض المعصية ويترك المروءة حتى لا يخلطه شيء من الطاعة والمروءة، فإذا كان الأغلب على الرجل الأظهر من أمره الطاعة والمروءة، قبلت شهادته، وإذا كان الأغلب الأظهر من أمره المعصية وخلاف المروءة ردت شهادته.
وانظر الرسالة (ص493).(9/4531)
كنت جارًا لهما؟ قال: لا، قال: صحبتهما في السفر الذي يسفر عن أخلاق الرجال؟ قال: لا، قال: فأنت لا تعرفهما. هكذا رواه العقيلي (1)، والخطيب في الكفاية (2)، والبيهقي (3) وصححه أبو علي ابن السكن.
والحاصل أن البحث عن حال الشاهد لتعلم عدالته معلوم، وإلا لم يكن للعدالة معنى متحقق، وإنا لنراهم الآن قضهم بقضيضهم لا يبحثون عن ذلك، ولا يفحصون عن حال أحد، بل قد يشهد عندهم من يعلم أنه لا يصلي ولا يصوم من القبائل، وجفاة الأعراب، فيقبلون شهادتهم، ويحكمون بها. وقد يكون الحكم في اقتطاع مال امرئ مسلم محرم بالدليل القطعي، وهذا هو العجب العاجب. فبينوا ما هو الواجب؟
السؤال الخامس: أنه قد أطبق الجماهير على أن الشهادة لا تصح على نفي، وصارت هذه القضية مسلمة عند الجميع، ولكنا لم نجدهم استدلوا عليها بشيء من الكتاب والسنة، بل اكتفوا بمناسبات عقلية، وتعليلات فقهية فروعية غير مقبولة عند من وقف عند النصوص المحمدية، وتمسك بأذيالها، وألزم نفسه العمل بها.
السؤال السادس: إنا لنرى مجتهدي حكامنا ترد عليهم الحادثة فيحكمون فيها بما قاله زعانف المفرعين، أسراء تقليد الرجال (4)، وهم يعلمون أن الحق خلاف ذلك، وأن
_________
(1) في " الضعفاء " (3/ 454، 455).
(2) (ص84).
(3) في السنن الكبرى (10/ 125، 126).
(4) ذكره ابن حجر في " التلخيص " (4/ 360).
قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 44): فإن الشاهد يعتبر فيه أربعة شروط. الإسلام، والبلوغ والعقل والعدالة، وليس فيها ما يخفى ويحتاج إلى البحث إلا العدالة، فيحتاج إلى البحث عنها لقوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282]. ولا نعلم أنه مرضي حتى نعرفه أو نخبر عنه، فيأمر الحاكم بكتب أسمائهم وكناهم، ونسبهم، ويرفع فيها بما يتميزون به عن غيرهم، ويكتب صنائعهم، ومعائشهم، وموضع مساكنهم، وصلاتهم ليسأل عنهم جيرانهم وأهل سوقهم، ومسجدهم، ومحلتهم، ونحلتهم ..... ".
انظر الرسالة رقم (60).(9/4532)
الدليل قائم بعكسه، وأن الواجب على الحاكم الحكم بما جاء عن الله وعن رسوله، فليت شعري ما الحامل لهم على ذلك؟ وما الذي سوغه لهم؟ وما فائدة الاجتهاد وما منفعة الذهاب والإياب لكسب العلم واستفراغ الوسع في تحصيله؟ ليس إلا العمل به لا تخليده في بطون الدفاتر. وكيف وقد علموا الوعيد الشديد، والمقت الأكيد من الله ورسوله لمن لم يحكم بما أنزل الله!.
السؤال السابع: أنه قد علم من ضرورة أن الحاكم إنما نصب ليحكم بين الناس بما أنزل الله، أو بما جاء عن رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، أو بما استنبطه بفهمه منهما، وأن الواجب عليه التثبت في الحكم، والاجتهاد البالغ الكامل لئلا يقضي للناس على جهل فيضل ويضل ويكون في النار، وإنا لنراهم يحكمون بما ليس عليه آثارة من علم، بل يخبط بعضهم خبط عشواء، ولا ينظر في دليل ولا غيره، بل قد يكون حكمه مجانبًا للكتاب والسنة. وقد يعتذرون بالعمل بالمصالح، وأي مصلحة أعظم من الحكم بما جاء من الله ورسوله، أو الإمساك عن الحكم عند عدمهما! وقد يعتلون بأن المقصود فصل الخصومة والشجار، ويقال لهم: نعم ولكن على الحد المشروع الذي أذن به الله ورسوله لا مطلقًا، وإلا كان الحكم أهل الطاغوت صحيحًا جائزًا، لأنه قد حصل منه المقصود، ولا يقول هذا مسلم. وقد [2أ] يستدل العالم منهم بما أخرجه أحمد (1)، وأبو داود (2)، والترمذي (3)، وابن عدي (4)، والطبراني (5)، ...................................
_________
(1) في " المسند " (5/ 230، 242).
(2) في " السنن " رقم (3592).
(3) في " السنن " رقم (1327).
(4) في " الكامل " (2/ 194).
(5) في " الكبير " (20/ 170 رقم 362).(9/4533)
والبيهقي (1) من حديث الحارث بن عمرو عن ناس من أصحاب معاذ عن معاذ أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لما أراد أن يبعثه إلى اليمن قال له: " كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب الله، قال: " فإن لم تجد في كتاب الله؟ " قال: بسنة رسول الله، قال: " فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأيي فلا آلو، فضرب صدره وقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله ".
والاستدلال بالحديث ممنوع، لأن فيه كلامًا كثيرًا استوفاه ابن النحوي في البدر المنير (2)، وادعى إجماع أهل النقل على ضعفه، وبرهن على مدعاه بما يطول ذكره، ونقل عن ابن دحية أن أحسن ما روي في هذا الباب ما رواه الشعبي عن شريح القاضي أنه كتب إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يسأله، فكتب له عمر - رضي الله عنه -: أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله ففي سنة رسول الله، فإن لم يكن في سنة رسول الله فاقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يكن في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، ولا فيما قضى به الصالحون فإن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر، وما أرى التأخر إلا خيرًا لك، والسلام عليك. انتهى.
وقد نقل الحافظ ابن حجر (3) بعض الكلام على الحديث. ومثل غير خاف عليكم فلا حاجة إلى التطويل بذكره في هذا السؤال، وذكر الأصوليين، والفقهاء، وبعض المحدثين لهذا الحديث في كتبهم، واعتمادهم عليه، وتصحيح إمام الحرمين له لا يغني شيئًا بعد أن ضعفه أهل العلم بصناعة الحديث؛ فلا تقوم به حجة. وإذا لم تقم به حجة فهل يحل للحاكم أن يعمل به فيحكم برأيه أم الواجب عليه أن لا يحكم إلا بما
_________
(1) في " السنن الكبرى " (10/ 114).
وهو حديث ضعيف. وقد تقدم مرارًا.
(2) انظر: " خلاصة البدر " (2/ 424).
(3) في " التلخيص " (4/ 337). وقد تقدم ذكره.(9/4534)
أنزل الله، أو بما جاء عن رسول الله كما ذكرنا؟ والإمساك عما عدى ذلك لأن الحكم بما ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله من القضاء للناس على جهل، وفاعله في النار كما ورد عن المختار، وما العذر للحاكم إن حكم بذلك بين يدي الملك الجبار الذي لا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة.
وهذا آخر الأسئلة، فإن كان عندكم في جوابها ما يشفي الغليل، ويزيل علة الهائم العليل أفدتم، فبكم استفدنا، وبأنوار علومكم استبصرنا وأبصرنا، ولا برحتم في حماية الله تعالى ورعايته، والسلام. [2ب](9/4535)
بسم الله الرحمن الرحيم
إياك نعبد وإياك نستعين، بعد حمدك يا رب العالمين، ونصلي ونسلم على رسولك الأمين، وآله الطاهرين، وصحبه الأفضلين وبعد:
فإنها وردت هذه الأسئلة البديعة الأسلوب، الغزيرة الشؤبوب، المطردة الأنبوب من سيدي العلامة المفضال، الفهامة المتوج بالجلال عبد الله بن علي بن عبد الله الجلال (1) - كثر الله فوائده -، ومد على طلاب العلوم من علمه موائده - ولما كانت موجهة منه إلي، ونازلة بعد تحريرها علي أجبت بحسب ما ظهر عند أول نظر. وبالله أستعين، وعليه أتوكل.
السؤال الأول: حاصله: هل ورد دليل يدل على لزوم اليمين التي يسمونها يمين العنت كما يفعله كثير من الحكام في هذه الأزمنة؟.
وأقول: هذه اليمين لم يرد بها دليل معنونة بهذا العنوان، مسماة بهذا الاسم، ولكنه يمكن إدراجها تحت الحديث الصحيح المتفق عليه الوارد من طرق، البالغ إلى حد التواتر المعنوي، وهو حديث: " على المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين " (2) على اختلاف في ألفاظه (3) حاصلها ما يفيده هذا اللفظ، وبيان إدراج هذه اليمين المذكورة تحت هذا العموم أن من توجهت عليه اليمين الأصلية وهو المنكر إنشاء على من ادعى عليه دعوى
_________
(1) ولد على رأس القرن الثاني عشر. وهو حاد الذهن، جيد الفهم، حسن الإدراك له شعر بديع. قال الشوكاني: وقد كتب إلي منه بقصائد طنانة وله قراءة علي الآن في المطول. توفي سنة 1242هـ.
[" البدر الطالع " رقم (263)، " نيل الوطر " (2/ 86)].
(2) تقدم تخريجه.
(3) ومن هذه الألفاظ.
حديث ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " قضى باليمين على المدعى عليه ". وهو حديث صحيح.
ولفظ حديث ابن عباس عند البيهقي (10/ 252): " البينة على المدعي واليمين على من أنكر ". وهو حديث صحيح.(9/4536)
هي أنه طلب منه تلك اليمين، وهو يعلم أنها لا تجب عليه لبراءة ذمته من الحق الذي ادعاه عليه، وأنه ما يريد بطلب هذه اليمين منه إلا مجرد الإعنات له بتلك الدعوى الباطلة فقد صار ذلك المدعى عليه بإنشاء هذه الدعوى مدعيًا، وصار المدعي بعدها مدعى عليه، وحينئذٍ فتلزمه [3أ] تلك اليمين بعموم (على المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين)؛ فإن منكر كون طلبه لليمين من خصمه لمجرد الإعنات له قد صار بهذا الإنكار مندرجًا تحت: على المنكر اليمين، فكما أنه يستدل بهذا العموم على كل خصومة من الخصومات الحادثة بين المختصمين في الدماء والأموال والأعراض والحقوق، لا مانع من أن يستدل به على هذه الدعوى الناشئة ممن توجهت عليه اليمين الأصلية من أن المدعى عليه إنما أراد التعنت له، والإتعاب بطلبه لتلك اليمين، لأنه إذا أقر بذلك لم يلزم تلك اليمين الأصلية، وارتفع عن المطلوب بها ما كان قد توجه عليه من الحلف، وإن لم يقو بذلك، بل أنكر. كان من جملة من يصدق عليه أنه منكر وعلى المنكر اليمين، ومعلوم أن هذا التركيب أعني قوله: " على المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين " عام يشمل كل من يصدق عليه أنه مدع، وأنه منكر لما تفيده تحليته باللام الجنسية مع تقديم الخبر على المبتدأ، فهو في قوة: كل مدع كائنًا من كان عليه البينة، وكل منكر كائنًا من كان عليه اليمين. ولا فرق بين خصومة وخصومة.
وبهذا التقرير تعلم أن مجرد الاستدلال بهذا الدليل يكفي القائل بلزوم يمين العنت، ومن ادعى تخصيصها من هذا العموم كان عليه الإتيان بدليل يقتضي التخصيص. ومجرد الاصطلاح بكونها مسماة بهذا الاسم الخاص لا يخرجها عن كونها يمينًا مطلوبة من منكر، لأن الأحكام الشرعية لا تتعلق بمجرد الاسم بل بما هو الحقيقة لذلك الشيء، كما أن مثلاً: الخمر لو سميت اصطلاحًا باسم الماء، أو نحو ذلك من الأسماء لم يخرج به عن كونها خمرًا محرمة إذا وجدت فيه العلة المقتضية للتحريم، وهي الإسكار. كذلك هاهنا فإنها قد وجدت الدعوى ووجد الإسكار فصارت تلك اليمين يمينًا على منكر، فاندرج ذلك تحت قوله: " وعلى المنكر اليمين " ولا تخرج [3ب] هذه اليمين عن كونها يمينًا(9/4537)
على منكر بتسميتها يمين عنت، لأنه يقال: هذا المنكر لكونه متعنتًا هو من جملة من يصدق عليه مفهوم الإنكار، وكل من يصدق عليه مفهوم الإنكار يلزمه اليمين، فهذا يلزمه اليمين.
أما الأولى فمعلومة بلغة العرب وعرف الشرع.
وأما الثانية فمعلومة بنص الشرع، وهذا فيما يتعلق بالخصومات لا فيما كان إنكارًا خارجًا عن ذلك، فإنه خارج عن محل النزاع.
وهكذا اليمين التي يسميها بعض أهل الفقه يمين كف، فإن الكلام فيها كالكلام في يمين العنت، والتقرير، التقرير، والدليل الدليل. وهي ملاقية ليمين العنت في بعض مواردها، لأن المدعي إذا أنشأ الدعوى على غيره فقال ذلك الغير، هو يعلم أنه قد تقدم بيني وبينه ما يدفع هذه الدعوى، ويوجب كفها عني، وإنما هو يريد الإتعاب لي وإدخالي في خصومة قد اندفعت، وفي شجار قد انقطع وارتفع، فلا شك أن هذا المدعي لهذه الدعوى قد صدق عليه مفهوم المدعي كما أن خصمه الذي أحدث تلك الدعوى عليه قد صدق عليه مفهوم المنكر (1).
_________
(1) اتفق الفقهاء على أن اليمين وسيلة الإثبات أمام القضاء، وأنها مشروعة لتأكيد جانب الصدق على جانب الكذب في إثبات الحقوق أو نفيها وهي تلعب دورًا عظيمًا في المحاكم عند العجز عن تقديم الأدلة والبراهين.
يدل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
الكتاب:
قال تعالى: {ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق} [يونس: 53].
وقال تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} [آل عمران: 77].
* وغيرها كثير من الآيات الكريمة في مشروعية اليمين.
السنة: تقدم من حديث ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قضى باليمين على المدعى عليه ".
* وهو حديث صريح في مشروعية اليمين على المدعى عليه في القضاء.
الإجماع: كان الصحابة رضوان الله عليهم يحلفون في الدعاوى، ويطلبون اليمين في القضاء لفصل المنازعات، ولم يخالف مسلم في ذلك إجماعًا. وسارت الأمة على ذلك من سلفها إلى خلفها من عهد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى يومنا هذا.
المعقول: إن الأمور المادية عامة ووسائل الإثبات الظاهرة خاصة كالشهادة والإقرار والكتابة كثيرًا ما تقف عند حد معين، وتعجز عن الوصول إلى كنه الحقيقة في بعض الأشياء، فلا يجد الإنسان مفرًا من اللجوء إلى الأمور المعنوية التي تعتمد على الضمير والعقيدة والأخلاق، ليستجلي غوامض الأشياء، ويستجدي عندها الطمأنينة واليقين، واليمين أحد هذه الوسائل المعنوية، فإن كثيرًا من العلاقات تجري بين أصحابها من غير حضور الشهود أو تهيئة البينات، وقد يعجز المدعي عن إثبات حقه بالأدلة والبراهين، ويحال بينه وبين ما يدعيه وتنقطع به الوسائل فيقف كليل الخاطر عن دعواه وطلب حقه، ويستسلم إلى ذمة المدعى عليه، ويركن إلى ضميره، عسى أن تختلج أحاسيسه بالواقع، وتنطق بصيحة الحق فيعترف به أو يحلف على بطلان دعوى المدعي. فكانت اليمين مما يتطلبها العقل. ويراها ضرورية في الإثبات لإنهاء الخلاف عند العجز عما سواها.
انظر: " الزواجر " لابن حجر الهيثمي (2/ 152)، " تبيين الحقائق " للزيلعي (3/ 107).
أنواع اليمين: تنقسم اليمين باعتبار الحالف إلى:
(أ): يمين المدعى عليه.
(ب): يمين المدعي.
(ج): يمين الشاهد.
(أ): يمين المدعى عليه: وتسمى اليمين الدافعة أو اليمين الأصلية أو اليمين الرافعة ويطلق عليها الحنفية " الواجبة " وهي التي يوجهها القاضي بناءً على طلب المدعي إلى المدعى عليه لتأكيد جوابه عن الدعوى وتقوية جانبه في موضوع النزاع وهذه اليمين متفق عليها في جميع المذاهب ومجمع على العمل بها.
وقد سميت بالواجبة: لوجوبها على المدعى عليه إذا طلبها المدعي بنص الحديث الشريف " ولك يمينه ".
وسميت بالدافعة لأنها تدفع ادعاء المدعي.
وسميت بالرافعة: لأنها ترفع النزاع وتسقط الدعوى.
وسميت بالأصلية: لأنها هي المقصودة عند الإطلاق وهي التي وردت بها معظم النصوص. وينصرف إليها الذهن لأول وهلة عند عدم التقليد وهي التي يدور عليها الحديث كوسيلة في الإثبات تعريفًا وتفريعًا وأهمية.
(ب): يمين المدعي وهي ثلاثة أقسام:
1 - /اليمين الجالية: وهي التي يؤديها المدعي في إثبات حقه لسبب يستدعي القيام بها، وهي حجة في الإثبات مختلف فيها.
وهذا السبب المستلزم لها إما أن يكون شهادة شاهد، وهي اليمين مع الشاهد، وإما نكول المدعى عليه عن اليمين الأصلية وردها إلى المدعي وهي اليمين المردودة المنقلبة، وإما أن يكون لوثًا وهي أيمان القسامة في القتل والجراح، وإما أن يكون قذفًا من الرجل لزوجته وهي أيمان لعان، وإما أن يكون أمانة فكل أمين ادعى الرد على من ائتمنه فيصدق بيمينه إلا المرتهن والمستأجر والمستعير فلا يصدقون إلا بالبينة لأن حيازتهم كانت لحظ أنفسهم.
انظر: " التاج المذهب " (4/ 31)، " جامع الفقه " (7/ 266).
2 - /يمين التهمة: وهي التي تتوجه على المدعي بقصد رد دعوى غير محققة على المدعى عليه، وقال بها المالكية والزيدية.
3 - /يمين الاستظهار: وتسمى يمين الاستيثاق أيضًا، ويسميها المالكية يمين القضاء ويمين الاستبراء، وهي اليمين التي يؤديها المدعي بناء على طلب القاضي لدفع الشبهة والريبة والشك والاحتمال في الدعوى بعد تقديم الأدلة فيها. فاليمين تكمل الأدلة ويتثبت بها القاضي من صحة الأدلة.
مشروعية هذه اليمين: كان شريح يستحلف الرجل مع بينته، واستحلف عون بن عبد الله رجلاً مع بينته فأبى أن يحلف فقال له: ما كنت لأقضي لك بما لا تحلف عليه، وقد ذكر ابن المنذر أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة والشعبي كانا يستحلفان المدعي مع بينته ونقل ابن القيم فقال: قال أبو عبيد: إننا نرى شريحًا أوجب اليمين على الطالب مع بينته حين رأى الناس مدخولين في معاملتهم واحتاط لذلك.
وقيل لشريح: ما هذا الذي أحدثت في القضاء؟ قال رأيت الناس أحدثوا فأحدثت ... ".
انظر: " الطرق الحكمية " (ص145)، " المبسوط " (16/ 118)، " تبصرة الحكام " (1/ 276).(9/4538)
السؤال الثاني: حاصله: طلب الدليل على ما يفعله كثير من الحكام من إجابة المدعي الطالب ليمين خصمه المنكر إلى ما طلبه حتى يبذل اليمين، فإذا بذلها أمر الحاكم المنكر بترك الشروع في تلك اليمين، وطلب من المدعي أن يأتي بالبينة.(9/4540)
أقول: الدليل على هذا الصنع ظاهر الوجه، واضح الغرة، بين المستند. وبيان ذلك أن تلك اليمين المطلوبة هي حق ثابت للمدعي ثبوتًا منصوصًا عليه بالأدلة الصحيحة، مجمعًا عليه عند جميع أهل الإسلام.
فإذا قال المدعي (1) أنا أطلب يمين خصمي هذا المنكر لحقي كانت إجابته إلى هذا حقًا ثابتًا، لازمًا متعنتًا بالنص والإجماع، فإن أجاب إلى اليمين كان الحاكم المترافع إليه أن يقول للمدعي: هذا خصمك المنكر لما تدعي عليه قد أجابك إلى ما هو الواجب عليه، فإن لم يكن لك بينة فليس لك إلا هذا.
فإن قال: [4أ] لا بينة له فليس له إلا تلك اليمين من خصمه، وإن كانت له بينة ألزمه الحاكم بإيرادها لحديث: " شاهداك أو يمينه " (2) كما ثبت من حديث الأشعث بن قيس، وكما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث وائل بن حجر قال: جاء رجل من حضرموت، ورجل من كندة إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ألك بينة؟ " قال: لا، قال: " فلك يمينه "، فقال يا رسول الله، الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء، قال: " ليس لك منه إلا ذلك " الحديث، فعلى الحاكم أن يقول للخصمين كهذه المقالة النبوية، فإذا قال المدعي: أريد اليمين فهو أراد الحق الذي أثبته له الشرع، فليس لنا أن نقول له: ليس لك ذلك، بل عليك أن تذهب فتأتي بالبينة، فإن هذا هو قلب للشريعة. ولكن على الحاكم أن يبين للمدعي أن خصمه إذا حلف فقد انقطع الحق بيمينه، ولا بينة بعد ذلك، فإن صمم على اليمين أجابه إلى ذلك، فإن ترك خصمه حتى يتهيأ لليمين ويبذلها فقال: لي بينة فإجابته إلى
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.(9/4541)
ذلك واجبة، لأن خصمه لم يكن قد حلف حتى ينقطع الحق بيمينه، فالحاكم إذا صنع هذا فما صنع إلا ما هو محض الشريعة الغراء. فلو قال للمدعي بعد أن طلب اليمين وتهيأ لها المنكر فقال عند ذلك: له بينة، وقال: بينة موجودة، وخصمي لم يحلف، فقال الحاكم قد قضي الأمر، وجف القلم، وانقطع الحق. وليس لك إلا ما قد طلبته من اليمين التي لم يكن قد نطق المنكر بحرف منها لكان هذا الحكم بالأحكام القراقوشية (1) أشبه منه بالأحكام الطاغوتية، فضلاً عن الأحكام الشرعية. على أن هاهنا دقيقة لطيفة هي: أن المدعي قد يعلم أن خصمه المنكر قد يتورع عن اليمين إما خوفًا من الله - عز وجل -، أو من العقوبة الدنيوية، فإذا ترك طلبها منه حتى يبذلها ويتهيأ لها أتبعه بتحصيل البينة [4ب]، وفتح له بعد ذلك أبواب الجرح والتعديل، وأطال ذيل الخصومة بغير حق. ومعلوم أن مثل هذا ليس من الشريعة السمحة السهلة الواضحة التي ليلها كنهارها، فإذا لم يجبه الحاكم إلى ذلك فقد ظلمه ظلمًا بينًا، وتسبب لأحد أمرين: إما
_________
(1) قراقوش: هو قراقوش بن عبد الله الأسدي أبو سعيد بهاء الدين أمير نشأ في خدمة السلطان صلاح الدين الأيوبي، وناب عنه في الديار المصرية كان همامًا مولعًا بالعمران، بنى السور المحيط بالقاهرة وبنى قلعة الجبل، وبنى القناطر التي بالجيزة على طريق الأهرام. توفي سنة 597هـ بالقاهرة تنسب إليه أحكام عجيبة في ولايته، قال ابن خلكان: الظاهر أنها موضوعة فإن صلاح الدين كان يعتمد عليه في أحوال المملكة.
(وقره قوش) كلمة تركية معناها " العقاب " الطائر المعروف وبه سمي الإنسان لشهامته وشجاعته واللفظ مكون من كلمتين هما (قرة) بمعنى أسود (وقوش) بمعنى طائر أو نسر.
" الأعلام " للزركلي (5/ 193)، " النجوم الزاهرة " (6/ 176).
قال ابن كثير في " البداية والنهاية " (2/ 337 - 338) " كان الأمير بهاء الدين قراقوش عالمًا فقيهًا - إلا أنه كرس نفسه للخدمة الإدارية العسكرية ".
وكانت حياته حافلة بالإنجازات العظيمة والبطولات والإخلاص للإسلام والمسلمين خلال ملازمته القائد صلاح الدين الأيوبي وكذلك بعد وفاته، مما جعله محط كيد الحاسدين وأعداء الإسلام والمسلمين.(9/4542)
إتعابه وإعناته مع ثبوت الحق بعد اللتيا (1) واللتي، وبعد التطويل بما هو محض العبث الذي لا طائل تحته، وإما إتعابه وإعناته مع ذهاب حقه فيجمع له بين غرمين ومصيبتين في المال والبدن. فهل من سبيل إلى دفعه عن طلب اليمين؟ وهل يجوز للحاكم أن يقول له عند طلب اليمين مع عدم علم الحاكم بأن له بينة، أو لا بينة له، ليس لك هذا؟ أو لا يجوز لك؟.
فإن قيل بأنه يجوز له ذلك كان هذا هو القلب للشريعة. فغاية ما على الحاكم أن ينبهه أن خصمه المنكر إذا حلف تلك اليمين انقطع حقه، ولم تنفعه البينة بعدها على ما هو الحق من عدم قبول البينة بعد اليمين.
السؤال الثالث: حاصله استنكار ما يفعله كثير من الحكام من طلب زيادة على شهادة شاهدين عدلين، أو رجل وامرأتين، ويسمونه التكميل للشهادة.
وأقول: إن كانت العدالة المعتبرة التي تصلح مستندًا للحكم الشرعي قد حصلت فلا وجه لطلب التكميل، ثم هذا التكميل الذي ذكره السائل - دامت إفادته - إن أراد به التكميل باليمين من المدعي، وهي التي يسميها بعض أهل الفقه اليمين المؤكدة فهذا قد يكون سببه حصول بعض ريبة للحاكم لا يوجب ترك العمل بالشهادة، فيطلب اليمين المؤكدة لتحصيل الطمأنينة، وانثلاج الصدر، ورفع الحرج. وقد يستأنس لذلك بمثل قوله سبحانه: {فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما} (2) ومع هذا فإن المدعي إذا تلكأ عن اليمين المؤكدة، ولم يجب إليها كانت الريبة في ذلك قوية، والشك والحرج بليغًا، وإن أراد به طلب زيادة في الشهادة تكمل بها شهادة الشاهدين العدلين، أو شهادة الرجل والامرأتين العدول فهذا أيضًا لا وجه له، لأن نصاب الحكم قد حصل مع كمال الأمور المعتبرة في الشهود، فإن حصل للحاكم ريبة لشيء في الشهود لم يبلغ إلى ترك
_________
(1) تقدم توضيح معناها في الرسالة رقم (60).
(2) [المائدة: 107].(9/4543)
العمل [5أ] بشهادتهم فطلب من المدعي أن يأتي بزيادة على تلك الشهادة التي قد كمل نصابها تثبتًا، وتحريًا، وطلبًا للطمأنينة فليس عليه بذلك بأس، لكن إذا لم يجد المدعي غير تلك الشهادة التي قد كمل نصابها لم يجز للحاكم أن يترك الحكم له، بل يجب عليه أن يحكم له بتلك الشهادة، لأن ما حصل له من الريبة لا يسوغ له به ترك الحكم مع كمال النصاب قائلاً ما قاله رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إنما أقضي بما أسمع، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار " (1) ولا شك ولا ريب أن طلب الطمأنينة سنة أنبياء الله - عليهم السلام -: قال تعالى: {ولكن ليطمئن قلبي} (2) ويقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما صح عنه: " نحن أحق بالشك من إبراهيم " (3) فإذا كان هذا حال الأنبياء فيما بينهم وبين ربهم - عز وجل - فكيف ينكر ذلك على قاض قد وقف على شفير النار فطلب لنفسه الطمأنينة، غير تارك لما يوجبه الشرع!
فإنه قد قام مقامًا يقطع فيه أموال الناس ودماءهم وأعراضهم لبعضهم البعض، ولا سيما في مثل هذه الأزمنة التي قد فشا فيها الكذب فشوًا زائدًا على الأزمنة المتقدمة. وقد صح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الصحيحين (4) وغيرها (5) أنه قال: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب " فإذا كان ابتداء فشو الكذب عند انقراض أتباع التابعين فما بالك بزمننا هذا! وإني أرى أن هذه حجة قوية لمن توقف عن الحكم بعد كمال النصاب المعتبر فيه، وبحث وفحص حتى
_________
(1) أخرجه البخاري (6967) ومسلم رقم (4/ 1713) من حديث أم سلمة. .
(2) [البقرة: 260].
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4537) وقد تقدم توضيح ذلك.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2652) ومسلم رقم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وقد تقدم.
(5) كالترمذي رقم (3859) وقال: حديث حسن صحيح.(9/4544)
تطيب نفسه، ويطمئن خاطره، لكن بشرط ألا يهمل الحكم لمن قد يفصل النصاب المعتبر إذا لم يحصل له ما طلبه من الطمأنينة.
فإن قلت: المفروض أن الشهادة التي قامت قد كملت فيها الشروط المعتبرة من العدالة وغيرها فما بقي وجه لطلب الطمأنينة.
قلت: كذلك أقول لكن إذا حصلت للحاكم ريبة تقتضي مزيد الاستثبات (1)، وطلب الطمأنينة، وفعل ذلك فهو لم يفعل منكرًا، بل معروفًا، لأن فشو الكذب يكون من أعظم الأسباب الموقعة في الريبة.
والعدالة المعلومة بالظاهر، أو بإخبار المعدل لا تنافي الاحتياط والاستثبات؛ فإنها من باب [5ب] العمل بالظاهر الذي لا يستلزم مطابقته لما في الواقع، وما في نفس الأمر. والعدل قد يقع منه ما يخالف الظاهر إما غلطًا أو سهوًا أو غفلة أو جهلاً، ولا أريد بهذا أن مجرد هذه الاحتمالات يوجب بطلان العمل بالشهادة عند كمال نصابها وشروطها، فإن ذلك هو خلاف الشرع بلا شك ولا شبهة، بل أريد أنه إذا وقع من الحاكم الاستثبات (2) والبحث والفحص حتى يطمئن خاطره، وينثلج صدره، أو يتضح له ما هو
_________
(1) يجوز للقاضي أن يناقش الشهود، وأن يسألهم عن كل شيء في الشهادة وخاصة عند التهمة والشك فيسأل عن مصدر الشهادة وعن طريق العلم بها، وكيفية التحمل وعن صفات المشهود به، وعن أوصاف المشهود له والمشهود عليه، كما يحق له أن يفرق الشهود، ويسمع كلاً منهم على حدة، ويطرح عليه بعض الأسئلة ليستوثق من صحة شهادته وكذلك الحال في الكتابة وكيفيتها والطعن فيها وتزويرها، فإذا اختلف الشهود في الشهادة أو ثبت تزوير الكتابة رد الشهادة أو الكتابة أو الإقرار ولم يحكم به.
" الطرق الحكمية " (ص24، 49، 61)، " الحاوي " للماوردي (12/ 58).
(2) اتفق الفقهاء على أن القاضي لا يقضي بخلاف علمه، فإذا شهد عنده عدلان والقاضي يعلم خلاف ذلك. فلا يجوز له الحكم بالشهادة ويرفع الأمر إلى غيره. ويبدي رأيه وشهادته، وهذا يدل على أن القاضي لا يلتزم بالشهادة ولو توفرت شروطها إذا كانت تناقض علمه.
ولذا فاقتناع القاضي بالشهادة شرط لإعمالها، والحكم بموجبها وهذا اتفاق المذاهب.
" تبصرة الحكام " (1/ 248).
والقاضي مسؤول عن التأكد من توفر الشروط في وسائل الإثبات فيتأكد من صحتها، ويتحرى الدقة فيها والضبط، ويسأل عن عدالة الشهود عند الجمهور بدون طلب الخصم خلافًا للحنفية الذين يجعلون العدالة من حق الخصم في حقوق العباد، فلا يسأل القاضي عنها إلا إذا طلبها الخصم، فالقاضي يتأكد من توفر الشروط في الشاهد وانتفاء الموانع فيه، وأنه عدل وصادق القول ويترجح بقوله الصدق على الكذب، وكذلك الحال في شروط الكتابة، وصحة الاحتجاج بها، وشروط الإقرار باليمين والخبرة وجميع وسائل الإثبات.
والقاضي هو صاحب الرأي الأخير في قبول الإثبات أو رفضه بعد هذا التحقيق والتأكد من صحته وسلامته أو ثبوت عكسه.
وفي القرائن فقد ترك الشارع له أن يستنبطها كيف ما شاء وترك للقاضي العادل حرية التقصي، فلا حكم إلا وضميره هادئ مستريح من هذا الاستنتاج والبحث.
انظر: " المهذب " للشيرازي (2/ 297)، " حجية القرائن " (ص163).(9/4545)
موجب خلاف ذلك لم يكن عليه في ذلك لائمة، بل هو ممن يستحق أن يمدح على ذلك شرعًا. وكم من قضايا قد انكشف لنا فيها بمزيد البحث وتكميل الفحص ما يتضح به الحق اتضاح شمس النهار! وإن كانت الأسباب الشرعية إذا حمد الحامد عليها استنكر شيئًا من ذلك، ولو كشف عن المقصد الذي نريده، والمطمح الذي نطلبه لقرت بذلك عينه. وقد تكلم جماعة من العلماء في السياسة الشرعية، وأفردها بعضهم بالتصنيف. وللمحقق ابن دقيق العيد في ذلك مجموع نفيس وقفت عليه في أيام الطلب. والحاصل أنه لا تنافي بين العمل بالأسباب الشرعية للحكم، والاستثبات فيها حتى تكون أسبابًا يتقوى بها الظن، ويظهر بها الحق ظهورًا زائدًا على ظهوره بمجرد قبولها من غير استثبات.
السؤال الرابع: حاصله أنه إذا تقرر اعتبار العدالة فما وجه قبول شهادة من لم يتصف بها كما يفعله بعض حكام عصرنا؟.
وأقول: لا وجه لقبول من ليس ....................................................(9/4546)
يعدل (1)، فإن اعتبار العدالة أمر نطق به الكتاب العزيز، والسنة المطهرة. ومع ذلك فهو مجمع على اعتبارها كما حكى ذلك غير واحد، منهم الزركشي في البحر (2).
والاختلاف في تحقيق مفهومها، وبيان ماهيتها لا يخرجها عن كونها معتبرة بالنص والإجماع. وقد اختلف أئمة الأصول في تحقيقها على أقوال، وكذلك علماء الجرح والتعديل، وعلماء المصطلح أهل الحديث، وطال الكلام في ذلك.
وقد استوفيت الكلام عليه في إرشاد الفحول (3) إلى تحقيق الحق من علم الأصول [6أ]. ولا خلاف بين المتكلمين في اعتبار العدالة أنها غير معتبرة في الأخبار المفيدة للتواتر (4).
_________
(1) قال الشيرازي في " المهذب " (2/ 297): ولو رضي المشهود عليه بشهادة الفاسق لم يجز الحاكم أن يحكم بشهادته ".
وقال: الماوردي في " الحاوي " (12/ 57) وإذا علم القاضي بفسق الشاهد فيرد شهادته ويحكم بعلمه فيه قولاً واحدًا عند الشافعي.
وقال ابن فرحون في " تبصرة الحكام " (1/ 249، 421).
" لو شهد عنده من ليس بعدل والقاضي يعلم أنه شهد بحق فلا يحل له أن يجيز الشهادة ولا أن يحكم بها ".
وقال المرتضى في " البحر الزخار " (4/ 393): ولو شهد غير عدلين ورضي الخصم بشهادتهما لم يجز الحكم بهما بل إقراره إن أقر إقرارًا صحيحًا.
(2) (4/ 273 - 275).
(3) (ص204 - 210).
(4) قال جمهور الفقهاء إن عدالة الشهود من حق الله سبحانه، فلا يجوز التنازل عنها أو التساهل فيها، ولا تقبل شهادة الفاسق، ولو رضي به الخصم الآخر، أو اتفق الخصمان على قبول شهادته، وتشترط التزكية لمعرفة عدالة الشهود بدون طلب الخصم. لقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق: 2]. وقوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282]. ورضا الحاكم فرع معرفتهم، وقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [الحجرات: 6].
والتبيين هو بالتثبت بالسؤال والتزكية ولما روى عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: عندما شهد عنده اثنان: " لا أعرفكما، ولا يضركما أن لا أعرفكما ائتياني بمن يعرفكما " تقدم تخريجه.
والشهادة حق مشترك بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين لقوله تعالى: {وأقيموا الشهادة لله} [الطلاق: 2] فلا يجوز للآدمي أن يتنازل أو يتفق مع خصمه بما يخالف حق الله تعالى، فيجب تعديل الشاهد بطلب من الله سبحانه وتعالى.
انظر: " مغني المحتاج " (4/ 403)، " المهذب " (2/ 269)، " كشاف القناع " (4/ 205، 207).(9/4547)
وهاهنا بحث ينبغي التنبه له، وإمعان النظر فيه، وهو أن كثيرًا من القرى التي يسكنها جماعة من [ ..... ] (1) المعروفين الآن بالقبائل قد لا يوجد في القرية الواحدة وإن كثر الساكنون بها من يستحق أن يطلق عليه اسم العدل قط، بل قد يكون أكثر أهلها إن لم يكونوا كلهم متساهلاً في الإتيان بأركان الإسلام كالصلاة والصيام ونحوهما، وإن صلى مثلاً فعل صلاة لا يحسن لها ذكرًا، ولا يقيم لها ركنًا، بل كثير منهم قد لا يحسن النطق بكلمة الشهادة، وكان حالهم في ذلك ظلمات بعضها فوق بعض، ثم يقع بينهم التظالم في الدماء والأموال، وليس فيهم عدل معتبر في الشهادة، ولا يحضرهم عدل من غيرهم، فيترافعون إلى حكام الشريعة، ونحن نعلم أنهم لا يتورعون عن منكر من المنكرات، ولا يتوقفون عند حد من حدود الشرع، ويقدمون على الأيمان الفاجرة، وعلى شهادات الزور، فماذا يصنع الحاكم عند ترافعهم إليه إن وقف على اعتبار العدالة في الشهود، وعلموا ذلك منه. سفكوا الدماء، وهتكوا الحرم، وأكلوا أموال بعضهم البعض، وهم في أمن من أن يقبل عليهم شاهد أو يلتفت إلى إخبار مخبر، بل غاية ما هناك أن الحاكم يسد باب البينة والإخبار، إذ لا عدل معتبر. ولم يبق إلا تحليف الخصم الذي قد علم كل عالم بحاله أن اليمين الفاجرة أهون شيء عليه، وأيسر أمر عنده.
ولو يسمعون على كثرتهم وتطبيقهم لغالب هذه الديار اليمنية بأنه ليس على من قتل نفسًا، أو أخذ مالاً، أو هتك حرمة إلا اليمين لكان ذلك من أعظم البواعث لهم على الإفراط في ذلك، والتهافت عليه، والتتابع فيه. وحينئذٍ يفتح لهم باب شر لا يغلق،
_________
(1) كلمة غير واضحة في المخطوط.(9/4548)
ويضرم فيهم [6ب] نار فتنة لا تنطفي أبدًا، وهذه الشريعة المطهرة من عرفها حق معرفتها وجدها مبنية على جلب المصالح (1)، ودفع المفاسد، واعتبار هذا الأصل العظيم شواهده من الكتاب والسنة كثيرة جدًا، تحتمل مؤلفًا مستقلاً فإن قال الحاكم المترافع لديه للمدعي: هات البينة معك، ثم سمعها واستكثر من عددها حتى يلوح له منها أمارات الصدق، أو يبلغ إلى حد التواتر كان ذلك أقرب إلى اعتبار جلب المصلحة الشرعية، ودفع المفاسد المخالفة للشرع، وانزجر لهؤلاء العوام الأغتام (2) عن انتهاك الحرم، وسفك الدماء، ونهب الأموال، فإن جاء المدعي بما يفيد ذلك، ويتضح به الصواب فيها ونعمت، وإن لم يأت بذلك رجع إلى اليمين الشرعية التي لا يعتبر في قطعها للحق كون صاحبها غير فاجر لا يتورع من اليمين الفاجرة، وكان في ذلك زجرًا للعصاة وأهل الجسارة والجرأة عن أن يسفكوا الدماء، وينهبوا الأموال، ويهتكوا الحرم. وليس في الإمكان أبدع مما كان.
وقد يستدل لقبول شهادة غير العدول مع عدم وجود العدول، لكن على الصفة التي ذكرناها من الاستكثار منهم حتى يحصل من ذلك ما يكون سببًا لظهور الحق وإيضاح الصواب لما في الصحيح (3) من ذكر قصة السهمي الذي مات بأرض ليس بها أحد من
_________
(1) انظر: " الأشباه والنظائر " (ص90 - 91).
(2) الغتمة العجمة، الأغتم من لا يفصح شيئًا.
" القاموس " (ص1474).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2780) من حديث ابن عباس قال: " خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدم بتركته فقدوا جامًا من فضة مخوصًا من ذهب، فأحلفهما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم وجد الجام بمكة فقالوا ابتعناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا: لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم، قال وفيهم نزلت هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت .... }.
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3606) والترمذي رقم (3061) وهو حديث صحيح.(9/4549)
المسلمين، فأشهد على وصيته من أهل الذمة، ونزل في ذلك: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} (1) والكلام على الآية وعلى سبب نزولها يطول، وهي مستوفاة في كتب الحديث (2) والتفسير (3)، فمن أحب الوقوف على حقيقة ذلك رجع إليها.
وفي سنن أبي داود (4)، وسنن الدارقطني (5) عن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة [بدقوقاء (6)] (7)، ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة، فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه، وقدما بتركة الميت ووصيته، فقال [7أ] أبو موسى: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فأحلفهما بعد العصر ما خانا، ولا كذبا، ولا بدلا، ولا كتما، ولا غيرا، وأنهما لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما (8).
_________
(1) [المائدة: 106].
(2) انظر: " فتح الباري " (5/ 410 - 412).
(3) انظر: " جامع البيان " (5\ج7/ 105 - 109)، و" تفسير القرآن العظيم " لابن كثير (3/ 217 - 220).
(4) في " السنن " (3605) بإسناد صحيح.
(5) في " السنن " (4/ 169).
(6) زيادة من سنن أبي داود.
(7) دقوقا: مدينة بين إربل وبغداد.
" معجم البلدان " (2/ 581).
(8) قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 170 - 172): مسألة: قال: وتجوز شهادة الكفار من أهل الكتاب، في الوصية في السفر، إذا لم يكن غيرهم.
قال ابن قدامة: وجملته أنه إذا شهد بوصية المسافر الذي مات في سفره شاهدان من أهل الذمة قبلت شهادتهما، إذا لم يوجد غيرهما. ويستحلفان بعد العصر ما خانا ولا كتما، ولا اشتريا به ثمنًا قليلاً {ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين} [المائدة: 106].
قال ابن المنذر: وبهذا قال أكابر الماضين. يعني الآية التي في سورة المائدة، وممن قاله: شريح، والنخعي، والأوزاعي، ويحيى بن حمزة وقضى بذلك ابن مسعود، وأبو موسى رضي الله عنهما.
وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: لا تقبل، لأن من لا تقبل شهادته على غير الوصية، لا تقبل في الوصية، كالفاسق لا تقبل شهادته فالكافر أولى.
وروى أبو عبيدة في " الناسخ والمنسوخ " أن ابن مسعود قضى بذلك في زمن عثمان، قال أحمد: أهل المدينة ليس عندهم حديث أبي موسى. من أين يعرفونه؟ فقد ثبت هذا الحكم بكتاب الله، وقضاء رسول الله وقضاء الصحابة، وعملهم بما ثبت في الكتاب والسنة فتعين المصير إليه والعمل به، سواء وافق القياس أو خالفه.(9/4550)
السؤال الخامس: حاصله: ما وجه منع بعض أهل الفروع لقبول الشهادة (1) على النفي؟.
وأقول: وجه ذلك أن الشاهد على نفي ما ادعاه المدعي إنما أخبر عن عدم علمه بذلك الشيء على نفي ما ادعاه المدعي، إنما أخبر عن عدم علمه بذلك الشيء، وعدم علمه به لا يستلزم العدم، فإذا قال مثلاً: إن زيدًا لم يقتل عمرًا، إن زيدا لم يأخذ مال عمر، فكأنه قال: لم أعلم بذلك. وعدم علم الشاهد أو الشاهدين أو الشهادة ليس حجة على أحد، ولا يجوز الاحتجاج به في شيء قط. ومع هذا فهذه الشهادة النافية ليس بها حاجة البتة، لأن هذا النفي هو موافق لإنكار المنكر، وليس على المنكر بينة لا مثبتة ولا نافية، بل عليه اليمين كما أوجبه الشارع عليه، ولا يحتاج إلى إقامة بينة، ولا هو مطلوب بذلك، فالمدعي إنما هو من ادعى على غيره صدور فعل منه أو قول.
أما لو ادعى عليه ابتداءً أنه لم يقل أو لم يفعل لم يكن مدعيًا، وإن كان هو المبتدئ فتقرر بهذا أن البينة على النفي ليست بمناسبة للمسالك الشرعية، كما أنها ليست بمناسبة
_________
(1) من شروط الشهادة:
أن تكون الشهادة عن علم ويقين، ولا تقبل إذا كان سببها الظن والتخمين ولذلك جاء في تعريف الشهادة عند بعض الحنفية أنها أخبار عن مشاهدة وعيان لا عن تخمين وحسبان، وذلك بأن يعتمد في شهادته على معاينة الأفعال وسماع الأقوال قال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36].
انظر: " أصول الإثبات " (ص69)، " المبسوط " (16/ 116).(9/4551)
للمسالك العقلية.
نعم. إذا كانت آيلة إلى الإثبات بوجه من الوجوه كانت مثبتة مطلوبة. وليس الاعتبار بمجرد الألفاظ، بل بما يستفاد منها من المعاني، فالحاكم العارف بمدلولات الكلام وخواصه ينبغي له أن ينظر في شهادة الشاهد ويسمعها وإن كانت نافية لأنها قد تشتمل على ما يفيد المراد من حيث المعنى، وإن كانت من حيث اللفظ نافية.
وأما الرد لها بمجرد كونها نافية فهو جمود قبيح، وظاهرية سمجة.
السؤال السادس: حاصله: ما وجه عمل من كان من حكام العصر متأهلاً للاجتهاد، جامعًا لعلومه بما وقع في كتب الفقه المألوفة عند أهل العصر وإن خالف الدليل؟.
أقول: إذا عمل المجتهد المطلق بغير ما قد ثبت لديه دليله فهو أحد القاضيين اللذين هما (1) من أهل النار، بل هو شرهما [7ب] وأقبحهما، لأنه قضى بخلاف الحق وهو يعلم بالحق، ويعلم أن قضاءه خلاف الحق. وقد صرح القرآن الكريم بعظم ذنب من عصى عالمًا، ووقع في خلاف ما ثبت على علم منه. والنصوص بذلك في مواضع من الكتاب (2)
_________
(1) تقدم ذكره.
(2) منها: قوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين} [البقرة: 45].
وقوله تعالى: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} [آل عمران: 19].
وقوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق} [الرعد: 37].
وقال تعالى: {وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213].
وقال سبحانه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} [المائدة: 45].
وقال سبحانه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة: 47].(9/4552)
العزيز بعضها يعم أهل الإسلام ومن قبلهم من أهل الكتاب، وبعضها يخص أهل الكتاب من حيث السبب أو السياق، ويعم من حيث اللفظ. والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فإن قلت: إذا ابتلي المجتهد بتولي القضاء في أرض لا يعرف أهلها إلا التقليد، ولا يدينون إلا بما صرح به من هم مقلدون له، ويعدون ما خالف ذلك خارجًا عن الشريعة المطهرة كما هو في هذه الأزمنة كائن في غالب الديار الإسلامية شامها ويمنها، ومصرها وهندها ورومها وشرقها وغربها، بل لو قلت: إنه قد عمها كلها ولم يخرج من ذلك إلا الشاذ النادر كالواحد الفرد من الألوف، بل من مئين الألوف، بل من ألوف الألوف لم يكن ذلك بعيدًا من الصواب، ومما يؤيد ذلك ما رأيته في بعض مؤلفات الشيخ العلامة صالح الفلاتي - رحمه الله - النازل بالمدينة المنورة في هذا العصر المتوفى إلى رحمة الله في الأيام القريبة فإنه قال: إنه دار الغرب والشرق، ومصر والشام، والحرمين فلم يجد في هذه الديار مع طول البحث ومزيد الكشف من يعمل بالأدلة ويؤثرها على التقليد (1) إلا ثلاثة رجال فقط.
قلت: هذا المجتهد المسكين المبتلى من جهتين:
الجهة الأولى توليه للقضاء.
الجهة الثانية كونه في ديار المقلدة الذين هم بتلك الصفة يجب عليه أن يقدم حق الله عليه، ويؤثر مراده منه فيقضي بما يقتضيه كتاب الله - عز وجل -، وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - غير ملتفت إلى غيرهما، ولا مؤثر لما سواهما، ويضرب بذلك وجه المحكوم عليه، فإن وجد للحق ناصرًا فبها ونعمت، وإن لم يجد للحق ناصرًا فليس عليه إلا ذلك، ولا يجب عليه سواه، لأنه قد أبلغ الحجة، ووفى بما أخذه الله عليه من البيان، وقام بالميثاق الذي ألزمه الله - سبحانه - به في كتابه العزيز، فإن عجز عن ذلك ورجفت
_________
(1) انظر الرسالة رقم (60).(9/4553)
عن الجزم به بوادره، وأصابه الجبن الذي يصاب به كثير من حملة العلم فواجب عليه وجوبًا مضيقًا أن يتخلص مما هو فيه، ويعزل نفسه، ويستريح ويريح، فإن لم يقبل منه ذلك، ولا وجد من يساعده ويقبله منه [8أ] ففي سعة الخافقين مضطرب، وفي كل بلاد من اجتهاد يدل، وما الكرخ (1) الدنيا، ولا الناس قاسم. فإن لم تساعده المقادير إلى ذلك، ولا بلغت إليه طاقته فعليه أن يرد كل خصومة ترد عليه وفيها دليل واضح، لأنه [ ...... ] (2) من الحكم به إلى غيره من الحكام، ولم يوجب الله عليه أن يحكم بخلاف الشرع، ولا سوغ له ذلك بوجه من الوجوه، ولا سيما إذا كانت تلك المسألة مما اضطربت فيها الأدلة وتعارضت، فإن المجتهد وإن رجح أحد الأدلة فالمخالف له قد رجح دليلاً معارضًا لدليله بوجه من وجوه الترجيح
__________
على اختلاف الأنظار في ذلك، وتباين مراتب العلوم، وتفاوت أقدام العلماء، وأن العقبة الكئود، والمعضلة العمياء الصماء أن يكون قد ألف الناس بسبب التقليد قولاً وهو محض رأي، وقد عارضه دليل صحيح ظاهر الدلالة، واضح المعنى كمعارضة حديث المصراة المتفق (3) عليه بتلك الخيالات المختلة، والآراء المعتلة (4). وأمثاله كثيرة ونظائره جمة. وأخطر مواطن الخلاف وأصعبها موطنان:
الموطن الأول: ما ينشأ عن الحيل المخالفة للشرع التي سوغها بعض أهل العلم تسويغًا
_________
(1) محلة بغداد. ويقال كرخ بغداد: لما ابتنى المنصور مدينة بغداد أمر أن تجعل الأسواق في طاقات المدينة إزاء كل باب، سوق.
" معجم البلدان " (4/ 448).
(2) كلمة غير واضحة في المخطوط.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2150) ومسلم رقم (11/ 151) وأحمد (2/ 242، 294) ومالك في الموطأ (2/ 683 رقم 96) وأبو داود رقم (3443) والنسائي (7/ 253) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر ".
(4) انظر: " أعلام الموقعين " (2/ 330)، " المسوى " (2/ 32).(9/4554)
لم يشهد له دليل، ولا سلك من سبل الحق في سبيل.
الموطن الثاني: تسويغ الضرارات في المواريث التي تولى الله - سبحانه - في كتابه تقسيطها بين أهلها، وتوزيعها بين مستحقيها، فإذا جبن الحاكم عن الصدع بالحق في هذين الموطنين فالموت خير له من الحياة، لأنه يتسبب عن ذلك مفاسد ومخالفات لأدلة الكتاب والسنة يصعب حصرها، وتتعسر الإحاطة بها، وما عدا هذين الموطنين فهو دونهما في الصعوبة. ولا يعجز عن توجيه الحق فيه ولو بذريعة من ذرائع التوصل إلى الحق إلا من عجز وضعف، ومن كان كذلك فليس بأهل للدخول في هذا المنصب. ولهذا علل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- النهي لأبي ذر - رضي الله عنه- عن تولي الإمارة بضعفه عن القيام بها كما ثبت ذلك في الصحيح (1).
السؤال السابع: حاصله الاستنكار على من يحكم بالرأي (2) مع وجود الدليل من الكتاب والسنة.
وأقول: هذا لا يكون إلا من حاكم لا يعرف كتابًا ولا سنة، والذنب على من ولاه مثل الذنب عليه، وهو [8ب] أحد قاضيي النار، سواء أصاب أو أخطأ، لأنه مع الإصابة حكم بالحق وهو لا يعلم به، ومع الخطأ حكم بغير الحق جهلاً منه بالحق، فإن كان ممن عنده علم بالكتاب والسنة فهو أيضًا القاضي الآخر من قضاة النار، لأنه علم بالحق، وحكم بالباطل.
ولست أظن بحاكم يعرف الكتاب والسنة ويفهمهما أنه يعدل عنهما إلى ما ليس منهما، بل إلى ما يخالفها، فإن هذا قد تقحم النار على بصيرة، واستحق العقاب على علم منه.
أما إذا لم يجد مستندًا للحكم في تلك الخصومة من كتاب، ولا سنة، ولا قياس
_________
(1) أخرجه مسلم رقم (17/ 1826) وأحمد في " المسند " (5/ 180).
(2) انظر الرسالة رقم (60).(9/4555)
معتمد، ولا إجماع يحتج به على خلاف في ذلك، فحديث معاذ (1) وإن كان فيه مقال لبعض أهل العلم فطرقه قد كثرت جدًا، وبعضها حسن لذاته، ومجموعهما ينتهض للاحتجاج به.
وقد جمعت في ذلك بحثًا واستوفيت فيه جميع طرقه فالواجب على الحاكم أن ينظر في نصوص الكتاب والسنة، فإن وجد ذلك فيهما قدمه على غيره، فإن لم يجده أخذ بالظواهر منهما، وما يستفاد بمنطوقهما ومفهومهما، فإن لم يجد نظر في أفعال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ثم في تقريراته لبعض أمته ثم في الإجماع إن كان يقول بحجيته، ثم في القياس على ما يقتضيه اجتهاده.
وإذا أعوزه ذلك تمسك بالبراءة الأصلية، وعليه عند التعارض بين الأدلة أن يقدم طريق الجمع على وجه مقبول، فإن أعوزه ذلك رجع إلى المرجحات المذكورة في كتب الأصول بعد أن يصح له أن ذلك المرجح مرجح.
وقد ذكرت نحوًا من هذا في إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، وذكرت قول من قال إن النصوص لا تفي بالحوادث، وتعقبت ذلك بما فيه [ ....
.] (2) وعندي أن من استكثر من تتبع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وجعل ذلك دأبه، ووجه إليه همته، واستعان بالله - عز وجل - واستمد منه التوفيق، وكان معظم همه، ومرمى قصده الوقوف على الحق، والعثور على الصواب من دون تعصب لمذهب من المذاهب وجد فيهما ما يطلبه فإنهما الكثير الطيب، والبحر الذي لا ينزف، والنهر الذي يشرب منه كل وارد عليه، والمعتصم الذي يأوي إليه كل واحد فاشدد يديك على هذا فإنك إن قبلته بصدر منشرح، وقلب موفق، وعقل قد حلت به الهداية، وجدت فيهما كل ما يطلبه من الأحكام التي تريد الوقوف على دلائلها كائنًا ما كان، فإن
_________
(1) وهو حديث ضعيف وقد تقدم.
(2) كلمة غير واضحة في المخطوط.(9/4556)
استبعدت [9أ] هذا المقال، واستعظمت هذا الكلام، فمن نفسك أتيت، ومن قبل تقصيرك أصبت، وعلى نفسها براقش تجني (1) وإنما ينشرح لمثل هذا الكلام صدور قوم مؤمنين وقلوب رجال مستعدين لهذه المرتبة العلية.
لا تعدل المشتاق في أشواقه ... حتى تكون حشاك في أحشائه
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها
دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى ... إذا هويت فبعد ذلك عنف
إذا عرفت هذا فاعلم أن الحاكم الموثوق بدينه وعلمه ربما عمل في حكم من الأحكام بعموم من الكتاب أو السنة يخفى على كثير ممن يطلع على ذلك، فيظن به أنه عمل بالرأي عند عدم الدليل، أو عدل إلى نوع من أنواع المناسب المعمول بها عند البعض، والملغاة عند آخرين، وربما يظن به أنه خالف نصًا يعرفه، ولو علم ما عند ذلك القاضي من الوجه المسوغ للعدول لتبين له أنه لم يعدل إلا إلى ما هو حقيق بالعدول إليه بدلالة بينة يكون العدول إليها أجلب لمصالح الشريعة، وأدفع للمفاسد عنها.
لو رأى وجه حبيبي عاذلي ... لتفارقنا على وجه جميل
ولأمر ما يقول الصادق المصدوق - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما صح عنه في الصحيحين (2) وغيرهما: " إذا اجتهد الحاكم فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " فردده من أجر وأجرين، وأن هذا الأمر يقر به من قضاة الحق كل عين، ولسان حال ذلك القاضي يقول:
سيفقدني (3) قومي إذا جد جدهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
فإن قلت: وأين هذا القاضي؟ ومتى جاد الزمان بمثله؟ وفي أي بلاد نجده؟.
_________
(1) تقدم شرحه.
(2) تقدم تخريجه انظر الرسالة رقم (60).
(3) سيذكرني كذا في ديوان أبي فراس الحمداني (ص67).(9/4557)
قلت: إنما قلت ما قلت على الفرض والتقدير، وعدم وجودك له لا يستلزم عدم قبولك لكلامي هذا.
وإلى هنا انتهى الجواب بقلم المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -.(9/4558)
(145) 20/ 5
سؤال عن يمين التعنت التي يطلبها المتخاصمون
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(9/4559)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " سؤال عن يمين التعنت التي يطلبها المتخاصمون ".
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين وبعد. فإن سيدي العلامة زين الأعلام يحيى بن مطهر كثر الله فوائده سألني عن يمين التعنت.
4 - آخر الرسالة: وليس في تطويل البحث بالزيادة في الوجوه والدفع إلا مجرد الإيضاح.
والحمد لله أولاً وآخرًا وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الصفحات: 4 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 12 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 9 - 11 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(9/4561)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين.
وبعد:
فإن سيدي العلامة زين الأعلام، يحيى بن مطهر (1) - كثر الله فوائده - سألني عن يمين التعنت المذكورة في كتب الفروع التي تطلبها الخصوم عند التخاصم، ويلزم المطلوب بها بعض الكلام، فأقول:
اعلم أن الشارع - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - جاءنا بحكم كلي ينطبق على كل ما صدق عليه ذلك الحكم فثبت عنه أن المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين (2)، وهو ثابت في دواوين الإسلام من طرق. وقد وقع الإجماع من المسلمين أجمعين على ما أفاده هذا الحكم النبوي، وكان المعلوم صدقه من هذه الحيثية كما تقرر في الأصول، وهو الحق.
هذا على تقدير أنه لم يثبت تواتره، فإن ثبت تواتره انضم إلى هذا الدليل على أنه من المعلوم صدقه دليل آخر فمن وجد فيه وصف كونه مدعيًا كان عليه البينة، ومن وجد فيه وصف كونه مدعى عليه كان عليه اليمين، وهذا الذي قال: إن غريمه لم يرد بطلب اليمين منه إلا مجرد التعنت، وإلا فهو يعلم أن له عنها مندوحة، وأن هناك ما يوجب رفعها عنه، وذلك إما بأن تكون الدعوى كاذبة من أصلها، فإلزام المنكر باليمين ظلم، والطالب لإعنات خصمه طالب باطل، ومريد لما هو خلاف ما شرعه الله - سبحانه - لعباده [1أ]، ولا يجوز تقريره على ذلك، لأنه فاعل لمنكر، ونهي المنكر واجب بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة والإجماع، ومعلوم أن كل حاكم إذا سمع دعوى المدعي قائلاً إن خصمه لم يطلب يمينه إلا تعنتًا وعبثًا، وهو يعلم اندفاع ذلك عنه، وعدم لزومه
_________
(1) تقدمت ترجمته (ص1201).
(2) تقدم تخريجه.(9/4565)
له يجوز صدقه، ويتردد بين طرفي الاحتمال، فإذا منعه من ذلك مع هذا الاحتمال كان حاكمًا بالجور، ظالمًا لمدعي التعنت، لأنه لم يكن في يده إلا مجرد الاحتمال، وهو مما لا يجوز الاعتماد عليه بإجماع المسلمين، لا سيما في مثل الخصومات، وكان مخالفًا لحكم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بأن اليمين على كل منكر (1)، وهذا الذي أنكر التعنت منكر، فالحكم عليه باليمين هو حكم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الشامل له، ولكل منكر، وهذا لا يخفى على منصف، ولا يأباه إلا متعسف.
والرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يأتنا عنه التعرض لتنوع الأيمان، وأن هذه يمين كذا، وهذه يمين كذا كما وقع من أهل الفروع، بل جاءنا بحكم جامع شامل كما هو ديدنه [ ..... ] (2) في تشريع الأحكام في غالب الأحوال، فإن غالب هذه الشريعة إنما ثبت بالعمومات الكائنة في الكتاب والسنة، وهذا معلوم لكل من له علم بالكتاب والسنة.
وإذا تقرر هذا فأنت تعلم أنه إذا قرع سمع الحاكم، وسمع كل سامع قول من طلبت منه اليمين أن هذا الطالب ليميني إنما أراد العبث بي، وهو يعلم اندفاع ذلك عني بمسلك الشرع، ومنهج مرضي كان ذلك دعوى شرعية مرضية لا يحل الإخلال بها، ودفع صاحبها لمجرد [1ب] الوهم العاطل، والإباء الباطل، لأن كل من له فهم يعلم أن هذه الدعوى ما يعلم في كل دعوى يسمعها من احتمال الصدق والكذب، ويعلم أن هذا القائل قد صدق عليه أنه مدع، وأن خصمه مدعى عليه.
فلو قلنا أنه يجوز للحاكم دفع هذه الدعوى بخصوصها لمجرد الاحتمال لزمه دفع كل دعوى، لأنها في حيز الاحتمال، ولا يثبت صدقها إلا بعد أن يعضدها البرهان الذي يكون به دفع الخصومات، وهو ما أشار إليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما صح
_________
(1) انظر الرسالة رقم (144) " السؤال الأول ".
وهو أيضًا عن يمين التعنت.
(2) كلمة غير واضحة في المخطوط.(9/4566)
عنه بقوله: " شاهداك أو يمينه " (1). وبهذا تعلم أنه لا ملجئ لقياس هذه اليمين على يمين التأكيد، ولا على غيرها، فصاحبها قد شمله الحكم العام من سيد الأنام - عليه الصلاة والسلام -.
وأما الاعتلال بأنه يلزم التسلسل فمن أعجب ما يسمعه السامع، ومن أغرب ما ترد به الشرائع؛ فإن التسلسل كما قرره علماء المعقول هي عدم تناهي التوقفات في أمور غير متناهية، كما أن الدور هو عدم تناهي التوقفات في أمور متناهية، فلو كان لهذا الاعتلال مدخل في دفع الشريعة المطهرة لجوزناه فيمن ادعى على خصمه الذي ادعى عليه بدعوى غير هذه الدعوى، فإنه لا يمتنع أن يدعي عليه الآخر بدعوى أخرى، ثم كذلك.
ثم قد عرفت أن حكم الشرع هو إما الشاهدان أو اليمين، فلو كان للمدعي شهادة وطلب يمين المنكر كان هذا تعنتًا، لأن الجمع بين الشهادة من المدعي، واليمين من المنكر لم تثبت في هذه الشريعة، فهذه دعوى تعنت مقبولة بالحكم الشرعي، لأن خصمه أراد أن يحمله ما لا يلزمه مع وجود البينة، مع أنه لو طاوعه، وحلف لجاء بعد ذلك بالبرهان، فكان طالبًا لما يخالف الشرع من هذه الحيثية [2أ] (2) ..
بواجب على حكام الشرع مع الاحتمال أن يجيبوا طالب يمين المتعنت إليها إلا أن يعرفوا أن ذلك الطلب بما هو تطويل للمسافة، وإغراق في إتعاب الغريم، وجرى على ما جرى عليه عرف المتخاصمين من طلب بين التعنت في كل يمين تطلب من المنكر، فلهم المنع من ذلك، بل لا يحل لهم أن يقبلوا من طالب يمين التعنت هذا المطلب، لأنه خارج عن القوانين الشرعية، والمسالك المرضية، بل مجرد عبث وإتعاب.
وبالجملة فدعوى التسلسل باطلة، لأن غاية ما هنالك أن يدعي كل واحد من
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (2669، 2670) ومسلم رقم (220/ 138) من حديث الأشعث بن قيس. وقد تقدم.
(2) هنا قطع في المخطوط لا نعرف مقداره.(9/4567)
الخصمين على خصمه التعنت في اليمين المطلوبة من كل واحد منهما، فهاهنا يمينان وتعنتان ليس في الواقع غيرهما. وإذا ادعى أحدهما بعد التعنت تعنتًا، أو بعد اليمين يمينًا فهو ذلك التعنت، وتلك اليمين، فالعجب حيث يجعل مثل هذا الوهم الكاسد الفاسد سببًا لدفع الشرع الواضح الظاهر، وما قيل من أنه لا ثمرة لهذه اليمين لعدم الحكم على من نكل عنها، فهذا كلام باطل، بل يحكم عليه بأنه متعنت بطلب اليمين فترفع عن المدعى عليه في الحال، ويطلب منه البرهان، لأنه أحد مستندي الحكم، بل أجلهما وأولاهما. فإذا تعذر البرهان، ولم تبق إلا اليمين التي هي المستند الآخر، وأعوز الأمر، ولم يظهر بوجه من الوجوه كان الرجوع إلى اليمين هو آخر ما دار من الخصومة، وبها ينقطع النزاع، ويرتفع التخاصم بحديث: " شاهداك أو يمينه " (1). وهذا يكفي. وليس في تطويل البحث بالزيادة في الوجوه والدفع إلا مجرد الإيضاح.
