جزء (1) " رفع اليدين " وقال البخاري أيضا: لم يثبت عن أحد م أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه لم يرفع يديه، وقال الشافعي (2): روى الرفع جمع من الصحابة، لعله لم يرو حديث قط بعدد أكثر منهم.
وقال البيهقي في الخلافيات (3): سمعت الحاكم يقول: اتفق على رواية هذه السنة يعني رفع اليدين عند التكبيرة العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن بعدهم من أكابر الصحابة، قال البيهقي (4): وهو كما قال.
قال الحاكم (5) واليبهقي (6) أيضا: ولا نعلم سنة اتفق على رواتها العشرة فمن بعدهم من أكابر الصحابة على تفريقهم في الأقطار الشاسعة غير هذه السنة.
قال النووي في شرح مسلم (7): إنها أجمعت الأمة على ذلك عن تكبيرة الإحرام، وإنما اختلفوا فيما عدا ذلك.
وحكى النووي (8) أيضًا عن الظاهري أنه واجب عند تكبيرة الإحرام. قال: وبهذا قال الإمام أبو الحسن أحمد بن سيار، والنيسابورى من أصحابنا، وهكذا حكى الحافظ في الفتح (9) عن ابن عبد البر (10) أنه حكى إجماع العلماء على ذلك، قال الحافظ: وممن قال بالوجوب الأوزاعي، والحميدي شيخ البخاري، وابن خزيمة. وحكى ذلك القاضي
_________
(1) (ص129رقم 135).
(2) انظر " الطبقات " للسبكي (2/ 100). " الأم " (1).
(3) في " مختصر خلافيات البيهقي " (2). وفي " المعرفة " (2/ 416 - 417).
(4) في " مختصر خلافيات البيهقي " (2/ 72). و"السنن الكبرى " (2 - 76).
وانظر: " نصب الراية " (1، 418).
(5) انظر المصادر السابقة.
(6) في " مختصر خلافيات البيهقي " (2/ 72). و"السنن الكبرى " (2 - 76).
وانظر: " نصب الراية " (1، 418).
(7) (3).
(8) في شرحه لصحيح مسلم (3).
(9) (2).
(10) وانظر " الاستذكار " (2).(6/3218)
حسين عن الإمام أحمد.
إذا عرفت هذا فاعلم أن سنة نقلها عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - خمسون صحابيا منهم العشرة المبشرون بالجنة، وأجمع على فعلها جميع الصحابة في حياته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وبعد موته، واتفق علماء الإسلام على ثبوتها، وقال قائل منهم بوجوبها لحقيقة بأن لا يسال عنها، وخليقة بأن لا يبحث عنها.
وفعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - سنة بإجماع المسلمين، ولكن السائل - أرشده الله - أراد أن يسأل عن ورود خصوص القول، ويبحث عنه مع علمه بأنها ثابتة ضمن الفعل على هذه الصفة التي أشرنا إليها.(6/3219)
وأما سؤال السائل - عافاه الله - عن حديث: " من كان له أما فقراءة الإمام له قراءة ". هل يصح مرفوعًا أم لا؟.
أقول: أخرجه الدارقطني (1) في سننه عن عبد الله بن شداد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " وقال (2) بعد إخراجه: لم يسنده عن موسى بن أبي عائشة غير أبي حنيفة، والحسن بن عمارة، وهما ضعيفان، قال (3): وروى هذا الحديث سفيان الثوري، شعبة، إسرائيل، وشريك، وأبو خالد الدالاني، وأبو الأحوص، وسفيان بن عيينة، وجرير بن عبد الحميد وغيرهم [5ب] عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد مرسلا عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وهو الصواب انتهى.
وقال المجد ابن تيمية في المنتقى (4): قد روى مسندا من طرق كلها ضعاف، والصحيح أنه مرسل.
وقال الحافظ ابن حجر (5): وهو مشهور من حديث جابر، وله طرق عن جماعة من الصحابة كلها معلولة.
وقال في الفتح (6): إنه ضعيف عند جميع الحفاظ، وقد استوعب طرقه وعلله الدارقطني. انتهى.
فهذا الحديث كما ترى قد علله الحافظ، وجزموا بأنه مرسل، والمرسل من قسم الضعيف، وعلى فرض أنه ينتهض لكثرة طرقه فهو عام، لأن المصدر المضاف هو من
_________
(1) في " السنن " (1 رقم 1).
(2) في " السنن " رقم (1).
(3) في " السنن " (1 رقم 5).
(4) (1 - 790).
(5) في " الفتح " (2).
(6) (2).(6/3220)
صيغ العموم (1) كما تقرر في الأصول، وقراءة الإمام مصدر مضاف فيعم جميع قراءة الإمام.
وقد خصص هذا العموم بأحاديث صحيحة كحديث عبادة بن الصامت قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الصبح فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: " إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم " قال: قلنا: يارسول الله، إي والله، قال: " فلا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإن لا صلاة لمن لم يقرأ بها " أخرجه أبو داود (2)، والترمذي (3)، والنسائي (4)، وأحمد (5)، والبخاري في جزء القراءة (6)، والدارقطني (7) وصححه البخاري (8)، وابن حبان (9)، والحاكم (10)، وله شواهد كثيرة (11). وفي معناه أحاديث أخر لا حاجة لنا ببسطها هنا.
وقد استوفينا في شرح المنتقى (12)، فعرفت بمجموع ما ذكرنا أنه لا بد من قراءة الفاتحة (13) خلف الإمام في الصلاة التي يجهر فيها الإمام، ويسمعه المؤتم. وأما في السرية
_________
(1) انظر " إرشاد الفحول " (ص398)، " اللمع " (ص16)، " التبصرة " (ص105).
(2) في " السنن " رقم (823).
(3) في " السنن " (311) وقال: حديث حسن.
(4) في " السنن " (2/ 142)
(5) في " المسند " (5/ 316).
(6) في جزء القراءة رقم (258).
(7) في " السنن " (1/ 319).
(8) انظر جزء القراءة رقم (258).
(9) في صحيحه رقم (1792).
(10) في " المستدرك " (1/ 238) وهو حديث ضعيف.
(11) انظر الرسالة رقم (79).
(12) (1/ 784).
(13) تقدم ذكر الأحاديث التي تشير إلى وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام. وانظر الرسالة رقم (97).(6/3221)
فالمؤتم يقرأ لنفسه. والبحث على الوجه الذي ينبغي أن يكون تحريره وتقريره عليه يطول جدا. وقد أفردناه برسالة مستقلة (1).
وفي هذا المقدر كفاية. والله ولي التوفيق.
حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما، حامدا الله، مصليا ومسلما على رسوله وآله -.
انتهى جواب شيخنا - أدام الله إفادته، وحرس شريف ذاته، وأسعد آماله وأوقاته - بقلم السائل الحقير صالح بن محمد العنسي - غفر الله لهما - وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم بتاريخ شهر الحجة الحرام سنة 1225 هـ.
_________
(1) انظر الرسالة رقم (79).(6/3222)
تم ولله الحمد والمنة المجلد الثالث ... من كتاب الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ويليه المجلد الرابع إن شاء الله(6/3223)
بحث في لزوم الإمساك إذا علم دخول شهر رمضان أثناء النهار
تأليف
محمد بن علي الشوكاني(7/3235)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين:
وبعد:
فإنه لما وقع الإشعار بدخول شهر رمضان سنة 1204 هـ وقت الضحى، سألني جماعة من الخاصة عن وجوب الإمساك؛ هل هو مذهب راجح أو مرجوح؟ وعما تقضي به الأدلة؟ فأجبت أن الحق يحتم الإمساك على من أفطر، وعلى من لم يفطر، فاستنكر ذل جماعة منهم، حتى زعم بعضهم أن الأدلة مصرحة بخلاف ذلك، وزعم آخر أن وجوب الإمساك لا دليل عليه، وآخر أن عدم الوجوب مذهب الجمهور، وأنه لم يقل به إلا أهل المذهب، وآخر بلغني عنه أنه أفطر بعد شعوره بالإشعار، فحملني ذلك على إعادة النظر في المسألة، ومراجعة البحث، فلم أجد لهم في تلك الجدعاوي متمسكا، ثم إن بعض العلماء الأماثل أعاد علي المذاكرة، وأدار في المسألة كؤوس المناظرة، فأمليت عليه ما أمليته، منتهضا على الوجوب، وألقيت إليه ما ظننته وافيا بالتحتم المطلوب، فسألني زبر ذلك وتحريره، لتكون عين المتمسك به قريرة، فأجبته إلى ذلك، راجيا الاستفادة منه، لا الإفادة له. وقد اختصرت في المقام الذي يليق به التطويل، علما مي أن نقل أقوال الرجال ليس على مثله عند المتأهلين تعويل، ولكني أحكي في هذه البياضة ما يسود دعوى مننزعم أن عجم الوجوب قد مال إليه الجمهور، لا سيما منن تأخر عصره من علماء اليمن، ولا بد قبل ذكر الأدلة من تقديم مقدمة أصولية لينتفع بها المتأهل للنظر.
اعلم أنه قد تقرر في الأصول أن النقص في العبادة نسخ للقدر الذي أزيل حكمه اتفاقا (1). وأما أنه نسخ للجميع ففيه خلاف قد استوفاه ابن الحاجب في المختصر (2)
_________
(1) ذكره الزركشي في " البحر المحيط ".
(2) (2/ 201) " شرح العضد على مختصر ابن الحاجب ".(7/3237)
وشراح كتابه، والإمام المهدي في شرح المعيار (1)، وابن الإمام في الغاية (2) وشرحها. وقد جعله في شرح المعيار إطلاقين وتفصيلا فقال ما لفظه:
(الأول لأبي رشيد، وأبي عبد الله البصري (3)، وأبي الحسن الكرخي (4) أن النقص ليس
_________
(1) انظر " مؤلفات الزيدية " (2/ 184 - 185).
(2) انظر " مؤلفات الزيدية " (2/ 293).
(3) انظر " نهاية السول " (2/ 608 - 610).
(4) ذكره صاحب " المعتمد " (1/ 414 - 415).
وكذلك ذكره الأسنوي في " نهاية السول " (2/ 608).
وقال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 650): لا خلاف في أن النقصان من العبادة نسخ لما أسقط منها لأنه كان واجبا في جملة العبادة ثم أزيل وجوبه، ولا خلاف أيضًا في أن ما لا يتوقف عليه صحة العبادة لا يكون نسخه نسخا لها كذا نقل الإجماع الآمدي - في " الإحكام " (3/ 192) والفخر الرازي في " المحصول " (3/ 373) - وأما نسخ ما يتوقف عليه صحة العبادة سواء كان جزءا لها كالشطر أو خارجا كالشرط فاختلفوا فيه على مذاهب:
الأول: أن نسخه لا يكون نسخا للعبادة بل يكون بمثابة تخصيص العام، قال ابن برها،: وهو قول علمائنا وقال ابن السمعاني إليه ذهب الجمهور من أصحاب الشافعي واختاره الفخر الرازي والآمدي قال الأصفهاني: إنه الحق وحكاه صاحب " المعتمد " عن الكرخي.
الثاني: أنه نسخ للعبادة، وإليه ذهب الحنفية كما حكاه عنهم ابن برهان وابن السمعاني.
الثالث: التفصيل بين الشرط فلا يكون نسخه نسخا للعبادة وبين الجزء كالقيام والركوع في الصلاة فيكون نسخه نسخا لها وإليه ذهب القاضي عبد الجبار ووافقه الغزالي وصححه القرطبي. قالوا: لأن الشرط خارج عن ماهية المشروط بخلاف الجزء وهذا في الشرط المتصل أما الشرط المنفصل فقيل: لا خلاف في أن نسخه ليس بنسخ للعبادة لأنهما عبادتان منفصلتان، وقيل: إن كان مما لا تجزئ العبادة قبل النسخ بدونه فلا يكون نسخه نسخا لها وهذا هو المذهب الرابع. حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في " اللمع " (ص 34).
وانظر مزيد تفصيل " جمع الجوامع " (2/ 93)، " البحر المحيط " (4/ 150 - 151). " تنقيح الفصول " (ص 317)، و" المسودة " (ص 213).(7/3238)
بنسخ للجميع مطلقا، سواء نقص ركن أم شرط متصل، أم منفصل. ومن ثمة ذكروا أن نسخ صوم يوم عاشورا لا ينسخ معه إجزاء النية للصوم م بعد الفجر (1)، بل يبقى
_________
(1) قال في " المعتمد " (2/ 427 - 428): اعلم أن الصلاة لما كانت واجبة إلى بيت المقدس، كانت واجبة في كل مكان على البدل، وكان يجب على المصلي أن يتوجه في المكان الذي يصلي فيه إلى بيت المقدس. فالتوجه في المكان إلى بيت المقدس هو هيئة من هيئات الصلاة في المكان فنسخ التوجه إلى بيت المقدس إنما يتناول هذه لهيئة، فلم يكن نسخا للصلاة في المكان.
كما أنا لو أمرنا بصوم يوم عاشوراء على صفة، وهي أن نكون في ذلك اليوم متوجهين إلى بيت المقدس، ثم نسخ عنا التوجه فقيل " لا تتوجهوا إلى بيت المقدس " فإن ذلك لا يكون نسخا للصوم في ذلك اليوم. على أن النسخ للتوجه ورد على وجه فيه تثبت لجملة الصلاة. لأن المروي في ذلك هو " ألا إن القبلة قد حولت " وفي ذلك تثبيت للصلاة وكذلك ما ورد في القرآن من ذلك وهو قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144، 150]. وهذا هو النسخ للتوجه إلى بيت المقدس، لأن ذلك يقتضي وجوب التوجه إلى الكعبة ولا يصح الجمع بين التوجه إلى بيت المقدس وإلى الكعبة معا، فوجوب: أحدهما في كل صلاة يصليها ينفي وجوب الآخر. فأما صوم عاشوراء، فإنه ما وجب إلا في ذلك اليوم، فنظيره أن لا تجب الصلاة إلا مكان مخصوص. فلو قيل: " لا تصلوا في ذلك المكان " لكان قد انتفت جملة الصلاة، لأنها لم تجب إلا في ذلك لمكان. ألا ترى أنا نحتاج في وجوبها في مكان آخر إلى دليل آخر؟ وكذلك إذا قيل لنا: " صوموا يوم عاشوراء " ثم قيل لنا بعد حين " لا تصوموا في يوم عاشوراء " فإن ذلك ينفي جملة الصوم، لأنه لم يجب في زمان آخر، وإنما وجب في هذا الزمان فقط، فنفيه فيه نفي لجملته.
فإن قيل كون ذلك نسخا لجملة الصلاة لا يمنع مما نريده، وهو أنه إذا كان يجوز صوم عاشوراء بنية بعد الفجر، جاز في الصوم الواجب فيما بعد، وهو صوم شهر رمضان، أن يجب بنية بعد الفجر، لأنه قد ثبت أن الشرع قد صحح الصوم بنية بعد الفجر. فإذا لم تغير الشريعة ذلك , وجب أن يبقى على ما كان عليه، قيل: إنما كان يجب ذلك لو ورد في ذلك لفظ عموم، نحو أن يقال: " كل صوم شرعي فإنه يصح بنية بعد الفجر، وقبل الزوال ". فأما إذا قيل: هذا الصوم الواقع في صوم عاشوراء يصح بنية بعد الفجر ... فإنه لا يجب مثله في صوم زمان آخر، لأن ذلك عبادة أخرى، ولا يجب أن تتفق العبادات في شرائط صحتها، بل ذلك موقوف على دليل زائد على ما دل. على أن النية بعد الفجر لا تمنع من صحة صوم عاشوراء.(7/3239)
إجزاؤها في شهر رمضان كما كانت في صوم عاشوراء، لأنه إنمانسخ صوم اليوم لا أحكام صومه من النية وغيرها إلخ). انتهى بلفظه.
قلت: وقد ذهب إلى هذا المنصور بالله بن حمزة (1)، والإمام يحيى بن حمزة (2)، والرازي (3) والشيخ الحسن الرصاص (4). قال المحقق ابن الإمام في الغاية (5) أنه المختار، وعليه الجمهور. وقال المهدي في شرح المعيار أنه الصحيح، وصدره ابن الحاجب في المختصر (6).
وقد احتجوا على ذلك بحجج منها أن لنقض لو كان نسخا لما بقي لكان مبطلا لوجوبه أو صحته، وافتقر إلى دليل آخر، لذلك قال ابن الحاجب: (7).: وهو خلاف الإجماع، إذا تقرر لك أن هذا مذهب جمهور الأصوليين، ومختار أئمة المحققين فاعلم أن حديث العوالي الذي فيه الأمر بالإمساك يوم عاشوراء من الأحاديث المتفق على صحتها.
وقد اتفق على الاحتجاج به أهل البيت، وأهل الحديث، فأخرجه الإمام زيد بن علي في مجموعه (8) عن أبيه، عن جده، عن علي - عليه السلام - عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخرجه أيضًا في شرح التجريد (9)، وأصول الأحكام (10)، والشفا (11)، والاعتصام (12)، وغير هذه
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) تقدمت ترجمته.
(3) ذكره الرازي في " المحصول " (3/ 373).
(4) تقدمت ترجمته.
(5) انظر " مؤلفات الزيدية " (2/ 293).
(6) انظر شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 201).
(7) انظر شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 201).
(8) (3/ 62 - 62) " الروض النضير ".
(9) تقدم التعريف به.
(10) انظر " مؤلفات الزيدية " (1/ 126).
(11) (1/ 625).
(12) " الاعتصام " تأليف الإمام المنصور القاسم بن محمد الحسني الصنعاني جمع فيه بين ما في كتب الحديث للأئمة الزيدية والأمهات الست ونحوها للسنة ورجح في كل مسألة ما يقتضيه اجتهاده، وبلغ فيه إلى كتاب الصيام ولم يتمه، فأكمله من كتاب الحج إلى آخر كتاب " السير " السيد أحمد بن يوسف زبارة (1252) ويسمى " أنوار التمام ".
اسمه الكامل كما في بعض الفهارس " الاعتصام بحبل الله المتين القاضي بإجماع المتقين وألا يتفرقوا في الدين ".
انظر: " مؤلفات الزيدية " (1/ 134).(7/3240)
الكتب، وأخرجه البخاري (1) من حديث سلمة بن الأكوع، ومسلم (2) من حديث بريدة واتفقا عليه (3) من حديث الربيع بنت معوذ بألفاظ منها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بعث رجلا ينادي في الناس يوم عاشوراء أن من أكل فليتم أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل " وله ألفاظ أخر. ومنها: " فإن اليوم يوم عاشوراء ". وأخرجه النسائي (4) من حديث سلمة.
وقد ثبتت الأدلة الصحيحة أن صوم عاشوراء كان قبل نزول (صوم) رمضان واجبا. وخالفت في ذلك الشافعية مع موافقتهم على لزوم الإمساك في يوم الانكشاف. وقد جاءوا في مقابل الأدلة الناصة على الوجوب بما لا طائل تحته. وقد استوفى ذلك ابن حجر في الفتح (5)، والنووي في شرح مسلم (6)، فراجعهما. والحق أنه كان واجبا كما ذهب إلى ذلك أئمتنا والجمهور لما ثبت عند البخاري (7)، ........................
_________
(1) في صحيحه رقم (2007) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: " أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلا من أسلم أن أذن في لناس أن من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء ".
(2) لم أجده في صحيحه.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1960) ومسلم في صحيحه رقم (136، 137، / 1136).
(4) في " السنن " (4/ 192 رقم 2321).
(5) (2/ 245 - 248).
(6) (8/ 11 - 13).
(7) في صحيحه رقم (2004).(7/3241)
ومسلم (1)، وأبي داود (2) من حديث ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بصيامه، ولما ثبت عند مالك (3)، والبخاري (4)، ومسلم (5) والترمذي (6)، وأبي داود من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: " كانت عاشوراء تصام قبل رمضان، فلما نزل رمضان كان من شاء صام، ومن شاء أفطر " وترتيب التخيير على نزول رمضان يدل على أنه كان قبل متحتما، ومثله من حديث قيس بن سعد عند النسائي (7).
ويدل عليه أيضًا ما سلف من الأوامر بالإمساك في حديث العوالي، لا سيما بعد تعليل
_________
(1) في صحيحه رقم (128/ 1130).
(2) في " السنن " رقم (2444).
عن ابن عباس، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم المدنية فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكرا، ونحن نصومه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فنحن أحق وأولى بموسى منكم " فصامه رسول الله وأمر بصيامه.
وعن ابن عباس، وسئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: ما علمت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صام يوما يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهر اإلا هذا الشهر. يعني رمضان.
أخرجه البخاري رقم (2006) ومسل رقم (1132).
وعن ابن عباس، قال: حين صام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم عاشوراء، وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فإذا كان لعام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع " قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أخرجه أحمد (1/ 225، 236) ومسلم رقم (133، 134) وابن ماجه رقم (1736).
(3) في " الموطأ (1/ 299 رقم 33).
(4) في صحيحه رقم (3831).
(5) في صحيحه رقم (113/ 1125).
(6) في السنن رقم (753).
(7) في السنن الكبرى (2/ 158 رقم 2842/ 9).(7/3242)
ذلك بما ثبت في بعض ألفاظ الحديث بلفظ: " فإن اليوم يوم عاشوراء ".
إذا عرفت هذا فاعلم أن أحاديث وجوب الإمساك واردة في جنس الصوم الواجب المؤدى، فشمولها لرمضان من باب شمول النص، لا من باب القياس كما أشعر بذلك قول من سلف ذكره من أهل الأصول. ومثل هذا الوصية للوارث، فإن إيجابها لها اقترن بأحكام، وهي كونها بالمعروف (1)، وكون التبديل فيها محرما، والجنف ممنوعا، فنسخ وجوبها لا يوجب انتفاء ثبوت هذه الأحكام وغيرها من الوصايا بالنص، ولذلك نظائر كثيرة.
وهكذا لو فرض أن الصوم الواجب كان عشرا فجعل ثلاثين، فإن الأحكام الثابتة في العشر ثابتة في الثلاثين بالنص، لأنها أشياء معتبرة في ماهية الصوم، المتصفة بالوجوب، والتأدية والماهية واحدة لا تختلف.
وهكذا إذا كان الواجب يوما ثم صار ثلاثين، وإلا لزم أن ما ثبت من الأحكام المتعلقة بالصوم في يوم مثلا من أيام رمضان يخص ذلك اليوم، وليس في جميع الشهر لأيام زيادة على جمع السنة لأيامها التي عاشوراء من جملتها. وقد تقرر في الأصول أن زيادة صلاة سادسة (2) لا يكون نسخا بالإجماع، إلا ما يحكى عن العراقيين (3) من الحنفية.
_________
(1) يشير إلى قوله تعالى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180].
(2) انظر " الكوكب المنير " (3/ 583 - 584). نهاية السول (2/ 189). " الإحكام " للآمدي (3/ 170).
قال الرازي في " المحصول ": " اتفق العلماء على أن زيادة عبادة على العبادات لا تكون نسخا للعبادات ". ومعلوم أنه لا يخالف في مثل هذا أحد من أهل الإسلام لعدم التنافي. قاله الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 645) وانظر: " اللمع " (ص 35).
(3) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 645) " ... وإما أن يكون من جنسه كزيادة صلاة على الصلوات الخمس فهذا ليس بنسخ على قول الجمهور وذهب بعض أهل لعراق إلى أنها تكون نسخا لحكم المزيد عليه كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] لأنها تجعلها غير الوسطى وهذا قول باطل لا دليل عليه ولا شبهة دليل فإن الوسطى ليس المراد بها المتوسطة في لعدد بل المراد بها الفاضلى. ولو سلمنا أن المراد بها المتوسطة في العدد لم تكن الزيادة مخرجة لها عن كونها مما يحافظ عليه، فقد علم توسطها عند نزول الآة وصارت مستحقة لذلك الوصف وإن خرجت عن كونها وسطى.(7/3243)
وهكذا زيادة عشرين في حد القذف , وزيادة التغريب عند جمهورهم. وقد نقح البحث السعد في تلويحه (1)، فجعل الزيادة إن كانت عبادة مستقلة فلا نزاع بين الجمهور في أنها لا تكون نسخا (2)، وإنما النزاع في غير المستقل. قال: واختلفوا فيه على مذاهب ستة (3)، ثم ذكرها.
_________
(1) (2/ 36 - 37).
(2) قال الشوكاني في " الإرشاد " (ص 646): الذي لا يستقل كزيادة ركعة على الركعات وزيادة التغريب على الجلد وزيادة وصف الرقبة بالإيمان وقد اختلفوا فيه على أقوال.
(3) وهي:
الأول: أن ذلك لا يكون نسخا مطلقا وبه قالت الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم من المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم وسواء اتصلت بالمزيد عليه أو لا، ولا فرق بين أن تكون هذه الزيادة مانعة من إجزاء المزيد عليه بدونها أو غير مانعة.
وانظر: " المسودة " (ص 207)، " التبصرة (ص 276).
الثاني: أنها نسخ وهو قول الحنفية قل شمس الأئمة السرخسي الحنفي في أصوله (2/ 28): وسواء كانت الزيادة في السبب أو الحكم.
الثالث: إن كان المزيد عليه ينفي الزيادة بفحواه فإن تلك الزيادة نسخ كقوله: " في سائمة الغنم الزكاة " فإنه يفيد نفي الزكاة عن المعلوفة وإن كان لا ينفي تلك الزيادة فلا يكون نسخا حكاه ابن برهان وصاحب " المعتمد "
(1/ 405). وانظر: " البحر المحيط " (4/ 144).
الرابع: أن الزيادة إن غيرت المزيد عليه تغيرا شرعيا حتى صار لو فعل بعد الزيادة على حد ما كان يفعل قبلها لم يعتد به وذلك كزيادة ركعة كانت نسخا وإن كان المزيد عليه يصح فعله بدون الزيادة لم تكن نسخا، كزيادة التغريب على الجلد وإليه ذهب عبد الجبار كما حكاه عنه صاحب " المعتمد " (2/ 405) وابن الحاجب في مختصره (2/ 201).
الخامس: التفصيل بين أن تتصل به فهي نسخ وبين أن تننفصل عنه فلا تكون نسخا، حكاه ابن برهان عن عبد الجبار واختاره الغزالي في " المستصفى " (2/ 70).
السادس: إن تكن الزيادة مغيرة لحكم المزيج عليه في المستقبل كانت نسخا وإن لم تغير حكمه في المستقبل بأن كانت مقارنة لم تكن نسخا حكاه ابن فورك عن أصحاب أبي حنيفة قال صاحب " المعتمد " (1/ 405) وبه قال شيخنا أبو الحسن الكرخي وأبو عبد الله البصري.
وانظر: " إرشاد الفحول " (ص 647)، " المحصول " (3/ 365).(7/3244)
ومما يرشدك إلى صحة هذه الطريقة التي ذكرناها أعني: أن حديث العوالي كالنص في رمضان وقوع الإجماع الذي سنبينه على لزوم الإمساك. ولو كان دلالته على ذلك بالقياس فقط لوقع الاختلاف فيه على حد الاختلاف في العمل بالقياس والتخصيص به. ولو سلمنا عدم ثبوت هذا الحكم في رمضان بالنص بل قلنا أنه بالقياس كما صرح به الأكثر لما كان ذلك قادحا في رجحان هذا المذهب؛ فإن التعبد بالقياس عقلا (1) وسمعا، أو سمعا فقط، أو عقلا فقط، مذهب جميع الأمة إلا الإمامية، وتابعهم شذوذ من معتزلة بغداد (2). وناهيك أن الظاهرية المشهورين بنفي القياس قائلون بالتعبد به عقلا (3)، ولا يشك عارف أن حديث: " لا صيام لمن لم يبيت النية " (4) عام لصوم الفرض، والنفل،
_________
(1) انظر " البحر المحيط (5/ 16)، " اللمع " (ص 53 - 54)، " إرشاد الفحول (ص 659).
(2) انظر " المحصول " (5/ 23) " البحر المحيط " (5/ 16).
(3) انظر " التبصرة " (ص 419)، " إرشاد الفحول " (ص 662).
(4) أخرجه أبو داود رقم (2454) والترمذي رقم (730) والنسائي (4/ 196 رقم 2334) واللفظ له.
وابن ماجه رقم (1700) وابن خزيمة رقم (1933) والدارقطني (2/ 172) والدارمي (2/ 6 - 7) والبيهقي في " السنن الكبرى " (4/ 202) والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (2/ 54) وأحمد (6/ 287) كلهم من حديث حفصة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأورده النووي في " المجموع " (6/ 289) وقال: " والحديث حسن يحتج به اعتمادا على رواية الثقات الرافعين والزيادة من الثقة مقبولة ".
قلت: وهناك فرق خلاف بين العلماء في رفع الحديث ووقفه، فذهب فريق إلى أنه مرفوع وبه قال الحاكم، والدارقطني، وابن خزيمة وابن حزم وابن حبان.
وذهب فريق إلى أنه موقوف ولا يصح رفعه وبه قال البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد. انظر " فتح الباري " (4/ 142) وتلخيص الحبير (2/ 200). والخلاصة أن الحديث حسن والله أعلم.(7/3245)
والأداء والقضاء والنذر والكفارة؛ لأن لفظ صيام نكرة في سياق النفي (1) ولا نزاع في عمومها.
والقياس صحيح على يوم عاشوراء يخصص هذا العموم. والتخصيص بالقياس مذهب مشهور ذهب إليه أئمتنا (2) - عليهم السلام - والجمهور، والفقهاء الأربعة (3) والأشعري، وأبو هاشم، وأبو الحسين (4) والرازي (5) والآمدي (6)، والكرخي (7) هكذا في شرح الغاية. وقال ابن الحاجب في المختصر (8): مسألة: الأئمة الأربعة، والأشعري، وأبو هاشم، وأبو الحسين جواز تخصيص العموم بالقياس إلخ ... على أن حديث: " لا صيام لمن لم يبيت النية " (9) قال فيه أبو داود (10): لا يصح رفعه. وقال الترمذي (11) الموقوف أصح. ونقل في العلل (12) عن البخاري أنه قال: هو خطأ، وفيه
_________
(1) انظر البحر المحيط (3/ 122) و" إرشاد الفحول " (ص 420 - 422).
(2) ذكره الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 525).
(3) ذكره الرازي في " المحصول " (3/ 96).
(4) في " المعتمد " (2/ 275).
(5) في " المحصول " (3/ 96).
(6) في " الإحكام " (2/ 360).
(7) ذكره الرازي في " المحصول " (3/ 96).
(8) (2/ 153).
(9) تقدم تخريجه وهو حديث حسن.
(10) في " السنن " (2/ 824).
(11) في " السنن " (3/ 108).
(12) " العلل الكبير " (ص 119 - 120) رقم (204).(7/3246)
اضطراب، والصحيح عن ابن عمر أنه موقوف كما ثبت عنه في الموطأ (1) والنسائي (2) وقال أحمد: ما له عندي ذلك. وقال النسائي: الصواب عندي موقوف، ولم يصح رفعه. وقال ابن أبي حاتم (3) عن أبيه: الموقوف أشبه.
وقد روى أبو داود عن معمر بن راشد , والزبيدي , وابن عيينة، ويونس، كلهم عن الزهري أنه موقوف على حفصة. وقال البيهقي (4): رواته ثقات، إلا أنه روي موقوفا , وفي رجاله في حديث عائشة مجهول، وفي حديث حفصة الواقدي، وتصحيح الحاكم (5) له لا ينافي الوقف، وكون الرفع زيادة مقبولى لا يتم عند جماعة من أهل الحديث، بل هو علة قادحة عندهم، كما ذكره الزين في شرح المنظومة (6)، وعلى تسليم قبولها فالاضطراب مانع منه. فهذا هو الحديث الذي بنيت حوله القناطر، وردت به الأدلى الصحيحة، وهو كما ترى ن والنزاع في غير النفل لا فيه؛ فإنه مخصوص من وجوب التبييت بما أخرجه مسلم (7)، وأبو داود (8) والترمذي (9)، والنسائي (10)، ........................................
_________
(1) (1/ 288 رقم 5).
(2) في " السنن " (4/ 197 - 198).
(3) ذكره ابن حجر في " التلخيص " (2/ 362).
(4) في " السنن الكبرى " (4/ 202).
(5) في الأربعين كما في " التلخيص " (2/ 361).
وانظر " فتح الباري " (2/ 144) " والإرواء " (2/ 25 رقم 914).
(6) في ألفية الحديث (ص 93 - 95).
(7) في صحيحه رقم (170/ 1154).
(8) في (السنن) رقم 2455.
(9) في " السنن " رقم (733، 734) وقال: حديث حسن.
(10) في " السنن " (194 - 195).(7/3247)
والدارقطني (1)، والبيهقي (2) من حديث عائشة قالت: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم: " هل عندكم شيء؟ قلت: لا، قال: فإن صائم، فلما خرج أهديث لنا هدية فلما جاء قلت: يا رسول الله، أهديث لنا هدية، وقد خبأت لك شيئا، فقال هاتيه، فجئت به فأكل " وفي لفظ: أنه كان يدخل على أهله فيسألهم عن الغداء، فإن لم يجده قال: إني صائم. وهو ظاهر في إنشاء الصوم. وقد رد بأنه لا يدل على عدم التبييت. وفي المقام نزاع لا يتسعه البحث.
قال ابن حجر في الفتح (3) عند الكلام على حديث سلمى السابق لما قهرته حجته: وكل ذلك لا ينافي أمرهم بالقضاء، بل قد ورد ذلك صريحا في حديث أخرجه أبو داود (4)، والترمذي (5) من طريق قتادة عن عبد الرحمن بن سلمة، عن عمه أن أم سلمة أتت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " صمتم يومكم هذا؟ " قالوا: لا، قال: فأتموا بقية يومكم واقضوه. وهكذا قال النووي في شر مسلم (6).
وأنت إن أنصفت علمت أن الأمر بالقضاء مرتب على إخبارهم بعدم الصوم. ولا نزاع في وجوب القضاء على من أمسك بعد الإفطار، وإنما النزاع فيمن لم يأكل قبل الشعور بأن ذلك اليوم من رمضان؛ فالشافعية أوجبوا عليه الإمساك والقضاء لوجوب التبييت، وهكذا عن المؤيد بالله (7). ومذهب الجمهور صحة صوم ذلك اليوم، وعدم وجوب القضاء إن لم يأكل فيه وهو الحق.
_________
(1) في " السنن " (2/ 176 - 177 رقم 21).
(2) في " السنن الكبرى " (4: 274 - 275) وهو حديث صحيح.
(3) (4/ 142).
(4) في " السنن " رقم (2447).
(5) في " السنن " (3/ 126).
(6) (8/ 13).
(7) انظر " البحر الزخار " (2/ 237).(7/3248)
إذا تصفحت ما سلف فنحن نزيده تأكيدا، ونقول: لم نقف بعد البحث في كثير من الكتب التي هي مجاميع الخلاف على قول عالم أن الإمساك في اليوم الذي ينكشف من رمضان غير واجب، وليس من قال بوجوب التبييت يقول بعدم وجوب الإمساك في يوم الانكشاف، بل يوافق في وجوبه. إما لأنه يخص مثل هذه الصورة لو وقعت كما صرح بذلك ابن القيم (1)، وصاحب المنار (2)، وضوء النهار (3)، ومنحة الغفار (4)، أو لا يخصص، ولكنه يوافق في الوجوب، ونقول بفساد الصوم، وعدم إجزائه، ووجوب القضاء كالمؤيد بالله، والشافعية.
وناهيك أن ابن حزم (5) من الظاهرية قد وافق على وجوب الإمساك، وجزم بإجزاء النية في النهار، وإجزاء الصوم، مستدلا بحديث سلمة , روى ذلك عنه ابن حجر في الفتح (6)، وهذا مما يرشدك إلى أن التمسك في المسألة ليس بمجرد القياس كما أوضحناه، ولو كان كذلك لما ذهب ابن حزم (7) الظاهري مع نفيه للقياس مطلقا، وتأليفه في إبطاله إلى الجزم باللزوم، والاستدلال بحديث سلمة إن فرضنا أنه لم يدل على ذلك بغير القياس. ومما يؤيد ذلك ما ثبت في أمالي (8) أحمد بن عيسى (9) بلفظ: قال أبو جعفر: من صام يوم الشك نوى أنه من شعبان، فإن تبين أنه من شهر رمضان قضاه ... إلى أن قال:
_________
(1) انظر " زاد المعاد " (2: 37)، (المنار المنيف) (1/ 38 - 41).
(2) أي المقبلي في " المنار في المختار " (1/ 348).
(3) (2/ 434 - 435).
(4) حاشية " ضوء النهار " للأمير الصنعاني (2/ 434 - 435).
(5) في " المحلى " (6/ 160 - 164).
(6) (4/ 141 - 142).
(7) انظر " المحلى" (6/ 160 - 164).
(8) ويسمى " علوم آل محمد " و" بدائع الأنوار ". انظر " مؤلفات الزيدية " (1/ 153).
(9) تقدمت ترجمته.(7/3249)
فإنه يتم صومه ويقضيه، لا يعلم فيه اختلاف. فهذا الإمام الجليل قد حكى الإجماع على وجوب الإمساك، وهذه مجاميع الخلاف لم نر فيها خلافا، فمن أهدى إلينا في المسألة قول قائل فأجره على الله.
نعم قد وقع الخلاف في مسألة من زال عذره في النهار، هل يلزمه الإمساك، أو يندب له أو لا أيهما، وهي مسألة أخرى، وقد التبس على البعض فخلط المسألتين، وجعل الخلاف راجحا، وهو محض الغلط.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: انتهى في شعر رمضان سنة 1204 هـ.(7/3250)
بلوغ السائل أمانيه بالتكلم على أطراف الثمانية
تأليف
محمد بن على الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديث
محمد صبحي بن حسن خلاق
أبو مصعب(7/3251)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: (بلوغ السائل أمانيه بالتكلم على أطراف الثمانية).
2 - موضوع الرسالة: فقه.
3 - أول الرسالة: هذا لفظ السؤال الوارد - من نجد - بسم الله الرحمن الرحيم. ما قول العلماء أثابهم الله الجنة: متي تحل الزكاة للفقير إذا كان عليه وعنده خمسون درهما أو أكثر ...
4 - آخر الرسالة:. وقد أوضحت هذا المعني، وقررته في مؤلفاته تقريرا بالغا، لأنه يخفى على كثير من المشتغلين بالعلم، ومثل هذا المقام لا يتسع لبسط ذلك كما ينبغي، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق كتبه المجيب / محمد بن على الشوكاني غفر الله لهما.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن على الشوكاني.
7 - عدد الصفحات: 10 صفحات + صفحة العنوان.
8 - عدد الأسطر في الصفحة: 21 - 25 سطرا.
9 - عدد الكلمات في السطر: 10 - 11 كلمة.
10 - الرسالة من المجلد الرابع: (من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(7/3253)
هذا لفظ السؤال الوارد (1).
بسم الله الرحمن الرحيم
ما قول العلماء - أثابهم الله الجنة - متى تحل الزكاة للفقير إذا كان ذا عيلة، وعنده خمسون جرهما أو أكثر، ولا يكفي عائلته ربع سنته، فهل يحل له أن يطلب ما يكفيه جميع سنته من الزكاة أم لا؟.
فإن قلتم: لا يحل له أن يطلب فهل إذا جاءه شيء بلا طلب يحل له أخذه، أم لا؟. وإذا كان في الحديث أنه لا يسأل إلا من الإمام الذي عنده بيت المال. فهل الأمير الذي في البلدان مثله أم لا؟.
وإذا اجتمع أموال كثيرة من بلدان مغصوبة، نقد أو بر أو غيره من المأكول، وفيه شيء قدر الخمس من الزكاة مختلط به، وهذه الأموال مجهولة أربابه أو لم تجهل، وتعذر رده إليهم لعدم تميزه أو غير ذلك، فهل يحل أخذه للغني، أو لا يحل للغني ويحل للفقير أو يحرم على الجميع؟.
فإن قلتم: يحل لهما أو لأحدهما، فهل يحل طلبه من الأمير الذي هو في يده إذا كان مأيوسا من رده إلى أربابه أم لا؟ وهل لين الإمام وغيره فرق إذا كان في يده شيء من هذه الأموال المذكورة أم لا؟.
ابسطوا لنا القول؛ لأن هذه الأمور عامة البلوى بها، وهل الصلاة في هذه المغصوبة وفي بيوتها تصلح أم لا؟ - شكر الله سعيكم وعظم أجركم - انتهى.
_________
(1) علق المؤلف مقابل هذا في الحاشية فقال: " هذا وصل من نجد ".(7/3257)
وأقول بعد حمد الله والصلاة على رسوله وآله: إن هذا السؤال قد اشتمل على أطراف ثمانية:
الطرف الأول:
متى تحل الزكاة للفقير؟.
وأقول: قد اختلف في ذلك على أقوال:
الأول: للحنفية (1) والزيدية - أنها تحل الزكاة لمن لم يملك النصاب لا لمن يملكه واستدلوا بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح المروي عن معاذ مرفوعًا بلفظ: " تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم " (2).
قالوا: فوصف من تؤخذ منه الزكاة بالغني وقد قال: " لا تحل الصدقة لغني " (3) وفي لفظ: " لا حظ فيها لغني " (4) وهو حديث صحيح.
_________
(1) انظر " المغني " (4/ 120 - 121).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1458) ومسلم رقم (29/ 19) وأبو داود رقم (1584) والترمذي رقم (625) والنسائي (5/ 2 - 4 رقم 2435) وابن ماجه رقم (1783).
عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث معاذا إلى اليمن قال له: " إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم الزكاة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم، فإذا أطاعوك فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس ".
(3) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى منها لغني ".
خرجه أحمد (3/ 56) وأبو داود رقم (1636) وابن ماجه رقم (1841) والحاكم (1/ 407 - 408) وعبد الرزاق (4/ 109 رقم 7151) وابن الجارود رقم (365) والدارقطني (2/ 121 رقم 3، 4) والبيهقي (7/ 15) وابن خزيمة (4/ 71 رقم 2374). وهو حديث صحيح.
(4) عن عبيد الله بن عدي بن الخيار رضي الله عنه أن رجلين حدثاه أنهما أتيا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألانه من الصدقة فقلب فيهما النظر، فرآهما جلدين فقال " إن شئتما أعطيتكما , ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ".
أخرجه أحمد في المسند (4/ 224) وأبو داود رقم (1633) والنسائي (5/ 99 - 100 رقم 2598) والدارقطني (2/ 119 رقم 7) والبيهقي (7/ 14). وهو حديث صحيح.(7/3258)
والقول الثاني: للثوري وابن المبارك وأحمد، وإسحاق، وجماعة من أهل العلم (1) أن الغني من كان عنده خمسون درهما أو قيمتها، واستدلوا بحديث ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خدوشا أو كدوشا في وجهه " قالوا: يا رسول الله وما غناه؟ قال: " خمسون درهما أو حسابها من الذهب " أخرجه أحمد (2) وأبو داود (3)، والترمذي (4) والنسائي (5)، وابن ماجه (6)، وحسنه الترمذي (7).
القول الثالث: قول أبي عبيد القاسم بن سلام (8) أن الغني الذي تحرم عليه الصدقة من وجد أربعين درهما. واستدل بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف " أخرجه أحمد (9)، وأبو داود (10)، ..........................................
_________
(1) ذكره ابن قدامة في " المغني " (4/ 118).
(2) في " المسند " (1/ 441، 446).
(3) في " السنن " رقم (1626).
(4) في " السنن " رقم (650). وقال: حديث ابن مسعود حديث حسن وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث.
(5) في " السنن " رقم (2593).
(6) في " السنن " رقم (1840).
(7) في " السنن " (3/ 41). وهو حديث صحيح.
(8) في " الأموال " (ص 492 - 493).
(9) في " المسند ".
(10) في " السنن " (رقم 1628).(7/3259)
والنسائي (1) من حديث أبي سعيد، ورجال إسناده ثقات، وقد تكلم في عبد الرحمن بن محمد أبي الرجال (2) ولكن وثقه أحمد والدارقطني، وابن معين. وذكره ابن حبان في الثقات (3) وقال: " ربما أخطأ "، ووجه استدلاله لما قاله بهذا الحديث أن الأوقية قيمتها أربعون درهما (4).
القول الرابع: للشافعي (5) وجماعة أنه يكون غنيا بالدرهم مع الكسب ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله، ويمكن الاستدلال له بالحديث الصحيح من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " (6).
القول الخامس: ما حكاه الخطابي (7) عن بعض أهل العلم أن الغني الذي تحرم عليه الصدقة: من وجد ما يغديه أو يعشيه، واستدل القائلون بهذا بما أخرجه أحمد (8)، وأبو داود (9)، وابن حبان (10) وصححه من حديث سهل لن الحنظلية عن رسول الله - صلى
_________
(1) في " السنن " رقم (2596)
ولحديث أبي سعيد شاهد عند أحمد (4/ 36) و (5/ 430) والنسائي (5/ 99) عن رجل من بني أسد.
وآخر عند النسائي (5/ 98) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
والخلاصة أن الحديث صحيح لغيره.
(2) انظر " تهذيب التهذيب " (6/ 154 رقم 351). وهو حسن الحديث ليس به بأس.
(3) (7/ 91 - 92).
(4) ذكره ابن قدامة في " المغني " (4/ 118).
(5) في " الأم " (4/ 264).
(6) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(7) في " معالم السنن " (2/ 381 - مع السنن).
(8) في مسنده.
(9) في " السنن " رقم (1629).
(10) في صحيحه رقم (844 - موارد). وهو حديث صحيح.(7/3260)
الله عليه وسلم - قال: " من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم " قال: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: " ما يغديه أو يعشيه ".
القول السادس: لأبي طالب والمرتضى (1): أن الغني الذي تحرم عليه الصدقة من كان له غلة أرض تكفيه للسنة، ولعل وجه ذلك أنه لا يستغني عن الناس إلا بما يكفيه عن سؤالهم، وهو ضعيف.
وأرجح هذه الأقوال القول الثاني، لاشتماله على الزيادة المقبولة التي وقعت غير مخالفة للمزيد، وبذلك يجمع بين الأحاديث المختلفة، فمن كان له خمسون درهما أو قيمتها فهو الغني الذي يحرم عليه أخذ الصدقة ما دام كذلك.
الطرف الثاني من أطراف السؤال
قوله: إذا كان ذا عيلة، وعنده خمسون درهما، أو أكثر , ولا يكفي عائلته ربع سنته فهل له أن يطلب ما يكفيه جميع سنته من الزكاة أم لا؟.
أقول: أما هو فلا يحل له أن يطلب لنفسه، لأنه قد صار غنيا، ولا تحل الصدقة لغني، وأما عائلته فلهم أن يأخذوا من الزكاة القدر الذي لا يصيرون به أغنياء، فإن ذهبت النفقة بما في أيديهم جاز لهم أن يأخذوا من الزكاة، ثم كذلك، وهوة إذا ذهبت النفقة بما في يده جاز له أن يأخذ من الصدقة، وليس المراد هنا إلا أن يصير من كان مالكا للخمسين الدرهم مالكا لدونها. فإذا نقص من الخمسين درهما درهم جاز له أن يأخذ من الزكاة. وليس المراد أنه لا يجوز له الأخذ حتى يستنفق جميع الخمسين الدرهم.
الطرف الثالث من أطراف السؤال
قوله: " فإن قلتم لا يحل له أن يطلب، فهل إذا جاءه شيء بلا طلب يحل له أخذه أم لا؟ ".
_________
(1) انظر " البحر الزخار " (2/ 175).(7/3261)
أقول: قد ثبت جواز أخذ ما يعطاه الرجل من بيت المال بلا سؤال منهم. لما ثبت في الصحيحين (1) وغيرهما (2) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطيني العطاء فأقول:: اعطه من هو أفقر مني إليه، فقال: " خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك ".
وظاهر هذا أنه يجوز قبول العطاء من بيت المال، وإن كان غنيا؛ لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال (3) - ولا سيما بعد قول عمر الراوي للحديث: " اعطه من هو أفقر إليه مني "، ويوضح ذلك ما وقع في رواية شعيب بلفظ: " خذه فتموله " - وقد حكى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري الخلاف هل يجب قبوله أم يندب؟ وفي ذلك ثلاثة مذاهب، وذلك بعد أن حكى ابن جرير الإجماع على أن القبول مندوب.
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1473) ومسلم رقم (1045).
(2) كالنسائي (5/ 105 رقم 2608) والبغوي في " شرح السنة " (6/ 128 رقم 1629) وابن خزيمة (4/ 67 رقم 2366).
(3) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 452): قال الإمام الشافعي: ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتما ينزل منزلة العموم في لمقال. قال في " المحصول " (2/ 386 - 387): مثاله أن ابن غيلان أسلم عن عشر نسوة فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أمسك أربعا منهن وفارق سائرهن "
أخرجه أحمد (2/ 44) وابن ماجه رقم (1953) والترمذي رقم (1128) من حديث ابن عمر وهو حديث صحيح. ولم يسأل عن كيفية ورود عقده عليهن في الجميع والترتيب فكان إطلاقه القول دالا على أنه لا فرق بين أن تتفق تلك العقود معا أو على الترتيب، وهذا فيه نظر لاحتمال أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرف عرف خصوص الحال فأجاب بناء على معرفته ولم يستفصل " اهـ.
ويجاب عنه بأن هذا الاحتمال إنما يصار إليه إذا كان راجحا. وليس بمساو، فضلا عن أن يكون راجحا.
وانظر: " المسودة " (ص 109)، " الفروق " (2: 88، 90).(7/3262)
قال النووي (1) الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أنه مستحب - ويؤيد هذا ما أخرجه أحمد (2)، وأبو يعلى (3)، والطبراني في الكبير (4) من حديث خالد بن عدي الجهني قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من بلغه معروف عن أخيه عن غير مسألة ولا إشراف نفس فليقبله ولا يرده، فإنما هو رزق ساقه الله إليه " قال في مجمع الزوائد (5): رجال أحمد رجال الصحيح.
وظاهره أنه لا فرق بين لعطية من بيت مال المسلمين وبين ما يعطيه الأخ لأخيه من غير بيت المال، وهذا الحديث يدفع قول من قال: إن القبول مندوب في عطية السلطان دون غيره.
الطرف الرابع من أطراف السؤال
قوله: وإذا كان في الحديث أنه لا يسأل إلا من الإمام الذي عنده بيت المال. فهل الأمير الذي في البلدان مثله أم لا؟.
أقول: ثبت عند أبي داود (6)، والنسائي (7)، والترمذي (8) وصححه، وابن حبان (9)
_________
(1) في شرحه لصحيح مسلم (7/ 135).
(2) في " المسند " (4: 220 - 221).
(3) في مسنده (2/ 226 رقم 1/ 925).
(4) (4/ 196 رقم 4124).
(5) (3/ 100). وقال الحافظ في " الإصابة " (1/ 409) إسناده صحيح.
(6) في " السنن " (1639).
(7) في " السنن " (5/ 100).
(8) في " السنن " رقم (681) وقال: حديث حسن صحيح.
(9) في صحيحه رقم (3388). وهو حديث صحيح.(7/3263)
وصححه من حديث سمرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر لا بد له منه ".
فهذا الحديث يدل على أنه يجوز السؤال لغير السلطان في الأمر الذي لا بد منه، فيكون هذا الحديث مقيدا لحديث النهي عن مطلق السؤال، وأيضا قد ثبت عند أحمد (1) وأبي داود (2)، والترمذي (3) وحسنه من حديث أنس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " المسألة لا تحل إلا لثلاثة، لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع ".
فهذا الحديث فيه جواز المسألة لهؤلاء الثلاثة من غير تقييد بكون ذلك السؤال لذي سلطان.
وإذا تقرر هذا فسؤال الأمير المتولي على بلد من البلدان جائز على كل حال، لأنه إن كان مفوضا من الإمام فيده كيد الإمام، وإن لم يكن مفوضا فهو من جملة من عنده من أموال الله التي وزعها بين عباده كما يقتضيه نص القرآن بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (4) الآية.
الطرف الخامس من أطراف السؤال
قوله: وإذا اجتمع أموال كثيرة من بلدان مغصوبة، نقد أو بر أو غيره من المأكول، وفيه شيء قدر الخمس من الزكاة مختلط به، وهذه الأموال مجهولة أربابه أو لم تجهل، وتعذر رده إليهم لعدم تميزه أو غير ذلك، فهل يحل أخذه للغني أو لا يحل للغني، ويحل
_________
(1) في " المسند " (3/ 114، 126، 127).
(2) في " السنن " رقم (1641).
(3) في " السنن " رقم (1218) وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث الأخضر بن عجلان. إسناده ضعيف لجهالة حال أبي بكر الحنفي، وللقطعة المذكورة هنا وهي قوله: " المسألة .... " شواهد تصح بها. .
(4) [التوبة: 60].(7/3264)
للفقير أو يحرم على الجميع؟.
أقول: هذه الأموال المغصوبة باقية على ملك أهلها، معصومة بعصمة الإسلام، لا يحل لأحد أن يأخذ منها شيئا؛ لأن ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، والله - سبحانه - يقول: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1) وصح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الصحيحين (2) وغيرهما (3) أنه قال: " إن دماءكم وأموالك عليكم حرام " وصح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " (4).
فهذه الأموال مهما كان أهلها معروفين كأهل قرية معينة، أو مدينة معروفة وجب دفعها إليهم، فمن عرف حقه وأقام عليه البينة أخذه، وإذا اختلط ببعض أخذ كل واحد قدر ملكه الذي ص له بالقسمة، ولا تخرج الأموال بالاختلاط أو بعدم معرفة نصيب كل واحد من المالكين على التعيين عن ملك أهلها، وهذا مما لا أظن أنه يقع فيه حلاف بين أهل العلم.
_________
(1) [النساء: 29].
(2) البخاري في صحيحه رقم (67) ومسلم رقم (1679).
(3) كأبي داود رقم (1948). كلهم من حديث أبي بكرة.
(4) أخرجه الدارقطني (3/ 26 رقم 91) وفيه الحارث بن محمد الفهري مجهول قاله الحافظ في " التلخيص "
(3/ 46). وأخرجه أيضًا الدارقطني (3/ 25 رقم 88) وفيه داود بن الزبرقان وهو متروك الحديث وقال الحافظ في " التلخيص " (3/ 46).
وأخرجه أحمد (5/ 72 - 72) والدارقطني (3/ 26 رقم 92).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (3: 265 - 266) وقال: " رواه أحمد , وأبو حرة الرقاشي , وثقه أبو داود، وضعفه ابن معين، وفيه علو بن زيد وفيه كلام ". وقال الحافظ في " التلخيص " (3/ 46) وفه علي بن زيد بن جدعان وفيه ضعف.
وأخرجه الدارقطني في " السنن " (3، 25 رقم 87) عن ابن عباس.(7/3265)
وإذا وقع في كتب الفقه ما يوهم خلاف هذا فالسبب عدم فهم الكلام على ما ينبغي فهمه عليه، فإن حصل الجهل للمالك على التعيين، ولكنه يعلم أن هذه الأموال هي أموال أهل القرية الفلانية فالواجب التخلية لينها وبين أهل تلك القرية - وعلى المتولي أمورهم، ومن كان من أهل العلم فيهم أن يجعلها - حيث لا مدعي على التعيين يدعيها في مصالحهم الدينية أو الدنيوية، أما إذا جهل مالك تلك الأموال جهلا كليا فلا يعرف شخصه ولا نوعه، ولاا ممن هو، ولا تبين أن تلك الأموال من أموال أهل المحلة الفلانية، ولا وجد من يدعي أنها له أو لقومه على وجه صحيح، فهذه الأموال هي التي يقال لها المظالم الملتبسة وهي من جملة أموال الله - سبحانه ه- ومن جملة بيت مال المسلمين والواجب على إمام المسلمين أو من كان صالحا منهم حيث لا إمام عندهم أن يصرف تلك الأموال في محاويج المسلمين، وإذا لم يكن ثم محاويج صرفها فيما يصلح أحوالهم من مصلح دينهم ودنياهم، وأهم المصالح وأحقها وأقدمها، وأولاها الجهاد في سبيل الله - عز وجل - وإذ تبين للإمام أو لمن هو صالح للقيام بأمور المسلمين مع عدم الإمام أن في تلك الأموال شيئا من الزكاة صرفه في مصارف الزكاة، وله أن يصرف في نفسه ما يجوز له تناوله.
وبالجملة فقد تبين بنصوص الشريعة مصرف كل نوع من أنواع الأموال، والعارف بموارد الشرع لا يخفى عليه مثل ذلك.
الطرف السادس من أطراف السؤال
قوله: فإن قلتم يحل لهما أو لأحدهما، فهل يحل طلبه من الأمير الذي هو في يده إذا كان مأيوسا من رده إلى أربابه أم لا؟.
أقول: جواب هذا الطرف قد تبين من جواب الطرف الذي قبله، ولا شك أن كل من يستحق الصرف إليه من نوع من أنواع الأموال يجوز ل أن يطلب ما يستحقه من الإمام، أو من الأمير الذي يتولى العمل من جهة الإمام، أو من الرجل الذي يصلح(7/3266)
للولاية حيث لا إمام ولا أمير من جهة الإمام، فلم يرد ما يدل على منع طلب ما هو حق أثبته الشرع، وإنما الممنوع السؤال من غير ذلك، أو سؤال من ليس لمستحق لذلك النوع، كسؤال الغني ونحوه أن يصرف إليه نوع من أنواع الزكاة، فإنه: " لا حق فيها لغني ولا لقوي مكتسب (1) ولا لهاشمي " (2)، وأما سائر أموال الله فمصارفها معروفة فقد كان العطاء في أيام اصحابة والتابعين وتابعيهم يصرف في المسلمين على اختلاف أنواعهم، ويأخذون منه على قدر منازلهم في القيام بأمور الدين (3)، وفي استحقاقهم
_________
(1) تقدم ذكر الحديث وتخريجه.
(2) أخرج مسلم في صحيحه رقم (168/ 1072) وأبو داود رقم (2985) والنسائي (5/ 105 - 106 رقم 2609) وأبو عبيد في " الأموال " رقم (842) والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (2/ 7) والبيهقي (7/ 31) وأحمد (4/ 166) عن المطلب بن ربيعة بن الحارث قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هن أوساخ الناس ".
وفي رواية " وإنها لا تحل لمحمد ولآل محمد ".
وانظر: الرسالة رقم (100) من " الفتح الرباني ".
(3) منها الخمس، الفيء، الخراج، الجزية، وعشر تجارة الكفار إذا دخلوا دار الإسلام، ومن مات من غير وارث، ومال من أيس من معرفته.
وقال القاضي بدر الدين بن جماعة في الأمور التي هي أصول بيت المال:
جهات بيت المال سبعتها ... في بيت شعر حواها فيه كاتبه
خمس وفيء خراج جزية عشر ... وارث فرد ومال ضل صاحبه
وهناك الزكاة والتبرعات، والوقف، والوصايا، والتعزيرات المالية.
انظر " الأشباه والنظائر " للسيوطي (ص 564). " الأحكام السلطانية " للماوردي (ص 193 - 194).
قال أبو عبيد في " الأموال " (ص 21 - 22): حكم الفيء والخراج والجزية واحد ويلتحق به ا يؤخذ من مال أهل الذمة من لعشر إذا اتجروا فيبلاد الإسلام وهو حق المسلمين يعم به الفقير والغني وتصرف منه أعطية المقاتلة وأرزاق الذرية وما ينوب الإمام من جميع ما فيه صلاح الإسلام والمسلمين.
وقال أبو عبيد في " الأموال " (ص 21): فأما الصدقة فزكاة أموال المسلمين من الذهب والورق، والإبل، والبقر والغنم، والحب والثمار فهي للأصناف الثمانية الذين سماهم الله تعالى، لا حق لأحد من الناس فيها سواهم، ولهذا قال عمر: هذه لهؤلاء.
وانظر: " فتح الباري " (6/ 269).(7/3267)
في أنفسهم، حتى كان يعطى كثير من أكابر الصحابة مائة ألف وأكثر من ذلك، وقد كان يخذ مثل الحسن بن علي، والحسين بن علي، وعبد الله بن جعفر، وأمثالهم من ذلك ما هو معروف فيما صح من كتب التاريخ والسير.
الطرف السابع من أطراف السؤال
قوله: وهل بين الإمام والأمير المفوض من جهته، وبين المتولي من جهة الصلاحية، مع عدم الإمام، فإنه يجوز لكل واحد منهم أن يصرف كل نوع من أنواع الأموال في مصارفه التي ورد الشرع بإثبات كونها مصارف، وإن كان ثم فرق بينهم من حيث كون ولاية الإمام أصلية صارت ثابتة له ببيعة المسلمين له، وكون ولاية الأمير مستفادة من الإمام , وكون ولاية الصالح للولاية من جهة الصلاحية مع عدم الإمام، ولكن اختلاف ولايتهم من هذه الحيثية لا يوجب اختلاف حالهم فيما يجب أن يضعوه في مواضعه، ويصرفوه في مصارفه.
الطرف الثامن من أطراف السؤال
قوله: وهل الصلاة في هذه المغصوبة، وفي بيوتها تصح أم لا؟.
أقول: الكلام في الصلاة بالمغصوب - كالثوب - وفي المغصوب - كالدار - قد طال الكلام فيه، وحرره أئمة الأصول وأئمة الفروع بما لا يخفى على عارف، وتحقيق الحق في مثل ذلك يطول، ويخرج بنا الكلام إلى مباحث لها ذيول.
والحق الحقيق بالقبول: أن على الغاصب إثم غصبه. وأما كون صلاته لا تصح(7/3268)
فلم يرد من الشرع ما يدل على ذلك (1)، أو يفيده؛ لأن عدم الصحة الشرعية لا يثبت إلا لفقد شرط، أو انخرام ركن، أو وجود مانع دل الشرع على أنه يمنع من الصحة، وفرق بين كون الشيء ممنوعا منه، وبين كون وجوده يؤثر في عدم الشيء، أو كون عدمه يؤثر في عدم الشيء، ثم الدليل المفيد ذلك لا يكون إلا بلفظ يفيد عدم صحة ذلك الشيء عند عدم ما هو معتبر فيه.
كأن يقول الشارع: لا تصح صلاة من فعل كذا، أو لا تصح صلاة من لم يفعل كذا، أو لا يقبل الله صلاة من فعل كذا - على ما في نفي القبول من النزاع المعروف بين أهل العلم - وحاصله:
هل نفي قبول الشيء يدل على نفي صحته أم لا (2)؟ كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " (3). ونحو ذلك مما يكثر تعداده.
_________
(1) قال ابن قدامة في " المغني " (2/ 476 - 477): وفي الصلاة في الموضع المغصوب روايتان: إحداهما، لا تصح، وهو أحد قولي الشافعي، والثانية، تصح. وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والقول الثاني، للشافعي، أن النهي لا يعود إلى الصلاة، فلم يمنع صحتها.
وانظر: " المجموع " (3/ 169).
(2) انظر: " الكوكب المنير " (3/ 91 - 93)، " الإحكام " للآمدي (2/ 188، 192)، " التبصرة " (ص 103).
(3) أخرجه أحمد (6/ 150) وأبو داود رقم (641) والترمذي رقم (377) وقال: حديث حسن. وابن ماجه رقم (655) وابن خزيمة في صحيحه رقم (755) والحاكم في " المستدرك " (1/ 251) وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه كلهم من حديث عائشة.
وهو حديث صحيح.
قال الشوكاني في " وبل الغمام " (1/ 251 - 252) إذا انتهض للاستدلال به على الشرطية فهو خاص بالمرأة، وقد عرفت مما سلف أن الذي ييتلزم عدمه عدم الصلاة أي بطلانها، هو الشرط أو الركن، لا الواجب فمن زعم أن من ظهر شيء من عورته في الصلاة، أو صلى بثياب متنجسة كانت صلاته باطلة فهو مطالب بالدليل، ولا ينفعه مجرد الأوامر بالستر أو التطهير، فإن غاية ما يستفاد منها الوجوب.(7/3269)
والظاهر من لغة العرب، ومن اصطلاح الشرع أن ما صرح الشارع بنفي صحته، أو بنفي جوازه، أو بنفي قبوله، فهو غير معتد به , ولا عتبر، ولا مسقط للطلب، وهكذا ما صرح الشارع بنفيه كقوله مثلا " لا صلاة لمن فعل كذا، أو لا صلاة لمن ترك كذا " إذا لم يرد ما يفيد صرف ذلك النفي إلى الفضيلة والكمال، فإن الظاهر أن هذا النفي يتوجه إلى الذات الشرعية، ولا اعتبار بالذات الموجودة في الخارج، لأنها ذات غير شرعية.
وبهذا يتضح لك عدم صحة قول من قال: إن النفي لا يصح أن يتوجه إلى الذوات، لأنها قد وجدت في الخارج، بل إنما يتوجه إلى الصحة أو إلى الكمال، وهما مجازان، وأقرب المجازين توجهه إلى الصحة، لأنه يلزم من عدمها عدم صحة الذات، وإنما قالوا هكذا لأنهم ظنوا أن الذات إذا قد وجدت في الخارج لم يصح نفيها.
ونحن نقول: ليس هذا النفي متوجها إلى مطلق الذات حتى ينافي وجود الذات في الخارج. بل هو متوجه إلى الذات الشرعية وهي لم توجد في الخارج، وإنما وجد في الخارج ذات غير شرعية.
نعم ومن جملة ما يفيد عدم الصحة الشرعية النهي عن فعل الشيء إذا كان النهي متوجها إلى ذاته، أو إلى جزئه، لا إذا كان متوجها إلى أمر خارج عنه، فإن ذلك لا يفيد عدم صحة تلك الذات ... وإذا عرفت هذا كما ينبغي، عرفت ما يوجب بطلان العبادة من الأدلة، وما لا يوجبها. وقد أوضحت هذا المعنى، وقررته في مؤلفاتي (1) تقريرا
_________
(1) انظر " نيل الأوطار " (2/ 132 - 140). " وبل الغمام " (1/ 251 - 252).
وقال الشوكاني في " السيل الجرار " (1/ 158): " لأن مجرد الأوامر فغاية ما يدل عليه الوجوب، والواجب ما يستحق فاعله الثواب بفعله والعقاب بتركه، وذلك يستلزم أن يكون ذلك الواجب شرطا، بل يكون التارك آثما، وأما أنه يلزم من عدمه العدم فلا.
وهكذا يصح الاستدلال على الشرطية بالنهي الذي يدل على الفساد والمرادف للبطلان إذا كان النهي عن ذلك الشيء لذاته. أو لجزئه، لا لأمر خارج عنه، إذا عرف هذا علمت أن طهارة البدن من الحدثين الأصغر والأكبر شرط لصحة الصلاة لوجود الدليل المقيد للشرطية، وأما طهارته من النجس فإن وجد دليل يدل على أنه لا صلاة لمن صلى وفي بدنه نجاسة , أو لا تقبل صلاة من صلى وفي بدنه، أو وجد نهي لمن في بدنه نجاسة أن يقرب الصلاة وكان ذلك النهي يدل على الفساد المرادف للبطلان، صح الاستدلال بذلك عن كون طهارة البدن عن النجاسة شرطا لصحة الصلاة، وإلا فلا، وليس في المقام ما يدل على ذلك ".
ثم قال الشوكاني في " السيل الجرار " (1/ 377): " لا شك أم من صلى في مكان مغصوب أو استعمل شيئا مغصوبا فقد فعل محرما ولزمه إثم لحرام، وأما كون ذلك يمنع من صحة الصلاة فلا بد فيه من دليل خاص كما قدمنا ...
وما قيل من أنه عصى بنفس ما به أطاع فغير مسلم، ولو سلم لم يكن دليلا على عدم صحة الصلاة المفعولة في المكان المغصوب ".(7/3270)
بالغا، لأنه يخفى على كثير من المشتغلين بالعلم، ومثل هذا المقام لا يتسع لبسط ذلك كما ينبغي، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق.
كبته المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -. اهـ.(7/3271)
بحث في تحريم الزكاة على الهاشمي
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(7/3273)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: (بحث في تحريم الزكاة على الهاشمي).
2 - موضوع الرسالة: فقه الزكاة.
3 - أول الرسالة: " الحمد لله - سبحانه - وصلى الله على سيدنا محمد وأله وسلم.
حفظكم الله تعالى , وكثر فوائدكم، وأعاد على منجلي العلم الشريف عوائدكم، وجعل الأعمال والأقوال خالصة لوجهه، فهو ولي التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل ... ".
4 - آخر الرسالة: بما يستخرج من أصوله المستورة بالتراب وفي هذا المقدار كفاية والله ولي التوفيق، كتبه المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
5 - عدد الصفحات: 26 صفحة.
6 - عدد الأسطر في الصفحة: 13 سطرا.
7 - عدد الكلمات في السطر: 8 - 9 كلمات.
8 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
9 - الأسئلة بخط السائل، أما الجواب فبخط المؤلف.
10 - ملحوظة: في نهاية الرسالة فائدة بخط العلامة الحسين بن يحيي الديلمي.
11 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(7/3275)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله - سبحانه - وصلى الله على سيدنا محمد وأله وسلم.
حفظكم الله تعالى , وكثر فوائدكم، وأعاد على منجلي العلم الشريف عوائدكم، وجعل الأعمال والأقوال خالصة لوجهه، فهو ولي التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل، وأتحفكم بسلامه الجزيل.
مسألة الزكاة المفروضة فيما وجبت فيه، رأينا كثيرا في زماننا وأغلب ما رأيناه في عامة العوام في مثل بلاد القبائل الطغام من حاشد (1) وبكيل (2) وغيرها من جهات القبلة وغيرها، رأينا من قد لا يصلي إلا نادرا، أو لئلا يقال: إنه قاطع صلاة، ولا يصوم إلا لمثل هذا. وقد يتجاسر على تركه ظاهرا، والحج لا يخطر له ببال، وشهادة لحق مشوبة بالشرك عنده بالعقائد الملعونة في الأولياء وغيرهم.
ومع هذا فالأكثر متجاسر على الطاغوت، ونهب المساكين، وقطع السبل، وقتل
_________
(1) حاشد: إحدى كبريات قبائل همدان تنسب إلى حاشد بن جشم بن حبران بن نوف بن همدان بن مالك بن زيد بن أوسله بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ.
وهي قبيلة عظيمة، وتشمل أراضيها جبال الأهنوم وظليمة وعذر والعصيمات وخارف وغيرها وتنقسم " حاشد " إلى أربعة أقسام: صريمي وخارفي وعصيمي وعذري.
انظر: " معجم البلدان والقبائل اليمنية " (ص 143 - 144).
(2) بكيل: قبيلة مشهورة من همدان من ولد بكيل بن جشم أخو حاشد بن جشم بن خيوان بن نوف بن همدان بن مالك لن زيد بن أوسله ....
وتنقسم إلى أربعة فروع: أرحب، نهم، مرهبة، شاكر ... وبالتالي فإن قبيلة بكيل تحتل الجزء الشمالي الشرقي من صنعاء.
وبكيل: قبيل بآنس ديارهم شمال ضوران.
وبكيل: قبيل ووطن في سارع من أعمال المحويت.
وبكييل المير: نحية من قضاء وشحة أعمال حجة. "
معجم البلدان اليمنية " (ص 83 - 84).(7/3281)
النفس لا يمنعه إلا عدم الإمكان، وغير ذلك من تعدي حدود لله، وأما الزكاة فيتجرأ فيها، ويصرح أن ذلك لئلا يخلف ماله في المستقبل، أو يقع عليه جائحة بسببها في أهل، أو مال، ولا يريد بما أداه منها أداء الفريضة التي افترضها الله عليه، ولا القربة، وقليلا جدا من رأيناه منهم يسلمها ويقول: هي فريضة واجبة، ونحو هذا، لكن أما أنه يسلم من شائبة مما ذكر , ولو كان سالما من الأكثر، فلا يخلو من مثل خيفة خلف المال.
فهل مثل هذه الزكاة ممن ذكر حكمها حكم الزكاة في مصيرها في مصرفها الشرعي؟ وتحريمها على الهاشمي والغني أو لا؟ ولها حكم غير ذلك.
أما ما أخذه المصدق، وذو الولاية، ومن له شوكة وبيده الأمر، فلعله يصير المفترض منها حكمه حكم الزكاة، لكن كيف وبما يعلم أنه راد على مقدار الزكاة، كما ينفق ذلك فهذا الزائد ما حكمه؟.
ثم زكاة الهاشمي للفقير الهاشمي، ما المتقرر عندكم؟ وقد علم الخلاف في ذلك، غنما المراد ما يرجح لديكم.
ثم ما قيل من حل زكاة غير الهاشمي للهاشمي كذلك، قد عرف، وما عندكم في ذلك، والسائل معتقده التحريم.
وثمة أعجوبة لمن تصفحها، وقد تصفحناها أنك ترى التشديد الكلي من كل أخذ على الهاشمي، وأنها محرمة عليه؛ لورود الدليل، وهو الحق. وأما الغني فقل من تسمع، من تنقم ذلك عليه، أو يتوجع، مع أن تحريمها عليه ما نعلم بخلاف فيما أظن، وإن شاع للإمام إنالة أحد الأغنياء كثيرا من يقبض الزكاة مثل أهل القطع، ويجري عليه من أولي الأمر عادته من ذلك، ويقال: قد كان هذا من إمام سابق لمن سبق آثار هذا القابض إجراء للعادة فقط، ولا يدري أو يدري، لكن لا ينظر كيف ترجيح الإمام(7/3282)
الأول لذلك، ولا أنه جعل ذلك لوجه قد بطل في الآخر، فيقضي العجب من عدا غايته.
والزكاة هل في الحبوب فقط؟ فما يقال في العنب والزبيب، أو في كل ما أنبتت الأرض، وحملت الأشجار، فتكون في مثل البرقوق، والفرسك، وسائر الفواكه.
ومن الفوائد العائدة على أهلها شيء لا ينبت، وإنما يبقى تحت الأرض، ويستخرج منها، فما حكمه؟ وذلك كالهرد، فإنا رأيناه في بلاد الشرف ما يحسب أن في البقعة شيئا، إنما هو تحت التراب، ويبقى مدة معروفة عندهم، ويباع بأثمان نفعه، فهل مثل هذا له زكاة كزكاة المنبت أم لا؟.
- والله لا خلى عنكم - آمين.(7/3283)
الحمد لله رب العالمين:
الجواب - وبالله الثقة، وعليه التوكل، ومنه استمداد الإعانة - أن الزكاة المفروضة قد جاء القرآن الكريم بتعيين مصارفها، بصيغة تقتضي الحصر، وهي (1) إنما التي وقع الاتفاق بين أئمة البيان والأصول والنحو على اقتضائها لذلك، ثم وردت السنة المطهرة المتواترة تواترا معنويا يجب على كل مسلم العمل به، ويحرم عليه مخالفته: " أن الصدقة لا تحل لمحمد وآل محمد " (2)، فكان هذا النص المتواتر مقيدا للآية الكريمة المصرحة بمصارف الزكاة، فتكون الصدقات الواجبة مصروفة في الفقير الذي ليس من آل محمد، وكذلك
_________
(1) قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].
(2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (168: 1072) وأبو داود رقم (2985) والنسائي (5/ 105 - 106 رقم 2609) وأبو عبيد في " الأموال " رقم (842) عن المطلب بن ربيعة بن الحارث.
وهو حديث صحيح وقد تقدم.
ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1491، 1485) ومسلم في صحيحه رقم (1069) عن أبي هريرة مرفوعا، وفيه: " إنا لا نأكل الصدقة " وفي لفظ: " إنا لا تحل لنا الصدقة ".
ومنها ما أخرجه أحمد في " المسند " (6/ 8 - 9) وأبو داود رقم (1650) والنسائي (5/ 107 رقم 2612) والترمذي رقم (657) وقال: حديث حسن صحيح. وابن خزيمة في صحيحه رقم (2344) من حديث أبي رافع: " أن الصدقة لا تحل لنا، وإن مولى القوم من أنفسهم ".
ومنها: ما أخرجه أحمد (9/ 73 رقم 1120 - الفتح الرباني) والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (2/ 6) من حديث الحسن بن علي: " لا تحل لآل محمد الصدقة ".
ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2055) ومسلم رقم (1071) عن أنس رضي الله عنه قال: مر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتمرة مسقوطة، فقال: " لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها ".
ومنها: ما أخرجه الترمذي رقم (656) والنسائي (5/ 107 رقم 2613) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: " كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أتي بشيء سأل عنه: أهدية أم صدقة. فإن قيل: صدقة، لم يأكل وإن قيل هدية، بسط يده ". وهو حديث حسن.(7/3284)
بقية المصارف، لأن نفي لحل لآل محمد ورد تارة عاما، وتارة مطلقا؛ فيفيد أنها لا تحل لهم على كل حال، فلا بد أن يكون كل صنف من الأصناف التي لم يأت فيها تخصيص، ليس بمتصف بوصف كونه من آل محمد. ومن ادعى أنها تحل لمن كان من آل محمد إذا كان مثلا عليلا، ومؤلفا فهو مطالب بالدليل الصحيح المفيد لتخصيص دليل التحريم المتواتر، ولم يكن في شيء من الأمهات والمسانيد والمجاميع الموضوعة لجمع الأحاديث النبوية ما يفيد ذلك، ذلك فيما أعلم بل فيها التصريح بما يقوي تعميم التحريم، وهو امتناعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من تولية المطلب بن ربيعة بن الحارث، والفضل بن العباس على الصدقات، بعد أن سألاه ذلك، كما في الصحيح معللا ذلك بقوله: " إنما هذه الصدقات أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد وآل محمد " (1).
فالحاصل أن تحريم الزكاة على آل محمد قطعي من قطعيات الشريعة، ولم يأت من رام القدح في قطعيته بشيء يصلح للتمسك به. وقد أطال العلامة الجلال في رسالته " المقال "، ولكنه في غير طائل، وهكذا جاء في شرحه للأزهار بطرف من ذلك (2)، والكل منهار، وليس هذا موضع بيان تزييفه (3). وقد تعقبه في ذلك من تعقبه من المعاصرين له (4)، فمن بعدهم بما فيه كفاية، مع احتمال تلك المقامات والمقالات التي أدخل نفسه في مضايقها
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) انظر " ضوء النهار " (2: 333 - 334).
(3) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (1: 810): الأدلة المتواترة تواترا معنويا قد دلت على تحريم الزكاة على آل محمد، وتكثير المقال وتطويلي الاستدلال في مثل هذا المقام لا يأتي بكثير فائدة وقد تكل الجلال في " ضوء النهار " (2/ 333 - 334) في شرحه في هذا الموضع بما يضحك منه تارة ويبكى له أخرى وجمع بين المتردية والنطيحة وما أكل السبع، وبحثه في رسالته التي أشار إليها من جنس كلامه الذي أورده هنا، وكل ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع.
(4) انظر تعقيب الصنعاني في " منحة الغفار على ضوء النهار ".(7/3285)
الرد عليه، وتزييف كلامه، وتبيين فساده.
وإذا تقرر ما ذكرناه من كون التحريم قطعيا فاعلم أن كون من عليه الزكاة مخلا بشيء مما أوجب الله عليه، أو تاركا لفرض من فرائض الإسلام، أو لركن من أركانه لا يوجب تحويل المصرف الذي جعل صرف الزكاة إليه إلى مصرف آخر، ولا يحلل الزكاة لمن حرمها الله عليه؛ فإن الله - سبحانه - قد أوجب على من عصاه بذنب عقوبات معروفات، منها ما هي دنيوية، ومنها ما هي أخروية، فمن مثلا متساهلا في الصلاة فالواجب على كل مسلم أن يأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، ويحمله على القيام بما أوجب الله عليه طوعا أو كرها، وليس لمن كان غير مصرف للزكاة كالأغنياء، وبني هاشم أن يقولوا به، ونخون الله في بعض ما حرمه علينا، فنأكل زكاة هذا المتساهل في بعض الصلاة، فإن هذا من تشفيع معصية بمعصية، وذنب بذنب، وبلية ببلية.
وما مثل هذا الغني أو الهاشمي لذي أقدم على أكل زكاة من عصى الله بذنب أو ذنوب إلا مثل بعض أعوان سلاطين الدنيا إذا عثر على خيانة للسلطان من بعض الأعوان فخانه مثل تلك الخيانة قائلا: قد سبقه إلى الخيانة فلان فاقتدى به، والكل معصية للسلطان، وخيانة له، وجناية عليه، وهكذا ما نحن بصدده هو خيانة لله، ومعصية له، وتعد لحدوده، فإن زكاة ذلك العاصي قد جعلها الله لمصارف معروفة معينة، فهي حق لهم، وليست بحق للعاصي، فمن أكلها ممن لا تحل له فقد أكل أموال مصارف الزكاة وظلمهم، وجنى عليهم، ولم يأكل مال ذلك العاصي التارك لبعض ما أوجبه الله عليه، فما ذنب هؤلاء المصارف حتى يأكل أموالهم من منعه إليه من أكلها، فإن قال من حرم الله عليه الزكاة أنه استحل هذه الزكاة عقوبة لمعصية المزكي، فيقال له: هذا باطل من وجوه:
الأول: إن هذه العقوبة بالمال واردة على خلاف الأصول الشرعية، فبقر حيث وردت، وذلك في جزئيات معروفة(7/3286)
الوجه الثاني: أن المعاقبة بالمال ليست إلى كل فرد من أفراد المسلمين، بل هي إلى أئمة المسلمين، ولو كانت مفوضة لكل فرد لأكل الناس أموال بعضهم البعض بهذه الذريعة، وهتكوا حرمة الأملاك المملوكة بهذه الوسيلة الشيطانية.
الوجه الثالث: أن هذا الذي لا تحل له الزكاة لو فرضنا أن له ولاية تسوغ التأديب بالمال , وفرضنا أن الذي عليه الزكاة قد افترق ذنبا من الذنوب التي جاءت الشريعة بجواز التأديب فيها بالمال، فغاية ما هناك أن له تأديب العاصي على تلك المعصية بأخذ شيء من ماله، وأما تأديبه بأخذ مال غيره، وهم المصارف الذين جعل الله هذه الزكاة لهم فليس ذلك من هذا الباب، بل من باب الظلم البحت، والطاغوت المتيقن.
فإن قال المستحل لهذه الزكاة: إن صاحبها لما عصى الله بذنب أو ذنوب صارت زكاته غير زكاة شرعية، فيقال له: ليس هذا إليك، ولا أمرك الله به، بل الذي أمرك الله به هو أن تأخذ على يد هذا العاصي، وتحول بينه وبين عصية الله، وتأمره بالقيام بما أوجب الله عليه وفاء بما أوجبه الله عليك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تعمد إلى ما قد قام به مما أوجبه الله عليه، فتضعه في غير موضعه الذي وضعه الله فيه، وتصرفه في غير مصرفه الذي صرفه الله إليه، فإن هذا منكر، معاونة للشيطان، لأنه أوقعه في بعض الذنوب ففعلها، أو سول له ترك بعض الواجبات فتركها، وأنت عمدت إلى ما قد قام به مما أوجبه الله عليه فوضعته في غير موضعه، فظلمته بوضع زكاته في غير موضعها، وظلمت المصارف، وحلت بينه وبين ما جعله الله لهم، فكنت عاصيا من جهات:
الأولى: بمخالفة التحريم القطعي.
الثانية: بظلم المزكي.
الثالثة: بظلم المصارف.
فانظر ما صنعت بنفسك، وفي أي هوة وقعت يا مسكين، فإن كنت تظن أن(7/3287)
الله إنما حرم عليك أوساخ المؤمنين، ولم يحرم عليك أوساخ الفسقة والعصاة المتلوثين بالذنوب، فقد ركبت شططا، وسلكت غلطا، ولو فرضنا أن هذا الذي أخرج الزكاة قد ارتكب من المعاصي ما يوجب انسلاخه عن الدين بإجماع المسلمين، وصار في عداد المرتدين، فالذي يجب علينا حينئذ أن نعامله معاملة المرتدين في النفس والمال، فنطالبه بالإسلام، فإن قبل فذاك، وإن أبى فالسيف هو الحكم العدل، وهذ هو الذي أوجبه الله علينا، وطلبه منا، وليس لنا أن نعمد إلى ما قد أخرجه من ماله باسم الزكاة فنأخذه ونقرره على كفره، ونوهمه أن ذلك الذي أخرجه زكاة، وأنه من المسلمين، فإن هذا الذي أخرجه على فرض أنه ليس بزكاة شرعية هو تمليك منه لمصارف الزكاة، أو إباحة لهم، والتمليك من الكافر والإباحة صحيحان بإجماع المسلمين، فكيف يحل لنا أن نظلمهم بأخذ ما قد استحقوه بالتمليك، أو الإباحة، وهذا إنما هو على طريقة التنزل، وإرخاء العنان في المناظرة وإلا فنحن نعلم أن هؤلاء العصاة لو خبطوا بأسواط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لقاموا بجميع ما أخلوا به، فضلا عن يمدوا أعناقهم للسيف، ويصروا على الكفر بعد الاستتابة، بل لو وجدوا من يعلمهم معالم الدين، ويبذل نفسه للهداية، ويصبر نفسه معهم، ويقرعهم بالقوارع التي في كتاب الله، وسنة رسوله، ويرغبهم برغائب الوعد للمطيعين، ويرهبهم بالترهيبات التي رهب الله بها العصاة لما شذ عن الإجابة إلا القليل، لأنهم يثبتون لأنفسهم الإسلام، وينفون عنها الكفر من نسبة ذلك إليه، وينفرون عنه، فليسوا ممن شرح بالكفر صدرا، بل لو قيل لأحدهم إنه كافر لقامت عليه القيامة، وقابل من رماه بذلك بكل حجر ومدر.
وهذه المقامات التي هن مقامات التكفير، هو مزالق الأقدام، ومزلات أنظار الأعلام، فمن أقام نفسه فيها، وحكم على بعض من ينتمي إلى الإسلام بالكفر، فقد تعرض لأمر عظيم، وأدخل نفسه في مدخل وخيم، فإن أسباب الكفر بعيدة المدارك مظلمة المسالك، ومن دخل في شيء من هذه القوانين التي يتعامل بها البدو المسماة عندهم تارة بالمنع، وتارة بالشرع لا يكفر بمجرد الدخول في ذلك، حتى يعلم أن تلبسه(7/3288)
بذلك يخرجه عن الإسلام، ويلحقه بالكفار الحربيين الذي كفرهم أشد من كفر اليهود والنصارى، فلا بد ههنا من أمرين:
الأول: أن تتيقن أن ذلك الذي دخل فيه سبب من أسباب الكفر.
الثاني: علمه بذلك حتى يكون ممن شرح بالكفر صدرا، ودون الأمرين مهمامه، فيح تتعثر فيها أقدام المحققين، وتخرس عن وصف بلاقعها ألسن المبرزين.
وهكذا من كان متلبسا من العوام بالعقائد الباطلة في حي أو ميت، فلا بد من الأمرين المتقدمين، ودونهما ما وصفنا من صعوبة المدرك، وفظاعة المعترك، ولو قام أهل العلم بما أخذه الله عليهم من البيان، وقام أهل الأمر بما أوجبه الله عليهم في محكم القرآن، وقام سائر المسلمين بما أمرهم الله له من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لما وجد على ظهر الأرض الإسلامية من يتلبس بسبب من أسباب الكفر، فإن لعوام أقرب الناس إلى قبول الهداية، ومن كان منهم غير قابل لها باللسان فهو يقبلها بالسنان.
وإذا تبين لك صعوبة مسلك الكفر، وحزونة أسبابه , واشتراط العلم الذي لا يكون شرح الصدر بدونه، ولا يتحقق إلا بعد وجوده لاح لك أن أولئك المسئول عن حكم زكاتهم ليسوا إلا من عصاة المسلمين، ولكن معاصيهم مختلفة في كون بعضها أشد من بعض، وكل شيء مما يفعلونه من أسباب الكفر على فرض مباشرتهم لشيء منها ليس من الكفر المتفق عليه، بل من قال إنه سبب يوجب الكفر فهو يشرطه بشروط يبعد كل البعد وجودها في من ينتمي إلى الإسلام، ويدعي أنه من أهله، فإن من خالف قطعيا من قطعيات الشريعة كقطع ميراث بعض من ثبت توريثه بدليل قطعي لا يكفر عند من قال بكفره إلا بعد أن يعلم تلك القطعية، ويصر على مخالفتها، إما استحلالا، أو استخفافا. وأين من يعلم قطعية الدليل من هؤلاء البدوان، فضلا عن ما وراء ذلك. فتلخص من هذا أن المزكي من أهل المعاصي يجب صرف زكاته إلى المصارف الشرعية، ولا يحل لأحد ممن لا تحل له أن يتناول شيئا منها. وهكذا من فعل سببا من أسباب الكفر المختلف فيها لا يحل لأحد أن يحكم بكفره إلا بعد قيام ........................(7/3289)
البرهان على الكفر (1)، ولا بد بعد قيام البرهان على أن ذلك سبب من أسباب الكفر أن
_________
(1) قال الشوكاني في " السيل " (3/ 783 - 785): اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإن ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن: " من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما " أخرجه البخاري رقم (6103).
وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما: " من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا خار عليه " أي رجع - البخاري رقم (6045) ومسلم رقم (112/ 61) من حديث أبي ذر - ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن السراع في التكفير. وقد قال عز وجل: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106]. فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه، فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشرك لا سيما مع الجهل بمخالفته لطريقة الإسلام.
ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر، ولا اعتبار بلفظ يلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه.
فإن قلت: قد ورد في السنة ما يدل على كفر من حلف بغير ملة الإسلام، وورد في السنة المطهرة ما يدل على كفر من كفر مسلما كما تقدم. وورد ي السنة المطهرة إطلاق الكفر على من فعل فعلا يخالف الشرع كما في حديث: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " - أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6785) ومسلم رقم (66) - ونحوه مما ورد مورده وكل ذلك يقيد أن صدور شيء من هذه الأمور يوجب الكفر وإن لم يرد قائله أو فاعله به الخروج من الإسلام إلى ملة الكفر. قلت: إذا ضاقت عليك سبل التأويل ولم تجد طريقا تسلكها في مثل هذه الأحاديث فعليك أن تقرها كما وردت وتقول من أطلق عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسم الكفر فهو كما قال , ولا يجوز إطلاقه على غير من سماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المسلمين كافرا إلا من شرح بالكفر صدرا، فحينئذ تنجو من معرة الخطر وتسلم من الوقوع في المحنة.
فإن الإقدام على ما فيه بعض البأس لا يفعله من يشح على دينه ولا يسمح به فيما لا فائدة فيه ولا عائدة، فكيف إذا كان يخشى على نفسه إذا أخطأ أن يكون في عداد من سماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كافرا. فهذا يقود إليه العقل فضلا عن الشرع، ومع هذا فالجمع بين أدلة الكتاب والسنة واجب، وقد أمكن هنا بما ذكرنا، فتعين المصير إليه، محتم على كل مسلم أن لا يطلق كلمة الكفر إلا على من شرح صدرا ويقصد ما ورد مما تقدم على موارده وهذا الحق ليس به خفاء فدعني من بنيات الطريق:
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضح(7/3290)
يكون المرتكب له عالما بأنه كفر، شارحا به صدره، مصرا على البقاء عليه، غير راجع عنه، وبعد أن يتقرر كفره لا يحل لأحد أن يعمد إلى ما قد أخرجه من ماله، وخرج ملكه إلى مصارفه الشرعية، فإن تلك القطعة من ماله قد أخرجها باسم الزكاة لمصارفها، فإذا لم يكن زكاة لمانع فيه كانت إباحة لمصارف الزكاة دون غيرهم، وذلك منه صحيح لا مانع عنه، فمن أخذها فقد ظلم المصارف؛ لأن الإباحة لهم لا لغيرهم. وقد خرجت عن ملك مالكها.
وعلى فرض أنه يصح الرجوع عن الإباحة فالذي يجوز له الرجوع فيها هو مخرجها لا غيره. ولا يقدح في ذلك كون الذي أخرجها إنما أخرجها لغرض دنيوي، كاعتقاده أنه لا يأتي له ثمرة كاملة في ماله إلا بإخراج الزكاة، فإنه إنما أخرجها هاهنا إلى قوم هم أهلها ومصارفها، لأن ما يعتقده من كمال الثمرة، وحصول البركة إنما يكون بالصرف إلى المصارف، لا إلى غيرهم , وهذا أعني: التعويل على أنها كالإباحة لقوم معينين إنما هو بعد تسليم الكفر الصراح، والردة البحت، وانتفاء الشبهة، وارتفاع حكم الإسلام بالمرة.
وأما مع عدم كذلك فهي زكاة بلا شك، ولا شبهة، وإن كان كثير المعاصي، مسرفا على نفسه كلية الإسراف. وما ذكره السائل - كثر الله فوائده - في الغني فهو كما قال، ودليل تحريم الزكاة على الغني قطعي في الأصناف التي ورد اعتبار الفقر فيها بنص الكتاب، أو بصحيح السنة، أو بإجماع المسلمين , وأما الأصناف التي لم يعتبر فيها الفقر فمن كان من أهلها فهي حلال له من تلك الحيثية التي سوغها الشارع له، كالعامل عليها، والمؤلف منها، والغارم.
وبالجملة فجميع ما قدمنا من الكلام ليس بخاص ببعض من تحرم عليه الزكاة دون(7/3291)
بعض، بل هو كلام من كل من تحرم عليه الزكاة. وقد حاول جماعة من علماء السوء وشياطين المتفيهقين تحلي هذه الصدقة التي تولى الله - سبحانه - تعيين مصارفها؛ فجعلوا فيها نصيبا لغير من عينه الله بدسائس إبليسية، ووسائل طاغوتية، والكل من التقول على الله بما لم يقل , وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وأما ما ذكره السائل - كثر الله فوائده - من زكاة الهاشمي للهاشمي، هل تحل أم لا؟.
فأقول: لا شك أنه يصدق عليها اسم الصدقة، وقد قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الثابت في الصحيح، بل المتواتر: " إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة " (1)، وفي لفظ: " إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد " (2)، وفي لفظ: " إنا لا نأكل الصدقة " (3)، وكلها ثابتة في الصحيح , ولا شك أيضًا أن بني هاشم من الناس. وقد علل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - تحريمه الصدقة عليهم بأنها أوساخ الناس (4) فلا تحل صدقة هاشمي لهاشمي؛ لأن العلة موجودة، وهي كون تلك الصدقة من أوساخ الناس.
وأما ما استدل به القائل بجواز زكاة الهاشمي للهاشمي من حديث العباس الذي أخرجه الحاكم في النوع السابع والثلاثين (5) من علوم الحديث، بإسناد جميع رجاله من بني هاشم العباسيين، أن العباس بن عبد المطلب قال: قلت ت: يا رسول الله، إنك حرمت علينا صدقات الناس، هل تحل لنا صدقات بعضنا لبعض؟ قال: " نعم ". فهذا الحديث لو صح لكان دليلا واضحا صالحا لتخصيص ذلك العموم، ولكنه لم يصح (6)، بل قد اتهم به
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(3) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(4) تقدم ذكره وتخريجه وهو حديث صحيح.
(5) بل في التاسع والثلاثين (ص 175).
(6) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (1/ 812): فهذا الحديث قد اتهم به بعض رواته كما ذكره الذهبي في " الميزان " وفيهم من لا يعرف فلا يصلح للتخصيص.(7/3292)
بعض رواته. وقد أطال الكلام على ذلك صاحب الميزان، ومن الغرائب أن الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير (1) - رحمه الله - قال - بعد سياقه لهذا الحديث - ما لفظه: وأحسب له متابعا لشهرة القول به، قال: والقائل به جماعة وافرة من أئمة العترة، وأولادهم، وأتباعهم، بل ادعى بعضهم أنه إجماعهم , ولعل توارث هذا بينهم يقوي الحديث. انتهى. وصدور هذا الكلام من مثل هذا الإمام من أعجب ما يطري الأسماع، فإنه بعد اعترافه بأنه اتهم به بعض رواته عول على مجرد الحسبان بأن لذلك الراوي متابعا، وهذا الحسبان لا يجوز التعويل عليه، ولا التمسك به بإجماع المسلمين، بل لو كوشف هذا العلامة - رحمه الله - عن هذا لما خالف، فإن الحسبان لو كان حجة ومستندا لقال من شاء ما شاء، فما يعجز من جاء بحديث في إسناده كذاب أو وضاع قد اتهم به أن يقول: أحسب أن له متابعا، ويكون هذا الحسبان حجة له على الناس، وهذا من غرائب التعسفات، وعجائب الكبوات.
وأما تعليل هذا الحسبان بأن القائل به كثير فليست الكثرة دليلا على الحق بإجماع المسلمين، على أنه لا كثرة هاهنا، بل القائل بذلك بالنسبة إلى المخالفين له نزر يسير، وعدد حقير، ولم أسمع إلى الآن من جعل ذهاب طائفة من الناس إلى قول من الأقوال دليلا على أن ذلك القول حق، وأن دليله صحيح، فاعتبر بهذا من مثل هذا الإمام، واجعله زاجرا لك عن التقليد، وليس مقصودنا من هذا الإزراء عليه - رحمه الله - فهو إمام الناس في التبحر في جميع المعارف، والوقوف على الدليل، وعدم التعويل على ما يخالفه من القال والقيل. وقد نفع الله به من جاء بعده، ولكن المعصوم من عصمه الله، وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك، وما أردت بهذا التنبيه إلا تحذير أهل العلم عن إحسان الظن بعالم من العلماء، حتى يفضي هذا الإحسان إلى تقليده في كل ما يأتي ويذر، واعتقاد أنه محق في كل إيراد وإصدار، فهذه رتبة ما فاز بها إلا المعصومون
_________
(1) عزاه إليه الأمير الصنعاني في " منحة الغفار " (2/ 341).(7/3293)
فحسب.
ومن العجائب أيضًا ما ذكره - رحمه الله - في آخر كلامه السابق من أن بعضهم قد ادعى أنه إجماع أئمة العترة، ولا شك أن هذه الدعوى من أبطل الباطلات، فإن القائل بذلك بالنسبة إلى من لم يقل به هو القليل النادر، وكيف يصح دعوى إجماع العترة، والقاسم، والهادي، والناصر، والمؤيد بالله وأتباعهن، وهم جمهور العترة خارجون عنه، وهذه كتب العترة وأتباعهم موجودة على ظهر البسيطة، وأعجب من هذا قول العلامة محمد بن إسماعيل الأمير - رحمه الله - في المنحة (1) أنها سكنت نفسه إلى هذا الحديث بعد وجدان سنده، وما عضده من دعوى الإجماع، فيا الله العجب من مثل هذا السكون لمجرد وجدان السند، ودعوى الإجماع! فإن وجدان السند يكون في الموضوع كما يكون في الصحيح، وليس من وجد سند حديث من دون بحث عن حاله، وكشف عن رجاله، وجد نفسه ساكنة إليه عاملة به، فإن هذا ليسم من الاجتهاد في شيء، بل من الوساوس الفاسدة، والتشهيات الباطلة، وهكذا قوله: ودعوى الإجماع؛ فقد جعله جزء علة السكون، ويالله العجب كيف تجري بمثل هذا أقلام العلماء المتقيدين بالدليل! فإن الدعاوي إذا لم تعضد بالبراهين فهي أكاذيب، وهذه الدعوى من بينها، أوضح كذبا وأظهر بطلانا، وأبين اختلالا.
وأما ما ذكره السائل - كثر الله فوائده - من زكاة الخضروات.
فأقول الأدلى العامة من الكتاب والسنة قد دلت على وجوب الزكاة فيها، كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (2) فإن الأموال تعم، وما خص من هذا العموم خرج، وذلك كحديث: " ليس على المرء في عبده، ولا في بيته صدقة " (3)، ونحو ذلك.
_________
(1) في " منحة الغفار على ضوء النهار " (2/ 341 - 342).
(2) [التوبة: 103].
(3) أخرجه البخاري في صحيحه (1436) و (1464) ومسلم رقم (8 - 9/ 982) وأبو داو رقم (1595) والترمذي رقم (628) والنسائي (5/ 35). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(7/3294)
ومن جملة العمومات حديث: " فيما سقت الأنهار والغيم العشر وفيما سقي بالسانية نصف العشر " (1) وهو في الصحيح، وفي لفظ: " فيما سقت السماء والعيون، أو ما كان عثريا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر " (2)، وهو أيضًا في الصحيح، وقد قال من لم يوجب الزكاة في الخضروات أنها مخصصة من العموم بحديث عطاء بن السائب قال: أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طلحة من الخضروات صدقة، فقال له موسى بن طلحة: ليس لك ذلك، إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يقول " ليس في ذلك صدقة ".
رواه الأثرم في سننه، وأخرجه الدارقطني (3) والحاكم (4) من حديث إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عمه موسى بن طلحة، عن معاذ بلفظ: " وأما القثاء، والبطيخ، والرمان، والقضب فعفو عفا عنه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ". قال ابن حجر (5): وفيه ضعف وانقطاع. وروى الترمذي (6) بعضه من حديث عيسى بن
_________
(1) أخرجه أحمد (3/ 341، 3/ 353) ومسلم رقم (981) والنسائي (5/ 41 - 42) وأبو داود رقم (1597) من حديث جابر وهو حديث صحيح.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1483) من حديث سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه.
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (1596) والترمذي رقم (640) والنسائي في " السنن " (5/ 41) وابن ماجه رقم (1817).
(3) في " السنن " (2/ 97 رقم 9).
(4) في " المستدرك " (1/ 401) وقال: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وقال صاحب التنقيح: وفي تصحيح الحاكم لهذا الحديث نظر؛ فإنه حديث ضعيف.
وإسحاق بن يحيى تركه أحمد والنسائي، وقال أبو زرعة: موسى بن طلحة بن عبيد الله عن عمر مرسل. ومعاذ توفي في خلافة عمر، فرواية موسى بن طلحة عنه أولى بالإرسال " التعليق المغني.
(5) في " التلخيص " (2/ 321).
(6) في " السنن " رقم (638).(7/3295)
طلحة عن معاذ، وهو ضعيف، قال الترمذي (1): ليس يصح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - شيء يعني في الخضروات، وإنما يروى عن موسى بن طلحة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مرسلا.
وذكره الدارقطني في العلل (2)، وقال: الصواب مرسل، وروى البيهقي (3) بعضه من حديث موسى بن طلحة قال: عندنا كتاب معاذ، ورواه الحاكم (4) وقال: موسى تابعي كبير لا ينكر أنه لقي معاذا، وقال ابن عبد البر (5): لم يلق معاذا ولا أدركه، وكذلك قال أبو زرعة، وروى البزار (6) والدارقطني (7) من طريق الحارث بن نبهان، عن عطاء بن السائب، عن موسى بن طلحة، عن أبيه مرفوعا: " ليس في الخضروات صدقة " قال البزار لا نعلم أحدا قال فيه عن أبيه إلا الحارث بن نبهان. وقد حكى ابن عدي (8) تضعيفه عن جماعة، والمشهور عن موسى مرسل.
ورواه الدارقطني (9) من طريق مروان بن محمد السنجاري، عن جرير، عن عطاء بن السائب، فقال: عن أنس بدل قوله: عن أبيه، ومروان ضعيف جدا. وروى الدارقطني (10) من الحديث علي - كرم الله وجهه (11) - مثله، وفيه الصفر بن حبيب، وهو
_________
(1) في " السنن " (3/ 30).
(2) عزاه إليه الحافظ في " التلخيص " (2/ 321).
(3) في " السنن الكبرى " (4/ 129).
(4) في " المستدرك " (1/ 401).
(5) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (2/ 321).
(6)
(7) في " السنن " (2/ 96).
(8) في " الكامل " (2/ 191) ترجمة الحارث بن نبهان.
(9) في " السنن " (2/ 96).
(10) في " السنن " (2/ 95).
(11) تقدم التعليق عليها.(7/3296)
ضعيف جدا.
وفي الباب عن جماعة، وفي أسانيدها مقال، وقد استوفيت ذلك في شرح المنتقى (1)، ويشد من عضد هذا الحديث الأحاديث الواردة في أن الصدقة لا تؤخذ إلا من أربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر، وهي مروية من طريق جماعة من الصحابة، منها من حديث أبي موسى ومعاذ عند الحاكم (2)، والبيهقي (3)، والطبراني (4)، قال البيهقي (5): رواته ثقات، وهو متصل، ومن حديث عمر عند الطبراني (6)، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده عند ابن ماجه (7) والدارقطني (8)، وروي ذلك من طرق غير هذه يقوي بعضها بعضا. وهذا الحصر في الأربعة هو بالنسبة إلى ما تنبته الأرض، وإلا فقد وجبت في الذهب والفضة والسوائم بالأدلة الصحيحة، وبإجماع المسلمين.
وقد أخرج البيهقي (9) من طريق الحسن قال: لم تفرض الصدقة إلا في عشرة، فذكر
_________
(1) (4/ 141 - 142).
(2) في " المستدرك " (1/ 401) وقال: " إسناده صحيح ووافقه الذهبي وأقره الزيلعي في " نصب الراية " (2/ 389) " إلا أنه قال: قال الشيخ الإمام وهذا غير صريح في الرفع.
ورجح لمحدث الألباني في " الإرواء " (3/ 278) رفعه، وذكر له مرسل صحيح السند عن موسى بن طلحة قال: أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن أن يأخذ الصدقة والشعير والنخل والعنب ". أخرجه أبو عبيد في " الأموال " رقم (1174)، (1175).
(3) في " السنن الكبرى " (4/ 125).
(4) في " الكبير " كما قال في " مجمع الزوائد " (3/ 75): وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح.
وهو حديث حسن.
(5) في " السنن الكبرى " (4/ 125).
(6) لم أجده.
(7) في " السنن " رقم (1815) بإسناد واه.
(8) في " السنن " (2/ 94). وهو حديث ضعيف جدا. انظر " الإرواء " (801).
(9) في " السنن الكبرى " (4/ 129).(7/3297)
الأربعة المتقدمة، والذرة، والإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة، وأخرج ابن ماجه (1) الحديث السابق، وذكر خامسة، وهي الذرة، ولكن في إسنادها محمد بن عبد الله العرزمي، وهو متروك، وأخرج البيهقي (2) عن مجاهد قال: لم تكن الصدقة في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلا في خمسة، فذكر الذرة، وقد روى عدم وجوب الزكاة في الخضروات عن علي عن البيهقي (3) موقوفا، وكذلك عن عمر عنده (4) أيضًا موقوفا، وعن عائشة عند الدارقطني (5) موقوفا أيضا، وفي إسناده صالح بن موسى، وفيه ضعف، وعن محمد بن جحش عن الدارقطني (6) أيضا، وفي إسناده عبد الله بن شبيب، وهو ضعيف.
وقد اختلف من بعد الصحابة في ذلك من العلم اختلافا طويلا. والذي أقول به هو عدم وجوبها في الخضروات، لانتهاض جميع ما ذكر لتخصيص تلك العمومات التي قد دخلها التخصيص بالأوساق، والبقر العوامل، والعبد، والفرس، ونحوها. وقد تقرر الخلاف في الأصول في حجية العام المخصص، فذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة، وذهب البعض الآخر إلى أنه حجة، فما بقي وهو الراجح لدي.
ويدخل في الخضروات ما أشار إليه السائل - كثر الله فوائده - ي آخر سؤاله من ذلك الشيء الذي لا ينتفع إلا بما يستخرج من أصوله المستورة بالتراب. وفي هذا المقدار كفاية. والله ولي التوفيق.
كتبه المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -.
_________
(1) في " السنن " رقم (1815) بإسناد واه.
(2) في " السنن الكبرى " (4/ 129).
(3) في " السنن الكبرى " (4/ 129).
(4) في " السنن الكبرى " (4/ 125 - 126).
(5) في " السنن " (2/ 95 رقم 2).
(6) في " السنن " (2/ 95 رقم 3).(7/3298)
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا خط سيدي العلامة الحسين بن يحيى الديلمي (1) - حفظه الله - لعله رقم هذا هنا مزيدا لمباحثة الحقير فيه.
الحمد لله:
فائدة: الذي حفظناه في تخصيص العام العمل بما بقي من العموم بعد المخصص، وإنما الخلاف في كونه في الباقي، هل حقيقة أو مجاز؟ والخلاف معروف في تقدمه على الخاص وتأخره، والتباسه، لكن في عبارة الجلال (2) ما يفهم أنه لا يبقى دليلا بعد التخصيص، ولعله مع قرينة تقتضيه، وذلك كما في حديث: " فيما سقت السماء العشر " (3) هكذا لفظه أو معناه، وفي لفظ: " فيما سقت الأنهار والعيون والغيم العشور " (4)، وعند الجماعة من حديث ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريا العشر " (5) إلخ.
_________
(1) الحسين بن يحيى بن إبراهيم الديلمي الذماري ولد سنة 1149 هـ ونشأ بذمار وأخذ عن علمائها، ثم ارتحل إلى صنعاء وقرأ العربية وله قراءة في الحديث على السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، ثم عاد إلى ذمار واستقر بها.
له مؤلف جمع فيه الأدلة على " متن الأزهار " من كتب الحديث وكتب أهل البيت سماه " العروة الوثقى في أدلة مذهب ذوي القربى " وله " الإمتاع في الرد على من أحل السماع " ومنظومة في الأسماء الحسنى نحو مائة بيت، ونظم " نخبة الفكر " لابن حجر وشرحها. توفي سنة 1249 هـ. "
نيل الوطر " (1/ 402)، " البدر الطالع " رقم (155).
(2) قال الجلال في " ضوء النهار " (2/ 310): قالوا عمومات مخصوصة بالأوساق والعموم بعد تخصيصه ليس بحجة فيما بقي وإن سلم ففي محل النزاع.
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(5) تقدم تخريجه آنفا وهو حديث صحيح.(7/3299)
فتخصصت هذه العمومات بحديث الأوسق (1)، ثم تخصص حديث الأوسق بأحاديث أخر، منها ما قد انحصر كحديبث الشعبي: كتب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن: " إنما الصدقة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب " قال البيهقي (2): هذه الأحاديث توكد بعضها بعضا.
قلت: لأن في الباب غير هذا، كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: " إنما سن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الزكاة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب " (3) زاد ابن ماجه (4) (والذرة)، وفيه العرزمي متروك، ورواه البيهقي (5) من طريق مجاهد، ومن طريق الحسن: لم يفرض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الصدقة إلا في عشرة، فذكر الخمسة، وساق الحديث.
قال الجلال (6): قلت: وهي كافية في تخصيص العمومات، للأدلة، ثم قال ما معناه: إن المخصصات لم تبق معها للتعميم رمقا، فمن هذا يؤخذ أن الخاص قد رفع العموم، وأنه بمنزلة النسخ في نقص الأحوال، ولا يسلم أن تكون كلية، والله أعلم (7).
_________
(1) منها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (980) والنسائي (5/ 36) وابن خزيمة (4/ 34 - 35 رقم 2298، 2299) عن جابر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة ". وهو حديث صحيح.
(2) في " السنن الكبرى " (4/ 126).
(3) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف جدا.
(4) في " السنن " رقم (1815) ولفظ الذرة منكرة. انظر: " الإرواء " (801).
(5) في " السنن الكبرى " (4/ 126).
(6) في " ضوء النهار " (2/ 310).
(7) قال الأمير الصنعاني في " سبل السلام " (4 - 33 - 34) فالجمهور أن حديث الأوساق مخصص لحديث سالم - تقدم تخرجه وهو حديث صحيح - وأنه لا زكاة فيما لم يبلغ لخمسة الأوساق، وهب جماعة منهم زيد بن علي وأبو حنيفة إلى أنه لا يخص بل يعمل بعمومه، فيجب في قليل ما أخرجت الأرض وكثيره، والحق مع أهل القول الأول لأن حديث الأوساق حديث ورد لبيان القدر الذي تجب فيه الزكاة كما ورد حديث مائتي الدرهم لبيان ذلك مع ورود: " في الرقة ربع العشر ". وهو حديث صحيح.
ولم يقل أحد: إنه يجب في قليل الفضة وكثيرها الزكاة، وإنما الخلاف هل يجب في القليل منها إذا كانت قد بلغت النصاب كما عرفت، وذلك لأنه لم يرد حديث: " في الرقة ربع العشر " إلا لبيان أن هذا الجنس يجب فيه الزكاة، وأما بيان ما يجب فيه فموكول إلى حديث التبيين له بمائتي درهم، فكذا هنا قوله: " فيما سقت سقت السماء العشر " أي في هذا الجنس يجب لعشر، وأما بيان ما يجب فيه فموكول إلى حديث الأوساق، وزاده إيضاحا قوله في الحديث: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " كأنه ما ورد لدفع ما يتوهم من عموم: " فيما سقت سقت السماء ربع العشر " كما ورد ذلك في قوله: " وليس فيما دون خمسة أواقي من الورق صدقة " ثم إذا تعارض العام والخاص كان العمل بالخاص عند جهل التاريخ كما هنا، فإنه أظهر الأقوال في الأصول.
قال صحب " الكوكب المنير " (3/ 382) إذا ورد عن الشارع لفظ عام ولفظ خاص، قدم الخاص مطلقا، أي سواء كانا مقترنين، مثل ما لو قال في كلام متواصل: اقتلوا الكفار، ولا تقتلوا اليهود، أو يقول: زكوا البقر، ولا تزكوا العوامل، أو كانا غير مقترنين، سواء كان الخاص متقدما أو متأخرا، وهذا هو الصحيح لأن تقديم الخاص عملا بكليهما، بخلاف العكس فكان أولى.
وانظر مزيد تفصيل في " البحر المحيط " (3/ 407 - 410)، " اللمع " (ص 20)، " إرشاد الفحول " (ص 536 - 540).
وقد تقدم ذكر شروط بناء العام على الخاص.(7/3300)
الجواب المنير على قاضي بلاد عسير
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(7/3303)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " الجواب المنير على قاضي بلاد عسير ".
2 - موضوع الرسالة: " فقه الزكاة ".
3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم " "
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على بدر الكمال الآمر بالسؤال وعلى آله وصحبه خير صحب وآل وبعد فهذه أسئلة يحتاج السائل الى المبادرة بجوابها مصدرة إلى من يؤمل فيه قلع حجابها ... ".
4 - آخر الرسالة: ودم نهج حق تنتحيه وتسلكه على مر الليالي
كمل من تحرير المجيب وجمعه القاضي فخر الدين محمد بن علي الشوكاني حفظه الله ومتع المسلمين بحياته وحرسه بعينه بحق محمد وآله وصحبه. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الصفحات: 19 صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرا ما عدا الصفحة الأولى فعدد أسطرها 8 أسطر والأخيرة 7 أسطر.
8 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(7/3305)
[الأسئلة]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على بدر الكمال الآمر بالسؤال وعلى آله وصحبه خير صحب وآل.
وبعد: فهذه أسئلة (1): يحتاج السائل إلى المبادرة بجوابها مصدرة إلى من يؤمل فيه قلع حجابها متع الله بحياته والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.
السؤال الأول
عن عوائد في بعض الجهات الخالية عن سلطنة الولاة وهي أن أهل كل قرية أو قبيلة يتواطئون على توظيف قواعد ينتظم بها لهم الحال ويلمون بها شعث تلك لمحال، ثم تارة يتعاهدون على ذلك وعلى الوفاء بما تضمنته تلك القواعد أخذ وعطاء وتارة يكتفون بالمواطأة والرضا ثم يتراضون على نصب قبيلة أخرى يضمنونهم عرفا في تنفيذ تلك القواعد والأخذ بيد الناقض لتلك لعوائد ويشرطون لهم احتمال تعزيراتهم بالأموال ويأخذون منهم أجرا على القيام بتنفيذ تلك الأحوال.
منها أن ما صدر منهم من قتل أو جرح عمدا أو خطأ فإنهم يشتركون في غرمه، وما وقع فيهم كذلك يتقاسمون في غنمه على قانون معروف بينهم مع خروجهم عن دائرة الانتساب وضابط العاقلة فكيف لو أراد من وقع له أرش - أو دية - بعد هذه المعاهدة أو المواطأة ونصب المنفذ لذلك أن ينفرد بها أو أراد من لم يصدر منه جناية أن لا يغرم ما تواطأوا عليه هل يجوز ذلك ويخرج من لعهدة فيما هنالك أم هو كالمطارحات في العرس ونحوه يجب الوفاء بمثل ما أخذ ويجوز النقض إن لم يكن قد حصل منهم اشتراك، وهل
_________
(1) في هامش المخطوط ما نصه: " هذه الأسئلة وجهها إلي العلامة محمد بن أحمد بن عبد القادر عالم الحجاز وابن عالمه وهو شافعي المذهب ولكنه يميل إلى الإنصاف في المسائل ".(7/3309)
يفرق بين أن يكون الاشتراك فيها للمانع وعليه وبين غيره؟ وهل يحل أخذ الأجر المسمى الضمانة أم لا، نعم، هل يدخل في هذا المولودون بعد أم لا.
هذه مقدمة السؤال فيما بين المتواطئين، والقصد حال أولئك القبيلة المنصوبين كالدولة في تنفيذ ما مر آنفا إذا أخذوا بيد المانع وعزروه بأخذ ماله لهم، أو لأهل المواطأة أو أخذوا بقرة مثلا أو ذبحوها وأكلوها وغرموه الثمن تعزيرا ولولا هذا ما انتظمت الكلمة وكانوا فوضى وانشقت بالعصا وربما يحصل عند النزاع والمطالبة خصام وسب لبعضهم بعضا أو للقبيلة المنفذة فيغرمون الساب مالا تعزيريا أو يكرهونه على تسليمه ولولاه لتطاول بعضهم على بعض وعاد كل معزول إلى النقض وهذا كله بناء على جواز التعزير بالمال.
المطلوب بيان قائليه ومن اختاره عند خلو الجهة من الإمام لأن الضرب والحبس ونحوه لا يقدر عليه في البلاد المذكورة، الجواب مطلوب جزيتم خيرا آمين.
السؤال الثاني
إن بعض القبائل لهم سوق يجتمع فيه الناس في يوم معروف فمن مشى إليه فهو في أمانهم وخفارتهم ذهابا وإيابا من غرمائه وأعدائه فإذا حصل في ذلك جناية حمل أهل السوق على الجاني للقتال إلا أن يلتزم لهم مالا كثيرا لأنفسهم، والجناية بحالها لأهلها، فهل يحل ويجب على الجاني تسليمه ويلحق قبيلته غرمه حسبما تواطؤا عليه كما هو مذكور في السؤال الأول، فلولا أهل السوق لتهالك الناس بالمقاتلة وانحبس كثير من المعايش والمعاملة.
تتمة: ومثل أهل السوق من خرج من بيت شخص أو بعد أكله لديه فهو في خفارته حتى يصل بيته وعلى من خفر الذمة منها كذا وكذا فتفضلوا أوضحوا لنا هذه الأشياء لعل قائلا يقول بها عند خلو الجهة من الإمام ولحفظ بيضة الإسلام، وإلا فنصوص أهل المذهب في المتون ظاهرة وأفيدوا أين مصرف هذا المال المعزر به هل هي المصالح(7/3310)
العامة أم المخفور ذمته والضمين مثلا، وكذا المسبوب. والقوانين الفقهية في هذا معلومة، إنما السؤال هل لهذه الجمل في قواعد الشرع محل فالتفسير به بحسب ما تفسره عند بعض أهل العلم والشرع مبني على جلب المصالح ودرء المفاسد، الجواب مطلوب. جزاكم الله خير الدارين بحق محمد وآله.
السؤال الثالث
فيمن وجد مالا مغصوبا أو مسروقا فعرف مالكه ففداه له هل يلزم المالك ذلك أم هو كالشراء يرده ويرجع بما بذل على أخيه؟ أفيدوا جزيتم الجنة آمين.
السؤال الرابع
في رجل فاضل ظهرت عليه الولاية ووصل إلى بلادنا وادعى الإمامة فيها وأجابوه جملة وحصل منه الرغب والرهب وألزمهم الأحكام الشرعية والتزموها ثم وصل إلى بعض القرى وغدروه وقتلوه خذلهم الله ونصره، وكان قد جمع أموالا بعضها أخذها على أهل الربا ونحوهم كالتعزير وبعضها نهبها العسكر من الناس وأمرهم بجمعها لديه فجمعوها وردوها له ومال أهل الربا بيده ثم قتل وقد أودع الكل في بعض القرى فيقول المودع لا أردها إلا بالحكم الشرعي فلكم الفضل بإيضاح الحكم في هذا المال وتقسيمه.
والإمام رحمه الله لا يعلم له وارث ولا ندري من أين خرج وطولوا النفس في هذا مأجورين. بحق النبي الأمين وآله الأكرمين وصحابته الراشدين.
السؤال الخامس
في تفسير الجلالين أن مريم بنت ناموسا دلت على عظام يوسف عليه السلام مع قولهم إن الأنبياء عليهم السلام أحياء في قبورهم يصلون ويصومون ما المراد وكيف الجمع. أفيدوا وجزيتم خيرا بالجواب الشافي.(7/3311)
السؤال السادس
إذا كان لقبيلة أرض موات يدعونها ولا منازع لهم فيها ولا بينة إلا اليد الحكمية مع نقصان الإحياء المشروط، فهل يقال إنها حمة ولا تجوز للآحاد أم ما ذا؟.
ثم السؤال لو أعمر بعضهم بعضها وأحياه للزراعة وأرادوا نزعها منه أو قسمتها وقد غمرها هل يرجع بالغرامة عليهم وتقسم أم يكون أحق بها والله يرعاكم ومتع بحياتكم والسلام عليه ورحمة الله.(7/3312)
وهنا أسئلة تضمنتها أبيات جرت على لسان الفقير إلى الله عفا الله عنه، المطلوب من سيدي العلامة تولى الله معونته الإجابة عليها بما فتح به الفتاح:
جمال الدين قاموس الآلئ ... وبدر التم في داجي الليالي
وفاتح قفل مغلاق المعاني ... ومغلق باب أرباب الجدال
وكشاف العويص وروض مجد ... بأزهار وأثمار الأمالي
عليك سلام ربي كل حين ... ورحمته تعمك بالنوال
ومن مأسور ودك ألف ألف ... من التسليم كالتسنيم حالي
ويا مولاي قد لاحت أمور ... على ذهني ستبدو في مقالي
فحرر لي جوابا مستطيلا ... ووشحه بأخبار غوالي
...
فأولها المذاهب والتزام ... لها ما ذا ترى في ذا المجال
وآيات الكتاب لها وضوح ... وأخبار الأدلة كالهلال
فهل لي أن أسير إلى دليل ... أراه أم أخيم في جلالي
وهل لي أن أقلد في جواز ... لتقليد الرجال ذوي الكمال
وإن كان الصحاب ذوي اجتهاد ... فما وجه العدول ولا تبالي
وأعراب البوادي كيف كانوا ... أقلدوا للصحابة بالمقال
وما وجه الألى منعوا اجتهادا ... وطأطأ ذلك الشم العوالي
وقالوا بعد ست من مئين ... تغلق بابه دون الرجال
وقولهم العقائد ليس نرضى ... لها التقليد أو ربط العقال
وينتسب الكثير إلى إمام ... فهذا أشعري (1) في نضال
_________
(1) تقدم التعريف بها.(7/3313)
وهذا ما تريدي (1) وهذا ... يميل إلى عقيدة الاعتزال (2)
وذا العدلي (3) لا يرضى سواه ... وهذا فيه تقليد الرجال
كذا خبر الحدود وما يليه ... يكون إلى الإمام أخي المعالي
فهل هذا دليل ترتضيه ... يكون خفيرنا يوم المآل
فإن الجمعة الغراء عيد ... وحج فيه أرباح غوالي
وهل في ذا الزمان لنا إمام ... يقوم بمقتضى ذاك المقال
فإن قلتم نعم صحت أمور ... تعاطاها نحارير الرجال
وإلا كان تجميع البرايا ... إذا فقد الشرط كالضلال
وقول إمامنا زيد ويحيى ... يكون مؤولا في ذا المقال
فإن إمامة الداعين منهم ... هي الحق الصواب بلا جدال
ولكن زاحمتهم آل هند ... وقوم آخرون على التوالي
فقل لي هل أقاموها وأحيوا ... شريعة جدهم بدر الكمال
أم اتكلوا على جور المولى ... وصار وجوده مثل الزوال
نعم لا زلت في نعم توالي ... وللتقوى وللآيات تالي
أفدني عن مقال مستفيض ... بأن المصطفى بدر الكمال
هو الأصل الأصيل لكل شيء ... فهل هذا العموم تراه خالي
عليه صلاة ربي كل حين ... صلاة لا تؤول إلى زوال
تعم الآل والأصحاب طرا ... وتغشى من أجاب على سؤالي
_________
(1) تقدم التعريف بهما.
(2) تقدم التعريف بهما.
(3) تقدم التعريف بها.(7/3314)
ومن هنا - الجواب على قاضي بلاد عسير - (1) الحمد لله رب العالمين وبه أستعين:
الجواب [الأول]
عن السؤال [الأول] وهو قوله عن عوائد بعض الجهات إلخ.
الحمد لله رب العالمين وبه أستعين إلخ.
إن التواطؤ من أهل القرى على توظيف قواعد تندفع بها عنهم مفاسد وتحصل لهم عندها فوائد ينبغي أولا الاستفسار عن هذه القواعد هل هي مما له انتظام في سلك الأحكام المشروعة للأنام من سيد الأنام عليه الصلاة والسلام وعلى آله الكرام وصحبه الفخام أم لا.
فالأول لا ريب أن ذلك من المستحسنات الداخلة تحت عموم قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (2) و: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ
_________
(1) قاضي عسير: هو الشريف حمو د بن محمد بن أحمد بن أبي مسمار، الحسني، التهامي (1170 - 1233 هـ). كان نائبا لإمام صنعاء المنصور علي بن المهدي عباس على منطقة أبي عريش والمخلاف السليماني (بلاد عسير) وقد انضم إلى سلطان نجد عبد العزيز بن سعود في زحفه على تهامة، بعد أن وسع سيطرته واستولى على اللحية والحديدة وزبيد وحيس، وتجددت حروبه مع ابن سعود في سنة 1224 هـ. وكان ابن الإمام المنصور المتوكل أحمد، قد جهز لحربه قبل خلافته في هذا العام، ثم جرى بينهما صلح كان باطلاع شيخ الإسلام الشوكاني، ثم انتقض هذا الصلح ... وقامت حروب بينهما سنة 1229 هـ ولكن ضعف صنعاء كان بالغا ولم تعد سيطرتها على تهامة إلا في عهد خلفه (المهدي عبد الله) سنة 1233 بمساعدة قوات محمد علي والي مصر.
وقد عرف الشريف حمود بالبطولة والكرم والعلم، ووضع القاضي عبد الرحمن البهكلي سيرة له سماها " نفح العود بسيرة الشريف حمود ".
وانظر: " البدر الطالع " (1/ 240)، " نيل الوطر " (1/ 408 - 414).
(2) [المائدة: 2].(7/3315)
أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (1) وغير ذلك من الآيات الكريمة. وفي السنة من دلائل هذا ما لا يأتي عليه الحصر: " الدين النصيحة " (2)، " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " (3)، " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه " (4)، " المؤمنون كالبنيان " (5)
_________
(1) [النساء: 114].
(2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (55) والنسائي (7/ 156) وأبوا داود رقم (4944) والترمذي رقم (1926) وقال: حديث حسن صحيح. وهو حديث صحيح.
عن تميم الداري رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الدين النصيحة " قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله وكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (7204) ومسلم رقم (55/ 99) عن جرير رضي الله عنه قال: بايعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة، فلقنني ما استطعت - والنصح لكل مسلم.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم " 6952 " والترمذي رقم (2255) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما "، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره؟ قال: " تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره ".
(4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، ونشير إلى صدره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وعرضه، وماله ... ".
وأخرجه أحمد (2/ 68) وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (8/ 184). رواه أحمد وإسناده حسن عن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، يقول: والذي نفسي بيده ما تواد اثنان فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما ".
ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2442) ومسلم رقم (2580) وأبو داود رقم (4893) والترمذي رقم (1426) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ".
(5) أخرج البخاري في صحيحه رقم (481) ومسلم رقم (2585) عن أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا ".(7/3316)
بل هذا داخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المكر فما دل عليهما دل على هذا من كتاب وسنة فلا نطيل ببسط ذبك، وإنما قلنا كذلك لأن الواجبات الرعية المتعلقة بالأبدان والأموال لا يقوم بها غالب المكلفين من قبل نفسه إلا إذا خاف النكير عليه وإنزال الضرر به من سلطان أو رئيس من رؤساء المسلمين وهذا مشاهد محسوس معلوم فكل بلاد لا حكم فيها لسلطان من سلاطين المسلمين لو خلا كل فرد من الأفراد الساكنين بها وشأنه لما قام ببعض ما أوجب الله عليه إلا النادر، وقليل ما هم، ولهذا يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العرافة حق ولا بد للناس من عريف ثم قال عند أن عزم على إرجاع السبي من هوازن وقد سمع الناس يقولون إنهم قد طابوا أنفسا بإرجاع ما في أيديهم. فقال: لا نعلم من رضي ممن لم يرض ثم أمر الرؤساء أن يعرفوا حقيقة ذلك من كل فرد، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تفد عليه قبيلة من القبائل ولا بطن البطون للإسلام إلا جعل عليهم واحدا منهم ينظر في أمورهم، وهذا وقد تلقوا أحكام الشريعة بالقبول ونفذت فيه الأوامر والنواهي من الرسول فكيف بمن لا ينفذ فيهم أمر آمر ولا ينفق لديهم نهي ناه، فتقرر بهذا أن لتواطؤ على تلك القواعد ونصب من يقوم بها من أعظم الواجبات الشرعية ولهذا كان حلف الفضول الواقع من أولئك الرؤساء الفحول ممدحا على تعاقب العصور وتوارد الدهور، مع أنه واقع من قوم لم يرح أحدهم رائحة الإسلام على قوم من الجاهلية الطغام، ولكنه لما كان مشتملا على مكارم الأخلاق التي أحدها الانتصاف للمظلوم من الظالم كان بذلك المكان المكين عند المسلمين والكافرين فكيفي لا يحسن عقلا وشرعا التواطؤ بين ثلة من المسلمين الذين لا سبيل عليهم لأحد من السلاطين على نصب جماعة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإن هذا من أعظم شعائر الدين.
وليس من شرط حسن هذا القانون أن يكون القيام من أولئك بجميع الأمور الشرعية، بل الفرد منها كاف في الحسن إذا خلصت هذه المصلحة عن أن تشاب بمفسدة تساويها أو(7/3317)
ترجح عليها مثلا لو لم يكن نصب أولئك المنصوبين إلا لزجر أهل بلدهم عن معصية الربا فقط فهذا نوع من أنواع الأمر بالمعروف (1) والنهي عن المنكر المعلوم وجوبها كتابا وسنة، لأن هذه مصلحة خالصة متضمنة لدفع مفسدة قبيحة فإن كان ذلك التواطؤ والنص لذلك مثلا وللإجبار على معاملات الربا فلا شك أن لهذا التواطؤ والنصب جهتين إحداهما حسنة والأخرى قبيحة، فإذا جرد النظر إلى جهة الحسن فهو، وإن جرد النظر إلى جهة القبح فهو قبيح، فإن كان القيام بجهة الحسن لا يمكن إلا مع انضمام جهة القبح إليها فينبغي النظر من جهة أخرى وهي:
هل المعاملات الربوية متروكة فيلزم قبل هذا النصب ومع عدمه أم لا؟ فالأول لا ريب أن النصب قد اشتمل على مفسدة منضمة إلى تلك المصلحة، ودفع المفاسد (2) أهم من تأسيس المصالح فيكون هذا النصب معصية ويتوجه تركه.
والثاني لا شك أن المفسدة لم تحدث لمجرد النصب بل هي كائنة مع عدمه كوجوده فيكون هذا النصب قد طاعة لأن تلك المصلحة خالصة لم تعارض بمفسدة راجحة إذ هي في تحريم لربا تقليل المعاصي وانضمام ذلك المعارض حيث كان حاصلا مطلقا لا يوجب الترك للكل ولا يسوغه.
_________
(1) أخرج مسلم في صحيحه رق (49) والترمذي رقم (2172) وقال: حديث حسن صحيح وابن ماجه رقم (1275، 4013) والنسائي
(8/ 111، 112).
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ".
(2) قول الفقهاء: " درء المفاسد أولى من جلب المصالح ودفع أعلاها " أي أعلى المفاسد بأدناها. يعني أن الأمر إذا دار بين درء مفسدة وجلب مصلحة، كان درء المفسدة أولى من جلب المصلحة، وإذا دار الأمر أيضًا بين درء إحدى مفسدتين، وكانت إحداها أكثر فسادا من الأخرى، فدرء العليا منهما أولى من درء غيرها وهذا واضح يقبله كل عاقل، واتفق عليه أهل العلم.
انظر: " الكوكب المنير " (4/ 447).(7/3318)
وأما إذا كان النصب مشتملا على القيام بأمور مخالفة للشريعة المطهرة فهذا هو الطرف الثاني من طرفي الاستفسار، ونقول: لا مرية في أن ذلك التواطؤ والنصب من أعظم المعاصي الموجبة للهلاك، ويجب على كل مسلم الجهاد لمن كان كذلك، وإذا لم يقدر فالهجرة محتمة لأن هذا إظهار شعار لمعاص محضة وإبراز قانون لمنكرات خالصة وقيام وقعود في محرمات متيقنة، وبين العصيان على هذه الصورة وعصيان كل فرد فرد بدون ذلك كما بين السماء والأرض، وذلك كما يقع من جماعة من طغام البداوة، يحملون؟ جماعة من شياطينهم على تنفيذ الأحكام الطاغوتية ويسلطونهم على أنفسهم، إن حادوا عن شيء منها فهذا من أشد الكفر بالله وبشريعته، والراضي بذلك كافر والقاعد عن الهجرة داخل تحت قوله تعالى: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (1) والتارك لجهاد هؤلاء مع القدرة تارك للجهاد في سبيل لله عز وجل فهذا جواب على الإجمال.
ولنتكلم على الصور التي ذكرها السائل كثر الله فوائده فنقول: قوله ويأخذون منهم أجرا على القيام بتنفيذ تلك الأحوال، الجواب عنه مفتقر إلى النظر في صفة ما قاموا به فإن كان داخلا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حل لهم ما يحل لسلاطين المسلمين من أموالهم وقد كان الخلفاء الراشدون يأخذون من الأموال المجموعة عند الحاجة ما يقوم به بالكفاية والجهة واحدة، فإن قيام المسؤول عنهم هو النفس ما قام به الخلفاء.
وإن كان القيام والنصب لمفسدة خالصة كما أشرنا إليه فأخذ الأجرة ظلمات بعضها فوق بعض، لأن أصل القيام والمباشرة حرام وانضم إليها أكل أموال الناس بالباطل.
قال كثر الله فوائده: إن ما صدر منهم من قتل أو جرح عمدا إلخ أقول هذا وإن لم يكن في باب من أبواب الشريعة على الخصوص فهو غير ممنوع شرعا لأن ما كان هذا
_________
(1) قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140].(7/3319)
سبيله فهو مسوغ باعتبار التراضي على التعاون بالأموال ومواساة من نابته نائبة، لكن هذا مع الرضا المحقق في دفع ما يخص الغارم من المغرم اللازم لغيره.
وكذلك عدم الاختصاص بالمغنم لمن هو له على الخصوص فمن دخل في ذلك وأراد الرجوع عن التواطؤ الواقع بينه وبين أهل قريته فهو غير ممنوع من ذلك لكن بشرط أن لا يكون الأمر الذي خرج عنه مما لا يقوم به إلا الجميع، وذلك مثل ما يلزم من الغرامات في حفظ نفوس الساكنين وأموالهم إما بمصالحة العدو أو بدفع جانب من المال لمن هو أقدر على الدفع منهم أو من غيرهم.
وكذلك لوازم الضيافة المشروعة فإن الضيف في غالب القرى لا يقصد فردا معينا بل ينزل المسجد أو النادي فيقوم بما يحتاج إليه من كان الدول عنده لأنهم يوزعون ذلك بينهم مثلا يقسمون القرية أرباعا أو أثمانا فيكون القائم بالضيف الوارد أهل الربع أو الثمن الأول ثم الثاني ثم كذلك، وأهل الربع أو الثمن يتناوبون ذلك فيما بينهم على قانون صحيح لأنهم ينظرون في عدد الأشخاص وفي مقدار ما يملكه كل واحد فينزلون ذلك عليه، ولو لم يفعلوا كذلك لبطل القيام بالضيافة المشروعة لأن كل فرد يحيل على سائر أهل القرية.
ومثل ذلك ما يقع في البلاد التي فيها سلطان كالاستعانة من أموالهم لمايدهم مما لا طاقة لهم به وغير ذلك.
والحاصل أن الانفراد إن استلزم مفسدة أو فوت مصلحة فلا يجاب طالبه إليه وإن كان لا يستلزم وجبت الإجابة. ومن اطلع على أسرار الشريعة المطهرة علم أنها بأسرها مبنية على مراعاة جلب المصالح ودفع المفاسد ومما يستأنس به في اعتبار القواعد الممهدة بين من يجمعهم مكان أو أمكنة - أن الشارع صلوات الله عليه كان يغزو القبيلة [أو بعضها إذا بلغه عدم تمسكم بشريعته المطهرة] (1) فيسفك دماءهم ويسلب أموالهم
_________
(1) زيادة من نسخة أخرى.(7/3320)
ويسترق نساءهم وأطفالهم من دون أن يسأل كل فرد فرد أو ينقل له ذلك عن كل شخص شخص، وليس ذلك إلا لأن الاعتبار بما ظهر من دون معارضة ولا مفارقة، وإذا اعتبر الشارع مثل هذا في ترتيب إباحة الدماء والأموال عليه وليس هو إلا مجرد اتحاد كلمتهم في الظاهر لجري القوانين بمثل ذلك فجواز ما هو أخف من ذلك بالأولى، وهذا وإن كان يرى في الظاهر أجنبيا عن محل السؤال فهو نافع عند من يعقل المناطات الشرعية، وقد ثبت أن العباس يوم بدر لما قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه خرج مع القوم مكرها فقال له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إن ظاهرك كان علينا (1) ثم لم يعذره من تسليم الفداء فانظر يف ألحقه بالقوم الذين خرج معهم ورتب على ذلك أخذ الفداء منه.
ومثل ذلك ما ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه هم بصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة (2) وفيهم من يملك الكثير وفيهم من لا يملك القطمير ما ذاك إلا لأنهم
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) قال ابن هشام في " السيرة " (3/ 310 - 311) " فلما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ومن لا أتهم، إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، وإلى الحارث بن عوف بن أبي خارثة المري، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار الدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما الصلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة في ذلك، فلما أراد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يفعل، بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه فقالا له: يا رسول الله، أمرا تحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك الله به، لا بد لنا من لعمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنك من شوكتهم إلى أمر ما، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فأنت وذاك فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا ". " السيرة النبوية " (3/ 310 - 311). " الطبقات " لابن سعد (2/ 73).(7/3321)
مجتمعون في اللوازم العامة وهو لا يهم إلا بالجائز، فمن أراد من أهل القرية أن ينفرد بما حصل له من غنم من دية أو أرش فإن كانت هذه الإرادة إنما هي عند أن عرف أن له نفعا في الانفراد ولو كان عليه مغرم ثقيل لما طلب ذلك ولا أحب أن يطلبه غيره، وإن كان انتفع الاجتماع بدفع أمور ينفرد بغرمها لولا مشاركة قومه له ي ذلك لاجتاحت ماله أو لم تف بها ذات يده فلا يجاب إلى ما يطلبه من الانفراد عند غنمه دون غرمه، اللهم إلا أن يغرم لقومه ما قد استفاده باجتماعهم في دفع ما يرد علي وجلب ما وصل إليه بسبب اجتماع الكلمة ويكون انفراده غير مستلزم لمفسدة لاحقة بالكل وبالبعض فلا بأس أن يجاب إلى الانفراد في غير الأمور التي لا تقوم إلا بالجمع كما سلف.
نعم: إذا طلب المفارقة لقومه بمفارقة محلهم من دون أن يبقى له فيها نشب ينتفع به كأن يبيع جميع ما يملكه هنالك ويرحل بنفسه وأهله فلا بأس بذلك لأن البقاء عليه لديهم ليس بمحتم شرعا.
قال كثر الله فوائده: ولقصد حال أولئك المنصوبين كالدولة في تنفيذ ما مر إذا أخذوا بيد المانع وعزره إلخ. أقول: قدر عرف مما تقدم أن بعض الأمور لا يجاب فيها طالب الانفراد لأنه يريد الخروج عن أمور شرعية أو حاجية أو ضرورية عامة، فهذا يسوغ للمنصوبين أن يأخذوا بيد من أراد الانفراد ويكرهونه على ذلك ولكن ينبغي تقديم الأخف فالأخف وتقديم الليونة على الخشونة، فإن أعيا الأمر وأعضل الدواء فلا يحل الإضرار ببدن الممتنع بل يؤخذ من ماله مقدار ما عليه حيث كان ذلك لازما له شرعا مثل ما فيه دفع مفسدة أو جلب مصلحة لا ما كان من اللوازم الجاهلية التي لا ترجع إلى منفعة دينية ولا دنيوية كما يقع في كثير من البدو من اللوازم الطاغوتية، وإذا عرض لازم آخر بعد ذلك اللازم الذي وقع الإجبار أو التغريم بمقداره، جاز للمنصوبين أن يأخذوا من ماله مثل م هو لازم، ثم كذلك حتى يدخل فيم دخل فيه قومه أو يفارقهم على الصفة(7/3322)
المذكورة سابقا.
وأما التعزير وأخذ المال لمجرد العقوبة للممتنع فلا يحل لأن أخذ ما عليه ممكن، فإن امتنع من تسليم ما يلزم شرعا جاز للمنصوبين مقاتلته حيث تعذر عليهم استعمال ما هو دون ذلك أو لم ينفع ويكون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما واجبان على كل فرد فرد.
قال كثر الله فوائده: وهذا كله بناء على جواز التعزير بالمال إلخ. أقول: هذه المسألة طويلة الذيول، متشعبة الطرق، ولا يعرف الصواب فيها إلا بعد تحرير أدلتها، فمن جملة الأدلة الدالة على جواز العقوبة بالمال ما رواه أحمد (1) والنسائي (2) وأبو داود (3) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " في كل إبل سائمة وفي كل أربعين لبون لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله، عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى لا يحل لآل محمد منها شيء ". وأخرجه أيضًا الحاكم (4) والبيهقي (5). قال يحيى بن معين (6): إسناده صحيح إذا كان من دون بهز ثقة.
وقد اختلف في بهز فقال: أبو حاتم (7): لا يحتج به. وروي عن الشافعي أنه قال: ليس بهز حجة لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولو ثبت لقلنا به، وكان قال به في لقديم ثم رجع. وسئل أحمد (8) عن هذا الحديث فقال: ما أدري ما وجهه. وسئل عن إسناده فقال:
_________
(1) في " المسند " (5/ 2 - 4).
(2) في " السنن " (5/ 15 - 16 رقم 2444).
(3) في " السنن " رقم (1575).
(4) في " المستدرك " (1/ 398) وصححه ووافقه الذهبي.
(5) في " السنن الكبرى " (4/ 105).
(6) ذكره ابن حجر في " التلخيص " (2/ 160).
(7) انظر " الميزان " (1/ 353 - 354 رقم 1325).
(8) انظر " الميزان " (1/ 353 - 354 رقم 1325).(7/3323)
صالح الإسناد، وقال ابن حبان (1): لولا هذا الحديث لأدخلت بهزا في الثقات.
وقال ابن حزم (2): إنه غير مشهور العدالة. وقال (ابن الطلاع) إنه مجهول، وتعقب بأنه قد وثقه جماعة من الأئمة. وقال ابن عدي (3) لم أر له حديثا منكرا وقال الذهبي (4): ما تركه عالم قط وقد تكلم فيه أنه كان يلعب بالشطرنج. قال ابن القطان (5): وليس ذلك بضائر له فإن استباحته مسألة فقهية مشتهرة.
قال الحافظ (6): وقد استوفيت الكلام فيه في تلخيص التهذيب. وقال البخاري (7) بهز بن حكيم مختلفون فيه. وقال ابن كثير: الأكثر لا يحتجون به. وقال الحاكم (8): حديثه صحيح، وقد حسن له الترمذي عدة أحاديث، ووثقه. واحتج به أحمد وإسحاق والبخاري خارج الصحيح وعلق له فيه. وروي عن أبي داود أنه حجة عنده.
ومن جملة الأدلة على جواز المعاقبة بالمال ما ثبت في دواوين الإسلام أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم بتحريق بيوت المتخلفين عن الجماعة (9).
_________
(1) في " المجروحين " (1/ 194).
(2) انظر " الميزان " (1/ 353 - 354).
(3) في " الكامل " (2/ 501).
(4) في " الميزان " (1/ 353 - 354).
(5) ذكره الذهبي في " الميزان " (1/ 353 - 354).
(6) في " التلخيص " (2/ 160).
(7) ذكره الذهبي في " الميزان " (1/ 353).
(8) ذكره الذهبي في " الميزان " (1/ 354).
(9) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (644) ومسلم رقم (251/ 651). ومالك (1/ 129رقم 3) وأحمد (2/ 244) وأبو داود رقم (548، 549) والنسائي رقم (2/ 107) وابن ماجه رقم (791) والبيهقي (3/ 55).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أم مرماتين حسنتين لشهد العشاء ".(7/3324)
ومنها ما أخرجه أبو داود (1) من حديث عمر قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا وجدتم لرجل قد غل فأحرقوا متاعه وفي إسناده صالح بن محمد بن زائدة المديني (2) قال [البخاري (3): عامة أصحابنا يحتجون به وهو باطل. وقال الدارقطني] (4): أنكروه على صالح ولا أصل له، والمحفوظ أن سالما أمر بذلك في رجل غل في غزاة مع الوليد بن هشام قال أبو داود: وهذا أصح.
ومنها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أبي داود (5) والحاكم (6) والبيهقي (7) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغال ضربوه. وفي إسناده زهير بن محمد قيل هو الخراساني (8) وقيل غيره، وهو مجهول. ولكن للحديث شاهد.
ومنها أن سعد بن أبي وقاص سلب عبدا وجده يصيد في حرم المدينة , وقال: سمعت
_________
(1) في " السنن " رقم (2713).
قلت: وأخرجه أحمد (14/ 93 رقم 275 - الفتح الرباني) والترمذي رقم (1461) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
والحاكم في " المستدرك " (2/ 127) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي والبيهقي في " السنن الكبرى " (9/ 103).
(2) انظر "المجروحين " (1/ 367) و" الجرح والتعديل " (4/ 411).
(3) في " التاريخ الكبير " (4/ 291). وهو حديث ضعيف.
(4) زيادة من نسخة أخرى.
(5) في " السنن " رقم (2715).
(6) في " المستدرك " (2/ 131) وقال: حديث غريب صحيح ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(7) في " السنن الكبرى " (9/ 102).
(8) قال البخاري: عن أحمد: كان زهير الذي يروي عنه الشاميون آخر.
وقال أبو حاتم: حدث بالشام من حفظه، فكثر غلطه.
انظر " التقريب " (1/ 264 رقم 80) و" الجرح والتعديل " (3/ 589) و" الميزان " (2/ 84). وهو حديث ضعيف.(7/3325)
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من وجدتموه يصيد فيه فخذوا سلبه " أخرجه مسلم (1).
ومنها ما أخرجه أبو داود (2) وسكت عنه هو والمنذري من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن التمر المعلق فقال: " من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه , ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئا بعد أن تؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع. ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة ". وأخرج نحوه النسائي (3) والحاكم (4) وصححه.
ومن الأدلة قضية المددي الذي أغلظ لأجله الكلام عوف بن مالك على خالد بن الوليد لما أخذ سلبه فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ترد عليه سلبه " أخرجه مسلم (5). ومنها تغريم كاتم الضالة أن يردها ومثلها وهو في الأمهات (6).
ومن المؤيدات لجواز التأديب بالمال إحراق علي عليه السلام لطعام المحتكر (7) ودور قوم
_________
(1) سيأتي تخريجه.
(2) في " السنن " رقم (1710) وهو حديث حسن.
(3) في " السنن " (8/ 84، 85، 86).
(4) في " المستدرك " (4/ 381).
قلت: وأخرجه الترمذي رقم (1289) وقال: حديث حسن.
وابن ماجه رقم (2596) وابن الجارود رقم (827) والدارقطني (4/ 236) والبيهقي (8/ 278) وهو حديث حسن.
(5) في صحيحه رقم (43/ 1753).
(6) أخرجه أبو داود رقم (1718) عن أبي هريرة قال: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ضالة الإبل المكتومة غرامتها ومثلها معها " وهو حديث صحيح.
قال الخطابي في " معالم السنن " (2/ 339): " إنما هو زجر وردع، وكان عمر رضي الله عنه يحكم به، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، وأما عامة الفقهاء فعلى خلافه ".
(7) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 103) عن عبد الرحمن بن قيس قال: قال حبيش: أحرق لي علي بن أبي طالب بيادر بالسواد كنت أحتكرها. لو تركتها لربحت فيها مثل عطاء الكوفة.(7/3326)
يبيعون الخمر (1) وهدمه دار جرير بن عبد الله (2) ومشاطرة عمر لسعد بن أبي وقاص في ماله الذي جاء به من العمل الذي بعثه إليه (3)، وتضمينه لحاطب بن أبي بلتعة [مثلي قيمة الناقة التي غصبها عبيده وانتحروها (4): زيادة من نسخة أخرى. وتغليظه هو وابن عباس الدية على من قتل في الشهر الحرام (5) في البلد الحرام، فبهذه الأدلة استدل القائلون بجواز التأديب بالمال. قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى في الغيث (6) لا أعلم خلافا في ذلك بين أهل البيت وإلى ذلك ذهب الشافعي في القديم من قوليه ثم رجع عنه، وقال: إنه منسوخ.
_________
(1) ذكره أبو عبيد في " الأموال " (ص 96 - 98): أن عليا نظر إلى زرارة، فقال: ما هذه القرية؟ قالوا: قرية تدعى زرارة يلحم فيها، تباع فيها الخمر، فقال: أين الطريق إليها؟ فقالوا: باب الجسر، فقال قائل: يا أمير المؤمنين نأخذ لك سفينة تجوز مكانك، قال: تلك سخرة، ولا حاجة لنا في السخرة، انطلقوا بنا إلى باب الجسر، فقام يمشي حتى أتاها فقال: على بالنيران، أضرموها فيها فإن الخبث يأكل بعضه بعضا. قال فاحترقت من غربيها حتى بلغت بستان خواستا بن حبرونا ".
(2) لم أجده.
(3) ذكره أبو عبيد في " الأموال " (ص 269). وانظر: " موسوعة فقه عمر بن الخطاب " (ص 145).
(4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 239): " عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن غلمة لأبيه عبد الرحمن بن حاطب، سرقوا بعيرا فانتحروه، فوجد عندهم جلده ورأسه، فرفع أمرهم إلى عمر، فأمر بقطعهم، فمكثوا ساعة، وما نرى إلا أن فرغ من قطعهم، ثم قال: علي بهم، ثم قال لعبد الرحمن: والله إني لأراك تستعملهم ثم تجيعهم وتسيء إليهم، حتى لو وجدوا ما حرم الله عليهم لحل لهم، ثم قال لصاحب البعير: كم كنت تعطى لبعيرك؟ قال: أربعمائة درهم. قال لعبد الرحمن: قم فاغرم لهم ثمانمائة درهم ".
وانظر: " المحلى " (8/ 157).]
(5) أخرج البيهقي في " السنن " (8/ 77) عن مجاهد قال: قضى عمر فيمن قتل في الشهر الحرام أو في الحرم أو هو محرم بالدية وثلث الدية، فإن قتل رجل آخر في البلد الحرام وفي الشهر الحرام غلظت عليه الدية، ثلث للشهر الحرام، وثلث آخر للبلد الحرام، فتمت الدية عشرين ألفا لأن أصل الدية اثنا عشر ألف درهم في تقدير عمر
(6) تقدم التعريف به.(7/3327)
وهكذا قال البيهقي وأكثر الشافعية.
وتعقبه النووي، فقال: الذي ادعوه من كون العقوبة كانت بالأموال في الإسلام ليس بثابت ولا معروف، ودعوى النسخ غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ. وقد نقل الطحاوي والغزالي الإجماع على نسخ العقوبة بالمال وهي دعوى ساقطة.
وزعم الشافعي أن الناسخ حديث ناقة البراء لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم عليه بضمان ما أفسدت ولم ينقل أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تلك القضية أضعف الغرامة.
ولا يخفى أن تركه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمعاقبة بأخذ المال في هذه القضية لا يستلزم الترك مطلقا ولا يصلح للتمسك به في مجرد عدم الجواز فضلا عن جعله ناسخا.
وقد أجاب المانعون عن الأدلة التي قدمناها بأجوبة: أما عن حديث بهز فبما فيه من المقال , وبما رواه ابن الجوزي في جامع المسانيد (1) والحافظ في التلخيص (2) عن إبراهيم الحربي أنه قال في سياق هذا المتن ما لفظه، وهم فيها الراوي: وإنما قال فإنا آخذوها من شطر ماله أي يجعل ماله شطرين ويتخير عليه المصدق ويأخذ الصدقة من خير الشطرين عقوبة لمنعه الزكاة، فأما ما لا يلزمه فلا، وبما قال بعضهم إن لفظة وشطر ماله بضم الشين المعجمة وكسر الطاء المهملة فعل مبني للمجهول ومعناه جعل مله شطرين بأخذ المصدق الصدقة من أي الشطرين أراد.
ويجاب عن القدح بما في الحديث (3) من المقال بأنه مما لا يقدح بمثله وكلام الحربي وما بعده بأن الأخذ من خير الشطرين صادق عليه اسم العقوبة بالمال لأنه زايد على الواجب، وأيضا الرواية على خلاف ذلك وأئمة الحديث هم المرجع في ذلك وقد رووه كما في الباب وأجابوا أيضًا عن حديث .............................
_________
(1) لا يزال مخطوط فيما أعلم. وهو عدة أجزاء ولدي ثلاثة أجزاء مخطوطة منه.
(2) (2/ 160).
(3) تقدم تخريجه وهو حديث حسن.(7/3328)
عمر (1) بما فيه من المقال المتقدم وكذلك أجابوا عن حديث ابن عمرو (2) ويجاب عنهم بمثل ما سلف.
وأجابوا عن حديث الهم (3) بالإحراق بأن السنة أقوال وأفعال وتقريرات والهم ليس من الثلاثة، ويرد بأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا يهم إلا بالجائز وأجابوا عن حديث سعد (4) بأنه من باب الفدية كما يجب على من تصيد صيد مكة، وإنما عين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - نوع الفدية هنا بأنها سلب العاضد فيقتصر على السبب لقصور العلة عن التعدية.