والحمد لله أولاً وآخرًا - وصلى الله على سيدنا محمد وآله [2ب]-.
_________
(1) انظر مناقشة الموضوع في الرسالة رقم (144).(9/4568)
(146) 42/ 2
بحث في قبول العدلة في عورات النساء
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(9/4569)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في قبول العدلة في عورات النساء.
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم، أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك وبعد:
فإنه جرى البحث مع بعض الأعلام في قبول العدلة في عورات النساء.
4 - آخر الرسالة: " وقد تقرر في الأصول أنه واجب جمعًا بين الأدلة.
وفي هذا المقدار كفاية حرره الحقير محمد الشوكاني غفر الله له.
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 7 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 22 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 8 كلمات.
9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(9/4571)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك، وبعد:
فإنه جرى البحث مع بعض الأعلام في قبول العدلة في عورات النساء، وفي اختلاف العلماء في ذلك، وفي الراجح من المرجوح من الأقوال في المسألة بحسب ما يقتضيه الدليل.
فأقول: الكلام على هذه المسألة، وما يتعلق بها ينحصر في وجوه ثلاثة:
الأول: في نقل الأقوال في المسألة وهي أربعة:
الأول: قول العترة (1)، وأبي حنيفة (2) وأصحابه أنها تقبل العدلة فيما يتعلق بعورات النساء.
_________
(1) " البحر الزخار " (3/ 370) (5/ 21).
(2) في " البناية في شرح الهداية " (8/ 130 - 131).
أبو حنيفة وأصحابه يقبلون شهادة النساء منفردات فيما لا يطلع عليه الرجال، كالولادة والبكارة وعيوب النساء. ويقبلون فيه شهادة امرأة واحدة.
قالوا: ولأنه لا بد من ثبوت هذه الأحكام، ولا يمكن للرجال الاطلاع عليها وإنما يطلع عليها النساء على الانفراد، فوجب قبول شهادتهن على الانفراد.
قالوا: وتقبل فيه شهادة الواحدة؛ لأن ما قبل فيه قول النساء على الانفراد لم يشترط فيه العدد، كالرواية.
قالوا: وأما استهلال الصبي. فتقبل شهادة المرأة فيه بالنسبة إلى الصلاة على الطفل ولا تقبل بالنسبة إلى الميراث، وثبوت النسب عند أبي حنيفة وعند صاحبيه يقبل أيضًا؛ لأن الاستهلال صوت يكون عقيب الولادة، وتلك حالة لا يحضرها الرجال، فدعت الضرورة إلى قبول شهادتهن، وأبو حنيفة يقضي بأحكام الشهادة. وأثبت الصلاة عليه بشهادة المرأة احتياطًا، ولم يثبت الميراث والنسب بشهادتها احتياطًا.
قالوا: أما الرضاع، فلا تقبل فيه شهادة النساء منفردات؛ لأن الحرمة متى ثبتت ترتب عليها زوال ملك النكاح، وإبطال الملك لا يثبت إلا بشهادة الرجال.
انظر: " جامع الفقه " (7/ 289).
انظر: " أعلام الموقعين " (4/ 252، 253)، " المغني " (14/ 136).(9/4575)
القول الثاني: لأصحاب الشافعي (1) أنه لا تقبل في عورات النساء إلا أربع عدلات، وهذا هو المعروف المقدر المعتمد عند الشافعية الآن. قال في المنهاج (2) ما لفظه: وما يختص بمعرفته النساء، أو لا يراه رجال غالبًا كبكارة، وولادة، وحيض، ورضاع، وعيوب تحت الثياب بما سبق، وبأربع نسوة، انتهى.
وهو يشير بقوله: بما سبق، إلى ما قدمه قبل هذا من الأمور التي اعتبر فيها شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين. قال شارحه المحلي في تفسير قوله: وعيوب تحت الثياب، ما لفظه: كبرص، ورتق، وقرن، وقال أيضًا: واحترز بقوله: تحت الثياب، عما قاله البغوي (3) العيب في وجه المرأة وكفيها لا يثبت إلا برجلين، وفي وجه الأمة وما يبدو عند المهنة تثبت برجل وامرأتين انتهى.
القول [1أ] الثالث: قول البتي (4) أنه لا يقبل في عورات النساء إلا ثلاث عدلات.
القول الرابع: قول مالك والأوزاعي (5) أنه لا يقبل في ذلك إلا عدلتان.
_________
(1) قال الشافعي في " الأم " (13/ 360): " ... ولا يجوز منهن أقل من أربع إذا انفردن قياسًا على حكم الله تبارك وتعالى فيهن؛ لأنه جعل اثنتين تقومان مع رجل مقام رجل وجعل الشهادة شاهدين أو شاهدًا وامرأتين، فإن انفردن فمقام شاهدين أربع ".
(2) (8/ 312 - نهاية المحتاج).
(3) انظر " شرح السنة " (9/ 87 - 88).
(4) عزاه إليه ابن قدامة في " المغني " (14/ 136): قال عثمان البتي: يكفي ثلاث؛ لأن كل موضع قبل فيه النساء، كان العدد ثلاثة، كما لو كان معهن رجل.
(5) ذكره ابن قدامة في " المغني " (14/ 135): وعن أحمد رواية أخرى لا تقبل فيه إلا امرأتان، وهو قول الحكم وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وإليه ذهب مالك والثوري؛ لأن كل جنس يثبت به الحق كفى فيه اثنان، كالرجال؛ ولأن الرجال أكمل منهن عقلاً ولا يقبل منهم إلا اثنان.
قال أبو عبيد: فأما الذين قالوا تقبل شهادة الواحدة في الرضاعة، فإنهم أحلوا الرضاع محل سائر أمور النساء التي لا يطلع عليها الرجال، كالولادة والاستهلال ونحوهما، وأما الذين أخذوا بشهادة الرجلين أو الرجل والمرأتين: فإنهم رأوا أن الرضاعة ليست كالفروج التي لا حظ للرجال في مشاهدتها وجعلوها من ظواهر أمور النساء، كالشهادة على الوجوه، والذين أجازوها بالمرأتين: ذهبوا - وإن لم يكن النظر في التحريم كالعورات، فإنها لا تكون بظهور الثدي والنحور، وهذه من محاسن النساء التي قد جعل الله فرضها الستر على الرجال الأجانب. ثم قال: والذي عندنا اتباع السنة فيما يجب على الزوج عند ورود ذلك، فإذا شهد به عنده المرأة الواحدة بأنها قد أرضعته وزوجته، فقد لزمته الحجة من الله في اجتنابها، ويوجب عليه مفارقتها لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمستفتي في ذلك دعها عنك وليس لأحد أن يفتي غيره.
" جامع الفقه " (7/ 289)، " أعلام الموقعين " (4/ 252).(9/4576)
هذه الأقوال حكاها صاحب البحر (1). وقال صاحب أصول الأحكام (2) في هذه المسألة ما لفظه: فقال أبو حنيفة وأصحابه مثل قولنا: تجوز شهادة امرأة واحدة. وروى ذلك عن الثوري، ذهب الشافعي، وابن شبرمة إلى أنه لا يقبل أقل من أربع نسوة، وعن البتي لا يقبل أقل من ثلاث في الولادة والاستهلال. وعن مالك، وابن أبي ليلى: لا يقبل أقل من شهادة امرأتين، انتهى.
قال في شرح البحر (3): وهذا يعني قبول العدلة في نحو الولادة، واستهلال المولود، والحيض. قال الإمام يحيى: وما يكون تحت الثياب من العيوب كالجذام، والبرص، والقرن، والرتق، والغفل.
قال في شرح البحر أيضًا (4): وأما الرضاع فالمذهب فيه ما مر في كتاب الرضاع عن
_________
(1) (3/ 370) و (5/ 21).
(2) " أصول الأحكام في الحلال والحرام ". تأليف أحمد بن سليمان الحسني اليمني.
فيه ما يزيد على ثلاثة آلاف وثلاثمائة حديث في الحلال والحرام من الأحكام الفقهية.
" مؤلفات الزيدية " (1/ 126 - 127).
(3) انظر " ضوء النهار " (4/ 2088) و (3/ 1112).
(4) انظر " ضوء النهار " (4/ 2088) و (3/ 1112).(9/4577)
العترة، وأبي حنيفة وأصحابه، أنه يعتبر فيه رجلان، أو رجل وامرأتان كما في الحقوق والأموال. قال: وحكى الإمام يحيى في هذا الموضع عن العترة، وأبي حنيفة وأصحابه أنه يكفي في الرضاع عدلة. انتهى.
الوجه الثاني: في الأدلة استدل صاحب البحر (1) لقول من قال: إنها تكفي عدلة في عورات النساء بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " كيف وقد شهدت السوداء بأنها أرضعتكما! " ثم قال: قلت: لعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فهم حصول الظن بخبرها؛ إذ شهادة الواحدة لا تكفي في الرضاع، انتهى [1ب].
وأقول: الحديث الذي أشار إليه هو حديث عقبة بن الحارث عند البخاري (2)، والترمذي (3)، والنسائي (4) أنه تزوج بنتًا لأبي إهاب، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج بها، فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتيني، فركب إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فذكر له الخبر فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " كيف وقد قيل! " ففارقها عقبة ونكحت زوجًا غيره. وفي رواية (5) أنه قال له: " دعها ". وفي أخرى (6) أنه نهاه عنها، ولكنه لا يخفى أنه لا يتم الاستدلال بهذا الدليل إلا بعد تسليم دلالته على ما ورد فيه، وهو الرضاع، وهو لا يدل على ذلك إلا إذا قامت به الحجة في الرضاع، فيلحق به غيره من عورات النساء بجامع أن ثدي المرأة
_________
(1) (5/ 21).
(2) في صحيحه رقم (5104).
(3) في " السنن " رقم (1151).
(4) في " السنن " (6/ 109).
قلت: وأخرجه أحمد (4/ 7) والدارمي (2/ 157 - 158) وأبو داود رقم (3603) والبيهقي (7/ 463). والطيالسي في مسنده (ص190 رقم 1337) وهو حديث صحيح.
(5) عند البخاري في صحيحه رقم (2660).
(6) عند البخاري في صحيحه رقم (2659).(9/4578)
عورة، وقد قبلت في رضاع الصبي منه عدلة، وأما من لم يجعله صالحًا للاستدلال به على الرضاع، ولم يكتف بقول العدلة فيه كما قاله صاحب البحر (1)، فكيف يصح الاستدلال به على قبول العدلة في العورات مع منع دلالته على ما ورد فيه وهو الرضاع! وكيف يسوغ الاستدلال بدليل في غير ما ورد فيه، مع منع دلالته فيما ورد فيه! فإن الدليل إذا لم يقو على ما هو نص فيه، أو على ما هو سبب له لا يقوى على ما هو خارج عنه، وإن ألحق به [2أ] بطريق من طرق القياس، ونوع من أنواعه؛ لأنه إذا قال المستدل به: يقبل قول العدلة في الحيض والولادة مثلاً قياسًا على الرضاع، فإنها قد قبلت فيه للحديث المتقدم. قال خصمه: أنت لا تقول بدلالة هذا الدليل على الأصل الذي هو الرضاع بل يعتبر فيه البينة الكاملة، فكيف تقول بأنه يدل على الفرع! وأما من قال بدلالته على قبول العدلة في الرضاع، وأقاس سائر العورات على الثدي، فلا يرد عليه ما ذكرناه.
وقد استدلت الشافعية على اعتبار أربع عدلات بما ذكره المحلي في شرح المنهاج (2)، قال: روى ابن أبي شيبة (3) عن الزهري قال: مضت السنة أنه تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن من ولادة النساء وعيوبهن، قال: وقيس على ما ذكر باقي المذكورات، انتهى.
وأقول: هذا الحديث أخرجه ابن أبي شيبة (4) في مسنده، كما ذكره المحلي، قال ابن أبي شيبة: حدثنا عيسى بن يونس الأوزاعي، عن الزهري: مضت السنة بأنها تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن، وأخرجه عبد الرازق (5) عن ابن جريج، عن ابن شهاب، قال: مضت السنة أنه تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن من ولادة
_________
(1) (3/ 370).
(2) انظر " نهاية المحتاج " (8/ 312).
(3) في مصنفه (6/ 185 رقم 749).
(4) في مصنفه (8/ 333).
(5) في مصنفه (8/ 333).(9/4579)
النساء وعيوبهن. ولا يخفى عليك أن استدلال الشافعية بهذا الحديث إنما يتم بعد تسليم أن لفظ النساء لا يطلق إلا على الأربع، وهو ممنوع، بل لم يقل قائل من أهل اللغة [2ب]، وأهل علم العربية بذلك، والذي في كتب اللغة والعربية أن النساء جمع المرأة من غير لفظه، قال في القاموس (1) ما لفظه: النسوة بالكسر والضم، والنساء والنسوان والنسوان بكسرهن جموع المرأة من غير لفظها. انتهى.
وقد عرفت أن الثلاثة هي أقل (2) الجمع عند الجمهور، وعند جماعة من أهل اللغة كالزمخشري (3)، وجماعة من الفقهاء (4) أن أقل الجمع اثنان، فعلى فرض أن المراد بالنساء هنا الجمع لا الجنس لا يكون الحديث دليلاً على ما ذهبت إليه الشافعية، بل يكون دليلاً على ما قاله البتي أنه لا يقبل في عورات النساء إلا ثلاث عدلات. والظاهر أن المراد به هنا الجنس لوجهين:
أحدهما: أنه قد تقرر في علم البيان والأصول أن الألف واللام إذا دخلت على الجموع هدمت الجمعية (5) وصيرتها للجنس، ولفظ النساء هاهنا كذلك؛ فإنه جمع للمرأة من غير لفظه، وقد دخلت عليه الألف واللام، فانهدم الجمع وصار مفيدًا للجنس الصادق على الواحدة وما فوقها (6).
_________
(1) (ص1725).
(2) انظر " إرشاد الفحول " (ص427) و" تيسير التحرير " (1/ 207).
(3) انظر " التبصرة " (ص127)، " القواعد والفوائد الأصولية " (ص238).
(4) قال ابن حزم في " الإحكام " (1/ 391): هو قول جمهور أهل الظاهر وحكاه ابن الدهان النحوي عن محمد بن داود وأبي يوسف والخليل ونفطويه واختاره الغزالي في " المستصفى " (3/ 312) و" المنخول " (ص148).
(5) انظر " إرشاد الفحول " (ص412)، " البحر المحيط " (3/ 93).
(6) قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 134 - 135) مسألة: قال: ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال، مثل الرضاع، والولادة، والحيض، والعدة، وما أشبهها، شهادة امرأة عدل.
ثم قال: لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في قبول شهادة النساء المنفردات في الجملة، قال القاضي: والذي تقبل فيه شهادتهن منفردات خمسة أشياء، الولادة، والاستهلال، والرضاع، والعيوب تحت الثياب كالرتق والقرن والبكارة والثيابة والبرص. وانقضاء العدة.
وانظر: " البناية في شرح الهداية " (8/ 130 - 132) و" جامع الفقه " (7/ 285) حيث قال أبو عبيد: الأقوال ثلاثة: أرجحها أنها تجوز شهادة النساء متفرقات فيما لا يطلع عليه الرجال غالبًا.(9/4580)
الوجه الثاني: أن الخطابات الشرعية الواردة على هذه الصفة لا يراد بها الجموع حتى تخرج المرأة والمرأتان كما يعرف ذلك من له إلمام بالأدلة الشريعة، بل يراد بها الجنس على وجه يشمل المرأة والمرأتين، وهذا [3أ] ظاهر لا يخفى.
الوجه الثالث: من الوجوه التي اشتمل عليها هذا البحث في بيان ما هو الراجح من الأقوال السابقة.
اعلم أن الراجح (1) قول من قال إنها تقبل العدلة في عورات النساء لوجوه:
الأول: حديث المرضعة الذي تقدم ذكره؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قبلها ونهى الزوج عن المرأة التي تزوجها استنادًا إلى خبر تلك المرضعة، والثدي من جملة عورات النساء فيلحق غيره به لعدم الفارق.
الوجه الثاني: ما تقدم من قول الزهري (2) مضت السنة (3) ... إلخ وهذه الصيغة لها حكم الرفع كما تقرر في الأصول، ولا يظن بمثله في حفظه وعلمه أن يقول هذه المقالة إلا بعد أن يطلع على ذلك من السنة. وقد قدمنا أن هذا الحديث من أدلة القائلين بقبول العدلة في عورات النساء.
الوجه الثالث: ما ذكره الأمير الحسين في الشفا (4) قال: خبر: وروى حذيفة عن
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) تقدم تخريجه.
(3) انظر " البحر المحيط " (4/ 376) و" إرشاد الفحول " (ص233).
(4) (3/ 249 - 250).(9/4581)
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه أجاز شهادة القابلة. وروى هذا الحديث أيضًا في أصول الأحكام فقال: خبر: وعن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قبل شهادة القابلة.
الوجه الرابع: ما أخرجه عبد الرازق في جامعه (1)، والضياء المقدسي في المختارة (2) والبيهقي في السنن (3) عن عبد الله بن يحيى أن عليًا - كرم الله وجهه - أجاز شهادة المرأة القابلة في الاستهلال.
الوجه الخامس: قال في أصول الأحكام (4) خبر: وعن علي - عليه السلام - أنه قبل شهادة امرأة واحدة فيما لا يطلع عليه الرجال.
الوجه السادس: أخرج عبد الرازق في جامعه (5) عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أجاز [3ب] شهادة امرأة في الاستهلال.
الوجه السابع: أخرج البيهقي في السنن (6) عن ابن عمر أنه قال: لا تجوز شهادة النساء وحدهن إلا على ما لا يطلع عليه إلا هن من عورات النساء، وما يشبه ذلك من حملهن وحيضهن.
الوجه الثامن: قياس خبر المرأة عن الأمور المتعلقة بعورات النساء على قبول خبرها وحدها في سائر الأمور التي لا يتعلق بها خصومة، فإنها قد تفردت غير امرأة برواية الأحاديث الموجبة لإثبات شريعة يشمل الأمة التكليف بها، وتعم بها البلوى، فقبولها في
_________
(1) في مصنفه (8/ 334).
(2) لم أعثر عليه.
(3) (10/ 151).
(4) تقدم ذكره.
(5) انظر مصنفه (8/ 334 رقم 15429).
(6) (10/ 151 - 152).
وأخرجه عبد الرازق في مصنفه (8/ 333 رقم 15425).(9/4582)
قضية جزئية شخصية متعلقة بعورة امرأة أولى.
ولا منافاة بين هذه الأدلة الدالة على قبول العدلة في عورات النساء، وبين الأدلة الدالة على أنه يعتبر في الشهادة رجلان، أو رجل وامرأتان لأمور ثلاثة:
الأول: أن هذا خبر وليس بشهادة، فلا يشترط فيه ما يشترط في الشهادة.
الأمر الثاني: أنا لو فرضنا أنه يصدق على خبرها هذا أنه شهادة لكان الجمع ممكنًا بأن يقال: خبر العدلة في هذه الأمور لا تتعلق به خصومة، والشهادة الكاملة إنما اعتبرت في الأمور التي تتعلق بها الخصومات.
الأمر الثالث: أنا لو فرضنا أنه لا فرق بين ما يتعلق به خصومة وما لا يتعلق به خصومة، وأنه لا فرق بين الخبر والشهادة لكانت الأدلة المذكورة هنا الدالة على قبول خبر العدلة أخص مطلقًا من الأدلة الدالة على اعتبار رجلين، أو رجل وامرأتين، فيبنى العام على الخاص (1)، وقد تقرر في الأصول أنه واجب جمعًا بين الأدلة.
وفي هذا المقدار كفاية.
حرره الحقير محمد الشوكاني - غفر الله له -.
_________
(1) انظر " إرشاد الفحول " (ص454).(9/4583)
(147) 39/ 2
إشراق النيرين في بيان الحكم إذا تخلف عن الوعد أحد الخصمين
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(9/4585)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: إشراق النيرين في بيان الحكم إذا تخلف عن الوعد أحد الخصمين.
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: الحمد لله على كل حال، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله أهل الفضائل والإفضال. فإنه ورد إلي سؤال
4 - آخر الرسالة: " فلا بد فيه من مستند الحكم على المتمرد عندهم.
وإلى هنا انتهى الجواب في شعبان سنة 1217 بقلم المجيب غفر الله له.
5 - نوع الخط: خط نسخي رديء.
6 - عدد الصفحات: 15 صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 22 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 8 كلمات.
9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(9/4587)
الحمد لله على كل حال، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله أهل الفضائل والإفضال.
وبعد:
فإنه ورد إلي سؤال من مولاي العلامة المفضال علي بن عبد الله الجلال (1) - لا برح في حفظ الكبير المتعال - عن حديث أخرجه أبو سعيد النقاش في القضاء، ولفظه: كان الخصمان إذا اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فاتعدا للموعد، فوافا أحدهما ولم يواف الآخر قضى للذي يفي منهما، انتهى. ومحل السؤال كونه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقضي للذي يفي منهما بالموافاة للموعد؛ فإن ظاهره أن الموافاة بمجردها مع اختلاف الخصم الآخر سبب من أسباب الحكم؟.
وأقول: الجواب عن ذلك ينحصر في وجوه جملتها ستون وجهًا.
الأول: الكلام على إسناد الحديث، قد نسبه السائل - كثر الله فوائده - في سؤاله إلى جامع السيوطي (2)، ولعله يعني الجامع الكبير لأنه لم يوجد في الصغير. وقال: وفي إسناده خالد بن نافع ضعيف.
وأقول: ذكره أيضًا صاحب مجمع الزوائد (3) فقال لفظه: باب في الخصمين يتعدان ولم يأت أحدهما: عن أبي موسى الأشعري أن معاوية بن أبي سفيان قال له: أما علمت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان إذا اختصم إليه الرجلان فاتعدا الموعد فجاء أحدهما ولم يأت الآخر قضى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للذي جاء على الذي لم يجئ. فقال أبو موسى: إنما كان ذلك في الدابة، والشاة، والبعير، والذي نحن فيه أمر الناس.
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) لم أجده في الجامع الصغير.
(3) (4/ 197 - 198).(9/4591)
رواه الطبراني في الأوسط (1)، وفيه خالد بن نافع الأشعري: قال أبو حاتم (2) ليس بقوي يكتب حديثه، وضعفه الأئمة انتهى. وله شواهد سيأتي ذكرها إن شاء الله.
واعلم أني لم أجد لأحد من الحفاظ كلامًا على إسناد هذا الحديث بعد البحث عنه إلا ما ذكرته هنا. وأما الكلام على متنه ودلالته فلم أجد شيئًا من ذلك، وقد أوردت هاهنا هذه الوجوه الآتية وهي غاية ما دخل تحت الإمكان.
الثاني: اعلم أن لفظ كان في قوله: " كان الخصمان " يفيد التكرار كما صرح بذلك أئمة الأصول، ومنهم ابن الحاجب في مختصر المنتهى (3)، وشارحه العضد وغيرهما ومثلوا ذلك بقولهم: كان حاتم يكرم الضيف؛ فهذه الصيغة تقتضي أن القضاء على من لم يحضر مجلس المواعدة كان يتكرر وقوعه من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -.
الوجه الثالث: [1أ] أن قوله: " إذا اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فاتعدا " يدل على أنه تقدم لهما حضور مع خصومة عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فإنه رتب المواعدة على الاختصام، فلا يقال: إن الحكم منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على من لم يحضر كان بمجرد الاختلاف عن الحضور على الوعد المضروب. وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله.
الوجه الرابع: قوله: " فاتعدا للموعد " فيه أن التواعد كان بين الخصمين، ولم يكن الذي واعد بينهما هو رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فمن الجائز أن يكون ذلك في حضرته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بمرأى منه ومسمع، ومن الجائز أن يكون
_________
(1) عزاه إليه الهيثمي في " المجمع " (4/ 198).
(2) انظر " الجرح والتعديل " (3/ 355 رقم 1604).
وهو خالد بن نافع الأشعري كوفي.
قال أبو زرعة: ضعيف الحديث.
(3) (2/ 83). ط1، مصر 1316هـ.(9/4592)
ذلك في غير حضرته، وفيه إشكال، لأنه إذا لم يكن في حضرته كان الحكم منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على من لم يحضر على الوعد إنما هو بمجرد دعوى خصمه أنهما تواعدا، وأنه اختلف عن الحضور.
الوجه الخامس: قوله: " فوافى أحدهما ولم يواف الآخر " فيه أن مجرد عدم الموافاة على الوعد مسوغة للحكم، سواء كان اختلاف المختلف لعذر شرعي كالمرض أو لغير عذر، وسواء كان اختلافه تمردًا أو عنادًا أم نسيانًا وسهوًا عن الوعد المضروب.
الوجه السادس: أن الموافاة المذكورة على الوعد المضروب لا تعقل إلا إذا كانت مشتملة على أمرين:
أحدهما: أن يكون إلى مكان معين.
الثاني: أن تكون في زمان معين.
والمكان المعين قد يكون هو المكان الذي يكون به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في ذلك الزمان المعين، وإن لم يكن مكانًا معينًا لفظًا، وقد يكون [1ب] معينًا نحو أن يتواعد إلى الحضور إلى المسجد في وقت معين، أو يواعد بينهما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يحضرا إليه، أو إلى المسجد، أو نحو ذلك، وإنما قلنا: أن الموافاة لا تعقل إلا إذا كانت مشتملة على الأمرين لأنه لو حضر أحدهما إلى المكان في زمان آخر غير الزمان المضروب، أو حضر في ذلك الزمن المضروب إلى غير المكان المعين أو نحوه لم يكن حاضرًا.
الوجه السابع: أن قوله: " فقضى للذي يفي منهما " وقع هكذا في لفظ السائل - كثر الله فوائده - بلفظ " يفي " والمراد بالموافاة هنا هو الوفاء بالموافاة على الوعد المضروب، وكان المناسب للسياق أن يقول: " قضى للذي يوافي منهما " ولكنه عبر بلازم الموافاة وهو الوفاء لأن من وافى فقد وقع منه الوفاء.
الوجه الثامن: أن الظاهر من قوله: قضى هو المعنى المعروف ...............................(9/4593)
لغة (1) وشرعًا (2)، وهو إلزام أحد الخصمين بتسليم ما يدعيه خصمه إن كان الموافي هو المدعي أو إلزام أحد الخصمين بترك المطالبة لخصمه إن كان الموافي هو المدعى عليه.
الوجه التاسع: هذا القضاء (3) إن كان لمجرد موافاة أحد الخصمين، واختلاف الآخر فليس هذا من الأسباب الشرعية المسوغة للقضاء، لأن الذي اختلف ولم يواف إن كان هو من عليه الحق، وهو المدعى عليه فأسباب الحكم عليه هو ما ذكره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الذي تواتر تواترًا معنويًا (4)، وهو قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " على المدعي البينة " (5). أو ما تقرر في الكتاب والسنة من أن الإنسان مأخوذ بإقراره (6) ولا خلاف في ذلك [2أ]، أو علم الحاكم على ما هو الحق عندي من غير فرق بين الحدود والحقوق. وإليه ذهب جماعة من العلماء، أو نكول المدعى
_________
(1) انظر " لسان العرب " (11/ 209). القضاء: الحكم.
(2) القضاء: هو الحكم الإلهي في أعيان الموجدات على ما هي عليه من الأحوال الجارية في الأزل إلى الأبد.
وفي اصطلاح الفقهاء: القضاء تسليم الواجب.
القضاء على الغير إلزام أمر لم يكن لازمًا قبله.
" التعريفات " للجرجاني (ص185).
قال في تبصرة الحكام (1/ 11): قال ابن رشيد: ومعنى قولهم قضى القاضي أي ألزم الحق أهله والدليل على ذلك قوله تعالى: {فلما قضينا عليه الموت} أي ألزمناه وحتمنا به عليه.
وقوله تعالى: {فاقض ما أنت قاض} أي الزم بما شئت واصنع ما بدا لك.
(3) انظر " الحاوي " (20/ 369).
(4) تقدم تعريفه.
(5) وهو حديث صحيح تقدم تخريجه.
(6) منها ما أخرجه البخاري رقم (2696) و (6828) (7193) (7194 و7278 و7279) ومسلم رقم (25/ 1697، 1698) من حديث: " واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ".
وانظر " أعلام الموقعين " (4/ 43، 44).(9/4594)
عليه (1) عن اليمين أو رده لليمين على الخلاف فيهما، فهذه أسباب الحكم لا يجوز لحاكم أن يحكم على مقتضى الشريعة المطهرة إلا مع وجود شيء منها لا لمجرد الموافاة من أحد الخصمين من دون الآخر، فإن ذلك لم يأت في شيء من الشريعة إلا في هذا الحديث المسئول عنه، وإن كان الذي لم يواف هو المدعي فلا يجوز قطع حقه إلا بيمين المدعى عليه أو بإقراره ببطلان دعواه، ولا خلاف في هذين، أو بعلم الحاكم ببطلان الدعوى، أو بنكوله عن اليمين المردودة.
الوجه العاشر: أن هذا القضاء لمجرد الموافاة المذكورة من أحد الغريمين دون الآخر كما يخالف ما ذكرناه من أسباب الحكم يخالف أيضًا قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الثابت في الصحيح (2) " وإنما أقضي بما أسمع " فإنه قد صرح في هذا أنه إنما يقضي بما يسمعه، والقضاء بمجرد الموافاة مع غيبة الغريم ليس مما يصدق عليه ذلك.
الوجه الحادي عشر: أن حديث الباب كما يخالف ما تقدم يخالف أيضًا حديث علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " يا علي، إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول؛ فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء " أخرجه ..........................
_________
(1) منها ما أخرجه الدارقطني (4/ 213 رقم 24) والحاكم (4/ 100) والبيهقي في " السنن الكبرى " (10/ 184). من حديث ابن عمر: " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد اليمين على طالب الحق ".
وهو حديث ضعيف. وقد تقدم.
* يجوز الحكم بيمين الرد لأن من عليه الحق قد رضي بها سواء قلنا إنها تجب على المدعي عند ردها من المنكر أم لا.
* وأما النكول فلا يجوز الحكم به لأن غاية ما فيه أن من عليه اليمين بحكم الشارع عليه بقوله: " ولكن اليمين على المدعى عليه " فعلى القاضي أن يلزمه بعد النكول عن اليمين بأحد أمرين: إما اليمين التي نكل عنها أو الإقرار بما ادعاه المدعي وأيهما وقع كان صالحًا للحكم به.
(2) أخرجه البخاري رقم (6967) ومسلم رقم (4/ 1713) من حديث أم سلمة.(9/4595)
أحمد (1)، وأبو داود (2)، والترمذي (3)، وحسنه، وابن حبان (4) وصححه [2ب]؛ فإن فيه النهي عن القضاء على أحد الخصمين إلى حصول غاية هي السماع من الآخر.
الوجه الثاني عشر: أن جميع الآيات القرآنية (5) التي فيها ذكر الحكم بين الخصوم أو الخصمين، وكذلك الأحاديث النبوية (6) مشعرة بأنه لا بد من حضورهما جميعًا مجلس الحاكم، لأن ذلك هو مدلول لفظ (بين) كما يقال: جلست بين زيد وعمرو، وجلس بين القوم.
الوجه الثالث عشر: أن ما في الكتاب العزيز (7) من الأمر بالحكم بالعدل والقسط والحق ونحوها يفيد أنه لا بد من البحث والفحص حتى يحصل المستند الشرعي للحكم من بينة (8) أو يمين (9)، أو نحوهما (10)؛ فإن الحكم لا يكون عدلاً وحقًا وقسطًا إلا بذلك.
_________
(1) في " المسند " (1/ 111).
(2) في " السنن " رقم (3582).
(3) في " السنن " (1331) وقال: حديث حسن.
(4) في صحيحه رقم (5042).
وهو حديث صحيح بمجموع طرقه.
(5) منها قوله تعالى: {هذان خصمان اختصموا في ربهم ... } [الحج: 19].
وقوله تعالى: {إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط} [ص: 22].
(6) تقدم ذكر ذلك.
(7) منها قوله تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء: 58].
وقوله تعالى: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} [المائدة: 42].
وقوله تعالى: {فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى} [ص: 26].
(8) اخرج مسلم في صحيحه رقم (223/ 139) من حديث وائل بن حجر: " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للكندي: ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه ".
(9) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2669) ومسلم رقم (220/ 138) من حديث الأشعث بن قيس قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " شاهداك أو يمينه ".
(10) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2669) ومسلم رقم (220/ 138) من حديث الأشعث بن قيس قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " شاهداك أو يمينه ".(9/4596)
الوجه الرابع عشر: أن هذا الحديث المسئول عنه كما يخالف القواعد الشرعية يخالف أيضًا ما كانت عليه الجاهلية فإن شاعرهم يقول:
فإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو شهود أو جلاء
الوجه الخامس عشر: أن الحديث الصحيح المتفق عليه (1)، وهو قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " يفيد أنه لا بد من الاجتهاد، وهو بذل الجهد في معرفة المحق والمبطل من الخصمين وإذا حكم بمجرد الاختلاف من أحد الخصمين لعذر شرعي، أو لغير عذر، فلم يجتهد في القضية ولا حكم بالسوية.
الوجه السادس عشر [3أ]: أنك إذا عرفت ما قدمنا فالحديث المسئول عنه إن كان غير بالغ إلى درجة الاعتبار فهو غير محتاج إلى الكلام عليه، لأنه لا يجوز العمل به على فرض عدم معارضته لما هو أرجح منه، وعدم مخالفته للقواعد الشرعية، فكيف إذا كان معارضًا بما هو أرجح منه، ومخالفًا للقواعد الشرعية!.
الوجه السابع عشر: أنا لو فرضنا أنه بالغ إلى درجة الاعتبار، وفرضنا عدم إمكان تأويله على وجه مقبول فهو مطرح لما قدمنا من مخالفته لقواعد الشريعة المطهرة.
الوجه الثامن عشر: أنه يمكن تأويله بأن يقال: قد قدمنا أن في متنه ما يفيد أنها قد تقدمت الخصومة عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قبل المواعدة فيمكن أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد كان سمع من الخصمين ما يفيد جواز الحكم إما من المدعي كالبينة، أو من المدعى عليه كاليمين، أو نحو ذلك.
الوجه التاسع عشر: يمكن أن يكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعد مفارقة الخصمين له على ذلك الوعد علم بالوحي أن الذي سيوافيه هو المحق فحكم له، وظن
_________
(1) البخاري في صحيحه رقم (7352) ومسلم رقم (1716).(9/4597)
الراوي أن الحكم لأجل الموافاة وعدمها، ولم يعلم بما علمه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من الوحي.
الوجه الموفي عشرين: أنه يمكن أن يعلم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - المحق من الخصمين بإخبار من يثق به فكان حكمه مستندًا إلى ذلك، وظن الراوي مثل الظن المتقدم في الوجه الذي قبل هذا.
الوجه الحادي والعشرون: أنه يمكن أن يكون القضاء المذكور في الحديث مجازًا عن تأخير المطالبة، فكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال للمدعي: إذا كان المختلف هو المدعى عليه أنك لا تطالبه الآن، بل في وقت آخر، أو كأنه قال [3ب] للمدعى عليه: إذا كان المختلف هو المدعي أنك لا تنظر للخصومة الآن، ويكون مجرد الإخبار للحاضر بذلك قضاء مجازًا (1).
الوجه الثاني والعشرون: أن تكون العين المتنازع فيها في يد الذي حضر، أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يستمر على قبضها لعدم حضور خصمه بشيء يوجب نقلها عن صاحب اليد.
الوجه الثالث والعشرون: أن يكون الذي وافى هو المدعى عليه، وقد عرف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ضعف الدعوى، فأمره بأن يذهب ولا يحضر لخصومة ثانية، لأنه قد انضم إلى ما علمه من ضعف الدعوى قرينة أخرى، وهي عدم حضور المدعي على الأجل، فكان مجموع ذلك قرينة مسوغة للحكم عند من لم يحضر الحكم على الطرق المشهورة من البينة واليمين ونحوهما، وهو مذهب مشهور معروف.
الوجه الرابع والعشرون: أن يكون المدعى قد شرط على نفسه أنه إذا لم يواف على الوعد المضروب فقد أبطل دعواه.
الوجه الخامس والعشرون: أن يكون المدعى عليه قد شرط على نفسه أنه إذا لم
_________
(1) انظر " فتح الباري " (13/ 171).(9/4598)
يحضر على الأجل فقد أوجب الحق على نفسه.
الوجه السادس والعشرون: أن يكون المدعى عليه قد تواعد هو والمدعي لقبض اليمين من المدعى عليه، فحضر المدعى عليه ولم يحضر المدعي قرينة رد اليمين فقبضها منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وحكم له، فنسب الراوي القضاء إلى مجرد الاختلاف عن الوعد، وليس كذلك [4أ].
الوجه السابع والعشرون: أن يكون المدعى عليه هو الذي حضر، وقد كان تواعد هو والمدعي لقبض اليمين من المدعى عليه، فحكم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للمدعى عليه بأنه لا حق عليه، ولم يقبض اليمين، بل أخرها حتى يطلب المدعي قبضها لكونه حقًا له.
الوجه الثامن والعشرون: أن يكون المدعي قد استوعد بحضور بينته فأحضرها، ولم يحضر المدعى عليه فسمعها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وحكم له.
الوجه التاسع والعشرون: أن يكون الأمر كما في الوجه الذي قبل هذا، ولكنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يسمعها، بل حكم للمدعي لحضور بينته، وأحال المدعى عليه على سماع البينة متى شاء.
الوجه الموفي الثلاثين: أن يكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حكم للحاضر منهما حكمًا مشروطًا متى حضر الآخر، فله خصومته.
الوجه الحادي والثلاثون: أن يكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد شرط على الخصمين عند التواعد أن من لم يحضر منهما كان الحكم عليه، ومن حضر كان الحكم له.
الوجه الثاني والثلاثون: أن يكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد قال لهما: إن المبطل منكما لا يحضر في الوعد المضروب لضرب من السياسة الشرعية، فلم يحضر المبطل امتثالاً لأمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فحكم عليه.(9/4599)
الوجه الثالث والثلاثون: أن يكون الذي تخلف عن [4ب] الحضور قد حضر إلى رسول الله بعد ضرب الوعد قبل حضور الوقت المضروب، فاعترف عنده بأنه لا حق له وأن الحق لخصمه، فلما حضر خصمه في الأجل المضروب قضى له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فظن الراوي أن القضاء هو لمجرد الاختلاف عن الحضور.
الوجه الرابع والثلاثون: أن يكون التواعد بين الخصمين وقع عن أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا لقصد إحضار مستند من أحدهما، بل لقصد التثبت منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعد أن كان قد حصل له مستند، فلما حضر أحد الخصمين حكم له، وهذا يخالف الوجه الثامن عشر من التواعد عن أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لقصد التثبيت في الحكم.
الوجه الخامس والثلاثون: أن يكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد علم المستند ولكنه شغله عن تنجيز الحكم شاغل، فواعد بين الخصمين، فحضر أحدهما وهو المحكوم له، ولم يحضر الآخر وهو المحكوم عليه، لأنه قد علم أنه لا حق له، وأن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - سيحكم له.
الوجه السادس والثلاثون: كالذي قبله إلا أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - دخل في شغل وهو عازم على تنجيز الحكم بعد قضائه، فتطاول الشغل، فتواعد الغريمان من دون أن يأمرهما - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بذلك.
الوجه السابع والثلاثون: أن يكون الذي اختلف عن الحضور قد علم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - تمرده، وعدم امتثاله للحضور، فعاقبه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالحكم عليه، وأخذ ماله، ويكون [5أ] ذلك من باب التأديب بالمال (1).
الوجه الثامن والثلاثون: أن يكون أحد الغريمين لحق بدار الحرب فصار ماله على أصل الإباحة، فكان الحكم عليه بهذا المستند لا بمجرد الاختلاف (2).
_________
(1) تقدم ذكر ذلك.
(2) انظر " المغني " (14/ 94).(9/4600)
الوجه التاسع والثلاثون: أن يكون الذي لم يحضر قد قتل في مدة الأجل أو مات، ولا وارث له. وقد ثبت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وارث من لا وارث له، فصرف ذلك في غريمه، لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وليس ذلك ببعيد، فمثل هذا لو فعله الإمام لم ينكر عليه (1).
الوجه الموفي الأربعين: أن يكون المختلف من المنافقين الذين قد علم رسول الله بنفاقهم وأنهم يفترون على المؤمنين، ويدعون عليهم الدعاوى الباطلة، فحكم عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - استنادًا إلى هذا الظاهر.
الوجه الحادي والأربعون: أن تكون الخصومة بين الأب وولده فحضر الأب في الأجل، ولم يحضر الابن، فحكم له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - استنادًا إلى أن الولد وما ملك لوالده (2).
الوجه الثاني والأربعون: أن يكون المخاصم الذي اختلف خادمًا لمن حضر، أو أجيرًا، أو نحوهما ممن يتصرف في ملك غيره بإذنه فيحكم عليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - استنادًا إلى ذلك.
الوجه الثالث والأربعون: أن يكون أحد الخصمين قد تمسك بأصل يجب [5ب] الرجوع إليه، ويصلح للتمسك به، فحضر من معه ذلك الأصل، ولم يحضر الآخر. فحكم له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لذلك، وهذا أعم مما قبله.
الوجه الرابع والأربعون: أن يكون الظاهر مع من حضر دون من غاب، فيحكم له
_________
(1) انظر " المغني " (14/ 94).
(2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (2/ 214) وأبو داود رقم (3530) وابن ماجه رقم (2292) وابن الجارود في " المنتقى " رقم (995). من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وهو حديث صحيح.
" أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إن لي مالاً وولدًا، وإن والدي يحتاج مالي قال: " أنت ومالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم ".(9/4601)
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - استنادًا إلى ذلك، وهذا أيضًا أعم.
الوجه الخامس والأربعون: أن هذه الوجوه وإن كان بعضها لا يخلو عن تكلف فقد أوجب المصير إليها ما ذكره أئمة الأصول أن يتعين تأويل ما كان معارضًا لما هو أرجح منه بما أمكن من طرف التأويل، ولو كان بعيدًا؛ لأن التأويل جمع وهو مقدم على الترجيح.
الوجه السادس والأربعون: لا يقال إن لفظة (كان) لما كانت تفيد التكرار كما قدمنا حكايته عن أهل الأصول بطل كثير من هذه التأويلات؛ لأن لفظ الصحابي الحاكي لفعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد أشعر بوقوع ذلك المحكي منه مرة بعد مرة، لأنا نقول: لا مانع من تأويل ما وقع متكررًا، غاية الأمر أنه لم يتفق الوجه الذي وقع التأويل به؛ بل وقع مختلفًا تارة على وجه من هذه الوجوه، وتارة على وجه آخر.
الوجه السابع والأربعون: أن قول أبي موسى في الحديث الذي ذكرناه بلفظ آخر للحديث الذي أورده السائل - عافاه الله - إنما كان ذلك في الدابة والشاة والبعير يدل على أن القضاء على من لم يحضر على الوعد إنما يكون في مثل هذه الأمور، لا فيما هو أعظم منها. وسيأتي تكرير هذا الوجه مع زيادة.
الوجه الثامن والأربعون: أن قول أبي موسى أيضًا: والذي نحن فيه أمر الناس يدل على أن هذه المحاورة وقعت بينه [6أ] وبين معاوية في شأن الاختلاف في الخلافة، ولعل ذلك كان عند مسير أبي موسى إلى الشام قبل أيام صفين، ولا يصح أن يكون ذلك عند الحكومة بدومة الجندل؛ لأن معاوية لم يحضرها (1). وفي ذلك ما يفيد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يحكم في الأمور العظيمة بمجرد اختلاف أحد الخصمين.
الوجه التاسع والأربعون: إن قلت: إذا كان ذلك الحديث قد وجدنا في إسناده من لا تقوم به الحجة لتضعيف أكثر الأئمة له فأي فائدة في هذا التكثير.
_________
(1) انظر " البداية والنهاية " لابن كثير (7/ 290 - 294).(9/4602)
قلت: لا يخفاك أن هذا جرح مجمل، وهذا غير معمول به حتى يبين، ولم يتبين حينئذ فتكلمنا على الحديث بهذه الوجوه، على فرض أنه صالح للاحتجاج به، وبالغ إلى درجة الاعتبار.
الوجه الموفي خمسين: اعلم أنه يشهد للحديث المسئول عنه ما أخرجه البزار (1) عن سمرة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: " إذا طالب الرجل الآخر فدعى أحدهما صاحبه إلى الذي يقضي بينهما، فأبى أن يجيء فلا حق له ".
وفي إسناده يوسف بن خالد السمتي (2) وهو ضعيف، ووجه شهادته لحديث الباب أن الامتناع من الحضور على الوعد كالامتناع من المجيء إلى الحاكم، بل ذلك أشد لا سيما إذا كان المواعد بينهما هو النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أو كان التواعد باطلاعه. ويشهد له أيضًا ما أخرجه الطبراني في الكبير (3) عن سمرة أيضًا [6ب] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من دعي إلى سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حق له ". وفي إسناده روح بن عطاء وثقه ابن عدي (4)، وضعفه الأئمة (5)، ووجه الشهادة هو ما قدمنا. وقد رتب على ذلك أنه لا حق له في هذا الحديث، والذي قبله، وهذا هو الوجه
_________
(1) في مسنده (2/ 129 رقم 1363 - كشف).
قال الهيثمي في " المجمع " (4/ 198) رواه البزار وفيه يوسف بن خالد السمتي.
(2) ضعفه ابن سعد وكذبه يحيى بن معين. وقال النسائي: ليس ثقة.
وقال أبو حاتم: رأيت له كتابًا وضعه في التجهم ينكر فيه الميزان والقيامة.
انظر: " ميزان الاعتدال " (4/ 463 - 464 رقم 9863).
(3) (7/ 225 رقم 6939).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 198) وقال: فيه روح بن عطاء وثقه ابن عدي وضعفه الأئمة.
(4) في " الكامل " (3/ 1002) حيث قال: ما أرى برواياته بأسًا.
(5) كابن معين. وقال أحمد: منكر الحديث.
" الميزان " (2/ 60 رقم 2806).(9/4603)
الحادي والخمسون.
ويشهد للحديث المسئول عنه أيضًا ما أخرجه الطبراني في الكبير (1) أيضًا عن سمرة أيضًا أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يقول لنا: " إذا خاصم الرجل الآخر فدعا أحدهما صاحبه إلى الرسول ليقضي بينهما، من أبى أن يجيء فلا حق له ". قال الهيثمي (2) وفي إسناده مساتير، وهذا هو الوجه الثاني والخمسون.
ويشهد له أيضًا ما أخرجه البزار (3) عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من دعي إلى حاكم من حكام المسلمين، فامتنع فهو ظالم - أو قال -: لا حق له " وفي إسناده روح بن عطاء بن أبي ميمونة، قال الهيثمي (4) وهو ضعيف، وقد وثقه ابن عدي (5)، ووجه الشهادة هو ما قدمنا، وهذا الوجه الثالث والخمسون.
الوجه الرابع والخمسون: أن جميع ما ورد في هذا الباب الحديث المسئول عنه، وهو من رواية الرجلين المتجاورين جميعًا كما تقدم؛ لأن أبا موسى قد أقر به ولم ينكره، وإنما حمله على الشاة والبعير ونحوهما؛ فهذان حديثان من طريق صحابيين، وثلاثة أحاديث من طريق سمرة، وهي المذكورة قريبًا، وحديث من طريق عمران بن حصين، فالأحاديث ستة عن أربعة من الصحابة، وفي كل واحد منها مقال [7أ].
الوجه الخامس والخمسون: هل يقال هذه الأحاديث قد قوي بعضها ببعض فصارت من قسم الحسن لغيره أم لا؟.
_________
(1) (7/ 264 رقم 7078).
(2) في " المجمع " (4/ 198).
(3) في مسنده (7/ 128 - 129 رقم 11362 - كشف).
(4) في " المجمع " (4/ 198).
(5) في " الكامل " (3/ 1002) حيث قال: ما أرى برواياته بأسًا.(9/4604)
قلت: لا يبعد أن يكون كذلك؛ لأن الضعف إذا كان يسيرًا صارت أحاديث الضعفاء إذا انضم بعضها إلى بعض من قسم الحسن لغيره، بخلاف ما إذا كان كل واحد ممن في تلك الأحاديث فيه ضعف شديد، فإنه لا يصير حديثه مع غيره حسنًا، وأحاديث الباب هي من القسم الأول؛ لأن الضعفاء الذين في أسانيدها ضعفهم منجبر، ولا سيما وقد وثق بعضهم بعض الحفاظ كما عرفت.
الوجه السادس والخمسون: إذا كان الحديث المسئول عنه يصير بما ذكرناه له من الشواهد حسنًا لغيره فهو من قسم المعمول به، فيجب المصير إلى تأويله بوجه من الوجوه التي قدمنا ذكرها، فالجمع مقدم على الترجيح، فإن تعذر فلا شك أن الأحاديث التي هي مخالفة لهذه الأحاديث أرجح منها، وكيف لا يكون أرجح منها وهي من القواعد المعلومة من دين الإسلام.
الوجه السابع والخمسون: إن قلت: وأي معارضة بين هذا الحديث وما شهد له، وبين تلك القواعد والأحاديث! فإن الأحاديث الواردة في اعتبار الشهادة واليمين لا تنفي اعتبار طريق [7ب] أخرى؛ إذ لا حصر، وحينئذ فلا معارضة.
الوجه الثامن والخمسون: أنا لو فرضنا أن ثم لفظًا يفيد الحصر في أحاديث اعتبار الشاهدين واليمين ونحو ذلك لكان الحديث المسئول عنه وما شهد له صالحًا لتخصيص ذلك بمن لم يحضر على الوعد تمردًا وعصيانًا، وكذلك من أبى أن يجيب إلى حاكم من حكام المسلمين، فإنه يجوز للحاكم أن يحكم عليه بحق الغير يلزمه تسليمه أو بإسقاط حق له على الغير، وهذا الوجه يتعين المصير إليه.
الوجه التاسع والخمسون: أن هذا الترجيح الذي ذكرناه في الوجه الذي قبل هذا لا يجوز لكل حاكم، بل إنما يجوز لمن كان بمحل من الورع، وبمكان من العلم، بحيث يميز بين مصالح الشريعة ومفاسدها على وجه صحيح، ولا يكون كذلك إلا المجتهد. وأما من كان مقصرًا فهو لا يميز المصلحة من المفسدة على وجه صحيح، فقد يظن لجهله ما هو(9/4605)
من المفاسد مصالح، وما هو من المصالح مفاسد، وهكذا من لم يكن بمحل من الورع، فإنه قد يجعل ذلك ذريعة إلى مقاصده الفاسدة.
الوجه الموفي ستين: إن قلت: هل يقيد ما رجحته من جعل الحديث مخصصًا بالقيد الذي ذكره أبو موسى في الرواية التي ذكرناها عنه في حديث الباب، وهو الدابة والشاة والبعير، وما شابهها؟.
قلت: نعم فإن لم يقل ذلك برأيه، بل قاله حاكيًا لما كان يفعله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ولكن إذا وقع التمرد والعناد والتصميم عليه فذلك مبيح للدم، فضلاً عن كثير من المال.
واعلم أن هذا القضاء على من لم يحضر ليس هو القضاء الذي ذكره أهل الفقه على الغائب (1) والمتمرد، فإن الذي نحن بصدده هو القضاء على المتمرد بمجرد تمرده بخلاف ما
_________
(1) والمدعى عليه الغائب قد يكون مقيمًا في غير بلد القاضي، أو يكون مقيمًا في بلد القاضي.
قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 93 - 94): وجملته أن من ادعى حقًا على غائب في بلد آخر، وطلب من الحاكم سماع البينة، والحكم بها عليه، فعلى الحاكم إجابته، إذا كملت الشرائط. وبهذا قال شبرمة ومالك، والأوزاعي، والليث، وسوار، وأبو عبيد، وإسحاق، وابن المنذر.
وكان شريح لا يرى القضاء على الغائب. وعن أحمد مثله. وبه قال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وروي ذلك عن القاسم، والشعبي، إلا أن أبا حنيفة قال: إذا كان له خصم حاضر، من وكيل أو شفيع، جاز الحكم عليه.
واحتجوا بما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لعلي: " إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فإنك تدري بما تقضي " تقدم تخريجه.
ولأنه قضاء لأحد الخصمين وحده، فلم يجز، كما لو كان الآخر في البلد، ولأنه يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البينة، ويقدح فيها، فلم يجز الحكم عليه.
قال الماوردي: وأما سماع الدعوى على الغائب، فإن لم تقترن بها بينة لم تسمع؛ لأن سماعها غير مفيد، وإن اقترن بها بينة سمعت وسمعت البينة عليها وهذا متفق عليه في جواز الدعوة والبينة على الغائب.
واختلف في معنى سماع البينة على الغائب.
فهو عند الشافعي ومن يرى القضاء على الغائب: سماع الحكم.
وعند أبي حنيفة ومن لا يرى القضاء على الغائب: سماع تحمل، كالشهادة على الشهادة، فأما القضاء على الغائب بعد سماع البينة عليه فلا تخلو غيبته من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون غائبًا عن الحكم حاضرًا في مجلسه. فلا يجوز الحكم عليه إلا بعد حضوره وإمضاء الحكم عليه بعد إعلامه. وهذا متفق عليه وإن اختلف في معناه:
فهو عند الشافعي ومن يرى القضاء على الغائب: ارتفاع الضرورة.
وعند أبي حنيفة ومن لا يرى القضاء على الغائب: ما عساه يدفع به الحجة.
الحالة الثانية: أن يكون غائبًا في بلد الحكم، فقد اختلف الفقهاء في جواز القضاء عليه مع غيبته على ثلاثة مذاهب:
1 - مذهب الشافعي: يجوز القضاء عليه مع غيبته في عموم الأحكام، فيما ينقل وما لا ينقل، سواء تعلقت بحاضر أو لم تتعلق بحاضر، كما يجوز أن يحكم على الميت، وعلى من لا يجيب عن نفسه من الصبي والمجنون. ومن شرط التنفيذ عليه بعد الحكم أن يستحلف المحكوم له على بقاء حقه بعد ثبوته.
2 - مذهب أبي حنيفة: أن القضاء على الغائب لا يجوز فيما ينقل وما لا ينقل إلا أن يتعلق بحاضر، فيجوز أن يحكم عليه تبعًا للحاضر لقوله: غصبني هذا وفلان الغائب عبدًا، أو ابتاع مني دارًا.
3 - مذهب مالك: يجوز القضاء على الغائب فيما ينقل، ولا يجوز القضاء عليه فيما لا ينقل من العقار، فهذه مذاهب الفقهاء في القضاء على الغائب.
الحالة الثالثة: أن يكون غائبًا عن مجلس الحكم وحاضرًا في بلده فقد اختلف أصحابنا: هل يجري مجرى الغائب عن البلد في جواز القضاء عليه، أو يكون كالحاضر في مجلس الحكم في المنع من القضاء عليه؟ وعلى وجهين:
أ - وهو الظاهر من مذهب الشافعي: لا يجوز القضاء إلا بعد حضوره، للقدرة عليه في الحال، كالحاضر في المجلس.
ب - وهو مذهب ابن شبرمة، وأحمد، وإسحاق: يجوز القضاء عليه كالغائب عن البلد.
قال ابن شبرمة: احكم عليه ولو كان وراء جدر.
فهذه أحوال الغائب واختلاف الفقهاء في القضاء عليه.
انظر مزيد تفصيل في " أدب القاضي للماوردي (2/ 293 - 294)، " الحاوي " (20/ 369 - 385) " روضة القضاة " (1/ 194).(9/4606)
ذكره أهل الفقه، فلا بد فيه من مستند الحكم على المتمرد عندهم.
وإلى هنا انتهى الجواب في شعبان سنة 1217 بقلم المجيب - غفر الله له -.(9/4608)
(148) 8/ 3
بحث في القرائن وهي رد على تظلم رفع إليه من قبل رجل يتظلم من عريف من عرفاء بلاد الروس
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(9/4609)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في " القرائن " وهي رد على تظلم رفع إليه من قبل رجل يتظلم من عريف من عرفاء بلاد الروس.
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم يا من حرمت الظلم على عبادك كما حرمته على نفسك أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ... "
4 - آخر الرسالة: " فنقول لو فرضنا أن ما نقله من الإجماع له مدخل في محل النزاع لم يكن استعمال ذلك مع المكتوب إليه مناسبًا لأنكم تعلمون مذهبه
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 15 صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(9/4611)
بسم الله الرحمن الرحيم
يا من حرمت الظلم على عبادك (1) كما حرمته على نفسك، أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأستكثر من حمدك وشكرك، فقد أوضحت السبيل وشفيت الغليل بما أنزلته علينا في محكم التنزيل من النعي على الظلمة بتلك الآيات المحكمة، والقوارع المؤلمة، فأقمت الحجة، وأوضحت الحجة بكلام يفهمه الصم، ونظام لا يخفى على العمي البكم، ولم تدع دقيقًا ولا جليلاً، ونقيرًا ولا فتيلاً إلا أوضحته أتم إيضاح، وأبنته أكمل بيان، فإنك - تعالى جدك، وتضاعف شكرك وحمدك - لم تكتف ببيان المؤآخذة على مثاقيل الذر إذ قلت: {ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (2) حتى أبنت المؤآخذة بمثقال حبة الخردل كما قلت: {وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} (3) بل تجاوزت هذه الغاية وأوضحت لنا ما هو دون هذه النهاية، فأخذت على العباد ألا يظلموا الناس شيئًا، وقلت: {فلا تظلم نفس شيئا} (4)؛ فإن الشيء يصدق على عشر معشار الخردلة فما دونه، فسبحانك ما أوضح برهانك! وأتم بيانك! وأقوم حجتك! وأحكم حكمتك! ولما كانت رحمتك سابقة لغضبك (5). وشفقتك على عبادك أكمل من شفقة الأم على
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2577) والترمذي رقم (2495) وقال: حديث حسن. وابن ماجه رقم (4257) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ... ". وانظر الرسالة رقم (180).
(2) [الزلزلة: 8].
(3) [الأنبياء: 47].
(4) [الأنبياء: 47].
(5) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (7404) ومسلم رقم (2751) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي ".(9/4615)
ولدها (1)، كملت الحجة بإرسال رسول إليهم من أنفسهم يفهمون عنه، ويأنسون إليه، فقام فيهم مقامات، وفتق مسامعهم بكلمات بعد كلمات، يحذرهم من الظلم، ويحجزهم عن الغضب، ويقرن لهم بين الدماء والأموال والأعراض، ويبين لهم حرمتها، ويؤكد ذلك عليهم تأكيدًا أوضح من الشمس، ويكرر ذلك عليهم في المواقف والمجامع، ويستكثر منه في خطبه ومواعظه، حتى كان من جملة ما قاله عند توديعهم: " إنما أموالكم ودماؤكم وأعراضكم عليكم حرام " (2)، ثم أشهد الله - سبحانه - على البلاغ، وأمر الناس به، وحضهم عليه، فسارت بذلك الركبان، وعرفه كل متشرع، ولم يشك مسلم من المسلمين أن هذا من ضروريات الدين، فصلى الله عليه، وعلى آله وسلم، وجزاه عن أمته أفضل ما جزى نبيًا عن أمته.
وبعد: فإن موجب تحرير هذه الكلمات أنه وصل إلي رجل من بيت النبوة هو وبعض أهله يصرخون ويبكون، ويتظلمون من عريف من عرفاء النار، كما ورد بذلك النص عن المختار (3) - من عرفاء [1] بلاد ......................................
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5999) ومسلم رقم (22/ 2754) من حديث عمر بن الخطاب أنه قدم على رسول الله سبي. فإذا امرأة من السبي تبتغي، إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته. فقال لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ " قلنا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لله أرحم بعباده من هذه بولدها ".
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (67) و (4406) ومسلم رقم (1679) وأبو داود رقم (1948) من حديث أبي بكرة.
(3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (2/ 353) بإسناد حسن وأخرجه الطيالسي رقم (2523) وأبو يعلى في مسنده رقم (6217) والحاكم (4/ 91) والبيهقي (10/ 97) والبغوي رقم (2468) وابن حبان رقم (4483) من طرق.
عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " ويل للأمراء، ويل للعرفاء، ويل للأمناء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا، يتذبذبون بين السماء والأرض، ولم يكونوا عملوا على شيء ".
وأخرج أبو داود في " السنن " رقم (2934) من حديث غالب القعطان عن رجل عن أبيه عن جده وفيه: " ... إن أبي شيخ كبير، وهو عريف الماء، وإنه يسألك أن تجعل لي العرافة بعده فقال: " إن العرافة حق، ولا بد للناس من العرفاء ولكن العرفاء في النار ". وهو حديث ضعيف.
* العرفاء: جمع عريف. وهو القيم بأمور القبيلة أو الجماعة من الناس يلي أمورهم ويتعرف الأمير منه أحوالهم.(9/4616)
الروس (1)، فذكروا أنه استحل حرمتهم، وهجم عليهم، ولم يراع حق الله فيهم، ولا حق جدهم، وأرسل عليهم رسله، وأعمل فيهم فكره وحيله.
وكانت هذه البلاد التي وصل هؤلاء المتظلمون منها قد جعل أمرها منوطًا بعالم كبير، ومحقق نحرير، هو سيدي العلامة شرف الدين بن إسماعيل بن محمد بن إسحاق (2)، - لا برح ملحوظًا بألطاف المهيمن الخلاق -، فأرسلت هؤلاء المظلومين إليه، لكونه مرجع أمر ذلك العريف الظالم إليه، وقلت: قد برئت الذمة بإعطاء القوس (3) باريها، وتنبيهه لهذه الملمة، فوصل إليه الرسول بأولئك المظلومين من أولاد الرسول، فكتب إلي كتابًا لا يناسب علمه الجم، ولا عرفانه العم، فأجبت تنبيهه على بعض ما في كتابه إلي من المخالفة لقانون الشريعة، المعلوم بالضرورة عند جميع المتشرعين.
فقال بعد أن ذكر في كتابه أن ذلك العريف كتب إليه هؤلاء المتظلمين جنوا على
_________
(1) بلاد الروس: ناحية إدارية واسم قبيلة، اشتهرت بهذا الاسم لأن جبالها تعتبر رؤوسًا لجبال خولان ويحدها شمالاً سنحان وجنوبًا جهران من آنس وشرقًا خولان وغربًا بني مطر والبستان ومياه بلاد الروس تسيل من وادي سهام وتقضي إلى تهامة ثم البحر الأحمر.
انظر: " مجموع بلدان اليمن وقبائلها " (2/ 372)، " معجم البلدان والقبائل اليمنية " (ص276).
(2) وهو شرف الدين بن إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن المهدي أحمد بن الحسن بن القاسم بن محمد. ولد سنة 1140هـ. وهو أحد علماء العصر وفضلائه. توفي سنة 1223هـ.
انظر: " البدر الطالع " رقم (194)، " نيل الوطر " (2/ 11).
(3) أعط القوس باريها: أي استعن على عملك بأهل المعرفة والحذق فيه، وينشد:
يا باري القوس بريًا لست تحسنها ... لا تفسدنها وأعط القوس باريها
" مجمع الأمثال " للميداني (2/ 345).(9/4617)
رجل دخل منزلهم ما لفظه: وقد علمتم أن القرائن القوية معمول بها فيما هو أعظم من ذلك.
أقول: نذكر هاهنا وجوها:
الأول: السؤال عن هذه القرائن القوية التي أوجبت ظلم هؤلاء المظلومين، ما هي؟
الثاني: ما المراد بالعمل بهذه القرائن في هذا؟. هل الحكم على هؤلاء المتظلمين بأنهم الذين جنوا على المدعي، وألزمهم تسليم أرش جنايته، أو المراد إلزامهم بشيء آخر؟ إن كان الأول فهو حق آدمي محض يتوقف على طلبه، ولا يصح الاحتساب فيه، فكيف يظلمون هؤلاء، ويروعون، وتهتك حرمتهم، ويرسل عليهم إلى منازلهم، ولم يدع عليهم غريمهم، ولا طلبهم إلى الظالم لهم!، فهل هذا من الشريعة؟ وهل يفعل هذا متشرع! وإن كان المراد الثاني وهو إلزامهم بشيء آخر فما هو؟ إن قلتم: هو التعزيز لهم بالحبس ونحوه مما لا مدخل فيه لأخذ شيء من أموالهم.
فنقول لكم: إن كان ذلك لأجل إقدامهم على المجني عليه فهو حق له يتوقف على طلبه، ويسقط بعفوه، فكيف أقدم العريف عليهم بتلك القوافر! والمجني عليه في بيته لم يأت إليه، ولا طلب منه إنصافه! ولا سأله الأخذ له من ظالمه! وإن كان المراد بالشيء الآخر هو أخذ بعض ما يملكه هؤلاء - أعني المتظلمين - ظلمًا وعدوانًا وقهرًا وجرأة على الله وعلى شريعته، ومصير ذلك المأخوذ إلى ذلك [2] العريف الظالم، وإلى من أعانه على الظلم، ينتفعون به في شهواتهم وملاذهم، ويدعون هؤلاء المظلومين يتلهفون ويستغيثون فلا يغاثون، فهل هذا من فعل المتشرعين؟ وهل هذا من هذه الشريعة المطهرة؟ ... كلا - والله - بل من الظلم البحت، والطاغوت المحقق، فيا عباد الله {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} (1).
_________
(1) [البقرة: 281].(9/4618)
الوجه الثالث: ذكرتم في أول كتابكم هذا: إن هذه القرينة التي قلتم عقبها أن القرائن القوية معمول بها هي أني لما أرسلت إليكم بالمظلومين أرسلتم للمجني عليه، فلما أرسلتم له عزموا بلادهم فقلتم: لو كانوا محقين لما عزموا، وجعلتم ذلك دليلاً على صحة الدعوى لكونه قرينة قوية.
فأقول: غريمهم الذي تظلموا منه، وشكوا من فعله هو العريف، لا المجني عليه، فكان عليكم أن ترسلوا له لكون الدعوى منهم عليه، أو تحولوا بينه وبينهم، فهو لم يقدم ويحجم، ولا صال ولا جال إلا لكونكم فوضتموه في تلك البلاد، وجعلتم إليه الإصدار والإيراد، فما بالكم عدلتم عن هذا! وأرسلتم لغير من يدعون عليه! وأردتم أن تفتحوا عليهم بابًا مرتجًا، وتحيوا لهم خصومة، وتستخرجوا لهم غريمًا يدعي عليهم! وأين هذا من الإنصاف! ومن فعل المتشرعين! فهذا المظلوم إن هرب من هذا لم يكن ملومًا عند الله، ولا عند الناس، لأنه قد تيقن عدم إنصافه، وعرف ما يراد منه، وأيس من أن يعدل به، ويذاق حلاوة الحق، لأنه فر إلى الشريعة المطهرة، وإلى من إليه ولاية أمره، يشكو هو وأهله بالعريف الظالم، ويذكرون أن رسل هذا الفاجر في بيتهم يهتكون حرمتهم، ويستحلون مالهم، فقيل لهم: سنبعث لكم غريمًا من العدم، ومدعيًا من لا شيء يدعي عليكم، وإن كره أنكم فعلتم وفعلتم فيكون ذلك مسوغًا لما فعله العريف بكم من التنكيل بمجرد الدعوى، ونقيم الحجة له عليكم وعلى الشريعة التي فررتم إليها، بمجرد وجود مدع يكرهه على الدعوى، فهل يلامون إن هربوا من مثل هذا؟ وهل الفرار إلا عين الصواب؟ لأن حالهم قد صار كما قال القائل (1):
_________
(1) يقال قائدًا من قواد أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف هرب إلى عمرو بن الليث، وهو يومئذ بخراسان فغم ذلك أحمد وأقلقه، فدخل عليه أبو نجدة لخيم بن ربيعة بن عوف من بني عجل، وكان شاعرًا فأنشده أبياتًا منها هذا البيت، فسر أحمد، وسرى عنه، وأجزل صلة أبي نجدة.
" الأغاني " (20/ 132).(9/4619)
والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار (1)
أو كما قال القائل:
فقلت من ذا الذي أرجوه لي فرجًا ... فقال أنا فرج زن لي كدى بيتي
[3]
أو كما حكى عن كليب أنه لما طعنه جساس، وصار يجود بنفسه وصل إليه بعض قرابة جساس فقال له: أغثني بشربة، فأغاثه بطعنة كان فيها موته، فقال القائل:
رمى ضرع ناب فاستغاث بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهم
فهل يقول من يعلم بل من يفهم أن فرار هذا المظلوم من الظلم قرينة قوية، تدل على جواز ظلمه! وعلى أن ذلك العريف الظالم محق في ظلمه، هو وأهله!.
الوجه الرابع: إنا لو فرضنا أن المجني عليه يدعي على هؤلاء المظلومين، وأنه قد أوقع الدعوى ثم خاطبهم العريف الجاهل بمجرد الدعوى، وظلمهم وهتك حرمتهم فأردتم استيضاح الحقيقة، واستفصال الأمر بالإرسال للمدعي، فرجع الشاكي بلاده بعد الشكوى عليكم، وإرسالهم من مقام الشرع إليكم، وأنه لا مقصد لكم إلا استيفاء الوجه الشرعي للمجني عليه، فهل قد قال قائل من أهل العلم أن مجرد رجوع الشاكي إلى بلاده قبل وصول المجني عليه الذي له دعوى عليه يقوم مقام المناط الشرعي، ويوجب الحكم على هؤلاء المظلومين للغريم الغائب، بمجرد أنهم رجعوا البلاد التي جاءوا منها، مع أنها بالقرب منكم بينها وبينكم دون يوم، وهل دل على مثل هذا دليل؟ وهل جاءت به شريعة من الشرائع؟ فإن هذا ليس بقرينة قوية، ولا ضعيفة، ولا يقول من يفهم أنه من هذا القبيل، لأن الذي رجع إلى بلاده لم يرجع لكونه غاية ما وقف عليه منكم الإرسال لمن يدعي عليه، على فرض أنه يدعي عليه وهو لم يصل إليكم لتطلبوا له من له
_________
(1) يضرب مثلاً للرجل يفر من الأمر إلى ما هو شر منه.
" جمهرة الأمثال " للعسكري (2/ 160 رقم 1445).
قولهم: كالمستغيث من الرمضاء بالنار.(9/4620)
عليه دعوى، بل وصل إليكم لتنقذوه من العريف الظالم، وتحولوا بينه وبينه، وقدم الوصول إلى باب الشرع فأرجعه القاضي إليكم، فلما لم يجد عند القاضي إلا إرجاعه إليكم، ولا وجد عندكم إلا طلاب غريم يدعي عليه، وأهملتم شكواه، وتركتم ظالمه يصنع به ما شاء رجع ولسان حاله يقول: لم يوجد الإنصاف عند شريعة، ولا عند دولة، فالعود أحمد [4] (1) ومظلمة أخف من مظلمتين.
والصبر على العريف اختيارًا أولى من الصبر عليه اضطرارًا.
ليست لمن ليست له حيلة ... موجودة أولى من الصبر
الوجه الخامس: لو سلمنا أن هاهنا قرائن قوية، وأن المدعي ببابكم يصرخ ويتظلم ويقول: أنقذني من غريمي، أو خذ لي منه أرشي، وقد صح لديكم الحكم على المدعى عليه بمجرد هذه القرائن، فأنتم أهل للاجتهاد والترجيح والحكم، ولكن كان عليكم أن تقولوا لمن قد صح عندكم أنه الجاني سلم للمجني عليه أرش (2) الجناية (3)، وهو كذا، أو أقده من نفسك، فقد صح لنا وجوب ذلك عليك بالقرائن القوية، ولكن المفروض أنه لم يقع من ذلك العريف إلا المطالبة لهم بنهب مالهم ظلمًا وعدوانًا، ليأخذه لنفسه، ولمن
_________
(1) قال في " اللسان " (9/ 458): والعود ثاني البدء قال:
بدأتم فأحسنتم فأثنيت جاهدًا ... فإن عدتم أثنيت، والعود أحمد
وأنشد مالك بن نويرة:
جزينا بني شيبان قدمًا بفعلهم ... وعدنا بمثل البدء، والعود أحمد
وانظر " جمهرة الأمثال " للعسكري (2/ 41 - 42).
(2) أرش: المشروع في الحكومات. وهو الذي يأخذه المشتري من البائع إذا اطلع على عيب في المبيع.
وأروش الجنايات والجراحات من ذلك، لأنها جابرة لها عما حصل فيها من النقص. وسمي أرشًا لأنه من أسباب النزاع، يقال أرشت بين القوم إذا أوقعت بينهم.
" النهاية " (1/ 39).
(3) الجناية: الذنب والجرم وما يفعله الإنسان مما يوجب عليه العذاب أو القصاص في الدنيا والآخرة.
" النهاية " (1/ 309).(9/4621)
على ظلمه، ولم يكن منه خطاب إلا بهذا لا بتسليم أرش جناية ولا قود، فإن كنتم تريدون أن العمل بتلك القرائن القوية على فرض وجودها مسوغ للحكم منكم للغريم على غريمه، على فرض صدور الدعوى منه، فالشكاة المظلومون لم يشكوا من هذا، ولا وصلوا إلينا ولا إليكم من أجله، بل وصلوا يتظلموا من العريف الذي أرسل رسله عليهم وأراد اجتياح أموالهم بعد استحلال أعراضهم، وهتك حرمتهم، فكان عليكم على فرض أن المدعي صار يطالبكم بالإنصاف له من الجاني عليه أن تنصفوه من الجاني عليه، وتنصفوا الجاني من غريمه الذي وصل شاكيًا من أجله، فظلامة الأعراض والأموال كظلامة الدماء، والعباد عباد الله حرم الظلم عليهم كما حرمه لهم.
الوجه السادس: ذكر بعض أهل العلم (1) أن القرائن القوية التي يجوز جعلها مناطًا مثل أن يوجد رجل مقتول بجناية تثعب دمًا طريًا، ورجل آخر قائم عليه في تلك الحال، وبيده السلاح الجارح الذي لا يمتنع أن تكون تلك الجناية منه ... وهو ملطخ بالدم الطري، والرجل مضطرب الحال، متشوش البال، تظهر عليه الريبة التي على من فعل هذا الفعل الشنيع، فهذا قد قال قائل من أهل العلم أنه يجوز العمل به، وخالفه جمهورهم وقال: إنما تكون هذه القرينة [5] موجبة للتثبت والاستفصال وأعمال السياسة الشرعية والتوقف عن المبادرة بالجزم بأن القول قول المنكر مع يمينه، وكلا القولين قد دلت عليه أدلة، وشهدت له شواهد من الشريعة، يطول المقام بإيرادها، وهي موجودة في مواطنها ولا حاجة لنا بإيرادها، لأنا لا ننكر عليكم العمل بالاجتهاد، وترجيح المرجوح عند الجمهور، وإنما نطلب منكم تقرير القرينة التي عملتم بها فيما نحن بصدده على وجه تكون كهذه الصورة التي لم يقل من قال بالعمل بالقرائن، إلا بما كان مثلها في تحصيل الظن للحاكم فهل دخل مولانا - كثر الله فوائده - عند وقوع الجناية إلى بيت هؤلاء المظلومين فوجدهم ووجد المجني عليه على هيئة تناسب تلك الهيئة، وصورة تلاقيها، فهو المقبول
_________
(1) انظر الرسالة رقم (145، 147).(9/4622)
المصدق، وذو العرفان المدقق المحقق.
الوجه السابع: إنا إذا رجعنا إلى الحقيقة، وتركنا نصب الحبائل الشيطانية لأخذ أموال العباد ظلمًا وعدوانًا وجدنا صفة الواقع أنه لا جاني ولا مجني عليه، ولا مدعي ولا مدعى عليه، ولا أثر جناية بمن يزعم العريف أنه المجني عليه، بل المراد تحصيل الحاصل، وأكل أموال الناس بالباطل، وقد وجب عليكم مكافأة الله - سبحانه - بما أنعم عليكم من نعمه التي من جملتها العلم والشرف، وعلو السن، ولا مكافأة أوجب وألزم وأحق من العدل، وترك الجور، والأخذ على يد الظالم، والحيلولة بينه وبين المظلوم، فإن مسالك أهل العلم إذا لم تتميز عن مسالك أهل الجهل كان العلم محنة لا منحة، ألستم ممن يتناوله قول الله - سبحانه -: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} (1) فأقل أحوال البيان الواجب عليكم أن يكون في الأمور التي تتعلق بكم، ولأهل الأعمال التي حلها وعقدها منوط بكم، ولا تكونوا كما قال الأول:
ويضمر قلبي غدرها فيعينها ... علي فما لي في الفؤاد نصيب
[6]
قال - عفاه الله - فقد عمل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، كما أخرجه الترمذي (2) وأبو داود (3) في قضية المرأة التي وقع عليها رجل في سواد الصبح، فاستغاثت برجل مر عليها وفر صاحبها، ثم مر عليها ذو عدد فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي استغاثت به، وأخذوه فجاءوا به إليها، فقال: أنا الذي أغثتك. وذهب الآخر فأتوا به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -:
_________
(1) [آل عمران: 187].
(2) في " السنن " رقم (1454) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح، وعلقمة بن وائل بن حجر سمع من أبيه وهو أكبر من عبد الجبار بن وائل، وعبد الجبار لم يسمع من أبيه.
(3) في " السنن " رقم (4379).
قلت: وأخرجه أحمد (3996) والبيهقي في " السنن الكبرى " (8/ 284 - 285) وهو حديث حسن. وقد تقدم مفصلاً.(9/4623)
" انطلقوا به فارجموه "، فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه فأنا الذي فعلت بها هذا الفعل، وأشكل الحديث، وطال خوض العلماء، وأجابوا بأن هذا الرجل لما أدرك وهو يشتد هربًا، وادعى أنه كان مغيثًا لا مريبًا، ولم ير أولئك الجماعة غيره كان هذا من أظهر الأدلة على أنه صاحبها، وكان الظن المستفاد لا يقصر عن الظن المستفاد من شهادة البينة، والأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينة والأقارير، وشواهد الأحوال، وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة لا تقدح في كونها طرقًا وأسبابًا للأحكام. والأطراف في هذا الباب متسعة
أقول: الجواب عن الاحتجاج بهذا ينحصر في وجوه:
الأول: الاستفسار له - عافاه الله - عن مقصوده بالاحتجاج بهذا الحديث، هل جواز الحكم على من قامت القرائن عنده أنه جنى على ذلك المجني عليه. أو جواز أخذ شيء من ماله ظلمًا، وهو المسمى بالأدب في اصطلاح الناس اليوم. إن كان مراده الأول فلا نمنعه أن يحكم على هؤلاء الأشراف المتظلمين بأنهم جنوا على ذلك المجني عليه. إن كان قد قامت له القرائن القوية بأن يكون حاضرًا للواقعة في بلاد الروس، ودخل المنزل، ووجد المجني عليه هنالك، ودمه يسيل طريًا، وأهل المنزل بيدهم السلاح الجارح، وعندهم من الريبة ما يفيد أن الفعل وقع منهم، فإذا كان قد قام عنده هذا، أو ما يقوم مقامه من القرائن فهو أهل للترجيح، وحقيق بالإيراد والإصدار للأحكام الشرعية ولكن أين هذه الأمور أو ما يقوم مقامها؟ فإن الواقعة المزعومة كانت في بلاد الروس، ومولانا - عافاه الله - في بير العزب، ولم نسمع بأنه شد الرحل إلى هنالك، بل لم يبلغه من القضية شيء إلا مجرد كتاب إليه فعله العريف الظالم [7] الذي وصل هؤلاء الأشراف يتظلمون منه، كما وصفه في كتابه الذي شرحناه بهذه الورقات، بل قدمنا أنه لا وجود للجناية، ولا للجاني ولا للمجني عليه، ولا للقضية من الأصل، ولا دعوى ولا مدعي ولا مدعى عليه، وليس في المقام إلا افتراء الكذب والزور والبهتان من ذلك العريف الجاهل، ليأكل أموال الناس بالباطل، فهذا الدليل على فرض أن الاستدلال به لقصد(9/4624)
الحكم للمجني عليه على الجاني لا ينطبق على محل النزاع، ولا يدل عليه بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، وإن كان المراد الاستدلال بهذا الدليل على جواز أخذ مال هؤلاء المساكين ظلمًا وعدوانًا، وهو محل النزاع، والذي نحن بصدده، فأين هذا من ذاك؟ وكيف يستدل بهذا الدليل على ذلك المدلول من ينسب إلى عقل، فضلاً عن من ينسب إلى فهم، فضلاً عن من ينسب إلى علم!.
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل (1)
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح
الوجه الثاني: هو - عافاه الله - قد اعتمد في هذا الاستدلال بهذا الحديث على ما تكلم به ابن القيم في الأعلام (2)، فإنه قال فيه ما نصه، فإن قيل: كيف أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - برجم المغيث من غير بينة ولا إقرار! قيل: هذا أدل الدلائل على اعتبار القرائن، والأخذ بشواهد الأحوال في التهم، وهو يشبه الحدود بالرائحة والقيء كما اتفق عليه الصحابة. وإقامة حد الزنا بالحبل كما نص عليه عمر، وذهب إليه فقهاء أهل المدينة وأحمد في ظاهر مذهبه، وكذلك أنه يقام الحد على المتهم إذا وجد المسروق عنده، فهذا الرجل لما أدرك وهو يشتد هربًا، وقالت المرأة: هو الرجل الذي فعل بي، وقد اعترف بأنه دنى منها وأتى إليها، وادعى أنه كان مغيثًا لا مريبًا، ولم ير أولئك الجماعة غيره، كان هذا من أظهر الأدلة على أنه صاحبها، وكان الظن المستفاد من ذلك لا يقصر عن الظن المستفاد من شهادة البينة، واحتمال الغلط، أو عداوة الشهود كاحتمال الغلط أو عداوة المرأة هنا، بل ظن عداوة المرأة في هذا الموضع
_________
(1) يضرب مثلاً للرجل يقصر في الأمر إيثارًا للراحة على المشقة والمثل لمالك بن زيد مناة بن تميم وقد كان آبل أهل زمانه، ثم إنه تزوج وبنى بامرأته، فأورد الإبل أخوه سعد ولم يحسن القيام عليها والرفق بها فأنشد مالك ...
" مجمع الأمثال " للميداني (1/ 148 - 149).
(2) " أعلام الموقعين " (3/ 9 - 10).(9/4625)
في غاية الاستبعاد، فنهاية [8] الأمر أن هذا لوث ظاهر لا يستبعد ثبوت الحد بمثله شرعًا كما تقبل القسامة باللوث الذي لعله دون هذا في كثير من المواضع، فهذا الحكم من أحسن الأحكام وأجراها على قواعد الشرع، والأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينة والأقارير وشواهد الأحوال، وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة أمر لا يقدح في كونها طرقًا وأسبابًا للأحكام.
والبينة لم تكن بذاتها موجبة للحد، وإنما ارتباط المدلول بدليله، فإن كان هناك دليل يقاومها أو أقوى منها لم يبلغه الشارع، وظهور الأمر بخلافة لا يقدح في كونها دليلاً كالبينة والإقرار انتهى كلامه (1).
ولا يخفى عليك أنه إنما قال: يعمل بالقرائن في ثبوت الحد في مثل هذا الأمر الذي ورد فيه بخصوصه هذا الدليل، ولم يجعل هذه القرائن وهذا الدليل مسوغًا لأخذ مال الرجل المتهم ولا مجوزًا له.
الوجه الثالث: في بيان دفع كلام ابن القيم هذا بما يظهر خلاف لراقم الأحرف. وإذا اندفع اندفع كلام غيره بالأولى، فلم يقرر دلالة هذا الدليل على العمل بالقرائن أحد من العلماء كتقريره، ولا طول هذا البحث من متقدميهم ولا متأخريهم كتطويله، فإنه كرره في مواضع من مؤلفاته، وقرره وطوله بما حاصله ما نقلناه عنه سابقًا، فنقول: لا يخفى عليك أن جعله لهذه الواقعة مشبهة لإقامة الحدود بالرائحة والقيء، مما لا يبقى فيه لا شك ولا ريبة أنه قد شرب الخمر، فكيف ينزل ما بتلك المنزلة، أو يلحق بتلك الواقعة والحال أن الرجل يقول: إنما أغثتها وينكر ما تدعيه، وهي تقر بأنه قد أغاثها رجل غير الذي فعل بها ما فعل، وتقر بأن ذلك الرجل الذي أغاثها قد فارقها كما فارقها الرجل الذي فعل بها ما فعل، وتقر بأنه موجود في الخارج، كما أن الرجل الذي باشرها موجود في الخارج، فكيف يدعي عاقل على العقل، أو على الشرع أنه يقتضي أن هذا
_________
(1) أي كلام ابن القيم في " أعلام الموقعين " (3/ 9 - 10).(9/4626)
هو الفاعل، كما يقتضي أن من تقيأ خمرًا تصاعدت من معدته [9]، واندفعت من فمه بمرأى ومسمع من الناس أنه شربها، وأين هذا من ذاك! فإن هذا يستحيل أن يحصل للعقل تجويز ذلك أن ذلك الشارب يشرب ماءً فاندفع بالقيء خمرًا، أو أنه دفعه من بين ثيابه لا من فمه، أو أن الذي دفعه غير خمر بخلاف قضية المرأة، فإن عقل كل عاقل يجوز أن الذي باشرها غير هذا، ولا ينكر هذا من يتعقل القضايا ولا سيما وهي تعترف بأنه قد أغاثها مغيث وفارقها تابعًا لمن باشرها، مريدًا للقبض عليه.
ولا شك أن اللاحق إذا كان يشتد بعد الملحوق فهو آخر الرجلين أقربهما إلى المرأة، فقضاء العقل بأن هذا الرجل الذي لحقه الجماعة ووجده أقرب إلى المرأة هو المغيث لها أقرب من قضائه بأنه الفاعل بها، وأعجب من هذا وأغرب دعوى ابن القيم أن هذه القرينة مساوية لقرينة الحبل، فيا سبحان الله إذا لم تبق لنا علوم ندرك بها المعلومات فقد بقيت لنا عقول وأفهام ليقال أن هذا الرجل الذي ادعت عليه المرأة ينزل منزلة امرأة وجدت حاملاً يتحرك الحمل في بطنها، ولا زوج لها، فهل ثمة احتمال عند العقل أن هذا الحمل وجد لا عن مني رجل دخل في فرج المرأة، وهذا يجوزه الشرع أم هذه المرأة كمريم - سلام الله عليها - بعث الله إليها ملكًا فنفخ في فرجها، كما يجوز العقل أن الذي باشر تلك المرأة هو غير الذي ادعت عليه.
فرحم الله ابن القيم، فلقد جاء في هذا البحث بما يضحك الثكلى، وليس العجب منه فالعالم قد يجري قلمه بالكلام الساقط للضعف البشري الذي هو ختم في رقاب العباد ولكن العجب من عالم يختار كلامه ويقلده في خطئه وسقطه، بل يستدل به على مدلول أجنبي بينه وبينه ما بين السماء والأرض، وأما دعواه أن الظن الحاصل بهذه القرينة [10] كالظن الحاصل بالشهادة والإقرار فهذا أغرب مما قبله، وأعجب، فإن كل عاقل بعلم الفرق بين قضية يقول فيها رجلان عدلان نشهد أن هذا فعل كذا، ونحن ننظر إليه، وبين أن يقول مدع ادعى على فلان كذا، وتنزل قرب ذلك المدعى عليه من المدعي، أو كونه مشاهدًا له أو ماشيًا في طريق تمر به ذهابًا وإيابًا، منزلة قول رجلين(9/4627)
عدلين أنه فعل كذا بمرأى ومسمع، أو منزلة قول المدعي عليه نفسه أنه الفاعل إقرارًا منه على نفسه، وتسجيلاً عليها بذلك، فهل يلتبس الفرق بين الصورتين على من يعلم بالمسالك العلمية، والمدارك الشرعية، بل على من يفهم، بل على من له عقل!، فلقد ادعى ابن القيم - رحمه الله - على العقل والشرع ما هما بريئان عنه، ثم لو فرضنا أن يحصل ظن بتلك القرينة التي جعلها دليلاً، فقد تقرر أن الله لم يتعبدنا بكل ظن يحصل من أي وجه، وبأي أسباب، ولو كان كذلك لم يكن لاعتبار المدارك التي اعتبرها الشارع أسبابًا للحكم فائدة، ولا كثير معنى.
وخلاصة القول: أن الله - سبحانه - نهانا في محكم كتابه عن اتباع الظن في آيات كريمة (1) كثيرة، وجاء سبحانه بصيغ عامة تشمل كل ما يصدق عليه مسمى الظن، فلا يجوز لنا أن نعمل بشيء من الظنون إلا ما خصه دليل. وقد خص الدليل جواز الحكم بشهادة العدلين، وإقرار المقر ويمين المنكر، كما خص جواز العمل بأخبار الآحاد، وما عدا ما لم يقم عليه دليل يخصه فهو مندرج تحت ذلك العموم لا يحل لنا أن نعمل به بدون مخصص، كائنًا ما كان، ولا سيما في مثل الأمور المستلزمة لإراقة الدماء، وهتك الحرم.
الوجه الرابع: إن قلت لي: أبن لي الوجه فيما صدر عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من الأمر برجم الرجل الذي ادعت عليه المرأة! قلت: قد تكلم أهل العلم في ذلك بكلام طويل، وجاءوا بتأويلات أكثرها متعسفة [11] والذي أرتضيه أنا وأجعله تأويلاً لما وقع في هذا الحديث هو أنه تقرر في الأصول (2) أنه يجوز عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الخطأ في الاجتهاد، لا فيما طريقة التبليغ. ولكنه لا يقر عليه، وهذا
_________
(1) منها قوله تعالى: {وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا} [يونس: 36].
وقوله تعالى: {إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12].
وقوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} [يونس: 66].
(2) انظر " إرشاد الفحول " (ص857)، " تيسير التحرير " (4/ 236).(9/4628)
منه، وهو مثل ما ثبت عنه في الرجل الذي كان يدخل على بعض نسائه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فأمر عليًا بأن يذهب إليه فيضرب عنقه، فذهب إليه فوجده يغتسل في ماء، فأخرجه من الماء فوجده مجبوبًا لا عضو له، فرجع فأخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بذلك فتركه على ما كان عليه (1)، فهذا من الخطأ في الاجتهاد، وهو جائز غير ممتنع.
ويمكن التأويل بوجه آخر هو دون هذا الظهور، وهو أنه كان ما أمر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - جائزًا ثم نسخ بأنه لا يجوز الحد إلا بالمناطات التي وردت وعمل بها الصحابة فمن بعدهم.
ويمكن التأويل بوجه ثالث هو دون الذي قبله، وهو أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - برجم الرجل المذكور إنما صدر منه لنوع من السياسة الشرعية التي جاءت بها الأدلة، والوجه في ذلك أن المباشر لتلك المرأة ربما يظهر نفسه، ويقر بذنبه مخافة أن يتحمل ذنب معصية الزنا، وذنب سفك دم الرجل البريء، ومثل هذا موجود في الطباع البشرية، مدرك عند المتدينين الواقعين في بعض المعاصي التي تلجأ إليها الطبيعة البشرية.
الوجه الخامس: نستفسره - عافاه الله - هل عمل بما ذكره ابن القيم من دلالة هذا الدليل على ذلك المدلول اجتهادًا أو تقليدًا؟ إن قال وافقه اجتهادًا كما هو الظن به والموافق لعلي مكانه فنقول له - عافاه الله -: انظر إلى ما حررناه هاهنا بعين الإنصاف، فإنك إذا أمعنت النظر الذي يوجبه الاجتهاد رجعت عن موافقته إلى مخالفته، وإن قال - عافاه الله -: إنما عمل بكلامه تقليدًا فلا حيلة لنا في هدايته إلى ما هو أولى بالاتباع [12] ... فإنه أقر على نفسه بأنه لا يتعقل الحجج الشرعية.
ونقول له - عافاه الله -: ما الذي ألجأك إلى هذا وقد أعطيت من علوم الاجتهاد ما
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (59/ 2771) والحاكم في " المستدرك " (4/ 39 - 40) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.(9/4629)
تتمكن به من الإصدار والإيراد! وكيف تنزل عن المنزلة التي أنزلك الله فيها، وأحلك بها إلى منزلة لا تجمل بمثلك، ولا تليق بكمالك! ثم مالك - عافاك الله - أبعدت النجعة وسافرت إلى تقليد ابن القيم، وقد كان لك في الأئمة من آبائك غنى يغنيك، ومأوى يؤويك، وكن يكنك، وعريش يظلك:
فدع عنك نهبًا صيح في حجراته ... وهات حديثًا ما حديث الرواجل
الوجه السادس: بالله عليك يا مولانا لا نشغل الورق، ونتكلف لتزييف كلام أهل العلم، ونتقحم على الاستدلال بما هو أجنبي، مما نحن بصدده ..
فأنت تعلم - كثر الله فوائدك - أن محل النزاع بيننا هو كون العريف الذي فوضته في بلاد الروس أرسل على هؤلاء الأشراف رسلاً، وطلب منهم أدبًا، أي حرامًا وسحتًا، فواصلوا يتظلمون إلى الشريعة المطهرة، فأرسلتهم إليكم لتنصفوهم من العريف الظالم، فهذا هو بيت القصيد، وهو محل النشيد، فلا نشغل أنفسنا بغيره، ولا ندخل في مداخل خارجة عن المراد، فالعلم أمانة، وأهله أمناء عليه، وحججه على خلقه، وورثة أنبيائه، والمترجمون له لعباده، والمبينون لهم ما نزل إليهم.
فما أحقهم بأن لا يخونوا هذه الأمانة، ويخيسوا في هذا الميثاق، ويخفروا ذمة الله، وذمة رسوله! فيوهمون الناس بأنهم استحلوا ما استحلوا، وانتهكوا لحجج لديهم، وبراهين يعرفونها. والشريعة بريئة عن ذلك، مصونة منه، بل لا فائدة ولا عائدة في هذه الأمور إلا تشفيع الذنب بذنب أشد منه، وتعقيب المعصية بمعصية أفظع منها، فإن دعوى أن الله حلل الحرام أشد [13] من الإقدام على ذلك الحرام.
وكل عارف يعلم أن ذنب من قال من أهل العلم أن الخمر حلال، أو الزنا، أو الربا حلال أشد من ذنب من شرب الخمر، أو عامل بالربا، أو زنى بامرأة. هذا لا يشك فيه أحد من المتشرعين، وقد دلت عليه الأدلة الكلية والجزئية دلالة كالشمس، فلا نطول بذكر ذلك، فهو من معلوماتكم.
قال - عافاه الله -: وذكرتم - أبقاكم الله - في جوابكم النفيس على الولد(9/4630)
العلامة علي بن عبد الله الجلال وجوهًا عديدة من جملتها عمله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالقرائن (1).
_________
(1) القرائن جمع قرينة: وهي الأمر الدال على الشيء من غير الاستعمال فيه بل الاستعمال فيه بمجرد المقارنة والمصاحبة أو هي أمر يشير إلى المقصود.
وقيل: القرينة مأخوذة من المقارنة فهي فعيلة بمعنى المفاعلة، والقرينة مؤنث القرين، ويقال قرنت الشيء بالشيء وصلته به، واقترن الشيء بغير صاحبه. وقارنته قرانًا صاحبته، والقرين الصاحب وهي قسمان حالية ومقالية.
فالحالية: مثل أن تقول للمسافر " في كنف الله " فإن في العبارة حذفًا ويدل على تجهزه المصاحب للسفر وهو القرينة الحالية.
والمقالية: أن تقول " رأيت أسدًا يخطب " فإن المراد بالأسد رجل شجاع، ويدل على ذلك لفظ " يخطب " فهو قرينة مقاليه، وقد يقال لفظية ومعنوية.
انظر " الصحاح " (6/ 2182)، " أساس البلاغة " (2/ 248).
القرائن اصطلاحًا: عرفها الفقهاء بمعنى الأمارة، وهي ما يلزم من العلم به الظن بوجود المدلول كالغيم بالنسبة إلى المطر فإنه يلزم من العلم به الظن بوجود المطر.
" التعريفات " للجرجاني (ص117).
وقال مصطفى الزرقا في " المدخل الفقهي العام " (2/ 914): القرينة: كل أمارة ظاهرة تقارن شيئًا خفيًا فتدل عليه وهي مأخوذة من المقارنة بمعنى المرافقة والمصاحبة.
من شروط القرينة:
1 - أن يوجد أمر ظاهر ومعروف وثابت ليكون أساسًا لاعتماد الاستدلال منه لوجود صفات وعلامات فيه، ولتوفر الأمارات عليه، فالوقائع المادية والتصرفات البشرية تتألف من أمور ظاهرة ثابتة، وتنطوي على أمور باطنة يستدل عليها بالأمارات المصاحبة لها.
2 - أن توجد الصلة بين الأمر الظاهر الثابت والقرينة التي أخذت منه في عملية الاستنباط والاستنتاج، وذلك باستخراج المعاني من النصوص والوقائع بالتأمل والتفكير الناشئ عن فرط الذهن وقوة القريحة وهذه الصلة بين القرينة وبين الأمر المصاحب لها تختلف من حالة إلى أخرى، ولكن يشترط أن تكون العلاقة قوية بينهما. وتقوم على أساس سليم ومنطق قويم، ولا تعتمد على مجرد الوهم والخيال أو الصلة الوهمية الضعيفة، لأن المهم أن يكون عند الإنسان علمًا في الدعوى يكاد يماثل العلم الحاصل من الشهود وغيرهم، وهذا يحصل بالتأكيد من قوة المصاحبة والمقارنة.
وبناء على قوة هذه الرابطة وضعفها تنقسم القرائن إلى قسمين: قرائن قوية وقرائن ضعيفة.
انظر: " المدخل الفقهي العام " (2/ 912)، " الأصول القضائية "، قراعة (ص275).
فالقرائن حسب قوتها وضعفها تنقسم إلى ثلاثة أنواع:
1 - أن تكون دليلاً قويًا مستقلاً لا يحتاج إلى دليل آخر، فهي بينة نهائية. ويطلق عليها القرينة القاطعة.
2 - أن تكون دليلاً مرجحًا لما معها، ومؤكدة ومقوية له، كالوصف الصحيح في تنازع المؤجر والمستأجر في كنز وسط الدار، فكلاهما صاحب يد.
3 - أن تكون دليلاً مرجوحًا فلا تقوى على الاستدلال بها، وهي مجرد احتمال وشك فلا يعول عليها في الإثبات، وتستبعد في مجال القضاء.
وتنقسم القرائن بحسب مصدر القرينة إلى ثلاثة أنواع:
أ - قرائن نصية ورد عليها نص من الكتاب أو السنة وجعلها الشارع أمارة على شيء معين مثل الدم قرينة على القتل في قصة يوسف: {وجاءوا على قميصه بدم كذب} [يوسف: 18].
ب - قرائن فقهية: فقد استخرج الفقهاء بعض القرائن، وجعلوها أدلة على أمور أخرى، وكذلك استنبط القضاة كثيرًا من هذه القرائن واستدلوا بها في الدعاوى وسجلوها في كتب الفقه والمؤلفات الخاصة. ويمكن ضمها إلى القرائن الشرعية السابقة.
ج - قرائن قضائية: وهي التي يستنبطها القضاة بحكم ممارسة القضاء ومعرفة الأحكام الشرعية التي تكون لديهم ملكة يستطيعون لها الاستدلال وإقامة القرائن في القضايا ومواضع الخلاف، ويلاحظون العلامات ويستخرجون الأمارات من ظروف كل دعوى عن طريق الفراسة والفطنة والذكاء ويصلون إلى معرفة الحق، وتمييز الطيب من الخبيث. ولكن يجب إحاطتها بالحيطة والحذر وعدم التعويل عليها إلا ضمن القواعد والضوابط المقبولة.
انظر: " تبصرة الحكام " (1/ 202)، " الطرق الحكمية " (ص97، 212): " أعلام الموقعين " (1/ 85).
وقد دل على اعتبار القرائن الكتاب والسنة أقوال السلف الصالح من فقهاء وقضاة.
1 - أدلة القرآن الكريم على اعتبار القرائن:
قال تعالى: {وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} [يوسف: 18].
قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (9/ 149) استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات والأخذ في مسائل الفقه كالقسامة وغيرها.
وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بما رآه من سلامة القميص وعدم تمزقه حتى روي أنه قال لهم: متى كان هذا الذئب حكيمًا يأكل يوسف ولا يخرق القميص.
وانظر: " الطرق الحكمية " لابن القيم (ص6).
2 - ومن السنة النبوية أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم بقول القافة، وجعل القيافة دليلاً من أدلة ثبوت النسب وليس هنا إلا مجرد الأمارات والعلامات، وقد أخذ الخلفاء الراشدون بهذا النهج، أي اعتبار القيافة من أدلة ثبوت النسب، وأخذ بها مالك وأحمد والشافعي وغيرهم والأخذ بالقيافة دليل على اعتبار القرائن.
انظر: " الطرق الحكمية " (ص10)، " أقضية الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " للشيخ محمد فرج المالكي (ص112) " تبصرة الحكام " (2/ 104).
3 - من أقضية الصحابة رضي الله عنهم:
حكم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - دون نكير من أحد بإقامة حد الزنا على امرأة ظهر حملها ولا زوج لها اعتمادًا على القرينة الظاهرة. وهذا ما ذهب إليه مالك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه.
كما حكم عمرو بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما بوجوب الحد برائحة الخمر من فم الرجل أو قيئه خمرًا اعتمادًا على القرينة الظاهرة، وهذا مذهب مالك وأصحابه.
" الطرق الحكمية " لابن القيم (ص6)، " تبصرة الحكام " (2/ 88 - 91).
* وقد أخذ الفقهاء بالقرائن واعتبروها وسيلة من وسائل الإثبات وطريقًا من طرق الحكم، فمنهم من صرح بالأخذ بها والتعويل عليها كما نجد ذلك في مذهب مالك، فمن ذلك قول الفقيه المالكي ابن فرحون في " تبصرته " (2/ 88 - 91) أن من طرق القضاء في المذهب المالكي الأخذ بالقرائن، وهذا من مذهب المالكية في التصريح بالأخذ بالقرائن مذهب الحنابلة. وكذلك ما نقله الفقيه ابن القيم الحنبلي وبينه في كتابه " الطرق الحكمية " (ص21).
إلا أن فريقًا من الفقهاء من المذاهب الأخرى لا يصرحون بالأخذ بالقرائن ولكن نجدهم في الواقع يرتبون أحكامًا على أساس اعتبارهم للقرائن. من ذلك قولهم بانعقاد البيع بالمعاطاة من غير لفظ اكتفاء بالقرائن والأمارات الدالة على الرضا.
وانظر: " تبصرة الحكام " (2/ 118).
وقد اعترض الحافظ في " الفتح " (3/ 160) على اعتبار القرينة بالحديث الشريف البينة على المدعي واليمين على من أنكر، فليس في الحديث غير البينة فهي التي يعول عليها ويؤخذ بها في القضاء. والجواب على ذلك أن القرينة الظاهرة تدخل في مفهوم البينة التي يبنى عليها الحكم، لأن البينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره. ولا تنحصر في الشهادة، بل كل ما كشف الحق فهو بينة.
وعلى هذا فالبينة قد تكون شهادة مقبولة أو نكولاً عن يمين وقد تكون قرينة أو شاهد الحال الذي هو من أنواع القرينة، فقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " أي على المدعي أن يقدم ما يبين ويكشف صحة دعواه ويظهرها، فإذا ظهر صدقه بقرينة من الطرق حكم له.
وعلى هذا فإن من قصر مفهوم البينة على الشهود لم يعرف ما ينطوي عليه اسم البينة من معنى، ومما يؤيد ذلك أن البينة لم تأت قط في القرآن الكريم مرادًا بها الشهود، وإنما أتت مرادًا بها الحجة والدليل والبرهان، وعلى هذا فإن الشهود من البينة والقرينة من البينة، وقد تكون في بعض المواضع أقوى دلالة على صدق المدعي في دعواه من دلالة الشاهدين عن ذلك.
" الطرق الحكمية " (ص21)، " تبصرة الحكام " (2/ 118).(9/4631)
أقول: لعله - أدام الله فوائده - يشير إلى ما ذكرته في ذلك الجواب في الوجه السابع والخمسين والثامن والخمسين بما حاصله أن الأحاديث الواردة في الشاهد واليمين المبينة أنها مناطان للحكم لا تنفي أن يكون غيرهما مناطًا، إذ لا حصر فيها، وعلى فرض وجود صيغة تفيد الحصر فيكون الدليل الذي سأل عنه السائل في ذلك السؤال مخصصًا للعموم، فهذا الكلام ليس فيه إلا التعرض لعدم انحصار المناطات الشرعية في الشهادة واليمين، وليس فيه التصريح بالعمل بالقرائن، فأين هذا من ذاك؟ ثم لو سلمنا أنه يشمل القرائن القوية وإن كنت لا أقول بذلك. ولا أريده، فأين هو مما نحن بصدده؟ فإن الذي نحن بصدده أمر آخر هو أن أولئك الضعفاء لجئوا إلينا وإليكم متظلمين من العريف الظالم الذي أراد اجتياح مالهم بعد هتك حرمتهم.
قال - عافاه الله -: وللعلامة ابن القيم الجوزية في ذلك كلام فقال فيمن اتهم بسرقة، أو قطع طريقًا، أو زنا، أو قتل: ما علمت أحدا من أئمة المسلمين [14](9/4634)
يقول: إن هذا المدعى عليه بهذه الدعاوى وما أشبهه، يحلف ويرسل بلا حبس ولا غيره، وليس في تحليفه وإرساله مذهب لأحد من الأئمة ولا غيرهم، ولو حلفنا كل واحد وأطلقناه، وخلينا سبيله، وقلنا: إنا لا نأخذه إلا بشاهدي عدل، كان مخالفًا للسياسة الشرعية، ومن ظن أن الشرع تحليفه وإرساله فقد غلط غلطًا فاحشًا.
أقول: هذا خارج عن محل النزاع بكل حال: فإن ابن القيم إنما أرشد في كلامه هذا إلى التثبيت والتأني، وعدم الجزم بظاهر الشرع في مثل الأمور العظيمة من دون إعمال للسياسة الشرعية، وهكذا نقول وبه نعمل، ولكن ليس في هذا أنه يحكم على ذلك الذي سرق أو قطع [الطريق] (1) أو قتل بغير الوجه الذي شرعه الله لعباده، ولا فيه أن يحكم على هؤلاء الأشراف الذين تظلموا إلينا وإليكم بهتك حرمتهم، وبقاء أعوان ذلك العريف الظالم في بيوتهم، وأخذ شطر من مالهم بلا مدع يدعي عليهم، ولا شاهد يقول إنه شاهدهم ولا، ولا، ولا.
وأيضًا فقد قال ابن القيم (2) - رحمه الله - بعد كلامه هذا الذي نقلتم عنه ما لفظه: ولأجل هذا الغلط تجرأ الولاة على مخالفة الشرع، وتوهموا أن السياسة الشرعية قاصرة عن سياسة الخلق ومصلحة الأمة، فتعدوا حدود الله، وخرجوا عن الشرع إلى أنواع الظلم. انتهى بحروفه.
فهذا كلامه، وهو حجة عليكم لا لكم، إذا أنصفتم، ومع هذا كله فاحتجاجكم - كثر الله فوائدكم - بكلام ابن القيم لو فرضنا أنه قد قال في كلامه - وصانه الله - أن ما فعله عريف بلاد الروس بالأشراف سائغ جائز.
لم يكن بصواب، فليس الحجة تقوم بكلام عالم، بل الحجة كلام الله، وكلام رسوله وإجماع الأمة عند القائل به، ولا سيما خطابكم هذا مع رجل قد خلع ربقة التقليد من
_________
(1) في المخطوط الظن والصواب ما أثبتناه.
(2) في " أعلام الموقعين " (3/ 9 - 10).(9/4635)
عنقه قبل اليوم بأكثر من عشرين سنة، فكيف أجريتم الكلام معه هذا المجرى! وسلكتم معه هذا المسلك! إن قلتم: إنما ذكرتم كلامه لكونه قد حكى الإجماع على ذلك، فنقول: لو فرضنا أن ما نقله من الإجماع له مدخل في محل النزاع، لم يكن استعمال ذلك مع المكتوب إليه مناسبًا، لأنكم تعلمون مذهبه ........................................... (1)
_________
(1) في المخطوط ما يقارب السطر غير واضح والله أعلم.(9/4636)
(149)
بحث في العمل بالخط ومعاني الحروف العلمية النقطية
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(9/4637)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في العمل بالخط ومعاني الحروف العلمية النقطية.
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أقسم بالعلم وعلم بالقلم فأظهر أفراد الأفكار العقلية.
4 - آخر الرسالة: " ... وهذه قضية مقررة محررة متفق عليها في جميع العلوم الشرعية عند جميع أهلها. قال في الأصل كتبه محمد الشوكاني غفر الله له انتهى.
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 8 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 22 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 11 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(9/4639)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أقسم بالعلم، وعلم بالقلم فأظهر أفراد الأفكار العقلية في صور النقوش الخطية، ومعاني الحروف العلمية النقطية، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد النبي الأمي القائل: «العلم أحد اللسانين»، وعلى آله بدور الدجى، وورثة الحكمة، المنزهين عن كل شين ومين، وعلى أصحابه نجوم الهداية، ومصابيح الرواية، والتابعين لهم بإحسان، فهم حماة الشريعة عن كل منكر ودين، فالمسؤول من مولانا شيخ الإسلام، ومحيي شريعة سيد الأنام، عالم الدين بالاتفاق، وناشر ألوية الدين في جميع الآفاق محمد بن علي الشوكاني - أمتع الله بحياته، وأدام إفاداته، وأعاد علينا من بركاته، ونفعنا بدعواته، وشملنا بمودته - وسلام على الله وتحياته ورحمته وبركاته، الإفادة بما يختاره ويرتضيه في العمل بالخط، وجوازه، فلا يخفى حصول الاختلاف، وميل كل من المفرعين إلى ما ظهر له، فهم بين مثبت للعمل به، وناف. ومنهم من أقام الدليل على مدعاه، ومنهم من جعل تجويز التحرير والتحريف علة المنع في مرماه.
وأما إمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري - رضي الله عنه - فأورد في صحيحه (1) ما يشفي الغليل، ويهدي إلى سواء السبيل، ولكن في بعض الروايات ما يدل على التقييد بالإشهاد، وفي بعضها الإطلاق، فالمطلوب من مولاي - متع الله بحياته - الإيضاح لما يختاره، فهو نقاد الشريعة الباهر، وبحرها الزاخر الذي عمت بركته الأوائل والأواخر - أطال الله تعالى للمسلمين في عمره -[ ... ] (2) سئل عنه وأنطق به، وأنظر إليه بجد ملء المسامع والأفواه والمقل، وهل يلزمه مثل ذلك فيما جرى به عادة كثير من الناس، بينما كبراء أهل البوادي، فإنه قد غلب عليهم الاكتفاء بخطوطهم في مثل إقرار أو وصية، وربما وقع التنازع في حياة الكاتب على نفسه أو بعد موته، وهو الأغلب، فهل يعمل بمجرد
_________
(1) انظر " فتح الباري " (13/ 140).
(2) كلمة غير مقروءة.(9/4643)
خطه، ويكتفي به، أو يكلف من هو في يده البينة على مدعى [ ... ] (1) [1أ] بيانات التجار فيما لهم وعليهم من المعاملات، فإنه يقول أحدهم عند التنازع: ليس لي بينة إلا بياني، فمع قبوله من خصمه لا شك في لزومه، والمفروض التناكر والتنازع، على أنه لا يخفى تعذر الإشهاد في كل ما جرت به المعاملة، بل قد يقع الاجترار عن اطلاع أحد، فهل يكون الظاهر مع صاحب البيان، ويكون القول قوله، أو يرجع إلى الأصل بأن على المنكر اليمين؟.
وكذلك لا يخفى على مولاي - متع الله بحياته - بأنه قد اشتهر عنه - حفظه الله - منع العمل بصور الشيم والأوراق والأحكام، وإطلاق المنع على ما تظهر صحته أو عدمها بحسبما يقتضيه المقام، فالمطلوب من حسناته - أحسن الله جزاءه، وضاعف ثوابه - إيضاح وجه المنع، وهل ذلكم المنع مطلقًا في كل صورة، سواء عرف عدالة الناقل أو مقيد الجهالة، أو ظهور عدم عدالته؟ فإنا نجد في بعض الصور ما يتوجه العمل به لعدالة الناقل، والجزم منه بصحة ما نقله، بل قد يكون من بعض رجال السند مثل سيدي العلامة أحمد بن عبد الرحمن الشامي (2)، ومثل سيدنا العلامة يحيى بن عبد الله (3) ومثل سيدنا الوالد العلامة إسماعيل بن يحيى الصديق (4) وغيرهم من أعيان العلماء ممن مارس
_________
(1) هنا كلمة غير مقروءة.
(2) ابن عز الدين بن الحسن الشامي. ولد سنة 1095هـ وكان من أكابر علماء صنعاء. قرأ في فنون العلم على مشايخها، فبرع في الآلات والفقه والحديث. توفي سنة 1172هـ.
" البدر الطالع " رقم (43)، " نشر العرف " (1/ 148 - 154).
(3) ابن الحسين ابن الإمام القاسم بن محمد الصنعاني، أخذ العلم بصنعاء عن جماعة من العلماء. وكان غالب اشتغاله بالطب. توفي سنة 1200هـ.
" البدر الطالع " رقم (583)، " نيل الوطر " (2/ 400).
(4) الصعدي ثم الذماري ثم الصنعاني ولد بعد سنة 1130هـ. فقرأ الفقه على الحسن بن أحمد الشبيبي، فبرع فيه، وصار محققًا للأزهار وشرحه. توفي سنة 1209هـ.
وله شرح على " مقدمة بيان " ابن المظفر.
شرع في شرح (المسائل المرتضاة) للإمام المتوكل على الله ولم يكمل ورسالة في البسملة.
" البدر الطالع " رقم (99)، " نيل الوطر " (1/ 306).(9/4644)
القضاء - شملهم الله برحمته ورضوانه، وأسكنهم فسيح جناته وحباهم بحر مغفرته - وكذلك مثل ساداتنا الأعلام الآخذين عنكم - جعلني الله منهم - فإنه قد يرد منهم ما يقتضي العمل، وهل يجري ذلك مجرى نقل العدول من المنصفين لكتب سيد المرسلين - صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أجمعين - مثل كتاب عمرو بن حزم (1) وغيره من كتبه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- للإقطاعات وآل الملوك (2) وغيرها (3)، فكثيرًا ما يؤتى فيه بلفظ وصورة ما كتبه، أو لفظه من كتبه مع أنا نشاهد من الضرر في عدم العمل والتضرر من المتمسكين ما يحرج به الصدر، وأوجب المذاكرة، فإن المتمسك بين خطرين [ .... ] (4) سيما في هذه الأزمنة التي المخافات فيها مستمرة، وأيدي العدوان فيها مشتهرة. فقد يبسط باسط على الأموال ومالكه نازح عن بلد المال [1ب]، فيحتاج إلى المشاجرة وإظهار مستند ملكه، فإن أرسل بالأصل ختم الضياع، وإن اتكل على الصورة حسم عدم العمل والاتباع، وكذلك الحاكم يبقى في محارة عظيمة، وورطة جسيمة إن بنى على العمل قال له الخصم: هذا غير نافذ عند مرجع الأحكام والحكام شيخ الإسلام، وإن بنى على المنع قبل معرفة لوجهه ولا وجه لمعرفته، وتم للغاصب مراده، وذهب مال المطالب، وحجته، وزاده على أن ليس للحكام طريقة إلا الاشتهار عن شيخ الإسلام - حفظه الله تعالى - بالمنع، وهو ممن يمنع التقليد ولا يرتضيه، ويجدل أهله وذويه، ومع
_________
(1) وهو حديث صحيح. انظر الرسالة رقم (1) (ص139).
(2) منها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4424) باب رقم (82، 83) كتاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى كسرى وقيصر.
(3) انظر " السيرة النبوية " (3/ 440).
(4) كلمة غير واضحة.(9/4645)
أن حاجة الناس إلى ذلكم ضرورية لما سبق أولاً، ولما صار عملهم سلفًا وخلفًا على التعامل بذلكم، ويجدون في صدورهم حرجًا عن عدم العمل بما هنالكم، وقد يؤدي إلى انتقاض ذلك الناقل العالم الفاضل، وتوهين أمره، والخروج في حقه بما لا ذنب له فيه، فمن حسناتكم الإيضاح بما يكون عليه العمل المرضي عند الحكم الحق - جل جلاله وعز شأنه - حرره السائل الحقير يحيى بن إسماعيل الصديق مصليًا ومسلمًا على النبي الكريم، وآله وصحبه، حامدًا شاكرًا لربه، باذلاً للدعوات في الخلوات والجلوات، مستمدًا من مولاي ذلكم - جزاه الله خيرًا - وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم آمين.(9/4646)
الجواب بخط مولانا شيخ الإسلام - متع الله بحياته -.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين، ورضي الله عن صحبه الأنجمين.
وبعد:
فإنه وصل سؤال ولدي قرة العين - كثر الله فوائده، ومد على طلاب العلم موائده - وليعلم أن الخط قد وردت الأدلة الصحيحة بقيام الحجة به، والعمل بما اشتمل عليه، فمن ذلك أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- كان يبعث بكتبه إلى ملوك الأقطار (1)، ثم ترتب على ذلك غزوهم والدعاء عليهم، ومنها أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- بكتب المصالحة بينه وبين قريش (2)، ومنها كتب الأمانات، ومنها كتب الإقطاعات (3)
_________
(1) كتب - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اثني عشر ملكًا، منهم كسرى ملك الفرس وقيصر ملك الروم.
" زاد المعاد " (1/ 30)، " أعلام الموقعين " (1/ 90).
(2) كتب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتبًا في الصلح والمعاهدات، أهمها صلح الحديبية وقد تم كتابه، وصلح دومة الجندل.
" الأموال لأبي عبيد " (ص381)، " زاد المعاد " (3/ 7).
(3) روى أبو عبيد في " الأموال " (ص388) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع تميمًا الداري أرضًا في الشام وفلسطين وكتب له كتابًا وهو: " هذا كتاب من محمد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى تميم الداري أن له قرية جيرون وبيت عينون ... ولعقبه من بعده لا يحاقه فيها أحد، ولا يلجهما عليه أحد بظلم، فمن ظلم واحدًا منهم شيئًا فإن عليه لعنة الله ".
وانظر: " فتح الباري " (5/ 37).
جيرون: باب دمشق وكانت سقيفة على عمد وحولها مدينة تحيط بها.
بيت عينون من قرى القدس وقيل هي الخليل.
قال أبو عبيد فلما استخلف عمر وظهر على الشام جاء تميم الداري بكتاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال عمر: أنا شاهد ذلك فأعطاه إياه.(9/4647)
ومنها كيف عقد الذمة والصلح، ومنها كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأخذ الصحابة - رضي الله عنهم - كثيرًا من الأحكام الشرعية منه.
وقد روى مسندًا ومرسلاً، فمن رواه مسندًا [2أ] أحمد (1)، والنسائي (2)، وأبو داود في كتاب المراسيل (3)، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وأبو يعلى الموصلي، ويعقوب ابن سفيان في مسانيدهم، ورواه الحسن بن سفيان النسوي، وعثمان بن سعيد الدارمي، وعبد الله بن عبد العزيز البغوي، وأبو زرعة الدمشقي، وأحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، وحامد بن محمد بن سعيد البلخي، والحافظ الطبراني (4)، وأبو حاتم ابن حيان البستي في صحيحه (5)، وجماعة غيرهم.
وأما المرسل فرواه النسائي (6)، وأبو داود (7)، والشافعي (8)، وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم. ومن ذلك حديث البخاري (9) ومسلم (10) وغيرهما (11) عن ابن عمر أنه
_________
(1) في " المسند " (2/ 217).
(2) في " السنن " (8/ 57 - 58).
(3) رقم (52) ورجاله ثقات.
(4) انظر " التلخيص " (4/ 34 - 35).
(5) في صحيحه رقم (6559).
(6) في " السنن " (8/ 57).
(7) في " المراسيل " رقم (257).
(8) في " الرسالة " (ص422).
انظر: " نصب الراية " (1/ 196 - 197)، " التلخيص " (4/ 34 - 35).
وهو حديث صحيح.
(9) في صحيحه رقم (2738).
(10) في صحيحه رقم (1627).
(11) كأحمد (2/ 57، 80) وأبو داود رقم (2862) والترمذي رقم (974) والنسائي (6/ 238) وابن ماجه رقم (2699).(9/4648)
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " ومنها أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- بكتابة القرآن؛ ومنها ما ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- أنه كتب كتابًا وختمه (1)، وأمر بسرية تعزم إلى حيث يريد، وأنهم لا يقرؤون الكتاب إلا حيث عينه لهم (2)، ويعلمون بما فيه، ومنها قول (3) أمير المؤمنين - رضي الله عنه - وقد سئل هل خصكم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بشيء؟ فقال: لا إلا ما في هذه الصحيفة، وفيها أحكام شرعية، ومنها قوله - عز وجل -: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} (4) وذلك يستلزم العمل بما فيها من الكتابة. ومن ذلك قوله - عز وجل: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} (5) فلو كانت الكتابة غير معمول بها، لم يأمر - عز وجل - عباده بالكتابة.
ومنها ما ثبت في الصحيح (6) من أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- بالكتابة لأبي شاه، وما ثبت في الصحيحين (7) من إذنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- لعبد الله بن
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (65) ومسلم رقم (2092) من حديث أنس بن مالك وقد تقدم (ص229).
(2) تقدم ذكره.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6915) من حديث أبي جحيفة وانظر تخريجه مفصلاً في الرسالة رقم (21 ص901).
(4) [آل عمران: 93].
(5) [البقرة: 282].
(6) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2434) ومسلم رقم (447/ 1355) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(7) ليس في الصحيحين.
بل أخرجه أحمد (2/ 162، 192) وأبو داود رقم (3646) والدارمي (1/ 125) والحاكم (1/ 105 - 106) وقال عقبة: " رواة هذا الحديث قد احتج بهم عن آخرهم غير الوليد هذا، وأظنه (الوليد بن أبي الوليد الشامي) فإنه (الوليد بن عبد الله) وقد غلبت على أبيه الكنية، فإن كان كذلك فقد احتج به مسلم " ووافقه الذهبي.
قال الألباني في الصحيحة (4/ 46) كلام الحاكم: " كذا قال، وإنما هو الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث مولى بني الدار حجازي وهو ثقة كما قال ابن معين وابن حبان ". وصححه الألباني في " صحيح الجامع " رقم (1196).(9/4649)
عمرو بالكتابة. ومن ذلك عمله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- بما جاء من كتب عماله كما رواه البيهقي (1) من حديث البراء بن عازب. ومن ذلك إجماع الصحابة على العمل بالخط، رواه أبو الحسين البصري في المعتمد (2)، والرازي (3)، ويعقوب بن سفيان الحافظ، وإسماعيل بن كثير الحافظ، والإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة. ومن الحاكين لإجماع الصحابة على العمل بالخط الرازي في المحصول (4). وأما من بعد الصحابة فيدل عليه إجماعهم الفعلي على الاحتجاج لذلك، والعمل به في معاملاتهم، وفي المصنفات في الفنون العلمية على اختلاف أنواعها، ومنها عملهم بالوجادة (5) التي صرح العلماء (6) بقبولها.
_________
(1) في " المدخل " (ص80).
(2) (2/ 628).
(3) في " المحصول " (4/ 451) وانظر " أعلام الموقعين " (2/ 1888).
(4) في " المحصول " (4/ 451) وانظر " أعلام الموقعين " (2/ 1888).
(5) الوجادة: فإن مادة " وجد " متحدة الماضي والمضارع مختلفة المصادر بحسب اختلاف المعاني، فيقال في الغضب، موجدة. وفي المطلوب وجودًا، وفي الضالة وجدانًا بكسر الواو، وفي الحب وجدًا بالفتح، وفي المال وجدانًا، بالضم، وفي الغنى جدة بالكسر وتخفيف الدال المفتوحة وإجدانًا بكسر الهمزة.
" القاموس المحيط " (ص413 - 414).
أما في اصطلاح المحدثين: وهي وجدان الراوي شيئًا من الأحاديث مكتوبًا (بخط الشيخ) الذي يعرفه، ويثق بأنه خطه، حيًا كان الكاتب، أو ميتًا على الصحيح.
انظر: " تدريب الراوي " (2/ 58)، " مقدمة ابن الصلاح " (ص86).
(6) انظر " الكوكب المنير " (2/ 527 - 528)، " نهاية السول " (2/ 322).(9/4650)
إذا عرفت هذا فاعلم [2ب] أن هذه الكتابة التي وردت في الكتاب والسنة، وأجمع عليها المسلمون هي الكتابة الصحيحة التي لا يدخلها احتمال بتغيير، ولا تبديل، ولا زيادة، ولا نقصان، كما هو معلوم أن ما كان عرضة لذلك لا ينتفع به ولا يرتفع عند النزاع، ولا ينقطع به الخلاف.
وقد أجمع العلماء أجمع على أن ما احتمل ذلك لا يحتج به على خصم، ولا يستند إليه حكم، ولو كان من كتب الله المنزلة على أنبيائه إذا احتمل التغيير، أو التبديل، أو الزيادة، أو النقص لم يجر العمل به. وإذا دخل الاحتمال في النقض لم يجر العمل بالباقي، لأن التجويز كائن وقد كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- يكتب كتبه، ويختمها بخاتمه مع رسوله المعروف، فيعلم ذلك القريب والبعيد، ولا يشكون فيه، وكانوا عربًا لم يكن عندهم هذه المراوغات الحادثة بعد اختلاط طوائف العالم، والتحيلات بكل ممكن، والحرص على تنفيق ما يوافق الغرض وإن كان باطلاً، ثم كذلك ما كان يجري في أيام الصحابة من الكتابات هو على وجه لا يتطرق إليه احتمال، ولا تغيير، ولا تبديل، بل ما اشتملت عليه الكتابة هو معروف بينهم لا ينكرونه، وهكذا الكتب العلمية التي يأخذها الناس بالوجادة، فإنه لا بد أن يكون كاتبها ومن قرئت عليه، ومن قرأها معروفين لا يتطرق إلى خطوطهم ظن التزوير والتغيير.
ثم هكذا ما أجمع عليه الصحابة ومن بعدهم، فإنه الخط الصحيح المعروف الذي لا يحتمل تبديلاً ولا تغييرًا. وأما ما كان كذلك، فلو قيل بقبوله لأكل الناس أموال بعضهم البعض بهذه الوسيلة المكذوبة، والذريعة الباطلة. ومن القسم المعمول به خطوط العلماء المعروفين، والحكام المشهورين إذا كانت تلك الخطوط معروفة، ولا شك ولا ريب أن خطوط أكابر العلماء والحكام يعرفها من جاء بعدهم، ولو بعد مئين من السنين، فما كان سبيله هذا السبيل فهو من المعمول به لقيامه مقام الرواية، والمراد أنه يسوغ للمطلع عليه أن يقول هذا خط فلان.
ويلزم بما يشتمل عليه من حكاية المعاملات والمداينات، إلا أن يعارضه ما هو أقوى(9/4651)
منه، وذلك لا يخالف كونه خط فلان، بل يخالف استصحاب [3ا] كونه باقيًا على ثبوت ما فيه، وذلك مثل أن تجد بخط حاكم معروف أن فلانًا أقر بأن عنده لفلان ألف دينار، ثم تجد بخط من بعده من الحكام المعروفين أن فلانًا الذي عليه الألف دينار قد قضاها وبرئت ذمته منها فلا شك أن العمل على الخط المتأخر، ولا يكون ذلك قادحًا في كون الخط الأول خط فلان، بل هو خطه، لكنه وجد الناقل عنه والرافع لما فيه، وهكذا إذا تطاول الزمن، وكان أحد الخصمين ثابت اليد على ما يحكى في رقم من الحكام المعروفة خطوطهم أنه لفلان، وكانت الأرض يد الشريعة فيها قاهرة، فإن استصحاب كونها لثابت اليد أقوى من استصحاب كونها لصاحب الرقم بطول المدة، لا سيما مع انقراض المكتوب له، والمكتوب عليه، والكاتب.
وليس هذا من ترك العمل بالخط، بل من العمل بما هو أرجح منه، مع تسليم كونه خط فلان. وقد تقع المعارضة بين خطين معروفين لمرجح آخر وهو أن يكون الكاتب أحدهما متثبتًا متحريًا متحفظًا من قبول التغرير والتدليس، والآخر ليس بهذه الصفة أو بعضها، فإنه هاهنا كان العمل بالترجيح القوي المعلوم عقلاً ونقلاً وعادة.
وعلى المتعاملين أن يمتثلوا ما أمر الله - عز وجل - به من أن يكتب بينهم كاتب بالعدل، وبالإشهاد على التبايع، فإنه إذا وقع العمل على ما شرعه الله - سبحانه - لعباده ارتفعت أسباب الخصومات، وانقطعت دوافع التغريرات.
وأما ما يجري به العرف في خص الأمكنة فإن خط صاحب المال من التجارة وغيرها مقبول على من يقابله، فإن هذا بالجهل أشبه منه بالعلم؛ لأنه قبول لدعوى مجردة إلا إذا كان من عليه الحق يوافق من له الحق بأنه لا يكتب إلا حقًا كان المستند لثبوت ذلك هو هذا الإقرار، لا مجرد الكتابة.
وينبغي أن يتنبه هاهنا لدقيقة قد تخفى على كثير من الناس، وهي أن فرقًا ظاهرًا أو واضحًا بين ما يرقمه الحكام المعرفون بخطوطهم المعروفة على طريقة الحكم وعلى طريقة الإقرار، فإن ما كان على طريقة الحكم جزمًا كان قبوله متحتمًا، لأنه لا يجزم بذلك مع كونه موثوقًا بدينه وعلمه إلا بمستند ظاهر [3ب](9/4652)
واضح، وأما ما يرقمونه على طريقة حكاية الإقرار، أو للفظ شهادة شهدوا لديه أو نحو ذلك من دون جزم منه بذلك فإن هذا ليس من باب الحكم، بل من باب الرواية، فهو قد روى مثلاً صدور الإقرار لديه، أو قيام البينة عنده؛ لكون خطه معروفًا لا يشك فيه، ولكن إذا تبين خلل ذلك الإقرار بوجه من الوجوه المعتبرة فيه، أو خلل الشهادة بأمر يوجب القدح فيها كان العمل بذلك واجبًا.
وحاصل الأمر أنه لا شك أن العمل بالخط على الوجه المعتبر شريعة قائمة (1)، وسنة
_________
(1) اتفق الفقهاء والمحدثون على جواز الاعتماد على الخط والكتابة في نقل الحديث والروايات التي حفظها الراوي عنده للتحديث منها والنقل عنها، وفي تدوين الأحكام الشرعية والقواعد الفقهية، وتدوين الحديث، ولو لم يعتمد على ذلك لضاع الإسلام بضياع السنة الصحيحة والأحكام الفقهية التي نقلت لنا خلفًا عن سلف بطريق الكتابة، ولو لم تكن الكتابة مقبولة عند الفقهاء، وحجة في النقل لما عولوا عليها في تدوين الكتب والمؤلفات.
الكتابة هي الوسيلة التي حفظ الله بها الشريعة، وقد أمر الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتابة الوحي واتخذ كتابًا للوحي بلغ عددهم أربعين كاتبًا
* ثم اختلف الفقهاء في مشروعية الكتابة باعتبارها وسيلة من وسائل الإثبات بشكل عام وكامل.
(أ): القول الأول: أن الكتابة وسيلة من وسائل الإثبات ليست مشروعة ذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء ورواية عن أحمد.
" تبصرة الحكام " (1/ 356).
ومن أدلتهم على ذلك:
1 - ): أن الخطوط تتشابه ويصعب تمييزها، وقد يخيل للشخص أن الخطين متشابهان وأن صاحبهما واحد.
فالخط أو الكتابة يحتمل التزوير والافتعال فلا تكون حجة ودليلاً في الإثبات؛ لأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
ويعترض على ذلك بأن التشابه نادر فلا يبنى عليه الحكم، وإن تشابه الخط كتشابه الأصوات والصور، وإن كشف التزوير ممكن لأهل الخبرة والفطنة والاختصاص، الذين يعرفون الخطوط ويميزون الأصلي من المقلد وخط كل كاتب يتميز عن خط غيره، كتمييز صورته وصوته.
" الطرق الحكمية " (ص207).