ويجاب بأن هذا إنما يصح بعد تسليم شجر المدينة كمكة وهو ممنوع. وأما حديث تغريم كاتم الضالة (5) والمخرج (6) غير ما يأكل من التمر، وقضية المددي (7) فهي واردة على سبب خاص فلا يجاوز بها إلى غيره لأنها وسائر أحاديث الباب مما ورد على خلاف القياس لورود الأدلة كتابا وسنة بتحريم مال الغير.
ويجاب بأن أدلة جواز التأديب بالمال (8) مخصصة لعموم أدلة التحريم ولا تعارض بين عام وخاص، وإلحاق غير المنصوص عليه من المواضع التي تسوغ التأديب بالمال بالمواضع المنصوص عليها بعدم الفارق، والورود على خلاف القياس ممنوع وأجابوا على أفعال الصحابة السابقة بعدم الحجية وعلى فرض التسليم فذلك من قطع ذرائع الفساد كهدم مسجد الضرار (9) وتكسير المزامير، وعلى كل حال فالتأديب بالمال لا يحل إلا لذي ولاية
_________
(1) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف.
(2) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف.
(3) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(4) تقدم تخريجه.
(5) تقدم تخريجه.
(6) تقدم تخريجه وهو حديث حسن.
(7) تقدم تخريجه.
(8) وانظر الرسالة رقم (130) السؤال التاسع.
(9) تقدم ذكر ذلك.(7/3329)
عامة مع اجتماع خصال فيه، منها سعة العلم ووضع ذلك المأخوذ في مواضع من مصالح المسلمين لا من كان مقصرا في العلم أو كان يأخذ ذلك لمصلحة نفسه أو مصلحة من يلوذ به فهذا حرام لا يسوغه شرع ولا عقل.
[انتهى جواب السؤال الأول](7/3330)
[السؤال الثاني]
قال السائل كثر الله فوائده: إن بعض القبائل لهم سوق يجتمع فيه الناس في يوم معروف فمن مشى إليه فهو في أمانهم، فإذا حصل في ذلك جناية حمل أهل السوق على الجاني للقتال إلا أن يلتزم لهم بمال كثير لأنفسهم، والجناية بحالها إلى آخر كلامه.
أقول: قيام هؤلاء الجماعة في حفظ السوق الذي يجتمع فيه جماعة من المسلمين ومنع من أراد أن يجني فيه على غيره لا شك أنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن بشرط أن تكون الجناية في ذلك المحل واقعة على المنهج الشرعي، أما إذا كانت واقعة على قانون الشرع مثل من يجني على غيره مدافعة أو قصاصا مستحقا عليه فهذا لا يسوغ المنع منه، نعم يسوغ إذا كان من باب سد الذرائع مثل أن يؤدي السكوت للجاني إلى أن يجني غيره بالباطل وكان ذلك أمرا معلوما بحيث يتعذر أن يقتصر على الحق دون الباطل فيه، كما هو معروف في كثير من الأسواق التي يجتمع إليها جماعة من البدو، فهذا من باب المعارضة بين جلب المصلحة الخاصة ودفع المفسدة العامة، ولا خلاف أن دفع المفسدة العامة أرجح فيكون المنع على العموم قربة والأعمال بالنيات.
وأما الأخذ من مال الجاني لمن قام بالحفظ والمنع فإن كان ذلك المأخوذ بالعدل لا بالجور يصير إلى مصلحة لا يتم الحفظ الموصوف بدونها فلا بأس، وإن كان على خلاف ذلك فهو من باب أكل أموال الناس بالباطل.(7/3331)
[السؤال الثالث]
قال كثر الله فوائده فيمن وجد مالا مغصوبا أو مسروقا فعرف مالكه ففداه له هل يلزم المالك ذلك أم هو كالشراء يرده ويرجع بما بذل على أخذه.
أقول: مال المسلم (1) لا يحل إلا بإذنه أو بحق شرعي مأذون به من طريق الشرع ولم يأت عن الشارع الإذن للغير باستفداء مال غيره المغصوب أو المسروق فيما أعلم، نعم إذا تبرع بالاستفداء وسلم ما استفدى به جهة نفسه فهو من باب المعاونة على البر امأمور به بل من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنما الشأن في رجوعه بما سلم فهذا هو الذي لم يأب به إذن من الشارع فلم يبق إلا اعتبار إذن مالك المال فإن أذن رجع عليه وإلا فلا.
_________
(1) قال تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29].
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (67) ومسلم رقم (1679) وأبو داود رقم (1948) من حديث أبي بكرة: " .... إنما أموالكم ودماؤكم عليكم حرام ".(7/3332)
[السؤال الرابع]
قال عافاه الله في رجل فاضل ظهرت عليه الولاية وصل إلى بلادنا وادعى الإمامة فيها وأجابوه جملة وحصل منه الرغب والرهب وألزمهم الأحكام الشرعية وقد كان جمع أموالا أخذها على أهل الربا ونحوهم ثم قتل. والمراد من السؤال أن الأموال محفوظة، ومن هي بيده يقول: لا أردها إلا بحكم شرعي لأن الرجل لا يعلم له وارث.
أقول: يتوجه صرف هذا المال إلى بيت مال المسلمين مع إمكان إيصال ذلك إليه إن علم أن سيصرف في مصارفه الشرعية إن وصل إليه وإذا تعذر الإيصال أو أمكن ولكن غلب على الظن أنه لا يصرف في المصارف الشرعية فالمتوجه دفعه إلى أصلح رجل من الساكنين بذلك المحل بشرط أن يكون ذا دين متين، وله حظ من العلم يعرف مهمات الشريعة، وهو يتوجه عليه أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة إن أمكن أن يتيسر له ذلك، فإن تعذر لانسداد أبواب ذلك أو اختلاط المعروف بالمنكر فعليه أن يصرفه في فقراء المسلمين القائمين بواجبات الإسلام لا من كان منهم مرتكسا في مهاوي الحرام مرتكبا لما يرتكبه سائر الطغام من موجبات الآثام.(7/3333)
[السؤال الخامس]
قال نفع الله به: إن مريم بنت ناموس (1) على عظام يوسف عليه السلام مع قولهم إن الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون ويصومون. ما المراد وكيف الجمع؟.
أقول: حديث الأنبياء أحياء في قبورهم صححه البيهقي وألف فيه جزءا (2)، ويؤيد ذلك ما ثبت أن الشهداء أحياء (3) يرزقون في قبورهم وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأس الشهداء.
قال الأستاذ أبو منصور البغدادي (4): قال المتكلمون من أصحابنا: إن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي بعد وفاته (5) انتهى.
ويعكر على هذا أمور:
_________
(1) ستأتي قريبا.
(2) وهو كتاب " حياة الأنبياء في قبورهم " (ص 69 - 74). ط 1 سنة 1414 هـ / مكتبة العلوم والحكم المدينة.
(3) تقدم تفصيل ذلك في الرسالة رقم (14).
(4) قال ابن رجب الحنبلي في " أهوال القبور " (ص 160) أما الأنبياء عليهم السلام فليس فيهم شك أن أرواحهم عند الله في أعلى عليين وقد ثبت في الصحيح أن آخر كلمة تكلم بها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند موته: " اللهم الرفيق الأعلى " وكررها حتى قبض.
أخرجه البخاري رق م (3669) ومسلم رق م (2191) وقال رجل لابن مسعود: قبض رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأين هو؟ قال: في الجنة.
انظر: " شرح العقيدة الطحاوية " (ص 454).
(5) وقد ثبت نقلا وعقلا أن الأنبياء من الأموات.
قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30].
قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144].
وإن ورد في أخبار صحيحة أن الأنبياء في قبورهم أحياء، فتلك حياة برزخية لا تماثل الحياة الدنيوية ولا تثبت لها حكمها. انظر " فتح الباري " (6/ 44).(7/3334)
الأول: ما ورد في الصحيح (1) في حديث الإسراء أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقي جماعة من الأنبياء في السماوات.
أن الأنبياء لا يتركون في قبورهم فوق ثلاث. ورني فوق أربعين يوما إن صح ذلك والله أعلم. وقد تكلم عن ذلك أهل العلم فأطالوا وأطابوا فبعضهم ضعف حديث الأنبياء أحياء في قبورهم وبعضهم جمع بينه وبين ما عارضه بأنه لا مانع من رفعهم إلى السماء ثم عودهم. وبعضهم جزم بأنهم باقون في قبورهم، وفي السماء ملائكة على صورهم.
والحاصل أن المقام من المجازات لا باعتبار القصة (2) المسؤول عنها فهي لا تنتهض
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (263/ 163) من حديث أنس بن مالك. قال ابن تيمية في " مجموع فتاوى " (4/ 328 - 329): " وأما رؤيته الأنبياء ليلة المعراج في السماء لما رأى آدم في السماء الدنيا، ورأى يحيى وعيسى في السماء الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة أو العكس، فهذا رأى أرواحهم مصورة في صور أبدانهم.
وقال: بعض الناس: لعله رأى نفس الأجساد المدفونة في القبور، وهذا ليس بشيء، لكن عيسى صعد إلى السماء بروحه وجسده وكذلك قد قيل في إدريس، وأما إبراهيم وموسى وغيرهما فهم مدفونون في الأرض ... ".
وانظر: " فتح الباري " (6/ 444) و (7/ 212)
(2) أخرج أبو يعلى في مسنده رقم (13/ 7254) بسند ضعيف.
وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 170) وقال: رواه أبو يعلى. ورجال أبي يعلى رجال الصحيح، وهذا الذي حملني على سياقها.
قلت: فيه محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي، قال البخاري عنه: رأيتهم مجمعين على ضعفه، قاله ابن حجر في " التقريب " رقم (6402).
عن أبي موسى قال: أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعرابيا فأكرمه فقال له: " ائتنا " فأتاه، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " سل حاجتك " فقال: ناقة نركبه وأعنزا يحلبها أهلي، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " عجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل " فقال: " إن موسى لما سار ببني إسرائيل من مصر ضلوا الطريق فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقا من الله لا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا. قال: فمن يعلم موضع قبره؟ قال: عجوز من بني إسرائيل، فبعث إليها فأتته فقال: دليني على قبر يوسف. قالت: حتى تعطيني حكمي. قال: وما حكمك؟ قالت: أكون معك في الجنة، فكره أن يعطيها ذلك فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها، فاطلقت بهم إلى بحيرة موضع مستنقع ماء فقالت: أنضبوا هذا الماء، فأنضبوه، قالت: احتفروا واستخرجوا عظام يوسف، فلما أقلوها إلى الأرض إذا الطريق مثل ضوء النهار ".(7/3335)
لمعارضة ما ثبت عن الشارع ولا تستشكل الأحاديث باعتبارها فكثيرا ما وقع من الأكاذيب في كتب التفسير لا سيما المشتملة على حكاية القصص المطولة فهي متلقاة من أهل الكتاب المنصوص على أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه ويبدلون القول، بل كثير من الحكايات المدونة في كتب التفسير (1) لا مستند لها إلا ما يعتاده القصاص من تطويل ذيول المقال بالأكاذيب الحرية بالإبطال، فما كان كذلك لا ينبغي أن يلتفت إليه أو يعتقد صحته على فرض عدم معارضته لشيء مما ورد عن الشارع فكيف إذا عارض ما ورج وإن كان قاصرا عن رتبة الصحة.
والحاصل أن التفسير الذي ينبغي الاعتداد به والرجوع إليه هو تفسير كتاب الله جل جلاله باللغة العربية حقيقة ومجازا إن لم تثبت في ذلك حقيقة شرعية فإن ثبتت فهي مقدمة على غيرها، وكذلك إذا ثبت تفسير ذلك من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو أقدم من كل شيء، بل حجة متبعة لا تسوغ مخالفتها لشيء آخر، ثم تفاسير علماء الصحابة المختصين برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يبعد كل البعد أن يفسر أحدهم كتاب الله ولم يسمع في ذلك شيئا عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى فرض عدم السماع فهو أحد العرب الذين عرفوا من اللغة دقها وجلها.
وأما تفسير غيرهم من التابعين ومن بعدهم فإن كان من طريق الرواية نظرنا في صحتها سواء كان المروي عنه الشارع أو أهل اللغة وإن كان بمحض الرأي فليس ذلك بشيء، ولا يحل التمسك له ولا جعله حجة، بل الحجة ما قدمناه. ولا يظن بعالم من علماء الإسلام أن يفسر القرآن برأيه، فإن ذلك مع كونه من الإقدام على ما لا يحل [بما لا
_________
(1) انظر " الرسالة " رقم (14).(7/3336)
يحل] (1) قد ورد النهي عنه في حديث: " من فسر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ، ومن فسر القرآن برأيه فأخطأ فقد كفر " (2) أو كما قال، إلا أنا لم نتعبد بمجرد هذا الإحسان للظن على أن نقبل تفسير كل عالم كيفما كان (3)، بل إذا لم نجده مستندا إلى
_________
(1) زيادة من نسخة أخرى.
(2) أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (2952) وهو حديث ضعيف.
(3) قال ابن تيمية في " مقدمة في أصول التفسير " أحسن طرق التفسير (ص 92 - 93):
1 - أن يفسر القرآن بالقرآن، فم أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر.
2 - فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: كل ما حكم به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو مما فهمه من القرآن، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105].
وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه " أخرجه أبو داود رقم (4604) وأحمد (4/ 131) وهو حديث صحيح.
3 - وحينئذ إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعت في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدون من القرآن والأحوال التي اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين والأئمة المهديين. وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس.
وإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر فإنه كان آية في التفسير وكسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري.
وأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام، قل أبو بكر الصديق رضي الله عنه: " أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم ".
وانظر " تفسير ابن كثير " (4/ 273). " فتح القدير " (5/ 376).
وعندما سئل ابن تيمية عن أي التفاسير أقرب إلى الكتاب والسنة فقال: " الحمد لله، أما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها " تفسير محمد بن جرير الطبري " فإنه يذك مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير، والكلبي ".
انظر: " مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير " (ص 103).(7/3337)
الشارع ولا إلى أهل اللغة لم يحل لنا العمل به مع التمسك بحمل صاحبه على السلامة، ونظير ذلك اختلاف العلماء في المسائل العلمية، فلو كثر الله فوائده كان إحسان الظن مسوغا للعمل بما ورد عن كل واحد منهم لوجب علينا قبول الأقوال المتناقضة في تفسير آية واحدة أو في مسألة علمية، واللازم باطل فالملزوم مثله، وكثيرا ما نسمع من أسراء التقليد الذين يعرفون الحق بالرجال لا بالاستدلال إذا قال لهم القائل: الحق في هذه المسألة كذا أو الراجح قول فلان، قالوا: لست أعلم من فلان، يعنون القائل من العلماء بخلاف الراجح في تلك المسألة، فنقول لهم: نعم لست أعلم من فلان، ولكن هل يجب علي اتباعة والأخذ بقوله، فيقولون: لا ولكن الحق لا يفوته ومن يشابهه من العلماء، فنقول لهم: لا يفوته وحده لخصوصية فيه أم لا يفوته هو وأشباهه ممن بلغ إلى الرتبة التي بلغ إليها في العلم، فيقولون: نعم لا يفوته هو وأشباهه ممن هو كذلك، فيقال لهم: من الأشباه والأنظار في علماء السلف والخلف آلاف مؤلفة بل فيهم أعداد متعددة يفضلونه ولهم في المسألة الواحدة الأقوال المتقابلة، فربما كانت العين الواحدة عند بعضهم حلالا وعند الآخر حراما، فهل تكون العين حلالا حراما لكون كل واحد منهم لا يفوته الحق كما زعمتم، فإن قلتم: نعم، فهذا باطل، ومن قال بتصويب المجتهدين (1) إنما يجعل قول كل واحد منهم صوابا لا إصابة، وفرق بين المعنيين أو يقول القائل في جواب مقالتهم فلان أعرف منك بالحق لكونه أعلم إذا كان الأسعد بالحق الأعلم فما أحد إلا وغيره أعلم منه، ففلان الذي يعنون غيره أعلم منه فهو أسعد منه بالحق فلم يكن الحق حينئذ بيده ولا بيد أتباعه، وهذه المحاورات إنما يحتاج إليها من ابتلي بمحاورة المقصرين الذين لا يعقلون الحجج ولا يعرفون أسرار الأدلة
_________
(1) تقدم مناقشة ذلك مرارا.(7/3338)
ولا يفهمون الحقائق فيحتاج من ابتلي بهم وبما يرد عليه من قبلهم إلى هذه المناظرات التي لا يحتاج إلى مثلها من له أدنى تمسك بأذيال العلم، فإن كان عارف يعرف أن وظيفة المجتهد ليست قبول العالم المختص بمرتبة من العلم فوق مرتبته إنما وظيفته فبول حجته، فإذا لم تبرز الحجة لم يحل للمجتهد الأخذ بذلك القول الخالي عن الحجة في علمه، وإن كان في الواقع ربما له حجة لم يطلع عليها العالم الأول، وحمله على السلامة لا أنه يجوز التمسك به في أن المقالة حق يجوز التمسك به كما يجوز التمسك بها كما يجوز التمسك بالدليل فهذا لا يقوله إلا من لا حظ له من العلم ولا نصيب له من العقل(7/3339)
[السؤال السادس]
قال عافاه الله: السؤال السادس: إذا كان لقبيلة أرض موات يدعونها ولا منازع لهم فيها ولا بينة إلا اليد الحكمية إلخ.
أقول: ينظر في مستند دعوى كونها ملكا لهم هل هو صدور إحياء في زمان سابق (1)، أو شراء من محي أو نوع من أنواع التمليك أو كان المستند هو كونها انصباب السيل إلى أملاكهم أو مواطن رعي أنعامهم: فإن كان الأول فلا شك أن دعوى الملك صحيحة واليد الحكمية يثبت بها الأصل والظاهر، فلا يقبل من الغير دعوى تخالف ذلك إلا ببرهان شرعي، وإن كان المستند ما ذكرنا آخرا فمثل الانصباب والمراعي ليست بأملاك في نفسها لمجرد ذلك فلا تقبل دعوى الملك لأن غاية ما تفيده اليد على الانصباب والمراعي هو ثبوت الحق لا الملك، وعلى الأول إذا عمرها غيره أو نحو ذلك كان له نزعها منه ولا يرجع بما غرم فيها إلا بإذن، وعلى الثاني ليس له نزعها منه ويكون أحق بها إلا أنه إذا حصل الضرر على الأول لعدم انصباب السيول إلى أرضه أو عدم رعي ماشيته في ذلك المحل فالظاهر أن له منعه، ويأثم إن لم يمتنع.
والحاصل أن الأسباب المقتضية (2) للملك معروفة وقد جود أئمة العلم الكلام في
_________
(1) أخرج أحمد (3/ 304، 338) والنسائي في " الكبرى " كما في " تحفة الأشراف " (2/ 387 رقم 31229)، والترمذي رقم (1379) وقال: حديث حسن صحيح.
من حديث جابر " أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال من أحيا أرضا فهي له ".
وأخرج البخاري في صحيحه رق (2335) من حديث عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من عمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها ".
(2) منها: البيع، والهبة، والحيازة بالإحياء للموات، ونحوه، كالإرث والإقطاع.
وهذه الأسباب إذا نظرنا إليها مجردة فمنها ما هو جبري كالإرث ومنها ما هو اختياري كالبيع وغيره.
وإذا نظرنا إليها من قبيل الشخص الذي ستؤول إليه، فهي إما أن تكون بعلمه الشرعي كالبيع والإحياء، أو بحكم شرعي كالإرث أو بإرادة الغير وعمله كالهبة والإقطاع.
انظر: " المدخل الفقهي العام " لمصطفى الزرقا (1 / في تقسيم الملك).(7/3340)
الإحياء (1) والتحجر (2) وفرقوا بينهما بما يشفي فليراجع كلامهم في مواطنه (3).
_________
(1) الأرض الموات: الأرض الداشرة المنفكة عن الاختصاصات وعن ملك معصوم.
إحياء الموات: أن لعمران حياة، والتعطيل موت، فشبهت الأرض المعمورة بالحي، وشبهت الأرض المعطلة بالميت، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 9 - 11].
انظر: المغني (5/ 563).
(2) التحجير: الشروع في الإحياء ووضع علامة تدل عليه وهو للشافعية. قال النووي في " روضة الطالبين " (5/ 286): الشارع في إحياء الموات متحجر ما لم يتمه، وكذا إذا علم عليه علامة للعمارة من نصب أحجار، أو غرز خشبات أو قصبات، أو جمع تراب، أو خط خطوط، وذلك لا يفيد الملك بل يجعله أحق به من غيره.
أنواع التحجير: الأغراض التي يتصور أن يكون التحجير لها ثلاثة، وهي:
1 - أن يكون التحجير في موات لقصد عمارته بزراعة أو نحوها.
2 - أن يكون التحجير لمنفعة مؤقتة كارتفاق في سوق للبيع.
3 - أن يكون التحجير لنفع عام، كمجلس عالم في مسجد لتعليم الناس، ونحوه.
(3) الفرق بين الإحياء والتحجير:
1 - من جهة القائم بذلك بنفسه في الإحياء والتحجير وقصده، ففي الإحياء يمكن أن يقترن به إرادة النفع لعام لأنه لا ينطلق من منطلق الذاتية، فقط فالإحياء جهد منه يعود عليه وعلى المجتمع بالخير والإنتاج.
أما التحجير للنفس فمنطلقها الأنانية الخاصة بالشخص على حساب غيره من حيث تعلق حقوقهم بما تحجر أو حمى وليس له ذلك.
2 - من جهة الإحياء والتحجير وتعريفهما:
فالإحياء المشروع: هو تعمير موات ليس له مالك ولا يتعلق به مصلحة أحد بأي وسيلة من وسائل التعمير.
والتحجير: هو حيازة الأرض بما لم يكن إعمارا أو حجزه عن الآخرين.
انظر: " شرح الهداية " (2/ 232 - 233) و" نيل الأوطار " للشوكاني (5/ 348).
ومن صور الإحياء:
1 - البنيان، ويشمل بناء السكن السقف، الإحاطة والتسوير، ويكفي فيه مجرد الإحاطة بجدار، وإن لم يسقف وإن لم ينصب له باب.
2 - الغرس، الزرع. وفيه تفصيل.
3 - إزالة العوائق: يمنع الانتفاع بالأرض أو الغرس أو الزرع عوائق، فإذا أزيلت صلحت للإحياء، مثل إزالة الأحجار، وقطع الأشجار وصرف الماء والرمال وبها تملك الأرض.
انظر: " الأحكام السلطانية " للماوردي (ص 177). " المغني " (5/ 566).(7/3341)
وهذا النظم جواب السائل عافاه الله:
نظام يا ابن ودي أم لآلي ... منظمة بأسلاك السؤال
يقول إذا الأسير أراد سيرا ... إلى ربع الكمال مع الكمال
ولام بأن يدين بما حوته ... نصوص كتاب ربي ذي الجلال
وما في سنة للطهر طه ... مسلسلة بأسناد الرجال
فهل غير الأدلة من سبيل ... لمن رام الوصول إلى الوصال
وهل خير القرون ومن يليه ... سعوا يوما إلى قيل وقال
فقل لي أي فرد منهم قد ... تلبس بانتساب وانتحال
فما عرفوا التمذهب في رجال ... ولا صحبوه يوما في ارتحال
بإسلام وإيمان تداعوا ... وصدوا عن مراء أو جدال
ومن قصرت يداه عن مساع ... سعى نحو الأكابر للسؤال
فيسرب من معين النص حتى ... يقول لقد رويت بما روى لي
ولم ينسب إلى المسؤل شخص ... ولم يخطر لهم هذا ببال
إذا ما لم يسعك سبيل قوم ... هم خير القرون بلا جدال
فقد ضاقت عليك الأرض طرا ... ودافعت الحقيقة بالخيال
فمن يعلم فإن له مثيلا ... من الصحب الكرام بلا مثال(7/3342)
ومن يجهل فإن له نظيرا ... من الأصحاب لاذوا بالسؤال
فقد كانوا على قسمين: قسم ... مجل قد تحلى بالجلال
وقسم ما له في العلم حظ ... وكان له حظوظ في النزال
كلا القسمين قد سلكوا طريقا ... وما دانوا بتقليد الرجال
وما نسب امرؤ منهم لبكر ... ولا عمرو على مر الليالي
فهذا عالم يروي لهذا ... وهذا قاصر يحفي السؤال
وإنك أيها الحبر المفدى ... حقيق أن تميل إلى المعالي
كذاك أبوك وهو الفذ فيما ... يحبر من بديعات المقال
فكونا تابعين لكل نص ... صحيح واشردوا عن كل خال
ولا تتهيبا جمهور قوم ... فمن وجد الدليل فما يبالي
وقيسوا في الصدور ذوي جلال ... لديكم من جلالة ذي الجلال
إذا ما قال " قال الله " شخص ... تطأطأ عند ذا شم الجبال
وإن قال " الرسول يقول هذا " ... فقد طاحت أقاويل الرجال
ومن وجد الحقيقة وهي حق ... فقد بطل التمسك بالخيال
ومن رام الجدال فقد تولت ... لك الويلات أوقات الجدال
وإن قال البغيض بلا احتشام ... فلان منك أعرف بالمقال
فقد برح الخفاء فلا تجبه ... فإن الجهل كالداء العضال
وأما من غدا ينفي اجتهادا ... ولم يستحي من قول المحال
فقل لا در درك أي نص ... أتى يقضي بتخصيص الكمال
وإن الفائزين به رجال ... ومحروم كثير من رجال
وهل خص الإله بفضله من ... يعد مقدما من دون تالي
مقال لم يقله غير قزم ... تقاعس عند معترك النزال
مقال صان عنه الله قوما ... كراما صافحوا كف المعالي(7/3343)
مقال من يكشفه يراه ... حديث خرافة في كل حال
لعمرك إن بعد الست قوما ... هم أبطال معترك الجدال
لعمرك إن بعد الست جيلا ... يجل على المخصص بالجلال
وقلت وفي العقائد ليس يرضى ... لها التقليد أو ربط العقال
فتلك لها اندراج في عموم ... هو المنع المعمم في المقال
وما خبر الحدود حديث صدق ... ولكن عد في قيل وقال
إلى البصري (1) ينسبه أناس ... ومنصور بن زاذان (2) يغالي
وجمعة ربنا شرعت ليسر ... ولم تشرع مقيدة بوالي
ودم في نهج حق تنتحيه ... وتسلكه على مر الليالي
كمل من تحرير المجيب وجمعه القاضي فخر الدين محمد بن علي الشوكاني حفظه الله ومتع المسلمين بحياته وحرسه بعينه، بحق محمد وآله وصحبه.
_________
(1) هو الحسن، البصري، تابعي من مشاهير الثقات، وعنه اعتزل واصل بن عطاء الذي غدا رأس المعتزلة (توفي الحسن البصري سنة 110 هـ).
(2) منصور بن زاذان الواسطي الثقفي، ثقة ثبت عابد. توفي سنة 129 هـ.(7/3344)
بحث في جواز امتناع الزوجة حتى يسمى لها المهر
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(7/3345)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " بحث في جواز امتناع الزوجة حتى يسمى لها المهر ".
2 - موضوع الرسالة: " النكاح ".
3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم ".
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين وبعد: فإنه ورد السؤال من بعض الأعلام نفع الله بهم المسلمين الإسلام عن ما وقع من كتب الفقه: أنه يجوز للمرأة أن تمتنع من تمكين الزوج حتى يسمي لها مهرا.
4 - آخر الرسالة: فإن ذلك ليس من شأنه، لأنه لم يتعقل الحجج الشرعية فضلا عن أن يصلح للاحتجاج بها.
هو بخط المجيب المولى شيخ الإسلام رضي الله عنه، وإنما ضرب على اسمه لكون أول البحث ليس بخطه جزاه الله خيرا.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الصفحات: 6 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 19 سطرا ما عدا الأخيرة فهي ستة أسطر.
8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(7/3347)
صورة جواب نقل من خط المجيب سيدي المالك، الصنو، العلامة، البدر، عز الإسلام، محمد بن علي بن محمد الشوكاني - أطال الله مدته - لفظه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين، وبعد:
فإنه ورد السؤال من بعض الأعلام - نفع الله بهم المسلمين والإسلام - عن ما وقع في كتب الفقه: من أنه يجوز للمرأة أن تمتنع من تمكين الزوج حتى يسمي لها مهرا، ثم حتى يعين، ثم حتى يسلم، وكان مضمون السؤال هو عن ما يذهب إليه راقم الأحرف - غفر الله له -.
فأقول: اعلم أنه لا يخفى على من يعلم بما كان عليه أهل الإسلام، في أيام النبوة فما بعدها، أن المهور (1) كان يسلمها الأزواج قبل الدخول، ويسوقون ذلك إلى نسائهم، أو
_________
(1) الأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24].
وقال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4].
قال أبو عبيد: يعني عن طيب نفس، بالفريضة التي فرضها الله تعالى.
وقيل: النحلة: الهبة، والصداق في معناها، لأن كل واحد من الزوين يستمتع بصاحبه، وجعل الصداق للمرأة، فكأنه عطية بغير عوض.
وقيل: نحلة من الله تعالى للنساء، وقال تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}.
وأما السنة: فروى أنس، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى على عبد الرحمن بن عوف درع زعفران فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مهيم؟ " فقال: يا رسول الله، تزوجت امرأة. فقال: " ما أصدقتها؟ " قال: وزن نواة من ذهب، فقال: " بارك الله لك، أولم ولو بشاة ". -
أخرجه البخاري رقم (5148) ومسلم رقم (79/ 1427) -.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق صفية وجعل عتقها صداقها. أخرجه البخاري رقم (371) ومسلم رقم
(84/ 1365). وأجمع المسلمون على مشروعية الصداق في النكاح.
فائدة: وللصداق تسعة أسماء: الصداق، والصدقة، والمهر، والنحلة، والفريضة، والأجر، والعلائق، والعقر، والحباء، روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " أدوا العلائق " قيل: يا رسول الله، وما العلائق؟ قال: " ما تراضى به الأهلون ".
- أخرجه الدارقطني (3/ 244) والبيهقي (7/ 239) وسعيد بن منصور في سننه (1/ 170) وقال الحافظ في " التلخيص " (3/ 190 رقم 1550) إسناده ضعيف جدا.
ويقال: أصدقت المرأة ومهرتها. ولا يقل: أمهرتها.
انظر " المغني " (10/ 97)، " تهذيب اللغة " (5/ 266).
وقال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (5/ 24): قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}. الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه.
وقال ابن كثير في تفسيره (2/ 213): " ... أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتما، وأن يكون طيب النفس بذلك، كما يمنح المنيحة ويعطي النحلة طيبا بها، كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيبا بذلك. فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيء منه فيأكله حلالا طيبا، ولهذا قال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} ".(7/3351)
إلى أولياء النساء، وهذا معلوم بالنقل الذي تضمنته الوقائع المتعددة، والحكايات المدونة في كتب الحديث والتواريخ والسير.
وقد كان الرجل إذا أراد نكاحا سعى في تحصيل المهر حتى يحصله، ثم يدفعه إلى من يريد نكاحها، ويدخل بها بعد ذلك، ومن جملة ما يفيد ما ذكرناه ما أخرجه البخاري (1) ومسلم (2)، وغيرهما (3) من حديث سهل بن سعد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -
_________
(1) في صحيحه رقم (5135).
(2) في صحيحه رقم (76/ 1425).
(3) كمالك (2/ 526 رقم 8) وأحمد (5/ 330، 336) والدارمي (2/ 142) وأبو داود رقم (2111) والنسائي (6/ 123) والترمذي رقم (1114) وابن ماجه رقم (1889) والدارقطني (3/ 247 رقم 21) والبيهقي (7/ 236).(7/3352)
جاءته امرأة فقالت: إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قياما طويلا، فقام رجل فقال: يا رسول الله، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " هل عندك من شيء تصدقها؟ " قال: ما عندي إلا إزاري، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، فالتمس شيئا "، فقال: ما أجد شيئا، فقال: " التمس ولو خاتما من حديد " فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له رسول [الله]- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " هل معك شيء من القرآن؟ " فقال: نعم، سورة كذا وسورة كذا، لسور سماها، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " قد زوجتها بما معك من القرآن "، وللحديث ألفاظ وروايات (1).
والمراد من هذا أنه قدم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - سؤاله عن وجود المهر لديه، ثم ما زال ينتقل معه إلى خاتم الحديد (2)، ثم إلى تعليمها ما يحفظه من القرآن (3)، فأفاد ذلك أن تعجيل المهر وتقديمه على النكاح هو الثابت ...................................
_________
(1) تقدم ذكرها.
(2) قال القرطبي: في " المفهم " (4/ 131): وفيه دليل على جواز كون الصداق منافع، وبه قال الشافعي وإسحاق والحسن بن حي ومالك في أحد قوليه وكرهه أحمد.
وقال مالك في القول الثاني: ومنعه أبو حنيفة في الحر، وأجازه في العبد إلا أن يكون جواز الإجارة على تعليم القرآن، فلا يجوز بناء على أصله في أن تعليم القرآن لا يؤخذ عليه أجر.
والجمهور على جواز ذلك. أي على جواز كون الصداق منافع، وهذا الحديث رد على أبي حنيفة في منعه أخذ الأجر على تعليم القرآن ويرد عليه أيضًا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " أخرجه البخاري رقم (5737).
(3) وفيه ما يدل على أن المهر الأولى فيه أن يكون معجلا مقبوضا. وهو الأولى عند العلماء باتفاق.
ويجوز أن يكون مؤخرا على ما يدل عليه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن، فعلمها " فإنه قد انعقد النكاح وتأخر المهر الذي هو التعليم. وهذا على الظاهر من قوله: " بما معك من القرآن " فإن الباء للعوض، كما تقول: خذ هذا بهذا، أي عوضا عنه.
وقوله: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " علمها " نص في الأمر بالتعليم، والمساق يشهد بأن ذلك لأجل النكاح. "
المفهم " (4/ 130 - 131).(7/3353)
في الشرع (1)، هذا على فرض عدم وقوع التضييق من الزوجة، والامتناع من الدخول إلا بالمهر، كما وقع في هذه القصة. أما لو طلبت تعجيله، وامتنعت عن الدخول بها إلا بتسليمه فلا شك، ولا شبهة أن لها ذلك، لأنه ثم بضعها، وبه يستحل فرجها.
وقد ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أن أحق ما يلزم الوفاء به ما استحلت به الفروج " (2)، فلو كان التأجيل للمهر (3) وبقاؤه دينا على الزوج لازما للزوجة، رضيت أم كرهت، لكان في هذه القصة المتقدمة لذلك الفقير فرجا ومخرجا، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان سيقول له: زوجتكها على مهر هو كذا، يكون دينا عليك حتى يرزقك لله، وبالجملة فنقل الواقعات الدالة على أن الثابت عنه
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) أخرجه البخاري رق (2721) ومسلم رقم (63/ 1418) عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إن أحق الشرط أن يوفى به، ما استحللتم به الفروج ".
(3) قال ابن قدامة في " المغني " (10/ 115): ويجوز أن يكون الصداق معجلا، ومؤجلا، وبعضه معجلا وبعضه مؤجلا، لأنه عوض في معاوضة، فجاز ذلك فيه كالثمن، ثم إن أطلق ذكره اقتضى الحلول كما لو أطلق ذكر الثمن، وإن شرط مؤجلا إلى وقت، فهو إلى أجله.
وإن أجله ولم يذكر أجله، فقال القاضي: المهر صحيح، محله الفرقة فإن أحمد قال: إذا تزوج على العاجل والآجل، لا يحل الآجل إلا بموت أو فرقة، هذا قول النخعي والشعبي.
وقال الحسن وحماد بن أبي سليمان، وأبو حنيفة، والثوري، وأبو عبيد: يبطل الأجل، ويكون حالا.
وقال إياس بن معاوية وقتادة: لا يحل حتى يطلق، أو يخرج من مصرها أو يتزوج عليها.
وعن مكحول، والأوزاعي، والعنبري: يحل إلى سنة بعد دخوله بها ".(7/3354)
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وعن أهل عصره هو تسليم المهر للنساء قبل الدخول (1) بهن يحتاج إلى بسط طويل، ومن رام استيفاء ذلك فليبحث [في] (2) الأمهات والمسانيد، وما يلتحق بذلك، وعندي أنه يجوز للمرأة أن تمنع نفسها من زوجها بعد دخوله بها حتى يسلم مهرها، على فرض أنه لم يسلمه قبل الدخول، لأنها تطلبه بدين عليه استحل به فرجها، أو هو يطلبها بما يجب له عليها من التمكين، وحقها مقدم على حقه، لأنه عوض بضعها الذي يطلبه منها، فلا حرج عليها إن منعت منه ما لم يوفها بعوضه، ومن لم يسوغ لها الامتناع بعد الدخول لم يحتج عليه بما يقوم به حجة، بل لمجرد رأي ومناسبة حاصلة، رعاية ما يجب للزوج بعد الدخول، وإهمال ما يجب للزوجة قبله وبعده. ولم يرد ما يوجب هذه الرعاية في جانب الزوج، ويسوغ الإهمال في جانب الزوجة، بل ورد ما يفيد خلاف ذلك، وهو أنعليه الوفاء بمهرها الذي استحل به بضعها، وحسن عشرتها. ومن أهم ما يجب عليه من حسن العشرة، وأقدم ما يلزم من المعروف الذي أمر الله به في محكم كتابه بقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ ....................
_________
(1) أخرج أبو داود في " السنن " رقم (2125) من حديث ابن عباس: " أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منع عليا أن يدخل بفاطمة حتى يعطيها شيئا، ولما قال: ما عندي شيء، قال: فأين درعك الحطمية؟ فأعطه إياها " وهو حديث صحيح.
ومنها حديث سهل بن سعد وقد تقدم.
قال ابن قدامة: ويجوز الدخول بالمرأة قبل إعطائها شيئا، سواء كانت مفوضة أو مسمى لها. وبهذا قال سعيد بن المسيب، والحسن، والنخعي، والثوري، والشافعي.
وروي عن ابن عباس، وابن عمر، والزهري، وقتادة، ومالك: لا يدخل بها حتى يعطيها شيئا.
قال الزهري: مضت السنة أن لا يدخل بها حتى يعطيها شيئا، قال ابن عباس: يخلع إحدى نعليه ويلقيها إليها.
قيل: يحمل هذا - قول ابن عباس - على الاستحباب، أي يستحب أن يعطيها قبل الدخول شيئا.
(2) زيادة يقتضيها السياق.(7/3355)
بِالْمَعْرُوفِ} (1) هو تسليم مهرها , ولا سيما إذا كانت مطالبة له به، مصبقة عليه فيه، بل مطلها من أعظم أنواع الضرار التي نهى الله عنها بقوله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ} (2).
وبالجملة فالهدي النبوي، والقانون المصطفوي هو تسليم مهر النساء قبل استحلال فروجهن، والدخول عليهن، من غير نظر إلى وقوع الطلب منهن. أما إذا وقع الطلب منهن فقد تعين ذلك على الزوج، فإن قدر عليه سلمه، وإن لم يقدر عليه فهو قبل الدخول بالخيار بين تسريحها أو إمساكها، غير مطالب لها بحقه قبل الوفاء منه بحقها، وإن كان قد دخل بها وطالبته بتسليمه وهو متمكن فلا شك ولا شبهة أنه يجب عليه ذلك، فإن لم يفعل كان لحكام المسلمين أن يأخذوا من ماله بقدر ذلك، شاء أم أبى، كما يفعلون ذلك في سائر الديون، فإن هذا دين من أهم الديون وأحقها بالوفاء. وليس له ولا لغيره من ولي , أو صحب ولاية أن يجبرها على تسليم حقه حتى تستوفي منه حقها.
وأما إذا كان فقيرا فلا حرج عليها في الامتناع حتى يذهب، فيتكسب ما يقوم بمهرها. وقد يقال: إن هذا الدين وإن كان من أهم الديون فقد دخل تحت قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (3) ولما كان الزوج ذا عسرة كان عليها إنظاره إلى ميسرة، ولكن هذا الدليل وإن أفاد وجوب الإنظار فلا يفيد وجوب التمكين منها له. والأدلة الدالة على وجوب الطاعة والانقياد وإن تناولت التمكين من الوطء تناولا أوليا، لكن لا يبعد أن يقال: إن لها أن تمنع منه ما مطلها بعوضه، حتى تحصله
_________
(1) [النساء: 19].
(2) [الطلاق: 6].
(3) [البقرة: 280].(7/3356)
وقد قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1) , وكون الفقر عذرا له بقابله بأن نطلها في عوض بضعها عذر لها في منعه منه. فإن قيل: ما نزل به من الفقر صيره غير واجد، وكان ذلك عذرا له عن وجوب التعجيل، والزوجة لم يكن مطلها من مهرها عذرا لها في ترك التمكين لأنها متمكنة من ذلك، وليس من تعذر عليه تسليم ما يجب عليه كمن لم يتعذر عليه ذلك. فيقال: لم ينسد على الزوج طرق المكاسب، وأسباب المعاش التي يتوصل بها إلى تسليم ما يجب عليه بها، وهي لم تطلب منه التسليم في الحال، إنما طلبت منه السعي في التحصيل، ومنعته من شيء لم يسلم ما يجب عليه فيه، وبعد اللتيا والتي (2) فلو كان الامتناع من تمكين الزوج (3) الفقير بعد الدخول
_________
(1) [البقرة: 228].
قال ابن كثير في تفسيره (1/ 609): " أي ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف كما ثبت في صحيح مسلم رقم (1218) عن جابر أن رسول الله - قال في خطبته في حجة الوداع: " فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ". وفي حديث بهز بن حكيم عن معاوية بن حيدة القشيري، عن أبيه، عن جده أنه قال: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا؟ قال: " أن تطعمها وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت " أخرجه أبو داود بسند حسن ".
(2) قيل: اللتيا تصغير التي، وهي الداهية الصغيرة. والتي هي الداهية الكبيرة.
ويقال: وقع فلان في اللتيا والتي، وهما اسمان من أسماء الداهية.
وقيل: تصغير لتي واللاتي: اللات اللتيا واللتيا، بالفتح والتشديد.
انظر: " لسان العرب " (12/ 234).
(3) قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، أن للمرأة أن تمتنع من دخول الزوج عليها، حتى يعطيها مهرها.
وإن كان معسرا بالصداق امتنعت لأن امتناعها بحق. وإن كان الصداق مؤجلا، فليس لها منع نفسها قبل قبضه، لأن رضاها بتأجيله رضى بتسليم نفسها قبل قبضه، كالثمن المؤجل في البيع.
فإن حل المؤجل قبل تسليم نفسها، لم يكن لها منع نفسها أيضا، لأن التسليم قد وجب عليها واستقر قبل قبضه، فلم يكن لها أن تمنع منه.
وإن كان بعضه حالا وبعضه مؤجلا، فلها منع نفسها قبل العاجل دون الآجل، ثم لو أرادت منع نفسها حتى تقبضه، فقد توقف أحمد عن الجواب فيها , وذهب أبو عبد الله ابن بطة، وأبو إسحاق بن شاقلا إلى أنها ليس لها ذلك. وهو قول مالك والشافعي، وأبي يوسف ومحمد، لأن التسليم استقر به العوض برضى المسلم فلم يكن لها أن تمتنع بعد ذلك. كما لو سلم البائع المبيع.
وذهب أبو عبد الله ابن حامد إلى أن لها ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة، لأنه تسليم يوجبه عليها عقد النكاح. فملكتت أن تمتنع منع قبل قبض صداقها، كالأول. فأما إن وطئها مكرهة، لم يسقط به حقها من الامتناع لأنه حصل بغير رضاها، كالمبيع إذا أخذه المشتري من البائع كرها. وإن أخذت الصداق فوجدته معيبا، فلها منع نفسها حتى يبدله، أو يعطيها أرشه. لأن صداقها صحيح، وإن لم تعلم عيبه حتى سلمت نفسها، خرج على الوجهين فيما إذا سلمت نفسها قبل صداقها ثم بدا لها أن تمتنع.
انظر: " المغني " (10/ 171 - 172).(7/3357)
غر جائز، لكونه غير واجد، وقد أوجب الله إنظاره لم يكن الامتناع من الغني الممكن من التسليم غير جائز، بل لا شك في جوازه. أما قبل الدخول فظاهر، وأما بعد الدخول فلتعادل ما قدمنا ذكره من أدلة وجوب الوفاء من كل منهما بحق الآخر، وعدم المرجح لأحد الحقين على الآخر لا شرعا ولا عقلا.
وإذا تقرر ما ذكرناه سابقا من أن تقديم تسليم المهر على الدخول هو المنهج الشرعي، والمهيع النبوي فقد اختلف في كونه واجبا منجما أم لا؟.
فاستدل من أوجبه بما قدمنا في حديث الواهبة نفسها (1)، ومن أوجب تسليم بعضه استدل بما أخرجه أبو داود (2)، والنسائي (3)، وصححه الحاكم (4) من حديث ابن عباس، قال: لما تزوج على فاطمة - رضي الله عنهما - قال له رسول الله - صلى الله عليه وآله
_________
(1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(2) في " السنن " رقم (2125).
(3) في " السنن " (6/ 129 رقم 3375).
(4) لم أجده في المستدرك وهو حديث صحيح وقد تقدم.(7/3358)
وسلم -: " أعطها شيئا " قال: ما عندي شيء. قال: " أين درعك الحطمية؟ "، وفي لفظ لأبي داود (1) أنه أراد أن يدخل بها فمنعه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حتى يعطيها شيئا، فقال: يا رسول الله، ليس لي شيء، فقال له: " أعطها درعك " فأعطاها درعه، ثم دخل بها.
واستدل من لم يجعل ذلك واجبا بما أخرجه أبو داود (2)، وابن ماجه (3) من حديث عائشة قالت: أمرني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن لا أدخل امرأة على زوجها قبل أن يعطيها شيئا، وقد سكت على هذا الحديث أبو داود، والمنذري. ويمكن الجمع بين الحديثين بوجوه:
منها: أنه يجب تقديم التسليم مع الطلب من الولي، أو المرأة , ولا يجب مع عدم ذلك، وإن كان هو الباعث على عهد النبوة، الشائع الذائع، فأقل الأحوال أن يكون سنة مؤكدة مع عدم الطلب , واجبا منجما معه، فهذا حاصل ما ينبغي أن يقال به في هذه المسألة، وإن كان المقام يحتمل التطويل والبسط (4).
_________
(1) في " السنن " رقم (2126).
(2) في " السنن " رقم (2128).
(3) في " السنن " رقم (1992) وهو حديث ضعيف.
(4) قال الماوردي في " الحاوي الكبير " (2/ 162 - 165): إذا امتنعت المرآة من تسليم نفسها لقبض صداقها لم يخل خاله من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون جميعه حالا.
والثاني: أن يكون جميعه مؤجلا.
والثالث: أن يكون بعضه حالا وبعضه مؤجلا.
القسم الأول: وهو أن يكون جميعه حالا، إما بإطلاق العقد، أو بالشرط فيكون حالا بالعقد، والشرط تأكيد، فلها أن تمتنع من تسليم نفسها على قبض صداقها، كما كان لبائع السلعة أن يمتنع من تسليمها على قبض ثمنها.
فإن تطوعت بتسليم نفسها قبل قبض الصداق، ثم أرادت بعد التسليم أن تمتنع عليه لقبض الصداق فهذا على ضربين:
الأول: أن لا يكون قد وطئها، فلها أن تمتنع عليه، وإن سلمت نفسها إليه إذا لم يكن قد وطئها، لأن القبض في النكاح يكون بالوطء الذي يستقر به كمال المهر دون التسليم، وهذا متفق عليه.
الثاني: أن يكون قد وطئها بعد التسليم، فليس لها عندنا أن تمتنع عليه.
وقال أبو حنيفة: لها الامتناع بعد الوطء، كما كان لها الامتناع قبله احتجاجا بأن الصداق في مقابلة كل وطء في النكاح لأمرين:
أحدها: أنه لو كان في مقابلة الأول لوجب للثاني مهر آخر.
الثاني: أنه لو كان في مقابلة كل وطء، لم يكن تسليمها لبعض الحق مسقطا لحقها في منع ما بقي، كمن باع عشرة أثواب فسلم أحدها قبل قبض الثمن، كان له حبس باقيها، كذلك هاهنا.
قال: ولأنها لم تستوف مهرها مع استحقاق المطالبة، فجاز لها أن تمتنع من تسليم نفسها قياسا على ما قبل الوطء.
وقد تقدم مناقشة ذلك.
القسم الثاني: وهو أن يكون صداقها مؤجلا، فيجوز إذا كان الأجل معلوما لأن كل عقد صح بعين وبدين، صح أن يكون معجلا ومؤجلا، كالبيع، وإذا كان الصداق مؤجلا، فعليها تسليم نفسها، وليس لها الامتناع لقبض الصداق بعد حلول الأجل، لأنها قد رضيت بتأخير حقها وتعجيل حقه، فصار كالبيع بالثمن المؤجل يجب على البائع تسليم المبيع قبل قبض الثمن. فعلى هذا لو تأخر تسليمها لنفسها حتى حل الأجل، فأرادت الامتناع من تسليم نفسها حتى تقبض الصداق، لم يكن ذلك لها، وإن حل، لأنها لم تستحق الامتناع عليه بالعقد.
القسم الثالث: وهو أن يكون بعض صداقها حالا وبعضه مؤجلا، فيصح إذا كان قدر الحال منه معلوما وأجل المؤجل معلوما. ولها أن تمتنع من تسليم نفسها لقبض الحال، وليس لها أن تمتنع من تسليم نفسها لقبض المؤجل، فيكون حكم الحال منه كحكمه لو كان جميعه حالا، وحكم المؤجل منه كحكمه لو كان جميعه مؤجلا، فلو تراخى التسليم حتى حل المؤجل كان لها منع نفسها على قبض المعجل دون ما حل من المؤجل.
وانظر: " المغني " (10/ 115).(7/3359)
وأما احتجاج من يحتج على مطل النساء في مهورهن بأنه قد جرى العرف بذلك، فليست الأعراف المخالفة للمنهج الشرعي بحجة على أحد، بل هي معصية لله ولرسوله، فكيف نجعل المعاصي أدلة شرعية! فإن من بلغ به القصور إلى جعل معاصي الله - سبحانه - ومخالفة شرعه، وتعدي حدوده أدلة شرعية على عباد الله حقيق بأن يطلب العلم، ويستفيد من أهله , ويدع الاستدلال بما ليس بدليل، فإن ذلك ليس من شأنه لأنه لم يتعقل الحجج الشرعية فضلا عن أن يصلح للاحتجاج بها.
هو بخط المجيب المولى شيخ الإسلام رضي الله عنه. وإنما ضرب على اسمه لكون أول البحث ليس بخطه - جزاه الله خيرا.(7/3361)
بلوغ المنى في حكم الاستمنى
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(7/3363)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " بلوغ المني في حكم الاستمني ".
2 - موضوع الرسالة: " فقه النكاح ".
3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم. إياك نستعين والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وبعد، فإنه سأل الشيخ العلامة محمد عابد مراد السندي ... ".
4 - آخر الرسالة: " واعلم أن الكلام في المرأة كالكلام في جميع ما أسلفنا لأن الحكم واحد، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولى التوفيق. بخط المؤلف العلامة بدر الإسلام محمد بن علي الشوكاني ".
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 14 صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 9 - 10 كلمة ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 8.
9 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(7/3365)
بسم الله الرحمن الرحيم
وإياك نستعين، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله.
وبعد: فإنه سأل الشيخ العلامة: " محمد عابد مراد السندي " - دامت فوائده، ومت موائده - بما لفظه: " ما قولكم - أدام الله فوائدكم، وأمتع بحياتكم - في الاستمناء بالكف أو التفخيذ، أن نحوهما، أو شيء يخالف جسد الإنسان، كالحك في شيء يحصل به الاستمناء هل ذلك محرم أم لا؟ معاقب عليه أم لا؟ مثاب فيه عند ضرورة، توجهت له تكاد توجب الزنا، أم لا. بينوا لنا بجواب شاف، مشتمل على الدلائل الشافية الصريحة في المقصودة، جزيتم خيرا " انتهى.(7/3369)
أقول: الجواب عن هذا السؤال، بمعونة الملك المتعال ينحصر في بحثين. "
البحث الأول "
في النقل عن أهل العلم "
البحث الثاني "
في الكلام على ما تمسكوا به، وعلى ما أشار إليه السائل في السؤال من الاستفهامات.
أما البحث الأول:
فنقول: حكى ابن القيم (1) في كلام له عن ابن عقيل (2) أنه قال: إذا قدر الرجل على التزويج حرم عليه الاستمناء بيده، قال: وأصحابنا - أي الحنابلة - وشيخنا أين (ابن تيمية) لم يذكروا سوى الكراهة، ولم يطلقوا التحريم، قال ابن عقيل أيضا: وإن لم يكن له زوجة، ولا أمة، ولم يجد به كره ولم يحرم، والفقير إذا خشي العنت فإنه جائز له، نص عليه أحمد (3)، وروي أن الصحابة كانوا يفعلونه في غزواتهم
_________
(1) في " بدائع الفوائد " (4/ 96 - 97).
(2) هو قاضي القضاة علي بن محمد بن عقيل الفقيه البغدادي كان مولده سنة 432 هـ وتوفي يوم الجمعة سنة 513 هـ. وكنيته أبو الفداء.
انظر: " طبقات الحنابلة " (3/ 359).
(3) والعبارة كما ذكرها ابن القيم في " بدائع الفوائد " (4/ 96 - 97): قال ابن عقيل: " وإذا لم يقدر على زوجة ولا سرية، ولا شهوة له تحمله على الزنا، حرم عليه الاستمناء؛ لأنه استمتاع بنفسه، والآية تمنع منه. يعني آية المؤمنون {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5 - 7].
قال: وإن كان متردد الحال بين الفتور والشهوة، ولا زوجة له، ولا أمة كره ولم يحرم، وإن كان مغلوبا على شهوته، يخاف العنت، كالأسير والمسافر والفقير جاز له لك، نص عليه أحمد ".(7/3370)
وأسفارهم ... إلى أن قال: وإذا استمنى وصور في نفسه شخصا، أو دعا باسمه، فإن كان زوجة أو أمة فلا بأس، وإن كان غائبا عنهما، فإن الفعل جائز، ولا يمنع من توهمه أو تخيله، وإن كان غلاما أو أجنبية كره له ذلك، لأنه يكون أغرى لنفسه بالحرام، وحث عليه، قال: فإن أولج في بطيخة، أو عجين فهو أسهل من استمنائه بيده.
فتلخص من كلامه هذا أن الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه يجوزون الاستمناء مع خشية العنت، ويجعلونه مكروها مع عدمها، ولو صور في نفسه صورة ويجعلون الكراهة في الاستمناء بالكف أشد من الكراهة في استخراج المني بشيء من الجمادات، كالبطيخ والعجين ونحوهما.
وفي منتهى الإرادات (1) في فقه الحنابلة ما يدل على أنه لا يحل مع عدم الحاجة، فإنه قال: ومن استمنى لغير حاجة من ورجل أو امرأة حرم، وإن فعله خوفا من الزنا فلا شيء عليه.
وقد حكى الرخصة عبد الرزاق في جامعه (2) عن جماعة، فذكر بإسناده عن مجاهد قال: كان من مضى يأمرون شبابهم بالاستمناء يستعفون، وذكره معمر عن أيوب عن مجاهد.
وأخرج عبد الرزاق (3) أيضًا عن ابن جريج قال: قال لي عمرو بن دينار: ما أرى بالاستمناء بأسا.
وأخرج (4) أيضًا بإسناد متصل عن ابن عباس ما يدل على أنه يجوزه، وقد حكى ذلك عنه البيهقي (5)، فإنه قال في سننه: أخبرنا أبو طاهر الفقيه، وأبو بكر
_________
(1) (5/ 143 - 144).
(2) في مصنفه (7/ 391 رقم 13593).
(3) في مصنفه (7/ 392 رقم 13594).
(4) أي عبد الرزاق في مصنفه (7/ 390 - 391 رقم 13588).
(5) في " السنن " (7/ 199).(7/3371)
القاضي، قالا: أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي: حدثنا عبد الرحيم بن منيب، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا سفيان الثوري عن عمار الدهني، عن مسلم البطين، عن ابن عباس أنه سئل عن الخضخضة أي نكاح اليد. فقال: نكاح الأمة خير منه، وهو خير من الزنا. هذا مرسل موقوف.
أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي قال: أخبرنا أبو عبد الله بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، أخبرنا جعفر بن عون، أخبرنا الأجلح عن أبي الزبير عن ابن عباس [رضي الله عنه] (1) أن رجلا أتاه فجعل القوم يقومون، والغلام جالس، فقال له بعض القوم: قم يا غلام، فقال ابن عباس [رضي الله عنه] (2): دعوه، شيء ما أجلسه، فلما خلى سبيله قال: يا ابن عباس إني غلام شاب أجد غلمة شديدة، فأدلك ذكري حتى أنزل، قال ابن عباس: هو خير من الزنا، ونكاح الأمة خير منه (3). انتهى.
وقال ابن نجيم (4) من الحنفية: إن الاستمناء لتسكين الشهوة صغيرة.
وقال السيد المهودي في فتاوية؛ نقل ابن كج أن فيه توقفا في القديم. قال: وفي تحرير المجد لابن تيمية: إنه مباح لمن خشي العنت أن يستمني بيده، فإن لم يخش حرم عليه، وعن أحمد يكره تنزيها، مقتضاه عند أحمد الجواز مع كراهة التنزيه حالة عدم الضرورة بأن لا يخشى العنت.
قال السمهودي: ويحتمل حمل ما أطلقه الأصحاب من الجزم بالتحريم على هذه الحالة. انتهى.
فتقرر بهذا أنه ذهب إلى الجواز أعم من أن يكون مع كراهة، أو مع عدمها ابن
_________
(1) زيادة يستلزمها السياق.
(2) زيادة يستلزمها السياق.
(3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7/ 391 رقم 13590).
(4) انظر " بدائع الفوائد " (4/ 96 - 97).(7/3372)
عباس، ومجاهد، وعمرو بن دينار، وابن جريج، وأحمد بن حنبل وأصحابه، وبعض الحنفية، وبعض الشافعية، فما حكاه السيد العلامة هاشم بن يحيى الشامي - رحمه الله - في جواب له من أن الاستمناء باليد أو نحوها مجمع على تحريمه إذا قدر الرجل على التزوج، أو التسري، أو كان لا يخشى العنت والضرر يخالف ما قدمناه عن أحمد وأصحابه، ويؤيد ذلك أن صاحب البحر (1) حكى الخلاف من غير تقييد يقيد فقال: مسألة: الأكثر ويحرم استنزال المني بالكف، ثم قال حاكيا عن أحمد بن حنبل، وعمرو بن دينار: إنه مباح، فأفاد هذا أنه منعه الأكثرون مطلقا، وأباحه الأقلون مطلقا، وقد اقتصر البيهقي في السنن (2) على حكاية المنع عن الشافعي فقال: قال الشافعي (3): لا يحل العمل بالذكر إلا في زوجة، أو ملك يمين ولا يحل الاستمناء. انتهى.
_________
(1) " البحر الزخار " (5/ 146).
(2) " في السنن الكبرى " (7/ 199).
(3) في " الأمم " (10/ 324).
وانظر " المهذب في فقه الإمام الشافعي " للشيرازي (5/ 387).(7/3373)
البحث الثاني
في الكلام على ما تمسك به المختلفون من المانعين والمجوزين.
استدل المانعون بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (1).
وتقرير الاستدلال ما يقيده قوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} فإن الإشارة إلى قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فما غاير ذل فهو من الورى الذي لا يبتغيه إلا العادون، ويمكن أن يقال إنه لا عموم لهذه الصيغة ما هو مغاير للأرواح، وملك اليمين مغايرة أي مغايرة، وإلا لزم تحريم كل ما يبتغيه الإنسان، وهو مغاير لذلك، وإن كان الابتغاء لمنفعة من المنافع التي لا تتعلق بالنكاح، كالأكل والشرب. واللازم باطل بالإجماع، فلا بد من تقييد ذلك الابتغاء للورى، ومع
_________
(1) [المؤمنون: 5 - 7]
قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (12/ 105 - 106): قال محمد بن عبد الحكم: سمعت حرملة بن عبد العزيز قال: سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة، فتلا هذه الآية: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} إلى قوله: {الْعَادُونَ} وهذا لأنهم يكنون عن الذكر بعميرة، وفيه يقول الشاعر:
إذا حللت بواد لا أنيس به ... فاجلد عميرة لا داء ولا حرج
ويسميه أهل العراق الاستمناء، وهو استفعال من المني، وأحمد بن حنبل على ورعه يجوزه، ويحتج بأنه إخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة أصله الفصد والحجامة، وعامة العلماء على تحريمه، وقال بعض العلماء: إنه كالفاعل بنفسه، وهي معصية أحدثها الشيطان وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة، وياليتها لم تقل. ولو قام الدليل على جوازها لكان ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها.
فإن قيل: إنها خير من نكاح الأمة، قلنا: نكاح الأمة ولو كانت كافرة على مذهب بعض العلماء خير من هذا، وإن كان قد قال به قائل أيضا، ولكن الاستمناء ضعيف بالدليل عار بالرجل الدنيء، فكيف بالرجل الكبير.(7/3374)
تقييده بذلك، فلا بد من تقييده بكونه في فرج من قبل أو دبر، فيكون ما في الآية في قوة: فمن ابتغى نكاح فرج غير فرج الزوجات والمملوكات فأولئك هم العادون.
فإن قلت: هذا إنما يتم إذا كان التقدير: والذين هم لفروجهم حافظون إلا على فروج أزواجهم، أو فروج ما ملكت أيمانهم حتى يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، وذلك يستلزم أن يكون الاستمتاع بغير الفرج من الزوجات، وملك اليمين من الورى، فلا يحل، واللازم باطل فالملزوم مثله.
قلت: جواز الاستمتاع بغير الفرج من الزوجات والمملوكات ورد به الدليل، كالأحاديث الواردة في جواز الاستمتاع منهما بغير الفرج (1)، وكقوله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (2) فلا يلزم بطلان اللازم، ولا بطلان الملزوم، فإن قلت: تقييد ما في الآية بالنكاح في فروج الزوجات والمملوكات غير ظاهر، بل المتبادر ما هو أعم من ذلك.
قلت: هذا وإن كان هو الظاهر لكن صدق اسم النكاح على الاستمتاع من الزوجات والمملوكات بغير الفرج غير ظاهر، وقد عرفت أنه لا بد من تقييد ما في الآية به، وإلا لزم الباطل بالإجماع كما قدمنا؛ فإن قلت أنت لا يقدر النكاح بل يكفيك بمجرد ما في الآية من ذكر الحفظ، قلت: حفظ الفرج باعتبار مدلوله اللغوي أعم من حفظه عن النكاح وعن غيره، كالبول والمماسة للثبات، والجمادات، فلا بد من تقييد ما في الآية بالنكاح، وكما لا يصدق على الاستمتاع بغير الفرج من الزوجات والمملوكات اسم النكاح، وكذلك لا يصدق على الاستمناء بالكف ونحوه اسم النكاح، فتدبر هذا.
وقد قيل: إن الآية مجملة، والمجمل لا يحتج به إلا بعد بيانه، وقد بين الله سبحانه في
_________
(1) أخرج مسلم في صحيحه رقم (16/ 302) عن أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح ... ".
(2) [البقرة: 223].(7/3375)
كتابه (1)، وكذلك رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنته (2) ما يحرم نكاحهم مثل الزنى الذي أوجب الله فيهم الحد.
واحتجوا ثانيًا: بحديث: " ملعون من نكح يده " ولم أجده بهذا اللفظ، لكنه أورده ابن حجر في التلخيص (3) فقال: رواه الأزدي في الضعفاء (4)، وابن الجوزي (5) من طريق الحسن بن عرفة (6) في جزئه المشهر من حديث أنس بلفظ: " سبعة لا ينظر الله إليهم، فذكر منهم: الناكح يده "، وإسناده ضعيف.
ولأبي الشيخ في كتابه: الترهيب (7) من طريق أبي عبد الرحمن الحبلي، وكذلك رواه جعفر الفريابي من حديث عبد الله بن عمر، وفي إسناده ابن لهيعة، كذا في تلخيص ابن حجر (8).
وأخرجه البيهقي في الشعب (9)، وروى السيوطي في مسند أبي هريرة من جمع
_________
(1) قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68].
(2) أخرج البخاري في صحيحه رق (4477) ومسلم رقم (86) من حديث عبد الله: سألت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الذنب أعظم؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قال: قلت: ثم أي؟ قال: " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " قال: قلت: ثم أي؟ قال: " أن تزاني حليلة جارك ".
وانظر " الكبائر " للذهبي (ص 26 - 30).
(3) (3/ 381 رقم 1666).
(4) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (3/ 381).
(5) ذكره ابن حجر في " التلخيص " (3/ 381).
(6) كما في " الكنز " رقم (44040).
(7) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (3/ 381).
(8) (3/ 381).
(9) (4/ 378 رقم 5470).(7/3376)
الجوامع: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن نكاح اليمين.
قال: أخرجه ابن عساكر. ويجاب بأن مثل هذه الروايات الواهية لا تنتهض للاحتجاج بها. وعلى فرض أنه يقوي بعضها بعضا، فيحمل مطلقها على مقيدها، ويكون الممنوع منه الاستمناء باليمين لا باليساء، ولا بشيء من الجمادات.
ومن جملة ما تمسك به المانعون ما علم من محافظة الشرع وعنايته بتحصيل مصلحة التناسل (1). ويجاب بأن هذا مسلم إذا استمنى من له زوجة، أو أمة حاضرتان لا من كان أعزب، أو كان في بلاد بعيدة عن من يحل له نكاحه، ولا سيما إذا كان ترك ذك يضره، كمن يكون قوي الباءة، كثير الاحتياج إلى إخراج ما ببدنه من فضلات المني، فإن هذا باب من أبواب التداوي التي أباح الشارع جنسها من غير تعيين لنوعها، ولا لشخصها. وليس هذا من التداوي بالحرام حتى يقال أن الله (2) لم يجعل شفاءنا فيما حرمه علينا، لما عرفت أنه لم ينتهض الدليل القاضي بالتحريم.
ومن جملة ما تمسكوا به أنه ينافي ما ورد في الشرع من الترغيب في النكاح (3)،
_________
(1) عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تزوجوا الودود الولود، فإن مكاثر بكم الأمم ".
أخرجه أبو داود رقم (2050) والنسائي (6/ 65) والحاكم (2/ 62) وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح.
(2) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ".
أخرجه البخاري في صحيحه (9/ 87) معلقا ووصله ابن حجر في " الفتح " (9/ 79).
وأخرج أبو داود رقم (3874) من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بحرام ".
وهو حديث حسن بشواهده.
(3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (5066) ومسلم رقم (1400) وأبو داود رقم (2046) والترمذي رقم (1081) والنسائي (6/ 58). عن عبد اله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء ".
قال الحافظ في " الفتح " (9/ 112): واستدل به بعض المالكية على تحريم الاستمناء لأنه أرشد عند العجز عن التزويج إلى الصوم الذي يقطع الشهوة، فلو كان الاستمناء مباحا لكان الإرشاد إليه أسهل.(7/3377)
ويجاب عن ذلك بأن هذا الذي هو محل النزاع، فعل ما فعله من الاستمناء للحاجة، وعدم القدرة على زوجة أو أمة، أما لو كان قادرا عليهما، وأراد أن يعدل عنهما إلى الاستمناء فلا شك أن فعله هذا يخالف ما ورد من الترغيب في النكاح، بل مجرد ترك التزوج مع القدرة عليه، يخالف ما ورد في الشرع من الترغيب في النكاح، ولو لم يقع منه الاستمناء أو نحوه.
ومن جملة ما تمسكوا به، قياس الاستمناء على اللوطية (1)، يجامع قطعهما للنسل، ومنعهما منه، ويجاب بأن هذا قياس مع الفارق؛ فإن التلوط هو في فرج محرم شرعا، وليس الاستمناء في فرج.
وأيضا يجاب بالمعارضة، وهو أن هذا القياس يجري في الاستمتاع فيقال: الاستمتاع من الزوجة بغير الفرج قد سوغه الشارع مع كونه يجامع اللوطية في قطع النسل، فلو كان ذلك موجبا للتحريم لكان الاستمتاع المذكور حراما، واللازم باطل فالملزوم مثله، والجواب الجواب، وأيضا بالنقض فيقال: لو كان هذا القياس صحيحا لكان الحد واجبا على من استمنى، كما يجب على من تلوط، وليس بواجب بإجماع المسلمين.
ومن جملة ما تمسكوا به قياس الاستمناء بالكف ونحوه على العزل (2)، ويجاب بأن
_________
(1) عن ابن عباس قال قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ".
أخرجه أحمد (1/ 300) وأبو داود رقم (4462) وابن ماجه رقم (2561) والترمذي رقم (1456) والحاكم (4/ 355) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. والبيهقي (8/ 232). وهو حديث صحيح.
وانظر " الكبائر " للذهبي (ص 81 - 82) الكبيرة السابعة عشرة.
(2) قال في " المسوي " (2/ 193): " اختلف أهل العلم في العزل، فرخص فيه غير واحد من الصحابة والتابعين، وكرهه جمع منهم، ولا شك أن تركه أولى ".
أخرج مسلم رقم (141/ 1442) ومالك (8/ 607 - 608) وأبو داود رق (3882) والترمذي رقم (2077) والنسائي (6/ 106 - 107) وابن ماجه رقم (2011).
عن جذامة بنت وهب الأسدية قالت: " أنهم سألوا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن العزل فقال: ذلك الوأد الخفي ". وهو حديث صحيح.
وقد استدل على جواز العزل بحديث جابر في صحيح البخاري رقم (5209) ومسلم رقم (1440) قال: " كنا نعزل على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والقرآن ينزل ".
ويمكن الجمع بحمل الأحاديث القاضية بالمنع على مجرد الكراهة فقط دون التحريم.
وانظر تفصيل ذلك في " الفتح " (9/ 307 - 310).(7/3378)
الأصل مختلف في تحريمه لاختلاف أدلته (1)، فلا يصح القياس لمحل النزاع على ما هو متنازع فيه، وأيضا يجاب بالمعارضة بمثل الاستمتاع من الزوجة والأمة بغير الفرج، فإن كل ما فرض مانعا الاستمناء فهو مانع من الاستمتاع.
وقد صح الدليل في جواز الثاني، ولم يصح الدليل في تحريم الأول.
ومن جملة ما تمسكوا به أن الاستمناء بالكف استمتاع بالنفس، ويجاب بأن هذا إن كان استدلالا على عدم جواز الاستمتاع بالكف فهو مصادرة على المطلوب؛ لأنه استدلال بمحل النزاع، فمن يقول بإباحة الاستمناء بالكف يجوز الاستمناء بحك الذكر مثلا بالفخذ والساق ونحوهما، وأيضا لو صح أن يكون أصلا يقاس عليها الاستمناء بالكف لكان دليل التحريم في الأصل ممنوعا، فالفرع مثله، وأيضا لو خلى العقل وشأنه لكان للإنسان الانتفاع بنفسه في دفع الضرر عنه، ورفع الحاجة منه، بما لا يحرم عليه، كما أن له أن ينتفع بها في طلب المعاش والكسب العائد نفعه عليه، وفي الرياضة ونحوها من أسباب الصحة، ودفع المرض، وفي إكراهها على استعمال الأدوية التي تكرهها، والأدوية المسهلة والاستفراغات التي لا تتم إلا بتأليم للبدن بوجه من الوجوه كالفصد، والحجامة، والحقنة، واللدود، ونحو ذلك.
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.(7/3379)
ومن جملة ما تمسكوا به أن المستمني بالكف ونحوه قد يتصور (1) شخصا ممن يحرم عليه، وفي ذلك إغراء للنفس بالحرام، وتهوينه عليها، ويجاب بأن هذا التصور على فرض وقوعه، ما الدليل على تحريمه؟ إن كان ما ذكرتم من الإغراء للنفس، فإن كان هذا صحيحا كان مجرد التفكير في النكاح وخطوره بالبال، أو تصور صورة لا تعرف، ولا يعلم المتصور وجودها حراما، وهو باطل بالإجماع، وما استلزم الباطل باطل، ثم يلزمكم جواز الاستمناء بالكف عند عدم تصور الصورة المحرمة أو عند صور من يحل نكاحه، وأنتم لا تقولون به.
والجواب الجواب، ثم ما ذكرتم من كون ذلك إغراء للنفس، وذريعة إلى الحرام، وتوصلا إليه ممنوع، بل الأمر بالعكس، فإن من ترك إخراج فضلات المني تزايد شبقه، وتضاعفت دواعي شهوته، ووقع في الحرام اضطرارا لا اختيارا، فلو كان مجرد مظنة الإغراء للنفس مسوغا للأحكام الشرعية لكان ذلك حجة عليكم لا لكم.
ومن جملة ما تمسكوا به أن في الاستمناء بالكف مضارا يذكرها أهل الطب، منها فتور الذكر، ويجاب بأن النزاع ههنا في الأحكام الشرعية، لا في الأحكام الطبية (2)،
_________
(1) ذكره ابن القيم في " بدائع الفوائد " (4/ 97).
(2) ثبت في علم الطب أن الاستمناء يورث عدة أمراض، منها:
1 - يضعف البصر، ويقلل من حدته المعتادة إلى حد بعيد.
2 - يضعف عضو التناسل، ويحدث فيه ارتخاء جزئيا أو كليا، بحيث يصير فاعله أشبه بالمرأة لفقده أهم مميزات الرجولة.
3 - يؤثر ضعفا في الأعصاب عامة، نتيجة الإجهاد الذي يحصل من تلك العملية.
4 - يؤثر اضطرابا في آلة الهضم، فيضعف عملها ويختل نظامها.
5 - يضعف نمو الأعضاء، خصوصا الإحليل والخصيتين، فلا تصل إلى حد نموها الطبيعي.
6 - يؤثر التهابا منويا في الخصيتين، فيصير صاحبه سريع الإنزال.
7 - يورث ألما في فقار الظهر، وهو الصلب الذي يخرج منه المني، وينشأ عن هذا الألم تقويس في الظهر وانحناء.
8 - يورث رعشة في بعض الأعضاء كالرجلين.
9 - يورث غما في الصدر.
10 - أنه يحل ماء فاعله، فبعد أن يكون غليظا ثخينا، كما هو المعتاد في مني الرجل، يصير بهذه العملية رقيقا، فيتكون منه جنين ضعيف.
انظر: - كتاب " الضعف التناسلي عند الرجال والنساء ". الدكتور حسين الهرادي. بع / دار الكتب المصرية.
- " الاستمناء " للدكتور. هـ فورتيه، ترجمة الدكتور مقصود. طبع / الآداب والمؤيد.
فقال: حيث إن الاستمناء يورث هذه الأمراض، فهو حرام لأن القاعدة المقررة في أصول الفقه: أن الأصل في المضار التحريم، ودليل هذه القاعدة قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ضرر ولا ضرار " وهو حديث صحيح. تقدم تخريجه مرارا.
الوقاية خير من العلاج.
1 - لا بد من استشعار الرقابة الإلهية.
قال تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218 - 219].
قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}. [الحديد: 4].
وقال سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (1/ 8) عن عمر بن الخطاب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الإحسان؟ فقال: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
من حديث أبي هريرة عند البخاري رقم (50) ومسلم رقم (5/ 9).
2 - الصبر والاستعانة بالله سبحانه وتعالى:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
وأخرج البخاري في صحيحه رق (1469) ومسلم رقم (1053) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: " ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستعفف يعفه الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر ".
3 - مجاهدة النفس ..... النوافل، قيام الليل، الصوم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "
وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها , وإن سألني أعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه ". أخرجه البخاري في صحيحه رقم
(6502). وأخرج البخاري في صحيحه رقم (6487) ومسلم رقم (2823) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره ".
4 - حسن اختيار الإخوان، المجالس.
قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 - 29].
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2101) ومسلم رق (2628) عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة ".
5 - الزواج المبكر. تقدم حديث ابن مسعود: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ".
6 - المحافظة على الصحة لتأدية الرسالة التي خلق الله من أجلها الإنسان. قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن ".
7 - الاشتغال بالعبادة وذكر الله والدعاء، وهذا واسع كثير.
أخرج البخاري في صحيحه رقم (7405) ومسلم رقم (2675) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلى شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " وليتذكر الإنسان قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:
56 - 58]. 8 - البعد والحذر من الوسائل التي تثير الشهوة وتوقع في الحرام ....
أ - مصافحة النساء.
ب - الأغاني.
جـ - وسائل الإعلام.
د - عض البصر.
هـ - الخلوة.
أخرج البخاري في صحيحه رقم (6343) ومسلم رقم (2657) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه ".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (5232) ومسلم رقم (2172) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إياكم والدخول على النساء " فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ قال: " الحمو الموت ".
وليتذكر المؤمن قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 41].(7/3380)
ثم هذه المضار لا يمكن تقديرها في الاستمناء دون الاستمتاع بما عدا الفرج م الزوجة والأمة، والجواب لجواب، ثم لو كان مجرد ما يؤثر فتور الذكر موجبا للتحريم، لكان جميع الأطعمة والأغذية المؤثرة لذلك حراما، واللازم باطل بالإجماع والملزوم مثله، ثم قد وقع الإجماع على جواز الاستمناء بيد الزوجة، وكل ما يفرض من المضار الطبية في الاستمناء بكف لإنسان نفسه فهو موجود في الاستمناء بكف الزوجة، والجواب الجواب.(7/3383)
ومن جملة ما تمسكوا به المانعون ما قاله الشيخ هاشم بن يحيى في جوابه المشار إليه سابقا، ولفظه: وأقول مما يؤيد التحريم ما أخرجه البخاري (1) عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله، إني رجل شاب وأخاف العنت، ولا أجد ما أتزوج به، ألا أختصي؟ فسكت عني، ثم قلت: فسكت عني، ثم قال: " يا أبا هريرة، من القدر (2)
_________
(1) في صحيحه رقم (5076).
قال الحافظ في " الفتح " (9/ 120): فإن قيل لم لم يؤمر أبو هريرة بالصيام لكسر شهوته كما أمر غيره، فالجواب أن أبا هريرة كان الغالب في حاله ملازمة الصيام لأنه كان من أهل الصفة.
قلت - أي البخاري - ويحتمل أن يكون أبا هريرة سمع: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج " تقدم تخريجه. لكنه إنما سأل عن ذلك في حال الغزو كما وقع لابن مسعود، وكانوا في حال لغزو يؤثرون الفطر على الصيام للتقوي على القتال، فأذاه اجتهاده إلى حسم مادة الشهوة بالاختصاء كما ظهر لعثمان فمنعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك، وإنما لم يرشده إلى المتعة التي رخص فيها لغيره لأنه ذكر أنه لا يجد شيئا، ومن لم يجد شيئا أصلا لا ثوبا ولا غيره، فكيف يستمتع؟ والتي يستمتع بها لا بد لها من شيء " - كان نكاح المتعة مرخصا فيه في حال الضرورة كالغزو، ثم حرم نهائيا في غزوة خيبر، وفيها أسلم أبو هريرة، فلذلك لم يأذن له به.
واعلم أن الحكمة من عدم الاختصاء إرادة تكثير النسل ليستمر جهاد الكفار، وإلا لو أذن في ذلك لأوشك تواردهم عليه فينقطع النسل فيقل المسلمون بانقطاعه ويكثر الكفار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحدية.
وقال الحافظ في " الفتح " (9/ 119) قوله: " فنهانا عن ذلك " - عند البخاري في الحديث رقم (5075) هو نهي تحريم بلا خلاف في بني آدم. وفيه أيضًا من المفاسد تعذيب النفس والتشويه مع إدخال الضرر الذي قد يفضي إلى الهلاك، وفيه إبطال معنى الرجولة وتغيير خلق الله وكفر النعمة؛ لأن خلق الشخص رجلا من النعم العظيمة، فإذا أزال ذلك فقد تشبه بالمرأة واختار النقص على الكمال.
(2) قال الحافظ في " الفتح " (9/ 119): ومحصل الجواب أن جميع الأمور بتقدير الله في الأزل، فالخصاء وتركه سواء، فإن الذي قدر لا بد أن يقع. وقوله: " على ذلك " هي متعلقة بمقدر؛ أي اختص حال استعلائك على العلم بأن كل شيء بقضاء الله وقدره , وليس إذنا في الخصاء بل فيه إشارة إلى النهي عن ذلك، كأنه قال: إذا علمت أن كل شيء بقضاء الله فلا فائدة في الاختصاء وقد تقدم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عثمان بن مظعون لما استأذنه في ذلك - الحديث رق م (5073، 5074) - وكانت وفاته قبل هجرة أبي هريرة بمدة.(7/3384)
بما أنت لاق، فاختص على ذلك أو ذر ".
ولو كان الصحابة يفعلون ذلك لما عدل عنه أبو هريرة إلى طلب الترخيص في أن يختصي، ولو كان إلى جواز ذلك سبيل لأرشده من هو بالمؤمنين رؤوف رحيم، الذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، ولم يعدل إلى ذلك الجواب القاطع للطمع عن كل رخصة في حق من بلغ في المشقة إلى تلك الغية. انتهى.
وأقول: ليس في الحديث شيء من الدلالة التي زعمها، أو التأييد لذي ذكره.
أما قوله: لو كان الصحابة يفعلون ذلك لما عدل عنه، فليس كل مباح كان الصحابة يفعلونه، ولم يقل أحد من أهل الإسلام: إن ما لم يفعله الصحابة حرام، وإلا لزم تحريم كثير من الأطعمة والأشربة والأدوية والملبوسات التي كان الصحابة لا يفعلونها، واللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله.
وأما كون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرشد أبا هريرة إلى الاستمناء، فلم يقل أحد من علماء الإسلام أن كل ما لم يرشد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه يكون حراما، وإنما السنة قوله وفعله، وتقريره، وليس منها ترك إرشاده، وغاية ما في الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أبا هريرة أن ما يلاقيه من شدة الحاجة إلى النكاح هو بقدر الله (1)، عز وجل.
والحاصل أن هذا الاستمناء إن لم يستلزم ما ذكره الله - عز وجل - في كتابه العزيز من قوله: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} (2) ولا كان فيه مباشرة لقدر كما علله الله به اعتزال الحائض: {قُلْ هُوَ أَذًى} (3)، بل كان عند الضرورة، والحاجة وعدم الزوجة، والأمة، أو البعد عنهما، فلا وجه لتحريمه، وغاية ما فيه أن يقال: هو
_________
(1) تقدم ذكره.
(2) [الشعراء: 166].
(3) [البقرة: 222].(7/3385)
من المشتبهات التي لم تكن من الحلال البين (1)، ولا من الحرام البين، والمؤمنون وقافون عند الشبهات (2)، ولو صح الحديث المتقدم في نكاح اليد، أو كان حسنا لتبين به التحريم، وهكذا لو صحت دلالة الآية عليه بوجه من وجوه الدلالات، ولا شك أن في هذا العمل هجنة، وخسة وسقوط نفس، وطرح حشمة، وضعف همة، وكن الشأن في تحريمه، فإن من حرم شيئا لم ينتهض الدليل على تحريمه كان من المتقولين على الله ما لم يقل، وقد جاءت العقوبة لفاعله بالأدلة الصحيحة، وبهذا يتضح جواب ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده - حيث قال: ما قولكم في الاستمناء بالكف أو التفخذ أو نحوها؟.
وأما قوله: أو شيء يخالف جسد الإنسان كالحك في شيء يحصل به الاستمناء، هل ذلك محرم أم لا معاقب عليه، مثاب فيه عند ضرورة توجهت له تكاد توجب الزنا , أم لا؟. انتهى.
فأقول: ليس في كتاب الله , ولا في سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دليل صحيح، ولا ضعيف يقتضي تحريم ما ذكره، بل هو عند الضرورة إليه مباح (3)، وإذا تعاظمت الضرورة،
_________
(1) انظر الرسالة رقم (58).
(2) تقدم في الرسالة رقم (58).
(3) انظر " بدائع الفوائد ".
قال الحافظ في " الفتح " (9/ 112): وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء وهن عند الحنابلة وبعض الحنفية لأجل تسكين الشهوة.
قال ابن حزم في " المحلى " (11/ 392): " فلو عرضت فرجها شيئا دون أن تدخله حتى تنزل فيكره هذا، ولا إثم فيه، وكذلك الاستمناء للرجال، سواء بسواء؛ لأن المسلمين الرجل ذكره بشماله مباح ومس المرأة فرجها كذلك مباح، بإجماع الأمة كلها. فإذا هو مباح، فليس هنالك زيادة على المباح، إلا التعمد لنزول المني، فليس ذلك حراما أصلا لقول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]. وليس هذا مما فصل لنا تحريمه، فهو حلال، لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. إلا أننا نكرهه لأنه ليس من مكارم الأخلاق ولا من الفضائل.(7/3386)
وتزايدت الحاجة، وخشي أن يفضي ذلك إلى الإضرار ببدنه فهو بمنزلة الأدوية واستعمالها، ويزداد ذلك جوازا وإباحة إذا خشي الوقوع في المعصية إن لم يفعله. وهذا إذا لم يمكنه دفع الضرورة، وكسر سورة الباءة، وقمع هيجان الغلمة، وتسكين غليان الشبق بشيء من الأمور التي هي طاعة محضة، كالصوم، وكثرة العبادة، والاشتغال بطلب العلم، والتفكر في أمور المعاد، أو بشيء من الأطعمة أو الأشربة، أو الأدوية (1) , أو مزاولة الأعمال التي يستقيم بها معاشه، ويرتفق بها حاله.
واعلم أن الكلام في المرأة (2)
كالكلام في الرجل في جميع ما أسلفنا، لأن الحكم واحد. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق.
بخط المؤلف شيخنا العلامة بدر الإسلام محمد بن علي الشوكاني.
_________
(1) قال الحافظ في " الفتح " (9/ 111): واستدل الخطابي - يا معشر الشباب - على جواز المعالجة لقطع شهوة النكاح بالأدوية، وحكاه البغوي في " شرح السنة " وينبغي أن يحمل على دواء يسكن الشهوة دون ما يقطعا أصالة، لأن قد يقدر بعد فيندم لفوات ذلك في حقه، وقد صرح الشافعية بأنه لا يكسرها بالكافور ونحوه. والحجة فيه أنهم اتفقوا على منع الجب والخصاة، فيلحق بذلك ما في معناه من التداوي بالقطع أصلا.
(2) انظر التعليقة السابقة.
قال ابن القيم في " بدائع الفوائد " (4/ 96 - 97) نقلا عن ابن عقيل: " وإن كانت امرأة لا زوج لها واشتدت غلمتها فقال بعض أصحابنا: يجوز لها اتخاذ الأكرنبج، وهو شيء يعمل من جلود عن صورة الذكر، فتستدخله المرأة، أو ما أشبه ذلك من قثاء وقرع وصغار ".
قال ابن القيم: " والصحيح عندي أنه لا يباح لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أرشد صاحب الشهوة إذا عجز عن الزواج إلى الصوم، ولو كان هناك معنى غيره لذكره ".
وقال صاحب " منتهى الإرادات " (5/ 143): ومن استمنى من رجل أو امرأة لغير حاجة حرم، وعزر، وإن فعله خوفا من الزنا فلا شيء عليه، فلا يباح إلا إذا لم يقدر على نكاح ولو لأمة. .(7/3387)
جواب على الأسئلة الواردة من العلامة أحمد بن يوسف زبارة، وتتضمن الأبحاث التالية:
1 - بحث في نفقة الزوجات.
2 - بحث في الطلاق المشروط.
3 - بحث في الصوم لي وأنا أجزي به.
4 - بحث في اختلاف النقد المتعامل به.
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(7/3389)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " جواب على الأسئلة الواردة من العلامة أحمد بن يوسف زبارة وتتضمن الأبحاث التالية:
1 - بحث في نفقة الزوجات.
2 - بحث في الطلاق المشروط.
3 - بحث في الصوم لي وأنا أجزي به.
4 - بحث في اختلاف النقد المتعامل به.
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم " " الحمد لله وحده، وبعد: فإنه وصل من سيدي العلامة صفى الإسلام أحمد بن يوسف زبارة - كثر الله فوائده - ونفع بعلومه سؤالات ... ".
4 - آخر الرسالة: " ... وفي هذا كفاية ...
حرره في النصف الأول من ليلة سادس وعشرين شهر الحجة سنة 1213 هـ المجيب محمد الشوكاني.
5 - عدد الصفحات: 17 صفحة.
6 - عدد الأسطر في الصفحة: 21 سطرا.
7 - عدد الكلمات في السطر: 9 - 10 كلمات.
8 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
9 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(7/3391)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، وبعد:
فإنه وصل من سيدي العلامة صفي الإسلام أحمد بن يوسف زبارة - كثر الله فوائده ونفع بعلومه - سؤالات.
[بحث في نفقة الزوجات]
الأول: منها لفظه: الفرض للزوجة ونحوها ما حكمه حتى يجعل لها قد ونحوه، كيف يجزم في اليوم بنصف صاع مثلا، وإذا قلنا بهذا فهو معارض لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " خذي ما يكفيك وولدك " (1)، وإذا ألزمنا بذلك في هذا الزمان أنها تأخذ ما يكفيها، فهل تصدق في أنه لا يكفيها إلا زائد على ما يعتاد، وإذا صدقناها
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5364) ومسلم رقم (1714) من حديث عائشة " إن هندا بنت عتبة قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ".
قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " (4/ 358 - 359): في حديث هند المتقدم تضمنت هذه الفتوى أمورا:
1 - أن نفقة الزوجة غير مقدرة، بل المعروف لنفي تقديرها، وإن لم يكن تقديرها معروفا في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا الصحابة، ولا التابعين , ولا تابعيهم.
2 - أن نفقة الزوجة من جنس نفقة الولد كلاهما بالمعروف.
3 - انفراد الأب بنفقة أولاده.
4 - أن الزوج والأب إذا لم يبذل النفقة الواجبة عليه، فللزوجة والأولاد أن يأخذوا قدر كفايتهم بالمعروف.
5 - أن المرأة إذا قدر على أخذ كفايتها من مال زوجها لم يكن لها إلى الفسخ سبيل.
6 - أن ما لم يقدره الله تعالى ورسوله من الحقوق الواجبة فالمرجع فيه إلى العرف.
7 - أن من منع الواجب عليه، وكان سبب ثبوته ظاهرا، فلمستحقه أن يأخذ بيده إذا قدر عليه كما أفتى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(7/3395)
فهل يكون التصديق داخلا في النهي، وهو قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (1)، فقد ورد في كثير من التفاسير (2) بأنه تمكين المرأة مال الرجل؟ أفيدوا فالمسألة كثيرة الورود، وما ذا يكون الاعتماد؟ انتهى.
والجواب أنهال قد اختلفت المذاهب في تقدير النفقة الواجبة بمقدار معين، وعدم التقدير، فذهب جماعة من أهل العلم، وهم الجمهور إلى أنه لا تقدير للنفقة إلا بالكفاية (3). وقد اختلفت الرواية عن الهادي، فروي عنه ما تقدم، وجزم في الفنون بالتقدير بمدين لكل يوم، ولكل شهر درهمان للإدام، وجزم في المنتخب (4) بأنه يجب على الموسر ثلاثة أمداد لكل يوم، سوى الإدام، وعلى المعسر مد ونصف. قال في الغيث (5): وليس هذا بتحقيق، لأن الهادي قد قال: أو أقل من ذلك على ما يراه الحاكم، وقال الشافعي (6): على المسكين والمتكسب مد، وعلى الموسر مدان، وعلى المتوسط مد ونصف، وقال أبو حنيفة (7): على الموس سبعة دراهم إلى ثمانية في الشهر، والمعسر أربعة دراهم إلى خمسة. قال بعض أصحابه (8): هذا التقدير في وقت رخص الطعام، وأما في غيره فتعتبر بالكفاية. انتهى.
_________
(1) [النساء: 5].
(2) ستأتي ذكره.
(3) قال ابن قدامة في " المغني " (11/ 349) والنفقة مقدرة بالكفاية، وتختلف باختلاف من تجب له النفقة في مقدارها. وبهذا قال أبو حنيفة ومالك.
(4) " المنتخب " جمعه محمد بن سليمان الكوفي وهو تلميذ الإمام الهادي يحيى بن الحسين اهاشمي ايمني. وعلى هذا الكتاب اعتماد الهادويين من الزيدية في الفقه. "
مؤلفات الزيدية " (3/ 61).
(5) تقدم التعريف به.
(6) في " الأم " (10/ 304 رقم 16524، 16534).
(7) ذكره النووي في " المجموع " (20/ 146).
(8) ذكره النووي في " المجموع " (20/ 146).(7/3396)
والحق ما ذهب إليه القائلون بعدم التقدير (1)، لاختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأحوال، والأشخاص؛ فإنه لا ريب أن بعض الأزمنة قد يكون أدعى للطعام من بعض، وكذبك الأمكنة، فإن في بعضها قد يعتاد أهله أن يأكلوا في اليوم مرتين، وفي بعضها ثلاثا، وفي بعضها أربعا، وكذلك الأحوال؛ فإن حالة الجدب تكون مستدعية لمقدار من الطعام أكثر من لمقدار الذي تستدعيه حالة الخصب، وكذلك الأشخاص، فإن بعضهم قد يأكل الصاع فما فوقه، وبعضهم قد يأكل نصف صاع، وبعضهم ربع صاع، وبعضهم دون ذلك.
وهذا الاختلاف معلوم بالاستقراء التام، ومع العلم بالاختلاف يكون التقدير على طريقة واحدة ظلما وحيفا، ثم إنه لم يثبت في هذه الشريعة المطهرة التقدير بمقدار معين قط، بل كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يحيل على الكفاية مقيدا لذلك بالمعروف، كما في حديث عائشة عند البخاري (2)، ومسلم (3) وأبي داود (4)، والنسائي (5) وأحمد بن حنبل (6)، وغيرهم (7) أن هندا قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". فهذا الحديث الصحيح فيه الإحالة على الكفاية (8) مع التقييد
_________
(1) انظر " المغني " (11/ 349 - 350).
(2) في صحيحه رقم (5364).
(3) في صحيحه رقم (7/ 1714).
(4) في " السنن " رقم (3532).
(5) في " السنن " (8/ 246).
(6) في " المسند " (6/ 39، 50).
(7) كابن ماجه رقم (2293).
(8) قال القرطبي في " المفهمم " (5/ 161): ويعني بالمعروف: القدر الذي عرف بالعادة أنه كفاية، وهذه الإباحة وإن كانت مطلقة لفظا فهي مقيدة معنى، فكأنه قال: إن صح أو ثبت ما ذكرت فخذي.
قال الحافظ في " الفتح " (9/ 509): واستدل بهذا الحديث على:
1 - جواز ذكر الإنسان بما لا يعجبه إذا كان على وجه الاستفتاء والاشتكاء ونحو ذلك، وهو أحد المواضع التي تباح فيها الغيبة.
2 - جواز ذكر الإنسان بالتعظيم كاللقب والكنية، كذا قيل، وفيه نظر؛ لأن أبا سفيان كان مشهورا بكنيته دون اسمه، فلا بدل لقولها ": إن أبا سفيان " على إرادة التعظيم.
3 - جواز استماع كلام الأجنبية عند الحكم والإفتاء عند من يقول أن صوتها عورة، ويقول: جاز هنا للضرورة.
5 - وفيه أن القول قول الزوجة في قبض النفقة.
6 - وفيهوجوب نفقة الزوجة وأنها مقدرة بالكفاية، وهو قول أكثر العلماء.(7/3397)
بالمعروف، والمراد به الشيء الذي يعرف، وهو خلاف الشيء الذي ينكر، وليس هذا المعروف الذي أرشد إليه الحديث شيئا معينا معلوما، ولا المتعارف بين أهل جهة معينة، بل هو في كل جهة باعتبار ما هو الغالب على أهلها المتعارف بينهم. مثلا أهل صنعاء المتعارف بينهم الآن أنهم ينفقون على أنفسهم وأقاربهم الحنطة والشعير والذرة، ويعتادون الإدام سمنا ولحما، فلا يحل أن يجعل طعام من تجب نفقته من طعام غير الثلاثة الأجناس المتقدمة، كالعدس، والفول، ولا من الشعير والذرة فقط، ولا بدون إدام، ولا بإدام غير المعتاد كالزيت والتلبينة، ونحو ذلك؛ فإن ذلك جميعه وإن كان يصدق عليه لفظ الكفاية لا يصدق عليه معنى المعروف، والعمل بالمطلق وإهمال قيده لا يحل.
وأما أهل البوادي المتصلة بصنعاء والقريبة منها بمقدار بريد (1) ودونه وفوقه فالمعروف عندهم هو الكفاية من أي طعام كان، من غير سمن ولا لحم إلا في أندر الأحوال، بل يكتفون تارة بالتلبينة (2)، وتارة بما يقوم مقامها، فالمتوجه شرعا على من وجبت عليه
_________
(1) تقدم تقديره مرارا.
(2) التلبينة: حساء يعمل من دقيق أو نخالة ويجعل فيها عسل، سميت تلبينة تشبيها باللبن لبياض ورقتها.
" لسان العرب " (12/ 230).(7/3398)
أن يدفع إلى من كان في مثل صنعاء ما هو المعروف لديهم مما قدمنا، وإلى من كان في البوادي ما قدمنا مما هو المعروف لديهم، ويعتبر في كل محل ما يعرف أهله، ولا يحل العدول عنه إلا مع التراضي، وكذلك الحاكم يجب عليه مراعاة المعروف بحسب الأزمنة والأمكنة، والأحوال والأشخاص، مع ملاحظة حال الزوج من اليسار والإعسار؛ لأن الله تعالى يقول: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} (1).
وإذا تقرر لك أن الحق عدم جواز تقدير الطعام بمقدار معين فكذلك لا يجوز تقدير الإدام بمقدار معين، بل المعتبر الكفاية بالمعروف. وقد حكى صاحب (2) البحر (3) أنه قد قدر في اليوم أوقيتان دهنا من الموسر، ومن المعسر أوقية، ومن المتوسط أوقية ونصف. وفي شرح الإرشاد أنه يعتبر في الإدام تقدير القاضي باجتهاده عند التنازع، فيقدر في المد من الإدام ما يكفييه، ويقدر على الموسر ضعف ذلك، وعلى المتوسط بينهما، ويعتبر في اللحم عادة البلد للموسرين والمتوسطين كغيرهم. قال الرافعي (4): وقد تغلب الفاكهة في أوقاتها فتجب، ثم قال: وإنما يجب ما ذكر لزوجته إن لم تؤاكله حال كونها رشيدة، فإن واكلته وهن رشيدة سقطت نفقتها، ثم ذكر كلاما طويلا.
وأقول: المرجع ما هو معروف عند أهل البلد في الإدام جنسا، ونوعا، وقدرا، وكذلك في الفاكهة لا يحل الإخلال بشيء مما يتعارفون به إن قدر من تجب عليه النفقة على ذلك، وكذلك ما يعتاد من التوسعة في الأعياد ونحوها. ويدخل في ذلك مثل القهوة والسليط (5). وبالجملة فقد أرشد الشارع إلى ما هو معروف من الكفاية، وليس بعد هذا الكلام الجامع المفيد شيء من .................................
_________
(1) [البقرة: 236].
(2) الإمام المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى (ت / 840 هـ).
(3) (3/ 272).
(4) ذكره صاحب " الروضة الندية " (2/ 160).
(5) أي الزيت.(7/3399)
البيان (1).
وأما ما أجاب به عن الحديث بعض من لم يتمرن بعلم الأدلة، ويتدرب بمسالك الاجتهاد من أنه لم يكن منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على طريقة الحكم بل على طريقة الإفتاء (2)، فهذه غفلة كبيرة، وبعد عن الحقيقة، لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا يفتي إلا بما هو حق وشرع، وقد تقرر أن السنة أقواله وأفعاله وتقرياته، لا مجرد أحكامه فقط، أي التي تكون بعد الخصومة، وحصول المتخاصمين، ولو كانت السنة ليست إلا الأحكام الكائنة على تلك الصفة لم يبق منها حجة على العباد إلا أقل من عشر معشارها؛ لأن صدور الحكم منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على تلك الصفة إنما وقع في قضايا محصورة كقضية الحضرمي، والزبير (3)، وعبد بن زمعة (4)، ....................
_________
(1) انظر " المغني " (11/ 349)، " المجموع " (20/ 145).
(2) قال المازري (2/ 265): نبه الناس في هذا الحديث على فوائد، منها: وجوب نفقة الزوجة ونفقة البنين.
ومنها: أن الإنسان إذا أمسك آخر حقه وعثر له على ما يأخذ منه، فإنه يأخذه لأنها ذكرت أنها تأخذ بغير علمه.
ومنها: جواز إطلاق الفتوى، والمراد تعليقها بثبوت ما يقول الخصم؛ لأنها ذكرت أنه يمنعها حقها فقال لها: " خذي " وهذه إباحة على الإطلاق ولم يقل: " إن ثبت ذلك " ولكنه هو المراد، ولهذا لا يقول كثير من المفتين في جوابهم: " إذا ثبت ذلك " ويحذفونه اختصارا.
(3) أخرج البخاري رقم (2359، 2360) ومسلم رقم (2357) من حديث عبد الله بن الزبير عن أبيه " أنه اختصم هو أنصاري فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للزلير: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى أخيك، فغضب الأنصاري، ثم قال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ".
(4) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2218، 2533، 4303، 6765، 7182) ومسلم رقم (36/ 1457) من حديث عائشة قالت: " اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص، عهد إلي أنه ابنه، انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي، فنظر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى شبهه فرأى شبها بينا بعتبة، وقال: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة.(7/3400)
والمتلاعنين (1).
فإن قلت: ما وجه ما فعله كثير من القضاة في هذه الأزمنة من تقدير النفقة بقدح من الطعام متنوعا.
قلت: هو من تقدير الكفاية بالمعروف؛ لأن القدح يكفي غالب الأشخاص شهرا لا سيما في مثل صنعاء، فيكون للشخص في كل يوم نصف صاع يأتي المجموع في ثلاثين يوما خمسة عشر صاعا، وهي قدح ينقص صاعا، فهذا فيه ملاحظة للمعروف باعتبار الغالب، ولكن إذا انكشف أنه لا يكفي بأن يكون الشخص أكولا فلا يحل العمل بذلك الغالب؛ لأن فيه إهمالا لما أرشد إليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من الكفاية، وهذا ليس فيه كفاية.
فالحاصل أنه لا بد من ملاحظة أمرين: أحدهما الكفاية، والثاني كونها بالمعروف، فإذا علم مقدار الكفاية كان المرجع في صفاتها إلى المعروف، وهو الغالب في البلد (2)، وإذا لم يعلم حال الشخص في مقدار ما يكفيه، أو وقع الاختلاف (3) بينه وبين من يجب عليه إنفاقه كان القول قول من يدعي ما هو المتعارف به، مثلا إذا قال من له النفقة لا يكفيه إلا قدحان، وقال من عليه النفقة: بل يكفيه قدح، كان القول قول من عليه
_________
(1) انظر " فتح الباري " (8/ 449) و (9/ 361).
(2) انظر " المجموع " (20/ 145).
(3) قال ابن قدامة في " المغني " (11/ 352): ويرجع في تقدير الواجب إلى اجتهاد الحاكم أو نائبه، إن لم يتراضيا على شيء، فيفرض للمرأة قدر كفايتها من الخبز والأدم، فيفرض للموسرة تحت الموسر قدر حاجتها من أرفع خبز البلد الذي يأكله أمثالهما. وللمعسرة تحت المعسر قدر كفايتها من أدنى خبز البلد، وللمتوسطة تحت المتوسط من أوسطه لكل أحد على حسب حاله على ما جرت به العادة في حق أمثاله.(7/3401)
النفقة، لكونه مدعيا لما هو الغالب في العادة، وإذا تبين حال من له النفقة وجب الرجوع إلى ذلك لما عرفناك من أنه لا يحل الوقوف على مقدار معين على طريق القطع والبت، ثم الظاهر من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " خذ ما يكفيك بالمعروف " (1) أن ذلك غير مختص بمجرد الطعام والشراب، بل يعم جميع ما يحتاج إليه، فيدخل تحته الفضلات (2) التي قد صارت بالاستمرار عليها مألوفة، بحيث يحصل التضرر بمفارقتها، أو التضجر، أو التكدر. ويختلف ذلك بالأشخاص والأزمنة والأمكنة والأحوال، ويدخل في الأدوية (3) ونحوها. وإليه يشير قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) وتجب عليه كسوتها بإجماع أهل العلم، ولأنها لا بد منها على الدوام فلزمته كالنفقة، وهي معتبرة بكفايتها وليست مقدرة بالشرع. ويرجع في ذلك إلى اجتهاد الحاكم فيفرض لها كفايتها على قدر يسرهما وعسرهما وما جرت عليه عادة أمثالهما به من الكسوة.
وعليه لها ما تحتاج إليه للنوم، من الفراش واللحاف والوسادة، كل على حسب عادته.
ويجب لها مسكن، بدليل قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]. فإذا وجبت السكنى للمطلقة فللتي في صلب النكاح أولى. قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]. ومن المعروف أن يسكنها في مسكن، ولأنها لا تستغني عن المسكن لاستتار عن العيون، وفي التصرف والاستمتاع، وحفظ المتاع، ويكون المسكن على قدر يسارهما وإعسارهما، لقوله تعالى: {مِنْ وُجْدِكُمْ}. ولأنه واجب لها لمصلحتها في الدوام، فجرى مجرى النفقة والكسوة.
ويجب للمرأة ما تحتاج إليه، من المشط، والدهن لرأسها، والسدر أو نحوه مما تغسل به رأسها، وما يعود بنظافتها؛ لأن ذلك يراد للتنظيف فكان عليه، كما أن على المستأجر كنس الدار وتنظيفها.
فإن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها، لكونها من ذوي الأقدار أو مريضة، وجب لها خادم لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ومن العشرة بالمعروف أن يقيم لها خادما , ولأنه مما تحتاج إليه في الدوام ويحصل ذلك بواحد.
" المغني " (11/ 352 - 356).
(3) سيأتي ذكر ذلك.(7/3402)
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1)؛ فإن هذا نص في نوع من أنواع النفقة أن الواجب على من عليه النفقة رزق من عليه إنفاقه، والرزق يشمل ما ذكرناه، وقال في الانتصار (2): ومذهب الشافعي (3): لا تجب أجرة الحمام، وثمن الأدوية، وأجرة الطبيب؛ لأن ذلك يراد لحفظ البدن، كما لا يجب على المستأجر أجرة إصلاح ما انهدم من الدار (4)، وقال في الغيث (5): الحجة أن الدواء لحفظ الروح، فأشبه النفقة. انتهى.
قلت: وهو الحق لدخوله تحت عموم قوله: ما يكفيك، وتحت قوله {رِزْقُهُنَّ}، فإن الصيغة الأولى عامة باعتبار لفظ (ما)، والثانية عامة لأنها مصدر مضاف، وهو من صيغ العموم، واختصاصه ببعض المستحقين للنفقة لا يمنع من الإلحاق. وبمجموع ما ذكرناه يتقرر لك أن الواجب على من عليه النفقة لمن له النفقة هو ما يكفيه بالمعروف، وليس المراد تفويض أمر ذلك إلى من له النفقة، وأنه يأخذ ذلك بنفسه حتى يرد ما أورده السائل - دامت إفادته - من خشية السرف في بعض الأحوال، بل المراد تسليم ما يكفي على وجه لا سرف فيه بعد تبين مقدار الكفاية بأخبار المخبرين، الأنبياء, تجريب المجربين، كما
_________
(1) [البقرة: 223].
(2) انظر " مؤلفات الزيدية " (1/ 141).
(3) (4/ 609).
(4) قال المطيعي في تكملته " المجموع " (20/ 151 - 152): ولنا وقفة عند هذا الأمر الذي ينبغي النظر إليه من خلال ما طرأ على حياة الناس من تغير وليس هذا الفرع بالشيء الثابت الذي لا يتأثر بالعوامل الإنسانية السائدة، فإنه إذا كان الزوجان في مجتمع أو بيئة أو دولة تكفل للعامل والشغال قدرا من الرعاية الصحية تحت اسم إصابة العمل، أو المرض أثناء الخدمة، فيتكفل صاحب لعمل ببعض نفقات العلاج أو كلها، فإنه ليس من المعروف أن نضرب المثل هنا بإجارة الدار مع الفارق بين الزوجة، والدار، والأقرب إلى التشبيه أن يكون المثل إنسانيا، فيضرب المثل بالعامل فإنه أولى .... وهذا أمر مستحب يدخل في فضل المروءة وحسن المعاشرة والإيثار. وقد ذهبنا إلى استحبابه للإجماع على عدم وجوبه بلا خلاف، وفي هذا رد على من قال بعدم طلب تطيب الزوجة من زوجها ".
(5) تقدم التعريف به.(7/3403)
سبق، وهو معنى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " بالمعروف " أي لا يغير المعروف، وهو السرف والتقتير.
نعم. إذا كان الرجل لا يسلم ما يجب عليه من النفقة جاز لنا الإذن لمن له النفقة بأن يأخذ ما يكفيه، إذا كان من أهل الرشد لا إذا كان من أهل السرف والتبذير، فإنه لا يجوز لنا تمكينه من مال من عليه النفقة، لأن الله تعالى يقول: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (1) بل ورد ما يدل على عدم جواز دفع أموال من لا رشد لهم إليهم كما في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (2) فجعل الرشد شرطا لدفع أمولهم إليهم، فكيف يجوز دفع أموال غيرهم إليهم مع عدم الرشد؟ ولكن يجب علينا إذا كان من عليه النفقة متمردا، ومن له النفقة ليس بذي رشد أن يجعل الأخذ إلى ولي من لا رشد له، أو إلى رجل عدل.
وأما ما ورد في بعض التفاسير (3) من أن المراد بالسفهاء في قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا
_________
(1) [النساء: 5].
(2) [النساء: 6].
قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (5/ 37): واختلف العلماء في تأويل " رشدا " فقال الحسن وقتادة وغيرهما: صلاحا في العقل والدين.
وقال ابن عباس والسدي والثوري: صلاحا في العقل وحفظ المال.
وقال ابن جرير الطبري في " جامع البيان " (3 جـ 4/ 253): وأولى الأقوال عندي بمعنى الرشد في هذا الموضع: العقل وإصلاح المال لإجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك لم يكن لمن يستحق الحجر عليه في ماله وحوز ما في يده عنه.
وإن كان فاجرا في دينه، وإن كان ذلك إجماعا من الجميع، فكذلك حكمه إذا بلغ، وله مال في يدي وصي أبيه، أو في يد حاكم قد ولي ماله لطفولته، واجب عليه تسليم ماله إليه، إذا كان عاقلا بالغا، مصلحا لماله غير مفسد ".
(3) انظر " الجامع لأحكام القرآن " (5/ 29).(7/3404)
السُّفَهَاءَ (1) أَمْوَالَكُمُ} (2) تمكين المرأة (3) من مال الرجل، كما ذكره السائل - عافاه الله -
_________
(1) وأصل السفه في كلام العرب: الخفة والرقة.
ويقال: ثوب سفيه، إذا كان رديء النسخ خفيفه أو كان باليا رقيقا , وتسفهت الرياح: اضطربت، وتسفهت الريح الغصون: حركتها واستخفهتا، وقال ذو الرمة:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم
وتسفهت الشيء: استحقرته.
وقيل: السفه: خفة الحلم، نقيض الحلم، وأصله الخفة والحركة.
ويقال: إن السفه أن يكثر الرجل شرب الماء فلا يروى. ويجوز في همزتي السفهاء أربعة أوجه، أجودها أن تحقق الأولى وتقلب الثانية واو خالصة. وهي قراءة أهل المدينة، والمعروف من قراءة أبي عمرو. " اللسان " (6/ 287 - 289). .
(2) [النساء: 5].
(3) قال ابن جرير في " جامع البيان " (3 جـ 4/ 245 - 248): اختلف أهل التأويل في السفهاء الذين نهى الله جل ثناؤه عباده أن يؤتوهم أموالهم، فقال بعضهم: هم النساء والصبيان.
ثم قال بعد ذكر أقوال مختلفة في معنى " السفهاء ": والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه عم بقوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} فلم يخصص سفيها دون سفيه، فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيها ماله صبيا صغيرا كان أو رجلا كبيرا، ذكرا كان أو أنثى، والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله، هو المستحق الحجر بتضييعه ماله فسادا وإفساده، وسوء تدبيره ذلك.
وإنما قلنا ما قلنا من أن المعنى بقوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ} هو من وصفنا دون غيره، لأن الله جل ثناؤه قال في الآية التي تتلوها: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} فأمر أولياء اليتامى بدفع أموالهم إليهم إذا بلغوا النكاح، وأونس منهم الرشد، وقد يدخل في اليتامى الذكور والإناث، فلم يخصص بالأمر بدفع ما لهم من الأموال، الذكور دون الإناث، ولا الإناث دون الذكور، وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذين أمر أولياؤهم بدفعهم أموالهم إليه وأجيز للمسلمين مبايعتهم، ومعاملتهم، غير الذين أمر أولياؤهم بمنعهم أموالهم، وحظر على المسلمين مداينتهم ومعاملتهم، فإذا كان ذلك كذلك، فبين أن السفهاء الذين نهى الله المؤمنين أن يؤتوهم أموالهم هم المستحقون الحجر، والمستوجبون أن يولي عليهم، وهم من وصفنا صفتهم قبل، وأن من عدا ذلك فغير سفيه، لأن الحجر لا يستحقه من قد بلغ، وأونس رشده.
وأما قول من قال: عنى بالسفهاء النساء خاصة، فإنه جعل اللغة على غير وجهها، وذلك أن العرب لا تكاد تجمع فعيلا على فعلاء إلا في جمع الذكور، أو الذكور والإناث، وأما إذا أرادوا جمع الإناث خاصة لا ذكران معهم، جمعوه على فعائل وفعيلات، مثل غريبة تجمع غرائب وغريبات، فأما الغرباء فجمع غريب.
وقال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (5/ 28): روى سفيان عن حميد الأعرج عن مجاهد قال: هن النساء. قال النحاس وغيره: وهذا القول لا يصح، إنما تقول العرب في النساء: سفائه أو سفيهات؛ لأنه الأكثر في جمع فعيلة، ويقال: لا تدفع مالك مضاربة ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة. وروي عن عمر أنه قال: من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا، فذلك قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} يعني الجهال بالأحكام.
وانظر " إعراب القرآن " للنحاس (1/ 432).(7/3405)
فذلك إنما هو باعتبار أن غالب نوع النساء خال عن الرشد، وإلا فلا شك أن عدم الرشد يوجد في غيرهن، كالصبيان والمجانين، ومن يلتحق بهم من البله والمعتوهين، وكثير ممن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين. ولا شك أيضًا أن في النساء من لها من الرشد والكمال ما لا يوجد في أفراد الرجال، ومنهن هند بنت عتبة بن ربيعة المذكورة في الحديث، فإنها كانت من سروات نساء قريش المشهورات بحسن العقل، وكمال الفطنة، كما يعرف ذلك من عرف أخبارها ومحاوراتها لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عند مبايعته لها، فالحاصل أنه لا ملازمة بين القول بوجوب الكفاية في النفقة، وبين حصول السرف، بل الأمر كما قدمنا، والله أعلم.(7/3406)
[بحث في الطلاق المشروط]
السؤال الثاني: قال - كثر الله فوائده - ما لفظه: المسألة الثانية: رجل قال لأمرأته: إن لم تطلع الشمس فأنت طالق، وقال بعد ذلك: إن طلعت الشمس فأنت طالق، هل يحل وطؤها بالليل قبل طلوع الشمس أم قد وقع الطلاق فلا تحل مداناتها ليلا؟ أفيدوا. انتهى.
والجواب - بمعونة الوهاب - أنا نقول: قد تقرر في كتب الفقه أن مشروط الطلاق يترتب على الشرط نفيا وإثباتا، ولو مستحيلا، بل ثبت الترتب في الكتاب والسنة واللغة، وهو معلوم لا يجهل، بل ثبت الشرط المستحيل في الكتاب العزيز، قال الله تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} (1) الآية. وقد خالف في أصل لزوم الطلاق المشروط الإمامية، والناصر، وبعض الظاهرية، فقالوا: لا يقع المعلق بالشرط؛ لأن لفظ الطلاق قد عدم عند وقوع الشرط، وهذه حجة داحضة، وشبهة فاسدة. قد شذ من عضدها العلامة الجلال في ضوء النهار (2) بكلام ساقط قد أوضحت بطلانه في غير هذا الموضع (3)، فلا نطول بذكره.
وإذا تقرر أن الحق وقوع الطلاق المعلق بالشرط، فنقول: هذا السؤال قد اشتمل على صورتين، الصورة الأولى: صورة النفي، وهي إن لم تطلع الشمس فأنت، والصورة الثانية صورة الإثبات، وهي إن طلعت الشمس فأنت طالق.
فأما الصورة الثانية فلا ريب أن الطلاق لا يقع إلا عند طلوع الشمس. وأما الصورة الأولى، فإن قلنا: إن الصيغة للفور وقع الطلاق في الحال، وإن قلنا: إنها للتراخي لم تطلق. وقد صرح أئمة الفروع بأن هذه الصيغة للتراخي كما يشعر بذلك ما في ..............
_________
(1) [الأنعام: 35].
(2) (3/ 928 - 930).
(3) انظر " السيل الجرار " (2/ 373).(7/3407)
الأزهار (1) من قول مؤلفه - رحمه الله -: ولا الفور إلا أن في التمليك (2)، وغير (أن)، و (إذا) مع لم. والصيغة المذكورة هاهنا هي أن مع لم فهي للتراخي، ولكن قد صرح صاحب الأثمار (3) بما يفيد أن مثل هذه الصيغة في المستحيلات للفور، ولفظ مختصر الأثمار هكذا: أولا الفور غالبا إلا نحو مني مع لم، وكلما مع لم، وأن في التمليك.
قال شارحه العلامة ابن بهران: وقوله: غالبا أي في غالب الأحوال، وقد يكون للفر نادرا، وذلك في الشرط المستحيل المنفي نحو إن (4) لم تطلعي السماء فأنت طالق،
_________
(1) (2/ 374 - السيل الجرار).
(2) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (2 374):إن كان هذا الاقتضاء من هذا الحرف فهو محتاج إلى نقل عن أهل اللغة، وإن كان ذلك بخصوص كونها في التمليك فلا شك أنه لم يرد ما يدل على الفور في مثل قول الرجل لامرأته: طلقي نفسك إن شئت، فإن المشيئة كما يصح اعتبارها في الحال يصح اعتبارها في الاستقبال، وكذا قوله: " وغير " " إن " و" إذا " مع لم، فإنه لم يرد ما يدل على هذه الدعوى من شرع ولا لغة، وإن كان هذا الاقتضاء هو مجرد اصطلاح للمصنف وأهل محله، فلا مشاقة في الاصطلاحات.
(3) تقدم التعريف به.
(4) قال ابن قدامة في " المغني " (10/ 443 - 444): والحروف المستعملة للشرط وتعليق الطلاق بها سته: إن، وإذا، ومتى، ومن، وأي، وكلما. فمتى علق الطلاق بإيجاد فعل بواحد منها، كان على التراخي، مثل قوله: إن خرجت، وإذا خرجت، ومتى خرجت، وأي حين، وأي زمان، وأي وقت خرجت، وكلما خرجت، ومن خرجت منكن، وأيتكن خرجت فهي طالق. فمتى وجد الخروج طلقت، وإن مات أحدهمما، سقطت اليمين.
فأما إن علق الطلاق بالنفي بواحد من هذه الحروف، كانت" إن " على التراخي، زمتى، وأي، ومن، وكلما، على الفور. لأن قوله: متى دخلت فأنت طالق يقتضي أي زمان دخلت فأنت طالق. وذلك شائع في الزمان كله، فأي زمن دخلت وجدت الصفة. وإذا قال: متى لم تدخلي فأنت طالق. فإذا مضى عقيب اليمين زمن لم تدخل فيه، وجدت الصفة؛ لأنها اسم لوقت الفعل، فيقدر به، ولهذا يصح السؤال فيه، وجدت، الصفة، لأنها لوقت الفعل، فيقدر، ولهذا يصح السؤال به، فيقال: متى دخلت؟ أي: أي وقت دخلت. وأما " إن " فلا تقتضي وقتا، فقوله: إن لم تدخلي. لا يقتضي وقتا إلا ضرورة أن الفعل لا يقع إلا في وقت، فهي مطلقة في الزمان كله، وأما إذا، ففيها وجهان، أحدهما على التراخي، وهو قول أبي حنيفة، ونصره القاضي؛ لأنها تستعمل شرطا بمعنى (إن) قال الشاعر:
استغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمل
فجزم بها كما يجزم بإن، ولأنها تستعمل بمعنى متى وإن، وإذا احتملت الأمرين فاليقين بقاء النكاح، فلا يزول بالاحتمال، والوجه الآخر أنها على الفور، وهو قول أبي يوسف، ومحمد، وهو المنصوص عن الشافعي لأنها اسم لزمن مستقبل، فتكون كمتى، وأما المجازاة بها فلا تخرجها عن موضوعها، فإن متى يجازى بها، ألا ترى إلى قول الشاعر:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
و" من " يجازى بها أيضا، وكذلك " أي " وسائر الحروف، وليس في هذه الحروف ما يقتضي التكرار إلا كلما , وذكر أبو بكر في (متى) أنها تقتضي التكرار أيضًا لأنها تستعمل للتكرار بدليل قوله:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
أي: في كل وقت، ولأنها تستعمل في الشرط والجزاء، ومتى وجد الشرط ترتب عليه جزاؤه، والصحيح أنها لا تقتضيه؛ لأنها اسم زمن بمعنى أي وقت وبمعنى إذا، فلا تقتضي ما لا يقتضيانه، وكونها تستعمل للتكرار في بعض أحيانها لا يمنع استعمالها في غيره، مثل إذا وأي وقت، فإنهما يستعملان في الأمرين، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54].
قوم إذا الشر أبدى ناجزيه لهم ... صاروا إليه زرافات ووحدانا
وكذلك أي وقت وأي زمان فإنهما يستعملان للتكرار، وسائر الحروف يجازى بها، إلا أنها لما كانت تستعمل للتكرار وغيره، لا تحمل على التكرار إلا بدليل، كذلك (متى).
وانظر " المجموع " (18/ 297 - 298).(7/3408)
فإنها تطلق في الحال، وكذلك إذا لم، ومتى لم، وكلما لم، وهذا من الزوائد، أعني ذكر التسوية بين كلمات الشرط في اقتضائها الفور إذا علقته بالشرط المستحيل نفيا. انتهى.
إذا عرفت هذا علمت أن قوله: إن لم تطلع الشمس هو من التعليق بالمستحيل عادة (1)
_________
(1) فإن علق الطلاق على مستحيل فقال: أنت طالق إن قتلت الميت أو شربت الماء الذي في الكوز - ولا ماء فيه. أو جمعت بين الضدين، أو: كان الواحد أكثر من اثنين. أو على ما يستحيل عادة، كقوله: إن طرت، أو صعدت إلى السماء. أو قلبت الحجر ذهبا. أو شربت هذا النهر كله. أو حملت الجبل، ففيه وجهان:
أحدهما: يقع الطلاق في الحال؛ لأنه أردف الطلاق بما يرفع جملته ويمنع وقوعه في الحال، وفي الثاني: فلم يصح كاستثناء الكل، وكما لو قال: أنت طالق طلقة لا تقع عليك. أو: لا تنقص عدد طلاقك.
الثاني: لا يقع؛ لأنه علق الطلاق بصفة لم توجد، ولأن ما يقصد تبعيده يعلق على المحال، كقوله:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وصار القار كاللبن الحليب
أي لا آتيهم أبدا.
وقيل: إن علقه على ما يستحيل عقلا. وقع في الحال؛ لأنه لا وجود له. فلم تعلق به الصفة، وبقي مجرد الطلاق. فوقع.
وإن علقه على مستحيل عادة، كالطيران، وصعود السماء لم يقع؛ لأن له وجودا وقد وجد جنس ذلك في معجزات الأنبياء عليهم السلام وكرامات الأولياء، فجا تعليق الطلاق به. ولم يقع قبل وجوده. " المغني " (10 474 - 475).(7/3409)
إذا قال ذلك مثلا في وقت من أوقات الليل؛ لأن الشمس لا تطلع في ذلك الوقت، فهو باعتبار وقت الليل مثل قوله: إن لم تطلعي السماء (1) فأنت طالق. ولا اعتبار بكون أحدهما مستحيلا دائما، والآخر مستحيلا في وقت دون وقت؛ لأن وقت التعليق المقصود بالكلام الطلوع فيه مستحيل، وذلك هو المقصود، هذا ما يقتضيه الظاهر من كلام أهل الفروع، وهو يستلزم أنه لا يجوز له وطؤها في الليل، وعندي أن الاعتبار بنية المعلق للطلاق، فإن أراد بقوله: إن لم تطلع الشمس (2) عدم طلوعها في الحال، وكان في الليل، طلقت في الحال، وإن أراد إن لم تطلع في وقتها المعتاد لم تطلق (3)، لأنها طالعة فيه دائما ما دامت الدنيا حتى تقوم القيامة. ولا يصح الجزم بأن هذه الصورة من صور المستحيل حتى يدخل تحت صوره غالبا المذكورة في الأثمار، لأنا نقول: إنها لا
_________
(1) قال ابن قدامة في " المغني " (10/ 475): فأما إن علق طلاقها على نفي فعل المستحيل، فقال: أنت طالق إن لم تقتلي الميت. أو تصعدي السماء. طلقت في الحال؛ لأنه علقه على عدم ذلك، وعدمه معلوم في لحال. وفي الثاني فوقع الطلاق كما لو قال: أنت طالق إن لم أبع عبدي، فمات العبد. وكذلك لو قال: أنت طالق لأشربن الماء الذي في الكوز، ولا ماء فيه , أو لأقتلن الميت: وقع الطلاق في الحال.
(2) انظر التعليقة السابقة.
(3) انظر " المغني " (10/ 475).(7/3410)
تدخل تحت صوره غالبا إلا إذا كانت مستحيلة، وهي لا تكون مستحيلة إلا إذا أراد إن لم تطلع في جزء من أجزاء الليل، والإرادة ينافي الدخول تحت صوره غالبا؛ لأنها فيما كان مطلقا من الصيغ لا فيما كان معلقا بجزء معين، فإنه لا ثمرة في اقتضائه الفور. والتراخي أو التعبير بالإرادة والقصد موجب للعمل به، فإذا قال القائل لامرأته: إن لم تطلع الشمس فأنت طالق، وكان عند هذا القول في الليل لم يصح أن يحكم عليه بأن هذه الصيغة تقتضي الفور حتى تطلق في الحال، إلا بعد معرفة أن ذلك مستحييل، ولا نعرف أنه مستحيل إلا إذا علمنا أنه أراد عدم الطلوع في الليل، لا إذا لم يسلم ذلك، إذ من الجائز أن يكون أراد عدم طلوعها في الوقت المعتاد وليس ذلك بمستحيل، فقد توقف كونها للفور على كونها مستحيلة، كونها مستحيلة على إرادة جزء معين، وإرادة جزء معين تنافي كونها للفور، وهذا فيه دقة، ولهذا أوضحته بالتكرار.
وإذا تقرر هذا فالمتوجه الرجوع إلى الإرادة كما أسلفنا، فإن أراد إن لم تطلع الشمس في الليل طلت زوجته (1)، وإن أراد إن لم تطلع في الوقت المعتاد لطلوعها لم تطلق؛ لأنها ستطلع لكنها تطلق بالشرط الآخر، وهو قوله: إن طلعت الشمس فأنت طالق.
فالحاصل أن الصورة الأولى من صورتي الشرط المذكورتين في السؤال لا يقتضي عدم جواز الوطء في الليل، إلا إذا أراد إيقاع الطلاق إن لم يقع الطلوع في الليل، لا إذا لم يرد ذلك فلا يقع؛ لأنها طالعة في وقتها دائما (2).
والصورة الثانية (3): تقتضي وقوع الطلاق عند طلوع الشمس في وقت طلوعها، ولا
_________
(1) تقدم ذكر ذلك.
(2) في هامش المخطوط ما نصه " فإذا لم يكن له إرادة هل يكون الخلاف فيه لو علق الطلاق بطهارة ثوب، هل يرجع إلى الأصل أو إلى عدم وقوع وصفهم أو ما ذا يكون الحكم؟ ".
(3) من السؤال: وهو قوله: إن طلعت الشمس فأنت طالق.
قال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (33/ 197): وأما التعليق المحض كقوله: إن طلعت الشمس فأنت طالق، ففيه قولان مشهوران لهم، ومذهب الشافعي وأصحاب أحمد في أحد الوجهين ليس بيمين كاختيار القاضي أبي يعلى، ومذهب أبي حنيفة وأصحاب أحمد في الوجه الآخر: هو يمين، كاختيار أبي الخطاب.
وقال النووي في " المجموع " (18/ 296): إذا علق الطلاق بشطر لا يستحيل كدخول الدار ومجيء الشهر، تعلق به، فإذا وجد الشرط وقع، وإذا لم يوجد لم يقع.
وقال المطيعي في " التكملة " (18/ 297): فإنه إذا علق طلاق امرأته بشرط غير مستحيل لم يقع الطلاق قبل وجود الشرط، سواء كان الشرط يوجد لا محالة، كقوله: إذا طلعت الشمس فأنت طالق، أو كان الشرط قد يوجد ولا يوجد، كقوله: إذا قدم القطار من الإسكندرية فأنت طالق، هذا مذهبنا وبه قال أبو حنيفة والثور.
وقال الزهري وابن المسيب والحسن البصري ومالك: إذا علق الطلاق بشرط يوجد لا محالة كمجيء الليل والنهار والشمس والقمر وما أشبههما وقع الطلاق في الحال قبل وجود الشرط.(7/3411)
يقع قبل ذلك، فيحل الوطء في الليل؛ لبقاء النكاح، وعدم حصول شرط الطلاق، وليس هذا من التعليق بممكن ومستحيل حتى يكون الحكم للمكن على ذلك التفصيل المذكور في كتب الفقه، بل هذا باب آخر.(7/3412)
[بحث في الصوم لي وأنا أجزي به]
السؤال الثالث: قال - حفظه الله -: المسألة الثالثة قوله: " الصوم لي وأنا أجزي به " (1) الحديث، كيف أنه اختص من بين سائر العبادات بالله؟ إن قلنا: كونه عبادة خفية، فالإيمان أخفى، وإن قلنا: أن فيه تصفية للقلب والعقل، فذكر الله تعالى في التصفية أبلغ، وكذلك تلاوة القرآن، وإن قلنا: عبادة لم يعبد بها غير الله، فأهل الملل الأخرى يصومون لاستخدام الأفلاك، وللارتياض ونحو ذلك مما لم يقصد به الباري؟ أفيدوا. انتهى.
والجواب أنه قد اختلف في تفسير معنى هذا اللفظ الوارد في الحديث اختلافا طويلا، حتى بلغت الأقوال إلى خمسة وخمسين قولا، أقواها ستة.
أحدها: أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإنه أكثر. هذا سياق الحديث، فإن لفظه في الأمهات (2) هكذا: عن أبي هريرة قال: قال رسول
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1904) ومسلم رقم (163، 164/ 1151) وأحمد (2/ 273) والنسائي (4/ 162 - 163) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب. وفي رواية: ولا يجهل. فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة منريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه ".
(2) أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه رقم (7492)، (5927) و (1894)، (7538) وابن ماجه رقم (16638) وأحمد (2/ 281) (2/ 443، 477) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كل حسنة يعملها ابن آدم بعشر حسنات إلى سبع مائة ضعف، يقول الله: إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به ...... " وله عندهم ألفاظ مختلفة.
وقال الحافظ في " الفتح " (4/ 110): عن البيضاوي: والمعنى أن الحسنات يضاعف جزاؤها من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فلا يضاعف إلى هذا القدر، بل ثوابه لا يقدر قدره ولا يحصيه إلا الله تعالى. ولذلك يتولى الله جزاؤه بنفسه ولا يكله إلى غيره. قال - البيضاوي -: والسبب في اختصاص الصوم بهذه المزية أمران:
أحدهما: أن سائر العبادات مما يطلع العباد عليه. والصوم سر بين العبد وبين الله تعالى يفعله خالصا ويعامله به طالبا لرضاه، وإلى ذلك الإشارة بقوله: " فإنه لي ".
الآخر: أن سائر الحسنات راجعة إلى صرف المال أو استعمال للبدن، والصوم يتضمن كسر النفس وتعريض البدن للنقصان، وفيه الصبر على مضض الجوع والعطش وترك الشهوات.(7/3413)
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي ".
الثاني: أنه يوم القيامة (1) يأخذ خصماؤه جميع أعماله إلا الصوم، فلا سبيل لهم عليه، قال بهذا ابن عيينة (2)، وهو محتاج إلى دليل.
_________
(1) قال القرطبي في " المفهم " (3/ 212): نقلا عن ابن العربي، قال القرطبي ردا على ذلك بقوله: وقد كنت استحسنته إلى أن فكرت في حديث المقاصة، فوجدت فيه ذكر الصوم في جملة الأعمال المذكورة للأخذ منها، فإنه قال فيه: " هل تدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وضرب هذا وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرح عليه، ثم طرح في النار ". وهذا يدل على أن الصوم يؤخذ كسائر الأعمال.
[أخرج الحديث احمد (2/ 303، 334) ومسلم رقم (2581) والترمذي رقم (2418).
(2) قال ابن حجر في " الفتح " (4/ 109): إن ثبت قول ابن عيينة أمكن تخصيص الصيام من ذلك، فقد يستدل له بما رواه أحمد من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رفعه: " كل العمل كفارة إلا الصوم، الصوم لي وأنا أجزي به ".
ثم قال: ولكنه وإن كان صحيح السند فإنه يعارضه حديث حذيفة: " فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة ..... ". أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1895).
قال ابن حجر في الجمع بينهما: حديث حذيفة هذا لا يعارض حديث: " الأعمال كفارة إلا الصوم " لأنه يحمل في الإثبات على كفارة شيء مخصوص وفي النفي على كفارة شيء آخر.
وقد حمله المصنف في موضع آخر على تكفير مطلق الخطيئة فقال في باب " الزكاة " باب الصدقة تكفر الخطيئة
.: " ويؤيد الإطلاق ما ثبت عند مسلم منحديث أبي هريرة مرفوعا: الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر .... ".
وعلى هذا فقوله: " كل العمل كفارة إلا الصيام " يحتمل أن يكون المراد إلا الصيام فإنه كفارة وزيادة ثواب على الكفارة، ويكون المراد بالصيام الذي هذا شأنه ما وقع خالصا سالما من الرياء والشوائب.(7/3414)
الثالث: أن الصوم لم يعبد به غير الله (1)، وما عداه من العبادات قد تقرب به إلى غيره، ويعترض عليه بمثل ما ذكره السائل، عافاه الله.
ويجاب عنه بأن ذلك ليس على طريقة العبادة، بل هو لقصد تخفيف الأخلاط وتقليلها، كما يفعله أهل الرياضيات، ويزعمون أن أثرا في إدراك الحقائق، ولم يكن في قصدهم التقرب بذلك إلى الكواكب ونحوها.
الرابع: أن الصوم صبر (2)، فيدخل تحت قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
_________
(1) قال ابن حجر في " الفتح " (4/ 108): واعترض على هذا بما يقع من عباد النجوم وأصحاب الهياكل والاستخدامات، فإنهم يتعبدون لها بالصيام. وأجيب: بأنهم لا يعتقدون إلهية الكواكب وإنما يعتقد أنها فعالة بأنفسها، وهذا الجواب عندي ليس بطائل؛ لأنهم طائفتان: إحداهما كانت تعتقد إلهية الكواكب وهم من كان قبل ظهور الإسلام، واستمر منهم من استمر على كفره. والأخرى من دخل منهم في الإسلام واستمر في تعظيم الكواكب وهم الذين أشير إليهم.
(2) ذكره ابن حجر في " الفتح " (4/ 108) وعزاه إلى ابن عيينة أنه قال ذلك، واستدل له بأن الصوم هو الصبر لأن الصائم يصبر نفسه عن الشهوات.
قال القرطبي في " المفهم " (3/ 213): قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وهم الصائمون في أكثر أقوال المفسرين , وهذا ظاهر قول الحسن، غير أنه قد تقدم، ويأتي في غير ما حديث: أن صوم اليوم بعشرة، وأن صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام رمضان صيام الدهر، وهذه نصوص في إظهار التضعيف، فبعد هذا الوجه، بل بطل.
قال الحافظ ردا على قول القرطبي: " لا يلزم من الذي ذكر بطلانه، بل المراد بما أورده أن صيام اليوم الواحد يكتب بعشرة أيام، وأما مقدار ثواب ذلك فلا يعلمه إلا الله تعالى، ويؤيده أيضًا العرف المستفاد من قوله: " أنا أجزي به " لأن الكريم إذا قال: أنا أتولى الإعطاء بنفسي، كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه ".
انظر: " فتح الباري " (4/ 108) و" المفهم " (3/ 213).(7/3415)
أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1).
ويجاب عن هذا بأنه على تسليم ذلك يشاركه كل ما يصدق عليه أنه صبر.
لخامس: أن هذه العبادة لا يمكن إطلاع الغير عليها (2)، إنما هي عبادة يؤتمن عليها
_________
(1) [الزمر: 10].
(2) قال القرطبي في " المفهم " (3/ 212): اختلف في معنى هذا على أقوال:
أحدها: أن أعمال بني آدم يمكن الرياء فيها، فيكون لهم، إلا الصيام فإنه لا يمكن فيه إلا الإخلاص؛ لأن حال الممسك شبعا كحال الممسك تقربا، وارتضاه المازوري - في المعلم بفوائد مسلم (2/ 41) - ثم قال المازوري بعد ذلك: وإنما القصد وما يبطنه القلب هو المؤثر في ذلك والصلوات والج والزكاة أعمال بدنية يمكن فيها الرياء والسمعة، فلذلك خص الصوم بما ذكره دونها.
ثانيها: أن أعمال بني آدم كلها لهم فيها حظ إلا الصيام، فإنهم لا حظ لهم فيه. قاله الخطابي.
قال الحافظ في الفتح (4/ 107): معنى النفي في قوله " لا رياء في الصوم " أنه لا يدخله الرياء بفعله، وإن كان قد يدخله الرياء بالقول، كمن يصوم ثم يخبر، فإن الرياء قد يدخله الرياء من هذه الحيثية، فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار، بخلاف بقية الأعمال فإن الرياء قد يدخله بمجرد فعلها.
ثالثها: أن أعمالهم هي أوصافهم، ومناسبة لأحوالهم إلا الصيام، فإنه استغناء عن الطعام، وذلك من خواص أوصاف الحق سبحانه وتعالى:
وذكره الحافظ في الفتح (4/ 108).
رابعها: أن أعمالهم مضافة إليهم إلا الصيام، فإن الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفا، كما قال (بيتي، عبادي).
قال الحافظ في الفتح (4/ 108): وقال الزين بن المنير: التخصيص في موضع التعميم في مثل هذا السياق لا يفهم منه إلا التعظيم والتشريف.
خامسها: أن الأعمال كلها ظاهرة للملائكة، فتكتبها، إلا الصوم، وإنما هو نية وإمساك، فالله يعلمه ويتولى جزاءه، قاله أبو عبيد.
قال الحافظ في الفتح (4/ 109): واستند قائله إلى حديث واه جدا أورده ابن العربي في " المسلسلات " ولفظه: " قال الله: الإخلاص سر من سري استودعته قلب من أحب، لا يطلع عليه ملك فيكتبه ولا شيطان يفسده " ويكفي في رد هذا القول الحديث الصحيح في كتابة الحسنة لمن هم بها، وإن لم يفعلها.(7/3416)
العبد بخلاف غيرها.
السادس: أن هذه العبادة لا تحصل بها المباهاة لكونها غير ظاهرة الأثر (1).
واعترض على هذين بما ذكره السائل - كثر الله فوائده - من أن الإيمان بالله أخفى من الصوم. ويجاب عنه بأن الإيمان فعل من أفعال القلوب، لا من أفعال الجوارح، والمقصود هاهنا أعمال الجوارح (2)، كما يدل عليه قوله في أول الحديث: " كل عمل ابن آدم " ولكن هذا الاعتراض إنما يتم بعد تسليم أنه لا يصدق على أفعال القلوب أنها أعمال، وفيه نزاع.
وعندي جواب لم أجد من تعرض له (3)، وهو أن قوله تعالى: " الصوم لي " لا يدل على أن ما عداه من العبادات ليس له إلا بمفهوم اللقب (4) , ومفهوم اللقب غير .......
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) انظر: " فتح الباري " (4/ 109).
(3) في حاشية المخطوط (تحقيق بكر لم يسبق، جزى الله من أفادنا به خيرا، آمين).
(4) مفهوم اللقب: هو تعليق الحكم بالاسم العلم نحو قام مزيد، أو اسم نوع، نحو في الغنم زكاة، فلا يدل على نفي الحكم عما عداه، وقد نص عليه الشافعي، كما قاله في البرهان، وقال الأستاذ أبو إسحاق: لم يختلف قول الشافعي وأصحابه فيه. وخالف فيه أبو بكر الدقاق، وبه اشتهر، وزعم ابن الرفعة وغيره أنه لم يقل به من أصحابنا غيره، وليس كذلك. فقد قال سليم في " التقريب ": صار إليه الدقاق وغيره من أصحابنا.
قال إمام الحرمين: وقد سفه الأصوليون الدقاق ومن قال بمقالته، وقالوا هذا خروج عن حكم السان، فإن من قال: رأيت زيدا، لم يقتض أنه لم ير غيره قطعا، ولإجماع العلماء على جواز لتعليل والقياس، فهو يقتضي أن تخصيص الربا بالاسم لا يدل على نفيه عما عداه، ولو قلنا به بطل القياس. "
البحر المحيط " (4/ 26 - 27).(7/3417)
معمول به (1) كما تقرر عند أئمة الأصول، ولم يخالف في ذلك إلا الدقاق (2)، والسؤال إنما يرد على فرض أنه يدل على أن سائر العبادات ليست له، وليس الأمر كذلك، فوزانه وزان قول من قال وله من أنواع المال أنواع كثيرة من غنم، وبقر، وخيل، وبغال، وغير ذلك، الغنم لي، أو البقر لي أبيعها كيف شئت، فإن ذلك لا يدل على أن ما عدا الغنم أو البقر لغير، إلا بمفهوم لقبه الساقط (3)، وحينئذ لا يحتاج إلى طلب النكتة في تخصيص الصوم بكونه لله، بل المراد أنه لما كان الصوم له تعالى كان له أن يجزي فاعله بأي جزاء شاء، وليس أمر ذلك إلينا كسائر الأمور المتعلقة بالعباد (4).
_________
(1) قال الزركشي في " البحر المحيط " (4/ 27): إطلاق أن مفهوم اللقب ليس بحجة مطلقا قد استشكل، فإن أصحابنا قد قالوا به في مواضع واحتجوا به.
ثم قال: والتحقيق أن يقال: إنه ليس بحجة إذا لم يوجد فيه رائحة التعليل.
(2) انظر التعليقة رقم (4) في الصفحة السابقة.
قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 602): والحاصل أن القائل به كلا أو بعضا لم يأت بحجة لغوية ولا شرعية ولا عقلية، ومعلوم من لسان لعرب أن من قال: رأيت زيدا، لم يقتض أنه لم ير غيره قطعا، وأما إذا دلت القرينة على العمل به فذلك ليس إلا للقرينة، فهو خارج عن محل النزاع.
وانظر: " تيسير التحرير " (1/ 101)، " الكوكب المنير " (3/ 509).
(3) تقدم التعليق على ذلك.
(4) في حاشية المخطوط ما نصه: "
هذا التوجيه غير منطبق على قوله في الحديث (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي .... ) الحديث. كما لا يخفى على من له أدنى فهم ".(7/3418)
[بحث في اختلاف النقد المتعامل به]
السؤال الرابع: قال - حفظه الله - ما لفظه: المسألة الرابعة: ازدياد النقود (1)، فاليوم هذا دفع البيع بالقرش حجرا، وصرفه من كذا، واليوم الثاني كذا، فما حكم البيع مع إضمار البائع والمشتري أنه إذا سلم له صرف يوم التسليم، يزيد وإلا نص فهو راض بذلك، هل يكون جائزا، ويكون البيع فاسدا، وما زاد على يوم البيع في الثم هل يلزم الحاكم بالزيادة أم لا , أو يعتبر بيوم العقد أو بيوم التسليم، وهل يكون ذريعة للفسخ أم لا؟ فأفضلوا بالإفادة. انتهى.
أقول: هذه المسألة قد عمت بها البلوى، والمخلص منها أن ينظر الحاكم في الثمن الذي وقع به البيع، هل هو قروش فرانصه (2)، أو قروش من غير تقييد بكونها فرانصه،
_________
(1) قال ابن قدامة في المغني (6/ 60): الجيد والرديء، والتبر والمضروب، الصحيح والمكسور سواء في جواز البيع مع التماثل وتحريمه مع التفاضل، وهذا قول أكثر أهل العلم. منهم، أبو حنيفة والشافعي. وحكي عن مالك جواز بيع المضروب بقيمته من جنسه، وأنكر أصحابه ذلك، ونفوه عنه، وحكى بعض أصحابنا عن أحمد رواية لا يجوز بيع الصحاح بالمكسرة، ولأن الصناعة قيمة، بدليل حالة الإتلاف، فيصير كأنه ضم قيمة الصناعة إلى الذهب.
قال ابن قدامة: ولنا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل " وهو حديث صحيح - وعن عبادة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها " رواه أبو داود، وروى مسلم عن أبي الأشعث أن معاوية أمر ببيع آنية من فضة في أعطيات الناس، فبلغ عبادة فقال: إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، وروى الأثرم عن عطاء بن يسار أن معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها. فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذكر له ذلك، فكتب عمر إلى معاوية لا تبع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن، ولأنهما تساويا في الوزن، فلا يؤثر اختلافهما في القيمة، كالجيد والرديء ".
انظر المجموع (10/ 265).
(2) المقصود العملة الفضية المعتمدة في ذلك الوقت محورة عن (الفرنسية).(7/3419)
أو قروش من هذه الضربة، فإن كان قروش فرانصه كان الواجب تسليمها فرانصه حسب البيع، ولا يجوز إجبار البائع على قبض ما يقابلها من هذه الضربة عرفا؛ لأنه ربما تعلق بالفرانصه غرض له لا يوجد في غيرها، اللهم (1) إلا أن يرضى بأن يأخذ عوضها من هذه الضربة، فالواجب له العوض في الوقت الذي يأخذ العوض فيه، وإن كان زائدا على قدر ما يقابل الفرانصه في وقت البيع؛ لأنه إنما باع بالفرانصه وقبض بعد ذلك ما يقابلها، والاعتبار بوقت القبض (2)؛ لأنه قد ثبت له في ذمة المشتري قروش فرانصه إلى وقت قبل العوض، فإذا زاد العوض في وقت القبض على وقت البيع لم يجز إجباره على قبض العوض في وقت البيع؛ لأن الثابت المعوض، لا العوض، فهو بمنزلة من باع دارا مثلا بدار أخرى، فكما أنه يستحق صاحب الدار الأخرى قيمتها وقت التراضي على قبض
_________
(1) في حاشية المخطوط ما نصه: "
ينظر في المعاطاة، فقد حفظ عن المؤلف - كثر الله فوائده - هذا اللهم إلا أن يكون مع تيقن التساوي، ولعله المراد كما سيأتي إن شاء الله ".
(2) إذا باع شيئا من مال الربا بغير جنسه، وعلة ربا الفضل فيهما واحدة لم يجز التفرق قبل القبض. فإن فعلا بطل العقد. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يشترط التقابض فيهما كغير أموال الربا، وكبيع ذلك بأحد النقدين.
وقال ابن قدامة في " المغني " (6/ 63 - 64): ولنا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد ". رواه مسلم، وقال عليه السلام: " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد ".
وروى مالك بن أوس بن الحدثان، أنه التمس صرفا بمائة دينار قال: يقلبها في يديه، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة. وعمر يسمع ذلك، فقال: لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير إلا هاء وهاء ". متفق عليه. والمراد به القبض، بدليل أن المراد به ذلك في الذهب والفضة، ولهذا فسره عمر به، ولأنهما حالان من أحوال الربا علتهما واحدة، فحرم التفرق فيهما قبل القبض كالذهب والفضة، فأما إن اختلفت علتهما كالمكيل بالموزون عند من يعلل بهما فقال أبو خطاب: يجوز التفرق قبل القبض رواية واحدة؛ لأن علتهما مختلفة، فجاز التفرق قبل القبض.(7/3420)
قيمتها، كذلك يستحق البائع بالقروش الفرانصه قيمتها وقت التراضي على قبض قيمتها، فلو قال قائل: إن صاحب الدار الأخرى يجبر على قبض قيمتها وقت البيع مع تيقن زيادة القيمة إلىوقت القبض كان ذبك ظلما بحتا، كذلك مسألة السؤال هذا، إذا كان البيع بالقروش مقيدا بكونها فرانصه، وأما إذا كان البيع بقروش من غير تقييد، فهذا يرجع فيه إلى الأعراف، فإن كان هذا المطلق ينصرف في العرف إلى القروش الفرانصه كأثمان الدور، والعقار، وكثير من المنقولات التي تجري العادة بأن أثمانها قروش فرانصه كان العرف مقيدا لذلك المطلق (1)، لما تقرر في الأصول من أن الأعراف صالحة لتقييد ما أطلق في المعاملات، وإن كان العرف جاريا بأن تلك العين التي وقع البيع لها إذا أطلقت القروش انصرفت إلى القروش من هذه الضربة، كما في كثير من المحقرات، وجب الرجوع إلى ذلك، ولا يلزم للبائع إلا قروش من هذه الضربة، فإن كانت القروش العددية من
_________
(1) انظر " البحر المحيط " (3/ 426)، " اللمع " (ص 280).
والاستعمالات الفقهية للعرف تنحصر في أربعة استعمالات:
1 - العرف الذي يكون دليلا على مشروعية الحكم ظاهرا.
2 - العرف الذي يرجع إليه في تطبيق الأحكام المطلقة على الحوادث.
3 - العرف الذي ينزل منزلة النطق بالأمر المتعارف.
4 - العرف القولي.
ضابط ما يعد نقدا بين الناس:
معيار النقد بين الناس - على ما يقول علماء الاقتصاد - وهم هنا أهل الخبرة، المطلوب تحكيمهم في مجالهم ومداهم، قالوا: " إن للنقد خصائص متى توفرت في مادة ما اعتبرت هذه المادة نقدا:
1 - أن يكون وسيطا للتبادل.
2 - أن يكون مقياسا لقيم الأشياء.
3 - أن يكون مستودعا للثروة.
وعلى ذلك أقرب ما يعرف به النقد هو: " كل شيء يلقى قبولا عاما في العرف واصطلاح الناس، بوصفه وسيطا للتبادل مهما كان ذلك الشيء، وعلى أي حال يكون ".(7/3421)
هذه الضربة مساوية لما تصرف به القروش الفرانصه منها، مثلا إذا جرى العرف بأن القرش العددي ثمانون بقشة، وكان صرف القرش الفرانصي ثمانون بقشة كان البائع مستحقا لما اشتمل عليه العقد من القروش، فيقبض كل قرش ثمانين بقشة، وليس له أن يطلب فرانصه، إلا إذا وقع التراضي، وإن كانت القروش من هذه الضربة عرفا تطلق على ثمانين بقشة مثلا، ولكن صرف (1) القرش الفرانصي منها زيادة على ثمانين بقشة كما
_________
(1) قال ابن المنذر في " الإجماع " (ص 92) أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد ".
ويشترط لصحة الصرف - مع اتحاد الجنس - التماثل والتساوي بين النقدين.
والمسائل التي لها بالعرف تعلق هنا في باب الصرف:
1 - ضابط القبض في الصرف.
2 - ضابط التفرق فيه.
أما القبض في الصرف فيحصل بأن يسلم كل من المتصارفين البدل الذي بيده للآخر في مجلس العقد، قبل أن يتفرقا، ولو افترقا قبل التقابض بطل عقد الصرف.
وأما التفرق فيه، فالمعتبر فيه هنا هو المعتبر في خيار المجلس في البيع، وهو: ما لم يتفرقا عرفا بأبدانهما من مكان التبايع.
ومن الفروع المهمة على ذلك:
1 - متى افترق المتصارفان بأبدانهما قبل كل العوض المعقود عليه في الجانبين - جانب البائع وجانب المشتري - بطل العقد.
ولو قبض بعض العوض في المجلس، وتفرقا قبل قبض الباقي صح فيما قبض، لوجود شرطه، وبطل في الباقي لفواته.
2 - لا يضر في صحة عقد الصرف طول المجلس قبل القبض، ما دام المتبايعان متلازمين، فلو مشيا مثلا إلى منزل أحدهما مصطحبين لم يتفرقا، فقابضا، أو مشيا إلى الصراف، فتقابضا عنده، صح الصرف؛ لأن المجلس هنا كمجلس الخيار في البيع وهما لم يتفرقا قبل القبض.
3 - إذا وكل عاقدي الصرف شخصا في القبض، صح العقد لأن قبض الوكيل كقبض موكله، لكن العبرة في التفرق لحال الموكل العاقد دون الوكيل، فلو افترق الموكل والعاقد الآخر قبل القبض بطل الصرف سواء فارق الوكيل المجلس أم لا.
انظر: " المغني " (6/ 60 - 66، 266).(7/3422)
يتفق ذلك في كثير من الأوقات: كان الواجب الرجوع إلى ما جرى به العرف، وهو الثامنون البقشة لا إلى ما يقابل القروش الفرانصه، وهو الزائد على ذلك، فإن اختلف العرف في مثل المحقرات، فتارة تكون أثمانها قروشا فرانصه، وتارة تكون قروشا عدديةة من هذه الضربة، فلا يخلو إما أن يكون ثم غالب أولا، إن كان ثم غالب كان القول قول من وافقه، وإن لم يكن ثم غالب كان القول قول البائع قبل التسليم؛ لأن المشتري يريد إلزامه بزيادة جنس، أو نوع، أو صفة، أو قدر.
وقد صرح بهذا في كتب الفقه كما وقع في الأزهار (1) في آخر البيع حيث قال: وفي الثمن لمدعي ما يتعامل به في البلد، ثم قال: وللبائع في قدره وجنسه ونوعه وصفته قبل تسليم المبيع لا بعده، فللمشتري، وأما إذا كان العقد على قروش من هذه الضربة انصرف إليها في العرف، وإذا اختلف العرف كان الأمر كما تقدم.
وأما ما ذكره السائل - دامت إفادته - من فساد العقد (2)، فلا فساد لعدم وجود صورة من صوره فيما ذكرناه، وأما الفسخ فنعم، يثبت الفسخ لخيار معرفة مقدار الثمن إذا تقررت الجهالة له، وهو أحد الخيارات (3) الثلاثة عشر.