2 - ): الكتابة قد تكون للتجربة واللعب والتسلية فلا تعتبر حجة ودليلاً للآخر لعدم القصد وتوجيه الإرادة نحوها والقاعدة الفقهية تقول العبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني.
* وهذا دليل مستغرب ومستبعد أن يجرب الإنسان خطه. أو يمارس اللعب والتسلية بكتابة الحقوق وإثبات الديون للآخرين، وهو احتمال هزيل. والقاعدة التي ذكرت حجة عليهم لا لهم.
3 - ): تنحصر في الإقرار والبينة والنكول، وأن الكتابة ليست من أدلة الإثبات. والكتابة زيادة على النص والزيادة على النص نسخ عند الحنفية، أو هو اعتبار لما ليس من الدين فهو حدث وبدعة، ويعترض على ذلك بأن الكتابة وسيلة لإبلاغ الشريعة إلى الملوك والرؤساء، وقد أمر القرآن بالكتابة والتوثيق بها. وعمل بها الرسول الأعظم وأمر صحابته بتعلم الكتابة من أسرى بدر واتخذ الكتاب لكتابة الوحي وكتابة الرسائل والأحكام إلى عماله وأمرائه وولاته.
وقبلها المسلمون واستعملوها في حياتهم دون إنكار، سواء ذلك في رواية الحديث وتلقي العلم وكتابة الأحكام الشرعية وفي المعاملات والقضاء وجميع شؤون الدولة.
القول الثاني: أن الكتابة باعتبارها وسيلة من وسائل الإثبات مشروعة ذهب إلى ذلك المالكية وأحمد في رواية بعض السلف.
" تبصرة الحكام " (1/ 356)، " الطرق الحكمية " (ص207).
ومن أدلتهم على ذلك:
من الكتاب: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} وقال سبحانه: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب} [البقرة: 282].
* وسواء كان الأمر للفرض أو الندب، فالآية تقرر اعتبار الكتابة وثيقة في المعاملات، وفائدة ذلك الاعتماد على تلك الوثيقة عند الإنكار والجحود. والاحتجاج بها أمام القاضي.
من السنة: تقدم من حديث أبي هريرة وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اكتبوا لأبي شاه ".
وانظر: " زاد المعاد " (3/ 7)، " الأموال لأبي عبيد " (ص381)، " فتح الباري " (13/ 141).
من المعقول: أن الكتابة كالخطاب والكتابة أشد دلالة على جزم الإرادة؛ لأن الإنسان قد يتلفظ سهوًا، وينطق خطأ، وقد يسبقه لسانه وقد يتكلم مزحًا وهزلاً، أما الكتابة، فإن العقل والفكر متجهان نحوها اتجاهًا جازمًا ويتأمل بما يكتبه، ويفكر في دلالته ومعناه ومقصوده، ولذلك قال الحنفية والمالكية: إن الكتابة المستبينة المعنوية صريحة الدلالة، خلافًا للشافعية، فقالوا إن الكتابة كناية، وقد قال الحنابلة: الكتابة صريحة إلا في النكاح والطلاق.
" المجموع " (9/ 177). " الطرق الحكمية " (ص207).
الراجح والله أعلم:
القول بمشروعية الكتابة في إثبات الحقوق لقوة الأدلة، ولحاجة الناس إلى استعمالها واللجوء إليها؛ ولأن القول بعدم حجية الكتابة في الإثبات يؤدي إلى الحرج والمشقة في المعاملات بين الناس فتتعطل مصالحهم وتضيع حقوقهم وأموالهم لعدم تيسير الشهود دائمًا
وقال ابن تيمية: والعمل بالخط مذهب قوي بل هو قول جمهور السلف.
" مختصر الفتاوى المصرية " لابن تيمية (ص601، 608)، " الطرق الحكمية " (ص10).
قال ابن حجر في " الفتح " (13/ 1441) تعليقًا على قول البخاري في باب رقم (15) الشهادة على الخط المختوم، وما يجوز من ذلك، وما يضيق عليه وكتاب الحاكم إلى عماله، والقاضي إلى القاضي.
يريد أن يقول بذلك لا يكون على التعميم إثباتًا ونفيًا، بل لا يمنع ذلك مطلقًا فتضيع الحقوق، ولا يعمل بذلك مطلقًا فلا يؤمن فيه التزوير فيكون جائزًا بشروط.
وانظر: " تبصرة الحكام " (2/ 11).(9/4653)
متبعة، وإجماع صحيح. ولكن هذا الخط هو الخط الذي تقوم به الحجة عند الترافع والتخاصم، أو عند الاختلاف في الرواية، ولا تقوم الحجة بالإجماع إلا بخط معروف من ثقة معروف لا يتطرق إليه وهم، ولا يعتريه احتمال زيادة، أو نقصان، أو تحريف، أو تغيير، أو تبديل.
أما إذا كان هكذا، فلا تقوم به حجة قط. ولا يقول قائل بأنه يتوجه العمل به، فإن الإقرار الذي هو أقوى الحجج الشرعية إذا تطرق إليه احتمال كذب المقر يعرض له، أو لإكراه واقع عليه، أو لتغرير وتلبيس وقع فيه فليس بحجة بالإجماع، ولا يثبت له حق.
وهكذا الشهادة التي هي حجة بعد حجية الإقرار إذا ظهر فيها وجه قادح بوجه من الوجوه المعتبرة لم يكن، فمن عمل بمثل هذا الإقرار أو البينة فهو عمل بباطل من القول، وزور من الكلام. ومثله مثل من يعامل الوصية المخالفة للشريعة، أو النذر المشتمل على(9/4655)
ما لا يأذن به الله معاملة الوصية الشرعية، والنذر الحقيقي، وهو في معاملته هذا شبيه بمن يسمي الخمر ماء يشربه، أو يسمي الحرام حلالاً ثم يأكله، والكلام في هذا يطول.
وأما ما سأل عنه - كثر الله فوائده - من الصور التي يرقمونها على أصل، ويجعلونه في الاحتجاج به بمثابة الأصل فلا شك ولا ريب أنه إذا كان بخط ثقة معروف الحال، مثبتًا فيما يكتبه، متحريًا فيما ينقله، فهو مقبول. لكن إذا تطرق الاحتمال بوجه [4أ] من الوجوه ثم يحل العمل به على ما قدمناه في الحجج القوية إذا تطرق إليها الاحتمال، وقد وقفنا من هذا على عجائب وغرائب يقع في الأصل زيادات دقيقة معماة بوجه من وجوه التعمية تتفق على كثير فيمن لم يكن متثبتًا، وقد يكون الكاتب رقيق الدين فيواطئه من أراد نقل تلك الصورة على جعل فيكتب ويتعامى عن التغيير والزيادة والنقصان، ويكتب أن ذلك الفرع كالأصل بلا زيادة ولا نقصان، ثم يذهب إلى الثقة من القضاة والعلماء فيجعلون على ذلك خطوطهم، ويحتج على خصمه بهم، وهم لم يطلعوا على الأصل، بل قد لا يمرون نظرهم على الصورة، فمن هذه الحيثية لم أقتنع عند التخاصم بمجرد الصورة، بل أطلب الأصل الذي تغلب عليه تلك الصورة، فإن امتنع إحضار الأصل، فذلك لعلة تنكشف بإحضار الأصل، وكذلك إذا ادعى أن الأصل قد ضاع عليه فهو لعله هذا في الغالب، ولا شك عندي أن فعل المثبت الثقة ظاهره الصحة، ولكن مع الاحتمال لا يحل أن يجعل الصورة مستندًا حتى يظهر أصلها، أو يرجع الحاكم إلى القرائن التي يستفاد منها الصحة، أو ما يقاربها؛ ليكون الحاكم على بصيرة يبرئ بها ذمته، ويسلم من الخطاب. ولا شك أن التثبت مع الاحتمال واجب على الحاكم.
أما ما يطلب الأصل أو بالنظر إلى ما يدل على مستند الحكم وإلا كان جازمًا في محل الاحتمال، وذلك خطأ بين بالاتفاق بين أهل العلم في كل ما يتطرق إليه الاحتمال، وهذه قضية مقررة محررة متفق عليها في جميع العلوم الشرعية عند جميع أهلها. قال في الأصل: كتبه: محمد الشوكاني - غفر الله له - انتهى [4ب].(9/4656)
(150) 5/ 5
رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(9/4657)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين.
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الطاهرين وصحبه الأكرمين. أعلم أن كثيرًا من القاصرين.
4 - آخر الرسالة: فلما سمع ذلك الملك خلى سبيله، ولم يكن له عليه سبيل، وفي هذا المقدار كفاية.
والحمد لله أولاً وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 17 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 29 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(9/4659)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الأكرمين.
[السعي في طلب الرزق]
أعلم أن كثيرًا من القاصرين يعتقد أن من طلب ما يقوم بما يغنيه ومن يعول، ودخل في الأسباب التي يتحصل منها ذلك، خارج عن طريقة الصالحين مخالف لهدي المرسلين، مباين لمسلم الزاهدين، وهذا وهم عظيم، وجهل كبير، فإنه قد طلب ذلك سيد الأنبياء- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وسأل ربه الغنى كما في الصحيحين (1) وغيرهما (2) أنه كان يقول: " اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف والغنى ".
والأحاديث في هذا كثيرة جدًا. وامتن الله سبحانه عليه بالغنى فقال: {ووجدك عائلا فأغنى} (3).
_________
(1) بل أخرجه مسلم رقم (72/ 2721) ولم يخرجه البخاري في صحيحه بل أخرجه في " الأدب المفرد " رقم (674).
(2) كأحمد (1/ 411، 416، 437) وابن حبان في صحيحه رقم (900) والترمذي رقم (3489) وابن ماجه رقم (3832) من طرق. من حديث ابن مسعود.
وهو حديث صحيح.
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (17/ 41): أما العفاف فهو التنزه عما لا يباح والكف عنه، والغنى هنا غنى النفس والاستغناء عن الناس وعما في أيديهم.
(3) [الضحى: 8].
قال ابن كثير في تفسيره (8/ 427): أي كنت فقيرًا ذا عيال، فأغناك الله عمن سواه، فجمع له بين مقامي، الفقير الصابر والغني الشاكر، صلوات الله وسلامه عليه.
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (6446) ومسلم رقم (1051) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس ".
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (1054) من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه ".(9/4663)
وثبت في الصحيحين (1) وغيرهما (2) أنه دعا لخادمه أنس بالغنى، وثبت في الصحيحين (3) أنه قال: " اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع ". وقال: " حبب إلي الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة " وهو حديث صحيح (4).
وثبت في الصحيح (5) أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -قال لعمر - رضي الله عنه -: " ما جاءك من هذا المال وأنت غير مسرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك ". وثبت في أحاديث صحيحة النهي عن المسألة (6) إلا للسلطان، ومن ذلك ما حكاه الله سبحانه عن
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6378، 6379) ومسلم رقم (141/ 2480).
(2) كأحمد (3/ 194) والترمذي رقم (3829).
من حديث أنس عن أم سليم أنها قالت: يا رسول الله خادمك أنس. ادع الله له، فقال: " اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته ".
(3) لم أجده في الصحيحين.
أخرجه أبو داود رقم (1547) والنسائي (8/ 263) وابن ماجه رقم (3354) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة ".
وهو حديث حسن.
(4) أخرجه النسائي في " السنن " (7/ 61 - 62 رقم 3949) بإسناد حسن من حديث أنس مرفوعًا قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حبب إلي النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة ".
وأخرجه النسائي رقم (3950) من حديث أنس أيضًا.
وهو حديث صحيح.
(5) أخرجه البخاري رقم (7164) ومسلم رقم (1045) من حديث عبد الله بن عمر.
(6) منها ما أخرجه أبو داود رقم (1639) والنسائي رقم (5/ 100) والترمذي رقم (681) وابن حبان في صحيحه رقم (3388) من حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إنما المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك إلا أن يسأل ذا سلطان أو في أمر لا يجد منه بدًا ". وهو حديث صحيح.(9/4664)
موسى عليه السلام أنه قال: {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} (1)، وما حكاه الله سبحانه أن يوسف عليه السلام قال لعزيز مصر: {اجعلني على خزائن الأرض} (2)، وقال أيوب عليه السلام لما رأى جرادًا من ذهب تسقط عنده، فجعل يلتقطها، فقال الله عز وجل له: " ألم أغنك عن هذا؟ فقال: بلى، ولكن لا غنى لي عن بركتك " كما في الحديث الثابت في الصحيح (3)، وقال عيسى عليه السلام فيما حكاه الله عنه: {وارزقنا وأنت خير .......................................
_________
(1) [القصص: 24].
قال ابن كثير في تفسيره (6/ 227): قال ابن عباس: سار موسى من مصر إلى مدين، ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافيًا فما وصل مدين حتى سقطت نعل قدمه. وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه، وإن بطنه لاصق بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه وإنه لمحتاج إلى شق تمرة.
(2) [يوسف: 55].
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3391) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
قال ابن حجر في " الفتح (6/ 421) في شرحه للحديث: اعلم لم يثبت عند البخاري في قصة أيوب شيء، فاكتفى بهذا الحديث الذي على شرطه.
وأصح ما ورد في قصته ما أخرجه ابن أبي حاتم - في تفسيره رقم 13697 - وابن جريج وصححه ابن حبان في صحيحه رقم (2899) - والحاكم في " المستدرك " (5/ 581 - 582).
من طريق نافع بن يزيد عن عقيل عن الزهري عن أنس: " أن أيوب عليه السلام ابتلي فلبث في بلائه ثلاث عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه فكانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما للآخر: لقد أذنب أيوب ذنبًا عظيمًا وإلا لكشف عنه هذا البلاء، فذكره الآخر لأيوب، يعني فحزن ودعا الله حينئذ فخرج لحاجته وأمسكت امرأته بيده، فلما فرغ أبطأت عليه، فأوحى الله إليه أن اركض برجلك، فضرب برجله الأرض فنبعت عين فاغتسل منها فرجع صحيحًا، فجاءت امرأته فلم تعرفه، فسألته عن أيوب فقال: إني أنا هو؛ وكان له اندران: أحدهما للقمح، والآخر للشعير، فبعث الله له سحابة فأفرغت في أندر القمح الذهب حتى فاض وفي أندر الشعير الفضة حتى فاض ".
وانظر: " فتح الباري " (6/ 421).(9/4665)
الرازقين} (1)
ومن ذلك سؤال حسنة الدنيا، كما في قوله عز وجل: {ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب} (2)، وقوله عز وجل: {وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب} (3)، وقوله: {وارزقنا وأنت خير الرازقين} (4).
والحاصل أن طلب الرزق كان من غالب العباد والأنبياء والعلماء والزاهدين، بل لو قال قائل: إنهم كلهم طالبون رزق الله عز وجل، لم يكن بعيدًا، فإنهم سائلون من الله عز وجل نزول الأمطار، وصلاح الثمار، والبركة في الأرزاق، وهذا هو من طلب الرزق، وهو كائن من جميع بني آدم، والمتورع منهم يقيد سؤاله بأن يكون ذلك من وجه حلال [1ب].
والدعاء هو من جملة السعي في تحصيل الرزق، وكذلك جميع الأسباب المحصلة له، على اختلاف أنواعها، وتباين طرقها، ومن أنكر هذا فقد أنكر ما هو معلوم لكل فرد من أفراد بني آدم. انظر ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، في أيام النبوة، فإن لكل واحد منهم متعلق بسبب من أسباب الرزق، كائنًا من كان، ومن عجز عن ذلك قبل ما يصل إليه كأهل الصفة (5)، فإن وقوفهم فيها من طلب الرزق. وهكذا، بعد أيام النبوة،
_________
(1) [المائدة: 114].
(2) [البقرة: 201 - 202].
(3) [الصف: 13].
(4) [المائدة: 114].
(5) الصفة: هم فقراء المهاجرين، ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه.
" النهاية " (3/ 37).(9/4666)
فإن الخلفاء الراشدين يجعلون لأنفسهم نصيبًا من بيت المال (1) يقوم بما يحتاجون إليه لأنفسهم، ولمن يعولون، على وجه العدل، وعلى طريقة الزهد، وهم أزهد العباد في الدنيا وفي الاشتغال بها. كذلك من كان منهم بعد انقضاء خلافة النبوة، التي يقول فيها الصادق المصدوق: " الخلافة بعدي ثلاثون عامًا، ثم تكون ملكًا عضوضًا " (2)، فإن هذه المدة انقضت بخلافة الحسن السبط - رضي الله عنه -، ثم كانت من بعده ملكًا عضوضًا، وفيها، أعني المدة التي بعد انقضاء مدة الخلافة القيام بحفظ بيضة الإسلام، وجهاد الكفار، وفتح ما لم يكن قد فتح من الأقطار، وكان الصحابة رضي الله عنهم، يقصدون من بيده أمر المسلمين، ويطلبون منه ما لهم فيه حق من بيوت الأموال التي بيده، وذلك هو من طلب الرزق، ويقبلون منه ما يعطيهم، من غير كشف عن حقيقة الحال، وهكذا من بعدهم من التابعين، وكان هذا حال خير القرون، ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة (3).
[الحاكم له أعوان]
وكان من أهل هذين القرنين من يلي للقائمين بالأمر الأعمال من قضاء وإمارة على بعض البلاد، وإمارة على جيش، ولا ينكر هذا منكر، ولا يخالف فيه، وهذا هو نوع من أنواع طلب الرزق. وإن كان العمل قربة كالقاضي، وأمير جيش الجهاد، فإنه لا
_________
(1) انظر الرسالة رقم (142).
(2) أخرجه الترمذي رقم (2226) وأبو داود رقم (4646) و (4647) وأحمد (5/ 221) وابن حبان رقم (6657) والبيهقي في " الدلائل " (6/ 341) والطيالسي رقم (1107) والحاكم (3/ 145) من طرق. من حديث سفينة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " الخلافة ثلاثون سنة وسائرهم ملوك، والخلفاء والملوك اثنا عشر ". وهو حديث صحيح.
قال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (35/ 18): وهو حديث مشهور من رواية حماد بن سلمة وعبد الوارث بن سعيد. والعوام بن حوشب وغيره، عن سعيد بن جهمان، عن سفينة عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ..
(3) تقدم تخريجه مرارًا وهو حديث صحيح.(9/4667)
ينافي ما هو فيه من القربة، أخذ ما يحتاج إليه من بيت مال المسلمين، وما زال عمل المسلمين على هذا منذ قامت الملة الإسلامية إلى الآن، مع كل ملك من الملوك، فجماعة يلون لهم القضاء، وجماعة يلون لهم الإفتاء، وجماعة يلون لهم على البلاد التي إليهم، وجماعة يلون لهم إمارة الجيش، وجماعة يدرسون في المدارس [2أ] الموضوعة لذلك، وغالب جراياتهم من بيت المال (1).
فإن قلت: قد يكون من الملوك من هو ظالم جائر، قلت نعم، ولكن هذا المتصل بهم لم يتصل بهم ليعينهم على ظلمهم وجورهم، بل ليقضي بين الناس بحكم الله، أو يفتي بحكم الله، أو يقبض من الدعاوي ما أوجبه الله، أو يجاهد من يحق جهاده، ويعادي من تحق عداوته، فإن كان الأمر هكذا، فلو كان الملك قد بلغ من الظلم إلى أعلى درجاته، لم يكن على هؤلاء من ظلمه شيء، بل إذا كان لأحدهم مدخل في تخفيف الظلم، ولو أقل قليل، أو أحقر حقير، كان مع ما هو فيه من المنصب مأجورًا أبلغ أجر؛ لأنه قد صار - مع منصبه - في حكم من يطلب الحق، ويكره الباطل، ويسعى بما تبلغ إليه طاقته في دفعه، ولم يعنه على ظلمه، ولا سعى في تقرير ما هو عليه، أو تحسينه، أو إيراد الشبه في تجويزه، فإن أدخل نفسه في شيء من هذه الأمور، فهو في عداد الظلمة، وفريق الجورة، ومن جملة الخونة.
وليس كلامنا فيمن كان هكذا، إنما كلامنا فيمن قام بما وكل إليه من الأمر الديني، غير مشتغل بما هم فيه، إلا ما كان من أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو تخفيف ظلم أو تخويف من عاقبته أو وعظ فاعله بما يندفع فيه بعض شره، وكيف يظن بحامل علم، أو بذي دين، أن يداخل الظلمة فيما هو ظلم، وقد تبرأ الله سبحانه إلى عباده من الظلم، فقال: {وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (2)، وقال: {وما ربك
_________
(1) انظر الرسالة رقم (142).
(2) [النحل: 118].(9/4668)
بظلام للعبيد} (1)، وقال: {ولا يظلم ربك أحدا} (2)، وقال: {إن الله لا يظلم الناس شيئا} (3)، وقال: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} (4)، وقال: {وما الله يريد ظلما للعباد} (5)، وقال: {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} (6)، وغير ذلك من الآيات القرآنية، وقال في الحديث القدسي: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا " (7).
_________
(1) [فصلت: 46].
(2) [الكهف: 49].
(3) [يونس: 44].
(4) [النساء: 40].
(5) [غافر: 31].
(6) [الزخرف: 76].
(7) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2577) والبخاري في " الأدب المفرد " رقم (490) وأحمد (5/ 160) والترمذي رقم (2495) وابن ماجه رقم (4257) وابن حبان في صحيحه رقم (618) والحاكم (4/ 241) من حديث أبي ذر. وهو حديث صحيح.
قال ابن تيمية في شرحه لهذا الحديث (ص38): ينبغي أن يعرف أن هذا الحديث شريف القدر عظيم المنزلة، ولهذا كان الإمام أحمد يقول: هو أشرف حديث لأهل الشام. وكان أبو إدريس الخولاني إذا حدث به جثا على ركبتيه. ورواية أبي ذر ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة منه وهو من الأحاديث الإلهية التي رواها الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ربه، وأخبر أنها من كلام الله تعالى، وإن لم تكن قرآنًا.
ثم قال ابن تيمية (ص40 - 41): وأما هذه الجملة الثانية وهي قوله: " وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا " فإنها تجمع الدين كله، فإن ما نهى الله عنه راجع إلى الظلم، وكل ما أمر به راجع إلى العدل، ولهذا قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} [الحديد: 25]. فأخبر أنه أرسل الرسل وأنزل الكتاب والميزان لأجل قيام الناس بالقسط وذكر أنه أنزل الحديد الذي به ينصر هذا الحق، فالكتاب يهدي والسيف ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا، ولهذا كان قوام الناس بأهل الكتاب وأهل الحديد كما قال من قال من السلف: صنفان إذا صلحا صلح الناس الأمراء والعلماء. وانظر الرسالة رقم (180).(9/4669)
وقال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، كما في الصحيحين (1)، وغيرهما (2)، من حديث أبي موسى، قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله يملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته "، ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} (3).
وفي الصحيحين (4) وغيرهما (5)، من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " الظلم ظلمات يوم القيامة "، وأخرج نحوه مسلم (6) وغيره من حديث جابر، وفي الصحيح (7) من حديث أبي هريرة: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه [2ب] ولا يسلمه "، وفي لفظ (8) " ولا يخذله ".
والأحاديث الواردة في تحريم الظلم، وذم فاعله، وما يستحقه من العقوبة، كثيرة جدًا، وقد أجمع المسلمون على تحريمه، ولم يخالف في ذلك مخالف. وأجمع العقلاء على أنه من أعظم ما تستقبحه العقول، ثم قد بين رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -لنا في مداخلة الظلمة، ما هو القول الفصل، والحكم العدل، فقال في حديث صحيح أخرجه الترمذي في موضعين من سننه (9)، وأوضح ذلك أتم إيضاح، وبينه أكمل بيان: " غشي
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4686) ومسلم رقم (2583).
(2) كالترمذي في " السنن " رقم (3110).
(3) [هود: 102].
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2447) ومسلم رقم (2579).
(5) كالترمذي رقم (2030).
(6) في صحيحه رقم (2578). وهو حديث صحيح.
(7) أخرجه مسلم رقم (2564).
(8) عند مسلم في صحيحه رقم (32/ 2564).
(9) أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (614) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث عبيد الله بن موسى.
وأخرجه أحمد (3/ 321) وابن حبان رقم (1723) والحاكم (422). وهو حديث صحيح.
وأخرجه الترمذي في " السنن " رقم (2259) وقال: هذا حديث صحيح غريب لا نعرفه من حديث مسعر إلا من هذا الوجه. وهو حديث صحيح.
كلاهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لكعب بن عجرة: " أعاذك الله من إمارة السفهاء " قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: " أمراء يكونون بعدي لا يهتدون بهدي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون على حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك مني وأنا منهم، وسيردون على حوضي، يا كعب بن عجرة، الصيام جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، والصلاة قربان، أو قال برهان، يا كعب بن عجرة، الناس غاديان، فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها ".
ولفظ المصنف للترمذي رقم (2259).(9/4670)
إيوانهم فصدقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولا أنا منه، ولا هو وارد علي الحوض يوم القيامة، ومن غشيها أو لم يغشها فلم يصدقهم في كذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فهو مني، وأنا منه، وهو وارد علي الحوض يوم القيامة ".
وقد ثبت في الصحيح (1) في ذكر أئمة الجور، ومداخلتهم، فقال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ولكن من رضي وتابع ". فتقرر لك بهذا أن المداخل لهم إذا لم يصدقهم في كذبهم، ولا أعانهم على ظلمهم، ولا رضي، ولا تابع فهو من رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ورسول الله منه، فكانت هذه مرتبة عالية، وفضيلة جليلة، فكيف إذا جمع بين عدم وقوع ذلك منه، والسعي في التخفيف، أو في الموعظة الحسنة.
ولا يخفى على ذي عقل، أنه لو امتنع أهل العلم والفضل والدين عن مداخلة
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (62/ 1854) من حديث أم سلمة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع " قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: " لا. ما صلوا ".(9/4671)
الملوك، لتعطلت الشريعة المطهرة، لعدم وجود من يقوم بها، وتبدلت تلك المملكة الإسلامية بالمملكة الجاهلية في الأحكام الشرعية من ديانة ومعاملة، وعم الجهل وطم، وخولفت أحكام الكتاب والسنة جهارًا لا سيما من الملك وخاصته وأتباعه، وحصل لهم الغرض الموافق لهم، وخبطوا في دين الإسلام كيف شاءوا، وخالفوه مخالفة ظاهرة، واستبيحت الأموال واستحلت الفروج، وعطلت المساجد والمدارس، وانتهكت الحرم، وذهبت شعائر الإسلام، ولا سيما الملوك الذين لا يفعلون ذلك إلا مخافة على ملكهم أن يسلب، وعلى دولتهم أن تذهب، وعلى أموالهم أن تنهب، وعلى حرمتهم أن تنتهك [3أ]، وعلى عزهم أن يذل، ووجدوا أعظم السبل إلى التخلص عن أكثر أحكام الإسلام قائلين: جهلنا، لم نجد من يعلمنا، لم نلق من يبصرنا، فر عنا العارفون بالدين، وهرب منا العلماء العاملون، وفي الحقيقة أنهم يعدون ذلك فرصة انتهزوها، وشدة أطلقت عن أعناقهم، وعزيمة إسلامية ذهبت عنهم، ومع هذا فلم يختصوا بهذه الوسيلة التي فرحوا بها، والذريعة التي انقطعت عنهم، بل الشيطان الرجيم أشد فرحًا بذلك، وأعظم سرورًا منهم، فإنه قد خلى بينه وبين السواد الأعظم، يتلاعب بهم كيف شاء، ويستعبدهم كيف أراد. وهذه فرصة ما ظفر من أهل الإسلام بمثلها، ولا كان في حسابه أن يسعفه دهره بأقل منها.
وسبب هذا البلاء العظيم، والخطب الوخيم، والوزر للإسلام وأهله - الذي لا يقادر قدره، ولا يتهيأ به الدهر مثله - صنفان من الناس:
الصنف الأول: جماعة زهدوا بغير علم، وعبدوا بغير فهم، وتورعوا بغير إدارك للمصالح الشرعية والشعائر الدينية، وما يفضي إلى تعطل الأحكام، وذهاب غالب دين الإسلام، فتصدوا للمواعظ والإرشاد للعباد، وبالغوا في ذلك ومقصدهم حسن، وصورة فعلهم جميلة، ولكنهم لم يكن لهم من العلم ما يوردون به الأشياء مواردها، ويصدرونها مصادرها، جعلوا - لقصورهم - أهل المناصب الدينية - التي لا يتم أمرها، ولا ينفذ حكمها إلا سلطان الأرض وملك البلاد - من جملة أنواع الظلم، وجعلوا(9/4672)
صاحبها من جملة أعوان الظلمة، وسمع ذلك منهم عامة رعاع يغشون مجالس مثلهم من القصاص، مع خلو هؤلاء السامعين عن الورع، وتعطلهم عن علم الشرع، فأخذوا تلك المواعظ على ظاهرها، وقبلوها حق قبولها، لخلو أذهانهم عن وازع الشرع والعقل والورع، فصار بين هذين النوعين من الجهل ما يملأ الخافقين.
ولأمر ما كان كثير من السلف يمنعون الذين يقصون على الناس، ويتصدرون لوعظهم، وتذكرهم بما هم عليه من جهل بالشريعة، وبما يرتكبونه من إيراد الأحاديث المكذوبة، والقصص الباطلة، وإن عليهم أن يقصروا عن ذلك، ويكلوا ذلك إلى علماء الكتاب والسنة، الذين يدعون الناس إلى حق هو معلوم لديهم، وشرع هو صحيح عندهم.
والصنف الثاني: جماعة لهم شغلة بالعلم، وأهلية له [3ب]، وأرادوا أن يكون لهم من المناصب الدينية، التي قد صارت بيد غيرهم ما ينتفعون به في دنياهم، فأعوزهم ذلك، وعجزوا عنه، فأظهروا الرغبة عنه، وأنهم تركوه اختيارًا ورغبة، وتنزهًا عنه، وضربت ألسنهم بسبب أهل المناصب الدينية، وثلب أعراضهم، والتنقص بهم، وأظهروا أنهم إنما تركوا ذلك لأن فيه مداخلة للملوك، وأخذ بعض من بيوت الأموال، وأن أهل المناصب قد صاروا أعوانًا للظلمة، ومن الآكلين للسحت ولا حامل لهم على ذلك إلا مجرد الحسد والبغي، والتحسر على أن يكونوا مثلهم، فوضعوا أنفسهم موضع أهل التعفف عن ذلك، والتورع عنه بنيات فاسدة، ومقاصد كاسدة، مع ما في ذلك من الدخول في خصلة من خصال النفاق، والوقوع في معرة بلية الرياء، والولع بالغيبة المحرمة، بغير سبب وبغير حق، وأدخلوا أنفسهم في هذه المصائب والمثالب والمعاصي والمخازي والجرائم والمآثم على علم منهم بتحريمها، وكما قال القائل:
يدعو وكل دعائه ... ما للفريسة لا تقع
عجل بها يا ذا العلا ... إن الفؤاد قد انصدع
وقد عرفنا من هذا الجنس جماعات، وانتهت أحوالهم إلى بليات، وعرفنا منهم من(9/4673)
ظفر بعد استكثاره من هذه البليات، بمنصب من المناصب، فكان أشر أهل ذلك المنصب، وبلغ في التكالب على الحطام، والتهافت على الجرائم، إلى أبلغ غاية.
ومنهم من جالس - بعد مزيد من التعفف، وكثرة التقاعس - ملكًا، أو قريب ملك أو صاحب ملك، فصار يطربهم بما لا يستحل بعضه فضلاً عن كله - من له أدنى وازع من دين، بلا أدنى زاجر من عقل، بل عرفنا منهم من صار نمامًا، وضعه من يتصل به لنقل أخبار الناس إليه ففعل، ولكن لم يقتصر على نقل ما سمع، بل جاوز ذلك إلى التزيد عليه بالزور والبهت، حتى يجعل ذلك الذي وضعه للنقل عدوًا عظيمًا لمن لا ذنب له، ولا قال بعض ما كذب عليه، فضلاً عن كله.
وبالجملة، ما جربنا واحدًا من هذا الصنف، إلا وكشفت الأيام عن باطن مخالف ما كان يظهره، وقول وفعل ينافي مما كان يشتغل به أيام تعطله [4أ]، فليأخذ المتحري لدينه حذره منهم، ولا يركن عليهم في شيء من الأعمال الدينية، كائنًا ما كان.
فإن قلت: إذا أظهر ظهورًا بينًا، أن بعض المداخلين يعينه على ظلمه بيده أو لسانه، أو يسوغ له ذلك، أو يظهر من الثناء عليه ما لا يجوز إطلاقه على مثله.
قلت: من كان هكذا، فهو من جنس الظلمة، وليس من الجنس الذي قدمنا ذكره من المداخلين لهم. والظلم، كما يكون باليد، يكون باللسان وبالقلم، وقد يكون ذلك أشد. وكلامنا فيمن يتصل بهم، غير معين لهم ما لا يحل، ولا مشارك لهم بيد ولا لسان بل يكون رجلاً مقصده بالاتصال بهم.
[مقاصد الاتصال بالسلاطين]
الاستعانة بقوتهم على إنفاذ حكم الله عز وجل.
وعلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بحسب الحال، وبما تبلغ إليه الطاقة.
مثلاً إذا كان العالم ينكر ما يراه من المنكرات على الرعايا، ولا يقدر على ذلك، إلا إذا كان له يد من السلطان، يستعين بها على ذلك، فهذا خير كبير، وأجر عظيم.(9/4674)
وكذلك إذا كان لا يقدر على فصل الخصومات، وإرشاد الناس إلى الطاعات، إلا باليد من السلطان فذلك مسوغ صحيح أيضًا.
وهكذا، إذا كان لا يقدر على تخفيف بعض ما يفعله وزراء السلطان وأمراؤه وأهل خاصته من الظلم، إلا باتصاله بالسلطان، فهو أيضًا مسوغ صحيح.
وهكذا إذا كان السلطان يصغي إلى الموعظة منهم، في بعض الأحوال، ويخرج عن فعل المنكر، أو يخفف ذلك شيئًا ما، فهو مسوغ صحيح.
واعلم أن أحوال السلاطين، كما قال بعض السلف، لهم طاعات كبيرة، ومعاص كبيرة، وصدق هذا القائل فإن من طاعاتهم [من واجبات الحاكم] (1)
- تأمين السبل.
- تأمين الضعفاء من الأقوياء والحيلولة بينهم، وبين ما يريدونه من ظلمهم.
- جهاد أهل الكفر والبغي، والمتجارين على نهب الضعفاء، وهتك حرمهم، وتخويفهم ومغالبتهم على ما تحت أيديهم من أملاكهم.
- إقامة الحدود الشرعية، والقصاص.
- إقامة شعائر الإسلام، والقيام من رعاياهم بواجباته.
- نصب القضاة لفصل الخصومات بالطرق الشرعية، وأهل الحسبة بالقيام بوظيفة الحسبة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- جمع الجيوش وتأمير الأمراء، لقهر أعداء الدين، والقيام بما يحتاجون من بيوت الأموال.
_________
(1) انظر " درر السلوك في سياسة الملوك " للماوردي. (ص95 - وما بعدها).
" المنهج المسلوك في سياسة الملوك " عبد الرحمن الشيزري (595 - 708).
" الأحكام السلطانية والولاية الدينية " الماوردي (43 - 77).(9/4675)
- إحياء مدارس العلم، بنصب المدرسين والمفتين.
- إمساك أهل الجسارة عما يريدونه من الفساد في الأرض، بهيبة السلطان ومخافة الإيقاع بهم، فإن كثيرًا بل الأكثر لولا مخافة السلطان لكان له من الأفاعيل ما لم يكن في حساب، ولهذا ترى من لا سلطان عليه، في جميع البلاد، يفعل ما ترتجف منه القلوب، وتذرى منه الدموع، ورحم الله الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز فإنه قال: " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " (1).
وصدق فما قاله هو الحق، الذي يعلمه كل عاقل، فإن غالب الناس، لولا مخافة عقوبة السلطان له لترك الواجبات، إلا النادر، وفعل من المنكرات ما لا يأتي عليها الحصر.
وأما أهل المخافة من الله عز وجل، الذين يفعلون الواجب؛ لكونه أوجبه الله عليهم، ويتركون المنكرات؛ لكون الله عز وجل نهاهم عنها، فهم أقل قليل. ومن أنكر شيئًا من هذا، فليبحث عن حقائق الأمور، وينظر في مصادرها ومواردها، وأحوال الفاعلين لها، حتى يتضح له أن الأمر كما قاله عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
وأما كون للسلاطين معاص كبيرة، فإنه قد تأخذه الغضبية فيسفك الدماء ويستحل الأموال المحرمة، وقد يهلك أهل القرية بسبب شذوذ فرد منهم عن طاعته، وقد تشده نفسه إلى ما في يد الرعايا فيأخذ منها لإعلاء قانون الشريعة المطهرة، وينصب لذلك شباك الحيل، وذرائع الظلم. وقد يطاوع نفسه الشهوانية، فيفعل ما تشتهيه، ويرتكب في محرمات الله عز وجل، ويفعل ما يريده، لعدم نفوذ قول قائل عليه، إذ لا سلطان عليه، إلا من عصم الله وقليل ما هم.
حكي عن بعض سلاطين الإسلام، أنه كان يجتمع مع من يجالسه على كثير من اللهو والفسوق، وكان في المدينة، التي هو فيها، رجل صالح ينكر ما يبلغه من المنكرات، وإذا رأى إناء فيه خمر كسره، فمر يومًا من تحت دار السلطان، فقال السلطان لبعض
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.(9/4676)
جلسائه: هذا فلان إذا رأى إناء من الخمر، بيد أحد من الناس كسره، وإذا رأى منكرًا غيره، فأمر من يدخله إلى مجلسه، ثم قال له: أنت تنكر على الضعفاء من الناس ما تراه من المنكرات، وتكسر ما تجده عندهم من أواني الخمر، وهذه عندنا من الأواني ما تراه، فهل تستطيع أن تغير ذلك علينا؟ فقال له: أنا ضعيف أنكر على مثلي من الضعفاء لقدرتي على ذلك، وأما أنت يا سلطان فكما قال الله عز وجل: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا} (1) فبكى السلطان [5أ] وقال: وأنا أيضًا، فأنكر علي، وقم وارم بهذه الأواني من هذه الطاقات. فقام، ورمى بها، وتاب السلطان، فلم يعد إلى شيء مما كان عليه.
فإذا عرفت أن للسلاطين تلك المحاسن، وتلك المساوئ، ونظرت إلى ذلك بعين الصواب، علمت أن فيه من خصال الخير ما نفعه لك ولغيرك، أكثر من الضر، وقد عرفت ما يقوله أهل الفقه وغيرهم أن محبته لخصال خير فيه مما لا بأس به، فإذا كانت هذه المحبة جائزة، فكيف لا يجوز ما هو دونها من الاتصال بها لأحد الأسباب المتقدم ذكرها؟ مع كون المتصل به على الرجاء بأن يقبل منه موعظة، أو يترك بعض ما يفارقه حياء منه، فإن منزلة العلم والفضل لها من المهابة في صدر كل أحد، والتعظيم لها، والحشمة منها ما لا يخفى إلا على بهيمي الطبع، ولا ينكر ذلك إلا مسلوب الفهم.
وعلى كل حال فمواصلته لتلك الأسباب لا يتردد أحد في جوازها، بل قد تكون في بعضها حسنًا، بل قد تكون واجبًا إذا لم يتم الواجب إلا به، أو لم يندفع المحرم إلا به، وهذا لا يخفى على أدنى الناس علمًا وفهمًا. والممنوع هو مواصلته لا لمصلحة دينية تعود على فرد من أفراد المسلمين، أو أفراد، إذا ترتب على ذلك مفسدة، فكيف وقد ثبت في الكتاب العزيز الأمر بطاعة أولي الأمر، وجعل الله أولي الأمر وطاعتهم بعد طاعة الله
_________
(1) [طه: 105 - 107].(9/4677)
سبحانه، وطاعة رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - (1). وتواتر في السنة المطهرة في الأمهات وغيرها، أنها تجب الطاعة لهم (2)، والصبر على جورهم.
وفي بعض الأحاديث الصحيحة المشتملة على الأمر بالطاعة لهم أنه قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك " (3).
وصح عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -أنه قال: " أعطوهم الذي لهم، واسألوا الله الذي لكم " (4)، وصح في السنة المطهرة أنها: " تجب الطاعة لهم ما أقاموا الصلاة " (5).
_________
(1) يشير على قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59].
(2) منها ما أخرجه البخاري في صحيحه (7142) من حديث أنس مرفوعًا: " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله ".
ومنها: ما أخرجه البخاري رقم (7144) ومسلم رقم (38/ 1839) من حديث ابن عمر قال: قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ".
(3) أخرجه مسلم رقم (52/ 1847) من حديث حذيفة بن اليمان: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسان " قال قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: " تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع ".
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3603) ومسلم رقم (45/ 1843).
من حديث عبد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها " قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: " تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم ".
(5) أخرج مسلم في صحيحه رقم (66/ 1855): من حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم، ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنوهم ويلعنونكم " قالوا لنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك قال: " لا. ما أقاموا فيكم الصلاة. لا. ما أقاموا فيكم الصلاة. لا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي معصية الله. ولا تنزعن يدًا من طاعة ".(9/4678)
وفي بعضها: " ما لم يظهر منهم الكفر البواح " (1) فإذا أمروا أحدًا من الناس أن يتصل بهم لم يجل له أن يمتنع، على فرض أنه لم يكن في اتصاله شيء من تلك الأسباب المتقدمة، وعليه أن لا يدع ما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الممكن من ذلك، وإلا فهو معذور ولا إثم عليه، إلا إذا حصل منه الرضاء والمتابعة، كما تقدم في الحديث (2) الصحيح.
وأخرج ابن ماجه (3) والحاكم (4) وصححه، والبزار (5) واللفظ له من حديث ابن عمر عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -قال: " السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر [5ب] وعلى الرعية الشكر وإن جار أو حاف أو ظلم كان عليه الوزر، وعلى الرعية الصبر ".
وصح عن رسول الله حديث: " الدين النصيحة "، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم " (6).
فإن قلت: ما حكم ما بأيديهم في بيوت الأموال، مع وقوع ما فيه ظلم على الرعية،
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7055، 7056) ومسلم رقم (42/ 1709) من حديث عبادة بن الصامت قال: " بايعنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان ... ".
(2) تقدم تخريجه.
(3) في " السنن " (4019).
(4) في " المستدرك " (4/ 540).
(5) في مسنده رقم (1590 - كشف) وهو حديث ضعيف.
(6) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (95/ 55) وأبو داود رقم (4944) والترمذي رقم (1926) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي (7/ 156) من حديث تميم الداري وهو حديث صحيح.(9/4679)
ولو في بعض الأحوال، هل يجوز قبول ما يجعلونه منه لأهل المناصب؟.
قلت: نعم، للحديث السابق أنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -قال لعمر: " ما أتاك من هذا المال، وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك " (1). وثبت أنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -فرض الجزية على أهل الكاتب، وكانت من أطيب المال داخله، مع أن في أموالهم ما هو أثمان من الخمر والخنزير، ومن الربا فإنهم يتعاملون به، وصح عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -أنه استقرض من يهودي طعامًا، ورهن درعه. فيأخذ من له جراية من بيت مال المسلمين ما يصل إليه منه من غير كشف عن حقيقته، إلا أن يعلم أن ذلك هو الحرام بعينه، على أن هذا الحرام الذي أخذه السلطان من الرعية على غير وجهه، قد صار إرجاعه إلى مالكه مأيوسًا، وصرفه في أهل العلم والفضل واقع في موقعه، ومطابق لمحلة، لأنهم مصرف للمظالم، بل أحسن مصارفها.
ثم هذا المزري على من يتصل بسلاطين الإسلام، من أهل العلم والفضل، قد لزمه لزومًا بينًا، أن يتناول هذا الطعن كل من اتصل بسلاطين الإسلام، منذ انقراض خلافة النبوة إلى الآن، فإنه لا بد في كل زمان من طعن طاعن، ولا بد أيضًا من صدور ما ينكر من أهل الولايات، وإن كثر منهم ما يعرف، ولهذا يقول الصادق المصدوق: " الخلافة بعدي ثلاثون عامًا ثم تكون ملكا عضوضًا " (2) كما تقدم. ولا بد للملك العضوض من أن يصدر عنه ما ينكر، ولو نادرًا، ولهذا لم تتفق الكلمة من جميع الناس، على براءة ملك من ملوك الأرض، من تلبسه بنوع من أنواع الجور، واتصافه بالعدل المطلق، الذي لم تشبه شائبة، ولا قدحت فيه قادحة: إلا عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
_________
(1) تقدم آنفًا.
(2) تقدم تخريجه.
وانظر " فتح الباري " (8/ 77).(9/4680)
ولا يمكن حصر عدد من يتصل - من أهل العلم والفضل -، بسلاطين قرن من القرون، بل بسلاطين بعض القرن في جميع الأرض، ونحن نعلم علمًا يقينًا، أنه لا بد لكل ملك وإن كانت ولايته خاصة بمدينة من مدائن الإسلام، فضلاً عن قطر من الأقطار فضلاً عن كثير من الأقطار، أن يكون معه جماعة ممن يلي المناصب الدينية، وإلا لم يستقم له أمر، ولا تمت له ولاية، ولا حصلت له طاعة، ولا انعقدت له بيعة يعلم هذا كل عاقل من المسلمين [6أ] فضلاً عن أهل العلم منهم.
وإذا كان الأمر هكذا، فكم لهذا الطاعن المشئوم من خصوم، قد لا يعد لأحقرهم قدرًا، وأقلهم علمًا وفضلاً وهو لا يخرج عن قسمين:
إما أن يكون من قسم المغتابين، أو قسم الباهتين، ولهذا يقول الصادق المصدوق- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن كان فيه ما تقوله فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقوله فقد بهته " (1)، فهو واقع في المأثم العظيم، والذنب الوخيم، على كل تقدير وفي كل حالة.
ثم هذا المزري على من يتصل بسلاطين الإسلام، من أهل العلم والفضل القائمين بالمناصب الدينية، قد وقع في إساءة الظن بجميع من اتصل بهم على الصفة التي بيناها، من دخول جميع هذا الجنس تحت سوء ظنه، وباطل اعتقاده، وزائف خواطره، وفاسد تخيلاته، وكاسد تصوراته، وفي هذا ما لا يخفى من مخالفة هذه الشريعة المحمدية، والطريقة الإيمانية. ومع هذا فالمتصل بهم من أهل المناصب الدينية، قد يغضي في بعض الأحوال عن شيء من المنكرات، لا لرضًا به، بل لكونه قد اندفع بسعيه ما هو أعظم
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2589) وأبو داود رقم (4874) والترمذي رقم (1934) وقال: حسن صحيح. وأحمد (2/ 230، 384) والدارمي (2/ 299) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
* بهته: أي كذبت وافتريت عليه.
" النهاية " (1/ 165).(9/4681)
منه، ولا يتم له ذلك إلا بعدم التشدد فيما هو دونه، وهو يعلم أنه لو تشدد في ذلك الدون، لوقع هو وذلك الذي هو أشد منه وأشنع وأفظع، كما يحكى عن بعض أهل المناصب الدينية أن سلطان وقته أراد ضرب عنق رجل لم يكن قد استحق ذلك شرعًا، فما زال ذلك العالم يدافعه ويصاوله ويحاوره، حتى كان آخر الأمر الذي انعقد بينهما، على أن ذلك الرجل يضرب بالعصا على شريطة اشترطها السلطان، وهو أن يكون الذي يضربه ذلك العالم، فأخرج الرجل إلى مجمع الناس الذين يحضرون في مثل ذلك للفرجة، فضربه ضربات فتفرق ذلك الجمع، وهم يشتمون أقبح شتم، وهم غير ملومين؛ لأن هذا في الظاهر منكر، فكيف يتولاه من هو المرجو لإنكار مثل ذلك؟ ولو انكشفت لهم الحقيقة، واطلعوا على أنه بذلك أنقذه من القتل، وتفاداه بضرب العصا، عن ضرب السيف، لرفعوا أيديهم بالدعاء له، والترضي عنه.
ويظن الجهول قد فسد الأمر ... وذاك الفساد عين الصلاح
ومن هذا القبيل، ما حكاه صاحب الشقائق أن سلطان الروم أمر بقتل جماعة كثيرة من أهل الأسواق؛ لكونهم لم يمتثلوا ما أمر به [6ب] من تسعير بعض البضائع، فخرج السلطان، وقد صفوا للقتل، فقام بعض العلماء، وقرب من السلطان وهو راكب، فقال: هؤلاء لا يسوغ قتلهم في الشريعة، فذكر له السلطان أنهم خالفوا أمره، وأنه لا عذر من قتلهم، فقال العالم: هم يذكرون أنه لم يبلغهم ما عزم عليه السلطان، فوقف السلطان مركوبه، وقد ظهر عليه من الغضب، ما ظهر أثره ظهورًا بينًا، وقال: ليس هذا من عهدتك، فقال: لا: هو من عهدتي، لأن فيه حفظ دينك، وهو من عهدتي، فأطلقهم السلطان وسلموا.
فانظر؛ هذا العالم وبصره في إنكار المنكر، فإنه لو قال له ابتداء، إن مخالفة أمرك لا توجب عليهم القتل، لكان ذلك القول مما يوبقهم، لا مما يطلقهم، ولو سكت عند قول السلطان ليس هذا من عهدتك، لقتلوا، لكنه جاء بوسيلة مقبولة، تؤثر في النفس أعظم تأثير.(9/4682)
ولا شك أن مساعدته في مخالفة أمر السلطان، وعدوله إلى أنه لم يبلغهم الأمر، إذا سمعها من لا يعرف الحقائق، أنكر عليه وقال وكيف يكون أمر السلطان في تسعير بضاعة أو نحو ذلك موجبًا لقتل من لم يمتثل، وعد ذلك من المداهنة، وعدم التصميم على الحق، ولو عقل ما عقله ذلك العالم الصالح، لعلم أنه قد جارى السلطان مجاراة كانت سببًا لسلامة جماعة كثيرة من المسلمين، ولو لم يفعل ذلك لقتلوا جميعًا.
إذا عرفت هذا، وتبين لك أن الأفعال المخالفة للشريعة، في بعض الحالات، وكذلك الأحوال التي تكون ظاهرة المخالفة قد تكون على خلاف ما يقتضيه الظاهر، ومتبين أنها من أعظم الطاعات، وأحسن الحسنات، فكيف ما كان منها محتملاً؟ هل ينبغي لمسلم أن يسارع بالإنكار، ويقتحم عقبة المحرم من الغيبة أو البهت وهو على غير ثقة من كون ما أنكره منكرًا، وكون ما أمر به معروفًا؟ وهل هذا إلا الجهل الصراح، أو التجاهل البواح؟.
دع هذا، وانتقل عنه إلى شيء لا يحمل عليه الجهل، بل مجرد الحسد أو المنافسة، كما هو الغالب، على ما تقدم بيانه، فإن أهل المناصب الدينية من القضاة ونحوه، إذا اشتغل صاحبه بما وكل إليه، وتجنب ما فيه عمل الملوك وأعوانهم، من تدبير المملكة، وما يصلحها وما تحتاج إليه، ويقوم بجندها، وأهل الأعمال فيها، إلا إذا اقتضى [7أ] الحال الكلام معهم فيما يوجبه الشرع، من أمر بمعروف أو نهي عن منكر، والقيام في ذلك بما تبلغ إليه الطاقة، ويقتضيه طبع الوقت، فهل مثل هذا حقيق من عباد الله الصالحين، بالدعوات المتكررة بالتثبيت والتسديد، واستمداد الإعانة من رب العالمين، أم هو حقيق بالثلب والاغتياب، خبطًا وجزافًا وحسدًا ومنافسة، وهل هذا شأن الصالحين من المؤمنين أم شأن إخوان الشياطين؟ كما قال الشاعر:
إن سمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا ... شرًا أذاعوا وإن لم يسمعوا أفكوا
وكما قال:
إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحًا ... عني وما سمعوا من صالح دفنوا(9/4683)
فكيف إذا كانوا لا يسمعون إلا خيرًا، ولا يعدد المعددون إلا مناقبًا، فما أحق من كان ذا عقل ودين، أن لا يرفع إلى مخرقتهم رأسًا، ولا يفتح لخزعبلاتهم أذنًا، كما قلت من أبيات (1)
[فما] (2)
الشم الشوامخ عند ريح ... تمر على جوانبها تمود
ولا البحر الخضم يعاب يومًا ... إذا بالت بجانبه القرود
اجتمعت، في أيام الطلب، بجماعة من أهل العلم، فسمعت من بعض أهل العلم الحاضرين، ثلبًا شديدًا لوزير من الوزراء، فقلت للمتكلم: أنشدك الله يا فلان، أن تجيبني عما أسألك عنه وتصدقني، قال: نعم، قلت له: هذا الثلب الذي جرى منك، هل هو لوازع ديني تجده من نفسك، لكون هذا الذي تثلبته ارتكب منكرًا، أو اجترى على مظلمة أو مظالم؟ أم لكونه في دنيا حسنة وعيشة رافهة؟ ففكر قليلاً، ثم قال: ليس ذلك إلا لكون الفاعل ابن الفاعل، يلبس الناعم من الثياب، ويركب الفاره من الدواب ثم عدد من ذلك أشياء، فضحك الحاضرون، وقلت له: أنت إذن ظالم له، تخاطب بهذه المظلمة بين يدي الله، وتحشر مع الظلمة في الأعراض، وذلك أشد من الظلم في الأموال، عند كل ذي نفس حرة ومريرة مرة، وبهذا يقول قائلهم:
يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول [7ب]
وبالجملة، فإني أظن أن الظلمة في الأعراض، أجرأ من الظلمة في الأموال، لأن ظالم المال قد صار له وازع على الظلم، وهو المال، الذي به قيام المعاش، وبقاء الحياة، ثم قد حصل له من مظلمته ما ينتفع به في دنياه، وإن كان سحتًا يحتاجه حرامًا. وظالم الأعراض لم يقف إلا على الخيبة والخسران، مع كونه فعل جهدًا من لا جهد له، وذلك مما تنفر عنه النفوس الشريفة، وتستصغر فاعله الطبائع العلية، والقوى الرفيعة.
_________
(1) الشوكاني في ديوانه (ص124، 125).
(2) في الديوان وما.(9/4684)
فائدة:
اعلم أن الأمر بالمعروف (1)، والنهي عن المنكر، هما أعظم أساطين الدين، وحكم قناطر الإسلام، وأهم أحكام الشريعة المطهرة، بل هما إذا كانا قائمين كان الدين على أتم قيام، وأكمل نظام، وإن لم يكونا قائمين في العباد، ولم يوجد في البلاد من يقوم بهما: تخولفت الشرائع الإسلامية، وتعطلت الشعائر الإيمانية، وقال من شاء من أهل الجسارة ما شاء، وفعل من لم يكن زاجر ديني ما أراد، لعدم وجود من يأخذ على أيديهم من القائمين بحجة الله في عباده. ولهذا وردت الآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة في الحث على ذلك، والمدح العظيم لفاعلهما، والزجر الوخيم لتاركهما، فمن قدر على ذلك، فقد حمل العبء الكبير، وقام بالأمر الجليل الخطير، ولا يزال يزداد قوة وتمكنًا وثباتًا، حتى يتم له ما لم يكن له في حساب، ولا خطر له على بال، ولا مر له على خيال، وصار رأسًا للفرقة التي قال فيها الصادق المصدوق: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين " (2)، وكان من القائمين بحجة الله في بلاده، على عباده، وفاز بالأجر العظيم الذي وعد الله سبحانه به عباده الصالحين، القائمين بما قام به، وإن أدرك من النفس الأمارة بعض جبن في بعض الأحوال، وأنس من طبيعته خورًا وضعفًا في بعض المقامات، فليعلم أن ذلك من وسوسة الشيطان الرجيم، لأنه أشد
_________
(1) تقدم ذكر أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(2) * أخرجه البخاري رقم (3640) ومسلم رقم (171/ 1921) من حديث المغيرة.
* وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (170/ 1920) من حديث ثوبان قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ".
* وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (3641) ومسلم رقم (174/ 1037) من حديث معاوية قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس ".(9/4685)
عليه من القائمين في مقامات العبادة، والقاعدين في مقاعد الزهد والورع، والمستكثرين من طاعة الله عز وجل، والعازفين نفوسهم عن معاصيه، وذلك أن كل واحد من هؤلاء صار يجاهد الشيطان عن نفسه ويدفعهم عن حوضه، ويفارقه عن عشه وبيضه، ويذوده عن أن يتعرض لشيء من طاعاته بالتشكيك عليه، أو الوسوسة له، وهذه مصلحة خاصة بنفس هذا الرجل الصالح المشتغل بمراضي الله عز وجل، المجتنب لمغاضبه.
وأما القائم بما أمره الله به من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهو قائم لإصلاح عباد الله، بعد إصلاحه نفسه، فلا يزال زاجرًا لهم عن المنكرات، مرغبًا لهم في أنواع الطاعات، ومحذرًا لهم من مكر الشيطان الرجيم، مبينًا لهم ما ينصبه من حبائل الخذلان لعباد الله، وما يزينه لمن لم يرسخ قدمه في الإيمان، ومن هذه الحيثية كان مقامه عام النفع [8أ] ومصلحته شاملة للجمع الجم، فهو في حكم المصاول للشيطان عن عباد الله سبحانه، المحاول له عند أن يريد الإغواء بالأهواء، والاستدراج بشهوات الأنفس، من التنعم باللذات، والتمتع بالمحرمات، والتلذذ بالموبقات، فهو العدو الأكبر لفريق الشياطين أجمعين، والقائم في كل مواطنه بالمحاربة لهم، عن أن يتم كيدهم على أحد من عباد الله الصالحين، والمصاولة لهم عن أن يتسلطوا على أحد من المؤمنين أجمعين (1).
_________
(1) أقوال العلماء في الدخول على السلطان:
* القول الأول: ما ذهب إليه جمهور السلف من النهي عن التردد على أبواب السلاطين، واعتزالهم، قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: " وقد كان كثير من السلف ينهون عن الدخول على الملوك لمن أراد أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر أيضًا، وممن نهى عن ذلك عمر بن عبد العزيز وابن المبارك والثوري وغيرهم من الأئمة ".
* القول الثاني: هو كراهة الدخول على السلاطين، وهو ما ذهب إليه الحافظ ابن رجب الحنبلي فيما يبدو من كلامه فقد قال: " ومن هذا الباب أيضًا كراهة الدخول على الملوك والدنو منهم، وهو الباب الذي يدخل منه علماء الدنيا إلى نيل الشرف والرياسة فيها ".
* القول الثالث: هو جواز الدخول عليهم لكن مع تقييد ذلك الأمر وحصره بشروط وهو الرأي الذي ذهب إليه بعض السلف والخلف، وهو رأي مالك رحمه الله وانتصر له إمام المغرب ابن عبد البر النمري الأندلسي: قيل للإمام مالك إنك تدخل على السلطان وهم يظلمون ويجورون؟ فقال: يرحمك الله، فأين المكلم بالحق! " وقال مالك: " حق على كل مسلم أو رجل جعل الله في صدره شيئًا من العلم والفقه أن يدخل إلى ذي سلطان يأمره بالخير وينهاه عن الشر ويعظه حتى يتبين دخول العالم إنما يدخل على السلطان يأمره بالخير وينهاه عن الشر، فإذا كان فهو الفضل الذي ليس بعده فضل ".
انظر: " ترتيب المدارك " (1/ 207).
ونجد أن الشوكاني في رسالته هذه يذكر أقوالاً ثلاثة في مسألة الدخول على السلاطين:
1 - أن الاتصال بالسلاطين جائز وحسن.
2 - أن الاتصال بالسلاطين واجب.
3 - أن الاتصال بالسلاطين ممنوع.
وأما عن كونه جائز وحسن، فلأن الاتصال مرتبة دون المحبة، كما سلف القول، ومحبة السلاطين جائزة لخصالهم الخيرة، ولا يتردد عالم في القول بجواز هذا الاتصال سيما إن كان سيترتب عليه جلب منافع للأمة.
أما عن كونه واجبًا، ففي حالة إذا لم يتم الواجب إلا به، أو لم يندفع المحرم والضرر إلا به، وذلك انطلاقًا من قاعدة أصولية جوهرها أن: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ".
أما الصورة الثالثة: وهي الاتصال الممنوع بالسلاطين، فهو مواصلتهم لا لمصلحة دينية تعود آثارها الإيجابية على الأمة، أو إذا ترتب على هذا الاتصال فساد يلحق بالمجتمع بأي صورة من صور الفساد.
* قال عبد الرحمن الشيزري في " المنهج المسلوك في سياسة الملوك " (ص690): اعلم أن استيلاء الدنيا على الملوك وإقبالهم عليها ربما شغلهم عن أمر الآخرة، وأغفلهم عن مهمات الدين، فيجنحون إلى اللذات ويهملون أمر الديانات، لأن النفوس مطبوعة على الميل إلى الترف وإيثار التنعم وكراهة التكليف، فلا ينبغي أن تخلو مجالسهم من علماء الدين، وأصالح المتنسكين لينهوهم عند طريان الغفلة، ويذكروهم عند ضراوة الشهوة، ويوضحون لهم نهج الآخرة ومعالم الشريعة، وقد كان ذلك شعار الملوك الغابرين والخلفاء الراشدين في مجالسهم الحكماء واستماع مواعظ العلماء وكانوا في ذلك ثلاث طبقات.
1 - طبقة لما سمعوا الموعظة والتذكير نبذوا ملك الدنيا الذي يفنى ليتعاضوا عنه ملك الآخرة الذي يبقى، واخرجوا ذلك من قلوبهم وأيديهم واهتموا بأمر الآخرة، والعمل لها لينالوا الفوز الكبير، والنعيم الدائم.
2 - طبقة عند سماع الموعظة أخرجوا ملك الدنيا من قلوبهم ولم يخرجوه من أيديهم، واهتموا بأمر الآخرة مع بقائهم في الملك وهذه الطبقة مجاهدتهم عظيمة ومثلهم في ذلك من ألزم نفسه الظمأ وبحضرته نهر بارد ينظر إليه ويقدر على تناوله وشربه. وهذا مقام الخلفاء الراشدين، وأمرائهم وعمالهم ومن سلك سبيلهم.
3 - طبقة أصمهم حب الدنيا، ونيل لذاتها، عن استماع المواعظ وأعمى أبصارهم عن كل مذكر، وواعظ فآثروا اللذات على المهمات، وقطعتهم الشهوات عن أمور الديانات.
انظر: كتاب " السياسة " للمرادي (ص67) فقد قال: " سلطان عدل وإمامة وسلطان جور وسياسة وسلطان تخليط وإضاعة ".(9/4686)
وبهذا تعلم أنه قد أسفر الصبح لذي عينين، بأن بين المقامين مسافات تتقطع فيها أعناق الإبل، ومفاوز تبيت دونها سوابق المطي، بل بين المقامين ما بين الأرض والسماء، ولا بد أن ينتهي أمر هذا القائم بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى التمام على ما يطابق المرام ويوافق رضاء الملك العلام، لأنه قام هذا المقام؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وذو الحق غلاب بنصوص السنة والكتاب. وقد صح عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -أنه " سئل عن الرجل يقاتل حمية وشجاعة، ويرى موضعه، أيهم في سبيل الله فقال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " (1).
فهذا القائم بحجة الله عز وجل هو في أعظم الجهاد وهو في سبيل الله عز وجل، لأنه لم يفعل ذلك لغير هذا القصد، فإن لم ينجز عمله، ويحصل أمله بسرعة حصل ولو بعد حين، كما وعد الله سبحانه عباده.
ويتصور عند قيامه في هذا المقام تصفية النية من كدورات الرياء، والمقاصد التي ليست
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (2810) و (7458) ومسلم رقم (1904).(9/4688)
من الدين، وبتصور ما أمر الله عز وجل به، من الإخلاص، وحث عباده عليه، ويستحضر قول الصادق المصدوق- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إنما الأعمال بالنيات " (1) فإنها قضية كلية جامعة مانعة نافعة، لا سيما بعد ضم ما ضمه رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -إلى هذه الجملة من قوله: " وإنما لكل امرئ ما نوى "، ثم تصوير ذلك وتمثيله منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -بقوله: " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، كانت هجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها كانت هجرته إلى ما هاجر إليه ".
فإن فارق الإخلاص، ولو بمسافة يسيرة، فقد لا يتم له ما يريد بهذا السبب لا بسبب خلل في المقام الذي قامه، فإنه مقام المرسلين، والعلماء العاملين، وعباد الله الصالحين.
ورويت في كتب التاريخ [8ب] قصة، لبعض القائمين في هذا المقام، وهو أنه وقف على آنية من الخمر، قد حمل من بعض المواضع التي يستجاد خمرها لبعض الملوك، ورأى الحاملين له قد أخرجوها من المركب إلى خارج البحر ليحملوها على الدواب بعد أن حملوها على السفن في البحر فأخذ عودًا ثم ما زال يكسرها، حتى بقيت واحدة منها، فوقف عندها قليلاً، ثم تركها ورمى بالعصى، فأخذه الواصلون بها، وقد اجتمع عليه جمع، وما شكوا أن الملك يقتله، فلما وصل إلى الملك، وقد اشتد غضبه، فقال: ما حملك على ما صنعت من الاستخفاف بنا، والإقدام على متاعنا، فقال: لم أستخف بك، بل فعلت ما أمرني الله به، وأخذه علي من النهي عن المنكر، فقال له: فما سبب تركك لواحد منها، قال: أدركت نزغة من نزغات العجب، قد أوقعها الشيطان في قلبي، فتركت كسر ذلك الواجب منها، كي لا أكسره على غير نية صحيحة مخلصة لله عز وجل. فلما سمع ذلك الملك خلى سبيله، ولم يكن له عليه سبيل. وفي هذا المقدار كفاية. والحمد لله أولاً وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
_________
(1) تقدم تخريجه. وهو حديث صحيح.(9/4689)
(151) 49/ 2
بحث في حديث العين المسروقة إذا وجدها المالك
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(9/4691)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في حديث العين المسروقة إذا وجدها المالك.
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين، ورضي الله عن الصحابة الراشدين وبعد فإنه ورد هذا السؤال. .. .
4 - آخر الرسالة: وتخصيص المتواتر بالآحاد هو المذهب الراجح والقول الصحيح.
وإلى هنا انتهى الجواب عن السؤال بمعونة ذي الجلال والإفضال بقلم المجيب الحقير محمد بن الشوكاني غفر الله لهما.
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 8 صفحات ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 22 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 8 كلمة.
9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(9/4693)
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين، ورضي الله عن الصحابة الراشدين.
وبعد:
فإنه ورد هذا السؤال من بعض الأعلام المبرزين - كثر الله فوائدهم - في علوم الدين، ولفظه:
[السؤال]
من حسناتكم - كثر الله فوائدكم - الكلام على هذه الأحاديث مستوفى بما يزيل شبهة التعارض. أخرج النسائي (1) من حديث أسيد بن حضير أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- قضى أنه إذا وجدها يعني السرقة في يد رجل غير المتهم، فإن شاء أخذها بما اشتراها، وإن شاء اتبع سارقه، وقد قضى بذلك أبو بكر وعمر. وقد أخرجه أبو داود في المراسيل (2).
وأخرج النسائي (3) شاهدًا له من حديث أسيد بن ظهير (4).
وأخرج أبو داود (5)، ..............................................
_________
(1) في " السنن " رقم (4679) بإسناد حسن.
والراوي أسيد بن ظهير وقد تحرف في المطبوع إلى حضير. .
(2) رقم (192).
(3) في " السنن " رقم (4680) وهو حديث صحيح.
(4) في حاشية المخطوط ما نصه: " ... السائل رحمه الله أن الحديث من رواية أسيد بن حضير وشاهده من رواية أسيد بن ظهير، والذي ظهر بعد البحث أن الحديثين من رواية أسيد بن ظهير وليس لأسيد بن حضير في ذلك رواية حسبما نبه على ذلك المزي في الأطراف وكذا في غيره فليحقق انتهى.
انظر: " تحفة الأشراف في معرفة الأطراف " (1/ 75).
(5) في " السنن " رقم (3531).(9/4697)
وأحمد (1)، والنسائي (2)، عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به، ويتبع البيع من باعه "، وفي لفظ: " إذا سرق من الرجل متاع أو ضاع منه، فوجده بيد رجل بعينه فهو أحق به، ويرجع المشتري على البائع بالثمن " رواه أحمد (3)، وابن ماجه (4). انتهى السؤال.
_________
(1) في " المسند " (5/ 18).
(2) في " السنن " رقم (4681). وهو حديث ضعيف.
(3) في " المسند " (5/ 14).
(4) في " السنن " رقم (2331).
وهو حديث ضعيف. انظر: " الضعيفة " (1627).(9/4698)
[الجواب]
وأقول: مستعينًا بالله، ومتوكلاً عليه أن الجواب على الوجه الذي طلبه السائل - كثر الله فوائده - ينحصر في وجوه أربعة:
الأول: الكلام على إسناد حديث أسيد بن حضير فأقول: قال النسائي [1أ] (1) أخبرني هارون بن عبد الله، حدثنا حماد بن مسعدة عن ابن جريج، عن عكرمة بن خالد قال: حدثني أسيد بن حضير ... فذكره. وكل هؤلاء ثقات أثبات من رجال الصحيح، أما هارون بن عبد الله (2) فهو البغدادي الحمال بالمهملة، البزاز، وثقه الحفاظ (3)، وحديثه في صحيح مسلم وغيره، وأما حماد بن مسعدة (4) فهو التميمي أبو سعيد البصري. وقد أخرج حديثه الجماعة كلهم ووثقه الأئمة، وأما ابن جريج (5) فهو الإمام الحجة المشهور، وحديثه في الصحيحين وغيرهما. وأما عكرمة بن خالد (6) فهو المخزومي ثقة مشهور، حديثه في الصحيح وغيره؛ فهؤلاء كلهم ثقات أثبات، حديثهم ثابت في الصحيح، والاحتجاج بهم متفق عليه، وكل واحد منهم أدرك شيخه، وسمع منه.
_________
(1) في " السنن " (7/ 312 - 313) رقم (4679). من حديث أسيد بن حضير كما تقدم.
(2) انظر " تهذيب التهذيب " (4/ 255).
قال ابن حجر: سمي بذلك لأنه بزازًا فتزهد فصار يحمل الشيء بالأجرة ويأكل منه.
(3) قال النسائي ثقة، وقال أبو حاتم وإبراهيم الحربي: صدوق، وذكره ابن حبان في " الثقات " وقال: مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين.
انظر المرجع السابق.
(4) انظر " تهذيب التهذيب " (1/ 485).
(5) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم أبو الوليد وأبو خالد المكي، أصله رومي.
انظر: " تهذيب التهذيب " (2/ 616 - 617).
(6) انظر " الميزان " للذهبي (3/ 90 رقم 5711). " تهذيب التهذيب " (3/ 131 - 132).(9/4699)
والأصل عدم وجود العلة القادحة، لا سيما في أحاديث مثل هؤلاء الثقات؛ فالحديث صحيح لصحة إسناده.
الوجه الثاني: في الكلام على إسناد الشاهد الذي أشار إليه السائل - كثر الله فوائده -.
فأقول: سياق إسناده ومتنه هكذا: قال النسائي (1) أخبرنا عمرو بن منصور، حدثنا سعيد بن ذؤيب، حدثنا عبد الرازق عن ابن جريج، أخبرني عكرمة بن خالد أن أسيد بن ظهير الأنصاري، ثم أحد بني حارثة أخبره أنه كان عاملاً على اليمامة، وأن مروان كتب أن معاوية كتب إليه أن أيما رجل سرق منه سرقة فهو أحق بها حيث ما وجدها، ثم كتب بذلك مروان إلي، فكتبت إلى مروان أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " قضى بأنها إذا كان الذي ابتاعها من الذي سرقها غير متهم يخير سيدها [1ب] فإن شاء أخذ الذي سرق منه بثمنها، وإن شاء اتبع سارقه " ثم قضى بذلك أبو بكر، وعمر، وعثمان، فبعث مروان بكتاب إلى معاوية، فكتب معاوية إلى مروان: إنك لست أنت ولا أسيد تقضيان علي، ولكن أقضي فيما وليت عليكما، فأنفذ لما أمرتك به فبعث مروان بكتاب معاوية فقلت: لا أقضي بما وليت بما قال معاوية وهذا الإسناد رجاله ثقات.
أما عمرو بن منصور (2) فهو النسائي أبو سعيد، أخرج حديثه النسائي وقال: إنه ثقة، مأمون، ثبت (3)، وأما سعيد بن ذؤيب (4) فهو المروزي، أخرج له النسائي، ووثقه، وذكره ابن حبان في الثقات (5)، وأما عبد الرازق فهو الإمام الكبير الحجة، وأما ابن
_________
(1) في " السنن " 7/ 313 رقم 4680 ().
(2) انظر " تهذيب التهذيب " (3/ 306).
(3) ذكره ابن حجر في " التهذيب " (3/ 306). والذهبي في " الميزان " (3/ 289 رقم 6453).
(4) انظر " تهذيب التهذيب " (3/ 16). " ميزان الاعتدال " (2/ 135 رقم 3167).
(5) (8/ 270).(9/4700)
جريج (1)، وعكرمة بن خالد (2) فقد تقدم أنهما من رجال الصحيح، وأما أسيد بن ظهير (3) فهو صحابي أوسي، شهد الخندق، وله حديثان، هذا أحدهما (4)، ومات (5) في أيام مروان بن الحكم؛ فرجال الإسناد ثقات. وقد وقع في بعض النسخ مكان أسيد بن ظهير أسيد بن حضير، وهو وهم منشؤه من كون معنى الحديثين واحدًا، وكون الراوي عن كل واحد منهما عكرمة بن خالد، والراوي عنه ابن جريج. ولكن لا يصح ذلك، لأن أسيد بن حضير (6) مات سنة عشرين من الهجرة، وذلك في خلافة عمر، والقصة المذكورة واقعة في أيام معاوية، وإمارة مروان.
وأسيد بن ظهير من جهته، وذلك إنما كان من سنة بعد أربعين من الهجرة، فكيف يدرك ذلك أسيد بن حضير! إنما أدركه أسيد بن ظهير؛ فإنه تأخر موته إلى أيام مروان [2أ] بن الحكم كما هو معروف (7).
الوجه الثالث: في الكلام على إسناد حديث سمرة:
فأقول: أخرجه أبو داود (8) عن عمرو بن عون، عن هشيم، عن موسى بن السائب عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، وأخرجه النسائي (9) فقال: حدثنا محمد بن داود، قال: حدثنا عمرو بن عون، حدثنا هشيم عن موسى بن السائب، عن قتادة، عن
_________
(1) تقدم ذكرهما.
(2) تقدم ذكرهما.
(3) انظر " تهذيب التهذيب " (1/ 176 - 177).
(4) في حاشية المخطوط. أورد له الترمذي حديثًا في مسجد قباء وقال: لا يصح له غيره.
(5) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (1/ 176 - 177).
(6) انظر " تهذيب التهذيب " (1/ 176).
" الاستيعاب " (1/ 185 - 186 رقم 54). " الكاشف " (1/ 133). " الإصابة " رقم (185).
(7) انظر " الإصابة " رقم (185).
(8) في " السنن " رقم (3531).
(9) في " السنن " (7/ 313 - 314 رقم 4681).(9/4701)
الحسن، عن سمرة؛ فرجال إسناديهما متحدون، إلا أن النسائي لم يرو عن عمرو بن عون إلا بواسطة، ولم يرو عنه كما روى عنه أبو داود، ومحمد بن داود (1) الذي روى النسائي عنه هو المصيصي. أخرج له أبو داود غير هذا الحديث كما أخرج له النسائي، وقال لا بأس به (2)، وقال أبو داود: ما رأيت أعقل منه، وقال في التقريب (3) إنه ثقة فاضل، وأما بقية رجال السند فعمرو بن عون هو السلمي الواسطي، وهو ثقة حجة. أخرج له الجماعة كلهم (4)، وأما هشيم (5) فهو الإمام المشهور، وكذلك قتادة والحسن، وأما موسى بن السائب (6) فقد وثقه أحمد بن حنبل، وليس العلة هاهنا إلا ما قيل من أن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة (7). وقيل لم يسمع منه شيئًا. فالحديث لهذه العلة ضعيف، إلا ما قيل من تدليس بعض رجال الإسناد؛ فإن رجال الحديث المعتبرين لم
_________
(1) هو محمد بن داود بن صبيح أبو جعفر المصيصي.
" تهذيب التهذيب " (3/ 557).
(2) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (3/ 557).
(3) (2/ 160 رقم 200).
(4) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (3/ 296).
(5) هشيم بن بشير بن القاسم بن دينار السلمي أبو معاوية بن أبي حازم الواسطي.
" تهذيب التهذيب " (4/ 280 - 282).
(6) هو موسى السائب أبو سعدة البصري ويقال الواسطي.
" تهذيب التهذيب " (4/ 175).
(7) أخرجه أحمد (5/ 7 - 8، 12، 17 - 18، 22) وأبو داود رقم (2838) والترمذي رقم (1522) والنسائي (7/ 166 رقم 4220) وابن ماجه رقم (365) والحاكم (4/ 237) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
وهو حديث صحيح.
وقد روى البخاري والنسائي عن الحسن أنه سمع هذا الحديث من سمرة فانتفت شبهة التدليس.
انظر: " فتح الباري " (564). وانظر (الإرواء) رقم (1165).(9/4702)
يقبلوا من الحفاظ المتقنين الذين يقع منهم التدليس نادرًا إلا ما لم يدلسوا فيه وإن كان معنعنًا. وللبحث عن هذا موضع آخر ليس هذا موضعه [2ب].
الوجه الرابع: في بيان معاني متون هذه الأحاديث:
أما حديث أسيد بن حضير ففيه الفرق بين وجود العين المسروقة في يد المتهم بسرقتها وبين وجودها في يد غير المتهم. وفيه بيان أحد الطرفين، وهو إذا وجدها في يد غير المتهم بأنه إن شاء أخذها بما اشتراها به، وإن شاء تبع السارق.
وأما الطرف الآخر وهو وجودها في يد المتهم لسرقتها مسكوت عنه، وقد يكون حكمه مستفادًا من حكم المقابلة باعتبار مفهوم الشرط، فإن قوله: قضى أنه إذا وجدها في يد الرجل غير المتهم بكذا يدل على أن الحكم إذا وجدها في يد المتهم هو غير الحكم الثابت عند وجودها في يد غيره، فلا تعارض الرواية المذكورة في حديث سمرة بلفظ: " إذا سرق الرجل متاع، أو ضاع منه، فوجده بيد رجل بعينه فهو أحق به، ويرجع المشتري على البائع بالثمن ". ووجه عدم المعارضة أن لفظ رجل هاهنا مطلق، والرواية الأولى تقيده لأن فيها التفصيل بين المتهم وغيره، وذكر حكم الموجود من السرقة في يد أحدهما منطوقًا (1)، وحكم الموجود في يد الآخر مفهومًا (2)، فيحمل هذا المطلق على ذلك المقيد، ويكون هذا الرجل هو المتهم، فاندفع التعارض بينهما من هذه الحيثية، وكذلك لا تعارض بين حديث أسيد [3أ] بن حضير، وبين الرواية الأولى من حديث سمرة بلفظ: من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به، ويتبع البيع من باعه، وبيان عدم التعارض أن عين ماله اسم جنس مضاف (3)، وهو من صيغ العموم، فهو يشمل العين
_________
(1) تقدم توضيح معناه.
(2) تقدم توضيح معناه.
(3) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص416): تعريف الإضافة وهو من مقتضيات العموم كالألف واللام من غير فرق بين كون المضاف جمعًا نحو عبيد زيد أو اسم جمع نحو جاءني ركب المدينة أو اسم جنس نحو: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}.
انظر: " تيسير التحرير " (1/ 219).(9/4703)
المسروقة وغيرها، فيكون حديث أسيد بن حضير المصرح بحكم العين المسروقة مخصصًا له، لا سيما بعد تقييد العين المسروقة بأن يوجد في يد غير المتهم، فعلى هذا قد أمكن الجمع بين الحديثين، وهو مقدم على الترجيح فلا يصار إليه.
وأما حديث أسيد بن ظهير الذي يشهد لحديث أسيد بن حضير، فهو وإن خالف حديث أسيد بن حضير في بعض ألفاظه، فهو موافق لمعناه، فيكون الجمع بينه وبين حديث سمرة كالجمع بين حديث أسيد بن حضير، وبين حديث سمرة.
فإن قلت: حديث الحسن عن سمرة من قسم الضعيف لعدم سماعه منه، فلم يثبت حكم العام بدليل صحيح أو حسن.
قلت: الحكم المستفاد من حديث سمرة هو معلوم من كليات الشريعة المطهرة وجزئياتها، أما كلياتها فكل دليل يدل على أن المالك لا يزول ملكه عنه إلا باختياره، ورضائه، وطيبة نفسه، فهو يدل على ما دل عليه حديث سمرة؛ لأن غاية ما في حديث سمرة أن الرجل وجد ماله الباقي في ملكه الذي [3ب] لم يخرج عن يده برضائه كما قال الله تعالى: {تجارة عن تراض} (1) ولا بطيبة نفسه كما قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " (2)، وما خرج بغير ذلك فهو داخل تحت قوله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (3)، وتحت قول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام " (4) ونحو ذلك من الأدلة المتبالغة في الكثرة.
وأما كون هذا الحكم معلومًا من جزئيات الشريعة فهي كثيرة جدًا، ومن أقربها إلى
_________
(1) [النساء: 29].
(2) وهو حديث صحيح تقدم مرارًا.
(3) [النساء: 29].
(4) وهو حديث صحيح تقدم.(9/4704)
معنى حديث سمرة، وألصقها به ما أخرجه الجماعة (1) كلهم من حديث أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أدرك ماله بعينه عند رجل أفلس فهو أحق به من غيره "، وفي لفظ (2) قال: " في الرجل الذي يعدم إذا وجد عنده المتاع، ولم يفرقه إنه لصاحبه الذي باعه " أخرجه مسلم (3)، والنسائي (4)، وفي لفظ: " أيما رجل أفلس، فوجد رجل عنده ماله ولم يكن اقتضى من ماله شيئًا فهو له " رواه أحمد (5).
وأخرج أحمد (6) من حديث سمرة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من وجد متاعه عند مسلم مفلس بعينه فهو أحق به ".
وأخرج مالك في الموطأ (7)، وأبو داود (8) في المراسيل (9) من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " أيما رجل ابتاع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقتض الذي باعه من ثمنه شيئًا، فوجد متاعه بعينه
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2402) ومسلم رقم (22/ 1559) وأحمد (2/ 228) وأبو داود رقم (3519) والترمذي رقم (1262) والنسائي (7/ 311) وابن ماجه رقم (2358).
(2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (23/ 1559).
(3) (23/ 1559).
(4) في " السنن " (7/ 311).
(5) في " المسند " (2/ 525).
(6) في " المسند " (5/ 13).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3531) والنسائي (7/ 313 رقم 4681).
وقال ابن حجر في " الفتح " (5/ 64) إسناده حسن ولكن سماع الحسن من سمرة فيه مقال معروف.
وهو حديث ضعيف.
(7) (2/ 678 رقم 87).
(8) في " السنن " رقم (3520) وهو حديث مرسل، وأبو بكر بن عبد الرحمن تابعي.
(9) رقم (173).(9/4705)
فهو أحق به، وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة [4أ] الغرماء ".
وقد أسنده أبو داود (1) من وجه آخر، فإذا كان هذا الحكم ثابتًا في السلعة التي في يد المفلس وقد صارت إليه برضى مالكها وطيبة نفسه من دون غصب، ولا سرق، فكيف بالعين التي خرجت لا برضائه، ولا بطيبة نفسه!.
فإن قلت: إذا كان ما في حديث سمرة معلومًا من كليات الشريعة وجزئياتها، فكيف ساغ العمل بما في حديث أسيد بن حضير، وأسيد بن ظهير!.
قلت: قد ثبتا عن الشارع، وهو الذي جاءنا بتلك الكليات والجزئيات، وأعلمنا بأن المالك أولى بملكه، وأحق به، فالكل شريعة ولا معارضة حتى يرجح القطعي على الظني، والمعلوم على مظنون، بل قد أمكن الجمع ببناء العام على الخاص، وتخصيص المتواتر بالآحاد هو المذهب الراجح (2)، والقول الصحيح.
وإلى هنا انتهى الجواب عن السؤال بمعونة ذي الجلال والإفضال بقلم المجيب الحقير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما [4ب]-.
_________
(1) " السنن " رقم (3522) وهو حديث صحيح.
(2) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص524): وكما يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد كذلك يجوز تخصيص العموم المتواتر من السنة بأخبار الآحاد.
وانظر مزيد تفصيل: " البرهان " (1/ 246 - 430)، " المسودة " (ص19)، " البحر المحيط " (3/ 362).(9/4706)
(152) 49/ 2
مناقشة من القاضي العلامة محمد بن أحمد مشحم رحمه الله للبحث السابق (العين المسروقة) وهو السائل
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(9/4707)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: مناقشة من القاضي العلامة محمد بن أحمد مشحم رحمه الله للبحث السابق (العين المسروقة) وهو السائل.
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: الحمد لله تعالى وصلى وسلم على سيدنا محمد وعلى آله. أشكل على الفقير أسير التقصير من هذا الجواب
4 - آخر الرسالة: وقضت به العقول أولى بالترجيح، وأحق بالقبول لدى النظر الصحيح والله تعالى أعلم.
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 3 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 11 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(9/4709)
الحمد لله تعالى، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.
أشكل على الفقير أسير التقصير من هذا الجواب المفيد حمل الحديثين على الإطلاق والتقييد، فرأيت أن أكتب ما على البال مذيلا به السؤال معروضًا على المجيب - نفع الله بعلومه المسلمين - وليس القصد به إلا استفادة الحق منه، لا تصوير الباطل بصورة اليقين.
فأقول فيه أبحاث:
الأول: حمل المطلق على المقيد لا يتم إلا فيما اتحد حكمهما (1)، نحو إن ظاهرت
_________
(1) في حالة اتحاد الحكم يقع الكلام في المطلق والمقيد على ستة أقسام:
1 - أن يكون السبب واحد وكل منهما أمر: نحو أعتقوا رقبة. ثم قال: أعتقوا رقبة مؤمنة، وهذا لا خلاف في أن المطلق فيه محمول على المقيد.
2 - أن يكون كل واحد من المطلق والمقيد نهيًا نحو أن تقول: لا تعتق رقبة ثم تقول: ولا تعتق رقبة كافرة فمن يقول بمفهوم الخطاب يلزمه أن يخصص النهي العام بالكفارة؛ لأن النهي الثاني عنده يدل على إجزاء من ليست كافرة.
3 - أن يكون أحدهما أمرًا والآخر نهيًا. نحو أعتق رقبة، ولا تعتق رقبة كافرة أو العكس: وهذا لا خلاف في حمل المطلق فيه على المقيد وتقييده به.
4 - أن يكون كل واحد منهما أمرًا ولكن السبب مختلف، نحو قوله تعالى في كفارة الظهار: {فتحرير رقبة} وفي كفارة القتل: {فتحرير رقبة مؤمنة} وهذا محل النزاع في هذه المسألة.
5 - أن يكون كل واحد منهما نهيًا والسبب مختلف نحو. لا تعتق رقبة في كفارة الظهار، ولا تعتق رقبة كافرة في كفارة القتل، فالقائل بالمفهوم وتقييد المطلق بالمقيد إن وجد دليل يلزمه تخصيص النهي العام بالكافرة.
6 - أن يكون أحدهما أمرًا والآخر نهيًا والسبب مختلف نحو: أعتق رقبة في كفارة الظهار ولا تعتق رقبة كافرة في كفارة القتل أو العكس نحو لا تعتق رقبة في كفارة الظهار ثم يقول أعتق رقبة مسلمة في كفارة القتل وحكمهما واحد.
انظر: " الكوكب المنير " (3/ 395 - 408)، " اللمع " (ص24)، " إرشاد الفحول " (542 - 543).(9/4713)
فأعتق رقبة، إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة، فإن رقبة في الأولى مطلقة، وقد قيدت في الثاني بمؤمنة، فيحمل الإطلاق على التقييد، ويكون الواجب حينئذ رقبة مؤمنة، ومن ثمة اختلفوا فيما إذا تأخر المقيد، هل هو ناسخ للمطلق، أو بيان له؟ وذلك لا يكون إلا مع اتحاد الحكمين. وأما إذا اختلف (1) حكمهما فإنه لا يحمل المطلق على المقيد ضرورة تحالف الحكمين.
فإذا قيل: إذا وجدت عالمًا فاكسه، وقيل: إذا وجدت عالمًا تميميًّا فأعطه دينارًا، فإنه وإن كان العالم مطلقًا في التركيب الأول، ومقيدًا في التركيب الثاني لا يحمل المطلق على المقيد؛ لأن الحكم في المطلق الأمر بالكسوة، وفي المقيد الأمر بإعطاء دينار، فيجري كل واحد منهما على حكمه، فيكسى العالم ولا يعطى دينارًا إلا بقيد كونه تميميًّا (2).
وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن الحكم في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إذا سرق له متاع، أو ضاع فوجده بعينه عند رجل، فهو أحق به، ويتبع البيع من باعه، أو يرجع المشتري على البائع بالثمن " (3) يخالف الحكم في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إذا وجد السرقة بعينها في يد الرجل غير المتهم، فإن شاء أخذها بما اشتراها، وإن شاء اتبع سارقه " (4) فلا يحمل المطلق على المقيد لتخالف حكمهما.
نعم. قد يحمل المطلق على المقيد مع اختلاف حكمهما إذا كان المطلق مترتبًا على المقيد، نحو: إن ظاهرت فأعتق رقبة، ولا تملك إلا رقبة مؤمنة؛ فإن حكم المطلق غير حكم المقيد لكنه لترتب حكم المطلق، وهو العتق على حكم المقيد وهو الملك يحمل
_________
(1) إذا اختلفا في الحكم، فلا خلاف في أنه لا يحمل أحدهما على الآخر بوجه من الوجوه سواء كانا مثبتين أو منفيين أو مختلفين اتحد سببهما أو اختلف وقد حكى الإجماع جماعة من المحققين.
انظر: " اللمع " (ص280)، " القواعد والفوائد الأصولية " (ص280).
(2) ذكره الشوكاني في " إرشاد الفحول " (545 - 546).
(3) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (151).
(4) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (151).(9/4714)
المطلق على المقيد [1أ]، فلا يعتق إذًا إلا رقبة مؤمنة.
الثاني: إن حمل المطلق على المقيد فيه جمع بين الدليلين، بمعنى أنهما يصيران كالدليل الواحد، ولهذا قالوا إن من عمل بالمقيد فقد عمل بالمطلق، لكونه في ضمنه، وخرج عن العهدة، بخلاف من عمل بالمطلق، فإنه قد أهدر القيد.
وهذا الذي قرره المجيب -دامت إفادته - ليس فيه إلا أن المقيد بقي على حالته، والمطلق حمل على ضد المقيد، وذلك أنه قال - دامت إفادته -: ووجه عدم المعارضة أن لفظ رجل هاهنا مطلق، يعني في رواية سمرة، والرواية الأولى تقيده؛ لأن فيها التفصيل بين المتهم وغيره، وذكر حكم الوجود من السرقة في يد أحدهما وحكم الموجود في يد الآخر مفهومًا، فيحمل هذا المطلق على ذلك المقيد، ويكون هذا الرجل هو المتهم، فاندفع التعارض بينهما من هذه الحيثية.
انتهى ما قاله - دامت إفادته - فأنت ترى كيف حمل المطلق على ضد المقيد، فإن المقيد هو الرجل غير المتهم لا المتهم، وهذا شيء غير حمل المطلق على المقيد.
وخلاصته أن حديث أسيد المقيد بكون الرجل غير متهم قد قيد إطلاق رجل الذي في حديث سمرة الصالح للمتهم وغير المتهم، فيعمل بحديث أسيد في غير المتهم، وبحديث سمرة فيما بقي، وهذا أشبه شيء بتخصيص العام. (1)
الثالث: أن قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- في حديث سمرة: " إذا سرق من الرجل متاع، أو ضاع منه، فوجده بيد رجل فهو أحق به، ويرجع المشتري على البائع بالثمن " (2). وهكذا الرواية الأولى لا يستقيم إلا في الرجل غير المتهم، لأن من كان هو المتهم بالسرقة لا يقال فيه: إنه يرجع المشتري بالثمن، وهذا يفيد أنه وإن كان رجل في حديث سمرة مطلقًا، أي غير موصوف لفظًا، فإنه مقيد معنى، فإن حكم النبي
_________
(1) انظر " إرشاد الفحول " (ص 544 - 546).
(2) تقدم تخريجه.(9/4715)
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - برجوعه بالثمن يفيد أنه غير المتهم [1ب]، لأنه لو كان هو المتهم؛ لكان الحكم المناسب إنما هو المنازعة بينه وبين مالك العين.
ولا مانع من أن يكون التقييد بما يدل عليه الكلام، فإنه إذا جاز التخصيص والتقييد بمنفصل (1) من جملة من أخرى لا تعلق لها بالجملة الأولى فبالأولى ما كان من أصل الكلام. وقد مشى على هذا الظاهر، أعني أن الرجل في حديث سمرة مشتر. أخرجه ابن ماجه في سننه (2) فقال: " باب من سرق له شيء فوجده في يد رجل اشتراه ".
ثنا علي بن محمد، ثنا أبو معاوية، ثنا حجاج عن سعيد بن عبيد بن زيد بن عقبة، عن أبيه عن سمرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إذا ضاع للرجل متاع، أو سرق له متاع، فوجده بيد رجل يبيعه فهو أحق به، ويرجع المشتري على البائع بالثمن ".
وفي هذا السياق فائدة، وهو أن حديث سمرة قد روي من غير طريق الحسن، وليس في الحديث إلا ما يخشى من تدليس الحجاج (3)، فإنه أرطأة. وأما علي بن محمد شيخ ابن ماجه فقال ابن أبي حاتم (4) محله الصدق، وأما سعيد بن عبيد بن زيد بن عقبة فلم أجده في الخلاصة، والموجود فيها سعيد بن زيد بن عقبة (5) له فرد حديث عند ابن
_________
(1) انظر " إرشاد الفحول " (ص583).
(2) في " السنن " رقم (2331).
وهو حديث ضعيف. انظر " الضعيفة " رقم (1627).
(3) حجاج بن أرطأة بن ثور بن هبيرة بن شراحيل النخعي.
قال أبو زرعة: صدوق يدلس، وقال أبو حاتم: صدوق يدلس عن الضعفاء، يكتب حديثه.
قال النسائي: ليس بالقوي.
" تهذيب التهذيب ": (1/ 356 - 357).
(4) في " الجرح والتعديل " (6/ 202 رقم 1112).
(5) هو سعيد بن زيد بن عقبة الفزاري الكوفي.
قال ابن معين وأبو حاتم: ثقة.
وقال العجلي: ثقة.
انظر " تهذيب التهذيب " (2/ 19 - 20).(9/4716)
ماجه، وثقه أبو حاتم (1).
فإذا سلم أن الظاهر أن حديث سمرة إنما هو في غير المتهم بالسرقة، وحديث أسيد ابن حضير في غير المتهم بها أيضًا نفي التعارض بحاله، فيعدل إلى الترجيح (2) ولا شك أن ما كثرت طرقه، وعاضدته كليات الشريعة وجزئياتها وقضت به العقول أولى بالترجيح، وأحق بالقبول لدى النظر الصحيح والله تعالى أعلم [2أ].
_________
(1) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (2/ 19).
(2) انظر رد الشوكاني على هذا القول في الرسالة الآتية رقم (153).(9/4717)
(153) 49/ 2
جواب المناقشة السابقة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحايثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(9/4719)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: جواب المناقشة السابقة.
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله. كثر الله فوائدكم, وقد أحسنتم وأفدتم بما حررتم آخرًا كما أفدتم.
4 - آخر الرسالة: ومدّ على الطلاب موائده. وإلى هنا انتهى الكلام على ما أفاد به من المناقشة دامت إفادته حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 12 صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 21 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 8 كلمات.
9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(9/4721)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله.
كثر الله فوائدكم، قد أحسنتم وأوفدتم بما حررتم آخرًا كما أفدتم وأجدتم بما حررتم أولاً، واستحسنت الإقدام على الجواب المتضمن للمناقشة، كما استحسنت سابقا الإقدام على جواب أصل السؤال، فأقول: كان عليكم أن تقدموا مقدمة قبل المناقشة قائلة أن المذاهب في الإطلاق والتقييد ثلاثة (1) إطلاقان وتفصيل.
فالإطلاق الأول: البناء مطلقًا من غير نظر إلى من نظر إليه أهل التفصيل.
المذهب الثاني: عدم البناء مطلقًا بل ترك المطلق على إطلاقه وإعمال المقيد فيما قيد به.
المذهب الثالث: التفصيل الناظر إلى اتحاد السبب (2) وعدمه على ما في ذلك التفصيل
_________
(1) انظر " البحر المحيط " (3/ 414) و" الكوكب المنير " (3/ 393).
(2) اعلم أن الخطاب إذا ورد مطلقًا لا مقيدًا حمل على إطلاقه، وإن ورد مقيدًا عمل على تقييده، وإن ورد مطلقًا في موضع مقيدًا في موضع آخر فذلك على أقسام:
1 - أن يختلفا في السبب والحكم فلا يحمل أحدهما على الآخر بالاتفاق كما حكاه القاضي أبو بكر الباقلاني في " التقريب والإرشاد " (3/ 309) وإمام الحرمين الجويني في " البرهان " (1/ 432 - 435) والكيا الهراسي وابن برهان والآمدي.
انظر: " البحر المحيط " (3/ 417) و" الأحكام " (3/ 6).
2 - أن يتفقا في السبب والحكم فيحمل أحدهما على الآخر كما لو قال: إن ظاهرت فأعتق رقبة. وقال في موضع آخر: إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة وقد نقل الاتفاق في هذا القسم القاضي أبو بكر الباقلاني في " التقريب والإرشاد " (3/ 309).
وقال ابن برهان في " الأوسط ": اختلف أصحاب أبي حنيفة في هذا القسم فذهب بعضهم إلى أنه لا يحمل. والصحيح من مذهبهم أنه يحمل.
" البحر المحيط " (3/ 418).
3 - أن يختلفا في السبب دون الحكم كإطلاق الرقبة في كفارة الظهار وتقييدها بالإيمان في كفارة القتل فالحكم واحد وهو وجوب الإعتاق في الظهار والقتل مع كون الظهار والقتل سببين مختلفين، وهذا القسم هو موضع الخلاف فذهب كافة الحنفية إلى عدم جواز التقييد. حكاه القاضي عبد الوهاب عن أكثر المالكية وذهب جمهور الشافعية إلى التقييد. انظر مزيد تفصيل: " المحصول " (3/ 145 - 146)، " اللمع " (ص24)، " البحر المحيط " (3/ 422).
قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص545): وفي المسألة مذهب رابع لبعض الشافعية، وهو أن حكم المطلق بعد المقيد من جنسه موقوف على الدليل، فإن قام الدليل على تقييده قيد وإن لم يقم الدليل صار كالذي لم يرد فيه نص فيعدل عنه إلى غيره من الأدلة. قال الزركشي في " البحر " (3/ 422) وهذا أفسد المذاهب الأربعة لأن النصوص المحتملة يكون الاجتهاد فيها عائدًا إليها ولا يعدل إلى غيره.
وفي المسألة حكم خامس وهو أن يعتبر أغلظ الحكمين في المقيد فإن كان حكم المقيد أغلظ حمل المطلق على المقيد ولا يحمل على إطلاقه إلا بدليل لأن التغليظ إلزام وما تضمنه الإلزام لا يسقط التزامه باحتمال.
قال الشوكاني: هذا أبعد المذاهب عن الصواب.
4 - أن يختلفا في الحكم نحو: أكس يتيمًا، أطعم تميميًا عالمًا. فلا خلاف في أنه لا يحمل أحدهما على الآخر بوجه من الوجوه سواء كانا مثبتين أو منفيين أو مختلفين اتحد سببهما أو اختلف وقد حكى الإجماع جماعة من المحققين آخرهم ابن الحاجب.
انظر: " مختصر ابن الحاجب " (2/ 156)، " اللمع " (ص280).(9/4725)
من الخلاف والمذاهب، وبعد أن تذكروا هذا يقولون: إن كان المجيب يقول بالأول فيرد عليه كذا، أو بالثاني فكذا، أو بالثالث فكذا.
فإن قلتم: إن مصير المجيب إلى مذهب التفصيل حتم عليه، وأنه مذهبه شاء أم أبى، فهو مع هذا الحتم والإلزام يجد في مذهب التفصيل ما يدفع ما أوردتم عليه، وبيانه أن الحديثين المسئول عنهما قد اتحدا سببًا وحكمًا. أما السبب فظاهر؛ لأن المورد هو العين المسروقة، وأما [1ب] الحكم، فالرواية المطلقة التي في حديث سمرة الحكم فيها هو الرد وهو لا يخالف ما في حديث أسيد، والكلام إذا أردت إيضاحه، معناه هكذا: العين المسروقة يأخذها مالكها إذا وجدها في يد رجل، والعين المسروقة يأخذها مالكها إذا(9/4726)
وجدها في يد رجل متهم بسرقتها، فإن كان ما في الحديثين يؤدي هذا المعنى ويفيده فأي خلل في هذا الإطلاق والتقييد، وأي مناقشة ترد على الحمل.
إن قال المجيب - كثر الله فوائده -: إن مثل هذا التركيب الذي جعلناه مثالاً لا يستفاد من الحديثين، وأنه يمنع ذلك حتى نقرره بوجه يوجب التسليم.
فنقول: أما الرواية (1) التي في حديث سمرة فهي في السؤال الذي كتبه السائل - كثر الله فوائده - هكذا. وفي لفظ: " إذا سرق من الرجل متاع، أو ضاع منه فوجده بيد رجل بعينه فهو أحق به ". ولا شك ولا ريب أن هذا اللفظ يتضمن المثال الذي ذكرناه سابقًا، وهو قولنا: العين المسروقة يأخذها مالكها إذا وجدها في يد رجل، ويتضمن ما يؤدي هذا المعنى من أمثلة يكثر تعدادها.
وأما حديث أسيد فقد صرحت في الجواب تصريحًا لا يبقى بعده ارتياب بأنه قد اشتمل على طرفين.
أحدهما: التصريح بحكم غير المتهم.
الثاني: السكوت عن حكم المتهم مع استفادته من المقابلة (2)، ومن مفهوم [2أ] ....
_________
(1) تقدم تخريجها.
(2) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص591): مفهوم المخالفة هو حيث المسكوت عنه مخالفًا للمذكور في الحكم إثباتًا ونفيًا، فيثبت للمسكوت عنه نقيض حكم المنطوق به.
وجميع مفاهيم المخالفة حجة عند الجمهور إلا مفهوم اللقب وأنكر أبو حنيفة الجميع.
انظر: " البحر المحيط " (4/ 15)، " تيسير التحرير " (1/ 94).
وللقول بمفهوم المخالفة شروط:
1 - أن لا يعارضه ما هو أرجح منه من منطوق أو مفهوم موافقة وعليه تفصيل. انظر: " البحر المحيط " (4/ 18).
2 - أن لا يكون المذكور قصد به الامتنان كقوله تعالى: {لتأكلوا منه لحما طريا} فإنه لا يدل على منع أكل ما ليس بطري.
3 - أن لا يكون المنطوق خرج جوابًا عن سؤال متعلق بحكم خاص ولا حادثة خاصة بالمذكور وهكذا قيل ولا وجه لذلك فإنه لا اعتبار بخصوص السبب ولا بخصوص السؤال.
انظر مزيد تفصيل: " البحر المحيط " (4/ 22)، " تيسير التحرير " (1/ 99).
4 - أن لا يكون المذكور قصد به التفخيم وتأكيد الحال كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد " وهو حديث متفق عليه.
فإن التقيد بالإيمان لا مفهوم له وإنما ذكر لتفخيم الأمر.
" الكوكب المنير " (3/ 492).
5 - أن يذكر مستقلاً، فلو ذكر على وجه التبعية لشيء آخر فلا مفهوم له كقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187].
فإن قوله: في المساجد لا مفهوم له؛ لأن المعتكف ممنوع من المباشرة مطلقًا.
" البحر المحيط " (4/ 23).
6 - أن لا يظهر من السياق قصد التعميم فإن ظهر، فلا مفهوم له كقوله تعالى: {والله على كل شيء قدير} [البقرة: 284].
للعلم بأن الله سبحانه قادر على المعدوم والممكن وليس بشيء فإن المقصود بقوله: {كل شيء} للتعميم.
7 - أن لا يعود على أصله الذي هو منطوق بالإبطال، أما لو كان كذلك فلا يعمل به.
انظر " الكوكب المنير " (3/ 495 - 496)، " البحر المحيط " (4/ 23).(9/4727)
الشرط (1)، وجعلت الرواية من حديث سمرة مطلقة مقيدة بما في حديث أسيد في المتهم، ولا ريب أن ما تضمنه (2) ما في حديث أسيد في المتهم يتضمن ما ذكرته، وهو العين المسروقة يأخذها مالكها إذا وجدها في يد رجل متهم بسرقتها، بل هذا هو معناه ومفاده الذي سيق له. وقيل فيه: لأن معناه الذي وقع التصريح بحكمه قد أفاد أن مقابله وهو
_________
(1) (1) مفهوم الشرط: الشرط في اصطلاح المتكلمين ما يتوقف عليه المشروط ولا يكون داخلاً في المشروط ولا مؤثرًا فيه.
وفي اصطلاح النحاة ما دخل عليه أحد الحرفين (إن) أو (إذا)، أو ما يقوم مقامهما مما يدل على سببية الأول ومسببية الثاني، وهذا هو الشرط اللغوي وهو المراد هنا.
" إرشاد الفحول " (ص598).
(2) كذا في المخطوط ولعله هناك سقط.(9/4728)
المتهم له حكم يقابله، فإذا كان الحكم مع غير المتهم هو الأخذ بالقيمة كان الحكم مع المتهم هو الأخذ بغير قيمة، والذي جعلناه مقيدًا لإطلاق الرواية التي في حديث سمرة هو مفهوم حديث أسيد لا منطوقه. وقد صرحت بهذا تصريحًا في غاية الوضوح في الجواب فقلت ما لفظه: ووجه عدم المعارضة أن لفظ رجل هاهنا مطلق، والرواية الأولى تقيده، لأن فيها التفصيل بين المبهم وغيره، وذكر حكم الموجود من السرقة في يد أحدهما منطوقًا، وحكم الموجود في يد الآخر مفهومًا، فيحمل هذا المطلق على المقيد، ويكون هذا الرجل هو المتهم انتهى.
فلو فرضنا التردد في الإشارة في قولي: فيحمل هذا المطلق على ذلك المقيد، هل يعود إلى المنطوق أو المفهوم؟ لكان قولي بعد ذلك: ويكون هذا الرجل هو المتهم رافعًا لذلك التردد رفعًا لا يبقى عنده شك ولا ريب [2ب]. هذا مع أن أهل الأصول قد صرحوا بأنه كما يكون التقييد بما يتضمنه المقيد من الحكم يكون أيضًا بنقيض ذلك الحكم كما قالوا في مثل: اعتق عني رقبة مع لا تملكني رقبة كافرة، قالوا: فإنه يجب تقييد المطلق حينئذ بضد قيد المقيد، وهو الإيمان.
فلو أردنا أن المقيد هو الحكم المذكور في حديث أسيد منطوقًا لكان المعلوم أن التقييد المراد منه هو تقييد حديث سمرة باعتبار تلك الرواية المصرحة بالسرقة بضد الحكم المذكور فيه، وهو لا يخالف الرواية التي في حديث سمرة فلم يختلف الحكم. هذا على التسليم والتنزيل، وإلا فقد صرحنا بالمقيد تصريحًا لا يشك فيه.
وأما إذا كان ما في الحديثين يؤدي معنى ما ذكرنا من المثال ويتضمنه فالمناقشات التي أوردها - كثر الله فوائده - مندفعة، وبيانه أن قوله في صدر البحث ما نصه: الأول: حمل المطلق على المقيد لا يتم إلا فيما اتحد حكمهما (1) ... إلخ.
يجاب عنه بالقول بموجبه، فإن كان هذا الكلام مناقشة لما أجبت به في تقرير
_________
(1) تقدم توضيحه في بداية الرسالة.(9/4729)
الإطلاق والتقييد فهو لا يرد، لن الحكم في ذلك التقرير متحد لا مختلف، وإن كان مناقشة لغيره فما هو حتى ننظر فيه؟.
قوله - كثر الله فوائده -: ومن ثم اختلفوا ... إلخ.
أقول: هذا جعله تأييدًا، فإنه من الوضوح بمكان لا يخفى، فتقرير الاعتراض وتقريبه بمثل مثال الرقبة، ومثل هذا إنما [3أ] يحسن في خطاب من هو خالي الذهن عن ذلك.
قال (1) - كثر الله فوائده -: وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن الحكم في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ... إلخ.
أقول: لم يرد هذا الذي سبق إليه فهم السائل - عافاه الله - بل أردنا ما سبق تقريره على أنا لو أردنا هذا لما كان في ذلك من ضير؛ لأنه سيكون التقييد بحكم الضد، وهو سائغ شائع فكان على السائل - عافاه الله - أن يقول عند تحرير هذا: إن المجيب إن أراد التقييد بنفس الحكم فهو مخالف لحكم المطلق، وإن أراد التقييد بضد حكمه فهو موافق ولا بأس، ولكنه حمل كلام المجيب على ما صرح بخلافه، وأوضح أنه مراده، ثم لم يحمل كلام المجيب بعد قلب كلامه على المحمل الذي يصح الكلام عليه، بل على المحمل الذي يرد الاعتراض به، فكان على هذا الاعتراض اعتراضات:
الأول: عدم تدبر كلام المجيب كما ينبغي.
الثاني: عدم التنبه لما صرح به من أن التقييد وقع بأحد معنيي حديث أسيد.
الثالث: عدم استيفاء ما يحتمله كلام المجيب على فرض أنه أراد التقييد بالمعنى المصرح بحكمه بالمنطوق، فإنه كما يحتمل التقييد بعين الحكم المذكور فيه: يحتمل التقييد بنقيضه.
الرابع: أنه لو كان هذا الذي فهمه السائل - كثر الله فوائده - هو مراد السائل قطعًا وبتًا لكان عليه حمله على ما يصح، وهو التقييد بالضد، لا على ما يبطل، وهو التقييد،
_________
(1) السائل في الرسالة رقم (152).(9/4730)
يعني الحكم.
الخامس: أنه قد ذكر في كلامه هذا - كثر الله فوائده - ما كان في تأمله دفع ما أورده، وهو ما أشار إليه من الاختلاف في تأخر المقيد عن المطلق، فإنهم قد أحالوا الكلام في الإطلاق والتقييد على الكلام في التعميم والتخصيص، في جميع الأحكام المتفق عليها، والمختلف فيها.
ومن جملة ما صرحوا به في مباحث التخصيص هو التخصيص (1) بالمفهوم، فكان عليه - عافاه الله - أن يتنبه لهذا حتى يعلم أن كلام المجيب لو كان محتملاً لكان حمله على ما يصح أولى من حمله على ما يبطل.
قال - كثر الله فوائده -: نعم. قد يحمل المطلق على التقييد مع اختلاف حكمهما (2) ... إلخ.
أقول: هذا منه تجريد للنظر إلى أحكام المنطوق، وإغماض عن حكم المفهوم بالمرة، وإلا فمعلوم أن مثل: " في الغنم السائمة زكاة " (3)، ومثل: " لا زكاة في المعلوفة "، وإن كان الحكم المنطوق به مختلفًا، لكن لا زكاة في المعلوفة وجوب الزكاة في غير المعلوفة وصف عدم وجوب الزكاة في غير السائمة فلو كان أحد المنطوقين أعم من أحد المفهومين أو العكس أو كان أحدهما مطلقًا والآخر مقيدًا لم يمتنع البناء ولا الحمل وهذا إنما هو مجرد إيضاح وتصوير فلا يشترط تطبيقه على محل النزاع، ومع هذا فقد صرح أهل الأصول بما هو أعم مما ذكره من تخصيص ذلك بما إذا كان المطلق مترتبًا على المقيد، فإنهم قالوا إن اقتضى المطلق لأمر ينافيه حكم المقيد إلا عند تقييده بضده مسوغ لتقييده
_________
(1) انظر " إرشاد الفحول " (ص528 - 529، ص596)، " البحر المحيط " (3/ 381).
(2) تقدم ذكره.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1454) وأبو داود رقم (1567) والنسائي (5/ 18 - 23 رقم 2447) من حديث أنس.
ناقش الشوكاني هذا الموضوع مفصلاً في " إرشاد الفحول " (450، 493، 596، 597).(9/4731)
بذلك الضد وما نحن فيه.
قال (1) - كثر الله فوائده -: الثاني: أن حمل المطلق على المقيد فيه جمع بين الدليلين ... إلخ.
أقول: نحن نقول بموجب هذا. قولكم: وهذا الذي ذكره المجيب ليس فيه إلا أن المقيد بقي على حالته، والمطلق حمل على ضد المقيد.
قلنا: ممنوع والسند أن المطلق حمل على عين المقيد، وهو المستفاد من مفهوم الشرط سلمنا أن المقيد هو المذكور صريحًا، والمطلق حمله على ضده، فكان ماذا؟ وأي بأس في مثل هذا؟ فإن حمل المطلق على ضد المقيد إذا أفاد تقليلاً [4أ] لشيوعه وانتشاره كان صحيحًا. وقولكم: فإن المقيد هو الرجل غير المتهم لا المتهم.
قلنا: هذا ممنوع، فنحن نطالبكم بالدليل على هذا الجزم، فإن كان الدليل شيئًا وجدتموه في جوابي فما هو؟ فإني أقول: إني قد صرحت فيه بما يفيد ضد هذا الجزم كما سبق، وإن كان الدليل على هذا الجزم شيئًا آخر فما هو، وأين هو؟ على أنه لو وجد ما يفيد هذا لم يكن فيه ما يقتضي الاعتراض، فالتقييد بنقيض الحكم كالتقييد بعينه، والتخصيص كذلك، فما معنى قولكم، وهذا شيء غير حمل المطلق على المقيد؟ فإن هذا شفيع دعوى ممنوعة بدعوى ممنوعة، وضم ما هو شبيه بالمصادرة إلى ما هو شبيه بالمصادرة.
قال - كثر الله فوائده -: وخلاصته إلى قوله: وهذا أشبه شيء بتخصيص العام.
أقول: هذا تقول بموجبه، فحمل المطلق على المقيد أشبه شيء بتخصيص العام، ولا فرق بينهما إلا مجرد كون العام شموليًا (2)، والمطلق بدليًا، وليس المطلوب من الحمل في
_________
(1) أي السائل.
(2) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص397): اعلم أن العام عمومه شمولي وعموم المطلق بدلي، وبهذا يتضح الفرق بينهما، فمن أطلق على المطلق اسم العموم فهو باعتبار أن موارده غير منحصرة فصح إطلاق اسم العموم عليه من هذه الحيثية. والفرق بين عموم الشمول وعموم البدل أن عموم الشمول كلي يحكم فيه على كل فرد فرد، وعموم البدل كلي من حيث إنه لا يمنع تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه، ولكن لا يحكم فيه على كل فرد فرد، بل على فرد شائع في أفراده يتناولها على سبيل البدل ولا يتناول أكثر من واحد منها دفعة.
انظر: " تيسير التحرير " (1/ 194 - 195).(9/4732)
المطلق إلا تقييد ما كان بدليًا ببعض الأبدال، كما أنه ليس المطلوب من بناء العام على الخاص إلا إخراج بعض الأفراد من تحت حكم العام، وهي الأفراد التي يتناولها الخاص، وينبغي أن تعلم أن هذه الخلاصة التي جاء بها السائل - نفع الله بعلومه - قد أشارت إلى الوفاق بكف سوي تأدت باندفاع ما قدمه بصوت علي قوي، فإن الرجل المذكور في حديث سمرة قد كان لفرد منتشر بين أفراد المتهم وغير المتهم، فكان تقييده بالمتهم المذكور مفهومًا في حديث أسيد [4ب] مقللاً لانتشاره، وموجبًا لحمله على بدل من تلك الأبدال. وإذا كان الأمر هكذا باعتراف السائل - عافاه الله - فما بقي للخلاف معنى، بل صار النزاع ضائعًا.
قال - كثر الله فوائده -: لا يستقيم إلا في الرجل غير المتهم ... إلخ.
أقول: لعله بني على هذا التلازم بين كون الرجل متهمًا، وبين كونه سارقًا وهذا ممنوع، فإنه لا تلازم لا عقلاً، ولا شرعًا، ولا عادة. أما عقلاً فظاهر؛ إذ ليس من أحكام العقول أن يقضي بأن كل من كان متهمًا بشيء فهو فاعله، وأما شرعًا فلعدم اكتفاء الشارع بمجرد التهم، بل قال: " على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين " (1).
وأما عادة فكم من متهم بأمر ينكشف مظلومًا مبهوتًا! وإذا كان الظن أكذب الحديث (2)، وكان منهيًا عن اتباعه والعمل عليه، فكيف يكون مجرد تهمة رجل لرجل لا
_________
(1) وهو حديث صحيح تقدم تخريجه.
(2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (6064) ومسلم رقم (2563، 2564) وأبو داود رقم (4917) والترمذي رقم (1988) من حديث أبي هريرة قال أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا كما أمركم ... ".(9/4733)
تبلغ حد الظن تصلح للحكم بها على خصمه وغريمه!.
وإذا تقرر هذا علمت أن ما ذكره - دامت إفادته - إنما يتم لو كان المتهم هو السارق قطعًا وبتًا، أما إذا كان الاحتمال كائنًا فالواجب البقاء على الأصل حتى ينقل عنه ناقل، ولا سيما في إثبات مثل هذا الأمر المستلزم للعقوبة في البدن والمال، والموجب للشناعة والعار، فلا مانع من رجوع المتهم في اعتقاد صاحب العين على من باعها منه إن كان قد باعها منه بائع، فلا يتم قوله - دامت إفادته -: أن حكم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - له برجوعه بالثمن يفيد أنه غير المتهم ... إلخ [5أ].
قال - كثر الله فوائده -: وقد مشى على هذا الظاهر أعني: أن الرجل في حديث سمرة مشتر [أخرجه] (1) ابن ماجه في سننه فقال: باب من سرق له شيء فوجده في يد رجل اشتراه ... إلخ.
أقول: هذا التبويب، بل وقوله في متن الحديث: يبيعه ليس في شيء منهما ما يمنع من الإطلاق والتقييد الذي أشرنا إليه، لما قدمنا من أن المتهم لا يلزم أن يكون هو السارق لا عقلاً ولا شرعًا، ولا عادة، فلا يمتنع أن يكون مشتريًا غير سارق مع كونه متهمًا، وهذا ظاهر لا يخفى، فيكون مجرد كونه متهمًا بالسرق عند صاحب العين مسوغًا لأخذ العين منه، وهو إذا كان في الواقع غير سارق، بل صارت إليه العين بشراء أو غيره فلا ظلم عليه، لأنه سيرجع بما سلمه على من باع منه.
فإن قلت: كيف كان مجرد كونه متهمًا مسوغًا لأخذ العين منه بغير موجب! ومجرد كونه غير متهم مانعًا لأخذ العين منه إلا بتسليم العوض.
قلت: لأن من كان غير متهم بالسرقة عند صاحب العين المسروقة فهو بريء عنده من السرقة، فيكون أخذ العين منه بلا عوض ظلمًا بحتًا في اعتقاد الآخذ فضلاً عن غيره.
_________
(1) زيادة استلزمها السياق.(9/4734)
وأما من كان متهمًا عند صاحب العين فهو لا يعتقد أنه مظلوم إذا أخذها منه، وبعد هذا كله فهذا حكم من الشارع الحكيم، فليس لنا أن نستنكره بعقولنا.
قال - عافاه الله -: ولا شك أن ما كثرت طرقه وعاضدته كليات الشريعة ... إلخ.
أقول: هذا الترجيح إن كان [5ب] مبنيًا على ما قدمه من تسليم كون حديث سمرة، وحديث أسيد في غير المتهم بالسرقة فهو ممنوع كما عرفت، وإن كان الترجيح لا باعتبار هذه الرواية في حديث سمرة، بل باعتبار الرواية الأخرى المذكورة فيه، وهي قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به، ويتبع البيع من باعه ". فلا شك ولا ريب أن هذه الرواية أعم مطلقًا من حديث أسيد بن حضير، ومن حديث أسيد بن ظهير، ومن الرواية المصرحة بالسرقة في حديث سمرة.
أما على ما صرح به السائل - عافاه الله - في جوابه من أن حديث سمرة وأسيدًا بما هما في غير المتهم بالسرقة فواضح لا يخفى، وأما على ما قررنا من الإطلاق والتقييد، فلأن غاية ما في ذلك أن حديث أسيد بن حضير [6أ]، وحديث أسيد بن ظهير قد صرحا بحكم وجود العين المسروقة في يد غير المتهم، وهذا الحكم هو التخيير، وتلك الرواية المصرحة بالسرقة في حديث سمرة قد تضمنت بحكم حمل المطلق على المقيد أنها في الرجل المتهم، وجميع هذا المستفاد من هذه الروايات أخص مطلقًا من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في حديث سمرة: " من وجد عين ماله عند رجل " فكيف صار السائل - كثر الله فوائده - إلى التعارض بين عام وخاص في غاية الظهور والوضوح! وقد علم أن بناء العام على الخاص (1) متفق عليه في الجملة عند من يعتد بقوله من علماء الأصول وغيرهم كما هو معروف مشهور.
ووقوع الخلاف في بعض الأسباب والشروط لا يقدح في الإجماع على الجملة كما هو معروف، فإن كان هذا الإهدار لوجود قادح في الخاص فما هو؟ فقد أوضحنا الكلام
_________
(1) تقدم ذكره. وانظر: " إرشاد الفحول " (ص455)، " البحر المحيط " (3/ 198).(9/4735)
على أسانيد تلك الأحاديث في جواب السؤال، وإن كان لمجرد الذهول عن كون قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من وجد عين ماله " أعم مطلقًا من قول الراوي: قضى في العين المسروقة، ومن قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إذا وجد العين المسروقة " فمثله - عافاه الله - في فهمه وعلمه يتخلص عن هذا الذهول بأدنى التفات، وإن كان لكون هذا العام قد صار بالمعاضدة قاعدة كلية قطعية لا يخصص [6ب] بالآحاد. فهذا وإن كان مذهبًا (1) مشهورًا لبعض أهل العلم لكنه بمكان من الضعف، وموضع من السقوط لا يخفى على مثل السائل - كثر الله فوائده، ومد على الطلاب موائده -.
وإلى هنا انتهى الكلام على ما أفاد به من المناقشة - دامت إفادته -.
حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما [7أ]-.
_________
(1) ذكره الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص523)، " البرهان " (1/ 426 - 430).(9/4736)
48/ 2
بحث في قاذف الرجل
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(9/4737)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في قاذف الرجل.
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله.
وبعد: فإنه سألني بعض العلماء المبرزين عن البحث.
4 - آخر الرسالة: ليس إلا هجيري أهل التقليد والقحة. انتهى.
فلدفع مثل هذا الخيال الواقع لصاحب السؤال لا برح في ألطاف ذي الجلال استعملنا في الجواب ما استعملنا، وفي هذا المقدار كفاية، والله ولي الهداية.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الصفحات: 11 صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(9/4739)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، وبعد: فإنه سألني بعض العلماء المبرزين عن البحث الذي أورده العلامة الحسن بن أحمد الجلال - رحمه الله - في ضوء النهار (1) أنه لا يحد قاذف الرجل، وإنما يختص وجوب الحد بقاذف المرأة، واستحسن السائل ذلك البحث ورجحه، وقال: لا عذر من المصير إليه، وهاأنا الآن أورد كلام الجلال، وأتكلم على ما فيه، ثم أورد ما يدل على ثبوت الحد على قاذف الرجل.
قال رحمه الله ما لفظه: وأما قاذف الرجل فلا تنتهض عليه الآية؛ لأن جمع المؤنث لا يطلق على جمع المذكر تغليبًا ولا غيره كما علم، وربما يدعى فيه الإجماع وفي نفسي منه شيء؛ لأن نقل الإجماع لا يصح.
أقول: ذكر أنه ربما يدعى فيه الإجماع ثم تخلص من صحة هذه الدعوى بكون في نفسه من ذلك شيء، ثم علل لما وجده في نفسه بأن نقل الإجماع لا يصح. ولا يخفاك أنه إذا لم يصح النقل للإجماع كما زعمه لم يبق حجة للناقل، سواء وقع في نفس المعترض على النقل ما ذكره من الشيء أم لم يقع، فإن كان المستند لدفع النقل هو مجرد وقوع شيء في نفسه فليس على الناقل من هذا الشيء شيء، ولا ينفق في سوق المناظرة وقوع الشك في نفس أحد المتناظرين، ولا يندفع به حجة الناقل للحجة، ولو كان مجرد الشكوك قادحًا في النقول التي تورد في مقام المناظرة لم يبق لمناظر حجة على خصمه، ولا يصفو له دليل؛ لأنه لا يعجز الآخر أن يقول: في نفسي من هذا شيء.
وإن كان المستند لدفع النقل هو عدم صحة النقل قائمًا فائدة لتوسيط قوله: وفي نفسي منه شيء. فإن دفع صحة النقل كاف سواء وقع في نفسه ذلك الشيء أم لا [1أ]،
_________
(1) (4/ 2270).(9/4743)
ثم إذا كان الخصم قد نقل الإجماع فالمقام مقام أن تطلب منه صحة النقل لا مقام أن يقال له: هذا النقل لا يصح. فإن هذه مقابلة لدعوى بدعوى، ولا بد أن يقال: من أين لك أن هذا النقل غير صحيح؟ فإنه ليس على الناقل إلا مجرد تصحيح النقل، وعليك إبطال ما نقله بإيراد من قال بما يخالف ما نقله الناقل، فتقول مثلاً: قد قال فلان من العلماء بأنه لا يحد قاذف الرجل.
قال: ولا دليل بعده إلا العقل وهو القياس والنقل، ولا دليل فيهما. أما القياس فلأن شرع جلد القذف إنما كان لدفع النقيصة التي كانت تلحق العرب من جهة زنا النساء ولهذا كانوا يئدون البنات (1).
أقول: ما جزم به من أنه لا دليل بعده إلا العقل وهو القياس يتوقف على أن الاستحسان (2)، ........................................
_________
(1) قال الأمير الصنعاني في " منحة الغفار حاشية ضوء النهار " (4/ 2270 - 2271):
قوله: إنما لدفع النقيصة، لا بد من الدليل على أن هذه علة شرعية على حد القذف، ولا دليل، بل قد يقال: النقيصة قد وقعت بنفس الرمي والجلد لا يدفعها، فلو قيل: أن العلة في شرعية حد القذف هي صيانة الأعراض؛ لأنه إذا علم من يريد الرمي أنه يجلد ترك ذلك كما في حكمة مشروعية القصاص فإنها حقن للدماء؛ لأنه إذا علم أنه إذا قتل ترك القتل كما أشار إليه قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} لكان أولى والنساء والرجال في هذا سواء.
قوله: ولهذا كانوا يئدون البنات، قال الأمير الصنعاني تعليقًا على ذلك ما نصه: " أي كان العرب يقتلون البنات صغارًا لدفع نقيصة الرمي بالزنى سدًا للذريعة بقتلهن صغارًا؛ وفي كتب التفسير أن قتل العرب للبنات إما مخافة الإملاق أو لخوف العار الذي يلحق من أجلهن، ولا يخفى أن هذا الوأد للبنات إنما كان من بعض العرب خاصة وشرعية الجلد لكل من قذف محصنة من العرب كان أو العجم، وكأن الشارح يريد أن ذلك سبب النزول فلا يمنع عموم الحكم ".
انظر: " تفسير القرآن العظيم " لابن كثير (3/ 361 - 362).
(2) الاستحسان: هو العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي خاص، وهو مذهب أحمد. وقد تقدم.
" المسودة " (ص451).
حجية الاستحسان:
1 - ذهب جمهور الحنفية والمالكية والحنابلة أنه دليل شرعي تثبت به الأحكام في مقابلة ما يوجبه القياس، أو عموم النص، وقد تعدت عباراتهم في تعريفه وفي بيان أنواعه.
2 - ذهب الشافعي إلى أنه ليس بدليل شرعي، فقد قال الشافعي في الرسالة (ص503): " الاستحسان تلذذ، ولو جاز لأحد الاستحسان في الدين لجاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم، ولجاز أن يشرع في الدين في كل باب وأن يخرج كل أحد لنفسه شرعًا ".
3 - ذهب فريق من العلماء أنه دليل شرعي ولكنه ليس دليلاً مستقلاً بل هو راجع إلى الأدلة الشرعية الأخرى؛ لأن مآله عند التحقيق هو العمل بقياس ترجيح على قياس أو العمل بالعرف، أو المصلحة.
فقد قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص789) آخر البحث الرابع الاستحسان ما نصه: فعرفت بمجموع ما ذكرنا أن ذكر الاستحسان في بحث مستقل لا فائدة فيه أصلاً؛ لأنه إن كان راجعًا إلى الأدلة المتقدمة فهو تكرار، وإن كان خارجًا عنها فليس من الشرع في شيء بل هو من التقول على هذه الشريعة بما لم يكن فيها تارة وبما يضادها أخرى.
وانظر " تيسير التحرير " (4/ 78)، " اللمع " (ص68).(9/4744)
والتلازم (1)، وشرع من قبلنا (2) ليست أدلة، ثم قوله بعد ذلك: والنقل فيه شيء؛ لأن
_________
(1) التلازم أربعة أقسام: لأن التلازم إنما يكون بين حكمين وكل واحد منهما إما مثبت أو منفي، وحاصله إذا كان تلازم تساو فثبوت كل يستلزم ثبوت الآخر ونفيه نفيه.
وإن كان مطلق اللزوم فثبوت الملزوم يستلزم ثبوت اللازم من غير عكس، ونفي اللازم يستلزم نفي الملزوم من غير عكس، وإذا كان بين الشيئين انفصال حقيقي فثبوت كل يستلزم نفي الآخر ونفيه ثبوته، وإن كان منع جمع فثبوت كل يستلزم نفي الآخر من غير عكس.
وخلاصة هذا البحث ترجع إلى الاستدلال بالأقيسة الاستثنائية والاقترانية.
قال الشوكاني في آخر البحث - التلازم -: والصواب أنه استدلال لا دليل ولا مجرد دعوى.
" الكوكب المنير " (4/ 397)، " الإحكام " للآمدي (4/ 125).
(2) وهي الأحكام التي شرعها الله تعالى لمن سبقنا من الأمم، وأنزلها على أنبيائه ورسله لتبليغها لتلك الأمم.
" تيسير التحرير " (3/ 229)، " إرشاد الفحول " (ص779).
وهي على أربعة أنواع:
الأول: أحكام جاءت في القرآن أو في السنة، وقام الدليل في شريعتنا على أنها مفروضة علينا كما كانت مفروضة على من سبقنا من الأمم والأقوام، وهذا النوع من الأحكام لا خلاف في أنه شرع لنا، ومصدر شرعيته وحجيته بالنسبة إلينا هو نفس نصوص شريعتنا مثل فريضة الصيام، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 183].
الثاني: أحكام قصها الله في قرآنه أو بينها الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سننه، وقام الدليل من شريعتنا على نسخها في حقنا، أي أنها خاصة بالأمم السابقة، فهذا النوع لا خلاف في أنه غير مشروع في حقنا مثل ما جاء في قوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} [الأنعام: 145 - 146].
دلالة الآية: ما حرم على بني إسرائيل لم يحرم علينا بل أحله لنا.
الثالث: أحكام نقلت إلينا من كتب أصحاب تلك الشرائع أو على ألسنة أتباعها، وهذا النوع لا يكون شرعًا لنا بلا خلاف بين العلماء، لما وقع في كتبهم من تغيير وتحريف، ولأن غير المسلم لا يوثق به في نقل شريعة المسلم إليه، بل لا يوثق به حتى في نقل ما هو شرع على ادعائه. قال تعالى: {وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون}.
الرابع: أحكام قصها الله في قرآنه أو بينها الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سنته، ولم يقم دليل من سياق هذه النصوص على بقاء الحكم أو عدم بقائه بالنسبة لنا مثل قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} [المائدة: 45] فهذا النوع هو الذي وقع فيه الخلاف، واختلف في حجيته بالنسبة إلينا، والحق أن هذا الخلاف غير مهم في العمل.
لأننا نجد القائلين بأن شرع من قبلنا حجة يلزمنا العمل بها قلما يحتجون به في مسألة إلا ويقصدون احتجاجهم هذا بدليل آخر ثابت من شرعنا ومقبول لدى الجميع على وجه الإجمال.