وفي هذا كفاية.
حرره في النصف الأول من ليلة الأحد لعلها ليلة سادس وعشرين شهر الحجة سنة 1213 هـ المجيب محمد الشوكاني.
_________
(1) في حاشية المخطوط ما نصه: " ينظر هل حكمه لو شرى بقيمة قدح حنطة ثوبا إلى أجل فإنه مجهول قد .... أم حكمه غير ذلك؟ ".
(2) في حاشية المخطوط ما نصه: " ينظر هل حكمه لو شرى بقيمة قدح حنطة ثوبا إلى أجل فإنه مجهول قد. أم حكمه غير ذلك؟ ".
(3) انظر الرسالة رقم (110) من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني هذا.(7/3423)
بحث في من أجبر على الطلاق
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديث
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(7/3425)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " بحث في من أجبر على الطلاق ".
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: " ورد إلينا سؤال من بعض المحلات النائية في رجل أجبره العامل على التلفظ بالطلاق " ....
4 - آخر الرسالة: والمقام محتمل لبسط طويل، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. حرر من تحرير المجيب والمؤلف لهذه النسخة القاضي البدر عز الدين محمد بن علي الشوكاني، حفظه الله ومتع بحياته، وكلأه بعين عنايته. وكان التحرير والإجابة في سنة 1207 هـ.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الصفحات: 3 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 16 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(7/3427)
ثم قال حفظه الله ما لفظه:
ورد إلينا سؤال من بعض المحلات النائية في رجل أجبره العامل على التلفظ بالطلاق، فتلفظ به بعد أن حبسه وقيده، هل يقع أم لا؟ ولم ينوه، وقد [قيل] (1) فيه جوابات مختلفة، وأدلة متباينة.
فأجبت بما لفظه:
الحمد لله، وقف الحقير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - على هذا السؤال، وما عليه من الأجوبة.
وأقول: إن كان المسئول عنه كلام أهل المذهب؛ فهم مصرحون بأن الاختيار شرط لنفوذ الطلاق لا يلزم حكمه الآية، وهذا مدون في كتبهم الفقهية، كالأزهار (2)، والبيان (3)، والبحر (4). وهذه مدارس الزيدية في عصرنا الآن.
وكذلك وقع التصريح بذلك في سائر كتب الآل وأتباعهم. وقال النخعي , وابن المسيب، والثوري، وعمر بن عبد العزيز، وأبو حنيفة وأصحابه أنه يقع الطلاق من المكره (5)، والمذهب الأول هو الراجح عندي (6)، لحديث: " لا طلاق في إغلاق "
_________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) (2/ 359 مع السيل الجرار).
(3) انظر " مؤلفات الزيدية " (1/ 222 - 223).
(4) (3/ 165 - 166).
(5) ذكره عنهم ابن قدامة في " المغني " (10/ 350): فقد قال: وأجازه أبو قلابة، والشعبي، والنخعي، والزهري والثوري، وأبو حنيفة وصاحباه؛ لأنه طلاق من مكلف، في محل يملكه فينفذ كطلاق غير المكره. وانظر " البناية في شرح الهداية " (5/ 25).
(6) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (2/ 362): الأقوال والأفعال الصادرة على وجه الإكراه قد دلت أدلة الشرع الكلية والجزئية على أنه لا يترتب عليها شيء من الأحكام؛ فإن الله سبحانه لم يجعل من كفر مكرها كافرا، فقال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].
وإذا كان الإكراه مبطلا للكفر بالله والإشراك، فما ظنك بغيره. وقال سبحانه: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286].
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: لما دعاه عباده بهذه الدعوات، قال: " قد فعلت " وهو حديث صحيح تقدم. فالمكره لو كلف بما أكره به ويثبت عليه أحكامه لكان قد حمل ما لا طاقة له به، ومن هذا القبيل حديث: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " فإن له طرقا يشهد بعضها لبعض، ولذلك حسنه من حسنه - تقدم - والمراد بالرفع رفع الخطأ بذلك وترتب أحكامه عليه. وهذا المقدار يكفي في الاستدلال على عدم صحة طلاق المكره على تقدير عدم وجودها ما يدل عليه بخصوصه، فكيف وقد دل عليه خصوصا حديث: " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ".(7/3431)
أخرجه أحمد (1)، وأبو داود (2)، وابن ماجه (3) وأبو يعلى (4)، والحاكم (5) والبيهقي (6) من طريق صفية بنت شيبة عن عائشة مرفوعا، وصححه الحاكم (7). لا يقال في إسناده محمد بن عبيد بن أبي صالح، وقد ضعفه أبو حاتم الرازي (8)؛ لأنا نقول: قد رواه البيهقي (9) من طريق ليس هو فيها، وإنما جعلنا هذا الحديث حجة لنا، على ترجيح عدم وقوع طلاق المكره؛ لأن أئمة الغريب قد فسروا الإغلاق بالإكراه. وممن صرح بذلك ابن قتيبة (10)، والخطابي (11) وابن ...................................
_________
(1) في " المسند " (6/ 276).
(2) في " السنن " رقم (2193).
(3) في " السنن " (2046).
(4) في مسنده (7/ 421 رقم 4444) و (8/ 52، 53 رقم 4570).
(5) في " المستدرك " (2/ 198).
(6) في " السنن الكبرى " (7/ 357).
(7) في " المستدرك " (2/ 198).
(8) في " العلل " (1/ 430 رقم 1292) و (1/ 432 رقم 1300).
(9) في " السنن الكبرى " (7/ 357). وهو حديث حسن بمجموع طرقه.
(10) لم أجده في غريب الحديث.
(11) في " معالم السنن " (2/ 642) قال: الإغلاق: الإكراه، وكان عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم لا يرون طلاق المكره طلاقا.(7/3432)
السيد (1).
وقال في النهاية (2): الإغلاق الإكراه، لأن المكره مغلق عليه في أمره، ومضيق عليه في تصرفه، كما يغلق الباب على الإنسان، وبمثل ذلك قال أبو عبيد (3) إمام الغريب.
وقال في القاموس (4): الإغلاق الإكراه، وضد الفتح.
وأما ما روي من أنه الجنون، فهو مع مخالفته لما عليه أئمة اللغة والغريب قد استبعده المطرزي (5)، وكذلك ما روي عن أحمد بن حنبل، وأبي داود أنه الغضب مخالف لما وقع به التصريح من أئمة اللغة المعتبرين. وقد رده أيضًا ابن السيد، فقال: لو كان كذلك لم يقع على أحد طلاق؛ لأن أحدا لا يطلق حتى يغضب. انتهى.
ومراده بهذه الكلية ما هو الغالب، مبالغة في ذلك؛ لأن أكثر المطلقين يوقعونه في حال الغضب، لا أن كل مطلق كذلك، للقطع بأن الإنسان قد يطلق لحامل غير الغضب، كالكراهة للزوجة، ونحو ذلك. إذا تقرر أن الإغلاق هو الإكراه، فمعنى قوله: لا طلاق في إغلاق: لا طلاق صحيح؛ لأنه أقرب المجازين عن الذات، على أنه يمكن أن يقدر: لا ذات طلاق شرعية؛ لأن الذات الموجودة حال الإكراه غي شرعية، فوجودها كعدمها، وهذا التقدير هو الذي ترجح لدي.
وظاهر هذا الحديث أنه لا فرق بين إكراه، بل الاعتبار بما صدق عليه اسم
_________
(1) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (3/ 425).
(2) (3/ 379 - 380).
(3) عزاه إليهما ابن قدامة في " المغني " (10/ 351).
وانظر " لسان العرب " (2/ 80). و" المجموع " للنووي (18/ 209).
(4) (ص 1182).
(5) ذكره النووي في " المجموع " (18/ 209).
وانظر: " تلخيص الحبير " (3/ 425).(7/3433)
الإكراه (1)؛ وهذا الدليل ينبغي التعويل عليه.
_________
(1) قال ابن قدامة في " المغني " (10/ 351): ولا يكون مكرها حتى ينال بشيء من العذاب، مثل الضرب أو الخنق أو عصر الساق وما أشبهه، ولا يكون التواعد إكراها.
أما إذا نيل بشيء من العذاب، كالضرب والخنق، والعصر، والغط في الماء مع الوعيد؛ فإنه يكون إكراها بلا إشكال. لما روي أن المشركين أخذوا عمارا، فأرادوه على الشرك، فأعطاهم، فانتهى إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يبكي، فجعل يمسح الدموع عن عينيه ويقول: " أخذك المشركون فغطوك في الماء، وأمروك أن تشرك بالله، ففعلت، فإن أخذوك مرة أخرى، فافعل ذلك بهم ".
انظر: " الطبقات " (3/ 249) و" جامع البيان " للطبري (8 / ج 14/ 181 - 182).
وقال عمر رضي الله عنه: ليس الرجل أمينا على نفسه إذا أوجعته أو ضربته أو أوثقته، وهذا يقتضي وجود فعل يكون به إكراها.
فأما الوعيد بمفرده، فعن أحمد فيه روايتان:
إحداهما: ليس بإكراه لأن الذي ورد الشرع بالرخصة معه، هو ما ورد في حديث عمار، وفيه أنهم " أخذوك فغطوك في الماء " فلا يثبت الحكم إلا فيما كان مثله.
الثانية: أن الوعيد بمفرده إكراه. قال في روايه ابن مصور: حد الإكراه إذا خاف القتل، أو ضربا شديدا. وهذا قول أكثر الفقهاء. وبه يقول أبو حنيفة والشافعي.
شروط الإكراه:
أحدها: أن يكون من قادر بسلطان أو تغلب، كاللص ونحوه. وحكي عن الشعبي: إن أكرهه اللص، لم يقع طلاقه، وإن أكرهه السلطان وقع. قال ابن عيينة: لأن اللص يقتله.
قال ابن قدامة: وعموم ما ذكرناه في دليل الإكراه يتناول الجميع , والذين أكرهوا عمارا لم يكونوا لصوصا، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمار: " إن عادوا فعد " ولأنه إكراه، فمنع وقوع الطلاق، كإكراه اللص.
الثاني: أن يغلب على ظنه نزول الوعيد به، إن لم يجبه إلى ما طلبه.
الثالث: أن يكون مما يستضر به ضررا كثيرا، كالقتل، والضرب الشديد والقيد، والحبس الطويل. فأما الشتم، والسب فليس بإكراه، رواية واحدة. وكذلك أخذ المال اليسير، فأما الضرب اليسير، فإن كان في حق من لا يبالي به فليس بإكراه، وإن كان في بعض ذوي المروءات على وجه يكون إخراقا بصاحبه، وغضا له، وشهرة في حقه فهو كالضرب الكثير في حق غيره.
وإن توعد بتعذيب ولده، فقد قيل: ليس بإكراه لأن الضرر لاحق بغيره، والأولى أن يكون إكراها لأن ذلك عنده أعظم من أخذ ماله , والوعيد بذلك إكراه. "
المغني " (10/ 352 - 353)، " المجموع " (18/ 209 - 210).(7/3434)
وأما الاحتجاج بقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (1) وبقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " وما استكرهوا عليه " (2) كما وقع في البحر (3) وغيره، فمما لا ينبغي التعويل عليه في المقام (4)، لمناقشات ليس هذا محل بسطها. وقد ذهب إلى عدم الوقوع لطلاق المكره جماعة من الصحابة، منهم: علي - عليه السلام - وعمر، وابن عباس وابن عمر، وابن الزبير - رضي الله عنهم - وجماعة ممن بعدهم، منهم: الحسن البصري، وعطاء، ومجاهد وطاووي، والأوزاعي، والحسن بن صالح. ومن الفقهاء: مالك، والشافعي. ومن أهل البيت القاسمية، والناصر، والمؤيد بالله، وغيرهم (5). وقد احتج القائلون بأنه يقع بحجج، منها قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ثلاث هزلهن جد (6) ..... " الحديث. وهو خارج عن محل النزاع , ومنها قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " كل طلاق واقع إلا طلاق المعتوه، والصبي " (7) ويجاب
_________
(1) [البقرة: 256].
(2) تقدم تخريجه مرارا وهو حديث صحيح.
(3) (3/ 165 - 166).
(4) تقدم تعليق الشوكاني على ذلك في " السيل الجرار " (2/ 362).
(5) عزاه إليهم ابن قدامة في " المغني " (10/ 350) والنووي في " المجموع " (18/ 209).
والعيني في " البناية في شرح الهداية " (5/ 25 - 26).
وانظر: تفصيل ذلك في " الفتح " (9/ 388 - 391).
(6) أخرجه أبو داود رقم (2194) والترمذي رقم (1184) وابن ماجه رق (2039) والحاكم في " المستدرك " (2/ 197 - 198).
وقال: حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي بقوله: عبد الرحمن بن حبيب بن أردك: فيه لين. وهو حديث حسن. انظر " الإرواء " رقم (1826).
(7) أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (1191) وقال: هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عطاء بن عجلان وعطاء بن عجلان ضعيف، ذاهب الحديث، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرهم، أن طلاق المعتوه المغلوب على عقله لا يجوز، إلا أن يكون معتوها يفيق بعض الأحيان، فيطلق في حال إفاقته.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله ".
وقال ابن حجر في " الفتح " (9/ 393): وفيه عطاء بن عجلان، ضعيف جدا.
وأخرجه بلفظ المصنف ابن أبي شيبة في " المصنف " (5/ 31) و (5/ 48).(7/3435)
عنه بأن عمومه مخصص بحديث: " لا طلاق في إغلاق " (1) ومنها قصة المرأة التي أخذت المدية، ووضعتها في نحر زوجها، وقالت: إن لم تطلقني نحرتك، فسأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعد إيقاعه للطلاق في تلك الحال، فقال له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا قيلولة " أخرجه العقيلي (2). ويجاب عنه أولا بأن في إسناده صفوان بن عمران (3) وقد تفرد به، وهو غير حجة إذا تفرد، وثانيا بأن الحديث على فرض صحته لا يقوى على معارضة حديث: " لا طلاق في إغلاق " (4) فيجمع بينهما بحمله على من نوى الطلاق عند الإكراه.
وثالثا بأنه معارض بما أخرجه سعيد بن منصور (5)، وأبو عبيد القاسم بن سلام (6) أن
_________
(1) تقدم تخريجه آنفا، وهو حديث حسن.
(2) في " الضعفاء " (2/ 211، 212).
(3) ذكره ابن أبي حاتم في " العلل " (1/ 436 رقم 1312) عن أبي زرعة وأنه واه جدا.
انظر: " تلخيص الحبير " (3/ 436).
(4) تقدم تخريجه آنفا، وهو حديث حسن.
(5) في سننه (1/ 274، 275).
(6) في غريب الحديث
(3/ 322). قال ابن قدامة في " المغني " (1/ 352): بعد أن تكلم عن حد الإكراه: لأن الإكراه لا يكون إلا بالوعيد، فإن الماضي من العقوبة لا يندفع بفعل ما أكره عليه، ولا يخشى من وقوعه، إنما أبيح له فعل المكره عليه دفعا لما يتوعده به من العقوبة فيما بعد، وهو في الموضعين واحد، ولأنه متى توعده بالقتل، وعلم أنه يقتله فلم يبح له الفعل، أفضى إلى قتله وإلقائه بيده إلى التهلكة، ولا يفيد ثبوت الرخصة بالإكراه شيئا، لأنه إذا طلق في هذه الحال، وقع طلاقه، فيصل المكره إلى مراده، ويقع الضر بالمكره، وثبوت الإكراه في حق من نيل بشيء من العذاب لا ينفي ثبوته في حق غيره، وبعد ذلك ذكر حديث عمر المتقدم.(7/3436)
رجلا على عهد عمر بن الخطاب تدلى ليشتار عسلا، فأقبلت امرأته فجلست على الحبل، فقالت: ليطلقها ثلاثا، وإلا قطعت الحبل، فذكرها الله والإسلام فأبت، فطلقها ثلاثا، ثم خرج إلى عمر، فذكر ذلك له فقال: ارجع إلى أهلك فليس هذا بطلاق، ولم ينقل أنه خالفه أحد من الصحابة، فكان قوله ذلك منزلا منزلة الإجماع، وليس هذا من معارضة المرفوع بالموقوف، بل من معارضة الحديث الضعيف بما يدل على الإجماع، ولو كان عند الصحابة سنة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ما خالفوها، ولا سكتوا عن ذلك.
وقد أخرج البخاري (1) عن علي - عليه السلام - وابن عباس أنهما قالا: ليس على مكره طلاق. وكذا أخرج عنهما ابن أبي شيبة. ولكنه لا ينبغي قبول كل من قال: إنه مكره؛ فإن من الناس من إذا بانت منه زوجته جاء بالمعاذير الباطلة، وتطلب التحيلات الفاسدة. ومعظم مقصوده رجوعها إليه، على أي وجه كان، وإن ارتطم في الحرام، ثم ارتطم، فينبغي أن يبحث عن صحة دعواه، ولا يعمل بمجرد ما يظهر من فحواه، والمقام محتمل لبسط طويل، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية.
_________
(1) في صحيحه (9/ 388 الباب رقم 11) تعليقا: باب الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران والمجنون، وأمرهما والغلط والنسيان في الطلاق والشرك، وغيره، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى ". تقدم تخريجه.
قال ابن حجر في " الفتح " (9/ 389): " اشتملت هذه الترجمة على أحكام يجمعها أن الحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر، وشمل ذلك الاستدلال بالحديث لأن غير العاقل المختار لا نية له فيما يقول أو يفعل، وكذلك الغالط والناسي والذي يكره على الشيء .... ".(7/3437)
حرر من تحرير المجيب والمؤلف لهذه النسخة القاضي البدر عز الدين محمد بن علي الشوكاني، حفظه الله ومتع بحياته، وكلأه بعين عنايته. وكان التحرير والإجابة في سنة 1207 هـ.(7/3438)
بحث فيمن قال امرأته طالق ليقضين غريمه إن شاء الله، ولم يقضه
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(7/3439)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " بحث فيمن قال: امرأته طالق ليقضين غريمه إن شاء الله ولم يقضه ".
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: ورد إلي سؤال في شهر شوال سنة 1207 هـ حاصله: ما الراجح عنكم فيمن قال امرأته طالق ....
4 - آخر الرسالة: فهو فاسد الاعتبار لأن المنهي عنه لا يعتقد. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية.
وإن كان المقام بسط طويل.
كتبه: محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 4 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الناسخ: المؤلف محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(7/3441)
[بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد له وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الراشدين، وبعد، فإنه:] (1).
ورد إلي سؤال في شهر شوال سنة (1207 هـ) حاصله:
" ما الراجح عندكم فيمن قال امرأته طالق ليقضين غريمه غدا - إن شاء الله - وحلف بالله ليقضينه غدا - إن شاء الله - ولم [يقضه] (2).
فهل يقع الطلاق، ويحنث في يمينه، أم يكون التعليق بالمشيئة مقتضيا لمنع الكلام عن النفوذ، أم يكون التعليق بالمشيئة مرادا به مشيئة القسر والإلجاء، فمتى لم يقع لم يحنث، أم المراد بالتعليق بالمشيئة التسهيل من الله للأسباب ودفع العوائق، أم التعليق بذلك جار مجرى التعليق بسائر الشروط؟ فإن كان الأمر الذي تعلق به مما يعلم أن الله يريده ويشاؤه لزمه حكم الطلاق والحنث، وإلا فلا، فما هو الحق؟ وما الدليل على كل قول من هذه الأقوال؟ اهـ.
_________
(1) زيادة من المخطوط (ب).
(2) في (ب): (يقض).(7/3447)
فأجبت بما لفظه:
اعلم أن كلام أهل المذهب في كتبهم (1) الفروعية بأن الطلاق واليمين يتقيدان بالمشيئة الإلهية، ويعتبر ما يظهر للبشر من إرادته تعالى في مجلس الطلاق أو اليمين على حسب التفاصيل المذكورة في كتب الفقه.
وفي مسألة التعليق بالمشيئة كلام طويل الذيول، وخلاف منتشر قد أشار السائل إلى طرف منه، فلنقتصر على بيان حجج ما ذكره السائل من الأقوال، فنقول:
أما من قال: إن التعليق بالمشيئة يقتضي منع الكلام عن النفوذ فلا يقع طلاق ولا عتاق، فدليله عدم إمكان الوقوف على المشيئة الإلهية على التحقيق، فيتعين البقاء على الأصل حتى تظهر حقيقة الأمر، وهي لا تظهر إلا بإخبار الله لنا عن ذلك، وإخباره لنا لا يكون إلا على لسان نبي أو ملك، وذلك ممتنع بعد انسداد باب النبوة، ويدل أيضًا على عدم لزوم اليمين المعلقة بمشيئة الله على الخصوص ما أخرجه الأربعة (2)، وابن حبان (3) وصححه، من حديث ابن عمر قال: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، فقد استثنى " (4) وفي رواية (5): " من حلف على يمين فاستثنى، فإن، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك غير حنث ".
ولفظ الترمذي (6): " من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه ".
وأخرج ..........................................................................
_________
(1) انظر " البحر الزخار " (3/ 199) و" الأزهار " (2/ 373 مع " السيل الجرار ").
(2) أخرجه الترمذي رقم (1542) وابن ماجه رقم (2104) والنسائي رقم (3855).
(3) في صحيحه (10/ 183 رقم 4341).
(4) عند النسائي في السنن (7/ 30).
(5) من حديث أبي هريرة انظر التعليقة السابقة.
(6) في السنن (1532).(7/3448)
الترمذي (1) والنسائي (2) من حديث أبي هريرة مرفوعا: " من حلف، فقال: إن شاء الله، لم يحنث ".
وأخرج أبو داود (3) من حديث ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " والله لأغزون قريشا، ثم سكت ن ثم قال: إن شاء الله، ثم لم يغزهم ".
فهذه الأحاديث تدل على أن اليمين المعلقة بمشيئة الله تعالى لا ينعقد، وإليه ذهب الجمهور (4)، وادعى القاضي أبو بكر ابن العربي (5) الإجماع على ذلك، فقال: أجمع المسلمون على أن قوله: إن شاء الله، يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلا ".
وأما الاستثناء في الطلاق فذهب الجمهور (6) إلى أنه مانع منه، ومثله العتق والظهار، والنذر، والإقرار، ونحو ذلك.
وقال مالك (7) والأوزاعي: لا ينفع الاستثناء إلا في الحلف بالله دون غيره، واستقواه ابن العربي.
وذهب .................................................................
_________
(1) في " السنن " رقم (1532).
(2) في " السنن " (7/ 30).
(3) في " السنن " رقم (3286) وهو حديث ضعيف.
وقال أبو داود: أنه قد أسنده غير واحد عن ابن عباس وقد رواه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 48) موصولا ومرسلا.
ويؤيد هذه الأحاديث ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3424 و6639) ومسلم رقم (23/ 1654) من حديث " أن سليمان بن داود قال: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة " الحديث، وفيه: فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو قال: إن شاء الله، لم يحنث.
(4) انظر: " المغني " (10/ 473) و" المجموع للنووي " (18/ 293).
(5) انظر " تحفة الأحوذي " (7/ 13).
(6) انظر: " المغني " (10/ 472).
(7) ذكره النووي في " المجموع " (18/ 293).(7/3449)
أحمد (1): إلى أنه لا يمنع العتق، ويمنع غيره من الطلاق ونحوه، واحتج بما ورد في
_________
(1) قال أحمد في رواية جماعة: فإن قال: أنت طالق إن شاء الله تعالى، طلقت زوجته، وكذلك العتاق. وهو قول طاوس، والحكم وأبي حنيفة، والشافعي؛ لأنه علقه على مشيئة لم يعلم وجودها، فلم يقع، كما لو علقه على مشيئة زيد.
وقد قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، لم يحنث " رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وذكره ابن قدامة في " المغني " (10/ 472).
قال الشافعي: " لو قال: إن شاء الله، لم يقع، والاستثناء في الطلاق والعتق والنذور كما هو في الأيمان ".
" مختصر المزني " (ص 194)، " الحاوي الكبير " (13/ 132).
قال الماوردي: إذا علق طلاقه أو عتقه أو يمينه أو نذره أو إقراره بمشيئة الله تعالى، لم يلزمه شيء من ذلك، وكذلك جميع عقوده، وارتفع حكم الطلاق والعتق والأيمان والنذور والإقرار والعقود.
" الحاوي الكبير " (13/ 123).
وقال مالك: تقع بمشيئة الله حكم الأيمان بالله تعالى ولا يرتفع ما سوى الأيمان بالله من الطلاق والعتق والنذور والإقرار، وبه قال الزهري والليث بن سعد. "
المجموع " للنووي (18/ 293)، " الحاوي الكبير " (13/ 123).
قال الماوردي: في " الحاوي الكبير " (13/ 123): " .... فمشيئة الله ترفع حكم كل قول اتصل بها من طلاق وغيره، سواء تقدمت المشيئة أو تأخرت أو توسطت. فلو قال: أنت طالق إن شاء الله، أو: أنت إن شاء الله طالق، أو: إن شاء الله أنت طالق، فلا طلاق ".
قال ابن قدامة في " المغني " (10/ 472 - 473): ولنا ما روى أبو جمرة قال: سمعت ابن عباس يقول: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله. فهي طالق. رواه أبو حفص بإسناده، وعن أبي بردة نحوه، وروى ابن عمر وأبو سعيد ن قالا: كنا معاشر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نرى الاستثناء جائزا في كل شيء إلا في العتاق والطلاق، ذكره أبو الخطاب. وهذا نقل للإجماع، وإن قدر أنه قول بعضهم فانتشر ولم يعلم له مخالف، فهو إجماع، ولأنه استثناء يرفع جملة الطلاق، فلم يصح، كقوله: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا، ولأنه استثناء حكم في محل، فلم يرتفع بالمشيئة كالبيع والنكاح، ولأنه إزالة ملك، فلم يصح تعليقه على مشيئة الله كما لو قال: أبرأتك إن شاء الله، أو تعليق على ما لا سبيل إلى علمه، فأشبه تعليقه على المستحيلات، والحديث لا حجة لهم فيه، فإن الطلاق والعتاق إنشاء، وليس بيمين حقيقة، وإن سمي بذلك فمجاز، لا تترك الحقيقة من أجله، ثم إن الطلاق إنما سمي يمينا إذا كان معلقا على شرط يمكن تركه وفعله، ومجرد قوله: أنت طالق. ليس بيمين حقيقة، ولا مجازا، فلم يمكن الاستثناء بعد يمين.
وقولهم علقه على مشيئة لا تعلم. قلنا: قد علمت مشيئة الله الطلاق بمباشرة الآدمي سببه. قال قتادة: قد شاء الله حين أذن أن يطلق , ولو سلمنا أنها لم تعلم، لكن قد علقه على شرط يستحيل علمه، فيكون كتعليقه على المستحيلات، يلغو، ويقع الطلاق في الحال.(7/3450)
حديث مرفوع، من حديث ابن عباس عند البيهقي (1): " إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، لم تطلق. وإن قال لعبده: أنت حر إن شاء الله، فإنه حر ".
قال البيهقي (2): تفرد به حميد بن مالك، وهو مجهول، واختلف عليه في إسناده، قال في " التلخيص " (3): وفي إسناده إسحاق ابن أبي يحيى الكعبي.
وقال الحسن (4)، وقتادة، وابن أبي ليلى: إن الاستثناء يمنع الجميع إلا الطلاق. قالوا: لأن الطلاق لا تحله الكفارة، وهي أغلظ على الحالف من النطق بالاستثناء، وقد عرفت ما ذهب إليه أهل المذهب في أول البحث.
وذهب المؤيد (5) بالله إلى أنه إذا قال: أنت طالق إن شاء الله، إن الطلاق يقع بكل
_________
(1) في " السنن الكبرى " (7/ 360).
(2) في " السنن الكبرى " (7/ 361).
(3) (3/ 40).
(4) ذكره الماوردي في " الحاوي الكبير " (13/ 124) وابن قدامة في " المغني " (10/ 472).
قال الماوردي في " الحاوي الكبير " (13/ 133): وأما الجواب عن استدلالهم، بأن الاستثناء بمشيئة الله كالكفارة في رفع اليمين بهما، فهو: أن الاستثناء رافع لليمين، والكفارة غير رافعة، لأن الاستثناء يمنع من انعقاد اليمين، والكفارة لا تجب إلا بالحنث بعد انعقاد اليمين، فافترقا.
وانظر " الفتح " (11/ 604).
(5) انظر " ضوء النهار " (3/ 917).(7/3451)
حال؛ لأن معناه إن بقاني الله وقتا أتمكن فيه من الطلاق.
ثم اعلم أن الطلاق المسؤول عنه خارج مخرج اليمين، بدليل اللام في قوله: ليقضينه. وقد اختلف فيه أهل العلم على فرض عدم تعليقه بمشيئة الله تعالى، فذهب جماعة من أهل العلم، منهم الظاهرية، وبعض المالكية في بعض الصور، وبعض الشافعية في بعضها أيضًا إلى أنه لا يلزم الطلاق. وإلى ذلك ذهبت الإمامية.
وقد روى عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي اليمني المعروف بابن بريدة في شرحه لأحكام عبد الحق عن علي (1) - عليه السلام - وشريح، وطاووس، أنه لا يلزم من حلف بالطلاق والعتاق والمشي وغير ذلك شيء، ولا يقضى بالطلاق على من حلف به فحنث، ولا يعرف لعلي - عليه السلام - مخالف في الصحابة ". انتهى.
وحكى ابن القيم في أعلام الموقعين (2) " عن عليه - عليه السلام - أنه أفتى الحالف بالطلاق أنه لا شيء عليه؛ قال: ولا يعلم له من الصحابة مخالف ". انتهى.
وروى عبد الرزاق (3) عن طاوس أنه قال: ليس الحلف بالطلاق شيئا.
وصح عن عكرمة (4) من رواية سنيد في تفسيره أنه من خطوات الشيطان، لا يلزم به شيء.
وصح عن ابن مسعود (5) وشريح أنه لا يلزم بها الطلاق، كما قال ابن القيم.
_________
(1) انظر " أعلام الموقعين " (3/ 58)، " فتح الباري " (11/ 603).
(2) (3/ 58 - 59).
(3) ذكره ابن القيم في " أعلام الموقعين " (3/ 60).
(4) انظر: أعلام الموقعين " (3/ 60).
وعزاه إليه الحافظ في " الفتح " (11/ 603).
(5) ذكره ابن القيم في " أعلام الموقعين " (3/ 60).
وانظر: " فتح الباري " (11/ 603).(7/3452)
في أعلام الموقعين (1) ما لفظه: " فصل:: ومن هذا الباب اليمين بالطلاق والعتاق، فإن إلزام الحالف بهما إذا حنث بطلاق زوجته وعتق عبده مما حدث الإفتاء به بعد انقراض عصر الصحابة، فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق أبدا ". انتهى.
إذا تقرر لك هذا علمت أن أرجح المذاهب وأولاها عدم وقوع الطلاق الخارج مخرج اليمين على فرض تجرده عن التعليق بالمشيئة من الله، وأما مع التعليق بها فعدم الوقوع أولى لما سلف، وكذلك يظهر لك عدم لزوم حكم اليمين المعلقة بمشيئة الله تعالى للأدلة المتقدمة، فهذه حجج القول الأول، أعني قول من قال: إن التعليق بالمشيئة يمنع الكلام من النفوذ (2).
وأما من قال: إن المشيئة المعلق بها هي مشيئة القسر والإلجاء، فإذا لم يقع ما حلف به لم يحنث، فاحتج بأن الله تعالى لو كان يشاء وقوع الطلاق أو اليمين لما منع عن وقوع
_________
(1) (3/ 59).
(2) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (2/ 373 - 374): قد جاءت لسنة الصحيحة بأن التقيد بالمشيئة يوجب عدم وقوع ما علق بها، كمن حلف ليفعلن كذا إن شاء الله، فإنه لا يلزمه حكم اليمين في هذا أو غيره، فالمعلق للطلاق بالمشيئة: إن أراد هذا المعنى لم يقع من الطلاق، وإن أراد الطلاق إن كان الله سبحانه يشاؤه في تلك الحال، فإن كان ممسكا بها بالمعروف وهي مطيعة له فالله سبحانه لا يشاء طلاقها.
وإن كان غير ممسك بالمعروف فقد أراد الله سبحانه منه في تلك الحالة أن يسرحها بإحسان كما قال في كتابه العزيز، فمراده هو ما في كتابه من التخيير بين الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان.
وإن أراد ما يريده غالب الناس من لفظ التقييد بالمشيئة، فإنهم يريدون تأكيد وقوع ما قيدوه بها في الإثبات وتأكيد عدم وقوع ما قيدوه بها في النفي - وقع الطلاق المقيد بالمشيئة لأنه قد أراد به الفرقة بعبارة مؤكدة.
وقال الحافظ في " الفتح " (11/ 603): واتفقوا على ن من قال: لا أفعل كذا إن شاء الله، إذا قصد التبرك فقط ففعل، يحنث، وإن قصد الاستثناء فلا حنث عليه.(7/3453)
مشيئته مانع، فيلجأ المكلف إلى فعل سبب الطلاق والعتاق، فمهما لم يفعل الحالف السبب يعرف أن الله لا يشاء الوقوع، ولكن التخصيص بمشيئة القسر والإلجاء غير ظاهر، ويلزم منه حمل ما أطلق من مشيئته تعالى على ذلك، وهو باطل عقلا ونقلا.
وأما من قال: إن التعليق بالمشيئة بمنزلة إرادة تسهيل الأسباب، ودفع العوائق، فحجته أن الله إذا كان مريدا للسبب يسره للعبد وسهله، وأزال الموانع، فإذا لم يحصل التسهيل والتيسير، وحالت دون السبب الموانع تبين أن الله لا يشاء ذلك الأمر المعلق بالمشيئة، وهذا يؤول إلى المذهب الذي قبله، وفيه ما فيه. نعم، إن أراد الحالف بالتقييد بالمشيئة هذا المعنى، أعني التسهيل عند التلفظ بها كان له وجه، وأما إذا أراد نفس المشيئة، واستدل بالتيسير والتعسير على الحصول وعدمه، فبعيد جدا.
وأما قول من قال: إنه يعتبر في المشيئة وعدمها العلم بأن الله يريد ذلك أو لا يريده، فقال: يعرف ذلك بأدلة أخرى، مثلا إذا كان طلاق زوجته (1) محظورا أو مكروها، فالله - جل جلاله - لا يريد طلاقها، وإن كان واجبا أو مندوبا فالله - جل جلاله - يريد ذلك، وكذلك اليمين على فعل أمر أو تركه، إن كان الله مثلا مريدا لحصول ذلك الأمر، كأن يكون خيرا، وقعت اليمين على الفعل، ولم تقع على الترك، وإن كان شرا لم تقع
_________
(1) قال الحافظ في " الفتح " (9/ 346): الطلاق في اللغة حل الوثاق، مشتق من الإطلاق، وهو الإرسال والترك، وفلان طلق اليد بالخير، أي كثير البذل. وفي الشرع: حل عقدة التزويج فقط، وهو موافق لبعض أفراد مدلوله اللغوي. قال إمام الحرمين: هو لفظ جاهلي ورد الشرع بتقريره.
ثم الطلاق قد يكون حراما أو مكروها أو واجبا أو مندوبا أو جائزا.
أما الأول: ففيما إذا كان بدعيا، وله صور.
وأما الثاني: ففيما إذا وقع بغير سبب مع استقامة الحال.
وأما الثالث: ففي صور، منها: الشقاق، إذا رأى ذلك الحكمان.
وأما الرابع: ففيما إذا كانت غير عفيفة.
وأما الخامس: فنفاه النووي، وصوره غيره إذا كان لا يريدها ولا تطيب نفسه أن يتحمل مؤنتها من غير حصول غرض الاستمتاع.(7/3454)
على الفعل، وتقع على الترك. فهذا وإن كان أقوى من المذهبين اللذين قبله لكنه مرجوح باعتبار المذهب الذي سردنا أدلته لما قدمنا من الأحاديث المصرحة بأن اليمين إذا علقت بالمشيئة لم يكن لها حكم من الأصل؛ وهي أخص مطلقا من الأدلة القاضية بلزوم حكم الأيمان، فيبنى العام على الخاص. وأيضا نرد على هذا المذهب الأخير، أنا لو سلمنا إمكان الاستدلال على مشيئة الله تعالى فيما كان فعله راجحا كالواجب والمندوب، وما كان فعله مرجوحا كالمحظور والمكروه، لم يمكن معرفة المشيئة في المستوي، كالمباح، وكذلك الملتبس لأمر من الأمور، كتعارض الأدلة ونحوها، لا يقال: قد وقع الطلاق المشروط فيلزم وقوع الطلاق الخارج مخرج اليمين، لأنا نقول:
أولاً: في وقوع الطلاق (1) المشروط نزاع طويل بين الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء.
وثانيًا: إنه إنما وقع المشروط عند من قال به؛ لأن الشرط قيد للجزاء، والطلاق الخارج مخرج اليمين ليس كذلك، فإنه ليس قيدا لحكم جوابه، بل هو مؤكد له، فلو وقع لوقع قبل الجواب، لأنه مطلق لا مقيد، وكذا جوابه ليس قيدا له، بدليل وجوب الكفارة عند انتفاء جوابه.
وثالثًا: إن قياس الطلاق الخارج مخرج اليمين على الطلاق المشروط (2) بعد تسليم
_________
(1) انظر الرسالة رقم (105) من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني هذا.
(2) قال الماوردي في " الحاوي الكبير " (13/ 133): وأما الجواب عن قياسهم على تعليق طلاقها بصعود السماء، فهو: أن أصحابنا قد اختلفوا في وقوعه على وجهين:
أحدهما: لا يقع، لأنه مقيد بشرط لم يوجد، فأشبه غيره من الشروط التي توجد، ألا تراه لو قال: أنت طالق إن شاء زيد، وزيد ميت، لم تطلق، وإن كان مقيدا بشرط لم يوجد، فعلى هذا يبطل الاستدلال به.
الوجه الثاني: أن الطلاق يقع والشرط يلغى لاستحالته، وأنه في الكلام لغو وليست مشيئة الله مستحيل، ولا الكلام بها لغو، بل قد أمر الله تعالى بها وندب إليها، بقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24].(7/3455)
صحة القياس قياس في مقابلة النهي الصحيح عن الحلف بغير الله (1)، فهو فاسد الاعتبار؛ لأن المنهي عنه لا ينعقد. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، وإن كان المقام مقام بسط طويل.
كتبه: محمد علي الشوكاني، غفر الله لهما.
_________
(1) منها: ما أخرجه البخاري رقم (6108) ومسلم رقم (3/ 1646) من حديث ابن عمر " أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع عمر وهو يحلف بأبيه فقال: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت ".
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (4/ 1646): " ومن كان حالفا فلا يحلف إلا بالله ".
وأخرج أبو داود رقم (3251) والترمذي رقم (1535) وقال: حديث حسن من حديث سعد بن عبيدة عن ابن عمر " من حلف بغير الله فقد كفر ".
وانظر: " المغني " (10/ 473)، " الحاوي " (13/ 134).(7/3456)
بحث في الطلاق الثلاث مجتمعة هل يقع أم لا؟
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد بن صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(7/3457)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " بحث في الطلاق الثلاث مجتمعة هل يقع أم لا؟ ".
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن وقوع الثلاث التطليقات بكلمة واحدة أو كلمات من دون تخلل.
4 - آخر ما وجد من الرسالة: " قلنا حديث في غاية السقوط لأن يحيى بن العلاء ضعيف من المرتبة الرابعة ".
5 - نوع الخط: خط رقعة جيد.
6 - عدد الصفحات: صفحتان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 21 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.
9 - حصلنا على هذا الجزء من الرسالة من الهند بواسطة الأخ الفاضل عادل حسن أمين جزاه الله خيرا.
10 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(7/3459)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن وقوع الثلاث التطليقات بكلمة واحدة أو كلمات من دون تخلل. وقد اختلف أهل العلم فيها على أربعة أقوال:
الأول: وقوع جميعها، وهو مذهب الأئمة (1) وجمهور العلماء، وكثير من الصحابة وفريق من أهل البيت.
الثاني: عدم الوقوع مطلقا، لا واحدة , ولا ما فوقها؛ لأنه بدعة محرمة، وهذا المذهب حكاه ابن حزم (2)، وحكى الإمام أحمد (3) ما يكفي، وقال ك هو مذهب الرافضة.
قلت: بل هو مذهب جماعة من التابعين (4) كما حكاه الليث، ومذهب ابن علية، وهشام بن الحكم، وجميع الإمامية. ومن أهل البيت - عليهم السلام - الباقر، والصادق، والناصر. وبه قال أبو عبيدة (5)، وبعض الظاهرية؛ لأن هؤلاء قالوا: إن الطلاق البدعي لا يقع والثلاث بلفظ واحد أو ألفاظ متتابعة لا يقع.
الثالث: وقوع الثلاث إن كانت المطلقة مدخولة، وواحدة إن لم يكن كذلك، وهذا مذهب جماعة من أصحاب ابن عباس، وإسحاق بن راهوية (6).
_________
(1) ذكره ابن قدامة في " المغني " (10/ 334).
(2) في " المحلى " (10/ 167).
(3) انظر " المغني " (10/ 334 - 335).
(4) انظر " مجموع الفتاوى " (33/ 8 - 9).
(5) انظر " فتح الباري " (9/ 362 - 363).
(6) عزاه إليه ابن حجر في " الفتح " (9/ 363).(7/3463)
الرابع: أنه يقع واحدة رجعية من غير فرق المدخول بها وغيرها، وهذا مذهب ابن عباس على الأصح (1)، وابن إسحاق (2)، وعطاء (3) وعكرمة، وأكثر أهل البيت عليهم السلام، وهو أصح هذه الأقوال. ولنشرع الآن في سرد أدلته، ونشير إلى أدلة الأقوال المتقدمة في أثناء المقاولة، إشارة تلم بجميعها ميلا إلى الاختصار.
فنقول: من أدلة ذلك قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (4) أي الطلاق الذي لكم فيه رجعة بشهادة السبب، وهو ما أخرجه الترمذي (5) وابن مردويه (6)، والحاكم (7) وصححه، والبيهقي في سننه (8)، من طريق هشام عن عروة عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها، وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرة أو أكثر، حتى قال رجل: والله لأطلقنك فتلبثي، ولأوذينك، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة، فأخبرتها، فسكتت، حتى جاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته فسكت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى نزل القرآن: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (9) قالت عائشة - رضي الله عنها -: فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا، من كان طلق ومن لم يطلق.
_________
(1) عزاه إليه ابن حجر في " الفتح " (9/ 363).
(2) عزاه إليه ابن حجر في " الفتح " (9/ 363).
(3) عزاه إليه ابن حجر في " الفتح " (9/ 363).
(4) [البقرة: 229].
(5) في " السنن " رقم (1192) عن يعلى بن شبيب عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة.
ورواه الترمذي عن أبي كريب عن ابي إدريس عن هشام عن أبيه مرسلا، وقال: هذا أصح من حديث يعلى بن شبيب.
(6) عزاه إليه ابن كثير في تفسيره (1/ 611).
(7) في " المستدرك " (2/ 279) وقال: صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بأن يعقوب بن حميد ضعفه غير واحد.
(8) في السنن الكبرى (7/ 338).
(9) [البقرة: 229].(7/3464)
وخرجه (1) جماعات (2)، ولا يدل على المقصود منه. والظاهر أن الألف واللام في الطلاق للاستغراق (3)، فلا طلاق في غير ذلك. وأيضا قد تقرر عند المحققين من علماء البيان أن تحلية المسند إليه باللام مفيدة للحصر (4). وأيضا فلو كان يصح إرساله دفعة واحدة لناقض الخبر بكونه مرتين.
وفيها حديث ابن عباس: " الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - واحدة، فقال عمر بن الخطاب: " إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم " فأمضاه عليهم ". أخرجه مسلم (5).
وفي صحيحه (6) أيضًا عن طاووس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هاب من هناتك، ألم يكن الطلاق على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر واحدة؟ فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق، فأجازه عليهم.
وفي سنن أبي داود (7) عن طاوس أن رجلا يقال له: أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس، فقال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته قبل أن يدخل لها جعلوها واحدة على عهد رسول الله، وأبي بكر، وصدرا من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله، وأبي بكر، وصدرا من إمارة عمر، فلما رأى الناس فيها قال: أجيزوهن عليهم.
_________
(1) أخرجه مالك في " الموطأ " (2/ 588) عن هشام عن عروة عن أبيه مرسلا.
(2) كلمة غير واضحة في المخطوط.
(3) انظر " الكوكب المنير " (3/ 132 - 133)، " المسودة " (ص 105).
(4) انظر " معترك الأقران في إعجاز القرآن " (1/ 140 - 141).
(5) في صحيحه رقم (1472).
وأخرجه أبو داود رقم (2200) والنسائي (6 145) وهو حديث صحيح.
(6) أي مسلم في صحيحه رقم (17/ 1472).
(7) في " السنن " رقم (2199). وهو حديث ضعيف.(7/3465)
في مستدرك الحاكم (1) من حديث عبد لله بن المؤمل، عن ابن أبي مليكة أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: ألم تعلم أن الطلاق ثلاثا كن يرددن على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلى واحدة؟ قال: نعم. قال الحاكم (2): هذا حديث صحيح. وهذه غير طريقة طاوس عن أبي الصهباء.
وقد أخرج حديث ابن عباس هذا الشافعي (3)، وعبد الرزاق (4)، والنسائي (5) والبيهقي (6).
_________
(1) (2/ 169).
(2) في " المستدرك " (2/ 169).
(3) في مسنده (2/ 37 رقم 116 - ترتيب).
(4) في مصنفه (3/ 684).
(5) (6/ 142).
(6) في " السنن الكبرى " (7/ 367).
قال القرطبي في " المفهم " (4/ 239 - 242): حديث ابن عباس هذا يدل ظاهرا على أنه كن الطلاق ثلاثا واقعا لازما في تلك الأعصار، فيستدل به عليهم على جهة الإلزام، وإن كنا لا نرى التمسك به، لما يلي:
1) أنه ليس حديثا مرفوعًا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما ظاهره الإخبار عن أهل عصر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعصر أبي بكر باتفاقهم على ذلك وإجماعهم عليه، وليس ذلك بصحيح، فأول من خالف ذلك بفتياه ابن عباس، فروى أبو داود - رقم 2197 - من رواية مجاهد عنه قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا. قال: فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم يركب الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس، قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] وإنك لم تتق الله، فما أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك.
وفي " الموطأ "- (2/ 550) - عنه: أن رجلا قال لابن عباس: إني طلقت امرأتي مئة تطليقة، فقال له ابن عباس: طلقت منك بثلاث، وسبعة وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا، وقال أبو داود: قول ابن عباس هو: إن طلاق الثلاث يبين من الزوجة، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، مدخولا بها كانت، أو غير مدهول بها. ونحوه عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمر. وفي " الموطأ ": أن رجلا جاء إلى ابن مسعود فقال: إني طلقت امرأتي ثماني تطليقات. قال ابن مسعود: فماذا قيل لك؟ قال: قيل لي: إنها بانت منك، قال ابن مسعود: صدقوا، هو كما يقولون، فهذا يدل على وجود الخلاف فيها في عصر الصحابة، وأن المشهور عندهم، المعمول به خلاف مقتضى حديث ابن عباس، فبطل التمسك به.
2) لو سلمنا أنه حديث مرفوع للنبس صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان فيه حجة لأن ابن عباس هو راوي الحديث وقد خالفه بعمله وفتياه، وهذا يدل: على ناسخ ثبت عنده، أو مانع شرعي منعه من العمل. ولا يصح أن يظن به: أنه ترك العمل بما رواه مجانا أو غالطا، لما علم من جلالته، وورعه، وحفظه وتثبته. قال أبو عمر بن عبد البر بعد أن ذكر عن ابن عباس فتياه من طرق متعددة بلزوم الطلاق ثلاثا من كلمة واحدة: ما كان ابن عباس ليخالف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخليفتين إلى رأي نفسه، ورواية طاووس وهن وغلط، لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز، والعراق، والشام، والمشرق، والمغرب، وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس.
3) لو سلمنا كل ما تقدم لما كان فيه حجة للاضطراب والاختلاف الذي في سنده، ومتنه، وذلك أن أبا الصهباء رواه عن ابن عباس بتلك الألفاظ المختلفة، التي وقعت في كتاب مسلم: كما ذكرناها ,
وقد روى أبو داود من حديث أيوب عن غير واحد عن طاووس: أن رجلا يقال له أبا الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس ..... " الحديث تقدم.
قال القرطبي: فقد اضطرب فيه أبو الصهباء عن ابن عباس في لفظه كما ترى. وقد اضطرب فيه طاووس، فمرة رواه عن أبي الصهباء، ومرة عن ابن عباس نفسه، ومهما كثر الاختلاف والتناقض ارتفعت الثقة لا سيما عند المعارضة على ما يأتي. ثم العجب أن معمرا روى عن ابن طاووس عن أبيه: أن ابن عباس سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا، فقال له: لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا. وظاهر هذا أنه لا مخرج له من ذلك، وأنها. وهذه كرواية الجماعة الكثيرة عن ابن عباس، كسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وعمرو بن دينار، ومحمد بن إلياس بن البكير، والنعمان بن أبي عياش، كلهم روى عنه: أنه ثلاث، وأنها لا تحل له إلا من زوج.
4) لو سلمنا سلامته من الاضطراب لما صح أن يحتج به لأنه لا يلزم منه ما يدل على أن أهل ذلك العصر الكريم كان يكثر فيهم إيقاع المحرمات والتساهل فيها. وترك الإنكار على من يرتكبها، وبيان اللزوم أن ظاهره أن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقع الطلاق الثلاث كثيرا منهم في عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعصر أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، أو ثلاث، ويستفتون علماءهم فيفتونهم بأنه واحدة، ولا ينكرون عليهم.
مع أن الطلاق ثلاثا في كلمة واحدة محرم بدليل قول ابن عمر وابن عباس، عن محمود بن لبيد - قال البخاري: له صحبة - قال: أخبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان، ثم قال: " أيلعب بكتاب الله، وأنا بين أظهركم؟ " هذا يدل على أنه محرم، ومنكر. فكيف يكثر فيهم العمل بمثل هذا، ولا ينكرونه؟ هذا محال على قوم وصفهم الله تعالى بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] إلى غير ذلك مما وصفهم الله تعالى به. لا يقال: هذا يبطل بما وقع عندهم من الزنى والسرقة وغير ذلك من الأسباب التي ترتبت عليها الأحكام؛ لأنا نقول: هذه لما وقعت أنكروا تلك الأمور، وأقاموا الحدود فيها، ولم يفعلوا ذلك فيما ذكرناه، فافترقا. وصح ما أبديناه. فإن قيل: لعل تحريم ذلك لم يكن معلوما عندهم. قلنا: هذا باطل، فإنهم أعرف بالأحاديث ممن بعدهم، وقد ذكرنا ما روي في ذلك عن ابن عباس وابن عمر. والله تعالى أعلم.
5) إن ظاهر ذلك الحديث خبر عن جميعهم أو عن معظمهم، والعادة تقتضي - فيما كان هذا سبيله - أن يفشو، وينتشر ويتواتر نقله، وتحيل أن ينفرد به الواحد.
ولم ينقله عنهم إلا ابن عباس، ولا عنه إلا أبو الصهباء. وما رواه طاووس عن ابن عباس في الأصل قد رواه أبو داود عن طاووس عن أبي الصهباء عن ابن عباس ولو رواه عنه لم يخرج بروايته عنه من كونه خبر واحد غير مشهور. وهذا الوجه يقتضي القطع ببطلان هذا الخبر. فإن لم يقتض ذلك، فلا أقل من أن يفيدنا الريبة فيه والتوقف. والله تعالى أعلم.
6) تطرق التأويل إليه. ولعلمائنا فيه تأويلان:
أحدهما: ما قاله بعض البغداديين: إن معناه الإنكار على من يخرج عن سنة الطلاق بإيقاع الثلاث، والإخبار عن تساهل الناس في مخالفة السنة في الزمان المتأخر عن العصرين السابقين، فكأنه قال: كان الطلاق الموقع الآن ثلاثا في ذينك العصرين واحدة. كما يقال: كان الشجاع الآن جبانا في عصر الصحابة، وكان الكريم الآن بخيلا في ذلك الوقت، فيفيد تغير الحال بالناس.
ثانيهما: قال غير البغداديين: المراد بذلك الحديث من تكرر الطلاق منه. فقال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فإنها كانت عندهم محمولة في العزم على التأكيد. فكانت واحدة. وصار الناس بعد ذلك يحلونها على التحديد. فألزموا ذلك لما ظهر قصدهم إليه. ويشهد بصحة هذا التأويل قول عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، وقد تأوله غير علمائنا، على أن ذلك كان في المطلقة قبل الدخول: كما دل عليه حديث أبي داود، الذي تقدم ذكره، وأبدى بين المدخول بها وغيرها فرقا. فقال: إنما جعلوه في غير المدخول بها: أنت طالق، وقد أبانها وبقي قوله: ثلاثا.
لم يصادف محلا. فأجروا المتصل مجرى المنفصل. وهذا ليس بشيء، فإن قوله: أنت طالق ثلاثا. كلام واحد متصل غير منفصل. ومن المحال البين إعطاء الشيء حكم نقيضه، وإلغاء بعض الكلام الواحد. وأشبه هذه التأويلات الثاني، على ما قررناه. والله تعالى أعلم.
وانظر " فتح الباري " (9/ 362 - 367).(7/3466)
وأخرج الإمام أحمد في مسنده (1) عن سعيد بن إبراهيم قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس قال: طلق ركانة امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " طلقتها ثلاثا في مجلس واحد؟ " قال: نعم. قال: " فإنك تملك واحدة، فأرجعها إن شئت " قال: فراجعها. وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه، ولذا صححه الحاكم، وأخرجه أيضًا أبو داود (2) عن ابن عباس بلفظ: فقال: " راجع امرأتك أم ركانة وإخوته " فقال: إني طلقتها ثلاثا، فقال: " قد علمت، راجعها " وتلا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (3).
ومما يدل على ذلك أيضًا ما أخرجه النسائي (4) عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن رجل طلق امرأته ثلاثا جميعا فقال: يا رسول الله، ألا أقتله؟ فكان إنكاره دليلا على أن مثل هذا الطلاق منكور لا يجوز في شريعته.
ومنها أيضًا ما أخرجه البخاري (5) .............................
_________
(1) (1/ 265) وفي إسناده محمد بن إسحاق. قال النسائي وغيره: ليس بالقوي. وقال الدارقطني: لا يحتج به.
انظر: " الميزان " (3/ 468).
(2) في " السنن " رقم (2196) وهو حديث حسن.
(3) [الطلاق: 1].
(4) في " السنن " (6/ 142 رقم 3401) وهو حديث ضعيف.
(5) في صحيحه رقم (5273).(7/3469)
والنسائي (1) في قصة المختلعة بلفظ: " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ".
والقول بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده (2) قوي كما تقرر في الأصول، فيكون في هذا الحديث المنع من الزيادة. وقد جعل في الكشاف (3) قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (4) في الثاني الذي يراد به مطلق التكرار مثل: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (5) أي: الطلاق المعتبر شرعا متعدد لا مرسل دفعة واحدة، وهذا في حكم النص على مذهب المانع من التوالي، وألفاظ بمنزلة الواحدة.
وقد أثبت جار الله (6) ها هنا، ورفض التمذهب مع أنه حنفي الفروع. قال أهل القول الأول - أعني: القائلين بالتتابع - قال الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (7)، وقال: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (8)، وقال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (9)، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (10). ولم يفرق في هذه
_________
(1) في " السنن " (6/ 169).
قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2065) لهم من حديث ابن عباس.
(2) انظر الرسالة رقم (66). من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
وانظر: " الكوكب المنير " (3/ 51)، " المستصفى " (2/ 11)، " البرهان " للجويني (1/ 265).
(3) (1/ 443).
(4) [البقرة: 229].
(5) [الملك: 4].
(6) أي الزمخشري في " الكشاف " (1/ 443).
(7) [البقرة: 229، 230].
(8) [البقرة: 237].
(9) [البقرة: 241].
(10) [الأحزاب: 49].(7/3470)
الآيات بين أن تكون هذه الثلاث مجموعة أو مفرقة، فدلت على وقوع الثلاث دفعة واحدة.
قلنا: هذه عمومات قد خصصت بأدلة صورة النزاع السابقة، أو إطلاقات قد ثبتت بالآية النازلة على سبب مبين للمراد، وهي: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (1) وبالسنة النبوية.
قالوا في الصحيحين (2) أن عويمر العجلاني طلق امرأته ثلاثا بحضرة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يأمره بطلاقها، فدل على جواز الثلاث ووقوعها.
قلنا: إنما سكت - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأن الملاعنة تبين بنفس اللعان، وهذا تكلم بكلام من قبل نفسه لا محل له، فكأنه طلق أجنبية، ولا يجب إنكار مثل ذلك، فلا يكون السكوت عنه تقريرا (3).
قالوا: في البخاري (4) عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا طلق امرأته فتزوجت فسئل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هل تحل للأول؟ فقال: " لا حتى يذوق
_________
(1) [البقرة: 229].
(2) البخاري في صحيحه رقم (5259) ومسلم في صحيحه رقم (1492).
قال الأمير الصنعاني في " سبل السلام " (6/ 167): واستدلوا بما في الصحيحين أن عويمرا العجلاني طلق امرأته ثلاثا بحضرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم ينكر عليه، فدل على إباحة جمع الثلاث وعلى وقوعها، وأجيب بأن هذا لتقرير لا يدل على الجواز ولا على وقوع الثلاث لأن النهي إنما هو فيما يكون في طلاق رافع لنكاح كان مطلوب الدوام، والملاعن أوقع الطلاق على ظن أنه بقي له إمساكها، ولم يعلم أنه باللعان حصلت فرقة الأبد سواء كان فراقه بنفس اللعان، أو بتفريق الحاكم، فلا يدل على المطلوب.
قال الحافظ في " الفتح " (9/ 367): " وقد تعقب بأن المفارقة في الملاعنة وقعت بنفس اللعان فلم يصادف تلطيقه إياها ثلاثا موقعا، وأجيب بأن الاحتجاج به من كون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينكر عليه إيقاع الثلاث مجموعة، فلو كان ممنوعا لأنكره، ولو وقعت الفرقة بنفس اللعان.
(3) انظر التعليقة السابقة.
(4) في صحيحه رقم (5261).(7/3471)
عسيلتها كما ذاق الأول "، فلم ينكر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - تلك، وهو دليل على إباحة الثلاث ووقوعها (1).
قلنا: لا دليل فيه على مطلوبكم، بل غايته وقوع احتمال الثلاث مفرقة على الوجه المشروع الذي لا ينكره، ومجتمعة، والمحتمل لا يثبت به الحجة في محل النزاع، على أنا لو سلمنا لكم اجتماعها لم يستلزم ذلك التسليم تقرير مجموعها، بل الظاهر تقرير مطلق الوقوع.
قالوا: في الصحيحين (2) من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن أن فاطمة بنت قيس
_________
(1) قال القرطبي في " المفهم " (4/ 244 - 245): وحجة الجمهور في اللزوم من حيث النظر ظاهر جدا، وهو أن المطلقة ثلاثا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعا، وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشرع اتفاقا في النكاح والعتق والأقارير، فلو قال الولي: أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد، ك ما لو قال: أنكحتك هذه وهذه وهذه، وكذا اعتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام، واحتج من قال: إن الثلاث إذا وقعت مجموعة حملت على الواحدة بأن من قال: أحلف بالله ثلاثا لا يعد حلفه إلا يمينا واحدة، فليكن المطلق مثله، قال الحافظ في " الفتح " (9/ 365): " وتعقب باختلاف الصيغتين، فإن المطلق ينشئ طلاق امرأته وقد جعل أمد طلاقها ثلاثا، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا، فكأنه قال: أنت طالق جميع الطلاق. وأما الحلف فلا أمد لعدد أيمانه فافترقا.
وفي الجملة فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء، أعني قول جابر: إنها كانت تفعل ذلك في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، فقال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما. وقد دل إجماعهم على وجود ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق، والله أعلم.
انظر: " المغني " (10/ 330 - 334).
(2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1480) ولم يخرجه البخاري.
قال الأميري الصنعاني في " سبل السلام " (6/ 168): وأجيب عنه بأنه ليس في الحديث تصريح بأنه أوقع الثلاث في مجلس واحد فلا يدل على المطلوب.
قالوا: عدم استفصاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل كان في مجلس أو مجالس دال على أنه لا فرق في ذلك. ويجاب عنه بأنه لم يستفصل لأنه كان الواقع في ذلك العصر غالبا عدم إرسال الثلاث كما تقدم، وقولنا: غالبا، لئلا يقال قد أسلفنا أنها وقعت الثلاث في عصر النبوة، لأنا نقول: نعم، لكن نادرا.(7/3472)
أخبرته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن زوجها طلقها ثلاثا، فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ليس لها من نفقة ".
قلنا: ليس بصريح في جمعها كما سبق، على أنه قد ثبت في الصحيح (1) في خبرها نفسها من رواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن زوجها أرسل إليها تطليقة بقيت لها من طلاقها، وفي لفظ في الصحيح أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات. فهذا مبين لذلك الاحتمال، فأي مثبت في هذا الاستدلال.
قالوا: أخرج عبد الرزاق في مصنفه (2) عن يحيى بن العلاء، عن عبد الله بن الوليد، عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن داود بن عبادة بن الصامت قال: طلق جدي امرأته ألف تطليقة فانطلق أبي إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فذكر له ذلك، فقال النبي: " ما اتقى الله جدك، أما الثلاث فله، وأما تسعمائة وسبع وسبعون فعدوان وظلم، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له "، وفي رواية: " إن أباكم لم يتق فيجعل له مخرجا، بانت منه بثلاث على غير السنة، تسعمائة وسبع وتسعون إثم في عنقه ".
قلنا: حديث في غاية السقوط؛ لأن يحيى بن العلاء ضعيف من المرتبة الرابعة (3).
_________
(1) في صحيح مسلم رقم (113/ 1433).
(2) (6/ 393 رقم 11339).
قلت: وأخرجه الدارقطني في " السنن " (4/ 20).
قال ابن قدامة في " المغني " (10/ 334): ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقا، فصح مجتمعا كسائر الأملاك.
(3) انظر " تهذيب التهذيب " (11/ 229 - 230).(7/3473)
بيان اختلاف الأئمة في مقدار المدة التي يقتضي الرضاع في مثلها التحريم
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديث
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(7/3475)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " بيان اختلاف الأئمة في مقدار المدة التي يقتضي الرضاع في مثلها التحريم ".
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم " الحمد لله على جزيل نواله وأفضاله وصلاته سلامه على سيدنا محمد وآله.
اعلم أن الأئمة اختلفوا في مقدار .... ..... ".
4 - آخر الرسالة: " .. الذي يدور الحق حيث دار، انتهى الجواب المحرر في شهر صفر سنة 1201 هـ كما في الأم المنقولة من خط المجيب القاضي العلامة العظيم عز الإسلام محمد بن علي الشوكاني كثر الله فوائده.
5 - نوع الخط: خط نسخي عادي.
6 - عدد الصفحات: 4 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 31 سطرا. ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها ثمانية.
8 - عدد الكلمات في السطر:12 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(7/3477)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على جزيل نواله وأفضاله، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله.
اعلم أن الأئمة اختلفوا في مقدار المدة التي يقتضي الرضاع في مثلها التحريم على عشرة أقوال (1):
الأول: أنه لا يحرم منه إلا ما كان في الحولين، وهو مذهب جماعة من الصحابة، منهم: عمر وابن عباس وابن مسعود، والعترة، والشافعي، وأبو حنيفة، والثوري، والحسن بن صالح، ومالك، وزفر، ومحمد، هكذا في البحر (2)، وهو أيضًا مذهب أبي هريرة، وابن عمر، وأحمد، وأبي يوسف، وسعيد بن المسيب، والشعبي، وابن شبرمة، وإسحاق، وأبي عبيد، وابن المنذر (3).
القول الثاني: إن الرضاع المقتضي للتحريم ما كان قبل الفطام (4)، سواء كان قبل الحولين وفوقها. وإليه ذهبت أم سلمة. وروي عن أمير المؤمنين، ولم يصح عنه. وروي عن ابن عباس، وبه قال الحسن البصري، والزهري، والأوزاعي (5)، وعكرمة، وقتادة.
القول الثالث: أن الرضاع في حال ......................................
_________
(1) انظر: " فتح الباري " (9/ 146 - 148)، " المغني " (11/ 311).
(2) (3/ 265).
(3) ذكره عنهم ابن القيم في " زاد المعاد " (5/ 513).
(4) قال ابن القيم في " زاد المعاد " (5/ 513): وقالت طائفة: الرضاع المحرم ما كان قبل الفطام، ولم يحدوه بزمن، صح ذلك عن أم سلمة .... ".
(5) قال الأوزاعي: إن فطم وله عام واحد واستمر فطامه، ثم رضع في الحولين، لم يحرم هذا الرضاع شيئا، فإن تمادى رضاعه، ولم يفطم، فما كان في الحولين فإنه يحرم، وما كان بعدهما، فإنه لا يحرم، وإن تمادى الرضاع.
ذكره ابن القيم في " زاد المعاد " (5/ 513).(7/3481)
الصغر يقتضي التحريم (1)، ولم يحده القائل بحد، وروي ذلك عن أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ما خلا عائشة، وعن ابن عمر، وسعيد بن المسيب. ولعل لهما قولين.
القول الرابع: ثلاثون شهر (2)، وهو رواية عن أبي حنيفة، وزفر، غير الرواية الأولى.
القول الخامس: في الحولين وما قاربهما، وهو رواية عن مالك (3) غير الرواية الأولى.
وروي عنه أن الرضاع بعد الحولين لا يحرم قليله ولا كثيره، كما في الموطأ (4).
القول السادس: ثلاث سنين (5) وهو مروي عن جماعة من أهل الكوفة، وعن
_________
(1) انظر " فتح الباري " (9/ 146)، " زاد المعاد " (5/ 513)، " المغني " (11/ 312).
(2) قال الحافظ في " الفتح " (9/ 146): باب من قال: لا رضاع بعد حولين، لقوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] أشار بهذا إلى قول الحنفية أن أقصى مدة الرضاع ثلاثون شهرا، وحجتهم قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} أي المدة المذكورة لكل من الحمل والفصال، وهذا تأويل غريب، والمشهور عند الجمهور أنها تقدير مدة أقل الحمل وأكثر مدة الرضاع، وإلى ذلك صار أبو يوسف ومحمد بن الحسن، ويؤيد ذلك أن أبا حنيفة لا يقول أن أقصى الحمل سنتان ونصف.
(3) قال الحافظ في " الفتح " (9/ 146): وعند المالكية رواية توافق قول الحنفية لكن منزعهم في ذلك أنه يفتقر بعد الحولين مدة يدمن الطفل فيها على الفطام؛ لأن العادة أن الصبي لا يفطم دفعة واحدة بل على التدريج في أيام قليلات، فللأيام التي يحاول فيها فطامه حكم الحولين.
(4) (2): والذي رواه عنه أصحاب الموطأ وكان يقرأ عليه إلى أن مات، قوله فيه: وما كان من الرضاع بعد الحولين كان قليله وكثيره لا يحرم شيئا، إنما هو بمنزلة الطعام، هذا لفظه.
(5) ذكره ابن القيم في " زاد المعاد " (5/ 514)، وابن قدامة في " المغني " (11/ 319).
قال زفر: يستمر إلى ثلاث سنين إذا كان يجتزئ باللبن ولا يجتزئ بالطعام.
ذكره الحافظ في " الفتح " (9/ 146).(7/3482)
الحسن بن صالح في رواية: حولان واثنا عشر يوما (1). روي ذلك عن ربيعة.
القول السابع: سبع سنين (2)، روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز.
القول الثامن: حولان واثنا عشر يوما (3)، روي ذلك عن ربيعة.
القول التاسع: إن الرضاع يعتبر فيه الصغر إلا فيما دعت إليه الحاجة، كرضاع الكبير الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة ة، ويشق احتجابها منه. وإليه ذهب ابن تيمية (4).
القول العاشر: إن رضاع الكبير يثبت به التحريم مطلقا، وهو مذهب أمير المؤمنين كما حكاه عنه الحافظ ابن حزم (5). ولا حكم لإنكار ابن عبد البر (6) لتلك الحكاية، فمن علم حجة على من لا يعلم. وابن حزم من بحور العلم أحاط بما لم يحط به غيره من حفظ المذهب والأدلة، يعرف ذلك من مارس كتبه وبمثل قول أمير المؤمنين قالت عائشة، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، والليث بن سعد، وابن علية، وحكاه الثوري عن داود الظاهري. وإليه ذهب ابن حزم (7). فهذه عشرة مذاهب في هذه المسألة، مدونة في البسائط من كتب الخلاف، وبعضها محكي في كتب الأئمة من أهل البيت (8) - عليهم السلام - وبعضها محكي في كتب غيرهم. وإيراد الأدلة على كل واحد منها وما ورد عليه، وما أجيب به يحتاج إلى مؤلف مستقل، فليقتصر على
_________
(1) انظر: " زاد المعاد " (5/ 514).
(2) قال عمر بن عبد العزيز: مدته إلى سبع سنين، وكان يزيد بن هارون يحكيه عنه كالمتعجب من قوله. وروي عنه خلاف هذا. وحكى عنه ربيعة، أن مدته حولان واثنا عشر يوما.
(3) انظر: " زاد المعاد " (5/ 514).
(4) في " مجموع الفتاوى " (34/ 60).
(5) في " المحلى " (10/ 17 - 20).
(6) في " التمهيد " (11/ 374): قال ابن عبد البر: وروي ذلك عنه ولا يصح عنه، والصحيح عنه أن لا رضاع بعد فطام .... ".
(7) في " المحلى " (10/ 17 - 20).
(8) " البحر الزخار " (3/ 265).(7/3483)
حجج القول العاشر؛ لأن السؤال واقع عنه لا سوى، فنقول: احتج القائلون بأن رضاع الكبير يقتضي التحريم بحديث زينب بنت أبي سلمة " قالت أم سلمة لعائشة: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي، فقالت عائشة: أما لك في رسول الله أسوة حسنة؟ إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله، إن سالما يدخل علي وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أرضعيه حتى يدخل عليك " (1).
وفي رواية (2) عن زينب، عن أمها أم سلمة أنها قالت: " أبى سائر أزواج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة: ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة، ولا رائينا " وهذا الحديث هو في كتب الأئمة من أهل البيت وغيرهم من أهل الحديث، قد رواه من الصحابة أمهات المؤمنين وسهلة بنت سهيل، وهي من المهاجرات، وزينب بنت أم سلمة، وهي ربيبة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ورواه من التابعين القاسم بن محمد بن أبي بكر، وعروة بن الزبير، وحميد بن يافع. ورواه عن هؤلاء الزهري، وابن أبي مليكة، وعبد الرحمن بن القاسم، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة.
ثم رواه عن هؤلاء أيوب السختياني، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وشعبة، ومالك، وابن جريج، وشعيب، ويونس، وجعفر بن ربيعة، وسلمان بن بلال، وغيرهم. وهؤلاء هم أئمة الحديث المرجوع إليهم في أعصارهم، ثم رواه عنهم الجم
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (29/ 1453) وأحمد (6/ 38 - 39) و (6/ 201) والحميدي رقم (278) وعبد الرزاق في مصنفه رقم (13884) والنسائي (6/ 104 - 105) وابن ماجه رقم (1943) والطبراني في " الكبير " رقم (6373) و (6376) و (24 رقم 737 و738 و740) والبيهقي (7/ 499) من طرق عن القاسم به.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1454).(7/3484)
الغفير، والعدد الكثير بلغت طرقه نصاب التواتر (1)، وعارضه في الظاهر حديث ابن
_________
(1) انظر " فتح الباري " (9/ 148 - 149)، " زاد المعاد " (5/ 517).
قال المثبتون للتحريم برضاع الكبير:
1 - أن الرضاعة التي تتم بتمام الحولين، أو بتراضي الأبوين قبل الحولين إذا رأيا في ذلك صلاحا للرضيع، إنما هي الموجبة للنفقة على المرأة المرضعة، والتي يجبر عليها الأبوان أحبا أم كرها. ولقد كان في الآية كفاية من هذا لأنه تعالى قال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] فأمر الله تعالى الوالدات بإرضاع المولود عامين، وليس في هذا تحريم للرضاعة بعد ذلك. ولا أن التحريم ينقطع بتمام الحولين، وكان قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، ولم يقل في حولين، ولا في وقت زائدا على الآيات الأخر، وعمومها لا يجوز تخصيصه إلا بنص يبين أنه تخصيص له , لا بظن، ولا محتمل لا بيان فيه، وكانت هذه الآثار يعني التي فيها التحريم برضاع الكبير قد جاءت مجيء التواتر ... ".
قال الأمير الصنعاني في " سبل السلام " (6/ 265): لا يخفى أن الرضاعة إنما تصدق على من كان في سن الصغر وعلى اللغة وردت آية الحولين وحديث " إنما الرضاعة من المجاعة ".
- أخرجه البخاري رقم (5102) ومسلم رقم (32/ 1455) من حديث عائشة - والقول بأن الآية لبيان الرضاعة الموجبة للنفقة لا ينافي أيضًا أنها لبيان زمان الرضاعة، بل جعله الله تعالى زمان من أراد تمام الرضاعة وليس بعد التمام ما يدخل في ما حكم الشارع بأنه قد تم.
2 - قالوا: ونعلم يقينا أنه لو كان لك خاصا بسالم، لقطع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإلحاق ونص على أنه ليس لأحد بعده، كما بين لأبي بردة بن نيار أن جذعته تجزئ عنه، ولا تجزئ عن أحد تعده - وهو حديث صحيح متفق عليه - وأين يقع ذبح حذعة أضحية من هذا الحكم العظيم، به حل الفرج وتحريمه، وثبوت المحرمية والخلوة بالمرأة والسفر بها؟ فمعلوم فطعا أن هذا أولى ببيان التخصيص لو كان خاصا.
قال الحافظ في " الفتح " (9/ 149): ومنها دعوى الخصوصية بسالم وامرأة أبي حذيفة، والأصل فيه قول أم سلمة وأزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسالم خاصة وقرره ابن الصباغ وغيره بأن أصل قصة سالم ما كان وقع من التبني الذي أدى إلى اختلاط تسالم بسهلة فلما نزل الاحتجاب ومنعوا من التبني شق ذلك على سهلة فوقع الترخيص لها في ذلك لرفع ما حصل من المشقة. قال الحافظ: وهذا فيه نظر أنه يقتضي إلحاق من يساوي سهلة في المشقة والاحتجاج بها فتنفي الخصوصية، ويثبت مذهب المخالف، لكن يفيد الاحتجاج.
وقرره الآخرون بأن الأصل أن الرضاع لا يحرم، فلما ثبت ذلك في الصغر خولف الأصل له، وبقي ما عداه على الأصل، وقصة سالم واقعة عين يطرقها احتمال الخصوصية فيجب الوقوف عن الاحتجاج بها.(7/3485)
عباس، قال قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا رضاع إلا في الحولين " رواه الدارقطني (1)، وسعيد بن منصور (2)، والبيهقي (3)، وابن عدي (4)، وهو من طريق ابن عيينة عن عمر بن دينار، قال الدارقطني (5): لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ. قال ابن عدي (6): يعرف بالهيثم وغيره، وكان يغلط، وصحح البيهقي (7) وقفه، ورجح ابن عدي الموقوف، وقال ابن كثير في الإرشاد (8): رواه مالك في الموطأ (9) عن ثور بن يزيد، عن ابن عباس موقوفا، وهو أصح، وكذا رواه غير ثور عن ابن عباس.
ومن الأحاديث المعارضة حديث أم سلمة قالت: قال رسول الله: " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل .............
_________
(1) في " السنن " (4/ 174).
(2) في سننه رقم (974).
(3) في " السنن الكبرى " (7/ 462).
(4) في " الكامل " (7/ 2562): وقال: هذا يعرف بالهيثم بن جميل عن ابن عقيل مسندا، وغير الهيثم يوقفه على ابن عباس، والهيثم بنجميل يسكن أنطاكية، ويقال: هو البغدادي، ويغلط الكثير على الثقات، ك ما يغلط غيره، وأرجو أنه لا يتعمد الكذب ".
(5) في " السنن " (4/ 174).
(6) في " الكامل " (7/ 2562). وقد تقدم.
(7) في " السنن الكبرى " (7/ 462).
(8) (2/ 238 - 239).
(9) (2/ 166).(7/3486)
الفطام " [أخرجه] (1) الترمذي (2) والحاكم (3) وصححاه، وأعل بالانقطاع (4)؛ لأنه من رواية فاطمة بنت المنذر بن الزبير الأسدية، عن أم سلمة، ولم يسمع فيها شيئا لصغر سنها إذ ذاك.
ومن الأحاديث المعارضة حديث جابر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال " لا رضاع بعد فصال، ولا يتم بعد احتلام " رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (5)، وفيه مقال طويل.
ومن الأحاديث المعارضة في الظاهر حديث عائشة قالت: دخل علي النبي - صلى الله
_________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) في " السنن " رقم (1152) وقال: حديث حسن صحيح.
(3) لعله بن حبان في صحيحه رقم (4224) فقد قال الحافظ في " الفتح " (9/ 148) عقب الحديث: " وصححه الترمذي وابن حبان ".
(4) ذكره الشوكاني في " النيل " (6/ 316).
قلت: وله شاهد من حديث عبد الله بن الزبير. أخرجه ابن ماجه رقم (1946) بسند رجاله كلهم ثقات، رجال مسلم، غير ابن لهيعة، وهو سيئ الحفظ، إلا أن أنه في رواية العبادلة عنه فإنه صحيح الحديث. وهذا منها.
وله شاهد آخر أخرجه البزار في مسنده رقم (1444 - كشف) والبيهقي في " السنن الكبرى " (7/ 455) من حديث أبي هريرة بسند رجاله ثقات - إلا أن محمد بن إسحاق مدلس، وقد عنعن.
وخلاصة القول أن الحديث صحيح، والله أعلم.
انظر " الإرواء " رقم (2150).
(5) (ص 243 رقم 1767) من حديث جابر.
قلت: أخرجه أبو داود في " السنن " رقم (2873) عن علي بن أبي طالب، قال: حفظت عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل " وإسناده ضعيف ولكن أخرجه الطبراني في " الصغير " من وجه آخر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (2/ 158 رقم 952) بلفظ: " لا رضاع بعد فصال، ولا يتم بعد حلم ".
والخلاصة: أن حديث جابر حسن، والله أعلم.
حسنه الزرقاني في " مختصر المقاصد الحسنة " رقم (1207).(7/3487)
عليه وآله وسلم - وعندي رجل، فقال: " من هذا؟ " قلت: أخي من الرضاعة، قال: " يا عائشة انظرن من إخوانكن من الرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة ". وهو في الأمهات (1) إلا الترمذي. ووجه الاستدلال به أن الكبير لا يرجع بينهما لأجل المجاعة بعدم احتياجه اللبن. وأجاب القائلون بأن رضاع الكبير يقتضي التحريم عن هذه
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (5102) ومسلم رقم (32/ 1455) وأحمد (6/ 94) والدارمي (2/ 158) وأبو داود رقم (2058) والنسائي (6/ 102) وابن ماجه رقم (1945) والبيهقي (7/ 460) وابن الجارود في المنتقى رقم (691).
قال أبو عبيد: قوله: " إنما الرضاعة من المجاعة " يقول: إن الذي إذا جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن، إنما هو الصبي الرضيع. فأما الذي شبعه من جوعه الطعام، فإن رضاعه ليس برضاع، ومعنى الحديث: إنما الرضاع في الحولين قبل الفطام، هذا تفسير أبي عبيد والناس، وهو الذي يتبادر فهمه من الحديث إلى الأذهان، حتى لو احتمل الحديث التفسيرين على السواء، لكان هذا المعنى أولى به لمساعدة سائر الأحاديث لهذا المعنى وكشفها له، وإيضاحها، ومما يبين أن غير هذا التفسير خطأ , وأنه لا يصح أن يراد به رضاعة الكبير أن لفظة " المجاعة " إنما تدل على رضاعة الصغير، فهي تثبت رضاعة المجاعة وتنفي غيرها. ومعلوم يقينا أنه إنما أراد مجاعة اللبن لا مجاعة الخبز واللحم، فهذا لا يخطر ببال المتكلم ولا السامع، فلو جعلنا حكم الرضاعة عاما لم يبق لنا ما ينفي ويثبت.
وسياق قوله: لما رأى الرجل الكبير، فقال: " إنما الرضاعة من المجاعة " يبين المراد، وأنه إنما يحرم رضاعة من يجوع إلى لبن المرأة وكراهته لذلك الرجل، وقوله: " انظرن من إخوانكن " إنما هو للتحفظ في الرضاعة وأنها لا تحرم كل وقت، وإنما تحرم وقتا دون وقت، ولا يفهم أحد من هذا أنما الرضاعة ما كان عددها خمسا، فيعبر عن هذا بقوله: " من المجاعة " وهذا ضد البيان الذي كان عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقولكم: إن الرضاعة تطرد الجوع عن الكبير، كما تطرد الجوع عن الصغير، كلام باطل؛ فإنه لا يعهد ذو لحية قط يشبعه رضاع المرأة ويطرد عنه الجوع، بخلاف الصغير فإنه ليس له ما يقوم مقام اللبن، فهو يطرد عنه الجوع. فالكبير ليس ذا مجاعة إلى اللبن أصلا. والذي يوضح هذا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرد حقيقة المجاعة وإنما أراد مظنتها وزمنها، ولا شك أنه الصغر فإن أبيتم إلا الظاهرية، وأنه أراد حقيقتها، لزمكم أن لا يحرم رضاع الكبير إلا إذا ارتضع وهو جائع، فلو ارتضع وهو شبعان لم يؤثر شيئا.(7/3488)
الأحاديث بأجوبة، منها أن فيها المقال المتقدم، وقد أجيب عنهم في ذلك. واستيفاء الكلام في ذلك يحتاج إلى تطويل؛ لأنه راجع إلى علل حديثية وقواعد أصولية، وربما تشعب البحث إلى أطراف أخر يشغل ذهن السائل فنقول: قد تقرر في الأصول كما ذهب إليه الأقل.
وقصة سالم المذكورة مخصصة لعموم الأحاديث المعارضة لها، وبذلك يحصل الجمع بين جميع الأحاديث (1)، وهذه طريقة متوسطة لا إفراط فيها ولا تفريط.
وقد عرف من حديث سالم أن سبب الرخصة هو المشقة والحاجة كما في حديث سالم (2).
ويؤيد هذا أن سؤال سهلة امرأة أبي حذيفة (3) كان بعد نزول آية الحجاب، وهي
_________
(1) وهو أن حديث سهلة ليس بمنسوخ ولا مخصوص، ولا عام في حق كل أحد، وإنما هو رخصة للحاجة لمن لا يستغني عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها عنه كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثر رضاعه، وأما من عداه، فلا يؤثر إلا رضاع الصغير، وهذا مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والأحاديث النافية للرضاع في الكبير إما مطلقة، فتقيد بحديث سهلة، أو عامة في الأحوال فتخصيص هذا الحال من عمومها، وهذا أولى من النسخ ودعوى التخصيص بشخص بعينه، أقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين، وقواعد الشرع تشهد له.
انظر: " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (34/ 31 - 35)، " زاد المعاد " (5/ 527).
(2) تقدم ذكر ذلك.
انظر: " فتح الباري " (9/ 149).
(3) قد اختلف القائلون بالحولين في حديث سهلة هذا على ثلاثة مسالك:
1 - أنه منسوخ. وهذا مسلك كثير منهم، ولم يأتوا على النسخ بحجة سوى الدعوى، فإنهم لا يمكنهم إثبات التاريخ المعلوم التأخر بينه وبين تلك الأحاديث. ولو قلت: أصحاب هذا القول عليهم الدعوى وادعوا نسخ تلك الأحاديث بحديث سهلة، لكانت نظير دعواهم.
وأما قولهم: إنها كانت من أول الهجرة، وحين نزول قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5].
ورواية ابن عباس رضي الله عنه، وأبي هريرة بعد ذلك، فجوابه من وجوه:
أ - أنهما لم يصرحا بسماعه من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل لم يسمع منه ابن عباس إلا دون العشرين حديثا، وسائرها عن الصحابة رضي الله عنهم.
ب - أن نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تحتج واحدة منهن، بل ولا غيرهن على عائشة رضي الله عنها بذلك، بل سلكن في الحديث بتخصيصه بسالم، وعدم إلحاق غيره به.
ج - أن عائشة رضي الله عنها نفسها روت هذا وهذا، فلو كان حديث سهلة منسوخا، لكانت عائشة رضي الله عنها قد أخذت به، وتركت الناسخ، أو خفي عليها تقدمه مع كونها هي الراوية له، وكلاهما ممتنع في غاية البعد.
د - أن عائشة رضي الله عنها ابتليت بالمسألة، وكانت تعمل بها وتناظر عليها، وتدعو إليها صواحباتها، فلها بها مزيد اعتناء، فكيف يكون هذا حكما منسوخا قد بطل كونه من الدين جملة، ويخفى عليها ذلك، ويخفى على نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا تذكره لها واحدة منهن.
2 - أنه مخصوص بسالم دون من عداه. وقد تقدم ذكر ذلك.
وقال القرطبي في " المفهم " (4/ 188): وقد اعتضد الجمهور على الخصوصية بأمور، منها:
1 - قاعدة الرضاع، فإن الله تعالى قد قال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]. فهذه أقصى مدة الرضاع المحتاج إليه عادة، المعتبر شرعا، فما زاد عليه بمدة مؤثرة غير محتاج إليه عادة، فلا يعتبر شرعا؛ لأنه نادر، والنادر لا يحكم له بحكم المعتاد.
2 - قاعدة تحريم الاطلاع على العورة، فإنه لا يختلف في أن ثدي الحرة عورة، وأنه لا يجوز الاطلاع عليه، لا يقال: يمكن أن يرضع ولا يطلع، لأنا نقول: نفس التقام حلمة الثدي بالفم اطلاع، فلا يجوز.
قال الحافظ في " الفتح " (9/ 148): " وأجاب عياضا عن الإشكال باحتمال أنها حلبته ثم شربه من غير أن يمس ثديها، قال النووي: وهو احتمال حسن، لكنه لا يفيد ابن حزم لأنه لا يكتفي في الرضاع إلا بالتقام الثدي، لكن أجاب النووي بأنه عفي عن ذلك للحاجة.
وذلك أن الليث وأهل الظاهر قالوا أن الرضاعة المحرمة إنما تكون بالتقام الثدي ومص اللبن منه ... ".
انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (10/ 30).
3 - ومنها أنه مخالف لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما الرضاعة من المجاعة " - تقدم تخريجه - وهذا منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقعيد قاعدة كلية، تصرح بأن الرضاعة المعتبرة في التحريم إنما هو في الزمان الذي تغني فيه عن الطعام، وذلك إنما يكون في الحولين وما قاربهما. وهو الأيام اليسيرة بعد الحولين عند مالك.
وقد اضطرب أصحابه في تحديدها، فالمكثر يقول: شهرا، وكأن مالكا يشير إلى أنه لا يفطم الصبي دفعة واحدة. في يوم واحد، بل في أيام وعلى تدريج، فتلك الأيام التي يحاول فيها فطامه حكمها حكم الحولين، لقضاء العادة بمعاودة الرضاع فيها.
وانظر " فتح الباري " (9/ 148)، " زاد المعاد " (5/ 522 - 523).
3 - المسلك الثالث: تقدم ذكه. وهو الجمع بين هذه الأحاديث.
وانظر: " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (34/ 31 - 35)، " زاد المعاد " (5/ 527)، " فتح الباري " (9/ 149).(7/3489)
مصرحة بعدم جواز إبداء الزينة لغير من في الآية، فلا يخص منها غير من استثناه الله تعالى إلا بدليل كقصة سالم، وما كان مماثلها في تلك العلة التي هي الحاجة إلى رفع الحجاب من غير أن يقيد ذلك بخاصة مخصوصة من الحاجات المقتضية لرفع الحجاب. ولا لشخص من الأشخاص، ولا بمقدار معلوم من عمر الرضع.
وقد ثبت في حديث سهلة أنها قالت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن سالما ذو لحية، فقال: " أرضعيه " (1) ومن أعظم المرجحات (2) لهذا المذهب أنه قال به أمير المؤمنين الذي يدور معه الحق حيث دار. انتهى الجواب المحرر في شهر صفر سنة 1210 كما في الأم المنقولة من خط المجيب القاضي العلامة العظيم عز الإسلام محمد بن علي الشوكاني، كثر الله فوائده. اهـ.
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (30/ 1453) من حديث عائشة.
(2) لم أجد من ذكر أن قول علي رضي الله عنه من أعظم المرجحات، وقد اختلفت الأقوال عن علي رضي الله عنه في الرضاع.(7/3491)
رسالة في رضاع الكبير هل يثبت به حكم التحريم؟
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(7/3493)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة في المخطوط: " رسالة في رضاع الكبير هل يثبت به حكم التحريم؟ ".
2 - موضوع الرسالة: " فقه "
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين فإنه ذاكر بعض الأعلام أبقاه الله في رضاع الكبير ... ".
4 - آخر الرسالة: انتهى المحرر كما في الأم المنقولة من خط المجيب سيدي الوالد العلامة الجليل شرف الدين بن إسماعيل بن محمد بن إسحاق عافاه الله وأبقاه وزاده مما أولاه آمين.
5 - نوع الخط: خط نسخي رديء ولكنه واضح.
6 - عدد الصفحات: 7 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 31 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(7/3495)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله المطهرين، فإنه ذاكر بعض الأعلام - أبقاه الله - في رضاع الكبير (1)، هل يثبت به حكم التحريم أم لا يثبت الحكم إلا إذا كان الرضيع في سن الرضاعة، وطلب من الجواب، وما وسع إلا مطابقته وموافقته، مع كون المسألة مع تعارض أدلتها، وتشعب أطرافها وجهاتها، وكثرة الأنظار فيها من نضار أئمتها يقتضي وقوف النظر، وعدم النفوذ في المسلك الذي لا يخلو عدم الإمعان فيه من خطر.
والجواب - والله أعلم بالصواب - أنه وقع الاتفاق على أن الرضاع بالجملة يحرم منه ما يحرم من النسب (2)، أعني أن المرضعة تنزل منزلة الأم، فتحرم على الرضيع هي وكل ما يحرم على الابن من قبل أم النسب. واختلفوا فيما عدا ذبك من التفاصيل، فذهب أئمتنا - عليهم السلام - والجمهور من الصحابة، والتابعين، وأبو حنيفة (3) والشافعي (4)، ومالك (5) إلى أن الرضاع لا يحرم إلا ما كان في مدته، وهي حولان. وذهبت عائشة، والليث (6) وداود إلى أن الرضاع يحرم مطلقا، سواء كان المرضع كبيرا أو صغيرا، ولكنه قال الحافظ ابن حجر (7): إن في نسبة القول هذا إلى داود نظر،
_________
(1) انظر الرسالة رقم (108). من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
(2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (2645) ومسلم رقم (1447): من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ".
(3) انظر: " البناية في شرح الهداية " (4/ 807 - 809).
(4) في " الأم " (10/ 94 - 96).
(5) " المفهم " للقرطبي (4/ 188)، " الموطأ " (2/ 608).
وانظر " فتح الباري " (9/ 146).
(6) انظر " المحلى " (10/ 18 - 19).
(7) في " فتح الباري " (9/ 147).(7/3499)
لأن ابن حزم ذكر عن داود مثل ما قاله الجمهور، وكذا نقل غيره من أهل الظاهر، وهم أخبر بمذهب صاحبهم، هكذا قال. وفي المسألة أقوال لا مقتضى لذكرها، فلنقتصر على محل البحث، كما أشرنا إليه. استدل أئمتنا - عليهم السلام - والجمهور بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (1) فقصرت الآية الشريفة الإتمام على الحولين، ونفت الزيادة كما دل على ذلك المفهوم، وبما أخرجه البخاري (2)، ومسلم (3) وأبو داود (4)، عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وعندي رجل قاعد، فاشتد ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه، فقلت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة، فقال: " انظرن من إخوانكن من الرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة " والمعنى كما قال الحافظ (5): تأملن ما وقع من ذلك، هل هو رضاع صحيح، شرطه من وقوعه في زمن الرضاع، فإن الحكم الذي ينشأ من الرضاع إنما يكون إذا وقع الرضاع المشترط.
وقال المهلب (6): معناه: انظرن ما سبب هذه الأخوة، فإن حرمة الرضاعة إنما هي في الصغر حين تسد الرضاعة المجاعة.
وقال أبو عبيد (7): إن الذي جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن [من الرضاع] (8) لا حيث يكون الغذاء بغير ..............
_________
(1) [البقرة: 233].
(2) في صحيحه رقم (5102).
(3) في صحيحه رق م (1455).
(4) في " السنن " رقم (2058).
(5) في " الفتح " (9/ 148).
(6) ذكره الحافظ في " الفتح " (9/ 148).
(7) ذكره الحافظ في " الفتح " (9/ 148)، وابن القيم في " زاد المعاد " (5/ 523).
(8) زيادة من الفتح (9/ 148).(7/3500)
[ذلك] (1) وقوله: فإنما الرضاعة من المجاعة، توضح الباعث على إمعان النظر والفكر؛ لأن الرضاعة تثبت السبب، وتجعل الرضيع محرما، وقوله: من المجاعة، أي الرضاعة التي تثبت بها الحرمة حيث يكون الرضيع طفلا، يسد اللبن جوعته، لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن، وينبت بذلك لحمه، فيصير جزءا من المرضعة، فيشترك في الحرمة مع أولادها، فكأنه قال: لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة.
وقال المحقق ابن دقيق العيد - رحمه الله تعالى - في شرح العمدة (2): وفيه - يعني في هذا الحديث - دليل على أن (إنما) للحصر؛ لأن المقصود حصر الرضاعة المحرمة في المجاعة، لا مجرد إثبات الرضاع في زمن المجاعة.
وقال القرطبي (3) في قوله: إنما الرضاعة من المجاعة: قاعدة كلية صريحة في اعتبار الرضاع في الزمن الذي يستغني به الرضيع باللبن، ويعتضد بقوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (4) فإنه يدل على أن هذه أقصى مدة الرضاع المحتاج إليه عادة، المعتبر شرعا، فما زاد عليه لا يحتاج إليه عادة، فلا يعتبر شرعا، إذ لا حكم للنادر، والحدود الشرعية تبنى على الأغلب، فهذا الحديث الذي سقنا الكلام فيه، الواقع جوابا عن قول عائشة أنه أخي من الرضاعة قد وقع فيه الأمر الدال على الوجوب العام لها ولغيرها بالنظر منهن في الأخوة لهن وسببها، ثم توضيح الباعث على النظر، فإن حكم التحريم إنما ثبت مع المجاعة، وتأكدت دلالة الأمر على الوجوب برؤية الغضب في وجهه، واشتداد الأمر عليه. ومع هذا فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يستيقن عدم الأخوة لتجويزه أن تكون الرضاعة وقعت في غير سن الرضاعة، فدلالته على الحكم بعدم التحريم مع استيقان وقوع الرضاعة في غير زمنها ثابتة بالأولى، وهذا واضح. واستدلوا أيضًا بحديث
_________
(1) كذا في المخطوط والذي في الفتح [بغير الرضاع].
(2) (4/ 80).
(3) في " المفهم " (4/ 188).
(4) [البقرة: 233].(7/3501)
ابن مسعود: " لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم " أخرجه أبو داود (1) مرفوعًا عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وجديث أم سلمة عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي فكان قبل الفطام " أخرجه الترمذي وصححه، كما ذكره الظفاري في تخريج البحر، وحديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء " أخرجه الترمذي (2) وصححه، والحاكم (3). وحديث ابن عباس (4) رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: لا رضاع [إلا ما كان في الحولين] (5) [قال الدارقطني: لم يسند إلى] (6) ابن عيينة غير الهيثم بن جميل (7)،
_________
(1) في " السنن " (2060).
قلت وأخرجه أحمد (6/ 80 رقم 4114 - شاكر) وفي سنده أبو موسى الهلالي وأبوه وهما مجهولان. لكن أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7/ 463 رقم 138 95) والبيهقي في " السنن الكبرى " (7/ 461) من وجه آخر من حديث أبي حصين عن أبي عطية قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فذكره بمعناه.
انظر: " الإرواء " رقم (2153).
الخلاصة: إن الحديث ضعيف، والله أعلم.
(2) في " السنن " رقم (1152) وقال: حديث حسن صحيح.
(3) تقدم، وقد قلنا: لعله ابن حبان، كما في " الفتح " (9/ 148).
وهو حديث صحيح بشواهده.
(4) أخرجه سعيد بن منصور في " سننه " رقم (974) والبيهقي في " السنن الكبرى " (7/ 462) وابن عدي في " الكامل " (7/ 2562) والدارقطني في " سننه " (4/ 174) وقد تقدم.
انظر الرسالة رقم (108).
(5) زيادة يقتضيها السياق.
(6) زيادة من الرسالة السابقة يقتضيها السياق.
(7) والذي في " الكامل " (7/ 2562) قال ابن عدي: " وهذا يعرف بالهيثم بن جميل عن ابن عقبة مسندا، وغير الهيثم يوقفه عن ابن عباس .... ".(7/3502)
وهو فقيه حافظ، فهذا صريح في أن الرضاع المحرم إنما يكون في الحولين لا غير. فهذه الأحاديث كلها واردة بأداة القصر، واضحة الدلالة على أن الرضاع المحرم المعتبر شرعا إنما يثبت حكمه مهما كان الرضيع يستغني باللبن عن غيره، وذلك لا يثبت في رضاع الكبير.
وروى الإمام زيد بن عليه - عليه السلام - عن أمير المؤمنين علي - عليه السلام - أن رجلا أتاه فقال: إن لي زوجة، وإني أصبت خادمة فأتيتها يوما فقالت: لقد أرويتها من ثديي، فما تقول في ذلك؟ فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: انطلق قاتل امرأتك عقوبة ما أتت، وخذ بأي رجل أمتك شئت، لا رضاع إلا ما أنبت لحما أو شد عظما، ولا رضاع بعد فصال (1).
وأخرج البيهقي (2) نحو هذا عن ابن عمر قال: عمدت امرأة من الأنصار إلى جارية لزوجها فأرضعتها، فلما جاء زوجها قالت: إن جاريتك قد صارت ابنتك، فانطلق الرجل إلى عمر فذكر ذلك له فقال له عمر: عزمت عليك لما رجعت فأصبت جاريتك، وأوجعت ظهر امرأتك، فإنما الرضاعة رضاعة الصغير. احتج القائل بأن رضاع الكبير يثبت به الحكم بالتحريم كالصغير بحديث عائشة، ولفظ مسلم (3) عنها أنها جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، إني أرى في
_________
(1) أخرجه البيهقي في " السنن " (7/ 461)، وعبد الرزاق في مصنفه رقم (13897) و (13898).
(2) في " السنن الكبرى " (7/ 461) ومالك في " الموطأ " (7/ 461) كلاهما من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر.
وأخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (7/ 461) من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع.
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (13 891، 13892).
(3) في صحيحه رقم (26، 30/ 1453).
قلت: وأخرجه أحمد (6/ 38، 39) والنسائي (6/ 104، 105) وابن ماجه رقم (1943) وقد تقدم.(7/3503)
وجه أبي حذيفة من دخول سالم - وهو حليفه - فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: أرضعيه، فقالت: كيف أرضعه، وهو رجل كبير! فتبسم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وقال: " قد علمت أنه رجل كبير " وفي بعض روايات الحديث (1) عنها كما أخرجه الستة إلا النسائي أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان ممن شهد بدرا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - تبنى سالما وأنكحه ابنة أخيه الوليد بن عتبة، وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - زيدا، وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورثه من ميراثه، حتى أنزل الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (2) إلى قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (3) فردوا إلى آبائهم، فمن لم يعلم له أب فمولى وأخ في الدين، فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي العامري، وهي امرأة أبي حذيفة إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، إنا كنا نرى سالما ولدا وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فضلا (4)، وقد أنزل الله تعالى فيه ما علمت، وكيف ترى يا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أرضعيه " فأرضعته خمس مرات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة، فبذلك كانت تأمر عائشة بنات إخوتها، وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل
_________
(1) أخرجه أحمد (6/ 201، 255) ومالك في الموطأ (2/ 605).
قلت: وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (27/ 1453) والنسائي (6/ 104 - 1105) وابن ماجه رقم (1943) بنحوه.
(2) [الأحزاب: 5].
(3) [الأحزاب: 5].
(4) في حاشية المخطوط ما لفظه: الفضل بضمتين يعني امرأة فضلة إذا كانت في ثوب تحللت بين طرفين تعقدهما على عاتقها. تمت من خط المؤلف.
قال ابن الأثير في " النهاية " (3/ 465) يراني فضلا أي مبتذلة في ثياب مهنتي، يقال: تفضلت المرأة: إذا لبست ثياب مهنتها، أو كانت في ثوب واحد، فهي فضل والرجل فضل أيضا.(7/3504)
عليها، وإن كان كبيرا خمس رضعات، ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحدا من الناس، حتى يوضع في المهد. وقلن لعائشة: ما ندري لعلها رخصة لسالم من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - دون الناس.
وفي رواية زينب بنت أم سلمة عن أمها أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما في مسلم (1) " أنها كانت تقول: أبى سائر أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضعة، وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا بهذه الرضاعة ولا رائينا ".
وروى الشافعي (2) - رحمه الله - عن أم سلمة أنها قالت في الحديث: كان رخصة لسالم خاصة.
قال الشافعي (3) فأخذنا به يقينا لا ظنا، حكاه عنه البيهقي في المعرفة (4)، قال: إنما قال هذا لأن الذي في غير هذه الرواية أن أمهات المؤمنين قلن ذلك بالظن. ورواه عن أم سلمة بالقطع. ذكر ذلك في شرح التقريب (5).
وقد أجيب عن قصة سالم بأجوبة منها ما قاله أبو الوليد الباجي (6) أنه قد انعقد الإجماع على خلاف التحريم برضاعة الكبير.
قال القاضي عياض (7): لأن الخلاف إنما كان أولا ثم انقطع. وهذا مبني على ما هو
_________
(1) في صحيحه رقم (1454).
(2) في " الأم " (10/ 95 - 96) وقد تقدم.
(3) انظر " الأم " (10/ 96).
(4) (11/ 264 رقم 15477).
(5) (7/ 136).
(6) عزاه إليه زين الدين العراقي في " طرح التثريب في شرح التقريب " (7/ 137).
(7) عزاه إليه زين الدين العراقي في " طرح التثريب في شرح التقريب " (7/ 137).(7/3505)
المختار في الأصول من أنه لا يشترط في انعقاد الإجماع أن لا يسبقه خلاف، بل يصير حجة بعد الخلاف كما عرف في محله. ومنها أنه حكم منسوخ، وبه جزم المحب الطبري (1).
وحكى الخطابي (2) عن عامة أهل العلم أنهم حملوا ذلك على الخصوص أو النسخ. ومنها الخصوصية لسالم وامرأة أبي حذيفة.
والأصل فيه قول أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - خاصة. وقد سبق قريبا ما رواه الشافعي (3) عن أم سلمة أنها قالت: كان رخصة لسالم خاصة على جهة الجزم. وقرره ابن الصباغ (4) وغيره بأن قصة سالم ما كان وقع من النبي قبل أن ينهى عنه، فكان وقوع الترخيص مترتبا على التبني قبل النهي عنه، الذي أدى إلى الخلطة بسلهة، وتنزيله منزلة الولد الذي يصير قلب أمه فارغا لعدم رؤيته، وملابسته كما هو مقتضى تقرير الخصوصية، فلا يصح أن يثبت للتبني بعد النهي مثل الحكم الذي يثبت له قبل النهي، لأن المتبنى لا يحل له ذلك، وإن كان جاهلا أيضًا فهو الجاني على نفسه بفعل ما قد حرم، فلا يثبت الرخصة التي ثبتت لسلهة. وقرره آخرون بأن الأصل أن الرضاع لا يحرم، فلما ثبت ذلك في الصغر خولف الأصل، وبقي ما عداه على الأصل.
وقضية سالم واقعة عين (5) يطرقها احتمال الخصوصية، فيجب الوقوف عن الاحتجاج
_________
(1) ذكره الحافظ في " الفتح " (9/ 149).
(2) في " معالم السنن " (2).
(3) في " الأم " (10/ 95 - 96).
(4) ذكره الحافظ في " الفتح " (9/ 149) وقد تقدم ذكره في الرسالة (108).
(5) ذكره الحافظ في " الفتح " (9/ 149) وقد تقدم في الرسالة (108).
وانظر " زاد المعاد " (5/ 513 - 518).(7/3506)
بها.
وقال العلامة المقبلي - رحمه الله - في المنار (1) بعد أن ذكر أن للحديث علة بمنع صدقه ما لفظه: ولأم المؤمنين في باب الرضاع أغرب من هذا، وإن كان الغرابة هنا من حيث الرواية، وهناك من حيث الاجتهاد؛ وذلك قولها برضاع الكبير أنها محرمة لحديث سهلة امرأة أبي حذيفة، فأخذت وعممت الحكم، وكان يدخل عليها بتلك الرضاعة، ويعارضه أحاديث أن الرضاعة في الحولين (2)، وفي الثدي، أي في وقت حاجة الرضيع إليه، واستغنائه به، وأقوى ما يبين الخصوصية أن يقال: مباشرة الرجل لأجنبية ممنوعة قطعا بالإجماع وغيره من الأدلة (3)، وهو حكم عام مستمر، فهذا أقوى من الحديث المذكور، فيتعين صحة اجتهاد زوجاته المطهرات، وخطأ اجتهادها. وإنما قعقع ناس بتعظيم حرمتها فكيف بهتك حجاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأنها وأنها
_________
(1) (2/ 580).
(2) قال أصحاب الحولين: قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، قالوا: فجعل تمام الرضاعة حولين، فدل على أنه لا حكم لما بعدهما، فلا يتعلق به التحريم.
قالوا: وهذه المدة هي مدة المجاعة التي ذكرها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقصد الرضاعة المحرمة عليها.
قالوا: وهذه مدة الثدي الذي قال فيها: " لا رضاع إلا ما كان في الثدي " أي في زمن الثدي، وهذه لغة معروفة عند العرب فإن العرب يقولون: مات فلان في الثدي، أي في زمن الرضاع قبل الفطام، ومنه الحديث المشهور: " إن إبراهيم مات في الثدي، وإن له مرضعا في الجنة تتم رضاعه " - أخرجه مسلم في صحيحه رق م (2316) وأحمد (3/ 112) من حديث أنس، يعني إبراهيم ابنه صلوات الله وسلامه عليه.
قالوا: وأكد ذلك بقوله: " لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء " وكان في الثدي قبل الفطام، فهذه ثلاثة أوصاف للرضاع المحرم، ومعلوم أن رضاع الشيخ الكبير عار من الثلاثة.
انظر " زاد المعاد " (5/ 515).
(3) انظر: " المفهم " للقرطبي (4/ 188) وقد تقدم ذكره.(7/3507)
فيقال لهم: ليست معصومة، وأيهما أشد خطرا هذه المسألة أم حرب علي (1) - كرم الله وجهه؟ - انتهى كلامه.
وقال البيهقي في السنن الكبرى (2): وإذا كان هذا لسالم خاصة فالخاص لا يكون مخرجا من حكم العام، ولا يجوز إلا أن يكون رضاع الكبير غير محرم، ويعني بهذا أنه لا يصح حينئذ أن يكون من باب تخصيص العموم. وقال (3): فلا يحكم بأن رضاع الكبير مطلقا محرما كما ذهبت عائشة إلى تعميم الحكم كما سبق، ولا مع زيادة قيد أيضا، بل توقف قضية سالم في محلها كما ذهب إلى ذلك أئمتنا - عليهم السلام - (4) والجمهور، وهو القول الراجح فيما يظهر - والله سبحانه أعلم - وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
انتهى الجواب المحرر كما في الأم المنقولة من خط المجيب سيدي الوالد العلامة الجليل شرف الدين بن إسماعيل بن محمد بن إسحاق - عافاه الله، وأبقاه، وزاد مما أولاه - آمين.
_________
(1) انظر صحيح تاريخ الطبري القسم الثالث: " الخلفاء الراشدون " اختيار وتخريج محمد صبحي بن حسن حلاق ومحمد بن طاهر الرزنجي.
(2) في " السنن الكبرى " (7/ 460).
(3) أي البيهقي.
(4) انظر: " فتح الباري " (9/ 146 - 150)، " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (34/ 60 - 61).
فقد قال بن تيمية في " مجموع الفتاوى " (34/ 60): يعتبر الصغر في الرضاعة إلا إذا دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها عنه، كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثر رضاعه. وأما ما عداه فلا بد من الصغر.
قال الأمير الصنعاني في " سبل السلام " (6/ 265): هذا جمع حسن بين الأحاديث، وإعمال لها من غير مخالفة لظاهرها باختصاص ولا نسخ ولا إلغاء لما اعتبرته اللغة ودلت عليه الأحاديث.
وقال ابن القيم في " زاد المعاد " (5/ 517): " والأحاديث النافية للرضاع في الكبير إما مطلقة، فتقيد بحديث سهلة، أو عامة في الأحوال فتخصيص هذه الحال من عمومها، وهذا أولى من النسخ ودعوى التخصيص بشخص بعينه، وأقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين، وقواعد الشرع تشهد له " اهـ.(7/3508)
إيضاح الدلالات على أحكام الخيارات (1)
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
_________
(1)(7/3509)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين.
وبعد:
فإنه ورد هذا السؤال من سيدي العلامة المفضال، حسنة الآل، بقية أرباب الزهد والحلال إسماعيل بن أحمد بن محمد الكبسي (1) - كثر الله فوائده، ومد على الطلاب موائده - وهذا لفظه:
من حسنات علماء الإسلام - كثر الله وجودهم الملك العلام - حل ما أشكل في خيار المغابنة، وإيضاح المرام، هل له حكم خيار الإحازة كما قاله ابن بهران - رحمه الله تعالى - ناقلا عن الغيث (2): أنه في التحقيق يرجع إلى خيار الإحازة؟ فمع هذا إن كان المبيع باقيا على صفته من غير زيادة ولا نقص فلا إشكال في أن الحكم الرد بالخيار، أو الإمضاء، وإن كان قد زاد أو نقص فما الحكم؟ هل يمتنع الرد ويلزم ما بين الثمن والقيمة كما نرى عليه الحكام في العصر إذا ادعى مدع الغبن فيما باعه عنه غيره أنهم يأمرون من أول الأمر بتقويم عدلين، ويلزمون المشتري ما نقص عن القيمة، أم لا يمتنع
_________
(1) ولد تقريبا سنة 1150 هـ، وهو أحد علماء صنعاء المعاصرين، له عرفان بالنحو والصرف، والمعاني والبيان، والفقه، وإلمام بالأصول ولا سيما أصول الدين، وهو بمكان من الزهد والعفة والقنوع بما يصل إليه، وإن كان يسيرا.
قال الشوكاني في " البدر الطالع " رقم (87): وله إلي سؤالات وكان ساكنا الروضة، فأرسلها إلي مع شيخنا العلامة الحسن بن إسماعيل المغربي رحمه الله، فأجبت عليها بجواب طويل، وأرسلتها إليه مع شيخنا المذكور ....
قال في " نيل الأوطار " (1/ 267): توفي صاحب الترجمة يوم الجمعة لست عشر ليلة خلت من صفر سنة 1206 هـ.
انظر: " نيل الأوطار " (1/ 261 - 267)، " البدر الطالع " رقم (87).
(2) تقدم التعريف بهذا الكتاب.(7/3519)
الرد مطلقا؟ فالكل مشكل، أو لخيار المغابنة حكم خيار العيب، وهو به أشبه من حيث إن كل واحد منهما واقع مع التزام العقد، فيتمشى عمل الحكام، لكنه لم يظهر مأخذه من كلام أهل المذهب الشريف وغيرهم، ولا من نص عليه من أهل العلم، وبقي إشكال آخر في إلزام الحكام للبائع المدعي للغبن بتقويم عدلين من أول الأمر، وجعل أجرة العدلين بينهما نصفين، وتقويمهما هو بينة يلزم المدعي، وكان الظاهر إلزام مدعي الغبن البينة، والمشتري اليمين؟ فأفيدوا في الأطراف كلها - أحيا الله بوجودكم الشريعة الغراء، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وآله الكرام - انتهى السؤال.(7/3520)
وقد أجاب عليه ثلاثة من علماء الإسلام، هم في كل فن راسخو الأقدام، بل هم ورابعهم السائل، كثر الله فوائده.
أربعة (1) عندي هم ما هم ... أعلم من يهدي طريق الصواب
فمن رام الوقوف على تحقيق الحق في هذه المسألة فليضم ما حرروه إلى ما أحرره - إن شاء الله - هنا فأقول، مستعينا بالله، ومتكلا عليه:
إن الخيارات الثلاثة عشر المعدودة في كتب الفقه كل واحد منها لا يخلو عن نوع من أنواع الغرر، فهو العلة المقتضية للفسخ في جميعها، ورجوع بعضها إليها ظاهر لا يخفى، ورجوع البعض الآخر فيه بعض خفاء يزول بالبيان، ونحن الآن نبين لك ذلك لتعلم صحة ما ذكرناه، فنقول:
الأنواع التي ترجع إلى الغرر رجوعا واضحا هو تسعة:
الأول: خيار فقد الصفة (2)؛ فإنه إنما ثبت الفسخ به لكون المشتري لما فقد الصفة التي اعتقد وجودها في المبيع كان مغرورا في الجملة، وإن لم يكن للبائع عناية في ذلك؛ إذ المراد وجود الغرر، فإن الباعث على المبيع هو كون المشتري اعتقد المبيع متصفا بتلك الصفة، هذا على فرض أنها لم تكن مشروطة، ولكنه قد حصل العلم بأن المشتري كان عند العقد معتقدا لوجودها، أما إذا كانت مشروطة فالأمر أوضح.
الثاني: خيار الخيانة في المرابحة (3)، ....................
_________
(1) انظر " المغني " (66/ 266).
(2) انظر " المغني " (6/ 33 - 34).
(3) قال العيني في " البناية في شرح الهداية "
(7/ 413 - 415): المرابحة نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن مع زيادة ربح.
وقيل: نقل ما ملكه من السلع بما قام عندهم.
وقال " القدوري " المرابحة: نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول مع زيادة ربح.
والمرابحة: مصدر رابح من باب المفاعلة الذي يستدعي مشاركة الاثنين.
وانظر: " الحاوي الكبير " (6/ 339).
قال الماوردي في " الحاوي الكبير " (6/ 339): بيع المرابحة، فصورته: أن يقول: أبيعك هذا الثوب مرابحة، على أن الشراء مائة درهم وأربح في كل عشرة واحد، فهذا بيع جائز لا يكره، وحكى عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس عنهما: أنهما كرها ذلك مع جوازه.
وحكي عن إسحاق بن راهويه: أنه أبطله ومنع من جوازه، استدلالا بأن الثمن مجهول، وإن كذبه في إخبار الشراء غيري مأمون.
وقال النووي في " الروضة " (3/ 185): " هو بيع جائز من غير كراهة، وهو عقد يبني الثمن فيه على ثمن البيع الأول مع زيادة، وله عبارات متداولة ".(7/3521)
والتولية (1)، فإن الغرر فيه في غاية الوضوح، بل هو أظهر أنواع الغرر؛ لأن .......................
_________
(1) بيع التولية: هو البيع بمثل ثمنه من غير نقص ولا زيادة. وحكمه في الإخبار بثمنه. وتبيين ما يلزمه تبيينه، حكم المرابحة في ذلك كله، ويصح بلفظ البيع ولفظ التولية.
" المغني " (6/ 274).
التولية: قال ابن قدامة في " المغني " (6/ 195): " وإن قال: ولني ما اشتريته بالثمن فقال: وليتك، صح، إذا كان الثمن معلوما لهما، فإن جهله أحدهما، لم يصح ".
وقيل التولية: نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول من غير زيادة ربح.
" البناية " (7/ 413).
ثم قال صاحب " البناية " (7/ 414 - 415): والبيعان جائزان - المرابحة والتولية - لاستجماع شرائط الجواز والحاجة ماسة إلى هذا النوع من البيع لأن الغبي الذي لا يهتدي في التجارة يحتاج إلى أن يعتمد على فعل الذكي المهتدي، ويطيب نفسه بمثل ما اشترى وبزيادة ربح، فوجب القول بجوازها. ولهذا كان مبنناهما على الأمانة والاحتراز عن الخيانة وعن شبهتها، وقد صح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أراد الهجرة ابتاع أبو بكر رضي الله عنه بعيرين، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ولني أحدهما " فقال: هو لك بغير شيء، فقال عليه الصلاة والسلام: " أما بغير ثمن فلا ".
- وفي رواية البخاري رقم (2138): من حديث عائشة قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " .... قد أخذتها بالثمن " -.
ولا تصح المرابحة والتولية حتى يكون العوض مما له مثل لأنه إذا لم يكن له مثل لو ملكه ملكه بالقيمة وهو مجهولة، ولو كان المشتري باعه مرابحة ممن يملك ذلك البدل وقد باعه بربح درهم أو بشيء من المكيل موصوف جاز لأنه يقدر على الوفاء بما التزم. وإن باعه بربح (ده بازده) لا يجوز لأنه باعه برأس المال وببعض قيمته لأنه ليس من ذوات الأمثال، ويجوز أن يضيف إلى رأس المال أجرة القصار والطراز والصبغ، والفتل وأجرة حمل الطعام لأن العرف جار بإلحاق هذه الأشياء برأس المال في عادة التجار.
ولأن كل ما يزيد في المبيع أو في قيمته يلحق به هذا هو الأصل، وما عددناه بهذه الصفة لأن الصبغ وأخواته يزيد في العين والحمل يزيد في القيمة. إذ القيمة تختلف باختلاف المكان.
ويقول قام علي بكذا، ولا يقول اشتريته بكذا كيلا يكون كاذبا.
فإن اطلع المشتري على خيانة في المرابحة فهو بالخيار عند أبي حنيفة إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء تركه.
وإن اطلع على خيانة في التولية أسقطها من الثمن، وقال الثمن. وقال أبو يوسف: يحط فيهما، وقال محمد: يخير فيهما.
وقال ابن قدامة في " المغني " (6/ 266): بيع المرابحة: هو البيع برأس المال وربح معلوم ويشترط علمهما برأس المال فيقول: رأس مال فيه، أو هو علي بمائة بعتك بها وربح عشرة، فهذا جائز لا خلاف في صحته، ولا نعلم فيه عند أحد كراهة، وإن قال: بعتك برأس مال فيه وهو مائة، وأربح في كل عشرة درهما، أو قال: (ده يازده أو ده داوزده) - فارسية بمعنى ما تقدم، فقد كرهه أحمد.(7/3522)
الخيانة فيهما غرر صادر من جهة البائع بلا شك ولا شبهة (1).
الثالث: خيار الصبرة (2) التي علم .........................
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) الصبرة: الطعام المجتمع كالكومة، وجمعها صبر.
قال ابن قدامة في " المغني " (6/ 201 - 203): ولا يضر عدم مشاهدة باطن الصبرة، فإن ذلك يشق، لكون الحب بعضه على بعض، ولا يمكن بسطها حبة حبة، ولأن الحب تتساوى أجزاؤه في الظاهر، فاكتفي برؤية ظاهره، بخلاف الثوب فإن نشره لا يشق ولم تختلف أجزاؤه. ولا يحل لبائع الصبرة أن يغشها، بأن يجعلها على دكة، أو ربوة أو حجر ينقصها، أو يجعل الرديء في باطنها أو المبلول، ونحو ذلك.
لما روى أبو هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر على صبرة من طعام، فأدخل يده فنالت أصابعه بللا، فقال: " يا صاحب الطعام، ما هذا؟ " قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: " أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ " ثم قال: " من غشنا فليس منا ".
- أخرجه مسلم في صحيحه رقم (102) والترمذي رقم (1315) وابن ماجه رقم (2224) وأبو داود رقم (3452) وأحمد (2/ 242) من طرق -.
فإذا وجد ذلك، ولم يكن المشتري علم به، فله الخيار بين الفسخ وأخذ تفاوت ما بينهما، لأنه عيب، وإن بان تحتها حفرة أو بان باطنها خيرا من ظاهرها فلا خيار للمشتري لأنه زيادة له.
وإن علم البائع ذلك، فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة به، وإن لم يكن علم، فله الفسخ، كما لو باع بعشرين درهما، فوزنها بصنجة ثم وجد الصنجة زائدة، كان له الرجوع، وكذلك لو باع بمكيال ثم وجده زائدا. ويحتمل أنه لا خيار له لأن الظاهر أنه باع ما يعلم، فلا يثبت له الفسخ بالاحتمال.(7/3523)
قدرها البائع فقط (1)، فإن إقدام المشتري على شراء ما لم يعلم بقدره إقدام على جهالة،
_________
(1) قال أحمد: ومن عرف مبلغ شيء لم يبعه صبرة. وكرهه عطاء وابن سيرين، ومجاهد وعكرمة.
وبه قال مالك، وإسحاق. وروي ذلك عن طاووس، قال مالك: لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك. وعن أحمد أن هذا مكروه غير محرم، فإن بكر بن محمد روى عن أبيه، أنه سأله عن الرجل يبيع الطعام جزافا وقد عرف كيله، وقلت له: إن مالكا يقول: إذا باع الطعام ولم يعلم المشتري فإن أحب أنيرده رده، قال: هذا تغليظ شديد. ولكن لا يعجبني إذا عرف كيله، إلا أن يخبره، فإن باعه، فهو جائز عليه، وقد أساء.
ولم ير أبو حنيفة، والشافعي بذلك بأسا؛ لأنه إذا جاز البيع مع جهلهما بمقداره، فمع العلم من أحدهما أولى.
ووجه الأول: ما روى الأوزاعي، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من عرف مبلغ شيء فلا يبعه جزافا حتى يبينه " - أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/ 131).
قال القاضي: وقد روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نهى عن بيع الطعام مجازفة. وهو يعلم كيله. والنهي يقتضي التحريم، وأيضا الإجماع الذي نقله مالك.
ولأن الظاهر أن البائع لا يعدل إلى البيع جزافا مع علمه بقدر الكيل، إلا للتغرير بالمشتري والغش له، ولذلك أثر في عدم لزوم العقد، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من غشنا فليس منا " - تقدم تخريجه - فصار كما دلس العيب.
فإن باع ما علم كيله صبرة، فظاهر كلام أحمد في رواية محمد بن الحكم، أن البيع صحيح لازم، وهو قول مالك والشافعي؛ لأن المبيع معلوم لهما، ولا تغرير من أحدهما، فأشبه ما لو علما كيله أو جهلاه، ولم يثبت ما روى من النهي فيه، وإنما كرهه أحمد كراهة تنزيه، لاختلاف العلماء فيه، ولأن استواءهما في العلم والجهل أبعد من التغرير. وقال القاضي وأصحابه: هذا بمنزلة التدليس والغش إن علم به المشتري، فلا خيار له؛ لأنه دخل على بصيرة، فهو كما لو اشترى مصراة، يعلم تصريتها، وإن لم يعلم أن البائع كان عالما بذلك فله في الفسخ والإمضاء، وهذا قول مالك؛ لأنه غش وغرر من البائع، فصح العقد منه، ويثبت للمشتري الخيار، وذهب قوم من أصحابنا إلى أن البيع فاسد لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد.(7/3524)
وذلك تكرير من غير نظر إلى كون سكوت البائع عن بيان القدر تغريرا.
والرابع: خيار المغابنة (1)، فإن شراء الشيء أو بيعه بغبن غرر؛ لأنه لو علم بذلك لم يقدم عليه. أما إذا كان الغبن بسبب من البائع أو المشتري، من رفع أو وضع، غير مطابقين للخارج، فالأمر ظاهر، وأما إذا كان لا بذلك السبب بل بسبب كون المغبون لا يدري بأنه مغبون فقد حصل الغرر في الجملة.
والخامس والسادس والسابع: خيار جهل قدر الثمن (2)، أو المبيع، أو تعيينه، فإن من لم يعلم بمقدار ثمن ما شراه، أو باعه، أو لم يعلم بمقدار ما باعه أو ما شراه، أو لم يعلم بأن ما باعه أو شراه هو هذا الشيء بعينه دون غيره، فلا شك ولا ريب أنه قد أقدم على هذه الأمور وهو مغرور في الجملة؛ لأنه خاطر بماله، وغرر به، وهو لا يدري بأنه غابن أو مغبون، أو لا غابن ولا مغبون.
والثامن: خيار الرؤية (3)، فإن من اشترى ما لم يره ولا عرفه قد وقع في أعظم أنواع الغرر.
والتاسع: خيار العيب (4)، فإن من اشترى شيئا انكشف له أن به عيبا من قبل العقد
_________
(1) انظر: " المغني " (6/ 36).
(2) انظر: " البناية في شرح الهداية " (7/ 442).
(3) انظر: " المغني " (6/ 33 - 34) و" البناية في شرح الهداية " (7/ 229).
(4) انظر: " المغني " (6/ 226 - 228). " الحاوي الكبير " (6/ 295).(7/3525)
مغرور في الجملة؛ لأنه لو علم بذلك العيب لم يقدم على الشراء بلا شك، فهذه تسعة خيارات من الخيارات المعدودة في كتب الفقه، قد رجعت إلى الخيار العاشر منها، وهو الخيار المسمى بخيار الغرر، كبيع المصراة، وبقيت ثلاثة أنواع ربما يخفى رجوعها إلى الغرر، ولكنه يرتفع الخفاء بالإيضاح لوجه الرجوع.
الأول من الثلاثة: كون العقد موقوفا، فإن العاقد إنما يقدم على العقد لتترتب عليه آثاره، والعقد الموقوف قد صار المعقود عليه فيه في حكم المحبوس، فجميع آثاره غير مترتبة عليه، فالعاقد قد وقع بعقده في نوع من أنواع الغرر، فله التخلص مما وقع فيه.
والثاني: خيار تعذر تسليم المبيع؛ فإن المشتري لو علم بأن العين التي اشتراها متعذر تسليمها لم يعقد عليها، وذلك غرر، فله التخلص عنه بالفسخ.
والثالث: خيار الشرط، فإن المشتري، أو البائع لو كان على بصيرة من نفسه، ولم يكن عنده جهالة تستلزم الغرر في الجملة لم يشرط لنفسه أجلا، فلما شرطه كان متمكنا من التخلص قبل أن تلزم الصفقة، ويتم البيع.
فهذه ثلاثة عشر خيارا، وهي المعدودة في كتب الفقه قد رجع اثنا عشر منها إلى واحد، وهو خيار الغرر على ما بيناه.
وإذا تقرر لك هذا في الأنواع المعدودة في كتب الفقه فاعلم أن الأدلة الواردة في الخيار هي جميعها راجعة إلى الغرر لا تخرج عنه، وبيان ذلك أن جملة الأدلة المثبتة للخيار ستة:
الأول: بيع المصراة (1)؛ فإنه ثبت في
_________
(1) التصرية: جمع اللبن في الضرع. يقال: صرى الشاة، وصرى اللبن في ضرع الشاة، بالتشديد والتخفيف.
ويقال: صرى الماء في الحوض، وصرى الطعام في فيه وصرى الماء في ظهره، إذا ترك الجماع.
انظر: " غريب الحديث " (2/ 241).
قال البخاري في صحيحه (4/ 361): والمصراة التي صري لبنها وحقن فيه وجمع فلم يحلب أياما.
وأصل التصرية حبس الماء، يقال منه: صريت الماء: إذا حبسته.(7/3526)
الصحيح (1) بألفاظ، منها بلفظ: " لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر "، وسائر الألفاظ تؤدي هذا المعنى، ويفيد هذا المفاد، ومعلوم أن العلة التي ثبت الفسخ لأجلها هي ما وقع فيه المشتري من الغرر بسبب التصرية (2) التي كانت سببا
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2150) ومسلم رقم (11/ 1515) وأحمد (2/ 242، 394، 410، 465) ومالك في " الموطأ " (2/ 683 رقم 966) وأبو داود رقم (3443) والنسائي (7/ 253) والبيهقي (5/ 318) من حديث أبي هريرة وهو حديث صحيح.
(2) قال ابن قدامة في هذه المسألة ثلاثة فصول:
الأول: أن من اشترى مصراة من بهيمة الأنعام، لم يعلم تصريتها، ثم علم فله الخيار في الرد أو الإمساك، روي ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر وأبي هريرة وأنس. وإليه ذهب مالك، وابن أبي ليلى، والشافعي وإسحاق وأبو يوسف وعامة أهل العلم.
وذهب أبو حنيفة ومحمد إلى أنه لا خيار له؛ لأن ذلك ليس بعيب بدليل أنها لم تكن مصراة فوجدها أقل لبنا من أمثالها، لم يملك ردها. والتدليس بما ليس بعيب لا يثبت الخيار، كما لو علفها فانتفخ بطنها، فظن المشتري أنها حامل.
قال ابن قدامة: ولنا ما روى أبو هريرة - تقدم الحديث - ولأن هذا تدليس بما يختلف الثمن باختلافه، فوجب الرد.
الثاني: أنه إذا ردها، لزمه رد بدل اللبن، وهذا قول كل من جوز ردها، وهو مقدر في الشرع بصاع من تمر، كما في الحديث الصحيح - تقدم ذكره - وهذا قول الليث وأسحاق، والشافعي، وأبي عبيد وأبي ثور، وذهب مالك وبعض الشافعية إلى أن الواجب صاع من غالب قوت البلد ... ". "
المغني " (6/ 216 - 220). " الحاوي الكبير " (6/ 286).
الثالث: وإن علم بالتصرية قبل حلبها، مثل أن أقر به البائع، أو شهد به من تقبل شهادته، فله ردها، ولا شيء معها؛ لأن التمر وجب بدلا من اللبن المحتلب، وهذا قول مالك، قال ابن عبد البر: هذا ما لا خلاف فيه، أي إذا لم يحلبها لم يلزمه رد شيء معها.
وأما إذا احتلبها وترك اللبن بحاله ثم ردها، رد لبنها أيضًا شيئا، لأن المبيع إذا كان موجودا فرده، لم يلزمه، فإن أبى البائع قبوله، وطلب التمر لم يكن له ذلك، إذا كان بحاله لم يتغير. وإن كان اللبن قد تغير ففيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه قبوله. وهذا قول مالك، للخبر، ولأنه قد نقص بالحموضة أشبه ما لو أتلفه.
الثاني: يلزمه قبوله، لأن النقص حصل باستلام المبيع، وبتغرير البائع، وتسليطه على حلبه فلم يمنع الرد كلبن غير المصراة.
" المغني " (6/ 220)، " الحاوي الكبير " (6/ 290 - 292)، " فتح الباري " (4/ 362 - 368).
ومن ألفاظ الحديث:
- ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2149) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " من اشترى شاة محفلة فليرد معها صاعا من تمر
. ". - وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2148) قال أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها: إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاع تمر ". ويذكر عن أبي صالح، ومجاهد والوليد بن رباح وموسى بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صاع تمر " وقال بعضهم عن ابن سيرين، صاعا من طعام، وهو بالخيار ثلاثا ".
- وأخرج مسلم في صحيحه رقم (25/ 1524) وأبو داود رقم (3444) والترمذي رقم (1252) والنسائي (7/ 254 رقم 4489) ومالك (2/ 683 - 684 رقم 96) وأحمد (2/ 248، 259، 273، 317، 386).
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من اشترى مصراة فهو منها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر لا سمراء ".(7/3527)
لاعتقاد أنها تحلب في العادة مثل تلك الحلبة الواقعة عقب التصرية.
الدليل الثاني: حديث حبان بن المنقذ (1) الذي كان يخدع في البيوع، وكان في
_________
(1) أخرج البخاري رقم (2117) ومسلم رقم (48/ 1533)، وأبو داود رقم (3500) والنسائي (7/ 252 رقم 4484) والبغوي في شرح السنة (8/ 46) والبيهقي (5/ 273) والطيالسي رقم (1881) ومالك (2/ 38 رقم 1019).
قلت: لكن لم يعين فيه اسم الرجل ولا ذكر فيه الخيار بل الحديث الذي عين فيه ذلك فقد أخرجه ابن الجارود رقم (567) والدارقطني (3/ 54 - 55 رقم 217) والبيهقي في " المعرفة " كما في " نصب الراية " (4/ 6) وفي " السنن الكبرى " (5/ 273) والحاكم (2/ 22) وسكت عنه وصححه الذهبي والحميدي في مسنده (2/ 292 رقم 662).
ولفظه: " ثم أنت بالخيار في كل سلعة بعتها ثلاث ليال ".(7/3528)
عقله ضعف، وكان لا يصبر عن البيع؛ فإنه لما نهاه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن البيع فقال: يا نبي الله، لا أصبر عن البيع. وله طرق وألفاظ في الصحيحين وغيرهما، منها في الصحيحين بلفظ: " من بايعت فقل: لا خلابة "، وفي بعض ألفاظه أنه جعل له الخيار ثلاثا. وفي لفظ البخاري (1): " إذا أنت بايعت فقل: لا خلابة، ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال، إن رضيت فأمسك، وإن سخطت فارددها على صاحبها " ولا شك ولا ريب أن العلة في هذا هي الغرر بالخدع.
_________
(1) في تاريخه (4/ 2 17).
قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2355).
عن محمد بن يحيى بن حبان قال: هو جدي منقذ بن عمر وكان رجلا قد أصابته آمة في رأسه فكسرت لسانه، وكان لا يدع على ذلك التجارة، فكان لا يزال يغبن، فأتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له، فقال: " إذا أنت بايعت فقل: لا خلابة ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال، إن رضيت فأمسك وإن سخطت فارددها على صاحبها ". وهو حديث حسن.
- وأخرج الحميدي في مسنده رقم (662): عن ابن عمر: أن منقذا سفع في رأسه في الجاهلية مأمومة، فخبلت لسانه، فكان إذا بايع يخدع في البيع، فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بايع وقل: لا خلابة، ثم أنت بالخيار ثلاثا " قال ابن عمر: فسمعته يبايع ويقول: لا خذابة لا خذابة.
- وأخرج أبو داود رقم (3501) والترمذي (1250) وقال: حسن صحيح غريب والنسائي رقم (4485) وابن ماجه رقم (2354) وأحمد (3/ 217) والدارقطني (3/ 55 رقم 218، 219) وابن الجارود (2/ 159 رقم 568) عن أنس الأئمة، رجلا على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبتاع وكان في عقدته - يعني في عقله - ضعف، فأتى أهله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا رسول الله احجر على فلان، فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف، فدعاه ونهاه، فقال: يا نبي الله إني لا أصبر عن البيع، فقال: " إن كنت غير تارك للبيع فقل: ها وها ولا خلابة ".
وهو حديث صحيح.(7/3529)
الدليل الثالث: حديث النهي عن تلقي الجلب، وله ألفاظ (1) منها في الصحيح (2) وغيره بلفظ: " فإن تلقاه إنسان فابتاعه فصاحب السلعة فيها بالخيار، إذا وردت السوق " ولا ريب أن العلة في الخيار إذ ذاك هي أنه قد وقع عليه الغرر قبل ورود السوق، فباع بثمن دون الذي يباع به في السوق، فأثبت له الخيار ليبيعها بالثمن الذي يدفع فيها في السوق.
الدليل الرابع: دليل خيار المجلس، وله طرق، وألفاظ، منها في الصحيحين (3) بلفظ:
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2158) وطرفاه رقم (2163، 2274) ومسلم في صحيحه رقم (19/ 1521)، وأبو داود رقم (3439) والنسائي رقم (4500) وابن ماجه رقم (2177) عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد " قلت لابن عباس: ما قوله: " ولا يبع حاضر لباد "؟ قال: لا يكون له سمسارا.
- وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2166، 2167) ومسلم رقم (1517) وأبو داود رقم (3436) والنسائي رقم (4498، 4499) وابن ماجه رقم (2179) عن ابن عمر: " كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام، فنهانا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيعه حتى يبلغ به سوق الطعام ".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2167) عن ابن عمر: " كانوا يبتاعون الطعام في أعلى السوق فيبيعونه في مكانه، فنهاهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه ".
(2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (16، 17/ 1519) وأبو داود رقم (3437) والترمذي رقم (1221) وقال: هذا حديث حسن غريب. وابن ماجه رقم (2178) والبيهقي (5/ 348) وأحمد (2/ 284، 403) والدارمي (2/ 255).
(3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2107) وأطرافه رقم (2109، 2111، 2112، 2113، 2116) ومسلم في صحيحه رقم (1531) وأبو داود رقم (3454، 3455) والترمذي رقم (1245) والنسائي (7/ 248، 249) وابن ماجه رقم (2181) وابن الجارود (2/ 191 رقم 617، 6618) والبيهقي (5 268، 272)، عن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع ".
وأخرج أبو داود رقم (3456) والترمذي رقم (1247) والنسائي رقم (4483) وأحمد (2 183) والدارقطني (3 رقم 207) وابن الجارود في " المنتقى " (2/ 196 رقم 620) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله ".
وهو حديث حسن.(7/3530)
" البيعان بالخيار ما لم يتفرقا "، وفي لفظ " حتى يفترقا "، وفي لفظ فيهما: " المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا إلا بيع الخيار "، فأثبت - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الخيار قبل التفرق؛ لأنه مظنة التأمل والتدبر للمبيع، وعدم الإحاطة بجميع أوصافه، والجهل لشيء منها فهو قبل التفرق إذا وجد ما لا يرتضيه كان له أن يفسخ به؛ لأنه إذ ذاك واقع في الغرر بالعقد الذي عقده قبل الاطلاع على هذا الأمر الذي كان سببا للفسخ، فهو قبل التفرق متمكن من التخلص من عهدة العقد، وقادر على الخروج مما دخل فيه من الغرر، فإذا فارق المجلس فقد اختار المبيع وفرغ من تدبر أوصافه، ورضي بما رآه (1).
_________
(1) آراء الفقهاء في خيار المجلس:
الأول: ثبوته وهو لجماعة من الصحابة، منهم علي وابن عباس وابن عمر. وإليه ذهب أكثر التابعين والشافعي وأحمد وإسحاق، والإمام يحيى، قالوا: والتفرق الذي يبطل به الخيار ما يسمى عادة تفرقا، ففي المنزل الصغير بخروج أحدهما، وفي الكبير بالتحول من مجلسه إلى آخر بخطوتين أو ثلاث، ودل على أن هذا تفرق فعل ابن عمر المعروف، فإن قاما معا وذهبا معا فالخيار باق، وهذا دليله هذا الحديث المتفق عليه.
انظر: " المحلى " (8/ 354)، " المجموع " (9/ 184)، " فتح الباري " (4/ 330).
الثاني: للهادوية والحنفية ومالك والإمامية أنه لا يثبت خيار المجلس بل متى تفرق المتبايعان بالقول فلا خيار إلا ما شرط، مستدلين بقوله تعالى: {تجارة عن تراض} [النساء: 29]. وبقوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة: 282}. قالوا: والإشهاد إن وقع بعد التفرق لم يطابق الأمر، وإن وقع قبله لم يصادف محله، وحديث: " إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع " - وهو حديث صحيح أخرجه أبو داود رقم (3511) والترمذي رقم (1270) والنسائي رقم (4648) وابن ماجه رقم (2186) وأحمد (1/ 466) من حديث ابن مسعود - ولم يفصل، وأجيب بأن الآية مطلقة قيدت بالحديث، وكخيار الشرط، وكذلك الحديث وآية الإشهاد يراد بهما عند العقد ولا ينافيه ثبوت خيار المجلس كما لا ينافيه سائر الخيارات.
وانظر مزيد تفصيل " فتح الباري " (4/ 327)، " المجموع " (9/ 184)، " المغني " (6/ 10 - 14).(7/3531)
الدليل الخامس: دليل خيار العيب، وهو ما أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والترمذي وصححه، وأيضا صححه ابن حبان، وابن الجارود، والحاكم، وابن القطان. واختلفت الرواية عن ابن خزيمة في تصحيحهم، وله ألفاظ: منها أن رجلا ابتاع غلاما فاستغله، ثم وجد عيبا فرده بالعيب، فقال البائع: غلة عبدي، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " الغلة بالضمان " (1)، وفي لفظ " قضى أن الخراج بالضامن " (2)، فأثبت للمشتري الفسخ؛ لأنه لما وجد العيب كان عقده
_________
(1) أخرجه أحمد (6/ 80، 116) وأبو داود رقم (1310) وابن ماجه رقم (2243) وابن الجارود رقم (626) والدارقطني (3/ 53 رقم 213) والحاكم (2/ 15) والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (4/ 21 - 22). وهو حديث حسن.
(2) أخرجه أبو داود رقم (3508) وأحمد (6 49، 80، 161، 208) والترمذي رقم (1285، 1286) وابن ماجه رقم (2242) وابن الجارود في المنتقى (2/ 199 رقم 626) وابن حبان في صحيحه (1/ 483 رقم 1125، 1126 - موارد) والدارقطني رقم (214) والبيهقي (5/ 321) والطيالسي (ص 206 رقم 1464) والشافعي (2/ 143 رقم 479 - ترتيب المسند) والبغوي (8/ 162 رقم 2118، 2119).
قال الترمذي في " السنن " (3/ 583): استغرب محمد بن إسماعيل - البخاري - هذا الحديث من حديث عمر بن علي. قلت: تراه تدليسا؟ قال: لا ".
قلت: ومداره ليس على عمر بن علي، بل رواه غيره كما أخرجه الترمذي نفسه رقم (1285) فالقول بأن البخاري ضعفه ليس على إطلاقه.
قال أبو داود في سننه (3/ 780): " هذا إسناد ليس بذاك ".
قلت: في إسناده مسلم بن خالد الزنجي، ضعفه الذهبي في " الميزان " (4/ 102) لكنه قد توبع، تابعه خالد بن مهران وعمر بن علي المقدمي، كما بينه محقق " المنتقى " (2/ 199) وتابع شيخهم - هشام بن عروة عن أبيه - مخلد بن خفاف، كما أخرجه أبو داود رقم (3508) والترمذي رقم (1285) والنسائي رقم (4490) وغيرهم. ومخلد وثقه ابن حبان وابن وضاح، وقال البخاري: فيه نظر.
انظر: ترجمته في " الميزان " (4/ 82) و" التهذيب " (10 67) فمثله يقبل حديثه في المتابعات.
وهو حديث صحيح لغيره.(7/3532)
الواقع على العبد مع جهل هذا العيب من الغرر، وهذا ظاهر لا سترة به (1).
الدليل السادس: دليل خيار الرؤية، وهو حديث: " من اشترى ما لم يره فله الخيار إذا رآه " أخرجه الدارقطني (2) والبيهقي (3) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده (4) من لا تقوم به الحجة، وله شواهد (5) غير خالية عن المقال، فأثبت الخيار لمن اشترى ما لم
_________
(1) انظر: " المغني " (6/ 242).
(2) في " السنن " (3/ 4 رقم 10) وقال: " عمر بن إبراهيم يقال له الكردي، يضع الأحاديث. وهذا باطل لا يصح، لم يروها غيره إنما يروي عن ابن سيرين موقوفا من قوله ".
ثم نقل الآبادي في " التعليق المغني " قول ابن القطان: " والراوي عن الكردي، داهر بن نوح، وهو لايعرف ".
(3) في " السنن الكبرى " (5/ 268).
(4) وفي سنده عمر بن إبراهيم الكردي، قال الذهبي في " المغني " (2/ 462 رقم 4418): " كذاب ".
وقال عنه الخطيب في تاريخه (11/ 202): " كان غير ثقة، يروي المناكير عن الأثبات ".
انظر: " الميزان " (3/ 179 رقم 6044).
(5) منها ما أخرجه الدارقطني في " السنن " (3/ 4 رقم 8) والبيهقي في " السنن الكبرى " (5/ 268) وقال: هذا مرسل وأبو بكر بن أبي مريم ضعيف، قاله لي أبو بكر بن الحارث وغيره. عن الإمام الدارقطني الحافظ رحمه الله. عن مكحول مرسلا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي إسناده أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف لا تقوم به الحجة.
انظر: " الميزان " (4/ 497 رقم 10006) فقد ضعفه أحمد وغيره لكثرة ما يغلط، وكان أحد أوعية العلم.
وقال ابن حبان: رديء الحفظ، ولا يحتج به إذا انفرد.
وقال ابن عدي: أحاديثه صالحة.
ولكن الخيار في الغالب يمكن الاستدلال عليه بأحاديث النهي عن الغرر، فإن ما لم يقف الإنسان على حقيقته لا يخلو عن نوع غرر سواء كان بعناية البائع أم لا.
انظر: " المغني " (6/ 33 - 36).(7/3533)
يره إذ رآه؛ لأنه أوقع العقد على ما لا يعلمه، وذلك غرر بلا شك ك.
فهذا ما أمكن استحضاره عند تحرير هذا الجواب من الأدلة الدالة على ثبوت الخيار. وقد أوضحنا أن العلة في جميع ذلك هو الغرر كما تقتضيه مسالك العلة (1) المدونة في
_________
(1) العلة ركن من أركان القياس فلا يصح بدونها لأنها الجامعة بين الأصل والفرع - وهي في اللغة اسم لما يتغير الشيء بحصوله أخذا من العلة التي هي المرض لأن تأثيرها في الحكم كتأثير العلة في ذات المريض، يقال: اعتل فلان: إذا مال عن الصحة إلى السقم، وقيل: إنها مأخوذة من بعد النهل، وهو معاودة الشرب مرة بعد مرة لأن المجتهد في استخراجها يعاود النظر مرة بعد مرة.
انظر: " القاموس " (ص 1338) و" لسان العرب " (9/ 365).
وأما في الاصطلاح فاختلفوا فيها على أقوال:
1 - أنها المعرفة للحكم بأن جعلت علما على الحكم إن وجد المعنى وجد الحكم، قاله الصيرفي وأبو زيد من الحنفية.
انظر: " البحر المحيط " (5/ 112).
2 - أنها الموجبة للحكم بذاتها لا بجعل الله، وهو قول المعتزلة بناء على قاعدتهم في التحسين والتقبيح العقليين، والعلة وصف ذاتي لا يتوقف على جعل جاعل.
انظر: " المحصول " (5/ 135).
3 - أنها الموجبة للحكم عن معنى أن الشارع جعلها موجبة لذاتها وبه قال الغزالي وسليم الرازي.
انظر: " الإبهاج " (2/ 40).
4 - أنها الموجبة بالعادة، واختاره الفخر الرازي.
انظر: " البحر المحيط " (5/ 113).
5 - أنها الباعث على التشريع بمعنى أنه لا بد أن يكون الوصف مشتملا على مصلحة صالحة لأن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم.
6 - أنها التي يعلم الله صلاح المتعبدين بالحكم لأجلها وهو اختيار الرازي وابن الحاجب.
انظر: مختصر ابن الحاجب (2/ 209).
7 - أنها المعنى الذي كان الحكم على ما كان عليه لأجلها، وللعلة أسماء تختلف باختلاف الاصطلاحات، فيقال لها: السبب، والأمارة، والداعي، والمستدعي، والباعث، والحامل، والمناط، والدليل، والمقتضي، والموجب، والمؤثر.
شروط العلة:
1 - أن تكون مؤثرة في الحكم فإن لم تؤثر فيه لم يجز أن تكون علة.
وقيل: معنى كون العلة مؤثرة في الحكم هو أن يغلب على ظن المجتهد أن الحكم حاصل عند ثبوتها لأجلها دون شيء سواها.
2 - أن تكون وصفا ضابطا بأن يكون تأثيرها لحكمة مقصودة للشارع لا حكمية مجردة لخفائها فلا يظهر إلحاق غيرها بها.
3 - أن تكون ظاهرة جلية وإلا لم يمكن إثبات الحكم بها في الفرع على تقدير أن تكون أخفى منه أو مساوية له في الخفاء، كذا ذكره الآمدي في جدله. "
البحر المحيط " (5/ 134)، " إرشاد الفحول " (ص 688).
4 - أن تكون سالمة بحيث لا يردها نص ولا إجماع.
مثاله: أن يقول: أنا مسافر مثلا فلا تجب عليه الصلاة في السفر، قياسا على صومه في عدم الوجوب بالسفر بجامع المشقة.
فيقال: هذه العلة مخالفة للإجماع على عدم اعتبار المشقة في الصلاة ووجوب إدائها على المسافر مع وجود مشقة السفر.
" الكوكب المنير " (4/ 86)، " إرشاد الفحول " (ص 688).
5 - أن لا يعارضها من العلل ما هو أقوى منها.
6 - أن تكون مفردة: أي كلما وجدت وجد الحكم لتسلم من النقص والكسر، فإن عارضها نقص أو كسر بطلت.
انظر تفصيل ذلك في " إرشاد الفحول " (ص 689)، " الكوكب المنير " (4/ 57).
7 - أن لا تكون عدما في الحكم الثبوتي. أي لا يعلل الحكم الوجودي بالوصف العدمي.
8 - أن لا تكون العلة المتعدية هي المحل أو جزء منه؛ لأن ذلك يمنع من تعديتها.
9 - أن ينتفي الحكم بانتفاء العلة والمراد انتفاء العلم أو الظن به، إذ لا يلزم عن عدم الدليل عدم المدلول.
10 - أن تكون أوصافها مسلمة أو مدلولا عليها، كذا قال الأستاذ أبو منصور.
11 - أن لا تكون موجبة للفرع حكما وللأصل حكما آخر غيره.
12 - أن لا توجب ضدين لأنها حينئذ تكون شاهدة لحكمين متضادين، قاله الأستاذ أبو منصور.
13 - أن لا يتأخر ثبوتها عن ثبوت حكم الأصل خلافا لقوم.
14 - أن يكون الأصل المقيس عليه معللا بالعلة التي يعلق عليها الحكم في الفرع بنص أو إجماع.
15 - أن يكون الوصف معينا لأن رد الفرع إليها لا يصح إلا بهذه الواسطة.
16 - أن يكون طريق إثباتها شرعيا كالحكم.
17 - أن لا يكون وصفا مقدرا.
انظر تفصيل ذلك: " البحر المحيط "، " تنقيح الفصول " (ص 410 - 411).
18 - إذا كانت مستنبطة فالشرط أن لا ترجع على الأصل بإبطاله أو إبطال بعضه لئلا يفضي إلى ترك الراجح إلى المرجوح.
19 - إن كانت مستنبطة فالشرط أن لا تعارض بمعارض مناف موجود في الأصل.
20 - إن كانت مستنبطة فالشرط أن تتضمن زيادة على النص أي حكما غير ما أثبته النص.
21 - أن لا تكون معارضة لعلة أخرى تقتضي نقيض حكمها.
22 - إذا كان الأصل فيه شرط فلا يجوز أن تكون العلة موجبة لإزالة ذلك الشرط.
23 - أن لا يكون الدليل الدال عليها متناولا لحكم الفرع لا بعمومه ولا بخصوصه للاستغناء حينئذ عن القياس.
24 - أن لا تكون مؤيدة لقياس أصل منصوص عليه بالإثبات على أصل منصوص عليه بالنفي.
انظر: " البحر المحيط " (5/ 157)، " الكوكب المنير " (4/ 53)، " الإبهاج " (3/ 93).(7/3534)
الأصول، وكذلك أوضحنا فيما سلف من أنواع الخيارات المدونة في كتب الفقه أن العلة هو الغرر كما تقتضيه أيضًا مسالك العلة (1) العشرة المقررة في علم الأصول
_________
(1) قد اختلفوا في عدد هذه المسالك. فقال الرازي في " المحصول " (5/ 137) عشرة [النص والإيماء والإجماع والمناسبة والدوران والسبر والتقسيم والشبه والطرد، وتنقيح المناط].
المسلك الأول: الإجماع، وهو نوعان إجماع على علة معينة كتعليل ولاية المال بالصغر، وإجماع على أصل التعليل وإن اختلفوا في عين العلة كإجماع السلف على أن الربا في الأصناف الأربعة معلل وإن اختلفا في العلة ماذا هي؟.
المسلك الثاني: النص على العلة: قال في " المحصول " (5/ 139): ونعني بالنص ما يكون دلالته على العلة ظاهرة سواء كانت قاطعة أو محتملة، أما القاطع فما يكون صريحا وهو قولنا: لعلة كذا، أو لسبب كذا، أو لمؤثر كذا، أو لموجب كذا، أو لأجل كذا، قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32].
وأما الذي لا يكون قاطعا فثلاثة: (اللام، وإن، والباء).
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنها من الطوافين ".
وأما الباء: فكقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13].
انظر مزيد تفصيل: " المسودة " (ص 438)، " الكوكب المنير " (4/ 117).
المسلك الثالث: الإيماء والتنبيه، وضابط الاقتران بوصف لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان بعيدا فيحمل على التعليل دفعا للاستبعاد وحاصله أن ذكره يمتنع أن يكون لا لفائدة لأنه عبث فيتعين أن يكون لفائدة وهي إما كونه علة أو جزء علة أو شرطا وإلا ظهر كونه على لأنه الأكثر في تصرفات الشرع، وهو أنواع:
1 - تعليق الحكم على العلة بالفاء وهو على وجهين:
أحدهما: أن تدخل الفاء على العلة ويكون الحكم متقدما كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المحرم الذي وقصته الناقة: " فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا " - وهو حديث صحيح.
ثانيهما: أن تدخل الفاء على الحكم وتكون العلة متقدمة وذلك على وجهين:
أحدهما: أن تكون الفاء دخلت على كلام الشارع مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]. {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6].
ثانيهما: أن تدخل على رواية الراوي كقوله: سها رسول الله فسجد، وزنى ماعز فرجم.
2 - أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا لو لم يكن علة لعري عن الفائدة. إما مع سؤال في محله أو سؤال في نظيره.
الأول: كقول الأعرابي: واقعت أهلي في رمضان، فقال: " أعتق رقبة " يدل على أن الوقاع علة للإعتاق والسؤال مقدر في الجواب كأنه إذا وقاعت فكفر.
الثاني: كقوله وقد سألته الخثعمية: إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج أفينفعه إن حججت عنه؟ فقال: أرأيت لو كان على أبيك دين فضيته أكان ينفعه؟ قالت: نعم ... ".
3 - أن يفرق بين حكمين لوصف، نحو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: للراجل سهم وللفارس سهمان، فإن ذلك يفيد أن الموجب للاستحقاق لسهم والسهمين هو الوصف المذكور.
4 - أن يذكر عقب الكلام أو في سياقه شيئا لو لم يعلل به الحكم المذكور لم ينتظم الكلام، كقوله تعالى: {وذروا البيع} [الجمعة: 9]، لأن الآية سيقت لبيان وقت الجمعة وأحكامها، فلو لم يعلل النهي عن البيع بكونه مانعا من الصلاة أو شاغلا عن المشي إليها لكان ذكره عبثا لأن البيع لا يمنع منه مطلقا.
5 - ربط الحكم باسم المشتق، فإن تعليق الحكم به مشعر بالعلية نحو: أكرم زيدا العالم فإن ذكر الوصف المشتق مشعر بأن الإكرام لأجل العلم.
6 - ترتب الحكم على الوصف بصيغة الشرط والجزاء، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، أي لأجل تقواه.
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أي لأجل تواكله لأن الجزاء يتعقب الشرط.
7 - تعليل عدم الحكم بوجود المانع منه، كقوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} [الزخرف: 33].
8 - إنكاره سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لفائدة ولا لحكمة بقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115].
9 - إنكاره سبحانه أن يسوى بين المختلفين ويفرق بين المتماثلين.
الأول: كقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35].
الثاني: كقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71].
وانظر مزيد تفصيل " إرشاد الفحول " (ص 709 - 712)، " الكوكب المنير " (4/ 141).
المسلك الرابع: " الاستدلال على علية الحكم بفعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصورته أن يفعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد وقوع شيء فيعلم أن ذلك الفعل إنما كان لأجل ذلك الشيء الذي وقع، كأن يسجد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للسهو فيعلم أن ذلك السجود إنما كان لسهو قد وقع منه
. ". وقد يكون ذلك الفعل من غيره بأمره كرجم ماعز. وكذلك الترك له حكم الفعل كتركه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للطيب والصيد وما يجتنبه المحرم.
المسلك الخامس: السبر والتقسيم وهو في اللغة الاختبار ومنه الميل الذي يختبر به الجرح فإنه يقال له: المسبار، وسمي هذا به لأن المناظر يقسم الصفات ويختبر كل واحدة منها في أنه هل يصلح للغلبة أم لا.
وفي الاصطلاح الحكم هو قسمان: أن يدور بين النفي والإثبات، وهذا هو المنحصر. والثاني: أن لا يكون كذلك وهذا هو المنتشر، فالأول أن تحصر الأوصاف التي يمكن التعليل بها للمقيس عله ثم اختبارها في المقيس وإبطال ما لا يصلح منها بدليله. وذلك الإبطال إما بكونه ملغى أو وصفا طرديا أو يكون فيه نقض أو كسر أو خفاء أو اضطراب فيتعين الباقي للعلية.
انظر: " البحر المحيط " (5/ 222)، " الكوكب المنير " (4/ 46).
وأما القسم الثاني: المنتشر، وذلك بأن لا يدور بين النفي والإثبات أو دار ولكن كان الدليل على نفي علية ما عدا الوصف المعين فيه ظنيا واختلفوا في ذلك على مذاهب:
1 - أنه حجة في العمليات فقط؛ لأنه يحصل غلبة الظن.
2 - أنه حجة للناظر دون المناظر.
انظر تفصيل ذلك في " الإحكام " للآمدي (3/ 291).
المسلك السادس: المناسبة ويعبر عنها بالإحالة وبالمصلحة وبالاستدلال وبرعاية المقاصد ويسمى استخراجها تخريج المناط وهي عمدة كتاب القياس ومحل غموضه ووضوحه.
ومعنى المناسبة هو تعين العلة بمجرد إبداء المناسبة مع السلامة عن القوادح لا بنص ولا غيره.
والمناسبة في اللغة الملائمة، والمناسب الملائم، قال الرازي في " المحصول " (5 157): الناس ذكروا في تعريف المناسب شيئين:
الأول: أنه المفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيرا وإبقاء، وقد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة وعن الإبقاء بدفع المضرة.
ثم هذا التحصيل والإبقاء قد يكون معلوما وقد يكون مظنونا، وعلى التقديرين فإما أن يكون دينيا أو دنيويا ... .
الثاني: أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات فإنه يقال: هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة في الجمع بينهما في سلك واحد متلائم.
المسلك السابع: الشبه ويسميه بعض الفقهاء الاستدلال بالشيء على مثله وهو عام أريد به خاص.
إذ الشبه يطلق على جميع أنواع القياس لأن كل قياس لا بد فيه من كون الفرع شبيها بالأصل بجامع بينهما وهو من أهم ما يجب الاعتناء به.
وقد اختلفوا في تعريفه: فقال إمام الحرمين في " البرهان " (2/ 859): لا يمكن تحديده، وقال غيره: يمكن تحديده.
وقيل: هو الجمع بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على الحكمة المقتضية للحكم من غير تعيين. كقول الشافعي في النية في الوضوء والتيمم: طهارتان فأنى تفترقان.
انظر: " البحر المحيط " (2/ 859)، " المحصول " للرازي (5/ 201 - 203)، " المستصفى " للغزالي (3/ 641 - 642).
المسلك الثامن: الطرد.
قال الرازي في " المحصول ": والمراد منه الوصف الذي لم يكن مناسبا ولا مستلزما للمناسب إذا كان الحكم حاصلا مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع وهذا المراد من الاطراد والجريان. وهو قول كثير من فقهائنا.
" المحصول " (5/ 222)، " البحر المحيط " (5/ 250).
المسلك التاسع: الدوران. وهو أن يوجد الحكم عند وجود الوصف ويرتفع بارتفاعه في صورة واحدة كالتحريم مع السكر في العصير فإنه لما لم يكن سكرا لم يكن حراما فلما حدث السكر فيه وجدت الحرمة. ثم لما زال السكر بصيرورته خلا زال التحريم فدل على أن العلة السكر.
" الكوكب المنير " (4/ 193)، " المسودة " (ص 406).
المسلك العاشر: تنقيح المناط. التنقيح في اللغة: التهذيب والتمييز، ويقال: كلام منقح أي لا حشو فيه.
المناط: وهو مفعل من ناط نياطا أي علق، فهو ما نيط به الحكم، أي علق به وهو العلة اتي رتب عليها الحكم في الأصل.
" الصحاح " (3/ 1165)، " لسان العرب " (14/ 330).
ومعنى تنقيح المناط عند الأصوليين إلحاق الفرع بالأصل بإلغاء الفارق بأن يقال لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وذلك لا مدخل له في الحكم البتة فيلزم اشتراكهما في الحكم لاشتراكهما الموجب له. كقياس الأمة على العبد في السراية فإنه لا فارق بينهما إلا الذكورة وهو ملغى بالإجماع.
المسلك الحادي عشر: تحقيق المناط وهو أن يقع الاتفاق على علية وصف لنص إجماع فيجتهد في وجودها في صورة النزاع، كتحقيق أن النباش سارق وسمي تحقيق المناط لأن المناط وهو الوصف علم أنه المناط وبقي النظر في تحقق وجوده في الصورة المعينة. قال الغزالي في " المستصفى " (3/ 484) وهذا النوع من الاجتهاد لا خلاف فيه بين الأمة.
وانظر: " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (19/ 17 - 18). " البحر المحيط " (5/ 257)، " جمع الجوامع " (2/ 341).(7/3536)
وإذا تقرر هذا علم السائل - كثر الله فوائده - أن خيار المعاينة الذي وقع السؤال عنه هو لاحق بخيار الغرر، وله حكمه إجمالا وتفصيلا، لأن خيار الغرر هو الأصل الذي رجعت إليه أنواع الخيارات، كما أسلفنا.
وأما القول بأنه كخيار الإجازة فلا أدري بأي مسلك من المسالك المقبولة ثبت ذلك، فإن إلحاق الشيء بالشيء لا بد فيه من وجود الأركان الأربعة (1)، أي: الأصل بعد ثبوت كونه أصلا بالبرهان، والفرع بعد ثبوت كونه فرعا بالبرهان، والعلة بعد ثبوت كونها علة بمسلك مقبول، والحكم الذي هو ثمرة الإلحاق وفائدته، ومن قام في مقام منع كون خيار الإجازة أصلا، وخيار المغابنة فرعا، فقد قام مقاما لا يزحزحه عنه إلا البرهان المقبول. هذا على فرض عدم وجود الفارق، فكيف والفارق ها هنا موجود! فإنه ناجز يترتب عليه أحكامه.
وإذا تقرر ما قدمنا من إلحاق خيار المغابنة بخيار الغرر للعلة الجامعة بينهما، فقد حكم الشارع في خيار الغرر في المصراة (2) بأنه يرد المشتري قيمة ما استهلكه من درها، فليثبت
_________
(1) أي أركان القياس.
انظر تفصيل ذلك: " البحر المحيط " (5/ 74)، " الكوكب المنير " (4/ 12)، " المسودة " (ص 425)، " تيسير التحرير " (3/ 272).
(2) تقدم تخريجه.(7/3541)
مثل ذلك في الفرع، وهو سائر الخيارات، فمن فسخ ما اشتراه بنوع من أنواع الخيارات كان عليه إرجاع ما هو باق لديه من فوائده، وضمان قيمة ما استهلكه كما يقتضيه القياس الصحيح بالجامع الذي كررنا ذكره.
فإن قلت: لا عموم في حديث المصراة، حتى يستدل به على سائر أنواع الخيارات.
قلت: الأمر كذلك، ولم ندع أنه عام، بل قلنا: إنه حكم الأصل، فكان للفرع مثله، ولو كان الدليل عاما لم يحتج إلى القياس لشموله للفرع بنفسه من دون واسطة فيكون هذا الحكم الثابت في المصراة ثابتا في جميع الفروع، وهي سائر الخيارات إلا ما دل الدليل على أن لفوائده حكما غير حكم الأصل، وهو خيار العيب، فإن الشارع قد أثبت فيه أن الخراج بالضمان فيكون ذلك خاصا به، لأنه فرع من فروع الغرر، فلا يرد إليه ما هو مماثل له في الفرعية، بل يرد إلى الأصل الجامع، ويثبت له حكمه، ويكون ذلك الفرع الذي ورد في فوائده دليل يخصه خارجا عن حكم الأصل في مورد الدليل، لأن القياس حينئذ يكون مصادما للنص، وهو فاسد الاعتبار، ولا يوجب هذا الدليل الوارد في بعض تفاصيل فرع من الفروع أن يكون ذلك الفرع خارجا عن كونه فرعا في غير مورد الدليل، فتحرر من هذا أن الفوائد في كل نوع من أنواع الخيار بكون للبائع من غير فرق بين الأصلية والفرعية، فما كان منها باقيا رجع بعينه (1)، وما كان تالفا فقيمته.
والتقدير بالمدة من ثلاثة أيام أو غيرها يرجع المجتهد فيه إلى اجتهاده (2).
_________
(1) انظر: " المغني " (6/ 217 - 220).
(2) قال ابن قدامة في " المغني " (6/ 220): قالوا: فهذه الثلاثة قدرها الشارع لمعرفة التصرية فإنها لا تعرف قبل مضيها؛ لأنها في اليوم الأول لبنها لبن التصرية، وفي الثاني يجوز أن يكون لبنها قد نقص، لتغير المكان واختلاف العلف، وكذلك في الثالث. فإذا مضت الثلاثة استبانت التصرية وثبت الخيار على الفور. ولا يثبت بعد انقضائها. وقال أبو الخطاب: عندي متى ثبتت التصرية، جاز له الرد، قبل الثلاثة وبعدها؛ لأنه تدليس يثبت الخيار، فملك الرد به إذا تبينه، كسائر التدليس. فعلى هذا يكون فائدة التقدير في الخبر بالثلاثة؛ لأن الظاهر أنه لا يحصل العلم إلا بها، فاعتبرها لحصول العلم ظاهرا، فإن حصل العلم بها، أو لم يحصل بها فالاعتبار به دونها، كما في سائر التدليس. وظاهر قول ابن أبي موسى أنه متى علم التصرية، ثبت له الخيار في الأيام الثلاثة إلى تمامها.
وهو قول ابن المنذر وأبي حامد من أصحاب الشافعي، وحكاه الشافعي نصا لظاهر حديث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه يقتضي ثبوت الخيار في الأيام الثلاثة كلها، وعلى قول القاضي لا يثبت الخيار في شيء منها، وإنما يثبت عقبها، قول أبي الخطاب يسوي بين الأيام وبين غيرها، والعمل بالخبر أولى والقياس ما قال أبو الخطاب لأن الحكم كذلك في العيوب وسائر التدليس.(7/3542)
فإن قلت: إذا كان الأمر كما ذكرته من أن العلة الغرر في كل نوع من أنواع الخيارات، فهل يثبت خيار المعاينة لغير صبي، ومن له حكمه، ومتصرف عن الغير؟.
قلت: نعم، يثبت كما ثبت خيار الغرر في المصراة لكل متصرف عن نفسه، أو عن غيره (1)، وكما ثبت لرب السلعة في تلقي الجلب الخيار إذا وصل السوق، سواء كان متصرفا عن نفسه بعد تكليفه أو عن غيره، وليس في حديث حبان بن منقذ ما ينفي ثبوت الخيار لغير من كان مماثلا له في نقص العقل، بل غاية ما هناك أنه أثبت الخيار لرجل يخدع في البيوع، غير كامل الرجولية، وثبت الخيار لغيره من المتصرفين عن أنفسهم، أو عن غيرهم بدليل الأصل، وهو حديث المصراة، وبما ثبت في خيار تلقي الجلب بعلة الغرر، وليس في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لحبان: " فقل: لا خلابة " (2) ما يخالف ما قررنا، أو ما يقتضي أنه لا يثبت الخيار إلا بهذه المقالة؛ لأن الباعث على تلقينه لذلك يحتمل أن يكون هو إرادة الإشعار لمن يبايعه من أول الأمر بأن حبان رجل يخدع فلا يخادعه من يعامله مع أن هذا الأمر، أعني: عدم الخدع، هو شأن كل معاملة يتعاملها أهل الإسلام.
_________
(1) انظر: " المغني " (2/ 246 - 247).
(2) تقدم تخريجه.(7/3543)
أخرج ابن ماجه (1) والترمذي (2) وحسنه (3)، والبخاري (4) تعليقا، والبيهقي (5) عن العداء بن خالد قال: كتب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كتابا: " هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله، اشترى منه عبدا أو أمة لأداء (6) ولا غايلة (7)، ولا خبثة (8)، بيع المسلم للمسلم ".
وأخرج ابن ماجه (9) من حديث عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: " المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع بيعا من أخيه وفيه عيب إلا بينه ".
وأخرج أحمد (10) من حديث واثلة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا يحل لأحد يبيع شيئا إلا بين ما فيه، ولا يحل لأحد يعلم ذلك إلا بينه ".
_________
(1) في " السنن " رقم (2251).
(2) في " السنن " رقم (1216).
(3) في " السنن " (3/ 520) وقال حديث حسن غريب.
(4) في صحيحه (4/ 309).
(5) في " السنن الكبرى " (5/ 328) وهو حديث حسن.
(6) لأداء: الداء المرض والعاهة.
(7) لا غائلة: الغائلة: الخصلة التي تغول المال، أي تهلكه من إباق وغيره.
(8) ولا خبثة: والخبثة: نوع من أنواع الخبيث. أراد به الحرام.
(9) في " السنن " رقم (2246).
قلت: وأخرجه الحاكم في " المستدرك " (2/ 8) وصححه ووافقه الذهبي. وقد حسن ابن حجر إسناده في " الفتح " (4 311). وهو حديث صحيح.
(10) في " المسند " (4/ 491).
قلت: وأخرجه ابن ماجه في " السنن " رقم (2247) والحاكم في " المستدرك " (2/ 9 - 10) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.(7/3544)
وفي إسناده أبو جعفر الرازي (1)، مختلف فيه، عن أبي سباع، مجهول.
وأخرج مسلم (2)، وأحمد (3)، وأهل السنن (4) من حديث أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مر برجل يبيع طعاما، فأدخل يده فيه، فإذا هو مبلول، فقال: " من غشنا فليس منا " فكل بيع في الإسلام هو مشروط بمثل ما قاله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لحبان بن منقذ (5)، ولا فرق بينه وبين غيره في ذلك.
فإن قلت: إذا كان خيار المغابنة ثابتا لمن تصرف من المكلفين عن نفسه، أو عن غيره، فكيف الجواب عن حديث جابر الثابت في صحيح مسلم (6) بلفظ: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعضهم ".
قلت: الجواب عن ذلك بأنه لا منافاة بينه وبين ثبوت الخيار لهذا البادي إذا عرف بعد ذلك أنه مغبون، وغاية ما في هذا الحديث النهي للحاضر أن يبيع للبادي؛ لأن البادي ربما باع برخص، إما لكون الغالب (7) على أهل البادية السماحة وعدم المماحكة في ثمن ما يجلبونه، فإذا باعوا ما يجلبونه بأنفسهم رزق الله المشتري منهم بما يتحصل له من
_________
(1) انظر: " تلخيص الحبير " (3/ 53).
(2) في صحيحه رقم (102).
(3) في المسند (2/ 242).
(4) أبو داود في " السنن " رقم (3452) والترمذي رقم (1315) وابن ماجه رقم (2224). وهو حديث صحيح وقد تقدم.
(5) تقدم آنفا.
(6) رقم (1522).
قلت: وأخرجه أحمد (2/ 307) والترمذي رقم (1223) والنسائي (7/ 256) وابن ماجه رقم (2176). وهو حديث صحيح.
(7) انظر: " المفهم " (4/ 367 - 368).(7/3545)
الرخص المستلزم لانحطاط الثمن، أو لأنهم يجهلون السعر الذي يبتدعه أهل الحضر فيبيعون بخص طيبة بذلك أنفسهم، غير ملتفتين إلى القوانين المعروفة في الحضر. وعلى تقدير أنهم باعوا برخص جاهلين للغلا، ولو علموا به لم تطب أنفسهم بذلك، فهذا نوع من الغرر إذا طلبوا الفسخ به كان لهم ذلك. فالحاصل أن بيع البادي قد يحصل له الرزق للمشتري منه على هذه الاحتمالات، ولا ينافيه ثبوت الخيار على تقدير من تلك التقادير، فتدبر هذا الإجازة.
وأما ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده - إذا كان المبيع الذي وقعت فيه المغابنة قد زاد أو نقص.
فأقول: قد تقدم الدليل على ثبوت الرد للعين المغبونة، فإذا ذهب بعضها، وبقي البعض، فهذا الحكم الذي أثبته الشارع للكل هو ثابت لذلك البعض، بنفس ذلك الدليل، ومن ادعى أن تلف البعض يمنع من ثبوت حكم الكل له فعليه الدليل، ولا أعلم هاهنا دليلا يدل على اختصاص الرد بالكل لا بالبعض، والأصل عدم وجود المانع حتى يقيم مدعيه البرهان عليه، وهذه الأمور معلومة من قواعد الشريعة.
وقد تكلم أئمة الفروع - رحمهم الله - في هذه المادة بتفاصيل، وجمل معلومة عند من يعلمها، ولكن فرض المجتهد أن يمشي مع الدليل على مقتضى قواعد علوم الاجتهاد. ويكون ما ذكرناه من رد البعض بحصته من الثمن بالنسبة إلى الكل (1). وما أشار إليه السائل - كثر الله فوائده - من صنيع كثير من الحكام أنهم يأمرون بتقويم المبيع الذي وقع فيه الغبن، ويلزمون المشتري ما نقص عن القيمة، فهذا إن تراضيا عليه الخصمان، فهو أقل مؤونة، وأقرب مسافة، والتراضي هو المناط الأكبر في تحليل أموال العباد، وأما إذا وقف الخصمان على مر الحق، وطلبا من الحاكم أن يقضي بينهما به، فلا يجوز له أن يسلك هذا المسلك، ويصنع هذا الصنع، فإنه خلاف المسلك الشرعي
_________
(1) انظر: " المغني " (6/ 223 - 225) " الأم " للشافعي (6/ 14 - 15).(7/3546)
بل يقول للمغبون: قد أثبت لك الشرع رد ما غبنت فيه، وأخذ ما دفعته في مقابلته، وخذ إن شئت أو دع.
وأما ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده - من إلزام الخصمين أجرة العدلين.
فأقول: إن كان للتقويم هو المدعي للغبن فلا شك أن أجرة عملهما عليه؛ لأنه الطالب، وخصمه قائم مقام المنع، وليس على من قام مقام المنع من الغبن أن يغرم من ماله للعدول، بل قيامه في هذا المقام يكفيه، سواء ترتب على التقويم ثبوت الغبن أو عدمه، وإن كان الذي أمر بالتقويم هو القاضي توصلا إلى مستند يرفع به الخصومة، ويدفع عن الخصمين معرة طولها المستلزمة لإتعابهما، وذهاب شطر من مالهما، لا سيما إذا وقعا في حاكم حكام السوء المبالغين في تطويل ذيول الخصام للحطام، والمتكالبين على توسيع دائرة الزحام لمباهاة أمثالهم من الحكام، فلا شك ولا ريب أن هذا النظر من ذلك الحاكم من أسد الأنظار وأنفسها، وله أن يوزع ما يلزم للمقومين على الغريمين على ما يرياه أقرب إلى الصواب، وهذه الشريعة الغراء قد شهدت كليات منها وجزئيات بأن جلب المصالح ودفع المفاسد من أهم مقاصدها، وأجل مواردها (1).
وفي هذا المقدار كفاية.
حرره محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - في الثلث الأول من ليلة الجمعة، لعلها ليلة ثلاثين من شهر محرم سنة 1219 هـ.
_________
(1) تقدم مناقشتها.(7/3547)
دفع الاعتراضات على إيضاح الدلالات
تأليف
محمد بن على الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(7/3549)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " دفع الاعتراضات على إيضاح الدلالات ".
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم " الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين بعد: فإني وقفت على ما حرره المولى العلامة شرف الإسلام زين الأعلام الحسن بن يحيى الكبسي كثر الله فوائده ومد على طلاب العلم موائده على رسالتي التي سميتها " إيضاح الدلالات " ... "
4 - آخر الرسالة: "
وتركنا الكلام على ما قرراه لأنفسهما لأن البحث في ذلك يطول جدا.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 15 صفحة + صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 24 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(7/3551)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين.
وبعد:
فإني وقفت على ما حرره المولى شرف الإسلام، زين الأعلام، الحسن بن يحي الكبسي (1) - كثر الله فوائده، ومد على طلاب العلم موائده - على رسالتي التي سميتها " إيضاح الدلالات على إحكام الخيارات " (2) فوجدته - عافاه الله - قد أفاد وأجاد , وجاء بعلوم غزيرة المواد، ولما كان ذلك البحث المشتمل على المناقشة قد تضمن الاستفهام في غضون الكلام استحسنت تحرير هذه الكلمات لتمام الفائدة.
قال - كثر الله فوائده -: وينبغي أن ينظر في حقيقة الغرر لغة ... إلخ.
أقول: تقرر في الأصول وغيرها أن الواجب تفسير ألفاظ الكتاب والسنة على ما تقتضيه لغة العرب، لأنهما وإن كان الخطاب فيهما لكل ما يتعلق به الخطاب من الأمة، لكن لا خلاف أنه للجميع بلسان العرب، لا بلسان غيرهم، ولا بلسانهم مع لسان غيرهم، فإذا نظرنا في لفظ من ألفاظهما وقع فيه النزاع كان الحق بيد من كانت لغة العرب معه، إلا أن يتقرر بنقل صحيح أن لذلك اللفظ معنى شرعيا، فالحقائق الشرعية (3) مقدمة، ولا تلازم بين ما ينقله بعض علماء الشريعة، وينسبه إلى الاصطلاح، وبين المعنى الشرعي؛ فإن المعاني الاصطلاحية هي مما اصطلح عليه أهل الشرع، ولو بعد عصر النبوة بدهر طويل، وهذا معلوم لكل باحث، ومن عرف العلوم الشرعية عرف ما يصطلحون عليه في كل فن من الاصطلاحات الحادثة التي تواضعوا عليها؛ وكذلك من عرف غير
_________
(1) تقدمت ترجمته في الرسالة رقم (110).
(2) وهي الرسالة رقم (110).
(3) تقدم توضيح الحقيقة الشرعية، واللغوية، العرفية.
وانظر: " الإحكام " للآمدي (1/ 53)، " إرشاد الفحول " (ص 107 - 110).(7/3555)
العلوم الشرعية عرف ما لأهلها من الاصطلاحات الدائرة بينهم، وليس ذلك من الحقائق الشرعية التي تحمل عليها خطابات الشرع في ورد ولا صدر.
فالحاصل أنه يجب عند الاختلاف في معنى لفظ من ألفاظ الكتاب والسنة أن يبحث عن كلام أهل اللغة في كتبهم المدونة لهذا الشأن، ويفسر ذلك اللفظ به إذا لم يتقرر بوجه صحيح مقبول أن الشارع قد هجر لغته ولغة العرب الذين قومه في ذلك الفظ بخصوصه، ونقله إلى معنى مشهور معروف عند أهل الشرع، كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج (1)، ونحو ذلك.
إذا عرفت هذا، فاعلم أنه لم يشتهر عند المتشرعين أن للغرر المذكور في أحاديث بيع الغرر معنى شرعيا يخالف المعنى اللغوي، وجميع ما نقله العلامة الشرفي هي معان لغوية لكن منهم من جاء بعبارة عامة بحيث يندرج تحتها جميع أنواع الغرر، وبعضهم اقتصر على بعض من ذلك، فمن الناقلين للمعنى العام القاضي عياض (2) حيث قال: الغرر في اللغة هو ما له ظاهر محبوب، وباطن مكروه. فإن هذا المعنى يشمل كل نوع من أنواع الغرر، وهو مثل ما نقله صاحب النهاية (3) في تفسير الغرر، فإنه قال: هو ما كان له ظاهر يغري المشتري، وباطن مجهول. ونقل عن الأزهري (4) أنه قال: بيع الغرر ما كان على غير عهد ولا ثقة، ويدخل فيه البيوع التي لا تحيط بكنهها المتبايعان من كل مجهول.
انتهى.
وهذا هو المعني الأول في العموم، وهكذا قول القرافي (5) أصل الغرر هو الذي لا
_________
(1) هذه الألفاظ كانت معلومة لهم ومستعملة عندهم في معانيها المعلومة ومعانيها الشرعية ما كانت معلومة لهم. " البحر المحيط " (2/ 158).
(2) ذكر الحافظ في الفتح (4/ 356).
(3) (3/ 355).
(4) في " تهذيب اللغة " (16/ 83 - 84).
(5) انظر "فتح الباري " (4/ 357).
قال الخطابي في " معالم السنن " (3/ 672): أصل الغرر هو ما طوى عنك علمه، وخفي عليك باطنه وسره، وهو مأخوذ من قولك طويت الثوب على غرة أي: على كسر الأول وكل بيع كان المقصود منه مجهولا غير معلوم ومعجوزا عنه غير مقدور عليه فهو غرر، وذلك مثل أن يبيع سمكا في الماء أو طيرا في الهواء، أو لؤلؤة في البحر، أو عبدا آبقا، أو جملا شاردا، أو ثوبا في جراب لم يره، ولم ينشره، أو طعاما في بيت لم يفتحه، أو ولد بهيمة لم يولد، أو ثمرة شجرة لم تثمر في نحوها من الأمور التي لا تعلم ولا يدري هل تكون أم لا فإن البيع فيها مفسوخ.
وإنما نهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه البيوع تحصينا للأموال أن تضيع وقطعا للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها.
وأبواب الغرر كثيرة وجماعها ما دخل في المقصود منه الجهل.(7/3556)
يدري هل يحصل أم لا، فإن هذا المعنى عام كالمعاني المتقدمة، لأنه لما تحصل الدراية كان الباطن مجهولا، والمجهول مكروه لا محبوب.
وأما قوله: كالطير في الهواء (1)، والسمك في الماء. فهذا تمثيل للغرر بعض أنواعه، وليس المثال قيدا كما هو الظاهر في مثل هذه العبارة، وكما تدل عليه كاف التمثيل، فهذا المعنى العام للغرر الذي نقله هؤلاء الأئمة وغيرهم هو الذي أريده، والمصير إليه متحتم، لأن تفسير ذي المعنى العام ببعض أفراده بدون مخصص تحكم، وهذا المعنى هو وصف ظاهر منضبط، وأما مأخذ عليته فبعد تسليم أنه ورد النهي عنه، بل تواتر ذلك تواتر معنويا، لا وجه للتردد في كونه العلة للنهي عن البيع المشتمل عليه، فكل بيع غرر يدخل تحت النهي، فيكون له حكمه، ولا يصح من البيوع المشتملة على
_________
(1) انظر " فتح الباري " (4/ 357). " المفهم " للقرطبي (4/ 362).
وقد أخرج أحمد في مسنده (1/ 388) من حديث ابن مسعود: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر ".
وفى إسناده يزيد بن أبي زياد، وقد رجح البيهقي وقفه.
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (4/ 151) وأبو داود رقم (3376) والترمذي رقم (1230) وابن ماجه رقم (2194) والنسائي (7/ 262رقم 4518) من أبي هريرة قال: " أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع الغرر ".(7/3557)
الغرر إلا ما صححه الشارع، ويكون ذلك مخصصا للنهى العام الدال بحقيقته على التحريم، أو يحمل النهي على ما لا يقتضى البطلان لتصحيح الشارع لبعض أنواعه كما سيأتي.
على أن اعتبار غالب مسالك العلة العشرة (1) هاهنا ممكن، فإنه لو سلك المعتبرة مسلك السبر والتقسيم في بيع المصراة (2)، وبيع السلع قبل ورودها إلى الأسواق، ونحوها لما كانت العلة إلا الغرر، وهكذا لو سلك مسلك تخريج المناط (3)، وإذا كان هذا ظاهرا في بعض أنواع الغرر فقد أوضحنا وجود أصل الغرر في كل نوع من أنواع المبيعات التي ثبت فيها الخيار، إما بمسلك تنقيح المناط، أو بما هو دونه أو فوقه، وليس المعتبر إلا وجود ما يصدق عليه مسمى الغرر العام أما دعوى أنه حكمه مجرد فلعله مترتب على تقرير عدم الانضباط، نظرا إلى الاختلاف الواقع في تفسير الغرر مع أنه لا خلاف كما قدمنا.
قال - كثر الله فوائده -: فإن المشهور أن العلة والسبب في هذا الخيار. ثم قال: وصرح بأنه العلة والسبب النجري ... إلخ.
أقول: هذا لا يصلح للرد على من يبني بحثه على الاجتهاد، فإنه لا يلزمه العمل على المشهور إذا كان الراجح لديه غيره، ولا يتعرض عليه بقول عالم معين، ولا بمذهب الجمهور، وهذا لا يخفى على المعترض - عافاه الله -.
إذا عرفت هذا فاعلم أنا قد أوضحنا معنى الغرر وفقد الصفة التي يعتقدها المشتري يدخل في ذلك أوليا، فإنه قد كان لهذا المبيع عند فقد الصفة باطن مكروه وباطن مجهول لا يحيط بكنهه المشتري، وهذا هو الغرر اللغوي، فهل ورد في اللغة أو الشرع ما يوجب تخصيص هذا المعني أو تقييده بالشرط؟ حتى يلزم المجتهد المصير إليه؟
_________
(1) تقدم ذكرها في الرسالة رقم (110).
(2) تقدم التعريف في الرسالة (110).
(3) تقدم التعريف في الرسالة (110).(7/3558)
إن قلتم: ورد فما هو؟، وإن قلتم: لم يرد ولكنه قال به فلان، أو اشتهر عند الطائفة الفلانية فليس. بمثل هذا يعترض على أبحاث العلم. وأما ما ألزمتم به من أنه يكون ذريعة لكل مشتر إلى ادعاء الفسخ باعتقاده لصفة لم توجد فجوابه أنا قد قيدنا ذلك في تلك الرسالة (1) بقولنا: لكنه قد حصل العلم بأن المشترى كان عند العقد معتقدا لوجودها، فهذا القيد المصرح به يدفع ذلك الإلزام دفعا واضحا لا يخفى.
قال - كثر الله فوائده -: فإن هذا الخيار فعل صاحب المعيار العلة، والسبب فيه هي الجهالة، ولعلة التبس بالغرر.
أقول: قد قررنا أن المعنى اللغوي يقتضي أن يكون الجهل غررا، بل صرح بذلك صاحب النهاية (2)، والأزهري (3)؛فلا التباس. وكلام صاحب المعيار اجتهاد لا نقل عن أئمة اللغة، فليس بحجة على أحد وكذلك من وافقه، بل الحجة الدليل المفسر بلغة العرب.
قال- كثر الله فوائده -: قال البغوي (4):إن الغبن هو فوت الحظ.
أقول: هذا هو المعنى الذي أردناه، فإن فوت الحظ كما يكون بعناية من أحد البائعين كالخداع، ويكون أيضًا بغير عناية منهما، أو من أحدهما، لأنه قد وجد فوت الحظ، ويؤيد هذا الاعتبار ما ورد في البائع لسلعته قبل وصوله إلى السوق، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال فيه: " فصاحب السلعة بالخيار إذا وردت بالسوق " (5)، ولم يقيد هذا الخيار بكونه كان البيع بسبب الخداع ولا بغير ذلك.
قال - كثر الله فوائده - فإن هذا مما اختلط فيه الغرر بالجهل.
_________
(1) الرسالة رقم (110). وانظر: "المغني " (6/ 34 - 35).
(2) (3/ 355).
(3) في " تهذيب اللغة " (16/ 83 - 84).
(4) انظر " شرح السنة " (8/ 123).
(5) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (17/ 1519) وقد تقدم.(7/3559)
أقول: قد قدمنا على أئمة اللغة أن الجهل غرر فلا يرد ما أورده.
قال - كثر الله فوائده -: فقد أناطه الشارع بنحو المصراة (1) فقط.
أقول: ليس المطلوب إلا ذلك، ونحو المصراة هو ما كان مشتملا على نوع غرر؛ إذ ليس المراد بقولنا نحو كذا إلا ما كان مماثلا له في الوصف الذي ذكر لأجله، أو مقاربا له فيه.
قال - كثر الله فوائده -: فإن التكلف في هذا غني عن البيان ... إلخ.
أقول: إذا كان الشراء من فضولي، والمشتري لا يعلم بأنه فضولي، فلا شك ولا ريب أنه قد كان للمبيع ظاهر محبوب، وباطن مكروه كما قال القاضي عياض (2): نقلا هن أهل اللغة في معنى الغرر، وهكذا للمبيع ظاهر يغري المشتري، وباطن مجهول كما نقل صاحب النهاية (3) عن أهل اللغة في معنى الغرر، وهكذا لم تحصل الإحاطة بكنه المبيع كما نقله الأزهري (4) وقد تقدم جميع هذا، وليس المراد بتكراره هنا إلا التعريف بأن الغرر موجود في مثل هذا الخيار فلا تكلف.
وأما ما يقوله العلامة الشرفي - حماه الله - في هذا الموطن، وما قبله، وما بعده من التصريح بأن العلة كذا جزما أو ترجيحا من دون ربط بدليل معقول، أو منقول، فلا يخفى أن ذلك دعوى مجردة، ومصادرة على المطلوب في الغالب.
قال - كثر الله فوائده -: فقد يقال: نعم هذا غرر على ما حققه العراقي، لا على ما قاله القاضي العلامة - عافاه الله -.
أقول: إن أراد بالقاضي هنا راقم هذه الأحرف فهو قد صرح بأن هذا غرر في تلك الرسالة، ونقله العلامة الشرفي - حماه الله - في رسالته، ولفظ ما نقله في رسالته من
_________
(1) انظر الرسالة رقم (110).
(2) ذكر الحافظ في " الفتح" (4/ 356).
(3) (3/ 355).
(4) في " تهذيب اللغة " (16/ 83 - 84).(7/3560)
رسالتي هكذا: " وذلك غرر فله التخلص بالفسخ ".انتهى.
فهذا تصريح لا يبقى بعده ريب لمرتاب، ولا ينافي ذلك إثبات الخيار مع العلم بالتعذر كما لا يخفى، وإن أراد بالقاضي القاضي عياض فكلامه الذي نقله ونقلناه يشتمل على خيار تعذر تسليم المبيع، كما يشتمل على غيره من الخيارات حسبما أوضحناه، فينبغي تحرير هذا المقام بما هو مقبول من الكلام.
قال - كثر الله فوائده -: فما ذكره القاضي في غاية التكلف، وبمحل من عدم القبول.
إن كان سبب التكلف، وعدم القبول هو كون كلام النجري يخالفه فهذا الاعتراض في غاية الاعتساف، وبمحل من عدم الإنصاف، وأما دعوى أنه صالح للعلية فمجرد الصلاحية لا يستلزم أن يكون الصالح هو العلة دون غيره مما هو أصلح منه، أو مماثلا في الصلاحية. وأما دعوى أن الشارع جعله مناطا في غيره فلا يستلزم أن يكون مناطا فيه لا عقلا ولا شرعا.
قال - كثر الله فوائده -: بل فيه ما يدل على قصر السببية على التصرية من مخالفها للقياس بإرجاع صاع من التمر.
أقول: هذا منه - عافاه الله - جمود وحنين إلى الوطن الذي حبب إلى الرجال، وهو التقليد الذي نشأ كل فرد من أفراد العالم عليه وإن اختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، ومن كان عالما بما ورد من في الشريعة الغراء ضمن الأعيان لأربابها وجد فيها ضمان الشيء بمماثل له، وإن لم يكن مثليا في عرف الفقهاء كما في تضمينه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ولعائشة - رضي الله عنها - قصعة مثل القصعة التي كسرتها على بعض أمهات المؤمنين (1)، وضمان الشيء بغير مماثل له كصاع التمر عن لبن المصراة،
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2481) وأبو داود رقم (3567) والترمذي رقم (1359) وابن ماجه رقم (2334) والنسائي (7/ 70رقم 3955) من حديث أنس " أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فضمها وجعل فيها الطعام وقال: وقال: كلوا .. ودفع القصعة الصحيحة للرسول وحبس المكسورة.
ولفظ الترمذي قال: "أهدت بعض أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه طعاما في قصعة فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طعام بطعام وإناء بإناء ".(7/3561)
ولم يرد في الشريعة قاعدة كلية تدل على أن المثلي مضمون بمثله، ولا يعدل إلى قيمته إلا عند عدمه، بل هو مجرد رأي مبني على اصطلاح حادث وهو قولهم: هذا مثلي، وهذا قيمي (1)، والعرب لا تعرف ذلك، ولا هو موافق لما كانت عليه لغتها، فإنهم يقولون: هذا السيف مثل هذا السيف، وهذا البعير مثل هذا البعير، وهذا الثوب مثل هذا الثوب، ونحو ذلك. ويقولون في المثليات باصطلاح الفقهاء أن بعضها قيمة للبعض الآخر، وهذا معروف في لسانهم، مشهور، فعرفت بهذا أن كون المثلي هو ما تساوت أجزاؤه (2)، وكان له مثل في الصورة، وقل التفاوت فيه، والقيمي هو ما لم
_________
(1) قال ابن قدامه في " المغني " (7/ 326): وما تتماثل أجزاءه / وتتقارب صفاته، كالدراهم والدنانير والحبوب والأدهان، ضمن بمثله، بغير خلاف.
قال ابن عبد البر: كل مطعوم، من مأكول أو مشروب، فمجمع على أنه يجب على مستهلكيه مثله لا قيمته. وأما سائر المكيل والموزون، فظاهر كلام أحمد أنه يضمن بمثله أيضا، فإنه قال: في رواية حرب وإبراهيم بن هانئ، ما كان من الدراهم والدنانير، وما يكال ويوزن، فعليه مثله دون القيمة، فظاهر هذا وجوب المثل في كل مكيل وموزون، إلا أن يكون مما فيه صناعة كمعمول الحديد والنحاس والرصاص من الأواني والآلات ونحوها، والحلي من الذهب والفضة وشبهه.
والمنسوج من الحديد والكتان والقطن والصوف والشعر، والمغزول من ذلك، فإنه يضمن بقيمته، لأن الصناعة تؤثر في قيمته، وهي مختلفة فالقيمة فيها أحصر.
انظر: " فتح الباري " (5/ 126).
(2) انظر " لسان العرب " (13/ 21): مثل: كلمة تسوية يقال هذا مثله ومثله كما يقال شبهه وشبهه بمعنى قال ابن بري: الفرق بين المماثلة والمساواة أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس والمتفقين لأن التساوي هو التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص، أما المماثلة قلا تكون إلا بالمتفقين تقول: نحوه كنحوه، وفقهه كفقهه ولونه كلونه وطعمه كطعمه، فإذا قيل هو مثله على الإطلاق فمعناه أنه يسد مسده.(7/3562)
يجمع القيود الثلاثة (1) ليس إلا مجرد اصطلاح حادث (2)، فكيف يجعل ما ترتب عليه، وهو كون المثلي مضمونا بمثله ولا يعدل عن المثل إلى القيمة إلا عند عدمه قاعدة شرعية يدفع بها ما صح عن الشارع بلا خلاف بين المسلمين في صحته وثبوته! هل هذا إلا من أعظم مفاسد الرأي، وأطم معايب التقليد، وأشد أنواع الغفلة، وأبعد مسافات الإنصاف! فما بال العلامة الحسن أطلق لقلمه في هذه الحلبة الرسن، وهو من الإنصاف
_________
(1) القيمة: واحد القيم. وأصله الواو لأنه يقوم مقام الشيء والقيمة: ثمن الشيء بالتقويم.
" لسان العرب " (11/ 357)، " القاموس" (ص1487).
(2) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (3/ 98 - 99): إطلاقهم على الشيء الذي تساوت أجزاؤه أنه مثلي وعلى ما اختلفت أجزاؤه أنه قيمي هو مجرد اصطلاح لهم، ثم وقوع القطع والبت منهم بأن المثلي يضمن بمثله والقيمي بقيمته هو أيضًا مجرد رأي عملوا عليه وإلا فقد ثبت عن الشارع أنه ضمن المثلي بقيمته، كما في قوله في حديث المصراة: " ردها وصاعا من تمر " - تقدم تخريجه -.
وثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تضمين القيمي بمثله كما ثبت في صحيح البخاري رقم (2225) من حديث أنس قال " ...... طعام بطعام وإناء بإناء " هذا لفظ الترمذي - رقم (1359) وللبخاري - رقم (2481) - في هذا الحديث ألفاظا منها "
.. فضمها وجعل فيها الطعام وقال: كلوا ودفع القصعة الصحيحة للرسول وحبس المكسورة " وأخرج أحمد (6/ 148) وأبو داود رقم (3568) والنسائي رقم (3957) من حديث عائشة أنها قالت: " ما رأيت صانعة طعام مثل صفية أهدت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إناء من طعام فما ملكت نفسي أن كسرته فقلت يا رسول الله ما كفارته؟ فقال: إناء كإناء وطعام كطعام ".
وقال الحافظ في " الفتح" (5/ 135) إسناده حسن.
ثم قال الشوكاني في " السيل " (3/ 99 - 100): فاعلم أن الواجب رد العين المغصوبة مثلية كانت أو قيمية فإن تلفت كان المالك مخيرا بين أخذ مثلها أو قيمتها على وجه يرضى به غير فرق بين مثلي وقيمي، ولكن إرجاع مثل المثلي من أعلى أنواع ذلك الجنس وقيمة القيمي على هذا الاصطلاح أقرب إلى دفع التشاجر. وأقطع لمادة النزاع.(7/3563)
بمكان مكين، ومن الكمال بأعلى منازل العلم والدين!
قال - كثر الله فوائده -: على أنه مهجور الظاهر كما تقدم، والظاهر فيه الخصوص.
أقول: دعوى هجر الظاهر، ودعوى الخصوص لا تصلحان لرد دليل المستدل حتى يربط بدليل مقبول يوجب دفع الاستدلال بدليل يخالفهما على أي صفة كان، وأين هذا ومن يصنع مثل هذا الصنيع فيتكل على الاعتراض على كلام أهل العلم بمجرد الدعاوى، مع أنه بما تقرر في الأصول من خطاب الواحد، فإنه وإن كان لا يعم بالصيغة فهو يعم بدليل آخر كحديث: " إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة " (1)، وهو يفيد مفاد ما يروونه من حديث: " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " (2).والبحث
_________
(1) حكمي على الواحد حكمي على الجماعة: قال ابن كثير في " تحفة الطالب " رقم (180): لم أر بهذا اللفظ سندا، وسألت عنه شيخنا الحافظ " جمال الدين أبا الحجاج المزي " وشيخنا الحافظ أبا عبد الله الذهبي مرارا فلم يعرفاه بالكلية.
وقال العراقي في " تخريج الأحاديث الواقعة في منهاج البيضاوي " (رقم 25) ليس له أصل، وسئل عنه المزي والذهبي فأنكراه.
وقال ابن حجر في " موافقة الخبر الخبر " (1/ 527): " هذا قد اشتهر في كلام الفقهاء والأصوليين ولم نره في كتب الحديث ".
قلت: وجاء ما يؤدي معناه في حديث أميمة بنت رقيقة أنها قالت: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نسوة يبايعنه فقلن: نبايعك يا رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فيما استطعتن وأطقتن " قالت: فقلت الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا هلم نبايعك يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني لا أصافح النساء. إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة، أو مثل قولي، لامرأة واحدة ".
أخرجه أحمد (6/ 357) والنسائي (7/ 149) والترمذي رقم (1597)، وابن ماجه رقم (2874) والحميدي رقم (341) والطيالسي رقم (1621) وابن حبان رقم (14 - موارد) ومالك في " الموطأ " (2/ 982 - 983) والطبراني في " الكبير" (جـ24 رقم 470، 471، 472، 473، 475، 476). والبيهقي في " السنن الكبرى (8/ 146) والحاكم في " المستدرك " (4/ 71) من طرق.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وخلاصة القول: أن حديث أميمة بنت رقيقة صحيح والله أعلم.
(2) حكمي على الواحد حكمي على الجماعة: قال ابن كثير في " تحفة الطالب " رقم (180): لم أر بهذا اللفظ سندا، وسألت عنه شيخنا الحافظ " جمال الدين أبا الحجاج المزي " وشيخنا الحافظ أبا عبد الله الذهبي مرارا فلم يعرفاه بالكلية.
وقال العراقي في " تخريج الأحاديث الواقعة في منهاج البيضاوي " (رقم 25) ليس له أصل، وسئل عنه المزي والذهبي فأنكراه.
وقال ابن حجر في " موافقة الخبر الخبر " (1/ 527): " هذا قد اشتهر في كلام الفقهاء والأصوليين ولم نره في كتب الحديث ".
قلت: وجاء ما يؤدي معناه في حديث أميمة بنت رقيقة أنها قالت: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نسوة يبايعنه فقلن: نبايعك يا رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فيما استطعتن وأطقتن " قالت: فقلت الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا هلم نبايعك يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني لا أصافح النساء. إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة، أو مثل قولي، لامرأة واحدة ".
أخرجه أحمد (6/ 357) والنسائي (7/ 149) والترمذي رقم (1597)، وابن ماجه رقم (2874) والحميدي رقم (341) والطيالسي رقم (1621) وابن حبان رقم (14 - موارد) ومالك في " الموطأ " (2/ 982 - 983) والطبراني في " الكبير" (جـ24 رقم 470، 471، 472، 473، 475، 476).
والبيهقي في " السنن الكبرى (8/ 146) والحاكم في " المستدرك " (4/ 71) من طرق.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وخلاصة القول: أن حديث أميمة بنت رقيقة صحيح والله أعلم.(7/3564)
مدون في الأصول (1)
_________
(1) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص444):
الخطاب الخاص بواحد من الأمة إن صرح بالاختصاص به كما في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدي " - تقدم تخريجه - فلا شك في اختصاصه بذل المخاطب وإن لم يصرح فيه بالاختصاص بذلك المخاطب مذهب الجمهور إلى أنه مختص بذلك المخاطب ولا يتناول غيره إلا بدليل من خارج.
وقال بعض الحنابلة وبعض الشافعية أنه يعم بدليل ما روى من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " وما روى عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة ".
ولا يخفى أن الاستدلال بهذا خارج محل النزاع فإنه لا خلاف أنه إذا دل دليل من خارج على أن حكم غير ذلك المخاطب كحكمه كان له حكمه بذلك الدليل. وإنما النزاع في نفس تلك الصيغة الخاصة هل تعم بمجردها أم لا.
فمن قال أنها تعم بلفظها فقد جاء بما لا تفيده لغة العرب ولا تقتضيه وبجه من الوجوه. قال القاضي أبو بكر هو عام بالشرع لا بوضع اللغة للقطع باختصاصه به لغة. قال إمام الحرمين الجويني - في البرهان (1/ 370) -: لا ينبغي أن يكون في هذه المسألة خلاف إذا لا شك أن الخطاب خاص لغة بذلك الواحد، ولا خلاف أنه عام بحسب العرف الشرعي وقيل بل الخلاف معنوي لا لفظي لأنا نقول الأصل ما هو؟ هل هو مورد الشرع أو مقتضي اللغة؟ قال الصفي الهندي: لا نسلم أن الخطاب عام في العرف الشرعي.
قال الزركشي في " البحر المحيط " (3/ 191): " والحق أن التعميم منتف لغة ثابت شرعا والخلاف في أن العادة هل تقتضي بالاشتراك بحيث يتبادر فهم أهل العرف إليها أولا، فأصحابنا - يعني الشافعية - يقولون لا قضاء للعادة في ذلك كما لا قضاء للغة. والخصم يقول إنها تقضي بذلك " اهـ.
قال الشوكاني بعد ذلك: والحاصل في هذه المسألة على ما يقتضيه والحق يوجبه بالإنصاف - عدم التناول لغير المخاطب من حيث الصيغة، بل بالدليل الخارجي. وقد ثبت عن الصحابة فمن بعدهم الاستدلال بأقضيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخاصة بالواحد أو الجماعة المخصوصة على ثبوت مثل ذلك لسائر الأمة، فكان هذا مع الأدلة الدالة على عموم الرسالة وعلى استواء أقدام هذه الأمة في الأحكام الشرعية مفيدا لإلحاق غير ذلك المخاطب بذلك. فعرفت بهذا أن الراجح التعميم حتى يقوم دليل التخصيص، لا كما قيل أن أراجح التخصيص حتى يقوم دليل التعميم لأنه قد قام كما ذكرناه.(7/3565)
وقد حكى بعض أهل الأصول الإجماع على ذلك (1).
قال - كثر الله فوائده - ولم يكتف بمجرد الغرر لكونه حكمة مجردة كما مر.
أقول: هذه دعوى مجردة كما مر.
قال - كثر الله فوائده -: ففي هذا أنه على ما قرره - عافاه الله - يكون بالجهل أشبه لا بالغرر.
هذا لا ينفعه ولا يضرنا؛ فقد بينا سابقا أن الجهل (2) غرر بنقل أئمة اللغة المعتبرين، وأما الرد بمخالفة بعض أهل العلم فليس من دأب المنصفين، وكونه أنيط بالمجلس، لأنه القدر الذي يتمكن فيه المغرور من الاطلاع على الغرر وأما ذات المجلس فطردي كما صرح به أئمة الأصول في عموم الأمكنة.
قال - كثر الله فوائده -: ففي هذين الخيارين به صرح المجيب بالجهل فيهما، وقد عرفت أنه ليس بغرر.
أقول: وعرفت أيضًا أن الجهل غرر لغة (3)، وأما دعوى أن ذلك حكمة مجردة بدليل كونه قد أنيط بالرؤية والعيب، وهما العلة والسبب، فلا يخفاك أن المتنازع استحق المشترى للمعيب أن يفسخه عند الاطلاع على العيب، والمشتري لما هو غائب عنه أن يفسخه عند الرؤية لعله كذا، فالعيب والرؤية سببان للفسخ، لا علتان له، ومثل هذا لا يخفى على من هو دون المجيب
_________
(1) انظر " تيسير التحرير " (2/ 252)، " مختصر ابن الحاجب " (2/ 123).
(2) انظر الرسالة رقم (110).
(3) انظر " إرشاد الفحول " (ص 391)، و" البحر المحيط " (36 - 7)، " المخول " (ص138).(7/3566)
- عافاه الله -؛ فإن الفرق بين العلل والأسباب أوضح من الشمس (1).
_________
(1) العلة تقدم تعريفها في الرسالة رقم (110):
أما السبب: فهم متميز عن العلة من جهة:
1) اللغة: فالسبب ما يتوصل به إلى غيره. ولو بوسائط - ومنه سمي الحبل سببا، وذكروا للعلة معاني يدور القدر المشترك فيها على أنها تكون أمرا مستمدا من أمر آخر. وقال أكثر النحاة: اللام للتعليل ولم يقولوا للسببية، وقالوا الباء للسببية ولم يقولوا للتعليل، وصرح ابن مالك بأن الباء للسببية والتعليل وهذا تصريح بأنهما غيران.
2) أما من جهة الاصطلاح الكلامي: فإنهما يشتركان في توقف المسبب عليهما ويفترقان من وجهين:
أحدهما: أن السبب يحصل الشيء عند لا به، والعلة ما يحصل به.
والثاني: أن المعلوم متأخر عن العلة بلا واسطة ولا شرط يتوقف الحكم على وجوده. والسبب إنما يقتضي الحكم بواسطة أم بوسائط، ولذلك يتراخى الحكم عنها حتى توجد الشرائط وتنتفي الموانع. وأما العلة فلا يتراخى الحكم عنها إذا اشترط لها، بل أوجبت معلولا بالاتفاق.
3) أما من جهة الاصطلاح أصولي: العلة في لسان الفقهاء تطلق على المظنة أي الوصف المتضمن لحكمة الحكم، كما في القتل العمد العدوان، فإنه يصح أن يقال: قتل لعلة القتل، وتارة يطلقونها على حكمة الحكم، كالزجر الذي هو حكمة القصاص. فإنه يصح أن يقال: العلة الزجر.
وأما السبب: فلا يطلق على إلا على مظنة المشقة دون الحكمة إذ بالمظنة يتوصل إلى الحكم لأجل الحكمة.
4) أما من جهة الاصطلاح الفقهي: السبب يطلق في اصطلاح الفقهاء على أربعة أمور:
أ ـ السبب الذي يقال أنه مثل العلة كالرمي، فإنه سبب حقيقة إلا أنه في حكم العلة، لأن عين الرمي لا أثر له في الحكم حيث لا فعل منه، ومنه الزنى.
ب ـ ما يكون الطارئ مؤثرا ولكن تأثيره مستند إلى ما قبله، فهو سبب من حيث استناد الحكم إلى الأول لا استناد الوصف الأخر إلى الأصل.
ج ـ ما ليس سببا بنفسه ولكن بصير سببا غيره، كقولهم: القصاص وجب ردعا وزجرا، ثم قالوا: وجب لسبب القتل، إذ القتل علة القصاص، فقطعوا الحكم عن العلة، وجعلوه متعلقا بالعلة. والعلة غير الحكم.
د ـ ما يسمى سببا مجازا من حيث أنه سبب لما يجب، كقولهم الإمساك سبب القتل وليس سبب القتل حقيقة، فإنه ليس يفضي إلى القتل، بل القتل باختيار القاتل. لكنه سبب المتمكن من القتل بإلحاق، وقيل: سبب القتل، فالأسباب لا تدعوا هذه الوجوه.
الفقهاء يقولون: العلة هي التي يتبعها الحكم.
السبب ما تراخى عنه الحكم ووقف على شرط أو شيء بعده.
انظر " البحر المحيط " (5/ 115 - 116)، " الكوكب المنير " (4/ 8 - 12)، "إرشاد الفحول " (ص702).(7/3567)
قال - كثر الله فوائده -: قد كررت أن الغرر لمجرده حكمه مجرد ... إلخ.
أقول: وكررت أنا أن هذه الدعوى مجردة كما كررت أن رد كلام بعض أهل العلم بمخالفتهم لبعض منهم ليس دأب أهل الإنصاف.
قال - كثر الله فوائده -: ثم ما المراد بتقرير كونها موجودة في جميع الخيارات؟ ...
إلخ.
أقول: هذا بحث قوي، وسؤال سوي، والذي نريده أن الغرر إذا وجد في أنواع المبيعات التي لم ينص عليها الشارع كان له حكم ما نص عليه، وهكذا إذا وجد في نوع من أنواع المبيعات غير الأنواع التي ذكرها أهل الفقه فله حكمه، فتارة يكون ذلك الإلحاق بلحن الخطاب (1)، وتارة يكون بفحواه (2).
وأما ما ذكره - عافاه الله - من أن النهى عن بيع الغرر يقتضي بطلانه فهكذا معناه الحقيقي، لكنه لما أثبت الشارع الفسخ في بعض بيوع الغرر كالمصراة (3)، وتلقي الجلب، ومن يخدع في البيوع، والعيب، والرؤية، كان ذلك دليلا على أن بعض أنواع الغرر ينعقد معه البيع، ويثبت الفسخ، أو يكون ذلك دليلا على أن النهي عن بيع الغرر وإن كان مفيدا للتحريم لكنه لا يستلزم الفساد المرادف للبطلان، بل يصح العقد،
_________
(1) تقدم تعريفه.
(2) تقدم تعريفه.
(3) انظر" المغني " (6/ 23 - 33).(7/3568)
ويثبت الفسخ وتكون هذه الأدلة الواردة في هذه المواضع قرينة صارفة عن اقتضاء الفساد، أو عن المعنى الحقيقي، وهو التحريم من أصله، وأما ما ألزم به -عافاه الله - من اختلاط أحكام تلك الخيارات ومصيرها شيئا واحدا (1)، واختلافها معلوم، فإن كان هذا العلم بالدليل فممنوع، وقد أوضحنا ما يقتضيه الدليل، وإن كان ذلك لكونه قد قال به بعض أهل العلم فليس ذلك بحجة تمنع من المخالفة، وهذا واضح لا يخفى.
قال - كثر الله فوائده - مما لا طائل تحته ولا يفيد المستمع لمعلوميته.
أقول: ليس هذا جواب من قال: لا أدري بأي مسلك ثبت ذلك، بل جوابه أن يقال: ثبت بمسلك كذا، والبرهان على الأصلية والفرعية والحكم العلية كذا، هذا هو الذي ينبغي أن يجاب به، فإن أجيب بما لا يفيد ذلك فهو الجواب الذي لا طائل تحته، ولا يفيد المستمع لعدم ربطه بالبرهان المقبول. وأما دعوى أن خيار الإجازة (2) فرد من أفراد خيار المغابنة فهذا من أغرب ما يطرق سمع من يسمع، وكيف يقبل العاقل فضلا عن العالم أن فسخ العقد لمبيع باعه غير مالكه بغير ولاية شرعية (3) فرد من أفراد عقد باعه من له ولاية شرعية!.
وأما ما ذكره - عافاه الله - من قوله: فها هنا أصل ... إلخ. فيجاب عنه الذي طلب بيان الأصلية والفرعية والعلية والحكم له بطلب البيان بأي وجه كان، وعلى أي صفة وقع بل طلب شأن ذلك بالبرهان، فهذا يفيد أن العلامة الشرفي - حماه الله - لم يلم بمراد السؤال، ولا جس فيه بنص علمه الإشكال، ولا أسرف على ما في تلك الرسالة بحال كما قال في جوابات السؤال.
قال - كثر الله فوائده -: وسلم صلاحيته في المصراة فقط فهو فيها بمعنى
_________
(1) انظر الرسالة رقم (110).
(2) انظر أحكامها في " المغني " (8/ 10 - 11).
(3) انظر " فتح الباري " (4/ 349 - 325).(7/3569)
التغرير، وليس الغرر في أكثر الخيارات بهذا المعنى.
أقول: لكن أهل اللغة (1) لم يفرقوا بين الغرر والتغرير كما أوضحناه سابقا، والمدلول اللغوي (2) عند عدم وجود الحقيقة الشرعية. فما عول عليه - عافاه الله - من الفرق بين الغرر والتغرير إن كان لبيان أصل الفرق بينهما فمسلم، ولا ينفعه ولا يضرنا، وإن كان لبيان كون ذلك الفرق يخرج أحدهما عن معنى الغرر لغة الذي هو محل النزاع فممنوع، والسند ما تقدم به من النقل، واختلاف أمرين في بعض الذاتيات أو العرضيات لا يمنع من اندراجهما تحت أمر يعمهما كالإنسان، والفرس؛ فإن اخل افهما في الناطقية والصاهلية، واستقامة القامة، وظهور البشرة، والضحك لا يمنع من كونه يقال على كل واحد منهما أنه حيوان في جواب ما هو؟ وأما ما ذكره - عافاه الله - من مخالفة حيث المصراة للقياس فقد تقدم جوابه (3).
قال - كثر الله فوائده -: أحدهما أن خيار العيب أصل برأسه.
أقول لكن العلة الغرر كما بيناه، وذلك لا ينافى تسميته خيار عيب فإنه سمي بذلك لسببية العيب للخيار لا لعليته له.
وأما ما ذكره من تخلف الحكم في العيب، وأنه نقض قادح. فنقول: تخلف الحكم للدليل الخاص فكان ذلك من بناء العام على الخاص، فليس بنقض (4) ولا كسر (5).
_________
(1) تقدم في بداية الرسالة.
(2) تقدم في بداية الرسالة.
(3) في الرسالة رقم (110).
(4) النقض هو تخلف الحكم مع وجود العلة ولو في صورة واحدة فإن اعترف المستدل بذلك كان نقضا صحيحا عن من يراه قادحا، وأما من لم يره قادحا فلا يسميه نقضا بل يجعله من باب تخصيص العلة.
وانظر مزيد تفصيل " تيسير التحرير " (4/ 138)، و" البحر المحيط " (5/ 261).
(5) الكسر: هو إسقاط وصف من أوصاف العلة المركبة وإخراجه عن الاعتبار بشرط أن يكون المحذوف مما لا يمكن أخذه في حد العلة.
ومنهم من فسره: بأنه وجود المعنى في صورة مع عدم الحكم فيه، والمراد وجود معنى تلك العلة في موضع آخر ولا يوجد معها ذلك الحكم وعلى هذا التفسير يكون كالنقص ولهذا قال ابن الحاجب في " المختصر " (2/ 269): هو نقض المعنى والكلام فيه كالنقض. ومثاله أن يعلل المستدل على القصر في السفر بالمشقة فيقول المعترض: ما ذكرته من المشقة أرباب الصنائع في الحضر.
وقد ذهب الأكثرون إلى أن الكسر غير مبطل وأما الفخر الرازي والبيضاوي وجماعة من الأصوليين فجعلوه من القوادح.
انظر "المنهاج " (2/ 398 - شرح الأصفهاني)، " البحر المحيط " للزركشي (5/ 279).(7/3570)
وأما ما ذكره من العارضة ففيه قوة لو ربطه بدليل حتى يخلص من شوب المصادرة.
قال - كثر الله فوائده -: وعرفت أن العموم من عوارض (1) الألفاظ ... إلخ.
أقول: لم يذكر إلا عموم العلة، وأوردنا حديث المصراة (2) للاستدلال به على أنه ثبت فيه الخيار للمكلف البائع عن نفسه، مع كون العلة الغرر، وكذلك حديث تلقي الجلب (3)، وحديث حبان (4)، فإنه إيراد هذه الأدلة ليس إلا لثبوت الخيار فيها للمكلف البائع عن نفسه، مع كونه العلة الغرر على ما قررناه فثبتت الخيار للمكلف البائع عن نفسه، مع وجود العلة التي هي الغرر في بيعه.
قال - كثر الله فوائده -: فإن الترتيب الخيار على قوله: هذا القول: دون مجرد الخداع أمر مكشوف ... إلخ.
أقول: لكن هذا الكشف مجرد دعوى، فلا يتم حتى يربط بدليل، وهو اتفاق أهل الفهم على ذلك، وهو ممنوع، فقد وقع الاختلاف، أو أن المدلول اللغوي لا يحتمل إلا ذلك فهو مدفوع، فإن الكل من الاحتمالين يحتمله الكلام اللغوي، ويتناوله المقصد الشرعي فإن كل واحد منهما مقصد من مقاصد الشارع، أو أنه قد ورد دليل الشرع فأوجب المصير إلى ذلك، فأين هذا الدليل؟
_________
(1) ذهب الجمهور إلى أن العموم من عوارض الألفاظ، فإذا قيل هذا لفظ عام صدق على حسب الحقيقة.
انظر " جمع الجوامع " (1/ 398)، " المنخول " (ص138).
(2) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (110).
(3) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (110).
(4) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (110).(7/3571)
قال - كثر الله فوائده -: فإنه دفع في وجه التعليل النبوي ... إلخ.
أقول: بل هو جمع بين الأدلة الشرعية؛ إذ لا معارضة عند التحقيق، فإن رزق البعض (1) من البعض لا ينافيه ثبوت الخيار عند وجود مسمى الغرر، لا عقلا، ولا شرعا، ولا عرفا، لأن غاية ما علل به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ما قاله من النهي عن بيع الحاضر للبادي أنه يرزق الله بعض العباد من بعض إذا باع البادي لنفسه بنفسه، وذلك إما لكون الغالب على أهل البادية السماحة، فلا يكثرون المماكسة، ولا يطيلون المماحكة مع كونهم يعلمون أنهم لو صنعوا في بيوعاتهم ما يصنعه الحاضر من كثرة التحسين والتزيين والانتظار إلى وقت الغلاء، والتربص لوقت النفاق لباعوا بثمن مثل الثمن الذي يبيعه الحاضر به، ولكنهم يتسامحون وتطيب أنفسهم بدون ذلك ولا غرر عليهم، ولا مخادعة لهم.
وقد أشرنا إلى هذا المعنى في تلك الرسالة (2)، وهو ما يستلزم ما فهمه - عافاه الله - من أن الحديث دليل على ما استدل به عليه، لأنه لا غرر أصلا، فكيف يجزم بأن مثل هذا الوجه دفع في وجه التعليل النبوي! وهو عنه أجنبي. ثم قلنا في تلك الرسالة: وعلى تقدير أنهم باعوا جاهلين
إلخ.، وهذا أيضًا لم يدفع في وجه التعليل النبوي ولا معارض له، بل هو جمع حسن، وترجيح مقبول.
قال - كثر الله فوائده - فإن هذه الاجتهادات لا تسوغ ... إلخ.
أقول: قد أطال -أطال الله بقاءه - الكلام هاهنا في غير طائل، فإنه لا يخفى عليه ولا على ذي فهم وعلم أن حكم الحاكم إثباتا ونفيا إذا تعلق بالاطلاع على قيمة العين المتنازع فيها في غبن أو غيره أنه لا يتمكن الحاكم من الحكم، ولا يرتفع النزاع بين الخصمين إلا بالرجوع إلى تقويم العدول؛ إذ لم يرد في هذه الشريعة المطهرة أن قيمة تلك
_________
(1) تقدم في الرسالة رقم (110) وانظر الرسالة رقم (112).
(2) رقم (110).(7/3572)
العين كذا، وانقطع الوحي بعد عصر النبوة، فلم يبق إلا الرجوع إلى التقويم العدول، وليس هذا بمستنكر عند المتشرعين، فقد شرع الله الرجوع إلى حكم العدول في جزاء الصيد فقال: [يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ] (1)، وقال في الخصومة العارضة بين الزوجين: [فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا] (2) فالحاكم الذي لا يجد سبيلا إلى الخصومة بين الخصمين إلا بتقويم العدول لا يكون أمره بالتقويم من الاجتهاد الذي لا يسوغ، بل من الإقتداء بما شرعه الله في كتابه العزيز، هؤلاء العدول لا يكون لم يتعين عليهم القيام بذلك التقويم، ولا هو فرض عين عليهما، ولا كلفهما الله سبحانه به، وفى الدنيا من يحسن هذا التقويم غيرهما، بل في كل قرية جماعة، فهما إذا طلبا الأجرة أو امتنعا من التقويم إلا بها لم يكن تعيين الحاكم لها مخالفة للشريعة بل المخالف للشريعة المبنية على العدل هو إتعاب النفوس قسرا أو قهرا بلا أجر، ومطل العاملين بلا وجه شرعي، ولا حجة نيره فالحاكم إذا ألزم الخصمين (3) أو أحدهما بتسليم أجرة العدول المقومين موزعا ذلك على حسب ما حصل للغريمين من جلب النفع، ودفع الضر ليس يجتهد اجتهادا لا يسوغ، والمفروض أنه لم يطلب التقويم أحد الخصمين بل طلبه الحاكم لرفع الخصومة، ودفع الشجار إقتداء بتحكيم الحكمين في جزاء الصيد. وقد حلت أجرة الشهود الذين يشهدون بما قد وجب عليهم تأديته إذا احتاجوا إلى قطع مسافة، أو مزاولة، فكيف لا يحل الأجرة لعمل المقومين مع كونه لم يجب عليهم ذلك التقويم، ولا تقدم لهم ما يوجبه عليهم! والأمر في هذا واضح.
وإلى هنا انتهى الكلام على اعتراضات العلامة الشرفي - كثر الله فوائده - التي كتبها
_________
(1) [المائدة:95].
(2) [النساء: 35].
(3) انظر " المغني " (14/ 9 - 12).(7/3573)
على رسالتي (1) المسماة: إيضاح الدلالات على أحكام الخيارات.
_________
(1) قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 137 - 138) ومن له كفاية، فليس له أخذ الجعل على الشهادة، لأنه أداء فرض، فإن فرض الكفاية إذا قام به البعض وقع منهم فرضا.
وإن لم تكن له كفاية، ولا تعنيت عليه، حل له أخذه، لأن النفقة على عياله فرض عين، فلا يشتغل عنه بفرض الكفاية، فإذا أخذ الرزق جمع بين الأمرين، وإن تعينت له الشهادة، احتمل ذلك أيضا، واحتمل أن لا يجوز، لئلا يأخذ العوض عن أداء فروض الأعيان قال أصحاب الشافعي: لا يجوز أخذ الأجرة لمن تعينت له.(7/3574)
ولنذكر الآن الكلام على ما اعترض به المولى العلامة ضياء الإسلام، نبراس الآل الكرام إسماعيل بن أحمد ابن محمد الكبسي (1) - كثر الله فوائده -.
وسنقتصر على أوجز عبارة، لأن الكلام قد طال، وقد دخل في الجواب (2) على العلامة الشرفي - حماه الله - غالب جوابات اعتراضات الضياء -عافاه الله -.
قال - كثر الله فوائده -: الأول أنه أراد أن يجمع الخيارات ... إلخ.
أقول: ربط الشارع النسخ بالرؤية والعيب والشرط ونحوها لا يستلزم أنها العلل، بل هي الأسباب، ولها علل آخرة، ولا تلازم بين الأسباب والعلل كما لا يخفى.
قال - كثر الله فوائده -: الثاني أن الغرر الذي جعله علة لجميعها لم يضبطه
إلخ.
أقول: قد أوضحناه في الرسالة إجمالا، وأوضحناه في أوائل هذه الورقات بما يستفاد منه أنه منضبط مبين، غير مناف لما ذكره أهل العلم في ذلك.
قال - كثر الله فوائده - فلا استقر عقد ... إلخ.
أقول قد أوضحنا في الرسالة أنه لا بد أن يعلم أنه يعتقد وجود ما لم يوجد حال العقد، فلا يلزم قبول قوله مطلقا، ولا استقرار العقد.
أقول - كثر الله فوائده -: وأقر بأنه مغرور إلخ.
أما إذا أقر بأنه غير مغرور فلا خيار، وليعلم- عافاه الله - أن مجرد عدم رؤية المبيع محتملة لوجود الغرر (3)، لأنه إذا رآه يمكن أن يجده على صفة غير ما ظنه، أو تخيله، فليس الخير كالمعاينة (4)، لكنه إذا أقر بأنه غير مغرور فقد أبطل ما أثبته له الشارع، فيكون ذلك كإسقاط الخيار الثابت، فالإلزام ملتزم، ولا يرد ما أورده من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: فله الخيار إذا رآه، لأن ذلك ثابت مع عدم الإسقاط، وأما مع
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) انظر الرسالة رقم (111).
(3) انظر " المغني " (6/ 30 - 34).
(4) أخرجه أحمد في مسنده (1/ 215) من حديث ابن عباس بسند صحيح.(7/3575)
الإسقاط أو الإقرار بما يوجب سقوط الخيار، وعدم الغرر فلا يخالف الحديث، وإلا لزم المخالفة للحديث إذا أسقط خيار الرؤية، فإنه يقال عليه: إن هذا الإسقاط يوجب بطلان الخيار، وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " فله الخيار إذا رآه " (1) وما هو جوابه عن الإسقاط للخيار، فهو جوابنا عن الإقرار بعدم الغرر.
قال - كثر الله فوائده -: الرابع أنا قد وجدنا الخيارات ... إلخ.
أقول: قد تقدم الجواز عن هذا الوجه في جوابات اعتراضات العلامة الشرفي - حماه الله - فليرجع إليها. وقد قدمنا أن المقرر في الأصول أن خطاب الواحد وإن لم يعم باعتبار الصيغة فهو يعم باعتبار أمور خارجة (2) كما تقدم بيانه، وهو إجماع كما حكاه بعض أهل الأصول.
قال - كثر الله فوائده - وهكذا من وهم أن فكرته تستدرك حكما حادثا إلخ.
أقول تقدم بيان الوجه بما لا يبقى معه ريب لمرتاب، ونزيد ذلك هاهنا بيانا فنقول: إن قلتم أنه لا يجوز الحكم إلا بأسباب معلومة محضورة، وهي الشهادة واليمين والإقرار، وأنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بغيرها، وإن أفاد مفادها، أو زاد عليها طلبنا منكم الدليل الذي يدل على أسباب انحصار الحكم في هذه الأسباب، فأوضحوا لنا ما هو؟ فإن مجرد جعله أسبابا كقوله: شاهداك أو يمينه (3)، ونحو ذلك لا يفيد أنه لا أسباب إلا هي، لا بمطابقة، ولا بتضمن ولا التزام. ومن زعم أن النص على سبب أو أسباب لشيء يستلزم أنه لا سبب إلا ما وقع النص عليه، مع أنه لم يكن فيه صيغة من صيغ
_________
(1) أخرجه الدارقطني في " السنن" (3/ 4رقم10) وقال:" عمر بن إبراهيم يقال له الكردي يضع الأحاديث وهذا باطل لا يصح، لم يروها غيره، وإنما يروي عن ابن سيرين موقوفا من قوله ".
والبيهقي في " السنن الكبرى " (5/ 268). وقد تقدم الحديث في الرسالة رقم (110).
(2) انظر " إرشاد الفحول " (ص444 - 445).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2669و2670) ومسلم في صحيحه رقم (220/ 138) من حديث الأشعث بن قيس.(7/3576)
الحصر، ولا لفظ من الألفاظ الدالة على سببية الغير، فقد غلط على اللغة غلطا بينا، وأيضا يلزمكم إن علم الحاكم (1)، والنكول (2)، ورد اليمين ليست (3) بأسباب لعدم النص عليها، مع أن شهادة الشاهدين لا يفيد إلا لمجرد الظن على أنهم لم يعتبروا حصول الظن للحاكم بل قالوا: يكفي أن لا يظن الكذب، وكذلك إقرار المقر لا يفيد الحاكم العلم بأنه مطابق للواقع لجواز أن يكون كاذبا في إقراره، فغاية ما يستفاد من إقرار المقر على نفسه هو مجرد ظن الصدق، وأما يمين المدعي فهي أضعف من هذين السببين في تحصيل الظن للحاكم، وإذا كان غاية ما يفيده هذه الأسباب للحاكم هو مجرد الظن، فكيف لا يجوز له أن يحكم بما يفيد مفادها! أو يزيد عليها كعلم الحاكم مع عدم ورود ما ينفي العمل بذلك عن الشارع، لما قدمنا من أن مجرد النص على سبب لا ينفي غيره مما يحلق به بفحوى الخطاب أو لحنه.
فإن قلتم: الدليل على حكم الحاكم بعلمه أدلة إطلاع بالعلم. قلنا: وهكذا كل ما يفيد العلم. وإن قلتم: الدليل على أن النكول ورد اليمين سببا أدلة العمل بالظن. وهكذا كل ما يفيد الظن كائنا ما كان، والفرق تحكم. ومع هذا فلست ممن
_________
(1) انظر الرسالة رقم (63).
(2) قال الشوكاني في " السيل " (3/ 322 - 323): الأسباب التي ورد بها الشرع هي الإقرار أو البينة أو اليمين، فإذا حصل واحد من هذه وجه الصحة فقد وجب به في حكم الشرع. ووجب عنده إلزام الخصم.
* وأما النكول فهو وإن كان أقوى القرائن على صدق دعوى المدعي ولكنه لما كان الحامل عليه قد يكون الترفع عن اليمين كما يفعله كثير من المتكبرين، وقد يكون الحامل عليه مزيد الغباوة ممن توجهت عليه اليمين وعدم علمه بأن اليمين واجبة عليه، وقد يكون الحامل عليه ما يعتقده كثير من العامة أن مجرد الحلف ولو على حق لا يجوز وأنه الفاعل له، فلما كان الأمر هكذا لم يكن مجرد النكول سببا شرعيا للحكم.
(3) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (3/ 325) لم يصح شيء في يمين الرد قط، وما روى في ذلك فلا يقوم به حجة، ولا ينتهض للدلالة على المطلوب، والأسباب الشرعية لا تثبت إلا بالشرع.(7/3577)
يعمل في الحكم بكل ظن، ويكتفي فيه بأي سبب، لكنه اقتضى هذا الكلام زيادة إيضاح لنا.
وإذا تقرر هذا علمت أن رد ما ذكرناه في تلك الرسالة من تقدير العدول، واعتماد الحاكم عليهم، وتحليل الأجرة لهم، بمثل حديث: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، ليس على ما ينبغي، على أن نقول: إن البينة المذكورة في هذا الحديث وغيره هي ما يتبين به الحق، ولا ينحصر ذلك في شهادة الشهود فهو عليكم لا لكم.
وفي هذا المقدار كفاية. وقد اقتصرنا في هذه الورقات على الكلام على ما اعترض به العلامتان على تلك الرسالة، وتركنا الكلام على ما قرراه لأنفسهما، لأن البحث في ذلك يطول جدا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.(7/3578)
بحث في " لا يبيع حاضر لباد "
تأليف
محمد بن على الشوكاني
وحقق وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(7/3579)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " بحث في لا يبيع حاضر لباد "
2 - موضوع الرسالة: " فقه "
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الراشدين وبعد: فإنه وصل إلي سؤال من بعض أهل العلم في شهر الحجة سنة 1207 هـ ...... ".
4 - آخر الرسالة: وليس هذا موطن بسط الكلام في ذلك وفي المقدار كفاية لمن له الهداية. انتهى من تحرير المجيب القاضي محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الصفحات: 4 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26. ما عدا الصفحة الأولى فعدد أسطرها سبعة أسطر والصفحة الأخيرة عدد أسطرها سطران.
8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(7/3581)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الراشدين، وبعد:
فإنه وصل إلى سؤال من بعض أهل العلم في شهر الحجة سنة 1207هـ سبع ومائتين وألف حاصله: هل يتناول قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا يبيع حاضر لباد أهل المحلات القريبة أم لا؟ بل عقلت العلة لمن قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض؛ إذ الحاضر والبادي لا يبيعان إلا بيعا واحدا، وكذلك إذا كان الحاضري صديقا أو قريبا انتهى.
فأجبت: الحمد لله وحده، حديث لا يبيع حاضر لباد هو عند الجماعة (1) كلهم إلا البخاري من حديث جابر، وعند الشيخين (2) من حديث أنس، وعند الجماعة (3) كلهم إلا الترمذي من حديث بن عباس، وعند ........................
_________
(1) أخرج أحمد (2/ 307) ومسلم رقم (1522) والترمذي رقم (1223) والنسائي (7/ 256) وابن ماجه رقم (2176).
وهو حديث صحيح.
عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ".
(2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2161) ومسلم رقم (1523).
قلت وأخرجه أبو داود رقم (3440) والنسائي (7/ 256).
عن أنس قال: " نهينا أن يبيع حاضر لباد وإن كان أخاه أو أباه ".
وهو حديث صحيح.
(3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2158) ومسلم رقم (1521) وأبو داود رقم (3439) والنسائي (7/ 257) وابن ماجه رقم (2177).
عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتلقى الركبان، وأن يبيع حاضر لباد. قال طاووس: فقلت لابن عباس: ما قوله حاضر لباد؟ قال: لا يكن له سمسارا.
وهو حديث صحيح.(7/3585)
البخاري (1)، والنسائي (2) من حديث ابن عمر وعند الشيخين (3) من حديث أبي هريرة، وهو في بعض هذه الأحاديث بلفظ " نهينا " (4) وفي بعض: " نهى "، وفى بعضها بلفظ " لا تبع " (5) على النفي.
وقد فسر ابن عباس (6) بيع الحاضر للبادي فقال: لا يكون له سمسارا. أخرج ذلك عنه الجماعة إلا الترمذي. والسمسار (7) بمهملتين هو القيم بالأمر، ثم استعمل في متولي البيع والشراء لغيره.
وقد ثبت من حديث جابر ما يشعر بالعلة التي لأجلها نهى الشارع عن أن يبيع حاضر لبادي " دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " إذا نفى بهذا فاعلم أن قوله: حاضر لباد نكرتان عامتان لوقوعهما في سياق النفي (8) والنهي المتضمن له، فيدخل تحت النهي كل
_________
(1) في صحيحه رقم (2159).
(2) في السنن (7/ 258).
عن ابن عمر قال: " نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن بيع حاضر لباد ".
(3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2140) ورقم (2150) ومسلم في صحيحه رقم (12/ 1515).
عن أبي هريرة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "نهى أن يبيع حاضر لباد وأن يتناجشوا "
(4) انظر: حديث أنس المتقدم.
(5) انظر: حديث جابر المتقدم.
(6): انظر: حديث ابن عباس المتقدم ..
(7) سمسر، السماسرة: جمع سمسار وهو القيم بالأمر الحافظ له وهو في البيع اسم الذي يدخل بين البائع والمشتري متوسطا لإمضاء البيع والسمسرة: البيع والشراء.
" النهاية " (2/ 400).
(8) تفيد النكرة في سياق النفي والنهي والعموم وضعا، أي أن اللفظ وضع لسلب كل فرد من الأفراد عن طريق دلالة المطابقة، والمطابقة هي دلالة اللفظ على تمام مسماه.
انظر " جمع الجوامع " (1/ 413). وقيل: إن النكرة في سياق النفي والنهي أفادت العموم عن طريق دلالة الملازمة وهو قول السبكي والحنفية.
والنكرة في سياق النفي قسمان:
1) مقيس: فهو مطرد في كل نكرة في سياق النفي مع " لا " التي هي لنفس الجنس مبنية نحو: " لا رجل في الدار " ومعربة نحو: لا سائق إبل لك، وقولهم: لا ثالم عرض لك.
2) والمسموع: وهي الكلمات المحفوظة عن اللغويين وهي تحفظ ولا يقاس عليها مثاله: ما بالدار أحد، ليس المقصود هو واحد العدد، بل هذا للجنس فهو اسم لمن يصلح أن يخاطب، يستوي فيه الواحد والجمع المؤنث قولهم:
لا صافر: اسم فاعل من الصفير.
ولا نافع حزمة: ما فيها ما يوقدنا.
لا نابح، ولا ناهق، ولا داع ...
" انظر: " اللمع " (ص15)، " الإحكام " للآمدي (2/ 226 - 227)، " جمع الجوامع " (1/ 413)، " نهاية السول " (2/ 80).(7/3586)
من صدق عليه اسم الحاضر والبادي (1). ولا ريب أن اسم البادي يصدق على كل من كان ساكنا في البادية، إما دائما أو في بعض الأوقات كي يسكنها عند صلاح ثمارها من غير فرق بين أن يكون محله قريبا (2) أو بعيدا، أو كما تصدق عليه الصيغة تصدق عليه
_________
(1) انظر " النهاية " (1/ 398 - 399)
(2) قال ابن قدامة في " المغني " (6/ 309):والبادي ههنا، من يدخل البلدة من غير أهلها، سواء كان بدويا أو من قرية أو بلدة أخرى.
قال الخرقي أنه يحرم بثلاث شروط:
أ - أن يكون الحاضر قصد البادي. ليتولي البيع له.
ب- أن يكون البادي جاهلا بالسعر لقوله: " فيعرفه السعر " ولا يكون التعريف إلا لجاهل. وقد قال أحمد، في رواية أبي طالب: إذا كان البادي عارفا بالسعر، لم يحرم.
ج - أن يكون قد جلب السلع للبيع لقوله " وقد جلب السلع " والجالب هو الذي يأتي بالسلع ليبيعها.
وذكر القاضي شرطين آخرين:
أ - أن يكون مريدا ليبيعها بسعر يومها.
ب- أن يكون للناس حاجة إلى متاعه وضيق في تأخير بيعه.
وقال أصحاب الشافعي: إنما يحرم بشروط أربعة: وهي ما تقدم إلا حاجة للناس إلى متاعه. فمتي اختل منها شرط لم يحرم البيع.
وإن اجتمعت هذه الشروط فالبيع حرام. وقد صرح الخرقي ببطلانه.(7/3587)
العلة؛ وهي كون البادي يظنه للبيع برخص، فيتسبب عنه ارتزاق الحاضر (1)، وذلك لأن من كان باديا في بعض الأوقات يجهل كيفية التعامل والتبايع في ذلك الوقت الذي يكون فيه باديا، وإن كان يسيرا مهما أمكن التجويز فيه، فلا وجه لجعل النهي مختصا من كان باديا دائما.
فإن قلت تقسيم النظر إلى العلة يستلزم دخول من كان من أهل الحاضر غير عالم
_________
(1) قال القرطبي في " المفهم " (4/ 367 - 368): وظاهر هذا النهي العموم في جميع أهل البوادي، أهل العمود وغيرهم، قريبا كانوا من الحضر أو بعيدا، كان أصل المبيع عندهم بشراء أو كسب، وإليه صار غير واحد، حمله مالك على أهل العمود ممن بعد منهم عن الحضر، ولا يعرف الأسعار، إذا كان الذي جلبوه من فوائد البادية بغير شراء إنما قيده مالك بهذه القيود نظرا إلى المعني المستفاد من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض " وذلك، أن مقصوده أن يرزق أهل الحاضرة بأهل البادية، بحيث لا يضر ذلك بأهل البادية ضررا ظاهرا. وهذا لا يحصل إلا بمجموع تلك القيود وبيانه: أنهم إذا لم يكونوا أهل عمود كانوا أهل بلاد وقرى، وغالبهم يعرف الأسعار. وإذا عرفوها صارت مقاديرها مقصودة لهم. فلهم أن يتوصلوا إلى تحصيلها بأنفسهم أو بغيرهم. وإذا كان الذي جلبوه عليهم بالشراء فهم تجار يقصدون الأرباح فلا يحال بينهم وبينها. فلهم التوصل إليها بالسماسرة وغيرهم، وأما أهل العمود والموصوفون بالقيود المذكورة. فإن باع لهم السماسرة وغيرهم ضروا بأهل الحاضرة في استخراج غاية الأثمان، فيما أصله أهل البادية بغير ثمن، فقصد الشرع أن يباشروا بيع سلعهم بأنفسهم ليرتزق أهل الحاضرة بالرخص فيما لا ضرر على أهل البادية فيه. وأعرض الشرع عما يلحق أهل البادية في ذلك دفعا لأشد الضررين وترجيحا لأعظم المصلحتين.
وانظر " فتح الباري " (4/ 437).
وقال ابن قدامة في " المغني " (6/ 309): " والمعني في ذلك أنه متي ترك البدوي يبيع سلعته، اشتراها الناس برخص، ويوسع عليهم السعر فإذا تولى الحاضر بيعها، وامتنع من بيعها، إلا بسعر البلد ضاق على أهل البلد.(7/3588)
بالتعامل (1) لأنه مظنة للبيع برخص، فيحرم على من كان عالما بكيفية التعامل أن يبيع له.
قلت ذلك نادر لا اعتبار به، ولهذا لم يلتفت إليه الشارع، فلا يصح النقض (2) به ولا الكسر (3)، فإن صلح للاعتبار فهو ملزم.
فإن قلت: إذا كانت العلة ما سلف، فمن كان من أهل البادية عالما بكيفية التعامل كالقريب، بحيث ينتفي عنه مظنة الترخيص في البيع، ولا يبقى بينه وبين الحاضر فرق، هل له أن يوكل بالبيع (4)؟
_________
(1) من العلماء - كمالك - خص هذا الحكم بالبادي وجعله قيدا، ومن هم من ألحق به الحاضر إذا شاركه في عدم معرفة السعر.
وقال مالك: إنما ذكر البادي في الحديث لكونه الغالب فألحق به من يشاركه في عدم معرفة السعر الحاضر وإضرار أهل البلد بالإشارة عليه بأن لا يبادر بالبيع. وهذا تفسير الشافعية والحنابلة، وجعل المالكية البداوة قيدا وعن المالك لا يلتحق بالبدوي في ذلك إلا من كان يشبهه، قال فأما أهل القرى الذين يعرفون أثمان السلع والأسواق فليسوا داخلين في ذلك ومنهم من قيد ذلك بشرط العلم بالنهي ن وأن يكون المتاع المجلوب مما تعم به الحاجة، وأن يعرض الحضري ذلك على البدوي.
" فتح الباري " (4/ 371).
(2) تقدم تعريفه.
(3) تقدم تعريفه.
(4) قال القرطبي في " المفهم " (4/ 367): قوله " لا يبيع حاضر لباد " مفسر بقول ابن عباس: لا يكن له سمسارا، وظاهر هذا النهي العموم في جميع أهل البوادي، أهل العمود وغيرهم، قريبا كانوا من الحضر أو بعيدا، كان أصل المبيع عندهم بشراء أو كسب.
قال الحافظ في " الفتح " (4/ 371): قال ابن المنير وغيره: حمل المصنف النهي عن بيع الحاضر للبادي على معني خاص وهو البيع بالأجر أخذا من تفسير ابن عباس -بقوله لا يكون له سمسارا - وهو في الأصل القيم بالأمر، والحافظ، ثم اشتهر في متولي البيع والشراء لغيره بالأجرة كذا قيده ابن حجر وجعل حديث ابن عباس مقيدا لما أطلق من الأحاديث.
أما بغير أجرة فجعله من باب النصيحة والمعاونة فأجازه، وظاهر أقوال العلماء أن النهي شامل لما كان بأجرة، وما كان بغير أجرة.
وفسر بعضهم: صورة بيع الحاضر للبادي بأن يجيء البلد غريب بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت في الحال، فيأتيه الحاضر فيقول ضعه عندي لأبيعه لك على التدريج بأعلى سعر من هذا السعر ... ".
انظر " المغني " (6/ 310).
قال البغوي في " شرح السنة " (8/ 123): قوله: " لا يبيع حاضر لباد فذهب بعضهم إلى أن الحضري لا يجوز أن يبيع للبدوي شيئا، ولا يشتري له شيئا، وهو قول ابن سيرين وإبراهيم النخعي، لأن اسم البيع يقع على البيع والابتياع يقال: بعت الشيء وشريته بمعنى اشتريته، والكلمتان من الأضداد.(7/3589)
قلت: وجود من هو لهذه الصفة من أهل البادية ممنوع، والسند انه قد غاب عن الحضر في بعض الأوقات، وذلك مستلزم لعدم العلم بكيفية التعامل في وقت الغيبة على التفضيل؛ فهو مظنة للبيع برخص، فإن قيل: ربما كانت الأخبار بمقدار التعامل وكيفيته يتصل به في حال غيبته.
قلت: حديث " ليس الخبر كالمعاينة " (1) مانع من تخصيص النص بمجرد ذلك، لأنه قد أفاد أن وصف كونه باديا في تلك الحال غير طردي، فلا تجوز العادة بمسلك ينقح المناط (2)، ومن التخصص بمجرد الاستنباط قوله أن النهي مختص بزمن الغلاء (3)، وقيل (4): هو مختص بأن يضعه البادي عند الحاضر ليبيعه على التدريج بأغلى من سعر
_________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (1/ 251) من حديث ابن عباس بسند صحيح.
(2) وتقدم تعريفه: وهو إلحاق الفرع بالأصل بإلغاء الفارق بأن يقال لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وذلك مدخل له في الحكم البتة فيلزم اشتراكهما في الحكم لاشتراكهما في الموجب له. كقياس الأمة على العبد في السراية فإنه لا فارق بينهما إلا الذكورة وهو ملغي بالإجماع إذ لا مدخل له في العلية.
وانظر مزيد تفصيل في " البحر المحيط " (5/ 255)، و" الكوكب المنير " (4/ 199).
(3) قال ابن حجر في " الفتح " (4/ 371): قوله " لا يكون سمسارا " بمهملتين هو في الأصل القيم بالأمر والحافظ له، ثم استعمل في متولي البيع والشراء لغيره، وفى هذا التفسير تعقب على من فسر الحاضر لبادي بأن المراد نهي الحاضر أن يبيع للبادي في زمن الغلاء شيئا يحتاج إليه أهل البلد فهذا مذكور في كتب الحنفية.
(4) تقدم ذكر هذه الشروط. انظر " الفتح " (4/ 371).
" المغني " (6/ 308).(7/3590)
الوقت (1).
وقيل: لابد أن يكون المجلوب مما يعم الحاجة إليه (2).
وقيل لا بد أن يكون ذلك المبيع مما يحصل به التوسعة في البلد، لا إذا كان حقيرا، وكل التخصيص بمجرد الاستنباط، وهو في بعضها في غاية الخفاء، وفى بعض له بعض الظهور، والجميع ما لا يطمئن إلى التخصيص به من راض نفسه في علم الأصول، ولاحظ في تصرفاته على المعقول والمنقول، ثم اعلم أن البادية في اللغة خلاف الحاضرة.
قال في القاموس (3): البدو البادية، والباداة، والبداوة بخلاف الحضر، وتبدي إقالتها، وتبادي تشبه بأهلها، والنسبة بداوي، وبدوي، وبدا القوم حواء إلى البادية انتهى،
_________
(1) قال ابن حجر في " الفتح " (4/ 371): " فجعلوا الحكم منوطا بالبادي ومن شاركه في معناه ... " وقد تقدم ذكره مفصلا.
(2) قال ابن دقيق العيد في " إحكام الأحكام " (3/ 115 - 116): واعلم أن أكثر هذه الأحكام قد تدور بين اعتبار المعنى وإتباع اللفظ ولكن ينبغي أن ينظر في المعنى الظهور والخفاء فحيث يظهر ظهورا كثيرا فلا بأس باتباعه وتخصيص النص به أو تعميمه على قواعد القياسيين. وحيث يخفى أولا يظهر ظهورا قويا فاتباع اللفظ أولى: فأما ما ذكر من اشتراط أن يلتمس البلدي البدوي ذلك فلا يقوى لعدم دلالة اللفظ عليه وعدم ظهور المعنى فيه، فإن الضرر المذكور الذي علل به النهي لا تفترق الحالة فيه. بين سؤال البلدي والبدوي وعدمه ظاهرا:
وأما اشتراط أن يكون الطعام مما تدعوا الحاجة إليه فمتوسط في الظهور وعدمه لاحتمال أن يراعي مجرد ربح الناس في هذا الحكم على ما أشعر به التعليل من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ".
وأما اشتراط أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعة في البلد فكذلك أيضًا أي أنه متوسط في الظهور لما ذكرناه من احتمال أن يكون المقصود مجرد تفويت الربح والرزق على أهل البلد: وهذه الشروط منها ما يقوم الدليل الشرعي عليه كشرطنا العلم بالنهي ولا إشكال فيه: ومنها ما يؤخذ باستنباط المعنى فيخرج على قاعدة أصولية وهي أن النص إذا استنبط منه معنى يعود عليه بالتخصيص هل يصح أولا ويظهر لك هذا باعتبار بعض ما ذكرناه من الشروط.
(3) (ص1629).(7/3591)
وظاهر أحاديث النهي السالفة (1) أن بيع الحاضر البادي محرم من غير فرق بين القريب والصديق، وغيرهما، وإلى التحريم ذهب الجمهور (2)، وهو الحق. وذهب عطاء ومجاهد، والهادي، وأبو حنيفة (3) إلى ذلك مطلقا من دون كراهة، واحتجوا أولا بأحاديث النصيحة (4) لكل مسلم، وهي أحاديث صحيحة، ولكنها تجاب عنها بأنها أعم مطلقا حتى أحاديث النهي للحاضر عن البيع للبادي فلا يصلح لمعارضة أحاديث النهي، ولا لنسخها (5) كما زعم البعض، اللهم إلا أن يصح تأخر أحاديث النصيحة عن أحاديث النهي؛ فإنها تكون ناسخة عند من جعل العام المتأخر ناسخا، وهو مع كونه مذهبا مرجوحا متوقف على تأخر العام، ولم ينتقل أحد من أهل العلم أنه متأخر فيبني العام على الخاص كما هو المذهب الحق. وقد نقل بعضهم أنه مجمع عليه من جهل التاريخ، واحتجوا ثانيا بالقياس على جواز توكيل البادي للحاضر (6)، ويجاب عنه بأنه قياس في مقابلة النص، فهو فاسد الاعتبار، على أنه لو سلم وجود دليل يدل على جواز التوكيل مطلقا لكان عاما، لشموله وكيل البيع والشراء، والخصومة وغير ذلك، وغير النهي يكون خاصا فيبني العام على الخاص. وممن رجح التحريم الإمام المهدي في البحر (7) حيث كان فيه إضرار.
_________
(1) انظر " المفهم " (4/ 368). وقد تقدم. " الفتح " (4/ 371).
(2) انظر " المغني " (6/ 307).
(3) انظر " البناية في شرح الهداية " (7/ 390 - 391).
(4) قال الحافظ في " الفتح " (4/ 371) وحمل الجمهور حديث " الدين النصيحة " على عمومه إلا في بيع الحاضر للبادي فهو خاص يقضي على العام والنسخ لا يثبت بالاحتمال. وجمع البخاري بينهما بتخصيص النهي بمن بيع له بالأجرة كالسمسار وأما من ينصحه فيعلمه بأن السعر كذا مثلا فلا يدخل عنده والله أعلم.
(5) قال الحافظ في " الفتح " (4/ 371) وحمل الجمهور حديث " الدين النصيحة " على عمومه إلا في بيع الحاضر للبادي فهو خاص يقضي على العام والنسخ لا يثبت بالاحتمال. وجمع البخاري بينهما بتخصيص النهي بمن بيع له بالأجرة كالسمسار وأما من ينصحه فيعلمه بأن السعر كذا مثلا فلا يدخل عنده والله أعلم.
(6) تقدم التعليق على ذلك.
(7) (3/ 297).(7/3592)
قال ابن حبيب المالكي (1): الشراء للبادي مثل البيع له لقوله: " لا يبيع بعضكم على بيع بعض " (2) فإن معناه الشراء.
وعن مالك روايتان (3)، وكرهه ابن سيرين (4).
_________
(1) عزاه إليه الحافظ في " الفتح " (4/ 373).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2140) وأطرافه (2148،2150،2151، 2160، 2162، 2723، 5144، 5152، 6601) ومسلم في صحيحه رقم (1515). عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها ".
وأخرجه النسائي في " السنن " (7/ 258رقم 4503) وأحمد (2/ 126، 153) عن ابن عمر قال أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يبيع أحدكم على بيع أخيه ".
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (5142) ومسلم رقم (8/ 1412).
(3) قال ابن قدامة في " المغني " (6/ 310 - 311) وعن مالك في ذلك روايتان ووجه القول الأول أن النهي غير متناول للشراء بلفظه ولا هو في معناه، فإن النهي عن البيع للرفق بأهل الحضر ليتسع عليهم السعر ويزول عنهم الضرر وليس ذلك في الشراء لهم، إذ لا يتضررون لعدم الغبن للبادين، بل هو دفع الضرر عنهم، والخلق في نظر الشارع على السواء، فكما شرع ما يدفع الضرر عن أهل الحضر لا يلزم أن يلزم أهل البدو الضرر.
وأما إن أشار الحاضر على البادي من غير أن يباشر البيع له، فقد رخص فيه طلحة بن عبيد الله، والأوزاعي، وابن المنذر، وكرهه مالك، والليث، وقول الصحابي حجة ما لم يثبت خلافه.
وقد صح عند أحمد - الشراء لهم - وهو قول الحسن، وكرهت طائفة الشراء لهم، كما كرهت البيع.
(4) قال البخاري في صحيحه (4/ 372رقم 70) لا يشتري حاضر لباد بالسمسرة وكرهه ابن سيرين وإبراهيم للبائع والمشتري.
وقال إبراهيم: " إن العرب تقول بع لي ثوبا وهي تقصد الشراء ".
انظر " فتح الباري " (4/ 354)، و" البناية في شرح الهداية " (7/ 390 - 391).
قال ابن قدامة في " المغني " (6/ 305 - 306) قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لا يبيع بعضكم على بيع بعض " معناه: أن الرجلين إذا تبايعا، فجاء آخر إلى المشتري في مدة الخيار، أنا أبيعك مثل هذه السلعة بدون هذا الثمن أو أبيعك خيرا منها بثمنها أو دونها، أو عرض عليه سلعة رغب فيها المشتري، ففسخ البيع، واشترى هذه فهذا غير جائز، لنهي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولما فيه من الأضرار بالمسلم والإفساد عليه، وكذلك إن اشترى على شراء أخيه، وهو أن يجيء إلى البائع قبل لزوم العقد، فيدفع في المبيع أكثر من الثمن الذي اشترى به، فهو محرج أيضًا لأنه في معنى النهي عنه، ولأن الشراء يسمى بيعا فيدخل في النهي، فالبيع باطل، لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد.
وقال ابن حجر في " الفتح " (4/ 353): قال العلماء البيع على البيع حرام وكذلك الشراء على الشراء، وهو أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار: افسخ لأبيعك بأنقص، أو يقول للبائع افسخ لأشتري منك بأزيد، وهو مجمع عليه.
وأما السوم فصورته أن يأخذ شيئا ليشتريه فيقول له رده لأبيعك خيرا منه بثمنه أو مثله بأرخص، أو يقول للمالك استرده لأشتريه منك بأكثر، ومحله بعد استقرار الثمن وركون أحدهما إلى الآخر فإن كان ذلك صريحا فلا خلاف في التحريم، وإن كان ظاهرا ففيه وجهان للشافعية، ونقل ابن حزم الركون على مالك.(7/3593)
وأخرج أبو عوانة في صحيحه (1) عن أنس أنه قيل له: أنهيتم أن تبيعوا أو تبتاعوا لهم؟. قال: نعم وأخرج أبو داود (2) عن أنس أنه قال: هي كلمة جامعة لا تبيع له شيئا، ولا تبتاع له شيئا. ومرجعه إلى جواز استعمال المشترك (3) في معنييه أو معانيه،
_________
(1) في مسنده (3/ 274رقم 4946) عن ابن سيرين قال: كان يقال: لا يبيع حاضر لباد، قال: فلقيت أنس ابن مالك.
فقلت: نهيتم أن تبيعون لهم أو تبتاعوا لهم؟ قال: نهيها أن نبيع لهم، وأن نبتاع لهم قال محمد: وصدق إنها كلمة جامعة.
(2) في السنن رقم (3440) وهو حديث صحيح.
(3) المشترك: هو اللفظة الموضوعة لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعا أولا من حيث هما كذلك.
" المحصول " (1/ 261).
وقيل هو اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين أو أكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة، سواء كانت الدلالتان متفاوتتين من الوضع الأول أو من كثرة الاستعمال، أو استفيدت إحداهما من الوضع والأخرى من كثرة الاستعمال وهو في اللغة على الأصح. ومثل: القرء، العين، فإنها مشتركة بين معانيها المعروفة .... ".
" البحر المحيط " (2/ 122).
قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص102): ذهب الشافعي والقاضي أبو بكر وأبو على الجبائي والقاضي عبد الجبار ابن أحمد، والقاضي جعفر والشيخ الحسن والجمهور إلى جواز استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو معانيه.
وذهب أبو هاشم وأبو الحسين البصري والكرخي إلى امتناعه.
انظر تفصيل ذلك. " نهاية السول " (2/ 16)، " المحصول " (1/ 270 - 272).(7/3594)
والخلاف في ذلك معروف في الأصول (1)، وقد تقرر في اللغة (2) أن البيع يطلق على الشراء والعكس حقيقة لا مجازا، والحق جواز استعمال (3) المشترك في معنييه أو معانيه إذا لم يكن بينها تضاد (4)، وليس هذا موطن الكلام في ذلك. وفى هذا المقدار كفاية لمن له هداية. انتهى من تحرير المجيب القاضي محمد بن على الشوكاني -غفر الله لهما -.
_________
(1) انظر: " الإنهاج (1/ 259)،: " نهاية السول " (2/ 138 - 140).
(2) انظر " القاموس " (ص911).
(3) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص105): بعد أن ذكر أدلة المجوزين وأدلة المانعين، قال: إذا عرفت هذا لاح لك عدم جواز الجمع بين معنى مشترك أو معانيه، ولم يأت من جوزه بحجة مقبولة.
وقد قيل أنه يجوز الجمع مجازا لا حقيقة، وبه قال جماعة من المتأخرين.
وقيل يجوز إرادة الجمع لكن بمجرد القصد لا من حيث اللغة، وقد نسب هذا إلى الغزالي والرازي.
وقيل يجوز الجمع في النفي لا في الإثبات، فيقول مثلا: ما رأيت عينا يراد العين الجارحة وعين الذهب وعين الشمس وعين الماء. ولا يصح أن يقال عندي عين وتراد هذه المعاني بهذا اللفظ.
وقيل بإرادة الجميع في الجمع فيقال مثلا عندي عيون ويراد تلك المعاني، وكذا المثني حكمه حكم الجمع فيقال مثلا عندي جونان ويراد أبيض وأسود، ولا يصح إرادة المعنين أو المعاني بلفظ المفرد وهذا الخلاف إنما هو في المعاني التي يصح الجمع بينها وفى المعنيين الذين يصح الجمع بينهما لا في المعني المتناقضة.
وانظر " نهاية السول " (2/ 138 - 140)، " الإنهاج " (1/ 263).
(4) انظر التعليقة السابقة.(7/3595)
المسك الفايح في حط الجوايح
تأليف
محمد بن على الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(7/3597)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " المسك الفايح في حط الجوايح ".
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وبعد: فإنه ثبت في صحيح مسلم .... ". 4 - آخر الرسالة: فالملزوم مثله وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق. كتبه مؤلفه محمد الشوكاني غفر الله له.
ويليه أبيات شعرية " للعلامة على بن يحيى بن أبو طالب لما اطلع على هذا البحث.
5 - نوع الخط: خط نسخي عادي.
6 - عدد الصفحات: 4 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 24 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(7/3599)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وبعد:
فإنه ثبت في صحيح مسلم (1) وغيره (2) من حديث جابر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، أمر بوضع الجوايح. ولفظ عند أحمد (3)، والنسائي (4)، وأبي داود (5) " أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وضع الجوايح". وكلا اللفظين من صيغ العموم.
فيشمل كل جائحة (6)، والجائحة هي الآفة التي تصيب الزرع أو الثمر، ولكن قد وقع الإجماع على أن البرد، والبرد، والقحط، والعطش، وكل آفة سماوية: داخل تحت عموم الجوائح.
واختلفوا إذا كانت الجائحة من جهة الآدميين، كالسرقة وإفساد الزرع، ونحو
_________
(1) رقم (17/ 1554).
(2) انظر التعليقة التالية.
(3) في المسند (3/ 309).
(4) في سنن (7/ 265رقم 4529).
(5) في السنن رقم (3374).
وهو حديث صحيح.
(6) الجائحة: وهي الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها، وكل مصيبة عظيمة وفتنة مبيرة: جائحة والجمع جوائح، وجاحهم، يجوحهم جوحا: إذا غشيهم بالجوائح وأهلكهم.
" النهاية " (1/ 311 - 312).
وقال ابن قدامة في " المغني " (6/ 179): أن الجائحة كل آفة لا صنع للآدمي فيها، كالريح، والبرد، والجراد، والعطش.
* الجوائح إحداها جائحة وهى الشدة، والنازلة العظيمة التي تحتاج المال، وتستأصل شأفته، وهي المصيبة التي تحل بالرجل في ماله فتجتاحه كله، وقال ابن شميل: أصابتهم جائحة: أي سنة شديدة اجتاحت أموالهم فلم تدع لهم وجاحا، والوجاح: بقية الشيء من مال أو غيره.
انظر " لسان العرب " (2/ 410)، " الأم " (6/ 184).(7/3603)
ذلك.
وإذا تقرر عموم الجوائح كما قدمنا، دخل في ذلك كل ما أصابته الجائحة. وسواء أصابت عين المبيع، كمن يبيع زرعا، أو ثمرا، فتصيبه الجائحة قبل أن ينتفع به المشتري، أو أصابت ما هو الفائدة المطلوبة، والمنتفعة المقصودة من ذلك الشيء. وذلك كمن يؤجر أرضا للزرع، أو ماء للسقي، أو بستانا للثمرة الحاصلة منه، أو لبعضها، فأصاب ذلك الزرع، أو تلك الثمرة الجائحة، ذهبت بها، أو ببعضها، فإنه لا شك، ولا ريب أن هذا مما تشمله الجوائح، ويدخل تحت عمومها.
والتنصيص على بعض ما يشمله العموم، كما وقع في بعض الأحاديث من التنصيص بلفظ " إن بعت من أخيك ثمرا، فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ "، أخرجه مسلم (1)، وأبو داود (2)،والنسائي (3)، وابن ماجه (4). وفي لفظ " إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك؟ " أخرجه البخاري (5)، ومسلم (6): لا ينافي شمول الجوائح لما عدا ذلك، كما هو في المقرر في الأصول، عند جميع أهل العلم، إلا من يعتد بقوله.
على أن التنصيص على بعض أفراد العام، لا يكون موجبا لتخصيص العموم. على أن في لفظ الصحيحين (7) المذكور، وهو قوله: " إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك؟ "، وتأييدا لما قررناه، فإن من أكرى أرض للزرع، أو بستانا للثمر، أو ماء
_________
(1) في صحيحه رقم (1554).
(2) في السنن رقم (3470).
(3) في السنن رقم (7/ 265).
(4) في السنن رقم (2119).
(5) في صحيحه رقم (2195).
(6) في صحيحه رقم (1555).
قلت: وأخرجه أحمد (3/ 115)، والنسائي (7/ 264).
(7) في صحيحه رقم (1555).
قلت: وأخرجه أحمد (3/ 115)، والنسائي (7/ 264).(7/3604)
للسقي، ثم ذهبت الجائحة بما هو المقصود (1) وهو الزرع أو الثمر، فهذا يقال له
_________
(1) قال ابن قدامه في " المغني " (6/ 177 - 178): والكلام في هذه المسألة: أن ما تهلكه الجائحة من ثمار من ضمان البائع، وبهذا قال أكثر أهل المدينة، منهم يحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك، وأبو عبيد، وجماعة من أهل الحديث. وبه قال الشافعي في التقدم.
قال الشافعي في " الأم " (6/ 184): " وإذا اشترى الرجل ثمرة، فخلى بينه وبينها فأصابتها جائحة، فلا نحكم له على البائع أن يضع عنه من ثمنها شيئا ".
قال الماوردي في " الحاوي " (6/ 246): وصورتها: في رجل باع ثمرة على رؤوس نخلها وسلمت إلى المشتري، فتلفت الجائحة قبل جدادها، فقد كان الشافعي في القديم: يذهب إلى أنها من ضمان بائعها. وأن هذا البيع باطل ورجح هذا القول في الجديد: وقال: تكون من ضمان المشتري فلا يبطل البيع بتلفها، وبه يقول أبو حنيفة والليث بن سعد.
واستدل من جعل الجوائح مضمونة على البائع:
1 - حديث سفيان بن عيينة , عن حميد بن قيس، عن سليمان بن عتيق، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نهى عن بيع السنين وأمره بوضع الجوائح " - تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
2 - وحديث بن جريح عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ ".
وقالوا: ولأن الثمر لا يتم قبضها إلا بجدها من نخلها بدليل أنها لو عطشت وأضر ذلك بها كان للمشتري الخيار في الفسخ بحدوث هذا العيب وما حدث من العيب بعد القبض لا يستحق به المشتري الخيار، وإذا دل ذلك على أنها غير مقبوضة، وجب أن تكون بالغة من مال بائعها، لأن ما لم يقبض مضمون على البائع دون المشتري.
وقالوا: ولأن قبض الثمرة ملحق بها الدار المستأجرة، لأن العرف في الثمار أن تأخذ لقطة بعد لقطة، كما تستوفى منافع الدار مدة بعد مدة، فلما كان تلف الدار المستأجرة قبل مضي المدة مبطلا للإجارة وإن حصل التمكين، وجب أن يكون تلف الثمرة المبيعة قبل الجداد مبطلا للبيع وإن حصل التمكين.
ودليل قول الشافعي في الجديد: به قال أبو حنيفة: أن الجوائح لا يضمنها البائع ولا يبطل بها البيع. وما رواه الشافعي عن مالك، عن حميد، عن أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قيل وما تزهي؟ قال: حتى تخمر ". أخرجه البخاري رقم (2197، 2168) ومسلم رقم (1555)، والشافعي في مسنده (2/ 145 - 151) وابن ماجه رقم (2217).
وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه ". تقدم تخريجه.
فموضع الدلالة منه هو: أنه لو كانت الجائحة مضمونة على البائع لما استضر المشتري بالجائحة قبل بدو الصلاح، ولما كان لنهيه عنه حفظا لمال المشتري وجها، لأنه محفوظ إن تلف في الحالتين بالرجوع إلى البائع، فلما نهى في البيع عن الحالتين بالرجوع على البائع، فلما نهى عن البيع في الحال التي يخالف من الجائحة فيها، لئلا يؤخذ مال المشتري بغير حق، علم أن الجائحة لا تكون مضمونة على البائع، وأنها مضمونة فيما صح بيعه عن المشتري.
وحديث عمرة بنت عبد الرحمن - مرسلا، ومستندا، عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا من الأنصار ابتاع من رجل ثمرة فأصيب فيها، فسأل البائع أن يحطه شيئا فحلف بالله أن لا يفعل فأتت أمه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تألي فلانا أن لا يفعل خيرا ".
أخرجه البخاري (2705) ومسلم رقم (1557) وأحمد (6/ 69) ومالك (2/ 621) وهو حديث صحيح.
قيل: ولو كان واجبا لأجبره عليه، لأن التخلية يتعلق فيها جواز التصوف فتعلق بها بالضمان، كالنقل التحويل، ولأنه لا يضمنه إذا أتلفه آدمي، كذلك لا يضمنه بإتلاف غيره؟.
انظر: " المغني " (6/ 177).
وروى الشافعي عن يحيى بن حسان، عن الليث بن سعد، عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا اشترى ثمرا فأصيبه فيها فكثر دينه فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تصدقوا عليه " فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه.
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك ".
- أخرجه مسلم رقم (18/ 1556) وأبو داود رقم (3469) والترمذي رقم (655) وابن ماجه رقم (2356) والنسائي (7/ 312) وأحمد.
وهو حديث صحيح.
- فلو أن الجوائح مضمونة على المشتري لما أخرجه إلى الصدقة، وجعل لغرمائه ما وجدوه، ولكان يجعلها مضمونة على البائع ويضعها على المشتري.
قال ابن قدامه في " المغني " (6/ 177): ولنا ما روى مسلم في صحيحه عن جابر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوضع الجوائح - تقدم وهو حديث صحيح.
وعن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، لم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " تقدم.
وحديث: " من باع ثمرا، فأصابته جائحة فلا يأخذ من مال أخيه شيئا، على م يأخذ أحدكم مال أخيه المسلم ".
هذا صريح في الحكم فلا يعدل عنه. قال الشافعي: لم يثبت عندي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بوضع الجوائح ولو ثبت لم أعده، ولو كنت قائلا بوضعها لوضعتها في القليل والكثير. قلنا الحديث ثابت رواه الأئمة منهم: الإمام أحمد ويحيى بن معين وعلى بن حرب , وغيرهم عن ابن عيينة، عن حميد الأعرج عن سليمان بن عتيق الجابر ورواه مسلم في صحيحه وأبو داود في سنته وابن ماجه وغيرهم
- وهو حديث صحيح -.
ولا حجة لهم في حديثهم، فإن فعل الواجب خير فإذا لا تأتي أن لا يفعل الواجب، فقد تألي أن يفعل خيرا، فأما الأخيار فلا يفعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمجرد قول المدعي من غير إقرار من البائع، ولا حضور.
ثم قال: ولأن التخلية ليست بقبض تام، بدليل ما لو تلفت بعطش عند بعضهم، ولا يلزم من إباحة التصرف تمام القبض. بدليل المنافع في الإجازة يباح التصرف فيها، ولو تلفت كانت من ضمان المؤجر، كذلك الثمرة، فإنها في شجرها، كالمنافع قبل استيفائها، توجد حالا فحالا، وقياسهم ببطل التخلية في الإجازة.
انظر " الحاوي الكبير " (6/ 246 - 248)، " الأم " (6/ 182 - 185).
* وقال مالك رضي الله عنه: إن كان تلفها بجناية آدمي فهي من ضمان المشتري وإن كانت بجائحة من السماء، فإن كانت قدر الثلث فصاعدا فهي من ضمان البائع، وإن كانت دون الثلث فهي من ضمان المشتري.
قال القرطبي في " المفهم " (4/ 425): أما تفريق المالك بين القليل والكثير فوجهه أن القليل معلوم الوقوع، بحكم العادة، إذ لا بد من سقوط شيء منه، وعفنه، وتتريبه، فكأن المشتري دخل عليه، ورضي به، وليس كذلك الكثير فإنه لم يدخل عله، فلما افترق الحال في العادة فينبغي أن يفترق في الحكم. وإذا لم يكن بد من فرق بينهما - فالقليل ما دون الثلث، والكثير: الثلث فما زاد، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الثلث، والثلث كثير " أو كبير - أخرجه البخاري رقم (1295) -ثم هل يعتبر ثلث مكيله الثمرة، أو ثلث الثمن؟ قولان: الأول لابن القاسم والثاني لأشهب.
انظر: " الحاوي " (6/ 249).
وقال ابن قدامه في: " المغني " (6/ 189 - 180): أن ظاهر المذهب، أنه لا فرق بين قليل الحيلة وكثيرها إلا أن ما جرت العادة بتلف مثله كالشيء اليسير الذي لا ينضبط، فلا يلتفت إليه.
قال أحمد: إني لا أقول في عشر ثمرات، ولا عشرين ثمرة، ولا أدري ما الثلث، ولكن إذا كانت جائحة تعرف. الثلث، أو الربع، أو الخمس، توضع.
وفى رواية أخرى، أن ما كان دون الثلث فهو ضمان المشتري، وهو مذهب مالك والشافعي في القديم، لأنه لا بد أن يأكل الطير منها.
وتنشر الريح، ويسقط منها، فلم يكن بد من ضابط واحد فاصل بين ذلك وبين الجائحة، والثلث قد رأينا الشرع قد اعتبره من مواضع منها: الوصية، وعطايا المريض، وتساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى الثلث، قال الأثرم: قال أحمد: إنهم يستعملون الثلث في سبع عشرة مسألة، ولأن الثلث في حد الكثرة، وما دونه في حد القلة، بدليل قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقدم - فيدل هذا على أنه آخر حد الكثرة، فلهذا قدر به.
ووجه الأول، عموم الأحاديث فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بوضع الجوائح وما دون الثلث داخل فيه فيجيب وضعه، ولأن هذه الثمرة لم يتم قبضها، فكان ما تلف منها من مال البائع، وإن كان قليلا، كالتي على وجه الأرض وما أكله الطير أو سقط لا يؤثر في العادة، ولا يسمي جائحة، فلا يدخل في الخبر ولا يمكن التحرز منه، فهو معلوم الوجود بحكم العادة، وضع من الثمن بمقدار الذاهب. فإن تلف الجميع، بطل العقد، ويرجع المشتري بجميع الثمن.
وأما الرواية الأخرى، فإنه يعتبر ثلث المبلغ، وقيل: ثلث القيمة فإن تلف الجميع، أو أكثر من الثلث، رجع بقيمة التالف كله من الثمن وإذا اختلفا في الجائحة أو قد ما أتلف، فالقول قول البائع، لأن الأصل السلامة، ولأنه غارم، والقول في الأصول وقول الغارم.(7/3605)
بما قاله الصادق المصدوق - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك؟ ". ولا يخفى ما في لفظ الثمرة من العموم، وكذلك ما في لفظ مال أخيك من العموم. ولا ينافي كون السبب واردا في بيع الثمرة، فإن الاعتبار(7/3608)
بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب (1)، هو مذهب الجماهير، بل مذهب الكل إلا من لا يعتد به، فتقرر لك بهذا، عموم الجوائح، وعموم الثمرة، وعموم مال الأخ، وذلك يقتضي حط كل جائحة، إذا ذهبت بالزرع أو الثمرة، وحط البعض، إذا ذهبت بالبعض، وأنه لا فرق بين كون المبيع زرعا، أو ثمرا، أو كونه منفعة يراد بها الزرع، أو الثمر، كتأجير الأرض، أو الماء للزرع، أو الثمر، بل حط الجائحة في كرى الأرض والماء للزرع، أو الثمر إذا أصابت تلك الجائحة ما هو المقصود من الزرع أو الثمر ثابت بطريق الأولى.
وبيان ذلك: أن الذي باع الزرع، أو الثمر قد غرم على ذلك غرامات: (منها): حرث الأرض وبذرها، أو العمل في الشجر والتعب في تحصيل ثمرها، حتى صار ذلك زرعا، أو ثمرا بعد أن غرم عليه صاحبه غرامات متعددة في الأرض أولا، ثم في الزرع والثمر ثانيا.
فإذا ثبت وضح الجائحة فيما كان هكذا، فكيف لا يثبت وضع الجائحة فيما هو مجرد تأجير للأرض، أو الماء، من دون أن يغرم علي الأرض غرامة قط!، ولا غرم على الماء غرامة قط، ولا بذر، ولا فعل ما يوجب تنمية الزرع، ولا الثمر مع العلم بأنه ليس المقصود بذلك، إلا مجرد الزرع الذي قد ذهبت به الجائحة، أو الثمر الذي قد أصيب بها أهل الأصول فحوى ..................................
_________
(1) العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ويريدون بهذه العبارة، أن العام يبقى على عمومه وإن كان وروده بسبب خاص كسؤال أو واقعة معينة. فالعبرة بالنصوص وما اشتملت عليه من أحكام، وليست العبرة بالأسباب التي دعت إلى مجيء هذه النصوص.
فإذا النص بصيغة عامة لزم العمل بعمومه، دون الالتفات إلى السبب الذي جاء النص العام من أجله سؤالا جاء هذا السبب أو واقعة حدثت لأن مجيء النص بصيغة العموم يعني أن الشارع أراد أن يكون حكمه عاما لا خاصا بسببه، وهذا مذهب الحنابلة والحنفية وغيرهم. "
الكوكب المنير " (3/ 177 - 178).(7/3609)
الخطاب (1)، وهو معمول به إجماعا، ولم يخالف فيه من خالف في العمل ببعض المفاهيم، ولا خالف في العمل ببعض أنواع القياس.
وبيان آخر وهو أنه لا شك، ولا ريب أن وضع الجائحة الواقعة على نفس الزرع الذي باعه البائع، وقد صار زرعا، وعلى نفس الثمر الذي باعه البائع، وقد صار ثمرا، فيه من ذهاب الفائدة (2) العائدة إلى البائع زيادة على ما ذهب من الفائدة: العائدة للمؤجر لنفس الأرض، أو الشجر، ولا زرع هناك، ولا ثمرة، فإن قيمة الزرع أو الثمر الحاصل أكثر من مجرد قيمة الأرض، أو الماء للثمرة التي لا تحصل للمستأجر، إلا بالحرث للأرض والبذر، والتعب في تحصيل الزرع والثمر.
هذا معلوم لكل عاقل، ومعلوم لكل عاقل أنه لا يقصد باستئجار الأرض، أو الماء، إلا ما يترتب على ذلك من فائدة الزرع، أو الثمر، وكان دخول حط الجوايح في الأشياء المؤجرة لذلك أولى من دخول حط ما قد صار زرعا، أو ثمرا. وأصابته الجائحة، ومن لا يفهم هذا، فهو لا يفهم مدلولات الكلام كما ينبغي. وعلى كل حال فالاستدلال بعموم الجوائح (3)، وبعموم: " بم تستحل مال أخيك " لا يحتاج معهما إلى
_________
(1) تقدم توضيحه.
(2) قال ابن قدامه في " المغني " (6/ 180): إذا استأجر أرضا، فزرعها فتلف الزرع، فلا شيء على المؤجر، نص عليه أحمد. ولا نعلم فيه خلافا، لأن المعقود عليه منافع الأرض، ولم تتلف، وإنما تلف مال المستأجر فيها، فسار كدار استأجرها ليقصر فيها ثيابه، فتلفت الثياب فيها.
قال الماوردي في " الحاوي " (6/ 250): وأما الجواب عن الاستدلال بالدار المؤجرة، فلا يصح الجمع بينهما، لأن ما يحدث من منافع غير وجود في الحال، ولا يقدر المستأجر على قبضه، فبطلت الإجارة بتلف الدار قبل المدة وليست الثمرة كذلك، لأنها موجودة يمكن للمشتري أن يتصرف فيها ويحدث في الحال جميعها، فلا يبطل البيع بتلفها بعد التمكين منها والله أعلم.
(3) لا يخلوا حال تلفها بعد العقد من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تتلف قبل التسليم.
أ - إما أن يكون بجائحة من السماء، أو بجناية آدمي، أو بجناية البائع فإن تلفت بجائحة من السماء، كانت من ضمان البائع، وبطل البيع، لا يختلف، لأن تلف المبيع قبل القبض مبطل للبيع.
ب- وإن تلفت بجناية آدمي غير البائع، ففي بطلان البيع قولان:
1 - قد يبطل كما لو تلفت بجائحة سماء.
2 - لا يبطل البيع، لأن بدلها مستحق على الجاني، لكن يكون المشتري بالخيار بحدوث الجناية بين الفسخ والرجوع بالثمن، وبين إمضاء البيع بالثمن مطالبة الجاني بمثل قيمتها إن لم يكن لها مثل.
ج -وإن تلفت بجناية البائع، ففيه وجهان حكاهما ابن سريج:
1 - أن جناية البائع كجائحة من السماء، فعلى هذا يكون البيع باطلا قولا واحدا.
2 - أنها كجناية الأجنبي، فعلى هذا في بطلان البيع بها قولان.
ثانيهما: أن يكون تلفها بعد التسليم وقبل الجداد، فهذا ضربين:
1 - أن يكون المشتري قد تمكن من جدادها بعد التسليم فأخره حتى تلفت فيتكون من ضمان المشتري، ولا يبطل به الأحوال كلها سواء كان تلفها بجائحة أو بجناية، لأن تأخير الجداد مع الإمكان تفريط منه.
2 - أن لا يتمكن المشتري من جدادها حتى تلفت، فتنظر في سبب تلفها فإنه لا يخلوا من الأحوال الثلاثة: إما بجائحة سماء، أو جناية أجنبي أو جناية البائع.
فإن كان تلفها بجائحة سماء، ففي بطلان البيع قولان مضيا.
وإن كان تلفها بجناية البائع، فإن قيل: إن البيع لا يبطل بجائحة السماء، فيكون أن يبطل بجناية أجنبي. وإن قيل: إنه يبطل بجائحة السماء ففي بطلانه بجناية الآدمي قولان:
وإن كان تلفها بجناية البائع: فأحد الوجهين: أنها تكون كجائحة السماء فيكون في بطلان البيع قولان.
والوجه الثاني: أنها كجناية الأجنبي على ما مضي، فهذا الحكم في تلفها بعد التسليم وقبل الجداد.
ثالثهما: هو أن يكون تلفها بعد الجداد، فالبيع ماض لا يبطل بتلفها على الأحوال كلها، لاستقرار القبض، وانقضاء العقد وتكون مضمونه على الآدمي بالمثل أو بالقيمة إن يكن لها مثل.
انظر: " المغني " (6/ 179 - 180)، " الأم " (6/ 191 - 192).(7/3610)
طلب دليل آخر، فإنه قد صدق الدليل على المدلول صدقا لغويا وشرعيا. ولا يخالف في هذا الصدق إلا من لا يفهم الحقائق. ولا يدري بكيفية الاستدلال، ولا كيف يستدل(7/3611)
لأن ذلك، لا يكون، إلا لمجرد الجمود على الأسباب، وهو لا يقع من عارف، أو لمجرد الجمود بما ليس مخصص، وهو التنصيص على بعض أفراد العام. فإن قال القائل: بالفرق بين الأعيان والمنافع فهذا مع كونه كلام من لا يفهم الحقائق، هو أيضًا غلط فاحش على مصلحة اللغة، ومصطلح الشرع، فإنه لا يراد بالأعيان، إلا ما يترتب عليها من المنافع كما أنه لا يراد بالمنافع إلا ما يترتب عليها منها وبمجرد التسمية، لا سيما إذا كانت حادثة، بين قوم تواضعوا عليها، لا يحل لمسلم، أن يقول: إنه ينبني عليها تحليل، أو تحريم، وإلا لزم أنه إذا تواضع قوم على تسمية شيء من الحرام باسم الحلال، أو على تسمية شيء من الحلال باسم الحرام، أن يكون ذلك كما تواضعوا عليه، واللازم باطل بالضرورة الدينية، فالملزوم مثله، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق.
كتبه مؤلفه محمد الشوكاني. غفر الله له.(7/3612)
هذا النظم لسيدي العلامة على بن يحيى أبو طالب (1) لما اطلع على هذا البحث:
تدفق من طود العلوم معين ... لينبت في أرض القلوب يقين
فأثمر علما لا يخاف اجتياحه ... إذا كان خوف في الثمار يكون
وأومض في ليل العمى برق فطنة ... فلاحت بأشباه الأمور عيون
وكانت مجاريه إلي صحائفا ... يسير بها در إلى مشين
فإن عرضت للعلم بالوهم آفة ... فليس على تلك الصحائف هون
فلله بحر لا تغيضه الدلاء ... وبدر لمستور المكان يبين
_________
(1) العلامة على بن يحيى بن الحسن بن القاسم بن أبي طالب أحمد ابن الإمام القاسم بن محمد الحسني الصنعاني، مولده سنة 1159 هـ.
قرأ على جماعة من المتقدمين كالقاضي العلامة أحمد بن صالح بن أبي الرجال والقاضي عبد الله بن محيي الدين العراسي، والسيد أحمد بن يوسف الحديث السيد يحيى بن الحسن بن إسحاق والفقيه لطف بن أحمد الورد وأخذ عن القاضي محمد بن علي الشوكاني في الصحيحين وسنن أبي داود والكشاف وفتح القدير وقد ترجم له الشوكاني.
مات في صفر سنة 1236 هـ.
انظر: " البدر الطالع " رقم (351)، "نيل الوطر " (2/ 165 - 166).(7/3613)
بحث في الربا والنسيئة
تأليف
محمد بن على الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(7/3615)
بسم الله الرحمن الرحيم -
كثر الله فوائدكم، ومد الطلاب على موائدكم - قلتم في سؤالكم وبحثكم النفيس ما لفظه: الشارع -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أناط تحريم التفاضل والنسا باتفاق البدلين جنسا وتقديرا، وأناط تحريم النسا، باختلافهما جنسا، ولم يذكر اختلافهما في التقدير، فبقى اتفاقهما فيه شرطا في تحريم النسا، ويشهد له أورده المولى في السيل (1): " أمرنا أن نبيع البر بالشعير، والشعير بالبر، يدا بيد كيف شئنا " (2) وعزاه إلى أبى داود،
_________
(1) أي " السيل الجرار " (2/ 601).
(2) وله ألفاظ منها:
1 - أخرج مسلم رقم (80/ 1587) وأحمد (5/ 314، 320) والدرامي (2/ 258 - 259) وأبو داود رقم (3349) والترمذي رقم (1240) وقال: حديث حسن صحيح.
والنسائي (7/ 274 - 275) وابن ماجه (2/ 757رقم 2254).
من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ".
2 - وأخرج أحمد (5/ 320) ومسلم رقم (81/ 1587).
من حديث عبادة بن الصامت السابق وزاده في آخره: " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد".
3 - وأخرج أبو داود رقم (3349) والنسائي (7/ 276) عن عبادة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها، والبر بالبر مدى بمدى، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرها يدا بيد، وأما نسيئة فلا ولا بأس بيع البر بالشعير، والشعير أكثرها يدا بيد، أما نسيئة فلا ".
4 - وأخرج الترمذي رقم (1240): وفيه: " فمن زاد أو ازداد فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد ".
5 - وأخرج ابن ماجه رقم (2254): " وأمرنا - يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا ".
6 - وأخرج النسائي (7/ 275): نحوه إلا أنه قال: " وأمرنا أن بيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا " والحديث صحيح.(7/3621)
والنسائي، وابن ماجه. فمثل لتحريم النسا (1) بمختلفي الجنس متفقي التقدير الذي هو الكيل، فخرجت صورة
_________
(1) الربا على ضربين: ربا الفضل، وربا النسيئة. وأجمع أهل العلم على تحريمهما.
" المغني " (6/ 52)." المحلي " (8/ 468).
واعلم أن الأصل في تحريم الربا الكتاب والسنة ثم الإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] [آلِ عِمْرَانَ: 130].
وقال سبحانه وتعالى: [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ] [الْبَقَرَةِ: 275].
ثم قال سبحانه وتعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] [الْبَقَرَةِ: 275].
وقال سبحانه وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] [الْبَقَرَةِ: 278] ثم توعد على ذلك لتوكيد الزجر فقال سبحانه وتعالى: [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ] [الْبَقَرَةِ: 279].
أما السنة: أخرج مسلم في صحيحه رقم (1218) من حديث جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا وإن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، فأول ربا أضعه عمي العباس، ألا وإن كل دم من دم الجاهلية موضوع وأول دم أضعه دم الحارث بن عبد المطلب ".
أخرج مسلم في صحيحه رقم (106/ 1598) وأحمد (3/ 304) والبيهقي (5/ 275) عن جابر رضي الله عنه قال: " لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه " وهو حديث صحيح.
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2086) من حديث أبي جحيفة.
وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (105/ 1597) وأبو داود رقم (3333) والترمذي رقم (1206) وابن ماجه رقم (2277). وهو حديث صحيح.
الإجماع:
قد أجمع المسلمون على تحريم الربا، وإن اختلفوا في فروعه وكيفية تحريمه حتى قيل: إن الله تعالى ما أحل الزنا ولا الربا في شريعة قط وهو معنى قوله تعالى: [وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ] [النِّسَاءِ: 161].
انظر: " المجموع " (9/ 391) و" الحاوي الكبير " (6/ 82 - 84).(7/3622)
اختلافهما جنسا وتقديرا، كالشعير المكيل بالدرهم الموزونة من تحريم النسا. هذا ملخص كلام الأمير (1) في شرحه للضوء (2)، ورسالته: القول المجتبى (3).
قال: ولم ير ومن تنبه له قبله، والمولى - أبقاه الله - أدخلها في محرم النسا، وأن الشعير مثلا بالدراهم لا يدفعه من التقابض، وخصص منه ما رهن فيه المشتري رهنا كرهنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - درعه عند اليهودي في حديث عائشة (4) - رضي الله عنها -.
فانظروا في ذلك، وأفيدوا - جزيتم خيرا - فالمسألة مما تعم به البلوى انتهى.
_________
(1) الأمير: محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني.
(2) أي " منحة الغفار في ضوء النهار " (3/ 1217).
(3) سيأتي تحقيقها ضمن مجموع " عون القدير من فتاوي ورسائل الأمير " رقم (107).
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2513) ومسلم رقم (124/ 1603) والنسائي رقم (4609) وابن ماجه رقم (2436): عن عائشة رضي الله عنها قالت: " اشتري رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يهودي طعاما بنسيئة وأعطاه درعا له رهنا ".
قال الشوكاني في " السيل الجرار " (2/ 602): ولا معارضة بين هذا وبين حديث عبادة لإمكان الجمع بأن هذا مخصص لاشتراط التقابض بمثل هذه الصورة إذا سلم المشتري رهنا في الثمن، وقد استدل بعضهم بالإجماع على جواز ذلك من غير تقابض إذا كان الثمن نقدا فإن صح هذا الإجماع كان حجة على من يرى حجيته.(7/3623)
أقول: - وبالله الثقة، وعليه التوكل، ومنه الإعانة في جميع الأمور -: إن قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " فإن اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم "الإشارة فيه بقوله هذه الأصناف إلى الأصناف المذكورة في أول الحديث (1) وهي: الذهب، والبر، والشعير، والتمر، والملح.
فالمعنى فإذا اختلفت (2) هذه الأصناف في ذات بينها بأن وجد أحدها مقابلا لصنف يخالفه فيصدق على الذهب في مقابلة الفضة وفى مقابلة البر، وفى مقابلة الشعير، وفى مقابلة التمر، وفى مقابلة الملح، وهكذا يصدق على الفضة في مقابلة الذهب، والبر والتمر والملح، وهكذا يصدق على كل واحد من البر، والشعير، والتمر، والملح إذا وقع في مقابلة ما يخالفه من هذه الأجناس أنه قد وقع الاختلاف [الذي] (3) أشار إليه في
_________
(1) فهذه الأعيان المنصوص عليها يثبت الربا فيها بالنص والإجماع.
واختلف أهل العلم فيما سواها، فحكي عن طاوس وقتادة أنهما قصرا الربا عليهما، وقالا: لا يجري في غيرها. وبه قال داود ونفاه القياس.
وقالوا ما عداها على أصل الإباحة لقوله تعالى: [وأحل الله البيع] [البقرة: 275] واتفق القائلون بالقياس على ثبوت الربا فيها بعلة، وأنه يثبت في كل ما وجدت عليه علتها، لأن القياس دليل شرعي، فيجب استخراج علة هذا الحكم، وأثباته في كل وجدت علته فيه. وقوله تعالى: {وحرم الربا} [البقرة: 275] يقتضي تحريم كل زيادة، إذ الربا في اللغة الزيادة إلا ما أجمعنا على تخصيصه.
انظر: " المغني " (6/ 54)، " الحاوي " (6/ 92 - 93)، " الأم " (6/ 52 - 53).
(2) اتفق أهل العلم على أن ربا الفضل لا يجري إلا في الجنس الواحد إلا سعيد بن جبير، فإنه قال: كل شيئين يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز بيع أحدهما متفاضلا. كالحنطة والشعير، والتمر بالزبيب والذرة بالدخن، لأنهما يتقارب نفعهما، فجريا مجرى نوعي جنس واحد وهذا يخالف قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم " فلا يعول عليه - أي قول سعيد بن جبير -.
انظر: "المغني " (6/ 54). " المجموع " للنووي (9/ 401).
(3) في المخطوط (التي) والصواب ما أثبتناه.(7/3624)
الحديث (1)، فهذا معلوم لكل من يعرف لغة العرب، ويعرف معنى الإشارة، ويعرف ما في قوله: هذه الأصناف من العموم الشمولي المحيط بكل واحد منها، بحيث لا يخرج عنها واحد إلا بمخرج يقتضيه لغة، أو شرعا.
وإذا كان الأمر هكذا فواجب علينا العمل بما أفادته هذه العبارة النبوية، والوقوف عند هذه الإفادة، وحرام علينا مخالفتها بمجرد الرأي، ومحض الشبه التي لم يسوغ الشارع العمل بها، ولا جوز الالتفات إليها، على تقدير أنها لم تقع معارضة للدليل الصحيح، فكيف إذا وقعت معارضة له مخالفة لمدلوله، منافية لمضمونه! ولم يرد ما يصلح لتخصيص ما أفادته هذه العبارة النبوية، إلا ما ثبت في الصحيح (2) وغيرهما من حديث عائشة قالت: " قالت اشترى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ومن يهودي طعاما بنسيئة، وأعطاه درعا له رهنا " فأن هذا الحديث يفيد أن الرهن يقوم مقام التقابض في المختلفين جنسا، وأما ما قيل من أنه لا يعقل التفاضل والاستواء إلا مع الاتفاق في التقدير (3)
_________
(1) تقدم من حديث " عبادة بن الصامت " بألفاظه.
(2) تقم تخريجه.
(3) لا خلاف في جواز التفاضل في الجنسين تعلمه إلا عن سعيد بن جبير - تقدم رده.
قال ابن قدامة في " المغني " (6/ 62): وفى لفظ: " إذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد " ولأنهما جنسان، فجاز التفاضل فيهما، كما لو تباعدت منافعها، ولا خلاف في إباحة التفاضل في الذهب والفضة من تقارب منافعها، فأما النسا، فكل جنسين يجري فيهما الربا بعلة واحدة، كالمكيل بالمكيل، والموزون بالموزون والمطعوم بالمطعوم، عند من يعلل به فإنه يحرم بيع أحدهما بالآخر نساء بغير خلاف نعلمه وذلك لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد ".
وفي لفظ: " لا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير، والشعير أكثرهما يدا بيد، وأما النسيئة فلا ". إلا أن يكون أحد العوضين ثمنا، والآخر مثمنا، فإنه يجوز النساء بينهما بغير خلاف، لأن الشرع أرخص في السلم والأصل في رأس المال الدراهم والدنانير، فلو حرم النساء ههنا لانسد باب السلم في الموزونات في الغالب.
فأما إن اختلفت علتهما كالمكيل بالموزون، مثل بيع اللحم بالبر ففيهما روايتان:
إحداهما: يحرم النساء فيهما وهو الذي ذكره الخرقي ههنا لأنهما مالان من أموال الربا، فحرم النسا فيهما، كالمكيل بالمكيل.
والثانية: يجوز النساء فيهما وهو قول النخعي، لأنهما لم يجتمعا في أحد وصفي علة ربا الفضل، فجاز النساء فيهما، كالثياب بالحيوان.(7/3625)
كالذهب بالفضة، فإنهم موزونان، والبر بالشعير، فإنهما مكيلان ونحو ذلك.
ولا يعقل التفاضل مع الاختلاف جنسا وتقديرا، كالذهب بالبر، والشعير والفضة بهما، ونحو ذلك فيجاب عن ذلك بأن غاية ما فيه دعوى تخصيص الكلام النبوي بالعقل، وهذا إنما يتم إذا كان العمل بما يقتضيه الدليل ممتنعا عقلا كما هو مقرر في مواطنه، وليس ما نحن فيه من هذا القبيل، فإن التفاضل معقول لو كانت النقود مثلا تكال، أو الطعام يوزن، ولو في بعض الأزمان. وعلى بعض الأحوال، وفى بعض الأمكنة. وقد كان هذا. فإن كتب التاريخ مصرحة بأن النقود في بعض الأمكنة تكال، والطعام في كثير من البلدان يوزن، وأيضا قد يبلغ ثمن الطعام إلى مقدار من الدراهم كثير عند شدة الغلاء، بحيث يعقل أن يقال: الطعام أكثر من الدراهم، فتقرر بهذا بطلان ما ادعوه من التخصيص بالعقل، لأنه إذا أمكن القدح ولو بوجبة بعيد في دعوى التخصيص بالعقل لم تتم دعوى من ادعى التخصيص بالعقل كما هو مقرر في مواطنه.
وأما ما يقال من أن في ذلك حرجا ومشقة فيقال لهذا القائل: ما وجه تخصيصك للحرج والمشقة بالمختلفين في الجنس والتقدير دون المختلفين في الجنس المتفقين في التقدير؟ فإن الكل مستو في ذلك، مثلا من أراد أن يشتري برا بشعير متفاضلا واجب عليه مع التفاضل التقابض كما يجب على من أن أراد أن يشتري برا بدراهم. ثم هذه المشقة المدعاة، والحرج الموهوم مندفع بأن يأخذ المشتري شيئا من المتاع فيرهنه عند البائع حتى يأتي بما عليه، فهل في هذا حرج يقبله ذهن من يفهم الحقائق، ويتعقل الحجج، ويعرف مواقع الكلام! نعم قد ادعى مدع أنه وقع .................(7/3626)
الإجماع على جواز بيع مختلفي الجنس والتقدير أحدهما بالآخر من غير اشتراط التقابض (1)، فإن صح ما ادعاه هذا المدعي كان المخصص هو الإجماع عند من يقول بحجيته، والحق أنه لم يقم دليل لا من عقل ولا نقل يدل على حجيته، هذا على فرض إمكان نقله، وإمكان وقوعه وإمكان العلم به، والكل ممنوع. وقد أوضحت الكلام على حجية الإجماع في كتابي في الأصول الذي سميته: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (2)، فإن شئت أن يتضح لك المقام بما لا يحتاج بعده إلى النظر في كلام فطالعه، ثم هذا المدعي للإجماع هو (بلدينا) (3) العلامة المغربي (4) -رحمه الله - فإن كان قد قلد في
_________
(1) قال أبو حنيفة: لا يشترط التقابض فيهما كغير أموال الربا، وكبيع ذلك بأحد النقدين.
انظر تفصيل ذلك في " البناية في شرح الهداية " (7/ 461 - 465).
قال ابن قدامة (6/ 63): ولنا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد ". تقدم تخريجه وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء " متفق عليه.
والمراد به القبض، بدليل أن المراد به في ذلك في الذهب والفضة ولهذا فسره عمر به ولأنهما مالان من أموال الربا علتهما واحدة فحرم التفرق فيهما قبل القبض كالذهب بالفضة، فأما إن اختلفت علتهما ن كالمكيل بالموزون عند من يعلل بهما.
فقال أبو الخطاب: يجوز التفرق فيهما قبل القبض رواية واحدة، لأن علتهما مختلفة، فجاز التفرق قبل القبض، كالثمن بالثمن، وبهذا قال الشافعي إلا أنه لا يتصور عنده ذلك إلا في بيع الأثمان بغيرها.
انظر: " الأم " (6/ 51 - 54). " بداية المجتهد " لابن رشد (3/ 259 - 260) بتحقيقنا.
(2) (ص 280 - 350) بتحقيقنا.
(3) في المخطوط [بلدينا] والصواب ما أثبتناه.
(4) هو الحسن بن إسماعيل بن الحسين بن نسبة إلى مغارب صنعاء ثم الصنعاني حفيد الشارح بلوغ المرام. ولد بعد سنة 1140هـ.
انظر: "البدر الطالع " رقم (126)، " نيل الوطر" (1/ 319).(7/3627)
ذلك غيره فلا نرى من هو؟ وإن كان قال: ذلك من جهة نفسه فيبعد عليه أن يستقرئ ما يقوله أهل البلدة، وهي مدينة صنعاء في هذه المسألة لكثرة من يعتقد في الإجماع من أهلها في عصره، وغالبهم مترد بأردية الخمول، مترمل في أثواب الاعتزال كما هو عادتهم وديدنهم وهجيراهم، فكيف يستقرئ ما عند جميع علماء هذه الجزيرة اليمنية وهي بالنسبة إلى جميع البلاد الإسلامية كغرفة من بحر متلاطم الأمواج، نعم قد وقع الاختلاف في هذه الأجناس إذا اختلفت، سواء اختلف التقدير، أو اتفق، فالجمهور اشترطوا التقابض عملا بالدليل الصحيح المصرح بأنها إذا اختلفت باعوا كيف شاؤوا إذا كان يدا بيد (1).
وقال أبو حنيفة (2) وأصحابه وابن علية أنه لا يشترط التقابض في ذلك. والحديث يرد عليهم، ويدفع قولهم. وأما الاستدلال بما عند النسائي، وابن ماجه، وأبي داود من حديث عبادة بن الصامت، وفيه: " وأمرنا أن نبيع البر بالشعير، والشعير بالبر، يدا بيد كيف شئنا " (3). فيجاب عنه بأن تخصيص النوعين بذلك ليس فيه ما يخالف ما في الأحاديث الواردة في كل الأصناف المختلف، فقد صرح فيه باشتراط التقابض بقوله: يدا بيد، وذلك هو المطلوب، ولو كان في ذكر هذين النوعين، وإهمال بقية الأنواع دليل
_________
(1) انظر: " الأم " (6/ 51 - 52، 65).
(2) " البناية في شرح الهداية " (7/ 471 - 472) يعتبر فيه التعيين ولا يعتبر فيه التقابض خلافا للشافعي في بيع الطعام بالطعام له قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث المعروف يدا بيد ولأنه إذا لم يقبض في المجلس يتعاقب بالقبض، وللنقد مزيد فتحقق شبهة الربا، ولنا أنه مبيع متعين فلا يشترط فيه القبض كالثوب وهذا لأن الفائدة المطلوبة إنما هو التمكن من التصرف ويترتب ذلك على التعيين بخلاف الصرف لأن القبض فيه يتعين به ومعني قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يدا بيد عينا بعين ". وتقدم قول الجمهور اشتراطهم التقابض عملا بالدليل الصحيح. انظر: " المغني " (6/ 63 - 64)
(3) تقدم تخريجه.(7/3628)
يدل على جواز ترك القابض في بقيتها لخرج بيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، والتمر بالشعير، والبر ونحو ذلك، وهو خلاف مقصود المستدل، فإن هذه الأشياء من مختلف الجنس متفق التقدير. ومعلوم أن الاقتصار على بعض ألفاظ الحديث في بعض الروايات مع اشتماله على الجميع في الروايات الآخرة لا يصلح للاستدلال به، فكثير من الأحاديث تذكر بكمالها في رواية، ويقتصر على بعضها في بعض الحالات، كما يفعله البخاري في مكرراته، وكما يفعله غيره من علماء الرواية المتصدرين لجمع السنة.
والحاصل: أن أسعد الناس بالحق، وأحسنهم موافقة له، وأخذ به، وعملا بمضمونه من وقف (1) على قاله الصادق المصدوق - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من قوله: " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد " وما ورد بمعناه في الأحاديث الصحيحة , ولم يتزحزح عن هذه الحجة بلا حجة، ولا تزلزل قدمه عن هذا البرهان بلا برهان.
وفي هذه المقدار كفاية لمن له هداية، كتبه المجيب محمد بن على الشوكاني - غفر الله له -.
_________
(1) وهو الرأي الراجح قول الشوكاني رحمه الله اعتمادا وأخذا بدلالة الأحاديث الصحيحة.
انظر تفصيل ذلك مطولا في " الحاوي " (67/ 122 - 136). " المغني " (6 - 80). " الأم " (6 - 55).(7/3629)
تنبيه ذوي الحجا عن حكم بيع الرجا
تأليف
محمد بن على الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(7/3631)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الهادي إلى أوضح السبل والطرائق، الدال على أبين المسالك الحق ببعثه نبيه الصادق، الجاعل الرجا إلى رحمته ومعروفه أحسن قائد إلى رضاه وأشرف سائق، والصلاة والسلام على المبعوث بالحنيفية السمحة إلى كافة الخلائق، الرابح من وثق بالالتزام بهديه أطيب المكاسب والعلائق، وعلى آله الخيار من الأمة السالكين كل منهج صحيح لا فساد فيه جادته ولا ظلمة، ورضي الله عن حبه الأماثل الفارقين بمواضي حدادهم بين الحق والباطل.
وبعد:
فإن الباعث على تحرير هذه السطور، والجالب إلى إيراد المواد في هذا المزبور، واختلاف أنظار العلماء الأعلام في مسألة البيع مع الالتزام، فطالما خاض في قعرها كل محقق ماهر، وتهافت إلى الوقوع في زاجرها كل مقلد قاصر، حتى صارت في مدينة صبيا (1) وبواديها، ومدينة أبي عريش (2) وهجرة ..........................................................
_________
(1) صبيا: بلدة عامرة في المخلاف السليماني، ورد ذكرها في (صفة جزيرة العرب) عند ذكر مدن اليمن التهامية. فقال الهمداني: وفى بلد حكم قرى كثيرة يقال لها المخاوف وصبيا، ثم بيش ".
وذكرها ياقوت الحموي في " معجم البلدان " بقوله: " صبيا من قرى عثر من ناحية اليمن ".
تقع في الشمال من جازان بنحو 65 كم، كما يقع في الشمال الشرقي منها جبل عكوة القريب من بلدة الزائب. بلدة الشاعر المؤرخ عمارة بن على اليمني الحكمي المذحجي.
انظر: " هجر العلم ومعاقله: (3/ 1154 رقم 251).
(2) بلدة عامرة مشهورة في المخلاف السليماني في الشرق من رفأ جيزان وتبعد عنه بنحو 35 كم تقريبا.
ورد لها ذكر في " إنباء الزمن " في أخبار سنة 599 هـ في النص التالي (ووصل إليه أي الإمام عبد الله بن حمزة - هذه الأيام صاحب صبيا وأبي عريش الأمير المؤيد السليماني في تسعين فارسا ... ".
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه " إنباء الغمر بأنباء العمر " أبو غريش وضبطه بالتصغير والتشديد والشهور أنه مكبر ومخفف.
انظر: هجر العلم ومعاقله (3/ 1423 - 1424).(7/3637)
ضمد (1) من أعظم ما تعم به البلوى، ومن أقوى سبب لاستهلاك أموال أهل الأسباب، الناشئ عن الحيل من القاصرين في الفتوى، وكيفية المسألة المذكورة أنه يأتي البائع الأزمان ودون الثمن في النادر، إذا كانت تلك الجهة خصبة، أو نحو ذلك، فيبيع منه الأرض المذكورة بالثمن المذكور، ثم بعد ذلك يلتزم المشتري للبائع بالفسخ مدة معلومة، إن وفر فيها مثل الثمن فسخ له. وهذا الالتزام قد كان يواظب عليه، ثم هذا الصنع قد صار معروفا عندهم، مشهورا عند العامة والخاصة، ويطلقون عليه اصطلاحا أنه الرهن المرفع، وتارة بيع الأجل، وحينا بيع الالتزام، وعند قيام النزاع يجتمعون على تسمية بيع رجا؛ وهو المعبر به في مجالس الحكام، والمترجم عنه بكل خصام، فإذا مضت تلك المدة المضروبة للفسخ، ولما يوفر البائع الثمن بقى يتربص الحيل، ويتطلب الفتاوى في بيع الأجل. والناس فريقان: فريق متى يحصل له الثمر بعد المدة طالب المشترى برد المبيع.
وفريق يلبث مدة يقدر فيها أن المشتري قد حصل من الثمار ما يقوم بالثمن، فيطالب المشتري، ويدعي عليه عند آحاد الحكام، أنه باع أرضه بدون ثمنها رغبة في الالتزام لما باعها بدون ذلك، ويورد على ذلك شهودا، وبعد ذلك يبادر الحاكم إلى الحكم ببطلان البيع، ويلزم المشترى قبول الثمن إن لم يكن قد استعد، وإن كان قد استعد
_________
(1) بلدة غامرة مشهورة في وادي ضمد الذي سميت باسمه - أي ضمد بن يزيد بن الحارث بن علة بن جلد ابن مدحج.
تقع في الشمال الشرقي من جيزان حاضرة المخلاف السليماني اليوم وقد طغى على البلدة القديمة مبان حديثة اتسعت على ما كانت عليه وقيل: ضمد وصداد بلدان من مدحج.
قال ياقوت الحموي في " معجم البلدان: " الضمد: موقع بناحية اليمن، بين اليمن ومكة على الطريق التهامي ".