كما أننا نجد القائلين بنفيه كثيرًا ما يستأنسون بنصوص تذكر أحكامًا وردت في شرع من قبلنا وإن كانوا لا يعتمدونها أصلاً في هذه المسألة.
" المسودة " (ص193 - 194) و" أصول مذهب الإمام أحمد " (ص541).(9/4745)
الإجماع هو من النقل، فكأنه قال لم يبق بعد الإجماع الذي هو من النقل إلا النقل، ثم قال: أما القياس فلأن شرع جلد القذف ... إلخ.
أقول: تعليل مشروعية القذف بكونه لدفع النقيصة كما زعمه إن كان لنقل عن الشارع فما هو؟ وإن كان لنقل عن المتشرعين فباطل، فإنهم ما زالوا يجلدون قاذف الرجل كما يجلدون قاذف المرأة في أيام الصحابة فما بعدهم، وإن كان لمسلك من مسالك العلة المدونة في الأصول، فكيف تقريره حتى يتكلم عليه! وإن كان لنقل عن أهل الجاهلية فلا ينفعه ولا يضرنا؛ لأن كلامنا في الحد الثابت في الشرع لا فيما كان عليه أهل الجاهلية، فإنه لا شرع عندهم ولا حد، فليس مثل هذا الكلام يشبه كلام أهل العلم المتكلمين في الأحكام الشرعية فما لنا ولما كان يلحق العرب من جهة النساء، ثم لو قال قائل: إن حد القذف سبب مشروعيته حفظ الأعراض عن الشتم بهذه [1ب] المعصية كان ذلك أقرب مما جعله الغاية، سواء كان المسلك الذي سلكه هو تخريج المناط (1)، أو السبر (2) والتقسيم (3)، ومن زعم أنه إذا قيل للرجل المسلم: يا زاني لم يكن ذلك شتمًا، ولا يتأثر له المشتوم فقد أعظم الفرية على أهل الشرع.
قال: وأما الرجال فلم يكونوا يرون بأسًا، بل ربما كانوا يشببون أشعارهم به فجرًا كما قال رئيسهم امرؤ القيس:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول (4)
_________
(1) تقدم تعريفه.
(2) تقدم تعريفه.
(3) تقدم تعريفه.
(4) وهو من قصيدة " قفا نبك " وهي معلقته المشهورة.
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
" ديوان امرئ القيس " (ص113).
ومعناه: ذو تمائم محول: طفل لها رضيع له حول. ويروى أنه يقول لها منفقًا نفسه عندها: إن الحامل والمرضع لا تكادان ترغبان في الرجال، وهما يرغبان في لجمالي ومزاياي.
" حاشية الديوان " (ص113).(9/4747)
أقول: إن كان هؤلاء الذين كانوا لا يرون باسًا هم أهل الجاهلية فما لنا ولهم! فقد كانوا يرون أن القتل، ونهب الأموال، وشرب الخمر من أعظم المناقب، والتمادح بمثل هذه الأمور، والتفاخر بها في كلامهم نظمًا ونثرًا أكثر من الزنا، يعرف هذا كل من له علم بأحوالهم. ثم جاء الإسلام وجعل هذه الأمور التي كانوا يعدونها مناقب مثالب ومعاصي كبيرة، ومخازي عظيمة. وإن كان هؤلاء الذين كانوا لا يرون بالزنا بأسًا هم أهل الإسلام فهذا كذب بحت، وزور صراح، فأي فائدة تتعلق بمثل هذا الكلام الساقط! وأي مسلم من المسلمين لا يرى بقول من قال له: يا زاني بأسًا!.
قال: حتى إن معاوية بن أبي سفيان استلحق زيادًا (1) في الإسلام، ولم ير بنسبته الزنا
_________
(1) قال الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (3/ 494): زياد بن أبيه وهو زياد بن عبيد الثقفي وهو زياد ابن سمية وهي أمه، وهو زياد بن أبي سفيان الذي استلحقه معاوية بأنه أخوه. يكنى أبا المغيرة له إدراك، ولد عام الهجرة وأسلم زمن الصديق وهو مراهق وهو أخو أبي بكرة الثقفي الصحابي لأمه. ثم كان كاتبا لأبي موسى الأشعري زمن إمرته على البصرة.
* يقال: إن أبا سفيان أتى الطائف، فسكر، فطلب بغيًا، فواقع سمية وكانت مزوجة بعبيد، فولدت من جماعه زيادًا، فلما رآه معاوية من أفراد الدهر، استعطفه وادعاه، وقال: نزل من ظهر أبي.
قال الحافظ في " الفتح " (12/ 46): وكان كثير من الصحابة والتابعين ينكرون ذلك على معاوية محتجين بحديث: " الولد للفراش ".
وأخرج البخاري في صحيحه (12/ 46) في " الفرائض ": باب من ادعى إلى غير أبيه، من طريق مسدد، عن خالد بن عبيد الله الواسطي، عن خالد بن مهران الحذاء عن أبي عثمان النهدي، عن سعيد - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام " فذكرته (القائل أبو عثمان النهدي) لأبي بكرة، فقال: وأنا سمعته أذناي، ووعاه قلبي من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأخرجه مسلم رقم (63) من طريق عمرو الناقد، حدثنا هشيم بن بشير، أخبرنا خالد عن أبي عثمان، قال: لما ادعي زياد لقيت أبا بكرة، فقلت له: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمعت أذناي من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقول: " من ادعى أبًا في الإسلام غير أبيه، يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام " فقال أبو بكرة: وأنا سمعته من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال الحافظ ابن حجر: " وإنما خص أبو عثمان النهدي أبا بكرة بالإنكار؛ لأن زيادًا كان أخاه من أمه ".
انظر: " شذرات الذهب " (1/ 59)، " التاريخ الكبير " (3/ 357)، " طبقات ابن سعد " (7/ 99).(9/4748)
إلى أبيه بأسًا وغير ذلك.
أقول: لا ينكر أحد من أهل العلم أن زنا أبي سفيان كان في أيام جاهليته (1) قبل أن يسلم، فإذا لم ير ابنه بأسًا بذلك الزنا فلكونه في الجاهلية، ومع هذا فقد نعى الناس على معاوية ما وقع منه، أما من جهة كونه مخالفًا للشرع فالأمر أشهر من ذاك.
وأما من جهة كونه لم يستنكف عن نسبة ذلك إلى أبيه فقد قيلت فيه الأشعار، ونعاه عليه قرابته فضلاً عن غيرهم، ومما قيل في ذلك من الأشعار قول يزيد [2أ] بن مفرغ (2)
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ ولقب جده مفرغًا؛ لأنه راهن على سقاء لبن أن يشربه كله فشربه كله حتى فرغه فلقب مفرغًا. ويكنى أبا عثمان، وهو من حمير.
قالوا: إن ابن مفرغ هجا زيادًا وبني زياد بما هتكه في قبره، وفضح بنيه طول الدهر، وتعدى ذلك إلى أبي سفيان، فقذفه بالزنا وسب ولده.
وقال عمر بن شبة في خبره، جمع عباد بن زياد كل شيء هجاه به ابن مفرغ وكتب به إلى أخيه عبيد الله وهو يومئذ وافد على معاوية فكانت هذه الأبيات ضمن ما كتب.
فدخل عبيد الله بن زياد على معاوية فأنشده هذه الأشعار، واستأذنه في قتله فلم يأذن له وقال: أدبه أدبًا وجيعًا منكلاً، ولا تتجاوز ذلك إلى القتل.
" الأغاني " (18/ 265 - 266)، " الشعر والشعراء " لابن قتيبة (1/ 319).(9/4749)
حيث قال ناعيًا ذلك عليه:
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عف ... وترضى أن يقال أبوك زاني
فأشهد إن رحمك من زياد ... كرحم الفيل من ولد الأتاني
وكانت هذه القضية من فواقر الإسلام، ولم يفعل غير معاوية من المسلمين كفعله، لا من قبله ولا من بعده، فلا أدري ما معنى قوله: وغير ذلك، فإن أراد ما يصف به أهل الفجور أنفسهم من الإقدام على معصية الزنا فليس مجرد نسبة العاصي إلى نفسه شيئًا من المعاصي يفيد أنه لا يرى غيره من أهل الإسلام بأسًا بنسبة ذلك إليه، هذا يعلمه كل عاقل فضلاً عن عالم. وقد نسب الفساق إلى أنفسهم ما هو أشد من ذلك كاللواط منهم وبهم وغير ذلك مما لا يرضى بنسبته إليه أقل أهل الإسلام دينًا، وأوضعهم نسبًا، وأضعفهم حسبًا.
قال: وذلك فارق يمنع قياس الرجل على المرأة.
أقول: قد عرفت أنه لم يأت بشيء يصلح للفرق بين الأصل والفرع، وهذا قياس لا مطعن فيه، ولا يرد عليه شيء من الاعتراضات المعتبرة عند أهل الأصول. وقد عمل عليه في إثبات الحد على قاذف الرجل المسلمون أجمعون كما عملوا على القياس في تنصيف الجلد الوارد في قوله تعالى: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} (1).
قال: وأما النقل فليس فيه إلا ما يتوهم أن الذين آمنوا في قوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا} (2) يشمل الرجال، ولا ينتهض دليلاً [2ب]؛ لأن شيوعها فيهم عبارة عن لحوق عارها لهم، وعار زنا المرأة لاحق لرجالها ضرورة عرفية.
_________
(1) [النساء: 25].
(2) [النور: 19].(9/4750)
أقول: إن كان الاعتبار في مثل هذه الآية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالفاحشة عامة، والذين آمنوا عام، ومقتضى ذلك أن من أحب أن تشيع أي فاحشة في أي مؤمن فهو كما قال الله - سبحانه - من غير فرق بين فاحشة الزنا وغيرها، فما معنى قوله: لا ينتهض ذلك دليلاً! معللاً ذلك بأن شيوعها فيهم عبارة عن لحوق عارها لهم، وعار زنا المرأة لاحق برجالها ضرورة عرفية. فهب أن عار زنا المرأة لاحق برجالها فكان ماذا؟ هل هذا اللحوق ينفي لحوق غير ما هو من جهة النساء بهم، وهل يقول بمثل هذا عالم، ويورده في مقامات الكلام على كتاب الله - سبحانه - ويتكل في تخصيصه بمثل هذا الخيال الباطل رأيًا، ورواية، وقرآنًا، وإجماعًا! فانظر كيف وقع - رحمه الله - بهذا الكلام في بلية أشد مما فر منه، بينما هو يدعي أن الزنا لا يرى به الرجال إذا نسب إليهم بأسًا، إذ جاوز ذلك إلى أن كل فاحشة كذلك، زاعمًا أنه يلحق الرجال العار بما يقع من النساء من الفواحش، ذاهلاً عن كون تسليم هذا الزعم لا ينفي لحوق غير ما كان من طريق النساء بهم، لا عقلاً، ولا شرعًا، ولا عادة. ولا يدل على ما أراده بوجه من وجوه الدلالات.
ولقد أوقع - رحمه الله - نفسه في مضيق وليس العجب منه فقد يقع للعالم مثل هذا الكلام الساقط، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إنما العجب ممن يستحسن مثل هذا الكلام ويقول: إنه لا محيص منه، وأنه يلزم الناس العمل عليه إذا أنصفوا.
قال: وأما حد عمر لنفيع أبي بكرة وأخيه نافع، وشبل بن معبد حين نكل [3أ] زياد عن الشهادة معهم على زنا المغيرة بأم جميل بنت محجن زوجة الحجاج بن عبيد حين أفهمه عمر رغبته في ستره كما ثبت ذلك عند الحاكم في المستدرك (1)، والبيهقي (2)، وأبي .............................
_________
(1) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (4/ 117).
(2) في " السنن الكبرى " (8/ 234) و (10/ 147).(9/4751)
نعيم (1)، وأبي موسى في الذيل (2)، والبلاذري (3)، وعبد الرازق (4)، فقصة مظلمة.
أقول: القصة متواترة لم يخالف في صحتها وتواترها أحد من أهل الشرع، وهي غالب كتب السير (5) والتاريخ (6)، فما يعني بقوله: مظلمة؟ فإن هذا رد مظلم، ومراوغة ظاهرة، وإيهام على المقصرين بما لا يهتدون إليه، ثم ما معنى قوله: حين أفهمه عمر رغبته في ستره، فصان الله عمر أن يوهم شاهدًا في حد من حدود الله بما يثنيه عن الشهادة، وهل يجترئ على مثل عمر بن الخطاب بمثل هذا الكلام منصف! فقد علم كل عالم أنه لما شهد الأول قال عمر: اذهب مغيرة ذهب ربعك، ولما شهد الثاني قال: اذهب مغيرة ذهب نصفك، ولما شهد الثالث قال: اذهب مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك. فهل هذا كلام من يريد إبطال حد من حدود الله حتى يفهم بعض شهوده أنه راغب في إبطاله؟ ولعمري إن هذه العبارة تتضوع منها رائحة، وينبض عندها عرق. ولعل صاحب البحث - رحمه الله - ذكر عهودًا بالحمى فحن إليها.
وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالك
إذا ذكرت أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
وأما ما روي (7) من قول عمر - لما رأى زيادًا مقبلاً -: هذا رجل لا يشهد إلا بحق وفي رواية (8) إني لأرى رجلاً لا يشهد إلا بحق، فليس هذا من إفهام الشاهد الرغوب
_________
(1) في المعرفة كما ذكره ابن حجر في " التلخيص " (4/ 117).
(2) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (4/ 117).
(3) في " فتوح البلدان " (2/ 423 - 424).
(4) في مصنفه (8/ 362 رقم 15549).
(5) " سير أعلام النبلاء " (3/ 27).
(6) " تاريخ ابن عساكر " (17/ 38).
وانظر: " المغني " (12/ 367). " المحلى " (11/ 259).
(7) انظر المصادر السابقة.
(8) انظر المصادر السابقة.(9/4752)
في نكوله عن الشهادة، بل ولا هو من التعريض له كما زعمه بعض أهل الفقه.
ثم ما معنى ما وصفه من نكول زياد عن الشهادة، فإنه قد شهد بما رآه، ووصف وصفًا يحكي به الهيئة التي شهد عليها [3ب]، وقال كما في بعض الروايات (1) رأيت نفسًا يعلو، واستًا تنبو، ورجلين من ورائه كأنهما رجلا حمار. وفي روايات آخرة: قال بما هو أدق وصفًا من هذا، ولكنه لم يشهد على أنه رأى ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة، والرشاء في البئر. ولقد كان المغيرة يقول للشهود الأولين عند أن ذكروا أنهم رأوه كالمرود في المكحلة: لقد ألطفتم النظر ولو كنتم بيني وبينها لما أدركتم أين ذاك مني من ذاك منها. ونعم لعمري لقد ألطفوا النظر إلى حد لا يقدر عليه من هو عند المجامع في مكان الجماع، فكيف بمن أشرف من داره إلى دار جاره فكشفت الريح عن سترة ظهر خلفها رجل قاعد بين شعب امرأة يجهدها فهل يدرك مثل هذا المرود في المكحلة، ويشهد على ذلك! فلا معنى لما ذكره من نكول زياد عن الشهادة كما لا معنى لما ذكره من رغبة عمر.
نعم مجرد الرغبة في ستر من أتى شيئًا من هذه القاذورات قد ورد في الشرع، ولكن الشأن في رغبة بعد الرفع إلى الإمام تقتضي نكول الشاهد عن شهادته، فليس هذا من الرغبة في مطلق الستر، ولا من الميل إلى درء الحدود بالشبهات.
قال: حتى روي (2) أن عليًا قال: إن حددتهم فارجم المغيرة، وفي رواية: فأعط صاحبك حجارة. ولا وجه لترتيبه رجم المغيرة على حد الثلاثة.
أقول: هذا الكلام من النمط الذي قبله. إما خبط ومجازفة، أو مغالطة ومراوغة، فإن عليًا إنما قال هذه المقالة عند أن أراد عمر أن يجلد أبا بكرة لما قال بعد جلده قولاً يدل على رمي المغيرة بالزنا فقال له علي: إن جلدته يعني جلدًا ثانيًا فارجم المغيرة، لأن
_________
(1) تقدم ذكره. وانظر موسوعة فقه عمر بن الخطاب (ص478).
(2) انظر " المحلى " (11/ 259 - 260).(9/4753)
هذا القذف الواقع بعد الجلد إن كان موجبًا لتكرير الجلد فالقاذف بمنزلة شاهد رابع، ومن شهد عليه أربعة على الصفة المعتبرة يحد، هذا هو الوارد في القصة، ولم يثبت غيره فلم يخالف علي عمر في استحقاق الثلاثة للجلد، وأنهم قذفة، إنما خالفه فيما أراده [4أ] من تكرير جلد أبي بكرة. والأمر واضح لا يخفى، والقصة موجودة في كتب (1) السير والتاريخ والحديث، فمن شك في هذا رجع إليها.
قال (2) ثم في ذلك دلالة على أن حدهم ليس بمجمع عليه كما قيل إنه بمحضر من الصحابة، ولم ينكر فكان إجماعًا، كيف يكون إجماعًا مع خلاف علي!.
أقول: هذا مبني على صحة ما زعمه من مخالفة علي لعمر. وقد عرفت أنه وافقه ولم يخالفه إلا في شيء آخر غير أصل حد القاذف (3) إذا كان المقذوف رجلاً وهو تكرير جلد القاذف إذا تكلم بشيء من القذف بعد جلده، وكان المقذوف واحدًا. وقد وافقه على هذا عمر فاتفقا على أصل جلد القاذف للرجل، كما اتفقا على عدم تكرير جلد القاذف لرجل واحد، فلا خلاف يقدح فيما ذكره من الإجماع.
قال: ولو سلم فغايته إجماع سكوتي (4)، ولا ينتهض السكوتي حجة، لأن عمر كان مهيبًا منفذًا لرأيه، ويعد من الغريب الملغي، ومن شروط الاحتجاج بالإجماع السكوتي
_________
(1) تقدم ذكره.
(2) أي السائل.
(3) قال ابن قدامة في " المغني " (12/ 367): وإذا لم تكمل شهود الزنى فعليهم الحد في قول أكثر أهل العلم، منهم مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي ثم قال ولنا: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور: 4] وهذا يوجب الجلد على كل رام لم يشهد بما قال أربعة، ولأنه إجماع الصحابة، ثم ذكر قصة جلد عمر لأبي بكرة وأصحابه.
وقال البخاري في صحيحه باب شهادة القاذف والسارق والزاني
وجلد عمر أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعًا بقذف المغيرة ... ".
" فتح الباري " (5/ 255 - 256).
(4) تقدم تعريفه.(9/4754)
أن لا يكون لمانع من الإنكار كما علم في الأصول.
أقول: لا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله (واليوم الآخر)، ويعرف ما عظمه الله ورسوله من حق الصحابة أن يقول بمثل هذه المقالة، أو يظن بالصحابة - رضي الله عنهم - أنهم يكتمون ما عندهم من العلم هيبة لعمر أو غيره، فقد كانوا يراجعونه ويدفعون كثيرًا من أقواله، ويقبل ذلك ولا يغضب ولا ينكره، بل ردت عليه امرأة لما أراد تقدير المهر بقدر لا يثقل على الناس فقالت له: إن الله يقول: {وآتيتم إحداهن قنطارا} (1)، فقال: " كل الناس أعلم من عمر حتى النساء في خدورهن " (2)، ومراجعته (3) هو وجماعة من الصحابة مدونة في كتب الحديث والسير يعرفها كل أحد [4ب].
ثم قد قدم قريبًا ما وقع من علي من الاعتراض على عمر، وهو ينقض عليه ما ذكره هنا، فإن الرجل الذي اعترض عليه علي فيما تقدم هو هذا المهيب الذي لا يستطيع أحد الإنكار عليه. وأما ما يروى عن ابن عباس أنه قال لما قال له قائل: لم لم تظهر قولك في العول في أيام عمر؟ فقال: كان رجلاً مهيبًا فهبته، فينبغي النظر في صحة هذه الرواية (4)،
_________
(1) [النساء: 20].
(2) أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (7/ 233) وسعيد بن منصور في سننه (1/ 166 - 167) وعبد الرازق في مصنفه (6/ 180) عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: خرجت وأنا أريد أن أنهى عن كثرة الصداق فذكرت هذه الآية {وآتيتم إحداهن قنطارا}.
وأخرجه عبد الرازق في مصنفه رقم (10420) عن عمر أنه قال: لا تغالوا في مهر النساء، فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله تعالى يقول: {وآتيتم إحداهن قنطارا من ذهب} - كما في قراءة ابن مسعود - فقال عمر: خاصمت عمر فخصمته.
وانظر: تخريج الحديث في " نيل الأوطار " (4/ 243).
(3) تقدم ذكره.
(4) روي عن ابن عباس، أنه قال، في زوج، وأخت وأم: من شاء باهلته أن المسائل لا تعول، إن الذي أحصى رمل عالج عددًا أعدل من أن يجعل في مال نصفًا، ونصفًا وثلثًا هذان نصفان ذهبا بالمال، فأين موضع الثلث؟ فسميت هذه مسألة المباهلة لذلك، وهي أول مسألة عائلة حدثت في زمن عمر - رضي الله عنه -، فجمع الصحابة للمشورة فيها، فقال العباس: أرى أن تقسم المال بينهم على قدر سهامهم فأخذ به عمر - رضي الله عنه - واتبعه الناس على ذلك، حتى خالفهم ابن عباس، فروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: لقيت زفر بن أوس البصري، فقال: نمضي إلى عبد الله بن عباس، نتحدث عنده، فأتيناه فتحدثنا عنده، فكان حديثه، أنه قال: سبحان الله الذي أحصى رمل عالج عددًا، ثم يجعل في مال نصفًا، ونصفًا وثلثًا، ذهب النصفان بالمال، فأين موضع الثلث! وأيم الله، لو قدموا ما قدم الله، وأخروا من أخر الله، ما عالت فريضة أبدًا، فقال زفر: فمن الذي قدمه الله ومن الذي أخره الله؟ فقال: الذي أهبطه من فرض إلى فرض، فذلك الذي قدمه الله، والذي أهبطه من فرض إلى ما بقي، فذلك الذي أخره الله. فقال زفر: فمن أول من أعال الفرائض؟ قال: عمر بن الخطاب. فقلت: ألا أشرت عليه، فقال: هبته، وكان امرءًا مهيبًا.
أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 253) وسعيد بن منصور في سننه (1/ 44).
انظر: " المغني " (9/ 29 - 30).(9/4755)
وعلى فرض أنه يهابه مثل ابن عباس في إبان شبابه، وأوان حداثته فلا يستلزم ذلك أن يهابه كبار الصحابة، وقد كان يقول: لا أبقاني الله في معضلة ليس فيها أبو الحسن. وقال: لولا علي لهلك عمر. حين اعترض عليه لما أراد رجم الحامل (1).
قال: نعم هو كالرمي بسائر المعاصي، فيه التعزيز لا الحد كما سيأتي.
أقول: قد عرفت اختلال ما رتب عليه هذا الكلام فلا حاجة لإعادة ما قدمنا، وما أدري بعد هذا الجزم منه في أنه لا يجلد قاذف الذكر. ما يقول فيما رمى رجلاً بأنه يلوط أو يلاط به، هل يقول بأنه يحد من قذفه بذلك؟ فإن قال: فلم يتم له ما نفاه نفيًا عامًا، أو يقول: إن اللواط من الرجل وبه، وكان مما تتمادح به العرب ويتفاخرون به، ولا يعدونه عيبًا، ولا يرون به بأسًا، فيكون قد ألصق بالعرب ما هم عنه براء، ونسب إليهم ما لا يوافقه عليه أحد من أهل العلم، أو يقول: إن حد القذف مختص برمي النساء بالزنا، وأن قاذف الرجل باللواط لا يصدق عليه مسمى القذف، فقد ناقض ما ذكره
_________
(1) أخرجه عبد الرازق في " مصنفه " (7/ 350) والبيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 442) وانظر " موسوعة فقه عمر بن الخطاب " (ص479).(9/4756)
من أن شرع حد القذف إنما كان لدفع النقيصة، ودفع العار، ولا عار ولا نقيصة [5أ] أبلغ من عار اللواط ونقيصته عقلاً وشرعًا وعادة، مع كونه يصدق عليه أنه زنا لغة وشرعًا وعرفًا.
وإذا تقرر لك ما قدمناه علمت أنه قد دل على إثبات الجلد على قاذف الرجل القرآن الكريم، وهو قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ... } الآية. وإنما خص المحصنات لأن الغالب أن يكون القاذف لهن لكونهن أسرع إلى الوقوع في المعصية، وهن أصل الفتنة ومنشأ البلية، وهذا وجه للتغليب، ثم لو سلمنا اختصاص هذه الصيغة بالنساء، وأنه لا وجه للتغليب لكان القياس الصحيح السالم عن المطاعن، والاعتراض الجامع للأركان دليلاً كافيًا. ثم إجماع الأمة سلفها وخلفها في كل عصر بعد إجماع الصحابة، ووقوع ذلك من الخلفاء الراشدين الذين هم أهل الشرع، ومن أهل اللغة، فإن كان المبحث لغويًا فهم من أهل اللغة، وإن كان شرعيًا فهم من أهل الشرع، فعلى كل حال هم أعرف بمقاصد القرآن، ومعاني الشريعة، وقد قال فيهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- فيما أخرجه أهل السنن وغيرهم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين عضوا عليها بالنواجذ " (1) فإن هذا النص النبوي مشعر بصلاحية ما وقع من الخلفاء الراشدين للحجية على فرض عدم وجود ما يدل عليه في الشريعة، لا إذا وقع مخالفًا لما هو ثابت فيها.
ثم قد ثبت عند أحمد (2)، وأبي داود (3)، وغيرهما (4) في قصة الملاعنة أن من رماها أو
_________
(1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(2) في " المسند " (1/ 238 - 239).
(3) في " السنن " رقم (2256).
(4) كأبي داود الطيالسي في مسنده (1/ 319 - 320 رقم 1620 - منحة المعبود). والبيهقي في " السنن الكبرى " (7/ 394 - 395) من حديث ابن عباس. وهو حديث صحيح.(9/4757)
رمى ولدها فعليه الحد. ورمي الولد هاهنا مطلق لم يقيد بكون الرمي له [5ب] هو الرمي لأمه، ثم قد ثبت في الصحيحين (1) وغيرهما (2) من حديث أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من قذف مملوكه يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال " فهذا فيه التصريح بثبوت حد السيد إذا قذف مملوكه، وإنما كان مؤخرًا إلى يوم القيامة (3) لأنه لا يثبت للعبد ذلك في الدنيا، فهو يدل أبلغ
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6858) ومسلم رقم (37/ 1660).
(2) كأحمد (2/ 431) وأبو داود رقم (5165) والترمذي رقم (1940).
قال ابن حجر في " الفتح " (12/ 181): تضمنت الآية الأولى بيان حد القذف: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون}.
والثانية بيان كونه من الكبائر بناء على أن كل ما توعد عليه باللعن أو العذاب أو شرع فيه حد فهو كبيرة وهو المعتمد.
{إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} وبذلك يطابق الحديث الآيتين المذكورتين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اجتنبوا السبع الموبقات " قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ".
ثم قال ابن حجر: وقد انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من الرجال حكم قذف المحصنة من النساء.
(3) " ... وإنما خص ذلك بالآخرة تمييزًا للأحرار من المملوكين، فأما في الآخرة فإن ملكهم يزول عنهم ويتكافئون في الحدود، ويقتص لكل منهم إلا أن يعفو، ولا مفاضلة حينئذ إلا بالتقوى .. ".
" فتح الباري " (12/ 185).
* والقذف: هو الرمي بالزنى، وهو محرم بإجماع الأمة، والأصل في تحريمه الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} [النور: 4].
وقال سبحانه وتعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} [النور: 23].
وأما السنة: فقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اجتنبوا السبع الموبقات " قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ". متفق عليه.
ثم قال ابن قدامة في " المغني " (12/ 384) وأجمع العلماء على وجوب الحد على من قذف المحصن إذا كان مكلفًا.(9/4758)
دلالة، ويفيد أعظم إفادة أن قاذف الرجل الحر يثبت عليه الحد في الدنيا.
وبالجملة فهذه المسألة التي حررها الجلال - رحمه الله - بهذا التحرير الذي أوضحنا ما فيه هي من جملة ما أغرب به من الاجتهادات، وهو إمام من أئمة المسلمين، ومحقق من محققيهم، ونحرير من نحاريرهم، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم، وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه، وإنما استعملنا بعض الخشونة فيما كتبناه هاهنا لتصريح السائل - كثر الله فوائده - بأن ما تكلم به هذا الإمام في هذا البحث هو الحق، حتى قال في آخر سؤاله ما لفظه: ووقع في خيالي إنه كلام بمحل من الانتظام والصحة، وإن عدم قبوله ليس إلا هجيري أهل التقليد والقحة. انتهى.
فلدفع مثل هذا الخيال الواقع لصاحب السؤال - لا برح في ألطاف ذي الجلال - استعملنا في الجواب ما استعملنا.
وفي هذا المقدار كفاية، والله ولي الهداية [6أ].(9/4759)
بسم الله الرحمن الرحيم
(155) 48/ 2
مناقشة العلامة حسن بن يحيى الكبسي على بحث في قاذف الرجل للشوكاني
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(10/4761)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: مناقشة العلامة حسن بن يحيى الكبسي على بحث في قاذف الرجل للشوكاني.
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، أحمده وأستعينه وأستهديه. نظرت فيما سأل عنه الأخ النقاب، علامة السنة.
4 - آخر الرسالة: سوده الفقير إلى ربه حسن بن يحيى الكبسي، لعله عيد الأضحى سنة 1220 شهر الحجة 1220 هـ.
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 6 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 21 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(10/4763)
بسم الله الرحمن الرحيم
وأحمده وأستعينه وأستهديه.
نظرت فيما سأل عنه الأخ النقاب، علامة السنة والكتاب محمد بن علي العمراني (1) - عمر الله قلبه بالتقوى - سيدي العلامة شيخ المحققين الرباني محمد الشوكاني - أجزل الله مثوبته - عما وقع بخيال السائل من أن كلام السيد العلامة الحسن - رحمه الله تعالى - بمحل من الانتظام والصحة. فأجاب عنه المسئول - تولى الله مكافأته - بالجواب البسيط، فأبان فيه عما اقتضاه أنظاره عن كثير من التخليط، وشاجح في كثير من ذلك بعض تلامذته - كثرهم الله تعالى - وعول السائل النقاب علي في النظر في السؤال والجواب، وجواب الجواب، وأفعل ما ترجح عندي في ذلك الباب.
فأقول - وإن كان الفضل في ذلك للأول بلا ارتياب -: الذي ترجح عندي في هذه المسألة هو الذي عليه الناس قبل الجلال (2) - رحمه الله - أعني القول بعدم اختصاص الحد
_________
(1) هو محمد بن علي بن حسين العمراني ثم الصنعاني. ولد سنة 1194.
اشتغل بطلب علوم الاجتهاد على جماعة من علماء العصر كالسيد العلامة الحسن بن يحيى الكبسي، والقاضي العلامة عبد الله بن محمد مشحم.
وقد ترجم له الشوكاني في " البدر الطالع " رقم (476) فقال: وقد سمع علي غالب الأمهات الست وفي العضد وحواشيه والمطول وحواشيه. والكشاف وحواشيه
وله مصنف على سنن ابن ماجه جعله أولا كالتخريج ثم جاوز ذلك إلى شرح الكتاب.
" نيل الوطر " (2/ 292).
(2) في ضوء النهار (4/ 2270) وقد تقدم في الرسالة (154).
وفي حاشية المخطوط: قد ذهبت الأزارقة من الخوارج إلى أنه لا حد على قاذف الرجل، وعده الشهرستاني مما تفردوا به.
(أ): وهم أصحاب أبي راشد نافع بن الأزرق الذين خرجوا مع نافع من البصرة إلى الأهواز.
وكان مع نافع من أمراء الخوارج عطية بن الأسود الحنفي. ومن بدعهم وهي ثمانية:
إسقاط الرجم عن الزاني، إذ ليس في القرآن ذكره، وإسقاط حد القذف عمن قذف المحصنين من الرجال، مع وجوب الحد على قاذف المحصنات من النساء.
أنهم كفروا عليا رضي الله عنه، وعثمان وطلحة والزبير
اجتمعت الأزارقة على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر كفر ملة خرج به عن الإسلام جملة ويكون مخلدا في النار مع سائر الكفار.
" الملل والنحل " (1/ 137 - 141).(10/4767)
بقاذف المرأة، وتناوله لقاذف الرجل لوجوه:
الأول: إما للإجماع (1) الظني فيه عملا، وذلك أنا قد عشنا وتتبعنا مظان الخلاف فيه، ومواضع مواقع ذلك ووقائعه فلم نجد من أنكر ذلك، ولا عثرنا على مخالف مصرح بخلافه غير الجلال - رحمه الله - ومثل هذا، وإن لم يكن إجماعا (2) قطعيا فهو عندي مما تقوم به الحجة، ولا تقصر على سائر الأدلة الظنية، وذلك لما صح من التوعد شرعا على مخالف السواد الأعظم، وعلى مفارق الجماعة قيد شبر (3)، ومن وعيد: " من شذ شذ إلى النار " (4) ونحو ذلك.
_________
(1) انظر تيسير التحرير (3/ 227).
(2) قال صاحب " الكوكب المنير ": إن الإجماع (حجة قاطعة بالشرع) أي بدليل الشرع كونه حجة قاطعة. قال ابن بدران، حاشية - ومعنى كونه قاطعا أنه يقدم على باقي الأدلة، وليس القاطع هنا بمعنى الجازم الذي لا يحتمل النقيض ... وإلا لما اختلف في تكفير منكر حكمه.
وهذا مذهب الأئمة الأعلام منهم الأربعة وأتباعهم وغيرهم من المتكلمين.
" الكوكب المنير " (2/ 218)، " تيسير التحرير " (3/ 227) و" المستصفى " (2/ 293).
(3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7143) ومسلم رقم (55/ 1849) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية ".
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (53/ 1848) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فميتة جاهلية ".
(4) أخرجه الترمذي في السنن رقم (2167) من حديث ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار ". قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وهو حديث صحيح دون قوله " شذ ".
وله شاهد عند الترمذي رقم (2166) والحاكم (1/ 116) بسند صحيح من حديث ابن عباس: " لا يجمع الله أمتي على الضلالة أبدا ويد الله مع الجماعة ". وهو حديث صحيح.(10/4768)
ولما صح عن جلة من السلف من كراهتهم للخلاف للجم الغفير، وذمهم له، وحرصهم ملاحظة اتباع الجماعة على كل حال ونحو هذا من المآخذ السمعية الدالة على كون ذلك حجة ظنية، ومن النظر أيضًا غلبة الظن، فإن الغالب عدم خلو الحق عن مطلق الجماعة، وأن تواطؤهم على أمر، وتوافقهم عليه لا يكون إلى لمستند صحيح، فمثل هذا الإجماع لا يقصر عن ظواهر الأدلة التي لا يعتمد فيها على كثير من الظن للحق، وبمثل هذا الإجماع يحصل به ظن أن ما قالوه حق، وتجويز المخالف فيه لا يخدش في هذا الظن بعد ما سنذكره من شدة البحث عنه في مظانه (1) نعم وأما اشتراط قطعية الإجماع في صحة الاستدلال به فلم ينتهض عندي وجهه، وانقسام الإجماع إلى قسمين (2) معروف.
_________
(1) انظر " حجية الإجماع وموقف العلماء منها ". الدكتور: محمد محمود فرغلي (ص 130 - 162)، " إرشاد الفحول " (ص 311).
(2) الأول: إجماع قولي وهو سماع كل مجتهد من أهل الإجماع. أو فعلي وهو أن يشاهد أهل الإجماع يفعلون فعلا، أو يتركونه ويعرف بقرائن المقام مرادهم.
الثاني: الإجماع السكوتي: وهو أن ينقل عن أهل الإجماع قول أو فعل، مع نقل رضاء الساكتين حتى أنهم لو أفتوا لما أفتوا إلا به، ولو حكموا لم يحكموا إلا به.
ويعرف رضاؤهم: بعدم الإنكار مع الاشتهار، وعدم ظهور حامل لهم على السكوت وكونه من المسائل الاجتهادية.
ولا سيما وأن الظن بالمجتهدين أنهم لا يحجمون عن إبداء رأيهم إظهارا للحق، وإن لقوا من جراء ذلك العنت والضيق.
انظر: " حجية الإجماع " (ص 173)، " المسودة " (ص334 - 335)، " البحر المحيط " (4/ 494).(10/4769)
وأما في مقام المنع من اشتراط ذلك بل في غيره من الأدلة سواء في حجية ما كان فيه ظنيا، وكذلك الطريق إليه لا اشتراط قطعيتها. وكذلك دليل حجيته عندي دليل اشتراط قطعيتها، فلذا اكتفيت بتلك االوعيدات الذي ذكرتها، كما لم ينتهض عندي اشتراط قطيعة دليل كثير من مسائل الأصول، كالقياس وغيره. ومن ادعى اشتراط ذلك [1أ] أفادنا دليلا نرتضيه، والأصح فالإجماع وغيره سواء في الاكتفاء بالظن، وكذلك في عدم القطع بمدلوله، ثم إن الاستبعاد والتشكيك فيه يعودان إلى هذا أعني اشتراط حصول القطع به؛ إذ لا يخفى أنه تعبد أو متعذر في الكثير منه، وإن حصل القطع في أفراد منه، فإنما غالب ذلك لكون مستنده ضروريا - أو تواتريا، فالقطع به لقطعية مستنده (1) وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. (2)
نعم. وطريقه هذا الإجماع الظني البحث عن القائلين بالمسألة، فإذا تظافرت أقوالهم على المسألة، ولم يوجد من يخالفهم بعد البحث حصل الظن بعدمه. ولهذا نظائر في مسائل عديدة، منها في البحث عن المعارض، والمرجح، والناسخ، والمخصص، وغير ذلك فمثل ذلك يحصل الظن بحقية ما اجتمع عليه هؤلاء كما يحصله خبرا الآحاد والقياس وغيرهما، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنه إذا لم يوجد في السلف مخالف فيه يؤنس السيد الحسن - رحمه الله - فيوشك أن يقع بأغرابه في وعيد الشذوذ، واتباع السبل المتفرقة عن الجادة العظمى التي عليها السواد الأعظم، وما ذكره من أن في نفسه من دعوى الإجماع شيئا الظاهر أن مراده ذلك نفسه من أصل دعوى الإجماع، وثبوت
_________
(1) أي مستند الإجماع إذ لا بد للإجماع من مستند شرعي؛ لأن القول في الدين بغير علم، وبغير دليل قول بالهوى.
وسند الإجماع قد يكون من الكتاب أو من السنة، وقد يكون انعقاد الإجماع عن اجتهاد أو قياس كما ذهب إليه الأكثرون.
" البحر المحيط " (4/ 496)، " حجية الإجماع " (ص 173).
(2) تقدم توضيحه مرارا.(10/4770)
نقله لاستبعاده النقل عن جميع الأفراد، فلذا علله بأن نقله لا يصح تعليلا لا غبار عليه على عود الضمير في قوله منه إلى ادعائه، لعدم ذكر يدعى، لأنه يتضمن معنى الادعاء إليه، أعني الإجماع، والشيء الذي في نفسه هو ما أشرت إليه من استبعاد نقله عن جميع الأفراد، وحينئذ فلا يرد ما ناقشه المجيب - عفا الله عنه - في تفسيره إياه بالشك، وعلى تعليله بما ذكر، ولا ما دفعه به تلميذه - عفا الله عنه - من أن الظاهر أنه أراد ما في نفسه من حجيته؛ إذ لا يلائمه التعليل المذكور كما ذكره المجيب.
ثم قد عرفت أنه إذا كان الاكتفاء في حجيته بالظن، وأنه لا يشترط قطعيته فلا يضر ما ذكره من التشكيك فيه، فليس المطلوب به القطع، بل يكفينا الظن كسائر الظواهر.
ويعلم بهذا اندفاع ما ناقش [1 ب] الجلال - رحمه الله - على السكوتي أيضًا في واقعة المغيرة (1)، مع عدم ظهور المخالف، وما تكلفه - رحمه الله - فيه من قصة مخالفة علي رضي الله عنه وإنكاره على عمر رضي الله عنه في جعله إنكارا على أصل إثبات الحد على قاذف الرجل، فلا يخفى ما في ذلك من عدم الاستقامة كما حقق ذلك المجيب - عفا الله عنه - فإنه ظاهر أنه إنما أنكر عليه تكرير الحد على الشهود حين استتابهم فلم يتوبوا، وجعل إصرارهم بمنزلة القذف الجديد المبتدأ أولا، وإنما هو تماد [ .... ] (2) واستمرار على الأول، والله تعالى لم يشرع في التمادي عليه، وعدم التوبة حدا، بل جعل حكمه عدم قبول شهادتهم أبدا، فألزم علي - عليه السلام - عمر رضي الله عنه إنك جعلت تماديهم وعدم التوبة قذفا صريحا فاجعل ذلك منهم شهادة مستقلة يكمل بها نصاب الشهادة.
وهذا الجواب إلزامي ومجاراة للخصم بما استبعده، أو بما لا يقول به أحد، فلا يتبادر من ذلك غير هذا، فأين أخذ الإنكار منه على أصل المسألة؟ وهو لا يحتمل ما ذكره السيد - رحمه الله - أصلا، وإن احتمل احتمالا آخر وهو: أن الذي كان عند علي رضي الله عنه هو العمل بتلك الشهادة، وكمال نصابها؛ لأن الذي ذكره زياد في شهادته من الكنايات
_________
(1) تقدم في الرسالة رقم (154).
(2) في المخطوط كلمة غير مقروءة.(10/4771)
والعبارات لا تقتصر في المعنى عن شهادة الآخرين المصرحين.
ولذا يروى (1) عنه - عليه السلام - أنه كان يقول: لئن أمكنني الله من المغيرة لألحقنه أحجاره، أو كما قال مما الله أعلم به، سيما وما كان إصرارهم إلا لتحققهم الأمر في شهادتهم، وفي تلعثم زياد للكتم لا جرأة منهم على عدم التوبة. وإذا كان كذلك فالنصاب كامل، فلا حد على الثلاثة المذكورين، لا لأنه لا يحد قاذف الرجل على هذا الاحتمال، والاحتمال الأول هو الأظهر من كلامه، ولا يحتمل غيرها كما فسر به العلماء كلامه.
وأما الثاني لانتهاض الآية الكريمة (2) للاستدلال بها، وصلاحيتها للتغليب للإناث، فيتناول قاذف الرجل في هذا الموضع نظرا إلى أن معنى الباعث على شرعية الحكم في النساء، سواء لكون عرضهن أهم في الحفظ من عرض الرجال والصيانة فيهن أشد قصدا إذ نقيصتهن بالزنا نقيصة لهن وللرجال وقصور عرض الرجال عن ذلك لقصرها عليهم واسع اشتراكا في أصل قصد الصيانة للعرض عن نقيصة نسبة الزنا إليهن، ومجازية التغليب إنما تكون بالنظر إلى من هو أقوى في المعنى المقصود الملاحظ لأجله التغليب [2أ].
فجهة التغليب في النساء هاهنا أقوى خصوصا، وإن كان الغالب في هذا الباب أن تكون قوته في الرجال، وأما فيما نحن فيه فالنساء فيهن أقوى كما عرفت، وقد يشبه هذا قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} - إلى قوله - {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} (3)
_________
(1) فلينظر من أخرجه، وأظنه باطلا.
(2) قال الألوسي في " روح المعاني " (18/ 88 - 89): والظاهر أن المراد النساء المحصنات وعليه يكون ثبوت وجوب جلد رامي المحصن بدلالة النص للقطع بالفاء الفارق وهو صفة الأنوثة واستقلال دفع عارما نسب إليه بالتأثير بحيث لا يتوقف فهمه على ثبوت أهلية الاجتهاد، وكذا ثبوت وجوب جلد رامية المحصن أو المحصنة بتلك الدلالة وإلا فالذين يرمون للجمع المذكر، وتخصيص الذكور في جانب الرامي والإناث في جانب المرمي لخصوص الواقعة.
(3) [النساء: 15].
قال ابن جرير الطبري في " جامع البيان " (3\جـ 4/ 295 - 296): وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) قول من قال: عنى به البكران غير المحصنين إذا زنيا، وكان أحدهما رجلا والآخر امرأة، لأنه لو كان مقصود بذلك قصد البيان عن حكم الزناة من الرجال كما كان مقصودا بقوله: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) قصد البيان عن حكم الزواني، لقيل: والذين يأتونها منكم فآذوهم، أو قيل: والذي يأتيها منكم، كما قيل في التي قبلها: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ) فأخرج ذكرهن على الجمع، ولم يقل: واللتان يأتيان الفاحشة، وكذلك تفعل العرب إذا أرادت البيان على الوعيد على فعل أو الوعد عليه، أخرجت أسماء أهله بذكر الجمع أو الواحد، وذلك أن الواحد يدل على جنسه، ولا تخرجها بذكر اثنين، فتقول: الذين يفعلون كذا، فلهم كذا، والذي يفعل كذا، فله كذا، ولا تقول: اللذان يفعلان كذا فلهما كذا إلا أن يكون فعلا لا يكون إلا من شخصين مختلفين كالزنا لا يكون إلى من زان وزانية ... "
وقال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (5/ 87): قال السدي وقتادة وغيرهما الأولى في النساء المحصنات، يريد ودخل معهن من أحصن من الرجال بالمعنى، والثانية في الرجل والمرأة البكرين ... "(10/4772)
فإن حكم الحبس ربما كان عاما للصنفين تعينا، ثم نسخ بالجلد (1) لهما، ولعله إنما غلب النساء في قوله: {وَاللَّاتِي} لأن الزنا منهن أفحش وأشنع. والله أعلم.
ومما ينظر إلى مثل ما ذكرناه من التغليب (2) أعني إلى خصوص قوة المعنى المخصوص،
_________
(1) انظر " الجامع لأحكام القرآن " (5/ 84):
هذه أول عقوبات الزناة، وكان هذا في ابتداء الإسلام، قاله عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد حتى نسخ بالأذى الذي بعده، ثم نسخ ذلك بآية " النور " وبالرجم في الثيب.
وانظر: " جامع البيان " (3\جـ4/ 294).
(2) التغليب: هو إعطاء شيء حكم غيره، وقيل: ترجيح أحد المغلوبين على الآخر، وإطلاق لفظه عليهما وإجراء للمختلفين مجرى المتفقين.
نحو: (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) [التحريم: 12].
(إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) [الأعراف: 83].
والأصل من القانتات والغابرات، فعدت الأنثى من المذكر بحكم التغليب.
قال في البرهان: إنما كان التغليب من باب المجاز؛ لأن اللفظ لم يستعمل فيما وضع له، ألا ترى أن القانتين موضوع للذكور الموصوفين بهذا الوصف فإطلاقه على الذكور والإناث إطلاق على غير ما وضع له
" معترك الأقران " (1/ 197 - 198).(10/4773)
لا إلى مطلق القوة تغليب القمرين، ولكنه قد يكون في هذا من تغليب المذكر على المؤنث وإن لم يكن حقيقيا، والعمرين؛ فإن الشمس وأبا بكر أعظم من القمر، وعمر في مطلق المفاضلة، ولكن غلب عليهما نظرا إلى معنى مخصوص مقصود العلاقة، والدليل على إرادة التغليب في الآية الكريمة أمور منها: التذييل (1) بالآيات الكريمات إلى آخر قصة الإفك، بما فيه من التعميمات في الرجال والنساء، نحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} (2) {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (3) فأتى به على الغالب من تغليب الذكور، وتعميم الفاحشة ليدخل الأدخل فيهما دخولا أوليا، وأثبت فيه عذاب الدنيا وهو الحد، ثم ليتأمل نحو ذلك إلى آخر الآيات - إلى قوله: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} (4) ولم يقل: مبرآت، وكذلك لما كان القصد إلى ذكر الصفات الموجبة للبراءة ذكرها كالمحصنات والغافلات، لما ذكرنا من العناية بمن هو أدخل في قصد الصيانة، وهو الذي عرف به التغليب، وإلا فقذف مطلق النساء موجب للحد، وكذا الرجال، وحاصله أن وصف الأنوثة والإحصان لتقبيح القذف، واستبعاد لاحق في حق من اتصف بالصفتين المذكورتين، وأن القبح حينئذ قد صح عنده.
_________
(1) التذييل: وهو أن يؤتى بجملة عقب جملة، والثانية تشتمل على معنى الأولى، لتأكيد منطوقه أو مفهومه، ليظهر المعنى لمن لا يفهمه، ويتقرر عند من يفهمه.
" معترك الأقران " (1/ 279).
(2) [إلى قوله] حذفناها لعدم الضرورة.
(3) [النور: 19].
(4) [النور: 26].(10/4774)
ومما يدل على هذا التغليب أنه قد ثبت أن النساء شقائق (1) الرجال في حديث صحيح (2) عن الشارع، ولذا صار غالب خطابات الشارع بصيغة المذكر على سبيل التغليب، حتى كأنه عرف للشارع إلا ما نص عليه دليل الخصوص، فالغلبة في استعمال التغليب تصيره كالعرف له إن ثبت بالاستقراء ذلك، فهذا من ذلك، وإنما عدل عن الغالب فيه لملاحظة ما ذكرناه من التغليب من المعنى المقصود إذا هو [ .... ] (3): " النساء شقائق الرجال " (4) في الأحكام فلم نر هاهنا ما يصلح لتخصيص النساء. وستعرف عدم صحة ما ذكره السيد الجلال - رحمه الله - من الفرق.
ويؤيد التغليب في الآية ما ثبت عن الشارع في حديث الملاعن هلال بن أمية، وقذف امرأته بشريك بن سحماء، فإنه صح أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال له: " البينة أو حد في ظهرك " (5) لاحتمال أن يكون لقذفهما المرمية (6) به لولا اللعان المسقط للحدين.
_________
(1) قال الخطابي في " معالم السنن " (1/ 162 - هامش السنن): أي نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطباع فكأنهن شققن من الرجال وفيه من الشقة: إثبات القياس وإلحاق حكم النظير بالنظير وإن الخطاب إذا ورد بلفظ الذكور كان خطابا للنساء إلا موضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها ".
(2) أخرجه أحمد (6/ 256) وأبو داود رقم (236) والترمذي رقم (13) وابن ماجه رقم (602).
وهو حديث صحيح.
انظر تخريجه مفصلا في " نيل الأوطار " رقم (294) بتحقيقنا وهو من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما، فقال: " يغتسل " وعن الرجل يرى أن قد احتلم، ولا يجد البلل، فقال: " لا غسل عليه " فقالت أم سليم: المرأة ترى ذلك عليها الغسل؟ قال: " نعم إنما النساء شقائق الرجال ".
(3) كلمة غير واضحة في المخطوط.
(4) أخرجه أحمد (6/ 256) وأبو داود رقم (236) والترمذي رقم (13) وابن ماجه رقم (602).
وهو حديث صحيح.
انظر تخريجه مفصلا في " نيل الأوطار " رقم (294) بتحقيقنا وهو من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما، فقال: " يغتسل " وعن الرجل يرى أن قد احتلم، ولا يجد البلل، فقال: " لا غسل عليه " فقالت أم سليم: المرأة ترى ذلك عليها الغسل؟ قال: " نعم إنما النساء شقائق الرجال ".
(5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4747) وأبو داود رقم (2254) والترمذي رقم (3179) من حديث ابن عباس.
(6) كذا في المخطوط.(10/4775)
ويؤيد ذلك ما في أصل سؤال الملاعن من قوله: إن تكلم جلدتموه بعد أن ذكر أنه يجد رجلا عند امرأته ... إلخ. فقوله: جلدتموه يحتمل لكلامه على المرأة أو على الرجل [2ب].
ويؤيده ما أشار إليه المسئول - عفا الله عنه - من حديث: " من قذف عبده يقام عليه .. " (1)، وحديث: " من رمى ولد الملاعنة فعليه الحد " (2) وظاهره أن المراد رميه هو بزناه ثم إذا حقق النظر في ذلك فقد تظهر صلاحية بعض هذه المؤيدات لإرادة التغليب، وللاستدلال استقلالا على المتنازع فيه أو أكثرها.
وأما الثالث: لانتهاض دلالة القياس على المتنازع فيه أعني وجوب الحد على قاذف الرجل أيضًا إن لم يصح التغليب. إما بقياس الدلالة بأن [ ....
.] (3) كما اشترك قاذف الرجل والمرأة في رد شهادتهما في الأحكام يشتركان في وجوب الحد عليهما بجامع أن النساء شقائق الرجال في سببية قذفهما للأمرين، أو بعدم الفارق. وتنقيح المناط (4) الذي هو عندي من أقوى القياسات (5) لعدم الفرق بين قذف الرجل والمرأة، لأن النساء شقائق الرجال، وما توهمه الجلال من الفرق في العلة سندفعه - إن شاء الله - وكما نوضح مثل ذلك في قياس (6) حد العبد على حد الأمة الذي قيل: إنه مجمع عليه.
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) كلمة غير واضحة في المخطوط.
(4) وهو إلحاق الفرع بالأصل بإلغاء الفارق بأن يقال: لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وذلك لا مدخل له في الحكم البتة فيلزم اشتراكهما في الحكم لاشتراكهما في الموجب له. كقياس الأمة على العبد في السراية فإنه لا فارق بينهما إلا الذكورة، وهو ملغى بالإجماع إذ لا مدخل له في العلية.
" البحر المحيط " (5/ 255)، " إرشاد الفحول " (ص 731).
(5) قال الغزالي في " المستصفى " (3/ 488): تنقيح المناط يقول به أكثر منكري القياس، ولا نعرف بين الأمة خلافا في جوازه.
(6) انظر " البحر المحيط " (5/ 256)، " الكوكب المنير " (4/ 199)، " المغني " (12/ 331)(10/4776)
وإما بقياس العلة بأن يقاس الرجل المقذوف على المقذوفة في وجوب الحد بجامع أن النساء شقائق الرجال، وبحكمه هو الزجر عن الأعراض لمصلحة صيانتها عن الانتهاك بافتراء ما يغض منها، فإن صيانة الأعراض مقصودة للشارع كصيانة الدماء والأموال؛ ولذا تراه يجمع بينها في النهي والحث على احترامها، فشرع في جميعها حدودا من قصاص وجلد، وقطع للزجر، ولكن لما كانت حكمة الزجر في المعاصي، ومناسب الصيانة قد تتفاوت ولا تنضبط، وتخفى معرفة القدر المعتبر منها للشارع ضبطها بمظان مخصوصة لا تتفاوت في محالها المعروفة كالجراحات الخاصة للقصاص، والسرقة للقطع، والقذف بالزنا للجلد، وحكمة الأول الزجر وصيانة المال والدماء، والثاني الزجر وصيانة المال. والثالث الزجر وصيانة العرض، وقس عليه صيانة النسب في الزنا، والزجر عنه، وغير ذلك في أن الزجر لم يكن منضبطا وكان يختلف القدر المعتبر للشارع فيه ضبط بمظنة مخصوصة، وإذ قد ضبطت الحكمة بمظان مخصوصة صحيحة فلا يضر تفاوت الحكمة في مناسبة الزجر، أعني دفع النقيصة إذا زادت نقيصة عرض المرأة على عرض الرجل كما أنه لا [ ...... ] (1) بزيادة مباحث الزجر في الزنا والسرقة.
والقذف كالزنا بالمحارم، وسرق الكعبة، وقذف الفضلاء، حيث لم يربط إلا بمطلق الزنا والسرقة والقذف بالزنا، وأما ادعاء أنه لا نقيصة بالزنا في عرض الرجل فغير مقبول فإنه لا بد أن تشمئز منه العقول، وقد سماه الله فاحشة ومقتا، ولا التفات إلى ما سمع من بعض خلعاء الشعراء العرب الذين يتبعهم الغاوون (2) ويقولون ما لا يفعلون، ويعتقدون أن أحسن الشعر أكذبه؛ فيحسنون القبيح، فإن أخرجوه في مخرج الاستحسان [3أ] فهو من عظيم كذبهم والبهتان ثم قد يعارض ذلك بالكثير من قول حكمائهم في
_________
(1) هنا كلمة غير مقروءة.
(2) يشير إلى قوله تعالى: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) [الشعراء: 224 - 226].(10/4777)
الشعر، وما يذمونه ويعبرون به، وخلعائهم بل ألا تراهم كيف يهجون به! وكيف يعير الشعراء (1) الفرزدق ونحوه بذلك:
تدليت تزني من ثمانين قامة ... . (2)
ولا هجى إلا بما فيه نقيصة، بل وقد يعارض أيضًا بمثله في النساء اللاتي لا يحتشمن كمن رمت نفسها بالصالحين من المومسات وغيرهن، كامرأة العزيز (3)، وصاحبة الراهب (4)، وصاحبة قارون، وغير ذلك، فمثل حال من ذكر لا يلتفت إليه، ولا يستدل لعدم نقيصة الزنا في مطلق الرجال، ولا يتمشى إلا كما قلنا بتفاوتها في المرأة والرجل، وقد عرفت أن تفاوت المناسب لا يضر إذا ضبط بمظنة ظاهرة. وقد ضبط بمطلق قذف الزنا، وحينئذ تعرف كمال أركان القياس (5) وأن الأصل المرأة، والفرع الرجل، والجامع أن النساء شقائق الرجال، والحكم الجد، والعلة القذف بالزنا، والحكمة الزجر والصيانة للعرض، وأنه لو سلم بخلفها في الرجل لم يختل القياس، إذ في مثل هذا لا يضر كسر الحكمة، وتعرف أنه لا فرق بينه وبين قياس النبيذ على الخمر في التحريم بعلة السكر، في أن الخمر أصل والنبيذ فرع والعلة السكر والحكمة الزجر لحفظ العقل، والحكم التحريم كالخمرة، وهذا ظاهر قصدنا به إيضاح كون العبرة بالمظنة، وإن اختلفت الحكمة والمناسب فتأمله.
نعم ولا يقال: إنه قياس في الأسباب، فيحصل الغلط، لأن السبب هاهنا والعلة
_________
(1) وهو من شعر جرير، " شرح ديوان جرير " (ص 560) حيث يقول:
لقد كان إخراج الفرزدق عنكم ... طهورا لما بين المصلى وواقم
تدليت تزني من ثمانين قامة ... وقصرت عن باع العلى والمكارم
(2) انظر تمام البيت في التعليقة السابقة.
(3) انظر سورة يوسف.
(4) تقدم ذكرها.
(5) انظر: " إرشاد الفحول " (ص 677).(10/4778)
واحد هو القذف بالزنا، وإن اختلف المحل من الذكر والأنثى الذي هو من ضرورة القياس للأصل والفرع، فالمرأة والرجل محلا الحكم الذي سببه فيهما القذف بالزنا، وهو واحد كالخمر والنبيذ اللذين سبب التحريم فيهما السكر، وليس هذا كقياس اللواط على الزنا في إيجاب الحد الذي هو قياس في الأسباب، حيث يقاس عليه اللواط وسببه في إيجاب الحد على علية الزنا وسببيته في ذلك، فإنه قياس للسبب والعلة في الأنثى على سبب هو الزنا، وعلته في ذلك.
وأما فيما نحن فيه فالسبب واحد هو القذف بالزنى، والذي يشبهه قياس من زنى ببهيمة على من زنى بامرأة في إيجاب حد الزنى بعلية الزنى.
نعم وما ذكرناه من هذين الدليلين انتهاضهما على المتنازع يمكن أن يكونا مستند ما ظننا من ذلك الإجماع الظني المذكور هاهنا فإن مستنده هو العمدة في الدلالة عندي لكون مثله مظنة للدليل الصحيح؛ لاستبعاد الاجتماع من مثلهم بلا مستند صحيح، ولأن مرجع الوعيد على المخالفة والشذوذ إنما هو لأجل مظنة الحجية، وحصول الظن بحجية مثل ذلك، والله أعلم.
سوده الفقير إلى ربه حسن بن يحيى الكبسي (1)، لعله عيد الأضحى سنة 1220 شهر الحجة سنة 1220 [3 ب].
_________
(1) هو الحسن بن يحيى بن أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن القاسم الحمزي الكبسي ثم الصنعاني ولد سنة 1167 هـ ونشأ بصنعاء، فقرأ فيها على جماعة من العلماء، وأكثر انتفاعه على الشيخ العلامة الحسن بن إسماعيل المغربي، فقد لازمه في جميع الفنون، توفي سنة 1238.
وترجم له الشوكاني في البدر رقم (139) وقال: وله رسائل في مسائل متفرقة متقنة غاية الإتقان وقد رافقني في قراءة الكشاف على شيخنا الحسن بن إسماعيل المغربي.
انظر: " نيل الوطر " (1/ 358 - 364)، البدر الطالع رقم (139).(10/4779)
هذا ما تعقب به الأخ العلامة شرف الإسلام الحسين بن محمد العنسي على بحث في قاذف الرجل للشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(10/4781)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: هذا ما تعقب به الأخ العلامة شرف الإسلام الحسين بن محمد العنسي على بحث في قاذف الرجل للشوكاني.
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير المرسلين، وآله وأصحابه الطاهرين وبعد.
فإني لما وقفت على ما كتبه شيخنا البدر الأوحد محمد بن علي بن محمد حماه الفرد الصمد
4 - آخر الرسالة: انتهى المراد كتبه يوم السبت خامس عشر شهر رمضان سنة 1220 هـ بقلم مؤلفه الفقير إلى عفو الله حسين بن محمد بن عبد الله العنسي غفر الله له ولوالديه آمين.
5 - نوع الخط: خط نسخي رديء.
6 - عدد الصفحات: 14 صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 21 سطرا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 12 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الناسخ: حسين بن محمد بن عبد الله العنسي.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(10/4783)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، وآله وأصحابه الطاهرين، وبعد:
فإني لما وقفت على ما كتبه شيخنا البدر الأوحد محمد بن علي بن محمد - حماه الفرد الصمد - على بحث الجلال (1) - رحمه الله - كتبت على كلام شيخنا ما حضر مع النظر في ذلك.
فأقول: قول شيخنا أقول: ما ذكر أنه .... إلخ.
فيه بحثان:
الأول: أنه فسر الشيء الواقع في كلام الجلال بالشك مع أن الشيء أعم منه، ولا قرينة تفيد أن المراد ذلك، بل ما ذكره شيخنا من النظر على تقدير أن المراد بالشيء الشك قرينة تمنع من أنه المراد، فكيف يحمل الشيء وهو عام على بعض أفراده! وأنه يحتاج في الحمل عليه إلى قرينة، مع قيام القرينة على أن ذلك البعض غير مراد!.
فإن قلت: إرادة المعنى الحقيقي للشيء لا تفيد في المقام، فلا بد من حمله على معنى آخر، وليس هنا ما يصلح سوى الشك، وأنه كثير ما يقال في نفسي شيء ويراد شك.
قلت: يصلح أن يكون المراد منه عدم الحجية، فمعنى في نفسي شيء في نفسي أنه ليس بحجة، ووجه حمله على ذلك أن المقام في دفع كلام من يحتج به فيناسبه نفي الحجية ثم إن الجلال علل عدم الحجية بعدم صحة نقل الإجماع فأبان وجه ذلك الحكم النفسي.
وقد حرر دليل عدم صحة نقله في شرح الفصول (2) أمثلة في أن كلام الجلال هذا لا يجدي الكلام عليه نفعا للمناظرة، لما تقرر في علم المناظرة أن الكلام على سند المنع لا يفيد، وكلام الجلال سند للمنع، فثبت قياس من الشكل الأول، هكذا كلام الجلال سند
_________
(1) في " ضوء النهار " (4/ 2270).
(2) انظر " مؤلفات الزيدية " (2/ 169).(10/4787)
للمنع، وكل ما كان سندا للمنع (1) لا يفيد الكلام عليه، فينتج كلام الجلال لا يفيد الكلام عليه، وكبرى هذا الشكل مقررة في علم المناظرة، وصغراه ضرورية بعد العلم بأن المدعي يدعي أنه صب على قاذف الرجل حدا شرعيا، فلما كان الأصل البراءة احتج على أنه ثابت شرعا بالإجماع، وأن الاحتجاج به يرجع إلى مقدمتين، هكذا.
هذا مجمع عليه، وكل مجمع عليه ثابت شرعا، وأن تفصيل كلام الجلال في دفع الحجية هكذا كقولكم (2): هذا مجمع عليه ممنوع، وأسند منع هذا المقدمة بأن طريقها النقل [1أ] ولا يصح.
وبعد معرفة هذا يعرف أن قول شيخنا - بورك في علمه وعمره -: هم إذا كان الخصم قد نقل الإجماع فالمقام مقام أن يطلب منه صحة النقل لا مقام أن يقال له: هذا النقل لا يصح، فإن هذه مقابلة دعوى بدعوى انتهى. ليس في محله، لأن مثبت الحد على قاذف الرجل يدعي دعوى هي ثبوت الحد عليه شرعا. واستدل لها بدليل ذي مقدمتين، وقد علم في المناظرة أنه يتوجه على المدعي المستدل منع إحدى مقدمتي دليله، فليس من أثبت حكم القذف المذكور ينقل شيئا عن أحد بل يثبت حكما يستدل عليه.
_________
(1) المنع: أي الممانعة وهي أرفع سؤال على العلل. وقيل: إنها أساس المناظرة، وهو يتوجه على الأصل من وجهين:
أ - منع كون الأصل معللا لأن الأحكام تنقسم بالاتفاق إلى ما يعلل وإلى ما لا يعلل فمن ادعى تعليل شيء كلف ببيانه.
ب - منع الحكم في الأصل.
واختلفوا: هل هذا الاعتراض - المنع - يقتضي انقطاع المستدل أم لا؟.
فقيل: إنه يقتضي انقطاعه، وقيل: إنه لا يقتضي ذلك وجزم به إمام الحرمين في " البرهان " (2/ 970).
وقيل: إن كان المنع جليا فهو انقطاع وإن كان خفيا فلا.
انظر " البحر المحيط " (5/ 324)، " المنخول " (401).
(2) في هامش المخطوط: لعله قولكم.(10/4788)
قال ملا حنفي في شرح الرسالة العضدية: وإذا عرفت حقيقة المنع فاعلم أنه إن لم يذكر في النقل دليل فظاهر أنه لا يتوجه عليه المنع، فإن ذكر فيه فهو إنما هو على طريقة الحكاية فلا تتعلق به المؤاخذة؛ لأنه محكي منقول عن الغير، والناقل من حيث هو ناقل ليس بملتزم صحته، بل هذا ليس بدليل بالنسبة إليه من تلك الحيثية حتى يمنع منعا جاريا على مقتضى عرفهم، والناقل إن التزم صحة هذا الدليل المنقول، أو أقام دليلا برأسه على ما نقله صار مستدلا حينئذ فيتوجه عليه ما يتوجه عنه انتهى. ولا يخفى في مستند الجلال أن ذاكر دليل الإجماع المحتج به مقيم لهذا الدليل ملتزم صحته.