انظر: " النهاية " لابن كثير (3/ 99)، هجر العلم ومعاقله " (3/ 1210 - 1211).(7/3638)
حسبت عليه الغلال، وقطع له منه قدر الثمن، وما فضل سلمه إلى البائع، ويتصرف المشتري لاثمنا ولا أرضا، أو يتصرف بالثمن بعد أن عانا (1) في تسليمه يوم البيع، وباع من سلعة الغالي بالداني، لاكتساب الأرض، ولولا طرو هذا اليوم لما باع سلعة بالرخص وسلم أثمانها، وإذا هو ممدوح من البائع، مغشوش غشا ظاهرا إذا دخل عليه الغبن والمحاسدة في السلعة التي كان باعها.
وإذا سئل الحاكم عن الموجب للحكم في هذا الأمر، بهذه الصفة يقول: قال في شرح الأثمار (2): مسألة: ولا يصح، ولا يجوز بيع الرجا؛ إذ هو يتوصل به إلى تحليل الربا المحرم، لأن المشتري لا يشتري بدون الثمن للغلة، ولا يجعل مقابضة نقص الثمر إلا هذه المدة المضروبة هو مضمر للربا، والمضمر في باب الربا كالمظهر، هكذا لفظه أو معناه، فيقال له من أين عرفت أن المشتري لا يريد إلا محض الغلة؟ فيقول: عرفناه من حال الناس ومحبتهم لإدخال الكسب من أي وجه، فيقال له: إرادته لمحض الغلة من أين دخولها في الربا؛ إذ الغلة لم تكن موجودة حال البيع حتى أنه شملها عقد البيع، بل هذا باع أرضه خالية من الثمار، وما تحصل الثمرة إلا وقد ملكها المشتري؟.
فإن قال: لم يشتر إلا قاصدا للغلة، ولم يقابل الغلة شيء من الثمن.
نقول: أما مقابلة ففيه ما قدمنا من أنه لم يشملها البيع لعدم وجوده حاله، وأما قصد الغلة فإن أردت مطلق الغلة فمنقوص بما هو معلوم عند المشترين في جميع البلدان، في كل الأعصار، لكل الأعيان أنه يشتري العين إلا لأجل الغلة، وهي معظم المقصود، على أن عدم صلاحية الأرض للاستغلال عيب موجب فسخ المبيع ورده.
فإذا تقرر هذا علمت أن اللغة هي المقصود الأهم، ولا قائل بعدم صحة مطلق البيع مع إرادة مطلق الغلة، وإن أردت الغلة الحاصلة في مدة الالتزام فنقول: لا يخلو إما أن
_________
(1) غير واضح في المخطوط.
(2) انظر " مؤلفات الزيدية " (2/ 127 - 128) وقد تقدم.(7/3639)
يكون البيع يختار، فالفوائد له استقر له الملك من بائع، أو مشتر وإن كان بالتزام بالإقالة (1) فيجري فيه أحكام الإقالة من أن الفوائد للمشتري، ويبقى للصلاح بلا أجرة كما هو معروف؛ إذ المقيد إنما هو منفصل بإرجاع المبيع وهذا مثله.
فإن قلت: المشتري هنا بدون الثمن قاصد للتوصل إلى الغلة.
نقول: والمشتري بالثمن الوافي قاصد التوصل إلى الغلة، فما هو الفرق؟.
فإن قلت: الفارق نقصان الثمن.
قلت: فأنت تجعل نقصان الثمن إنما هو مقابل للمدة فهو أجنبي عن قصد الغلة، فحينئذ لا تقوم لك حجة وكون المبيع وقع بدون الثمن لا يقدح في صحته؛ إذ هو صادق عليه وصف التراضي (2)، فهذا البيع وقع بتراض، وما وقع بتراض صحيح، فهذا البيع صحيح. أما الصغرى فالمشاهدة، وأما الكبرى فنص الكتاب، ثم المدة التي تفضل بها المشتري على البائع، هي جاريه مجري التفضل والإحسان ربما يثاب عليها؛ إذ هو التزم بالإقالة، والإقالة محصلة للثواب، بل ربما يصرح بالإقالة، بل هو الواقع أنه يصرح بلفظ القبح والإقالة مشروطا بتوفر الثمن، فالالتزام بهذه الصفة إقالة، والإقالة محصلة للثواب (3)،
_________
(1) أقاله: أي وافقه على نقض البيع وأجابه إليه.
يقال: أقاله يقيله إقالة، وتقايلا إذا فسخا البيع، وعاد المبيع إلى مالكه والثمن إلى المشتري، إذا كان قد ندم أحدهما أو كلاهما، وتكون الإقالة في البيع والعهد. "
النهاية " (4/ 134).
(2) قال تعالى: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29].
(3) أخرج أحمد في " زوائد المسند " (2/ 252) وأبو داود رقم (3460) وابن ماجه رقم (2199) والحاكم (2/ 45) والبيهقي (6/ 27) وأبو نعيم في " الحلية " (6/ 345) وابن حبان رقم (1103، 1104 - موارد).
من حديث أبي هريرة بلفظ: " من أقال مسلما أقاله الله عثرته " وفى لفظ: " من أقال نادما بيعته أقاله الله عثرته " وعند بعضهم: " من أقال مسلما عثرته أقاله الله يوم القيامة ".
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح.(7/3640)
فالالتزام بهذه الصفة محصل للثواب.
أما الأولى فلما عرف أن الإقالة هي عين الفسخ.
وأما الثانية فبالدليل النبوي، ثم يقال له: هل البيع هذا صحيح، أم باطل، أم فاسد؟ فتقول باطل. فتقول: لما عرفت ذلك فإنه سيرنا أقسام الباطل التي هي فقد ذكر الثمن، أو المبيع، أو اختلال العاقد، أو صحة التملك، فوجدناها مفقودة في هذا البيع، ثم أقسام الفاسد فوجدناها مفقودة ثم أقسام الصحيح، من صدور الإيجاب والقبول من مكلف، ومختار، مطلق التصرف، وقبول غيره مثله.
والمبيع موجود في ملك البائع جائز البيع، والثمن بغير معلوم، فوجدناها موجودة في هذا البيع، فما بقى بعد هذا التقسيم إلا أن يحكم عليه بالصحة.
فنقول: هذا البيع موجود فيه أقسام الصحيح (1)، والموجود فيه أقسام الصحيح صحيح، فهذا البيع صحيح. أما الأولى فالتتبع، وأما الكبرى فضرورة الملازمة.
وحينا نقول: هذه المسألة خرجها شارح الأثمار (2) على أصل الإمام شرف الدين (3) في تحريم بيع الشيء بأكثر من سعر لأجل النسا.
فنقول: وجدنا النص للإمام شرف الدين بجواز بيع الشيء بأكثر من سعر يومه، فبطل ما تمسكت به، وإن سلم ذلك فالإمام شرف الدين محجوج بالأدلة الراجحة، والبراهين الواضحة على جواز ذلك وحله.
ثم إن هذه المسألة قد صارت بالديار التهامية من أقوى الحيل المستهلك بها المال، وتهافت فيها الحكام، ورأوا أن الحكم فيها من أوضح
_________
(1) انظر " المغني " (6/ 7 - 30).
(2) تقدم تعريفه.
(3) شرف الدين بن شمس الدين ابن الإمام المهدي أحمد بن يحيى وله اسمان شرف الدين وهو الذي اشتهر به، والآخر يحيى ولم يشتهر به. ولد سنة 877 هـ بحصن حضور.
من مصنفاته: كتاب الأثمار اختصر فيه " الأزهار " كتاب جده توفى سنة 965هـ.
انظر: " البدر الطالع " رقم (195).(7/3641)
الأمور، وقد ساوت قطعي الدلالة في الأقيسة إليها، ولا عاد التفات إلى التأني والنظر، هل المشتري قاصد محض التوصل إلى الغلة على فرض صحته أم لا؟ بل يمنع صدور الحكم من الحاكم إلا عدم ورود الشهود، فإنه دون الثمن ولم يكن من حكام المخلاف من يتورع عن هذا الحكم بهذه المسألة، وعن الجزم فيها، إلا حفظه الله، وبارك في علومه.
على أنى ممن يتعاطى فصل الأقضية بين الناس، ولبثت مدة من جملة هؤلاء المذكورين مقلدا لذلك القول المريض، ومعولا على ذلك الأستاذ المهيص (1)، وكنت في سنة 1205 هداني الله إلى تحرير بحث في الرد على هذا المقال، والاتباع لهدي سيد الرجال، لكن لم أجد من ينصر ذلك المقال، ويشد أزره بما تشد إليه الرحال، ثم اعتراني طرق الترحال من تلك الأوطان، وتعاورت على العزمات إلى نائي البلدان، فأضربت صفحا عن توجيه الهمة إلى تكميل ذلك البحث، وإظهاره على النقاد، ليرى السمن منه والغث إلا مدارة كثرة دوران هذه المسألة، بعثني على تحرير هذه المذاكرة، بها إلى علامة المعقول والمنقول، القائم بما جاء به الكتاب، وهدي الرسول شيخ الإسلام، وقدوة العلماء الأعلام، الحقيق بما مدحه به بعض أفاضل الأنام:
علامة المعقول والمنقول من ... حكمت له العليا على أترابه
فذ الزمان تؤم المجد الذي ... ساد الأكابر في أوان شبابه
بدر الهدى النظار سله مقبلا ... كفيه ملتمسا لرد جوابه
العالم الرباني محمد بن على الشوكاني الصنعاني، فيوضح في تحقيق هذه المسألة السبيل، وينقح صحتها أو بطلانها بواضح الدليل، فلعل الله أن يهدي به من
_________
(1) المهيص: هاص يهيص هيصا إذا رمى.
قال: مهايص جمع مهيص: الهيص العنق بالشيء، والهيص رق العنق.
" لسان العرب " (15/ 179).(7/3642)
عكف على هذا الأمر من أولئك الجيل، وقد آلينا - إن شاء الله - على بثها بالديار على العلماء الأعلام النظار، ليقع منهم - إن شاء الله - ما هو الحق في المسألة، ويقتضي بهم من هو عالة عليهم في كل معضلة، والله يوفق الجميع إلى رضاه آمين آمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
حرر يوم الخميس، لعله أول يوم من شهر صفر الخير سنة 1209 بمحروس مدينة صنعاء المحمية بالله تعالى آمين آمين.
كتبه عبد الرحمن بن أحمد البهكلي (1) سامحه الله تعالى.
_________
(1) عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن بن على البهكلي الضمدي ثم الصبياني التهامي اليماني. مولده سنة 1182 هـ بمدينة صبيا وأخذ عن والده في المختصرات وغيرها، وأخذ عن القاضي أحمد بن عبد الله الضمدي حتى برع في الفقه والنحو والأصول ورحل إلى صنعاء سنة 1202 هـ.
له مصنفات منها: " الثقات بمعرفة طبقات رجال الأمهات ".
" الأفاويق بتراجم البخاري والتعاليق ".
توفي سنة 1248 هـ.
" نيل الوطر " (2/ 23 - 24)، " البدر الطالع " رقم (224).(7/3643)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا يرجى على لحل كل معضلة سواه، ولا ينفتح باب كل مشكلة إلا لمستمسك بهداه وتقواه، الجاعل كتابه الكريم، وسنة حبيبه الرسول الفخيم ملجأ يعتصم به من مخاوف الخلاف، وملاذا يهرب إليه من موقبات التفرق التي قل في مثلها الائتلاف. والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وأصحابه أجمعين الذين هم المعيار القويم، والصراط المستقيم عند اختلاف المختلفين.
وبعد:
فإنه وصل هذا السؤال الذي هو في الحقيقة إفادة لا استفادة في بيع الرجا من الأخ القاضي العلامة النحرير، المحقق الكبير الشهير، وجيه الإسلام، حسنة الأيام، عبد الرحمن بن أحمد بن الحسين (1) - لا برحت فوائده - مدونة بمجاميع الأعلام، على مر الزمن وقد تكلم عليه - كثر الله علومه - بما يشفي وما يكفي، ولكنه مد الله مدته، وحرس مهجته، سأل من أخيه القاصر أن يتكلم بما لديه على جهة الاستقلال، وطلب منه أن يحرر ما يراه، ويلوح له غير ملتفت إلى قيل وقال.
فأقول وبالله أعتصم، وعليه أتوكل؛ فليس إلا عليه في جميع الأمور المعول: اعلم أنه لم يكن في كتاب الله العزيز شرط لمطلق البيع المشروط إلا مجرد الرضى، قال الله تعالى: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (2)، وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (3)، فإذا حمل المطلق على المقيد (4)، أفاد أن الرضى بمجرد مستقل بصحة انتقال الملك، ومثل هذا حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) [النساء: 29].
(3) [البقرة: 275].
(4) انظر " إرشاد الفحول " (ص542 - 544).(7/3644)
نفسه " (1)؛ فإنه ظاهر في استقلال طيبة النفس بحل المالين للمتابعين، والرضي والطيبة متحدان صدقا، وأن اختلف مفهوما. ولم نجد في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ما يدل على اعتبار أمر زائد على ذلك، بل فيها ما هو في الحقيقة مؤيد لذلك الاستقلال، كالأحاديث الواردة في النهي عن بيع الغرر (2)، وعن بيع ...............................
_________
(1) وهو حديث صحيح.
* أخرجه أحمد (5/ 72) والبيهقي (6/ 100) والدارقطني (3/ 26 رقم 90) من حديث أبي حرة.
وعزاه الهيثمي في " المجمع " (4/ 172) إلى أبي يعلى وقال: " أبو حرة وثقه أبو داود وضعفه ابن معين ".
وقال الألباني في " الإرواء " (5/ 279) واعتمد الحافظ في " التقريب " الأول، فقال ثقة لكن العلة من الراوي عنه: علي بن يزيد، وهو ابن جدعان، وهو ضعيف إلا أنه يستشهد به ويقوي حديثه بما بعده ".
* وأخرجه أحمد (5/ 425) والبيهقي (6/ 100) وابن حبان (رقم 1166 - موارد) والطحاوي في " مشكل الآثار " (4/ 41 - 42) من حديث أبي حميد.
وعزاه الهيثمي في " مجمع الزوائد " (2/ 171) إلى أحمد والبزار، وقال: رجال الجميع رجال الصحيح وقال الألباني في " الإرواء " (5/ 280) متعقبا على الهيثمي: " كذا قال: وعبد الرحمن بن سعيد ليس من رجال الصحيح، وإنما أخرج له البخاري في " الأدب المفرد " ويحتمل أن يكون إسناد البزار كإسناد البيهقي، أعني وقع فيه عبد الرحمن بن سعد، وهو ابن أبي سعيد الخدري، فإنه ثقة من رجال مسلم، فتوهم أنه عند أحمد كذلك ". اهـ. * وأخرجه احمد (3/ 423) و (5/ 113) والبيهقي (6/ 97) والدارقطني (3/ 25 رقم 89) والطحاوي في " مشكل الآثار " (4/ 42) وعزاه الهيثمي في " المجمع " (4/ 171) إلى أحمد وابنه من زياداته أيضًا والطبراني في " الكبير " و" الأوسط ". وقال: رجال أحمد ثقات " من حديث عمرو بن يثربي. وفى الباب عن ابن عباس، وأنس بن مالك.
(2) منها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (4/ 1513) والترمذي رقم (1230) والنسائي رقم (4518) وابن ماجه رقم (2194) وأبو داود رقم (3376) عن أبي هريرة قال: " نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر ".
انظر الرسالة رقم (110).(7/3645)
الحصاة (1)، وعن بيع (2) الحبلة، وعن بيع ما في ضروع الأنعام (3)، وعن شراء العبد الآبق (4)، وعن شراء المغانم حتى تقسم (5) وعن بيع الثمر حتى يطعم (6)، وعن بيع
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
بيع الحصاة، اختلف في تفسير بيع الحصاة، قيل: هو أن يقول: ارم بهذه الحصاة فعلى أي ثوب وقع فهو لك بدرهم، وقيل: هو أن يقول: أرضه قدر ما انتهيت إليه رمية الحصاة.
وقيل: هو أن يقبض على كف من حصاة ويقول: لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع، أو يبيعه سلعه يقبض على كف من حصا ويقول: لي بكل حصاة درهم.
انظر: شرح النووي لصحيح مسلم (10/ 156).
(2) منها ما أخرجه البخاري رقم (2143) وأطرافه رقم (2256، 3843) ومسلم في صحيحه رقم (1514) والترمذي رقم (1229) وابن ماجه رقم (2197) وأحمد (1/ 56) و (2/ 5، 63، 108) والحميدي (2/ 303رقم 689) ومالك (2/ 653 رقم 62).
من حديث ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع حبل الحبلة، وكان بيعا يبتاعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها ". وهو حديث صحيح.
وانظر: " فتح الباري " (4/ 357).
(3) وهو حديث ضعيف.
أخرجه أحمد (3/ 42) والبيهقي (5/ 338) عن أبي سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص ".
وأخرجه ابن ماجه رقم (2169) والدارقطني (3/ 15 رقم 44) وقال البيهقي في سنته (5/ 338): " وهذه المناهي وإن كانت في هذا الحديث بإسناد غير قوي فهي داخلة في بيع الغرر الذي نهى عنه الحديث الثابت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(4) وهو حديث ضعيف.
أخرجه أحمد (3/ 42) والبيهقي (5/ 338) عن أبي سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص ".
وأخرجه ابن ماجه رقم (2169) والدارقطني (3/ 15 رقم 44) وقال البيهقي في سنته (5/ 338): " وهذه المناهي وإن كانت في هذا الحديث بإسناد غير قوي فهي داخلة في بيع الغرر الذي نهى عنه الحديث الثابت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(5) ورد النهي عن بيع المغانم حتى تقسم من حديث ابن عباس عند النسائي رقم (4645) وهو حديث صحيح.
(6) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2194) ومسلم رقم (49/ 1534) من حديث ابن عمر: " أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع الثمار صلاحها نهى البائع والمبتاع ".(7/3646)
الصوف على الظهر (1) والسمن في اللبن (2)، والملامسة (3)، والمنابذة (4)، والمحاقلة (5)، وبيع الثمار قبل بدو صلاحها (6)، والمحاضرة (7)، ....................................
_________
(1) وقد ورد النهي عن بيع الثمر حتى يطعم والصوف على الظهر، واللبن في الضرع، والسمن في اللبن من حديث ابن عباس.
أخرجه الدارقطني (3/ 14 رقم 42) وقال الدارقطني: وأرسله وكيع عن عمر بن فروخ، ثم أخرجه وكيع، عن عمر بن فروخ به مرسلا. لم يذكر ابن عباس.
(2) وقد ورد النهي عن بيع الثمر حتى يطعم والصوف على الظهر، واللبن في الضرع، والسمن في اللبن من حديث ابن عباس.
أخرجه الدارقطني (3/ 14 رقم 42) وقال الدارقطني: وأرسله وكيع عن عمر بن فروخ، ثم أخرجه وكيع، عن عمر بن فروخ به مرسلا. لم يذكر ابن عباس.
(3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2144) ومسلم رقم (3/ 1512) عن أبي سعيد قال: " نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الملامسة والمنابذة في البيع ".
وأخرجه مالك في " الموطأ " (2/ 666 رقم 76) من حديث أبي هريرة.
الملامسة: أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره، ولا يتبين ما فيه أو يبتاعه ليلا ولا يعلم ما فيه.
وقيل الملامسة لمس ثوب الآخر بيده بالليل أو النهار ولا يقبله.
المنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير راض ولا تراض.
انظر: " فتح الباري " (4/ 358).
(4) انظر التعليقة السابقة.
(5) أخرج أبو داود رقم (3404و3405) والترمذي رقم (1290، 1313) والنسائي رقم (3879، 3880) وابن ماجه رقم (2266) عن جابر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نهى عن المحاقلة والمزابنة، والمخابرة. وعن الثنيا إلا أن تعلم " وهو حديث صحيح.
وأخرجه البخاري رقم (2381) وليس فيه الثنيا.
وأخرجه أحمد (3/ 360) ومسلم رقم (1536).
المحاقلة: فسرها جابر بأنها بيع الرجل من الرجل الزرع بمائة فرق من الحنطة.
الفرق = 8.235 كغ.
أخرجه الشافعي في مسنده (1/ 311رقم 209).
وقال أبو عبيد في " غريب الحديث " (1/ 229 - 230) المحاقلة بيع الطعام في سنبله.
وانظر: " فتح الباري " (4/ 404).
(6) تقدم آنفا. وهو حديث صحيح.
(7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2207) من حديث أنس قال " نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المحاقلة والمخاضرة والمنابذة والملامسة والمزاينة ".
المخاضرة: بيع الثمار قبل أن تطعم وبيع الزرع قبل أن يشتد ويفرك ويصفر.
وقيل: المخاضرة: بيع الثمار خضرا لم يبد صلاحها.
" النهاية " (2/ 41)، " فتح الباري " (4/ 404).(7/3647)
والثنيا (1)، ألا تعلم، وبيعتين في بيعة (2)، ونحو ذلك. فإن النهي عن بيع هذه الأمور إنما هو لعدم وجود الرضى المحقق في الحال، أو في المال، لما فيها من الغرر الذي لا يمكن مع وجوده ذلك المناط الذي اعتبره القرآن والسنة، ومنها ما هو لعروض مانع شرعي يصير وجود ذلك المقتضي عند وجوده غير مؤثر في الصحة التي هي الأصل في ثبوت آثاره المترتبه عليه، كما هو شأن كل مانع، وذلك كالنهي عن بيع الخمر والميتة، والدم والخنزير والأصنام (3)، وثمن الكلب (4)، .....................................................
_________
(1) تقدم ذكر الحديث آنفا. وهو حديث صحيح.
الثنيا: هي أن يستثني في عقد البيع شيئا مجهول فيفسد، وقيل هو أن يباع شيء جزافا فلا يجوز أن يستثنى منه شيء قل أو كثر، وتكون الثنيا في المزارعة أن يستثني بعد النصف أو الثلث كيل معلوم.
" النهاية " (1/ 224).
(2) أخرج أحمد في " المسند " (2/ 432، 475، 503) والنسائي في سنته رقم (4623) والترمذي رقم (1231) وقال: حديث حسن صحيح. وابن حبان في صحيحه رقم (4973) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيعتين في بيعة ". وهو حديث حسن.
وأخرج أبو داود رقم (3461) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا " وهو حديث حسن.
(3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2236) وطرفاه (4296، 4633) ومسلم رقم (7/ 1581) وأحمد (3/ 324، 326) وأبو داود رقم (4386) والترمذي رقم (1297) وقال حديث حسن صحيح. والنسائي (7/ 309، 310) وابن ماجه رقم (2176).
عن جابر أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ".
(4) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2237) ومسلم رقم (39/ 1567) وأبو داود رقم (3481) والترمذي رقم (1276) وقال: حسن صحيح والنسائي (7/ 309) وابن ماجه رقم (2159) وأحمد (4/ 118، 119، 120) من حديث أبي مسعود قال: " نهى رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الكلب ".(7/3648)
والسنور (1)، وبيع فضل الماء (2)، وثمن عسب الفحل (3) وبيع العربان (4)، وبيع ما لا يملك (5)
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1569) وأبو داود رقم (3479) والترمذي رقم (1279) وابن ماجه رقم (2161) من حديث جابر: " أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن ثمن الكلب والسنور " وهو حديث صحيح.
(2) أخرج أحمد (4/ 138) و (3/ 417) وأبو داود رقم (3478) والنسائي (7/ 307رقم 4662) والترمذي رقم (1271) وقال حديث حسن صحيح من حديث إياس بن عبد: " أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع فضل الماء ". وهو حديث صحيح.
(3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2284) وأبو داود رقم (3429) والترمذي رقم (1273) والنسائي رقم (4671).
عن ابن عمر رضي الله عنه: "نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عسب الفحل ".
(4) عن عمرو بن شعيب قال: " نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيع العربان ".
أخرجه مالك في " الموطأ " (2/ 609رقم 1) من رواية يحيى بن يحيى، ورواية أبي مصعب الزهري (2/ 305رقم 2470) وفى كليهما: " عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب ... ".
وكذا رواية إسحاق بن عيسى عند أحمد (2/ 183).
والبلاغ إنما هو من رواية عبد الله بن مسلمة - قال مالك، قال: بلغني عن عمرو بن شعيب به.
أخرجه أبو داود رقم (3502). وأخرجه ابن ماجه رقم (2192) , (3193) وهو حديث ضعيف.
انظر: " تلخيص الحبير " (3/ 17 رقم 1173). وبيع العربان فسره مالك في " الموطأ " من رواية يحيى (2/ 609 رقم 1) هو أن يشتري الرجل العبد، أو الأمة، أو يكتري، ثم يقول للذي اشترى منه أو اكترى أعطيك دينارا أو درهما على أني إن أخذت السلعة فهو من ثمنها، وإلا فهو لك.
اختلف الفقهاء في جواز هذا البيع فأبطله مالك والشافعي لهذا النهي ولما فيه من الشرط الفاسد والغرر ودخوله في أكل المال بالباطل وروى عن عمر وابنه وأحمد جوازه.
انظر: " المجموع " (9/ 335) و" المغني " (6/ 313).
(5) أخرج أحمد (3/ 401، 403) وأبو داود رقم (3503) والترمذي رقم (1232) والنسائي (7/ 289رقم 4613) وابن ماجه رقم
(2187). من حديث حكيم بن حزام قال: " قلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي أبيعه منه ثم أبتاعه من السوق فقال: " لا تبع ما ليس عندك " وهو حديث صحيح.(7/3649)
وبيع الكالئ بالكالئ (1)، وبيع الطعام قبل الاستيفاء والنقل (2)، واختلاف الصاعين (3)، والبيع المستلزم للتفريق بين ذوي الأرحام (4)، ..................................................
_________
(1) وهو حديث ضعيف.
أخرجه البزار في مسنده (2/ 91رقم 1280 - كشف).
وذكره الهيثمي في " المجمع " (4/ 80) مطولا وقال: قلت: في الصحيح طرف منه رواه البزار وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف - وليس في الصحيح متن حديث الباب وأخرجه الدارقطني (3/ 72 رقم 270) والحاكم (2/ 57) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي وهو ليس كما قالا، والذي يبدو أنهما صححاه على أن راويه هو موسى بن عقبة الحافظ الكبير وليس كذلك، وقد خطأ البيهقي والحاكم الدارقطني على ذلك، ورواه في " سنته الكبرى " (5/ 290). وهو حديث ضعيف.
انظر: الإرواء رقم (1382).
الكالئ هو أن يشتري الرجل شيئا إلى أجل، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به، فيقول بعينه إلى أجل آخر بأكثر بزيادة شيء فيبيعه ولا يجري بينهما تقابض.
" النهاية " (4/ 194).
وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز بيع دين بدين.
" موسوعة الإجماع " (1/ 399).
(2) أخرج مسلم في صحيحه رقم (41/ 1529) عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه ". وهو حديث صحيح.
(3) أخرج البخاري في صحيحه (4/ 343 - 344) معلقا، بصيغة التمريض. وأحمد (1/ 62، 75) من حديث عثمان أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: " إذا ابتعت فاكتل وإذا بعت فكل ".
وأخرج ابن ماجه رقم (2228) والدارقطني رقم (3/ 8 رقم 24) والبيهقي (5/ 316) من حديث جابر قال: " نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري ". وهو حديث حسن.
(4) أخرج أحمد (5/ 413) والترمذي رقم (1283) وقال: حديث حسن غريب والدارقطني (3/ 67رقم 256) في " المستدرك " (2/ 55) وصححه على شرط مسلم.
من حديث أبي أيوب قال: " سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من فرق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ". وهو حديث صحيح.(7/3650)
وبيع الحاضر لباد (1)، وبيع النجش (2)، والبيع مع تلقي الركبان (3)، وبيع الرجل على بيع أخيه (4)، وسلف وبيع (5)، وشرطين في بيع (6)، وبيع ما ليس عند البائع (7)، والبيع مع
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2142) من حديث ابن عمر قال: " نهي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبيع حاضر لباد ". وانظر الرسالة رقم (112).
(2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2142) ومسلم رقم (13/ 1516) عن ابن عمر قال: " نهى النبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن النجش ".
النجش لغة: تنفير الصيد واستثارته من مكانه ليصاد.
" القاموس " (ص783).
والنجش في الشرع: الزيادة في ثمن السلعة المعروضة لا يشتريها بل ليغر بذلك غيره، وسمي الناجش في السلعة ناجشا لأنه يثير الرغبة فيها ويرفع ثمنها.
وانظر: " فتح الباري " (4/ 355).وانظر تفصيل ذلك في " المحلي " (8/ 448).
(3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2185) وطرفاه رقم (2163، 2274) ومسلم رقم (19/ 1521) وقد تقدم. انظر الرسالة رقم (112). عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تلقوا الركبان ولا يبيع حاضر لباد ".
(4) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2140) ومسلم رقم (6601) وقد تقدم عن أبي هريرة قال: " نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبيع حاضر لباد ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه ".
(5) أخرج أبو داود رقم (3504) والترمذي رقم (1234) وقال حديث حسن صحيح، والنسائي رقم (4611) والحاكم (2/ 17) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك " وهو حديث حسن.
(6) انظر التعليقة السابقة.
(7) انظر التعليقة السابقة أيضا.(7/3651)
شرط الولاء للبائع (1)، والبيع المشتمل على نوع من أنواع الربا (2)، ومنه النهي عن بيع المزابنة (3)، وبيع العينة (4)، والنهي لمن باع شيئا أن يشتريه بأقل مما باعه به، وما شابه هذه الصور.
_________
(1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني. فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولائك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم: فأبوا عليها، فجائت من عندهم ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس فقالت إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرت عائشة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن اعتق ". ففعلت عائشة رضي الله عنها ثم قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناس فحمد الله وأثني عليه ثم قال: " أما بعد، فما بال رجالا يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق ".
أخرجه البخاري رقم (2237) ومسلم رقم (39/ 1567) وأبو داود رقم (3481) والترمذي رقم (1276) وقال: حسن صحيح. والنسائي (7/ 309) وابن ماجه رقم (2159) وأحمد (4/ 118، 119، 120).
(2) انظر الرسالة رقم (114).
(3) أخرج البخاري رقم (2158) ومسلم رقم (1542) وأبو داود رقم (3361) والنسائي رقم (4534) وابن ماجه رقم (2256) وأحمد (2/ 16، 63، 64، 108) ومالك (2/ 624رقم 23).
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المزابنة: أن يبيع ثمر حائطة إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل الطعام، نهى عن ذلك كله ".
(4) أخرج أبو داود رقم (3462) من رواية نافع عنه وفى إسناده مقال.
وأخرجه أحمد (7/ 27رقم 4825 - شاكر) من رواية عطاء، ورجاله ثقات وصححه ابن القطان.
انظر: " تلخيص الحبير " (3/ 19رقم 1181).
عن ابن عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول: " إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ".
وهو حديث صحيح بطرقه.(7/3652)
إذا تقرر هذا، فالمتوجه القضاء بصحة كل بيع وجد فيه ذلك المقتضي؛ وهو الرضى فيتعين البقاء على أصل الصحة بعد وجود مقضيتها، كما هو شأن القواعد الشرعية المقررة عند علماء الإسلام، ما لم يتيقن المانع الذي ثبت كونه مانعا بنص، أو إجماع، لا بمجرد الظنون الفاسدة، والأوهام الباردة، فإن مجرد ذلك لا يعتد به على فرض تجرده عن المعارض، فضلا عن كونه معارضا بما هو مستقل في ترتب الآثار المقصودة، ومعارضا أيضًا بالأصل.
والظاهر اللذان هما المركز الأعظم في تعرف أحكام الأمور الجزئية، عند تجردها عن نص بعضها، وبيان ذلك أن الأصل في معاملات المسلمين الواقعة على الصورة الشرعية التي لم يصحبها مانع هو الصحة، والمراد بالصورة الشرعية وجود مشعر بطيبة النفس من مالك العين (1)، بانتقالها عن ملكه إلى المشتري، ووجود مشعر بطيبة نفس المشتري بخروج الثمن المدفوع عن ملكه إلى رب العين عوضا عنها، فهذا هو البيع الشرعى الذي أذن الله لعباده.
والمراد بعدم المانع أن لا يعارض هذه الصورة الشرعية أمر يستلزم وجوده عدم صحتها كالنهى عنها بخصوصها، أو النهي عن أمر تندرج هي تحته مع فقد دليل يخصها من ذلك العموم. ولا ريب أن الأصل عدم هذا المانع، فلا يجوز إثبات حكمه بيقين، وهكذا الظاهر فيما كان على الصفة المذكورة هي الصحة، لأنه تصرف أذن فيه الشارع، وكل تصرف أذن فيه الشارع صحيح، فهذا صحيح.
أما الكبرى فبنص: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (2)، وبنص: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (3)، وأما الصغرى فبإجماع المسلمين إذا لم يوجد مانع، والمفروض أن المانع هاهنا غير متقين،
_________
(1) تقدم ذكر الحديث وتخريجه.
(2) [البقرة: 257]
(3) [النساء: 29](7/3653)
وكل مانع غير متيقن لا يعتد به؛ فالمانع الغير المتيقن لا يعتد به، وإلا لزم الاعتداد بكل مانع إذا حصل الظن بكونه مانعا، وإن لم يثبت بنص ولا إجماع. واللازم باطل لأن مثل هذا لا يصلح لتخصيص ما يندرج تحت ما أذن به الشارع. وبيانه أنه إذا انتفى اليقين لم يبق إلا الظن، أو الشك. والشك لمجرده غير معمول به بالإجماع، والظن الذي لا مستند له كذلك.
فإن قلت الكبرى ممنوعة، والسند أنه إذا دل الدليل الظني على أن هذا الأمر مانع وجب المصير إلى ذلك، وتوجه الحكم ببطلان تلك الصورة الشرعية، وليس هاهنا إلا مانع مظنون، لأن ظنية الدليل تستلزم ظنية المدلول.
قلت: ليس المراد بقولنا: وكل مانع غير متيقن لا يعتد به كونه ثابتا بدليل يفيد اليقين، بل المراد تيقن دلالة الدليل، لأن ذلك الظن قد يكون غلطا في نفس الأمر، باعتبار عدم صحة تطبيق الدليل على المدلول كما ينبغي، ومثل هذا الظن لمجرده لا يصلح لتخصيص دليل تلك الصورة الشرعية على فرض ثبوتها بدليل عام، ولا لإبطالها على فرض ثبوتها بدليل خاص، ولا سيما إذا كانت معتضدة بالأصل، والظاهر كنا سلف، ومتأيدة بالبراءة الأصلية القاضية بعدم التعبد بذلك المانع المظنون.
إذا استوضحت هذا لاح لك أن بيع الرجا على الصفة المذكورة في السؤال هي أن البائع يأتي إلى المشتري يعرض عليه أرضه، فيتراضيان على ثمن معين معلوم، يكون ثمن المثل في غالب الأزمان، ودونه في النادر، فيقع البيع على ذلك الثمن المتراضى عليه، ثم بعد انقضاء العقد يلتزم المشتري للبائع مدة معلومة إن وفر الثمن فيها فسخ له بيع صحيح أذن له فيه الشارع لم يصحبه مانع معتبر، وإطلاق الأسماء المصطلحة عليه كقولهم: بيع الرجا، بيع رهن، بيع أجل بيع إلتزام، لا تأثير له لإجماع المسلمين على أن الأسماء لا تحيل المسميات عن حكمها الشرعي، وإلا لزم حل الأعيان المحرمة عند إطلاق اسم عليها غير(7/3654)
اسمها، وتحريم الأعيان المحللة عند إطلاق غير اسمها عليها. واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله.
وأما دعوى البائع بعد انقضاء المدة المضروبة، أنه إنما باع أرضه بدون ثمنها رغبة في الالتزام المذكور، ولولاه لما وقع منه البيع بهذا المقدار، فهذه الدعوى مما لا تأثير له في نقض ما أبرمه برضاه، واختيار وقت العقد.
أما إذا كان الثمن الذي وقع به عقد البيع هو ثمن في ذلك الوقت، أو في الغالب فلا سماع لمثل هذه الدعوى بالإجماع. وأما إذا كان الثمن دون ثمن تلك العين في ذلك الوقت، أو الغالب، فلا سماع أيضًا لتلك الدعوى، لأن إذن الشارع بالبيع لأهل الشرع لم يقيد بثمن المثل، بل أذن لهم بالتجارة الكائنة عن تراض، وإن بلغ الثمن باعتبار المبيع إلى غاية الارتفاع أو الانخفاض، بل سمي الأخذ البدون الثمن المتعامل به رزقا، كما في حديث جابر عند مسلم (1)، وأبي داود (2)، والترمذي (3)، والنسائي (4)، وابن ماجه (5)، وأحمد (6) أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " فإن السر في هذا النهي أن البادي يبيع بثمن أرخص من الثمن الذي وقع التعامل به في البلد، وإذا باع له الحاضر باعه بثمن المثل المعروف، فنهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الحضري أن يبيع للبدوي لذلك، وجعل ما ينقصه البدوي من ثمن أهل الحضر رزقا لأهل .............................
_________
(1) في صحيحة رقم (1522).
(2) لم يخرجه أبو داود من حديث جابر.
(3) في " السنن " رقم (1223).
(4) في "السنن" (7/ 256).
(5) في " السنن " رقم (2176).
(6) في " المسند " (2/ 307).
وهو حديث صحيح وقد تقدم. انظر الرسالة رقم (112).(7/3655)
الحضر (1)، وأيضا البائع الذي ادعى أنه ما باع أرضه بدون ثمنها إلا لمجرد ذلك الالتزام، قد نادى على نفسه بما يصلح لجعله مستندا للحكم عليه فإن ذلك المقدار الذي أسقطه عن المشتري لغرض الالتزام بالفسخ تلك المدة. وقد وقع ذلك الالتزام، وصار المبيع فيها معرضا للفسخ , والمشتري راض بذلك، مذعن له، فإنه لو جاءه في المدة المضروبة، ودفع إليه ما كان في قبضه من الثمن، لقال له خذ مبيعك هنيئا مريئا، بارك الله لك فيه.
فالغرض الذي لأجله الحط على فرض صحة الدعوى قد وقع، صار المشتري لأجله يظن في كل وقت أن ذلك المبيع خارج عن ملكه وكل عاقل يعلم أن ضرب مدة وقع التواطؤ عليها بين البائع والمشتري أن البائع إذا سلم فيها الثمن رجع إليه المبيع من أعظم الأغراض التي يتطلبها من باع ما يشح ببيعه لولا الحاجة. فإسقاط جانب من الثمن إلى مقابل هذا العرض إسقاط صحيح، والمشتري قد وفى بما عليه فاستحق ما حط لأجله، ولكن البائع أتى من قبل نفسه، فترك الاسترجاع في الأجل المضروب، وجاء إلى المشترى بعد انقضائه يطالبه بما يلزمه شرعا ولا عرفا.
وبهذا تعرف أن التعامل من البائع بحط جانب من الثمن إنما يصح لو كانت المدة المضروبة بينهما باقية، وحصل من المشتري الامتناع عن الرد، وأما بعد انقضائها فالأمر كما قيل: وقد حيل بين العير والنزوان (2):
راحت مشرقة ورحت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب
فإن قلت: ربما قال قائل إن الحط لمثل هذا الغرض لا يحل مال البائع بمثله.
_________
(1) انظر "المفهم " (4/ 367 - 368).
(2) حيل بين العير والنزوان:
يقال ذلك الرجل يحال بينه وبين مراده، والمثل ... لصخر بن عمرو أخي الخنساء:
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
النزوان في الوثب، وخص بعضهم به الوثب إلى فوق.
" لسان العرب " (14/ 115). " جمهرة الأمثال " للعسكري (1/ 371 - 372).(7/3656)
قلت: الحط لمثل هذا الغرض جائز حلالا دليلا ومذهبا:
أما الدليل: فقال تعالى: {أوفوا بالعقود} (1) والبائع والمشتري إذا تواطأ على حط جانب من الثمن لأجل الغرض المذكور فذلك عقد يتوجه الوفاء به.
وأخرج أبو داود (2)، والحاكم (3)، من حديث أبي هريرة مرفوعا: " المسلمون على شروطهم ". وقد ضعفه ابن حزم بكثير بن زيد، والوليد بن رباح، ولكنه قد حسنه الترمذي. ويشهد له ما أخرجه الترمذي (4) والحاكم (5) من حديث كثير بن عبد الله بن
_________
(1) [المائدة: 1].
(2) في " السنن " رقم (3594).
(3) في " المستدرك " (2/ 49).
قلت: وأخرجه ابن الجارود رقم (637، 638) وابن حبان رقم (1199 - موارد) والدارقطني (3/ 27رقم 96). والبيهقي (6/ 64، 65) وأحمد (2/ 366) وابن عدي في " الكامل " (6/ 2088). كلهم من حديث كثير ابن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة: " أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: المسلمون على شروطهم والصلح جائز بين المسلمين " وزاد بعضهم: " إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما ".
قال الحاكم: " رواة هذا الحديث مدنيون " فلم يصنع شيئا!!.
ولهذا قال الذهبي: لم يصححه، وكثير ضعفه النسائي، وقواه غيره. وقال ابن حجر في " التقريب " (2/ 131رقم 11): " صدوق يخطئ ".
قلت لم يتفرد به وله شاهد - سيأتي.
(4) في " السنن " رقم (1352).
(5) في المستدرك (4/ 10).
قلت وأخرجه ابن ماجه رقم (2353) والدارقطني (3/ 27رقم 98) والبيهقي (6/ 79) من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده مرفوعا: " الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما ".
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قلت: فيه كثير بن عبد الله هذا مجمع على ضعفه ن وقد قال ابن حجر في " التقريب " (2/ 123رقم 71): " ضعيف، منهم من نسبه إلى الكذب ".
وسكت الحاكم على الحديث، وقال الذهبي: " واه". صحيح بشواهد وانظر الإرواء رقم (1303).(7/3657)
عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده بنحوه. وزاد: " إلا شرطا أحل حراما، أو حلل حلالا " وكثير المذكور - وإن كان ضعيفا - ولكن الحديث المتقدم شواهد من حديث أنس عند الحاكم (1)، والدارقطني (2). ومن حديث عائشة عندهما (3) أيضا. ومن حيث عطاء مرسلا عند ابن أبي شيبة (4). ووجه دلالته أن المشتري شرط للبائع الفسخ في مدة مقدرة، والبائع شرط له في مقابل ذلك جانبا من الثمن، فعلى كل واحد منهما شرط، لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -يقول: " المؤمنون عند شروطهم " أي شأن من اتصف بصفة الإيمان الثبوت على ما يقبضه الشرط، وليس هذا من الشروط المحللة للحرام، أو المحرمة للحلال، بل من الشروط الجائزة الجارية على مقتضى التراضي، وطيبة النفس.
وأخرج البيهقي (5) من حديث بن عباس أن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -
_________
(1) في " المستدرك " (4/ 10).
(2) في " المستدرك " (3/ 27).
(3) أي الحاكم في " المستدرك " (2/ 49) والدارقطني في " السنن " (3/ 27رقم 99) عن عائشة مرفوعًا بزيادة: " ما وافق الحق ".
قلت: وهذا إسناد ضعيف جدا، من أجل عبد العزيز بن عبد الرحمن وهو البالسي الجزري، اتهمه الإمام أحمد، وقال النسائي وغيره: ليس بثقة. ولهذا قال الحافظ في " التلخيص " (3/ 23): وإسناده واه.
(4) مصنفه (6/ 568).
قلت: وأما الموقوف فقد أخرجه البيهقي في " السنن "
(6/ 56). والخلاصة أن الحديث صحيح بمجموع طرقه والله أعلم.
(5) في " السنن الكبرى " (6/ 28).(7/3658)
لما أمر بإخراج بني النضير جاء ناس منهم، فقالوا: يا رسول الله إنك أمرت بإخراجنا، ولنا على الناس ديونا لم تحل، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ضعوا وتعجلوا ".
وهذا الحديث نص صريح في جواز الحط لمجرد عرض هو نفس التعجيل قبل مضي الأجل.
ومسألة السؤال: العرض فيها الحط لأجل التنفيس على البائع المجعول له الخيار من جهة المشتري في تلك المدة.
وقد عقد البيهقي (1) لذلك بابا فيمن عجل له شيء من حقه قبل محله فقبله، ووضع عنه بطيبة من أنفسهما، واستدل له أيضًا بالحديث (2) المتقدم، وبحديث (3): " من أحب أن يظله الله تعالى في ظله فلينظر معسرا أو ليضع عنه " وقال (4): كان ابن عباس لا يرى بأسا بأن يقول: أعجل لك وتضع عني، وذكر أن حديث بن عباس المتقدم في سنده ضعف. وعقد بابا (5) لعدم جواز ذلك مع الشرط، وذكر فيه حديثا عن المقداد أنه قال: أسلفت رجلا مائة دينار، فخرج سهمي في بعث بعثه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فقلت له: عجل لي بسبعين دينارا، وأحط لك عشرة دنانير. فقال: نعم. فذكر ذلك عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال: " أكلت الربا يا مقداد وأطعمته " وهذا الحديث على فرض صحته يجمع بينه وبين الحديث الأول، وما يقويه بما أشار إليه البيهقي في ترجمة البابين من حمل هذا على الشرط، وحمل الأول
_________
(1) في " السنن الكبرى " (6/ 27 - 28).
(2) تقدم تخريجه.
(3) عند البيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 28).
(4) البيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 28).
(5) أي البيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 28).(7/3659)
على عدمه، وعلى فرض عدم إمكان الجمع. فهذا الحديث لا يدل على إبطال الحط لكل غرض، وغايته عدم جواز هذا الحط الخاص لهذا الغرض الخاص في تلك المعاملة الخاصة - أعني القرض - فإلحاق سائر الأغراض به مطلقا فاسد الوضع والاعتبار في كثير من الصور، ومستلزم لإبطال الزيادة في الثمن والنقصان منه لكل غرض مطلقا؛ إذ لا فرق بين الزيادة والنقصان لأجل غرض، لكونهما جعل نصيب من المال في مقابلة غرض واللازم باطل بالإجماع، فإن جميع العلماء قائلون بأنه يجوز للإنسان أن يزيد في ثمن العين المشتراة لأجل غرض من الأغراض، ويحل البائع قبض ذلك، وكذلك أجمعوا على أنه يجوز للبائع أن يبيع بدون ثمن المثل لأجل غرض من الأغراض، ويحل للمشتري تملك العين المبيعة.
وقد ثبت في مسلم (1)، والترمذي (2)، والنسائي (3)، وأبي داود (4) أنه جاء إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عبد فأسلم فجاء سيده يريده فاشتراه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بعبدين أسودين، ومعلوم أن هذه الزيادة ليست إلا لغرض له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وهو أن لا يرجعه إلى الكفار. فهذا ما خطر بالبال من الأدلة الدالة على جواز
_________
(1) في صحيحه رقم (1602).
(2) في " السنن " رقم (1239).
(3) في " السنن " (7/ 150).
(4) في " السنن " رقم (3358).
أخرجه أحمد في " المسند " (3/ 349) وهو حديث صحيح. كلهم من حديث جابر قال: جاء عبد فبايع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الهجرة ولم يشعر أنه عبد، فجاء سيده يريده. فقال له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بعنيه " فاشتراه بعبدين أسودين ثم لم يبايع أحدا بعد حتى يسأله: " أعبد هو ".
قال القرطبي في " المفهم " (4/ 511): هذا إنما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مقتضي مكارم أخلاقه، ورغبة في تحصيل ثواب العتق، وكراهية أن يفسخ له عقد الهجرة، فحصل له العتق، وثبت له الولاء، فهذا المعتق مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير أنه لا يعرف اسمه. وفيه دليل: على جواز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلا نقدا. وهذا لا يختلف فيه.(7/3660)
الحط للغرض المذكور في مسألة السؤال.
وأما وقع من ذلك القبيل في كلام أهل المذهب، فمنه قولهم بصحة التعجيل بشرط حط البعض، فإنه لم يقابل هذا الحط إلا مجرد التعجيل لما كان مؤجلا إلى أجل قبل حضور أجله، فما هو جوابهم في هذا جوابنا في مسألة السؤال، ومن ذلك قولهم: أنه يندب الوفاء بالشرط، ويرجع بما حط لأجله من لم يوف لديه، فإنهم إنما ابتنوا الرجوع بما وقع له الحط مع عدم الوفاء، لا إذا وقع الوفاء فلا رجوع.
ومن ذلك قولهم: ويلحق بالعقد الزيادة والنقص المعلومات في المبيع والثمن والخيار فإن ظاهر ذلك جواز الزيادة والنقص مطلقا لكل غرض من الأغراض، أو لغير غرض مع أنهم جازمون بأن هذه الصورة المسئول عنها من البيع بشرط الخيار كما صرح بذلك جماعة منهم، كالسامولي في حاشيته على الأزهار، وهو الذي رجحه مشائخ المذهب المتأخرون من أهل مدينة ذمار، وصنعاء، والصغير، فقالوا إن ما جرت العادة في كثير من المحلات أن يقول البائع: بعت وأنا مقال، وكذا المشتري يقول: اشتريت وأنا مقال، أو ولي الإقالة، إلى يوم كذا، فالذي عرف من حال الناس أنهم يريدون الخيار وقد يصرحون به في بعض الألفاظ، فهذا بيع صحيح إذا كان إلى يوم معلوم، ويكون خيارا بلفظ الإقالة، لأن الإقالة إنما يكون بعد البيع، فهذا كلام شيوخنا المشتغلين بالمذهب وشيوخهم، وهو مقرر عندهم، ومختار للمذهب، لا يختلفون فيه، وإذا كانت الصورة المسئول عنها من البيع بشرط الخيار، فكيف يحسن من الحاكم المترافع إليه أن يسمع دعوى البائع بأن المشتري قد استغل من المبيع مقدار الثمن المدفوع، والفوائد في خيار الشرط لمن استقر له الملك كما صرح به أهل المذهب في المطولات والمختصرات من كتبهم، وهو الموافق للقواعد الشرعية، لأن المشتري لم يستغل إلا ملكه إذ الملك قد صار مستقرا له بعد مضي مدة الأجل، وعلى فرض أنه يصدق على الصورة المسئول عنها أنها من بيع الرجا، فأهل المذهب لا يجزمون في كل ما يسمونه بيع الرجا أنه باطل، فإنه قال السمولي في حاشيته أنه يدخل تحت قوله في ...................(7/3661)
الأزهار (1): ويلغي شرط خلافه، ولو في الصفة تعليق الإقالة برد مثل الثمن إلى المشتري، أو من يقوم مقامه، وهو بيع الرجا المعروف، فيؤخذ من هنا صحته ما لم يكن فيه ما يقتضي الربا، كأن يريد المشتري التوصل إلى الغلة فقط، ولا غرض له في أخذ رقبة المبيع انتهى.
قال في شرح الفتح (2): فإن إلتبس القصد عمل بالعرف فإن التبس أو لا عرف حمل على الصحة، لأن العقد إذا احتمل وجهي صحة وفساد حمل على الصحة انتهى.
ونقلنا عن شيوخنا عن شيخهم شيخ المتأخرين في المذهب بن أحمد الشبيبي (3) رحمه الله ما لفظه: يفصل في بيع الرجا فإن كان مراد المشتري الرقبة - لا غرض له إلى الغلة وحدها - فهو بيع رجا صحيح، وإن لم مراده الرقبة، بل الغلة فقط فهذا بيع الرجا الذي لا يجوز لتضمنه الربا بزيادة الغلة على الثمن. انتهى.
وهذا هو المقرر عند جميع الشيوخ المشتغلين بالمذهب الآن، وشيوخهم، وعلى هذا يحمل ما رواه السائل - كثر الله فوائده - عن شرح الأثمار (4)، ويحمل عليه أيضًا ما في سؤالات الإمام عز الدين بن الحسن (5) حيث أجاب لما سئل عن بيع الرجا فقال: مذهبنا
_________
(1) انظر " السيل الجرار " (2/ 965).
(2) انظر: " مؤلفات الزيدية " (2/ 169).
(3) الحسن بن أحمد بن الحسين بن على بن يحيى بن على بن محمد بن معوضة الشبيبي الآنسي ثم الذملوي فقيه في فروع الهدوية باليمن. ولد سنة 1107هـ. من مؤلفاته " حاشية بيان ابن المظفر ". " حاشية شرح الأزهار ".
توفي سنة 1169هـ.
انظر: " اعلام المؤلفين الزيدية " (ص295 - 296)، ملحق البدر الطالع " (ص68).
(4) انظر " مؤلفات الزيدية " (2/ 427 - 128)
(5) عز الدين بن الحسن بن الإمام على بن المؤيد بن جبريل اليحيوي الهادي الحسني. ولد سنة 845هـ في هجرة فللة.
من مؤلفاته: " أجوبة ومسائل ". " أصول الدين " (رسالة).
مات سنة 900هـ.
" أعلام المؤلفين الزيدية " (ص641). " مؤلفات الزيدية " (1/ 55).(7/3662)
أنه غير صحيح لوجهين:
أحدهما: أنه وصلة إلى الربا المحض، فإن الغرض فيه ليس المعاوضة والتمليك، بل التوصل إلى الربح في القرض، فإن البائع إنما أراد أن يقرضه المشتري مائة درهم مثلا، والمشتري لا يسعفه إلا بفائدة وزيادة، فلما لم يجتريا على أن يقرضه درهما بدرهمين مثلا ونحو ذلك، جعلا هذا البيع وصلة لذلك، وذريعة إليه، مع التواطؤ والبناء على عدم إنفاذ الملك، وعلى أن المبيع باق على ملك البائع وهذه حيلة قبيحة توصل إلى هدم قاعدة شرعية؛ وهي تحريم الربح في القرض، فكل قرض جر منفعة حرام، ليس كالحيلة في بيع صاع من التمر الجيد بصاعين من التمر الرديء؛ إذ لم يجعل ذلك توصل إلى ربح وزيادة وفائدة مستفادة.
الوجه الثاني: أنه بيع مؤقت في الحقيقة، وتقريره أنه العرف جار بأن البائع متى رد مثل الثمن استرجعه، شاء المشتري أم كره، وهو في حكم التوقيت، فتبين بهذا أن البيع غير صحيح، ومع كونه غير صحيح فلا يملك بالقبض، لأن البائع لم ينسلخ منه، ولا يحصل به تسليط للمشتري على التصرف فيه شاء، ثم إن فساده من جهة الربا في أحد الوجهين، فالأقرب أنه باطل قال:
إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم أن هذه المسألة من المعضلات المشكلات التي حارت فيها أنظارنا، ليس من جهة أنه صحيح، أو غير صحيح فقد أبنا القوى من الوجهين، بل من جهة أخرى؛ وهو أنا إن قررنا الناس على ما يعتادونه من هذا البيع، وقضينا بينهم بتنفيذه وتقريره، وألزمنا البائع تسليم الأجرة، أو الغلة، فهو بناء على غير قاعدة،(7/3663)
وأصول ذلك فاسدة، وإن عرفنا الناس ببطلانه وانهدام بنيانه، فقد أغرق الناس فيه، واستمروا على ما يمكن تلافيه، وكان ذلك يؤدي إلى فتح أبواب واسعة من الشجار، وإثارة فتن كبار.
قال: ومن أجل الذي قوى لنا لا نحكم به، ولا نشهد فيه، ولا نحصر عليه، ولا نلزم به تسليم الأجرة، أو غلة فيه. ومن أجل خشية فتح أبواب الشجار لا يكاد يذكر مذهبنا للمتنازعين في شأنه، ولا يلزم المشتري رد ما استفاد استصلاحا، انتهي كلامه وفيه زيادة على هذا المقدار.
وفى موضع آخر من فتاوى الإمام عز الدين المذكورة، ولعله من كلام محمد بن أمير المؤمنين أحمد بن عز الدين بن الحسن، وهو الجامع لتلك الفتاوى ما لفظه: بيع الرجا ليس للمؤيد بالله فيه نص، إنما أخذ من قوله: بجواز بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النسا، لأنه احتج بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " نحن نحكم بالظاهر " (1) فخرج له جواز هذا، وبنوا على أنه عليه السلام لا يعتبر الضمير وقد زاد المذاكرون ونقصوا، وطولوا وقصروا، وهي مسألة غير مرضية، ونحن من أشد الناس مبالغة في النهي عن هذه المسألة واعتمادها، وفى بطلان هذا البيع في جميع صوره وأساليبه، واختلاف الأعراف فيه، وتحريمه على البائع والمشتري، والكاتب والشاهد. وقد أثر ذلك في كثير من الجهات والنواحي انتهى.
أقول: إذا كان بيع الرجا واقعا على الصورة الأولى التي ذكرها الإمام عز الدين من أن المقصود هو أن يريد الرجل استقراض مائة درهم من أجل، ولكن المقرض لا يرضى إلا بزيادة فيزيدان من إثم الزيادة في القرض، فيبيع منه أرضا بتلك المائة الدرهم، ويجعل له الغلة عوضا ينتفع بها عن المائة التي استقرضها، وليس المراد البيع والشراء الذي أذن الله فيه، فلا شك أن صورة هذا البيع محرمة يجب على كل مسلم
_________
(1) تقدم تخريجه.(7/3664)
إنكارها، لأنها أفضت إلى ما يحل شرعا، وهو الربح في القرض، واستجلاب النفع به. وقد منع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ من قبول الهدية ونحوها من المستقرض، فكيف بمثل الذي وقع التواطؤ من أول وهلة.
اخرج ابن ماجه (1) عن أنس أنه سئل عن الرجل يقرض أخاه، فيهدي إليه، فقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدي إليه، أو حمله على دابة، فلا يركبها، ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك ".
وأخرج البخاري في تاريخه (2) من حديث أنس عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا أقرض فلا يأخذ هدية ".
عن أبي بردة بن موسي قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام، فقال لي: "إنك بأرض فيها الربا فاش، فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير، أو حمل قت فلا تأخذه؛ فإنه ربا " رواه البخاري في صحيحه (3).
وأخرج البيهقي في المعرفة (4) عن فضالة بن عبيد موقوفا بلفظ: " كل قرض
_________
(1) في " السنن " (2/ 813 رقم 2432).
وفي إسناده يحيى بن إسحاق الهنائي وهو مجهول.
انظر: " التقريب " (2/ 342رقم 13).
وفى إسناده أيضًا عتبة بن حميد الضبي وقد ضعفه أحمد. والراوي عنه إسماعيل بن عياش وهو ضعيف في الشاميين وشيخه " الضبي " كوفي.
انظر: " الميزان " (3/ 28رقم 5470) و" التقريب " (1/ 73رقم541).
والخلاصة أن حديث أنس ضعيف والله أعلم.
(2) (4/ 2 / 231).
(3) رقم (3814).
قال الحافظ في " الفتح " (7/ 131) عند قوله: فإنه ربا " يحتمل أن يكون ذلك رأي عبد الله بن سلام، وإلا فالفقهاء على إنه إنما يكون ربا إذا شرطه، نعم الورع تركه ".
(4) (4/ 391):(7/3665)
جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا "
ورواه في السنن الكبرى (1) عن ابن مسعود، وأبي بن كعب (2)، وعبد الله بن سلام (3) موقوفا عليهم.
ورواه الحارث بن أبي أسامة (4) من حديث على عليه السلام بلفظ: " أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - نهي عن قرض جر منفعة " قرض جر منفعة: " كل قرض جر منفعة فهو ربا "، وفى إسناده سوار بن مصعب، وهو متروك (5). قال عمر به زيد في المغني (6): لم يصح فيه شيء. انتهى.
ووهم إمام الحرمين، والغزالي فقالا: إنه صح، ولا خبرة لهما بهذا الفن وقد أجمع العلماء على تحريم الزيادة في القرض إذا كانت مشروطة، ولا يعارض هذا حديث أبي هريرة عند الشيخين (7) قال: كان لرجل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سن
_________
(1) (5/ 350). .
(2) عند البيهقي في " السنن الكبرى " (5/ 349) ..
(3) عند البيهقي في " السند الكبرى " (5/ 349 - 350).
(4) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (3/ 80). .
(5) انظر: " الجرح والتعديل " (4/ 271) و" الميزان: (2/ 246) و" المجروحين " (1/ 356) و" التاريخ الكبير " (4/ 169).
(6) (1/ 290). قلت: لم يصح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الباب.
وانظر: " جنة المرتاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب " لأبي حفص عمرو بن بدر الموصلي، تصنيف أبي إسحاق الحويني الأثري
(2/ 403). وأحاديث زيادته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الوفاء وحثه على ذلك كثيرة مستفيضة كما مر، وفيها إقراره للدائن على أخذ الزيادة التي قدمتها إليه المدين وحض المدين على الزيادة في الوفاء ".
(7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2305) وأطرافه (2306، 2390، 2392، 2393، 2401، 2606، 2609).مسلم في صحيحه رقم (1601) والترمذي رقم (1316) و (1317) والنسائي (7/ 291رقم 4618).(7/3666)
من الإبل، فجاءه يتقاضاه، فقال: " أعطوه " فطلبوا سنة فلم يجدوا إلا سنا فوقها فقال: " أعطوه "فقال: أوفيتني أوفاك الله، فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن خيركم أحسنكم قضاء ".
وما أخرجه أيضًا الشيخان (1) من حديث جابر قال: " أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وكان لي عليه دين فقضاني، وزادني " فإن ذلك من الزيادة بعد القضاء بطيبة النفس بلا مواطأة، ولا لطمع في التنفيس، وهي جائزة بل مستحبة كما قاله المحاملي من الشافعية (2)، فإذا كان المقصود بالبيع هو مجرد الزيادة على مقدار الدراهم المدفوعة بصورة الثمن من دون رغبة في المبيع أصلا، بل التوصل إلى الربح في القرض كما قال الإمام عز الدين في كلامه السابق فلا شك أن هذا ليس من البيع الذي أذن الله له، فيحكم بالبطلان، ويجب رد جميع الغلات المقبوضة إلى البائع، أو الكراء على القولين في ذلك ورد الثمن بصفقة بلا زيادة ولا نقصان (3) ولكن هذه صورة غير الصورة
_________
(1) البخاري في صحيحه رقم (2394) ومسلم رقم (71/ 715). قال ابن قدامة في " المغني " (6/ 436): كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام، بغير خلاف، قال: ابن المنذر: " أجمعوا على المسلف إذا شرط على المستلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة على ذلك ربا " اهـ.
ثم قال ابن قدامة: فإن أقرضه مطلقا من غير شرط، فقضاه خيرا منه في القدر أو الصفة، أو دونه برضاهما، جاز.
(2) انظر: " الحاوي " (6/ 440 - 442).
(3) قال ابن قدامة (6/ 439): وإن شرط في القرض أن يوفيه أنقص مما أقرضه، وكان ذلك مما يجري فيه الربا، لم يجز، لإقضائه إلا فوات المماثلة فيما هي شرط فيه، وإن كان في غيره، لم يجز أيضا. وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وفى الوجه الآخر يجوز، لأن القرض جعل للرفق بالمستقرض، وشرط النقصان لا يخرجه عن موضوعه، بخلاف الزيادة. ولنا أن القرض يقتضي المثل، فشرط النقصان يخالف مقتضاه فلم يجز، كشرط الزيادة.(7/3667)
المسئول عنها، التي خرجنا بصحتها، ولا يقدح في هذه الصورة الصحيحة ما قاله الإمام عز الدين أن بيع الرجا مؤقت في الحقيقة، لأن البائع إذا أراد رد الثمن مثل استرجعه، رضي المشتري أم كره، لأنا نقول: هذا شأن خيار الشرط الذي ينفرد به البائع، فإنه انقضى الأجل، واختار من هو له أحد المبيع أخذه شاء الآخر أم كره، وهو صحيح لا يخالف في صحته الإمام عز الدين ولا غيره كما سيأتي.
وقد قررنا فيما سلف أن بيع الرجا على الصورة المسئول عنها بيع مع خيار الشرط. وقد دلت الأدلة الصحيحة على صحة البيع الذي يقع فيه التفرق بين البائع والمشتري، وبينهما صفة خيار كما في حديث ابن عمر عند الشيخين (1) وغيرهما (2) بلفظ: " المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر، أو يكون بينهما بيع الخيار "، وفى لفظ متفق عليه (3): " كل بيعين، لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع خيار ".
للحديث ألفاظ أخر.
في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار" أخرجه أحمد (4)، وأهل السنن (5) إلا ابن ماجه، وسيأتي حديث حبان بن منقذ، وفى الباب
_________
(1) البخاري في صحيحه رقم (2107) ومسلم رقم (1531) وقد تقدم.
(2) كأبي داود رقم (3454، 3455) والترمذي رقم (1245) والنسائي (7/ 248، 249) وابن ماجه رقم (2181).
انظر: الرسالة رقم (110).
(3) البخاري رقم (2112) ومسلم رقم (45/ 1531) وقد تقدم.
(4) في " المسند " (2/ 183).
(5) وأبو داود رقم (3456) والترمذي (1247) والنسائي رقم (4483) وهو حديث حسن وقد تقدم.(7/3668)
أحاديث كثيرة. فما هو جواب عز الدين عن هذه الأدلة فهو جوابنا لأن مسألة النزاع من خيار الشرط كما قررناه.
إذا تقرر هذا عرفت أن البيع المصحوب بتلك الإقالة العرفية التي هي في الحقيقة خيار شرط، إذا لم يكن المقصود منه التوصل إلى ما حرمه الله من الربا، أو القرض الذي يجر منفعة صحيح دليلا ومذهبا.
فالمبادرة من بعض الحكام إلى القضاء ببطلانه عند دعوى البائع أنه باع أرضه بدون ثمنها رغبة في الالتزام وإقامة الشهادة على أن ذلك الثمن دون القيمة المثلية مجازفة، لا يقع مثلها من متورع، ولا يصدر التجاري بالحكم على القطع عندها من متشرع، لأن القضاء يذلك إن كان تقليدا فمن المقلد، فإن العلماء من أهل المذهب وغيرهم إنما أبطلوا صورة من الصور التي يقع عليها بيع الرجا عرفا، والتعميم الموجود في عبارة بعضهم، إنما هو بالنسبة إلى مواطن تلك الصورة باعتبار اختلاف الجهات والكيفيات، وإن كان اجتهادا فما المستند؟ فإنا لم نجد ما يدل على بطلان الصورة والمسئول عنها، لا في كتاب الله تعالى، ولا وفى سنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ولا في قياس صحيح، ولا في إجماع ولا قول صاحب، بل وجدنا ما يدل على صحتها كتابا وسنة وقياسا وإجماعا كما قدمنا تحقيق ذلك.
والحاصل أنا لم نؤمر بالبحث عن خفيات الضمائر، والتفتيش للقلوب عن ما لا سبيل لنا إلى معرفة حقيقته من السرائر، فإذا توقع التنازع الينا في صورة من الصور التي أذن الشارع بها كصورة السؤال، فالمتوجه علينا القضاء بصحتها حتى يقوم دليل يوجب علينا الانتقال عن الحكم بصحة هذه الصورة، لا بمجرد دعوى البائع أن المشتري لا بقصد له بهذا البيع إلا الانتفاع بالغلة في مقابل ذلك الثمن المدفوع منه، فإن هذه الدعوى مع مخالفتها لما هو الأصل والظاهر، ولما يجب علينا من تحسين الظن بالمسلمين، وحمل معاملاتهم على الصحة، ليست مما تبني على مثلها قناطر الاحكام، ويفصل بالنظر إليها ما يعرض بين المتخاصمين من الجدال والخصام، وقد نهينا عن العمل بما لا علم لنا به فيما(7/3669)
هو دون اقتطاع الأموال، قال الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (1)، وقال: {إن يتبعون إلا الظن} (2) وقال: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} (3) فلا يجوز لنا الإقدام بدون علم، أو بمجرد الظن إلا فيما أذن الشارع، لا فيما عداه، والذي تبعدنا به عند عروض الخصومات هو القضاء بما يظهر لنا في تلك الواقعة. وحيث: " نحن نحكم بالظاهر " (4) وإن لم يكن له أصل كما قال المزي (5)، والذهبي وابن كثير، ولكن لمعناه شواهد كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إنما أقضي بنحو ما أسمع "، وهو في الصحيح (6).
وقال البخاري (7) في كتاب الشهادات: قال عمر: إن ناسا كانوا يؤخذون بالوحي على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذ الآن بما يظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته
_________
(1) [الإسراء: 36].
(2) [الأنعام: 116]
(3) [يونس: 36].
(4) قال العراقي في " تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في منهاج البيضاوي " رقم (78): " لا أصل له وسئل عنه المزي فأنكره ".
وكذلك ابن كثير والسخاوي كما في " المقاصد الحسنة " رقم (178). وأيضا السيوطي كما في " كشف الخفاء " للعجلوني رقم (585).
وانظر: " موافقة الخبر الخبر " لابن حجر (1/ 181 - 183).
(5) انظر التعليقة السابقة.
(6) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6967) ومسلم رقم (4/ 1713) عن أم سلمة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع .... ".
(7) في صحيحه رقم (2614).(7/3670)
يحاسبه الله في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه، ولم نصدقه، وإن قال سريرته حسنة.
ورواه أحمد في مسنده (1) مطولا، وأبو داود مختصرا (2)، وهو من رواية أبي فراس (3) عن عمر قال أبو زرعة: لا أعرفه ولكنه قد عرفه مثل البخاري، فروي عنه ذلك في صحيحه تعليقا (4). ومن الشواهد أيضًا حديث أن العباس قال: يا رسول الله لقد كنت مكرها - يعني يوم بدر - فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أما ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله ".
ومنه حديث (5) معاتبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لأسامة بن زيد لما قتل كافرا بعد أن قال لا إله إلا الله، ظنا منه أنه قالها تقية فما زال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يكرر عليه: " كيف قتلته وقد قال لا إله إلا الله! " أو " فما تصنع بلا إله إلا الله! " وهو يقول: إنما قالها يا رسول الله تقية. فلم يسمع ذلك منه، ولا جعله عذرا له حتى تمنى أسامة أنه لم يسلم إلا في ذلك الوقت.
ووقع في بعض الروايات أنه لما قال له أسامة: إنما قالها تقية قال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أفتشت عن قلبه " أو كما قال. ومن ذلك قضية خالد في قتله لبني جذيمة بعد أن أظهروا الإسلام، فتأول خالد في قتلهم، فلم يرض ذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، ووادهم " وهذه الأحاديث (6) موجودة في
_________
(1) انظر " فتح الباري " (5/ 251 - 252).
(2) تقدم مرارا.
(3) عزاه بن حجر في " الفتح " (5/ 251) إلى الحاكم من رواية أبي فراس عن عمر: كنا نعرفكم إذ كان فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا الوحي ينزل وإذ يأتينا من أخباركم ".
(4) تقدم تخريجه.
(5) تقدم ذكرها مرارا.
(6) تقدم ذكرها مرارا.(7/3671)
كتب الحديث المعتمدة، وكتب السير، فانظر كيف اعتبرها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في هذه الأمور ظواهر الاحوال، ولم يصده عن التمسك بالظاهر مجرد ما يعرض من الاحتمال، وهكذا يجب علينا أن نصنع فيمن عقد عقدا صحيحا، موافقا لظاهر الشرع. ولا يجوز لنا الإلتفات إلى احتمال أنه إنما فعل ذلك لغرض آخر غير مأذون به، ولا سيما إذا كان مصرحا بإرادة ذلك الظاهر وقت الخصام، متبرئا عن إرادة غيره، مما لا يخالفه، ويخالف ما أذن به الشارع، والحاكم المنور البصيرة الممد من الله بالتوفيق إذا أشكل عليه أمر فتح الله له من أبواب معارفه ما يميز به بين الحق والباطل. ولنوضح ما أسلفناه من الجزم بصحة الصورة المسئول عنها بسلوك طريقة من طرائق النظر فنقول لمن ادعى عدم صحتها:
هل المانع من صحة هذه الصورة أمر يرجع إلى نفي العقد، أو إلى البائع والمشتري أو إلى المبيع، أو إلى الثمن، أو إلى شرط الإقالة، أو إلى أمر غير ذلك؟ لا جائز أن يكون المانع من الصحة أمرا راجعا إلى نفس العقد، لأنه وقع على صورة صحيحة شرعية، لأن صورة السؤال التي ذكرها السائل صحيحة مشتملة على التراضي الذي هو المناط الشرعي؛ وهو كاف.
أما عند من لم يعتبر حصول العقد بلفظ: بعت، شربت أو ما يؤدي معناهما من ألفاظ مخصوصة فظاهر، وأما عند من يعتبر بعد حصول التراضي زيادة ذلك اللفظ المعتبر فالمفروض في صورة السؤال أنه وقع بينهما عقد بلفظ يقتضي التمليك، ولم أزل أبحث عن وجه اشتراط العقد في البيع، وما يماثله بألفاظ مخصوصة فلم أجد في ذلك ما يشفي، وظاهر الأحاديث والكتاب العزيز أن الشرط صدوره عن تراض، وأن التراض مستقل بانتقال الملك، والألفاظ إنما هي قرائن للرضي، ودوال عليه. وأما لفظ مخصوص من الجانبين فلا دليل عليه، وإنما قلنا كذلك لأنه قوله {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (1)، وقوله
_________
(1) [النساء: 29].(7/3672)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس " (1) يدلان على استقلال مجرد الرضى، والطيبة بذلك مع تقدير أي قيد، وبعد ثبوت مطلق الحل يحتاج مدعي اعتبار لفظ خصوص إلى دليل يزيل هذا الحل، إن لم يحصل ذلك اللفظ المخصوص.
نعم لابد من أمر مشعر بالرضا ن لأنه مما لا يمكن الوقوف علي حقيقته، ولكن هذا المشعر أعم من الألفاظ الخاصة التي وقع الاصطلاح على أنه لا يجزي سواها، ولو كان ذلك المشعر إشارة من قادر على النطق، أو كتابة من حاضر، وعلى مدعي الاختصاص الدليل، ولا ينفعه في المقام حديث (2): "إذا بعت " وحكاية مبايعته (3) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ للأعرابي، وما أشبه ذلك، لأنا لا نمنع من اشعار لفظ بعت ونحوه بالرضي، وإنما نمنع دعوى التخصيص ببعض الأفراد، وقصر الدلالة والصلاحية لها على صيغ مخصوصة، ومن هنا يلوح لك بطلان قولهم: لا ربا إلا في المعطاة، وكم لهذه من أخوات تستعين بتحقيق ما ذكرنا على حلها، وأشف ما وقفت عليه من وضوح ركته من كلام المتكلمين على اشتراط العقد المصطلح عليه ما ذكره الموزعي (4) في " تفسير
_________
(1) تقدم في بداية الرسالة.
(2) وهو حديث صحيح وقد تقدم.
وانظر الرسالة (110).
(3) تقدم ذكره.
(4) هو الإمام العلامة جمال الدين محمد بن نور الدين الخطيب له باع طويل في علم الفقه والأصول والنحو والمعاني والبيان واللغة من كتبه: - "
تيسير البيان في أحكام القرآن ". - "
مصابيح المعاني في حروف المعاني ".
توفى سنة 810 هـ.
انظر: " طبقات صلحاء اليمن " (ص269).(7/3673)
البيان في أحكام القرآن " (1)، وهو: فإن قال قائل: فاشتراط التلفظ في البيع أمر زائد على ما ورد به القرآن الكريم؛ إذ لم يرد إلا باشتراط التراضي، ولم ترد السنة باشتراطه أيضا، ومقتضي هذا أنه يجوز بيع المعاطاة إذ دلت القرائن، وشواهد الأحوال على الرضي.
قلنا: التجارة والبيع أمر معتاد في الوجود، وهو التعاوض، ثم استدل على اعتبار العقد تحديث: " لا يبيع أحدكم على بيع أخيه " (2) وجعله مقتضيا أن البيع هو التعاقد الناقل لملك أحدهما إلى ملك الآخر، وأن التساوم لما كان من مقدمات البيع، ولا ينعقد بمثله مع كونه بألفاظ من البائع والمشتري، أفاد اعتبار العقد ت، ثم قوى هذا بما وقع في الأحاديث من ذكر لفظ " إذا بعت " ونحو ذلك، ولا يخفى عليك أن مجرد المساومة أمر متقدم على الرضي المعتبر، فلا بد معها من أمر مشعر بالرضى، بأي صيغة كانت، والتنصيص على لفظ: " بعت " في بعض المواطن لا يستلزم الحصر في المنصوص عليه كما سلف، لا سيما بعد تطابق اللغة والشرع والعرف على تسمية هذه المعارضة بيعا، وإن وقعت بغير لفظ: " بعت " فيكون هذا هو النكتة في إطلاق مثل ذلك اللفظ بخصوصه على تلك المعاوضة.
وبهذا تعرف أن كون المساومة (3) من مقدمات البيع لا يستلزم ما اشتملت عليه تلك الدعوى من اشتراط العقد بألفاظ مخصوصة، لأنا لم ندع أن مجرد وقوع التلافظ بين البائع والمشتري بأي لفظ كان يكفي في البيع حتى يرد علينا أنهما قد تساوما بألفاظ، ولم يكن ذلك بيعا بل قلنا: المعتبر صدور لفظ يدل على الرضا، أو ما يؤدي مؤداه من كتابة أو إشارة، وهذا أمر وراء المساومة، لأنها ألفاظ لا إشعار لها بالرضى على أنه يلزم
_________
(1) كذا في المخطوط وصوابه " تيسير ". انظر التعليقة السابقة.
(2) أخرجه البخاري رقم (5142) ومسلم رقم (8/ 1412) من حديث ابن عمر وقد تقدم.
(3) انظر " المسوى " (2/ 31). " الهداية " للمرغنياتي (3/ 21).(7/3674)
المستل بما وقع في الأحاديث من لفظ: " إذا بعت " (1)، ولفظ: " البيعان بالخيار " (2)، ونحو قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (3) لازم باطل بالإجماع، وهو أنه لا ينعقد البيع بشيء من الألفاظ غير تلك الصيغ، مع أنهم مصرحون بأنه ينعقد بكل لفظ يفيد التمليك؛ وذلك هو أعم من الألفاظ الواردة في الأدلة، فإن كان ذلك بطريق إلحاق ما لم يذكر منها بما ذكره فقد عرف النكتة في الاقتصار على تلك الألفاظ، وهي غير موجودة في كل لفظ يفيد التمليك، فهو إلحاق مع وجود الفارق، ووجوده مانع كما تقرر في الأصول.
ولو سلمنا صحة الإلحاق فإن كان الجامع هو الإشعار بالرضي بالانتقال، فما وجه الاختصار على لفظ يقتضي التمليك، وجعله شرطا من القادر، فإن المشعرات أعم منه، وإن كان الجامع ما هو أخص من الإشعار بالرضى فما هو، وما الدليل عليه بعد دلالة الدليل على خلافه؟ وأما الاستدلال على العقد واشتراطه بالنهي عن بيع الجاهلية كالمنابذة (4) والحصاة (5) كما ذكر صاحب البحر فيجاب عنه بأن النهي عن بيع مخصوص من بيوعات الجاهلية، أو عن مطلق بيع الجاهلية لا يستلزم صحة صورة مخصوصة دون غيرها، بل غاية ما يلزم من ذلك تجنب تلك الصورة المخصوصة، أو مطلق الصور التي كانت تبايع بالجاهلية، ويتعين بعد ذلك المصير إلى البيع الثابت بالشرع، ولم يأت في الشرع ما يدل على اعتبار أمر زائد على الرضي، وصدور بعض المشعرات به من الشارع في تصرفاته، أو تعليماته للأمة ما يدل على أنه الفظ الذي لا يجوز غيره بإجماع من يعتد به من علماء الأصول، فالحق ما ذهب إليه أبو حنيفة (6) من عدم اعتبار العقد،
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) [البقرة: 275].
(4) تقدم تعريفهما.
(5) تقدم تعريفهما.
(6) انظر " الهداية " للمرغيناني (3/ 21).(7/3675)
ووافقه على ذلك جماعة من الفحول.
ولا جائز أن يكون المانع المدعي راجعا إلى البائع والمشتري، أو إلى أحدهما، لأن المفروض في صورة السؤال أنهما مكلفان مختاران مالكان لما تصرفا به. ولا جائز أن يكون المانع راجعا إلى المبيع، لأن المفروض في تلك الصورة أنه عين يجوز التصرف فيها بالبيع ظاهرة حلال مقبوضة، موجودة، معلومة، متعرية عن سائر الأوصاف المنهي عنها، ولا جائز أن يكون ذلك المانع في الثمن، لأن المفروض في محل النزاع أنه ثمن يصبح تملكه، ووقع به التراضي بين البائع والمشتري. ودعوى البائع أنه دون ثمن المثل لا يأتي بفائدة، لإجماع المسلمين على أنه يصح البيع بدون ثمن المثلي مع التراضي عليه.
وقد تقرر أنه لا غبن على مكلف، فيقال للبائع عند صدور هذه الدعوى منه: نعم بعت يا مسكين بدون ثمن المثل، فكان ماذا، وأقررت على نفسك أنك حططت ذلك المقدار القاصر عن ثمن المثل لغرض الإمهال من المشتري، والالتزام بالفسخ عند عودة الثمن والمشتري قد وفى بما تريد، وانقضت تلك المدة المتواطأ عليها، فأين أنت قبل انقضائها، وكيف طلبت الآن ما ليس لك، وفى الصيف ضيعت اللبن؟.
وإن كان المانع المدعي يرجع إلى شرط الإقالة فقد قررنا فيما سلف أنها نوع من خيار الشرط، وهو مجمع على صحته. قال في البحر (1): فصل وخيار الشرط مشروع إجماعا لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لحبان: " لك الخيار ثلاثا " (2) انتهي. هذا ثابت في الصحيحين (3) من حديث ابن عمر وفى السنن الأربع (4) وأحمد من حديث أنس، وصححه الترمذي، وفى تاريخ البخاري وسنن الدارقطني، ومسند الحميدي من حديث ابن عمر أيضا.
_________
(1) (3/ 347).
(2) تقدم تخريجه في الرسالة (110).
(3) تقدم تخريجه في الرسالة (110).
(4) تقدم تخريجه.(7/3676)
وقد قدمنا الاستدلال (1) على مشروعية بغير هذا، وإن كان المانع لأمر يرجع لغير هذه الأمور فما هو؟.
فإن قلت: إنه سلف من أنه لا مقصد للمشتري إلا أن ينتفع في مقابل القرض بالغلات، من دون أن يكون مريدا التملك ذلك الشيء، ولا قاصدا لحقيقة البيع الذي أذن الله به، فقد عرفناك أن هذه الصورة خارجة عن محل النزاع، وأوضحنا أن الأصل والظاهر عدم ذلك، فأتنا ببرهان معتبر شرعا أنه لا مقصد للمشتري إلا ذلك، وأنه لم يتوصل بصورة البيع إلا إلى هذا الأمر الذي لا يجوز، ولا سبيل لك إلى ذلك إلا ما يشهد عليه من فلتات لسانه، ولا طريق لك إلى معرفة ما اشتمل جنانه، فإنه لا يطلع على في الضمائر إلا علام الغيوب، ولا سيما الرجل الذي يدعي عليه أنه غير قاصد للتملك يظهر عند الخصام غاية الحرص على تلك العين، ويبالغ في استقرار ملكه عليها كلية المبالغة، وأما مجرد رغوب المشتري في الغلات، فمثل هذا لا يعد مانعا لا عقلا، ولا شرعا، ولا عرفا، لأن حصول الغلة هو أعظم الآثار المترتبة على بيع الأراضي ونحوها، بل هي - أعني الغلة - العلة الغائبة لذلك، وهي إن تأخرت على البيع، باعتبار الحصول فهي متقدمة في التصور عند جميع علماء المعقول، فكل عاقل يتصور الفائدة المطلوبة من التصرفات وغيرها قبل الشروع في تحصيلها وإلا كان عابثا متعبا لنفسه في غير طائل، وهذا ما لا يفعله عاقل بنفسه. فأي ضير في تصور هذا المشترى لاستغلال أرضه التي ثبت ملكه عليها، ولم يبق للبائع فيها إلا خيار الشرط، وأيضا هذا الغرض مما يتصوره ويقصده كل من باع بخيار شرط في مدة محتملة، وما هو الجواب عن هذا فهو الجواب عن القصد في صورة السؤال لما قدمنا أن ذلك الالتزام خيار شرط. وقد تقرر أن الفوائد فيه لمن استقر له الملك كما سلف. قال في البحر (2): مسألة: والفوائد فيه - يعني
_________
(1) انظر الرسالة رقم (110).
(2) (3/ 350).(7/3677)
خيار الشرط - لمن استقر له الملك، لأنها كالجزء منه، والمؤن عليه انتهى. وفى الزهار (1): والفوائد فيه لمن له الملك والمؤن عليه. وقد ذكرنا فيما سلف أن هذا هو الحق، ووجهه أن هذا مالك لعين بملك شرعي، وكل مالك لعين كذلك يستحق غلاتها، فهذا يستحق غلاتها، والكبرى والصغرى مجمع عليهما مع عدم المانع.
وقررنا في ما سلف أيضًا أن المشتري مع إقالة عرفية مشتر مع خيار شرط، وكل مشتر مع خيار شرط يصح شراؤه، فالمشتري كذلك يصح شراؤه.
أما الصغرى فلكونهما متحدين في اقتضاء توقف النفوذ والاستقرار على انقضاء المدة.
وأما الكبرى فبالإجماع. ويقال أيضا: هذا مشتر بخيار شرط، وكل مشتر بخيار شرط فله الفوائد، فهذا له الفوائد. ودليل الصغرى والكبرى معلوم من القياسين الأولين.
وفى هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق انتهي.
بقلم المجيب غفر الله له في شهر صفر سنة 1209 هـ.
_________
(1) (2/ 646 - السيل الجرار).(7/3678)
كشف الأستار عن حكم الشفعة بالجوار (1)
تأليف محمد بن على الشوكاني
[فلله علومه ومعاليه، وصدق فراسته بمعرفة من السائل تقاصر عبارته بعانيه، فوالله لقد استقضى جميع ما مشت ظلمت البال من الإشكالات التي ما وقعت في ضمن ما حرره من المقال، ولا عجب فهذا شأن المجيب. فقد قيل: إنه كالطيب يجعل الدواء على قدر العلة وإن قصر العليل في وصف ما هو في هوله - دامت أيامه في جهة الزمان عزة لكشف مشكلاته - هو لأعين الأعيان قرة] (2).
_________
(1) هذا العنوان من المخطوط (ب) و (ج).
أما عنوان الرسالة من المخطوط (أ): فهو: " كشف الأستار عن حكم شفعة الجار ".
(2) زيادة من المخطوط (أ). والموجود على صفحة العنوان.(7/3679)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " كشف الأستار عن حكم شفعة الجار ".
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين ورضي الله عن أصحابه الراشدين.
وبعد:
فإنه ورد هذا السؤال القوي المباني.
4 - آخر الرسالة: وسلك بما قرره في مسلك سوي، والحمد لله وأولا وآخرا.
انتهى تحريره بقلم المجيب محمد بن على الشوكاني غفر الله لهما.
انتهى من خطه زيد رفعة وأديم للعالمين نفعه في شهر رجب سنة 1219 هـ.
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 7 صفحات + صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 33 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(7/3681)
وصف المخطوط: (ب)
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " كشف الأستار عن حكم شفعة الجوار "
2 - موضوع الرسالة: " فقه ".
3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين ورضي الله عن أصحابه الراشدين ".
4 - آخر الرسالة: سبحان من جعل الفضائل كلها فيه وفضله على الأقران وعليه مني ألف تحية ما غردت ورقا على الأغصان
5 - نوع الخط: خط نسخي عادي.
6 - عدد الصفحات: 12 صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
10 - حصلت على المخطوطة (ب) من الهند بواسطة الأخ عادل حسن أمين جزاه الله خيرا.(7/3685)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين (1) ورضي الله عن أصحابه الراشدين.
وبعد:
فإنه ورد هذا السؤال القوي المباني، المحكم المعاني من بعض الأعلام الضاربين في كل فن من فنون بأوفر سهم، ولفظه: " أحسن الله إليكم، ووالى أياديه عليكم، ولا زال جاركم في مرتبة علية، وعليكم [من السلام] (2) من التحية ما يحاكي [عرفا] (3) ذكي أخلاقكم السنية ذو الفهم السقيم، والفكر العليل العقيم، أشكل عليه اشتراط أهل المذهب - أقام الله قناته - ما شمس طلعت، ونسيم هب الملاصقة في سببية الجوار للشفعة فأحسنوا بيان وجهه الذي إذا اعتمد عليه كان مستندا إلى مدرك شرعي، وطريق إلى إصابة حكم الحكيم مرعي، فالسائل مراده إصابة الحق، والخلوص عما به العقاب يحلق من يلقي قول من لم يجعل الشارع قوله منهجا لمعرفة أحكامه، بل ورد التخويف في صحيح الآثار من لحق آثامه، وهل ينفق [تعليلهم] (4) لثبوت أصل شفعة الجار بأن بينهما اشتراكا في جزء غير منقسم، حتى لعله تفرع عليه الاشتراط المذكور على تسليم التخصيص بالمعني، فإني لم أجد تعليله في شيء مما وقفت عليه، ويفزع عليه أيضًا عدم [ثبوت] (5) الشفعة في الأبنية المعمورة في [عرصات] (6) الأوقاف، كما في حواشي شرح
_________
(1) في (ب) المطهرين.
(2) زيادة من (أ).
(3) في (ب) عرف.
(4) زيادة من (أ. ب).
(5) في (ب) الثبوت.
(6) في (ب) عرصة.(7/3693)
الأزهار (1)، وهذا الإشكال جمعية بناء على أن [الشارح] (2) [على] (3) الشفعة بوصف الجار، وهو كما في القاموس (4) ما قرب من المنازل، والمبحث لغوي، ولا يخفي ما يصدق عليه أن الملاصقة داخل في مفهوم الجار على أنها صفة كاشفة في عباراتهم، [وشرطية] (5) الملاصقة في سببية الجوار أن جعل زائد [1 أ. ب] على مفهومه شرعيا وضعيا يفتقر إلى دليل شرعي. انتهى.
_________
(1) تقدم التعريف به.
(2) في (جـ) الشارع.
(3) في (جـ): علق.
(4) (ص470).
(5) في (ب) وشرعية.(7/3694)
وأقول مستعينا بالله، ومتكلا عليه: اعلم أن الأدلة [الشرعية] (1) الواردة في إثبات الشفعة وردت على أنحاء، فمنها ما يتضمن إثبات الشفعة بين الشركاء في الشيء المشترك كحديث جابر عند مسلم (2) وغيره (3) بلفظ: " قضى في كل شركة [1] لم يقسم ريعه، أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه " الحديث.
وحديث عبادة بن الصامت: " أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والدور " رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (4)، والطبراني في الكبير (5)، وهو من رواية إسحاق عن عبادة ولم يدركه.
ومنها عند ابن ماجه (6) من حديث الشريد من سويد مرفوعًا بلفظ: " الشريك أحق بسقبه " (7).
ومنها ما أخرجه الترمذي (8) عن ابن عباس أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -
_________
(1) زيادة من (أ. ب).
(2) في صحيحه رقم (1608).
(3) كأبي داود " السنن " رقم (3514) والترمذي (1370) والنسائي (7/ 321)، وابن ماجه (2499). وأحمد (3/ 296، 372). وهو حديث صحيح.
(4) (15/ 152 - 153 - الفتح الرباني).
(5) عزاه إليه الهيثمي في " المجمع " (4/ 159).
(6) في " السنن " رقم (2496) وهو حديث صحيح. .
(7) السقب بفتح القاف، القرب وفيه لغتان السين والصاد.
قال ابن الأثير في " النهاية " (2/ 377): ويحتمل أن يكون أراد أنه أحق بالبر والمعونة بسبب قربه من جاره ".
قلت: وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (2258) مطولا. وأطرافه (6977، 6978، 6980، 6981). وأبو داود رقم (3516) والنسائي (7/ 320) من حديث أبي رافع وهو حديث صحيح.
(8) في " السنن " (1371).
قلت: وأخرجه الطحاوي في " شرح المعاني " (4/ 125) والدارقطني (4/ 222رقم 69) والبيهقي (6/ 109) كلهم من طريق أبي حمزة السكري عن عبد العزيز عن رفيع عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس به.
قال الترمذي في " السنن " (3/ 654): " وهذا حديث لا تعرفه إلا من حديث أبي حمزة السكري وقد روى غير واحد عن عبد العزيز عن رفيع بن أبي ملكة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرسلا وهذا أصح "
وقال الدارقطني: " خالفه - يعني: أبا حمزة - شعبة وإسرائيل وعمرو بن مليكة مرسلا وهو الصواب ووهم أبو حمزة في إسناده ".
والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم.(7/3695)
قال: " الشريك يشفع والشفعة في كل شيء ".
فهذه الأحاديث وما ورد في معناها ليس فيها إلا أن الشفعة ثابتة في الأشياء المشتركة.
ومثلها في الأدلة الواردة في إثبات الشفعة في الشيء الذي لم يقسم، كحديث جابر عند البخاري (1)، وأحمد (2)، وأبي داود (3)، وابن ماجه (4): " أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشفعة في كل مال لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة " وفى رواية الترمذي (5)، وصححها قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة "؛ فإنه يفيد أن الشفعة لا تثبت إلا مع بقاء الشركة قبل وقوع القسمة (6).
_________
(1) في صحيحه رقم (2257).
(2) في " المسند " (3/ 296).
(3) في " السنن " رقم (3514).
(4) في" السنن " (2499).
(5) في " السنن " (1370).
(6) قال في " المغني " (7/ 435 - 436): والشفعة وهي استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقلة عنه من يد من انتقلت إليه وهي ثابتة وبالسنة والإجماع.
أما السنة فقد تقدم من حديث جابر.
وأما الإجماع فقد قال ابن المنذر في " الإجماع " (ص121رقم 512): أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم، فيما بيع من أرض أو حائط. والمعنى في ذلك أن أخذ الشريكين إذا أراد أن يبيع نصيبه، وتمكن من بيعه لشريكه، وتخليصه مما كان يصده من توقع الخلاص والاستخلاص، فالذي يقتضيه حسن العشرة، أن يبيعه منه، ليصل إلى غرضه من نصيب بيعه، وتخليص شريكه من الضرر فإن لم يفعل ذلك، وباعه لأجنبي، سلط الشرع الشريك على صرف ذلك إلى نفسه، ولا نعلم أحدا خالف هذا.
وانظر: " المفهم " (4/ 523 - 524).
قال ابن قدامه في " المغني " (7/ 436): فلا تثبت إلا بشروط أربعة:
1 - أن يكون الملك مشاعا غير مقسوم، فأما الجار فلا شفعة له. وبه قال عمر، وعثمان، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والزهري، ويحيى الأنصاري. وأبو الزناد وربيعه، والمغيرة بن عبد الرحمن ومالك الأوزاعي , والشافعي , وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، قال ابن شبرمة، والثوري، وابن أبي ليلي، وأصحاب الرأي: الشفعة بالشركة ثم بالشركة في الطريق، ثم بالجوار، وقال أبو حنيفة: يقدم الشريك فإن لم يكن، وكان الطريق مشتركا. كدرب لا ينفد، تثبت الشفعة لجميع أهل الدرب الأقرب فالأقرب، فإذا لم يأخذوا، ثبتت للملاصقة من درب إلى آخر خاصة. واحتجوا بما روى أبو رافع: " الجار أحق بصقبه " تقدم.
قال ابن قدامة: ولنا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطوق فلا شفعة " تقدم تخريجه.
2 - أن يكون المبيع أرضا، لأنها التي تبقي على الدوام , ويدوم ضررها، وأما غيرها فيقسم قسمين:
أ- تثبت فيه الشفعة تبعا للأرض، وهو البناء والغراس يباع مع الأرض فإنه يؤخذ بالشفعة تبعا للأرض، بغير خلاف في المذهب، ولا نعرف فيه بين من أتت الشفعة خلافا. وقد دل عليه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقضاؤه بالشفعة في كل شرك لم يقسم، ربعة أو حائط " وهذا يدخل فيه البناء والأشجار.
ب- ما لا تثبت فيه الشفعة تبعا لا مفردا، وهو الزرع والثمرة الظاهرة تباع مع الأرض. فإنه لا يؤخذ بالشفعة من الأصل. وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك: يؤخذ ذلك بالشفعة مع أصوله، لأنه متصل بما فيه الشفعة، فيثبت فيه الشفعة تبعا كالبناء والغراس.
ولما أنه لا يدخل في البيع تبعا، فلا يؤخذ بالشفعة، كقماش الدار وعكسه البناء والغراس وتحقيقه أن الشفعة بيع في الحقيقة لكن الشارع جعل له سلطان الأخذ بغير رضي المشتري، فإن بيع الشجر وفيه ثمرة غير ظاهرة، كالطلع غير المؤبر، دخل في الشفعة، لأنها تتبع في البيع، فأشبهت الغراس في الأرض. وأما ما بيع مفردا من الأرض، فلا شفعة فيه سواء كان مما ينقل كالحيوان والثياب والسفن والتجارة والزرع والثمار، أو لا يقل، كالبناء والغراس إذا بيع مفردا. وبهذا قال الشافعي، وأصحاب الرأي.
3 - الشرط الثالث: أن يكون المبيع مما يمكن قسمته، فأما ما لم يكن قسمته من العقار، كالحمام الصغير والرحى الصغيرة، والعضادة والطريق الضيقة والعراص الضيقة فعن أحمد فيها روايتان:
أ- لا شفعة فيه، وبه قال يحيى بن سعيد، وربيعة، والشافعي. ب- فيها الشفعة، وهو قول أبي حنيفة، والثوري، وابن سريج.
وعن مالك كالروايتين، ووجه هذا عموم قوله عليه السلام: " الشفعة فيما لا يقسم " وسائر الألفاظ العامة. لأن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر المشاركة، والضرر في هذا النوع أكثر، لأنه يتأيد ضرره.
4 - الشرط الرابع: أن يكون الشقص متنقلا يعوض، وأما المتنقل بغير عوض، كالهبة بغير ثواب، والصدقة، والوصية، والإرث، فلا شفعة فيه، في قول عامة أهل العلم.
انظر مزيد من التفصيل: " المغني " (7/ 442 - 445). " المفهم " (4/ 524 - 525). " المجموع " (15/ 80).(7/3696)
ومنها ما ورد في إثبات شفعة الجار مقيدا بقيد اتحاد الطريق، كحديث جابر عند أحمد (1)، وأبي داود (2)، وابن ماجه (3)، والترمذي (4) وحسنه قال: قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها، وإن كان غائبا إذا كان طريقها واحدا "، وهذا لا يوجب ثبوت الشفعة في مطلق الجوار، بل في مقيده.
_________
(1) في " المسند " (3/ 303).
(2) في " السنن " رقم (3518).
(3) في " السنن " رقم (2494). .
(4) في " السنن " رقم (1369) وقال حديث غريب.
وهو حديث صحيح انظر الإرواء رقم (1540).(7/3698)
ومنها ما ورد في إثبات شفعة الجار مقيدا بقيد الملاصقة كحديث عمرو بن الشريد عن أبي رافع مولى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. وفى أول قصه، قال في آخرها: ولولا أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: " الجار أحق بسقبه ما أعطيتها " يعني الدار، أخرجه البخاري (1)، وحديث الشريد بن سويد عند أحمد (2) والنسائي (3) بلفظ: قلت: يا رسول الله، أرضي ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا الجوار فقال: " الجار أحق بسقبه ما كان "، ويروي " بصقبه " والسقب والصقب عند أهل اللغة القرب لكنه قيده صاحب النهاية (4) بالقرب الملاصق فقال: الصقب القرب والملاصقة، ويروي بالسين انتهى. وهو إمام مرجوع إليه إلى نقله في اللغة كما لا يخفى؛ فأفاد ذلك أنها لا تثبت (5) الشفعة إلا للجار الملاصق.
ومنها ما ورد في ثبوت شفعة الجار غير مقيد بقيد، كحديث سمرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " جار الدار أحق بالدار من غيره " أخرجه
_________
(1) في صحيحه رقم (2258) وأطرافه (6977، 6978، 6980، 6981) عن عمرو بن الشريد قال " وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور ابن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي، إذ جاء أبو رافع مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا سعد ابتع مني بيتي في دارك، فقال سعد والله ما أبتاعها، فقال المسور: والله لتبتاعها، فقال سعد والله لا أزيدك على أربعة ألاف مجمعة أو مقطعة، فقال أبو رافع: لقد أعطيت بها خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: الجار أحق بسقبه ما أعطيتها بأربعة آلاف وأنا أعطي بها خمسمائة دينار، فأعطاه إياها ".
(2) في " المسند " (4/ 388، 390).
(3) في " السنن " رقم (4703).وهو حديث صحيح.
(4) (2/ 377).
(5) في الهامش (أ) ما نصه: إفادة الحصر ممنوعة؛ إذ لا شيء هاهنا من أدواته كما لا يخفى والله أعلم.
قد علم أنه لا شفعة في الجار غير الملاصق من الأدلة الدالة علة ذلك، بل ومن الإجماع فالحصر مستقلا ومن المقاصر إفادة حقيقته معلومه، والعجب من المعترض كيف ... عليه! هذا مع .. سيقرر المجيب أن لا شفعة للجار غير الملاصق، إلا إذا كان مشاركا طريق المشفوع لدخوله تحت الأدلة.(7/3699)
أحمد (1)، وأبو داود (2)، الترمذي (3) صححه، أخرجه البيهقي (4)،والطبراني (5) والضياء المقدسي (6)، وهو من سماع الحسن عن سمرة. وقد قيل: إنه لم يسمع منه شيء وقيل: لم يسمع منه إلا حديث العقيقة. وكلام الحفاظ في ذلك معروف، وهو يقدح في تصحيح الترمذي لهذا الحديث (7).
ومنها ما ورد في إثبات الشفعة في كل شيء من غير تقييد بشركة ولا عدم قسمة ولا ملاصقة ولا جوار، كحديث ابن عباس عند البيهقي (8) مرفوعًا بلفظ:" الشفعة في كل شيء " (9) ثقات إلا أنه أعل بالإرسال. وأخرج له الطحاوي (10) شاهد [من حديث جابر لا بأس به] (11).
وإذا تقرر هذا فلا شك أن حديث ابن عباس هذا أوسع معنى [وأشمل] (12) أفرادا من الدليل الدال على ثبوت الشفعة [لمطلق الجار] (13) [وهو أوسع معنى من الدليل الدال على ثبوت الشفعة لمطلق
_________
(1) في " المسند " (5/ 8، 12).
(2) في "السنن " رقم (3517).
(3) في " السنن " رقم (1368).
(4) في " السنن الكبرى " (6/ 106).
(5) في " الكبير " رقم (6803) و (6804).
(6) في " الأحاديث المختارة " (1/ 204).
(7) قلت: وهو حديث صحيح.
(8) في " السنن الكبرى " (6/ 109) وقد تقدم وهو حديث ضعيف.
(9) في (ب) ورجاله.
(10) في " شرح المعاني (4/ 122) و (4/ 120) وهو حديث صحيح وقد تقدم.
(11) زيادة (ب) و (جـ).
(12) في (ب) وأسهل.
(13) في (ب، جـ) للجار.(7/3700)
الجار] فيما كان مصاقبا له، وهو بينه وبين الدليل الدال على ثبوت الشفعة في الجوار من اتحاد الطريق عموم وخصوص من وجه فيجتمعان إذا كان الجوار جوار ملاصقة، والطريق واحدة، ويتفرقان إذا لم يوجد إلا مجرد الملاصقة، أو مجرد اتحاد الطريق، وهما أوسع معنى من الدليل الدال على أن الشفعة في الشيء الذي لم يقسم، أو في الشيء المشترك، فإن المجاورة واتحاد الطريق قد وجدت فيه مع [زيادة] (1) قيد الاختلاط، وعدم القسمة.
ولا يخفى على بناء العام [على] (2) الخاص و [حمل] (3) والمطلق على المقيد قاعدتان متفق عليهما في جملة بين علماء الإسلام، وإن وقع [الخلاف] (4) في بعض الشروط والأسباب والصور فهو لا يقدح في الاتفاق على هاتين القاعدتين، فما ورد في إثبات الشفعة في كل شيء في غير تقييد بقيد، [ولا تخصيص بمخصص، وكذلك ما ورد في إثبات الشفعة للجار المطلق وكذلك [ما ورد] (5) في إثبات الشفعة للجار الملاصق مقيدا بقيد] (6) عدم وقوع الحدود، وتصريف الطرق كما في ذلك الحديث الثابت في الصحيح (7).
وظاهر العطف اعتبار مجموع القيدين في بطلان الشفعة، فمجرد وقوع الحدود بدون تصريف للطرق لا يكون مبطلا للشفعة، ومجرد تصريف الطرق بدون وقوع الحدود الذي هو معنى القسمة لا يكون مبطلا للشفعة، فلا يكون قوله في حديث الجار إذا
_________
(1) زيادة من (أ).
(2) زيادة من (ب، جـ).
(3) زيادة من (أ، جـ).
(4) زيادة من (جـ).
(5) في (جـ) الاختلاف.
(6) زيادة من (أ، ب).
(7) تقدم تخريجه.(7/3701)
كانت طريقهما واحدة منافيا (1) لحديث: " فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة ".
وقد تقرر أيضًا أن الجمع مقدم على الترجيح (2)، وأنه لا يصار إلى الآخر مع إمكان الأول وهي أيضًا قاعدة متفق عليها وإن [اختلفت] (3) في تفاصيلها، وهذه القواعد مع كونها متفقا عليها هي أيضًا مستفادة من لغة العرب التي يجب حمل [كلام] (4) الشارع عليها إن لم يوجد له اصطلاح شرعي يوجب الانتقال من المعنى اللغوي. وقد تقرر أن علم الفقه يمتد من اللغة العربية، بل هي غالب استمداده؛ [إد] (5) هو قواعد اللغة الكلية وأما ما استمداده من الكلام والأحكام فهو بالنسبة إلى استمداده من اللغة قليل جدا. فعرفت بهذا أن بناء الدليل العام على الخاص (6)، وحمل الدليل المطلق على الدليل المقيد (7)، وتقديم الجمع على الترجيح هو مقتضى لغة العرب (8)، ولهذا أجمع على ذلك كله [دليل] (9) علماء الشريعة المطهرة.
فإن قيل: الدليل المصرح بأن الشفة في الشيء المشترك، وفى الشيء الذي لم يقسم هو أضيق معنى من الدليل الدال على ثبوتها، مع اتحاد الطريق، فإن الأول لا يصدق إلا
_________
(1) انظر " الأم " (8/ 5) و" المغني " (436 / -438).
(2) انظر " إرشاد الفحول " (ص882).
(3) في (ب) اختلفوا.
(4) زيادة من (أ، ب).
(5) في (ب): (أو).
(6) انظر: " إرشاد الفحول " (ص107 - 110)." الكوكب المنير " (1/ 149).
(7) تقدم ذكره. وانظر " البحر المحيط " (3/ 9).
(8) انظر تفصيل ذلك في " الكوكب المنير " (3/ 395 - 408)، " اللمع " (ص24) , " البحر المحيط " (3/ 418).
(9) زيادة من (جـ).(7/3702)
على الشيء المختلط المشاع، والآخر يصدق على [المقسوم] (1) إذا [اتحدت] (2) الطريق فهو أوسع معنى.
قلت: التقيد بجموع القيدين، أعني: وقوع الحدود، وتصريف الطرق للشيء المشترك الذي لم يقسم واقع في حديث واحد كحديث جابر (3) المتقدم [بلفظ] (4): " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة "، فهو كالبيان لمعنى القسمة المنفية في أول الحديث فكأنه جواب سؤال سائل يقول عند سماع قوله: " الشفعة في كل ما لم يقسم " ما هي القسمة؟ فأجابه بقوله: " [هي] (5) وقوع الحدود، وتصريف الطرق ". فإذا وجد الأمران وجدت القسمة الموجبة لعدم الشفعة، وإذا لم يوجد أو وجد أحدهما فقط لم توجد القسمة، لأن عدم تصريف الطريق يستلزم وجود الشركة فيها، ولم تقع القسمة على الكمال.
وأما ما قيل: من أن قوله: " فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة " مدرج لا تقوم به الحجة فذلك مجرد دعوى لا مستند لها إلا الخيال، [والأصل] (6) في الكلام المرفوع عدم الإدراج، ولا يثبت ذلك إلا بدليل، ولو قرينة حال أو مقال يفيد ذلك إفادة لا تخفى، وليس هاهنا من ذلك الشيء، على أنه لو ثبت الإدراج لم يكن [ذلك] (7) مقيدا لمدعيه، لأنا قد بينا أن ذلك معنى القسمة المنفية في قوله: " الشفعة في
_________
(1) في (ب) المقسومة.
(2) في (ب) اتحد.
(3) تقدم تخريجه.
(4) زيادة من (أ).
(5) زيادة من (جـ).
(6) في (جـ) فالأصل.
(7) زيادة من (ب) و (جـ).(7/3703)
كل [ٌ شيء] (1) ما لم يقسم " فهو كالتفسير لكلام الشارع باللغة، أو بالشرع؛ فإن تفسير الصحابي مقدم على تفسير غيره، وأعظم ما يدفع دعوى الإدراج وجود هذه الزيادة في حديث غيره، ومن الغرائب استدلال الجلال في ضوء النهار (2) على الإدراج بعد إخراج حديث مسلم (3) لتلك الزيادة، فإن اقتصار بعض [الأئمة] (4) على بعض الحديث معروف مألوف، وناقل الزيادة التي لم تقع منافية لا ترد عليه بمثل هذا، ولا سيما وقد أخرجها البخاري في صحيحه (5) ومثل هذا الاستدلال الغريب ما قاله المقبلي في المنار (6): أن الأحاديث تقتضي ثبوت الشفعة للجار والشريك، ولا منافاة بينهما، ووجه حديث جابر بتوجيه بارد.
ويجاب عنه بالاستفسار [له] (7) عن معنى عدم المنافاة التي قالها؟ إن قال: هي من حيث كون [معنى] (8) الشركة يساوي معنى الجوار من كل وجه، أو ينافيه من كل وجه [فمعلوم] (9) البطلان. وإن قال: هي من حيث إن أحدهما أخص من الآخر مطلقا، ولا [مقتضي] (10) للتخصيص ولا للتقييد، فذلك إهمال وإهدار لما ورد من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " في كل ما لم يقسم "ومن قوله: " فإذا وقعت الحدود
_________
(1) زيادة من (جـ).
(2) (3/ 1427، 1428).
(3) في صحيحه رقم (1608) وقد تقدم.
(4) زيادة من (جـ).
(5) رقم (2257).
(6) (2/ 71 - 72).
(7) زيادة من (أ، ب).
(8) زيادة من (أ، جـ).
(9) في (ب) فيلزم.
(10) في (ب) يقضي.(7/3704)
وصرفت الطرق "، ومن قوله: " إذا كان طريقهما واحدة ". وإن قال: بينهما عموم وخصوص من وجه، فهو [يقتضي] (1) المنافاة في البعض، فكيف قال: لا منافاة بينهما!.
وبالجملة فهو كلام عن التحقيق بمعزل، من الصواب في جانب آخر.
فإن قلت: إذا كان الجوار غير ملاصق، والطريق واحدة (2) فهل تثبت الشفعة أم لا؟
قلت: نعم لما قدمنا تحقيقه، إذ الاشتراك في طريق اشتراك بعض ما يعد من الشيء الذي إليه تلك الطريق، فالطريق لم يقسم وهي جزء من العين، وعدم قسمة جزء من أجزاء الشيء يستلزم عدم قسمة ذلك الشيء فقد اشتركا في [قسمة] (3) جزء من أجزاء الدارين، وإن لم يكونا ملاصقين، بخلاف مجرد الملاصقة بعد وقوع الحدود وتصريف الطرق، فإنه لا يصدق على ذلك أنه شيء لم يقسم، بل هو شيء مقسوم. فلم يبق سبب للشفعة، فقول السائل - كثر الله فوائده -: إنه أشكل عليه اشتراط أهل
_________
(1) في (ب) مقتضي.
(2) ذهب إلى اشتراط هذا بعض العلماء قائلا بأنها تثبت الشفعة للجار إذا اشترك في الطريق.
قال ابن شبرمة، والثوري، وابن أبي ليلي، وأصحاب الرأي الشفعة بالشركة ثم بالشركة في الطريق ثم الجوار وقال أبو حنيفة: يقدم الشريك فإن لم يكن وكان الطريق مشتركا، كدرب لا ينفذ، تثبت الشفعة لجميع أهل الدرب الأقرب فالأقرب، فإن لم يأخذوا، ثبتت للملاصق من درب آخر خاصة.
انظر " المغني " (7/ 437)، " المجموع " (15/ 80 - 83).
قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " (2/ 150): وهو أعدل الأقوال.
وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وحديث جابر هذا صريح فيه فإنه أثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريقين ونفاها به في حديثه الآخر مع اختلافهما حيث قال: " فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة " فمفهوم حديث جابر هذا هو بعينه منطوق حيث المتقدم، فأحدهما يصدق الآخر ويوافقه، ولا يعارضه ولا يناقضه، وجابر روى اللفظين فتوافقت السنن وائتلفت بحمد الله.
وانظر: " الحاوي الكبير " (9/ 9 - 14).
(3) زيادة من (أ، جـ).(7/3705)
المذهب للملاصقة في سببية الجوار، وأنه يريد بيان وجهه.
فنقول: وجهه كنا قدمنا من حديث: " الجار أحق بصقبه أو سقبه " (1) وتصريح صاحب النهاية (2) بأن الصقب الملاصقة، ولكن قد تبين بما قدمنا أن مجرد الجوار ولو مع الملاصقة لا يتقل بالسببية لأنه إهدار للقيود الخارجة من مخرج [صحيح] (3).
فإن قلت: هل يصدق على الشريك في الشيء أنه مجاور شريكه الآخر؟.
قلت: هو باستحقاق اسم الجوار أخص من غير الشريك، لأن الجوار هو القرب، والأجزاء المختلطة متقاربة تقاربا زائد على التقارب الكائن بين الأجزاء المتميزة عن بعضها البعض بالحدود، وهذا معلوم بالحس؛ فإن جواهر الجسم التي [تركب] (4) منها متصلة اتصالا زائدا على جواهر تركب منها جسم آخر متصل بذلك الجسم.
وإذا تقرر هذا علمت أن الجوار جنس للجميع، ويتميز أحدهما عن الآخر بقيد المخالطة أو [قيد] (5) الملاصقة.
وقوله - كثر الله فوائده -: وهل ينفق تعليلهم لثبوت أصل شفعة الجار بأن بينهما اشتراكا في جزء غير منقسم (6)؟ أقول: الذي يلوح لي أن هذا التعليل لا جدوى فيه، وبيانه أنهم [إن] (7) أرادوا أن عدم انقسام هذا الجزء هو السبب الذي تثبت به الشفعة، فهذا رجوع منهم إلى قول من
_________
(1) تقدم آنفا.
(2) (2/ 377).
(3) في (أ، ج) (الصحيح).
(4) في (ب) يتركب.
(5) زيادة من (جـ).
(6) تقدم ذكره، انظر " المغني " (7/ 437).
(7) زيادة من (ب، جـ).(7/3706)
قال بعدم استقلال مجرد الجوار بالسببية، وأن الشفعة لا تثبت إلا في الشيء الذي لم [ينقسم] (1) بوقوع الحدود، وتصريف الطرق، وهم يخالفون في ذلك خلافا ظاهرا معروفا مشهورا، ويجعلون إثبات الشفعة بمجرد جوار الملاصقة قولا مستقلا مخالفا لقول من قال بعدم صلاحيته للسببية، ومع كونه هذا يعود على غرضهم المقصود [بالبغيض] (2) فهو كلام غير صحيح في نفسه، وبيانه أن يقال لهم: هل وجود هذا الجزء الذي لا [ينقسم] (3) في جوار الملاصقة ثابت بالشرع أو بالعقل؟ الأول: باطل لأن القسمة في الشرع وقوع الحدود، وتصريف الطرق؛ فما وقع فيه هذا كان مقسوما شرعا وإن كان متلاصقا فمجرد التلاصق لا ينافي القسمة الشرعية. والثاني: لا يفيد في محل النزاع، ولا يجدي نفعا، لأن المبحث الشرعي لا عقلي بلا خوف في ذلك، فإن إثبات أصل الشفعة إجمالا وتفصيلا شرعي محض، والكلام في أسبابها وشروطها (4) وضعي، والكل عن أحكام العقل بمعزل.
وأما قوله -كثر الله فوائده -: ويتفرع عليه أيضًا عدم ثبوت الشفعة في الأبنية المعمورة في عرصات الأوقاف (5) ... إلخ.
فأقول: هذا التفرع إنما يصلح لو صح أصله، ولكنه لم يصح كما عرفت فلم يصح والشركة الشرعية [موجود] (6) في الدور المبنية على عرضة [الغير] (7) إذا كان البناء بإذنه، لأنه يصدق على ................................
_________
(1) في (ب) يقسم.
(2) في (جـ) بالنقض.
(3) في (ب) يقسم.
(4) تقدم ذكرها.
(5) انظر " المغني " (7/ 441 - 442).
(6) في (ب) و (جـ) موجودة.
(7) في (ب، جـ) للغير.(7/3707)
[الدور] (1) لمشتركة [بل] (2) وبين رجلين فأكثر أنها لم تقسم قسمة شرعية، وهي وقوع الحدود، وتصريف الطرق، فالسبب الذي هو الشركة، والشرط الذي هو عدم القسمة قد وجدا في الدار المبنية على تلك الصفة [فوجدا المقتضي] (3) وانتفى المانع. ومن زعم أنه لا شركة في الدار الموصوفة يوجب الشفعة فيقال له: إن كنت قلت هذا بالشرع فما هو؟ فليس في الشرع ما يفيد هذا لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام بل فيه ما يفيد خلافه بجميع هذه الدلالات كما لا يخفى.
قوله: وهذا الإشكال جميعه بناء على أن الشارع علق الشفعة بوصف الجار (4) إلخ.
أقول: ربما قيد به هذا المطلق من القيود كما تقدم بيانه.
قوله: ولا يخفى ما يصدق عليه إن جعل الملاصقة داخلة في مفهوم الجار .. إلخ.
أقول: قد قدمنا أن وصف الملاصقة في مطلق الجار لا يصلح لسببية الشفعة، لأنه لا ينافي وقوع القسمة الشرعية الكائنة بوقوع الحدود، وتصريف الطرق. وقد أوضحناه بما لا يحتاج إلى زيادة، ولا فرق بين أن تكون الصفة كاشفة أو مقيدة.
فإن قلت: إذا كانت الشفعة مشروعة لدفع الضرر فهو ممكن الحصول، وإن لم يوجد
_________
(1) في (ب، جـ) الدار.
(2) زيادة من (أ، ب).
(3) في (ب) فرضا لمقتضي.
(4) قال الشوكاني في " السيل الجرار" (2/ 721): فعرفت بمجموع ما ذكرناه أن مجرد الجوار بعد القسمة وتصريف الطرق لا تثبت به الشفعة.
فالحاصل أنه لا سبب للشفعة إلا الخلطة، وهي أعم من أن تكون في أرض أو دار أو طريق أو في ساقية للشرب أو في شيء من المنقولات.
وانظر: " المغني " (7/ 438). " المفهم " (4/ 527).(7/3708)
شيء من الأسباب التي دلت عليها الأدلة، بل وسائر الأسباب التي لا مستند للقول بها على الوجه المعتبر، فإن الجار قد يضار جاره الذي لم يشاركه في كل شيء ولا كان ملاصقا له من جهة من الجهات.
قلت: لو سلمنا أنها شرعت لذلك لم يلزم إثباتها مع عدم وجود السبب الشرعي، وقد ربطها الشارع بأسباب، وقيدها بقيود يتحصل عند وجودها من الضرار زيادة على ما يتحصل [عند] (1) عدمها أو بعضها؛ فإن مضارة الشريك لشريكه الذي لم تقع [بينهما] (2) الحدود , ولا صرفت الطرق أبلغ من مضارة الجار لجاره [التي] (3) لا شركة بينهما في الأصل، ولا في [الطرق] (4)، على أن الشارع قد نهى الجار عن ضرار جاره، وتوعده، ونفى عن [الجار المضار اسم الإيمان، فقال: " والذي نفسه بيده لا يؤمن أحدكم حتى يأمن] (5) جاره بوائقه " (6).
والأحاديث في هذا كثيرة جدا، فهذا النهي يكفى في مطلق الجار، ولا مانع من تخصيص الجار المخالط، وهو الشريك بحكم زائد على مجرد المنع من الضرار، وهو كون له حق يستحق به الشفعة الموجبة لمصير نصيب شريكه الذي يخشى من ضرره الخاص إليه، وهذا على تسليم أنها شرعت لذلك، وليس الأمر كذلك، فهي إنما شرعت لكون الشريك أحق بشراء نصيب شريكه إذا أراد بيعه، وأنه يجب عليه إيذانه قبل البيع،
_________
(1) زيادة من (ب، جـ).
(2) زيادة من (جـ).
(3) في (جـ) الذي.
(4) في (ب) عدم.
(5) زيادة من (جـ).
(6) أخرج البخاري في صحيحه رقم (6061) ومسلم في صحيحه رقم (46).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن " قيل من يا رسول الله؟ قال: " الذي لا يأمن جاره بوائقه ".(7/3709)
وعرض البيع عليه، لحديث جابر عن مسلم (1)، والنسائي (2)، وأبي داود (3): " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعها، أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، وإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به ".
وأخرج البخاري (4) عن عمرو بن الشريد قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص، فجاء والمسور بن مخرمة، ثم جاء أبو رافع مولى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا سعد ابتع مني بيتي في دارك، فقال سعد: والله ما أبتعها. فقال المسور: والله لتبتاعها، فقال سعد والله ما أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة، فقال أبو رافع لقد أعطيت بها خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: " الجار أحق بسبقه " ما أعطيتكها بأربعة آلاف، وأنا أعطي بها بخمسمائة دينار، فأعطاها إياها.
فإن قلت: ماذا لديك في جعلهم [المشرب] (5) والطريق سببين مستقلين؟.
قلت: وقد شرطوا في ذلك الاشتراط في أصل النهر أو مجاري الماء، وفى نفس الطريق، فسببيتهما راجعة إلى سببية الشركة في الشيء الذي لم يقسم.
وقد عرفت أن الاشتراك في ما هو [جزء] (6) للشيء اشتراك في ذلك الشيء أ فإن مجرى النهر المشترك المتصل بالأرض جزء من تلك الأرض، وكذلك طريق الأرض، أو الدار المشترك المتصلة بما هي طريق له جزء من ذلك الشيء، وقد سبب تقريره.
_________
(1) في صحيحه رقم (1608).
(2) في " السنن " (7/ 321).
(3) في " السنن " رقم (3514). وهو حديث صحيح.
(4) تقدم آنفا.
(5) في (أ) (للشريك).
(6) في (جـ) جنس.(7/3710)
فعلى هذا لا وجه لتعديد الأسباب بأنها كذا وكذا وكذا، بل [سبب] (1) ثبوت الشفعة سبب واحد هو الاشتراك في شيء لم يقسم بجميع أجزائه بأن وقعت الحدود، وصرفت الطرق.
وفى هذا المقدار كفاية لمن له هداية. وإلى هنا انتهى الكلام على [ما يحتاج إليه] (2) سؤال السائل - كثر الله فوائده - من الجواب، ولله دره فلقد جاء [السؤال] (3) قويا، وسلك بما قرره به في مسلك سوى، والحمد لله أولا وآخرا.
انتهى [تحريره بقلم المجيب محمد بن على الشوكاني - غفر الله لهما -.
انتهى من خطة زيد رفعة وأديم للعالمين نفعه في شهر رجب سنة 1219] (4).
[وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الراشدين وسلم. ولما اطلع الفقيه العلامة على بن أحمد هاجر (5) على رسالة كشف الأستار في حكم الشفعة بالجوار وقال مقرضا:
الله رد العلم الرباني ... الدر نجل على الشوكاني
فلقد أبان من العلوم جواهرا ... تنبيك منه عن علو الشان
قد أشرقت أكواننا بعلومه ... شأن البدور تضيء في الأكوان
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) زيادة من (جـ).
(3) في (جـ) بسؤال.
(4) زيادة من (أ).
(5) على بن أحمد هاجر الصنعاني ولد سنة 1180هـ.
ترجم له الشوكاني في " البدر الطالع " رقم (307) فقال: " وله قراءة على في علم المنطق في مدة سابقة , وهو يفهمه فهما بديعا ويتقنه إتقانا عجيبا وله قراءة أيضًا في " الكشاف " و" المطول " وفى شرحي على " المنتقى " .... وهو قوي الفهم، جيد الإدراك، صحيح التصور ".
انظر " نيل الوطر " (2/ 122رقم 328)، " البدر الطالع " رقم (307)، " التقصار" (ص377).(7/3711)
ولأن حوى كل الكمال فإنه ... عن وصفه الجاري على الأزمان
سبحان من جعل الفضائل كلها ... فيه وفضله على الأقران
وعليه مني ألف ألف تحية ... ما غردت ورقا وعلى الأغصان (1)]
[انتهى تحريره من نسخة على نسخة المصنف - عافاه الله - القاضي العلامة زينة العصر، وفريد الدهر محمد بن على الشوكاني - حفظه الله -. وكان الفراغ من رقم هذه الفائدة يوم الأربعاء، لعله رابع شهر ربيع آخر سنة اثنين وعشرين ومائتين وألف، سنة 1222 كتبه الفقير إلى ربه المعترف بذنبه الراجي عفو ربه إسماعيل بن إبراهيم بن أحسن ابن يوسف [] (2)] (3).
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) كلمات غير مقروءة.
(3) زيادة من (جـ).(7/3712)
هداية القاضي إلى حكم تخوم الأراضي
تأليف
محمد بن على الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(7/3713)
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، ونصلى على رسولك وآله و، ونسلم تسليما كثيرا.
وبعد:
فإنه ورد إلى سؤال من العلامة المفضال صفي الكمال، حسنة الآل أحمد بن يوسف زبارة (1) - سدد الله أنظاره - ولفظه:
ما قولكم في العروق الممتدة من أرض غيره إذا حصل ذلك؟ فهل لصاحب الأرض الممتدة إليها العروق قلعة أم لا؟ وهل لصاحب الأرض التي نشأت أصل العروق من أرضه أن يدخل إلى الأرض الممتدة إليها لقطع العروق أم لا؟ وبعد قلعها لمن يكون العرق؟ هل للذي قلعه أم لمن أصل العرق، أو لمن امتد إلى أرضه، وإذا نبت في الأرض الممتد إليها أشجار أصلها من ذلك العرق الأصلي فهل تكون تلك الأغصان لمن نبت في أرضه أو لمن العرق الأصلي في أرضه، أو لمن نبت أو بينهما، وذلك مثل شجر الكمثرى، والقرع، والآجاص، والحلال، نعم إذا كان مثل الحلال الذي إذا غرس في الأرض الحارة أهلك أودية، وامتد إلى المزارع حتى يبطلها، فهل يجوز الغرس لذلك بين الزراع؟ ويجنب الأشجار التي يضرها كالعنب أو لا يجوز؟ وإذا أهلك الوادي مثلا حتى لم ينتفع به في الزرع الموضوع له فهل يكون الغارس متعديا في السبب؟ وإذا تعدى في السبب فهل يكون حكمه ضمان نقصان الأرض؟ أو أنه يملك الأرض وتلزمه القيمة؟ أو يكون حكمه حكم الغاضب إذا غير العين إلى غرض أو إلى غير غرض، أو لا يلزمه شيء؟ فهذه الأطراف تفضلوا بالتصفح لها وما سنح من الجواب الذي يحسن السكوت عليه، ويتوجه العمل به؛ فإن هذه المسائل لا تزال تحك في الصدور، وتختلف فيها الأنظار والأعراف على مر الدهور انتهى.
_________
(1) تقدمت ترجته.(7/3719)
وأقول الجواب ينحصر في وجوه:
الوجه الأول: فيما ذكره أهل علم الفروع في تخوم الأرض، وهم يريدون بالتخوم باطن الأرض لا حدودها كما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى -. وعلى تحقيق هذا الوجه يتوقف جواب جميع ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده -.
فاعلم أنه قد اضطرب كلام أئمة الفروع في ذلك غاية الاضطراب، فتارة يذكرون ما يفيد أن التخوم لا تملك بل هي حق فقط، وتارة يذكرون ما يفيد أنها تملك. فمن المواضع التي ترشدك إلى ما ذكرناه ما صرحوا به في البيع فإنهم صرحوا بأنه لا يدخل في البيع معدن ولا دفين (1)، وصرحوا أنه يجوز أخذ المعدن من ملك الغير، وأنه لمن أخذه لا لمالك الأرض.
ووقع في كلام بعضهم التفصيل فقال: يجوز أخذ المعدن من ملك الغير إذا كان من غير جنس الأرض، لا إذا كان من جنسها، وهذا التفصيل هو الصواب. وقد أشار إليه جماعة من المحققين منهم النجري في المعيار، فكلامهم في المعدن يفيد أن تخوم الأرض لا
_________
(1) قال ابن قدامة في " المغني " (4/ 245 - 246): والمعادن الجامدة تملك بملك الأرض التي هي فيها، لأنها جزء من أجزاء الأرض، فهي كالتراب والأحجار الثابتة، بخلاف الركاز فإنه ليس من أجزاء الأرض، وإنما هو مودع فيها، وقد روى أبو عبيد في " الموال " (ص338 - 339) بإسناده عن عكرمة مولى بلال بن الحارث المزني، قال: اقطع رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلالا أرض كذا، من مكان كذا، إلى كذا، وما كان فيها من جبل أو معدن. قال فباع بنو بلال من عمر بن عبد العزيز أرضا، فخرج فيها معدنان، فقالوا: إنما بعناك أرض حرث، ولم نبعك المعدن، وجاءوا بكتاب القطيعة التي قطعها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبيهم، في جريدة، قال فجعل عمر يمسحها على عينيه، وقال لقيمة: انظر ما استخرجت منها، وما أنفقت عليها فقاصهم بالنفقة، ورد عليهم الفضل، فعلى هذا ما يجده في ملك أو في موات فهو أحق به.
وقد روى أنها: تملك بملك الأرض التي هي فيها لأنها من نمائها وتوابعها فكانت لمالك الأرض، كفروع الشجر المملوك وثمرته.
وانظر: " المجموع " (11/ 290)، " الحاوي " (6/ 212).(7/3720)
تملك، وهكذا كلامهم في الشفعة، فإنه ذكر جماعة من أهل الفروع منهم صاحب التمهيد والكواكب بأنه لو سبب الشفعة أرضا واجترحها السيل فلا شفعة، فإن هذا يفيد أنه قد ذهب الملك بذهاب الطبقة العليا من الأرض، وأن الذي ظهر إنما هو حق لا ملك، وهكذا ذكروا أن عروق الأشجار المغروسة في الأرض المحياة والأرض المبيعة يكون من الحقوق التابعة لها (1)، وهذا يفيد أن التخوم حق لا ملك.
وذكروا في المسجد أن حكمه ثابت ما بقى قراره، وأنه إذا ذهب جاز بيعه (2). وهكذا الأرض الموقوفة (3) إذا ذهب قرارها جاز بيعها. وهذا يفيد أن التخوم ملك
_________
(1) انظر " المغني " (6/ 142).
(2) قال النووي في " المجموع " (16/ 330): أما المسجد فإنه إذا انهدم وتعثرت إعادته فإنه لا يباع بحال لإمكان الانتفاع به حالا بالصلاة في أرضه، وبهذا، قال مالك رضي الله عنه.
* وقال أصحاب أحمد: إذا تعطلت منافع الوقف كدار انهدمت أو أرض عادت مواتا أو مسجد انصرف أهل القرية عنه وصار في موضع لا يصلي فيه أو ضاق بأهله ولم يكن توسيعه في موضعه، أو تشعب جميعه فلم تمكن من عمارته ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه، جاز بيع بعضه جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه.
" المغني " (8/ 220 - 221).
(3) انظر التعليقة السابقة.
قال محمد بن الحسن: إذا خرب المسجد أو الوقف، عاد إلى ملك واقفه، لأن الوقف إنما الوقف إنما هو تسبيل المنفعة، فإذا زالت منفعته، زال حق الموقوف عليه منه، فزال ملكه عنه. وقال مالك والشافعي: لا يجوز بيع شيء من ذلك لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يباع أصلها، ولا تبتاع، ولا توهب، ولا تورث " ولأن ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه، لا يجوز بيعه مع تعطلها، كالمعتق، والمسجد أشبه الأشياء بالمعتق. "
المجموع " (16/ 331).
قال ابن قدامة في " المغني " (8/ 221): " ولنا: ما روى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد، لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة، أن نقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لا يزال في المسجد مصل. وكان هذا بمشهد من الصحابة، ولم يظهر خلافه فكان إجماعا.
ولأن فيما ذكرناه استبقاء الموقف بمعناه عند تعذر إبقائه بصورته فوجب ذلك.
قال ابن عقيل: الوقف مؤبد، فإذا لم يكن تأييده على وجه يخصصه استبقاء الغرض، وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى، وإيصال الإبدال جرى مجرى الأعيان، وجمودنا على العين مع تعطيلها تضييع للغرض.
ويقرب هذا من الهدي إذا عطب في السفر، فإنه يذبح في الحال. وإن كان يختص بموضع فلما تعذر تحصيل الغرض بالكلية استوفى منه ما أمكن وترك مراعاة المحل الخاص عند تعذره، لأن مراعاته مع تعذره تفضي إلى فوت الانتفاع بالكلية، وهكذا الوقف المعطل المنافع.
وانظر " المجموع " (16/ 331 - 332).(7/3721)
لا حق لأن، الحقوق لا يجوز بيعها، ولا يضمن متلفها ولا غاصبها وقد صرح بأن النجوم تلمك صاحب البستان في الشفعة، والمحترسي في حاشيته في الغضب عند الكلام على من حفر بئرا (1)، ثم طمها، وهكذا يدل على أن التخوم تلمك ما ذكروه فيمن حفر بئرا في أرض مغصوبة فزادت بها قيمة الأرض، ثم طمها فعادت قيمتها كما كانت؟ قالوا إنه يضمن زيادة القيمة ولا شك أن هذا الذي حصلت به الزيادة إنما هو الكورة، وهي التخوم.
ويكمن أن يقال: إن التخوم بعد حفرها قد صارت كظاهر الأرض فزيادة الأرض مضمونة على الغاصب باعتبار ما كان قد ظهر وخرج عن كونه من التخوم. ومنهم من فصل في التخوم فقال: إنها مباحة فإن ظهرت بفعل المالك نحو أن يرفع الطبقة العليا ويعمل في الطبقة السفلة فإنها تصير ملكا، وهكذا كل طبقة تظهر بفعل المالك فإنها تصير ملكا. وأما إذا ظهرت لا يفعل المالك نحو أن يجتحف السيل الطبقة العليا فإن المالك لا يملك الطبقة السفلى. وقد أشار إلى هذا صاحب المعيار فقال: إن العلة في عدم ملك باطن الأرض أن ما يستند إلى فعل فهو باق على أصل الإباحة، انتهى.
_________
(1) انظر " المجموع " (8/ 368).(7/3722)
هذا يبني على أن المحيي إنما يملك الطبقة التي يباشرها بالعمل، فيكون المملوك ما نقله بالحرث لا ما تحته.
وعلى الجملة فقد تحصل من مجموع ما ذكره أهل الفرع مما أشرنا إليه على هذا القول أنه لو اجتحف السيل الطبقة العليا، ثم حرث الطبقة السفلى غير من كان مالكا للطبقة العليا أنها تصير ملكا له، وليس لمن كان مالكا للطبقة منعة ولو كان غاصبا غصب الأرض، فنقل الطبقة العليا، ثم حرث الطبقة السفلى صار مالكا لتلك الطبقة، ولم يجز لمن كان مالكا للطبقة العليا منعه، وهكذا لا يجوز لمالك الأرض أن يمنع من أراد أن يأخذ التراب من تخوم أرضه على وجه لا يباشر الطبقة العليا، نحو أن يحفر حفرة من خارج الأرض، ثم يتناول تراب تخوم تلك الأرض حتى لا يبقى فيها إلا الطبقة العليا على فرض استمساكها بعد حفر ما تحتها.
القول الثاني: أن تخوم الأرض حق لمالك الأرض، فليس لغيره أن يحييها إذا ذهبت الطبقة العليا إلا بإذن من كان مالكا لها، وكذلك ليس له أن يأخذ تراب التخوم إلا بإذن المالك، ولا فرق على هذا القول بين ما لو كانت الطبقة العليا باقية، أو اجتحفها السيل أو نقلها المالك أن الطبقة السفلى حق فقط لا يملكها مالك الطبقة العليا إلا بإحيائها.
القول الثالث: إن ما تحت الطبقة العليا حق ما دامت الطبقة العليا، فإذا زالت بفعل المالك، أو بفعل غيره صارت الطبقة السفلى ملكا له، وهكذا كل طبقة من طبقات الأرض تصير مملوكه له بظهورها، وانحسار التي فوقها.
القول الرابع: أن الطبقة العليا إن زالت بفعل المالك كانت الطبقة التي تحتها ملكا، وإن زالت بفعل غيره كانت حقا. وقد أشار في البحر (1) إلى ما يفيد هذا.
_________
(1) (4/ 185).(7/3723)
القول الخامس: أن تخوم الأرض بملك، وقد تقدمت الإشارة إلى من صرح بذلك. وقد حكي صاحب الغيث (1) عن أبي حنيفة (2) والشافعي (3) أن المعدن ونحوه ملك لصاحب الأرض، وكذا حكي صاحب شرح الأثمار (4) عنهما، وعن الناصر أن المعدن يدخل في بيع الأرض، وهذا يفيد أنهم يقولون بملك التخوم.
فإن قلت إذا كان الاختلاف في التخوم على هذه الأقوال، فما هو الحق عندك؟ فإن سرد الأقوال بلا بيان لراجحها من مرجوحها لا يأتي بكثير فائدة.
قلت: الراجح أن التخوم يملكها من أحيي ظاهر الأرض، وباشرها بالحرث ونحوه، وأنه لا فرق بعد مباشرة ظاهر الأرض بما يثبت به الأحياء بين الطبقة العليا، وما تحتها إلى آخر جزء من الأجزاء؛ فمن ملك ظاهر الأرض ملك باطنها بما فيه من حجارة، وأبنية، ومعادن، وغير ذلك، فلا يجوز لغيره أن يتناول شيئا من تخومها بحفر، ونقل، وغيرهما إلا برضى المالك، والدليل على هذا ما أخرجه أحمد (5)، والترمذي (6) وصححه، والنسائي (7)، وابن حبان (8) من حديث جابر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أحيا أرضا ميتة فهي له " وما أخرجه أحمد (9) وأبو داود (10)، ......................
_________
(1) تقدم التعريف به.
(2) انظر " المغني " (4/ 245).
(3) انظر " المجموع " (11/ 290).
(4) تقدم التعريف به.
(5) في " المسند " (3/ 304، 338).
(6) في " السنن " رقم (1379) وقال: حديث حسن صحيح.
(7) في " السنن الكبرى " (3/ 404رقم 5756).
(8) في صحيحه رقم (5179، 5181). وهو حديث صحيح.
(9) (1/ 188، 189، 190).
(10) في " السنن " رقم (3073).(7/3724)
والترمذي (1) وحسنه، والنسائي (2) من حديث سعيد بن زيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق "، وقد أعله الترمذي بالإرسال (3)، ورجح الدارقطني إرساله (4).
وما أخرجه أحمد (5) والبخاري (6) من حديث عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من عمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها ". وما أخرجه أبو داود (7)، والضياء في المختارة (8) وصححه عن أسمر بن مضرس قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فبايعته فقال: " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له ".
وما أخرجه أحمد (9)، وأبو داود (10)، والطبراني (11)، والبيهقي (12)، وابن الجارود (13) وصححه. قال: قال رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من أحيا أرضا ميتة فهي له ".
فهذه الأحاديث تدل على أن من أوقع على الأرض ما يسمى إحياء ملك ما يصدق عليه
_________
(1) في " السنن " رقم (1378).
(2) في " السنن الكبرى " (3/ 404 - 405رقم 5760 - 5762).
(3) في "السنن " (3/ 662).
(4) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (3/ 119). وهو حديث صحيح.
(5) في " المسند " (6/ 120).
(6) في صحيحه رقم (2335).
(7) في " السنن " رقم (3071) وفيه ثلاث مجهولات.
(8) عزاه إليه ابن في " التلخيص " (3/ 139). وهو حديث ضعيف.
(9) في " المسند " (5/ 21).
(10) في " السنن " رقم (3077).
(11) في " الكبير " (7 / رقم 6863، 6864، 6865، 6866،، 6867).
(12): في " السنن الكبرى " (6/ 148).
(13) في " المنتقى " رقم (1015) بسند ضعيف لعنعنة الحسن البصري
ولكن الحديث صحيح بشواهد والله أعلم.(7/3725)
لفظ الأرض، ويتناوله هذا الاسم، ولا ريب أنه يصدق على باطن الأرض كما يصدق على ظاهرها، ولم يأت في لغة العرب ولا في اصطلاحات الشريعة المطهرة أن هذا الاسم يصدق على جزء من الأرض، وهو ظاهرها دون غيره من الأجزاء. ومن زعم ذلك فقد جاء بما لا يفيده عقل ولا شرع، ولا لغة، ولا عرف عام ولا خاص.
ولا يرتاب من يفهم كلام العرب أن الضمير قد عاد من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فهي له إلى الأرض التي وقع عليها الإحياء المذكور في أول الحديث، ووزان هذا الكلام قول القائل: من دخل الدار فهي له؛ فإن هذا التركيب يفيد أن الدار بجميع أجزائها تصير ملكا للداخل بمجرد الدخول، ومن زعم أنه لا يملك إلا الموضع الذي قعد فيه من الدار، أو وضع قدمه عليه فقد أخطأ خطأ بينا، وجاء بما لا تعرفه العرب، ولا تفهمه، وهكذا قول القائل: من مثل بعبده عتق عليه؛ فإنه إذا أوقع على بدن العبد ما يصدق عليه أنه مثله صار العبد كله حرا، ومن زعم أنه لا يعتق إلا الموضع الذي وقعت فيه المثلة عليه فقد افترى على لغة العرب، وعلى قواعد الشريعة ما ليس منهما، وهكذا كل تركيب من التراكيب العربية المؤدية لمثل ما ذكرناه، وهي كثيرة لا يحيط بها الحصر، وليس المراد إلا بيان ما أردناه، وتقرير دلالة الدليل الذي سقناه على وجه لا يبقى فيه شك ولا شبهة.
ومما يدل على ما ذكرناه من ملك التخوم الحديث المتفق عليه (1) عن عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: قال: " من ظلم شبرا من الأرض يطوقه الله من سبع أرضين "، وأخرج نحوه الشيخان (2) أيضًا من حديث سعيد بن زيد. وأخرجه أيضًا أحمد (3) ومسلم (4) من حديث أبي هريرة.
_________
(1) البخاري في صحيحه (2425) ومسلم رقم (142/ 1612).
(2) البخاري في صحيحه رقم (2452) ومسلم رقم (137/ 1610).
(3) في " المسند " (2/ 387 - 388).
(4) في صحيحه رقم (141/ 1611).(7/3726)
وأخرجه أيضًا أحمد (1) والبخاري (2) من حديث ابن عمر. وأخرجه أيضًا ابن حبان في صحيحه (3)، وابن أبي شيبة في مسنده (4)، وأبو يعلى (5) من حديث يعلى بن مرة.
وأخرجه أيضًا العقيلي في تاريخ الضعفاء (6) من حديث المسور بن مخرمة. وأخرجه أيضًا الطبراني في الكبير (7) من حديث شداد بن أوس. وأخرجه أيضًا الترمذي (8) من حديث سعد بن أبي وقاص. وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (9) من حديث أبي مالك الأشعري بإسناد حسن.
وأخرجه أيضًا الطبراني (10)، وأبو يعلى (11) من حديث الحكم بن الحارث السلمي. وأخرجه أيضًا الطبراني (12) من حديث أبي شريح الخزاعي.
_________
(1) في " المسند " (2/ 99).
(2) في صحيحه رقم (2454).
(3) رقم (5164).
(4) في مصنفه (6/ 565 - 566).
(5) في مسنده (2/ 247رقم 948).
(6) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (3/ 119).
(7) (7/ 292 رقم 7170).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 176) وقال: وفيه قزعة بن سويد وثقة ابن عدي وغيره وضعفه أحمد وجماعة.
(8) في " السنن " رقم (1269) من حديث ابن مسعود وهو صحيح. .
(9) في مصنفة (6/ 567 رقم 2060).
(10) في " الكبير " رقم (3172) وفى " الصغير " (2/ 152 - 153) وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 176) وقال: فيه محمد بن عقبة السدوسي وثقة ابن حبان وضعفه أبو حاتم وتركه أبو زرعة.
(11) عزاه إليه ابن حجر في " تلخيص " (3/ 119).
(12) في " الكبير " رقم (22/ 189رقم 493).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 176) وقال: وفيه عبد الله بن شيب وهو ضعيف.(7/3727)
وأخرجه أيضًا أحمد (1) من حديث ابن مسعود. وأخرجه أيضًا الطبراني (2) من حديث ابن مسعود.
ووجه دلالته أنه قال: " من غصب شبرا من الأرض، أو ظلم شبرا، أو أخذ شبرا أو سرق شبرا، أو أقتطع شبرا "، على اختلاف الروايات. وظاهره أنه لا فرق بين أن يكون المغصوب من ظاهر الأرض أو باطنها، ومن زعم أنه مختص بالظاهر دون الباطن فقد جاء بما لا تحمله لغة العرب، وخالف ما يدل عليه التركيب بلا دليل من عقل ولا نقل، ومما يوضح هذه الدلالة، ويمنع أن يراد بها خلاف ظاهر ما ذكر في الحديث من تطويقه من سبع أرضين إن حمل على معناه الحقيقي.
قال الحافظ بن حجر في فتح الباري (3): إن الحديث يدل على أن من ملك أرضا ملك أسفلها إلى منتهى الأرض، وله أن يمنع من حفر تحتها سربا أو بئرا بغير رضاه، وأن من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها بما فيه من حجارة، وأبنية، ومعادن، وغير ذلك، وأن له أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بمن جاوره، انتهى.
إذا تقرر لك بهذا رجحان ما رجحناه من أن التخوم بالمعنى الذي أراده أهل الفروع تملك بالإحياء لظاهر الأرض عرفت الجواب عن جميع ما أورده السائل - كثر الله فوائده - من تلك المسائل كما سيأتي.
_________
(1) (1/ 416رقم 3946 - شاكر) بإسناد صحيح.
(2) في الكبير رقم (10516) وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 174 - 175) وقال: رواه أحمد والطبراني في " الكبير " وإسناد أحمد حسن.
(3) (5/ 105).
وقال القرطبي في " الفهم " (4/ 535): وقد استدل بعضهم به: على أن من ملك شيئا من الأرض ملك ما تحته مما يقابله، فكل ما يجد فيه من معدن، أو كنز فهو له. وقد اختلف في ذلك في المذهب فقيل ذلك وقيل هو للمسلمين. وعلى ذلك فله أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بمن يجاوره.
وكذلك أن يرفع في الهواء المقابل لذلك القدر من الأرض من البناء ما شاء ما لم يضر بأحد، فيمنع.(7/3728)
الوجه الثاني: من الوجوه التي اشتمل عليها الجواب هو إيضاح معنى التخوم لغة واصطلاحا:
أما في اللغة: فقال في القاموس (1): التخوم بالضم الفصل بين الأرضين من المعالم والحدود المؤنثة، والجمع تخوم أيضًا وتخم كعنق، والواحد تخم بالضم، أو تخومة، وبفتحها وأرضنا تتاخم أرضك تحادها. انتهى.
وقال في النهاية (2): " ملعون من غير تخوم الأرض "، أي معالمها وحدودها، واحدها تخم. قيل: أراد بها حدود الحرم الخاصة. وقيل هو عام في جميع الأرض، وأيراد المعالم التي يهتدي بها في الطريق. وقيل: هو أن يدخل الرجل في ملك غيره فيقتطعه ظلما. ويروي تخوم بفتح التاء على الإفراد، وجمعه تخم بضم التاء والخاء انتهى.
وقال في المصباح (3): التخم حد الأرض، والجميع تخوم مثل فلس وفلوس. وقال ابن الأعرابي (4) وابن السكيت (5): الواحدة تخوم، والجمع تخم مثل رسول ورسل، والتخمة وزان رطبة، والجمع بحذف الهاء، والتخمة لغة، والتاء مبدلة من واو لأنها من الوخامة، واتخم على افتعل، وتخم تخما من باب تعب لغة انتهى.
إذا عرفت هذا علمت أن إطلاق التخوم على باطن الأرض لم يرد في لغة العرب، بل هو اصطلاح لجماعة من المصنفين في علم الفروع، كما وقع في المؤلفات الفروعية التي قدمنا النقل عن بعضها.
الوجه الثالث: من الوجوه المشتملة على الجواب. اعلم أنا قد قدمنا في الوجه
_________
(1) (ص1399).
(2) (1/ 183 - 184).
(3) (ص28).
(4) عزاه إليه صاحب " المصباح المنير " (ص28).
(5) عزاه إليه ابن منظور في " اللسان " (2/ 21).(7/3729)
الأول الجواب عن مسائل السؤال إجمالا، لأنها جميعها ترجع إلى مسألة كون التخوم ملكا أو حقا على ذلك التفصيل السابق في تلك الأقوال، وها نحن الآن نجيت عن كل مسألة من مسائل السؤال على طريق التفصيل فنقول:
أما سؤاله - كثر الله فوائده - عن العروق الممدة من أرض الغارس إلى أرض غيره إذا حصل ذلك، فهل لصاحب الأرض الممتدة إليها العروق قلعها أم لا؟.
أقول: لصاحب الأرض قلع العروق التي تمتد إلى تخوم أرضه (1)، أما عند من يقول إن التخوم تملك كما هو الراجح فالأمر في ذلك ظاهر، لأن الإجماع قائم على أن للمالك أن يدفع ما يرد إلى غير ملكه بغير إذنه، سواء كان يضر بها أم لا، وأما على قول من يقول: إن التخوم حق لا ملك فكذلك لصاحب الأرض أن يقلع العروق الممتدة إلى تخوم أرضه، لن لصاحب الحق أن يمنع الغير من الانتفاع بما له فيه حق كما قالوا في التحجر، وله متعة ما حاز.
وأيضا هاهنا وجه دقيق لطيف مسوغ لقطع العروق على جميع الأقوال، وهو أن مالك الأرض عند حفره للعروق التي يريد قطعها السارية من ملك غيره إلى تخوم أرضه قد صار بذلك الحفر مالكا لجميع ما يحفره، فعند انتهائه إلى العروق صار مالكا للتخوم التي انتهى حفره إليها، فهو عن قلع تلك العروق قلعها عن ملكها، وإن كان قبل الحفر حقا على قول من قال: بأن التخوم حق لا ملك.
ولا يثبت لصاحب العروق الممتدة إلى أرض غيره بمجرد امتدادها إلى التخوم، لا حق ولا ملك، لأن مجرد امتدادها ليس بإحياء، وهو ظاهر، ولا تحجر لأنه إنما يكون بفعل الفاعل، وامتداد العروق لا فعل له فيه، ولو فرضنا أنه أثر فعله لكان ثبوت الملك أو الحق لصاحب الأرض مانعا من إحيائها وتحجرها. وقد تقرر أنه لا يجوز إحياء (2) ما
_________
(1) انظر " المغني " (8/ 157 - 158).
(2) انظر " الحاوي الكبير " (9/ 354). " المغني " (8/ 156 - 157).(7/3730)
هو حق من حقوق الأرض لغير مالكها كالمراهق التي ينصب منها السيل إلى الأرض، فلا يجوز للغير أن يحرثها أو يفعل فيها فعلا يعد إحياء، ويتأثر على ذلك الفعل انصباب الماء إلى غير المحل الذي كان ينصب إليه، مع أنه لم يكن لصاحب هذا المحل إلا مجرد حق، وهكذا لو كان الرجل يستحق المرور من موضع مخصوص فليس لغيره أن يجعل في ذلك الموضع ما يمنع المرور لا بإحياء ولا بغيره، مع أنه ليس هاهنا إلا مجرد حق لا ملك، فهكذا لا يثبت لصاحب العروق حق، ولا ملك في التخوم المستحقة لغيره، أو المملوكة على القولين، وهكذا يجوز لصاحب الأرض أن يحفر خندقا ما بين أرضه وأرض شريكه الذي يخشى سريان عروق غروسه إلى تخوم أرضه إن كان بينهما موضع غير مملوك، ويصير بذلك الحفر مالكا، لأنه إحياء، فإذا قطع ما امتد من العروق فهو قطعه عن ملكه ولا خلاف في جوازه، وهكذا إذا جعل الخندق فيما هو من جملة أرضه فهو يسوغ له قطع العروق بالأولى، ويمكن أن يستدل على هذه الجملة بعموم الحديث: " ليس لعرق ظالم حق " وقد أخرجه أبو داود (1)، والدارقطني (2)، وغيرهما (3).
قال السائل - عافاه الله -: وبعد قلعها لمن يكون العروق؟ هل للذي قلعها أم لمن له أصل العرق، أو لمن امتد إلى أرضه؟.
أقول: بل يكون لصاحب الغروس، لأنها لا تخرج عن ملكه بدخولها فيما هو حق أو ملك غيره، كما لا تخرج الأغصان عن ملك صاحبها بامتدادها على الهوى المستحق للغير، أو انبساطها على الأرض المملوكة للغير. ولا فرق بين حق، وحق ملك، وملك.
_________
(1) في " السنن " رقم (3073).
(2) في " السنن " (3/ 35رقم 144).
(3) كالترمذي رقم (1378).
عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حقا ". وهو حديث صحيح.(7/3731)
قال السائل - عافاه الله -: وإذا نبت في الأرض الممتدة إليها أشجار أصلها من ذلك العرق الأصلي، فهل تكون الأغصان لمن نبتت في أرضه، أو لمن العرق الأصلي في أرضه، أو لمن نبت أو بينهما؟ وذلك مثل شجر الكمثرى والقرع والآجاص والحلال.
أقول: هذا يمكن تنزيله على ما قيل فيمن بذر ببذر يملكه في أرض الغير (1)، والكلام في ذلك معروف، والذي ينبغي التعويل عليه أن يقال: العرق الذي امتد لم يخرج بمجرد الامتداد عن ملك مالكه، سواء بقى في التخوم أم ظهر على وجه الأرض ونبت، ولكن صاحبه قد شغل أرض غيره به، فإنه به صاحب الأرض وتركه، ولم يقلعه، فيمكن أن يقال: إن ذلك يجري مجري الرضا، ويمكن أن يقال: أنه يلزم صاحب العرق أجرة ما شغله من تلك الأرض بنبات العرق فيه، سواء كان صاحب الأرض قد علم به وتركه، أم لم يعلم، وهذا هو الظاهر.
قال السائل - كثر الله فوائده -: نعم وإذا كان مثل الحلال الذي إذا غرس في الأرض الحارة أهلك أودية، وامتد إلى المزارع حتى يبطلها، فهل يجوز الغرس لذلك بين المزارع، وتجنب الأشجار التي يضرها كالعنب أو لا يجوز؟ وإذا أهلك الوادي مثلا حتى لم ينتفع به في الزرع الموضوع له، فهل يكون الغارس متعديا في السبب؟ وإذا تعدى في السبب فهل يكون حكمة ضمان نقصان الأرض؟ أو أنه يملك الأرض وتلزمه القيمة، أو يكون حكمه حكم الغاصب إذا غير العين إلى عرض، أو إلى غير عرض، أو لا يلزمه شيء؟.
أقول: قدمنا الكلام في جواز قطع العروق لصاحب الأرض التي امتدت إلى ملكه، وهاهنا سئل السائل - عافاه الله - عن حكم الشجر التي يمتد عروقها وأصولها وتسري في العادة إلى ما هو خارج عن المكان الذي غرست فيه كالحلال، هل يجوز غرسه والحال
_________
(1) قال ابن قدامة في " المغني " (7/ 356 - 366):أنه إذا غرس في أرضه بغير إذنه، أو بني فيها، فطلب صاحب الأرض قلع غراسه أو بنائه، لزم الغاصب ذلك. ولا نعلم فيه خلافا.
وانظر: " المجموع " (14/ 369).(7/3732)
هذه، أو يمنع الغارس له في ملكه من غرسه، لأنه يسري عادة، وينبت بعضه في إثر بعض من دون تنبيت حتى يغلب أرض الغير؟ والظاهر من الأدلة القاضية بالمنع من الضرار لا سيما للجار أنه يمنع المالك من غرس ما يضر بجاره؛ فإن الأدلة الدالة على أن لكل مالك أن ينتفع بملكه كيف شاء مخصصة بالأدلة الدالة على المنع من الضرار، فإنها أخص منها مطلقا ن وبناء على العام على الخاص (1) واجب باتفاق من يعتد به من أئمة الأصول، ولا سيما مع جهل التاريخ، فإنه في حكم الخاص المقارن أو المفارق بمدة لا تتسع للعمل، بل قد حكى بعض أئمة الأصول أنه وقع الإجماع (2) على البناء مع جهل التاريخ، ومن جوز الإضرار بالجار عملا بالأدلة الدالة على جواز الانتفاع بالملك، فقد أهدر الأدلة الخاصة، وقدم عليها الأدلة العامة مطلقا، فعكس قالب الاستدلال، وخالف في تفريعه التأصيل، وأهمل رد الفعل إلى الأصل المتفق عليه.
وقد تقرر أن ما خالف من الفروع الدليل، ولم يناسب تفريعه التأصيل غير معمول به، ولا مرجوع إليه، فهذا أصل يجب العمل به والتعويل عليه، وهو يفيد أن كل ما كان ذريعة من ذرائع الضرار فالواجب دفعه ومنعه، لا يقال: إن منع المالك من الانتفاع بملكه
_________
(1) الكوكب المنير " (3/ 382 - 383)، " المسودة " (ص134).
(2) إذا ورد عن الشارع لفظ عام ولفظ خاص، قدم الخاص مطلقا أي سواء كانا مقترنين.
وعن الإمام أحمد رواية في غير المقترنين موافقة لقول أكثر الحنفية المعتزلة وغيرهم، أنه إن تأخر العام نسخ، وإن تأخر الخاص نسخ من العام بقدره ن فعلى هذا القول، إن جهل التاريخ وقف الأمر حتى يعلم.
وقد اشترط الحنفية في التخصيص شروطا أهمها: أن لا يتأخر المخصص وأن يكون المخصص مستقلا بالكلام، وأن يكون متصلا في الوقت ذاته بالنص العام، وإلا كان نسخا لا تخصيصا، وقال بعض الظاهرية؛ يتعارض الخاص والعام مطلقا، وقال بعض المعتزلة وبعض الحنفية وهو رواية عن أحمد: أنه إن جهل التاريخ فيقدم الخاص.
" التبصرة " (ص151)، " اللمع " (ص20).(7/3733)
فيه إضرار به، والإضرار ممنوع، فكما لا يجوز الإضرار بجاره لا يجوز الإضرار به، فإن منعه من الانتفاع بملكه إضرار به، لأنا نقول: إنما يكون إضرارا به لو فرضنا أنه يمكنه الانتفاع بملكه بوجه من الوجوه إلا بإضرار جاره، وليس الأمر كذلك فإنه يمكن الانتفاع بالملك بمنافع عدة، كالزرع، وغرس ما لا يضر من الغروس. وعلى فرض أنه لا يمكن الانتفاع به إلا بذلك الوجه الذي يضر بجاره فهاهنا قد تعارض أمران:
أحدهما: جلب مصلحة المالك.
والثاني: دفع المفسدة عن الجار. ودفع المفاسد أهم من جلب المصالح وأقدم، كما تقرر في الأصول، فإنه لا يلتفت إلى جلب المصلحة إلا إذا كانت خالية عن مفسدة، لا إذا كانت مشوبة بها؛ فلا يجوز تسويغها، ولكن هذا الأمر الذي ذكرناه وهو منع الغارس من غرس ما يضر بجاره مبني على أنه لا يمكن دفع الضرر إلا بترك الغرس، أما لو أمكن دفعه بأن يجعل الغارس خندقا في ملكه يمنع سراية أصول الغروس وفروعها، أو بأن يعمر جدارا مثلا من حجر، ويحفر لأساس البناء مقدارا يمنع من السراية فهاهنا قد اندفع الضرار، فيجوز الغرس.
أما لو كانت الأرض لا ينتفع بها إلا بالغرس فقط، ولا يمكن الانتفاع بها بغيره فلا ضرار ممن غرس في أرضه، لأنه وإن كان سيسري من عروق غروسه إلى أرض جاره فقد يسري إلى أرضه من عروق غروس جاره مثل ما يسري إلى أرض الجار فلا إضرار. فإن كانت الأرض تصلح للغرس ولغيره يتمكن اعتبار الأغلب، فإن كان الأغلب في تلك الأرض من المالكين لها هو الغرس لا يمنع الغارس، لأنه جرى على حكم الغالب، ومن جرى على ذلك لم يكن متعديا، والذي لم يجر على الغالب كمن يزرع ملكه في أرض تعتاد الغرس فقد رضي بإدخال الضرر على نفسه، فأما دفع ما يسري إلى ملكه بأن يجعل لنفسه خندقا، أو جدار في ملكه يمنع من سريان العروق إليه، أو صبر على ما يرد على أرضه من ذلك، أو جرى عليه حكم الغالب، وترك زرع أرضه، ويغرسها كغيره.(7/3734)
فإن لم يكن ثم غالب بل الأرض تصلح لهذا ولهذا، والبعض منها مغروس، والبعض مزروع، فإن كان غرس الغارس متقدما على إحياء الأرض التي لجاره فالغارس ليس بمضار جاره، وإن لم يكن الغارس متقدما فهذا من مواضع النظر للحاكم، وربما يختلف باختلاف الأحوال، واختلاف الأشجار التي تغرس؛ فإن بعض المواضع قد تضرها الغروس التي تغرس بالقرب منها، وبعضها لا تضرها، وبعض الغروس قد يضر ما هو مجاور له من الأرض وبعضها لا يضر.
وبالجملة فهذه الشريعة الغراء من عرفها حق معرفتها وجدها مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد. وقد ورد مما يدل على هذا من كليات الشريعة وجزئياتها ما لو جمع لكان في مصنف مستقل.
وما أشار إليه السائل - كثر الله فوائده - من أنه إذا امتدت الغروس على أرض الغير حتى بلغ الحال لا يمكن الانتفاع بالأرض في الزرع ... إلى آخر ما ذكره.
فنقول: حكم هذا حكم من غرس غروسا في أرض الغير (1) غصبا، فإن المتوجه قلع الغروس؛ إذ: " ليس لعرق له ظالم حق " (2)، وعلى صاحب الغروس أجرة الأرض للمدة التي شغلها فيها بالغروس، وإن لم ينتفع، وإذا حصل في الأرض نقص بالغرس فعليه أرش النقص، وليس هذا من باب الاستهلاك الحسي، ولا الحكمي، ولا من باب التغير إلى غرض أو إلى غير غرض.
وفى هذا المقدار كفاية، والله ولي التوفيق.
حرر المجيب محمد بن على الشوكاني - غفر الله لهما - في ليلة من ليال شهر القعدة سنة 1217.
_________
(1) تقدم ذكره.
(2) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.(7/3735)
بسم الله الرحمن الرحيم
(118)
31 - /1
سؤال وجواب
عن
أرض مشتراة من جماعة ولها مسقى في أرض مستوية كالأرض المشتراة. وفيه أشجار طلح كبار لها مدة مديدة وصرح في بصائر الشراء بدخول المساقي والسواقي وما يتبع المبيع عرفا وشرعا. فادعى البائعون للأرض أن أشجار الطلح غير داخلة في المبيع فهل تستحق هذه الدعوى إجابة أم لا؟
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
و
علي بن هادي عرهب
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(8/3738)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " سؤال وجواب عن أرض مشتراة من جماعة ولها مسقى في أرض مستوية كالأرض ... ".
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم. سؤال عن أرض مشتراة من جماعة ولها مسقى في أرض مستوية كالأرض المشتراة ".
4 - آخر الرسالة: " ... فقاطعهما بغير إذن المشتري غاصب مغير يتبعه حكم ضامن للمشتري مان الغاصب المعتدي، والله جل جلاله أعلم. انتهى من خطه."
5 - نوع الخط: خط رقعي جيد.
6 - عدد الصفحات: 4 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/3739)
بسم الله الرحمن الرحيم
سؤال عن أرض مشتراة من جماعة ولها مسقى في أرض مستوية كالأرض المشتراة، وفيه أشجار طلح كبار لها مدة مديدة وصرح في بصائر الشراء بدخول المساقي والسواقي وما يتبع المبيع عرفا وشرعا فادعى البائعون للأرض أن أشجار الطلح غير داخلة في المبيع. فهل تستحق هذه الدعوى إجابة أم لا؟ لأنه تقدم ما يكذبها وهو مصادقتهم بالبيع وهي داخلة في المبيع تبعا كما نص الأئمة عليهم السلام عليه من دخول المساقي والسواقي تبعا، .. ونابت تبقى سنة فصاعدا والطلح مما ينبت عادة وعرفا ثم إن البائعين أقدموا إلى قطع تلك الأشجار فهل قطعهم لها غصب يستحقون عليه العقوبة والغرامة بأوفر القيم. وهل ثمة نص لأئمة أهل بيت النبوة عليهم السلام يخالف تصريحهم بدخول ما ذكر تبعا للمبيع وعل لقول من قال أنه مباح يشترك فيه الناس كالثابت في المباح وجه في الشرع الشريف أفتونا مأجورين جزاكم الله خيرا.(8/3743)
أجاب القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني حماه الله تعالى بما لفظه:
لا شك ولا ريب أن المذكور إن كان نابتا في المواضع الداخلة تبعا للملك المصرح بدخولها في المبيع فلا يقبل من البائع دعوى عدم الدخول إلا أن يقيم على عدم الدخول برهانا صحيحا راجحا فذاك وهذا معروف مألوف في كلام أهل المذهب وغيرهم لا ينكره من له أدني اطلاع.
وإذا تقرر بطلان الدعوى ودخول ذلك النابت في المبيع فصاحب الأرض المشتري لها قد صار مستحقا له (1) ومقدما على غيره. وهذا مصرح به في مطولات كتب المذهب
_________
(1) قال الشافعي: " كل أرض بيعت فللمشتري جميع ما فيها من بناء وأصل. "
مختصر المزني " (ص79).
قال الماوردي في "الحاوي" (6/ 210 - 212): أن من باع أرضا ذات بناء وشجر، لم يخل حال ابتياعه من ثلاثة أحوال:
1 - إما أن يشترط دخول البناء والشجر في البيع لفظا فيدخل.
2 - إما أن يشترط خروجه لفظا فيخرج.
3 - إما أن يطلق العقد ويقول: ابتعت منك هذه الأرض، فنص الشافعي في البيع: أن ما في الأرض من بناء وشجر يدخل في البيع.
ونص في الرهن: أن ما في الأر من بناء وشجر لا يدخل في الرهن فاقتضى لاختلاف نصه في الموضعين -البيع والرهن- أن اختلف أصحابنا في المسألتين على ثلاث طرق:
أ - الأولى: وهي طريقة أبي الطيب بن سلمة وابن حفص الوكيل، فقد خرج المسألة على قولين:
1 - أن البناء والشجر لا يدخل في البيع ولا في الرهن جميعا، كما لا تدخل الثمرة المؤبرة في البيع ولا في الرهن.
2 - أن البناء والشجر يدخل في البيع والرهن جميعا، بخلاف الثمرة المؤبرة. لأن الثمرة المؤبرة تستبقي مدة صلاحها ثم تزال عن نخلها وشجرها، فصارت كالشيء المتميز، فلم تدخل إلا بالشرط، والبناء والشجر يراد للتأبير، والبناء يجري مجرى أجزاء الأرض فصار داخلا في العقد.
ب - الطريقة الثانية: وهي طريقة أبي العباس: وهو أنه جعل اختلافه اختلاف نصه في الموضعين على اختلاف حالين:
فجعل ما نص دخول ذلك البيع محمولا على أنه لو قال: بعتك الأرض بحقوقها، يدخل في البيع البناء والشجر لأنه من حقوق الأرض ولو قال مثله في الرهن لدخل.
وجعل ما نص عليه من خروج ذلك من الرهن محمولا على أنه قال: رهنتك الأرض ولم يقل بحقوقها، فلم يدخل في الرهن البناء والشجر لأنه أطلق، ولو فعل مثله في البيع لم يدخل ولا فرق بين البيع والرهن.
ج - الطريقة الثالثة: وهي طريقة أبي إسحاق المروزي، وأبي علي بن هريرة وجمهور أصحابنا: أبي احملوا جوابه في كل واحد من الموضعين على ظاهره وجعلوا البناء والشجر داخلا في البيع بغير شرط، ولم يجعلوه داخلا في الرهن إلا بالشرط، وفرقوا بين البيع والرهن بفرقين:
1 - أن عقد البيع يزيل الملك، فجاز أن تكون ما اتصل بالمبيع تبع له لقوته وعقد الرهن يضعف عن إزالة الملك، فلم يتبعه ما لم يسمه لضعفه.
2 - أنه لما كان ما حدث في البيع للمشتري، جاز أن يكون ما اتصل به ثم قبل المشتري، ولما كان ما حدث في الرهن، لا يدخل في الرهن، اقتضى أن يكون ما تقدم الرهن أولى أن لا يدخل الرهن.
والثابت في الصحيح من القول: أن البناء والشجر يدخل في البيع فكذا كل ما كان في الأرض متصلا بها من مسمياتها سواء أكان آجرا أو حجارة أو ترابا وكذا تلال التراب التي تسمى بالبصرة جبالا، وجوخاتها، وبيدرها وقدرها. والحائط الذي يحفرها وسواقيها التي تشرب الأرض منها وأنهارها التي فيها وعين الماء إن كانت فيها فإنه يملكها.
انظر: "المغني" (6/ 142)، "المجموع" (11/ 245 - 253)، "الوسيط في المذهب" (3/ 169 - 171).(8/3744)
ومختصراته وصرحوا أيضًا بأنه لا يحل لأحد أن يأخذه بغير رضاه وقد دل على هذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "من سبق 'لى ما لم يسبق إليه [2أ] فهو له" أخرجه أبو داود (1) وصححه المقدسي (2).
وهذا إذا حصل مجرد السبق بالتحجر فكيف إذا كان الموضع مسبوقا إليه من أزمان
_________
(1) في "السنن" رقم (3071).
(2) عزاه إليه ابن حجر في "التلخيص" (3/ 129) من حديث أسمر بن مضرس. وهو حديث ضعيف.(8/3745)
تتناقله الأيدي من مالك إلى مالك يثبت عليه بتبعيته للملك كمسألة السؤال. وأما حديث الاشتراك في الماء والكلأ والحطب (1) فهو باعتبار الأمور المباحة التي لم يثبت عليها ثابت بتحجر أو نحوه وهذا معلوم لا يشك فيه.
والله سبحانه أعلم.
وأجاب: شيخنا الفقيه العلامة المحقق علي بن هادي عرهب (2) حفظه الله تعالى بما لفظه:
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
قال في الأثمار (3): باب ما يدخل في المبيع ونحوه ما ثبت به عرف جار وفي شرحه للعلامة ابن بهران ما لفظه:
ما جرى به عرف ظاهر في الجهة إذ العرف مختلف باختلاف الجهات والمالكين فربما يتسامح التجار والملوك بما لا يتسامح به النخاسون. انتهى.
ثم قال أو المسيل حقا أو ملكا فإن ذلك وإن كان ملكا يدخل لأجل العرف كما
_________
(1) أخرجه ابن ماجه رقم (2473) وهو حديث صحيح.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يمنع الماء والنار والكلأ ".
وأخرج أحمد (5/ 364) وأبو داود رقم (3477) من حديث أبي فراس عن بعض أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المسلمون شركاء في ثلاثة في الماء والكلأ والنار" وهو حديث صحيح.
(2) الفقيه المحقق علي بن هادي عرهب الصنعاني كان مولده سنة 1164 هـ بصنعاء برع في النحو والصرف والمعاني والبيان والأصول والحديث والتفسير.
مات بكوكبان سنة 1236 هـ. وقد ترجم الشوكاني له في "البدر الطالع" رقم (348). "التقصار" (342 - 344).
(3) تقدم ذكره.(8/3746)
قدمنا في دخول العذار والسراويل وثياب البدلة. انتهى.
وقال بعض المحققين على قول الإمام في الأزهار (1): فصل يدخل في المبيع ونحوه (2) من
_________
(1) وتمام النص من الأزهار: "يدخل في المبيع ونحوه للمماليك ثياب البذلة وما تعورف به، وفي الفرس والعذار فقط. وفي الدار طرقها وما ألصق بها لينفع مكانه، وفي الأرض الماء إلا لعرف والسواقي والمساقي، والحيطان والطرق المعتادة إن كانت، وإلا ففي ملك المشتري إن كان، وإلا ففي ملك البائع إن كان، وإلا فعيب.
ونابت يبقى سنة فصاعدا إلا ما يقطع منه إن لم يشترط من غصن وورق وثمر، ويبقى للصلاح بلا أجرة، فإن اختلط بما حدث قبل القبض بسد العقد لا بعده، فيقسم ويبين مدعي الزيادة والفضل.
وما استثنى أو بيع ما حقه بقى وعوض، والقرار لذي الأرض وإلا وجب رفعه، ولا يدخل معدن، ولا دفين ولا درهم في بطن شاة أو سمك والإسلامي لقطة إن لم يدع البائع والكفري والدرة للبائع، والعنبر والسمك في سمك ونحوه للمشتري".
قال الشوكاني في "السيل الجرار" (2/ 660 - 662): في شرحه أقول: هذا وأن كان ردا إلى مجرد العادة فهي في مثل هذا متبعة لأنها كائنة في ضمير كل واحد من المتبابعين، فاذا قال: بعت منك العبد أو الأمة فمعلوم لكل واحد منهما أنه لا بد أن يكون عليها ما يستر عورتيهما ويواري ما حرت عادة الناس في مماليكم بموارايه على اختلاف في ذلك بين أعرف أرباب المناصب والحشمة والثروة وبين غيرهم، فقد يسمح الني ومن له رياسة بما لا يسمح به الفقير، ومن هو من أهل الحرف الدنية والأعراف الجارية بين الناس التي لا تخالف الشرع قد أمر الله سبحانه في كتابه العزيز بالرد إليهما كما في قوله في غير موضع (بالمعروف) على أنه قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر بلفظ: "
ومن ابتاع عبدا فماله للذى باعه إلا أن يشترط المبتاع"- البخاري رقم (2379) ومسلم رقم (1543) -ولكن الباب مبني علي الأعراف ومن المرجوع إليه في الأعراف بيع الحيوانات الفرس وغيرهم، فما كان متعارفا به كان في حكم المنطوق به، ولا وجه لقول المصنف: "وفي الفرس العذار فقط" بل المتوجه الرد إلى العرف كئنا من كان، وعرف أهل بلد لا يلزم أهل بلد اخر إذا تخالفت أعرافهم.
وأما قوله: "وفي الدار طرقها" فليس دخول الطرقات لمجرد العرف بل هي للضرورة التي لايمكن الانتفاع بالبيع إلا بها، فلو باع الدار من دون طرقها كان في منع المشتري من الطريق التي لا يمكن دخول الدار إلا منها إبطال لفائدة الدار، وقد تقدم بيع ما لانفع فيه لا يصح.
وهكذا قوله: وما الصق بها لينفع مكانه، فان ذلك داخل في مسمى الدار لاشتمالها على جميع ابوابها وطاقاتها، ونحوها حال البيع فمن ادعى شيئا من ذلك خارج عن البيع لم يقبل منه إلا ببرهان.
وهكذا قوله: " وفي الارض ماء" فانه وإن كان العقد واقعا على مجرد الارض فدخول ما لا يمكن الانتفاع بها إلا به هو من لوازم البيع ومعلوم أن سواقي الأرض ومساقيها الماء الذي تشرب منه تابع للأرض، وإذا جرت الأعراف بما يخالف هذا كان ذلك في حكم الاستثناء لتلك الأمور أو لبعضها.
ٍوهكذا طرق الأرض تابعة لها، ويتوقف الانتفاع بها عليها كما تقدم في الدار، فان اشترى الأرض ولا طريق لها عالما بذلك فقد رضى بالعيب. ولا رد ولا أرش، وإن كان جاهلا كان لها فسخها لأن ذلك عيب من اعظم العيوب بل لم ينعقد البيع من الأصل لأنه لم يرض بأرض لا لها طريق لها فقد كشف عدم وجود الطريق على أن الرضا السابق كلا رضا، فلم يوجد المناط الشرعي الذي هو قوله عز وجل: {تجارة عن تراض} [النساء: 29].
قوله: "ونابت يبقى سنة فصاعدا ".
أقول ما كان هكذا فالظاهر أنه داخل في بيع الأرض غير مستثنى ولهذا ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلىالله عليه وسلم قال: "من ابتاع نخلا قبل أن يؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع". فأفاد أن ثمرة النخل قبل أن يؤبر للمشتري، وإذا كان هذا في نفس الثمرة قبالأولى الشجر النابت الذي يراد به البقاء، فلا أنه دخل بالعرف بل بنفس العقد على الأرض، وأما ما يقتطع منه من غصن وورق وثمر فينبغى إلحاقه بثمر النخلة، فان كان قد وقع من البائع فيه عمل كالعمل الواقع بالتأبير فهو للبائع، وإلا فهو للمشتري، وإذا قد فعل فيه البائع عنلا كذلك فهو له، ويستحسن بقاءه حتى يصلح ولا تلزمه أجرة للمشتري، لأن الشرع قد جعل ذلك له، فلابد من بقائه حتى يصلح، لأن ذلك من تمام كونه له، وإذا اختلط هذا الذي قد صار للبائع بالعمل فيه بغيره مما لا عمل له فيه كان الرجوع في ذلك الى أهل الاختيار. فان ميزوا بينهما فذاك وإن يميزوا جعلوا للبائع يقدر ما يكون في أمثاله ذلك المبيع وقت البيع. وللمشتري ما عدا ذلك، فان التبس الأمر من كل وجه فكما قال المصنف يقسم ويبين مدعي الزيادة.(8/3747)
التملكيات لله تعالى أو لعباده ما به العرف تقييدا للمطلق بالعادة كما علم في الأصول ثم إذا كان هناك عرفان خاص وعام فقال الإمام يحيى عليه السلام (1) يتبع العرف العام وهو خلاف القواعد لأن الخاص في محله أقوى من العام. انتهى.
_________
(1) تقدمت ترجمته.(8/3748)
وإلىتقديم الخاص يشير كلام "الأثمار" (1) وهو صريح كلام شارحه المنقول آنفا وفي البحر (2) فصل فيما يدخل في المبيع تبعا.
قال الإمام يحيى: المتبع في ذلك العرف العام لا الخاص. مسألة ويدخل في البيع ونحوه للماليك ثيات البذلة وما تعورف به لا ما في يده ولا ما للزينة للنفاق كالعمامة والمنطقة والخاتم.
قلت: إلا العرف، وقيل ما يستر عورته فقط. قلنا المتبع العرف.
مسألة: وفي الخيل والبغال العذار [قاله] (3) الإمام يحيى واللجام في عرفنا وساق حتى قال مسألة وفي الأرض الماء إلا العرف .. إلخ.
ثم قال: فرع ويدخل فيها نابت يبقى سنة فصاعدا إذ يصير كالجزء منها سواء كان ذا ساق أم لا (4).
ثم قال: فرع ولا يدخل الثمر في بيع الشجر كالزرع على الأرض.
قلت: والأقرب عندي دخوله هنا كالصوف على الشاة إلخ كلامه فلما لم يذكر العرف في هذا الفرع اعتمادا منه على ما قد قرره وكرره عنه أن المتبع العرف كتب عليه بعض المحققين ما نصه: الأصل فيما يدخل ويباع منفردا ويشترط كثيرا دخوله وخروجه أن لا يدخله إلا شرط أو عرف ولا فرق بين [2ب] الشجر وثمرة الأرض وشجرها كما قال المصنف إلا أنا نخالفه في أن أيها ونحوها تدخل بغير ذكر أو ما في حكمه وهو العرف انتهى.
وإذا حقق كلامه الإمام فهو لم يرد بما أطلق دخوله أو خروجه إلا ما جرى العرف الذي هو المناط في الباب بأيهما وترك التصريح في بعض التفريغ اختصارا مع وضوح المراد
_________
(1) تقدم التعريف به.
(2) (3/ 373 - 374)
(3) زيادة يقتضيها السياق.
(4) انظر تعليق الشوكاني علىذلك وقد تقدم.(8/3749)
وعدم التباس المفاد وفي البيان قريب من لفظ البحر (1) بما لا يخالفه في المعنى أصلا في أصل الباب وفي مقصود السؤال مع التصريح بأن المعتمد العرف فهذه نصوص معتمدي أهل المذهب مصرحة بأن المناط في دخول ما يدخل تبعا من شجر أو غيره هو العرف وقاضية بعدم الفرق بين أن يكون المتبوع مقصودا بالبيع أصالة أو تبعا لغيره كما في صورة السؤال وكما لو دخل نحو البئر تبعا لبيع الأرض مثلا فلا مرية في دخول طرقات البئر وسائر حقوقها تبعا للتابع ولم أر من نصوصهم ما يخالف ذلك ولا ما يقدح فيما هنالك فاتضح أن مثل ذلك الطلح النابت في المسقى الداخل في بيع الأرض تبعا بل اصالة كما في السؤال داخل في بيعها داخل في ملك المشتري كدخولها هذا ما يقضى به العرف العام والأصل عدم عرف خاص يخالفه فان ادعى عرف خاص مستقر مشتهر أو ثابت من غير طريق أهل المحل الذي يتواصلون بدعواه إلى أموال الناس.
جاء الخلاف بين الإمام يحيى وغيره في تقديم العرف الخاص أو العام. والله سبحانه أعلم وأما قول من قال: أن أشجار الطلح الكبار الذي استقر العرف بالعناية بها وتنبيتهامباحة يشترك الناس فيها مثل النابت في الأرض المباحة فقول غريب واستدلال عجيب ببيان ذلك وإن كنا في مقام المانع بعد استقرار الضرورة الشرعية بجرمة مال المسلم ودمه وعرضه أن الطلح وسائر ما تحويه الأرض المملوكة بالأصالة أو بالتبعية كمحل السؤال مال لغة شرعا وعرفا داخل في مسمى مال المسلم فيشمله عموم: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (2) ويتناوله صريح عام: "ألا وإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم
_________
(1) (3/ 373): حيث قال في البحر: "المتبع في ذلك العرف العام لا الخاص" مسألة "ويدخل في البيع ونحوه للمماليك ثياب البذلة وما تعورف به، ولا ما في يده ولا ما للزينة للنفاق كالعمامة والمنطقة والخاتم".
ثم قال: " ... وفي الأر الماء إلا لعرف كبلاد الري وخراسان وصنعاء والسواقي والمساقي والحيطان والطرق المعتادة ".
(2) [البقرة: 188].(8/3750)
عليكم حرام" (1) ويندرج تحت قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يحل مال امرء مسلم ... " (2) وهذه العمومات ثابتة الحكم مسلمة الدلالة قطعا واجماعا فان أراد التمسك بحديث: " المسلمون شركاء في ثلاث" (3) بناء على دخول الشجر في مسمى الكلأ كما توهمه ظاهر عبارة الأزهار (4).
فجوابهٍٍٍ يمنع دخول الأشجار [3أ] الداخلة في بيع الأرض الموصوفة في السؤال فيالحديث المخصص لعموم احاديث حرمة مال المسلم إذ لا يدخل في شيءعن الثلاث لعدم شمول مسمى الكلام لتلك الأشجار. فان مسمى الكلام هو الحشيش.
قال العلامة ابن بهران في باب شركة الأملاك من شرحه ما لفظه:
فائدة: قوله صاى الله عليه وأله وسلم: " المسلمون شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار". (5)
ثم ساق كلاما حتى قال: وأما الكلأ فالمراد به الحشيش لا الشجر.
وقيل: كل نابت من غير عناية وهو قد حرمة بأنه الحشيش لغة لا الشجر.
قول القاموس (6): الكلأ: الحشيش وفي شرح مسلم (7) ومثله في الضياء ما لفظه:
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (67) وأطرافه (105، 1741، 3197، 4406، 4662، 5550، 7078، 7447). ومسلم رقم (1679) وأبو داود رقم (1948) وأحمد (5/ 37، 39، 40) من حديث أبي بكرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبته يوم النحر بمنى: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا".
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.
(4) (2/ 620 - السيل الجرار)
(5) تقديم تخرجه. وهو حديث صحيح
(6) (ص 64).الكلأ: العشب رطبه ويابسه.
(7) (10/ 229).(8/3751)
الكلأ: مهموز ومقصور هو النبات سواء كان رطبا أو يابسا وأما الحشيش فمختص باليابس والعشب الرطب منه. انتهى.
وهذا ظاهر في أن الكلأ (1) هو النبات المسمى رطبه عشبا ويابسه حشيشا. فلا يخالف ما في القاموس (2) في عدم شمول الكلأ للأشجار المسئول عنها ونحوها وإذا لم يصدق على تلك الأشجار أنا كلأ بقيت داخلة تحت القطعي العام متناولا لها دليل الحرمه والاحترام.
وإن أراد التمسك بقياس الأشجار المذكورة على الكلأ فقياس ممنوع لوجود العلة في الفرع فاسد الاعتبار ساقط عن الاعتبار وإن أراد التمسك بظاهر لفظ الإمام في الأزهار (3) فجمود على ظاهر لفظ قد علم عدم اعتبار ظاهره بيان ذلك أن الإمام وإن عبر بلفظ الشجر فلم يرد به ظاهره للقطع بعدم إرادته إذ يلزم أن نحو الخيار والرمان والزيتون مباحة ولذا قيدت العبارة بنحو النابت بنفسه وبنحو إذا كان مما لا ينبة الناس. وإذا كان ظاهر اللفظ غير مراد فلا بد من حمله على ما قصده من المجمل الصحيح الذي أرشد إليه تصرفه في"البحر الزخار" (4) وهوانه أراد بالشجر الكلأ المذكور في حديث: "المسلمون شركاء في ثلاث" (5) الذي استدل به في البحر على المسألة المذكورة.
وأعاد الاستدلال به في كتاب الشركة على إباحة فضل الماء ويكون بغيره في المقاعدة بلفظ الشجر بالنسبة إلى دليل الذي لم يعتمد في المسألة إلا عليه ولم يضعها إلا انتماء إليه قريبا من الرواية بالمعنى فاتضح أن مراده بالشجر اكلأ.
وقد عرفت مداول الكلأ لغة فحينئذ ظهر تقرر أن أشجار الطلح المذكورة غير داخلة في عبارته كما لم تدخل في أصله وهو الحديث الكريم فبقيت تحت سرادق الحرمة
_________
(1) قال ابن الأثير في"النهاية" (4/ 194): الكلأ: النبات والعشب سواء رطبه ويابسه.
(2) (ص64).
(3) (2/ 620 - السيل الجرار)
(4) (3/ 373 - 374)
(5) تقدم تخريجه(8/3752)
والاحترام فقاطعها بغير إذن المشتري (1) غاصب مغير يتبعه حكم ضامن للمشتري ضمان الغاصب المعتدي. والله جل جلاله أعلم. انتهى من خطه.
_________
(1) وهذا هو الصواب. وانظر: "المجموع" (11/ 253)."المغني" (6/ 142 - 148)(8/3753)
(119) 28/ 2
عقد الجمعان في شأن حدود البلدان وما يتعلق بها من الضمان
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج احاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(8/3755)
وصف المخطوط: (أ)
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "عقد الجمان في شأن حدود البلدان وما يتعلق بها من الضمان".
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على خير خلقه وأله. وبعد: فانه ورد سؤال من العلامة المحقق، والفهامة المدقق عز الكمال محمد بن أحمد مشحم كثر الله فوائده ... ".
4 - اخر الرسالة: " ... وقد يكون بالتضمين وقد يكون بالالتزام، وإلى هنا انتهى الجواب عن السؤال قال في المنقول منه: حرره المجيب غفر الله له في نهار الاثنين رابع شهر الحجة سنة1212 انتهى من خط المؤلف."
5 - نوع الخط: خط نسخى عادي.
6 - عدد الصفحات: 14 صفحة + صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/3757)
وصف المخطوط: (ب)
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "عقد الجمان في شأن حدود البلدان وما يتعلق بها من الضمان".
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على خير خلقه وأله. وبعد: فانه ورد سؤال من العلامة المحقق، والفهامة المدقق ... ".
4 - اخر الرسالة: " ... قال في المنقولة منه: حرره المجيب غفر الله له في نهار الاثنين رابع شهر الحجة سنة1212 ".
5 - نوع الخط: نسخى جيد.
6 - عدد الصفحات: 12 صفحة + صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد الأسطر فيها15 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/3761)
[بسم الله الرحمن الرحيم]
الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على خير خلقه وأله.
وبعد:
فإنه ورد سؤال من العلانة المحقق، والفهامة المدقق، غز الكمال محمد بن أحمد مشحم (1) -كثر الله فوائده- وحاصل السؤال عن شأن حدود البلدان، أى قسمة الأودية التي ليست بمحياة، وصبابات السيول والجبال بين اهل القرية المحيطة بها، فيجعل لأهل هذه القرية من بعضها بعضا من ذلك لا يتعداه أهل القرية الأخرى، بل يختص بالكلأ النابت فيه راعيا، واحتطابا، واحتشاشا من جعل له دون غيره. ومضمون السؤال: هل يسوغ ذلك شرعا؟ وإذا ساغ هل يجوز تضمين من يختص بذلك ما وقع فيه من قتل، أو سلب، أو نهب، وإن لم توجد شروط القسامة، ولا تعين الفاعل، تمسكا بما وقع منه تعالى من عقاب عاقر الناقة هو وغيره، ممن لم يوافقه على فعله، وبقوله تعالى: {واتقواْ فتنة لا تصيبن الذين ظلمواْ منكم خاصة} (2) ثم إذا كان ذلك الحد طريق وقع فيها القتيل، أو النهب، ولا يختص بها أهل بحد، فهل يجوز تضمين أهل بحد؟
وإن كانت القسامة الشرعية غير ثابتة، لأن ترك تضمينهم قد يؤدي إلى أنهم يفعلون فى تلك الطريق من الأفاعيل ما يكون سببا لانقطاع المارة عنها؟ هذا حاصل السؤال، وهو مشتمل على ثلاث مسائل:
الأولى: هل يسوغ شرعا قسمة ما لم يسبق إليه أحد باحياء ولا تحجر بين أهل القرى المحيطة به، ومنع كل واحد من الانتفاع بما حد الآخر من النبات المباح؟، وأقول: هذه الحدود الواقعة في غالب الديار اليمنية لما جاءت به الشريعة المطهرة من وجوه:
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) [الأنفال: 25].(8/3765)
الوجه الأول: أنها تستلزم عدم الاشتراك في الكلأ، ومنع بعض من ينتفع به، وهو مشترك بين الناس بنص حديث: "المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماء والكلأ والنار" أخرجه أحمد (1)، وأبو داود (2) من حديث أبي خداش عن بع الصحابة مرفوعا. وقد رواه أبو نعيم في الصحابة في ترجمة أبي خداش (3)، ولم يذكر عن بع الصحابة.
وسئل أبو حاتم (4) فقال: أبي خداش لم يدرك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد سماه أبو داود (5) في روايته حبان بن زيد، وهو الشرعبي تابعي معروف.
قال الحافظ في بلوغ المرام (6) ورجاله ثقات. وأخرج هذا اللفظ ابن ماجه (7) [1أ] من حديث ابن عباس، وفي إسناده مقال، ولكنه صححه ابن السكن (8) وزاد فيه: "وثمنه حرام". وأخرجه الخطيب (9) عن ابن عمر وزاد (والملح) وفيه عبد الحكم بن ميسرة. وأخرجه .................
_________
(1) في "المسند" (5/ 364).
(2) في السنن رقم (3477).
(3) رقم الترجمة (3188) ورقم الحديث (6764).
(4) في "كتاب المراسيل" (ص 254 رقم 9545) وعنده أبو حراش.
(5) في "السنن" (3/ 750 رقم 3477): " ... عن حبان بن زيد الشرعبي ".
(6) رقم (9/ 872) بتحقيقنا.
قال الألباني في الإرواء (6/ 8): لقد وهم الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى فأورد الحديث في "بلوغ المرام" باللفظ الشاذ يعني "الناس" بدل "المسلمون" من رواية أحمد وأبي داود، ولا أصل له عندهما البتة، فتنبه ". والحديث عندهما "المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار".
وهو حديث صحيح.
(7) في "السنن" رقم (2472) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار، وثمنه حرام".
وهو حديث صحيح دون قوله "وثمنه حرام".
(8) ذكره ابن حجر في "التلخيص" (3/ 143).
(9) ذكره ابن حجر في "التلخيص" (3/ 143).(8/3766)
الطبراني (1) عنه أيا بإسناد حسن، وله عنده طريق أخرى، وأخرجه أبو داود (2) عن بهيسة الفزارية -رضي الله عنها- وهي بمضمومة، وفتح هاء، وسين مهملة و [ .... ] (3) عن أبيها.
وفي الباب أحاديث (4) وجميعها قاضية بأن الكلأ مشترك بين الناس لا يحل لأحد أن يمنعه أحدا، وهذه الحدود المذكورة ليس المراد بها إلا قسمة ما ينبت في المباحات من الكلأ، واختصاص كل أحد بما ينبت في حدة، وإذا أراد صاحب الحد أن يرعى سائمته عقرت أو بعضها.
وقد نشأ عن ذلك فتنة تؤدي إلى قتل نفوس، أو سلب أموال، وقطع سبل. وقد شاهدنا من ذلك وقائع شنيعة، وهكذا إذا أراد غير صاحب الحد أن يحتش أو يحتطب فأقل الأحوال سلب بعض ثيابه، وإهانته.
والحاصل أن المحاماة عن صاحب كل حد على حدة أبلغ عن محاماة كل مالك على ملكه، فإن الأملاك لا يترتب عليها ما يترتب على هذه الحدود من الفتن، وإراقة الدماء، وسلب الأرواح، وهتك الحرم. وهكذا يقع ما خولفت فيه الشريعة المطهرة، وظن فاعله أن غيرها أصلح منها، فإنها جرت عادة الله -عز وجل- في مثل ذلك أنها تعود المصالح التي يخيل إلى فاعلها أنها مسوغة لمخالفة الشريعة مفاسد محضة، وهذا سر من أسرار الشريعة، وليس بيد من يسوغ هذه القسمة، ورسم هذه الحدود المشئومة إلا تخيل أن ذلك نوع من أنواع المناسب المذكور في الأصول، يسميه من لم يكن له درية بذلك العلم مصالح مرسلة (5)، وهو عند من يعرف علم الأصول من المناسب
_________
(1) في "المعجم الصغير" (2/ 7 - 8 رقم 681 - الروض الداني).
(2) في "السنن" رقم (3476).
(3) غير واضحة في المخطوط.
(4) ستأتي في هذه الرسالة والتي بعدها.
(5) المصلحة المرسلة: هي المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده، من حفظ دينهم ونفوسهم، وعقولهم، ونسلهم وأموالهم طبق ترتيب معين فيما بينها.
وقيل: هي الوصف الذي يكون في ترتيب الحكم عليه جلب منفعة للناس أو درء مفسدة عنهم.
تقسم المصالح من حيث اعتبار الشارع إلى ثلاثة أقسام:
1 - المصالح المعتبرة: وهي ما اعتبرها الشارع بأن شرع لها الأحكام الموصلة إليها كحفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض والمال، فقد شرع الشارع الجهاد وقتال المرتد لحفظ الدين، والقصاص لحفظ النفس، وحد الشرب لحفظ العقل، وحد الزنى والقذف لحفظ العرض، وحد السرقة لحفظ المال. وعلى أساس هذه المصالح المعتبرة وربطها بعللها وجودا وعدما جاء دليل القياس فكل واقعة لم ينص الشارع على حكمها، في علة هذا الحكم. فإنها تأخذ نفس الحكم المنصوص عليه.
2 - المصالح الملغاة: وهي المصالح التي ليس لها شاهد اعتبار من الشرع بل شهد الشرع بردها وجعلها ملغاة.
وهذا النوع من المصالح مردود، لا سبيل إلى قبوله، ولا خلاف في إهماله بين المسلمين فإذا نص الشارع على حكم في واقعة، لمصلحة استأثر بعلمها، وبدا لبعض الناس حكم فيها، مغاير لحكم الشارع، لمصلحة توهموها، ولأمر ظاهر - تخيلوا أن ربط الحكم به يحقق نفعا أو يدفع ضررا - فإن هذا الحكم مرفوض لأن هذه المصلحة التي توهموها مصلحة ملغاة من الشارع ولا يصح التشريع بناء عليها لأنها معارضة لمقاصد الشارع.
ومن أمثلة هذا النوع: التسوية بين الذكور والإناث في الإرث: فهي مصلحة متوهمة: وهي ملغاة، بدليل قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 11].
3 - المصالح المرسلة: وهي المصالح التي لم ينص الشارع على إلغائها ولا اعتبارها
وهذه هي المصالح المرسلة عند الأصوليين، فهي مصلحة: لأنها تجلب نفعا وتدفع ضرا ...
وهي مرسلة لأنها مطلقة عن اعتبار الشارع أو إلغائه
فهي إذا تكون من الوقائع المسكوت عنها وليس لها نظير منصوص على حكمه حتى نقيسها عليه وفيها وصف مناسب لتشريع حكم معين من شأنه أن يحقق منفعة، أو يدفع مفسدة ...
مثل المصلحة التي اقتضت جمع القرآن.
ضوابط المصلحة المرسلة:
1 - إندراجها في مقاصد الشارع.
2 - عدم معارتها لكتاب الله الكريم.
3 - عدم معارتها لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4 - عدم معارتها للقياس الصحيح.
5 - عدم تقويتها مصلحة أهم منها أو مساوية لها.
مجال العمل بالمصالح المرسلة:
1 - لم يعمل -القائلون بحجية المصالح المرسلة - بها في جميع الأحوال ولكن اقتصر عملهم بها في نطاق المعاملات وذلك لأن المصلحة يمكن الوقوف عليها في المعاملات إذ هي معقولة المعنى.
2 - لا خلاف بين العلماء في أن العبادات لا يجري فيها العمل بالمصالح المرسلة، لأن أمور العبادة سبيلها التوقيف، فلا مجال فيها للاجتهاد والرأي، والزيادة عليها ابتداع في الدين والابتداع مذموم.
3 - انظر: "إرشاد الفحول" (ص 790 - 794)، "تيسير التحرير" (4/ 171)، "الكوكب المنير" (4/ 432 - 436).(8/3767)
الملغي (1)، ولم نسمع عن عالم من علماء الاجتهاد أنه يسوغ هذه الحدود، بل جميع من مال إلى تسويغها مقلدة مع أن محققيهم ينكرون ذلك كما روي عن المفتي والقاضي عامر الذماري، والسيد أحمد بن علي الشامي.
الوجه الثاني: أنه قد ثبت عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النهي عن منع الكلأ، فأخرج ابن ماجه (2) بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يمنع الماءوالنار والكلأ".
وأخرج الشيخان (3) وغيرهما (4) من حديثه أيا عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ" فنهاهم عن منع فضل الماء (5) لتوصلهم
_________
(1) في "السنن" (2473) وهو حديث صحيح.
(2) في "السنن" (2473) وهو حديث صحيح.
(3) البخاري في صحيحه رقم (2353) ومسلم رقم (36/ 1566).
(4) كأحمد (2/ 244) والترمذي رقم (1272) وابن ماجه رقم (2478).
(5) قال القرطبي في "المفهم" (4/ 442): "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ" وفي لفظ "لا يبع" فمعناه أن الإنسان السابق للماء الذي في الفيافي إذا منعه من الماشية فقد منع الكلأ وهو العشب الذي حول ذلك الماء من المرعى، لأن البهائم لا ترعى إلا بعد أن تشرب، وهذه اللام سماها النحويون لام كي فهي لبيان العاقبة، والمآل كما قال تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} [القصص: 8] وهذا الحديث يفيد النهي عن بيع الكلأ، وهو حجة لمالك في القول بسد الذرائع ... "(8/3769)
بمنعه إلى منع الكلأ، والنهي عن الوسيلة إلى الشيء يستلزم النهي عنه بالأولى.
وأخرج أحمد (1)، والطبراني (2) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-[1ب] قال: "من منع فل مائه أو فضل كلئه منعه الله -عز وجل - فل يوم القيامة" وفي إسناده ليث بن أبي سليم (3)، وفي الباب أحاديث، وجميعها قاض بالنهي عن منع الكلأ، وحدود البلدان لا يراد بوضعها إلا منع كل صاحب حد لغيره عن الانتفاع بما فيه من الكلأ (4) ونحوه.
الوجه الثالث: أنه قد ثبت عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المنع من الحمى.
_________
(1) في "المسند" (2/ 221).
(2) في "المعجم الصغير " (1/ 37) وفي "الأوسط" رقم (1195).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (8/ 154) وقال: رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه محمد بن الحسن الفردوسي عفه الأزدي بهذا الحديث.
(3) قال ابن حجر في "التقريب" رقم (5685): "صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه فترك، من السادسة، مات سنة 148 هـ."
(4) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (10/ 228 - 229) أما النهي عن بيع فضل الماء ليمنع بها الكلأ فمعناه: أن تكون لإنسان بئر مملوكة له بالفلاة وفيها ماء فاضل عن حاجته ويكون هناك كلأ ليس عنده ماء الا هذه فلا يمكن أصحاب المواشي رعيه إلا اذا حصل لهم السقي من هذه البئر فيحرم عليه منع فضل هذا الماء للماشية ويجب بذله لها بلا عوض لأنه إذا منع بذله امتنع الناس من رعى ذلك الكلأ خوفا على مواشيهم من العطش ويكون بمنعه الماء مانعا من رعي الكلأ ويحتمل أنه في غيره ويكون نهي تنزيه قال أصحابنا يجب بذل فضل الماء بالفلاة وذلك بشروط منها:
1 - أن لا يكون ماء آخر يستغنى به.
2 - أن يكون البذل لحاجة الماشية لا لسقي الزرع.
3 - أن لا يكون مالكه محتاجا إليه.
واعلم أن المذهب الصحيح أن من تبع في ملكه ماء صار مملوكا له وقال بعض أصحابنا لا يملكه.
أما إذا أخذ الماء في إناء من الماء المباح فإنه يملكه هذا هو الصواب وقد نقل بعضهم الإجماع عليه، وقال بعض أصحابنا لا يملكه بل يكون أخص به وهذا غلط ظاهر.
وأما قوله لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ فمعناه أنه إذا كان فضل ماء بالفلاة كما ذكرنا وهناك كلأ لا يمكن رعيه الا إذا تمكنوا من سقي الماشية من هذا الماء فيجب عليه بذل هذا الماء للماشية بلا عوض ويحرم عليه بيعه لأنه إذا باعه كأنه باع الكلأ المباح للناس كلهم الذي ليس مملوكا لهذا البائع وسبب ذلك أن أصحاب الماشية لم يبذلوا الثمن في الماء لمجرد إرادة الماء بل ليتوصلوا به إلى رعي الكلأ فمقصودهم تحصيل الكلأ فصار ببيع الماء كأنه باع الكلأ والله أعلم.(8/3770)
فأخرج البخاري (1) وأحمد (2)، وأبو داود (3) من حديث الصعب بن جثامة أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حمى النقيع- بالنون- وقال: "لا حمى إلا لله ولرسوله"
وفي الباب احاديث وهي متضمنة لاحتصاص الحمى بالله وبرسول، وأله لا يجوز لأحد من الأمة أن يحمي حمى، ولهذا قال الشافعي (4) ليس لأحد من المسلمين أن يحمي إلا ما حماه النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.انتهى.
والعله في منع الحمى أنه يستلزم منع الكلأ عن أهل الحاجة إليه من المسلمين، وهذه
_________
(1) في صحيحه رقم (2370) وطرفه رقم (3013).
(2) في "المسند" (4/ 37، 71، 73).
(3) في "السنن"رقم (3083، 3084).
(4) في"الأم" (4/ 48) وانظر"المعرفة"للبيهقي (9/ 14رقم12194، 1، 12195) ونص قول الشافعي"يحتمل الحديث شيئين:
1 - ليس لأحد أن يحمي للمسلمين إلا ما حماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2 - والآخر معناه: إلا على مثل ما حماه عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلى الأول ليس لأحد من الولاة بعده أن يحمي وعلى الثاني يختص الحمى بمن قام مقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الخليفة خاصة. ورجح هذا الثاني ما ذكره البخاري في صحيحه (5/ 44 بعد الحديث رقم2370) عن الزهري تعليقا. أن عمر حمى الشرف والربذة .... ".(8/3771)
الحدود هي نوع من هذا، لأن أهل كل حد يحمي حده من غيره ويقاتل دونه، مع أنه خال عن المصلحة الكائنة في الحمى في بعض الحالات، لأن الحمى قد يكون خيل الجهاد كما فعله النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في احتمائه للنقيع، فانه أخراج أحمد (1) من حديث ابن عمر"أن النبي- صلى الله عليه وآهل وسلم-حمى النقيع للخيل خيل المسلمين".
وأخرج البخاري (2) عن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر احتمى لذلك، وهكذا الآن، فان بعض أهل البلدان قد يجتمع رأيهم على أن يمنعوا رعاتهم من بعض المواضع المختضة بهم، ويسمون ذلك محجرا، ويجعلونه ذخرا لهم إذا أجدبت أرضهم فهذا وإن كان مخالفا للشريعة المطهرة لكنه لا ينشامنه ما ينشا من الحدود من الفتن الكبار.
الوجه الرابع: أنه قد ثبت عن- صلىالله عليه وآله وسلم- أنه قال: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له"أخرجه ............................
_________
(1) في"مسنده"رقم (5655 - شاكر) باسناد صحيح.
(2) في صحيحه رقم (3059).قلت: وأخرجه أبو عبيد في"الأموال" (ص274رقم741) والبيهقي في"السنن الكبرى" (6/ 146، 147) و"المعرفة" (9/ 14، 15رقم12197) البغوي (8/ 273، 274، 2191) ومالل في"الموطأ" (2/ 1003رقم1) عن زيد بن أسلم عن أبيه: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل مول له يدعى هنيا على الحمى فقال: يا هنى اضمم جناحك عن المسلمين، واتق دعوة المسلمين فان دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياي ونعم ابن عوف ونعمابن عفان، فانهما إن تهلك ما شيتهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتى ببنيه فيقول: يا أمير المؤمنين. أفتاركهم أنا؟ لا أبا لك فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق. وأيم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتم، إنها لبلادهم، فقاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا".(8/3772)
أبو داود (1) من حديث أسمر بن مضرس، وصححه الضياء في المختار (2) وقال البغوي (3): لا أعلم بهذا الإسناد غير هذا الحديث.
وفي الباب غير ما ذكر، وجمعه يدل على أن من سبق إلى شيء من الكلأ لم يسبق إليه غيره باحياء، ولا تحجر، ولا قطع كان أحق به، والحدود تستلزم أن ما كان في الحد فهو لصاحبه [1أ]، وإن سبق إليه من سبق. هذا جملة ما خطر بالبال عند تحرير هذه الكلمات من الأدلة الدالة على على مخالفة هذه الحدود لما شرعه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأمته، وبعضها يكفي في إبطال ما يستند إليه الواضعون لذلك، من كونه مصلحة مرسلة، فإن من شرط المصالح المرسلة (4) عند جميع من قال بها عدم مصادمة الدليل، وهذه قد صادمت هذه الأدلة الكثيرة فلم يكن منها وهكذا جميع أنواع المناسب ما عدا الملغي منه، فإنه المناسب المصادم للدليل (5)، ولهذا ذكرنا فيما تقدم أن حدود البلدان من ذلك، ثم قد تقرر في الأصول من اعتبار المصلحة إنما يكون مؤثرا إذا كانت تلك المصلحة خالصة عن المفسدة، أما إذا كانت غير خالصة عن المفسدة فلا خوف أنها غير معتبرة، لأن دفع المفاسد أول من جلب المصالح. وقد عرفت مما تقدم ما ينشأ عن هذه الحدود من المفاسد.
المسألة الثانية من مسائل السؤال: أنها إذا ساغت الحدود المذكورة، فهل يجوز تضمين من يختص بذلك من قتل، أو سلب، أو نهب؟.
المسألة الثالثة من مسائل السؤال: أنه إذا كان في ذلك الحد طريق وقع فيها القتل والنهب، ولا يختص بها أهل الحد، فهل يجوز تضمين أهل الحدود وإن كانت القسامة.
_________
(1) في "السنن"رقم (3071) وهو حديث ضعيف.
(2) ذكره ابن حجر في"التلخيص" (3/ 129).
(3) انظر"مصابيح السنة" (2/ 369رقم2215).
(4) تقدم ذكر ذلك.
(5) في المخطوط (لديل) ولعل الصواب ما أثبتناه.(8/3773)
الشرعية غير ثابتة، لأن ترك تضمينهم قد يؤدي ألى أنهم يفعلون في تلك الطريق من الأفاعيل ما يكون سببا لانقطاع المارة عنها؟.
أقول: الجواب عن هاتين المسألتين يحتاج ألى تقديم مقدمة، هى أن الله تعالى تعبد عباده بأحكام أنزل بها كتبه، وأرسل بها أنبياءه، ولم يشرع لهم الاقتداء بأفعاله وصفاتة، فمن قال أنه يسوغ له تعذيب عباد الله أو قتلهم، لأن الله- سبحانه- يبتليهم بالأمراض والمحن، أوقال أنه يجوز له تسليط بعضهم على بعض، أو تسخير بعضهم لبعض، أو ما يعود عليهم ينقص في الأموال والأنفس، لأن الله قد يفعل ذلك، لأن هذا القائل في عدد العلماء، بل لا يكون في عدد العقلاء، فلله المثل الأعلى. قال الله- عز وجل-: قال تعالى (لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون) (1) ومن هاهنا
_________
(1) [الأنبياء: 23].
قال القرطي في"الجامع لأحكام القرآن" (7/ 391): قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر-بين أظهرهم فيعمهم العذاب، وهذا التأويل تعضده الأحاديث الصحيحة ففي صحيح البخاري رقم (3346) ومسلم رقم (2880) عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت له: يا رسول الله، أهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاهم وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقتا في نصيبنا خرقا، ولو نؤذ من فوقنا، فان تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا".
أخرجهالبخاري رقم (2493) والترمذي رقم (2173) ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم قال: "فالفتنة إذا عمت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها، وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلن من الأمم، كما في قصة السبت حين هجروا المعاصين وقالوا لانساكنكم وبهذا قال السلف. وروى البخاري في صحيحة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم".
فهذا يدل على أن الهلاك العام منه ما يكون طهرة للمؤمنين ومنه ما يكون نقمة للفاسقين. انظر: "جامع البيان"لابن جرير الطبري (6/ج9/ 318).(8/3774)
تعلم بطلان استدلال بعض المتأخرين على جواز تغريم أهل قرية من القرى، أو مدينة من المدن ما يوجدفي حدودهم أو طرقهم الخاصة بهم، أوالعامة لهم [2ب] ولغيرهم من جنايات، أو أموال منهوبة، أو نفوس مسلوبة، حيث لا يصح القسامة الشرعية بما فعله تعالى من معاقبة قوم عاقر الناقة، وشمول العذاب للفاعل ولغيره، فان هذا فعل من لا يسأل عما يفعل، وأبطل من هذا استدلال من استدل على ذلك بقوله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) (1) فان هذه الأية ليس فيها إلا التحذير عن أسباب الفتن، فانها إذا غلت مراجلها، وسطعت شررها، وأطل قتامها لا تدور على مسعر لهبها، ومثير عجاجها، بل تطحين كل مالاقت، وتدك كل ماتجد، كائنا ما كان. وقد ذكرت العرب هذا في أشعارها كما قال الحارث بن عباد:
لم أكن من جناتها- علم الله- ... واني لحرها اليوم صالي
وقال الآخر:
وجرم جره سفها قوم ... فحل بغير جارمه العقاب
فالمراد من الأية الكريمة التحذير لمن يتلبس بأسباب الفتن عن أن يدع الحد والاجتهاد في دفع تلك الأسباب، وهذا هو معنى اتقائها الذي أمرنا الله به، لأن التفريط في هذا الارتقاء يؤدى إلى إصابة الفتن لمن تلبس بأسبابها ومن لم يتلبس، وما كان هذا ماله فما أحقهبأن يتقيه كل أحد، وأكثر ما تكون هذا الإصابة العامة في الفتن الجاهلية، أو ما يلتحق بها من الفتن الواقعة في الإسلام على غير منهج الشرع، وقانون العدل،
_________
(1) [الأنفال: 25].(8/3775)
فكيف يحق الاستدلال بهذه الآية على جواز تعميم العقوبة منا لمن تعلم أنه لم يكن من تلك الجناية في شيء!؟ مع أن الله لم يشرع فيها لأهل الفتن أن يصيبوا بها المذنب وغيره، ولا قال: إنه يحل لهم ذلك، أويجوز بل قال: إن الفتن من شأنها إصابة من كان ظالما، ومن كان غير ظالم مع نهيه عنها وأمره باتقاء أسبابها، بل ثبت عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه جعل هذه الفتن التي يكون فيها البريء كغيره من علامات القيامة وآيات قرب الساعة. وأين يقع هذا الستدلال من استدلال من استدل على أصالة المنع بقوله تعالى (ولا تأكلوا أمولكم بينكم بالباطل) (1) وبماصح [3أ] عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وتواتر تواترا معنويا من قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "إن دماءكم وأموالكم وأعرضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا"ٍ (2) الحديث، وبقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "لا يحل ماء امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه" (3) فهذه الآية قاضية بأنه لايحل من مال أحد من المسلمين مثقال ذرة إلا بحقه، وهو ما ذكره الله تعالى من طيبة نفسه، أوما كان بالحق كما يدل عليه قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) (4) وهذه الأدلة الشرعية يعدها الدلالة العقلية، فان أخذ المال من صاحبه بغير وجه شرعي يستلزم إيلام صاحبه وترره في الغالب، ولا سيما إذا أجحف بماله وهو قبيح عقلا. وقد خصصت تلك الأدلة الشرعية بأمور منها: القسامة، فانها مستلزمة لتغريم من لا ذنب له في الغالب، ولهذا عدها أهل العلم مما ورد على خلاف القياس، لأن منهج هذه الشريعة المطهرة أن لا يؤخذ البريء بذنب المذنب. قال الله- عز وجل- (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (5)، وقال: .........................
_________
(1) [البقرة: 188].
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.
(4) [البقرة: 188].
(5) [الأنعام: 164].(8/3776)
(لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) (1) وقال: (لتجزى كل نفس بما تسعى) (2) وقال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "لا يجني جان إلا على نفسه" (3) وقال- عز وجل- في تسويغ المعاقبة {وإن عاقبتهم فعاقبواْ بمثل ما عوقبتم به} (4) وقال: {وجزاء سيئة مثلها} (5) وقال: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (6).
_________
(1) [البقرة: 286].،
(2) [طه: 15].
(3) أخرجه الترمذي رقم (2248) وأبو داود رقم (3318) وأحمد (4/ 186) والنسائي (6/ 247) وابن ماجه رقم (3055) والطبراني في الكبير (17/ 31\ 32 - رقم58) من حديث سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه ...
وهو حديث صحيح.
(4) [النحل: 126].
(5) [الشورى: 40].
(6) [البقرة: 194] قال الشوكاني في "فتح القدير" (2/ 318): في قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب}: ومن شدة عقابه أنه يصيب بالعذاب من لم يباشر أسبابه، وقد وردت الآيات القرآنية بأنه لا يصاب أحد إلا بذنبه، ولا يعذب إلا بجنايته فيمكن حمل ما في هذه الآية على العقوبات التي تكون بتسليط العباد بعضهم على بعض، ويمكن أن تكون هذه الآية خاصة بالعقوبات العامة، والله أعلم ويمكن أن يقال: إن الذين لم يظلموا قد تسببوا للعقوبات بأسباب كترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فتكون الأسباب المتعدية للظالم إلى غيره مختصة بمن ترك ما يجب عليه عند ظهور الظلم".
وأخرج أبو داود رقم (4338) والترمذي رقم (2168) عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا أيها الناس: إنكم تقرؤون هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} [المائدة: 105] وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه".
وهو حديث صحيح.
وانظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (28/ 212 - 215).(8/3777)
وأما ما ورد عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من أخذ الجار بالجار، والقريب بالقريب كما في بعض الأحاديث فلعل ذلك كان قبل استقرار الأحكام الإسلامية، وفي مبادىء الإسلام. وقد كانت الجاهلية هكذا فأنزل الله من الأيات القرآنية وأجرى على لسان رسوله من الأحاديث النبوية مالا يبقى بعده ريب لمرتاب. ومن هاهنا يلوح أن هذا الأمور التي تقع في كثير من الأقطار اليمنية، ويتعارف بها كثير من أهلها، ويعمل عليها امراؤها وقضاتها من تغريم اهل قرية من القرى، أو عشيرة من العشائر جميع ما يقع في حدود بلادهم من قتل، او سلب، أو جناية على بدن أو مال بدون وجود المناط الشرعي وهو القسامة، أو ضمان العاقلة ليست من الشرع في قبيل ولا دبير، ولا ورد ولا صدر.
ومن هذا تضمين أهل القرى المحيطة بالطرق العامة التي يسلك فيها الناس من مدينة إلى مدينة، ومن قطر إلى قطر، فان ذلك بلأحكام الطاغوتية أشبه [3ب] منه بالأحكام الشرعية.
فان قلت: إذا لم يقع التضمين انقطعت السيل، وذهبت الأموال والأموال والأرواح، وتسلط شرار الناس على خيارهم حتى يرتفع الأمن بالكلية، ولا سيما مع فساد أديان البدوان، وغالب الأعراب المجاورين للطرقات.
قلت: هذا خيال مختل، ووسوسة شيطانية من عدو الله إبليس أراد أن يزحلق بها هذه الأمة من الأحكام الشرعية إلى الأحكام الشيطانية، فان من تأمل أحوال سلف هذه الأمة وخلقها إلى عصرنا هذا وجد التدبير بالقوانين الشرعية ما كان فيه إلا وكانت من الأمن والدعة بمحل لا يساويها فيه غيره، ومن شك في هذا فليتدبر ما كان في هذه الدول(8/3778)
الإسلامية منذ أيام النبوة الآن، فانك لا ترى ملكا من الملوك، ولا أميرا من الأمراء، ولا إماما من الأئمة يؤمن بالعدل، وحسن السيرة، واقامة حدود الشريعة كما هي إلا ورأيت في بلاده ورعيته من النظام، واستقامة الأمور، وصلاح أحوال العامة والخاصة، وأمن السبل، وذهاب التظالم بالكلية ما يعلم به أن تدبير الشارع هو التدبير المشتمل على مصالح المعاش والمعاد، وبعكس هذا ما يخيل له الشيطان أن تدبير المماليك، وصلاح الأمة بالقوانين الشيطانية، والرسوم الطاغوتيه أصلح لها، وأول من أدخل هذه القوانين الكفرية إلى المماليك الإسلامية جنكيز خان (1) ملك التتر، فانه لما كان هو أهل مملكته لا يرجعون إلى شريعة من الشرائع، ولا ينتمون إلى دين من الأديان اخترع لهم كتابا من عند نفسه سماه"إلياسا" (2) ذكر فيه امورا من التدبيرات الخاصة والعامة، ومراسيم المملوك والرعية، وألزم رعيتهم بها وعملهم عليها بالسيف، ثم إنه أسلم بعض ذريته وبقي
_________
(1) كان اسمه"نمرجي"ثم لما عظم سمي نفسه جنكيز خان، توفي سنة624ه ..... وهو السلطان الأعظم عند التتار وهو الذي وضع للتتار- إلياسا-"بالعربية سياسة"يتحاكمون اليها ويحكمون بها وأكثرها مخالف للشرائع الله تعالى وكتبه فلهذا لا يعرف أب لأن أمه زعمت أنها حملته من شعاع الشمس والظاهر أنه مجهول النسب.
انظر: "البداية والنهاية" (13/ 127 - 130).
وانظر غزو جنكيز خان لمناطق من العالم الإسلامي أحداث سنة 617 هـ ... في تاريخ ابن الأثير (12/ 137 - 135).
(2) وقد ذكر علاء الدين الجويني نتفا من (إلياسا) أنه من زنا قتل، محصنا كان أو غير محصن، وكذلك من لاط قتل ومن تعمد الكذب قتل ومن سحر قتل، ومن تجسس قتل، ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل، ومن بال في الماء الواقف قتل، ومن انغمس فيه قتل ومن أطعم أسيرا أو سقاه أو كساه بغير إذن أهله قتل .. ومن ذبح حيوانا ذبح مثله .... "وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله، خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى (والياسا)؟؟.
"البداية والنهاية" (13/ 128).(8/3779)
فيهم الملك في أرض الإسلام حتى انفرضوا، وانتقلعنهم إلى غيرهم من سائر بطون التتر، ومن الجراكسة وأشباههم فعملوا فيها بهذا الكتاب في الأمور المتعالمة بالملك، مع إسلامهم وعملهم في غير ذلك بأحكام الشريعة المطهرة. والسبب في ذلك أن الشيطان سول اهم أن الملك لا يصلح بالتدبيرات الشرعية، ولا يقوم بغير تلك الرسوم الكفرية كما ذكر ذلك غير واحد من المتاجمين لتلك الدول كالمقريزي في الخطط والآثار (1) وغيره. وثم إن عامة مصر أدخلوا [4أ] على لفظ ذلك الكتاب شيئا مهما فقالوا سياسيا (2) وبعضهم يقلب الألف الآخرة هاء فيقول سياسة كما هو المعروف الآن، ثم تزايد الشر ووجد الشيطان المجال لما يرومه من الإضلال، فلم يدع مملكة من الممالك، ولا قطر من الأقطار إلا وفيه من هذه القوانين الكفرية نصيب. ومن عرف الأمور كما هي عرف ما وصفناه، وإذا أنكر العالم شيئا من تلك القوانين الطاغوتية على ملك أو أمير أجابه بأن هذه قوانين سلطانية، أو قواعد ملوكية، أو مراسيم دولية، وكأن هذه الشريعة المحمدية لم ترد إلا لتدبير الناس فيما يرجع إلى دينهم دون دنياهم، ولو عقلوا لعلموا علما يقينا أن صلاح أمور الدين والدنيا كله في الهدي المحمدي، والشرع المصطفوي.
وانظر ما وقع من واضع الكتاب إلياسا من التدبير الذي هو التدمير لأكثر العالم خصوصا هذه الأمة المرحومة، فان جنكيز خان- لعنه الله- كاد أن يستاصل الإسلام، وبمحق آثارأهله، فانه خرج من بلاده إلى ما وراء النهر كبخارى، وخوارزم، وسمرقند،
_________
(1) (2/ 220): كلمة أصلها (ياسة) فحرفها أهل مصر وزادوا بأولها سينا فقالوا سياسة وأدخولوا عليها الألف واللام فظن من لا علم عنده أنها كلمة عربية وما الأمر فيها وقد انتشرت بمصر والشام وذلك أن جينكز خان القائم بدولة التتر في بلاد الشرق لما غلب الملك أونك خان وصارت له دولة قرر قواعد وعقوبات أثبتها في كتاب سماه (ياسه) ومن الناس من يسميه (يسق) والأصل في اسمه (ياسه) ولم تمم وضعه كتب ذلك نقشا في صفائح الفولاذ وجعله شريعة لقومه فالتزموه بعده حتى قطع الله دابرهم وكان جنكز خان لا يتدين بشيء من أديان أهل الأرض ...... فصار (الياسه) حكما بقي في أعقابه لا يخرجون عن شيء من حكمه.
(2) انظر التعليقة السابقة.(8/3780)
وسائر تلك المدائن العظام فكان يقتل الرجال والنساء والصبيان حتى لا يبقى من أهل المحل صغير ولا كبير، ثمثم يخرب الدور ويغور النهور، ويقطع الشجر، ويهدم المساجد والبيع، والكنائس، فلا يخرج من بلد من البلدان، أومدينة من المدن إلاوقد صارت خاويةليس بها منزل ولا نازل. ثماستمر على هذا الأسلوب حتى دمرأكثر الأرض بطولها والعرض خصوصا بلاد الإسلام، ثم وافاه الحكام، وأراح الله منه أهل الأسلام، فلزم طريقته الملعونة، وتدبير المشؤم الممتلك بعده من أولاده، ثم الممتلك بعدهم من ولد ولده، ومنهم المسمى هولاكو (1) فإنه وصل إلى بغداد وقتل من فيها من الإمام والمأموم والعام والخاص الا من تأخرأجله ففر بنفسه ثم اختفى، ثم اقتفى هذى الطريقة القبيحة والتدبير الكفرى تيمورلنك، فأنه لا يعمل فى تدبير ملكه بغير كتاب الياسا، فدمر جميع الممالك التى وراء النهر، واستأصل بالقتل اكثرأهلها، ثم عطف على ممالك الشام والعراق والروم والهند، وكثير من البلاد، ففعل تلك الأفاعيل، وكان من مرسومه انه اذا فتح قطراً من القطار، اومدينة من المدن الكبار يهدي [4ب] إليه كل فرد من أفراد جنده رأسين من رؤس بنى آدم بعد أن يقطعها؛ وجنده حوالى ثلاثمائة ألف، وقد تذيد على ذلك، فكانوا يعطفون على من تحت ايديهم من الأسرى والضعفاء وسائر من بقى فيقتلون فى ساعة من النهار نحو ستمائة ألف شخص، وهذا بعد تأمينه للبلد الذي يفتحه، وخروجه منه. وأماعند فتحه قبل تأمينه فلا تذال السيول جارية من دماء المسلمين، وتيمور هذا هو من اعظم الملوك المتقدمين بأحكام الياسا وقوانينه، فأنظر ما فعله واضع هذا الكتاب من إراقة الدماء، وهتك الحرام، وتخريب الديار، وتغوير الأنهار، وقطع الأشجار، وتعميم جميع القطار بالمخاوف الكبار، حتي انقطعت السبل، وتعطلت المدن، وفقر اكثر العالم، وما نشأ عن تدبيره من المصائب، وما لقى به العباد من المتاعب، وكيف صارت الأرض وأهلها بسببه فى أمر مرتج، ثم انظر ما فعله المقتدون به
_________
(1) انظر"البداية والنهاية" لابن كثير (13/ 40، 247، 253).(8/3781)
من بعده كأولاده واحفاده، وتيمور والجراكسة (1) وأشباههم! فإنها صارت الفتن تغلى كغلى المراجل، ولم يأمن أحد من الناس فى الغالب على دمه ولاعرضه ولا ماله، ثم انظر كيف كان نظام العالم بالتدبير المحمدى! وكيف كانت الأيام النبوية التى هى منشأ الأحكام الشرعية، ثم كيف كان الصحابة ومن بعدهم من المقتدين بشرعة-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-لا من خرج عن ذلك الى السياسة الكفرية! ..
والحاصل: أن من تأمل حق الأمور التأمل فيما يرى ويسمع علم علماً لا يخالطه شك، ولاتخالجه شبهة أن السياسات الشرعية، والتدبيرات النبوية هى اصل صلاح الدين والدنيا، ومنبع كل خيرمن خيرى الدارين، وأن غيرها أصل فساد الدين والدنيا، ومنبع كل شر من شري الدارين:
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح
إذا تقرر هذا عرفت ان تغريم العباد لرجاء المصلحة هو عين المفسدة كما قدمنا ذلك فى الكلام علىحدود البلدان، وما أحق العالم العامل بعلمه، الشحيح على دينه بإجتناب هذه الجهالات والفرار عن مهالك هذه الضلالات! إذا لم يتمكن من طمس آثر السياسات الكفرية، وتشييد آثار السياسات النبوية فأقل الأحوال أن يربأ بنفسه عن أن يكون من المقتدين لجنكيز خان ومن [5أ] تبعه من حزب الشيطان، فإنه بلا ريب عن ذلك مسؤول بين يدى رب العزة فى حضور بنى الأمة فإذا قيل له: بأى شرع اخذت مال هذه الأرملة، وهذا الصبى، وهذا [ .... ] أهل هذه القرية؟ فماذايكون جوابه؟ إن قال: اردت التوصل بذلك إلى قمع الأشرار، وصلاح الديار، فأى سرية فى احد هؤلاء الثلاثة! فإن رام المجادلة والمحاجة فهو لايزيد على أن يقول: اخذت بنوع من انواع المناسبة المدونة فى علم الأصول (2)، وما أحقه عند أن يقول هذه المقالة أن يقال
_________
(1) المقصود بهم: غير الموحدين منهم.
(2) تقدم توضيحه(8/3782)
له: لا حياك الله ولا بياك، كيف استبدلت بنصوص القرآن الكريم، والسنة المطهرة هذا البدل، ورضيت بالدون، وأعطيت الدنية، واستبدلت العين الصحية بالعور! هات عرفنا ما هوهذا المناسب الذى تذعم؟ هل وجدته في كتاب الله، أوأخذته من سنة رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو هو من ذلك الهذيان المنصوب فى وجه السنة والقرآن؟ ثم هذا المناسب الذى آثرته على النصوص قد صرح أهل الأصول (1) وجميع الأئمة الفحول أنه لايجوذ العمل به فى أدنى حكم من الأحكام الشرعية، فضلاً عن مثل هذا الحكم الذى هو أخذ للمال بلا برهان ولا قرآن، ولاعقل ولانقل، رسموه فى مؤلفاتهم بالمناسب الملغى (2) أى الذى يجب إلغاء العمل به، وترك التعويل عليه بمصادمته للنصوص، فحينئذ تطيح الحجج والأعذار، وتحق الكلمة على من خالف شريعة المختار.
دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن فى دينه كمخاطر
فالحاصل أن الحكم بأخذ أموال العباد بدون وجود المناط الشرعى من الحرام البين عند كل من له دربة بأحكام الشرع، وعلى فرض من فعل ذلك، أوقرره، أوأفتى به قاصر الباغ غير متميذ عن طبقة الرعاع، فأقل الأحوال أن يكون قد سمع قوله-صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "والمؤمنون وقافون عند الشبهات" (3) "دع ما يريبك الىمالاً يريبك" (4) اللهم نق كدورات قلوبنا بمياه الشرع، وأصقل مرآة بصائرنابصقيل السمع. فإن قلت: أين لنا كيف يصنع من ولى قطراً من الأقطار، قد تعارف أهله، وإن باب حله وعقده على الإلذام لمن جاور بضمان ما ذهب فيها من دم أو مال، ثم إذا أراد أن يعلمهم السياسة الشرعية فماذا يصنع؟
_________
(1) أنظر: "إرشاد الفحول"
(2) تقدم توضيحه
(3) تقدم تخريجه
(4) تقدم تخريجه(8/3783)
قلت: إن تمكن من قطع تلك الحبائل الشيطانية، وتمهيد [5ب] القواعد القرآنية بأى ممكن فهوالواجب عليه، فليثت الثمرة للعلم إلا حمل الناس على الشريعة الغراءالتى يقول فيها-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "تركتم على الواضحة ليلها كمهارها ولايذيل عنها إلاجاحد، وعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين الهادين عضوا عليها بالنواجذ" (1)
وإذا تعذر عليه ذلك تعذرا تقوم به بحجة بين يدي الله فليعمل بقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت هوى متبعا، وشحا مطاعا، وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن كالقبض على الجمر، أجر العامل فيهن أجر خمسين بعلا" (2) قيل يا رسول الله، منا أو ممن بعدنا. قال: "منكم".والحديثان صحيحان ثابتان في دواوين الإسلام.
وأما السؤال عن كيفية عمله إذا أراد أن يعرفهم السياسات الشرعية فيقول لهم فيهما ذهب في الطريق من نفس أو مال، أو موطن ولم تكمل شروط القسامة أن الذي جاءت به هذه الشريعة العراء أن هذا غير مضمون على أحد من الناس، وأنه قد قال قائل من أهل الشريعة أنها لا تهدر دماء المسلمين، ةأنه يجب ضمانها من بيت مالهم، ولكن لا يدع جهدا في الكشف والفحص عن الفاعل، فإن هذا الكشف هو من السياسة الشرعية لا الكفرية.
ثم إذا سأله سائل عن إصلاح فساد الطريق كيف يكون، وبأى سبب يتوصل إلى
_________
(1) تقدم تخريجه مرارا. وهو حديث صحيح.
(2) أخرجه ابن ماجه رقم (4014) والترمذي رقم (3060) وأبو داود رقم (4341) وهو حديث ضعيف.
انظر الضعيفة رقم (1025) لكن فقرة: "أيام صبر .... "فهي ثابتة انظر الصحيحة رقم (494، 957).(8/3784)
ذلك؟ قال: تأمين السبل، والأخذ على يد الظالم هو الذي شرع الله لأجله نصب الملوك، وهو الركن الأعظم من أركان السلطنة، بل الشرط الأهم من شروط الزعامة، بل هو الأمر الذي إذا قام به سلطان المسلمين لم يحتج معه إلى غيره، وهذا وإن استبعده من اعتقد اعتبار شروط كثيرة العدد فهو إن نظر حق النظر لم يخف عليه صحة ما قلناه، وإذا كان الأمر هكذا فإصلاح طرقات المسلمين، وتامين سبلهم من أهم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو واجب على السلطان خصوصا (1) وعلى المسلمين عموما،
_________
(1) الآثار المترتبة على ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:
1) وقوع الهلاك، وذلك على جهتين:
أ - أن المعاصي التي تظهر ولا تنكر سبب للعقوبات والمصائب.
ب- أن السكوت ذاته يعد معصيه يستحق صاحبها العقوبة كما أنه يدل على التهاون في دين الله تعالى.
هذا إذا كان الساكت عنه فردا من أفراد المجتمع، أما حين يسكت المجتمع بأكمله فإن الغقوبة تعم في هذا الحال.
2) انتفاء وصف الخيرية عن هذه الأمة.
3) أنه يجريء العصاه والفساق على أهل الحق والخير، فينالون منهم ويتطالون عليهم، وهذا مشهد ملموس في هذه الأيام- والله المستعان.
4) أنه سبب لظهور الجهل واندراس العلم: وذلك أنه إذا ظهر المنكر ولم يوجد من ينكره نشأ عليه الصغير وألفه وظن أنه من الحق كما هي الحال في كثير من المنكرات اليوم.
5) أن هذا الأمر تزيينا للمعاصي عند الناس وفي نفوسهم لأن صاحب المنكر كالبعير الأجرب يختلط بالإبل فتجرب جميعا بإذن الله والناس كأسراب القطا قد جبل بعضهم على التشبه ببعض.
هذا بالإضافة الى ما يوجد داخل النفس من الأمر بالسوء، وحب الشهوة وما من وجود المنكر في الخارج.
6) عدم إجابة الدعاء.
7) سبب ظهور غربة الدين واختفاء معالمه وتفشي المنكرات والكفر والظلم، وهذا هو الذى أشار إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "بدأ الإسلام غربيا وسيعود غربيا كما بدا فطوبى للغرباء" أخرجه مسلم رقم (145).
8) إلف المسلم لهذه المنكرات المنتفشية: لكثرة مشاهدته لها، والأمر كما قيل" كثرة المساس تبلد الإحساس"فما تعود للقلب تلك الشفافية والحساسية عند رؤية المنكر.
انظر: "تنبيه الغافلين" (ص93 - 94)، "مجموع الفتاوى" (28/ 138 - 142، 215).(8/3785)
فعليه وعليهم أن يقوموا بذلك أثم القيام، ولو جماعة من المسلمين في جوانب الطرق المخوفة لتأمين المارة، ويدفع إليهم من بيت مال المسلمين، أو من خالص أملاكهم إذا لم يوجد في بيت المال ما يقوم بذلك، فعلى العالم أن يقول هكذا إذا سئل عن ذلك، وينهى الأمر إلى السلطان [6أ] الأعظم، من ينوب عنه، وياخذ نفسه بإنكار ما علمه منكرا، أو الأمر بما علمه معروفا بما يبلغ إليه قدرته، وليس عليه بعد ذلك شىء، وإذا لم يطع فيما يقول فقد حصل له أجر من تكلم بالحق، وفاز بمقام العلماء العالمين، فهذه الطريقة تحفظُ دينَه من المهالكِ، ويستفيدُ في ولايته ربحَ ما يقدرُ على القيام بهِ كما ينبغي، وليس من الورع أن يضيقَ صدرُهُ عند عروض ما يخرجُ عن طاقته، حتى يحملَه ذلك على تركِ ما يدخلُ تحتَ مقدرته، أو تعطيلِ نفسِه عن القيامِ في مركزِ الأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المنكر، فإنَّ ذلك لو كان مسوِّغًًا للتعطيلِ والخروجِ عن المراكزِ الدينيةِ لتعطيل الشريعةِ، إذْ ما من زمانٍ من الأزمنةِ، ولا مكان من أمكنة الأرضِ إلاّ وفيه ما يُعْرَفُ وما يُنكَرُ، اللهم إلاَّ أنْ يكونَ ذلك العالِمُ قد عرف بالتجربةِ وطولِ المدة أنه لا تأثيرَ لبقائه في صغيرٍ ولا كبيرٍ، ولا جليلٍ، ولا خطيرٍ، فليس له في التلبُّسِ أثوابِ الزورِ فائدةٌ، كما أنَّه لا يعودُ إليه مِنْ خيرِها عائدةٌ، والأحوال تختلفُ باختلافِ الإراداتِ، وإنما الأعمال بالنيات. وما ذكرتُم ـ دامت لكم الإفادة ومنكم ـ من أنه إذا ادَّعى ورثةُ رجلٍ على أهل بلدةٍ قَتْلَ مورِّثهم يريدونَ بذلك ثبوتَ القسامةِ عليهم، وخَفَتْ قرائنُ صادقةٌ بوقوعِ القتلِ وصادقَ بعضُ أهل البلدينِ بوقوع القتلِ في بلدهم، فهل يقالُ: مصادقةُ البعض منهم إقرارٌ على من أقروا بشهادةٍ على الباقينَ، فيثبتُ بها وجودُ القتيلِ، وإذا ثبت ثبتِ القسامةُ بشروطها أم لا؟ ثم إذا طلبتَ منهم اليمينَ لا(8/3786)
وُجِدَ قتيلاً في بلادهم، ونكَل البعضُ منهم، هل يكونُ حكمُ النكولِ حكمَ المصادقةِ في كونها شهادةً على الآخرين أم يفترقُ به الحال بين المصادقة والنكول؟ انتهى.
أقول: اعلمْ أنَّ القسامةَ الشرعيةَ لا تثبتُ إلاَّ بعد ثبوتِ وجودِ القتيلِ في محلٍّ يختصُّ بالمدَّعى عليهم قتيلاً أو جريحًا، وثبوتُ الوجودِ يكونُ بأحدِ المناطاتِ الشرعيةِ. إمَّا الإقرارُ من جميع المدّضعى عليهم، أو نكولُ جميعِهم، أو شهادةُ عَدْلَيْنِ، أو رجلٍ وامرأتينِ، أو رجلٍ ويمينِ المدَّعي على وجود القتيلِ هنالِكَ كذلكَ على وجه بحكمِ الحاكمِ بأحد تلك الأمورِ، أو عَلِمَ الحاكمُ بذلك على ما هو الحقُّ كما قررته في غير هذا الموضعِ، فإنْ أقرَّ البعضُ وأنكرَ البعضُ، أو نكلَ البعضُ وحلفَ [6ب] البعضُ من أهل القسامةِ كما في مسألة السؤال.
فاعلم أنَّ إقرارَ من أقروا نكولَ مَنْ نكلَ هو مستنَدٌ للحكم بالوجودِ، والوجودُ أمرٌ واحد، وهو يستلزمُ ثبوتَ القسامةِ على الجميع، فإذا كان ذلك الإقرارُ أو النكولُ بحيث يصلُح مُسْتَنَدًا لحكم الحاكمِ بالوجودِ ثبتتِ القسامةُ بالحكم بالوجود بذلك المستندِ، ولا وجود الشهادةِ، أو عِلْمِ الحاكمِ، لأنَّه قد ترتَّبَ الحكمُ بالوجود على إقرارِ البعضِ، أو نكوله كما ترتَّبَ الحكمُ بالوجودِ على شهادةِ الشهودِ، أو علم الحاكمِ. والعلمُ بالوجودِ هو أمرٌ واحدٌ كما قدمنا، فلا تثبتُ به القسامةُ على بعض أهل القسامةِ دون بعض، بل تثبت على الجميع.
فإن قلتَ: الشهادةُ وعِلْمُ الحاكم هما مناطٌ للحكمِ على المشهودِ عليه بخلافِ الإقرارِ والنكولِ فإنّهما مناطٌ للحكم على المقرِّ والناكلِ دونَ غيرهما.
قلت: قد صحَّ كلُّ واحدٍ منهما مناطًا للحكم بالوجود كما صلحتِ الشهادةُ مناطًا لذلك، ولا يضرُّ إنكار مَنْ أنكر، وحَلْفُ مَنْ حَلَفَ، كما لا يضران إذا كان المناطُ هو الشهادةَ.
فالحاصل: أنَّ المعتبرَ ما يصلحُ مستندًا لحكم الحاكمِ بالوجودِ، هذا من غير نظرٍ إلى(8/3787)
تنزيل إقرارِ المقرِّيْنَ، أو نكولِ الناكلينَ منزلَة الشهادةِ على المنكرينَ أو الحالفينَ، مع أنه لو قيلَ بذلك لكانَ التنزيلُ صحيحًا رجيحًا، فإنَّ المقِرَّ إنما أقرَّ بما قد صحَّ لديه بإحدى الطُّرقِ المفيدةِ لمضمونِ الإقرارِ، فإقرارُهُ إخبارٌ لنا بالوجودِ، وكذلك الناكلُ إنما نَكَلَ عن الحَلِفِ على عدمِ الوجود لكونهِ قد علم نقيضَه، وهو الوجودُ، فكأنه قد أخبرنا بوجود القتيلِ. ولا شكَّ أنَّ هذا أدخلُ في إفادةِ الوجودِ، وانثلاجِ الصدرِ به من شهادةِ بالوجود إذا اتفقتِ الحواملُ على ما وقعَ من المقرينَ والمنكرينَ من محاباةِ المدَّعي أو العداوةِ لأهل المحلِّ، أو نحو ذلك. ولا ريبَ أنَّ الشهادةَ على النفسِ، وعلى الأهل أولى من شهادة الأجانبِ على الأجانبِ. ولم يبقَ إلاَّ المنازعةُ في اشتراطِ لفظِ الشهادةِ، والإقرارُ والنكولُ ليسا من ألفاظِها، وهذه منازعةٌ فقهيةٌ لا ترجعُ إلى دليل شرعيّس ولا عقليٍّ ولا لغويٍّ، فإنَّ الشهادةَ هي الإخبارُ بالشيء بأيّ صيغةٍ [7أ] كانت، ودلالةُ الخبرِ على مدلولهِ قد يكون بالمطابقةِ، وقد يكون بالتضمينِ، وقد يكون بالالتزامِ. وإلى هنا انتهى الجوابُ عن السؤال.
قال في المنقول منه:
حرره المجيبُ ـ غفر الله له ـ في نهار الاثنينِ رابعَ شهرِ الحجةِ سنة 1212 انتهى من خط المؤلف [7ب].(8/3788)
(120) 29/ 2
سمط الجمان فيما أشكل من مسائل عقد الجمان
تأليف
الحسين بن يحيى الديلمي
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(8/3789)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "سمط الجمان فيما أشكل من مسائل عقد الجمان".
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" وبه نستعين، وصلى الله على سيدنا محمد الأمين والسلام عليه وعلى آله الأكرمين، قرأت السؤال .. ".
4 - آخر الرسالة: " ... حرره في شهر ربيع الآخر سنة 1214 بقلم مؤلفه حسين بن يحيى بن إبراهيم الديلمي عفا عنه وعن آبائه والمسلمين أجمعين".
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 11 صفحة + صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصحفة: 27 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
9 - الناسخ: المؤلف: حسين بن يحيى بن إبراهيم الديلمي.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/3791)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين، وصلى الله على سيدنا محمد الأمين، والسلام عليه وعلى آله الأكرمينَ. قرأتُ السؤالَ الوارد على القاضي العلامة محمدِ بن علي الشوكاني في شأنِ الحدودِ التي في البلاد اليمنيةِ، وهي المحجَّراتُ لمنع لغير منها إلى تجمُّعِها ما حولَ القرية، أو الحدودِ التي بين المدينة وما يُنْسَبُ إليها من البلاد، وبين المحلِّ الآخَرِ، فحصل من جواب القاضي ـ عفاه الله تعالى ـ المنعُ، ورأيتُ كلامًا ذكره القاضي أحمدُ بن يحيى حابس (1) ـ رحمه الله ـ وهو ممن عاصَرَ الإمام القاسِمَ بنَ محمد ليضمنَ تقريرَها حيث قال في المقصد الحسن (2): وإجراءُ المحاجرِ مجرى الإملاكِ إمَّا للعرف بأنَّ ضَرْبَ الأعلام فيها التي يعتادونَها فيها يوجبُ الملكَ، لأنَّ للعرفِ مجالٌ، وأيُّ مجال أو من باب النظرُ في تسكينِ الدَّهْمَاءِ.
قلتُ: هنا قولٌ حسن، وقد ورد في هذا حديثانِ:
أحدُهما: "المسلمون شركاءُ في ثلاثة: في الماء، والكلأ، والنار" (3).
الثاني حديث: "مَنْ سبقَ إلى ما لم يَسْبِقَ إليه مسلمٌ فهو له" (4) فيكون الأولُ عامًا محمولاً على عدم السبق، والثاني: خاصٌّ أنَّ من سبق إلى مباحٍ مَلَكَهُ. ولا فَرْقَ بين تقدُّم العامّ وتأخُّره، أو مع جهل التاريخِ. هذا المختارُ عند جماعة من أهل الأصول، ورجَّحه ابنُ الإمام في الغاية (5)، وإليه أشار القاضي محمد بهران (6) في الكافلِ (7)، فتكون
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) المقصد الحسن والمسلك الواضح السنن، للقاضي أحمد بن يحيى حابس الصعدي.
" مؤلفات الزيدية " (3/ 48).
(3) تقدم تخرجه.
(4) تقدم تخريجه.
(5) انظر "مؤلفات الزيدية" (2/ 292).
(6) هو محمد بن يحيى بهران الصعدي.
(7) "الكافل بنيل السؤل". انظر: "مؤلفات الزيدية" (3/ 370).(8/3795)
الحدودُ المتحجرة من هذا، لسبقِ الحق بالتحجرِ لمن حازه، فإن لم يُسَلَّمُ هذا كان من القياس المرسلِ (1)، وهو كما حقَّقَهُ في شرح الجمع ومَتْنِهِ حيثُ قال: والمناسبُ الملائم لأفعال العقلاءِ عادةً. وقيل ما يجلبُ نفعًا ويدفع ضررًا، أو قال بعضُهم: ما لو عرضَ على العقول لتقلَّتْه بالقبولِ كمسألتنا.
والمناسبُ (2) ضروريٌّ فحاجي فتحسيني بالضروري كحفظ الدين، والنسبِ (3)، والمال (4)، والعِرض، والحاجي كالبيع والإجاربة، وقد يكون الحاجي ضروريًّا كالإجارة لتربية الطفل، والذي نحن فيه قد دعت إليه حاجةٌ ضرورية فيها حفظُ النفوس لما يؤدي إليه نفي الاشتراك إلى الفتن، وبسفك الدماء التي لا تنتهي إلى غاية. هذا جوابٌ فيه يوجبُ التفصيل، ولنا أن نجيب بما يريده استظهارًا وتتميمًا للفائدة فنقولُ: [1أ].
_________
(1) انظر: "إرشاد الفحول" (ص790 - 796)
(2) تقدم ذكره.
(3) في هامش المخطوط حفظه بحد الزنا.
(4) في هامش المخطوط حفظه بالقطع للسارق.(8/3796)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحدَه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ:
فإنه ورد سؤالٌ على القاضي العلامةِ، علامةِ الزمن، المحيي سنةَ النبيِّ المؤتَمَنِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ عِزِّ الإسلام محمد بن علي الشوكاني ـ عافاه الله ـ وزاد في فوائده في شأن الحدود التي وُضِعَتْ في جهة اليمينِ، ولم أقف فيه على نصٍّ لأحدٍ من الأئمة ذكره صاحبُ المقصدِ الحسنِ (1)، وكان جوابُ القاضي مشتملاً عليه من جهتين:
الأولُ: في تحريم وضْعِه بالأدلة الصحيحة.
والثاني: يعلن القسامةَ بأهله وما يلحقهم من الضمان بسببه، وضعنا السؤالَ بأكثرِ لفظِه.
وحاصلُ السؤال عن شأن الحدودِ المقسومِ من الأودية التي ليست بمحياةٍ، وصبَّابات السيول والجبال بين أهل القرى المحيطة بها، وليجعلَ لأهلِ هذه القريةِ بعضًا لا يتعدَّاه أهلُ القرية الأخرى، بل يختصوا بالكلأ النابتِ فيه رعيًا، واحتشاشًا، واحتطابًا دون أهل القرية الأخرى، فهل يسوغُ ذلك؟ وهل يصحُّ تعلُّق القَسَامةِ ومعاقبةُ أهله بسبب ما يقعُ فيه من قتلٍ ونهب، وتغريمِهم؟ فقد اشتمل السؤالُ على ثلاث مسائلَ:
الأولى: هل يسوغُ شرعًا قسمتُه قبل أن يسبق إليه أحدٌ؟ سواءً أهل القريتين ونحوهما؟ فأجاب القاضي ـ تولاه الله تعالى ـ بتحريم ذلك التحجُّرِ والقسمةِ، مستدِلاً عليه بحديث "المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماءِ، والنار، والكلأ" (2) أخرجه أحمد وأبو داودَ من حديث أبي خداش ثم قال.
_________
(1) أحمد بن يحيى حابس الصعدي.
(2) تقدم تخريجه مرارًا.(8/3797)
الوجه الثاني: أنه قد ثبت عنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: النهيُ عن موضع الكلأ من حديث أبي هريرة أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال: "لا يمنعُ الماءُ والنارُ والكلأُ" (1) وما في معناه.
الوجه الثالثُ: لأنه قد ثبت عنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ المنعُ من الحِمى لما ثبت من حديث الصَّعبِ بن جثامةَ: أنَّ النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ حَمَى النقيعَ بالنون، وقال: "لا حمى إلا لله ولرسوله" (2).
الوجه الرابع: أنه قد ثبت عنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من سبقَ إلى ما لم يُسْبَقْ غليه فهو له" (3) أخرجه أبو داودَ.
فنقول: نعم هذه النصوصُ صحيحةٌ دالةٌ على تحريم التحجُّرِ على العموم، ولكنَّ دلالةَ العامّ عند أهل الأصول ظنيةٌ، ولهذا خُصِّصَ تخصيصًا ظاهرًا متصلاً لقوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "لا حمى إلا لله ولرسوله" (4) فالذي فهمنا من نصِّه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أنه لدفع الضر الحاصلِ بالمنع، فإذا زالتِ العلةُ جاز التحجُّر والمنعُ. وقد فهِمَ عمر بن الخطاب هذا لأنَّه حمى شرف الرَّبذة للمصلحة العامة أعني خيلَ المجاهدين والربذة.
وعن أسْلَمَ مولى عمر أنَّ عمرَ استعملَ مولى له يُدْعى هنيًّا على الحِمى فقالَ: يا هنيُّ [1ب] أُدْخِلُ ربَّ الصريمةِ، وربَّ الغنيمةِ وإياي، ونُعْمَ بنَ عوف، ونُعْم بنَ عفان، فإنَّهما إن تهلكْ ماشيتُهما يرجعان إلى نخل وزرع، وربُّ الصريمة وربُّ الغنيمةِ إن تهلكْ ماشيتُهما يأتينني ببينةِ يقول: يا أمير المؤمنين: أفتارِكُهم أنا؟ لا أبا لك إلى آخر كلامه" أخرجه البخاريُّ (5). وقوله الصريمةُ والغنيمةُ يريد صاحبَ الإبلِ القليلةِ والغنمِ القليلةِ،
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2370) وطرفه ي رقم (3013) وأبو داود رقم (3083، 3084) وأحمد (4/ 37، 71، 73). وهو حديث صحيح.
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم تخريجه.
(5) في صحيحه رقم (2370) وقد تقدم.(8/3798)
ذكره في النهاية. ودليل عمرَ فِعْلُ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بلغنا نَّ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ حمى النقيعَ (1)، والنقيعُ ما يستنقعُ فيه الماءُ أي يجمع، فإذا جاز التخصيصُ بالحمى للمصلحةِ العامةِ جاز تخصيص النصِّ بالقياس المرسلِ ولا يكون من الملْغَى بل من الملائم، لأنَّ القياسَ المرسلَ ما لم يشهدْ له أصلٌ معيَّنٌ لكنه مطابقُ مقاصدَ الشرعِ الجليلةِ، ونظيرُهُ قتلُ المترس المسلم (2)، وغايتُه للمصلحةِ، وهو حفظ عامةٍ من المسلمين، وما يحصل من المفسدةباستئصال قطرِهم حتى ينالَ المترسَ بهم ما نال إخوانَهم المسلمينَ، وهو مصادِمٌ للنصوصِ فيت تحريم قتل المسلمِ كتابًا وسنةً، ولم يكن الداعي إلى قتله إلاَّ الضرورة، ورعايةُ المصلحةِ.
وكما فيتحريم نكاحِ الفاجرِ عن الوطئ من يقضي لتركِه، وكما جاز قتلُ الزنديقِ (3) إذا ظفرنا به ونطقَ بالشهادتينِ، لأنَّا قد علمنا من مذهبهم التقيةَ، وقتلُه بعد قوله: لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ حرامٌ لولا الاستنادُ إلى القياس، وهذا قول جماعةٍ من العلماء. وخالفَ فيه كثيرٌ كالمنصور بالله، [ ...... ] (4) والجصَّاصّ، وغيرهم، كما ذكره في جنة الفصول، لكنْ فيه استظهارٌ، فثَبتَ اعتبارُهُ عندنا، وجاز عن ابن عباس قال: كان الطلاقُ على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وابي بكر بكر وسنتين من خلافة عمر طلاقَ الثلاثِ واحدةً، فقال عمر رضي الله عنه: "إنَّ الناس قد
_________
(1) النقيع: موضع حَمَاهُ لنعم الفيء وخيل المجاهدين، فلا يرعاه غيرهما. وهو موضع قريب من المدينة، كان يستنقع فيه الماء: أي يجتمع.
" النهاية " (5/ 108).
(2) انظر "المغني" (13/ 141 - 142).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5057) ومسلم رقم (154/ 1066) عن علي بن أبي طالب قال: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فأين لقيتموهم فاقتلوهم".
(4) كلمة غير واضحة في المخطوط.(8/3799)
استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناهُ عليهم فأمضاه عليهم" (1) رواه مسلم.
والإصلاحُ في صنع عمرَ النظرُ في تتابع الناس في الطلاق، كما روي مرجح القولِ بالتتابع، وأنَّ الثلاثَ تكون ثلاثًا مع عدم رجعةٍ متخللةٍ، فنظرَ المصلحةَ في ذلك وترك النصَّ، ولم يُرْوَا التنكيرُ عليه، فلو كان خطأ لأنكر عليه، كقصة الجاريةِ (2) التي أرادَ جَلْدَهَا وهي حاملٌ فقال له أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ: هذا [2أ] سلطانُكَ عليها، فما سلطانُك على ما في بطنِها! فرجع، وقال: "لا أبقاني لمعضلةٍ ليس فيها عليُّ بن أبي طالب". هكذا قولُهُ أو معناهُ.
وكان الأذانُ بحيَّ على خير العمل، ثم أمر عمر بحذفِ هذه الكلمةِ، وري عن الباقر قال: كانت هذه الكلمةُ في الأذان، فأمر عمر أن يكفّثو الئلا يتثبطَ الناس عن الجهاد، ويَتَّكِلُوا على الصلاة، وكذا في حاشية السعد على شرح العَضُدِ بالإسناد إلى من رواه عن عمرَ أنه كان يقولَ: "ثلاثٌ كُنَّ على عهدِ رسولِ الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أن أُحَرِّمُهُنَّ، وأنهَى عنهنَّ: متعةُ الحجِّ (3)، ومتعةُ النكاحِ (4)، وحيَّ .....................
_________
(1) انظر الرسالة رقم (107)
(2) أخرجه مسلم رقم (34/ 1705). وقد تقدم.
(3) نهى عمر رضي الله عنه عن التمتع في الجمع لم يكن نهيى تحريم، وإنما كان بيانً لما هو أفضل. انظر "موسوعة فقه عمر" (ص336 - 337).
(4) نكاح المتعة أن يتزوَّج الرجلُ المرأة مدة، مثل أن يقول: زوَّجتك ابنتي شهر أو سنة، إلى انقضاء الموسم، أو قدوم الحاجِّ، وشبهه، سواء كانت المدة معلومة أو مجهولة، فهذا نكاح باطل.
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (9/ 181): الصواب أنَّ تحريها وإباحتها وقعا مرتين، فكانت مباحةً قبل خيبر ثم حُرِّمتْ فيها، ثم أبيحتْ عام الفتح وهو عام أوطاس ثمَّ حرمت تحريمًا مؤبدًا، وإلى هذا التحريم ذهب أكثر الأمة وذهب إلى بقاء الرخصة جماعة من الصحابة وروي رجوعهم وقولهم بالنسخ ومن أولئك ابن عباس ـ أخرجه البخاري رقم (5116) وري عنه بقاء الرخصة ثم رجع عنه إلى القول بالتحريم، قال البخاري في صحيحه (9/ 167 آخر الحديث رقم 5119) بيَّن عليَّ رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه منسوخ، وأخرج ابن ماجه رقم (1963) عن عمر رضي الله عنه بإسناد صحيح أنَّه خطب فقال: إنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أذن لنا في المتعة ثلاثًا ثمَّ حرمَّها، والله لا أعلم أحدًا تمتَّع وهو محصنٌ إلا رجمته بالحجارة، وقال ابن عمر رضي الله عنهما نهانا عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما كنَّا مسافحين، إسناده قويّ".
قال الحافظ في "الفتح" (9/ 169): وقد رُوي نسخها بعد الترخيص في ستة مواطن.
الأول: في خيبر.
الثاني: في عمرة القضاء.
الثالث: عام الفتح.
الرابع: عام أوطاس.
الخامس: غزة تبوك.
السادس: في حجة الوداع.
أخرجه البخاري رقم (4216) ومسلم رقم (1407) والترمذي رقم (1121) والنسائي (6/ 125، 126) وابن ماجه رقم (1961) وأحمد (1/ 79) عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن متعة النساء، وعن أكل الحمر الأهلية يوم خيبر". وهو حديث صحيح.
وأخرج أبو داود رقم (2072، 2073) والنسائي رقم (3368) وابن ماجه رقم (1962) وأحمد (3/ 404، 405) وابن حبان في صحيحه رقم (4147) عن ربيع بن سبرة عن أبيه رضي الله عنه أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإنَّ الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنَّ شيء فليخل سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهنَّ شيئًا". وهو حديث صحيح.(8/3800)
على خير العمل (1). وكنَّ النساءُ يخرجْنَ إلى المساجد ثم منعن خشيةَ الفتنة (2) وقد قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "لا تمنعوا إماءَ الله مساجدَ الله" (3) هكذا
_________
(1) قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (23/ 103): "حيَّ على خير العمل" لم يكن من الأذان الراتب. وإنَّما فعله بعض الصحابة لعارض تحضيضًا للناس على الصلاة".
قلت: الزيادة في الأذان بـ"حي على خير العمل" من أشهر بدع الروافض وليس لها أصل من الدين البتة على هذه الصورة من المداومة عليها في الأذان الراتب لجميع الصلوات.
انظر: "رياض الجنة" للشيخ مقبل بن هادي الوادعي (ص163 - 164).
(2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 206). وانظر "المغني" (10/ 46 - 47).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (900) ومسلم رقم (136) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(8/3801)
أو معناه. فإذا عرفتَ هذا علمت أن الأحكام الشرعية لا تخلو من أن يكون لجلب مصلحة، أو دفع مفسدة علمنا ما لم تكن معرفتُه من ذلك، وبعضُها جهلنا وجهَ الحكمة فيه، فصحَّ أن يكون التحجُّرُ بين أهل القرى لمصحلة، وهي حَقْنُ الدماء، وتسكين الفتن، وإمكان أن يتصل الضعيفُ بحقِّه في رعي مواشيه، لأنَّ ترك التحجُّر إبقاءه على الأصل قد جُرِّبَ واخْتُبِرَ لا تخلِّي عن القتل وغيره. وحصولُ المفسدة بالتحجر هي أهونُ منها مع عدم التحجُّر على الوجه المعروفُ، فدفعُ أعظمِ المفسدتين بأهونها وجه مصلحة.
فإن قلتَ: المجيبُ قد ذكر ما معناه أنهم يقوموا بالشريعة المطهرة، وأنه يؤدي التأديب الشرعي من تعدَّى، وما أُمِرْنا الإَّ بما جاء عن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ كما روي أنَّ عاملاً لعمر بن عبد العزيز كتب إليه شاكيًا من عدم إمكان تقويم الرعيةِ فقال في جوابه: "قومهم بكتاب الله، فإنْ قاموا وإلاَّ فلا أقامَهم الله تعالى".
قلتُ: نعم هذا هو الحقُّ الحقيق بأن يُتَّبَعَ، لكنَّ زمانَنَا قد فسد أكثرُ الناس فيه، وخرجوا عن قانون الشريعة المطهَّرةِ، ولو رامَ ذو الولاية ممن ولاَّه الإمام أنْ يقوِّمُهم وينتصفَ من ظالِمِهم لمظلومِهم لم يكنْه ذلك، خصوصًا هذا الزمن فإنَّها قد تغيَّرتِ الأحوالُ من قصرِ أكثر الأحكامِ في بلاد القبائل، ويميلونَ إلى الأحكام الطاغوتية، فبهذا التحجُّرِ يقلُّ التعدِّي والقتلُ والنذضهبُ وغيرُهما، ولم يعلِ المجيبُ ـ عافاه الله تعالى ـ ما عند الطّغام من رفض الأحكامِ، وأخْذِ الأموال، وقَتْلِ النفوسِ تعدِّيًا وظلمًا، وصار أقصى الأحكامِ عليهم في هذا الزمن من المتعذِّر، وشاهدُ الحال منفقةٌ في بلاد عَنْسٍ (1) [2ب] أنَّ ثمة قريتين بينهما مراعي لكلٍّ ما قابل قريته، وما أحاط بها وبأموالها، ودفعَ كلَّ ما
_________
(1) عَنس: بفتح العين ثم سين مهملة، ناحية واسعة غربي ذمار بمسافة 41 كم نسبها الأخباريون إلى عنس بن زيد بن أدد بن زُرعة بن سبأ الأصغر وهي من المناطق الغنية بالآثار القديمة.
انظر: "معجم البلدان والقبائل اليمنية" (ص468). "البلدان اليمانية" (ص213).(8/3802)
يسقون منه مواشيهم فتعدت أخرى على الأخرى برعي ما اختصت به الأخرى، وسقى مائهم، وتركوا ما لديهم من الماء والعشب لوقت آخرهم إليه أحوج، ويمنعون أهل القرية الأخرى من الوصول إلى مراعيهم والسقي من مائهم. فهذا وقع.
وقد قسمت الحدود فكيف مع الشياع! وقد قرر ما وقع من عليه الاعتماد في تقرير ما حكم به الدولة القاسمية، والمتوكلية، والمؤيدية. وفي عصرهم من الأعلام من يمكنهم الحل والعقد والإبرام، وما ذكره المجيب ـ رحمه الله ـ من كلام السيد المفتي والشامي والقاضي عامر فهو الحق، فكيف وقع منهم التكلم قبل أن يشاهدوا الفساد الحاصل في هذا الزمن! والشريعة كما ذكرناه إنما مبناها على ما فيه المصالح ودفع المفاسد. انظر كيف حرم الشارع الربا (1)، ورخص رخصة العرايا (2) للحاجة! وكيف منه بيع المعدوم (3) وأجاز السلم للحاجة (4) وحرم أكل الأموال بالباطل إلا أن يكون عن تجارة بتراض (5)، وأجاز أخذ الشفعة (6) كرها، ووجب الحد على قذفه عائشة ـ رضي الله
_________
(1) تقدم ذكره. انظر الرسالة رقم (114).
(2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2192) من حديث زيد بن ثابت قال: "أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلا".
(3) وهو حديث ضعيف. وقد تقدم.
قال الشوكاني في "وبل الغمام" (2/ 129): روي الإجماع على معنى الحديث فشد ذلك من عضده لأنه صار متلقي القبول ويؤيده النهي عن بيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة، لأن العلة في ذلك هي كونه بيع معدوم.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2240، 2241) ومسلم رقم (127/ 160) من حديث ابن عباس قال: "قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلومٌ".
(5) لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].
(6) انظر الرسالة رقم (116).(8/3803)
عنها ـ وم يجلْ أبن أُبيٍّ لمصلحةٍ رآها كما وري (1)، وكلُّه لما بني عليه الكتابُ والسنةُ من الشريعةِ السمحةِ على أن التحجُّر الذي نحن بصدد ذِكْرِه. لم يكن في كلمةُ المخالفةِ والمنعِ الكاملِ لمن يريد، لأنَّ هذه حدودٌ هي لأهلها لا يَرِدُ عليها غيرُهم مما لنا، فالقسمةُ بينَهم لأجل سَبْقِهم إليه وهؤلاء قد سبقوا إلى تحجُّر ما عمروهُ وتحجروه محيطيًا وفرعًا وغيرهما والسبقُ من حيث الحقَّ كما دل عليه حديثُ أبي داودَ: "من سبق إلى ما لم يَسْبِقْ إليه مسلمٌ فهو له" (2). أخرجه أبو داود.
وهاهنا يسلِّمُ الجوابَ سيدي العلامةُ ـ تولاه الله ـ لأنه دليلُه على المنع، ثم صرَّح بقلمه بما يقطع يقطع مادةَ اعتراضه بقوله ـ تولاه الله تعالى ـ، فدلَّ على أنَّ من سبقَ إلى شيء من الكلأ لم يَسْبِقْ إليه غيره بإحياء، ولا تحجُّرٍ، ولا قطْعٍ كان أحقَّ به، والحدود تستلزمُ أنَّ ما كان في الحد فهو لصاحبه، فقد جرى ما نريدُه على لسانه وكفانا مَؤُنَةَ التطويل.
قلتُ: وقوله ـ تولاه الله تعالى ـ أنَّ جميع الأدلة [3أ] مخالفةٌ لما شرعه رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، لأنَّ القياسَ أحدُ أدلةِ شريعته ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ المطهرة، ولم يخالف فيه إلاَّ من شد كالنَّظَّامِ (3) والخوارجِ، كيف وقد نبَّه عليه في قياس العكس في وضع الشهور الحرام مما ذكره في شرح جمع الجوامع (4) للمحلي وقوله أو التوالي كان على قصد دين في خبر الخثعمية (5).
_________
(1) انظر "المغني" (2/ 383 - 384).
(2) تقدم تخريجه.
(3) أول من باح بإنكار القياس ونفيه النظام وتابعه قومٌ من المتزلة كجعفر بن حرب وجعفر بن مبشر ومحمد بن عبد الله الإسكافيِّ وتابعهم على نفيه في الأحكام داودُ الظاهري.
(4) (2/ 206).
(5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1953) ومسلم رقم (154/ 1148) من حديث ابن عباس. وانظر الرسالة رقم (133).(8/3804)
فنقول: بل موافقةٌ، لأنَّه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قد اعتبر المصحلةَ الدافعةِ للضررِ في هذا الباب، الأمرُ إلى فعلِه في قصةِ أبيضَ بنِ حمالٍ حَبْر وفد إلى النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "فأقطعَهُ الملحَ بعد أنْ سأَله فلما ولي قال رجلٌ في المجلس: أتدري ما أقطتَه الماء العدَّ قال: فانتزعه رسولُ الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وسأله عما يحمي من الأراكِ، فقال: "ما لم تنلْه أخفافُ الإبلِ".
رواه الترمذيُّ (1)، ففيه أنه لا يجوزُ إقطاعُ الحقِّ العام إنْ أدَّى إلى الضررِ وحيث لا ضررَ أجازه، ولهذا أقطَعه ما لم تَنَلْهُ أخفافُ الإبلِ.
قلتُ: الماءُ العدُّ هو الماء الدائمُ (2) الذي لا ينقطع (3)، وجمعه إعدادٌ، ونهيُهُ عن حمى الأراك إلاَّ ما لم تنلْه أخفافُ الإبل أي لم تبلغْه أفواهها بمشيها إليه وقال: الأصمعي: الخفُّ الجملُ المسِنُّ والجمعُ أخفافٌ، أي ما مرَّتْ من المرعي لا يُحْمَى بل يتركُ لمسانّ الإبلِ، وما في معناها من صغار الإبل التي لا تقوى على الإمان في طلب المرعي.
ذكره في نهايةِ ابن الأثيرِ (4). فالمتحجَّر في الحدود، ولا ضرر فيه، لأنَّ كلَّ أحدٍ قد رضي بما يليهِ، ولا ضرر فيه على سائر المسلمين، فالذي فهمنا من تجنبه النصَّ أنَّ بيعَ الحِمى لأجْلِ الضررِ، والحدودُ شُرِعَتْ لدفع الضَّررِ المؤدي إلى سَفْكِ الدماء على وجهٍ لا يمكنُ إجراءُ أحكامِ الشريعة فيهم، ولم يكن مخالفًا للأدلة؛ لأنَّ القياس (5) المرسلَ قد أسستْ عليه كثيرٌ من أحكام الشريعةِ، وهو قريب من .........................
_________
(1) أخرجه في "السنن" رقم (1380) وقال: حديث حسن غريب.
وأبو داود رقم (3064) وابن ماجه رقم (2475) وهو حديث حسن.
* الماء العِدُّ: بكسر العين: الدائم الذي لا انقطاع له مثل ماء العين وماء البئر.
" النهاية " (3/ 186).
(2) انظر "النهاية" (3/ 186).
(3) انظر "النهاية" (3/ 186).
(4) (2/ 55).
(5) تقدم ذكره.(8/3805)
الاستحسانِ (1) في أحد الأقوال، لأنه وقع فيه اضطرابٌ (2)، أعني في حقيقةِ الاستحسانِ.
_________
(1) الاستحسان: "هو أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه يقتضي العدول عن الأول".
وقيل: الاستحسان: هو طرح القياس الذي يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه إلى حكم آخر في موضع يقتضي أن نستثني من ذلك القياس ...
وقيل: "أجود تعريف للاستحسان: أنَّه العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي خاص، وهو مذهب أحمد".
انظر: "الكوكب المنير" (4/ 431). "المسودة" (ص451 - 454). "تيسير التحرير" (4/ 78). وقال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص786): واختلف في حقيقته فقيل: هو دليلٌ ينقدح في نفس المجتهد ويعسُر عليه التعبير عنه.
وقيل: هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى.
وقيل: هو العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس.
(2) قال بعض المحققين: الاستحسانُ كلمةٌ سطلقها أهل العلم على ضربين:
أحدهما: واجبٌ بالإجماع وهو أن يقدِّمَ الدليلُ الشرعيُّ أو العقليُّ لحسنه فهذا يجب العمل به لأن الحسن ما حسَّنه الشرع والقبيح ما قبَّحه.
الضرب الثاني: أن يكون على مخالفة الدليل مثل أن يكون الشيء محظورًا بدليل شرعي، وفي عادات الناس إباحته أو يكون في الشرع دليلٌ يغلظه وفي عادات الناس التخفيف فهذا عندنا يحرم القول به ويجب اتباع الدليل وترك العادة والرأي، وسواء كان ذلك الدليل نصًّا أو إجماعًا أو قياسًا. "
البحر المحيط" (6/ 90)، "اللمع" (ص68).
قال الشوكاني في نهاية بحث "الاستحسان" في "إرشاد الفحول" (ص789): "فعرفت بمجموع ما ذكرنا أن ذكر الاستحسان في بحث مستقل لا فائدة فيه أصلاً لأنَّه إن كان راجعًا إلى الأدلة المتقدمة فهو تكرارٌ وإن كان خارجًا عنها فليس من الشرع في شيء بل هو من التقوُّل على هذه الشريعة بما لم يكن فيها تارة وبما يضادُّها أُخرى".
وقال الشافعي في الرسالة (ص503): من استحسن فقد شرع وفي رواية عنه قال: القول بالاستحسان باطل.
وقال في الرسالة (ص507): الاستحسان تلذذٌ، ولو جاز لأحد الاستحسان في الدين لجاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم ولجاز أن يشرّع في الدين في كلِّ بابٍ وأن يخرج كل أحدٍ لنفسه شرعًا.
وانظر: "البحر المحيط" (6/ 87).(8/3806)
وقد استحسنَ جماعةٌ من العلماء أشياءَ كثيرةً في العبادات والمعاملاتِ كما حكى عن بعض الأئمة أنَّه كان يمنعُ الناسَ عن المعاملة في السَّلْمِ أن يقعوا في الرِّفقِ مع جَهْلِهم. وما استدلَّ به ـ تولاه الله ـ في منع الماء من الأحاديث (1) فصحيحٌ، ولكنْ ما سبقَ إليهِ الحقُّ فهو للسابقِ كما ذكرناه في العشبِ، لأنَّ لفظ الحديث عامٌّ في كل مباح، ولهذا جرتْ عادةُ الناسِ بمنع الدخول إلى آبارهم التي في دورِهم وبساتينِهم، والحديثُ عامٌّ: "المسلمونَ شركاءُ في ثلاثٍ" (2) كما تقدم. فما أدري من أين التخصيصُ للباقي ـ عافاه الله ـ في غير داره، لو دخل أحد يترعُ لَعُزِّرَ بأنواع التعزيرِ إن لم يكن سبقَ الحقَّ، أو يكون من حديثِ بئرِ رومةَ (3) حين شرَاها عثمانُ وسبَّلها، وجعلَ دلوه فيها كدلاء المسلمين، فيجوزُ للمالك أن يمنعَ على بئرهِ المملوكةِ أعني من استعمالِ ملكِه، ولو أدى إلى منع الكلأ، لأنَّ الحديثَ (4) ورد فيما لم [3ب] يَسْبِقْ إليه أحدٌ فيكونُ سبيلُ المتحجِّر من المراعي سبيلَ ما يتحجّر لمرافقِ القريةِ لحاجتِهم إليه، وأنا أضرب له مثالاً ـ عافاه الله ـ لو كان عشبٌ بين جبلينِ في بطنِ وادٍ يسعُ قدرًا معلومًا من الشاء والإبل نحو ألفٍ، فورد عليه أهلُ قريتين في لحظةٍ واحدة، وهو لا يكفي إلاَّ إحداهما، وثار بينهم الخصامُ كلٌّ يريدُ الاستبدادَ به فيقولُ: لا يصلُحُ شأنُهما إلاَّ قسمتُه بينَهما ونضرب محجَّرًا قاسِمًا يدفعُ الخصامِ، ويرتفعُ به الضِّرارُ، وإن قلنا أنتم سواءٌ ألقيناهُم في الحيرةِ
_________
(1) تقدم ذكرها.
(2) تقدم تخريجه.
(3) انظر "فتح الباري" (7/ 52) الباب رقم (7) مناقب عثمان بن عفان أبي عمرٍو القُرشيِّ رضي الله عنه وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من يحفر بئر رومة فله الجنَّة، فحفرها عثمان".
(4) تقدم تخريجه.(8/3807)
الله تعالى ـ فما أرى هذه الحدودَ إلاَّ من جنسِ إقطاعِ ما لم يسبق إليه حقٌّ مسلمٍ، فتقرير الإمام القاسمِ ومَنْ بعدَهُ لهذه المحاجِرِ من الإقطاع كما أقطعَ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بلال بنَ الحارث المزني، معادنَ القبليَّة جَلْسيَّها وغوريَّها، وحيثُ يصلُحُ الزرعُ من قُدْسٍ، لم يعطهِ حقَّ مسلمٍ. هكذا رواه أحمد (1)، وأبو داود (2). تفسيرُه (3): الغورِ ما انخفضَ من الأرضِ، والجلسُ ما ارتفعَ منها.
وقوله: من قُدس هو بضمِّ القافِ، وسكونِ الدالِ جبلٌ معروفٌ. وقيل هو الموضعُ الذي يصلح للزراعة. وفي كتاب الأمكنةِ "أنه قريسٌ" قيل: قريس وقَرْس: جبلان قربَ المدينةِ ذكره في النهاية (4)، فاعرفْ أنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أقْطَعَهُ ما يصلح للزرعِ، وما يصلح الزرع الكلأُ عادةً. والله أعلم. وهنا انتهى الجواب باختصار.
المسألة الثانية من مسائل السؤال: أنها إذا ساغتِ الحدودُ المذكورةُ فهل يجوز تضمينُ من يختصُّ بذلك من قتلٍ ونهبٍ وسَلْبٍ؟.
المسألةُ الثالثةُ من مسائل السؤال: أنه إذا كان في ذلك الحدِّ طريقٌ وقع فيها القتلُ أو النَّهبُ، ولا يختصُّ بها أهل الحدِّ فهل يجوزُ تضمينُ أهل الحدِّ وإن كانتِ القسامةُ الشرعيةُ غَيْرَ ثابتةٍ، لأنَّ تَرْكَ تضمينهم قد يؤدي إلى أنهم يفعلون في تلك الطريقِ من الأفاعيلِ ما يكون سببًا لانقطاع المارَّةِ؟.
فأجاب ـ تولاه الله ـ أنَّ من قال [4أ] يسوغُ له تعذيبُ عباد الله، أو قتلُهم، لأنَّ الله ـ سبحانه ـ يبتليهم بالأمراضِ والموتِ، أو قال يجوزُ له سلبُ أموالهم لمصلحة لأن الله قد يبتليهم بمثل ذلك أو قال إنه يجوز تسليطُ بعضهم على بعض، لأنَّ الله قد يفعلُ ذلك، لم يكن هذا القائلُ في عداد العلماء، بل لا يكون في عداد العقلاء.
_________
(1) في "المسند" (15/ 139 رقم 437 ـ الفتح الرباني).
(2) في "السنن" رقم (3062) وهو حديث حسن.
(3) "النهاية" (4/ 10).
(4) (4/ 24).(8/3808)
قلت: هذا فَرَضُ ما لم يقعُ ولا يُسْمَعْ به. قال ـ رضي الله عنه ـ: ومن هنا يُعْلَمُ بطلانُ استدلالِ بعضِ المتأخرينَ على جواز تغريمِ أهل قريةٍ من القرى، أو مدينة من المدن ما يوجد في حدودهم أو طرقِهم الخاصةِ بهم، أو العامَّةِ لهم ولغيرهم من جناياتٍ، وأموالٍ منهوبةٍ، أو نفوسٍ مسلوبةٍ، حيث لا تصحُّ القسامةُ الشرعيةُ بما فعله الله تعالى من معاقبةِ قوم عاقرِ الناقةِ، وشمولِ العذابِ للفاعل ولغيره، فإنَّ هذا فِعْلُ من لا يُسْألُ عما يفعلُ. وأبطلَ من هذا استدلالَ منِ استدلَّ على ذلك بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (1)؛ فإن هذه الآيةَ ليس فيها إلاَّ التحذيرُ من الفتن إلى أن قال ـ رضي الله عنه ـ: فكيف يصحُّ الاستدلالُ بهذه الآيةِ على جوازِ تعميمِ العقوبةِ منَّا لمن يعلم أنَّه لم يكن من تلك في شيء؟.
قلتُ: الكلام في هذا من وجهينِ:
الأولى: في صحة دعوى القسامةِ على نقل الحدِّ، مع كون الحد قد يكون في طريقٍ عامٍّ لا يختصُّ بمحصورين.
الوجه الثاني: أنْ يستدَّ المستدلُّ بفعلِ الله تعالى في عبادِه.
فنقول: ما قصَّه الله تعالى في قصصِ الأنبياءِ فقد أخذَ العلماءُ منه أحكامًا من غير نكيرٍ وليس المرادُ أنه من سؤاله تعالى عن فعلِه في خلقِه حتى يكونَ داخلاً في النَّهي الذي قوله عز وجل: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (2) وجه ما ذكرناه أنَّهم قد أخذوا من قوله عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} (3) أنه ينبغي تظعيمُ العلماء، لأن الملائكةَ ـ عليهم السلام ـ لما أنبأهم آدمُ بالأسماء (4)، ورأو معه من العلم
_________
(1) [الأنفال: 25].
(2) [الأنبياء: 23].
(3) [البقرة: 34].
(4) قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 31 - 33].(8/3809)
ما لم يعلموه عظّموه، وأنه يجوز السجودُ لغير الله، لكنه محمولٌ أنه على جهة التحيةِ والتعظيمِ (1) حيثُ لم يعلم صفتَه كما ذكره قاضي القضاة في المحيط. هذا التأويل حيث لم يكن جائزًا في شريعتنا، وقد ذكر فيه [4ب] وجوهًا كثيرًا من التأويلِ، ليس الغرضُ الاستيفاءَ، إنما المرادُ التنبيهُ على رؤوسِ المسائل.
ومنها قوله ـ عز وجل ـ ما ذكره الله تعالى في اصطفاء طالوتَ حيث قال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} (2) قال بعض المفسرين (3): إن حرفته الدباغةُ، وقيل السقايةُ فقالوا: يؤخذ من الآية. ويؤخذ منها أنَّ النبوةَ والإمامةَ لا يشترطُ فيها أن يكون صاحبُها ممن له حرفةٌ رفيعةٌ، أو أن يكونَ غنيًّا، لأنه قد روي أنه كان فقيرًا فاستنكر قومُهُ فَقْرَهُ. وفي قصة صالحٍ (4) المذكورةِ في عَقْرِ الناقةِ أنَّ الساكتَ كالراضي أُخذ من قوله: فعقروا الناقةَ، وذلك لما حصَلَ بينَهم وبين فاعلِ العقرِ من التراضي، ولم يقل أحدٌ من العلماء فيما رأيتُه أنه يُؤخذ منه دعوى القسامةِ. ومنها: ما ذكرَهُ في قصة قوم لوطٍ في تعذيبهم. قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} (5)
_________
(1) قال الجمهور: كان ذلك السجود تكريمًا لآدم وإظهار لفضله وطاعة لله تعالى.
" الجامع لأحكام القرآن " (1/ 293).
قال ابن كثير في تفسير (1/ 227): وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته، حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم.
(2) [البقرة: 247].
(3) ذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 666).
(4) انظر "الجامع لأحكام القرآن" (7/ 241). "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (3/ 440 - 441).
(5) [هود: 82].(8/3810)
فأَخَذَ منها أميرُ المؤمنين عليٌّ ـ عليه السلام ـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعثمان رضي الله عنه أنه يُلقى على اللائطِ (1) حائط.
وعن ابن عباس (2) يلقى من أعلى إلى أسفلَ في أعلى بناءٍ في البدل ثم يُتبعُ الحجارةَ. وفي القرآن شيءٌ كثير لو استوفيناه لخرجْنا عن المقصودِ، فعرتَ أنَّهم أخذوا أحكامًا من فعل الله (3)، لأنه من باب السؤال عمّا يفعلُ ـ سبحانه وتعالى ـ فَذَا مِنَ التعرضِ للإحاطةِ بحكمة اللهِ في خلقِ الخلقِ، وكما تعرَّضَتِ الملائكةُ ـ عليهم السلام ـ بقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (4) الآية، فلم يُشْفِهم تعالى من الاطَّلاع عليه، بما يَشْفي غُلَّةً، ولا أجابَ عليهم إلاَّ بعلمِه ما لا يعلمونَ في الجملة، ثم قمعَهم بإظهار آدم ـ عليه السلام ـ حين علَّمه الأسماءَ فأنبأهم بها معارضةً لما توهَّموه من الفسادِ المحضِ. ومثلُ ذلك ما لا يكونَ لا يسألُ عما يفعل وهم يُسْألونَ.
هذا هو الذي يرادُ من معنى الآية [5أ] فما قضتْ به حكمتُهُ فهو يحملُ عليه معنى النَّهي في الآية أنَّه لا يسأل عنه. ولْنَذْكُرْ شاهدًا على ما ذكرناه: أخرج البيهقيُّ في كتاب الأسماء والصفات (5) عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس، "قال: لما بعثَ الله موسى ـ عليه السلام ـ وكلَّمه [وأنزل عليه التوارة] (6) فقال: اللهم إنك ربٌّ عظيمٌ، لو شئتَ أن تُطاعَ لأُطعتُ، ولو رضيتَ أنْ لا تُعْصى ما عُصيتَ (7)، فكيف هذا يا ربِّ!؟ فأوحى الله تعالى إليه أني لا أُسأَلُ عما أفعلُ وهم يسألون، فانتهى موسى. رواه
_________
(1) انظر "نيل الأوطار" (7/ 287. "المغني" (12/ 348 - 351).
(2) انظر المرجع السابق.
(3) انظر الرسالة رقم (121).
(4) [البقرة: 30].
(5) (1/ 446 رقم 368) بإسناد ضعيف.
(6) زيادة من "الأسماء والصفات" (1/ 446).
(7) [وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعطي] زيادة من مصادر الأثر.(8/3811)
الهيثميُّ في مجمع الزوائد (1)، وعزاه إلى الطبراني (2) أيضًا، وزاد: "فلما بعثَ الله عُزيْرًا يسألُ الله مثلَ ما يسأل موسى ثلاثَ مرَّاتٍ فقال له: أتستطيعُ أن تصر صُرَّة من الشمس قال: لا، قال: أتستطيع أن تجيء بمكيال من الريح؟ قال: لا. قال: أفتسطيع أن تأتي بمثقالٍ من نور؟ قال: لا. قال أفتستطيع أن تجيء بقيراطٍ من نور؟ قال: لا، قال: فهكذا لا تقدِرُ على الذي سألتَ عنه إني لا أُسأل عما أفعل وهم يسألون، أما أني لا أجعل عقوبتَك إلاَّ أن أَمْحُوَ اسمكَ من الأنبياء فلا تُذْكَرُ فيهم فمحا اسمه من الأنبياء فليس بذكر فيهم وهو نبيٌّ، فلما بعثَ الله عيسى عليه السلام (3) [طلبَ مثلَ ما طلبه عزيرٌ فأقسم الله] (4) لئن لم تنتهِ لأفعلنَّ بك كما فعلتُ بصاحبك بين يديكَ، إني لا أُسأل عما أفعل وهم يسألون، فجمع عيسى تبعته فقال: القدَرُ سرُّ الله فلا تَكَلَّفوه "فهذه هي الحكمةُ التي نهى الله تعالى عن السؤالِ عنها. لا يُسألُ عما يفعلُ وهم يُسألون: اللهم تَعبَّدْ ألسنتنا على التكلُّم بما يرضيكَ، ونعوذ بك من السخط وأسبابه، والتعرضِ لما لا يعني من الأقوال والأفعال، واجعلِ الأعمالَ خالصةً لوجهك يا ذا الإكرام والجلال.
قوله تولاه الله: وأبطلُ من هذا مَنِ استدلَّ بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (5)، السائلُ أورد هاتين الآيتينِ، وهما بمعزل عن الدليل
_________
(1) (7/ 199 - 200) وقال الهيثمي رواه الطبراني وفيه أبو يحيى القتات وهو ضعيف عند الجمهور، وقد وثقه ابن معين في رواية وضعفه في غيرها ومصعب بن سوار لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(2) في "المعجم الكبير" (10/ 317 - 318 رقم 10606).
(3) تمام النص من المعجم الكبير: "ورأى منزلته من ربه وعلَّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى وينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم قال: اللهم إنك رب عظيم لو شئت أن تطاع لأُطعت ولو شئت أن لا تعصى ما عصيت وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى فكيف هذا يا رب؟ فأوحى الله إليه إني لا أُسأل عما أفعل وهم يسألون وأنت عبدي ورسولي وكلمتي ألقيُتك إلى مريم وروح مني خلقتك من تراب ثم قلت لك كن.
(4) من زيادة مصدر الحديث.
(5) [الأنفال: 25].(8/3812)
بهما في ثبوت القسامةِ، ونهْبِ الأموالِ، والمجيبُ ـ عافاه الله ـ حملَهما على غير ظاهرهما فلما جرى الكلام في الآية الأولى [5ب] فتكلَّم في الآية [الثانية] (1)، وكان من حقِّ المجيب ـ عافاه الله ـ أن يقول: لا مأخذ من الآيتين، قال رضي الله عنه: هذه الآيةُ ليس فيها إلاَّ التحذيرُ عن أسباب الفتنِ ... إلى أن قال: فالمرادُ من الآية الكريمةِ التحذيرُ لمن لم يتلَّبسْ بأسباب الفتنِ عن أن يدعَ الجدَّ والاجتهاد في دفع تلك الأسبابِ، وهذا هو معنى إبقائها الذي أمرنا الله لأنَّ التفريطَ في هذا الاتقاء يؤدي إلى إصابة الفتنِ لمن تلبَّس بأسبابها، ومن لم يتلبَّسْ، وما كان هذا مالَهُ فما أحقَّه بأن يتَّقيهُ كلُّ أحد، وأكثر ما تكون هذه الإصابةُ العامةُ في الفتن الجاهلية، أو ما يلتحق بها من الفتن، فكيف يصحُّ الاستدلالُ بهذه الآية على جواز تعميم العقوبةِ! قد أطال الكلامَ ـ تولاه الله ـ وهذا بعض منه.
فالآية هذه لم يكنْ في ذهني أنها ما عُدَّتْ في آيات الأحكام، والتفسير الذي ذكره ـ تولاه الله تعالى ـ أنها محمولة على ترك الأسباب لم أجدْه (2) إلاَّ أنَّ الذي في الكشاف (3) أنَّ المرادَ إقرارُ المنكر بين أظهرهم، أو افتراقُ الكلمةِ. وقيل: المرادُ بالفتنةِ العذابُ. ثم قال ما معناه: لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصَّةً، أي لا تصيبُ الظالمينَ منكم خاصَّةً، ولكنها تعمُّكم كما يُحْكى أنَّ علماء بني إسرائيلَ نهوا عن المنكر تعذيرًا فعمهم الله تعالى بالعذاب، ومعنى تعذيرًا أي تقصيرًا بمعنى مقصِّرينَ. وقيل: نزلتْ في عليٍّ ـ عليه السلام ـ وعمارٍ وطلحةَ والزبيرَ ـ رضي الله عنهم ـ وهو يوم الجملِ خاصَّةً. قال الزبير: نزلتْ فينا وقرأناها زمانًا، وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيونَ بها. وعن السُّديِّ: نزلتْ في أهل بدر فاقتتلوا يومَ الجملِ. هذا معنى الآية عن إمام المفسرينَ وقُدوتهم، وحاملُ ألويةِ علمِ البيانِ، وتُرجمان ما أنزله الرحمنُ ـ جزاه الله عن المسلمين الجزاءَ الأوفر ـ.
_________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) انظر الرسالة رقم (119).
(3) (2/ 571) وانظر الرسالة رقم (206).(8/3813)
أما مسألةُ تضمينهم ما نُهبَ من المال فلا وجْهَ له في الشريعة، والأمرُ ظاهرٌ، ومسألة صحَّتْ دعوى القسامةِ فالقسامةُ قد جُعِلَتْ مما ورد على خلاف القياس، فيجب الوقوف على وجه الذي جاء عن الشارع، فإن استحسنَ ذو الولاية مع علمه وورعِهِ وملاحظتِهِ ما فيه المصلحةُ لحقنِ الدماء وصيانةِ الأموالِ فلا حرجَ عليه؛ فقد كان عمر رضي الله عنه استحسنَ أشياءَ، ولا يُنْكَرُ عليه، ومن جملتها ما ذكره الأمير الحسينُ في الشفاء أنَّ قومًا امتنعوا عن بيع دورِهم ليجعلَها المسلمون في الحرم لتوسيعهِ، فجعل عمر بن الخطاب أثمانَها في بيت المال، ولم ينكر عليه أحدٌ من المسلمين في عصره، وكان ذلك في قابِهم مع أنه لا ضرورةَ في الدين، ولا حاجةَ ضروريةَ، لأنَّ الصلاة ممكنةٌ في كل مكان، وأحاديث القسامةِ فرَّعوا عليها تفريعًا كثيرًا وفيها من التعارضِ فات كل عين النظر في مسالكه ليس الكلامُ عليها من الغرض المقصود والله أعلم. وفوقَ كل ذي علم عليم.
هذا ما انتهى إليه نظري، وكلُّ مجتهم مصيبٌ (1)، والله يُلْهِم إلى صالح الأعمال والأقوالِ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا ولي الأفضال.
حرره في شهر ربيع الآخر سنة 1214 بقلم مؤلفه حسينِ بنِ يحيى بن إبراهيمَ الديلمي عفا الله عنه، وعن آبائه والمسلمين أجمعينَ [6ب].
_________
(1) تقدم توضيح ذلك مرارًا.(8/3814)
(121) [30/ 2]
إرشاد الأعيان إلى تصحيح ما في عقد الجمان
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(8/3815)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "إرشادالأعيان إلى تصحيح ما في عقد الجمان".
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله ربِّ العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين ... ،
4 - آخر الرسالة: "كان تحرير هذه الأحرف في النصف الأول من ليلة الاثنين إحدى ليالي شهر جمادى الآخرة سنة 1214هـ.
بقلم مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما، وتجاوز عنهما وعن جميع المسلمين آمين.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 22 صفحة + صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
9 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/3817)
بسم الله الرحمن الرحيم الله
الحمدُ لله رب العالمينَ، وصلاتُه وسلامُه على سيدنا محمد الأمينَ وآله الطاهرينَ.
وبعدُ:
فإني وقفتُ على ما حرره مولاي السيد السَّنَدُ، العلامةُ الأوحدُ، بقيةُ الأعلام، حسَنَةُ الآلِ الكرام الحسينُ بن يحيى الديلمي (1) ـ كثر الله فوائده وبارك للمسلمين في أيامه ـ من الأبحاث النفيسة المقبولة على رسالتي المسماة "عِقْدُ الجمانِ في شأن حدود البلدانِ وما يتبعها من الضمان". ولما كانتِ المذاكرةُ العلمية من أعظم القُرَبِ المقرِّبة إلى الله ـ سبحانه ـ حداني ذلك إلى الكلام معه ـ عافاه الله ـ في بعض ما حرره من المباحث.
قال ـ كثر الله فوائده ـ: ورأيتُ كلامًا ذكره القاضي أحمدُ بن يحيى حابس (2)، وهو ممن عاصر الإمامَ القاسمَ بنَ محمد.
أقول: القاضي المذكورُ أدرك أيام الإمام ـ عليه السلام ـ في إبَّانِ شبابه، ولم يصر رأسًا في العلم والتدريس والتأليف إلاَّ بعد موتِ الإمام سنة 1029، ومات القاضي سنةَ 1041 كما حرَّرتُ ذلك في "البدر الطالع" بمحاسنِ مَنْ بعدَ القرن السابع (3) وبهذا يتبينُ
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) أحمد بن يحيى حابس الصعدي اليماني أحد مشاهير علماء الزيدية. وله مشايخ منهم الإمام القاسم بن محمد.
من مصنفاته: "شرح تكملة الأحكام"، "شرح الشافية" لابن الحاجب، "شرح الكافل وتكميل شرح الأزهار".
تولى القضاء بصعدة واستمر فيه حتى مات سنة 1061هـ.
" البدر الطالع" رقم (78)، "هدية العارفين" (1/ 159).
* تحذير: وله بدع. انظر "صعقة الزلزال" (1/ 94 - 96) للشيخ مقبل بن هادي الوادعي.
(3) رقم (381).
وهو القاسم بن محمد بن علي بن محمد الرشيد ولد سنة 967هـ.
انظر: "مصادر الفكر" (ص610 - 617). "أعلام المؤلفين الزيدية" (ص777 رقم 839).(8/3821)
صحةُ ما ذكره الشرفي ـ عافاه الله ـ من معاصرة القاضي الإمام.
قوله: قال في المقصد الحسن: وإجراءُ المحاجرِ مجرى الأملاك ... إلخ.
أقول: اعلم أن رسالتنا في الحدود الموضوعةِ بين قريتينِ أو أكْثَرَ بحيثُ يكون المستحقُّ من الكلأ والماء لأهل هذه القرية إلى مكان معلوم، ولأهل القرية الأخرى إلى مكانٍ كذلك لا يتعدّى هؤلاء إلى حدِّ هؤلاء، ولا هؤلاء إلى حدِّ هؤلاء.
وأما المحاجرُ فهي في العُرْف غيرُ الحدودِ، فإنها تواطؤُ أهلِ قريةٍ من القرى على أن يمنعون رِعْيانَهم من بعض أوديتِهم أو جبالِهم ليتوفَّر الكلأُ في ذلك المكان، ويكون مدَّخرًا لهم من أيام الخِصْبِ إلى أيام الجَدْبِ، فيرعَونَ فيه سوائِمَهم عند الحاجة إليه. فالذي تكلَّم عليه ابنُ حابس هو هذا، وهو غير الحدودِ التي كلامنا فيها [1أ]. وفَرْقٌ بين المحاجرِ والحدودِ؛ فإن المحاجِرَ ليس فيها المنعُ من الكلأ المباح إلاَّ لمصلحة راجعة إلى الممنوعينَ، وهي انتفاعُهم به في أيام الحاجة إليه، وهو باقٍ لهم مُدَّخَرٌ لمواشيهم بخلاف الحدود بين البلدانِ، فإن وضْعَها لمنع بعض المواضعِ عن البعض الآخرِ منعًا مطلقًا، وتخصيصَ استحقاقِه بالبعض الآخر، وهذا هو المنع الذي تردُّه تلك الأحاديث التي حررناها في الرسالة (1) المذكورة، وهذا الذي يسمونه مَحْجَرًا عُرْفًا هو الذي كانت العربُ تسميه حِمًى، وقد ذكرنا في الوجه الثالث من الأدلة في "عقد الجمان" الأدلةَ القاضية بتسويغه، والقاضيةَ بمنعه، وفرَّقنا بينه وبين الحدود، فلْيُرَاجِعِ الشرفيُّ ذلك ـ كثر الله فوائده ـ وبالجملةِ فكلامُ ابن حابسٍ الذي نقله الشرفي مستدلاً به على ما قاله في تلك الأبحاثِ، مصرِّحًا بأنه لم يقف في المسألة على كلام لأحد من المجتهدينَ سواهُ هو في غير ما نحن بصدده من الحدود، فحينئذ لم يبقَ قائلٌ من أهل الاجتهاد يقول بتسويغ الحدودِ المعروفةِ باعتراف مولانا الشرفي ـ كثر الله فوائده.
_________
(1) رقم (119).(8/3822)
وأما قول ابن حابس ـ رحمه الله ـ بأنَّ ضربَ الأعلام فيها التي يعتادونَها يوجبُ الملكَ لأنَّ للعُرفِ مجالٌ، وأيُّ مجال، أو من باب النظرُ في تسكين الدهماء!.
فأقولُ: اعلم أن التخصيص بالأعراف (1) للأدلة الشرعية عند مَنْ قال به مختصٌ بالأعراف التي لأهل الشرع عند نزول القرآن الكريم، مع وجود رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بين ظهرانِيْهم، فما كان من الأعراف بهذه المثابةِ فقد قال قائل من أهل الأصول بصلاحيته، لتخصيص عمومات الأدلةِ الشرعيةِ.
ووجهُ ذلك ما ذكروه من أن الخطاباتِ الواردةِ في التفريعات هي لقوم قد تعارفوا بكذا، فكان المرادُ منها ما استقر في عُرْفِهم، ولكنَّ الحقَّ عندي عدمُ صلاحية العُرْفِ الكائنِ على هذه الصفةِ للتخصيص حسبما قرَّرَتُ ذلك في غير هذا الموطنِ، وهذا في الأعراف الثابتةِ للمخاطبينَ بالخطابات الشرعية عند حدوث الشريعة، وأما الأعرافُ الحادثةُ بعد انقراض الصدر الأول فلا يقولُ قائل بحمل الخطاباتِ الشارعِ عليها، وكيف يقول بذلك والأعراف اصطلاحيةٌ! لكل أحد [1ب] من الناس أن يتعارفَ هو وقومُهُ بما شاء، فإذا حدثَ مثلاً بعد انقطاع الوحي، وموتِ صاحبِ عُرْفٍ لقوم اصطلحوا عليه، فهل يتجاسرُ عالِمٌ على حمل الخطابات الشرعيةِ على هذا العرفِ الحادثِ في الاصطلاح، أو على تخصيص الأدلة الشرعية (2)
والحقُّ أ، ها لا تخصَّص لأن الحجة في لفظ الشارع وهو عامٌّ والعادةُ ليسن بحجة حتى تكون معارضةً له.
انظر: "تيسير التحرير" (1/ 317) و"المسودة" (124 - 126).؟ وهو شيء اخترعتُه طائفة من الطوائف، وابتدعته
_________
(1) قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص532): والحقُّ أن تلك العادة إنكانت مشتهرة في زمن النبوة بحيث يعلم أن اللفظ إذا أطلق كان المراد ما جرت عليه دون غيره فهي مخصِّصةٌ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما يخاطب الناس بما يفهمون، وهم لا يفهمون إلا ما جرى عليه التعارف بينهم. وإن لم تكن العادةُ كذلك فلا حكم لها ولا التفات إليها. والعجب ممن يخصِّص كلام الكتاب والسُّنة بعادة حادثةٍ بعد انقراض زمن النبوة تواطأ عليها قومٌ وتعارفوا بها ولم تكن كذلك في العصر الذي تكلم في الشارع فإن هذا من الخطأ البيِّن والغلط الفاحش.
انظر: "البحر المحيط" (3/ 392)، "اللمع" (ص21).
(2) ذهب الجمهور إلى عدم جوام التخصيص بها، وذهب الحنفية إلى جواز التخصيص بها.(8/3823)
فرقةٌ من الفِرق! هذا هو العجبُ ولو كان صحيحًا لكانت الشريعةُ دائرةً بين الاصطلاحات الحادثة المتجددِّة تابعةً لها، فمن رامَ المخالفةَ لحكمٍ من أحكام الشريعة تواضَعَ هو وقومُهُ على شيء من الأعراف المخالفةِ للشرع، واستراحوا منا لتعب، وألْقَوْا عن أعناقهم ما يثقل عليهم من الشرعيات. فرحم الله ابن حابس كيف جرى قلمُه بقوله: للعرف مجالٌ وأيُّ مجال. وأيُّ مجال لعرفٍ حدث بعد ألف سنة من موت رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ! فإنْ كان يريد العرف في الحِمَى الذي كان ثابتًا في أيام الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فكان يغنيه عن هذا أن يستدلَّ بما أخرجه البخاري، وأحمد، وأبو داود من حديث الصَّعبِ بن جُثامَةَ (1) أن النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ حَمَى النقيع، وكذلك أخرجه أحمد من حديث ابن عمر (2) فما بالُه عوَّل على مجرد العرف. وفي المقام سُنَّةٌ ثابتةٌ.
نعم الأعرافُ محكمةٌ فيما يتجاوزُ به جماعةٌ إذا تكلَّموا بشيء فيما بينهم حمل على أعرافهم، مثلاً إذا حلفَ الحالفُ على شيء حُمل على عُرْف بلده، وكذلك إذا وهب أو ملَّكَ أو نحو ذلك. وأما حمل الخطابات الشرعية على [الأعراف] (3) الحادثة فهذا لم يقل به أحدٌ من المسلمين، وما ذكره أهل الأصول في العرْفيات العامَّة، والعرفيات الخاصَّة، فهو مرادٌ به ما ذكرناه.
وأما قول ابن حابس: أو من باب النظر في تسكين الدَّهْمَاء.
فأقولُ: قد قررنا في تلك الرسالةِ (4) أنَّ هذه الحدود صارت من أعظم أسباب الفتنِ
_________
(1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(2) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(3) مكررة في المخطوط
(4) رقم (119).(8/3824)
والمِحن، وأوضحنا ذكل بما لا مزيدَ عليه، فليس في الحدود إلا إثارةُ الفتن وتحريكُ الدهماء، وإراقة الدماء، وتهييج الشحناء، فإن التبسَ [2أ] عليك هذا فها نحن نوضح لك الأمر في صورة معلومة عند كل أحد، وهي أن أكثر ما يحدث من الفتن بين الناس إنما يكون بعد قسمة الحدود بخلاف المشركين في الحدود، فإنك لا تجدُ بينَهم شيئًا من الفتن.
ومن تتبع هذا بالاستقراء على أن الشر كل الشر في مخالفة الشريعة بضرب الحدود التي أفضتْ إلى منع ما جعله الله شرِكَة بين عباده، في جميع بلاده، على لسان رسوله. ومن التبسَ عليه هذا فلْيسْألْ سُكان البوادي عن الفتن الحادثة في محلِّهم، هل هي بينهم وبين من قد ضُرِبَت بينهم الحدود، أو بينَهم وبين من لم يضرب بينهم الحدود؟ فإنه لا محالة سيخبرونه بأن هذه الفتن المشتعلة نارُها ليست إلا بينهم وبين من قد ضربت بينَهم الحدود في جميع البلاد. وهذا لا يكاد يلتبس عند من مارس أحوال الناس أدنى ممارسة.
قوله: هذا قول حسنٌ، وقد ورد في هذا حديثان:
أحدُهما: "المسلمون شركاء في ثلاث" (1).
والثاني: "من سبقَ إلى ما لم يُسْبَقْ إليه" (2). [و] (3) قد ذكرتُ في الرسالة (4) الكلامَ عليه، وتصحيح بعض الحُفَّاظ له، وقد جعله الشرفي ـ عافاه الله ـ هاهنا دليلا للكلام الذي قدَّمه عن ابن حابس، ولا يخفى أن كلامَ ابن حابس ليس هو في مسألة السؤال التي أجبنا عليها، بل هو المحاجر التي هي الحمى كما قدمنا.
_________
(1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(2) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف.
(3) زيادة يقتضيها السياق.
(4) رقم (119).(8/3825)
وتلك مسألةٌ أخرى، وإن شاركت مسألة السؤال في بعض الوجوه. وحينئذ لا وجه للاستدلال على المحاجر بحديث: "من سبقً ... إلخ"؛ لأنه لم يسبق إليها أحدٌ، وإنما اجتمعَ رأيُ أهل القرية على أن يجعلُوها حِمَى، وايضًا لو فرضنا أن كلامَ ابن حابس في الحدود لم يصحَّ الاستدلالُ على جوازها بحديث: "من سبق ... إلخ" لوجوه:
الأول: أن هذا الحديث حجة على الشرفي ـ عافاه الله ـ لا له، لأنَّا إنما منعنا الحدود لأجل أن يكون الناس [2ب] مشتركين في الكلأ ونحوِه، ومعنى الاشتراك أن يكون للجميع، ومن سبق منهم إلى شيء كان أولى به، فالحديث حجةٌ لمن قال بعدم جواز الحدود؛ إذ هي بعد ضربها مانعة عن معنى الحديث، وهو أن من سبق إلى شيء فهو أولى به، بل ليس لكل أحد إلاَّ ما في حدِّه، سواءٌ كان سابقًا أو مسبوقًا، فإن قال الشرفي ـ كثر الله فوائده ـ: أن المراد بالسبق هو ضرب الحدود فليس ذلك بصحيح، إذ من المعلوم أنَّ الكلأ الذي كلامُنا فيه يحدُثُ في السنة مراتٍ، فإذا فرضنا أنه حدث كلأ بعد ضرب الحدو، ثم سبق إليه كلامُنا فيه يحدُثُ في السنة مراتٍ، فإذا فرضنا أنه حدث كلأ بعد ضرب الحدود، ثم سبق إليه غيرُ صاحب الحدِّ فهل يقول الشرفي بأنه أولى به أم لا؟ إن قال بالأول فهو ما نريده من عدم ابتداع الحدود المفْضيةِ إلى منع ما أباحه الله. وإن قال بالثاني، قلنا له هذا خلافُ الحديث الذي جعلتَه دليلا لك، وإن قال إنَّ ضارِبَ الحدود سابقٌ إلى ما لم يَسْبِق إليه أحدٌ فنقول: هذا باطلٌ، فإنه لم يسبق إلى تحجُّر الكلأ، بل وضع أحجار على ظهر الأرض، فكيف يستحقُّ من الكلأ ما يحدث بعدَ ذلك مرةً بعد مرةٍ! وهل هذا إلا مخالفٌ لحديث السَّبْقِ، وللأحاديث الدالة على اشتراك الناس فيه، المذكورة في تلك الرسالة.
الوجه الثاني: أنْ لو سلَّمنا تنزلاً أن السبقَ صادقٌ على صورة وضع الحدودِ، فنقول: لا يخفى على عارفٍ أن حديثَ السبق أعم من حديث: "الناس شركاء في ثلاث"، وبيانُه أنَّ قوله: "من سبق إلى ما لم يُسبق إليه" فيه صيغتان من صيغ العموم (1).
_________
(1) انظر "إرشاد الفحول" (ص402)، "تيسير التحرير" (1/ 197)، كتاب "حروف المعاني" للزجاج (ص55).(8/3826)
الأولى: لفظ (من) العامَّةِ في الأشخاص.