ثم اعلم أن تصحيح النقل للإجماع هو أن يروى المجمع عليه عن أهل الإجماع بنقل عدل تام الضبط، مع اتصال الإسناد، وفقد العلة القادحة والشذوذ كما قيل في صحيح السنة، إذ يحصل في نقله ما يشرط في حسن السنة وإلا كان الفرق بينهما تحكما، فإنه بعد أن كانت السنة دليلا شرعيا، والإجماع دليلا شرعيا كيف يصح أن يقال في الإجماع: يقبل نقل دليل الإجماع عن أهله مرسلا كان أو منقطعا أو غير ذلك (1)!؟
وأما دليل السنة فيشترط فيه كذا وكذا، وبعد معرفة هذا يتبين لك ما في قول شيخنا
_________
(1) يثبت الإجماع (بخبر الآحاد) وهو كون هذا الحكم مجمعا عليه لأن هذه المسألة شرعية، طريقها طريق بقية مسائل الفروع التي يكفي في ثبوتها الظن، وقال القرافي في " تنقيح الفصول " (332): " إنه حجة خلافا لأكثر الناس ".
" المسودة " (ص344)، " الكوكب المنير " (2/ 224).
قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 325) الإجماع المنقول بطريق الآحاد حجة وبه قال الماوردي وإمام الحرمين والآمدي، ونقل عن الجمهور اشتراط عدد التواتر، قال الرازي في " المحصول " (4/ 151 - 152): الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة لأكثر الناس لأن ظن وجوب العمل به حاصل فوجب العمل به دفعا للضرر المظنون ولأن الإجماع نوع من الحجة فيجوز التمسك بمظنونه كما يجوز بمعلومه قياسا على السنة ولأنا بينا أن أصل الإجماع فائدة ظنية.
" الإحكام " للآمدي (1/ 343)، " تيسير التحرير " (3/ 261).(10/4789)
بورك في عمله وعمره -: ولا بد من أن يقال: من أين لك أن هذا النقل غير صحيح، فإنه ليس على الناقل إلا مجرد تصحيح النقل وتمليك إبطال ما نقله بإيراد من قال بما يخالف ما نقله الناقل، فنقول مثلا: قد قال فلان من العلماء بأنه لا يحد قاذف الرجل [1ب]، فإنه أراد بما جعله علة لمطالبة الحاكم بعدم صحة النقل، أعني قوله: فإنه ليس على الناقل إلا مجرد تصحيح النقل على الطريقة التي قدمنا ذكرها، فلم يسلك ناقل الإجماع ذلك المسلك، فنقل الإجماع غير صحيح، وإن أراد تصحيح النقل على طريقة أخرى، فإن كانت ما تعرف بين أهل العلم في نقل الإجماع من قول العالم مثلا، وهذه المسألة مجمع عليها، فقد تقدم أن الإجماع شقيق السنة لا يقبل حتى يجمع شرائط القبول المذكورة في علم مصطلح الأثر، فإذ لم يجمعها لم يقبل، حتى إنه إذا قال عالم مثلا: هذا الحكم قد نقل إلينا عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا يقبل، فكذا دليل الإجماع، فإن قول العالم مثلا: هذه المسألة مجمع عليها معناه أنه نقل إلينا عن جميع عدد علماء عصره أن الحكم في هذه المسألة كذا، وإن كانت غيرها؛ فماذا هي؟ ثم قوله - دامت إفادته - وعليك إبطال ما نقله الناقل. انتهى. فيه بحث هو أنه إذا قد صح نقل الإجماع فذكر واحد من العلماء أو جماعة مخالفين في ذلك الحكم لا يبطل الإجماع لجواز أن يكون من علماء عصر غير عصر الإجماع.
نعم إذا كان العالم المخالف من أهل عصر الإجماع (1)، وتبين أن تلك المقالة كانت مقارنة الزمان المدعى فيه الإجماع فهناك تعارض رواية الإجماع وهذه؛ لأن هذا القائل من أفراد المجموعين، فرواية الإجماع رواية عنه لمسألة الإجماع، أما لو كانت متقدمة عليه فلعله قد رجع عن الخلاف إلى الوفاق، ولا يبطل النقل الصحيح بالمحتمل.
ثم قوله - دامت إفادته -: أقول: تعليل مشروعية القذف بكونه لدفع النقيصة كما زعمه، إن كان النقل عن الشارع فما هو؟ وإن كان لمسلك من مسالك العلة المدونة في
_________
(1) انظر " تيسير التحرير " (3/ 236)، " البحر المحيط " (4/ 476).(10/4790)
الأصول فكيف تقريره حتى يتكلم عليه! وإن كان لنقل عن أهل الجاهلية فلا ينفعه ولا يضرنا؛ لأن كلامنا في الحد الثابت في الشرع [2أ]، لا فيما كان عليه أهل الجاهلية، فإنه لا شرع عندهم ولا حد، فليس مثل هذا الكلام .... إلخ.
فيه بحث هو أنه قد تبين فيما سبق أن الجلال قائم في مقام المنع؛ لأنه ناف لحكم الحد على قاذف الرجل، فكلامه على القياس ليس لإثباته حتى يقال: ما مسلك علم هذا القياس؟ إن كانت كذا كان كذا، وإن كانت كذا كان كذا.
فإن قلت: ما أراد الجلال حيث قال: أما القياس فلأن شرع جلد القذف إنما لدفع النقيصة التي كانت تلحق العرب من جهة زنى النساء، ولهذا كانوا يئدون البنات ... انتهى.
قلت: أراد دفع احتجاج المستدل بالقياس لأن العلة التي لهذا القياس قاصرة، وحاصله منع وجود العلة في الفروع، فعلى المستدل بيان وجودها في الفرع، بل عليه أن يبين أولا علة حكم الأصل بمسلك من المسالك (1)، ثم يبين وجودها في الفرع، فكان حق شيخنا - دامت إفادته - أن يثبت هذين الحكمين، أعني: ثبوت أن العلة كذا، وثبوت أنها موجودة في الفرع، لا مطالبة الجلال بمسلك العلة، نعم إبطال أن العلة ما ذكر الجلال مع بيان أن العلة غيرها، وإثبات تلك العلة المغايرة كما قدمنا ينفع، ولكنه لم يقع.
فالحاصل أن الجلال مانع لثبوت العلة في الفرع، مسندا ذلك المنع بأن العلة النقيصة المذكورة، فالقدح في إثبات أنها العلة، وكذا الكلام على قوله: وأما الرجال ... إلى آخره لا يفيد إثبات الحد على قاذف الرجل، فإن قيل الكلام على ذلك ينفي الفارق بين قاذف المرأة وقاذف الرجل، فيثبت الحكم لقاذف الرجل.
قلت: لا يصح ذلك؛ فإن النقيصة التي في شأن المرأة أشد وأثبت؛ فإنها جبلية يثبتها
_________
(1) تقدم ذكر مسالك العلة.
انظر البحر المحيط (5/ 200 - 204)، " الكوكب المنير " (4/ 138).(10/4791)
المسلم والكافر، والمؤمن والفاسق [2ب]، بخلاف النقيصة في شأن الرجل، هذا بعد تسليم اندفاع ما ذكر الجلال، والفرق أيضًا بين النقيصتين ضروري، فإن الرجل يجد من نفسه عند أن تزني ابنته ما لا يجده عند أن يزني ولده، وهذا أمر عام فعرفت عن هذا ما في قول شيخنا - دامت إفادته - أقول: قد عرفت أنه لم يأت بشيء يصلح للفرق ... إلخ.
نعم. وقول الجلال (1) رحمه الله: وأما الرجال فلم يكونوا يرون به بأسا بل وربما كانوا يشببون أشعارهم به فخرا كما قال رئيسهم امرؤ القيس (2):
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول
انتهى كلام اتصل بالمسألة فذكر لإفادة معناه، فإنه علل حد القذف بالنقيصة اللاحقة للعرب من جهة زنا النساء استشعر سؤالا عن حال زنى الرجال، هل فيه عندهم النقيصة التي تلحق بزنى المرأة؟ فأجابه بقوله: وأما الرجال ... إلخ.
ولا يريد إلا أهل الجاهلية، فدل على ذلك قوله: هل كانوا يشببون (3) .... إلخ. فإن أهل الإسلام ليسوا بتلك المثابة. وأما ما وقع من معاوية فلأن زنى أبي سفيان وقع في الجاهلية، فلا يؤخذ منه أن الجلال يريد أن ذلك الأمر كان في الإسلام.
وإذا عرفت أن ما ذكر الجلال ليس للاحتجاج به، بل لإفادة معناه فلا يقال عليه: فما لنا ولهم فقد كانوا ... إلخ.
فإنا لو سوغنا أن هذا الكلام قادح فيما نقل الجلال لسددنا باب رواية أخبار العرب ووقائعها وأشعارها، ولقيل لمن أتى بشيء من ذلك: فما لنا وللعرب! فقد كان لهم أخبار ووقائع وأشعار.
قال شيخنا - دامت إفادته -: وهذا قياس لا مطعن فيه، ولا يرد على شيء من
_________
(1) في ضوء النهار (4/ 2271).
(2) انظر " ديوان امرئ القيس " (ص 113)، وقد تقدم معناه.
(3) كلام الجلال في " ضوء النهار " (4/ 2271).(10/4792)
الاعتراضات المعتبرة عند أهل الأصول. انتهى.
أقول: لم يبين - دامت إفادته - ما علة هذا القياس، وهي أحد أركانه الأربعة، وأن كثيرا من الاعتراضات [3أ] الأصولية تتعلق بالعلة، فمتى أبينت علة القياس بالمسلك الأصولي، ورد على المسلك ما يرد إن شاء الله (1).
قال شيخنا - دامت إفادته -: وقد عمل عليه في إثبات الحد على قاذف الرجل المسلمون أجمعون. انتهى.
أقول: هذا دعوى للإجماع وقد تقدم أول هذا البحث ما يقيد عدم حجيته لمقام أن صغرى القياس المنطقي الذي يتخلل إليه الاستدلال بالإجماع فممنوعة.
قال شيخنا - دامت إفادته - أقول: إن كان الاعتبار في مثل هذه الآية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالفاحشة عامة، والذين آمنوا عام، ومقتضى ذلك أن من أحب أن تشيع أي فاحشة في أي مؤمن فهو كما قال الله - سبحانه - من غير فرق بين فاحشة وغيرها. انتهى.
أقول: الآية المشار إليها هي قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2)، والفاحشة في القاموس (3): الفاحشة الزنى وما يشتد قبحه من الذنوب، كل ما نهى الله عنه.
إذا عرفت هذا فمن احتج بهذه الآية على أنه يحد قاذف الرجل فقد غلط من وجوه:
لأن المحكوم في هذه الآية ليس حد القذف، ولا المحكوم عليه القاذف، بل المحكوم به أعم
_________
(1) تقدم ذكره.
وانظر: " البحر المحيط " (3/ 195 - 196)، " إرشاد الفحول " (ص 454).
(2) [النور: 19].
(3) (ص 744).(10/4793)
من حد القذف، وثبوت الأعم لا يلزم ثبوت الأخص، والمحكوم عليه أيضًا أعم من القاذف من وجه، وأخص من وجه؛ لأنه يجوز أن يرمي الرجل الرجل بالزنى ولا يحب أن تشيع تلك الفاحشة، وأن يوجبه مع المحبة لذلك، وأن لا يوجبه مع محبة أن تشيع الفاحشة، وثبوت الحكم لأحد من بينهما تلك النسبة [3ب] لا يلزم ثبوته للآخر، مثلا إذا ثبت حكم حد القذف للمحب أن تشيع الفاحشة لا يستلزم ثبوته للقاذف ثبوتا كليا.
إذا تقرر هذا فتوهيم الجلال لمن احتج بالآية صحيح.
وأما قوله في دفع الاحتجاج بالآية بقوله: لأن شيوعها فيهم عبارة عن لحوق عارها لهم، وعار زنى المرأة لاحق لرجالها ضرورة عرفية. انتهى.
فبعد صحة دعواه وهي عدم صحة الاحتجاج بالآية على حد قاذف الرجل لا يورث الكلام من شيخنا - دامت إفادته - على هذه الجملة من الكلام ما يحصل ثبوت الحد على قاذف الرجل، نعم في كلام الجلال في شيء.
قال شيخنا - دامت إفادته -: القصة متواترة لم يخالف في صحتها وتواترها أحد من أهل الشرع، وهي في غالب كتب السير (1) والتاريخ (2)، فما معنى الرد بقوله مظلمة؟ انتهى.
أقول: الجلال لا ينكر شمول دواوين الإسلام لتلك القصة، وإنما قدح في صحة نقلها بما اشتملت عليه من إفهام عمر لزياد رغبة في ستر المغيرة، وأن هذا وجه للحكم على تلك القصة بالإظلام، وأن الأمر كما قال شيخنا - دامت إفادته - فصان الله عمر أن يوهم شاهدا في حد من حدود الله بما يثنيه عن الشهادة!.
وأما قوله - دامت إفادته - وهل يجترئ على مثل عمر بن الخطاب مثل هذا الكلام منصف؟. انتهى.
فكلام قويم، غير أن الجلال لم يرم عمر بذلك، بل أراد تنزيهه كما قدمنا،
_________
(1) انظر الرسالة رقم (154).
(2) انظر الرسالة رقم (154).(10/4794)
وليس ذلك كلام منه، بل ثبت في الرواية في تلخيص الحافظ ابن حجر ما لفظه: قوله: إن عمر عرض لزياد بالتوقف في الشهادة على [4أ] المغيرة. قال: أرى وجه رجل لا يفضح رجلا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ روى ذلك في هذه القصة من طرق بمعناه، من رواية البلاذري عن وهب بن بقية، عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، ثم ذكر بقية الروايات.
فإن قلت: القصة متواترة فلا يقدح في صحتها ما ذكر كما قال - دامت إفادته -.
قلت: إن أريد بالقصة ما ذكر الجلال ففيها إفهام عمر رضي الله عنه لزياد، وقد نزه شيخنا عمر عن ذلك، فيعود ذلك التنزيه بالإبطال، وإن أريد أصل القصة من دون ذكر الإفهام فيها ففيه أن هذا نقل محتاج إلى تصحيح، بأن يخرج تلك القصة من طرق على الشرط المعتبر في الأصول، ولا يكفي وجودها في غالب كتب السير والتاريخ في أنها متواترة بل لا يكفي وجودها في دواوين الإسلام الصحاح وغيرها في ذلك.
نعم. وجودها في صحاح الدواوين يستلزم الصحة فقط، وأما في غيرها فلا.
نعم. قد خرج هذه القصة (1) الحاكم في المستدرك، والبيهقي، وأبو نعيم في المعرفة، وأبو موسى في الذيل من طرق، وعلق البخاري طرفا، كذا في التلخيص، وهذه الكتب ليست مما يكفي العزو إليها في الحكم على الحديث بالصحة، فالحكم بصحة القصة يحتاج إلى نقل الأسانيد والنظر فيها.
وأما قول شيخنا - دامت إفادته -: إنه لم يخالف في صحتها وتواترها أحد. فإنه أراد أنه لم يصدر عن أحد نفي التواتر والصحة مع القول بالصحة والتواتر فهو عائد إلى الإجماع، وقد عرفت ما فيه، وإن أراد أنه لم يجد قائلا بأنها ليست متواترة، أو ليست بصحيحة من غير نظر إلى أنه يقول بالتواتر أو الصحة أولا، فتسليمه لا ينفعه ولا يضر الجلال [4ب].
_________
(1) تقدم تخريجها في الرسالة رقم (154).(10/4795)
وأما قول الجلال - رحمه الله -: حتى روي أن عليا قال: إن حددتهم فارجم المغيرة (1). وفي رواية: فأعط صاحبك حجارة. ولا وجه لترتيب الرجم على حد
_________
(1) قال الأمير الصنعاني في " منحة الغفار حاشية على ضوء النهار " (4/ 2273): في هذا النقل تسامح فإن الذي في تاريخ ابن خلكان وغيره أن عمر لما لم يتم النصاب على ما رمي به المغيرة بعد شهادة الثلاثة الذين ذكرهم الشارح على المغيرة بالزنى أمر عمر بحدهم حد القذف فلما تم جلد أبي بكرة قال: أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا فهم عمر أن يضربه حدا ثانيا فقال له علي: إن ضربته فارجم صاحبك.
وهكذا رواية القصة في جميع الكتب التي ذكرت فيها إنما في ألفاظها اختلاف يسير وبهذا عرفت أن عمر جلد الثلاثة وأن كلام علي عليه السلام إنما قاله لما أراد عمر جلد أبي بكرة ثانيا لقذفه المغيرة بعد الجلد.
قال ابن خلكان بعد سياقه القصة كما ذكرنا ما لفظه: قلت وقد تكلم الفقهاء على قول علي رضي الله عنه " إن ضربته فارجم صاحبك " قال أبو نصر الصباغ وهو صاحب كتاب الشامل في المذهب: يريد أن هذا القول إن كان شهادة أخرى فقد تم العدد وإن كان هو الأولى فقد جلدته عليه.
قلت: وقد ذكر ابن السبكي القضية وذكر ما ذكره ابن الصباغ وزاد وجها آخر فقال: معنى قوله: إن جلدته رجمت صاحبك أي أنك إن استحللت جلده من غير استحقاقه إياه فارجم صاحبك. هذا واعلم أن ما ذكره الشارح يقتضي التوقف عن الجزم بإيجاب الجلد على قاذف الرجل سيما والأصل عدم الوجوب فلا يرفع إلا بدليل قائم يقوم هنا على ذلك.
وحديث أبي اليسر الأنصاري لا أدري ما صحته وما أظنه قد سبق الشارح إلى هذا أحد وقد ذكر البحث في حاشيته على الكشاف في سورة النور ثم رأيت بعد أعوام كلاما لأبي محمد بن حزم بعد أن أبطل إثبات جلد قاذف الرجل بالقياس على قاذف المرأة، فقال: ونحن نبين بحمد الله وقوته من أين أوجبنا جلد القاذف للرجل من نص القرآن فنقول وبالله التأييد: إن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) عموم لا يجوز تخصيصه إلا بنص أو إجماع فيمكن أن يريد الله النساء المحصنات كما قلتم ويمكن أن يريد الفروج المحصنات فقلنا نحن: إنه يريد الفروج المحصنات ووجب علينا البرهان الواضح على دعوانا فقلنا: إن الفروج أعم من النساء لأن الاقتصار من مراد الله على النساء تخصيص لعموم اللفظ وهو لا يجوز إلا بنص أو إجماع وأيضا فإن الفروج هي المرمية بذلك لا غيرها من الرجال والنساء برهان ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) وقوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) ومثلها: (وَالحافظين فُرُوجَهُم وَالْحَافِظَات) وقال: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) فصح أن الفرج هو المحصن وصاحبه هو المحصن له بنص القرآن ثم ساق بسنده حديث أبي هريرة مرفوعًا وفيه: " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " وساق حديث أبي هريرة الآخر مرفوعًا بمعنى هذا ثم قال فصح يقينا أن المرمية هي الفروج خاصة وأن المحصنة على الحقيقة هي الفروج لا ما عداها وصح أن الزنى الواجب فيه الحد هو زنى الفرج خاصة لا زنى سائر الأعضاء وزنى النفس دون الفرج لا حد فيه بالنص كما أوردنا في العينين تزنيان فمن رمى بالزنى أي عضو من الأعضاء المذكورة بأنها زانية لم يكن راميا ولا حد عليه بالنص لأن الفرج إن كذب ذلك كله فهو لغو فصح يقينا أن الرمي الذي يجب فيه الحدود وشهادة القاذف وفسقه إنما هو رمي الفروج بلا شك بل يقين لا مرية فيه وأن مراد الله تعالى رمي الفروج، وإذا كان كذلك ففروج النساء والرجال داخلات في الآية دخولا مستويا. انتهى. وهو كما تراه من القوة وإن كان سياق آيات النور ظاهرة في رمي النساء فالسياق تصرفه الأدلة عن التخصيص به وإن أبيت فإجماع الصحابة أنهض شيء في هذا الباب ...(10/4796)
الثلاثة. انتهى.
فنذكره تأييدا لإظلام القصة، فإنها قد كانت مظلمة لما استلزمه من القدح في صحابي جليل، أعني عمر رضي الله عنه، وزادت إظلاما بأنه روي فيها هذا الكلام الذي لا يحصل معنى يقصده عاقل، فضلا عن من روي عنه.
وأما قول شيخنا - دامت إفادته -: إن عليا إنما قال هذه المقالة عند أن أراد عمر أن يجلد أبا بكرة لما قال بعد جلده قولا يدل على رمي المغيرة، فقال له: إن جلدته يعني يعين جلدا ثانيا فارجم المغيرة (1)، لأن هذا القذف الواقع بعد الجلد إن كان موجبا لتكرير الجلد فالقاذف بمنزلة من له شاهد رابع، ففيه أن المقالة لا تناسبه لأنها كما قال الجلال: إن حددتهم فارجم المغيرة، وفي كلام شيخنا - دامت إفادته - أن الذي رتب عليه الرجم للمغيرة إنما هو حد أبي بكرة وكان المقام أن يطالب الجلال تصحيح النقل، أو يبين فساده بما علم أنه قادح في صحة النقل، وفيه أيضًا أن ترتيب حد المغيرة على حد أبي
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.(10/4797)
بكرة لا يصح، لأنه إذا كان أبو بكرة شاهدا رابعا فليس عليه حد لكمال نصاب الشهادة، وإن لم يكن شاهدا رابعا فهو قاذف فحد المغيرة يترتب على صحة كون كلام أبي بكرة الأخير شهادة شاهد رابع، وكونه شهادة شاهد رابع يترتب على عدم حد أبي بكرة، فحد المغيرة مترتب على عدم حد أبي بكرة فكان مقتضى الحال أن يقال: لا تحد أبا بكرة بل حد المغيرة، لأنه قد كمل نصاب الشهادة [5أ]، أو إن لم تحد أبي بكرة فحد المغيرة؛ لأنه إذا لم يحد فهو شاهد رابع.
قال شيخنا - دامت إفادته -: أقول: لا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر، ويعرف ما عظمه الله ورسوله من حق الصحابة أن يقول بمثل هذه المقالة، أو يظن بالصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يكتمون ما عندهم من العلم هيبة لعمر أو غيره، فقد كانوا يراجعونه، ويدفعون كثيرا من أقواله. انتهى.
أقول: المقالة المشار إليها هي قول الجلال بعد تسليم أن عليا لم يخالف في قصة المغيرة فغايته إجماع سكوتي (1)، ولا ينتهض السكوتي حجة (2) لأن عمر كان مهيبا منفذا لرأيه
_________
(1) الإجماع السكوتي: وهو أن ينقل عن أهل الإجماع قول أو فعل، مع نقل رضاء الساكتين حتى أنهم لو أفتوا لما أفتوا إلا به، ولو حكموا لم يحكموا إلى به.
ويعرف رضاؤهم: بعدم الإنكار مع الاشتهار، وعدم ظهور حامل لهم على السكوت وكونه من المسائل الاجتهادية.
ولا سيما وأن الظن بالمجتهدين أنهم لا يحجمون عن إبداء رأيهم إظهارا للحق، وإن لقوا من جراء ذلك العنت والضيق.
انظر: " حجية الإجماع " (ص 173)، " المسودة " (ص334 - 335)، " البحر المحيط " (4/ 494).
(2) وفيه مذاهب:
منها: أنه ليس بإجماع ولا حجة قاله داود الظاهري والمرتضى وعزاه القاضي إلى الشافعي وقال: إنه آخر أقوال الشافعي وقال الغزالي والرازي والآمدي إنه نص الشافعي في الجديد وقال الجويني إنه ظاهر مذهبه.
انظر: " المنخول " (318)، " المحصول " (4/ 153)، " البرهان " (1/ 499).
ومنها: أنه إجماع وحجة من الشافعية وجماعة من أهل الأصول.
انظر مزيد تفصيل: " إرشاد الفحول " (ص 311)، " المنخول " (ص 318).
ومنها: أنه حجة وليس إجماعا قاله أبو حاتم وهو أحد الوجهين عند الشافعية.
انظر: " البحر المحيط " (4/ 393).
ومنها: أنه إجماع بشرط انقراض العصر لأنه يبعد مع ذلك أن يكون السكوت لا عن رضا، وبه قال أبو علي الجبائي وأحمد في رواية عنه، وقال الرافعي: إنه أصح الأوجه عند أصحاب الشافعي.
انظر: " اللمع " (ص 49)، " البحر المحيط " (4/ 494).
ومنها: أنه إجماع إن كان فتيا لا حكم وبه قال ابن أبي هريرة وحكاه عنه الشيخ أبو إسحاق والماوردي والرافعي وابن السمعاني والآمدي
" الإحكام " للآمدي (1/ 312 - 313) " المحصول " (4/ 157).
ومنها: أنه إجماع إن كان صادرا عن حكم لا إن كان صادرا عن فتيا قاله أبو إسحاق المروزي " البحر المحيط " (4/ 500).
ومنها: أنه إن وقع في شيء يفوت استدراكه من إراقة دم أو استباحة فرج كان إجماعا وإلا فهو حجة .... " البحر المحيط " (4/ 500).
ومنها: إن كان الساكتون أقل كان إجماعا وإلا فلا قاله أبو بكر الرازي.
" البحر المحيط " (4/ 501).
ومنها: إن كان في عصر الصحابة كان إجماعا وإلا فلا، قال الماوردي في " الحاوي " والروياني في " البحر ": إن كان في عصر الصحابة فإذا قال الواحد منهم قولا أو حكم به فأمسك الباقون فهذان ضربان:
أحدهما: مما يفوت استدراكه كإراقة دم أو استباحة فرج فيكون إجماعا لأنهم لو اعتقدوا خلافه لأنكروه إذ لا يصح منهم أن يتفقوا على ترك إنكار المنكر.
وإن كان مما لا يفوت استدراكه كان حجة لأن الحق لا يخرج عن غيرهم وفي كونه إجماعا يمنع الاجتهاد وجهان لأصحابنا:
أحدهما: يكون إجماعا لا يسوغ معه الاجتهاد.
والثاني: لا يكون إجماعا سواء كان القول فتيا أو حكما على الصحيح.
ومنها: أن ذلك إن كان مما يدوم ويتكرر وقوعه والخوض فيه فإنه يكون السكوت إجماعا وبه قال إمام الحرمين
البحر المحيط (4/ 501).
ومنها: أنه إجماع بشرط إفادة القرائن العلم بالرضا، وذلك بأن يوجد من قرائن الأحوال ما يدل على رضا الساكتين بذلك القول
" المستصفى " (2/ 365).
ومنها ما يكون حجة قبل استقرار المذاهب لا بعدها فإنه لا أثر للسكوت لما تقرر عند أهل المذهب من عدم إنكار بعضهم على بعض إذا أفتى أو حكم بمذهبه مع مخالفته لمذاهب غيره.
النظر: " البحر المحيط " (4/ 504)، " البرهان " (1/ 715 - 716).
* وخلاصة هذه الأقوال أنه إجماع وحجة، وانظر قول المذهب الثاني وهو الراجح والله أعلم.(10/4798)
ولو من الغريب الملغى، ومن شرط الإجماع السكوتي أن لا يكون لمانع من الإنكار كما علم من الأصول. انتهى.
وعدم حل هذه المقالة إن كان لنسبته الهيبة وإنفاذ الرأي إلى عمر فليس مما يتأثر عنه عدم الحل على أن الهيبة قد كانت مشهورة عنه، معروفا بها، حتى قيل: درة عمر أهيب من سيف الحجاج، وبلغ من هيبته أن الناس تركوا الجلوس في الأفنية، وكان الصبيان إذا رأوه وهم يلعبون فروا، ومع هذا أنه لم يكن جبارا ولا متكبرا، وأما إنفاذ الرأي إذا لم يخالف كتابا ولا سنة كما هو الشأن في هذه المسألة، فالظاهر أنه ينفذه وإلا عاد إلى رأي غيره، واتبع الغير فكان مقلدا، وحاشاه أن يكون كذلك.
وقد أخرج ابن أبي شيبة (1) من طريق زاذان قال: كنا جلوسا عند علي فسئل عن الخيار؟ فقال سألني عنه عمر فقلت: إن اختارت نفسها فواحدة رجعية، قال: ليس كما قلت، إن اختارت نفسها فواحدة بائن، وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية.
قال: فلم أجد بدا من متابعته، فلما وليت رجعت إلى ما كنت أعرف.
وإن كان عدم الحل [5ب] لأنه قد نسب إلى الصحابة السكوت.
فأقول: السكوت على ضربين:
أحدهما: أن يقع منهم مع أن عمر قضى بما يخالف الكتاب والسنة وهذا لا يريده الجلال، ولا ينسب مثل الجلال مثله إلى مثلهم.
وثانيهما: أن يقع مع عدم المخالفة، وذلك يقع مع المرافقة بأن يكون الدليل من الكتاب أو السنة موافقا، أو مع عدم الدليل فيهما عليه، والمسألة عند ذلك من فوائد
_________
(1) في مصنفه (5/ 59 - 60).(10/4800)
الاجتهاد والرأي، وهذا هو مراد الجلال، ولذا قال: كان منفذا لرأيه، والرأي إنما يكون عند فقد الدليل من الكتاب والسنة، وأيضا المسألة التي الكلام فيها دليل من الكتاب والسنة إلا في قاذف المحصنة، ولذا نجى من الدعاء أن على قاذف الرجل الحد إلى الاستدلال بقصة المغيرة، وقد علمت بطلان دليل الإجماع السابق (1) ثم بطلان القياس السابق (2) ثم بطلان ما يخيل أنه إجماع من قصة المغيرة.
وبالجملة: فالإجماع السكوتي الذي يدعى لا يصح في مسائل الاجتهاد، لأن الساكت ربما [ ..... ] (3) وأن هذا شأن من رسخ في العلم.
وأما قول شيخنا - دامت إفادته -: وإذا تقرر لك ما قدمناه علمت أنه قد دل على إثبات الجلد على الرجل القرآن الكريم، وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} (4) الآية، ففيه أن أتبع الدلالة الإرادة، فإنه لما أراد ذلك من الآية قال: إنها دلت (5) وليست بدالة، فكان حقه أن يقيم دليلا على أن الصيغة شاملة لأن الجلال في مقام المنع، على أن الجلال قد أسند المنع بما نقله عن أئمة الأصول من أن جمع المؤنث لا يطلق على جمع المذكر تغليبا (6) ولا غيره [6أ].
وأما قوله - دامت إفادته -: وإنما خص .... إلخ.
فلا يدل على أن مراده غير ما دلت الصيغة حقيقة لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام.
وأما قوله: ثم لو سلمنا اختصاص هذه الصيغة بالنساء، ولهذا لا وجه للتغليب لكان
_________
(1) تقدم التعليق على ذلك، انظر: الرسالة (154، 155).
(2) انظر رد الشوكاني على ذلك في الرسالة رقم (157).
(3) هنا في المخطوط ثلاث كلمات غير مقروءة.
(4) [النور: 4].
(5) تقدم التعليق على دلالة الآية.
(6) تقدم توضيحه.(10/4801)
هذا القياس الصحيح السالم عن المطاعن والاعتراض، الجامع للأركان دليلا كافيا، ثم إجماع الأمة سلفها وخلفها في كل عصر بعد إجماع الصحابة ففيه ما قد أسلفنا من عدم بيان علة القياس، وما مسلكها، ومن عدم صحة نقل الإجماع فليراجع.
قال شيخنا - دامت إفادته -: ووقوع ذلك من الخلفاء الراشدين الذين هم من أهل الشرع، ومن أهل اللغة فإن كان المبحث لغويا فهم من أهل اللغة، وإن كان شرعيا فهم من أهل الشرع، فعلى كل حال هم أعرف بمقاصد القرآن، ومعاني الشريعة وقد قال فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فيما أخرجه أهل السنن (1) وغيرهم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، فإن هذا [التوجيه] (2) النبوي مشعر بصلاحية ما وقع في الخلفاء الراشدين للحجية على فرض عدم وجود ما يدل عليه في الشريعة، لا إذا وقع مخالفا لما هو ثابت فيها، ثم قد ثبت عند أحمد وأبي داود وغيرهما في قصة الملاعنة: أن من رماها أو رمى ولدها فعليه الحد (3). ورمي الولد هاهنا مطلق لم يقيد بكون الرمي له هو أو الرمي لأمه، ثم قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " من قذف مملوكه يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال " (4) فهذا فيه التصريح بثبوت حد السيد إذا قذف مملوكه، وإنما كان مؤخرا إلى يوم القيامة لأنه لا يثبت العبد ذلك في الدنيا فهو يدل أبلغ دلالة ويفيد أعظم فائدة أن قاذف الرجل الحر يثبت عليه الحد في الدنيا. انتهى [6 ب].
أقول: أما الاحتجاج بوقوع ذلك من الخلفاء الراشدين ... إلخ.
فيقال عليه: من ذا المراد من الخلفاء الراشدين، هل جميعهم؟ فيمنع الوقوع فإن منهم من لم يقع منه حد من بعضهم فيقال: إن كان غير معين فممنوع الحجية، وما قيل
_________
(1) تقدم تخريجه مرارا، وهو حديث صحيح.
(2) كلمة يستلزمها السياق.
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم تخريجه.(10/4802)
في إثباتها من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين (1) لا يفيد المدعى؛ لأن ظاهر صيغة الخلفاء الاستغراق.
على أنا لو جعلنا اللام للعهد الذهني لكان المأمور به لزوم سنة خلفاء غير معينين، فيكون من تكليف ما لا يطاق، وإن كان ذلك البعض معينا فإن كان الأربعة فقد ادعى بعض العلماء أن إجماعهم حجة، واحتجوا بالحديث المتقدم، وقد صححه الحاكم (2)، وقال على شرط الشيخين، وأجيب عنهم بأن صيغة الخلفاء لا تخصهم باعتبار الوضع، ولا قرينة ترشد إلى أنهم المراد منها.
ومما يؤنس ببطلان هذه الدعوى وقوع الخلاف من أعلام الصحابة كابن عباس، وابن مسعود للأربعة، ولم ينكر عليهم، على أنا لو سلمنا أنهم المراد من الصيغة كان الدليل دافعا للمدعى؛ لأن سنة الخلفاء عدم الأخذ بأقوال الرجال، والمدعي وجوب الأخذ بقول هؤلاء الأربعة وإن كان العمرين ففيه نحو ما تقدم، وقد ذهب قوم (3) إلى أن إجماعهما
_________
(1) وهو حديث صحيح تقدم تخريجه: ذهب الجمهور إلى أن إجماع الخلفاء ليس بحجة لأنهم بعض من الأمة وذهب بعض أهل العلم إلى أنه حجة لما ورد ما يفيد ذلك كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ... "، وحديث: " اقتدوا بالذين من بعدي ".
قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 308): وأجيب بأن في الحديثين دليلا على أنهم أهل للاقتداء بهم لا على أن قولهم حجة على غيرهم، فإن المجتهد متعبد بالبحث عن الدليل حتى يظهر له ما يظنه حقا ولو كان مثل ذلك لا يفيد حجية قول الخلفاء أو بعضهم لكان حديث رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد يفيد حجية قوله.
انظر " الكوكب المنير " (2/ 239)، " جمع الجوامع " (2/ 179).
إذا إجماع الخلفاء الأربعة ليس بحجة.
" المسودة " (ص 329).
(2) في " المستدرك " (1/ 95 - 97) وقد تقدم.
(3) تقدم ذكره.
انظر " إرشاد الفحول " (ص 308).(10/4803)
حجة، واحتجوا بحديث: اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر. رواه أحمد (1)، والترمذي (2)، وحسنه، والحاكم (3)، وابن حبان في صحيحه (4)، وأجيب عنهم بأن الأمر مطلق فلا يفيد اتباعهم في كل واقعة، وبأن الحديث ظني والمسألة من الأصول، وبأنه يحتمل أن المراد بالاقتداء (5) الإتيان بمثل ما هم عليه من اتباع الأوامر والنواهي، وعدم العمل بالرأي إلا عند فقد الدليل، ومع الاحتمال لا تبقى حجة مع أن هذا الاحتمال هو الراجح لسلامته من ما يرد على الأول، وبأن الحديث غير صحيح (6) لأن في إسناده عبد الملك بن عمير (7) وقد قال أحمد (8) ضعيف يغلط، وقال ابن معين (9):
_________
(1) في المسند (5/ 382، 385، 402).
(2) في السنن (3662) وقال: حديث حسن.
(3) في المستدرك (3/ 75).
(4) في صحيحه رقم (2193 - موارد).
قلت: وأخرجه الطحاوي في " مشكل الآثار " (2/ 83 - 84) والحميدي في مسنده (1/ 214) رقم (449) وابن سعد (2/ 334) وأبو نعيم في " الحلية " (9/ 109) كلهم من طرق عن عبد الملك بن عمير.
* وأخرجه الترمذي رقم (3663) وأحمد (5/ 399) من حديث حذيفة لكن من طريق سالم أبي العلاء.
* وأخرجه الترمذي رقم (3805) وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، والحاكم (3/ 75 - 76) وقال: إسناده صحيح ورده الذهبي بقوله: قلت: سنده واه.
والبغوي في " شرح السنة " (14/ 106 رقم 3896) وقال: حديث غريب كلهم من حديث ابن مسعود.
وخلاصة القول: أن الحديث صحيح.
(5) قلنا: إن في الحديثين دليلا على أنهم أهل اقتداء بهم لا على أن قولهم حجة على غيرهم.
(6) بل هو صحيح كما تقدم.
(7) انظر " تهذيب التهذيب " (3/ 620 - 621).
(8) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (3/ 620).
(9) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (3/ 620).(10/4804)
مخلط [7أ]، وإن كان غيرهما فمن ذا هو؟
وأما قوله - دامت إفادته -: الذين هم من أهل الشرع واللغة. انتهى.
ففيه أن كون المجتهد الحاكم بحكم من أهل الشرع واللغة لا يستلزم حجية ما حكم به، وذهب إليه، وأما الثابت في قصة الملاعنة فالسياق يدل على القيد، وقد ثبت من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أحمد (1)، ولم يتكلم عليه الحافظ في التلخيص (2) مع الإشارة إليه، ووثق رجاله صاحب مجمع الزوائد (3) إلا محمد بن إسحاق فإنه رماه بالتدليس " قضى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في ولد المتلاعنين أنه يرث أمه وترثه أمه، ومن رماها به جلد ثمانين، ومن دعاه ولد زنا جلد ثمانين ".
وأما ثبوت الحد على قاذف (4) المملوك يوم القيامة فقاذف الحر أولى منه، فيدل بفحوى الخطاب أنه ثبت على قاذف الحر حد في الدنيا فليس في منطوق الحديث ذلك، ولا في مفهومه. انتهى المراد. كتبه يوم السبت خامس عشر شهر رمضان سنة 1220. بقلم مؤلفه الفقير إلى عفو الله حسين بن محمد بن عبد الله العنسي - غفر الله له ولوالديه - آمين [7ب].
_________
(1) في " المسند " (1/ 245).
(2) (3/ 455).
(3) (6/ 280).
(4) " الميزان " (3/ 468 - 475 رقم 7197) والمغني في الضعفاء (2/ 552 رقم 5275).(10/4805)
هذا ما تعقب به شيخنا العلامة بدر الإسلام محمد بن علي الشوكاني
على الأخ العلامة الحسين بن محمد العنسي عافاه الله تعالى لما حرره على بحث الجلال في حد قاذف الرجل
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(10/4807)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: هذا ما تعقب به شيخنا العلامة بدر الإسلام محمد بن علي الشوكاني على الأخ العلامة الحسين بن محمد العنسي عافاه الله تعالى لما حرره على بحث الجلال في حد قاذف الرجل.
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين وبعد.
فأوقفنا على ما كتبه تلميذنا الولد القاضي العلامة شرف الإسلام الحسين بن محمد لا برح مجده في كل وقت ...
4 - آخر الرسالة: وإلى هنا انتهى شوط القلم، والحمد لله، وأستغفر الله إن كان في هذه المباحثة شيء من الجدل المنهي عنه ولا نشعر به.
5 - نوع الخط: خط نسخي رديء.
6 - عدد الصفحات: 12 صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 24 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 11 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(10/4809)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين، وبعد:
فأوقفنا على ما كتبه تلميذنا الولد القاضي العلامة، شرف الإسلام الحسين بن محمد (1) - لا برح مجده في كل وقت يتجدد - على ما كتبناه على بحث الجلال في شرحه على الأزهار (2)، المتعلق بعدم وجوب حد القذف على قاذف الرجل.
فقال - كثر الله فوائده -: فكيف يحمل الشيء - وهو عام - على بعض أفراده؟
أقول: إن أراد بهذا العموم المعروف بالشمولي (3) فليس بصحيح؛ إذ لا شمول لقول الجلال: وفي نفسي منه شيء، ولو فرضنا أنه جاء بعبارة تفيد العموم الشمولي لكان قد أخبر عن نفسه بأنه قد كان فيها كل شيء، فيستلزم وجود جميع الموجودات من الجواهر، والأعراض في نفسه، هذا على فرض اختصاص الشيء بالموجود، وهذا باطل للضرورة، وكذا ملزومه، وإن أراد العموم البدلي (4) فكيف يستنكر حمله على بعض أفراده، وهو لا يكون إلا لفرد من أفراده، كما هو شأن كل بدلي، فإنه للفرد المنتشر، وإذا لم يكن ما أوردناه معينا لما ذكرناه فأقل الأحوال أنه أحد ما يصدق عليه ويتناوله بدلا، على أن هذه العبارة لا تستعمل في مثل المقام الذي تكلمنا عليه إلا بما ذكرنا.
وأما قوله: قلت: يمكن أن يكون المراد منه عدم الحجية.
فأقول: فيكون على هذا المعنى كلام الجلال: وفي نفسي منه عدم الحجية، وهو أيضًا لا يناسب قوله: لأن نقل الإجماع لا يصح، فإن عدم صحة النقل تنفي الدليل بالمرة
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) في " ضوء النهار " (4/ 2270 - 2271).
(3) تقدم تعريفه في الرسالة رقم (154).
(4) تقدم تعريفه في الرسالة رقم (154).(10/4813)
لا مجرد عدم حجيته، فإن الاقتصار على نفي الحجية إنما يكون بعد إثبات أصل ما زعمه الخصم دليلا، ثم بعد هذا كله نسأل تلميذنا - كثر الله فوائده - بم يفسر قولي هكذا في نفسي من كون هذا البحث من كلام تلميذنا شيء؟ هل بمجرد الشك؟ أم بزيادة عليه؟ فقد يكون الواقع في النفس تجد شيئا منتهيا إلى ما هو قريب العلم، كما روي أن كثير [1أ] كان يهاجي المرئي (1)، فبعث إليه بقصيدة قد أعانه جرير بثلاث أبيات فيها هي:
يعد الناسبون إلى تميم ... بيوت المجد أربعة كبارا
يعدون الرباب وآل سعد ... وعمرا ثم حنظلة الخيارا
ويذهب بينها المرئي لغوا ... كما ألغيت في الدية الخوارا
فلما وصل رواية كثير عند إنشاده القصيدة إلى هذه الثلاثة الأبيات قام المرئي (2) يصرخ ويلطم وجهه، ويقول: ما لي ولجرير! فقالوا له: سمنت عينك، وأين منك جرير؟ هذا شعر كثير، وهذه روايته؟ فقال: هيهات، والله لا يقول كثير هذا.
_________
(1) قال صاحب الأغاني (18/ 272 - 273): لقي ذو الرمة جريرا فقال له: تعصبت على خالك للمرئي، فقال جرير: حيث فعلت ماذا؟ حين تقول للمرئي كذا وكذا، فقال جرير: لأنك ألهاك البكاء في دار مية حتى استقبحته محارمك.
فقال ذو الرمة: لا، ولكن اتهمتني بالميل مع الفرزدق عليك، قال: كذلك هو، قال: فوالله ما فعلت، حلف له بما يرضيه، قال: فأنشدني ما هجوت به المرئي، فأنشده قوله:
نبت عيناك عن طلل بحزوى ... عفته الريح وامتضح القطارا
فأطال جدا، فقال له جرير: ما صنعت شيئا، أفأرفدك؟ قال: نعم قل، فأنشد هذه الأبيات، فمر ذو الرمة بالفرزدق فقال له: أنشدني أحدث ما قلت في المرئي، فأنشده هذه الأبيات، فقال الفرزدق: كذبت وايم الله، ما هذا لك، ولقد قاله أشد لحيين منك، وما هذا إلا شعر ابن الأتان - يعني جريرا -.
" الأغاني " (18/ 272 - 273).
(2) انظر " الأغاني " (18/ 274).(10/4814)
وروي أن الفرزدق مر على كثير وهو ينشد هذه القصيدة بمربد البصرة، فسمعه حتى بلغ هذه الثلاثة الأبيات فقال له: أنت تقول هذا يا كثير؟ قال: نعم، قال: لم تقله! إنما قاله من هو أشد لحيين منك، هذا شعر ابن المراعة (1)، ويشبه هذا دخول راويته مسلم بن الوليد على بعض الأمراء بقصيدة أرسله بها إليه، فأراد أن ينتحلها، وأخبر الأمير أنها له، فأمره بإنشادها فقال:
لا تدع بي الشوق إني غير معمود ... نهى النهى عن هوى البيض الرعاديد (2)
وكان الأمير متكئا فاستوى جالسا وقال: إني لأجد ريح مسلم بن الوليد. ونحو هذا، وإن كان دخيلا في المقام يعده غيرهن كلامنا حشوا ففيه فائدة.
قال: كلام الجلال سند للمنع، وكل ما كان سندا للمنع لا يفيد الكلام عليه، ثم قال: وكبرى هذا الشكل مقررة في علم المناظرة (3).
أقول: لم يتقرر في علم المناظرة كلية هذه الكبرى، فإنه لم يقل أحد منهم أنه لا يقل كل كلام على السند أو ولا يفيد، بل قالوا إنه لا يحسن البحث على السند إذا كان غير متساو، وأما إذا كان متساويا فهو من مباحث علم المناظرة، وقد جعلوا [1ب] مباحث هذا الفن في مطولات كتبهم تسعة أبواب، وجعلوا بحث الكلام على السند الخامس منها فليراجعه تلميذنا - كثر الله فوائده - حتى يتقرر لديه ما يقبل من الكلام عليه وما لا يقبل، بل هذا البحث موجود في المختصرات، فإنه قال العضد في آداب البحث (4): ولا يدفع
_________
(1) أي جرير.
(2) " الأغاني " (19/ 44).
وكتاب الأغاني يحتوي على أخبار وحكايات أوردها عن آل البيت وهي أخبار تسيء إليهم ... وفيه حكايات شنيعة وأخبار فظيعة نفس فيها الأصبهاني عن حقده الدفين وضغينته على العرب
وأخبار فيها طعن في العقيدة وتفضيل الجاهلية
انظر كتب تحت المجهر لعبد العزيز بن محمد السرحان (ص 64 - 65).
(3) انظر " الفقيه والمتفقه " (1/ 229)، مناهج الجدل (ص45)، الجدل لابن عقيل (ص42).
(4) (ص13). بالمطبعة الرسمية العربية تونس 1340.(10/4815)
السند إلا إذا كان متساويا، وتكلم السامع بما هو معروف من التقسيم، فكيف قال تلميذنا - عافاه الله -: إن كبرى هذا الشكل مقررة في علم المناظرة! وقد علم أن أهل علم المنطق متفقون على اشتراط كلية الكبرى! وقد بطلت كليتها هاهنا باتفاق أهل العلم الذي نسب تقرير ذلك إليهم.
فإن قلت: قد أوضحت بطلان ما ذكره من صحة ذلك الشكل فأين لي كون هذا السند الذي وقع الكلام عليه على دعواه مساويا للمنع.
قلت: المنع متوجه إلى الإجماع الذي نقله المستدل، فالمانع طلب الدليل على مقدمة دليل الإجماع، فإذا كان قوله: لأن نقل الإجماع لا يصح سندا للمنع فإبطاله لا يكون إلا بإثبات الصحة، فكان الكلام الواقع على ذلك الزاعم كلاما على السند المساوي، ولو سلم أنه أعم لم يكن عمومه مانعا للكلام عليه، فإنه قد جوزوا الكلام على السند الأعم في ما لم يذكروه؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن مجامعا للمقدمة الممنوعة تحقيقا لمعنى العموم، والكلام معروف في كتب الفن، هذا على فرض صحة ما ذكره تلميذنا - عافاه الله - من كون ذلك الكلام منا كلاما على السند، وأما عند التحقيق فليس ذلك الكلام الذي تكلمنا عليه من الباب الذي ظنه تلميذنا - كثر الله فوائده - فإن الجلال (1) قال في عنوان تحته هكذا: وأما جلد قاذف المحصن فلا تنتهض عليه الآية؛ لأن جمع المؤنث لا يطلق على جمع المذكر ... إلخ.
وكل عارف بالفن يعلم أن هذا الكلام [2أ] من باب النقض للدليل بشاهد لا من باب المنع وسنده؛ لأنه كلام على فساد الدليل، وكل كلام على فساد الدليل نقض، فهذا نقض، أما الكبرى فإطباق أهل الفن على ذلك، ومن لم يقبل هذا منع النقل حتى يثبته، وأما الصغرى فظاهره، ثم قال الجلال بعد هذا: وربما يدعي الإجماع، وفي نفسه منه شيء؛ لأن نقل الإجماع لا يصح، وهذا الكلام على ما فيه من عوج وسقوط هو
_________
(1) في " ضوء النهار " (4/ 2270).(10/4816)
أيضا من النقض؛ لأنه قد أبان فساد نقل الإجماع بشاهد في زعمه، وهو قوله: لأن نقل الإجماع لا يصح، وكثيرا ما يلتبس النقض بالمنع، وشاهد النقض بسند المنع، وهما متفارقان تفارقا في غاية الوضوح والجلاء.
قال: ليس في محله؛ لأن مثبت الحد على قاذف الرجل الحر.
أقول: الناقل للإجماع مستدلا به على مطلب من المطالب إن كان الكلام معه في صحيح نقل الإجماع فهذا لا يشك أحد على أنه كلام على النقل، وإن كان الكلام معه في حجية ذلك الإجماع الذي استدل به فهذا كلام معه في الدليل، وجواب الكلام الأول تصحيح النقل، وجواب الثاني الاستدلال، والذي نحن بصدده، وكلامنا عليه هو قول الجلال؛ لأن نقل الإجماع لا يصح، وهذه العبارة يعلم كل من يفهم تراكيب كلام العرب أن المراد بها الإخبار بعدم صحة الإجماع لا بعدم دلالته، فهذا وجه قولنا في تلك الرسالة: إن المقام مقام أن يطلب منه صحة النقل.
قال: هو أن يروي المجمع عليه عن أهل الإجماع بنقل عدل تام الضبط ... إلخ.
أقول: هكذا نقول، ولسنا ممن يخالف في هذا، وإنما تكلمنا على ما في كلام الجلال من مخالفة مسلك المناظرة؛ لأنه قام مقام النقض في مقام طلب تصحيح النقل، ولم نقل [2ب] أنها قد قامت عليه الحجة بمجرد دعوى الإجماع، كيف أقول بهذا وأنا لا أرى حجية الإجماع (1) بعد صحة نقله! فضلا عن مجرد إجماع مدعى، هذا باعتبار ما يقتضيه ظاهر عبارة تلميذنا - كثر الله فوائده - فإنه انتقل من كون كلامنا السابق كلاما على سند المنع إلى اعتبار تصحيح نقل الإجماع بتلك الطريق، ولم يتكلم إلا على أن كلام
_________
(1) هذا رأي الشوكاني، وانظره مفصلا في " إرشاد الفحول " (ص 293) وما بعدها.
والراجح ما ذهب إليه الجمهور أن الإجماع إذا استوفى شروطه يكون حجة قطعية ملزمة للمسلمين، فلا يجوز معه المخالفة أو النقض.
انظر: " حجية الإجماع " للفرغلي (ص 130 - 162).(10/4817)
الجلال لم يقع موقعه، ولا صادف محزه (1)؛ لأنه جاء بالنقض، ثم بشاهد النقض في موضع لا يصلح فيه إلا طلب تصحيح النقل، فكان مجرد نقضه فاسدا وشاهده دعوى.
قال: وكلامه على القياس ليس لإثباته.
أقول: هكذا نقول إنه لم يحرر هذا البحث إلا لإبطال أدلة المستدلين على وجوب الحد على قاذف الرجل، ولكنه ادعى لتلك الأدلة عللا وأسبابا لم يقل بها المستدل، ولا يوجد في كتبه، فإن كان كل من تكلم على دليل فقد بطل بمجرد كلامه لزم بطلان غالب الأدلة، وإن كان الكلام الذي يوجب بطلان الدليل من منع، أو نقض، أو معارضة هو ما كان من ذلك جاريا على الوجه المعتبر فليس منه ما فعله الجلال، فإنه زعم عدم صحة نقل الإجماع بمجرد قوله: لا يصح، وزعم بطلان القياس بمجرد قوله: إن علة الحد دفع النقيصة، فهل يبطل القياس بمجرد ذكره بهذه العلة؟
إن قلتم: نعم، لزم بطلان كل قياس يزعم الخصم أن له علة مدفوعة، سواء كانت العلة في الواقع أو لا، وحينئذ لا يعجز أحد عن دفع دليل القياس؛ لأنه يعلله بعلة باطلة، ويبطله بإبطالها، وليس لأحد أن يقول له هذه العلة [3أ] التي ذكرت ليست العلة التي قصدها الشارع، فإن قال قائل بذلك قلنا له: بل هي العلة كما زعم خصمك شئت أم أبيت، فقد بطل قياسك ببطلانها، وهذا الصنيع ليس من العلم في شيء.
وإن قلتم: لا يقبل القدح في استدلال من استدل بالقياس بالقدح في علته بكونها كذا وكذا، أو كذا إلا إذا كانت تلك العلة المقدوح فيها هي العلة في زعم المستدل.
فنقول: هذا صحيح، ولكن ما زعمه الجلال من أن العلة في حد القذف لم يقل به أحد، ولا وقفنا عليه في شيء مما قد وقفنا عليه، فكيف يلزم المستدل بذلك القياس أن يتحملوا ما حملهم الجلال حتى يبطل قياسهم بمجرد ما جاء به من عند نفسه من العلة!
_________
(1) غير مقروءة في المخطوط.(10/4818)
قال: نعم إبطال أن العلة ما ذكر الجلال مع بيان أن العلة غيرها ... إلخ.
أقول: قد ذكرنا في تلك الرسالة (1) ما قيل: إنه العلة فليراجعه تلميذنا - عافاه الله -.
قال: والفرق بين النقيصتين ضروري، فإن الرجل يجد من نفسه عند أن تزني ابنته ما لا يجده عنده أن يزني ولده.
أقول: سلمنا هذا فكان ماذا؟ فإن الشارع لم يربط الحد بأبلغ ما يجده الإنسان من العار، ولا قال بهذا قائل من المسلمين، ولو كان الأمر كذلك لم يثبت حد القذف إلا لمن هو قاذف لمن كان أعلى الناس رتبة، وأشرفهم نفسا؛ لأن في الناس من لا يبالي إذا قذفت ابنته أو أخته، أو يبالي مبالاة يسيرة، بل قد يجد الرجل الرفيع بزنى أمته زيادة مما يجده هذا بزنى ابنته وأخته، بل قد يجد الرجل الرفيع عالي الهمة للكلمة التي فيها أدنى انتقاص وأحقر شتم زيادة على ما يجده [3ب] من قذفت بالزنى ابنته. وقد تكون الكلمة التي يعدها الوضيع كمالا ومدحا عند الرفيع نقصا وهجاء، فبالله دعونا من تقويم المعوج، وإصلاح الفاسد، فإن الكلام على كون هذا قذفا فيه من النقص ما هو أشد من غيره، أو أخف من غيره ليس من الشرع في شيء، ولا اعتبره أحد بل هو من ساقط المقال، وزائف النظر، والله يحب الإنصاف.
قال: ولا يريد إلا أهل الجاهلية ... إلخ.
أقول: إن كان يريد بذلك أهل الجاهلية فما ينفعه ولا يضرنا، فإنه جاء الشرع بأن الزنى نقيصة على الذكر والأنثى، ومذمة بالغة، وصار مما يتغاير به المسلمون، وينتقصون فاعله، فإذا كان أهل الجاهلية لا يتغايرون به، أو لا يرونه نقصا فيما يفيد هذا من فائدة! فإنا بصدد الكلام على الأحكام الشرعية، لا على ذكر مآثر الجاهلية، وما كانت عليه، وما يحمد عندها ويذم، فكيف قال تلميذنا - كثر الله فوائده -: فإنا لو سوغنا أن هذا الكلام قادح فيما نقل الجلال لسددنا باب رواية أخبار العرب ووقائعها وأشعارها
_________
(1) الرسالة (154).(10/4819)
إلخ، فإنا لم نكن بصدد إنكار ما رواه الجلال عن العرب، بل بصدد إنكار القدح في الأحكام الشرعية أو تخصيصها أو تقييدها بمجرد كون العرب كانت تفعل كذا، أو تستحسن كذا أو تستقبح كذا، وبين المقامين فرق يجل قدر تلميذنا - عافاه الله - عن أن يلتبس عليه أو يخفى عنه [4أ].
قال: بل المحكوم به أعم من حد القذف ... إلخ.
أقول: هذا صحيح، ولست أظن أن عالما من علماء الإسلام يستدل على حد القذف بهذه الآية (1) ولا أحسب مصنفا من المصنفين يحرر في مصنفه هذه الآية دليلا على حد القذف، فليست من الدلالة على ذلك في ورد ولا صدر، لأن الله - سبحانه - إنما قال: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، ولم يقل يجلدون ثمانين جلدة، لكن الجلال لما أوقع نفسه في مضيق أن الحد لا يجب على قاذف الرجل لأن النقص بنسبة الزنى إليه هو دون النقص بنسبة الزنى إلى النساء استشعر بأن قائلا سيقول له ما يقول في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} (2) ... إلخ ففر من هذا الذي يخيله إلى ما هو أضيق منه فحكم بتخصيصها وتقييدها بدون مخصص ومقيد إلا مجرد الوهم، فليراجع تلميذنا - دامت إفادته - ما حررناه في تلك الرسالة متصورا للإنصاف متنكبا للاعتساف، فإن ذلك أولى بالحق وأهله.
قال: وإن هذا وجه الحكم على تلك القصة بالإظلام.
أقول: فيكون حاصل هذا أن القصة المتواترة (3) التي لا خلاف في صحتها اشتملت على لفظ فيه نكارة، وإذا كان الأمر هكذا فكيف يحكم ببطلان قصة متواترة ثابتة في
_________
(1) يشير إلى قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور: 19].
(2) [النور: 19].
(3) قال الأمير الصنعاني في " منحة الغفار حاشية على ضوء النهار " (4/ 2273): في هذا النقل تسامح فإن الذي في تاريخ ابن خلكان وغيره أن عمر لما لم يتم النصاب على ما رمي به المغيرة بعد شهادة الثلاثة الذين ذكرهم الشارح على المغيرة بالزنى أمر عمر بحدهم حد القذف فلما تم جلد أبي بكرة قال: أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا فهم عمر أن يضربه حدا ثانيا فقال له علي: إن ضربته فارجم صاحبك.
وهكذا رواية القصة في جميع الكتب التي ذكرت فيها إنما في ألفاظها اختلاف يسير وبهذا عرفت أن عمر جلد الثلاثة وأن كلام علي عليه السلام إنما قاله لما أراد عمر جلد أبي بكرة ثانيا لقذفه المغيرة بعد الجلد.
قال ابن خلكان بعد سياقه القصة كما ذكرنا ما لفظه: قلت وقد تكلم الفقهاء على قول علي رضي الله عنه " إن ضربته فارجم صاحبك " قال أبو نصر الصباغ وهو صاحب كتاب الشامل في المذهب: يريد أن هذا القول إن كان شهادة أخرى فقد تم العدد وإن كان هو الأولى فقد جلدته عليه.
قلت: وقد ذكر ابن السبكي القضية وذكر ما ذكره ابن الصباغ وزاد وجها آخر فقال: معنى قوله: إن جلدته رجمت صاحبك أي أنك إن استحللت جلده من غير استحقاقه إياه فارجم صاحبك. هذا واعلم أن ما ذكره الشارح يقتضي التوقف عن الجزم بإيجاب الجلد على قاذف الرجل سيما والأصل عدم الوجوب فلا يرفع إلا بدليل قائم يقوم هنا على ذلك.
وحديث أبي اليسر الأنصاري لا أدري ما صحته وما أظنه قد سبق الشارح إلى هذا أحد وقد ذكر البحث في حاشيته على الكشاف في سورة النور ثم رأيت بعد أعوام كلاما لأبي محمد بن حزم بعد أن أبطل إثبات جلد قاذف الرجل بالقياس على قاذف المرأة، فقال: ونحن نبين بحمد الله وقوته من أين أوجبنا جلد القاذف للرجل من نص القرآن فنقول وبالله التأييد: إن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) عموم لا يجوز تخصيصه إلا بنص أو إجماع فيمكن أن يريد الله النساء المحصنات كما قلتم ويمكن أن يريد الفروج المحصنات فقلنا نحن: إنه يريد الفروج المحصنات ووجب علينا البرهان الواضح على دعوانا فقلنا: إن الفروج أعم من النساء لأن الاقتصار من مراد الله على النساء تخصيص لعموم اللفظ وهو لا يجوز إلا بنص أو إجماع وأيضا فإن الفروج هي المرمية بذلك لا غيرها من الرجال والنساء برهان ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) وقوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) ومثلها: (وَالحافظين فُرُوجَهُم وَالْحَافِظَات) وقال: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) فصح أن الفرج هو المحصن وصاحبه هو المحصن له بنص القرآن ثم ساق بسنده حديث أبي هريرة مرفوعًا وفيه: " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " وساق حديث أبي هريرة الآخر مرفوعًا بمعنى هذا ثم قال فصح يقينا أن المرمية هي الفروج خاصة وأن المحصنة على الحقيقة هي الفروج لا ما عداها وصح أن الزنى الواجب فيه الحد هو زنى الفرج خاصة لا زنى سائر الأعضاء وزنى النفس دون الفرج لا حد فيه بالنص كما أوردنا في العينين تزنيان فمن رمى بالزنى أي عضو من الأعضاء المذكورة بأنها زانية لم يكن راميا ولا حد عليه بالنص لأن الفرج إن كذب ذلك كله فهو لغو فصح يقينا أن الرمي الذي يجب فيه الحدود وشهادة القاذف وفسقه إنما هو رمي الفروج بلا شك بل يقين لا مرية فيه وأن مراد الله تعالى رمي الفروج، وإذا كان كذلك ففروج النساء والرجال داخلات في الآية دخولا مستويا. انتهى. وهو كما تراه من القوة وإن كان سياق آيات النور ظاهرة في رمي النساء فالسياق تصرفه الأدلة عن التخصيص به وإن أبيت فإجماع الصحابة أنهض شيء في هذا الباب ...(10/4820)
جميع كتب السير والتواريخ، مذكورة للاحتجاج بها عند كل طائفة، وفي كل مذهب بمجرد وجود لفظ فيه نكارة قد تركه الرواة جميعا إلا الشاذ على فرض صحة ما زعمه الجلال من ورود ذلك! فإن الذي يتعين هاهنا هو ترك ذلك اللفظ المنكر وطرحه من القصة [4ب] المتواترة. وأما ما جعله علة لها توجب إظلامها واطراح حجتها فلست أظن هذا مراء لتلميذنا - كثر الله فوائده - فإنه لا يخفى عليه مثل هذا، وهو أجل من أن يصير إليه، أو يتعلل به أو يعترض بمثله، ولو كان هذا صحيحا لكان من أعظم المفاسد على الشريعة، فإنه لا يعجز الزنادقة والمبتدعة وأعداء الإسلام أن يعمدوا إلى الأحاديث الصحيحة، والقصص المتواترة فيزيدون عليها لفظا منكرا، ويتوصلون بذلك إلى إبطال ما أرادوا إبطاله، وهذا لا يقول به مصنف، أو يصير إليه عالم.
وما الجلال حتى تقع في التعصب لتصحيح باطله في هذه المهاوي! فإن مثل هذا لا يحسن في تأويل كلام المعصوم فضلا عن غيره، وأما ما في الرواية المذكورة من قول عمر: أرى وجه رجل لا يفضح رجلا من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فليس في هذا من الإيهام لذلك الشاهد، والرغبة في كتمه الشهادة شيء، هذا على أن هذا اللفظ ثبت من طريق صحيحة (1)، وبهذا يعرف تلميذنا - عافاه الله - ما في قوله: فيعود على التنزيه بالإبطال. وما ذكره - كثر الله فوائده - من المناقشة في دعوى التواتر فنقول عليه - عافاه الله - أن يبحث كتب السير، ثم كتب التاريخ المرتبة على السنين،
_________
(1) قال الحافظ في التلخيص (4/ 118 رقم 2069) قوله: " إن عمر عرض لزياد بالتوقف في الشهادة على المغيرة، قال: أرى وجه رجل لا يفضح رجلا من أصحاب رسول الله، روي ذلك في هذه القصة من طرق بمعناه.
منها: رواية البلاذري عن وهب بن بقية عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد.
انظر: " فتوح البلدان " (2/ 423 - 424)، " فتح الباري " (5/ 301 - 303).
ومنها: رواية عبد الرزاق في مصنفه (7/ 384 رقم 13566) عن الثوري، عن سليمان التيمي عن أبي عثمان الهندي قال: شهد أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بن شعبة ... إلخ.(10/4821)
ثم كتب التاريخ على غيرها، ثم الكتب المشتملة على التراجم للرواة المشتملة على ذكر أبي بكرة ومن معه، وجميع ما ذكر فيه ترجمة للمغيرة (1) أو لأبي بكرة (2) من الكتب، ثم المجاميع التي يذكر فيها أدلة الفقه، والكتب التي تذكر فيه المسألة [5أ] الفقهية ودليلها، وينظر في أبواب حد القذف منها، فإن وجد في مجموع ما ذكرناه ما يفيد بعضه التواتر ينقل ذلك أهل العصور المختلفة إلى عصر الصحابة، فذاك ولو سلمنا عدم اجتماع شروط التواتر المعتبرة في الإصلاح لم يضرنا ذلك، فإن القضية متلقاة بالقبول لم يدفع صحتها أحد من أهل الإسلام، وما كان كذلك فهو من الأدلة القطعية، فليس له أن ينكر على من يقول: إنه قد تواتر لديه ولدى أهل العلم هذه القصة، فإن تواتر النقل لا يحصل إلا بعد كمال البحث والاستقصاء، وقد يتواتر لرجل من النقل ما لم يتواتر لغيره، بل قد يتواتر لرجل ما لم يصح لغيره، بل قد يتواتر لرجل ما لم يعلم به غيره أصلا، وتلميذنا - عافاه الله - أجل قدرا من ذلك.