والثاني: لفظ (ما) العامَّة للثلاثة وغيرِها؛ فإن الحديث في قوَّة: أيُّ شخصٍ من الأشخاص سبقَ إلى شيء من الأشياء فهو أولى به. وظاهرُه عدمُ الفرق بين الثلاثةِ وغيرها فيكون حديث الثلاث [3أ] مخصِّصًا له، فيحصل من المجموع أن من سبق إلى شيء فهو أولى به ما لم يكن ذلك الشيء أحد الثلاث المذكورة، وبناءُ العامّ على الخاص مجمع عليه. هذا على تسليم أنَّ في الحديث رائحة دلالةٍِ على ما ذكره الشرفي، وإلا فنحن لا نشكُّ أنه حجةٌ عليه كما سلفَ. وبهذا تعرف أنَّ ما استدلَّ به ـ عافاه الله ـ هو دليلٌ لمخالفة وأنه على فرض التسليم عامٌّ لا خاصٌّ كما قرره، ولهذا أوردناه في أدلة المنع من الحدود كما ذكرناه في تلك الرسالة.
الوجه الثالث: أن قوله: فيكون الأول عامًّا محمولاً على عدم السبق ينافي مرادَهُ عند إمعان النظر لما قدمنا من أنَّ السبق لا يكون موجبًا للأحقِّية إلاَّ إذا كان الشيءُ على أصل الاشتراك والحدود يمنعُ من ذلك كما قدمنا.
قوله: فإن لم يسلِّم هذا كان من القياس المرسل (1) إلى آخر كلامه.
أقولُ: ليس ضرب الحدود من القياس المرسل في وِرْدٍ ولا صَدْرٍ، بل هو من القياس الملغي (2) ليظهر له ما ذكرناه.
وقد حققنا ذلك في الرسالة (3) التي تكلَّم عليها ـ عافاه الله ـ، وصرَّحنا بأنه من هذا القبيل. وأما ما نقله عن بعض أهل الأصول في بيان مفهوم المناسب الملائم فالأمرُ كما ذكره، ولكنه غيرُ هذا المناسبِ الملْغي، ونحن نزعمُ أن هذه الحدودَ ليست مما يجلبُ نفعًا،
_________
(1) تقدم توضيحه.
(2) انظر "إرشاد الفحول" (ص790)، "تنقيح الفصول" (ص445)، "تيسير التحرير" (4/ 171).
(3) الرسالة رقم (119).(8/3827)
ولا يدفع ضررًا بل هي مظنَّة لجلب الضَّرر، ومنع النفع كما حققنا ذلك في الرسالة.
وأما خروجه ـ كثر الله فوائده ـ إلى ذكر الضروريات الخسم المعروفة (1) عند أهل الأصول فتلوُّنٌ في البحث، وأين ما نحن بصدده من ذاك؟ وكيف يكون ضربُ الحدود بين البلدان الذي هو سبب إثارة الفتن، وإراقة الدماء مما دعت إليه حاجةٌ ضروريةٌ! وما في ترك الناس على هذه [3ب] الشريعة الواضحةِ الغراء من ضررٍ! وأيُّ ضرر في شيء شرعه الله لأمته؟ وما املنفعةُ في حَجْرِ أهل هذه القرية عن الكلأ الذي أباحه الله لهم، وحجر أهل القرية الأخرى عن الكلأ المباح بالشريعة المحمَّدية؟ فقد رأينا وسمعْنا أن جميعَ المواضع المشتركة في الكلأ لا يحدُثُ بينهم عُشْرُ معشار ما يحدث بين من ضُرِبَتْ بينهم الحدود، وما أبعد دعوى الحاجة الضرورية التي يعلم كلُّ عاقل خلافَها، وأين الضرورةُ من هذا؟ فيا لله العجبُ أيعيش الناسُ من زمن النبوة إلى بعد ألفِ سنةٍ من ذلك مشتركينَ في الكلأ، عاملينَ بالشريعة الغراء المطهَّرة حتى أوجد الله بعد الألف رجلاً ليس عنده من علوم الاجتهاد نقيرٌ ولا قِطْميرٌ يقال له الشكايذي، فجاء للناس بما يخالفُ الشريعةَ وينافيها، ثم سَرَتْ بدعتُه حتى طبَّقتِ الأقطار اليمنية، وجاء بعده من الحكَّام جماعةٌ هم دون طبقتِه في معرفة المسائل الفقهيةِ فقلَّدوه في ما جاء به من المخالفة البحتةِ للشريعة المطهَّرة، فقامت الفتنُ على ساق، واشتغل صاحب كلِّ محلٍّ بمن يقاربه ممن
_________
(1) وهي 1 - حفظ النفس بشرعية القصاص فإنه لولا ذلك لتهارج الخلق واختلَّ نظام المصالح.
2 - حفظ المال بأمرين: أحدهما: إيجاب الضَّمان على المتعدي فإن المال قوام العيش، وثانيهما القطع بالسرقة.
3 - حفظ النسل بتحريم الزنى وإيجاب العقوبة عليه بالحد.
4 - حفظ الدين بشرعية القتل بالرِّدة والقتال للكفار.
5 - حفظ العقل العقل بشرعية الحدِّ على شرب المسكر فإن العقل هو قوام كل فعل تتعلق به مصلحةٌ فاختلاله يؤدي إلى مفاسد عظيمة.
وانظر: "البحر المحيط" (5/ 208 - 211). "الكوكب المنير" (4/ 166).(8/3828)
ضُرِبَتْ بينهم الحدودُ، فسُفِكَت الدماءُ، وهُتِكَت الحُرُمُ، ثم إن مولانا الشرفيّ ـ عافاه الله ـ يحتجُّ لهذه البدعةِ الساقطة المخالفة لما هو معلومٌ من الشريعة بحجةٍ لا يجري القلم بمثلها إلا في أمر معلوم بالضرورة الدينية، أو الضرورة العقلية، فيقول: إن ذلك قد دعت إليه حاجةٌ ضروريةٌ، ولعمري ما كان يطمعُ الشكايذيُّ ببعض هذا، وهو معذورٌ لقصور باعه عن النظر في الأدلة، فما عُذْرُ الشرفي! ونحن لا نشك أن الشكايذيُّ ـ رحمه الله ـ لو قال له قائلٌ: ماذا صنعتَ بنفسك! خالفتَ الشريعةَ المطهَّرةَ، وأوقعت الناسَ في الفتنة، لما وَسِعَهُ إلاَّ الاعترافُ بالخطأ، والرجوعُ عما فرَطَ منه، فقد كان بمحلٍّ من الورع.
قوله: الجواب عنه من وجوه:
الأول: نفيُ العموم بعدَ وجود المخصِّص من وجهٍ ما.
أقول: الجوابُ عن هذا الوجه من وجوهٍ:
الأول: أنَّ ظاهرهُ أنّ العامّ إذا خُصِّصَ لم يبق متَّصفًا بالعموم، وهو خلافُ ما أطبق عليه أهلُ الأصول (1)؛ فإنَّ العامَّ وإن خُصِّصَ بمخصِّصاتٍ متعدِّدةٍ لا يخرجُ عن كونه عامًّا.
الوجه الثاني: الاستفسارُ للشرفي ـ عافاه الله ـ عن المخصِّص الذي زعمه، وأبطلَ به دلالَة العمومِ ماذا هو؟ فإن كان حديث: "من سبقَ ... إلخ" فقد قدمنا أنه حجةٌ عليه لا له، وإن كان العرفُ الذي زعمه ابن حابسٍ فقد قدمنا إبطاله، وإن كان القياسُ المرسلُ الذي زعمه الشرفيُّ فقد أوضحنا فسَادَهُ.
الوجه الثالث: أن الشرفيَّ قامَ في مركز المنعِ، وليس المقامُ مقامَ المنع، بل المقامُ مقامُ الاستدلالِ، ومركزُ المنعِ هاهنا بيد المتمسِّكِ بالعموم، فيقول: أنا أمنعُ تخصيصَ العموم، وأمنع عدمَ بقاء العموم على عمومِهِ، وعلى مدَّعي التخصيص، أو ذهابِ العمومِ
_________
(1) انظر: "تيسير التحرير" (1/ 242)، "البحر المحيط" (3/ 159).(8/3829)
الاستدلالُ كما تقرَّر في علم الجدل (1) الذي قال له علم المناظرة، وآدابُ البحث.
قوله: ولكنَّ دلالةَ العامِّ عند أهل الأصول ظنيَّةٌ (2).
أقول: هذا الاستدراكُ واقعٌ في غير موقِعِه، لأنه قد قرَّرَ سابقًا عدمَ بقاء العمومِ بعد وجودِ المخصِّصِ، وكان القياسُ على مقتضى السياقِ أن يقول: هذه العمومات مخصصَّة، ويوضِّح المخصَّص، ولا حاجة إلى المنع الذي ليس هو وظيفة المستدِل، ولا حاجة أيضًا إلى ذكر ظنيَّة العموم؛ فإن هذا [4ب] إنما يناظِرُ به من كان مدعيًا لقطعيةِ دلالةِ العموم، ولم ندَّع ذلك في الرسالة، ولا حِمْنَا حوله؛ إذ الكلامُ عليه قد تقرَّر في الأصول ببراهينه.
قولُه: ولهذا خصِّص تخصيصًا ظاهرًا بقوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "لا حمى إلاَّ لله" (3).
أقولُ: إن كان الشرفيُّ بصدد الكلام على تسويغ منع الكلأ بالحدود فالحِمَى أمرٌ آخر كما بيَّناه في أول الكلام، وإن كان بصدد التخصيص لأدلة منع الحِمَى فهو أمرٌ غيرُ ما نحن بصدده، ولا نخالِفُ في أن قولَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "لا حمى" مُخَصَّصٌ بالمخصِّص المتصل (4)، وهو الاستثناء بقوله: "إلاَّ لله ولرسوله" ولكنَّ هذا لا ينفع الشرفيّ ولا يضرُّنا، وإن كان بصدد الاستدلالِ على ظنيِّة العموم من غير تعرُّضٍ للبحث الذي نحن بصدده فالمسألةُ أجنبيةٌ، ولها في الأصول براهينُ صحيحةٌ.
قولُه: فالذي فهمنا من نصِّه أنه لدفعِ الضررِ الحاصل بالمنع، فإذا زالتِ العلة جاز
_________
(1) انظر "الكوكب المنير" (4/ 361، 397). "الكافية في الجدل" (ص25). "الفقيه والمتفقه" (1/ 229).
(2) انظر "تيسير التحرير" (1/ 197، 329). "التبصرة" (2/ 19، 21).
(3) تقدم تخريجه.
(4) انظر تفصيل ذلك في "إرشاد الفحول" (ص488). "البحر المحيط" (3/ 277).(8/3830)
التحجُّرُ بالمنعُ.
أقولُ: صرَّح بقلمه ـ كثر الله فوائده ـ في هامش النسخة التي بخطِّه أن كلامَه هذا فيه إشارةٌ إلى تنبيه النصِّ، ولا أدري كيف جرى قلمُه ـ عافاه الله ـ بهذا واين مسلكُ تنبيه النصِّ من هذا؟ ومن أين فهم تنبيهَ النصِّ؟ وكان الأَوْلَى له التعويلَ على تخريج المناط (1) أو تنقيحَ المناط (2)؛ فهو أقربُ إلى ما نحن بصدده من تنبيه النصِّ وإن كان الكلُّ غيرَ صحيحٍ. وهَبْ أنَّ العلَّة هي التضرُّر إما بتخريج المناط، أو تنقيح المناط، فمن أين للشرفي أن التضرُّر بالتحجُّر قد زال بعد انقراض ألف سنةٍ من الهجرة؟ وما الذي دلَّه هذا؟ فإن التضرُّر الكائن في أيام النبوة وما بعدَها كائنٌ في الأزمنة المتأخرة [5أ]، اللهم إلاَّ أنْ يبرزَ برهانًا نقليًا أو عقليًا أن ضرر التحجُّر قد ارتفعَ في هذه الأزمنة، ولا سبيل إلى ذلك فإن الأرض في هذه الأزمنة هي على ما كانت عليه في الأزمنة الأولية لم تتسعْ، ولا زاد نباتُها، ولا تدفَّقت أنهارُها، بل النقصُ حاصلٌ في آخر الزمان كما دلّت على ذلك الأدلةُ وشهد به التجريبُ، فما بال أقلّ الأزمنةِ خِصْبًا، وأكثرها جَدْبًا! وهو آخر الزمان ارتفعَ فيه تضر الناس بالتحجُّر بعد أن كان موجِبًا للضَّرر.
قولُه: وقد فهم عمرُ بن الخطاب ... إلخ.
أقولُ: فَهْمُ عمرَ إن خالف النصوصَ ليس بحجةٍ (3) على أحد من الناس كما هو المذهب الحق، واجتهادُه لا يلزمُ غَيْرَهُ على أنه يمكن أن يكون مستندُهُ هو ما قدمنا من فعله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، ثم هَبْ أن عمرَ حَمى ذلك لما فهمه من النصوص
_________
(1) تقدم توضيحه.
(2) تقدم توضيحه.
(3) تقدم "بيان أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد ليس بحجة على صحابي آخر وأما على من بعد الصحابة من التابعين فذهب الجمهور على أنَّه ليس بحجة مطلقًا. وذهب المالكية وأكثر الحنابلة وبعض الحنفية والشافعي في القديم أنه حجةٌ شرعية مقدمة على القياس. وقيل: ليس على إطلاقه ـ بأنَّه ليس بحجة ـ بل فيه تفصيل. وقد تقدم.
انظر تفصيل ذلك: "البحر المحيط" (6/ 72). "شرح صحيح مسلم" للنووي (1/ 30).(8/3831)
كما ذكرتَ، فهذا غيرُ ما نحن بصدده، فإن عمر حَمَى ذلك لخيل الجهادِ، ومصلحةِ المسلمينَ، ولم يُنْقَلْ عنه أنْ ضربَ حدودًا بين قريتين، ومنع كلَّ جهة من مجاوزة ما ضربه بينهم، وليس كلامُنا إلاَّ في هذا، ولهذا سمَّينا الرسالة "عِقْدُ الجمانِ في شأنِ حدودِ البلدانِ" (1) والاسم يدلُّ على المسمَّى أقلَّ الأحوال. وقد أوضحنا الفرقَ فيما تقدم بين الحِمى وبين الحدود، فلْيتأمَّلِ الشرفيُّ ـ أطال الله بقاءه ـ.
وأما ما ذكره ـ كثر الله فؤائده ـ من الكلام في المرسل وأقسامِهِ فليرجِعْ إلى كتب الأصول، وهي موجودة لديه، وينظرْ ما ذكره الأئمةُ في تفسير كلِّ واحد منها؛ فإنه إن أمعنَ النظرَ في ذلك كما ينبغي [5ب] عرفَ أن حدودَ البلدانِ ليست من قسم المناسبِ الملائِم، ولا المؤثِّرِ، ولا المرسلِ، ولا الغريب، بل من قسم المناسب الملغي. وقد أورد الأئمة لكل قسم منها أمثلةً متعددة، ولا سيما في الكتب المطوَّلة (2) فلنكتف بمجرد الإحالة عليها، وفي إنصافه ـ دمت فوائده ـ ما تغنينا عن إيراد الأمثلة.
وأما ما أورده من أفعال عمرَ فيكفينا في جوابه أن نقولَ: ليس اجتهادُه حجةً، ولا يجب الإنكارُ في الاجتهاد حتى يقال: لم يُنْكِرْ عليه الصحابةُ، ولو كان مجرَّدُ ما يؤدي إليه الاجتهادُ مما يجبُ فيه الإنكارُ لأنكر الناسُ على كلِّ مجتهدٍ اجتهادُه، ووجبَ عليهم ذلك، ولا قائلَ به، فمن سكت عن مجتهد في اجتهاده لا يُسْتَدَلُّ بسكوته على أن ذلك الاجتهادَ حقٌّ، وما فعله عمرُ في الحِمى هو من مطارح الاجتهادِ، وليس من المواضع التي بمسرحٍ للاجتهاد حتى يكون لما قاله او فعلَه حُكْمُ الرفعِ، وبعد هذا كلِّه فليس كلامُنا في الحمى، إنما كلامنا في الحدودِ، وبينَهما فرق قد تقدم تحريرُهُ.
قوله: وحصولُ المفسدة بالتحجُّر أهونُ منها مع عدم التحجُّر.
_________
(1) رقم (119).
(2) انظر "الكوكب المنير" (4/ 153) و"المحصول" (5/ 158)، "إرشاد الفحول" (ص710 - 720) "البحر المحيط" (5/ 153 وما بعدها).(8/3832)
أقولُ: رجع ـ عافاه الله ـ إلى الموازنة بين المفاسِد وهو غيرُ ما قد حرَّره سابقًا، وهذا أحسنُ ما ينبغي التعويلُ عليه في المسألة، لكنه لا يتمُّ إلاَّ بعد تسليم ما زعمه من أن مفسدةَ التحجُّر دون مفسدة عدم التحجر، ونحن نمنع ذلك، بل نقول: إنه لا مفسدة في ترك التحجُّر أصلاً شرعًا وتجربيًا، أما شرعًا فَلِما ذكرنا في الرسالة (1) من إرشاد الشارع إلى الاشتراك في الثلاث، ونهيه عن الاختصاص بها [6أ]، وأما تجريبًا فَلِما قدَّمنا ذِكْرَهُ غَيْرَ مرَّة أن منشأ الفتن، وسفكَ الدماء إنما كان بسبب ضَرْبِ الحدود، ومَنْعِ الناس عن حكم الشرعِ، ومخالفةِ ما جاء به رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وكيف يكون ما شرعه لأُمَّتِهِ، ودل عليه، وأرشد إليه مفسدةً! يا لله العجبُ، بل كيف يكون ما شرعَهُ، وهدَى إليه مشتملاً على مفسدةٍ أعظمَ من المفسدة الحاصلة بما نهى عنه وأرشد إلى مخالفته! وهل هذا إلاَّ من التقصير بجانب الشريعة المطهرة! وترجيحَ ما يخالفها! ومولانا الشرفيُّ وإن جرى قلمُه بهذا، واستلزمه كلامُهُ فهو ـ عافاه الله ـ لو كُوشِفَ، وحُوْقِقَ لم يرضَ أن يحكم على ما شرعه لنا رسول الله، ودرج عليه خيرُ القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم إلى انقراضِ ألفِ سنةٍ من الهجرة بأنه مفسدةٌ خالصةٌ زائدةٌ على ما في خلافِه مما سنَّه الشكايذي، ومَنِ الشكايذي بل من العالَمُ بأسرِهِ بجنب المصطفى ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ؟! فما لنا وللمعادلة بين الشريعة المطهرة، وبين البدعة المحضة، ومجاوزة ذلك إلى أن الشريعة المطهرةِ قد اشتملتْ على مفسدةٍ، وغيرُها من البدعةِ مشتملةٌ على مصلحةٍ! سبحانك الله وبحمدك، اللَّهم غُفْرًا.
دعُوا كلَّ قولٍ عند قولِ محمد ... فما آمِنٌ في دينِه كمخاطِرِ
قوله: لكن زَمَانَنَا قد فسدَ أكثرُ الناس فيه.
أقولُ: الفساد إنما وصل إلينا من تركِ الشريعةِ المطهرة، وظنِّهم أن غيرها أصلحُ منها ولو دبَّرهم الولاةُ بها لكانوا كالصحيح المقوَّم [6ب].
_________
(1) رقم (119).(8/3833)
وقد جربنا من أحوال العامة والخاصّة ما لا يأتي عليه الحصْر فوجدنا مصلحتهم وصلاحَ دينهم ودنياهم في الشريعة المطهرة، وما يُظَنُّ مِنْ أنَّ سِواها يُصلِحُهم فهو باطلٌ عاطلٌ لا يَغْتَرُّ به إلاَّ من لم يمارِس الحقائقَ. ولقد اتفقَ شِجارٌ في الديوان الإمامي بين طائفة من اليهود ـ أقماهم الله (1) ـ
وبين جماعة من المسلمين ـ أعزهم الله ـ في المدر، وتمسكوا بأحكام جاريةٍ على قانون المناسب الملغي قد قررها الأوَّلون، فلما أبرزوها في الديوان أجريتُهم عليها، فعادوا عن قريب، ثم أجريتُهم على نوع آخر من أنواع المناسب فعادوا عن قريب، ثم كذلك، وما زلت أتطلَّبُ ما يصلِحُهم مرةً بعد مرةٍ فأعياني أمْرُهُم، وداويتُهم بالشريعة السمحةِ السهلةِ، ومزَّقتُ ما بأيديهم من الأحكام السابقة واللاحقة، وقلتُ: بيعوا كيفَ شِئتُم ولا حرجَ، فكان في ذلك الشفاءُ، ولم يَجْرِ بينَهم بعد شجارٌ، وصلُحوا أكملَ صلاح، وقد كانوا شارفوا الهلاك، وهكذا اتفق شجارٌ في الديوان، وخصوماتٌ متعددةٌ في شأن الحدود، وكلَّما أردتُ إصلاحهم بشيء مما يقوِّي ما هم عليه من المناسب الملغي فسدُوا حتى اتفقَ في بعض الخصوماتِ بينَ أهل قريتين أني أمرت خمسةً من حكَّام الديوان المعتبرين يعزمون إلى محل الشجار، وينظرون ما تتحسَّمُ به المادةُ، فما زال [7أ] الشرُّ يتزايد، والفتنة تثورُ، فداويتهم آخِرَ الأمر بمراهم الشريعة؟ وقلت: اعْزِمُوا على بركة اللهِ وارْعَوا كي شئتم بلا حرجٍ، وأنتم مشتركون في جميع المواطن المتصلة بكم، فذهبوا وعاشوا بأرغدِ عيشٍ، لم يَثُرْ بينَهم شيء من الفتن، ولا نابَتْهم نائبةٌ قطُّ (2)، وكم أعد ذلك من مثل هذا، فكن على يقين أن الصلاحَ كلَّ الصلاحِ لأمور الدنيا والآخرة هو في الشريعة المطهرة الذي يقول صاحبها ـ صلى الله عليه وآله
_________
(1) كذا في المخطوط. غير واضحة. ولعلها أقمأهم الله.
(2) قال فضيلة القاضي محمد بن إسماعيل العمراني حفظه الله ورعاه: "وهو كلام جيد يدل على أنَّ الشوكاني محدث وقاضٍ وفقيه، وأُصوليِّ وشجاع في قول الحق الذي يراه كما أنَّه شجاع في تطبيقه فرضي الله عنه وأرضاه".(8/3834)
وسلم ـ: "تركتُكُم عل الواضحةِ، ليلُها كَنضهارِها، لا يزيغُ عنها إلاَّ جاحدٌ" (1).
قولُه: وشاهدُ الحال متفقةٌ في بلاد عَنْسٍ ... إلخ.
أقولُ: صدقتَ يا مولانا وأنصفتَ، فهذه المفسدةُ التي ذكرتَ أنها وقعت بسبب الحدود هي شاهدةٌ لما ذكرنا من أن هذه الحدودَ ضاربٌ سببًا لِثَوَرانِ الفتنِ، اعتبرْ بذلك ولا تغترَّ بقولك آخِرًا، فهذا وقع وقد قُسِّمَتِ الحدودُ، فكيف مع الشياع! فإنهذا مجردُ ظنٍّ وتخمينٍ، وتخيُّل مختلٍّ، بل هؤلاء المذكورونَ لو لم يقع بينَهم القسمةُ لم يقع بينهم شيءٌ من تلك الفتنةِ، لأنَّ كلَّ طائفة تَعْلَمُ أن ما في جانب الطائفةِ الأخرى هو مشتركٌ بينَهم، فتطيبُ النفوسُ، وتطمئنُّ الخواطر، وينقطعُ الشرُّ؛ إذ بسبب ثورانِ الفتنةِ ما أوجبتْه من اختصاص كلّ طائفة بما في جوانبها.
قوله: وقد قرر ما وقع من عليه الاعتماد ... إلخ.
أقولُ: ينبغي للشرفي ـ عافاه الله ـ حيث قد عاد إلى الاحتجاجِ بالرجال أن يوازِنَ بين مَنْ ذكرهم، وبين رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ [7ب]ـ والصحابةِ، وأكابرِ أهلِ البيتِ المطهرينَ كأمير المؤمنين وأولاده من الأئمة المطهرين إلى بعد انقضاء دولة الإمام الأعظم القاسم بن محمد ـ عليه السلام ـ ويرجِّح من وقع عليه اختياره.
وأما ما ذكره من أن المفتي والشامي والقاضي عام لو شاهدوا الفساد في هذا الزمن ... إلخ. فهو مخالفٌ لقوله: إنه حكَمَ بذلك في الدولة القاسمية، والمؤيدية، والمتوكلية، فإن القاضي عامرًا هو قاضي الدولة القاسمية، والمؤيدية، والمفتي هو مدرّس الدولة المؤيدية والمتوكلية، والشاميُّ هو عالم الدولة المتوكلية، وما بعدَها؛ فإنكار هؤلاء الصدورِ لما وقع من الحدود الشكايذية مشعرٌ بأن هؤلاء الأئمةَ مثلُهم.
قوله: انظر كيف حرَّم الشارع الربا (2)، ورخص رخصةَ ...........................
_________
(1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(2) تقدم ذكره في الرسالة رقم (119).(8/3835)
العرايا (1) ... إلخ.
أقول: ليس النزاعُ فيما صدر عن الشارع، فكلُّه حِكْمةٌ، وصوابٌ، ومصلحةٌ خالصةٌ، إنما النزاعُ فيما وقع مخالفًا للشريعة الغراء.
قوله: ثم صرح بقلمه بما يقطع مادةَ اعتراضِه ... إلخ.
أقول: أين هذا من ذاك؟ فالذي معناه هو ضربُ الحدود على طائفة من الأرض، وجعلُها مختصةً بقوم على مرور الأعصار، ومنعُ غيرِهم عنها وإن احتاجوا إلى ما فيها من الكلأ، فهذا هو منع الكلأ الذي نهى عنه الشارعُ، وإن لم يكن هو بعينه فَلْيُصوِّرْ لنا الشرفيُّ صورةً يصدُقُ فيه منعُ الكلأ المنهيِّ عنه، وأما ما ذكرناه من الإحياء، والتحجُّر، والقطع، فالأول يثبت به الملكُ لبقعةٍ فيصيرُ من جملة أملاكِه، وأما الثاني وهو التحجُّر (2) فأحكامه معروفة في الأدلة والكتب الفقهية، وأما الثالثُ وهو القطعُ (3) فقد صار القاطعُ مستوليًا على ما قطعه، مالكًا له [8أ]، فكيف يكون تصريحُنا بهذه الأمور مستلزمًا لتسليم جواز الحدود التي يقال فيها مثلاص للقرية الفلانية كذا وكذا من الأميال، أو الفراسخ، وللقرية الفلانيةِ مثلُ ذلك! ولا إحياءَ ولا تحجُّرَ ولا قطعَ بل مجردُ المجازفةِ ومخالفةُ الشريعةِ ويوضَعُ ذلك في مراقيمَ، فهل مجردُ هذا إحياءٌ أو تحجُّرٌ، أو قطعٌ للكلأ حاشا وكلا.
قوله ـ عافاه الله ـ: قلتُ: وقوله: إنَّ جميع الأدلةش مخالفةٌ لما شرعه الله ... إلخ.
أقول: لم أقلْ هكذا، فإنَّ هذا تناقضٌ ظاهرٌ، بل قلتُ في الرسالة (4) ما لفظه: هذا جملةُ ما خطر بالبال عند تحرير هذه الكلماتِ من الأدلةِ الدالةِ على مخالفة هذه الحدودِ لما شرعه رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ
إلخ وهذا كلامٌ متَّضحُ المعنى.
_________
(1) تقدم ذكره في الرسالة رقم (120).
(2) انظر "المغني" (8/ 151 - 152).
(3) تقدم. وانظر: "المغني" (8/ 153 - 154).
(4) رقم (119).(8/3836)
قولُه: بل موافقةٌ لأنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قد اعتبر المصلحةَ.
أقولُ: قد قدمنا الجوابَ عن هذا، وأما ما ذكرهُ ـ عافاه الله ـ من الإقطاع فبابٌ آخَرُ خارج عن البحث، لأن الإقطاعَ تمليكٌ (1) لما لم تثبتْ عليه يدٌ، وهذا لا يخفى على مثلِهِ ـ دامت إفادته ـ.
قوله: لأنَّ كلَّ واحد قد رضي بما يليه.
أقولُ: فإذا طلبَ هذا رضيَ الرجوعَ إلى حكم الله، أو طلبَهُ من بعده ممن لم يكن موجودًا حالَ الرِّضى، هل يُجابُ إلى حكم الله أم يقال له: لا سبيل لك إلى ذلك لأنَّ فلانًا الذي هو أبوك أو جدُّك أو أعلا من ذلك قد رضي؟
فإن قلتم: يُجابُ فهو مطلوبُنَا، وإن قلتم: لا يُجابُ فما الدليلُ؟ هذا على تسليم أنَّ للرضى تأثيرًا في الجواز، وهو ممنوع، فإن الذي رضي لم يرضَ بشيء بملكه ولا يستحقُّه، بل رضي في شيء هو مشتركٌ بين المسلمين أجمعينَ بحكم رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، فلا تأثيرَ لرضائه، وهذا لا يخفى على الشرفي ـ عافاه الله [8ب].
قوله: فالذي فهمنا من تنبيه النصِّ ... إلخ.
أقول: قد قدمنا الجواب عن هذا فلا نعيده.
قوله: ولهذا جرت عادةُ الناس بمنع الدخول إلى آبارهم وبساتينهم.
أقولُ: إن كان الاستدلالُ بمجرد جَرْيِ عادة الناس فليس العادةُ بشريعة تُتَّبَعُ، وما هذه بأولِ مسألةٍ خولفت فيها الشريعةُ كما قال العلامة جار الله في الكشاف، وكم باب من أبواب الشريعة قد صار لترك العملِ به كالمنسوخ، هذا على فرض شمول الشركة المنصوص عليها لما ذكر، وعدمِ وُجْدَانِ ما يفيدُ جوازَ المنع، لأن البساتينَ مملوكةٌ، وللمالك منعُ غيرِه عن استعمال مُلْكِهِ، وكذلك البئر مملوكةٌ، والشركةُ إنما هي في مجرّدِ الماء، ولهذا وقع في كتب المذهب الشريف أنه يمنعُ الداخل إلاَّ بإذن، والآخذُ على وجه يضرُّ، فتلك العادةُ الجاريةُ بالمنع هي لأجل الملك، لا لأجل الشيء المشترك كالماء، فأين غرب هذا عن مولانا الشرفي ـ عافاه الله ـ؟.
قولُه: فما أدري من أين التخصيصُ القاضي ـ عافاه الله ـ.
أقولُ: لم أخصِّصْ، بل أحكمُ بالشركةِ في الثلاثة الأشياء التي حكَمَ بالشركة فيها رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، وإنما اقتصرتُ على الكلام في الكلأ لأنَّ السؤال ورد فيه، فَمِنْ أين للشرفيِّ أني خصَّصْتُ؟ وما ذاك في كلامي يدلُّ على ما ادَّعاه.
قولُه: وأنا أضربُ له مثالاً، لو كان عشبٌ بين رجلينِ
إلى آخر كلامه.
أقولُ: إذا حُكِّمْتُ في مثل ما ضربَهُ من المثلِ قلتُ: للجميع ارْعوا جميعًا، ومن سبقت غنمُهُ إلى موضعٍ لم يحلّ للآخر أن يطرُدها عنه، وأعرّفُهم بأن هذا الحكم هو الذي جاءت به الشريعة المطهرة، وحينئذ لا يثور من الشر شيء، ولا يجري بينَهم فتنةٌ [9أ] قطُّ، فإن جرت من بعض شياطينهم أملينا عليهم قول الله عز وجل: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (2) فما في هذا المثال الذي ضربَهُ الشرفين إشكالٌ، ولا يَعْيي عن الحكم فيه عالمٌ بالمسالك الشرعيةِ، ولكني أضرب للشرفين مثالاً مقابلاً لمثاله فأقول: لو قالتْ إحدى الطائفتين في مِثْلِ الصورةِ التي ذكرها نحن المختصونَ بهذا الوادي، ولا حق لغيرنا فيه: فقال الواردُ عليهم بسائمتِه: يا قومِ، هذه سائمتي قد أعوزَها أمرُ الكلأ، ولم أجدْ في غير هذا الوادي ما يسدُّ جَوْعَتَها فاتركوني أرعى معكم، فالوادي واسعٌ، والخير عن غير شاسعٌ، فهذه سائمتي قد شارفتِ الهلاكَ جوعًا، وهو يكفيكم جانبًا من جوانبه، وهذه سائمَتُكُم في جزء من أجزائه، فقالوا: لا سبيلَ لك إلى ذلك، وإن ماتت سائمُتك، لأن هذا حدُّنا قدمنا فيه رَقْمَ حاكم يشتملُ على ما يخالِفُ حُكم أحكم الحاكمين، فما ذاك الشرفيُّ في مثل هذا،
_________
(1) انظر "المغني" (8/ 153).
(2) [الحجرات: 9].(8/3837)
هل يُطْرَدُ الوافدُ بماشيته ويدعها تموت دون المرعى؟ أم كيف يصنع؟ ثم إنّ الشرّ ـ لا محالة ـ يهيجُ بسبب المنع لا سيّما عند الحاجة على الصفة المذكورة، فمَنِ الباغي ومن المبْغِيُّ عليه؟ ومَنِ المحقُّ ومن المبطلِ؟
قولُه: فما أرى هذه الحدود إلا من جنس إقطاع ما لم يسبق إليه مسلم.
أقولُ: هذا فاسدٌ، فإن الإقطاعَ هو التمليكُ لجزء من الأرض من رسول الله، أو من الخلفاء الراشدين، وهذا ليس بتمليك، بل ليس بتحجّر يوجدُ مجرد ثبوت الحق كما قدمنا [9ب]، فَلْيُعِدِ الشرفيُّ ـ عافاه الله ـ النظرَ، فمثل هذا لا يخفى على ذهنه السليم.
قوله: هذا فرضُ ما لم يقعْ ولا سمعَ به.
أقول: بل قد وقع التصريحُ بذلك، والاستدلالُ به من بعض متأخري العلماء، وذكره السائل ـ عافاه الله ـ في سؤاله الذي أجبنا عليه بالرسالة.
قوله: فقد أخذ العلماءُ منه أحكامًا ـ إلى قوله ـ وأخذوا من قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} (1) أنه ينبغي تعظيم العلماء ... إلخ.
أقولُ: هذا الأخذُ لا تدعو إليه حاجةٌ، لأن السجودَ الذي هو معنى الآية قد دل الدليلُ القاطعُ على عدم جوازِهِ، ومجردُ التعظيم للعلماء قد أفادتْه آياتٌ قرآنيةٌ (2)، وأحاديثُ نبويةٌ (3). هذا على فرض أن مثلَ هذه الآيةِ من جنس ما ذكرناه وليس الأمرُ
_________
(1) [البقرة: 34].
(2) منها قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
ومنها قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].
ومنها قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
(3) (منها): عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَثَلُ ما بعثني الله به من الهدي والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ، والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفةٌ منها إنَّما هي قيعانٌ، لا تمسك ماءً، ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلت به"
أخرجه البخاري رقم (79) ومسلم رقم (2282).
(ومنها): ما أخرجه البخاري رقم (71) ومسلم رقم (1037) من حديث معاوية قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين".
(ومنها): ما أخرجه البخاري رقم (73) ومسلم رقم (816) من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا حسد إلا في اثنتين رجلٌ آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ورجلٌ آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها".(8/3839)
كذلك؛ فإن الذي ذكرناه هو المنعُ من الاستدلال بأفعال الله في عباده، من سلب النفوسِ وأخْذِ الأموال، وإنزالِ الجوائحِ، فلا يقول قائل من البشر أنه يجوز له سفك الدماء، لأن الله ـ سبحانه ـ يميتُ العبادَ، ولا يقول: إنه يجوزُ له أخْذُ الأموال، لأنه الله تعالى يسلُبهم أموالَهم، والآية المذكورةُ هي خطابٌ من الله لطائفةٍ من عباده المقربينَ، وليس كلامُنا في أقواله سبحانه، فهي نفسُ الشرعِ، إنما كلامُنا في أفعاله فَوِزَانُ الآية التي ذكرها الشرفيُّ وزانُ قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (1) ففي هذه الآية أمر البشرَ باتباع نبيِّهِ، وفي تلك الآية أمر الملائكة بالسجود لنبيهِ، فما بال الشرفي يسلك في فجاجِ لم أسلكْها، ويمشي في أودية لم أمشِ فيها، ويجعل ذلك اعتراضًا على ما ليس بينَه وبين الاعتراض جامعٌ! فليعدِ النظر ـ عافاه الله ـ فشرطُ التعقُّبِ للمباحث [10أ] إمعانُ النظر في الكلام المتعقبِ وتفهُّم معانيهِ، وتدبُّرِ مبانيه.
ثم إيرادُ ما يمكن أن يكونَ مستندًا له والقدحُ فيه بقادحٍ معتبرٍ، وأما المبادرةُ بالاعتراض قبل الإحاطة بمعاني المعترضِ عليه فليست مما يسوّغُهُ أهل النظرِ، ولهذا عدُّوا السقطة من المعترض غير مُغْتَفَرةٍ، واغتفروها من غير المعترض، لأن القدح في الكلام والإيراد عليه محتاجٌ إلى إثبات قدَمٍ، ومراجعةِ فكرٍ. ومثل الآية التي ذكرها ـ عافاه الله ـ
_________
(1) [الحشر: 7].(8/3840)
الآيةُ الأخرى، وهي قوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} (1) فإن ذلك غيرُ ما نحن بصدده وكذلك قولُه: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} (2).
وبالجملة، فجميعُ ما ذكره في وادٍ غيرِ الوادي الذي نحن بصدده، فليعِدِ النظر ـ عافاه الله ـ في رسالتنا إن كانت لديه، وإلاَّ بعثنا بها؛ فهو أجلُّ من أن يتكلَّم بما لا نسبةَ بينَه وبين ما فيه النزاعُ.
قوله: وكما تعرَّضَتِ الملائكةُ بقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} (3).
أقولُ: الذي نحن بصدد بيانه هو منعُ الاقتداء بأفعال الله، فيقول في مثل هذه الآيةِ: يجوزُ للرجلِ أن يجعلَ له أعوانًا يفسدونَ في الأرض، ويسفكون الدماء تمسُّكًا بهذه الآية، ولسنا بصدد الكلام على غيرِ ذلك. وسؤالُ الملائكةِ لم يقعْ على وجه مطابقٍ، بل تعرَّضوا لما لا يعينهم، لأنه تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} (4) ولهذا أجاب عليهم بما يشعرُ بنسبتِهم إلى الجهلِ في الأمر الذي سألوا عنه، وما ذكره عقبَ ذلك من أدلةِ ما أرشدْنا إليه [10ب].
قولُه: والتفسيرُ الذي ذكره أنَّها محمولةٌ على تركِ الأسبابِ لم أجده، إلاَّ أن الذي في الكشاف (5) أنَّ المراد إقرارُ [المنكر] (6) هو مندرجٌ تحت ما ذكرناه، لأن إقرارَ المنكر هو من الأسباب الموجبةِ للفتنِ، فتركُ الإقرارِ لهم بطردهم فيه تركُ سببِ الفتنةِ،
_________
(1) [البقرة: 247].
(2) [الأعراف: 77].
(3) [البقرة: 31].
(4) [الأنبياء: 29].
(5) (2/ 571).
(6) في "المخطوط" [المشركين] وما أثبتناه من الكشاف.(8/3841)
ومثل ذلك افتراقُ الكلمةِ. وهذه الآيةُ الشريفةُ قد كتبنا على كلام صاحب الكشافِ في تفسيرها رسالةً سميناها "فتحُ القديرِ في الفرق بين المعذرةِ والتعزيرِ" (1) جوابًا عن سؤال بعض أعلام العصرِ.
قولُه: فإن استحسنَ ذو الولاية ... إلخ.
أقول: هذا الكلامُ ينبغي لمولانا الشرفيّ ـ عافاه الله ـ الضربُ عليه، ومَحْوُهُ عن وجه القرطاس، وإعدامُهُ من حيِّز الوجود، وكيف يقول: إنه لا حرجَ عليه في ذلك! وأيُّ حَرَجٍ أعظم من أحذ مال امرئ مسلم بلا قرآن ولا برهان: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (2)، "لا يحلُّ مالُ امرئ مسلمٍ إلاَّ بطيبةٍ من نفسه" (3).
وأما الاحتجاج على هذا الأصل العظيم بما ذكره من استحسان عمر فما لنا ولعمر، ومن عمر ـ رحمه الله ـ حتى تعارض باستحساناته نصوص القرآن والسنة! وأما عدم الإنكار عليه فالمجال مجال اجتهاد، وليس من مواطن الاعتراض، ولو فرض غير ذلك فعمر رضي الله عنه هو الذي يقول فيه ابن عباس (4): كان رجلاً مهيبًا فهبته.
وقد تقرر في الأصول أن الإجماع السكوتي (5) مشروط بشروط: أحدها اطلاع الكل من أهل [11أ] الحل والعقد على مقالة القائل، ومنها عدم المانع من المخالفة، ومنها كون
_________
(1) ستأتي الرسالة برقم (206) من الفتح الرباني.
(2) [النساء: 29].
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم ذكره.
(5) الإجماع السكوتي: وهو أن يقول بعض أهل الاجتهاد بقول وينتشر ذلك في المجتهدين من أهل ذلك العصر فيسكتون ولا يظهر منهم اعتراف ولا إنكار وفيه مذاهب:
1 - أنه ليس بإجماع ولا حجة، قاله داود الظاهري. وقيل: إنه نص الشافعي في الجديد.
2 - أنه إجماع وحجة وبه قال جماعة من الشافعية وجماعة من أهل الأصول.
انظر: "البحر المحيط" (4/ 508)، "الكوكب المنير" (2/ 258).(8/3842)
المسألةِ ليست مما يسعُ السكوتُ فيها كمواطن الاجتهادِ، والبحثُ محرِّرٌ في الأصول. وقد أطلتُ البحثَ في مسألة الإجماع السكوتي، ووسَّعتُ أطرافه في حاشيتي على شفاء الأمير الحسينِ المسماة: "وبل الغمام على شفاء الأوام" (1).
وقد أفاد مولانا الشرفي ـ جزاه الله خيرًا ـ فوائد، وأسس قواعدَ، وقيَّد شواردَ، ولكن الحقيرَ راقمَ الأحرف أحبَّ التنبيهَ له على ما حاك في الخاطر، ويطلبُ منه أن يفعل كما فعلتَ، فكلُّ أحدٍ يُؤْخَذُ من قوله ويتركُ إلاَّ المعصومَ، ونحن أعوانٌ على استخراج الحقِّ، إخوانٌ في طلبه، وليس بين أحد وبين الحق عداوةٌ. ونسأل الله أن يجعلَ الأقوالَ والأفعالَ خالصةً لوجهه الكريم، مقرِّبةً إلى رضاه وفَضْلهِ العميمِ. كان تحريرُ هذه الأحرفِ في النصف الأول من ليلة الاثنينِ إحدى ليالي شهر جُمادى الآخرةِ سنة 1214.
بقلم مؤلفه محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله لهما، وتجاوز عنهما ـ، وعن جميع المسلمين آمين.
_________
(1) (1/ 67 - 70). بتحقيقي ط: مكتبة ابن تيمية ـ القاهرة.(8/3843)
(122) 35/ 2
بحث في المخابرة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديث
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(8/3845)
وصف المخطوط:
1 - عنوان المخطوط: "بحث في المخابرة".
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "الحمد لله وحده. حين وقفت على هذا التحقيق من وجه إليه، قال محرضًا على التعويل عليه ... ".
4 - آخر الرسالة: "حُرِّر بقلم جامعه الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في عشية الثلاثاء من شهر جمادى الأولى سنة 1202".
5 - نوع الخط: خط نسخي عادي.
6 - عدد الصفحات: 9 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصحفة: 29 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/3847)
الحمدُ لله وحدَه.
حين وقفَ على هذا التحقيقِ من وجِّهَ إليه، قال محرِّضًا على التعويل عليه، سائلاً من الله التوفيقَ إلى أوضح طريقٍ:
علومٌ قولُ أحمد (1) لو رآها ... أراها معجزاتٍ من محمدْ
فعُضَّ بناجِذيك على هُداها ... فإنك باتِّباع الحقِّ تُحْمَدْ
كنا نرجو أن يوضح عند المناظرة الراجحَ من التحريم والجوازِ في المخابرة، فأبدى لنا أضعافَ ما رجوناه في عضون رياضٍ ناظرةٍ ـ ضاعف الله له خيرات الدنيا والآخرة ـ.
إنا بعثناك نبغي القولَ عن كَثب ... فجئت بالنجم مصفو ذات الأفق
بقيتَ ما سار نجمٌ أو رسا علَمٌ ... وما تفاوحَ نشرُ النَّوْرِ في الورقِ
كتبه عبد القادر بنُ أحمدَ ـ عفا الله عنهما ـ.
_________
(1) في الهامش: ابن حنبل.(8/3851)
الحمد لله.
لما وقعتِ المذاكرةُ في هذه المسألةِ التي هي جوازُ المخابرةِ، وكانت مفرَّقةَ الأقوال، مشاغلةً لكلِّ قالٍ، وطال الكلام ولم يتَّضحِ الإشكالُ إلاَّ بالفهم مِنْ تقدُّم المنسوخِ (1) وتأخُّرِ الناسخ أبرزَها العلامةُ محمد بن علي ـ أعلى الله شأنه ـ بفصيح كلامه، ووجيزِ خطابه، فجمع الأقوالَ، وأوضح الاستدلالَ، وذكَرَ مذهبَ الآل. لا جرمَ أنَّها حقيقةٌ بهذا البيانِ؛ فجزاه خيرًا. ذلك فضلُ يؤتيه مَنْ يشاءُ.
وصلَّى الله على سيدنا محمدٍ وآله وسلَّم.
بقلمِ الفقيرِ إلى الله .................................
_________
(1) النسخ لغةً: الإبطال والإزالة ومنه نسخت الشمس الظلِّ، والريحُ آثار القوم. "
لسان العرب" (14/ 121)، "مقاييس اللغة" (5/ 424) ويطلق ويراد به النقل والتحويل ومنه نسخت الكتاب أي نقلته ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29].
انظر: "البحر المحيط"
(4/ 64). من شرط النسخ.
1 - أن يكون المنسوخ شرعيًّا لا عقليًا.
2 - أن يكون الناسخ منفصلاً عن المنسوخ متأخرًا عنه، فإن المقترف كالشرط، والصّفة والاستثناء ـ لا يسمّى نسخًا بل تخصيصًا.
3 - أن يكون النسخُ بشرع فلا يكون ارتفاع الحكم بالموت نسخًا بل هو سقوط تكليف.
4 - أن لا يكون المنسوخ مقيدًا بوقت، أما لو كان كذلك فلا يكون انقضاء وقته الذي قُيّد به نسخًا له.
5 - أن يكون الناسخ مثل المنسوخ في القوة أو أقوى منه لا إذا كان دونه في القوة، لأن الضعيف لا يزيل القويّ.
6 - أن يكون المقتضي للمنسوخ غير المقتضي للناسخ حتى لا يلزم البداء وقال الكيا: ولا يشترط بالاتفاق أن يكون اللفظ الناسخ متناولاً لما تناوله المنسوخ أعني التكرار والبقاء إذ لا يمتنعُ فهمُ البقاء بدليل آخر سوى اللفظ.
7 - أن يكون مما يجوز نسخه فلا يدخل النسخ أصل التوحيد لأن الله سبحانه بأسمائه وصفاته لم يزل ولا يزال. ومثل ذلك ما عُلم بالنص أنَّه يتأبد ولا يتأقت.
انظر: "تيسير التحرير" (3/ 199)، "البحر المحيط" (4/ 78)، "إرشاد الفحول" (ص613 - 614).(8/3852)
الباعثُ على جمع هذه الرسالة أنها وقعت بيني وبين شيخي العلامة الإمام عبد القادر بن أحمد (1) ـ متَّع الله به ـ مراجعةٌ في مسألة المخابرة حال القراءة في جامع الأصول، بحضرة جماعة من أعيان العلماء، فلما وصلت هذه الرسالة إليه ارتضاها وكتب على ظهرها ما ترى.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم.
الله المسئول أن يوفِّر لكم الأجورَ، ويديم عليكم النِّعم والسرورَ، ويكشف بأشعة أنوا علومِكم ظلماتِ الجهلِ، بحلوه وطَوْلِهِ، غَيْرُ خفيٍّ على نظركم الثاقبِ، فهمكُمُ الصائب أن الإذعان ممَّن حاول النظر لمجرَّد ما لاح في بادي الرأي، وخطر مما لا تقبله سليماتُ الفطر.
وإنَّ البحث لما انتهى إلى مسألة المخابرةِ، ووقعت فيها تلك المراجعةُ والمذاكرةُ في موقفكم الأنيس صبيحةَ يوم الخميسِ، لاح للنظرِ القاصرِ، والفهمِ الفاترِ ما لاح، فلما
_________
(1) عبد القادر بن أحمد بن عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين ابن الإمام شرف الدين بن شمس الدين بن الإمام المهدي أحمد بن يحيى.
ولد سنة 1135هـ ونشأ بكوكبان.
قال الشوكاني في ترجمته في "البدر الطالع" رقم (243) وهو شيخنا الإمام المحدث الحافظ المسند المجتهد المطلق. وقال الشوكاني وبيني وبينه مكاتبات أدبية من نظم وشعر، وما سألته القراءة عليها في كتاب فأبى قط.
من مؤلفاته: شرح "نزهة الطرق في الجار والمجرور والظرف"، "فلك القاموس" وله حواشي على "ضوء النهار".
توفي سنة 1207هـ ورثاه الشعراء وأنا من جملة من رثاه بقصيدة مطلعها:
تهدّم من رَبْعِ المعارفِ جانبُه ... وأصبحَ في شُغلٍ عن العِلْم طالِبُهْ
انظر: "التّقصار" (ص249)، "البدر الطالع" رقم (243)، "ديوان الشوكاني" (ص74 - 76) "نيل الوطر" (2/ 44 - 52).(8/3854)
كان يومُ الجمعة ذكرتُم ـ متع الله بكم ـ أنَّ أحاديثَ النَّهي مرجوحةٌ، فأوجب ذلك البحث عن المسألة، فإذا هي أطول المسائل ذيلاً، وأوسعِها اختلافًا وتهويلاً، قدِ اضْطَربتْ فيها أقوالُ السلفِ والخلَفِ اضطرابًا شديدًا، ومع هذا فلم تحصلِ الأُنسةُ بواحدة من تلك الأقوالِ، بل أوجب المشيُ مع الأدلة الاغترابَ والاعتزالَ، لا إلى حد يكون المصيرُ إليه في صورة الخروج عن الإجماع، واطَّراح الحِشْمَةِ عن سنة الاقتداء والاتباعِ.
وقد سردتُ في هذا القرطاسِ جميعَ ما أمكنَ حَصْرُه من الأقوال، وتعقَّبتهُ بما خطر بالبال من قيلٍ وقالٍ، ثم انثنيتُ أحرَّر ما ظننتُه راجحًا، وخِلْتُهُ صحيحًا واضحًا، والقصدُ كلَّ القصدِ عَرْضُ الجميع على نظركم، والاتباع لما صحَّ، فأفضلوا بإمعان النظرِ ـ جعلكما لله ملاذًا لكل ملتاذ ـ آمين.
وجملةُ ما عثرتُ عليه من الأقوال في هذه المسألةِ سبعةٌ:
الأول: المنعُ من المخابرة مطلقًا، والذاهبُ إلى هذا القول جماعة من الصحابة، والتابعينَ، وأهلِ البيت، والفقهاء، وتمسكوا بحديث: "أنَّ النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ نهى عن المخابرة" رواه البخاريُّ (1)، ومسلمٌ (2)، وأبو داود (3)، والترمذيُّ (4)، والنسائيُّ (5). وبحديث جابرٍ قال: كان لرجالٍ منَّ فضولُ أرضينَ، فقالوا: نؤاجرُها بالثلثِ أو الرُّبعِ أو النِّصفِ، فقال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من كانت له أرضٌ فليزرعُها أو ليمنحْها أخاه، ولا يؤاجرِْها إياه، ولا يُكْرِهَا" قال في التيسير: أخرجه ............................
_________
(1) في صحيحه رقم (2381).
(2) في صحيحه رقم (1536).
(3) في "السنن" رقم (3404 و3405).
(4) في "السنن" رقم (1290).
(5) في "السنن" رقم (3879، 3880).(8/3855)
الشيخان (1)، والنسائيُّ (2)، وهو في المنتقى (3) بلفظ: قال جابر: كنا نخابِرُ على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فنصب من القُصْرَى ومن كذا، فقال النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من كان له أرضٌ لفْيزرعْها، أو لِيُحْرِثها أخاه، وإلا فليدعْها". قال: رواه مسلمٌ (4) وأحمدُ (5)، وقال: القصريّ (6): القصارةُ.
وبحديث سعد بن أبي وقاص قال: إن أصحاب المزارع في زمن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ كانوا يُكْرُوْنَ مزارعَهم بما يكون على السواقي، وما سَعِدَ بالماء مما حول النَّبْتِ، فجاء رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فاختصموا في بعض ذلك، فنهاهُم أن يُكْرُوْا بذلكَ، وقال: "اكْروا بالذهبِ والفضةِ [1أ] " رواه أحمد (7)، وأبو داود (8)، والنسائي (9).
وبحديث زيد بن ثابتٍ قال: "نهى رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ عن
_________
(1) البخاري في صحيحه رقم (2340) ومسلم رقم (89، 92/ 1536).
(2) في "السنن" (7/ 37).
(3) "نيل الأوطار" (5/ 272 - 281).
(4) في صحيحه رقم (95/ 1536).
(5) في "المسند" (3/ 354).
(6) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (10/ 199 - 201) هو بقاف مكسورة ثم صاد مهملة ساكنة ثم راء مكسورة ثم ياء مشددة على وزن القبطيّ، هكذا ضبطناه وكذا ضبطه الجمهور وهو المشهور. قال القاضي: هكذا رويناه عن أكثرهم وعن الطبري بفتح القاف والراء مقصور، وعن ابن الخزاعي ضم القاف مقصور قال: والصواب الأول وهو ما بقي من الحب في السنبل بعد الدياس ويقال له: القصارة بضم القاف وهذا الاسم أشهر من القصريّ".
(7) في مسنده (15/ 120 رقم 385 - الفتح الرباني).
(8) في "السنن" رقم (3391).
(9) في "السنن" (7/ 41 رقم 3891).
وهو حديث حسن بشواهده.(8/3856)
المخابرة". قال: والمخابرةُ أن يأخذَ الأرضَ بنصفٍ، أو ثلثٍ، أو ربعٍ، أخرجه أبو داود (1). وبحديث جابرٍ قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من لم يذرِ المخابرةَ فليأذنْ بحرب من الله ورسوله" أخرجه أو داود (2). وبما ذكره الحازميُّ في "الاعتبار" (3) عن رافع بن خُديجٍ أنَّ رجلاً كان له أرضٌ فعجزَ عنها أن يزرعها، فجاء رجلٌ فقال: هل لك أن أزرع أرضَك، فما خرجَ منها من شيء كان بيني وبينَك؟ فقال: نعم حتى أستأذن رسولَ الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال: فأتى رسولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فسأله، فلم يرجعْ إليه شيئًا، قال: فأتيتُ أبا بكر وعمر، فقلتُ لهما: فقالا: ارجع إليه، فرجعت إليه الثانيةَ فسألتُه فلم يردَّ شيئًا، فرجعت إليهما فقالا: انطلق فازرعْها، فإنه لو كان حرامًا نهاكَ عنه، قال: فزرعَها الرجلُ حتى انفترَ زرعُها، واخضرَّ، وكانت الأرض على طريقٍ لرسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فمرَّ بها يومًا، فأبصرَ الزرعَ فقال: "لمن هذه الأرض" فقالوا: لفلان زارعَ بها فلانًا، فقال: "ادعُوهما إليَّ جميعًا" قال: فأتيناه فقال لصاحب الأرض: "ما أنفق هذا في أرضك فردَّه عليه، ولك ما أخرجتْ أرضُك". وهذا الحديثُ قد اعتمده الحازميُّ، وختم به البحثَ.
القول الثاني: الجوازُ مطلقًا بلا كراهةٍ، وإليه أيضًا ذهب جماعةٌ من الصحابة، والتابعين، وأهل البيت، والفقهاء، واستدلوا" بأنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ عامَلَ أهلَ خيبرَ بشطرِ ما يخرجُ من تمر أو زرع". رواه أحمد (4)، والبخاريُّ (5)، ومسلم (6)،
_________
(1) في "السنن" رقم (3407). وهو حديث صحيح.
(2) في "السنن" رقم (3406). وهو حديث ضعيف.
(3) (ص418).
(4) في "المسند" (2/ 17، 22، 37).
(5) في صحيحه رقم (2285، 2328).
(6) في صحيحه رقم (1/ 1551).(8/3857)
والترمذي (1)، والنسائي (2)، وأبو داود (3)، وابن ماجه (4)، وفي أخرى للشيخين (5) لما ظهر ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ على خبرَ سألتْه اليهودُ أن يُقِرَّهُم بها على أن يُكْفُوه عملَها ولهم نصفُ الثمر، فقال: "نُقِرُّكم بها على ذلك ما شِئْنَا".
وبما رواه ابن عمرَ قال: كانت المزارعُ تُكْرَى على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أنَّ لِرَبِّ الأرض ما على ربيع الساقي (6) من الزرع، وطائفةً من اثنين لا أدري كم هو، أخرجه النسائي. (7). وبما في صحيح البخاري (8) عن قيس بن مسلم، عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهلُ بيت إلاَّ يزرعون على الثُّلث، والرُّبع، وزارعَ عليٌّ، وسعدُ بنُ مالك، وعبد الله بن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، وآلُ أبي بكر، وآلُ عمرَ، وآلُ علي، هكذا في صحيح البخاري.
وفيه (9) أيضًا، عامَلَ عمرُ الناسَ على أن جاء بالبَذْرِ من عنده فله الشطرُ وإن جاؤا بالبذر فلهم كذا.
وأخرج ابن ماجه (10) عن طاووسٍ أن معاذًا بن جبل أكْرى الأرضَ على عهد رسول
_________
(1) في "السنن" رقم (1383).
(2) في "السنن" (7/ 53).
(3) في "السنن" (3408).
(4) في "السنن" رقم (2467).
(5) البخاري في صحيحه رقم (2338) ومسلم رقم (6/ 1551).
(6) في حاشية المخطوط ما نصه: الربيع للنهر الصغير.
(7) في "السنن" (7/ 33).
(8) في صحيحه رقم (5/ 10 رقم الباب 8) معلقًا.
(9) في صحيح البخاري (5/ 10) معلقًا.
(10) في "السنن" رقم (2463). وهو حديث صحيح.(8/3858)
الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ على الثلث، والربع؛ فهو يُعْمَلُ به إلى يومِك هذا.
وبحديث ابن عباس أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لم يَنْهَ عن المخابرة ولكن قال: "إن يمنحْ أحدُكم أخاه خيرٌ له من أن يأخذَ عليه خراجًا معلومًا". أخرجه البخاريُّ (1)، وأحمد (2)، وابن ماجه (3)، وأبو داود (4).
وبما روى عنه أيضًا أنَّ النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لم يحرِّم المزراعة، ولكن أمر أن يَرْفُقَ بعضُهم ببعض. رواه الترمذي (5) وصححه.
القولُ الثالثُ [1ب]: المنعُ، إذا شرَطَ صاحبُ الأرض شرطًا يستلزمُ الغررَ والجهالةَ والجَواز فيما عدا ذلك. وغليه ذهب جماعةٌ من العلماء.
وتمسَّكوا بحديث رافع بن خُديج قال: كنَّا أكثر الأنصار حقْلاًً، وكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربَّما أخرجت هذه، ولم تخرج هذه، فنهانا رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عن ذلك. فأما الورِقُ فلم يَنْهَنَا، أخرجه الستةُ، وفي لفظ قال: إنما كان الناسُ يؤاجِرون على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بما على الماذياناتِ، وأقبالِ الجداولِ، وأشياءَ من الزرع، فيهلكُ هذا، ويَسْلَمُ هذا، ولم يكن للناس كراءٌ إلاَّ هكذا، فلذلك زجَرَ عنه، وأما شيءٌ معلوم فلا بأس به، أخرجه مسلمٌ (6)، وأبو داود (7) والنسائي (8).
_________
(1) في صحيحه رقم (2342).
(2) في "المسند" (1/ 234).
(3) في "السنن" رقم (2453).
(4) في "السنن" رقم (3940). وهو حديث صحيح.
(5) في "السنن" رقم (1385) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(6) في صحيحه رقم (2332).
(7) في "السنن" رقم (3392).
(8) في "السنن" رقم (3932).(8/3859)
المذاينات: جمع ماذيان وهو النهر الكبير، وهذه اللفظة ليست عربية، وإنما هي من لغة أهل السواد، والجداول: الأنهار الصغار. وأقبالها: أوائلها. وفي بعض روايات رافع: كان تكرى الأرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بما ينبت على الأربعاء (1) بشيء يستثنيه صاحب الأرض، قال: فنهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك. رواه أحمد (2) والبخاري (3) والنسائي (4).
القول الرابع: المنعُ إنْ كاتبَ المعاملَة بنصيب مجهول، والجوازُ إن كان النصيبُ معلومًا، وهو أخصُّ من القول الثالث، وتمسُّكهم ببعض ما سبق من حديث رافعٍ.
القول الخامس: المنعُ إن فسِّرتْ ببيع الكدسِ بكذا وكذا كما وقع في بعض الروايات عن جابر، لكونه نوعًا من الربا، والجوازُ فيما عدا ذلك مطلقًا، وممن ذهب إلى هذا العلامةُ الجلالُ (5)، وابنُ حزم (6). ولا متمسَّكَ لهم إلاَّ ذلك التفسيرُ.
القولُ السادس: الكراهةُ مطلقًا. وممن ذهب إلى هذا القول العلامةُ المُقبليُّ.
وتمسّكوا بما سبق من قول ابن عباس أن النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لم ينهَ عنها، ولكن قال: "إن يمنحْ أحدُكم أخاه خيرٌ له من أن يأخذَ عليه خراجًا" (7) عند البخاري، وأحمدَ، وأبي داودَ، وابن ماجه.
وبما روي عنه أيضًا أن النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لم ينْهَ عن المزارعة، ولكن أمر أن يرفُقَ الناس بعضُهم ببعض. رواه الترمذي (8) صححه.
القول السابع: الجوازُ إذا كان البذرُ من ربِّ الأرض، والمنعُ إن لم يكن منه.
_________
(1) الرَّبيعُ: النهر الصغيرُ، والأربعاءُ: جمعُه. "النهاية" (2/ 188).
(2) في "المسند" (4/ 142).
(3) في صحيحه رقم (2339).
(4) في "السنن" رقم (3902).
(5) في "ضوء النهار" (3/ 1521).
(6) في "المحلى" (8/ 231 - 232).
(7) تقدم آنفًا.
(8) تقدم تخريجه.(8/3860)
وتمسَّكوا بما وقع في بعض الروايات عن ابن عمرَ. وممن ذهب هذا القول أحمدُ بن حنبل (1).
هذا وأنت خبيرٌ بأن القولَ الأول أعني: اختيارَ المنع مطلقًا يدفعُهُ موتُ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وهو معاملٌ لأهل خيبرَ، وكذلك الصحابةُ والتابعون كما سبق، وتأويلاتُهم [2أ] تلك المعاملَة بأن الأرض مملوكةٌ لرسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وأهلُها عبيدُه (2)، والذي أخذوه طُعْمَةً لا أجرةً، أو بأن الأرض مملوكةٌ لهم، والذي أخذه رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ جزيةٌ (3) لا أجرةٌ، أو بأن المعاملة كانت مساقاةً على النخيل والبياضِ المتحلِّلِ بين الأرض كان يسيرًا فتقع المزارعة تِبْعًا.
_________
(1) قال ابن قدامة في "المغني" (7/ 566): ظاهر المذهب أنَّ المزارعة إنَّما تصحُّ إذا كان البذر من ربِّ الأرض، والمل من العامل نص عليه أحمد في رواية جماعةٍ، واختاره عامةُ الأصحاب، وهو مذهب ابن سيرين، والشافعيُّ، وإسحاقِ، لأنَّه يشترك العامل وربُّ المال في نمائه، فوجب أن يكون رأس المال كلُّه من عند أحدهما كالمساقاة والمضاربة.
(2) قال الماوردي في "الحاوي" (9/ 162): أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صالحهم على إقرار الأرض، والنَّخل معهم، وضمَّنهم شطر الثمرة وصلح العبيد وتضمينهم لا يجوز. -
وأن عمر رضي الله عنه أجلاهم عن الحجاز وإجلاء عبيد المسلمين لا يجوز. -
أنهم لو كانوا عبيدًا لتعين مالكوهم، ولاقتسموا رقابهم، فأما صفية، فإنها كانت من الذرية دون المقاتلة.
(3) قال والجواب على أن الأرض والنخل كانت باقية على أملاكهم، وإنّما شرط عليهم شطر ثمارهم جزية وجهين:
1 - ما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ملك أرضهم وكلّ صفراء وبيضاء.
أخرجه داود رقم (3410، 3411، 3412).
ألا ترى أنَّ عمر قال: يا رسول الله إنِّي ملكت مائة سهم من خيبر وهو مالٌ لم أصبت قط مثله، وقد أحببت أن أتقرَّب إلى الله تعالى به فقال له النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حبِّس الأصلَ وسهِّل الثَّمرة".
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2737) ومسلم رقم (1632).
2 - أن عمر رضي الله عنه أجلاهم عنها ولا يجوز أن يجليهم عن أملاكهم.(8/3861)
للمساقاة، كلُّها مُتَعَسَّفَةٌ متناقضةٌ، ودعوى النسخ باطلةٌ (1) لموته ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ على تلك المعاملة ودعوى الاختصاص برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكَلُّفٌ يدفعُه عملُ الصحابة والتابعينَ بذلك في عصره ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، وبعد موته، وهم أجلُّ من أن يَخْفَى عليهم مثلُ ذلك.
وبحديث معاذٍ (2) السابق وغيره.
وأما القول: أعني الجوازَ مطلقًا فغيرُ مرضيٍّ، لأنَّ من جملة وقع إطلاق لفظ المخابرة عليه بيعُ الكدسِ بكذا وكذا، كما وقع في تفسير جابر في بعض الروايات، واشتراط ما يخرج من بعض الأرض كما وقع في حديث رافع (3)، وبما على السواقي وما يصيبُه الماء كما وقع في حديث سعد بن أبي وقاص (4)، وبما على الماذيانات وأَقْبالِ الجداولِ كما وقع في حديث رافع أيضًا، بالنصف والثلثِ والرُّبُعِ كما وقع في حديث جابر. وفعله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في أراضي عُمدة أهل هذا القول في الجواز لا يدلُّ إلاَّ على جواز التأجير بالشطر ونحوه كما وقع روايات الجماعة كلهم، ولم ينقل أنَّه عاملهم بشيء مما وقع في تلك الأحاديث التي صرَّحت بالمنع، حتى تثبت المعارضة، والترجيح فهو من باب الاستدال بالأخصِّ على جميع أفراد الأعمِّ، وهو باطلٌ.
وأما القولُ الثالثُ: أعني المنع إذا شرط صاحب (5) الأرض شرطًا يستلزمُ الغررَ والجهالةَ، والجوازُ فيما عدا ذلك ففيه أنه لا يتمُّ إلاَّ إذا لم يردِ النَّهيُ عن المعلوم، وهو غير مسلَّم لما في حديث رافع في بعض رواياته قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من كانت له أرضٌ فليزرعْها، أو ليُزْرِعْها أخاه، ولا يُكْرِهَا بالثلثِ، ولا
_________
(1) انظر "فتح الباري" (5/ 11 - 12)، "المفهم" (4/ 419).
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم تخريجه.
(5) انظر "المغني" (7/ 566).(8/3862)
بالربعِ، ولا بطعام مسمَّى" رواه الحازميُّ في "الاعتبار" (1)، ولما في حديث جابرٍ السابق قال: كان لرجالٍِ منَّا فضولُ أرضينَ فقالوا: نؤاجِرُها بالثلثِ أو الربعِ أو النصفِ؟ فقال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من كانت له أرضٌ فليزرعها، أو لِيَمْنَحْهَا أخاه، ولا يُؤاجِرْها إياه ولا يُكْرِها" أخرجه الشيخان (2) والنَّسائي (3). وفيه أيضًا أنه يلزمُهم صِحَّةُ المزارعةِ على ما خرج من مكان من الأرض معلومٍ غيرِ مجهولٍ لعدم حصولِ الغررِ والجهالةِ.
وأما القول الرابعُ: أعني المنعَ إن كانت المعاملة بنصيب مجهولٍ، والجواز إن كانت بمعلوم فَيُدْفَعُ بما دُفِعَ بهِ [2ب] القولُ الثالثُ.
وأما القول الخامسُ: أعني المنعَ من المخابرة إن فُسِّرتْ ببعِ الكدسِ بكذا وكذا استدلالاً بما وقع في بعض الروايات عن جابر كما سبق تحكُّمٌ لا يرضاه منصفٌ. والعجبُ من ميل الجلالِ (4) إلى هذا القولِ، وهذا جابرُ بنُ عبد الله نفسُه قد فسَّرها بالثلثِ والربعِ، كما أخرجه الجماعةُ (5) عنه، وفسَّرها بالأرض البيضاء يدفعها الرجلُ إلى الرجل فينفقُ فيها ثم يأخذُ من الثمرة كما أخرجه عنه الشيخان (6)، فإن رجعَ إلى الترجيح في تفاسير جابرٍ على انفرادِها فما أخرجه الجماعةُ أولى مما أخرجه واحدٌ منهم، كيف والأحاديثُ طافحةٌ بتحريم أنحاء مختلفةٍ من المزارعة كما سبق سَرْدُ بعضٍ منها، ولم يعارِضْها معارضٌ.
_________
(1) (ص417).
وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (113/ 1548) وأبو داود رقم (3395) والنسائي (7/ 41 وابن ماجه رقم (2465). وهو حديث صحيح.
(2) البخاري ومسلم رقم (1536).
(3) في "السنن" (7/ 37).
(4): في "ضوء النهار" (3/ 1521).
(5) تقدم تخريجه.
(6) تقدم تخريجه.(8/3863)
وأما القولُ السادس: أعني القولَ بكراهتِها على أيّ صفة كانت تمسُّكًا بما سبق عن ابن عباس فهو لا يتمُّ إلاَّ بعد تسليم أنَّه لم يُرْوَ عن النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ما يعارض ذلك، وقد ثبت من حديث ابن عباس نفسه عن الشيخين والنَّسائي بزيادةِ: "ولا يُكْرِها"، ومن حديث جابر عند مسلم بزيادة: "فإن أبى فَلْيُمْسِكْها" (1) وسائرُ ما سبق في أحاديث النَّهي.
وأما القول السابعُ: أعني الجواز إذا كان البذرُ (2) من ربِّ الأرض، والمنع إذا لم تكن منه فيدفعُه إطلاقاتُ تلك الأحاديثِ السابقةِ في الجوازِ والمنعِ.
أما في الجوازِ فحديثُ معاملتِه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أهلَ خيبرَ، وظاهره أن البَذْرَ منهم كما قال صاحب المنتقى (3). وأما في المنع فحيدث النَّهي عن المخابرة المفسَّرة بالثلث والربع، وظاهرهُ الإطلاق، ولم يردْ من الأدلة ما يقضي بالتقييد، ويدفعه أيضًا حديث عمر السابق عند البخاري أنه عاملَ الناسَ على إن جاء بالبذرِ مِنْ عنده فلهُ الشطرُ وإن جاؤا به من عندِهم فلهم كذا.
والذي ظهر للحقير، أسير التقصير تحريمُ كلِّ مخابرةٍ لم تقع على تلك الصفة التي فعلها رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في خيبرَ، لأنها قد وردت في كل نوع منها أدلةٌ قاضيةٌ بالمنع، ولم يعارِضْها معارِضٌ؛ فتحرُمُ المخابرةُ المفسَّرةُ ببيع الكدسِ بكذا وكذا للنَّهي الواقع عنها، ولأنها أيضًا نوعٌ من الربا، ولم يقمْ دليلٌ يقضي بجوازها. وتحرمُ أيضًا المخابرةُ التي اشترطَ فيها المالكُ أن يكون له هذه، وللعاملِ هذه لما في حديث رافع ولا يعارضُهُ ما وقع منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في خيبرَ، لأنه وقع لى نحوٍ مخالفٍ له.
وتحرمُ أيضًا [3أ] المخابرةُ بما يكون على السواقي والماذياناتِ وأقبالِ الجداول ونحوِها
_________
(1) انظر "المغني" (7/ 566 - 567).
(2) (3/ 702 - 709).
(3) في صحيحه رقم (5/ 10 رقم الباب 8).(8/3864)
لما وقع في حديث سعدٍ (1) ورافعٍ.
وتحرُم أيضًا المخابرةُ بالثلث والربعِ إذا انضمَّ إليها ثلاث جداولَ، وما يسقي الربيعُ لما في حديث رافع أيضًا. ولا عارضه ما وقع منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في أراضي خيبرَ لِخُلُوِّهِ عن الاشتراط. وجميعُ هذه الأنواع خارجةٌ عن تلك المعاملة والواقعة منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، ولم يقم دليل على جوازها.
ويبقى الإشكالُ في تأجير الأرضِ بشطر معلومٍ من الثمرة من ثلثٍ، أو ربعٍ، أو نحوه؛ فالأحاديثُ الواردةُ في النَّهي المفسَّرةِ بالثلثِ والربعِ يقضي بالمنع منها، وفعلُه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في خيبرَ يقضي بجوازها، والقولُ بأنَّ الجوازَ منسوخٌ يأباه موتُه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ على تلك المعاملةِ، واستمرارُ جماعة من الصحابة عليها، وكذلك القولُ بأنَّ النَّهي عنها منسوخٌ يأباه صدورُ ذلك النهي منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في أثناء تلك المعاملةِ، ورجوعُ جماعة من الصحابة إلى رواية من روى النَّهيَ بعد موته ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، والمصيرُ إلى التعارضُ والترجيحُ أيضًا ممتنعٌ لإمكان الجمعِ بحملِ النَّهي على الكراهةِ لذلك الصارف، وهذا هو الحقُّ الذي كون به صونُ السُّنَّةِ المطهَّرة عن الاطِّراحِ، فتكون المخابرةُ بالنِّصف والثلثِ من غير زيادة شرط مكروهةً فقط، وفي تلك الأنواع السابقةِ محرَّمةً، ولا يقالُ أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ إذا نهاها عن فعلِ وفعلَهُ كان ذلك مختصًّا به، لأنا نقول: قد استمرَّ على ذلك الفعلِ الصحابةُ في حياته، وبعد موته، وهم أجلُّ من أن يَخْفَى عليهم ذلكَ الاختصاصُ كما سبق تحقيقُ ذلك.
فإن قلتَ: يقدحُ في مناقشتك تلكَ الأقوالَ السابقةَ ما جزمتَ به بعدُ من تحريم تلك الصور.
قلت: إنما وقعتْ تلك المناقشاتُ باعتبار اقتصار كلِّ قائل على تحريمِ صورةٍ معينة من
_________
(1) تقدم تخرجه.(8/3865)
تلك الصور، وعدمِ الالتفاتِ إلى تحريم ما عداها، أو باعتبار تحريم جميع الصور كما في القول الأول، أوت حليل جميعها كما في الثاني، وقد عرفتَ باقي ذلك فلا نعيدُه.
ومما يلتحق بتلك الأ، واع المحرمة من المخابرة المحاقلة (1) المفسرة بكرآء الأرض بالحنطة، أو بيعِ الحقل بكَيْلٍ من الطعام معلومٍ، أو بيعِ الطعام في سُنْبُلِهِ (2) بالبُرِّ؛ لورود النَّهي عنها كما في حديث أبي سعيد عند البخاري (3)، ومسلم (4)، والموطأ (5)، والنَّسائي (6)، وأبي هريرة عند مسلم (7)، والترمذيُّ (8)، والنَّسائيّ (9)، وابن عباس عند الترمذيّ (10)، وجابرٍ عند البخاري (11)، ومسلم (12)، والترمذيّ (13)، وأبي داود (14)، والنسائي (15)، وأنس عند البخاري (16)، ورافعِ بن خُدَيْج عند النَّسائي (17)، وابن المسيّب عند مسلم (18)،
_________
(1) انظر "النهاية" (1/ 224).
(2) انظر "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 229 - 230).
(3) في صحيحه رقم (2186).
(4) في صحيحه رقم (105/ 1546).
(5) (2/ 625 رقم 24).
(6) في "السنن" (7/ 39).
(7) في صحيحه رقم (104/ 1545).
(8) في "السنن" رقم (1224).
(9) في "السنن" (7/ 261).
(10) في "السنن" رقم (1385) وقد تقدم.
(11) في صحيحه رقم (1219).
(12) في صحيحه رقم (81، 82، 83، 84، 1536).
(13) في "السنن" رقم (1313).
(14) في "السنن" رقم (3370).
(15) في "السنن" (7/ 263).
(16) في صحيحه رقم (2207).
(17) في "السنن" (7/ 50).
(18) في صحيحه رقم (59/ 1539).(8/3866)
والنَّسائي (1)، فهي محرَّمةٌ بهذه الأدلة، ولم يقم دليلٌ على جوازها. ويجوز التأجيرُ بالذَّهب والفضة لما وقع في حديث سعد بن أبي وقاص السابق مرفوعًا بلفظ: "فنهاهم أن يُكْرُوها بذلك، وقال: اكْرُوهَا بالذهب والفضة" عند أحمد (2)، وأبي داود (3)، والنسائي (4). ولما وقع أيضًا في حديث (5) رافعٍ السابق غير مرفوع.
وإنما استطردتُ ذكرَ المحاقلة لأنَّها قد فسِّرت في بعض الروايات بالمخابرة وفي بعضها بالمزارعة، فهي داخلةٌ في البحث بهذا الاعتبار. وإنما استطردتُ أيضًا ذِكْرَ تأجير الأرض بالذهب والفضة، لأنَّ الفاكِهاني حكى عن الحسِ وطاوسٍ المنعَ من كِراء الأرض بكل حال، سواءٌ أكْرَاها بطعام، أو ذهب، أو وَرِق، لإطلاق أحاديث النَّهي، وعدم لزوم الحجة بقول الراوي، وهو غفلةٌ عن حديث سعد، فإنه مرفوعٌ، ولا شك في صلاحيته للتخصيص.
والحمدُ لله، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلَّم.
حُرِّرَ بقلم جامعِهِ الحقير محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله لهما ـ في عشية الثلاثاء من شهر جمادى الأولى سنة 1202.
_________
(1) في "السنن" رقم (7/ 45).
(2) في "المسند" رقم (1/ 178، 281).
(3) في "السنن" رقم (3391).
(4) في "السنن" رقم (3925) وهو حديث حسن.
(5) تقدم تخريجه.(8/3867)
(123) 35/ 1
رسالة في: حكم المخابرة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(8/3869)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "رسالة في حكم المخابرة".
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله الذي ميَّز لنا في المعاملات الحلال من الحرام كما فصَّل لنا في العبادات جميع الشرائع والأحكام ... ".
4 - آخر الرسالة: " ... والحمد لله أولاً وآخرًا وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. انتهى من تحرير المجيب محمد بن علي الشوكاني حفظه الله ومد لنا في مدته إنَّه جوادٌ كريم، آمين آمين آمين.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 7 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 14 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/3871)
هذا بحثُ شيخِنا العلَمِ، والجوابُ عليه قد تقدَّم قبلَه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي ميَّز لنا في المعاملات الحلالَ من الحرامِ، كما فصَّل لنا في العباداتِ جميعَ الشرائعِ والأحكامِ، نحمدُه على حُسْنِ معاملتِه، وسوابغ إنعامه، وجزيل امتنانه. والصلاةُ والسلام على مَنْ خاطبَ الله العبادَ على لسانِهِ بـ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) تفخيمًا لشأنه وبعدُ:
فإني تصفَّحْتُ ما حرَّرَهُ الصفيُّ العلامةُ فخرُ الأوانِ، ونبيلُ الأقران محمدُ بنُ عليٍّ الشوكاني ـ لا برح في خلال المحامد ـ، رفيع المباني، مستمدًا من بحر علمه، ومَعينِ تحقيقه القاصي والداني في مسألة المخابرة (2)، وما سَرَدَهُ من أقوالِ العلماء فيها، وإيرادُ حُجَّةِ كلِّ قائلٍ، وما يَرُدُّ عليها، وما ختَمَ به البحثَ مما تفردَ بالمصير إليهِ، فأجاد كل الإجادة، كثر الله فوائده، وشكر سعيه، وجعلني وإياه ممن آثر كلامَ معلّم الشرائع على مَنْ سواه، ولزم هديَهُ. إلاَّ أنَّه لما خُيِّلَ لفهمي القاصر أنَّ الأظهرَ في المقامِ هو المنعُ من المخابرةِ كما هو رأيُ أهل القولِ الأولِ، بمقتضى الأدلةِ التي ساقَها لهم، بعضُها تصريحُ النهي، وبعضُها بما يلزم منه النهيُ عنها، وبعضُها بالوعيدِ على مَنْ يدعْها.
وكان الذي ظهرَ له لم يخلُصْ إلى المنعِ منها مطلقًا، حتى يرتفعَ الخلافُ من البيِّنِ، ويطمئنُّ الخاطرُ باتحاد القولينِ، وتتحققُ فيما بيني وبينَه في ذلك المخابرةُ، ويستريحُ كلّ منا عن نسبةِ ما قاله الآخَرُ إلى المكابرةِ، أحببتُ مراجعتَه بما سَنح لي في هذا القِرطاسِ، فإن يكنْ صوابًا فهوَ الباعثُ عليه من حيثُ إنّ رسالتَه في ذلكَ هي الأساسُ، وإن يكن خطأً فالمأمونُ من كريمٍ سجاياهُ التنبيهُ على ذلكَ، والإيضاحُ بما يزيلُ الالتباسَ.
_________
(1) [الحشر: 7].
(2) هذه الرسالة التي عليها هذه المناقشة لم تكتب في المجموع (1) بل كتبت في المجموع رقم (2) وقد تقدمت برقم (122).(8/3875)
ومع السلوك معهُ تولاَّه الله في مرجوحية ما عدا القولَ الأولَ، وما رجَحَ لهُ في المسألة آخرًا لا حاجةَ بنا إلى الكلامِ على كّ [قولٍ] (1)، من بقية الأقوالِ، وما أورده عليها إذ هو تطويلٌ بما لا طائلةَ تحتَه، ولمَّا كان الأظهرُ في ظنِّي هو القولُ الأولُ لم يكن لي غرضٌ من هذا الرَّقْمِ إلاَّ ذِكرَ ما يؤيدُه، ودفعَ ما يَرُدُّ عليهِ، لكنه استدعى ذلك بيانَ مدلولِ لفظِ المخابرةِ، ليتضحَ ما هو المقصودُ بالنهي من النواهي الصريحةِ المطلقةِ عن التفسير من الراوي، فانحصر مقصودي في بحثينِ:
الأولُ: في بيانِ مدلولِ لفظِ المخابرةِ، وهل هو متَّحدُ المعنى أو متعدِّدُهُ، حقيقةً أو مجازًا.
الثاني: في دفع ما أورد على القولِ الأولِ.
البحثُ الأول: في بيان لفظ المخابرة، أقول: هاهنا أنواعٌ من المعاملةِ أُطْلِقَ لفظُ المخابرةِ، النوع الأول، إكراءُ الأرضِ بنصيبٍ معلومٍ من غِلَّتها كما وقعَ [13] في أراضي خيبرَ، فهذا النوعُ هو المسمَّى بالمخابرةِ حقيقةً، سواءٌ أَطْلقَتْ، أو قيِّدت بشرطٍ أيّ شرطٍ؛ إذ استعمالُ العامِ في الخاص من حيث إنه فردٌ من أفراده حقيقة.
الثاني: بيعُ الكُدُسِ؛ وهو بيعُ ما جُمِعَ من الطعامِ بكذا وكذا صاعًا، كما وقع في حديث جابرٍ (2).
الثالث: إكراءُ الأرضِ بما يكون على السواقي (3) والماذيانات، وفي معناه إكراءُها على أن يكونَ لربّ الأرض هذه، وللأجير هذه.
الرابع: المحاقلةُ (4)، وهي إكراءُ الأرض بالحنطة. فهذه أربعة أنواع من المعاملة قد أطلقَ عليه لفظ المخابرة. الأول منها حقيقة، وما سواهُ مجازٌ؛ إذ لا يتبادرُ عند الإطلاقِ
_________
(1) كلمة قول مكررة في المخطوط.
(2) كلمة قول مكررة في المخطوط.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1548).
(4) تقدم ذكر الحديث.(8/3876)
إلاَّ المعنى الأول، والمتبادَرُ علامةُ الحقيقةِ، قال في القاموس (1): المخابرةُ أن يزرعَ على النصفِ ونحوِه، وفي النهاية (2): ونَهَى عن المخابرةِ قيل: هي المزارعةُ على نصيب معيَّنٍ كالثُّلثِ، والرُّبُعِ، وغيرِهِما. وقيلَ أصلَ المخابرةِ من خيبرَ، لأن النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أقرَّها في أيدي أهلها على النصف من محصولِها، فقيل خابرَهُم، أي: عاملَهم في خيبرَ انتهى، لا يقالُ يكونُ حقيقةً في الكلّ على جهة الاشتراك، لأنّا نقولُ: القاعدةُ الأصوليةُ (3) إذا تردَّدَ اللفظُ بين المجازِ والاشتراكِ فحملُه على المجازِ أوْلى لوجوهٍ ليسَ هذا موضعَ ذِكْرِها.
إذا عرفتَ هذا فمتى أطلق لفظُ المخابرةِ، ولم يفسِّرْهُ الراوي كما وقع في أكثر الروايات، فإنما ينْصَرِفُ إلى مسمَّى المخابرةِ حقيقةً، وهو النوع الأول، وإذ الأصلُ الحقيقة.
فإن قلتَ: الجميعُ منهيٌّ عنه فلا ضيرَ في فَهْمِ جميعِ الأنواعِ المذكورةِ من نحوِ نهي عن المخابرة.
قلتُ: ذلك مع كونِه مُسْتَغْنَى عنهُ بقيامِ الأدلةِ المانعةِ من كل منها خلطٌ بين الحقيقةِ والمجازِ، ولا ما يخفى ما فيه النزاع. لا يقالُ النَّهيُ عن المخابرة محمولٌ على الكراهةِ كما ذهبَ إليه أهلُ القولِ السادسِ مطلقًا، وكما ذهب إليه صاحبُ الرسالة (4) في مثل المخابرةِ الواقعةِ في حينِه، أما على مذهبِ مَنْ يقولُ: النهيُ حقيقةٌ في الكراهةِ فظاهرٌ،
_________
(1) (ص488).
(2) (2/ 7).
(3) قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص123 - 124) بعد أن ذكر أقوال العلماء في ذلك.
والحقُّ أن الحملَ على المجاز أولى من الحمل على الاشتراك لعلية المجاز بلا خلاف والحمل على الأعم الأغلب دون القليل النادر متعيِّنٌ.
وانظر: "البحر المحيط" (2/ 241) و"المحصول" (1/ 351).
(4) انظر الرسالة رقم (122).(8/3877)
وأما على القولِ بأنّه حقيقةٌ في التحريم فالمراد عند عدمِ القرينةِ. وهاهنا القرينةُ فعلُه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في خيبر، لأنّا نقولُ: القولُ بأنَّ النهيَ حقيقةٌ في الكراهة مذهبٌ مرجوحٌ. ولو سُلّمَ فالقائل بذلك إنما يقولُ به في مقام لا قرينة في فيدل على إرادة التحريم. وهنا قد وُجِدَتْ؛ وهي قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من لم يذَرِ المخابرةَ فليأذن بحرب من الله ورسولِه" (1) فإنه أفاد هذا الوعيد أنّ النّهي في سائر الروايات مرادٌ منه التحريمُ، ودعوى كونِ ذلكَ مبالغةً في شدةِ الكراهةِ خلافُ الظاهرِ، لا يقولُ به منصفٌ.
البحث الثاني: في دفْعِ ما أوردَهُ صاحبُ الرسالة على القولِ [14].
قوله: هذا وأنتَ خبيرٌ بأن القولَ الأولَ أعني: اختيارَ المنعِ مطلقًا يدفعُهُ موتُ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وهو معاملٌ لأهلِ خيبرَ.
أقول: هذا الفعلُ الصادرُ منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ معلومٌ أنه ليس جِبِلِّيًّا، ولا بيانًا، لكنه يقالُ: لِمَ لا يكونُ خاصًّا؟ ودليل الخصوصية صرائحُ النهي لمن سواه، وفعلُ غيرها ليس بحجَّةٍ سلَّمنا أنه خصوصيةٍ فكونُ مطلقِ الفعلِ حجَّةً بحل النزاع. قال العلامة ابنُ الإمام: اختُلِفَ في فعلِ الرسول ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وهو هو دليلٌ شرعيٌّ على ثبوت مثل ذلك الفعل الواقع في خيبرَ، بوجوه من التأويلات [في حقبا] (2) أم لا انتهى، سلّمنا فإنّما يكون حجّةً إذا لم يكن له مَحْمَلٌ غيرَ التشريعِ، وقد يُؤَوَّلُ ذلك الفعلُ الواقعُ في خيبرَ بوجوهٍ من التأويلاتِ، ودعوى أنها متَعَسَّفَةٌ متناقضةٌ خاليةٌ عن برهانٍ سلّمنا، فالواقعُ منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ إنما هو مع يهود خيبر في أراضي مُلِكَتْ بنوعٍ من التملُّكاتِ، فيُقْتصَرُ على ما وردَ ويكونُ ذلك الفعل دليلا على جواز مثله في أرض مُلِكت كذلك مع مَنْ هو بتلكَ الصفةِ. سلّمنا فإثباتُ ذلك الحكمِ
_________
(1) أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (3406) وهو حديث ضعيف.
(2) كذا في المخطوط غير واضحة ولعلها [في حقنا].(8/3878)
للمسلمينَ فيما بينهم في أرضٍ ملكتْ بأي نوع من التملُّكاتِ إنما يكون بطريقِ الإلحاقِ والقياسِ، وهو ما يسميهِ الأصوليون قياسًا في معنى الأصلِ (1)، وقياسًا بالفارق، فيكونُ قياسًا في مقابلةِ النصِّ (2). ولا يخفى بطلانُهُ.
فإنْ قلتَ: ليس الحجّةُ في هذا المقامِ فعلُه، بل الحجةُ تقريرُه لما وقع من بعضِ الصحابةِ من مثلِ ذلك الفعلِ.
قلتُ: هذا مع كونه لم يُسْتَنَدْ إليهِ في مقامِ الاستدلالِ لا يَتِمُّ المطلوبُ، لأنه يكونُ ذلكَ التقريرُ على القول بحجيّته تخصيصًا لعمومِ النهي عن المخابرة لأولئك الذين قرَّرَهُم. وأما غيرُهم ففيه أنه قال العلامةُ ابنُ الإمام في بحثِ التخصيص بالتقرير ما صورتُه: فإذا قَدَر واحدٌ من المكلّفينَ على خلافِ مقتضَى العامّ كان مخصِّصًا له عند الأكثرينَ، وإذا ثبتَ الجوازُ في حقّ ذلك الواحد، فإنْ تبيَّنَ معنى هو العلةُ لتقريرِه الحقّ بهِ مشاركةً في ذلك المعنى، إما بالقياس، وإما بنحوٍ حكميٍّ على الواحدِ (3)، حكميّ على الجماعة إن
_________
(1) واعملوا أنهم جعلوا القياس من أصله ينقسم من أصله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ - قياس علة: وهو صُرِّح فيه بالعلة كما يقال في النبيذ: إنّه مسكرٌ فيحرم كالخمر.
ب- وقياس دلالة: وهو أن لا يذكر فيه العلّة بل وصف ملازم لها كما لو عُلّل في قياس النبيذ على الخمر برائحة المُشتدّ.
جـ- قياس في معنى الأصل: هو أن يجمع بين الأصل والفرع بنفي الفارق. وهو تنقيح المناط وهو إلحاق الفرع بالأصل بإلغاء الفارق بأن يقال لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وذلك لا مدخل له في الحكم البتة فيلزم اشتراكهما في الحمك لاشتراكهما في الموجب له. كقياس الأمة على العبد في السِّراية فإنه لا فارق بينهما إلا الذكورة وهو ملغي بالإجماع، إذ لا مدخل له في العلية.
قال الغزالي في "المستصفى" (3/ 488)، "المحصول" (5/ 231)، "الكوكب المنير" (4/ 199).
(2) انظر التعليقة السابقة.
(3) تقدم تخريجه.(8/3879)
ثبتَ، وقولُه (1) ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في خطبة حَجَّةِ الوداعِ: "هل بلّغتُ؟ " قالوا: نعم، قال: "فَلْيُبَلّغِ الشاهدُ منكمُ الغائب" انتهى، وقد عرفتَ أن القياسَ في مقابلةِ النصِّ مُطَّرَحٌ.
وقوله: حكميٌّ على الواحدِ إلخ، حديثٌ فيهِ مقالٌ مشهورٌ، فكيف يُسْتَنَدُ إليه! وتُهْمَلُ عموماتُ صرائحِ النهي في الأحاديثِ الصحيحةِ، وأما قولُه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "فَلْيُبَلِّغِ الشاهدُ منكم الغائب"، فالمُراد يبلغُ الشاهدُ ما وقعَ في تلك الخطبةِ، أو ما سمعهُ من الأحكامِ بقرينةِ قولِه في آخرِ الحديثِ: "فرُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع" وعلى التقديرينِ لا يفيدُ المطلوبَ.
قوله: ودعوى النسخِ باطلةٌ بموتِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ [15]ـ على بُعْدِ هذهِ المعاملةِ.
أقول: لم يسبقْ منه نسبةُ هذه الدعوى لأهلِ القولِ الأولِ في مقامِ الاستدلال لهم، حتى ترتَّبَ إبطالُها عليه هاهنا، وعلى فرض صدورها منهم هي لا تتمُّ كما ذكرهُ لكنْ مع ما ذكرنَاهُ لا حاجَة إليها، إذا عرفتَ هذا علمتَ ما في الاحتجاجِ بالفعلِ الصادرِ منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في مثل هذا المقام، وكذلك ما صدر من بعض الصحابة في زمنه، وحينئذٍ يتعيَّنُ المصيرُ إلى القولِ. وبهذا يندفعُ ما أوردَ على القولِ الأولِ.
هذا وأنتَ إذا تحقَّقتَ ما سقته في هذين البحثين خصوصًا التالي عرفت موجوحية ما سوى القول الأول على الإطلاق، وأن قول من وُجِّه إليه هذا الخطاب، والذي ظهر للحقي تحريم كل مخابرةٍ وتفصيله لهذه الكلية بذكر كل نوع بدليله كلامٌ مسلّمٌ مرضيّ، وأن قولَه: ويبقى الإشكالُ في تأجير الأرضِ بشطرٍ معلومٍ من الثمرة من ثُلُثٍ، أو رُبُعٍ، أو نحوِ ذلكَ. وساقَ الكلام حتى حمل النهي النواهي القاضية بالتحريم المدفوع عنها احتمال الكراهة بذلك الوعيد الشديد على خلاف ظاهرها كما هو مذهب الأكثر كلامٌ
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (147/ 1218).(8/3880)
غير مسلم، وتعرف أيضًا أن قوله في غضون ذلك البحث: قد استمرّ على ذلك الفعل الصحابة في حياته، وبعد موته إن أراد جميع الصحابة ناقض ما حكاه عن أهل القول الأول، فقد قال به جماعةٌ من الصحابة كما سبق له، وإن أراد البعض فإنْ كان في حياتِه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وسلّمنا اطّلاعَه على ذلك كان تقريرًا، وفيه ما سمعتَه، وإن يكن بعد موتِهِ فالحجَّةُ إنما هي قولُه وتقريرُه وفعلُه إنْ لم يعارِضْهُ صريحُ القولِ على أنه قد نقَلَ رجوعَ ابن عمرَ عنها، فلا يَبْعُدُ رجوعُ غيرِهِ. ولم يُنْقَلْ هذا.
واعلم أن تفرَّدَ صاحبِ الرسالةِ بما ذهبَ إليه مبنيٌّ على القولِ بجوازِ إحداث قولٍ في المسألةِ بعد استقرارِ (1) قول المجتهدينَ، وإن كان قول الأكثر بخلافه الأظهر.
والمسألة مبسوطةٌ في أصول الفقهِ معروفةٌ، والله ولي التوفيق، ونسأله الهدايةَ إلى خير طريقٍ، وصلى الله وسلم على محمد الأمينِ، وآله الأكرمينَ آمينَ.
_________
(1) انظر "البحر المحيط" (4/ 492)، "المسودة" (ص320).(8/3881)
هذا جوابٌ مني عن بحثِ شيخِنا العلَمِ ـ رحمه الله ـ الذي سيأتي، وله في الورقةِ الثالثةِ بعدَ هذهِ.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله والطاهرين، وعلى صحبه الراشدينَ، وبعدُ.
فإنَّها لما وصلتْ هذه الرسالةُ التي سمحَ بها متدَفِّقُ بحر علمِ شيخِنا المحققِ، المدققِ، العلامة المجتهد، إمام المعقول والمنقول، حِبْر الفروع والأصول، علَم الجَهابِذَةِ الأعلام، وحِبر شرائع الإسلام، مَنْ لا أُسميه إجلالا وتَكْرِمَةً؛ إذ قدْرُهُ المتعلي عن ذاكَ يكفينا إلى تلميذه الحقير، أسير التقصير، أذْهَبْت ـ كما علم الله ـ عن ذهنه الجامد ما تعلَّق به من ضدِّ المخابرةِ، وأوجبت لما اشتملت على تحقيق التحقيق سلبُ المناظرةِ والمكابرةِ، ولم أجدْ فيها ما يَحتملُ القيلَ والقالَ، والمراجعةَ والجدالَ.
فأقول: قولُه ـ حفظه الله ـ: لأنا نقولُ: القولُ بأنَّ النَّهيَ حقيقةٌ في الكراهة مذهب مرجوح لا يناسبُهُ (1).
قوله: ولو سُلِّم فهذا الفعلُ المدَّعى كونُه قرينةً، لأنَّ ذلك التسليم في قوة سلَّمنا أنَّ القول أبان حقيقةً في الكراهة راجحٌ، وبعدَ ثبوت ذلكَ لا يُحتاجُ إلى القرينة، لأنَّ القرينة إنما جابَها المدَّعي للصرف (2) عن التحريمِ إلى الكراهةِ (3)، فكانَ الأنسبُ أن يقولَ: لأنَّا
_________
(1) في حاشية المخطوط ما نصه:
هذا الاعتراض صحيح ـ أحسن الله جزاكم ـ وقد صلح في الأصل إلى ما ترون.
(2) في حاشية المخطوط ما نصه: أما ما في هذا التصويب فهو لا يلزم القائلَ أنَّ النهي حقيقةٌ في الكراهةِ، إذ يصير الجواب عليه بما يومه* هذا تغيره.
(*): غير واضحة في المخطوط (الحاشية).
(3) في حاشية ما نصه. فعال الصحابةُ القائلون بالمنع من المخابرة هل خفي عليهم ما وقع في خيبر فما هو جوابكم فهو جوابنا. قال الشوكاني في "إرشاد الفحول (ص384): اختلفوا في معنى انلهي الحقيقيِّ فذهب الجمهور إلى أن معناه الحقيقيّ هو التحريم وهو الحقُّ.
ويرد فيما عداه مجازًا كما في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تصلوا في مبارك الإبل" فإنَّه للكراهة. وكما في قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} فإنَّه للدعاء.
وكما في قوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} فإنَّه للإرشاد.
وكما في قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} فإنَّه للتحقير.
انظر: "تيسير التحرير" (1/ 375)، "المسودة" (ص81)، "الكوكب المنير" (3/ 81).(8/3882)
نقولُ أنَّ النهي حقيقةٌ (1) في التحريمِ، ولا نسلِّم ذلكَ الفعلَ المدعى قرينة إلخ.
قوله: لِمَ لا يكون خاصًا به؟ ودليلُ الخصوصيةِ، إلى قولِه: وفعلُ غيرِه ليسَ بحجيَّةٍِ.
أقول: نعمْ لا حُجَّةَ في فعلِ غيره، لكنَّ خفاء الخصوصيةِ على مثلِ أكابرِ الصحابةِ كعليٍّ، وعمرَ، ومعاذٍ، وابن مسعود، وجميع أهلِ المدينة بعيدٌ، لا سيَّما وقدِ استمرَّ على ذلك بعد موته ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ كما ثبت في حديث ابن عمر عند الخمسة (2) أنَّ عمرًا لما وُلِّيَ خيرَ أزواج النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أنْ يقطع لهنَّ الأرض والماء، أو يضمن لحصن الأوساق في كل عام ... الحديث، وكما أخرجه البخاري (3) أيضًا عن عمر أنه عامل الناس على أنْ جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاؤا [17] بالبذرِ فلهم كذا. وكما أجرجه ابن ماجه (4) أن معاذًا أكْرَى الأرض على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وأبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ ـ رضي الله عنهم ـ على الثُّلُث، والرُّبُع.
قوله: فكون مطلق الفعل الخ
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) أخرجه أحمد (2/ 149) والبخاري رقم (2238) ومسلم رقم (6/ 1551) وأبو داود رقم (3008) وابن ماجه رقم (2467).
(3) في صحيحه (5/ 10 رقم الباب 8). معلقًا وقد تقدم.
(4) في "السنن" رقم (2463) وهو حديث صحيح.(8/3883)
أقول: قولُ الله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1) والمأتيُّ به أعمُّ أن يكون قولاً، وفعلاً، وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}: [الأحزاب: 21]. (2): أفعال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنقسم إلى سبعة أقسام:
1 - ماكان من هواجس النفس وحركات البشرية كتصرُّف الأعضاء وحركات الجسد فهذا القسم لا يتعلق به أمرٌ باتباع ولا نهيٌ عن مخالفته وليس فيه أسوة ولكنه يفيد أن مثل ذلك مباح.
قال سبحانه وتعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93].
2 - ما لا يتعلق بالعبادات ووضح فيه أمر الجبلة، كالقيام والقعود ونحوهما فليس في تأس ولا به اقتداءٌ ولكنه يدل على الإباحة عند الجمهور.
3 - ما احتمل أن يخرج عن الجبلة إلى التشريع بمواظبته عليه على وجه معروف وهيئةٍ مخصوصة كالأكل والشرب واللُّبس والنوم فهذا القسم دون ما ظهر فيه أمر القربة وفوق ما ظهر في أمر الجبلة على فرض أنَّه لم يثبت فيه إلا مجرَّد الفعل، وأما إذا وقع منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإرشاد إلى بعض الهيئات كما ورد عنه الإرشاد إلى هيئة من هيئات الأكل والشرب فهذا خارج عن هذا القسم داخل فيما سيأتي.
4 - ما علم اختصاصه به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كالوصال والزيادة على أربع فهو خاص لا يشاركه فيه غيره.
5 - ما أبهمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لانتظار الوحي كعدم تعيين نوع الحج مثلاً، فقيل يقتدي به في ذلك وقيل لا.
6 - ما يفعله مع غيره عقوبة له كالتصرف في أملاك غيره عقوبةً له اختلفوا هل يُقتدى به فيه أم لا فقيل يجوز وقيل لا يجوز وقيل هو بالإجماع موقوف على معرفة السبب، وهذا هو الحقُّ فإن وضح لنا السبب الذي فعله لأجله كان لنا أن نفعل مثل فعله عندوجود مثل ذلك السبب وإن لم يظهر السبب لم يجز، وأمَّا فعله بين شخصين متداعيين فهو جار مجرى القضاء فتعين علينا القضاء بما قضى به.
7 - الفعل المجرد عما سبق، فإن ورد بيانًا كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صلُّوا كما رأيتموني أصلي" فلا خلاف أنّه دليلٌ في حقنا وواجبٌ علينا وإن ورد بيانًا لمجمل كان حكمه حكم ذلك المجمع من وجوب وندبٍ كأفعال الحج وأفعال العمرة وصلاة الفرض وصلاة الكسوف.
وإن لم يكن كذلك بل ورد ابتداءً، فإن علمت صفته في حقه من وجوب أو ندب أو إباحة فاختلفوا في ذلك على أقوال:
الأول: أن أمته مثله في ذلك الفعل إلا أن يدلُّ على اختصاصه به وهذا هو الحقُّ.
الثاني: أن أمته مثله في العبادات دون غيرها.
الثالث: الوقف.
الرابع: لا يكون شرعًا لنا إلا بدليل.
وإن لم تعلم صفته في حقه وظهر في قصد القربة فاختلفوا فيه على أقوال.
انظر: "البحر المحيط" (4/ 180)، "المحصول" (3/ 229)، "إرشاد الفحول" (ص157 - 165) "المعتمد" (1/ 348).
_________
(1) [آل عمران: 31] وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}: [الحشر: 7].
(2) ورجوعُ الصحابةِ إلى فعلِه من غير تصحيحِ باب دونَ بابٍ، وأبحاثُهم لكثيرٍ من الواجباتِ بمجردِ فعلِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لها مما يشهدُ بأن فعله(8/3884)
ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ دليلٌ شرعيٌّ إن لم يكن (1) جِبِليًّا (2).
قوله: ودعوى أنها متناقضةٌ متعسَّفةٌ خاليةٌ عن برهان.
أقول: برهان التناقض أنَّ أحد التأويلات أثبت أنهم مملكون (3) لرسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ والأرض أرضه، والآخر أثبت حريتهم (4) والأرض لهم، وهذا تناقض ظاهرٌ، وبرهان التعسف أن أخرج الشيخان (5) لما ظهر رسول اله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ على خيبر سألته اليهود أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها، ولهم نصف الثمرة فقال: "نقرِّكم بها على ذلك ما شئنا" وهذا صريحٌ بأنَّ المأخوذَ في مقابلةِ ............
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) في حاشية المخطوط ما نصه: "يقال المراد أن الفعل من حيث هو فيه الخلاف، وأما القول فمتفقٌ على كونه دليلاً، كيف يترك المتفق عليه ويعدل إلى غيره؟.
(3) تقدم التعليق على ذلك. انظر الرسالة (122).
(4) أما هذا فليس بتأويل، فكيف يجعل من قضائه. حاشية المخطوط.
(5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2338) ومسلم رقم (6/ 155).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3008) وابن ماجه رقم (2467).(8/3885)
العمل (1) فالقول بأنَّ المأخوذ جزية (2) تعسفٌ ظاهرٌ، وكذا القول بأن نفعه مخالف لما وقع في لفظ الحديث من أنه عامل أهل خيبر بشطرِ ما يخرج عند الجماعة كلهم، لأن المعاملة المؤاجرة، وكذا سائر التأويلات.
قوله: فيُقْتَصَرُ على ما ورَدَ.
أقول: هذا جمعٌ حسنٌ، ولكنه مخالفٌ لما ذكره شيخُنا ـ حفظه الله ـ في أولِ الرسالة (3) من أن الراجحَ عندهُ القولُ الأولُ، لأنَّ القائلَ به لا يجيز ذلكَ.
قوله: فإثباتُ ذلكَ الحكمِ للمسلمينَ إلى قوله: ولا يخفَى بطلانُهُ.
أقول: بل لا بدَّ لشيخِنا ـ حفظه الله ـ في تعميمِ التحريمِ من سلوكِ هذه الطريقةِ إنْ مشى على مذهبِ الأكثرِ أنَّ لفظَ نهى عن المخابرة (4)، نهى عن بيع الحصاة (5)، نهى عن الغَرَرِ (6) (7) لا يعمُّ كما حكاه المحقق ابن الإمام.
_________
(1) في حاشية المخطوط: لا يدفع ذلك كون هذا العمل مساقاةً، كما قد قيل من وجوه التأويل.
(2) تقدم رد هذا القول. انظر الرسالة (122).
(3) في حاشية المخطوط: هذا غير مخالفٍ لما ذكر أولاً، لأن ما ذكر ههنا تنزلٌ، ومشيٌ مع مَنْ جعلَ ذلك الفعل دليلاً في هذا المقام، أي إذا جعلت الفعل دليلاً فاقْتَصِر إلخ. فلا يصلح لغير ذلك، فكيف يُدَّعى زيادة عليه.
(4) تقدم ذكر الحديث وتخريجه.
(5) تقدم ذكره. انظر الرسالة رقم (110).
(6) انظر الرسالة رقم (110).
(7) أقول على تسليم عدما لعموم لا مانع من سلوك تلك الطرق، أي: طريق القياس، حيث لا نص يقابله كما وقع هنا، فالفرق واضح.
وقوله: بعد هذا، أقول: هذا من باب التخصيص بالقياس، وهو سابغ رائع يقال: قد عرف أن التخصيص بالقياس إخراج بعض أفراد ما دلّ عليه العام به، ومثله: شارح الكافل بمثل أن يقول الشارع: لا تبيعوا الموزون بالموزون متفاضلا، ثم يقول: بيعوا الحديد كيف شئتم. فيُقاسُ النحاسُ والرصاصُ عليه بجامعِ الانطباعِ. وأما ما نحنُ فيه فالقياسُ على تسليمِ وجودِ الجامعِ بين مَنْ قرَّرَه النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وغيره يؤول إلى إبطال العام بالكلية، فلذا قيل: إنه عملٌ بالقياس في مقابلة النص لا تخصيص.
قوله: ولكن يشهد له حديث: ما قولي لامرأةٍ واحدةٍ.
أقول: هذا ورد في البيعة، فإن قلتم: لا يُقْصَرُ على سببه، فالواقع في ما قولي، ولم يقل ما تقريري حتى يتم الاستشهاد به.
قوله: أقول: التبليغ يكون بالقول والفعل، إذ المبلغ قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وفعله. ثم يقال: المدعي بلاغة هذا التقرير، وليس بقول ولا فعل، وإن قلتم: بل المبلغ لفعل الذي سكت عنه فجعل قصر ما وقع في خطبة الوداع على المسموع تسديد، وتعليله بأن صورة الفعل نوعا، وحكايته تسمع غير تسديد، لأنَّ الظاهر مع قوله: "فرُب مبلَّغ أوعى من سامع"، بل صريحة إنما هو في ما سمع، والأقوال ودعوى شمول ذلك للأفعال خلافُ الظاهر، يحتاجُ إلى دليل واضح.
قوله: خصَّ الجوازَ بمثل تلك الأرض، وبمثل أولئك النفر إلخ.
يقال على القول الأول: إنما تكلّموا على حكم المسألة بالنسبة إليه نفسها بأكثر، وبما وقعَ في تلك الأرض لأولائك النَّفَر من الصحابة، وإنما تأولوا العقل في الواقع من نبيِّنا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ الذي فعله حجَّةٌ، فلما وقع الاستدلال بأفعال الصحابة فقيل قبلها ما قيل على حسب ما ظهر حمْلاً بخير القرون على أحسن المحامل، على وجهٍ لا يكون فيه حُجَّةً لمن سواهم، فهذه الزيادةُ لا تُخْرِجُ القائلَ بها إلى المخالفةِ لأصلِ القولِ الأولِ: ولو سُئلوا عمَّا وقع من الصحابة ما وسِعَهُم سوى الحملِ لِفِعْلِهم على وجهِ صِحَّةٍ إحسانًا للظنِّ. هذا مما تظهرُ وفوقَ كلِّ ذي علمٍ عليمٌ.(8/3886)
وأما حديثُ (1) من لم يَذَرِ المخابرةَ، فهو وإن كان عامًا إلا أنه ـ حفظه الله ـ قد خصَّصَهُ فضعفتْ حُجِّيَّتُهُ، ولهذا ذهبَ جماعةٌ من أهلِ الأصولِ (2) إلى أنَّهُ بعدَ التخصيصِ
_________
(1) تقدم وهو حديث ضعيف.
(2) اختلفوا في العام بعد تخصيصه هل يكون حجة أم لا؟؟.
إذا خصَّ بمبهم كما لو قال، فلا يحتج به على شيء من الأفراد بلا خلاف. ومحل الخلاف إذا خصَّ بمبين على أقوال:
الأول: أنه حجة في الباقي وإليه ذهب الجمهور واختاره الآمدي وابن الحاجب وغيرهما من محققي المتأخرين. "الإحكام" (2/ 252 - 254)، "التبصرة" (ص122)، "تيسير التحرير" (1/ 308).
قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص466 - 467): وهو الحقُّ الذي لا شك فيه ولا شبهة، لأن اللفظ العام كان متناولاً للكل فيكون حجةً فيكل واحدٍ من أقسام ذلك الكل، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل الأقسام على السوية، فإخراجُ البعض منها بمخصص لا يقتضي إهمال دلالة اللفظ على ما بقي ولا يرفع التعبد به، ولو توقف كونه حجةً في البعض على كونه حجةً في الكل للزم الدَّور وهو محال.
وأيضًا المقتضي للعمل به فيما بقي موجودٌ وهو دلالة اللفظ عليه والمعارض مفقودٌ فوجد المقتضي وعدما لمانع فوجب ثبوت الحكم.
وأيضًا قد ثبت عن سلف هذه الأمة ومن بعدهم الاستدلال بالعمومات المخصوصة وشاع ذلك وذاع.
الثاني: أنَّه ليس بحجة فيما بقي وإليه ذهب عيسى بن أبان وابو ثور كما حكاه عنهما صاحب المحصول وحكاه القفال الشاشي عن أهل العراق، وحكاه الغزالي عن القدرية.
قال إمام الحرمين في "البرهان" (1/ 410): ذهب كثيرٌ من الفقهاء: الشافعية والمالكية والحنفية والجبائيُّ وابنه إلى الصيغة الموضوعة للعموم إذا خصَّت مجملة، ولا يجوز الاستدلال بها في بقية المسميات إلا بدليل كسائر المجازات.
واستدلوا بأن معنى العموم حقيقةٌ غير مرادة مع تخصيص البعض، وسائر ما تحته من المراتب مجازاتٌ وإذا كانت الحقيقة غير مرادةٍ وتعددت المجازات كان اللفظ مجملاً فيها فلا يحمل على شيء منها والباقي أحد المجازات كان اللفظ مجملاً فيها فلا يحمل على شيء منها.
قال الشوكاني: إنَّما يكون إذا كانت المجازات متساويةً ولا دليل على تعين أحدها. وما قدمنا من الأدلة في القول الأول دلت على حمله على الباقي فيصار إليه.
الثالث: أنَّه إن خصَّ بمتصل كالشرط والاستثناء والصفة فهو حجة فيما بقي، وإن خصَّ بمنفصل فلا، بل يصير مجملاً.
الرابع: أن التخصيص إن لم يمنع استفادة الحكم بالاسم وتعلّقه بظاهره جاز التعلق به كما في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]. لأن قيام الدلالة على المنع من قتل أهل الذمة لا يمنع من تعلق الحكم وهو القتل باسم المشركين. وإن كان يمنع من تعلق الحكم بالاسم العامّ ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر لم يجز التعلُّق به كما في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. لأن قيام الدلالة على اعتبار النصاب، والحرز وكون المسروق لا شبهة فيه للسارق يمنع من تعلق الحكم وهو القطع بعموم اسم السارق ويوجب تعلّقه بشرط لا ينبئ عنه ظاهر اللفظ. وإليه ذهب أبو عبد الله البصريُّ.
قال الشوكاني: ويجاب عنه بأن محلّ النزاع دلالةُ اللفظ العام على ما بقي بعد التخصيص وهي كائنة في الموضعين والاختلاف بكون الدلالة في البعض أظهر منها في البعض الآخر ـ باعتبار أمر خارج ـ لا يقتضي ما ذكره من التفرقة المفضية إلى سقوط دلالة الدالّ أصلاً وظاهرًا.
الخامس: إن كان لا يتوقف على البيان قبل التخصيص ولا يحتاج إليه كاقتلوا المشركين فهو حجة لأن مراده بينٌ قبل إخراج الذميّ وإن كان يتوقف على البيان ويحتاج إليه قبل التخصيص فليس بحجة كقوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72]. فإنه يحتاج إلى البيان قبل إخراج الحائض ونحوها وإليه ذهب عبد الجبار.
قال الشوكاني: وليس هو بشيء ولم يدلّ عليه دليلٌ من عقل ولا نقل.
السادس: أنه يجوز التمسك به في أقلّ الجمع لأنه المتعين ولا يجوز فيما زاد هكذا حكى هذا المذهب القاضي أبو بكر والغزالي وابن القشيريِّ وقال إنَّه تحكُّمٌ.
وقد استدلوا لهذا القول بأن أقلّ الجمع هو المتيقنُ، والباقي مشكوكٌ فيه.
قال الشوكاني وردّ: بمنع كون الباقي مشكوكًا فيه لما تقدم من الأدلة.
السابع: أنه يتمسك به في (واحد) فقط حكاه في "المنخول" (ص153) عن أبي هاشم وهو أشدُّ تحكمًا مما قبله.
الثامن: الوقف فلا يعمل به إلا بدليل حكاه أبو الحسين بن القطان وجعله مغاايرًا لقول عيسى بن أبان ومن معه، وهو مدفوع بأن الوقف إنَّما يحسُن عند توازن الحجج وتعارض الأدلة وليس هنا شيء من ذلك.
انظر: "البحر المحيط" (3/ 271)، "المستصفى" (3/ 254)، "تيسير التحرير" (1/ 313)، "إرشاد الفحول" (ص465 - 470).(8/3887)
ليسَ بِحُجَّةٍ. وذهب آخرونَ إلى أنه لا يكونُ حجةً إلاَّ في .....................................(8/3888)
أقلَّ الجمع (1). ومع هذا فتناولُهُ لما بقيَ ليسَ إلا بطريقِ المجازِ على المذاهبِ المختارِ.
قوله: وقد عرفتَ أنَّ القياسَ في ..............................
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.(8/3889)
في مقابلةِ النصِّ مطرح (1).
أقول: هذا من باب التخصيصِ بالقياسِ، وهو شايعٌ ذائعٌ، وليس من قبيلِ القياسِ في مقابلةِ النصِّ؛ فإنْ كانَ شيخُنا يمنعُ التخصيصَ بالقياسِ فلا بأسَ.
قوله: حديثٌ فيه مقابلةٌ مشهورٌ.
أقول: نعم، ولكن يشهدُ له حديث: "ما قولي لامرأةٍ واحدةٍ إلا كقولي لمائة امرأة" عند النسائيِّ (2)، وهو عند الترمذيِّ (3) بلفظ [18]: "إنما قولي لمائة امرأةٍ كقولي لامرأةٍ واحدة". وقال حسَنٌ صحيحٌ.
وهو أيضًا في مسندِ (4) أحمدَ. وعمَلُ الصحابةِ فإنهم حكموا على الكلِّ لما حكَمَ به النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ على البعضِ، كضربِهِمُ الجزية على كل مجوسيّ لضربه الجزية على مجوس هَجَرَ، وشاع وذاع فكان إجماعًا. ويشهدُ له ايضًا قولُه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لأبي بُرْدَةَ ف يالتضحيةِ بالجَذْعَةِ: "تجزيكَ ولا تُجزي عن أحدٍ بعدَك" (5) فلولا أنَّ لفظَ تجزيكَ قد أفادَ العمومَ لم يكن لذلكَ القولِ فايدةٌ، وكذا تخصيصه خزيمة (6) بقبول شهادته وحده.
قوله: فالمراد يبلغُ الشاهدُ ما وقعَ في تلكَ الخُطْبَةِ.
أقول: التبليغ يكونُ بالقولِ والفعلِ لا محالة، وقَصْرُهُ على ما وقع في تلك الخطبة أو ما سُمِعَ من الأحكام بقرينة: فرُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع غيرُ سديد، لأن صورة الفعل
_________
(1) تقدم ذكره.
(2) في "السنن" (7/ 149).
(3) في "السنن" رقم (1597).
(4) في "المسند" (6/ 357).
من حديث أميمة بنت رُقيقة وهو حديث صحيح. وقد تقدم.
(5) تقدم تخريجه مرارًا.
(6) تقدم مرارًا.(8/3890)
تُوعى وحكايتُهُ تُسْمَعُ.
قوله: هذا واعلم أنّ صاحب الرسالة إلخ.
أقولُ: قدِ اتفقَ صاحبُ الرسالة وشيخُهُ ـ متع الله به ـ على التفرد، فإنْ يَعْلَمْ ـ متع الله به ـ خصَّ الجوازَ بمثلِ تلكَ الأرضِ، ولمثل أولئكَ النَّفَرِ من الصحابة وسكتَ على ذلك، وهو خارجٌ عن القول الأول، وعن سائرِ تلكَ الأقوالِ والجميعُ مبنيّ على جوازِ إحداث قولٍ في المسألة بعدَ استقرارِ أقوالِ المجتهدينَ فيها، وهو الراجحُ لا سيَّما مع الأخذِ من كلِّ قولٍِ بطَرَفٍ. والحمد لله أولا وآخرًا، وصلى الله عليه وآله وسلَّم على سيِّدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. انتهى من تحرير المجيبِ محمد بن علي الشوكانيّ ـ حفظه الله ومد لنا في مدته ـ إنه جوادٌ كريمٌ، آمينَ آمينَ آمينَ.(8/3891)
(124) 30/ 1
بحث في الماء الكائن في المحلات المملوكة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(8/3893)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "بحث في الماء الكائن في المحلات المملوكة".
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده. حفظكم الله وأمتع حياتكم وكثر فوائدكم ولا برحتم البحث النفيس ... ".
4 - آخر الرسالة: "
وأستغفر الله لي وله وللمسلمين آمين تم البحث العظيم والحمد لله رب العالمين".
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 8 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا ما عدا الصفحة الأولى فعدد الأسطر فيها 15 سطرًا والصفحة الأخيرة سطر واحد.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/3895)
هذا الرسالة جواب عن بحث كتبه إليَّ القاضي محمد بن صالح بن أبي الرجال (1).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ وحدَه. حفظكم الله وأمتع حياتكم وكثَّر فوائدكم ولا برِحْتم، البحث النفيس وصل، وكنت عزمت على إمساك عِنان الأقلام، والكفِّ عن تطويل ذويل الكلام، خشية من أن يُفْضِي البحثُ إلى نوعِ من المراء المنهيِّ عنه المُرْشَدِ إلى خلافه.
يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "مَن ترك المراء ولو مُحِقًّا" (2) الحديث.
ولكنْ لما كان تأسيس الصواب وتحقيق مناط الحق من أعظم مقاصد الطلاب حدا بي ذلك إلى مراجعتكم لا لقصد الرد لما حرّرتُم بل لقصد التنبيه لكم. وقبل التعرُّض للكلام على ذلك ينبغي أن يُعلَمَ أولاً أن استعمالَ آداب البحث (3) والمناظرة بين كل متناظرين أمر متحتمٌ، ولهذا ترى المباحثة إذ لم يكن ذلكالعلمُ ملحوظًا منها شبيهة بالعبث، فكثيرًا ما ترى مَن مقامُه المنع قائما في مقام الاستدلال، ومن مقامُه الاستدلالُ قائما في مقام المنع، ومن مقامُه النقض أو المعارضة قائما في مقام التصحيح من حيث لا يشعر، وكلُّ ذلك لإهمال ذلكا لعلم وعدم الالتفات إليه والاعتداد به. وكثيرًا ما يظن مَن لم يُراعِ ذلك حقّ المراعاةِ أنه قد أصاب، وأخطأ خصمُه أو أخطأ وأصاب خصمه، ولو عرف ذلك العلم لزال عنه ذلك الظنّ الفاسد.
_________
(1) محمد بن صالح بن محمد بن أحمد بن صالح بن أبي الرجال ولد سنة 1146هـ وأخذ العلم عن جماعة من أعيان ذلك العصر. مهر في الأدب فنظم الشعر الفائق، وبالجملة فهو يتوقد ذكاء وفطنة، وحسن عشرة ومكارم أخلاق وعفة وصيانة وديانة وعلو همة ورياسة واطلاع تام على علم اللغة.
قال الشوكاني في "البدر الطالع" رقم (449) ويجري بيننا هنالك مذكرات أدبية ومحاضرات تاريخية ومن محاسنه أنَّه إذا رأى منكرًا استشاط غيظًا. توفي سنة 1234هـ.
" نيل الوطر " (2/ 268 - 274).
(2) أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (4800) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. وهو حديث حسن.
(3) انظر "الكوكب المنير" (4/ 370 وما بعدها)، "الفقيه والمتفقه" (2/ 25 وما بعدها).(8/3899)
إذا تقرر هذا فاعلم أنه إذا قام خصمك في مقام الاستدلال مثلا بدليل من السنة (1) اتّجه لك أن تقولَ: لا أُسلِّم صحة هذا الدليل أو تقول بعد تسليم الصحة: لا أُسلِّم [1] دلالته على المطلوب، فإن كان المنعُ الأولُ أو الثاني مُجرَّدين عن السند على خلاف في قبول المنع المجرَّد، فإذا قبل المستدِلُّ ذلك المنع المجرَّد وكان يرى قبوله لزمه أن يُبيِّنَ صِحَّة الدليل الممنوع صحتُه أو صحَّةَ دلالتِه على المطلوب الممنوع دلالته عليه، فإن وفى بذلك وإلا كانت الدائرة عليه.
وإن لم يقبل خَصْمُك ذلك المنع المجرّد كان عليك أن تُبيِّن منعَ صحة الدليل الواقعة منك، فتقول مثلاً: لأن رجال إسناده (2) أو أحدَهم لا تقوم به الحجةُ لكونه كذا وكذا أو لأن متْنه (3) لا تقوم به الحُجة لكونه كذا وكذا، وتبين منعُ دلالته على المطلوب فتقول
_________
(1) إذا كان دليله من السنة فالاعتراض عليه من خمسة أوجه:
1 - أن يطالبه بإسناد حديثه.
2 - أن يقدح في إسناده.
3 - أن يعترض على متنه.
4 - أن يدعي نسخه.
5 - أن يعارضه بخبر غيره.
ولكل وجه وجوه انظر تفصيلها في "الفقيه والمتفقه" (2/ 84 - 90).
(2) القدح في الإسناد من وجوه:
1 - أن يكون الراوي غير عدل.
2 - أن يكون مجهولا.
3 - أن يكون الحديث مرسلا.
(3) الاعتراض على المتن فمن وجوه:
1 - أن يكون المتن جوابًا عن سؤال، والسؤال مستقل بنفسه فيدعي المخالف قصده على السؤال.
2 - أو أن يكون الجواب غير مستقل بنفسه ويكون مقصورًا على السؤال والسؤال عن فعلٍ خاصٍّ يحتمل موضع الخلاف وغيره، فيلزم السائل المسؤول التوقف فيه حتى يقوم الدليل على المراد به.(8/3900)
لأن معناه لغةً كذا وهو غيرُ المُتنازع فيه.
هذا إذا استدل خصمُك مثلا بدليل من السنة. وإن استدل مثلاً بالإجماع (1) فتقول: لا أسلِّم الإجماعَ، وحينئذ يكون عليه بيانُ الإجماع وإلا كانت الدائرة عليه. وإذا أوردتَ أقوال العاملين بخلاف ما ادَّعى الإجماعَ عليه كان ذلك من باب بيان المنع والأخذ في المعارضة، فاعرِفْ أن نقْلَ أقوال القائلين إنما يُورِده المناظِر على من ادعى الإجماع، وأما من اعترف بالخلاف في محل النزاع فلا يليق بعارف أن يورد عليه أقوال الرجال لأنه أورَد عليه ما هو مُعترفٌ به.
نعم يُلحق بدعوى الإجماع دعوى إجماع أهل مذهبٍ من المذاهب أو طائفةٍ من الطوائف فإنه إذا اعترض عليه بنقل أقوال بعض أهل ذلك المذهب أو تلك الطائفة كان مقبولاً، وأما إذا أوردت َ الأقوال على من لم يدَّعِ أحدَ ذيْنَك الأمرَين فلا ريب أن نقلها نوعٌ من اللغو والعَبثِ الذي لا طائل تحته، بل هو مستنكرٌ عند مَن كان من صغار الطلبة ألا تراك لو سمعتَ قائلاً يقول: الإمامُ المهديُّ يقول بوجوب الاعتدال بين السجدتين فعند ذلك سمعت آخر يقول له: أخطأتَ قد يقول بوجوب الاعتدالِ مثلا الناصر ـ أما كنتَ تعُدُّ هذا من النوادر المضْحكة لا من المسائل العلمية! إذا تقرَّر هذا فلا يُنكِر القاضي العزّي عافاه الله أني لم أدَّع الإجماع على ما حرَّرتُه في المسألة حتى يرد عليّ ما أورَده من النقول عن أولئك الأعلام وكيف يدّعي ذلك في مسألة الماء التي هي محلُّ النزاع وهذا الإمام الأكبر المهديُّ لدين الله رضي الله عنه يقول في بحره الزخّار (2) ما لفظُه:
فصلٌ: ومن احتفر بئرًا أو نهرًا فهو أحقُّ بمائه إجماعًا (3) فرع (ع ط م قين ك) (4) فهو حقٌّ لا مُلْكٌ فليس له منعُ فضْلتِه، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "الناس شركاء في ثلاثة" (5) الخبر بعض (ها) (6) بل ملك لكن عليه بذلُ الفضْلة للماشية. والكلأ لينبت والوضوء والغسل [2] وإزالة نجاسةِ الثياب وغيرها، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "من منع فضْلَ الماء إلخ" (7) ثم قال في موضع آخرَ (8): مسألة: والماءُ على أضرب حق إجماعًا كالأنهار غير المستخْرَجة والسيول وملك إجماعًا ماء يحرز في الجرار (9)، ومُختلفٌ فيه كماء الآبار والعيونِ والقناة المحتفرةِ في الملك (م ع ط قين) (10) حق لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "الناس شركاء في ثلاثة" (11) ولم يفصّل إلا ما خصه الإجماعُ كماء الجرار فمن أخذ منه شيئًا ملَكه لكن يأثم الداخلُ بغير رضاه إذا العرصة ملكُه (قم ي بعصش) (12) بل ملكه لكونه في ملكه كماء الجرة.
قلنا: ماء الجرة نقل وإحراز لا هذا فأشبه السيول انتهى.
ثم قال مسألة: وأما البِرَاكُ التي تُحفَر في المُلْك أو يجر إليها ماء مباح فماؤُها حقٌّ لكن
_________
(1) إنْ كان دليله الإجماع فإنَّ الاعتراض عليه من ثلاثة أوجه:
1 - أن يطالب بظهور القول لكل مجتهد من الصحابة.
2 - أن يبين ظهور خلاف بعض الصحابة.
3 - أن يعترض على قول المجمعين، إن لم يكونوا صرحوا بالحكم بمثل ما يعترض على لفظ السُّنة "الفقيه والمتفقه" (2/ 90 - 94).
(2) (3/ 99 - 100).
(3) في "البحر" وإن بعدت منه أراضيه وتسط غيرها.
(4) ع: أبو العباس، ط: أبو طالب، م: المؤيد بالله. قين: الحنفية والشافعية. ك: مالك.
(5) تقدم تخريجه.
(6) ها: الهادي.
(7) تقدم تخريجه.
(8) (3/ 102).
(9) ونحوها (ي) فإن كان يكال أو يوزن في الجهة فمثلي وإلا فقيمي. (ي): الإمام يحيى.
(10) انظر التعليقة رقم (2) في هذه الصفحة.
(11) تقدم تخريجه.
(12) قم: أحد قولي أبي طالب. ي: الإمام يحيى. بعصش: بعض أصحاب الشافعي.(8/3901)
لا يدخلُ إلا بإذن إلخ.
وقال في البيان (1): مسألة: والماءُ على ثلاثة أقسام ثم قال: الثالثُ ماءُ العيونِ المسخرجةِ والآبارِ والمناهلِ المملوكة والمسبلةِ والأراضي المملوكةِ ثم ساق الخلافَ بعد ذلك حتى قال (فرْعٌ) فلو نبعَتْ عينٌ في موضع ممْلوكٍ، فالأقربُ إن ما يخرج منها يكون هكذا على الخلاف إلخ.
دعْ عنك ذكْرَ الخلافِ في البحر الذي هو مُدَرِّسُ كبارِ الطلبةِ، والبيانَ الذي هو مدرَّسُ المتوسّطين منهم، هذا شرحُ الأزهارِ (2) الذي هو مُدَرَّسُ صغارِ الطلبةِ ذكر فيه الثلاثةَ الأقسامَ وقال في ماء الآبار والعيونِ المستخرجةِ أنه حقٌّ عند أبي طالب وأبي العباس للمذهب، وهو قولُ أبي حنيفةَ والمنصورِ بالله وبعض أصحاب الشافعيِّ وآخر قولي المؤيد بالله، وعند بعضِ أصحابِ الشافعيِّ والمؤيَّدِ بالله قديمًا أنه مُلْكٌ، هكذا ساق الخلافَ، وكما أني لم أدَّعِ الإجماعَ مطلقًا لم أدَّعِ أنه إجماعُ العِترةِ الطاهرةِ وأتباعِهم حتى يتوجَّه في المناظرة أن يُقالَ: قال فلانٌ منهم كذا وقال فلانٌ منهم كذا إنما الذي عرَّفْتُ القاضيَ عافاه الله به أنه لا يحلّ تحميلَ أهلِ عافش غرامةَ ما تدّعيه عليهم القضاةُ إلى أبي الرجال وأنه غيرُ مطابقٍ لما تقرَّرَتْ عليه قواعدُ المذهبِ الشريف ولا لما قامت عليه الأدلةُ، ثم خيَّرت القاضيَ أطالا لله بقاءه بين أن يناظِرَ على مُقتضَى المذهبِ أو على مقتضى الدليل فحرَّر كثَّر الله فوائده ما لا يُقابِلُ بمثله إلا من ادّعى خلافَ الإجماعِ، وأين ذلك مما نحن بصدده فإنه لا يصلُح في جواب ما رسَمتُه له إلا أن يقولَ صدَّرتُ إليكم أبحاثًا على مقتضى الدليلِ يخالف ما زعمتم من عدم الجوازِ وعدم لزوم الضمان لمتلف ذلك الماء، أو يقول صدَّرْتُ إليكم أبحاثًا يقتضي أن المذهبَ المقرّرَ المعروفَ المعمولَ به الآن مصرِّحٌ بثبوت الغرامةِ [3] على مُتلف ذلك الماء، وكلُّ عارفٍ يعلم أنه لا يحسن في جواب ما
_________
(1) انظر "مؤلفات الزيدية" (1/ 222) وقد تقدم.
(2) (2/ 810 - 814 السيل الجرار).(8/3903)
رسمتُه إلا هذا لا مجرَّد القول. وينبغي أن نبيِّن للقاضي عافاه الله ما هو المذهبُ، فإنه ربما وقع الخروجُ عن البحث لأجل عدمِ استحضارِ ذلك فنقول كان المذهبُ الشريفُ في اصطلاح القدماء عبارة عن نصوص الإمام الأكبر الهادي إلى الحق سلام الله عليه ثم في اصطلاح مَن بعدَهم ما اتفق عليه أبو العباس وأبو طالب والقاضي زيدٌ، وعند بعضِهم أن الثالثَ المؤيدُ بالله ثم في اصطلاح مَن بعدَهم ما رجَّحه صاحبُ اللُّمَعِ والتذكرة، وهذا هوا لذي يُشير إليه الإمامُ المهديُّ في مؤلفاته بالمذهب ثم في اصطلاح مَن بعدهم ما نصّ عليه الأزهارُ وقرَّره صاحبُ البيانِ، ثم ومع الإطلاق على ما رجَّحه مهذّبوا المذهبِ كالمُفتي والشامي والسَّحولي والقاضي عامر المُقبلي، وآخر من له تقرير للمذهب وترجيح أحسنُ بن أحمد الشبيبي (1)
والكافةُ من علماء ذمار الآن يجعلون المذهب ما قرَّره، وكذلك غالبُ علماء صنعاءَ وهو شيخُ شيوخي وهو يروي ذلك عن السيد صلاح عن جيشي الكُحلاني عن جيّاش عن إبراهيمَ السَّحولي وهو يرويه حسبما حرَّره في الطراز المعروف فإذا أطلق المذهب في هذه الأعصارِ، وربما وقع خلافٌ في بعض الحالاتِ ما بين تقريرِ مشائخ علماء صنعاء وعلماء ذمار وعلماء صعْدَة وعلماء كُحْلانَ ولكن هي مواضعُ مخصوصةٌ معروفةٌ عند المحقِّقين من الفروعيين ولا أعلم الآن خلافًا بين أهلِ هذه المحلات في أن الماء المُستخرجَ من مُلك كالغيول المملوكة والآبار المملوكة حقٌ من الحقوق التي لا يجوز بيعُها ولا تلزمَ الغرامةُ مَن أتلفها ولو عُرض هذا على جميعَ مَن له معرفةٌ بالمذهب لما وسِعَه إلا الاعترافُ بالاتفاق وعدمُ الاختلاف، ولكن كثيرًا من المشتغلين بالفروع يعرِف من المذهب الاسمَ دون المُسمَّى فينظر القاضي أطالَ الله بقاءه هل يصحُّ شيء منها للمباحثة في الاجتهاد والاستدلال، وهو الحكمُ؟ وغايةُ ما رأيتُه يعوّل عليها عافاه الله هو إدراجُ الماء المتنازعِ فيه في أنه في حكم المنقولِ المحروز.
_________
(1) تقدمت ترجمته.(8/3904)
وأقول: إنْ كان هذا الإدراجُ على مقتضى المذهبِ فغيرُ صحيحٍ فقد قدمنا من كلام البحرِ (1) والبيان (2) والأزهارُ (3) وشرحِه ما يتّضح به تفسيرُ ما في حكم النقل والإحراز، وكيف يصِحّ ذلك وهذا الأزهارُ (4) يقول [4] ولو مستخرجًا من مُلك بعد قوله يُملك الماء بالنقل والإحراز وما في حكمها، فهل يصح تفسيرُ المستخرَجِ من المُلك بأنه الذي في حكمها في عبارة الأزهارِ، وهل ذلك يؤدي إلى المناقضة في كلام الأزهارِ إذ لا شك أن الذي في حكم المنقول المُحْرَزِ ملكٌ لا حَقٌّ.
وقولُه: ولو مستخرجًا في سياق الحقِّ لا يُملك.
فإن قلت: فما هو الذي في حكم النقلِ والإحراز.
قلتُ: هو ما وقع التفسيرُ به في كلام أهلِ المذهبِ وذلك كمواجل الحصونِ والبيوتِ ولكن يشرط أن تكونَ ممنوعةً كما وقع التقييدُ بذلك في كلامهم حتى إنه وقع في الحواشي املنقولِ تقريرُها عن شيوخ المذهبِ أن ماءَ البئرِ التي في الدار حقٌّ وقد صرّح به شرح الأزهار بل نقل إبراهيمُ السَّحولي عن والده: أن ماءَ الجرَّةِ الموضوعةِ تحت الميزاب حقٌّ مع أنه قد خالف في مواجل الحصونِ والبيوتِ الممنوعةِ جماعةٌ من مشائخ المذهبِ فهذا تقريرُ المذهبِ إن كانالقاضي حماه الله يريد المناظرةَ على وَفْقه، وإن كان يريد المناظرةَ على وفق الاجتهاد فنقول: حديثُ: "الناسُ شركاءُ في ثلاث" (5) وأحاديثُ (6) النهي عن بيع الماء تدل على المنع فإذا المعارضُ لهذه الأحاديث أو الناسخُ لها أو المخصِّصُ لها ولنتبرع بما سيجده القاضي بعد البحثِ تقريبًا له فنقول: لا معارض لذلك إلا محْضُ
_________
(1) (3/ 99 - 100، 103).
(2) تقدم التعريف.
(3) (2/ 810 مع السيل الجرار).
(4) (2/ 810 مع السيل الجرار).
(5) تقدم تخريجه.
(6) تقدم ذكرها.(8/3905)
القياسِ على الصيد الواقعِ في الحفيرة أو الشبكةِ ولم يعوّل القائلُ بخلاف المذهب الأعلى ذلك لا غيرُ وليس غير. وهذا القياسُ أولاً يرِد عليه من الاعتراضات التي ترِد على مثله كما تقرر في علم الأُصولِ ما يُبْطِلُه وعلى فرض عدم البُطلانِ فهو مصادم للنص، والأقيسَةُ إذا صادمت النصوص (1) وجب اطّراحُها وعدمُ الاعتداد بها كما تقرر في الأصول (2)، وعلى فرض جوازِ التخصيص (3) بالقياس وتسليمِ أن هذا القياسَ صالحٌ للتخصيص فغايةُ ما هناك عدمُ جوازِ الأخذِ، وليس النزاع إلاّ في الضمان، وقد تكلَّم أئمةُ المذهبِ في هذا بما يشفي ويكفي.
قال في المعيار للنَّجري في الاستدلال على أنه يُملك الماءُ بالنقل (4) والإحرازِ ما لفظُهُ:
_________
(1) تقدم ذكرها.
(2) انظر شروط صحة القياس "إرشاد الفحول" (ص678 - 686)، "تيسير التحرير" (3/ 276)، "جمع الجوامع" (2/ 222).
(3) ذهب الجمهور إلى جوازه وقال الرازي في "المحصول" (3/ 96): وهو قول أبي حنيفة والشافعي ومالك وأبي الحسين البصري والأشعري وأبي هاشم أخيرًا.
وذهب أبو علي الجبّائي إلى المنع مطلقًا.
قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص528): والحقُّ الحقيق بالقبول أنّه يخصص بالقياس الجليِّ لأنّه معمول به لقوة دلالته وبلوغها إلى حد يوازِن النُّصوص وكذلك يخصص بما كان علته منصوصة أو مجمعًا عليها، وأما العلة المنصوصة فالقياس الكائن بها في قوة النصِّ وأما العلة المجمع عليها فلكون الإجماع قد دل دليل مجمع عليه، وما عدا هذه الثلاثة أنواع من القياس فلم تقم الحجة بما لعمل به من أصله.
انظر مزيد تفصيل: "البحر المحيط" (3/ 381) "الإحكام" للآمدي (2/ 362)، "المستصفى" (3/ 349).
(4) روى أبو عبيد في "الأموال" (ص302) أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه.
قال ابن قدامة في "المغني" (6/ 147): وعلى ذلك مضت العادةُ في الأمصار ببيع الماء في الرّوايا، والحطب، والكلأ من غير نكير وليس لأحد أن يشرب منه ولا يتوضأ، ولا يأخذ إلا بإذن مالكه.
وكذلك لو وقف على بئره، أو بئر مباح فاستقى بدلوه، أو بدولابٍ أو نحوه فما يرقِّيه من الماء ملكه، وله بيعه لأنه ملكه بأخذه في إنائه.
قال أحمد: إنّما نُهي عن بيع فضل ماء البئر والعيون في قراه.
وقال ابن قدامة (6/ 146): وأما ما يحوزه من الماء في إنائه أو يأخذه من الكلأ في حبله أو يحوزه في رحله، أو يأخذ من المعادن فإنه يملكه بذلك، وله بيعه بلا خلاف بين أهل العلم.(8/3906)
وذلك لأنه قد يعارض في مُلكه العمومُ الذي هو قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "الناسُ شركاءُ في ثلاثة" (1) والقياسُ على الصيد الواقع في الحفيرة أو الشبكة فقال: جماعةٌ: يُخصَّصُ العمومُ بالقياس (2) كما تقرر في علم الأصولِ فيكون ذلك الماءُ مملوكًا، وقال الجمهورُ: بل يُرفَض القياسُ لمصادمته النصَّ وليس من تقديمِ العمومِ على القياس. وحقيقةُ أن الشركة في الماء التي قصدها الشارعُ في الحديث إما أن يكونَ قبل وجود سبب مُلكِه وهو لا يصلُحُ مقصودًا لذاته لأن ذلك معلومٌ من [5] العقل وإنما بعث لتعريف الأحكام الشرعيةِ أو بعد وجود السببِ وتأثيره في الملك، فذلك أيضًا لا يصلُح للإجماع على أنه لا شركَةَ بعد المُلكِ لأنها خلافُ مقتضى المُلك فلم يبقَِ إلا أن يُريدَ بعد وجودِ السببش فيكونُ الشارعُ مُعرِّفًا لنا أن السبب وإن وُجد لا يوجب المُلكَ لكن خرَجَ ما إذا كان بعد النقل والإحرازش بالإجماع فبقيَ حيث كان الإحرازُ فقط إذ لو أخرجناه لبقيَ النصّث غيرَ معمولٍ به أصلاً انتهى كلامُه.
وفيه من القدح على دعوى التخصيصِ بذلك القياسِ ما يكفي وحاصلُهُ أن المخصَّصَ إذا أفضى إلى حد الاستغراق لم يبْقَ من باب التخصيصِ بل من باب النسخِ وهو يجوِّز النسخَ (3) بالقياس وهذا معلومٌ معروفٌ في الأصول فليُراجِع القاضي حرسَه الله بين الكتب
_________
(1) تقدم تخريجه مرارًا.
(2) انظر كلام الشوكاني وقد تقدم.
(3) ذهب الجمهور إلى أنّ القياس لا يكون ناسخًا ونقله القاضي أبو بكر في "التقريب" عن الفقهاء والأصوليين قالوا: لا يجوز نسخ شيء من القرآن والسنة بالقياس لأن القياس يستعمل مع عدم النصِّ فلا يجوز أن ينسخ النصُّ ولأنه دليل محتملٌ والنسخ يكون بأمر مقطوعٍ ولأن شرط القياس أن لا يكون في الأصول ما يخالفه ولأنه عارض نصًّا أو إجماعًا فالقياس فاسد الوضع.
انظر: "المسودة" (ص216)، "الكوكب المنير" (3/ 571)، "البحر المحيط" (4/ 131).(8/3907)
الأصولية ليتَّضح له الصواب، أو يباحث عن ذلك مَن لديه علمٌ بها ولْيتخيَّر عافاه الله لذلك من يعرف ما يقول ويُقال له كالرجل الذي باحثَه ونقل جوابَه، فإن ذلك كلامٌ ليس من العِرْفان في شيء، بل مفصول عن الطّلاوة العلمية بالمرة مع غلاظةٍ وخشونةٍ في الألفاظ هي الباعثة لتحرير هذه الأحرف فيالله [أُلُوَّه] (1)! أيقولُ في عنوان جوابه: المسألةُ ظاهرةٌ مشكوفةٌ في كتب الفروع وليست من المسائل الغامضة التي بحث عنها ويراجع فيها العلماء إلخ.
فنقول: كم مدّعٍ للطهور قبل أن يعرِفَ الماهيَّة والكيفية فلله درُّك إلى أي نسبةٍ تنسُب هذه الظهور هل إلى كون المسألة في الفروع فهذا لا يجهَلُه أحد ولم تسأل عنه، أم كونُ فيها خلافٌ فكذلك ليس هو محلُّ النزاعِ أم حيث الدليلُ فلستَ فيما أظن ممن يعرف منه لا حقيرًا ولا قطميرًا. ألا تراك تقول في أثناء الجوابِ إن حديث النهي عن بيع الماء إنْ صحَّ (2) مهجورُ الظاهرِ فهذه العبارةُ تدل على ..................................
_________
(1) كلمة غير واضحة في المخطوط.
(2) كيف هذا.
- وقد أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2353) ومسلم رقم (36/ 1566) والترمذي رقم (1272) وابن ماجه رقم (2478) وابن الجارود رقم (596) وأحمد (2/ 244) ومالك في "الموطأ" (2/ 744 رقم 29) والحميدي (2/ 477 رقم 1124) والبغوي في "شرح السنة" (6/ 168 رقم 1668) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ".
-
وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (38/ 1566) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ".
- وفي لفظ البخاري رقم (2354): "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ".
- وأخرج أحمد (6/ 139) وابن ماجه رقم (2479) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُمنع نقعُ البئر". وهو حديث صحيح لغيره.
- وأخرج أحمد (2/ 183) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من منع فضل مائه أو فضل كلئه منعه الله عز وجل فضله يوم القيامة". وهو حديث صحيح لغيره.
- وأخرج مسلم في صحيحه رقم (34/ 1565) من حديث جابر: "أن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع فضل الماء".
- وأخرجه أبو داود رقم (3478) والنسائي رقم (7/ 307) والترمذي رقم (1271) من حديث إياس بن عبد وقد ورد بزيادة: "الملح".
- وأخرجه ابن ماجه رقم (3477) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يمنع الماءُ والنار والكلأ". وهو حديث صحيح.(8/3908)
تردُّدك (1) في صحَّة الحديثِ ولا سيما مع التعبير بلفظ إنْ الموضوعةِ للشك كما تقرر في علم المعاني والبيان.
فيالله العجبُ، هذا الحديثُ قد تكاثرت طرقُه حتى بلغ فيما أظن إلى حد التواترُ المعنويّ وهو مدوَّنٌ في غالب الكتُبِ الحديثية صحاحِها ومسانيدِها ومجاميعها وهو في كتب العِتْرةِ الكرامِ في غير كتابِ، وما أظنّ من له سماعٌ في مختصر من مختصرات الحديثِ يتردَّد في صحة هذا الحديث ويأتي بمثل تلك العبارة المُشعِرة بعدم الاطلاع على ذلك الفنِّ بالمرة ثم أعجبُ من هذا قولُك أنه مهجورُ الظاهرِ (2)، وهجرُ الظاهرِ باتفاق أهل العلم لا يكون إلا لموجب، فما هو الموجب؟ ثم أعجب من الجميع قولُك بعد ذلك كما لا يخفى مع أنه أخْفى السُّها (3) بل لا أدري إلى الآن ما موجبُ هجْر هذا الظاهر [6] على أني
_________
(1) الحديث صحيح: انظر التعليقة السابقة.
وانظر الرسالة رقم (111).
(2) الظاهر: قال الغزالي في "المستصفى" (3/ 84 - 85): هو المتردد بين أمرين وهو في أحدهما أظهر. وقيل: هو ما دل على معنى مع قبوله لإفادة غيره إفادة مرجوحةً. فاندرج تحته ما دل على المجاز الراجح.
وقيل: ما دل دلالة ظنيَّة إما بالوضع كالأسد للسبع المفترس، أو العرف كالغائط للخارج المستقذَر إذا غلب فيه بعد أن كان في الأصل للماكن المطمئنِّ من الأرض.
انظر: "المسودة" (ص574)، "تيسير التحرير" (1/ 136).
(3) السُّها: كُويكِبٌ صغير خفيُّ الضوء في بنات نعش الكبرى والناس يمتحنون به أبصارهم. "لسان العرب" (6/ 416).(8/3909)
كما قيل:
وقد درتُ في تلك المعاهد كلها ... وسرَّحتُ طرفي بين تلك المعالم (1)
فإن قلت: ليس الظهور الذي زعمتَه إلا من حيثية المذهبِ كما دل على ذلك قولُك وليس الخوضُ إلا فيما نصّ عليه أئمةُ المذهب الشريفِ.
فأقول: نعم ليس النزاعُ إلا في المذهب، ولكن ماذا أفدتَ أفادا لله بك فإنك لم تأت إلا بما يدُلّ على عدم تعقُّل مَحلَّ النزاعِ أصلاً لأنك قلتَ: إن الماءَ يُملك بالنقل والإحرازِ وهو غيرُ محلّ النزاعِ، ولعل سائلَك لا يخفى عليه هذا فإن النزاعَ بيني وبينه ليس إلا في اندراج ما وقع الخوضُ فيه في حكمِ النقلِ والإحرازِ أو عدمِ اندراجِه، فما لنا وللنقل والإحراز. ثم قلت: وكون الآبارِ وسواقي الأنهارِ شاهدةً لذلك.
فيالله العجب حيث يتصدر للإفتاء من كان بهذه المنزلة وأين هذا مما نحن فيه وما معنى هذه الشهادة فإن الكوزَ والسواقيَ المملوكة لا خلاف بيني وبين سائلك أنها مملوكةٌ ولا نزاع بيننا فيها ولا ملازمة به بين مُلكِها ومُلْكِ الماء الحالِّ فيها والجاري عليها لا عقْلاً ولا شرعًا ولا عادةً بإجماع العُقلاء ثم قال: وعلى ذلك مضت عادةُ المسلمين.
أقول: أيها المجيبُ إلى ماذا أشهدتَ بقولك ذلك؟ هل إلى مُلك الماء بالنقل والإحرازِ فذلك خارجٌ عما سألتَ عنه أم إلى شهادة الكوزِ والسواقي فما معنى هذه الشهادة وما معنى كونها مصبّ العُرف والعادة؟
وقولُك: فهو إجماعُ السلف والخلف في صحة تلك فإلى أين يا أبا ليلى وكم هذه
_________
(1) هو لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني المتوفى سنة 548هـ وقال بعده:
فلم أر إلا واضعًا كفَّ حائر ... على ذقن أو قارئ مِنّ نادم
انظر: "نهاية الإقدام" (ص3)، "الفتوى الحموية" لابن تيمية (ص7)، "الملل والنحل" (1/ 173).(8/3910)
الجُرأة على حكاية الإجماع فانظُر رعاك الله في مختصر من مختصرات الفقه لتعرف مقدار ما تحمَّلْت. وهكذا فليكم الكلامُ المفيدُ ثم يُغنيك عن القَعقعة [ببسط] (1) أخصَرُ كتاب، وعن كمال الاطلاعِ الذي جعلْتَه ثلْبًا لخصمك وتبجحًا لعلمك أحقرُ الاطّلاع.
وأعجبُ من هذا كلِّه الاستدلالُ بالتصرف بالماء في أنواع القُرَبِ، فيا أيها المسكين لا ملازَمَة بين الأمرين فإنه يصِحُّ التقرُّبُ بما لا يصِحّ بيعُه ولا تجب غرامته بإجماع المسلمين كالحقوق (2) والثَّمر قبل نفْعِه ودور مكة (3) ونحوِ ذلك فما بلنا ولهذا، أو لِنُمْسِكْ
_________
(1) كلمة غير واضحة ولعلها ما أثبتناه.
(2) انظر "الحاوي" (6/ 473).
الخلاصة:
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (10/ 176) أمَّا النَّهي عن بيع فضل الماء ليمنع بها الكلأ، فمعناه أن تكون لإنسان بئر مملوكة له بالفلاة وفيها ماء فاضل عن حاجته، ويكون هناك كلأ ليس عنده ماء إلا هذه افلا يمكن أصحاب المواشي رَعْيه إلاَّ إذا حصل لهم السقي من هذه البئر، فيحرُم عليه منع فضل هذا الماء للماشية، ويجب بذله بلا عوض، لأنّه إذا منعَ بذله امتنع الناس من رعي ذلك الكلأ خوفًا على مواشيهم من العطش ويكون بمنعه الماء مانعًا من رعي الكلأ.
ثم قال: والمذهب الصحيح أنّ من نبع في ملكه ماءٌ صار مملوكًَا له. أما إذا أخذ الماء في إناء من الماء المباح؛ فإنّه يملكه، هذا هو الصواب وقد نقل الإجماع عليه.