قال: وكان المقام أن يطالب الجلال بتصحيح النقل.
أقول: هانحن نقوم هذا المقام، ونطلب من تلميذنا - عافاه الله - أن يصحح ما نقله الجلال، ويبحثه في جميع ما يمكن بحثه، فإن وجد ما ذكره من قوله: لئن حددتهم فارجم المغيرة، فلتهده إلينا متفضلا، وإن لم تجده فلتعلم أن هذا اللفظ هو خرج من المخرج الذي خرج منه ما تقدم له من قوله حين أفهمه عمر رغبته من المخرج الذي خرج
_________
(1) انظر " المغازي " للواقدي (3/ 1240)، " الطبقات " لابن سعد (2/ 284)، " مرآة الجنان " لليافعي (1/ 124).
(2) انظر " الاستيعاب " رقم (2907)، " الإصابة " رقم (9638) وأبو بكرة الثقفي اسمه نفيع بن مسروح وقيل: نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العزى بن عبدة بن عوف بن قيسي.
وقيل: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كناه بأبي بكرة، لأنه تعلق ببكرة من حصن الطائف فنزل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انظر " أسد الغابة " رقم (5738).(10/4822)
منه قوله: إن العلة في حد القذف النقيصة الشديدة التي لا يوجد إلا في زنى النساء، ونحو ذلك.
قال: فحد المغيرة يترتب على صحة كون كلام أبي بكرة ... إلخ.
أقول: المراد من ذلك التركيب الذي ذكرنا معناه من قول علي - عليه السلام - أن عمر إذا أوجب الحد على أبي بكرة بقذفه للمغيرة بعد جلده فقد جعله بمنزلة شاهد (رابع رابع) (1)، ومن شهد عليه أربعة يحد ولا يحد الشاهد عليه، ولا يقال له قاذف، فكأنه قال: إن كان أبو بكرة يستحق عندي الجلد بهذه المقالة الواقعة منه بعد جلده فقد استحق أن يكون [5أ] شاهدا رابعا على المغيرة، فارجم المغيرة بشهادته ولا تجعله قاذفا، وهذا لا يلزم منه ما ذكره - كثر الله فوائده - من الترتبات، فإن المراد هذا وليس المراد أنك تحد أبا بكرة ثم حد المغيرة أو العكس.
قال: وقد علمت بطلان دليل الإجماع السابق، ثم بطلان القياس، ثم بطلان ما يخيل أنه إجماع من قصة المغيرة.
أقول: إن كان بطلان دليل الإجماع بما ذكره الجلال من قوله: وفي نفسي منه شيء؛ لأن نقل الإجماع لا يصح، وكذلك بطلان القياس بقوله: إن الحد لدفع النقيصة التي تلحق العرب ... إلخ، وكذلك بطلان قصة المغيرة بمجرد قوله: إنها مظلمة فهذا لا يخفى على تلميذنا - كثر الله فوائده - أنه لا يشكك سامعه في أدنى حكم من أحكام الظن فضلا عن هذه الأمور فكيف تكون باطلة بمجرد ذلك! وإن كان البطلان بغير ذلك فما هو؟ فإنا لم نقف فيما ذكرناه - كثر الله فوائده - إلا على مجرد توجيه ما تكلم به الجلال، وحمله على تلك المحامل التي قد بينا ما فيها.
قال: إن جمع المؤنث لا يطلق على جمع المذكر.
أقول: قد ذكرنا وجه .........................................
_________
(1) كذا في المخطوط.(10/4823)
التغليب (1) فإن قدح فيه تلميذنا أو صح ذلك.
قال: ففيه ما أسلفنا من عدم بيان علة القياس، ومسلكها إلى آخره.
أقول: كان الأولى بالمقام الاستفسار عن ذلك، حتى يورده مدعيه، لا جعل عدم الذكر اعتراضا، فليس كل مستدل بالقياس في مسألة من المسائل يذكر أركان القياس، ويبين مسالك علته، وليس مثل هذا مما يخفى على تلميذنا - عافاه الله - فلا نطول بذكره. قال: فيقال عليه: من ذا المراد من الخلفاء الراشدين هل جميعهم ... إلخ.
أقول: قد قدح تلميذنا - عافاه الله - في دلالة الحديث على الكل والبعض، والمعين وغير المعين، والمفرد والمتعدد، ولعله لم يتصور أن هذا يستلزم [6أ] الاعتراض على الشارع؛ لأن كلامه في هذا الحديث لا يصح حمله على معنى يصح الحمل عليه، فلم يبق إلا رده عليه أو الحكم بأنه كذب، أو أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - تكلم بما لا معنى له، فاعتراض تلميذنا وتقسيمه للمراد بالحديث إلى تلك الأقسام وإبطاله لكل قسم منها قد استلزم هذا، وإن لم يكن مرادا له - عافاه الله - وكان ينبغي حمله على الخلفاء الموجودين في الثلاثين السنة الكائنة بعد موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لقوله: " الخلافة من بعدي ثلاثون عاما، ثم يكون ملكا عضوضا " (2) فإن هذا الحديث يرشد إلى خلافة الحق، وإلى خلفاء الرشد المذكورين في الحديث، ويعبر عن المراد به، ولا ينفي وجود خلفاء آخرين لم يكونوا مرادين بالحديث، فإذا ضم هذا إلى أن اللام الداخلة على الجمع تهدمه، ويصير للجنس كما تقرر في علم البيان والأصول صار معنى الحديث في غاية الوضوح. وهذا عندي في معنى الحديث ما لا يتسع له البسط، وإنما أوردته في تلك الرسالة تكميلا لاحتجاج من احتج بالقصة العمرية. وقد أهمل تلميذنا - كثر الله فوائده - الكلام على ما ذكرنا من القذف للرجل بأنه يلوط أو ....................................
_________
(1) التغليب: هو إعطاء شيء حكم غيره، وقيل: ترجيح أحد المغلوبين على الآخر، وإطلاق لفظه عليهما وإجراء للمختلفين مجرى المتفقين.
نحو: (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) [التحريم: 12].
(إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) [الأعراف: 83].
والأصل من القانتات والغابرات، فعدت الأنثى من المذكر بحكم التغليب.
قال في البرهان: إنما كان التغليب من باب المجاز؛ لأن اللفظ لم يستعمل فيما وضع له، ألا ترى أن القانتين موضوع للذكور الموصوفين بهذا الوصف فإطلاقه على الذكور والإناث إطلاق على غير ما وضع له
" معترك الأقران " (1/ 197 - 198).
(2) تقدم تخريجه في الرسالة (154).(10/4824)
يلاط به (1)، والمطلوب تتميم بحثه الذي كتبنا عليه هذه الكلمات بالكلام على ذلك فلعله يجد للجلال في ذلك مخرجا، ويفتح له في سماء ذلك السؤال معرجا.
وإلى هنا انتهى شوط القلم، والحمد لله، وأستغفر الله إن كان في هذه المباحثة شيء من الجدل المنهي (2) عنه ولا نشعر به [6ب].
_________
(1) قال ابن قدامة في المغني (12/ 389 - 390): وفي هذه المسألة فصلان:
أحدهما: أن من قذف رجلا بعمل قوم لوط، إما فاعلا وإما مفعولا، فعليه حد القذف وبه قال الحسن والشافعي والنخعي والزهري، ومالك وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن وأبو ثور.
قال عطاء وقتادة وأبو حنيفة: لا حد عليه لأنه قذف بما لا يوجب الحد عنده.
قال ابن قدامة: وعندنا هو موجب للحد.
ثانيهما: أنه إذا قال: أردت أنك من قوم لوط، فاختلفت الرواية عن أحمد فروى عنه جماعة أنه يجب عليه الحد بقوله: يا لوطي ولا يسمع تفسيره بما يحيل القذف وهذا اختيار أبي بكر. ونحوه قال الزهري، ومالك وفي الرواية الثانية أنه لا حد عليه نقلها المروزي ونحو هذا قال الحسن والنخعي، قال الحسن: إذا قال: نويت أن دينه دين لوط فلا حد عليه، وإن قال: أردت أنه يعمل عمل قوم لوط فعليه الحد.
ووجه ذلك أنه فسر كلامه بما لا يوجب الحد، فلم يجب عليه حد، كما لو فسر به متصلا بكلامه، وروي عن أحمد رواية ثالثة أنه إذا كان في غضب قال: إنه لأهل أن يقام عليه الحد لأن قرينة الغضب تدل على إرادة القذف، بخلاف حال الرضا.
والصحيح في المذهب الرواية الأولى: لأن هذه الكلمة لا يفهم منها إلا القذف بعمل قوم لوط. فكانت صريحة فيه، كقوله: يا زاني، ولأن قوم لوط لم يبق منهم أحد، فلا يحتمل أن ينسب إليهم.
(2) عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة، ومن تركه وهو محق بني له في وسطها، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها ".
أخرجه أبو داود رقم (4800) والترمذي رقم (1993) وابن ماجه رقم (51) وهو حديث صحيح. والله أعلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ".
وهو حديث صحيح أخرجه البخاري رقم (7188) ومسلم رقم (2668).
قال ابن عقيل في " الواضح ": وكل جدل لم يكن الغرض منه نصرة الحق، فإنه وبال على صاحبه، والمضرة فيه أكثر من المنفعة، لأن المخالفة توحش ولولا ما يلزم من إنكار الباطل واستنقاذ الهالك بالاجتهاد في رده عن ضلالته لما حسنت المجادلة للإيحاش فيها غالبا.
ولكن فيها أعظم المنفعة إذا قصد بها نصرة الحق، والتقوي على الاجتهاد، ونعوذ بالله من قصد المغالبة ... "
انظر " الكوكب المنير " (4/ 370)، " الفقيه والمتفقه " (2/ 25).(10/4825)
بحث في مسائل الوصايا
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(10/4827)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في مسائل الوصايا.
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: الحمد لله رب العالمين، سألتم دامت منكم الإفادة عن ميت خلف زوجا وابنا وبنتا وأوصى لأولاد ابن
4 - آخر الرسالة: ولكن بعد صلاحيته لذاك وسيعين الله على وجوده والنظر في رجاله إسناده فيضم الكلام على ذلك إلى هذا.
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عد الصفحات: 6 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 20 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
10 - الناسخ: المؤلف محمد بن علي الشوكاني.(10/4829)
[بسم الله الرحمن الرحيم]
الحمد لله رب العالمين.
سألتم - دامت منكم إفادتكم - عن ميت خلف زوجا وابنا وبنتا وأوصى لأولاد ابن قد مات قبله بمثل نصيبه، ثم ذكرتم قسمة نصيب المقصرين لذلك من ستة: للموصى لهم الثلث من الأصل، وللزوج ربع الباقي، وللابن والبنت ما بقي، ثم ذكرتم مخالفة ذلك للقاعدة المعروفة في ميراث المكون، ثم ذكرتم عقب ذلك أن ما فعله ذلك القسام المقصر مطابقا لما يقصده الموصون، واستشكلتم ما جرى عليه أهل هذا العلم إلى آخر ما حررتموه مما هو في غاية الإفادة والإجادة.
والذي عند الحقير أن المسألة المذكورة ليست من باب الوصية بمثل ميراث المكون، بل هي من باب الوصية بمثل نصيب، وبين الطرفين فرق، فإن المكون لا وجود له بل مفروض فرضا، مثلا رجل مات وله ابنان، وأوصى لآخر بمثل ميراث ابن لو كان مع أنه لم يكن، وهذا معنى التكوين كما لا يخفى شريف ذهنكم، وأما إذا كان الابن قد كان ومات أو كان موجودا ولم يمت فالوصية لأولاده بمثل نصيبه هي من باب الوصية بمثل نصيب، والقاعدة فيها أن من كان موجودا من الزوجين لا ينتقص من ميراثه شيئا.
فمسألة المذكورين في محل السؤال من أربعة: للزوج الربع (1) واحد، والباقي لا ينقسم على الابن والبنت [1أ] (2) وعلى الموصى لهم أخماسا فتضرب مخرج الخمس في المسألة تكون عشرين: للزوج الربع، وللابن الحي ستة، ولأخته ثلاثة، ولأولاد الابن الميت ستة، ولا وجه لما فعله ذلك القسام المقصر، فإنه قطع بعض ميراث الزوج بلا
_________
(1) لقوله تعالى: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) [النساء: 12]
(2) لقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء: 11](10/4833)
سبب؛ لأن غاية ما قاله الموصي أنه يكون لأولاد ابنه مثل ما كان لأبيهم، وبالقطع أنه لو كان أبوهم موجودا لم ينقص الزوج عن ربع الجميع، وما ذكرتموه من موافقة مقاصد العامة لما فعله القسام فما أظنهم يقصدون زيادة على كون أولاد الولد بمنزلة الولد، وهو لا ينقص الزوج شيئا، وما ذكرتموه آخرا من أنه كان الصواب أن تكون المسألة من عشرين، وغايته أنه يقع الكسر، فنقول: الصواب أيضًا أنها من عشرين، والقاعدة في الوصية بمثل نصيب هو ذلك، ولا كسر كما تقدم، اللهم إلا أن ينكسر سهام الأولاد على رؤوسهم فذلك باب آخر.
نعم لو فرضنا أن الوصية في مسألة السؤال من باب التكوين قلنا: كان الموصي كون في أولاده ولدا لا وجود له، وأوصى لآخر بمثل نصيبه، وذلك هو الخمسان، فيزادان فوق الخمسة يكون المخرج السبع مضروبا في الأربعة التي هي مسألة الزوج [1ب]، يكون الجميع غايته، وعشرين للزوج الربع سبعة، والباقي يقسم أسباعا، يعطى الموصى لهم سبعين من الباقي، ولا شك أن هذا عدل في القسمة؛ لأن الموصي ما أراد الأمثل نصيب المكون المفروض، وهو الخمسان بعد فرض الزوج.
ومن المعلوم أنه لو أعطي خمسين لكان ذلك هو عين نصيب المكون لا مثل نصيبه، بخلاف مسألة السؤال، فإنه ما أراد إلا الوصية لأولاد الابن بعين نصيبه، وإن سموا ذلك الوصية بمثل نصيب، فتدبروا هذا يعم هاهنا أمر، وهو أن الأولاد على التقدير الأول الذي هو الوصية بمثل نصيب قد أخذوا ستة من الباقي، وهو الخمسة عشر، وذلك زيادة على الثلث، فإن أجاز الابن والبنت ساغت الزيادة التي صارت مع أولاد الولد، وهي سهم، وإن لم يجيزا فهي لهما لأن ما زاد على الثلث لا ينفذ (1) إلا بالإجازة (2) كما هي
_________
(1) لما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2743) ومسلم رقم (10/ 1629) من حديث ابن عباس قال: " لو أن الناس غضوا من الثلث فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الثلث والثلث كثير ".
(2) لما أخرجه الدارقطني (4/ 98 رقم 93) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: " أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة ".(10/4834)
القاعدة، ولم يقصد الموصي ثلث جميع التركة، إنما قصد أن يكون لأولاد الابن الميت كالحي، وذلك أمر وراء نصيب الزوج فكأن لا اعتبار بنصيبه بل التركة هي الباقي فهو من باب الوصية بثلث نصيب وارث معين لا ينفذ إلا ثلاثة. وقد صرح أهل الفن بهذا في الوصية بمثل نصيب، فراجعوا ذلك؛ فإنه غير الوصية بمثل ميراث المكون. وأيضا قد ذكره أئمة الفقه كصاحب البيان (1)، فإنه صرح به في فرع المسألة الثامنة من كتاب [2أ] الوصايا وغيره مثله، فأمعنوا النظر في هذا فإن وجدتموه كما ذكرته فالمراد، وإن وجدتم فيه خللا باعتبار القاعدة، وكذلك باعتبار ما هو الحق والقصد أفدتم - دامت فوائدكم -.
المسألة الثانية: سؤالكم عن حديث أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بتخصيص نساء المهاجرين بالدور.
فأقول: هذا الحديث عزاه صاحب التيسير (2) إلى أبي داود فقال ما لفظه: وعن زينب - رضي الله عنها - قالت: اشتكى نساء من المهاجرات إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ضيق منازلهم، فأمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن تورث دور المهاجرين النساء، فمات ابن مسعود فورثته امرأته دارا بالمدينة، أخرجه أبو داود (3)
_________
(1) (8/ 159) حيث قال: وإن أوصى لأحد ورثته بما كان نصبيه من جهة الميراث بالقيمة إلا أنه عين له عينا مثل أن يموت رجل وخلف ابنا وابنة، وخلف دارا بألف وأوصى بها للابن وعبدا بخمسمائة، وأوصى به للابنة فهل تصح الوصية؟ فيه وجهان حكاهما المسعودي في " الإبانة " (ص436).
1 - تصح، ولا تفتقر إلى إجازة، لأن الورثة في المقادير لا في الأعيان فهو كما لو باع الدار من ابنه بألف، وباع العبد من ابنته بخمس مائة في مرض موته.
2 - لا تصح الوصية لهما من غير إجازة، لأن الوارث قد يكون له غرض في ملك العين، فلا يجوز للموصي إبطال ذلك عليه.
(2) " تيسير الوصول إلى جامع الأصول " لابن الدبيع (4/ 10 رقم 4).
(3) لتقر عينك يا بدر الإسلام فقد وجدته في سنن أبي داود (3/ 459 رقم 3080) كتابا الخراج والإمارة والفيء بابا رقم (37) في " إحياء الموات " بإسناد صحيح.
حدثنا عبد الواحد بن غياث، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الأعمش عن جامع بن شداد، عن كلثوم، عن زينب أنها كانت تفلي رأس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده امرأة عثمان بن عفان ونساء من المهاجرات، وهن يشتكين منازلهن أنه تضيق عليهن ويخرجن منها، فأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تورث دور المهاجرين النساء، فمات عبد الله بن مسعود فورثته امرأته دارا بالمدينة.(10/4835)
انتهى، وقد طلبته في سنن أبي داود في كثير من الأبواب التي يظن وجوده فيها كالفرائض والخراج، والإقطاع، والنفقات، والجهاد، والغزوات، والهجرة، وغير ذلك فلم أجده (1) حتى أنظر في إسناده، وأتكلم عليه، ولعله موجود في غير هذه الأبواب.
ويدل على ذلك تكلم الخطابي عليه (2)، فإنه قال: كما وجدته نقلا عنه أنه يشبه أن يكون ذلك على معنى القسمة بين الورثة، وإنما خصهن بالدور لأنهن بالمدينة غرائب لا عشيرة لهن، فاختار لهن المنازل لما رأى من المصلحة، قال: ويجوز أن تكون الدور [2ب] في أيديهن على سبيل الرفق بهن للسكنى (3) لا للتمليك كما كانت حجر النبي
_________
(1) لتقر عينك يا بدر الإسلام فقد وجدته في سنن أبي داود (3/ 459 رقم 3080) كتابا الخراج والإمارة والفيء بابا رقم (37) في " إحياء الموات " بإسناد صحيح.
حدثنا عبد الواحد بن غياث، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الأعمش عن جامع بن شداد، عن كلثوم، عن زينب أنها كانت تفلي رأس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده امرأة عثمان بن عفان ونساء من المهاجرات، وهن يشتكين منازلهن أنه تضيق عليهن ويخرجن منها، فأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تورث دور المهاجرين النساء، فمات عبد الله بن مسعود فورثته امرأته دارا بالمدينة.
(2) في " معالم السنن " (3/ 458): قال الخطابي قد روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنه أقطع المهاجرين الدور بالمدينة " فتأولوها على وجهين:
أحدهما: أنه إنما كان أقطعهم العرصة ليبتنوا فيه الدور، فعلى هذا الوجه يصح ملكهم في البناء الذي أحدثوه في العرصة.
ثانيهما: أنهم إنما أقطعوا الدور عارية، وإليه ذهب أبو إسحاق المروزي، وعلى هذا الوجه لا يصح الملك فيها وذلك أن الميراث لا يجري إلا فيما كان المورث مالكا له، وقد وضعه أبو داود في باب " إحياء الموات " فقد يحتمل أن يكون إنما أحيا تلك البقاع بالبناء فيها إذ كانت غير مملوكة لأحد من قبل والله أعلم.
وقد يكون نوع من الإقطاع من غير تمليك، وذلك كالمقاعد في الأسواق والمنازل في الأسفار إنما يرتفق بها ولا تملك.
(3) قال الخطابي في " معالم السنن " (3/ 458): وهو أن تكون الدور في أيديهن مدى حياتهن على سبيل الإرفاق بالسكنى دون الملك، كما كانت دور النبي وحجره في أيدي نسائه بعده لا على سبيل الميراث فإنه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نحن لا نورث، ما تركناه صدقة ". البخاري رقم (3093) ومسلم رقم (1759) من حديث أبي بكر الصديق.
ويحكى عن سفيان بن عيينة أنه قال: كان نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في معنى المعتدات لأنهن لا ينكحن، وللمعتدة السكنى، فجعل لهن سكنى البيوت ما عشن ولا يملكن رقابها.(10/4836)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في أيدي نسائه، انتهى من الجامع.
ومما له مدخل في المقام ما نقله صاحب الفتح (1) عن ابن التين قال في سياق الكلام في الإقطاع: إنه إنما يسمى إقطاعا إذا كان من أرض أو عقار، وإنما يقطع من الفيء، ولا يقطع من حق مسلم، ولا معاهد، قال: وقد يكون الإقطاع تمليكا وغير تمليك، وعلى الثاني يحمل إقطاعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الدور بالمدينة.
قال الحافظ (2): كأنه يشير إلى ما أخرجه الشافعي (3) مرسلا، ووصله الطبراني (4): " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة أقطع الدور " يعني أنزل المهاجرين في دور الأنصار برضاهم. انتهى.
وأقول: كما يحتمل ما أشار إليه الحافظ يحتمل أيضًا أنه أشار إلى حديث زينب المذكور، وعلى كل حال فالدور التي خصص بها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - المهاجرين هي الدور التي نزل بها المهاجرون عند الهجرة من دور الأنصار لإذنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لهم بالسكون فيها، ولرضى أربابها بذلك، بل رضي كثير منهم بالمشاطرة للأنصار في الأموال، بل والأزواج فعرضوا عليهم أن ينزل من كان له زوجتان عن أحدهما [3أ] (5)، وإذا كان الأمر كذلك فالدور بأيدي المهاجرين عارية
_________
(1) أي ابن حجر (5/ 48).
(2) في الفتح (5/ 48).
(3) في مسنده (2/ 133 رقم 435 - ترتيب المسند).
(4) في " المعجم الكبير " (10/ 274 رقم 10534) من حديث ابن مسعود وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 197) وقال: رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط " ورجاله ثقات وهو حديث صحيح.
(5) أخرج البخاري في صحيحه رقم (5072) عن أنس بن مالك قال: قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وعند الأنصاري امرأتان، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله. فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فأتى السوق فربح شيئا من أقط وشيئا من سمن، فرآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أيام وعليه وضر من صفرة فقال: " مهيم يا عبد الرحمن؟ " فقال: تزوجت أنصارية، قال: فما سقت؟ قال: وزن نواة من ذهب، قال: " أولم ولو بشاة ".
وقد ذكر الحافظ في الفتح (9/ 117، 235) مناقب للحديث منها:
- استحباب المؤاخاة وحسن الإيثار من الغني للفقير حتى بإحدى زوجتيه.
- استحباب الدعاء للمتزوج.
- استحباب العيش من عمل المرء بتجارة أو حرفة أولى لنزاهة الأخلاق من العيش بالهبة ونحوها.
- سؤال الإمام والكبير أصحابه وأتباعه عن أحوالهم ولا سيما إذا رأى منهم ما لم يعهد.
- وفي الحديث منقبة لسعد بن الربيع في إيثاره على نفسه.(10/4837)
مطلقة أو مقيدة، وهي لم تخرج بذلك عن ملك الأنصار، ولا دخلت في أملاك المهاجرين، بل ليس لهم فيها إلا حق السكون، فجعل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هذا الحق لمن هو أحوج به، وهن النساء من المهاجرات، فلا يرد على هذا طلب بيان وجه التخصيص للزوجات من نساء المهاجرين ببعض الميراث. وعلى تسليم أن الدور قد صارت ملكا للمهاجرين من جملة الأملاك الموروثة عنهم، فالجمع ممكن يبنى العام على الخاص كما أفدتم.
فيقال: دليل نصيبهن المقدر من الميراث مخصص بالحديث المسئول عنه ولكن بعد صلاحيته لذاك، وسيعين (1) الله على وجوده والنظر في رجال إسناده (2)، فيضم الكلام على ذلك إلى هذا [3ب] (3).
_________
(1) نعم ولله الحمد أعانني الله على وجوده.
(2) رجال إسناده صحيح.
(3) في هامش المخطوط ما نصه: يعود هذا تفضلا مع الكراريس.(10/4838)
إقناع الباحث بدفع ما ظنه دليلا على جواز الوصية للوارث
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(10/4839)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: إقناع الباحث بدفع ما ظنه دليلا على جواز الوصية للوارث.
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين.
فإنه وصل السؤال من سيدي العلامة المفضال.
4 - آخر الرسالة: ذكر في الأم حرر في الثلث الأول من ليلة الاثنين لعله تاسع عشر شهر محرم الحرام سنة 1210 هـ وكان النقل يوم الخميس 12 شهر محرم سنة 1314 هـ.
5 - نوع الخط: خط نسخي رديء.
6 - عدد الصفحات: 9 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 24 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(10/4841)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين.
وبعد:
فإنه وصل السؤال من سيدي العلامة المفضال، بركة الآل إبراهيم بن محمد بن إسحاق (1) - لا برح في ألطاف المهيمن الخلاق - وحاصل السؤال:
ما يترجح لدى المسئول الحقير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - في الوصية للوارث، وأرسل - حفظه الله - برسالة للسيد العلامة المجتهد محمد بن إسماعيل الأمير - رحمه الله - حرر فيها جواز الوصية للوارث، وأوضح رجوعه عن اجتهاده الأول، وهو جواز عدم الوصية للوارث، وسمى هذه الرسالة " إقناع الباحث بإقامة الأدلة بصحة الوصية للوارث " (2) فأمعنت النظر في جميع ما حرره وعول عليه في الجواز، فلم أقف في تلك الرسالة على شيء يوجب المصير إلى جواز الوصية للوارث، ولا عثرت فيها على دليل يسوغ الرجوع عن اجتهاده الأول (3) ولكنه قد فعل ما يجب عليه من العمل بما
_________
(1) ابن المهدي أحمد بن الحسين بن الإمام القاسم بن محمد ولد سنة 1140 هـ ونشأ بصنعاء أخذ العلم عن والده وعن الشيخ العلامة علي بن إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن أحمد بن عامر، له مكارم وفضائل وحسن أخلاق.
قال الشوكاني في " البدر الطالع " في ترجمته رقم (14): " وكم تصل إلى عندي منه رسائل ونصائح فيما يتعلق بشأن الدولة، ويأخذ علي أنه لا يحل السكوت، وكثيرا ما تفد علي منه سؤالات أجيب عنها برسائل كما يحكي ذلك مجموع رسائلي مع أنه نفع الله به إذ ذاك عالي السن قد قارب السبعين وأنا في نحو الثلاثين وهذا أعظم دليل على تواضعه، مات سنة 1241 هـ.
" نيل الوطر " (1/ 253). " البدر الطالع " رقم (14).
(2) انظرها في المجموع " عون القدير من فتاوى ورسائل ابن الأمير " بتحقيقي رقم (130).
(3) اجتهاده الأول وهو تحريم الوصية للوارث.
انظر: " منحة الغفار على حاشية ضوء النهار " (4/ 2464)، " سبل السلام " (5/ 284) بتحقيقي.(10/4845)
يترجح لديه، والرجوع إلى ما رجع إليه.
وهاأنا سأوضح ذلك معقبا لكل ما أورده، مما ظنه دليلا على محل النزاع، وسميت هذا البحث " إقناع الباحث بدفع ما ظنه دليلا على جواز الوصية للوارث ".
فأقول: أما ما عول عليه ابتداء من أن حديث: " لا وصية لوارث " (1) لما كان في
_________
(1) حديث: " لا وصية لوارث " حديث صحيح وقد جاء عن جمع من الصحابة منهم: أبو أمامة عمرو بن خارجة، أنس بن مالك، عبد الله بن عباس، جابر بن عبد الله، علي بن أبي طالب، عبد الله بن عمرو بن العاص، عبد الله بن عمر، معقل بن يسار، زيد بن أرقم مع البراء بن عازب، ومجاهد مرسلا.
* أما حديث أبي أمامة:
فقد أخرجه أحمد في " المسند " (5/ 267) وأبو داود رقم (2870) والترمذي رقم (2120) وابن ماجه رقم (2713) والطيالسي (2/ 117 رقم 2407 - منحة المعبود) والدولابي في " الكنى " (1/ 64) والبيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 264) كلهم من رواية إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في خطبته عام حجة الوداع: " إن الله تبارك وتعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ... " الحديث.
قال الترمذي: هذا حديث حسن.
قلت: إسماعيل بن عياش صدوق في أهل بلده، وشيخه شرحبيل بن مسلم شامي.
وأورد الألباني في " الإرواء " (6/ 88) لهذا الحديث طريق أخرى عن سليم بن عامر وغيره عن أبي أمامة وقال صحيح على شرط مسلم.
وهذه الطريق أخرجها ابن الجارود في " المنتقى " رقم (949) ورجال إسناده ثقات.
* وأما حديث عمرو بن خارجة:
فقد أخرجه أحمد (4/ 186، 187) والترمذي رقم (1121) والنسائي (6/ 247) وابن ماجه رقم (2712) والطيالسي في " المسند " رقم (1217) والدارمي في " السنن " (2/ 419) والبيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 264) كلهم من رواية شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب على ناقته وأنا تحت جرانها وإن لعابها يسيل بين كتفي فسمعته يقول: " إن الله عز وجل أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ... " الحديث.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قال الألباني في " الإرواء " (6/ 89): قلت: لعل تصحيحه من أجل شواهده الكثيرة، وإلا فإن شهر بن حوشب ضعيف لسوء حفظه ".
* وأما حديث أنس بن مالك:
فقد أخرجه ابن ماجه رقم (2714) والدارقطني (4/ 70) والبيهقي (6/ 264 - 265) من طرق عن عبد الرحمن بن يزيد عن جابر بن سعيد بن أبي سعيد أنه حدثه عن أنس بن مالك قال: إني لتحت ناقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسيل علي لعابها فسمعته يقول: " إن الله أعطى لكل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث ".
قال البوصيري في " مصباح الزجاجة " (8/ 368): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، رواه الدارقطني في سننه من طريق عبد الرحمن بن يزيد به ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " من طريق الدارقطني فذكره .... "
وقال ابن التركماني في " الجوهر النقي " (6/ 265) هذا إسناد جيد. وفي التعليق الغني على الدارقطني قال صاحب " التنقيح ": " حديث أنس هذا ذكره ابن عساكر، وكذا الشيخ المزي في الأطراف في ترجمة سعيد المقبري وهو خطأ وإنما هو الساحلي، ولا يحتج به، هكذا رواه الوليد بن مزيد عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن سعيد بن أبي سعيد شيخ بالساحل، قال رجل من أهل المدينة فذكر الحديث " ا هـ.
والنظر: " إرواء الغليل " (6/ 90).
* وأما حديث عبد الله بن عباس:
فقد أخرجه الدارقطني في سننه (4/ 97) وأبو داود في " المراسيل " رقم (349) والبيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 263) من طريق عن حجاج الأعور عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس مرفوعا: " لا وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ".
قال أبو داود في " المراسيل " عقب الحديث: عطاء الخراساني لم يدرك ابن عباس ولم يره.
وقال الحافظ في " التلخيص ": (3/ 92) ووصله يونس بن راشد فقال عن عكرمة، عن ابن عباس، أخرجه الدارقطني (4/ 98) والمعروف المرسل.
* وأما حديث جابر بن عبد الله:
فقد أخرجه الدارقطني في " السنن " (4/ 97) من طريق فضل بن سهل عن إسحاق بن إبراهيم الهروي عن سفيان عن عمرو بن دينار، عن جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " لا وصية لوارث ".
وأخرجه ابن عدي في " الكامل " (1/ 202) عن أحمد بن محمد بن صاعد عن أبي موسى الهروي عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر به.
وقال الزيلعي في " نصب الراية " (4/ 404) وأعله بأحمد - بن محمد بن صاعد - هذا، وقال: هو أخو يحيى بن محمد بن صاعد، وأكبر منه وأقدم موتا وهو ضعيف.
قال الألباني في " الإرواء " (6/ 92): " قلت: قد تابعه فضل بن سهل عند الدارقطني، وهو ثقة محتج به، في الصحيحين فبرأه من ذمة أحمد بن صاعد. وبقية الرجال ثقات. ورجال الشيخين غير إسحاق بن إبراهيم أبي موسى الهروي وهو ثقة. قال الذهبي في " الميزان " (1/ 178) وثقه ابن معين وغيره ... وأثنى عليه الإمام أحمد كما في " لسان الميزان " (1/ 345).
وانظر بقية الكلام على الحديث في " الإرواء " (6/ 92 - 93).
* وأما حديث علي بن أبي طالب:
فقد أخرجه الدارقطني في " السنن " (4/ 97) والبيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 267) والخطيب في " الموضح " (2/ 167) وابن عدي (7/ 2648) عن يحيى بن أبي أنيسة الجزري عن أبي إسحاق الهمداني عن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب مرفوعا: " الدين قبل الوصية، وليس لوارث وصية " بسند ضعيف جدا.
يحيى هذا قال عنه الإمام أحمد: متروك الحديث.
انظر: " بحر الدم " (456 رقم 1132) و" التقريب " (2/ 343) و" المغني في الضعفاء " (2/ 731) و" ميزان الاعتدال " (4/ 364).
وأخرج ابن عدي في " الكامل " (7/ 2511) من طريق ناصح بن عبد الله الكوفي عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي به.
وقال الزيلعي في " نصب الراية " (4/ 405): وأسند - ابن عدي - تضعيف ناصح هذا عن النسائي ومشاه هو وقال: إنه كان مما يكتب حديثه ".
قلت: لكن الحارث الأعور ضعيف. انظر: " الإرواء " (6/ 94).
* وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص:
فقد أخرجه ابن عدي في " الكامل " (2/ 817) من طريق حبيب المعلم مرفوعًا بلفظ: " لا تجوز وصية لوارث والولد للفراش وللعاهر الحجر ".
وأخرجه الدارقطني في السنن (4/ 98 رقم 93) من طريق حبيب بن الشهيد مرفوعًا بلفظ: " لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة ". كلاهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
أما طريق ابن عدي فهو حسن الإسناد، كما حققه الذهبي في " الميزان " (3/ 263 - 268).
أما طريق الدارقطني ففيه سهل بن عمار، كذبه الحاكم كما في " الميزان " (2/ 240).
وقال الحافظ في " التلخيص " (3/ 92) إسناده واه.
* وأما حديث عبد الله بن عمر:
فقد أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " (7/ 281) من طريق ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر عن ابن عمر موقوفا: " لا تجوز الوصية للوارث ". وسنده حسن.
* وأما حديث معقل بن يسار:
فقد أخرجه ابن عدي في " الكامل " (5/ 1853) في ترجمة علي بن الحسن بن يعمر السامي بلفظ: " لا وصية لوارث ".
وقال ابن عدي عقب الحديث: " وهذا الحديث باطل بهذا الإسناد ".
* وأما حديث زيد بن أرقم والبراء:
فقد أخرجه ابن عدي في " الكامل " (6/ 2349) في ترجمة موسى بن عثمان الحضرمي بلفظ: " ليس لوارث وصية ". وسنده ضعيف جدا.
* وأما مرسل مجاهد:
فقد أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 264) بسند صحيح.
والخلاصة أن الحديث صحيح بل متواتر.
انظر: " نظم المتناثر من الحديث المتواتر " للكتاني (ص 108 - 109).(10/4846)
أوله أن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، كان قوله عقب ذلك: فلا وصية لوارث، مفيدا لنفي الوجوب، لا لنفي الندب، فيكون معناه أن الله قد أعطى كل ذي حق حقه الذي يستحقه في علم الله، فلا تجب وصية لوارث.
وأقول: هذا الذي جعله دليلا على نفي الوجوب دون الندب لا دلالة فيه على ذلك،(10/4849)
لا بمطابقة، وتضمن، ولا التزام؛ فإنه كما تسبب عن إعطاء كل ذي حق حقه عدم وجوب الوصية لمن قد أعطي حقه بحكم الله، كذلك يتسبب عدم بذلها؛ لأن من قد استولى عليه بحكم الله تعالى هو بحق له بحكم الله تعالى، وقد تقرر في كليات هذه الشريعة المطهرة أن المجاورة لحكم الله تعالى غير جائزة إلا بدليل على الجواز، فأول الحديث وآخره [1ب] يستفاد من مجموعهما عدم الجواز، فضلا عن عدم الندب، ولا يخفاك أن تجويز الوصية للوارث، بل دعوى ندبها بمثل هذا مدفوع.
هذا مع قطع النظر عما يستفاد من عموم قوله: " لا وصية لوارث "؛ فإنه نكرة في سياق النفي (1)، وهو من صيغ العموم (2) بلا خلاف بين محققي الأصول والبيان، وهذا العموم كما ينفي وجوب الوصية للوارث ينفي ندبها، بل ينفي جوازها، لأن المقدار إن كان عاما نحو: لا تجوز وصية لوارث، أو لا تحل، أو لا تشرع، أو لا تثبت كان هذا المقدر العام، والمعلق الشامل، والمقتضي المستغرق موافقا لما دل عليه الكلام من العموم المتفق عليه، وليس هذا من باب عموم المقتضي، بل من باب تقدير المعلق العام المطابق لأصل الكلام.
وأما لو قدر خاصا نحو: لا ندب، أو لا وجوب فهذا المقتضي الخاص مفتقر إلى دليل يدل عليه، ولا تقبل دعوى من يدعيه إلا ببرهان، ولا برهان هنا إلا ما زعمه من دلالة السياق والاقتران، وهو كما عرفت يدلان على خلاف ما زعمه دلالة بينة، ولما كان ما ذكرناه في غاية الظهور، ونهاية الجلاء بادر - رحمه الله - إلى تسليمه بعد كلامه السابق فقال: فصل: إن قلب قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا وصية لوارث " هو من ألفاظ العموم ... إلى آخر كلامه في هذا الفصل، ثم لم يدفعه إلا بأن قال: قلب
_________
(1) نعم النكرة في سياق النفي والنهي تفيد العموم.
" إرشاد الفحول " (ص 409 - 410)، " اللمع " (ص 15).
(2) انظر " البحر المحيط " (3/ 110 - 111). " نهاية السول " (2/ 80).(10/4850)
سبب حديث: " لا وصية لوارث " هو نفي الإيجاب الذي كان ثابتا كما قررناه. فانظر كيف عاد إلى تلك الدعوى المجردة بعد أن سلم عدم دلالة هذا الحديث على ما ذهب إليه، بل سلم دلالته على دفع ما ذهب إليه وشموله لمحل النزاع، أعني: وصية صح التبرع.
وأما استدلاله على ما ذهب إليه بقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (1) فلا يخفاك أن الوصية تشمل الوصية، والوصية لغير الوارث، وهذا لا ينكره أحد، وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا وصية لوارث " أخص مطلقا من قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، فيبنى العام على الخاص (2) ويكون ما في الآية الكريمة في قوة: من بعد وصية يوصي بها لغير الوارث أو دين، كما هو مقتضى بناء العام على الخاص، وهو متفق [2أ] (3) عليه بين أهل الأصول في الجملة، وإن اختلفوا في تفاصيله وشروطه فذلك لا يقدح في اتفاقهم على وجوب البناء، والحديث هو متلقى بالقبول، فيخصص به عموم القرآن عند الجمهور، بل عند كل من يعتد بقوله من أئمة الأصول (4).
_________
(1) [النساء: 11].
(2) في حاشية المخطوط ما نصه: ولعل التعميم استفيد من توصيف الوصية بقوله: (يوصي بها) على نحو ما قبل في قوله تعالى: (ولا طائر يطير بجناحه) أن التوصيف (بـ) يطير بجناحيه إفادة التعميم. والله أعلم.
(3) انظر " البحر المحيط " (3/ 405)، " تيسير التحرير " (1/ 361).
(4) قال الزركشي في " البحر المحيط " (3/ 362): يجوز تخصيص الكتاب العزيز بخبر الواحد فذهب الجمهور إلى جوازه مطلقًا.
وذهب بعض الحنابلة إلى المنع مطلقًا.
* قال الشوكاني بعد ذكره أدلة المانعين ... قال ابن السَّمعاني: إن محل الخلاف في أخبار الآحاد لم تجمع الأمة على العمل بها أما ما أجمعوا عليه كقوله: " لا ميراث لقاتل " و" لا وصية لوارث " فيجوز تخصيص العموم به قطعًا، ويصير ذلك كالتخصيص بالمتواتر لانعقاد الإجماع على حكمها، ولا يضر عدم انعقاده على روايتها.
انظر: " إرشاد الفحول " (ص 524).(10/4851)
وأما استدلاله بحديث أبي هريرة عند ابن ماجه بلفظ: " إن الله قد تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم " (1) فهذا لا نزاع فيه في الجملة، لكن محل النزاع الوصية للوارث، فهذا الحديث إذا تناولها بنوع من أنواع الدلالة فقد تناول
_________
(1) أخرجه الدارقطني (4/ 150 رقم 3). والطبراني في " الكبير " (20/ 54 رقم 94) وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 212) وقال: " وفيه عتبة بن حميد الضبي وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أحمد ".
وقال الحافظ في " التقريب " (2/ 4 رقم 13) صدوق له أوهام.
وهو حديث حسن بشواهده التي منها:
* ما أخرجه أحمد في " المسند " (6/ 440 - 441) والبزار في مسنده (2/ 139 رقم 1382 - كشف) والطبراني في " الكبير " كما في " مجمع الزوائد " (4/ 212) وأبو نعيم في " الحلية " (6/ 104) وقال الهيثمي: " وفيه أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط ".
وقال البزار: " وقد روي هذا الحديث من غير وجه، وأعلى من رواه أبو الدرداء ولا نعلم عن أبي الدرداء طريقًا غيره، وأبو بكر بن أبي مريم وضمرة معروفان وقد احتمل حديثهما ".
* ما أخرجه ابن ماجه رقم (2709) والبيهقي (6/ 269) والخطيب في " تاريخ بغداد " والبزار في " مسنده " كما في " نصب الراية " (4/ 400) و" تلخيص الحبير " (3/ 91 رقم 1363) وفي " سنده " طلحة بن عمرو " متروك كما في " التقريب " (1/ 379 رقم 37) وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " (2/ 98 رقم 962): " هذا إسناد ضعيف .. " وضعفه الألباني في " الإرواء " (6/ 77).
من شواهده:
1 - حديث أبي بكر الصديق أخرجه العقيلي في " الضعفاء " (1/ 275) وابن عدي في " الكامل " (2/ 794) وفيه حفص بن عمر بن ميمون: متروك.
قال العقيلي: " وحفص بن عمر هذا يحدث عن شعبة ومسعر ومالك بن مغول والأئمة بالبواطيل ".
وقال ابن عدي: " وحفص هذا عامة حديثه غير محفوظ وأخاف أن يكون ضعيفًا كما ذكره النسائي ".
2 - حديث خالد بن عبيد السلمي. أخرجه الطبراني في " الكبير " رقم (4129) قال الهيثمي في " المجمع " (4/ 212) إسناده حسن وليس كما قال.
والخلاصة أن الحديث حسن بشواهده.(10/4852)
الوصية لغير الوارث، كما تناول الوصية للوارث، فخرجت عنه الوصية للوارث بالحديث الآخر، وهو أرجح منه سندا ومتنا، على أنه يبعد أن يقال: أن الوصية للوارث ليست مما يوجب الزيادة في الحسنات، لأنها ممنوعة بنص الشارع، لما فيها من المجاوزة لحدود الله، والتعدي لفرائضه، والمخالفة لما شرعه الله، فتعليله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لقوله: " إن الله قد تصدق عليكم بثلث أموالكم " فقوله: " زيادة في حسناتكم " تفيد اختصاص هذه الصدقة لما فيه زيادة في الحسنات، ولا زيادة قد نفاها الشارع، وقال: " لا وصية لوارث " بهذه الصيغة الشاملة المحيطة، فهذا الحديث يرد دعوى من يدعي أن فيها زيادة في الحسنات، ولو فرضنا عدم دليل يدل على أنه لا زيادة فيها في الحسنات لكان دعوى أن فيها زيادة في الحسنات مصادرة على المطلوب، وهي باطلة.
ولا شك أن البدر - رحمه الله - لو تنبه لهذا لقابله بالقبول، فكيف يصح التعويل على هذا الحديث! وقد عارضه ما هو أحق منه مطلقا! على فرض دلالته على مخل النزاع، وتناوله له؛ فكيف إذا كان قد علل بعلة تفيد أنه لا يتناوله، ومن جملة ما استدل به - رحمه الله - تقرير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لسعد بن أبي وقاص لما قال أتصدق بكذا من مالي (1).
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1295) ومسلم رقم (5/ 1628) وأبو داود رقم (2864) والترمذي رقم (2116) والنسائي (6/ 241 - 242) وابن ماجه رقم (2708) وأحمد (1/ 179) والطيالسي (1/ 282 رقم 1433 - منحة المعبود) ومالك (2/ 763 رقم 4) والدارمي (2/ 407).
قال القرطبي في "المفهم" (4/ 540 - 541) "اعلم أن الوصية في أول الإسلام كانت واجبة للوالدين والأقربين قبل نزول المواريث، كما قال تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين} [البقرة: 180] ".
وهي بمجموع قرائنها نص في وجوب الوصية لمن ذكر فيها، ثم إنها بعد ذلك نسخت، واختلف في ناسخها.
فقيل: آية المواريث. وفيه إشكال، إذ لا تعارض بين أن يجمع بينهما، فيكون للقرابة أخذ المال بالوصية عن المورث وبالميراث إن لم يوص. أو ما بقي بعد الوصية. لكن هذا قد منع الإجماع منه. وهو خلاف نص قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث " فإذًا: آية المواريث لم تستقل بنسخ آية الوصية، بل بضميمة أخرى، وهي السنة المذكورة، ولذلك قال بعض علمائنا: إن نسخ الوصية للقرابة إنما كان بالسنة المذكورة، غير أنه يرد عليه: أن هذا نسخ القرآن بخبر الواحد.
ويجاب عنه: إن ذلك قد كان معمولاً به في الصحابة، كما قد حكاه الأصوليون في كتبهم. ولو سلمنا: أن ذلك لا يجوز، فلم يكن ذلك الخبر آحادًا بل كان متواترًا، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألقاه على أهل عرفة يوم عرفة وأخبرهم بنسخ ذلك بسنته وأهل عرفة عدد كثير، وجم غفير، لا يحيط بهم بلد، ولا يحصرهم عدد، فقد كان متواتر فنسخ المقطوع بالمقطوع. ونحن وإن كان هذا الخبر قد بلغنا آحادًا لكن قد انضم إليه إجماع المسلمين: أنه لا تجوز الوصية لوارث، فقد ظهر: أن وجوب الوصية للأقربين منسوخ بالسنة، وأنها مستند المجمعين غير أنه قد ذهب طائفة وهم: الحسن، وقتادة، والضحاك وطاووس: إلى أن وجوب الوصية ليس منسوخًا في حق جميع القرابة، بل في حق الوارثين خاصة، واختاره الطبري.
قلت: أي- القرطبي- وعلى هذا: فلا يكون هذا نسخًا عند هؤلاء، بل: تخصيصًا لعموم قوله تعالى: {والأقربين} بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا وصية لوارث "، وهذا لا يحتاج فيه أن يكون قوله: " لا وصية لوارث " متواترًا، لأنه يجوز تخصيص القرآن بالسنة غير المتواترة اتفاقًا من الأكثر وهو الصحيح على ما ذكرناه في الأصول.(10/4853)
قال [2ب]: والصدقة مندوبة قطعا ... إلى آخر كلامه.
ودلالة هذا الدليل على محل النزاع مدفوعة من وجهين:
الأول: أنه في الصدقة لا في الوصية التي هي محل النزاع.
الثاني: أن الصدقة تتناول الصدقة على الوارث، وعلى غير الوارث، وحديث: " لا وصية لوارث " قد أخرج الصدقة على الوارث، على فرض أنه يصدق على الوصية أنها صدقة.
ومن جملة ما استدل به - رحمه الله - ما ورد في حديث: " لا وصية لوارث " من زيادة: " إلا أن يشاء ..................................(10/4854)
الورثة " (1) معللا دلالة ذلك على محل النزاع بأن الاستثناء منقطع.
ولا يخفاك أن هذا الاستثناء يؤكد دلالة هذا الحديث على عدم جواز الوصية لوارث ويؤيدها، لأنه قد أفاد عدم نفوذ الوصية للوارث إلا بمشيئة الورثة، فأفاد ذلك عدم نفوذها بعد المشيئة.
وأما دعواه - رحمه الله - بأنه إخراج من الإيجاب أي: لا تجب الوصية للوارث إلا أن يشاء الورثة، فهذا لا دلالة للاستثناء عليه، سواء كان الاستثناء متصلا (2)، أو منقطعا كما لا يخفى.
هذا خلاصة ما عول عليه - رحمه الله - في تلك الرسالة، ولا يخفاك أنه لا يدل على مقصوده لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، بل كان كل ما أورده فهو دليل عليه لا له كما عرفت مما أسلفنا، واعلم أنه - رحمه الله - قد أورد في رسالته هذه قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأبي طلحة لما قاله له: إن أنفس أموالي إلي بريحاء، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال: " تصدق بها على ذوي قرابتك " (3) وهذا أجنبي عن محل النزاع، لأنه في الصدقة في حال الحياة والصحة، ومحل النزاع في الوصية المضافة إلى بعد الموت، فإن الله قد أعطى كل ذي حق حقه بالموت فلا وصية لوارث.
وأما حال الصحة والحياة بالصدقة على [3أ] الأقارب فهذا من باب الصلة للأرحام التي ورد الترغيب فيها كتابا (4) ...................
_________
(1) أخرجه الدارقطني (4/ 52 رقم 9، 11) بلفظ: "لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة" وبلفظ: "لا يجوز لوارث الوصية إلا أن يشاء الورثة". وهو حديث حسن.
(2) انظر شروط صحة الاستثناء في "إرشاد الفحول" (ص 493 - 496)، "المحصول" (3/ 27 - 28)، "المسودة" (ص 153).
(3) أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (1461، 2752، 2758، 2769، 4554، 4555، 5318، 5611)، ومسلم رقم (998).
(4) منها قوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92].(10/4855)
وسنة (1)، وهي خارجة عن محل النزاع خروجا لا يخفى.
ومن جملة ما تعرض لذكره - رحمه الله - في هذه الرسالة حديث التسوية بين الأولاد وهو حديث متواتر، وفيه التصريح بأن المخالفة للتسوية جور، والجور حرام، وهو أعم من أن يكون المخالفة بالعطية في حال الصحة كالنحلة، والصدقة، أو بالوصية المضافة إلى بعد الموت، والسبب وإن كان خاصا، وهو نحلة يشير والد النعمان لولده (2)، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (3)، والأمر لكل أحد بالتسوية بين الأولاد
_________
(1) منها ما أخرجه البخاري رقم (1410) ومسلم رقم (1014) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب- ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي حدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل".
ومنها: ما أخرجه البخاري رقم (55) ومسلم رقم (1002) وأحمد (4/ 120) والنسائي (5/ 69) من حديث أبي مسعود البدري، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة".
ومنها: ما أخرجه البخاري رقم (1466) ومسلم رقم (1000) وأحمد (3/ 502) من حديث زينب امرأة عبد الله وفيه " ... لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة" وقد تقدم.
ومنها: ما أخرجه البخاري رقم (2592) ومسلم رقم (44/ 999) وأحمد (6/ 332). من حديث ميمونة بنت الحارث أنها أعتقت وليدة في زمان رسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكرت ذلك لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك".
(2) أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (2586) ومسلم رقم (1623) ومالك رقم (39) وأحمد (4/ 268) وأبو داود رقم (3542) والترمذي رقم (1367) والنسائي رقم (258، 259) وابن ماجه رقم (2375) والطحاوي (4/ 5 - 86) وابن حبان رقم (5098، 5099) والبيهقي (6/ 176 - 177).
وقد تقدم تخريجه ومناقشة معناه ودلالته.
انظر الرسالة رقم (134) (ص 4174).
(3) أي ورود العام على سبب خاص، وقد أطلق جماعة من أهل الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وحكوا ذلك إجماعًا.
"البحر المحيط" (3/ 195). وفيه تفصيل انظر: "إرشاد الفحول" (ص 454 - 455).(10/4856)
يتناول الوصية المضافة إلى بعد الموت، كما يتناوله العطية في حال الدنيا، وهو من أعظم الأدلة الدالة على عدم جواز تخصيص بعض الأولاد بعطية، أو وصية دون بعض (1).
وقد صرح فيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بأن ذلك جور، وامتنع من أي يشهد على نحلة بشير والد النعمان، فكانت الوصية المشتملة على تخصيص بعض الورثة دون بعض حراما بهذا الحديث، فأفاد ذلك بطلان ما زعمه البدر - رحمه الله - من أن معنى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا وصية لوارث " (2) لا تجب وصية لوارث، فإن من جعله لبعض أولاده قسطا من ماله بالوصية دون بعض لم يسوِّ بينهم، ومن لم يسو بينهم فقد جار، ففعله جور، وكل جور حرام، ففعله حرام.
فتقرر بهذا الدليل المتواتر تفضيل بعض الورثة على بعض، بوصية أو عطية لا يجوز، ولا يحل، فهو يرد على البدر - رحمه الله - ردا واضحا إن أراد أن الوصية للوارث جائزة، سواء كانت متضمنة المخالفة للتسوية أم لا، وإن خص الجواز بما لا مخالفة للتسوية فيه فقد قرب المسافة، وقلل الخلاف، وعاد آخرا إلى ما رجحه أولا من عدم جواز الوصية [3ب] للوارث عودا لطيفا، وبيانه أن الوصية للأولاد مثلا على وجه التسوية الموافقة لفرائض الله سبحانه؛ إذ هي المعتبرة في التسوية، ولا اعتبار بغيرها؛ لأنها ليست من باب الوصية للوارث، بل من باب قسمة التركة بينهم على فرائض الله، أو قسمة بعضها كذلك باسم الوصية، وذلك لا يوجب خلافا، ولا يقتضي نزاعا، لأنه يصدق على وصية التسوية التي هي في الحقيقة قسمة أنها موافقة لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -:" إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث " (3).
فإذا قال الرجل في وصيته: أنه أوصى بالدار، أو بالأرض، أو بنوع من أنواع تركته أن يقسم بين أولاده على فرائض الله سبحانه، ولا وارث له غير أولئك الأولاد، فما فعل
_________
(1) تقدم في الرسالة رقم (134).
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.(10/4857)
إلا ما هو حكم الله تعالى من إعطاء كل ذي حق حقه، ووصيته هذه مؤكدة لوصية الله تعالى المذكورة في محكم كتابه بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (1)، فهو كمن أوصى ورثته بأن يقتسموا ما خلفه لهم على ما فرضه الله تعالى.
فإن قلت: قد يحصل له الثواب بهذه الوصية، أعني: التسوية على فرائض الله، فيصدق عليها اسم الوصية للوارث، ويحصل بها فائدة للموصي.
قلت: الثواب الذي حصل له هو بالإرشاد إلى ما أرشد الله إليه، وامتثال ما أمر الله بامتثاله من أعطى كل ذي حق حقه، ولا يشك أن الأمر بامتثال أوامر الله وفرائضه قربة وليست القربة والثواب بتصيير ذلك المال بين ورثته على فرائض الله؛ فإن ذلك هو أمر الله وحكمه وشرعه، وهو كائن كذلك سواء أوصى أو لم يوص ...... (2) من أمر أولاده بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر الطاعات، فإنه يثاب على ذلك الأمر، ولا يثاب على نفس صلاتهم وزكاتهم ونحوهما، لأن تلك الفرائض افترضها الله عليهم، وأمرهم بتأديتها، فاستحقوا الأجر بفعلها.
فإن قلت: سلمنا دلالة الأحاديث التسوية المتواترة على التسوية بين الأولاد، فهو لا يدل على التسوية بينهم وبين غيرهم من الورثة إذا كان معهم من الورثة غير أولاد، ولا يدل على التسوية بين الورثة أنفسهم إذا كانوا غير أولاد.
قلت: [4أ] هذا إذا لم يفده هذا الدليل بالقياس بلحن الخطاب فقد أفاده حديث: " لا وصية لوارث "، وقد قدمنا تقريره على وجه يظهر به غاية الظهور، ويتبين به أكمل بيان، وإنما تعرضنا لأحاديث التسوية لما تعرض لها البدر - رحمه الله - فأوضحنا أنها عليه لا له.
واعلم أنها قد اتفقت كلمة أهل العلم على أن الذي كان في أول الإسلام هو الوصية
_________
(1) [النساء: 11].
(2) كلمات غير واضحة في المخطوط.(10/4858)
كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (1)، وأن ذلك نسخ بآيات المواريث، وهي قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} إلى آخر الآيات، وإن كانت كلمة أهل العلم متفقة على النسخ، فمعنى النسخ لغة (2): الإزالة والإبطال والتغيير، قال في القاموس (3): نسخه كمنعه أزاله وغيره وأبطله، وأقام شيئا مقامه، انتهى. فمعنى نسخ الوصية للوارث إزالتها وتغييرها وإبطالها في إقامة المواريث مقامها (4)، ولو كانت جائزة بعد نسخها لم يكن كذلك، بل يكون الجمع بينها وبين آيات المواريث التي هي الناسخة جائزا، فلا إزالة، ولا تغيير، ولا إبطال، ولا إقامة للناسخ مقام المنسوخ.
نعم. لو ربط القائلون بهذه المقالة ما يدعونه بدليل كان ذلك مقبولا على حد قبول الدليل، وأما الدعاوى المجردة لا سيما إذا كانت مخالفة لما هو الأصل، والحقيقة الشرعية (5)، واللغوية (6)، ........................................
_________
(1) [البقرة: 180].
(2) "مقاييس اللغة" (5/ 424 - 425).
(3) (ص 334)
(4) قال ابن كثير في تفسيره (1/ 492): اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين، وقد كان ذلك واجبًا- على أصح القولين- قبل نزول آية المواريث، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله، يأخذها أهلوها حتمًا من غير وصية ولا تحمل منة الموصي. ولهذا جاء الحديث: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث".
وانظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي جعفر النحاس (1/ 482 - 486).
وقال الشافعي في "الرسالة" (ص 139): "وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنه من أهل العلم بالمغازي، من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال عام الفتح: "لا وصية لوارث، ولا يقتل مؤمن بكافر" ويأثرونه عمن حفظوا عنه ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي، فكان هذا نقل عامة عن عامة وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحد عن واحد وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مجتمعين".
(5) تقدم توضيحها مرارًا
(6) تقدم توضيحها مرارًا(10/4859)
والعرفية فليست مما يثبت بمثله الأحكام الشرعية، فإن تقييد النسخ بكونه مجرد الوجوب قد استلزم مع كونه خلاف الأصل، والحقيقة دعوى تقييد قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا وصية لوارث " تقيد لم يتكلم به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ولا دل عليه كلامه بوجوبه من وجوه الدلالة، لا مطابقة، ولا تضمنا، ولا التزاما.
وإذا لم يكن على هذا دليل لزم القائل بأن النسخ لوجوب الوصية للوارث لا لغير الوجوب أن يقول هذه المقالة في كل ناسخ ومنسوخ، فيقول مثلا: إن النسخ للتوجه إلى بيت المقدس إنما هو نسخ للوجوب (1)، فيبقى جواز استقباله أو ندبيته، وهذا يستلزم صحة صلاة من توجه إليه، وهو خرق للإجماع، ومخالفة للعموم من الدين ضرورة.
فإن قال: إنه قال ذلك في الوصية للوارث لما فهمه من قوله: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث " (2) فما باله لا يفهم مثل هذا في استقبال بيت المقدس، فإن الله قد فرض على [4ب] كل مسلم استقبال الكعبة، فلا استقبال لبيت المقدس، دوران هذا دوران ذلك، وهكذا يلزمه أن يحمل كل نسخ على الوجوب، إلا ما وقع التصريح فيه بزيادة على ما صرح به قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا وصية لوارث ".
فإن قال: أنا أخص ذلك بالوصية للوارث.
فنقول له: ما الدليل على ذلك؟ وما بال هذا الموضع كان قابلا لهذا منك دون غيره.
فإن قال: قد ورد له نظير، وهو صوم يوم عاشوراء، فإن صومه مشروع مع كونه منسوخا بوجوب صوم ..........................
_________
(1) انظر "الناسخ والمنسوخ" لأبي جعفر النحاس (1/ 454 - 460) و"فتح الباري" (1/ 95). "زاد المسير" "1/ 135".
(2) تقدم تخريجه.(10/4860)
رمضان (1).
قلت: هذا خصه الدليل، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يرغب في صومه (2) بعد نسخه، فمتى سمعت أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يرغب في الوصية للوارث بعد نسخها؟ على أن بين الموضعين فرقا، فإن الجمع بين الناسخ والمنسوخ في الوصية للوارث يستلزم الإضرار بغير من وقعت له الوصية من الورثة، وتقليل نصيبه المفروض له، ودفعه عن بعض ما أوجب له، وهذا قد ورد منعه في الشريعة المطهرة بمثل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} (3)، وبقوله:
_________
(1) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صام عاشوراء وأمر بصيامه".
أخرجه البخاري رقم (2004) ومسلم رقم (128/ 1130) وأبو داود رقم (2444) وابن ماجه رقم (1734).
وروت عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة صام عاشوراء وأمر صيامه فلما نزلت فريضة رمضان ترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء أفطره.
وهو حديث صحيح. أخرجه البخاري رقم (1592 وأطرافه رقم 1893، 2001، 2002، 3831، 4502، 4504) ومسلم (2/ 792 رقم 113، 114، 115، 116/ 1125).
ومالك في "الموطأ" (1/ 299 رقم 33) وأبو داود رقم (2442) والترمذي رقم (753).
انظر: "الاعتبار" للحازمي (ص 340. "المجموع" للنووي (6/ 382 - 384).
(2) منها ما أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (197/ 1162) وابن ماجه رقم (1738) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: "يكفر السنة الماضية".
ومنها ما أخرجه مسلم رقم (1132) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: "ما علمت أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صام يومًا يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهرًا إلا هذا الشهر، يعني رمضان".
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (2006) عن ابن عباس قال: ما رأيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء وهذا الشهر يعني شهر رمضان.
(3) [النساء: 12].(10/4861)
{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (1). قد بينها المفسرون كالزمخشري (2) وغيره (3) بما يفيد ما ذكرناه، ورد عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في وصية الضرار أنها محبطة للأعمال، وموجبة لدخول النار، وهو حديث (4) صحيح (5).
وفي الجملة فمن أوصى بوصية تخالف وصية الله - سبحانه - المذكورة في محكم كتابه بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (6) إلى آخر الآيات.
قلنا له: هذه الوصية رد عليك، فقد وجدنا في كتاب الله تعالى أن الله - عز وجل - أوصى عباده جميعا، بما يخالف ما وصيت به أنت، فقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (7) إلى آخر الآيات , ووصية الله - سبحانه - أقدم، وهو بمصالح عباده أعلم وأحكم، ووجدنا رسول الله ينادي الأمة بأن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث؛ فوصيتك يا هذا مخالفة لكتاب الله، ولسنة رسوله، فهي رد عليك.
_________
(1) [البقرة: 182].
(2) في "الكشاف" (1/ 334).
(3) انظر: "جامع البيان" لابن جرير الطبري (2/ ج-2/ 126)، "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (1/ 496).
(4) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (2867) والترمذي رقم (2117) وقال: حديث حسن صحيح غريب.
قلت: وفي إسناده: شهر بن حوشب وهو ضعيف.
من حديث أبي هريرة عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضران في الوصية فتجب لهما النار" ثم قرأ أبو هريرة: {من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله} إلى قوله تعالى: {وذلك الفوز العظيم} [النساء: 12، 13].
وهو حديث ضعيف والآية مغنية عن غيرها.
انظر: الرسالة رقم (160).
(5) بل هو حديث ضعيف كما تقدم.
(6) [النساء: 11].
(7) [النساء: 11].(10/4862)
وقد صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وتواتر أنه قال: " كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد " (1) فهذه الوصية مخالفة لما شرعه الله في محكم كتابه، وعلى لسان رسوله وكل مخالف لما شرعه الله في محكم كتابه، وعلى لسان رسوله رد، فهذه الوصية رد.
وأيضا هذه الوصية ليس عليها أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأمته، وكل ما ليس عليه أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأمته فهو رد، فهذه الوصية رد، أما في الصغرى في القياسي فلما بيناه سابقا، وأما الكبرى، فهذا الحديث المتواتر (2).
وإذا تقرر لك جميع ما أوردناه، واندفع به دعوى من يدعي جواز الوصية للوارث، أو ندبها، فاعلم أن هاهنا دليلا يكفيك مؤنة التدليل والتحقيق الذي أسلفناه، وأسلفه البدر - رحمه الله - وهو ما أخرجه الدراقطني [5أ] (3) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ". وقد حسن هذا الحديث الحافظ في التلخيص (4)، وقال في الفتح (5): رجاله ثقات، وما قيل من أنه معلول بأن الذي رواه عن ابن عباس هو عطاء، وقد قيل إنه الخراساني (6) فهو مدفوع بأنه قد أخرج نحوه البخاري (7) من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس موقوفا، قال الحافظ (8): إلا أنه في تفسير وأخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن، فيكون
_________
(1) تقدم تخريجه مرارًا.
(2) يشير إلى حديث: "لا وصية لوارث".
(3) في "السنن" (4/ 97 رقم 89).
(4) (3/ 92).
(5) {5/ 372).
(6) تقدم توضيحه في بداية الرسالة.
(7) في "صحيحه" (5/ 372) الباب رقم (6) لا وصية لوارث.
(8) في "الفتح" (5/ 372).(10/4863)