وجاء في كتاب: "كفاية الأخيار" (ص 363 - 364).
واعلم أن الماء قسمين:
1 - ما نبع في موضع لا يختص بأحدٍ، ولا صنع لآدميٍّ في أنباطه، وإجرائه، كالفرات وجيحون وعيون الجبال وسيول الأمطار، فالناس فيها سواء، نعم، إن قلّ الماءُ أو ضاق المشرع قدم على السابق، وإن كان ضعيفًا، لقضاء الشرع بذلك، فإن جاءوا معًا أقرع، فإن جاء واحدٌ يريد السّضقي وهناك محتاج للشرب، فالذي يشرب أولى، قاله (المتولي) ومن أخذ منه شيئًا في إناء أو حوض ملكه، ولم يكن لغيره مزاحمته فيه، كما لو احتطب، هذا هوا لصحيح. الذي قطع به الجمهور والله أعلم.
2 - المياه المختّصة، كالآبار والقنوات، فإذا حفر الشخص بئرًا في ملكه فهل يكون ماؤها ملكًا؟ وجهان: أصحها نعم، لأنَّه نماء ملكه، فأشبه ثمر شجرته، وكمعدن ذهب أو فضة خرج في ملكه وقد نصَّ الشافعي رحمه الله على هذا في غير موضع، فعلى هذا ليس لأحدٍ أن يأخذه، لو خرج عن ملكه، لأنَّه ملكه فأشبه لبن شاته.
انظر: "الأم" (8/ 127). "مغني المحتاج" (2/ 375).
وقيل: إن الماء لا يُملك لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار" والمذهب الأول.
والحديث على وجهين لا يجب على صاحب البئر بذل ما فضل عن حاجته لزرع غيره على الصحيح. ويجب بذله للماشية على الصحيح. ففي الصحيحين: "
لا تنمعوا فضل الماء لتمنعوا الكلأ" والفرق بين الماشية والزرع ونحوه حرمة الروح، بدليل وجوب سقيها بخلاف الزرع ثم لوجوب البذل شروط:
1 - أن يَفْضُل عن حاجته، فإن لم يفضل لم يجب، ويبدأ بنفسه.
2 - أن يحتاج إليه صاحبالماشية بألا يجد ماءً مباحًا.
3 - أن يكون هناك ملأ يُرعى، ولا يمكن رعيه إلا بسقي الماء.
4 - أن يكون الماء في مستقره، وهو مما يُستَخْلف، فأما إذا أخذه في الإناء فلا يجب بذله على الصحيح. وإذا وجب البذل عن الماشية من حضور البئر، بشرط أن لا يتضرَّر صاحب الماء في زرع أو ماشية، فإن تضرَّر بورودها مُنعتْ، ويستقي الرعاة لها.
قاله الماوردي: وإذا وجب البذل فهل يجوز له أن يأخذ عليه عوضًا، كطعام المضطر؟ وجهان: الصحيح: لا.
(3) انظر "الحاوي" (6/ 473).
الخلاصة:
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (10/ 176) أمَّا النَّهي عن بيع فضل الماء ليمنع بها الكلأ، فمعناه أن تكون لإنسان بئر مملوكة له بالفلاة وفيها ماء فاضل عن حاجته، ويكون هناك كلأ ليس عنده ماء إلا هذه افلا يمكن أصحاب المواشي رَعْيه إلاَّ إذا حصل لهم السقي من هذه البئر، فيحرُم عليه منع فضل هذا الماء للماشية، ويجب بذله بلا عوض، لأنّه إذا منعَ بذله امتنع الناس من رعي ذلك الكلأ خوفًا على مواشيهم من العطش ويكون بمنعه الماء مانعًا من رعي الكلأ.
ثم قال: والمذهب الصحيح أنّ من نبع في ملكه ماءٌ صار مملوكًَا له. أما إذا أخذ الماء في إناء من الماء المباح؛ فإنّه يملكه، هذا هو الصواب وقد نقل الإجماع عليه.
وجاء في كتاب: "كفاية الأخيار" (ص 363 - 364).
واعلم أن الماء قسمين:
1 - ما نبع في موضع لا يختص بأحدٍ، ولا صنع لآدميٍّ في أنباطه، وإجرائه، كالفرات وجيحون وعيون الجبال وسيول الأمطار، فالناس فيها سواء، نعم، إن قلّ الماءُ أو ضاق المشرع قدم على السابق، وإن كان ضعيفًا، لقضاء الشرع بذلك، فإن جاءوا معًا أقرع، فإن جاء واحدٌ يريد السّضقي وهناك محتاج للشرب، فالذي يشرب أولى، قاله (المتولي) ومن أخذ منه شيئًا في إناء أو حوض ملكه، ولم يكن لغيره مزاحمته فيه، كما لو احتطب، هذا هوا لصحيح. الذي قطع به الجمهور والله أعلم.
2 - المياه المختّصة، كالآبار والقنوات، فإذا حفر الشخص بئرًا في ملكه فهل يكون ماؤها ملكًا؟ وجهان: أصحها نعم، لأنَّه نماء ملكه، فأشبه ثمر شجرته، وكمعدن ذهب أو فضة خرج في ملكه وقد نصَّ الشافعي رحمه الله على هذا في غير موضع، فعلى هذا ليس لأحدٍ أن يأخذه، لو خرج عن ملكه، لأنَّه ملكه فأشبه لبن شاته.
انظر: "الأم" (8/ 127). "مغني المحتاج" (2/ 375).
وقيل: إن الماء لا يُملك لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار" والمذهب الأول.
والحديث على وجهين لا يجب على صاحب البئر بذل ما فضل عن حاجته لزرع غيره على الصحيح. ويجب بذله للماشية على الصحيح. ففي الصحيحين:
" لا تنمعوا فضل الماء لتمنعوا الكلأ " والفرق بين الماشية والزرع ونحوه حرمة الروح، بدليل وجوب سقيها بخلاف الزرع ثم لوجوب البذل شروط:
1 - أن يَفْضُل عن حاجته، فإن لم يفضل لم يجب، ويبدأ بنفسه.
2 - أن يحتاج إليه صاحبالماشية بألا يجد ماءً مباحًا.
3 - أن يكون هناك ملأ يُرعى، ولا يمكن رعيه إلا بسقي الماء.
4 - أن يكون الماء في مستقره، وهو مما يُستَخْلف، فأما إذا أخذه في الإناء فلا يجب بذله على الصحيح. وإذا وجب البذل عن الماشية من حضور البئر، بشرط أن لا يتضرَّر صاحب الماء في زرع أو ماشية، فإن تضرَّر بورودها مُنعتْ، ويستقي الرعاة لها.
قاله الماوردي: وإذا وجب البذل فهل يجوز له أن يأخذ عليه عوضًا، كطعام المضطر؟ وجهان: الصحيح: لا.(8/3911)
عنّا القلمَ عن الخوض مع من كان بهذه المنزلة، فإنه لا يستحق أن يُعدّ في المتعلمين فضلاً عن المُعلَّمين ومَن يصلح للمناظرة، وقد جعل اللهُ القاضيَ العزّي عافاه الله في غَناء عن أن يسأل مثل هذا المسكين فإنه ربُّ الذهب والوقّاد والفهْم المُنقاد، وما أفاد ذلك المسكينُ إلا تكديرَ صفْوِ المُذاكرة وتقدير مَورد المناظرة [7] وأستغفر الله لي وله وللمسلمين آمينَ. تم البحثُ العظيم والحمدُ لله رب العالمين.(8/3912)
(125) 31/ 2
القول المقبول في فيضان الغيول والسيول
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(8/3913)
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "القول المقبول في فيضان الغيول والسيول"
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرين وبعد: فإنّه اتفق حدوث خصامٍ بين جماعة ادّعى أهل الأموال السافلةِ على أهل الأموال العليا ... ".
4 - آخر الرسالة: " ... وفي هذا المقدار كفايةُ لمن له هداية. حُرِّر في الثلث الأوسط من ليلة الجمعة لعلَّها ليلة تاسعٍ وعشرين شهر ربيع الآخر سنة 1210 كتبه جامعه الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله له".
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 15 صفحة + صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 18 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 8 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
10 - الناسخ: المؤلف محمد بن علي الشوكاني.(8/3915)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرينَ. وبعدُ:
فإنه اتفق حدوث خصام بين جماعة ادّعى أهل الأموال السافلةِ على أهل الأموال العاليةِ أنَّهم أرسلوا إليهم ماءً غيلٍ حدثَ في شعابٍ وهضابٍ وأضبابِ جبال، وكان حدوثُ هذا الغيلِ المذكورِ في تلك المواضعِ لكثرة الأمطارِ، كما جرت العادة المستمرة أنها تخرجُ غيولٌ من مواضع عقِبَ نزول المطر الواسع لم تبقَّ أيامًا وتزول، فاتفق في عامنا هذا سنةَ 1210هـ أن الأمطار توافرتْ ودامت أيامًا، فنزل غيلٌ من المواضع المشار إليها وليس ذلك الغيلُ بمملوكٍ ولا وقع فيه سببٌ من أسباب المُلْكِ، فاستغنى أهل الأموال العاليةِ عن السقي به، وخشيوا فساد غِلاَّتِ الأ/والِ إذا دخل أموالَهم، والإضرارَ بالأرضِ، فعمقوا المداخل التي يدخل فيها الماءُ من تلك السائلةِ، وأرسلوه إلى مَنْ تحتَهم حتى انتهى إلى أرضِ قومٍ آخرينَ، وذلك حيثُ تنتهي السائلةُ، ولم يبقَ للماء طريقٌ إلا أصلاب الأموال، وأبدانَ الأطيان [1أ] لعدم وجود مكان هناك متروك من الحرث، حتى يكون مَمَرًّا للماء. فقال أهل الأموال السالفةِ: إنه يجب على أهل الأموال العالية أن يُدْخِلوه أملاكَهم لينصرفَ ضررهُ عن أملاكِهم. فقال أهل الأموال العالية: لا يجبُ علينا ذلك، لأنه يحصلُ الضررُ علينا كما حصل الضررُ عليكم، فلما ترافعوا لديَّ حَكَمْتُ: بأنه لا يجبُ على أهل الأموال العاليةِ أن يصرفوا الضرَّرَر عن أهل الأملاكِ السافلةِ بإدخال الضرر على أنفسهم لوجوه: أودعتُها الحكمَ الذي حررتُه بين المتنازعينَ، راجعةٍ إلى قواعدَ أصوليةٍ، وقوانينَ استدلالية قد اتفق عليها أئمةُ الأصول، ولم يخالِفْ فيها مخالفٌ لا من أئمتنا ـ عليهم السلام ـ ولا من غيرهم.
منها: أن ذلك الماءَ المنصبَّ من تلك الأمكنةِ لم يكن حدوثُه بفعل أهل الأملاك العالية، ولا وقع منهم سببٌ من الأسباب الموجِبَةِ لحدوثه، أو حدوثِ زيادتِه، بل هو حدثَ بنزول المطرِ الذي هو من فعل الله ـ عز وجل ـ وفيضِ رحمته [1ب].(8/3919)
وكان حدوثه في أمكنة هي مشتركةٌ بين عباد الله ـ سبحانه ـ بنصّ (1) رسوله المصطفى ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، وذلك الماءُ على أصل الاشتراك أيضًا بنصّ حديث أنّ: "الناس شركاءُ في ثلاثٍ" منها الماء. وقد اتفق المسلمون على أن الإنسان لا يجب عليه دفعُ ما ليس من فِعْلِهِ، ولا تسبَّبَ لإحداثه. وهذا الماءُ الذي هو محلُّ النزاع كذلك كما ذكرناه سابقًا، فهذه الطريقةُ الأولى من طرق الإجماع.
الطريقة الثانية: أنه قد اتفق المسلمون على أنه لا يجب على الإنسان أن يُنزِل بنفسه الضرر الذي نزل بالغير بغير فعلِه ولا سببِه.
الطريقة الثالثة: أنه قد اتفقَ أيضًا المسلمون على أنه لا يجب على الإنسان أن يجلب المصلحة لغيره إذا كان هذا الجلْبُ لا يتمُّ إلا بحصول مفسدةٍ تلحق الجالبَ في نفسه أو مالِه.
الطريقة الرابعة: أنه قد اتفقَ المسلمونَ على أنه لا يجبُ على الإنسان أن يدفعَ المفسدةَ عن الغير إذا كان الدفع [2أ] لا يتمُّ إلاَّ بإنزال تلك المفسدة بعينها أو بمثلها بذلك الدفع.
الطريقة الخامسة: أنه قد اتفقَ المسلمون على أنه لا يجبُ على الإنسان أن يجلبَ إلى غيره مصلحةً لا يمكن جلبُها إلاَّ بفوات مصلحةٍ مثلها عليه.
الطريقة السادسة: أنه قد اتفقَ المسلمون على أنه لا يجبُ على الإنسان جلبُ المصحلةِ الخالصة إلى الغير ابتداءً، من غير نظر إلى كونها تفوتُ عليه مثلُها، أو تحلُّ به مفسدةٌ. هذا على فرض أنها مقدورةٌ لا إذا لم تكن مقدوةً؛ فالأمر ممتنعٌ من جهتين:
الأولى: عدمُ التكليفِ بذلك من الأصل.
الثاني: كونُه من تكليفِ مالا يُطاقُ.
الطريقة السابعة: أنه اتفق المسلمون على أنه لا يجب على الإنسان أن يدفعَ عن
_________
(1) تقدم ذكر الحديث مرارًا.(8/3920)
غيره مفسدةً خالصةً غيرَ معارضةٍ إلاَّ إذا كانت من آثار فِعله، لا إذا لم يكن من آثار فِعله فلا يجبُ عليه ذلك إلاَّ من باب إنكارِ المنكرِ، على فرضِ أن فاعله مكلَّفٌ مختارٌ حتى يكون منكرًا، لا إذا لم يكن كذلك كما نحن بصدده، فإنه ليس بمنكر، لأ، ه ليس من فعلِ مكلَّفٍ بل من فعل ربّ العزّة ـ سبحانه [2ب].
الطريقة الثامنة: أنه قد اتفق المسلمون على أنه لا يجبُ على الإنسان أن يدفَع الأمر الغالب الذي لا يدخل تحت مقدوره، وما نحن بصدده من هذا القبيل، وهذا على فرض أنه قد وُجِدَ سببُ الدفع، كأن يكون أجيرًا على الحفظِ أو الدفعِ، فكيف إذا لم يكن كذلكَ! كما نحن بصدده. فهذه ثماني طرق من طرق الإجماع، قد رجعتْ كلُّ واحدة منها إلى قاعدة كليةٍ (1) مدوَّنة في علم الأصول، وعلم مناسباتِ الفروعِ.
_________
(1) من هذه القواعد:
1 - درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
وانظر المادة رقم (1192) من المجلة.
والظاهر أن هذا اي تقديم المنفعة ومراعاتها حين تربو على المفسدة فيها إذاكانت المفسدة عائدة على نفس الفاعل، كمسألة الكذب بين المتعاديين للإصلاح. أمّا أذا كانت المفسدة عائدة لغيره كمسألة العلو والسفل، فإنه يمنع منها لمجرد وجود الضرر للغير وإن كانت النفعة تربوا على المفسدة.
2 - الضرر يُدفع قدر الإمكان.
3 - الضرر لا يزال بمثله. ولا بما هو فوقه بالأولى بل بما هو ونه.
4 - الضرر يزال: والقاعدة السابقة قيد لهذه أي الضرر يزال إلا إذا كانت إزالته لا تتيسر إلا بإدخال ضرر مثله على الغير، فحينئذ لا يرفع بل يجبر بقدر الإمكان.
5 - لا ضرر ولا ضرار. وأصل هذه القاعدة حديث نبوي.
6 - الضرر الأشد يزال بالشرر الأخف.
7 - إذ تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما.
8 - العبرة للغالب الشائع لا النادر.
9 - يختار أهون الشرّين.
10 - يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
استيد بمنطوق هذه القاعدة بعض ما أفادته قاعدة: "الضرر لا يزال بمثله" بمفهومها المخالف، فإن مفهومها أن أحد الضررين إذا كان لا يماثل الآخر فإن الأعلى يزال بالأدنى، وعدم المماثلة بين الضررين إما لخصوص أحدهما وعموم الآخر، أو لعظم أحدهما على الآخر وشدته في نفسه. "
شرح القواعد الفقهية"
(125، 151، 152، 153). انظر: "المجلة" (ص654)، "المادة" (1192).
والمادة (1265) (ص683): لكل واحد أن يسقي أراضيه من الأنهر غير المملوكة أن يشق جدولاً لسقي الأرض وإنشاء الطاحون ولكن بشرط أن لا يضر بالعامة فإذا فاض الماء وأضرّ بالناس أو قطع الماء بالكلية أو منع سير الفلك فإنه يمنع.
انظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (ص85 - 91).(8/3921)
وكلُّ مَنْ له علم بهذين العِلْمين يعلمُ ما ذكرناه وهذه القواعدُ أيضًا مستعملةٌ في كتب الفروع قد عمل بها جميع الطوائف الإسلامية ودوَّنوها في كتبهم، فَمَنْ زعم أن في شيء منها خلافًا لمخالفٍ فليهدِهِ إلينا، وهي أيضًا منطبقة على محل النزاع انطباقًا لا يخفى على عارف.
أما الطريقةُ الأولى: فظاهرةٌ؛ إذ لا نزاعَ في كون ذلك الماءَ ليس من فعل أهل الأموال العالية، ولا تسببوا لإحداثه.
وأما الطريقة [3أ] الثانية: فواضحةٌ؛ إذ الإيجابُ على أهل الأموال العالية بأن يقبلُوا ذلكَ الماءَ ويُدْخِلُوه أملاكَهم، ليندفع الضررُ عن أهل الأملاك السافلة يستلزمُ أنه يجب عليهم أن يدفعوا الضَّرر عن مُلْكِ غيرهم بجَلْب الضررِ على أملاكِهم.
وأما الطريقة الرابعةُ: فلا ريبَ أن رفع المفسدة عن أهل الأموال السافلة يستلزمُ حصولَ تلك المفسدةِ على الأموال العالية.(8/3922)
وأما الطريقةُ الخامسة: فلا مِرْيَةَ أن جَلْبَ مصلحةِ الأموال السافلة لا يتمُّ إلاَّ بتفويتِ ماكان من المصلحة لأهل الأموال العاليةِ الحاصلةِ بعدم دخولِ الماء.
وأما الطريقةُ السادسة: فلا نشكُّ أن تكليفَ أهل الأموالِ العالية برفعِ الماء عن أهل الأموال السافلةِ من باب تحصيل مصلحةٍ خالصةٍ، وذلك لا يجبُ على فرض عدم حصول مفسدة، ولا فوات مصلحةٍ، لأنَّ تحصيلَ المصحلة للغير لا يجبُ ابتداءً، ولا سيما [3ب] إذا كان فواتها ليس بفعل أحدٍ من المكلَّفين بل من فعل الله ـ سبحانه ـ.
وأما الطريقةُ السابعة: فلا شكَّ أن رفعَ الماء عن الأموال السافلة دفعُ مفسدة عن أهلها، وذلك لا يجبُ على فرض عدم المعارضة بحصول مفسدةٍ أخرى، ولا فواتِ مصلحة لا يقالُ: يجبُ من باب إنكار المنكر، لأنا نقولُ: ليس انصبابُ هذا الماء إلى تلك الأموالِ منكرًا، إذ ليس من فعل المكلَّفين، بل من فعل الله ـ سبحانه ـ.
وأما الطريقةُ الثامنةُ: فلا ريبَ أن انصباب هذا الماء الذي ضاقتْ عنه الأرضُ، وضاق به ذَرْعُ أهلِها هو من الأمور الغالبة، على أنَّا لو فرضنا أن أهل الأملاكِ العالية يفتحون مداخل الماء إلى أملاكهم لما انقطعَ عن عن أهل الأملاك السافلة، إلاَّ ريثَما تضيقُ به الأملاكُ العالية، وتعجزُ عن قَبُولهِ، ثم ينزلُ إلى أهل الأملاك السافلة، فحينئذ لا يفيدُ فتحُ مداخل الأملاك العالية إلاَّ مجرَّد فسادها مع فساد الأملاك السافلة [4أ]، فكان في إيجاب ذلك على أهل الأموال العالية ضمُّ مفسدة إلى مفسدة، وتشفيعُ ضررٍ بضرر، وجَلْبُ مصيبة إلى مصيبة، وهذا ما لا يفعله عاقلٌ فضلاً عن عالِمٍ؛ إذ هو منافٍ للعقل والنقلِ، وهو أيضًا من تكليف ما لا يُطاقُ. وقد اتفقَ أهلُ الحق على أن الله لم يكلِّف به أحدًا، وهو نصُّ القرآن (1). وما روي من .........................
_________
(1) قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
وقال سبحانه: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286].(8/3923)
الخلاف (1) فيه لأبي الحسن الأشعري، وثلةٍ معه فلم يقل أحدٌ منه بأن التكليف به واقعٌ، بل قالوا: يجوز ولا يقعُ، وحينئذٍ فالتكليفُ بما لا يُطاقُ لا يقعُ اتفاقًا، ومسألة النزاع من هذا القبيل، لأن المفروضَِ أن فَتْحَ المداخل إلى الأملاك العالية لا يصرفُه عن الأملاك السافلة إلاَّ وقتًا يسيرًا ثم يعود منصبًّا إلى الأملا السافلة، وهذه الطرقة التي ذكرناها وهي كونه من تكليفِ ما لا يطاق طريقةٌ منضمة إلى تلك الطرق [4ب] الثماني، فتكون الطرقُ تسعًا. فيا لله ذرُّ حكمٍ وقع الإجماع عليه من جميع طوائف المسلمين من طرق تسعٍ، وهي التي أمكن خطورها بالبال حالَ تحرير هذه الأحرف، فكيف لو حصل التتبعُ الكامل، والاستقراءُ التام! ويا للعجب كيفَ يقال يسوغُ الحكمُ على أهل الأملاك العالية بصرف الماء عن أهل الأملاك السافلة! مع كونه الأمر كما ذكرناه سابقًا، وهل هذا إلاَّ مخالفةٌ لقواعدَ شرعيةٍ قطعيةٍ أصوليةٍ إجماعيةٍ! وكيف يسعُ المسلمُ أن يقتحمَ مخالفةَ إجماع المسلمين المنقولِ من طريقة واحدة فضلاً عن المنقول من طرق عدَّة! وهل يوقعُ نفسَه في ذلك مَنْ يعلمُ بما في مخالفة الإجماع من الخطر، وأنه من أسباب ردِّ الحكم وبطلانه، وأن المخالفةَ للقواعد القطعيةِ فيها من الخطر ما هو معروفٌ! فما حال من جَمَعَ بين مخالفة الإجماعاتِ والقطعياتِ والقواعدِ [5أ] اليقينياتِ! فإن هذا لا ريبَ أنه ممن جمع بين فُقْدانِ العقل والعلم؛ إذ لو كان معه أحدُهما لاهتدى بنوره لما تقدم من أن تلك القواعدَ التي عددناها معلومةٌ عقلاً وشرعًا.
نعم. ذكر بعضُ أهل العلم والصلاح أن بعضَ العلماء المتأخرينَ قد صرح بما يفيدُ أنه يجب في مثلِ المسألةِ التي ذكرناها على أهل الأملاكِ العاليةِ أن يصرِفوا الماءَ المذكور عن
_________
(1) أن شرط الفعل الذي وقع التكليف به أن يكون ممكنًا. فلا يجوز التكليف بالمستحيل عند الجمهور وهو الحق وسواء كان مستحيلاً بالنظر إلى ذاته أو بالنظر إلى امتناع تعلّق قدرة المكلف به.
- وقال جمهور الأشاعرة بالجواز مطلقًا، وقال جماعة منهم إنَّه ممتنع في الممتنع لذاته جائزٌ في الممتنع لامتناع تطلّق قدرة المكلف به.
انظر: "نهاية السول" (1/ 315) "روضة الناظر" (1/ 220) "الإحكام" للآمدي (1/ 181).(8/3924)
الأملاك السافلة، وقال ـ عافاه الله ـ: إنه صرَّح بذلك ابنُ حابس في كتابه المعروف "بالمقصد الحسنِ" أنْ سمعتُ منه هذه الرواية وهو ثقةٌ كدت أقطعُ بأنه وقع الاشتباهُ عليه، لأنَّ ابن حابس من المحققينَ الذين لا يخفى عليهم المداركُ الاجتهاديةُ. ومثل ما ذكرناه ما أظنُّه يخفى على المجتهد. ثم راجعت الكتابَ المذكورَ فوجدتُه قد ذكر في موضعينِ منه كلامًا ربما كان أحدُهما أو كلاهما هو المراد للناقل ـ عافاه الله ـ[5ب] وإن كان بينهما وبينَ ما نحن بصدده مفاوزُ لا يُدْرَكُ مقدارُها، وها نحن نذكرهما رفعًا للإشكال، ودفعًا للوهْمِ.
فنقولُ: الموضع الأول: قال في الكتاب المذكور ما لفظه: مسألةٌ: إذا أخربَ السيلُ أموالاً على ظهرِ وادٍ، وتحوَّلَ فجرى ماءُ ذلك الوادي إلى تلك الأموال، وادَّعى من له مالٌ تحتَ تلك الأموالِ إصلاحَ ذلك المال الخرابِ حتى يمنعَ الماءَ من الجَرْي في الأموال السفلى إما بالكليةِ، وذلك حيث لا يستحقُّ عليه في الأصل الإشاحةُ، أو ما زاد على ما يُعْتَادُ من الإشاحة حيث يستحقُّها من الأصل، فإنه يجب على صاحب المال الخرابِ أن يُصْلِحَ مالَهُ بما يُعْتَادُ في الجهة كما ذكروا في الجدار المائلِ إلى طريق أو حقّ عامّ أنه يجبُ عليه إصلاحُهُ مع الإمكان والعلم بالخلل، وإلاَّ ضمنَ ما أفنت وقد ورد في سؤالاتٍ [6أ] فأجيب بما ذكر ـ والله أعلم ـ انتهى. نقل الموضعَ الأولَ من الكتاب المذكور.
الموضع الثاني: قال ما لفظه: مسألةٌ: إذا دخل الماءُ المملوكُ إلى أرض الغير بغير اختيارِ مالكه وجبَ إزالتُه على مالكه، لكن إذا كان يضرُّ الأرضَ إزالتُه وبقاؤُه ماذا يكون الاهرُ ـ والله أعلم ـ أنه لا يجبُ على المالك أرشُ ما نقصَ من الأرض؛ إذا لم يرضَ مالكُ الأرضِ ببقائه، وإن رضي ببقائه لم يكن لصاحبِ الماء رفعُه ولا أجرةَ عليه للأرض، ولا يضْمَنُ مالِكُها الماءَ لمالكهِ، هكذا اقتضاه النظرُ ـ والله أعلم ـ. انتهى نقل الموضعَ الثاني من الكتاب المذكورِ وليس فيه ما يُظَنُّ أنه يشتبهُ على الناظرِ لمسألةِ السؤالِ مع عدم إمعان النظر سوى هذين الموضعينِ. ولا يخفى على عارفٍ أن بين هذين(8/3925)
البحثينِ المنقولين من الكتاب المذكور، وبين المسألة التي نحن بصددها ما بين السماء والأرض، فإن كنت ممن يستغني بفهمه لم تحتجْ إلى إيضاح التفاوتِ، وإن كنت محتاجًا إلى الإيضاح [6ب].
فاعلم ـ أرشدني الله وإياك ـ أن المسألةَ الأ, لى المنقولَة من الكتاب المذكور قد صرَّح فيها أن سببَ انصبابِ الماء إلى الأملاك السافلةِ هو خرابُ الأرض العالية كما تراه صريحًا في كلامه، ولا شك أنه يجبُ عليه إصلاحُ أرضِه إذا كان خرابها سببًا لعدم انتفاعِ مَنْ تحتَه، وقد ذكروا لذلك نظائِرَ:
منها: المسألة التي أشار إليها ـ رحمه الله ـ وهي مسألة الجدارِ المائلِ.
ومنها: قولُهم: أنه يجبُ على صاحب السُّفلِ من الأبنيةِ أن يُصْلِحَ مُلْكَهُ لينتفعَ ربُّ العُلُوِّ، وغيرُ ذلك. وهذا شيءٌ آخر غيرُ ما نحن بصدده؛ إذ المفروضُ فيما نحن بصدده أنه لم يكن لصاحب الأموالِ العاليةِ سببٌ يوجبُ انصبابَ الماء إلى ملك أهل الأموال السافلة، بل دَفَعَ عن نفسه الضَّرَر فسدَّ المداخلَ، لئلا يدخلَ من الماء ما يفسدُ أرضَه بخلاف هذه المسألةِ التي ذكرها صاحب المقصد، فغنه كان السببُ للإضرارِ بأهل الأموال السافلةِ خرابَ الأموالِ العاليةِ، وذلك سببٌ ظاهرٌ [7أ]، وإصلاحُهُ يعود على صاحبه بفائدة، وهي مصير أرضه صالحةً سالمةً من الخراب، بخلاف المسألةِ التي نحن بصددها، فإنه لا سببَ منه كما تقدَّم، وفَتْحُ المداخل للماء إلى أرضه يوجب فساد أرضه لإصلاحها، فكم الفرق بين من يقول لصاحب الأملاك العالية يُصْلِحُ أرضَه بالعمارة، ليندفعَ الضررُ الذي كان بسببه، وبين من يقول لصاحب الأرض العاليةِ يفسدُ أرضَه بإدخال ما لا يحتاجُ إليه من الماء، ليندفعَ الضَّررُ عن أهل السافلة الذي لم يكن له فيه سببٌ.
والحاصلُ أن المسألة التي نحن بصددها لا سببٌ ولا إصلاحٌ بل إفسادٌ. والمسألة التي ذكرها ابنُ حابس وُجِدَ الإصلاحُ وفُقِدَ. فانظرْ كم بين المسألتين من التفاوت، بل التقابل، فإن أحدَهما فيها الأمرُ بالغصلاح لدفع الإفسادِ، الذي وُجِدَ(8/3926)
فيه السببُ والآخَرَيْنِ فيها الأمرُ بالإفسادِ لدفع الإفسادِ مع عدم وجود السببِ، ومن لم يظهرْ له الفرقُ بين الطرفين فلا يُتْعِبْ نفسَه [7ب] بالنظر في المسائل العلميةِ، فإنه محجوبٌ.
وأما الاختلافُ ما بين المسألةِ الثانيةِ التي نقلناها من المقصدِ، وبين المسألةِ التي نحن بصددها فهو أوضحُ من أن يلتبسَ، فإن صاحبَ المقصد قال في صدر المسألة: إذا دخل الماءُ المملوكُ، وليس كلامُنا في الماء المملوكِ الذي قد وقع عليه النقلُ والإحراز حتى صار مملوكًا، بل في ماءٍ حدثَ بسببِ كثرة الأمطارِ، وتَنَزَّلَ من شواهقِ الجبال، وبطونِ الأوديةِ، فأين هذا من ذاك! فعرفت بهذا أن كلام ابن حابس في شيء آخر غير ما نحن بصدده، وكيف يُظَنُّ بمثلهِ أنْ يَحْكُمَ تلك الإجماعات، وينافي تلك المسائلَ القطعياتِ والقواعدَ المقرَّراتِ! هذا مالا يُظَنُّ بعالمٍ، على أنه لو قال عالمٌ بمثل ذلك لكان كلامُهُ مُطَّرَحًا لمخالفتهِ لما لا يجوزُ مخالفتُه، والحقُّ مقدّضمٌ على كل أحدٍ، وإقدامُ أئمة الاجتهاد تتفاوتُ، فقد يدركُ بعضُهم من المداركِ ما لا يدركُ الآخر بعضَه. نسأل الله إصلاحَ الأقوالِ والأفعالِ.
وفي هذا المقدرا كفاية لمن له هداية.
حرر في الثلث الأوسط من ليلة الجمعة لعلها ليلة تاسع وعشرين شهر ربيع الآخر سنة 1210 كتبه جامعه الحقير محمد الشوكاني ـ غفر الله له ـ. [8أ](8/3927)
(126) 36/ 2
رفع منار حق الجار بالإجبار على البيع مع الضرار
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(8/3929)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "رفع منار حق الجار بالإجبار على البيع مع الضرار".
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده الأمين وعلى آله الغُرِّ المكرمين، وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول الفقير إلى الله ... ".
4 - آخر الرسالة: " ... وقد وقع في مؤلفات جماعة، من الأئمة من أهل البيت، وغيرهم ما يغني عن التطويل.
وفي هذا المقدار كفاية إن شاء الله.
حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 14 صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة.
9 - الناسخ: المؤلف محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/3931)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعدَه الأمين، وعلى آله الغُرِّ المُكرمينَ، وصحبِة أجمعين.
وبعدُ:
فيقولُ الفقيرُ إلى الله ـ سبحانه ـ يحيى بنُ مطهر بن إسماعيل: هذا سؤال لشيخنا العلامةِ بهجت المحافل، والبحر الذي لا ينتهي، ولكل لجٍّ ساحل، البدرِ الأوحد محمد بن علي بن محمد ـ كثر الله تعالى فوائده ـ وأتحفه سلامًا يلتحفُ البدرُ سناهُ، ويختم السعدِ في ساحاته وفَنَاه، عن حديث سَمُرَةَ بنِ جندبٍ عند أبي داودَ (1) أنه كانت له عَضُدٌ (2) من نخلٍ في حائط رجلٍ من الأنصار، قال: ومع الرجل أهلُهُ، قال: وكان سمرةُ يدخلُ إلى محلِّه فيتأذَّى به الرجلُ، ويشقُّ عليه، فطلبَ إليه أن يناقِلَه فأبى فأتى النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فذكر ذلك له، فطلب إليه النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أن يبيعَه فأبى، فطلب إليه أن يناقلَه فأبى، فقال: "فهبْه لي ولك كذا وكذا" أمرًا رغَّبَهُ فيه فأبى، فقال: "أنت مُضَارٌّ" فقال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ للأنصاري: "اذهب فاقلعْ نَخْلَهُ".
_________
(1) في "السنن" رقم (3636).
وأخرجه في "المراسيل" رقم (407) وفيه: محمد بن عبد الله: هو ابن أبي حماد الطرسوسي القطان. روى عنه جمع. وباقي السند رجاله ثقات إلا أن أبي إسحاق مدلس وقد عنعن.
وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 158) من طريق أبي اليمان عن شعيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب.
وهو حديث ضعيف.
(2) العضد من النخل الطريقة منه قال ابن الأثير: "وقيل إنما هو عضيد من نخل وإذا صار للنخلة جذع يتناول منه فهو عضيد".
" النهاية " (4/ 252).(8/3935)
هل يصحُّ الاستدلالُ به على دفعِ الضرار في الأملاك؟ إن قلتُم: لا، فظاهر الحديث يدلُّ عليه، وإن قلتُم: نعم، ففيه إشكالٌ، لأنه من رواية الباقرِ عن سمرة، وقد ذكرتُم في شرح المنتقى (1) ما لفظُه: وفي سماع الباقرِ من سمرةَ نظرٌ، فقد نُقِلَ بينَ مولدهِ ووفات سمرة ما يتعذَّر معه سماعه انتهى. فلم يبقَ حجةً.
وثانيًا: أن سياقَ القصةِ من حيثُ قولُه: في حائط رجلٍ من الأنصار، يحتملُ أن سمرةَ لم يكن مالكًا في الأصل، وإنما لعله شَرَى الأشجارَ فقط، أو غارسَهُ الأنصاريُّ بعضَ حائطهِ، فجعل ذلك ذريعةً إلى مُضَارَرَةِ مالك الأصل ففاوضَه النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، ولما لم يمتثلْ قضى له بما يستحقُّه، وكافأه النقصَ عقوبةً له بما وقع منه من المخالفة، وعدم الامتثال.
وثالثًا: أنها واقعةُ عينٍ لا عمومَ لها، فَتُوقَفُ في محلِّها، ثم إنه دعوى الضرارِ في الأملاك بعد القسمةِ التي شُرِعَتْ لدفع ذلك، ولم يُرَخَّصْ فيها بحال، بل وجبت ولو بالمهاباةِ، يعود على الفرضِ من شرعيَّتها [1أ] بالبطلان. والملكُ في الجملة متحقّقٌ قبل القسمة وبعدَها مُلِكَتِ الأنصباءُ ملكًا لا خروجَ له إلاَّ فطنته نفسٌ محقِّقةٍ.
ولا يصحُّ القياس على حديث سَمُرةَ على فرض صلاحيتِه للاحتجاج، وإن كانت العلَّةُ منصوصةً وهي الضِّرار لوجوده في كل من الشريكين.
أما غير الساكن فلأنه لفقرِه وحاجته الماسَّةِ إلى ثمن نصيبه محتاجٌ، ولم يجدْ من يشتري نصيبَه بسبب الشركةِ، ولا حاجةَ له إلى سكونه وتعليقه، أو سكونِ الأمر يؤدي إلى الإهمال المقتضي للأعمال، فيلزمُهُ قصدُهُ من إغرام الجصِّ، والقصَّاصِ، والتطيينِ، ونحوِ ذلك.
وأما الساكنُ فمن حيثُ كونُ خروجِه من ملكه يضرُّ به، أما لو [ ... ] (2) ولكن ثمن
_________
(1) (3/ 801).
(2) كلمة غير مقروءة.(8/3936)
نفسهُ لا يحصل له ما يقومُ به هو وعيالُه، ولأنه لا يجب عليه دفع ضرر غيره بضرر نفسه مع بذلِه لنصيبِه، وطلبِ الآخر للثمن طلب من ليس له طلبُه، فَلِمَ اعتبرَ الضررَ الحاصلَ على أحدهما دون الآخر؟ ولا يقال ترجَّح الأكْثرُ ضررًا لأن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يوقل: "لا ضرر ولا ضرار" (1). وقد اتفقت كلمةُ العلماءِ على أنه لا يجوز الضرار، وإنما اختلفوا في جزئيات، فمنهم مَنْ نفى الضِّرار فيها، ومنهم من أثبتَه ورجَّح دفعَ مفسدة الضرارِ لمصلحة هي أعظمُ منه، وممن أثبَته بعضُ أئمتنا حيث قال: إن للمالك في ملكه (2) ما يشاء، وإن ضرَّ الجارَ مستدلاً بأن موجبَ الملك الانتفاعُ كيف شاء المالكُ، وهو مقيَّدٌ بأدلة الوصية بالجار (3)، وتحذير الجار من البوائق، وحديث: "لا ضررَ ولا ضرارَ" (4) وما في معناه، وإن كانت عامَّةً فالعمل بالعامِّ (5) مما اتفقَ عليه أهلُ العلم، وإنما النزاعُ هل ذلك قبل البحثُ عن المخصِّص أو بعده؟ وهذا جارٍ في كل دليل، وكونُ دلالتِه ظنيةً لا يمنعُ من العمل؛ فأكثرُ الأحكام كذلك، ويعود النزاعُ إلى جواز العملِ بالظن، وهي مسألة أخرى على أنَّ الشارع قد جعل مناطَ دفعِ الضِّرار هو القسمةَ أو الإجبارَ في قضية مخصوصةٍ على أسلوب خاصٍّ إن صح ذلك، ثم إن الواقعَ من النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ[1ب] في هذه القصة ليس في ما يقتضي توقُّفَ الأمر
_________
(1) أخرجه ابن ماجه رقم (2340) وهو حديث صحيح. من حديث عبادة بن الصامت.
وسيأتي في الجواب مفصلاً.
(2) قال ابن قدامة في "المغني" (7/ 52): "وليس للرجل التصرُّف في ملكه تصرُّفًا يضرُّ بجاره ... وبهذا قال بعض أصحاب أبي حنيفة وعن أحمد رواية أخرى لا يمنع، وبه قال الشافعيُّ وبعض أصحاب أبي حنيفة، لأنّه تصرّف في ملكه المختصِّ به، ولم يتعلَّق به حقُّ غيره فلم يمنع منه.
ولنا: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا ضرر ولا ضرار" لأنّ هذا إضرارٌ بجيرانه فمنع منه اهـ.
(3) ستأتي في الجواب.
(4) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(5) انظر "البحر المحيط" (3/ 222 - 322).
"المسودة" (ص115) وقد تقدم.(8/3937)
على اعتبار الرضى المقتضى للإجبار والتغريم في الغالب، بل أَمَرَ بقلعِ النخلِ. فسبيلُ من أراد العملَ بهذا الدليل الأمرُ بالهدمِ، أو البَيْعِ.
وأما الإجبارُ على البيع فغيرُ ظاهرٍ، ولا مجدٍ للقطع بأنه لا يكفرُ (1) من قال كلمةَ الكفر وهو مطمئنٌ بالإيمان، والله تعالى يقول: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (2) وعن حنيفةَ الرَّقاشي عن النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أنه قال: لا يحلُّ مالُ امرئ مسلمٍ إلاَّ بطيبةِ نفسٍ منه" رواه أبو داودَ (3)، وعلى تسليم أن سمرةَ كان مالكًا في الأصل، فهل مجرَّدُ أمرِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بقلع النخلِ أبطلَ الملكَ، أم وقع الشراء، أم أُهْدِر أم ماذا وقع؟ وهذه المسألةُ ذكرها المؤيدُ بالله في شرح البحر (4)، ولفظه: مسألة: قال: فلو أن رجلاً كان له نصيبٌ في جُرْبَةٍ، أو عبدٍ، واضْطُرَّ إلى بيعه، وكان لا يُشْتَرَى نصيبُه منفردًا حُكِمَ على شركائه بابتياع نصيبه منهم، أو بيعِ حِصَصِهم معه. هذا قولُ يحيى، وغن كان له وجهٌ في النظر فإني لا أقولُ به، لأني لا أعرفُه لأحدٍ قبلَه، ولا آمنُ أن يكون خارجًا عن الإجماع، فإن كان له قائلٌ ولم يكن خارجًا عن الإجماع فوجهُهُ من النظر أن يقالَ إنه إجبارٌ لبعض الشركاء على المعاوضة على ما يملكونَ على سبيل الشركةِ توخِّيًا للصلاح من حيثُ لا ضررَ فيه، فأشبه القسمةَ، فوجبَ أن يلزمَ الحكمُ به كما يلزمُ الحكمُ بالقسمة. ألا ترى أن إزالة الشركة لا ضررَ فيها دليلُه الشُّفعةُ (5)؛ فإنها موضوعةٌ لدفع ضررِ المشاركةِ والمجاورة انتهى.
فالمطلوبُ الكلامُ على هذه المسألةِ، وما يُشْكِلُ في المقام، وما يدفعُ ما يردُّ على الحديث ـ كثر الله فوائدكم ـ آمينَ.
_________
(1) تقدم توضيح ذلك مرارًا.
(2) [النساء: 29].
(3) وهو حديث صحيح. تقدم.
(4) (4/ 96 - 97).
(5) انظر الرسالة رقم (116).(8/3938)
بسم الله الرحمن الرحيم
إيك نعبدُ، وإيَّاك نستعينُ، وصلى الله على الرسول الأمينِ، وآله الطاهرينَ.
أقولُ: الجوابُ عن سؤال السائل العلامةِ ـ اعلا الله مقامه، ورفع في ميادين العلوم أعلامه ـ ينحصرُ في بحثينِ:
البحثُ الأولُ: تقرير دلالة الأدلةِ الصحيحةِ على أنه يسوغُ للحاكم دفعُ الضررِ بين الشُّركاءِ بالإجبار على البيعِ نحوِه.
فمنها حديثُ "لا ضرر ولا ضرار" أخرجه أحمد (1) من حديث ابن عباس، وقد
_________
(1) وهو حديث صحيح.
وري من حديث عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عباس، ,ابي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وجابر، وعائشة، وثعلبة بن أبي مالك القرضي، وأبي لبابة.
- أما حديث عبادة:
فقد أخرجه ابن ماجه رقم (2340) وأحمد (5/ 326 - 327) وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 344) بسند ضعيف.
- وأما حديث ابن عباس:
فقد أخرجه ابن ماجه رقم (2340) وأحمد (1/ 313) والطبراني في "الكبير" (11/ 302 رقم 11806) وسنده ضعيف جدًا.
وله متابعة، أخرجها الدارقطني (4/ 228 رقم 86) والخطيب في الموضح (2/ 97) والطبراني في "الكبير" (2/ 86 رقم 1387) بسندٍ لا بأس به في الشواهد.
- وأما حديث أبي هريرة:
فقد أخرجه الدارقطني (4/ 228 رقم 86) وقال الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 385) وأبو بكر بن عباس مختلف فيه.
قال الألباني: هو حسن الحديث، وقداحتجَّ به البخاري، وإنما علة هذا السند من شيخه يعقوب بن عطاء، وهو ضعيف.
- وأما حديث أبي سعيد الخدري:
أخرجه الدارقطني (4/ 228 رقم 85) والحاكم (2/ 57 - 58) والبيهقي (6/ 69) وقال: تفرَّد به عثمان بن محمد.
قلت: وهو ضعيف.
- وأمّا حديث جابر:
أخرجه الطبراني في "الأوسط" (1/ 141 من زوائد المعجمين) وفيه تدلي ابن إسحاق.
- وأما حديث عائشة:
أخرجه الدارقطني (4/ 227 رقم 83) وسنده واهٍ جدًا من أجل الواقدي.
- وأما حديث ثعلبة:
فقد أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" رقم (1387) بسند فيه ضعف.
- وأما حديث أبي لبابة:
فقد أخرجه أبو داود في "المراسيل" رقم (407) وفيه انقطاع.
والخلافصة: أن الحديث صحيح بمجموع طرقه والله أعلم.(8/3939)
وردَ في منع الضرارِ أحاديثُ:
منها ما أخرجه داودَ (1)، والنسائي (2)، والترمذي (3) وحسَّنه من حدي ثأبي صِرمةَ ـ بكسر الصاد المهملة، واسمه مالكُ بنُ قيس، ويقال: ابن أبي أنيس [2أ]، ويقال: قيسُ بنُ مالك، ويقال: مالك بن أسعد، وقيل: لبابةُ بنُ قيس، وهو أنصاري نجَّاري، شهد بدْرًا.
قال ابن عبد البَرِّ (4): لم يختلفوا في شهوده بدرًا وما بعدها، وكان شاعرًا محسنًا ـ قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من ضارّ أضرَّ الله به، ومن شاقّ شاقّ الله عليه"، وإسنادُ هذا الحديثِ أئمةٌ ثقاتٌ من رجال الحديث إلاَّ لؤلؤةَ (5)
_________
(1) في "السنن" رقم (3635).
(2) لم يخرجه النسائي انظر "تحفة الأشراف" (9/ 228 رقم 12063).
(3) في "السنن" رقم (1940).
(4) في "الاستيعاب" رقم (2323).
(5) انظر "التقريب" رقم (8677).(8/3940)
مولاةَ الأنصارِ الراويةَ له عن أبي صِرْمةَ؛ فإنها من رجالِ الحسن، قد حسَّن الترمذيُّ (1) حديثَها، وأخرجَ لها أهل السنن، وقال في التقريب (2): مقبولةٌ من الرابعة؛ فهذانِ الحديثانِ، وما ورد في معناهما قاضيان بمنع الضرار على العموم من غير فرق بين الجار وغيره. وقد صرح النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث الأول بنفي الضرار بين الأُمَّةِ، وهذا النفي يدلُّ على أن الضَّرَر والضِّرار ليسا من شأن هذه الأمةِ، ولا هما مما شرعهُ الله لهم، فكان علينا دفعُه وإبطالُه، ومحوُ أثرِه، والضربُ به فيه وجه فاعله بأي وجهٍ كان، وعلى أي صفةٍ وقع، فإذا وجدنا أحدَ الرجلين المتجاورينِ، أو غيرَ المتجاورينِ قد ضارَّ الآخَرَ بوجه من وجوه المضارَّةِ أمرْنا برفع ما أحدثَهُ قائلينَ له: هذا ليس من أمرِ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، ولا من شرعهِ، وكل أمرٍ ليس من أمره، ولا من شَرْعِهِ ردٌّ على فاعله. فهذا ردٌ عليكَ لأنه ضرارٌ، ولا ضرار في الإسلام. وقد ثبت في الصحيح ثبوتًا لا يختلفُ المسلمونَ فيه عن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كل أمرٍ ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ" (3).
فإذاكان الضرار حادثًا بين الشركاء بنفس الاشتراك نحو: أن يموتَ رجلٌ فيتركَ دارًا بين ورثتِه فيقتسمونَها، ويكونُ نصيبُ كلِّ واحد منهم يسيرًا على وجه يحصلُ بينَه وبين الشركاءِ الضرارُ، إما بالاطلاع على عورات بعضِهم بعضًا، أو بحدوث عداوةٍ بينهم لا يمكنُ دفعُها ما بقوا في تلك الدارِ أو بالتزاحُمِ في المشاعاتِ التي لا يستغني عنها كلّث واحد منهم، كالمُسْتَرَاحِ، والمطبخِ، والطريق.
فاعلم أن هذا مع كونه ضِرارًا ممنوعًا بما تقدَّم هو أيضًا ضرارٌ بين الجيرانِ؛ فإن الجوارَ
_________
(1) في "السنن" (4/ 332) وقال: هذا حديث حسن غريب.
(2) رقم (8677).
(3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (18/ 1718) من حديث عائشة.
وأخرجه البخاري رقم (2697) ومسلم رقم (1718) وأبو داود رقم (4606) وابن ماجه رقم (14) من حديث عائشة رضي الله عنها "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس في فهو ردٌّ".(8/3941)
إذا كان ثابتًا في الدور المتلاصقةِ، بل والمتباعدةِ، فكيف لا يكون ثابتًا بين الساكنينَ في دار واحدة، أو المالكين لحديقة واحدة! فحقٌ على الحاكم أن يرفعَ الضِّرار الحادث بينَهم فإن أمكن بغير إجبارٍ على البيعِ ونحوِه فعلَه، وغن لم يمكن إلاَّ به أرشدَ كلَّ واحد منهما إلى أن يبيعَ من صاحبِه، أو يناقله [2ب]، أو يهبَ له، أو يبيعانِ من آخر، فإنْ أجابا إلى ذلك فذاك، وإن لم تقع الإجابةُ أخبرَهما على أمر يرتفع به بينهما الضرار من بيع أو غيره، وعليه أن يمعن النظر في الدفع بوجهٍ أيسر مُؤنة، وأخف مشقة حسبما يقتضيه الحالُ باديًا بالأخفِّ، وإذا كان الضرارُ ناشئًا من أحدهما كان الخطابُ معه والإيجابُ عليه، والحاكم بعد الترافُعِ إليه، والخصومةُ عنده قد لزمه رفعُ الضرارِ الذي نفاه رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ عن المسلمين وردَّه على صاحبه فلو لم يرد من الأدلة إلاَ ما أسلفنا ذِكْرَهُ لكان مسوِّغً للحاكم أن يرفَعه بالبيع ونحوه، بل موجبًا لذلك عليه، فكيف وقد ورد ما هو أخصُّ من ذلك في أحاديثِ الجوازِ، كحديث: "والذي نفسي بيده لا يؤمنُ أحدكم حتى يأمنَ جارُهُ بوائِقَهُ"، وهو في الصحيح (1)، وكذلك حديثُ: "من كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخر فلا يؤذِ جارَهُ"، وهو أيضًا في الصحيح (2)، وكذلك حديثُ: "ما زال جبريلُ يوصيني بالجار حتى قلت: إنه سيورِّثُه" (3) أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنه، وفي الباب أحاديثُ (4) كثيرةٌ أقلُّ
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (6016) ومسلم رقم (46) وأحمد في "المسند (2/ 288) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6136، 6138) ومسلم رقم (48) من حديث أبي هريرة.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6014، 6015) ومسلم رقم (2624، 2625) والترمذي رقم (1942، 1943) وأبو داود رقم (5151، 5152) وابن ماجه رقم (3673، 3674) وابن حبان رقم (512، 513) من حديث ابن عمر وعائشة.
(4) منها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6016) ومسلم رقم (46) من حديث أبي شريح رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جارُهُ بوائقه".(8/3942)
أحوالها أن يكون رفعُ الضِّرارِ بين المتجاورينَ آكدَ من رفعِه بين غيرِهم، وأحقَّ، وأوْلى، وألزمَ، فكيف وقد وقعَ ذلك من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بعينه! فيما أخرجه أبو داود (1) من حديث سمرة بن جندب أنه كان له عضدٌ من نخل في حائطِ رجل من الأنصار، قال: ومع الرجل أهلِه، قال: وكان سمرة يدخل إلى نخلِه فيتأذى به، ويشق عليه، فطلب إليه أن يناقله فأبى، فأتى النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فذكر ذلك له، فطلبَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أن يبيعه فأبى، فطلبَ إليه أن يناقلَه فأبى، قال: "فهبْه لي، ولك كذا وكذا" أمرٌ رغَّبه فيه فأبى، فقال: أنتَ مُضَارٌّ" فقال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ للأنصاري: اذهبْ فاقطعْ نخلَه" ورجالُ هذا الحديثِ كلُّهم ثقاتٌ، فإنَّ أبا داود (2) قال: حدثنا سليمان بن داود العتكيُّ، وهو من رجال الصحيحِ، قال: حدثنا حماد بن زيد، وهو أيضًا كذلك، قال: حدثنا واصلٌ العابدُ مولى أبي عيينةَ، وهو أيضًأ كذلك، قال سمعتُ أبا جعفر محمدَ بن علي الباقر، وهو أيضًا كذلك يحدِّثُ عن سمرةَ، فذكره. قال المنذريُّ في مختصر السنن (3): في سماع الباقر من سمرةَ بنِ جندب نظرٌ؛ فقد نقل عن مولدِه (4)، ووفاةِ سمرةَ ما يتعذَّر معه سماعُهُ وقلّ فيه ما يمكنُ السماعُ منه انتهى.
قلتُ: قد ثبتَ أن موتَ سمرةَ بن جندب ثمانٍ، أو تسعٍ وخمسينَ، وموتَ الباقر سنةَ أربعَ عَشْرَةَ ومائةٍ.
_________
(1) في "السنن" رقم (3636) وهو حديث ضعيف.
(2) في "السنن" (4/ 50).
(3) (5/ 140).
(4) قال ابن حجر في "الإصابة" رقم (3488): قيل مات سنة ثمانٍ وقيل سنة تسع وخمسين. وقيل في أول سنة ستين.
انظر: "الاستيعاب" رقم (1068)، "أسد الغابة" رقم (2242).(8/3943)
وقد نقلَ بعضُ أهل العلمِ أنه مات عن ثلاثٍ (1) وسبعينَ سنةً، فيكون ملوده على هذا سنةَ تسعٍ وثلاثينَ، فهو عند موتِ سمرةَ [3أ] في عشرينَ سنةً، وهذا سِنُّ الطلبِ، ووقتُ التحصيلِ، بل لو كان عند موتِ سمرةَ في سبعٍ أو ثمان سنينَ لم يتعذّر معه السماع. وقد سمع (2) من جماعة من الصحابة، كجابرٍ، وابن عمرَ، وأبي سعيد. فذهب إعلال الحديثِ بتلكَ العلَّةِ وكان صحيحًا.
هذا إذا صح ما نقله ذلكا لبعض أن عُمْرَهُ ثلاثٌ وسبعونَ، فإن لم يصحَّ وكان عمرهُ دون ذلك، فقد أخرج المحبُّ الطبريُّ في أحاديث الأحكام عن واسعِ بن حِبَّانَ قال: كان لأبي لُبابَةَ عِذْقٌ في حائط رجلٍ، فكلَّمه فقال: إنك تطأُ حائطي إلى عِذْقِكَ، فإما أن أعطيك مثلَه في حائطكَ، وأخرِجْهُ عني، فأبي فكلَّم النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فقال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "يا أبا لبابةَ خذْ مثلَ عِذْقِكَ فَحُزْها إلى مالكَ، وكُفَّ عن صاحبِك بما يكره" فقال: ما أنا بفاعلٍ قال: "فاذهبْ فأخرجْ له مثلَ عِذْقِهِ إلى حائطِه، ثم اضرب فوق ذلك بجدارٍ، فإنه لا ضرر في الإسلام ولا ضرار" هكذا ساقه المحبُّ، وعزاه إلى أبي داودَ، فيُنْظَرُ، فإن لم أجدْه.
وهذا الحديثُ يعضِّدُ الحديثَ الأولَ ويقوِّيه، ويتبينُ به أنَّ هذه الحكومةَ منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ليست بخاصَّةٍ لرجل دون رجل، أو في قصةٍ دون قصةٍ، بل لو لم يردْ إلاَّ حديثُ سمرةَ لم يكن خاصًّا، لأن العلَّة التي ربطها به لا تختصُّ بفردٍ دون فرد من الأمة، وهي قوله: "أنت مُضارّ"، على أنه لو لم يرد حديثُ سمرةَ، ولا حديثُ واسعِ بن حبّان لكان فيما ذكرنا من منع الضرار ما يغني عن ذلك، فانظر معاوضةٌ لا نقصَ فيها ولا غبنَ، فلما أبى أخبرَهُ بأنه مُضارّ، وعاقبه بإتلاف مالِه، وسوَّغ لخصمه قطع نخله. ومن اقتدى برسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في مثل هذه الحكومة فقد
_________
(1) ذكره ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (9/ 312).
(2) ذكره ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (9/ 312).(8/3944)
جاء بالشرع، واتبع الهدي المصطفويّ، وحكمَ بسُنَّةِ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، وأخذ الحقَّ مع معدنِه، واغترفَ الصوابَ من منبعِه؛ فالشريكان في الأرض أو الدار إذا كان يحصل باجتماعِهما ضرارٌ عليهما، أو على أحدهما، ولا محالة بوجهٍ من الوجوه المتقدِّمة كان على القاضي أن يعرض على كل منهما ما عرضَه رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ على مسرةَ وأبي لبابةَ، فإنْ قَبِلَهُ فذاكَ، وإن أبى عاقبه بمثل العقوبة التي فعلها رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ إذا كان الاشتراك في الحوائط ونحوها، أو بما يماثلُها إن كان الاشتراك في الدور ونحوِها، فإن مجرَّد الامتناع عن القبول يصيره به الممتنع مُضارًا كما قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ.
وأقلُّ أحوال العقوبةِ إجبارُهُ على البيع أو المناقلةِ؛ فإن ذلك معاوضةً ليس على فاعلها [3ب] ظلامةٌ ولا غرامةٌ، فإنه يأخذُ مثلَ ما يملِكُه أو قيمتَه. وإذا أمكنَ القاضي العارفُ بالمسالك الشرعية أن يدفع ما بين الشريكين من الضرارِ بنوعٍ من أنواع السياسةِ الشرعيةِ فعلَ ذلك، فقد فعلَه رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ كما أخرجه أبو داودَ (1) من حديث أبي هريرة قال: جاء رجلٌ إلى النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يشكو جارَه فقال: "اذهب فاصبر" فأتاه مرتين أو ثلاثًا فقال: "اذهب فاطْرَحْ متاعَك في الطريق" فطرحَ متاعَه في الطريق، فجعل الناس سيألونَه فيخبرُهم خبَرهُ، فجعل الناس يلعنونَه: فعلَ الله به وفعلَ، فجاء إليه جارُه فقال: ارجعْ لا ترى منِّي شيئًا تكرهُهُ.
هذا إذا كان الضرار موجودًا بنفسِ الاشتراكِ كالدارِ الضيقةِ، والأرض التي لا يمكن
_________
(1) في "السنن" رقم (5153).
قلت: وأخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (521) والحاكم (4/ 160) والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (124). وهو حديث حسن.(8/3945)
انتفاعُ أحد الشريكين بنصيبه إلاَّ بالإضرار بالآخر، كاستطراق أرضه أو الاطلاع على عورات أهلِه، كما يرشدُ إليه حديث سمرة حيث قال فيه: ومع الرجل أهلُه مما لو كانت الدار واسعةً بحيثُ ينتفعُ كلُّ واحد من الشريكين بملكه من دون تزاحم في المشاعات المتقدِّمِ ذكرُها؛ بل يمكن كلَّ واحد منهما أن يجعل لنفسه طريقًا مستقلةً، ومطبخًا منفرِدًا ومُسْتراحًا مستقلاً، ونحو ذلك، ولا شركة بينَهما في نفس النازل المعدَّةِ للسكون ونحوه فلا ضرار حينئذ، ولا وجه للإجبار على البيع ونحوه إلا إذا كانت الدار مثلاً لا تنفقُ إلا إذا بيعت جميعُها، ولا ينفُق نصيبُ الشريك منفردًا، وكان محتاجًا إلى بيع نصيبه على وجهٍ لا يندفعُ عنه تلك الحاجةُ إلاَّ بالبيع، فهاهنا قد حصل الضرارُ على الشريكِ المحتاجِ إلى البيع، فيعرضُ القاضي على شريكه أن يشتري نصب ذلك المحتاج إن كان متمكنًا، فإن كان غير متكن فإجباره على بيع نصيبه مع نصيب شريكه لا ندفع الضِّرارُ عن ذلك الشريك المحتاج إلاَّ به، وليس على هذا المأمور بالبيع ظلمٌ ولا تغريمٌ، لأنه يبيعُ نصيبَه بقيمتِه، ويربحُ الاستراحة من معرَّةِ الاشتراك والانفراد بنفسه، ويخلُص عن الوقوعِ في ضرار جاره، وليس هذا من باب دفع الضرارِ عن الغير بإنزال الضرار بالنفس، بل من باب دفع الضرار الذي نفاه الشارعُ عن الإسلام وأهلِه.
وقد أخرج البخاريُّ (1)، ومسلم (2)، وأبو داود (3) [4أ]، والترمذيُّ (4)، والنَّسائيُّ (5)، وابن ماجه (6) من حديث أبي هريرةَ قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ:
_________
(1) في صحيحه رقم (2463).
(2) في صحيحه رقم (136/ 1609).
(3) في "السنن" (3634).
(4) في "السنن" رقم (1353).
(5) لم أجده عند النسائي.
(6) في "السنن" رقم (2335).
قال الحافظ في "الفتح" (5/ 110): استدل به على أن الجدار إذا كان لواحد وله جار أراد أن يضع جذعه عليه جاز سواء أذن المالك أم لا فإن امتنع أجبر وبه قال أحمد وإسحق وغيرهما من أهل الحديث وابن حبيب من المالكية والشافعية في القديم. وعنه في الجديد قولان أشهرهما اشتراط إذن المالك فإن امتنع لم يجبر وهو قول الحنفية.
وحملوا ذلك على الندب النهي على التنزيه جمعًا بينه وبين الأحاديث الدالة على تحريم مال المسلم إلا برضاه قال البخاري وفيه نظر.
- قال البيهقي: "لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا يستنكر أن تخصها. أي إذا امتنع أجبر".
قال القرطبي في "المفهم" (4/ 530 - 531): اختلف العلماء في تمكين ربّ الحائط من ها عند السؤال، فصار مالكٌ في المشهور عنه وأبو حنيفة إلى أنّ ذلك من باب الندب، والرِّفق بالجار والإحسان إليه ما لم يضرُّ ذلك بصاحب الحائط. ولا يُجبر عليه من أباه، متمسكين في ذلك بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" ولأنه لما كان الأصل المعلوم من الشريعة: أنَّ المالك لا يجبر على إخراج ملكٍ عن يده بعوض كان أحرى وأولى ألا يخرج عن يديه بغير عوض، وكما قال الحافظ في "الفتح" في هذا القول نظر.(8/3946)
"لا يمنعنَّ جارٌ جارَهُ أن يغْرِزَ خشبةً في جدارِه" فهذا نهيٌ منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يدلُّ على تحريم المنعِ للجارِ أن يغرزَ الخشبَ في جدارِ جارِه، مع أن تضرُّرَ الجار الذي يريد أن يغْرِزَ الخشبَ بمنعه من ذلك غيرُ معلومٍ، فإنه يمكنُه أن يجعل لنفسه جدارًا مستقلاً يغرزُ فيه خشبة.
فهاهنا قد أرشد الشارعُ إلى رعاية جَلْبِ المصالح إلى الجار، ولم يلتفت إلى مظنَّة ما يحصل من صاحب الجدار من التضرُّر بغَرْزِ الخشبِ في جدارِه، وهاهنا طاحتِ المقاييسسُ، وذهبتِ العِللُ، وارتفعت مسالك الرأي، ومباحثُ الموازنةِ، فمن لم يقبل عقلُه هذا فليتَّهم نفسَه، ويحمل الغلط على عقله وفهمه، ويدع كيف وفيم، وعلام ولِم، ويذعِن لأحكام الشرع، ويعلم أنّ صلاحَ الدين والدنيا مربوطٌ بها، منوطٌ بما فيها.
دعوا كلَّ قولٍ عند قولِ محمدٍ ... فما آمنٌ في دينِه كمخاطرِ
وقد وقع لكثير من أهل العلم في ..........................................(8/3947)
تأويل (1) مثل حديث أبي هريرةَ هذا، وحديث سمرة، وواسع بن حبّان المتقدّمين من التعسُّفات والتكلُّفات ما يتبرى الإنصافُ منه، ويمجُّه طبع كل متشرعٍ مُؤْثِرٍ لما جاء به الشرع على ما جاء به أهلُ الرأي من الآراء المخالفةِ له (2) ومَن صاحبُ الرأي حتى يردّ كلام الشارع إلى كلامه! وتُطلْلَبُ له التأويلاتُ لأجلِه، ويُذادُ عن معارضتِه! وهل هو إلاَّ في عداد المتعبدين بالشرع، المأخوذين بأحكامه، المطلوبين بما فيه، لا فرق بينه وبين سلائر الأمة من هذه الحيثية، فرأيه المخالِفُ لما جاء عن الشارع ردٌّ عليه، مضروب به في وجهه، مرميّ به وراء الحائط.
البحث الثاني: في الكلام على سؤال السائل ـ كثر الله فوائده ـ وقد عرف من البحث الأول إجمالاً، فلنعرفْ من هذا تفصيلاً فنقول:
أما قوله: وقد ذكرتم في شرح المنتقى (3) ما لفظه: وفي سماعِ الباقرِ من سمرةَ نظرٌ ... إلخ.
فجوابه ما قدمنا من النقل [4ب]، على أنا قد قدمنا أنه قد وردَ مثلُه من طريق أخرى ومن ذلك فلو فرضنا عدَم ورود حديث سمرةَ، والحديث الذي عضَّده وشهد له لكان في الأحاديث الواردة بنفي الضِّرار، وما في معناها ما يسوغُ ما ذكرناه من بيع المشتركِ مع وجود الضِّرار.
وأما ما ذكره من أن في القصة ما يفيد أنَّ الحائط لم يكن مُلكُ سمرةَ.
فليسَ فيه ما يفيدُ ذلك بمطابقة، ولا تضمُّنٍ، ولا التزامٍ؛ فقد أثبتَ في لفظ الحديث ملكَه لعضد النخلِ في حائط الأنصاري، ومجرَّدُ نسبتِه إلى الأنصاري لا تنفي أن يكون بعضُه لغيرِه، فإن الأشياء تُنْسبُ باعتبار الغالبِ والأكثر فيقال: حائط فلانٍ لمن يملكُ
_________
(1) انظر "فتح الباري" (5/ 110 - 111).
(2) "المغني" (7/ 35 - 36).
(3) (3/ 801 - 802).(8/3948)
أكثرُه، وهذا شائعٌ في اللغة، معلومٌ عند أهلها لا ينكرونه.
وأما قوله: إنها وقعة عينٍ لا عمومَ لها.
فقد عرفتَ ما تقرَّر في الأصول (1) أن ما شرعه الشارعُ لفردٍ من أفرادِ أمّته أو لبعضِ الأفراد يكون شرعًا لسائر الأمّة، ولم يقعِ الخلافُ بين أهل الأصولِ إلاَّ في نفس الصيغةِ كما هو محرَّرٌ في مواضعهِ حتى قيلَ إنه مجمعٌ على أن الحكمَ على الواحدِ حكمُ (2) الجماعة ما لم يتبيَّن الشارعُ الاختصاص بذلك الواحد كقوله: يجزيك ولا يجزئ أحدًا بعدك (3)، ونحو ذلك.
مع هذا فقد قدمنا أنَّ الحديثَ مربوطٌ بعلَّةٍ لا تخصُّ فردًا من الأمة دونَ فرد، وهي قوله: "أنت مضارٌّ" (4) هذا على فَرضِ أنه لم يدلّ على ما ذكرناه دليل إلا هذه الواقعة فكيف وقد وقعَ منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ الحكمُ في وقاعة أخرى بمثل ذلك! كما في حديث واسعِ بن حبان المذكور، على أنا لو فرضنا عدم وقوع هاتين الوقعتين من النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لكان الدليلُ موجودًا مغنيًا عن غيره كما أسلفنا.
وأما ما ذكره ـ كثر الله فوائده ـ من أن دعوى الضرار بعد القسمة التي شُرِعَتْ لدفع الضرار يعودُ على الغرض المقصود منها بالنقص.
فنقول: نعم، القسمةُ شرعتْ لدفع الضرارِ (5)، فإذا لم يندفع الضرارُ بها فليست [5أ] بقسمة شرعيةٍ، والمفروضُ في مسألة السؤال أن الضرار موجودٌ بوجه من الوجوه المتقدمة، وليس النزاعُ في شيء لم يبق بعد قسمته ضرارٌ، فالحاصلُ أن هذه القسمة التي وُجِدَ الضرارُ بعدها ليست بقسمةٍ شرعيةٍ، لأنه لم يحصل الغرضُ الذي شرعت لأجله
_________
(1) انظر "البحر المحيط" (3/ 190)، "تيسير التحرير" (1/ 252). وقد تقدم توضيحه.
(2) تقدم تخريجه مرارًا.
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم تخريجه.
(5) انظر "المغني" (7/ 46)، "الحاوي" (8/ 67 - 70).(8/3949)
وهو دفعُ الضِّرار.
فنقول: في القسمة الصحيحة هذه قسمةٌ، وكل قسمةٍ مشروعةٍ لدفع الضرار فهذه مشروعةٌ لدفع الضرار، وكل مشروع لدفع الضرار ثابتٌ في الشريعة فهذه ثابتة في الشريعة، وكل ثابت في الشريعة صحيح فهذه صحيحة.
ونقولُ في القسمة التي لم يندفع بها الضرار: هذه قسمة لم يندفع بها الضرار، وكل قسمةٍ لم يندفع بها الضرار غير شرعية، فهذه قسمة غيرُ شرعية، وكل قسمة غير شرعية باطلةٌ فهذه قسمةٌ باطلةٌ.
وأدلة هذه المقدمات مسلمة عند المتشرع، فإذا لم يندفع الضرارُ بقسمة الشيء المشترك على المواريث فقد تعذّرت فيه القسمةُ الشرعية على الوجه الذي يريدُه كل واحد من الشركاء، وهو أن يتعين له ينصيبه في المشترك، وإذا تعذّرت القسمةُ على هذا الوجه وجب المصير إلى وجهٍ آخر يندفعُ به الضِّرار، وهو أن يبيعَ بعض الشركاء من بعض، أو يهب له، أو يناقِلَه، ولا مانع من أن يسمَّى ذلك قسمةً شرعيةً، لأنه قد انتفع كلُّ شريك بنصيبه، واندفع عنهم الضرارُ، بل لو قال قائلٌ أن لا قسمةَ [5ب] شرعيةً في ذلك المشتركِ الذي يستلزمُ تقسيطَه بين جميعِ الشركاء وجودُ الضرارِ إلاَّ هذه القسمة التي لا يندفعُ الضرار إلا بها لم يكن ذلك بعيدًا من الصواب، ولا يقدح في هذا ما يقال من أنه يمكنُ دفعُ الضرار بالمهاياة، والمهاياةُ قسمةٌ شرعية كما صرح به القرآن الكريم في قوله تعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (1) لأنا نقول: المفروضُ أنه لم يحصل التراضي على قسمة المهاياة، أو كان الضرارُ موجودًا معَها، وذلك إذا كان بعضُ الشركاء لا يجدُ مثلاً مسكَنًا يسكُنه في نوبةِ شريكِه، أو كان محتاجًا إلى بيعِ نصيبِه للانتفاع به في سد جوْعَتِه، أو سَتْرِ عورتِه، أو نحو ذلك.
وأما قوله ـ كثر الله فوائده ـ: وأما الساكنُ فمن حيث كونُ خروجِه من ملكِه يضرُّ
_________
(1) [الشعراء: 155].(8/3950)
به ... إلخ.
فنقول: لا ضرار على من باع نصيبَه بقيمته، ولو كان ذلك ضرارًا لكان كل بيع ونحوُه ضرارًا، وإنما الضرارُ على من يريدُ أن ينتفعَ بنصيبه في حاجةٍ من حوائجه الماسة فقيل له: لا سبيل لك إلى ذلك، ولا تجدُ منه فرجًا ولا مخرجًا، بل اتركُهُ مَحْبسًا، واسكُنُه شئتَ أم أبيت، واصبر على الضَّرر رضيتَ أم كرهتَ.
وأما ما أورده ـ كثر الله فوائده ـ من أدلة اعتبار التراضي وطيبة النفس.
فنقول: ذلك مُسَلَّمٌ، ولكن المفروضَ هنا أنه قد حدثَ بين الشريكين ما يقتضي الضرارَ، وقد قدمنا تحريرَ الأدلة وتقريرَ وجه الدلالة على أن ذلك مسوغٌ للإجبار على البيع، أو المناقلة، أو نحوهما؛ فهذه الأدلةُ مقيِّدةٌ لأدلةِ التراضي [6أ]، وطيبةُ النفس إن كانت مطلقةً أو مخصِّصَةً لها إن كانت عامَّةً كما أن الأدلة الواردة في بيع (1) مال المديون، وفي بيوت الشفعةِ (2) والقِسامةِ (3)، ونحوِ ذلك مقيدةٌ أو مخصصةٌ لأدلة التراضي، وطيبةِ النفسِ بلا خلافٍ بين أهل العلم.
وأما ما ذكره ـ كثر الله فوائده ـ: من استشكال أمره ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بقطع النخل، وهل هو من باب إبطال الملكِ والإهدار له؟ أم ماذا وقع؟.
فنقول: بل أتلفَ نخلَهُ بالقطعِ عقوبةً له، وأبطل ملكَه، وهذا حكمٌ ثبتَ لنا عن الذي جاءنا بالصلاة، والزكاة، والحجّ، والصيام، وسائر الفرائض الشرعية، وكان علينا قبولُه، والإذعانُ له، والسكوتُ عنده، وما أحقَّ من سعى في ضرار جاره، وضمَّ الغليظة! وليس مثلُ هذا ببدعٍ في الشريعة الغرَّاء، ولا هو بمستنكرٍ، فقد شُرِعَ لنا أخذُ
_________
(1) تقدم ذكره.
(2) انظر الرسالة (116).
(3) انظر "المغني" (7/ 46 - 47).(8/3951)
شطر مال مانع الزكاة (1) عزمة من عزمات ربنا كما ورد الحكم بذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وورد القرآن الكريم (2) بتسويغ رأس مال المربي إذا لم يتب، وورد الحكم النبوي (3) بتضعيف الغرم على من أتلف الضالة، وكذلك ورد تحريق مال (4) المحتكر.
وقد ثبت في الصحيحين (5) وغيرهما (6) في شأن المتخلفين عن صلاة الجماعة أن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال: "ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال إلى قوم [6ب] لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار". وفيه أعظم دلالة على جواز عقوبة العاصي بتحريق بيته.
وقد ثبت هذا الحديث في دواوين الإسلام وغيرها من طريق جماعة من الصحابة كأسامة بن زيد عند ابن ماجه (7)، وابن أم مكتوم عند أحمد (8) بسند صحيح، وأنس
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (5/ 2 - 4) وأبو داود رقم (1575) والنسائي (5/ 15 - 16 رقم 2444) والحاكم (1/ 398) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "في كل سائمة إبل، في أربعين بنت لبون، لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرًا بها فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء" وهو حديث حسن.
(2) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 279].
(3) تقدم ذكره.
(4) تقدم ذكره.
(5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (657) ومسلم رقم (252/ 651).
(6) كأحمد (2/ 244).
(7) في "السنن" رقم (795). وهو حديث صحيح.
(8) في "المسند" (3/ 423) وهو حديث صحيح لغيره.(8/3952)
عند الطبراني في الأوسط (1)، وابن مسعودٍ عند الحاكم في المستدرك (2)، وأخرج ابنُ مردويهِ في تفسيره عن ابن عباس أن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أمرَ أصحابه فحرقوا مسجد الضرار، وهدموه، وخرج أهلُه فتفرَّقوا عنه (3). وأخرج نحوَه ابن إسحاقَ من حديث أبي رَهْمٍ، وأخرج نحوَه ابنُ جرير عن جماعة. وأخرج أبو داود (4)، والترمذي (5)، والحاكم (6) وصحَّحه من حديث عمرَ عن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "إذا وجدتم الرجلَ قد غلَّ فأحرقوا متاعَهُ واضْربُوه".
وأخرج مسلمٌ (7) والنسائيُّ (8) من حديث عبد الله بن عمْرو قال: رأي النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ عليَّ ثوبين مُعَصْفَريْنِ فقال: "أمُّك أمرتك بهذا" قلت: اغسلْهُما قال: "بل أحرقُهما" قال النوويُّ (9): الأمرُ بإحراقهما عقوبةٌ وهتكٌ لزجرِه وزجرِ غيرِه عن مثل هذا الفعلِ. وقد أخرج الحديثَ الحاكمُ (10) بسياق أطولَ من هذا.
وأخرج ابن سعد في الطبقات (11) أن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أحرقَ بيتَ رويشدٍ
_________
(1) رقم (2763). وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 43) وقال رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله موثقون.
(2) (1/ 292). قلت: بل أخرجه مسلم في صحيحه رقم (652) ووهم فيه الحاكم.
(3) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 276، 277).
(4) في "السنن" رقم (2713).
(5) في "السنن" رقم (1461) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(6) في "المستدرك" (2/ 127) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
وهو ضعيف.
(7) في صحيحه (27، 28/ 2076، 2077).
(8) في "السنن" (8/ 203 - 204).
(9) في شرح مسلم (14/ 55 - 56).
(10) في "المستدرك" (4/ 190).
(11) لم أجده.(8/3953)
الثقفيِّ، وكان حانوتًا للشرابِ. وأخرج نحوَه عبد الرزاق في المصنّفِ (1) وابن أبي شيبة (2) وأخرج ابن سعد في الطبقات (3) أن عمر أحرقَ بابًا لسعد بن أبي وقاص.
وأخرج ابن عبد الحكم في فتوحِ مصرَ أن عمرَ هدم غرفةً لخارجةَ بنِ حذافةَ، وقال: "لقد أراد خارجةُ أن يطلع على عورات جيرانِه" (4). وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (5) أن عبد الرحمن بنَ عوف دخلَ ومعه ابنٌ له وعليه قميصٌ من حرير على عمرَ فشقَّ القميصَ.
وأخرج البخاريُّ في الأدب المفرد (6) أن عثمانَ بن عفانَ رضي الله عنه قال في النرد: "لقد هممتُ أن آمر بحزم من حطبٍ، ثم أرسلُ إلى بيوتِ الذينَ [7أ] هم في بيوتِه فأحرِّقها". وأخرج نحوَه البيهقيُّ في شعبِ الإيمان (7) عنه.
وأخرج سعيد بن منصور (8)، والبيهقيُّ (9) أن عثمانَ كان يأمرُ بذبحِ الحمامِ التي يُلْعَبُ بها.
وأخرج البيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه أتاه ابنٌ له قد ألبستْهُ أمُّه قميصًا من حرير فشقَّه. وأخرج نحوَه ابنُ أبي شيبة (10) عنه.
_________
(1) في مصنفه (6/ 77 رقم 10051).
(2) في مصنفه (8/ 3).
(3) (3/ 282).
(4) انظر "جامع الفقه" (6/ 548 - 549).
(5) في مصنفه رقم (4709).
(6) رقم (1275) موقوف بإسناد حسن.
(7) رقم (6511).
(8) لم أجده.
(9) في "شعب الإيمان" رقم (6536).
(10) في مصنفه رقم (4709).(8/3954)
وأخرج ابنُ أبي الدنيا (1)، والبيهقيُّ (2) عن ابن الزبير أنه خطبَ بمكةَ فقال: بلغني عن رجال يلعبونَ بلعبةٍ يقال لها النردشيرُ، وإني أحلق بالله لا أوتي بأحدٍ يلعبها إلاَّ عاقبته في شعره وبَشَرِهِ، وأعطيتُ سَلَبَهُ من أتاني به.
وأخرج ابن أبي الدنيا (3)، والبيهقي (4) عن ابن عمرَ أنه مرًّ بقوم يلعبونَ بالشاهِ فأحرقها بالنارِ. ويعني بالشاهِ الشطرنجَ، وأخرجَ البيهقيُّ (5) عن ابن عباس أنه أحرق آلةَ شطرنجٍ وجدَها في مال يتيمٍ.
فهذه أحاديثُ عن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وآثارٌ عن جماعةٍ في أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ فيها العقوبةُ لأهل المعاصي بالهدْمِ والإحراقِ والتمزيقِ، ولا فرقَ بينها وبين قطع نخلِ المُضارّ الذي استشكلَه السائلُ ـ ـ كثر الله فوائده ـ وأما نصوصُ أهلِ العلم من أئمةِ المذاهبِ وغيرهم في العقوبة للعصاة بإتلافِ أموالِهم بالهدمِ والإحراقِ والكسرِ والتمزيقِ، وأخْذِ أموالِهم وَوَضْعِها في مصارِفها فهي كثيرةٌ (6) جدًا، لا يتّسع لها
_________
(1) في "ذم الملاهي" (ص73 رقم 85) بإسناد حسن.
(2) في "السنن الكبرى" (10/ 216).
قلت: وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (1275).
(3) في "ذم الملاهي" (ص80 رقم 101) بإسناد صحيح.
(4) في "الشعب" رقم (6530) و"السنن الكبرى" (10/ 212).
(5) في "الشعب" رقم (6518).
(6) انظر "جامع الفقه" موسوعة الأعمال الكاملة لابن قيم الجوزية (6/ 548 - 549):
قال ابن تيمية: واجبات الشريعة التي هي حق الله تعالى ثلاثة أقسام:
عبادات: كالصلاة، والزكاة، والصيام، وعقوبات إما مقدرة وإما مفوضة وكفارات.
وكل واحد من أقسام الواجبات ينقسم إلى بدني، وإلى مالي، وإلى مركب منهما. فالعبادات البدنية: كالصلاة والصيام.
فالعبادات المالية: كالزكاة، والمركبة: كالحج.
الكفارات المالية: كالإطعام، والبدنية، كالصيام، والمركبة كالهدي يذبح ويقسم. العقوبات البدنية: كالقتل والقطع، والمالية: كإتلاف أوعية الخمر. والمركبة: كجلد السارق من غير حرز، وتضعيف الغرم عليه، وكقتل الكفار وأخذ أموالهم.
العقوبات البدنية: تارة تكون جزاء على ما معنى، كقطع السارق، وتارة تكون دفعًا عن الفساد المستقبل، وتارة تكون مركبة، كقتل القاتل.
وكذلك المالية، فإن منها ما هو من باب إزالة المنكر. وهي تنقسم كالبدنية إلى إتلاف وإلى تغير، وإلى تمليك الغير.
فالأول: المنكرات من الأعيان والصور، يجوز إتلاف محلها تبعًا لها مثل الأصنام المعبودة من دون الله، لما كانت صورها منكرة جاز إتلاف مادتها، فإذا كانت حجرًا أو خشبًا ونحو ذلك جاز تكسيرها وتحريقها، وكذلك آلات الملاهي ـ كالطنبور ـ يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء.
انر: "مجموع الفتاوى" (11/ 659) (28/ 119) (34/ 148)، "الاختيارات" للبعلي (515).
قال ابن قيم الجوزية: "وكذلك لا ضمان في تحريق المكتب المضلة وإتلافها".
قال المروزي: قلت لأحمد: استعرت كتابًا فيه أشياء رديئة، ترى أن أخرقه أو أحرقه؟ قال: نعم. وقد رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيد عمر كتابًأ اكتتبه من التوراة، وأعجبه موافقته للقرآن، فتمعَّر وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ذهب به عمر إلى التنور، فألقاه فيه".
أخرجه ابن كثير في تفيسره (4/ 296) وأخرجه أحمد (3/ 387) بنحوه. قال الألباني في "الإرواء" حديث حسن (6/ 34 - 38 رقم 1589).
قال ابن القيم: فكيف لو رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما صنف بعده من الكتب التي يعارض لها من القرآن والسنة؟ والله المستعان.
وكل هذه الكتب المتضمنة لمخالفة السنة غير مأذون فيها، بل مأذون في محقها وإتلافها، وما على الأمة أضر منها. وقد حرق الصحابة جميع المصاحف المخالفة لمصحف عثمان، لمّا خافو على الأمة من الاختلاف، فكيف لو رأو هذه الكتب التي أوقعت الخلاف والتفرق بين الأمة؟!.(8/3955)
هذا المجموعُ. وقد وقع في مؤلفاتِ جماعةٍ من الأئمةِ من أهلِ البيتِ وغيرِهم ما يغني عن التطويل.
وفي هذا المقدار كفايةٌ إن شاء الله.
حرره المجيبُ محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله لهما ـ.(8/3956)
(127) 20/ 2
الأبحاث الحسان المتعلقة بالعارية والتأجير والشركة في الرهان
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(8/3957)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: "الأبحاث الحسان المتعلقة بالعارية والتأجير والشركة في الرهان".
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، وبه نستعين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين.
وبعد: فإنّه وصل السؤال من سيدي العلامة المفضال صفيِّ الكمال أحمد بن يوسف زبارة ... ".
4 - آخر الرسالة: " ... ويتمكن صاحب العين من استخلاصها بتسليم الدين.
وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق.
بقلم: المجيب محمد الشوكاني غفر الله له.
5 - نوع الخط: خط نسخي عادي.
6 - عدد الصفحات: 7 صفحات + صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 11 كلمة.
9 - الناسخ: المؤلف محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/3959)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربّ العالمين، وبه نستعين، والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين.
وبعدُ: فإنه وصلَ السؤالُ من سيدي العلامة المفضال، صفيّ الكمال أحمد بن يوسف زيارة (1) ـ كثر الله فوائده ـ ولفظُهُ:
صدر هذا السؤالُ عن شأن ما يقعُ من الرِّهان الذي يحصلُ من رجل مشتركٍ هو وجماعةٌ، وظاهرٌ أنَّ التقديمَ والتأخيرَ بيده، فيرهنُ مثلاً مالاً له ولشركائه، ولا يعلم المرتهِنُ بحصولِ الإذن منهم ولا عدمِهِ إلاَّ مجرَّدَ ظهور تقديمِهِ وتأخيرِه وإنفاقِه، فهل يكون القولُ للراهنِ، لأنّ الأصلَ عدمُ الإذنِ أو للمرتهِنِ، لأنَّ الظاهر صارفٌ عن الأصل المذكور؟
الثاني: مَنِ استأجر الشيءَ يرهنُه فهل يصحُّ؟ أو استعارَهُ أيضًا لرهنِهِ؟ ومع فرضِ الصحةِ فلا شكَّ في ضمان المرتهن لذلك، لكنْ بقي الكلامُ لو أفلسَ الراهن عن قضاء الدَّين، فهل للمؤجِّر والمعير أن يقضيا الدَّيْنَ ويفكَّاهُ، ويرجعانِ على الراهن الثاني لو أعْسَرَ المعيرُ والراهنُ جميعًا، ولم يبقَ سوى العينِ المعارة، هل يجوزُ للحاكم أن يبيعَها لقضاء دين المرتهنِ، لا سيَّما والمعيرُ لا يعرف بالإعسارِ من الراهنِ، ولا يعرف أن العاريةَ قد تؤدي إلى خروج العينِ عن ملكِه؟ انتهى.
_________
(1) تقدمت ترجمته.(8/3963)
وأقول ـ مستعينًا بالله ـ: قد اشتملَ هذا السؤالُ على أبحاث:
الأول: قوله: عن شأن ما يقعُ من الرِّهان (1) ـ إلى قوله ـ: لأن الظاهر صارفٌ عن
_________
(1) الرَّهن في اللغة: الثبوت والدّوام يقال ماءٌ راهنٌ. أي راكدٌ ونعمةٌ راهنة أي ثابتة دائمة، وقيل: هو الحبس.
قال تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].
وقال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38].
والرَّهن في الشرع: المال الذي يجعل وثيقة بالدّين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممَّن هو عليه حائر بالكتاب والسنة والإجماع.
في الكتاب: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283].
أمّا السنة: ستأتي الأحاديث خلال الرسالة.
أمّا الإجماع: أجمع المسلمون على جواز الرهن بالجملة.
انظر: "المغني" (6/ 444).
الرّهن لا يخلو من ثلاثة أحوال:
1 - أن يقع بعد الحقِّ فيصحُّ بالإجماع. لأنَّه دين ثابتٌ تدعو الحاجة إلى أخذ الوثيقة به فجاز أخذها به كالضمان ولأن الله سبحانه قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فجعله بدلاً عن الكتابة، فيكون في محلها، ومحلها بعد وجوب الحقّ وفي الآية ما يدلُّ على ذلك وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} فجعله جزاء للمداينة مذكورًا بعدها بفاء التعقيب.
2 - أن يقع الرهن مع العقد الموجب للدين، فيقول: بعتك ثوبي هذا بعشرة إلى شهر، ترهنني بها عبدك سعدًا. فيقول: قبلت ذلك. فيصح أيضًا، وبه قال مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، لأنَّ الحاجة داعيةٌ إلى ثبوته، فإنّه لو لم يعقده مع ثبوت الحقِّ ويشترط فيه لم يتمكن من إلزام المشتري عقده، وكانت الخيرةُ إلى المشتري، والظّاهر أنَّه يبذله، فتفوت الوثيقة بالحقِّ.
3 - أنْ يرهنه قبل الحقِّ، فيقول: رهنتك عبدي هذا بعشرة تقرضنيها. فلا يصح في ظاهر المذهب، وهو اختيار أبي بكر والقاضي وذكر القاضي: أن أ؛ مد نص عليه في رواية ابن منصور.
وهو مذهب الشافعي، واختار أبو الخطّاب أنّه يصح. فمتى قال: رهنتك ثوبي هذا بعشرة تقرضنيها غدًا، وسلَّمه إليه، ثم أقرضه الدراهم لزم الرّهن. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، لأنّه وثيقة بحقِّ، فجاز عقدها قبل وجوبه، كالضَّمان، أو فجاز انعقادها على شيء يحدث في المستقبل.
قال ابن قدامة: ولنا أنَّه وثيقةٌ بحقٍّ لا يلزمُ قبله فلم تصح قبله كالشَّهادة، ولأنّ الرهن تابعٌ للحقِّ، فلا يسبقه، كالشهادة والثمن لا يتقدم على البيع، وأمَّا الضمان فيحتمل أن يمنع صحّتُهُ، وإنْ سلمنا فالفرق بينهما أنَّ الضّمان التزام مالٍ تبرُّعًا بالقول، فجاز من غير حقِّ ثابت، كالنَّذْرِ، بخلاف الرّهن.(8/3964)
الأصل المذكور.
أقول: إنْ كان هذا الرجلُ الذي صار التقديمُ والتأخيرُ بيده مفوَّضًا من شركائه، وكانوا مكلَّفين، والمرادُ بالتفويض هنا أن يظهرَ منهم ما يدلُّ على أنهم قد ألقَوْا مقاليدَ أمرِهم، ووجوهَ تصرفاتِهم مدخولاً ومخروجًا إليه من قولٍ أو فعلٍ، وارتَضَوْهُ لتدبير دنياهم، ولم يعارضوه في شيء من ذلك كما يقعُ كثيرًا من أهل بيت [1أ] لمن هو الأرشدُ منهم، ولم يكن ذلك الرضى والتفويضُ لرهْبةٍ، ولا لشيء من الأمور التي تخالفُ الرضى المحققَ، والتفويضَ الخالصَ فلا شكَّ ولا ريبَ أنَّ من كان بهذه المثابةِ يكون تصرُّفُهُ بما تصرَّفَ به من أموال شركائهِ المكلّفين صحيحًا ناجزًا بموجب التفويض الذي هو مناطٌ شرعيٌّ لإشعاره بالرِّضى، بما وقع منه من التصرفات، وهذا الرضى هو المناطُ المعتبرُ في الكتاب والسنة في تحليل بعض أموال العبادِ لبعض، وإذا كان مجرّدُ الوكالةِ للأجنبيِّ مناطًا شرعيًا في نفوذ تصرُّفاته فبالأولى أن يكون التفويضُ للقريب المشارك مناطًا شرعًا، فإذا وقع من هذا الشريكِ المفوِّضِ رهنُ شيء مما هو مشتركٌ بينَه وبين شركائِهِ المكلّفين فقد صح ونَفَذَ وثبتتْ له أحكامُ الرَّهن، وليس لواحد منهم أن يقولَ بعد ذلك ما أذنتُ، أو ما رضيتُ، أو نحوَ ذلك.
وأما إذا لم يكنْ ذلك المتصرِّفُ بهذه المثابةِ، بل كان كلُّ واحدة من شركائه مستقِلاًّ بالتصرُّفِ بماله، أو كان المتصرِّف واحدًا منهم، ولكن لا على طريق التفويضِ، بل لا يتصرفُ في شيء إلاَّ بإذنهم ورضائِهم، ولا يستبدُّ بأمر دونَهم، فإذا كان هذا هو المعروفَ من حالهم، ووقع منه التصرفُ ببعض الأعيان المشتركة برهنٍ أو غيرِه،(8/3965)
وخاصمَهُ الشركاءُ، وطلبوا ملكَهم فالقولُ قولُهم، ويكون لهم استخلاصُ ملكِهم من يدِّ مَنْ قد صار إليه ببيعٍ أو رهن أو غير ذلك، لأن الأصلَ والظاهرَ قد تطابقا هاهنا، وبيانُه أنه لا ريبَ أن الأصلَ بقاءُ الشء على ملك مالكِه، وقد عضَّدَ هذا الأصلَ الظاهرُ لأن عدمَ التفويض والاستبداد من ذلك المتصرِّف بالتصرُّفِ في غير هذا الشيء الذي وقع النزاعُ فيه، يستفادُ منه بطريق الظهورِ عدمُ وجود المناط الشرعي، وهو الرِّضى من الشركاء المذكورينَ [1ب]، وهكذا يتعاضَدُ الأصلُ والظاهرُ إذا كان شركاءُ ذلك المتصرِّفِ من النساء اللاتي يباشِرْنَ التصرفاتِ، ويمارِسْنَ ما يمارسهُ الرجالُ من الأمور المتعلِّقة بالأموالِ، أو كان الشركاءُ قاصرينَ، فإنه كما يكون الأصل عدَم الرضى من النساء يكونُ الأصلُ أيضًا عدمَ المصلحةِ للقاصرينَ، وكما يكون الظاهرُ من أحوالِ النساءِ عدمَ الرضى للعلَّةِ التي ذكرناها يكون الظاهرُ عدمَ المصلحة للقاصرينَ، لا سيما في التصرفات التي لا أعواضَ لها هي أصلحُ وأريحُ للقاصرينَ من العينِ أو الأعيانِ التي تصرَّفَِ فيها ذلك المتصرِّفُ بالبيع ونحوِه، فتقرَّر بما ذكرناه أنه قد يعاضِدُ الأصلَ والظاهِرَ في هذه الصورة، والتي قبلَها على عدمِ لزوم تصرُّفِ ذلك المتصرِّف ببيعٍ أو رهنٍ لشركائه.
وأما الصورةُ الأولى، وهي صورة التفويضِ فقد تعارِضُ الأصلَ والظاهرَ، فالأصلُ يقتضي بقاءَ الملكِ لمالِكه، والظاهرُ قد دلَّ على نفوذ تصرُّفِ لمكان التفويض الذي هو مناطٌ شرعيٌّ، فلو فرضنا التباسَ الأمرِ، وعدمِ الوقوف على الحقيقة من تفويض أو عدمِه مع كون الشركاء مكلَّفينَ عارفينَ بما فيه مصلحةٌ، وما لا مصلحة فيه من التصرُّفات، فالواجب الرجوعُ إلى الأصل، وهو بقاءُ الملك، وعدمُ حصولِ الرضى المستفادِ من التفويضِ، ولم يوجدْ هاهنا ما يستفادُ منه ما يخالفُ الأصلَ من ظاهرٍ أو غيره فكان الأصلُ خالصًا عن المعارض، فوجبَ البقاءُ عليه والعملُ به، ويكون للشركاء استخلاصُ ملكهم من يد مَنْ هو في يده، ببيعٍ أو رهنٍ، وكذلك إذا كان الشركاء نساءًا أو قاصرينَ.
فإن قلتَ: هذا التعويلُ على مجرَّد الأصلِ، والظاهرُ وإن كان قاعدةً كليةً من القواعد
الأصوليةِ والفروعية، لكنَّ مثلَ السائلِ ـ كثر الله فوائده ـ لا يقنعهُ إلاَّ الدليلُ [2أ] لا مجرَّدُ القالِ والقيلِ.
قلتُ: ليس التعويلُ منا هاهنا إلاَّ على ما صرَّح به الكتاب العزيز، والسنَّة المطهَّرة من اعتبار الرِّضى، وطيبة النفس في تحليل أملاك العباد لبعض، وأنَّها لا تؤكلُ بالباطل فإن دلَّتِ القرائنُ المعمولُ بها شرعًا على حصول الرضى، وطيبة النفس فقد حصل المناط الشرعيُّ، فلم يُرَدْ بالظاهر الذي ذكرناه إلاَّ دلالةُ تلك القرائنِ المقبولة على وجود المناطِ الذي اعتبرهُ الكتاب (1) والسنة (2)، ولم نُرِدْ بالأصل إلاَّ عدمَ وجود تلك القرائنِ الدالةِ على وجود المناطِ، فكان الدليلُ على نفوذ التصرُّفِ في صورة التفويض هو الكتابُ والسنةُ، وعلى عدم نفوذِ التصرُّف في غير تلك الصورةِ هو عدمُ وجودِ الدليل الدالّ على انتقال الملكِ عن مالكِه، أو استحقاق حَبْسِهِ عنه.
البحثُ الثاني: سؤالُ السائلِ ـ كثر الله فوائده ـ عن إفلاس الراهنِ عن قضاء الدَّين (3) إذا كان موجودًا، فهل للمؤجِّر للرهن والمعيرِ أن يقضيا الدَّين ويفكَّاه، ويرجعا على الرَّاهن؟.
أقول: جوابُ هذا البحث يتوقف على تحرير أمرين:
الأول: أن المؤجِّر والمعير إنما حصل منهما الرِّضى بحبس تلك العين المرهونة حتى يقيضيَ الراهنُ ما عليه من الدَّين، ولم يحصل منهما الرضى بإخراج العينِ عن ملكِهما كما هو مقتضى ....
....
....
....
....
....
....
....
.....
_________
(1) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].
(2) منها قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه".
وهو حديث صحيح تقدم تخريجه.
(3) انظر "المغني" (6/ 462).(8/3966)
الإجارةِ (1) والعارية (2)، وهذا معلومٌ لا لَبْسَ فيه.
الأمر الثاني: أنَّ المرتهِنَ لا ملك له في العين المرهونة، سواءٌ كانت ملكًا للراهن، أو
_________
(1) الإجارة من الأجر وهو العوض قال تعالى: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77].
ومنه سمِّي الثواب أجرًا لأن الله يعوِّض العبد به على طاعته، أو صبره على مصيبته.
وهي نوع من البيع، لأنّها تمليك من كل واحد منهما لصاحبه فهي بيع منافع، والنافع بمنزلة الأعيان لأنه يصح تمليكها في الحياة وبعد الموت، وتضمن باليد والإتلاف ويكون عوضها عنيًا ودينًا. وإنما اختصت بلفظ الإجارة والكراء لأنهما موضوعان لها. والأصل فيها الجواز في الكتاب والسنة والإجماع. -
أمّا الكتاب فقول الله سبحانه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6].
وأخرج ابن ماجه في سننه (2/ 817) عن عتبة بن النُّدَّر، قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرأ {طس} حتى إذا بلغ قصة موسى قال: "إنّ موسى عليه السلام آجر نفسه ثماني حجج، أو عشرًا على عفة فرجه وطعام بطنه".
وقال تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77].
وهذا يدل على جواز أخذ الأجر على إقامته. -
وأمّا السنة، فثبت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبا بكر، استأجرا من بني الدِّيل هاديًا خرِّيتًا.
- وأجمع أهل العلم في كل عصر وكل مصر على جواز الإجارة. "
المغني" (8/ 5 - 10).
(2) العاريَّةُ: إباحة الانتفاع بعينٍ من أعيان المال مشتقةٌ من عار الشيء: إذا ذهب وجاء ومنه قيل للبطَّال: عيَّارٌ: لتردُّده في بطالته والعرب تقول: أعاره، وعاره: مثل أطاعه وطاعه.
والأصل فيها الكتاب: قال تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7].
والسنة فما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبة عام حجَّة الوداع: "العاريةُ مؤدّاة، والدّين مقضيّ، المنحة مردودةٌ والزّعيم غارم".
وأجمع المسلمون على جواز العارية واستحبابها. " المغني" (8/ 340).(8/3968)
مستأجَرَةً، أو مستعارةً للهرن، وليس له إلاَّ مجرَّدُ حَبْسِها حتى يقبضَ دَيْنهُ، لا أنه يستحقُّ زيادةً على ذلك (1).
وإذا تقرَّر هذا فالمؤجِّرُ للعين، والمعيرُ لها للرَّهن [2ب] قد رضيا بحبْسِها حبسًا مقيَّدًا بغاية هي قضاءُ الدَّين، فإذا وقع منها التسليمُ لذلك الدّين التي حُبِسَت العينُ به فليس للمرتهِن أن يمتنعَ من تسليمِ العين، لأنَّه قد حصل له مطلوبُهُ من الرِّهان، ولم يبقَ على المؤجِّر والمعيرِ ما يوجبُ بقاءَ العينِ، لأنَّ الغايةَ التي رضيا بحبس العين إلى حصولها قد حصلتْ، وهي تسليمُ الدَّيْنِ، وقد سلَّماه راضيين مختارينِ، وأما رجوعُهُما على الراهين الذين هو المستأجرُ والمستعيرُ للعين ليرهنَها، فإن كان تسليمُ الدّين منهما بأمرِه، أو بحكمِ حاكمٍ فلهما الرجوعُ عليه، إما كونُ ذلك بأمره فظاهرٌ، لأنَّ التسليمَ منهما يكون بسبب الأمر منه عنه قضاءًا لدينه، وإما كونُ التسليم بحكمِ حاكمٍ فلأنَّ ذلكَ الحكمَ قد تضمَّن الأمرَ لهما بقضاء دين المديونِ، وللحاكم أن يقضيَ ديونَ المديون إذا كان له مالٌ كما وقع في قصةِ معاذ بن جبل (2) وجابر (3) بنِ عبد الله، وهما مشهورتان، معروفتانِ، ثابتتان في دواوين الإسلام.
وهذا المديونُ وغن لم يكن له مالٌ لكنه لما حبسَ ملكَ غيره بيد مَنْ له الدينُ عليه كان
_________
(1) انظر "المغني" (6/ 462).
(2) أخرجه أبو داود في "المراسيل" رقم (172) وعبد الرزاق في "المصنف" رقم (15177) وهو منقطع وهو من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك مرسلاً.
وهو حديث ضعيف.
وأخرجه الدارقطني في "السنن" (4/ 230 - 231 رقم 95) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 48) والحاكم في "المستدرك" (2/ 58). وقال: صحيح على شرط الشيخين وأقرّه الذهبي.
من حديث كعب بن مالك قال: "أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه".
(3) تقدم تخريجه.(8/3969)
ذلك وجهًا لوقوع الحكم من الحاكم بالرجوع عليهِ، ولكنه لما كان فقيرًا كان معذورًا من القضاء إلى ميسرة، كما شرعه الله لعباده في محكم كتابه، وأما إذا كان تسليمُ الدين من المؤجِّر والمعيرِ لا بإذن من الراهن، ولا بحكمٍ من الحاكم، فلا مناطَ شرعيٌّ يوجب الرجوعَ على الراهن، بل قد وقع منهما الاستخلاص لملكهما بتسليم الدَّين، والراهنُ معذورٌ بالفقر، والدَّيْنُ باقٍ في ذمَّته، فمتى أيْسَرَ كان للمؤجر والمعير [3أ] أن يلزما المرتهِنَ بالمطالبة للراهن بدينه، فإذا قبضه منه كان لهما أن يرجعَا على المرتهنِ بما دفعاه إليه استخلاصًا لتلك العينِ، لأنه قد قبض دينَه ممن عليه الدينُ، وهو الموجِبُ لحبس العين، فيجبُ عليه ردُّ ما قبضَهُ منهما، لأنه لم يقبضْ ذلك إلاَّ في مقابلة فكِّ الرّضهن لصاحبه، لا أنه دينُه الذي يستحقُّه على مَنْ هو عليه.
فإن قلتَ: إذا كان الراهنُ شريكًا للمؤجِّر والمعير، وأعسرَ قبل قضاء الدين فماذا يكون؟.
قلتُ: إذا كانت قسمةُ العين ممكنةً قسَمَها الحاكم (1)، وسلَّم للمؤجِّر أو المعير نصيبَهما حيث قد سلَّما ما يقابلُ ذلك من الدَّين، وبقي نصيبُ الراهنِ رهنًا حتى يتمكَّنَ من قضاء الدين، أو يحكمَ الحاكم عليه بقضاء الدين من نصيبه من تلك العينِ المرهونةِ.
وحكم المؤجِّر أو المعيرِ فيما سلَّماه لاستخلاص تلك العينِ يكونُ على التفصيل السابق. وأما إذا كانت العين مما لا يمكن قِسْمَتُه فليس للمؤجِّر أوا لمعير أن يطالِبَا باستخلاص نصيبهما، إلاَّ إذا بذلا جميعَ الدين المتعلِّق بالعين، لأ، هما قد رضيا بِحَبْسِ العينِ إلى غايةٍ هي قضاءُ جميع الدَّين، أو قضاءُ ما يقابل نصيبَهما من العين، لكن بشرط عدم دخول النقص على المرتهنِ، ولا يتمُّ ذلك إلاَّ في مث لالصورة الأولى، لا في مثل هذه الصورة، لعدم إمكان القسمةِ.
البحث الثالثُ: سؤالُ السائلِ ـ كثر الله فوائده ـ عن إعسار المؤجِّرِ للعين، أو المعيرِ
_________
(1) انظر "المغني" (8/ 451)، "المجموع" (12/ 323).(8/3970)
لها للرهنِ مع إعسارِ الراهنِ، ولم يبقَ سوى تلك العين هل يجوزُ للحاكم أن يبيعَها لقضاء دين المرتهن؟ ... إلخ.
أقول: ليس له ذلك لأمرين:
الأول: أنه لا يحلُّ مالكُ المؤجِّرِ أو المعيرِ إلاَّ بطيبةٍ من نفسه وبرضائه، كما صرح بذلك الكتابُ العزيزُ، والسنةُ المطهرة، وهما لم تطب أنفسُهُما بذلك، ولا رَضِيَا به [3ب].
والثاني: أنهما إنما رضيا بِحَبْس العين فقط، ولم يحصلْ منهما الرِّضى بزيادةٍ على ذلك فضلاً عن إخراجها عن ملكهما إلاَّ في مثل صورة الاشتراك والتفويض الذي قدمنا ذِكْرَهَا وهي مسألةٌ أخرى غيرُ مسألةِ العينِ المؤجرة أو المُعارة للرَّهن. ومع هذا فقد ثبتَ في الصحيح عنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ من حديث (1) أبي هريرةَ أنه قال: "لا يغلقُ الرهنُ بما فيه" قال في النهاية (2): يقال: غلقَ الرهنُ غلوقًا إذا قي في يد المرتهن لا
_________
(1) أخرجه الشافعي في "المسند" (2/ 164 رقم 568) والدارقطني (3/ 32 رقم 126) وقال: "هذا إسناد حسن متصل". والحاكم في "المستدرك" (2/ 51) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 39) وابن حبان رقم (1123 ـ موارد).
قال ابن حجر في "بلوغ المرام" رقم (6/ 812) بتحقيقنا: أن رجاله ثقات إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله في "المراسيل" لأبي داود رقم (186). ورجاله ثقات رجال الصحيح، غير محمد بن ثور، وهو ثقة، وأخرجه البيهقي (6/ 40) من طريق أبي داود.
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" رقم (15033) ومن طريقه الدارقطني (3/ 33) عن معمر به.
وأخرجه الطحاوي (4/ 102) من طريق أبي النعمان، عن سفيان، عن الزهري به وأخرجه الطحاوي (4/ 100) من طريق ابن وهب أنَّه سمع مالكًا ويونس وابن أبي ذئب يحدثون عن ابن شهاب. عن ابن المسيب أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تغلقُ الرهن" وهو في "الموطأ" (2/ 728 رقم 13) من طريق ابن شهاب.
وأيضًا في "المراسيل" لأبي داود رقم (187) ورجاله ثقات رجال الشيخين.
(2) (3/ 379).(8/3971)
صاحبُه على تخليصه، والمعنى أنه لا يستحُّه المرتهن إذا لم يستفِكُّهُ صاحبُه، وكان هذا من فعل الجاهليةِ أن الراهنَ إذا لم يؤدِّ ما عليه في الوقت المعيَّنِ ملكَ المرتهنُ الرَّهنَ، فأبطله الإسلامُ. انتهى.
فإذا كان هذا حُكمُ الرهنِ الذي يرهنُه مالكُه في دين عليه، فكيفَ إذا لم يكنِ الرهنُ ملكًا للراهِن! بل كان مستأجرًا له، أو مستعيرًا! فإنه لا وجْهَ يقتضي غلاقَهُ، ويسوغُ إخراجَهُ عن ملك مالكهِ (1).
فإن قلت: قد ذكرتَ سابقًا أنَّه ثبت شرعًا ما يدلُّ على أن الحاكمَ يقضي دينَ المديون من ملكهِ الذي هو باقٍ تحتَ يده لم يخرجْ عنه إلى يد مَنْ له الدَّيْنُ كما وقع منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في قصَّة معاذ بن جبل، فكيف لا يجوزُ للحاكم أني قضيَ دينَ المديون من عينٍ قد سُلِّطَ صاحبُ الدين عليها بالرهن، وجعلها محبوسة في يده!.
قلت: هذا يتمُّ في الرهن المملوكِ للراهن الذي عليه الدينُ، ويكون ذلك مخصِّصًا لحديث: لا يغلقُ الرهنُ، لأنَّه عامٌّ؛ إذِ الفعلُ يتضمَّنُ النكرةَ، فهو في قوة الإغلاقِ للرهن، والنكرةُ في سياق النفي من صيغ العمومِ (2)، فيكون بيعُ الرهن للقضاء مخصَّصًا بهذا العموم، وصورة التخصيصِ.
أما الإعسارُ من الراهن، أو مطالبةُ الغرماءِ تضييقُهم كما وقع في قصة معاذٍ (3)، وأما إذا كان الرهن غيرَ مملوكٍ، بل مُسْتَأْجَرٌ، أو مستعارٌ، فلا وجْهَ لإخراجه عن ملك مالكه بحال من الأحوال، بل غايةُ ما هناك أنه يبقَى محبوسًا حتى يتمكَّن الراهنُ من القضاء، أو يتمكنَ صاحبُ العين من استخلاصِها بتسليم الدَّيْنِ.
وفي هذا المقدار كفايةٌ لمن له هدايةٌ. والله ولي التوفيق. بقلم المجيب محمدٍ الشوكاني ـ غفر الله له ـ.
_________
(1) انظر "المغني" (8/ 450 - 458).
(2) تقدم توضيح ذلك.
(3) تقدم تخريجه.(8/3972)
(128) 27/ 2
المباحث الوفيّة في الشركة العرفية
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(8/3973)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "المباحث الوفيّة في الشركة العرفية".
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله والطاهرين ورضي الله عن أصحابه الراشدين.
فإنه سأل سيدي العلامة ... ".
4 - آخر الرسالة: " ... وإن لم يحصل التراضي عليه فلا حكم له ولا اعتبار به.
وإلى هنا انتهى الجواب على سؤال السائل ـ كثر الله فوائده ـ وكان الفراغ من تحريره نهار الأحد سلخ شهر محرَّم سنة 1221هـ.
5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 - عدد الصفحات: 10 صفحات + صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرًا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 4 أسطر.
8 - عدد الكلمات في السطر: 10 - 11 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/3975)
على صورة الغلاف ما نصُّهُ:
الحمدُ لله:
لما اطلعتُ على هذا الجوابِ الشافي، وتأمَّلْتُهُ قلتُ مرتجِلاً:
إليَّ أبحاثٌ أتتْ وفيَّة ... مفيدةٌ في الشركةِ العُرفيةِ
كأنها الرياضُ في الذاتية ... أو الفصوصُ في السَّنا الياقوتيةِ
أو حُسْنُ هيفا واصلتْ عشيةً ... فاقت بِدّلِّها على البريّةِ
فصَّلها بالفصلِ والجنسيةِ ... العالم الفردُ بأحوذيةِ
محمدٌ مخلصُ حسن النيةِ ... الشمسُ في علومنا الدينيةِ
والبدرُ في الإغلاسِ وفي العشيةِ ... جوزي بها الأياديَ السنيَّةِ
في داره الأولى والأُخرويةِ(8/3979)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمدٍ وآله الطاهرينَ، ورضي الله عن أصحابه الراشدين.
وبعدُ:
فإنه سأل سيدي العلامةُ المفضالُ، صفيُّ الكمالِ أحمدُ بن يوسفَ زباره (1) ـ لا برح في حماية ذي الجلال ـ فقال ـ كثر الله فوائده ـ في جميع الأحوال ـ:
المطلوبُ أيضاحُ ما أشكلَ في شأن الشركة العرفية، وما وقع به التعاملُ من المشتركات في المكتَسَبات، والتأجيرات ونحوِها مما تشملُه التسميةُ.
أولاً: ما حكمُ الاشتراك بين جماعة اشتركوا في أعمالٍ من دون عقدٍ، بل مثلاً اجتمعُوا في مكانٍ، ثم مازالوا يكتسبونَ بتأجيرٍ أو سؤالٍ حتى نَمَى له مالٌ، فهل هذا يسوغُ الذي هو مجرَّدُ الاجتماعِ أن يُقَالَ له: اشتراكٌ أم لا؟ وهل يسوغُ مثلاً أن يستأثِرَ أحدُهم بزائدِ المكْتسبِ أو من لم يكن له بسعي ولا طلب؟ أم ماذا يكون الحكمُ؟
الثاني: مثلاً من كان لهم مالٌ مشتركٌ وأنصباؤهم متفاوتةٌ، وسعيهم مختلِفٌ بالقوة والضعفِ، هل يعتبرُ مثلاً المساواةُ فيما نَمَى من الكسْبِ، أو يعتبرُ تفصيلُ مَنْ مالُهُ أكْثَرُ، أو مَنْ سعيه أكْثَرُ أم ماذا يكون الحكمُ؟
الثالث: ما حكم من تساوَوْا مالاً وكَسْبًا، ولكن كان أحدُهم صاحبَ عائلة وتكليفٍ، والبعض عازبٌ لا تكليفَ له؟
الرابع: مَنْ كان له دخلٌ خاصٌّ من غير ما حصلَ التكافي عليهِ، بل له جرايةٌ، أو نذورٌ، أو هِباتٌ، ماذا يكون حكمُ الخاصِّ؟
الخامس: لو اكْتُسِبَتْ من نماء المشترك، وأضاف لنفسه ماذا يكون حكم الإضافة؟
_________
(1) تقدمت ترجمته.(8/3980)
السادسُ: لو كان ثمَّ صبيٌّ قاصرٌ هل يسوغُ مثلاً للوصيِّ أن يبقيَهُ على الشركةِ بين المكلَّفين، أو يقسمَه على الورثةِ، أو يتعيَّن عليه نظرُ الأصلحِ، وإذا التبسَ عليه ماذا يكونُ الحكم؟
السابعُ: لو اختلفَ المجتمعونَ فقال البعضُ: متكافئونَ، وقال البعض: لا يكافئ، بل أنتَ لا كَسْبَ لك، بل ينفقُ من مالي، وما فعلتَ فهو إلى مقابل الإنفاق؟
الثامن: إذا ماتَ أحدٌ المكتسبينَ المشتركينَ، أو تزوَّجَ، أو غابَ وَمَّ مالٌ والتبسَ بعدَه هل من غِلاَّتِ المالِ، أو من كَسِْبِ الباقين، هل يشركُ ورثَته أي الغائبَ في النامي، أو نقول: الظاهرُ مع الباقينَ ثابتي اليدِ في النماءِ الحادث؟
التاسعُ: لو تزوَّج، أو جنى، أو تأدب بأدب عليه خاصٍّ، هل يحسبُ عليه خاصٌّ، أو نقولُ يتسامحُ بذلك فيحسبُ على الجميع؟.
العاشرُ: لو وقع شرطٌ بين المتشاركينَ أنَّ مثلاً لفلان نصفَ الكسبِ، ولفلان ثُلُثٌ، ولفلانٍ عُشْرٌ هل يصحُّ هذا الشرطُ أم لا؟ وكذلكَ لو فُضِّلَ غيرُ العامِل.
فافضلوا بإيضاحِ الأطرافِ، فليس السؤالُ على جهة الامتحانِ، بل هذه أطرافٌ حادثةٌ في هذا الزمن وقبلَه، أحسن الله جزاءكم وتولاكم. انتهى بلفظه. [1أ]
أقول ـ وبالله التوفيق، وعليه التوكُّل ـ: اعلم أنَّ ما سأل عنه السائلُ ـ كثر الله فوائده ـ من الأحكامِ المتعلِّقة بالشركةِ العُرفية فإيضاحُ الكلامِ فيها متوقِّفٌ على إيضاحِه في بيان ماهيَّة الشركة العُرفية. ولنقدِّم نقل ما ذكره أهلُ العلم في شأن الشركة، ثم نُتْبِعُهُ بما عندي فيها، ثم بالكلام على كلِّ بحثٍ من أبحاث السؤال فنقولُ:
اعلم أنه لم يتكلَّمِ المتقدمونَ من أهل العلم على هذه الشركة، ولا دوّنوها في مصنَّفاتهم، ولكنه تكلَّم عليها بعضُ المتأخِّرينَ من العلماء الموجودين بعد الألفِ من الهجرة وقبلَه بقليلٍ، ألْجَأهم إلى ذلك وقوعُ الخصام فيها بين من يرثونَ رجلاً، ويتركون القسمة حتى يحصل لهم مكتسباتٌ من أموالٍ أو غيرها من غِلاَّت تلك الأموال المتروكة(8/3981)
لهم ميراثًا من مورِّثهم، وهم الحارثونَ لها، العاملون فيها جميعًا، أو كانوا يعملون أعمالاً مع غيرهم، فيجتمعُ لهم مالٌ يكتسبون به مكتسباتٍ، ويتنازعونَ فيها بعد ذلك. فيقولُ بعضُهم: إنه يريدُ أن يكون قسمةُ المكتسباتِ على قَدْرِ أنصباءِ الميراثِ إن كانت من غلّة الأموال الموروثة، أو على قَدْرِ السعي والعملِ إن كانت حاصلةً بالسعي والعمل، فيقولُ الآخرُ: يُقْسَمُ على السويَّةِ بلا تفضيلٍ للبعض على البعض، فهذا معنى الشركة العُرفية.
وموجبُ كلام المتأخرين من أهل العلم على أبحاثها، وليست في أحد الشرك المدوّنة في كتب الفقه حتى يرد ما ورد من الخصومات المتعلقة بها إليها.
قال شارح المسائل المرتضاة ناقلاً عن القاضي العلامة عبد الله بن يحيى الناظري (1)، ولفظُهُ: إذا كان جماعةٌ إخوةٌ أو غَيْرُهم مشتركينَ في الأعمالِ فكان بعضُهم يعمل المالُ، وبعضهم يخدمُ البقرَ، ويعلِفُهنَّ، وبعضهم لحوائج البيت وإصلاحه، وبعضُهم للبيع والشراء في الأسواق، فكلُّ واحد منهم لم ينتظم الحالُ في عمله إلاَّ بكافيه الآخرِ له في العلمِ، فإذا كان كذلك فهذه شركةُ أبدان، فكلُّ ما حصلَ من الصالح مع كلِّ واحد مشتركٌ بينَهم الجميعُ لا فضلَ لأحدٍ منهم [1ب] على أحدٍ، لأن ذلك حكمُ شركةِ الأبدان انتهى.
أقولُ: قوله أولاً: فهذه شركةُ أبدانٍ (2)، ثم قولُه ثانيًا: إن ذلكَ حكمُ شركة الأبدانِ
_________
(1) عبد الله بن يحيى بن محمد الناظريم الظفيري اليمني، عالم فقيه كان من أصحاب الإمام المنصور بالله محمد بن علي السراجي.
من مؤلفاته: - "شرح الكافية" لابن الحاجب. -
" شرح المفتاح ".
انظر: "أعلام المؤلفين الزيدية" رقم (649).
"أئمة اليمن" (1/ 382).
(2) شركة الأبدان: أن يشترك اثنان أو أكثر فيما يكتسبونه بأيديهم كالصناع ويشتركون على أن يعملوا في صناعتهم. فما رزق الله فهو بينهم وإن اشتركوا فيما يكتسبون من المباح. كالحطب، والحشيش، والثمار المأخوذة من الجبال والمعادن فهذا جائز نص عليه أحمد وفي رواية أبي طالب فقال: لا بأس أن يشترك القوم بأبدانهم، وليس لهم مال، مثل الصيَّادين والنَّقالين والحمَّالين.
وقال الماوردي في "الحاوي" (8/ 164): شركة الأبدان: وهو أن يشترك صانعان ليعملا بأبدانهما ويشتركان في كسبهما، فهذه شركة باطلة.
وقال مالك: تجوز إذاكانا متفقي الصنعة، ولا تجوز إذا كان مختلفي الصنعة.
قال أبو حنيفة: تجوز مع اتفاق الصنعة واختلافها، ولا تجوز في الأعيان المستفادة بالعمل كالاصطياد والاحتطاب.
وقال أحمد: تجوز في كل ذلك، كما تقدم.
انظر: "الأم" (7/ 286)، "المغني" (7/ 110).
قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوي" (30/ 73، 99): شركة الأبدان وتسمى (شركة الصنائع) و (شركة التقبل) وهي أن يتفق شخصان أو أكثر على تقبل الأعمال وعملها والأجر بينهم على ما شرطوا.
أنواعها: شركة الأبدان نوعين:
1 - أن يكون الاشتراك فيما يتقبلانه من العمل في ذمتهما كالنجارين والخياطين الذين تقدر أجرتهم بالعمل لا بالزمن ـ وهو الأجير العام ـ ولا فرق بين أن تكون هذه الشركة في تقبل الأعمال بأجر كالنجارين ونحوهم أو في تحصيل المباحات كالاشتراك في الاحتطاب والاصطياد بحيث يخلط ما اصطاداه ثم يقتسمانه على ما شرطا.
وكل واحد من الشريكين يتصرف لنفسه بحكم الملك ولشريكه بالوكالة فما عقده من العقود عقد لنفسه ولشريكه وما قبضه قبضه لنفسه ولشريكه.
2 - أن يكون الاشتراك فيما يؤجران فيه بأبدانهما ودابتيهما، ويكون الأجر مقدرًا بالزمن لا بالعمل، وهو الأجير الخاص.
3 - توزيع عائداتها: مطلق عقد الشركة يعني المساواة في الأجر والعمل فإن عمل أحدهم أكثر جاز له أن يطالب بقية الشركاء بأجر ما زاد من علمه وإن اشترط أحدهم أن تكون له زيادة عنهم في الأجر جاز. انظر: "مجموع الفتاوى" (30/ 74، 81، 99).(8/3982)
ليسَ على ما ينبغي؛ فإن الأول يفيد أن هذه الشركة شركةُ أبدان، والثاني يفيد أنها غيرها، ولكنها مُلْحَقَةٌ بها قياسًا، والكلُّ ممنوعٌ، أما كونها عينَ شركة الأبدان فلا شك في بطلانه، فإن هذا المتكلم إنما تكلم على مقتضى ما ذكره أصحابنا في الفروع، وهم مصرِّحون بأن شركة الأبدان ماهيتُها: وقوعُ التوكيل من كلِّ من الصانعين للآخر أن يتقبَّل ويعمل عنه في قدر معلومٍ مما استُؤجِر عليه مع تعيين الصنعةِ، وصرَّحوا بأن هذه الشركة هي من باب الوكالةِ (1).
فتقرر بهذا أنَّ الشركة العرفية ليست عين شركة الأبدان، بل لا يصح قياسُها، لوجود الفارق، فضلا عن أن يكون عينَها، ثم ما حَكَمَ به آخرًا من أنَّ لكلِّ واحدٍ من المصالِح مثلُ الآخرِ لا يفضلُ أحدٌ على أحد، وتصريحُهُ بأن ذلك حكمُ شركةِ الأبدانِ مخالفٌ لما قرروهُ في شركة الأبدان كما عرفتَ؛ فإن الرِّبْحَ فيها على قَدَرِ الثقيل كما هو مصرَّحٌ به، ومع هذا فقد قرَّرَ المتأخرونَ كلام الناظري هذا، وعملوا عليه، فإنه قال شيخ مشايخنا العلامةُ الحسنُ بن أحمد الشبيبي ـ رحمه الله ـ: أنَّ المختارَ كلامُ العرف، وهو الذي جرت له فتاوى مولانا المتوكِّل على الله، وبه عملَ المتأخرون، فما كسبه أحدُ الشركاء فهو للجميعِ وعلى الجميعِ، ولو أضافه إلى نفسه. هكذا قال: وهو الذي يختاره شيوخُ المذهبِ الموجودونَ في عصرِنا الآنَ، فانظر كيف وقعَ العملُ على كلام الناظري، وأطبقَ عليه المتأخرونَ مع أنَّه لم يقلْ ذلك اجتهادًا، بل قاله زاعمًا أنَّ الشركة العرفية هي شركةُ أبدان، أو كشركة الأبدان.
وقد تقرَّر أنها ليست بشركة أبدان، لا في الماهية، ولا في اللوازم. ثم لو فُرِضَ أنها شركة أبدان لم يكن للجزم بالاستواء وَجْهٌ، فإنَّ شركة الأبدان كما عرَّفناك الرِّبْحُ (2) فيها
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) قال ابن قدامة في "المغي" (7/ 113) والرِّبح في شركة الأبدان علىما اتفقوا عليه، من مساواةٍ أو تفاضل، لأنَّ العمل يستحقُّ به الربح، ويجوز تفاضلهما في العمل، فجاز تفاضلهما في الرِّبح الحاصل به ولكلِّ واحدٍ منهما المطالبة بالأجرة، وللمستأجر دفعُها إلى كل واحدٍ منهما وإلى أيهما دفعها برئ منها".(8/3984)
تابعٌ للتقبُّلِ. وعلى فَرَضِ أن العمل قائمٌ مقامَ التقبُّل فالربح فيها يتبع العمل، وأيضا قد صرَّحوا بأن القولَ لكلٍّ فيما هو في يدِه في هذه الشركةِ، بل وفي غيرها، فكيف يكونُ ما ذكره صحيحًا! وقد حمل العلامةُ أحمدُ بن علي الشامي صاحبُ الحواشي في شرح الأزهارِ [2أ] والبيانِ كلامَ الناظري هذا علىأ، ه لم يعتبر الإضافة من أحد المشتركين إلى نفسه، واعترضه شيخُ مشايخنا المذكور سابقًا بما تقدم من العرف، وفتاوى المتأخرين.
وبالجملة فليس المرادُ هاهنا إلاَّ بيان بطلان ما زعمه الناظريُّ من أن ذلك شركة أبدانٍ، أو كشركة الأبدانِ. وإذا تبيَّن ذلك علمت أن ما أفتى به ليس هو منقولاً عن كتب أهل المذهب، ولا عن غيرهم من أهل المذاهب، وإنما هو كلام جرى منه على طريق الفتوى التي يفعلها أمثاله، ولم يصح ما زعمه من أنها شركة أبدان، أو كشركة الأبدان. وستعرف ـ إن شاء الله ـ ما هو الحقُّ الذي ينبغي اعتمادُه، والعملُ عليه بعد الفراغ من نقل ما قاله المتأخرونَ في هذه الشركة العُرْفيَّة.
ومن جملة ذلك ما حكاه أيضًا شارحُ المسائل المرتقاة عن فتاوى الإمام شرف الدين فإنه قال ـ بعد نقله لكلام الناظري (1) السابق ـ ما لفظُهُ: ومثل هذا نُقِلَ عن فتاوى الإمام شرف الدين (2) في قصة تَقْرُب من هذا. قال: وسواء كانتِ الشركة صحيحة أو فاسدة، أما مع الصحة فظاهرٌ، وأما مع الفساد فالواجبُ أُجرةُ المِثْل، وهي هنا حِصَّتُهُ مما يخرجُ إذا قُسِّمَ على الرؤوس، ولو كان عملُ بعضهم أكثرَ من بعض (3)، لأن من عمل أكْثَر فقد
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) تقدمت ترجمته.
(3) قال ابن قدامة في "المغني" (7/ 114) وإنْ عمل أحدهما دون صاحبه فالكسب بينهما، قال ابن عقيل: نصَّ عليه أحمد في رواية إسحاق بن هانئ وقد سئل عن الرَّجلين يشتركان في عمل الأبدان، فيأتي أحدهما بشيء ولا يأتي الآخر بشيء؟ قال: نعم، هذا بمنزلة حديث سعد: وابن مسعود يعني حيث اشتركوا، فجاء سعدٌ بأسيرين وأخفق الآخران، ولأنّض العمل مضمونٌ عليهما معًا، وبضمانهما له وجبت الأجرة، فيكون لهما كما كان الضّمان عليهما ويكون العامل عونًا لصاحبه في حصَّته. ولا يمنع ذلك استحقاقه.(8/3985)
رضي بمشاركة ذي العمل الأقل، والعرف جار بالاستواء في ذلك. قال انتهى بلفظه.
أقولُ: قوله سواء كانت الشركةُ صحيحةً أو فاسدةً إنما يتمُّ بعد معرفة ماهيَّة الشركة العرفية الصحيحة والفاسدة، ولم يقع التدوين لشء مما يتعلق بها من الشروط والأركان، حتى يُقال: هذه صحيحةٌ، وهذه فاسدةٌ. فإن كان جازمًا بأنها راجعةٌ إلى أحدِ الشِّرَكِ المدونة في كتب الفقهِ فما هي؟ وإن كان بناءً على كلام الناظري من أنها شركة أبدان، أو كشركة الأبدان فقد تقدم بيانُ بطلان ذلك.
وأما قوله: لأن من عمل أكْثر فقد رضي بمشاركة ذي العمل بالأقلّ.
فأقولُ: إن كان هذا الرِّضى معلومًا عند التنازع فهو المناطُ في تحليل ذلك، وإن يكن معلومصا فلا وجْهَ للتسوية على فرض الاختلاف في العمل أو المال.
وبالجملة فكلامُ الإمام شرف الدين هذا رجوعٌ إلى الرضى، وهو باب آخرُ غيرُ باب الشركة كما سيأتي بيانُه إن شاء الله.
وأما قولُه: والعرف جارٍ كالاستواء فلعلَّه يجعل ذلك دليلا على حصول التراضي، ولا شك أنه يُسْتَفَادُ منه كون الظاهر الرِّضى إذا كان معلوما لكل واحدٍ منهم، والإطباقُ عليه كائنٌ بين الناس، أما إذا لم يكن معلومًا [2ب] للمشتركينَ، أو كان العرفُ مختلفًا كما نشاهدُه الآن فلا يتمُّ ما ذكره من الاستدلال بالعرف، وأيضًا هو ليس بمناط شرعيٍّ، بل هو قرينةٌ على وجود المناط الشرعيِّ أعني: التراضيَ، هذا على فَرَضِ الإطباقِ، وعدم الاختلاف فيه، فكيف إذاكان مختلفًا غاية الاختلاف كما نشاهده فيما يردُ من الخصومات والسؤالات! فإن المعلوم من أحوال الناس في هذه الأزمنة أنه لو علم الأكثرُ نصيبًا في المال، أو الأكثرُ عملاً في مداخل الرزق وأسبابه أنّ من كان أقلّ منه(8/3986)
نصيبًا أو دونَه سعيًا في المكتسبات لم يرض بالاشتراك لحظةً من اللحظات، فضلاً عن أزمنة متطاولةٍ. دع عنك لو عَلِمَ أن الإناثَ يشاركنه ويَفُزْنَ بمثل نصيبه، فإن كان هذا العرفُ المدَّعى عرفًا لأهل عصرِ الإمام شرف الدين فهو لا يجوزُ الحكمُ به على أهل هذه الأزمنة للعلم بأنه غير موجود لديهم، ولا شائعٌ بينهم، ولا يحلُّ الحكمُ على قوم بأعراف قومٍ آخرين بلا خلافٍ بين المسوِّغينَ للعمل بالعرف والعادة.
ومن جملة كلام أهل العلم في الشركة العرفية ما نقله شارح المسائل المرتضاة عن العلامة الحسن بن يحيى حابس (1) ولفظه: اعلم أن تصرف عنه وعن غيره له ثلاثة أحوال:
الأول: أن يكون التصرف من جماعة متصادقين على الشركة في متصرفاتهم، فهذا لا إشكال فيه.
الثاني: أن يكون جماعة يتصرفون بحكم الظاهر، كل واحد عنه وعن الجميع، حتى علم ذلك من ظاهر الحال، فالواجب في مثل هذا أن يحكم بالشركة للجميع في جميع ما جرى به التصرف، ولا سبيل إلى نقض شيء منه لما تقدم، وليس لأحدهم أن يستند بشيء من شركائه، فلو وجد شيء مما اكتسبه منسوبًا غليه في الصكوك ولا .... ..... (2) لشركائه فيه حكم به للجميع، ولا يجعل لنسبته إليه حكم.
الثالث: أن يعلم أن يصرف كل واحد عن نفسه (3)، ويصرفه عن شركائه إنما كان بأمر خاص، وهذا لا إشكال فيه، وأنه يحتاج إلى تثبيت الوكالة في كل فرد فرد انتهى.
وأقول: أما الطرف الأول وهو التصادق على الشركة في التصرفات، فإن أراد أن التصادق بينهم كائن على أن ما حصل لهم من الربح كان مقسومًا بينهم على كذا، وما
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) كلمة غير واضحة في المخطوط.
(3) انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (30/ 73، 76، 77) "الاختيارات للبعلي" (ص253).(8/3987)
حصل من الخُسْرِ كان عليهم على كذا فلا شكَّ أن هذا لا إشكالَ فيه، أولا خصومة [3أ] بين المتصاقينَ بهذه المصادقة، وإن أراد التصادُقَ الكائنَ منهم هو مجردُ التصادق على الاجتماع في الحاصل والمستفاد فهذا تصادقٌ لا يقطعُ خصومةً، ولا يقال إنه لا إشكال فيه، لأنه لا تلازُمَ بين هذا التصادق وبين كيفية قسمة الربحِ والخسرِ بين المشتركين، لا شرعًا، ولا عُرْفًا، ولا عقلاً.
وأما ما ذكره من الوجه الثاني من أنه يُحْكَمُ بالشركة للجميع في جميع ما جرى به التصرفُ، فيقال له: هلِ المرادُ مجردُ الاشتراك أعمُّ من أن يكونَ على الاستواء أو على الاختلافِ فلا جدوى في هذا الكلام، وإن كان المراد خصوصَ الاشتراكِ وهو الكائنُ على طريق التساوي بين الأقلّ مالاً، أو سعيًا، والأكثرِ مالاً أو سعيًا، فما هو المسوِّغُ الشرعي لمثل هذا؟ مع فرض اختلافِ قَدْرِ المال، وتبايُنِ صفةِ الأعمالِ؟ إن قال: إنْ ذلك لدليلٌ فأينَ هو؟ وإن قال: هذا هو راجعٌ إلى نوع من أنواع الشركة فما هو؟ وإن كان ذلك مجرد اجتهاد مجتهدٍ، أو تقليد مقلِّدٍ فلا تقومُ به الحجةُ، ولا يلزمُ قبولُه من حاكمٍ، ولا مخاصِمٍ، فكلُّ ما لم يُرْبَطْ بدليل تنتهضُ به الحجةُ لا تقومُ به الحجةُ. ومع هذا فلا نشكُّ أن هذا القائلَ ـ رحمه الله ـ لم يتكلَّمْ هاهنا على ما يقتضيه الاجتهادُ، بل على مقتضى ما قرره أصحابُنا، وقد عرفتَ أنهم صرَّحوا بأن الربحَ (1) والخسرَ في شركة الأبدان على قدرِ التقبُّل، وصرَّحوا بأن القولَ في تلك الأنواعِ المحرَّرةِ في كتبهم في شركة المكاسبِ لكلٍّ من الشريكين فيما هو في ديه فكلامُهم هذا الذي تكلَّم ابن حابس على مقتضاهُ يخالفُ فتواهُ، ويباينُ ما أبداه.
وأما ما ذكره من الطرف الثالث فواضحٌ، وذلك وكالةٌ لا شركةٌ، وهو خارجٌ عن محلِّ النِّزاع، وهو مستفادٌ من كلام الإمام المتوكِّل على الله في المسائل المرتضاة حيث قال: إن الحاكمَ إذا عَلِمَ من حال الشركاء والأخوةِ التصرفَ عن الجميع فلا ينقضُ ما فعلَه
_________
(1) انظر "المغني" (7/ 113) وقد تقدم.(8/3988)
أحدُهم، والظاهرُ أنه وكيلٌ مفوَّضٌ. انتهى.
وهذا كلامٌ صحيحٌ، لأن غايةَ ما فيه إن عَلِمَ الحاكمُ بأن ذلك التصرفَ الكائنَ على تلك الصفةِ يستفاد منه وقوعُ التوكيلِ والتفويضِ، وليس فيه ما يدلُّ على أن ذلك الذي وقع التصرفُ فيه [3ب] يكون للجميعِ، إما على الاستواء، أو على الاختلاف، بل هو أو قيمتُه لصاحبه، ولا يخرجُها عن ملكهِ ما وقع منه من قوائنِ التوكيلِ والتفويضِ، بل ذلك يوجبُ صِحَّةَ التصرُّف فقط، فإذا كان في الشراء كان ذلك الشيءُ المشترى لمن دفعَ الثمنَ، وإذا كان في البيع كانت قيمةُ ذلك المبيعِ لمالكه، لا لمن تصرَّف فيه بالوكالة المدلولِ عليها بالقرائن التي أفادت الحاكمَ العِلْمَ.
ومن جملة كلامِ المتأخرينَ من أهل العلم في الشركة العُرفيةِ ما قاله شارحُ المسائلِ المرتضاة ولفظهُ: قلتُ: وما أحقَّ الحكامَ بين الناس بمعرفةِ هذه المسألةِ لكثرة حصورِ هذا الاشتراكِ على هذه الصفةِ، لا سيما بين الإخوة والقراباتِ، ويشارِكهُم في ذلك النساءُ، كالأخواتِ، والبناتِ، والزوجات بقيامهنَّ بعمل البيوتِ، وعمل الطعام، بطحنه وصَنعته، وتحصيل مَؤُنَةٍ من ماء، وحطبٍ، وغير ذلك مما لا تقومُ به الرجالُ، ولا ينتظم لهم مالُ الاكتسابِ والأعمال من حرثٍ وغيره، إلاَّ بقيام النساء بذلك. وقد يكون معهم أو مع أحدهم أولاد، ويقومُ كلُّ واحد منهم بعملٍ، ثم قد يحصل بعد ذلك تشاجُرٌ وترافعٌ إلى الحكام عند القِسْمَةِ، وترك الاشتراك، وانفراد كلٍّ منهم بعمله، وخاصَّةِ نفسه، ويريدُ بعضُهم الاختصاص بشيء من المكتسبات، أو أن يجعلَ أكثَرَ من أنصباءِ شركائِه، ويدلي بكثرة العمل من قبله، أو يكون عملُه أنفعَ، أو أجْلَبَ للمصالح التي يرتزقُ منها كالبيع والشراء، وقد يريد الجميع أو البعضُ حِرْمان النساء، ويعتقدون أنه لا حَظَّ لهنَّ في الاشتراك مع قيامهنَّ بما ذكر من أمر البيوتُ الذي لا عمل أنفعُ، ولا أجلبُ للاكتساب منه، وكلُّ ذلك لاي قتضي شيئًا من الاختصاص ولا التفصيل، وإنما يُقْسَمُ الكلُّ على لؤوس المشتركين المجتمعين على التعاون في الأعمال، وقيام كلٍّ منهم بعملٍ من الرجال والنساء، وإن حصلَ في الأعمال تفاوتٌ بجهةِ كثرةِ عملِ أحدهم، أو(8/3989)
زيادة نفعه فلا تأثيرَ له، لما ذكره الإمامُ شرفُ الدين ـ عليه السلام ـ من وقوع التراضي بمشاركة ذي الأقل في العمل، وجرى العرفُ بالاستواء، ويمكن أن يُحتَجَّ لذلك بما روى عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي ـ عليه السلام ـ أن رجلين كانا شريكين على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فكان أحدُهما مواظبًا على السوق والتجارة، والآخر مواظبًا على المسجد والصلاة، فلما كان وقتُ [4أ] قسمةِ الربح قال صاحب السوق: فضِّلْني في الربح؛ فإني كنت مواظبًا على التجارة، فقال النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "إنما كنت ترزقُ بمواظبة صاحبك على المسجد" رواه في الشفاء (1)، ونحوه في أصول الأحكام والمجموع الذي في الجامع عن أنس قال: كان أخوانِ على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فكان أحدهما يحترفُ، وكان الآخر يلزمُ رسولَ الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ويتعلَّمُ منه، فشكى المتحرفُ أخاه إلى رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فقال: "لعلك به ترزقُ" رواه الترمذيُّ (2)، وينبغي للشركاء تخصيصُ ذي الأكثر عملاً بشيء، أو تفضيلُه مكافأةً له وتطييبًا لنفسه، لأنه محسنٌ، وما جزاءُ الإحسانِ إلاَّ الإحسانُ، والله أعلم. انتهى.
أقول: محصّضلُ كلامشه هذا أنه يُقْسَمُ الحاصلُ على الرؤوس، من غير فرقٍ بين الكبير والصغير، والذكر والأنثى، وصاحب المال ومن لا مال له، وصاحبِ العمل الكثير ومن لا عمل له، وغيرُ خافٍ عليك أن الأصلَ في أموال المسلمين العصمةُ، وأنها لا تحلُّ إلا بطيبة نفس، ولا تؤكل بالباطل كما صرَّح به الكتابُ العزيز والسُّنَّةُ المطهرة "إنما أموالكم ودماءكم عليكم حرامٌ" (3) كما صحَّ ذلك عن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، فكيف يَحِلُّ لمن لا مالَ له مثلاً أنْ يشارك صاحب المال في المكتسبات من
_________
(1) "شفاء الأوام" (3/ 36) بدون سند.
(2) في "السنن" رقم (2345) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وهو حديث صحيح.
(3) تقدم تخريجه.(8/3990)
ذلك المالِ، أو يحلُّ لمن لا سعيَ له أن يشاركَ من له سعيٌ في عملٍ بتحصيلٍ منه مكتسباتٍ لا عمل لغيره فيها! وتكون تلك المشاركةُ بمجرد أ، هم يجتمعونَ في تحصيل الطعام والشرابِ، ويقومُ كلٌّ منهم بشيء منه، ويجتمعون على أكله، أوا شتركوا في غيره اشتراكًا لا يوجبُ التسويةَ، كأن يكون لأحدهم من المستغلات ما يتحصلُّ ألفَ درهم، وللآخَرِ ما يتحصلُ منه درهمٌ، أو يسعى أحدُهم سعيًا يكون الحاصلُ منه مثلُ عُشْرِ معشارِ الحاصلِ من سعي الآخرِ! فهل يوجبُ العدلُ الذي قامت به السمواتُ والأرضُ أن يُقْسَمَ الحاصلُ بينهما على السوية؟ وما الوجه في الحكمِ بهذا؟ إن كان لدليل من كتاب أو سنة يقتضي ذلكفما هو؟ وإن كان لحصول المناط الشرعي، وهو الرضى وطيبةُ النفس، فالمفروض أنَّهم في الخصومة، وكلُّ واحد منهم يطلبُ ما يوجبهُ الشرع، وينكرُ الرضى بغيره، وإن كان ذلك تقليدًا للإمام شرف الدين من وقوع التراضي بمشاركة الأقلِّ في العمل، وجرى العرفُ [4ب] بالاستواء، فقد عرَّفْنَاكَ فيما سلف على كلام الإمام شرف الدين بما يغني عن الإعادة، ويستقلُّ بالإفادة؛ إذ المفروضُ في هذه الشركة العرفية الواقعة في هذه الأزمنة أنه لا تراضي، وأن العُرْفَ المدعَى غيرُ كائنٍ، ولو سلَّمَ وجودُهُ في تلك الأزمنةِ فوجُودُهُ في هذه الأزمنة غيرُ مسلَّمٍ كما قدمنا تقريرَهُ.
ولا يخفى على مَنْ له ممارسةٌ لأحوال الناس، وخبرةٌ بما يجري بينهم أنه لو عَلِمَ صاحبُ المال والسعي الكثيرِ أن من لا مالَ له، أو له سعيٌ حقيرٌ سيشارِكُه في المكتسباتِ الحاصلةِ من غِلاَّتِ أمواله، أو من سعيه، ويأخذُ مثلَ نصيبهِ بمجرَّدِ المشاركةِ له في أيسرِ عمل، وأحقرِ سعي لم يرضَ بالشركةِ قطُّ، بل المعلومُ أنه كان سيفرُّ منها فِرارًا شديدًا، ويأباها إباءً عظيمًا، وكيف يحسنُ بالعالمِ بل العاقلِ أن يحكمَ جزمًا، ويقطعَ بتًّا بأن من كان له مثلاً من المستغلاتِ أو الأعمالِ ما يحصلُ منه في العام ألوفٌ مؤلَّفَةٌ من الدنانير يرضى بمشاركة من لا يحصلُ له درهم ولا دينارٌ! وليس له إلاَّ مجردُ سعيٍ خفيفٍ، ومعاونةٍ في أمر حقير! فهل يقولُ بهذا قائلٌ، أو يسوِّغه عقلُ عاقلٍ! حتى يجزمَ بأنه(8/3991)
الظاهرُ ويرتبُ عليه قسمةُ المالِ على السويةِ! فإن العاقلَ إذا رجع في مثل هذا إلى عقلِه علمَ الأمرَ بالعكس، وأن الأصل والظاهرَ يشهدانِ بخلاف ذلك، والمتشرعُ، إذا رجع إلى الشرعِ علمَ أن الشرعَ قاضٍ بعصمة الأموالِ {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1)، "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ" (2)، "لا يحلُّ مالُ امرئ مسلم إلاّض بطيبة من نفسه" (3). فأقلُّ الأحوال أن يكون القولُ قولَ صاحبِ المال الكثيرِ، أو السعي الواسعِ بأنه لم يرضَ بمصير شيءٍ منه إلى غيره حتى يقومَ البرهانُ على وقوع الرضى منه، وحصولِ طيبةِ النفسِ به، مع أن عدمَ الوقوعِ يُسْتَفادُ من العقل، وهو كون الأصل عدمَ وقوع الرضى، لاتفاقِ العقلاءِ على أن المَلَكاتِ مسبوقةٌ بالعدمِ، وأن الأصلَ في كل شيء له وجودٌ خارجيٌّ أو ذِهنيٌّ إذا حصل النزاعُ في وجوده أنه غيرُ موجودٍ، حتى يقومَ الدليلُ على وجوده قيامًا يقبله الخصمُ، والإمامُ شرفُ الدين ـ رحمه الله ـ إن كان كلامُهُ في الخصومات التي قد تقرر حصولُ الرضى من أهل الشركةِ العُرفية فيها بالاستواء في جميع المكتسبات كما يدلُّ عليه ظاهر كلامِه السابِق الذي نقلناه عنه فهذا مسلَّمٌ لا ينبغي النزاع فيه، ولا المخالفةُ له. وإن كان في كل شركةٍ عُرفيةٍ سواءٌ حصلَ الرضى [5أ] أو لم يحصلْ استدلالاً بما ذكره من جَرْي العُرْفِ بالاستواء فقد عرفناك أن جريَ مثلِ هذا العرفِ في زمنه لا يستلزمُ جَرْيَهُ في غيره من الأزمنة، لا سيَّما الأزمنةُ التي قد عُلِمَ من أحوال أهلها ما يخالفُ ذلكَ، وعرفناك أن الإجماعَ كائنٌ على أنه لا يُحٍْكَمُ بعرفٍ جرى بين قومٍ على قوم آخرينَ لم يجرِ بينهم ذلك العرفُ، فإنه لو جرى العرفُ بين طائفةٍ من الناس في قطر من الأقطار أن الإدامَ تختصُّ عند الإطلاقِ بالسمنِ، وعند آخرينَ في قطر آخرَ أن الإدامَ إذا أُطْلِقَ اختصَّ بالزيت لم يقل قائلٌ من أهل العلم أن من حلفَ: لا آكلُ
_________
(1) [البقرة: 188].
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.(8/3992)
طعامًا مأدومًا من إحدى الطائفتين يحنثُ بما يُسَمَّى إدامًا عند الطائفة الأخرى، وهذا أمرٌ يستغني عن الإيضاح، ولا يحتاجُ إلى البيان.
ولكنا أردنا بمثل هذه التكريرات والترديدات اشتراكَ المقصِّرِ والكاملِ في الانتفاع بمثل هذ البحث، لكثرة ورود هذه الشركة العرفية في هذه الأزمنة، فالإمام شرفُ الدين أجلُّ قدرًا، وأعلى محلاً أن يقولَ بأصله الرضى في مثل ذلك، أو يحكمَ بِعُرف يخالفه، فليس لأحد أني قول في قضيةٍ اختصمَ فيها جماعةٌ بينهم شركةٌ عرفيةٌ لم يثبتْ بينهم فيها تراضٍ، ولا جرت فيها أعرافٌ أنه قال الإمامُ شرف الدين كذا، ومن قال ذلك فهو لا يفهم كيفيةَ التقليد، فضلاً عن أن يكون مفتيًا أو قاضيًا، بل لا يفهم كلامَ أهلَ العلم.
فإن قلتَ: قدر أشار صاحبُ الكلام السابقِ بأنه يمكن أن يحتجَّ لما ذكره من التسويةِ بين المشركين شركةً عرفيةً بقصةِ الرجلينِ المشركينِ على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فكان أحدهما مواظبًا على السوق والتجارة، والآخرُ مواظبًا على المسجد في الصلاة، فلما كان وقتُ قسمةِ الربح قال صاحب السوق: فضِّلْني في الربح، فإني كنت مواظبًا على التجارة فقال النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "إنما كنتَ تُرْزَقُ بمواظبة صاحبك على المسجد" (1).
فيقال للمستدلّ بهذا الحديثِ: أخبرنا ما هذه الشركةُ التي دخلَ فيها هذان الرجلان؟. إن قلت: هي الشركةُ العرفيةُ التي كلامنا الآن فيها طالبناك بالدليل على ذلك، فإن هذه الشركةَ العرفيةَ لم يسمعْ بها الموجودونَ قبل القرن العاشرِ، فضلاً عن أن يسمعَ بها [5ب] أهلُ عصرِ النبوَّة.
وإن قلتَ: إنها شركة من شرك المكاسبِ المعروفةِ، وليست بالشركة العرفية فهذا لا
_________
(1) تقدم تخريجه: وهو حديث صحيح.(8/3993)
ينفعُكَ ولا يضرُّنا؛ فإن شركَة المفاوضةِ (1) قد حصلَ فيه التراضي المسوِّغُ للاشتراك في
_________
(1) سمي هذا النوع من الشركة مفاوضة لاعتبار المساواة في رأس المال والربح وفي القدرة على التصرف وغيرها.
وقيل: لأنَّها شركة عامة في جميع التجارات، يفوض كل واحد من الشريكين أمر الشركة إلى صاحبه على الإطلاق.
وقيل: هي من التفويض لأن كل واحد منهما يفوض التصرف إلى صاحبه على كل حال في غيبته وحضوره.
وقال المالكية والشافعية: سميت مفاوضة من تفاوض الرجلان في الحديث شرعا فيه جميعًا.
وفي الاصطلاح: أن يتعاقد اثنان فأكثر على أن يشتركا في عمل بشرط أن يكونا متساويين في رأس مالهما وتصرفهما ودينهما أي (ملتهما) ويكون كل واحد منهما كفيلاً عن الآخر فيما يجب عليه من شراء وبيع، أي أن كل شريك ملزم بما ألزم شريكه الآخر من حقوق ما يتجران فيه، وما يجب لكل واحد منهما يجب للآخر، أي أنهما متضامنان في الحقوق والواجبات المتعلقة بما يتاجران فيه ويكون كل واحد منهما فيما يجب لصاحبه بمنزلة الوكيل له وفيما يجب عليه بمنزلة الكفيل عنه.
فهما يتساويان في رأس المال وفي الربح، فلا يصح أن يكون أ؛ دهما أكثر مالاً من الآخر، كأن يملك أحدهما ألف دينار والآخر خمس مئة ولو لم يكن المبلغ مستعملاً في التجارة، أي أنّه لا يجوز أن يبقيا شيئًا من جنس مال الشركة إلا ويدخلانه في الشركة، ويشترط التساوي في التصرف فلا تصح بين صبي وبالغ ولا بين مسلم وكافر.
ولا يصح أن يكون تصرف أحدهما أكثر من تصرف الآخر.
فإذا تحققت المساواة الكاملة انعقدت الشركة، وكان كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه وكفيلاً عنه يطالب بما يعقده صاحبه، ويسأل عن جميع تصرفاته.
فإذا اختل شرط من هذه الشروط، أو تملك أحد الشريكين مالاً يصلح أن يكون رأس مال لشركة العقد، تحولت الشركة إلى شركة عنان، لعدم تحقق المساواة.
وعلى هذا فإن هذه الشركة تتطلب الاشتراك بين الشريكين في كل مالهما من الحقوق كإرث نقدي وركاز ولقطة، وما عليهما من الواجبات التي يلتزم بها كل واحد من دين بسب التجارة واستقراض وضمان عصب وقيمة متلف وأرش جناية على الدابة أو الثوب مثلاً ونحوها من مغارم الأحوال في قول أبي حنيفة ومحمد. وقد أجاز الحنفية والزيدية هذه الشركة.
- والواقع أن شركة المفاوضة بالمعنى المذكور عند الحنفية غير متيسرة الوجود إن لم تكن متعذرة التحقيق.
- أما المالكية: فأجازوا شركة المفاوضة: وهو أن تعقد الشركة على أن يكون كل شريك مطلق التصرف في رأس المال استقلالا، دون حاجة إلى أخذ رأي شركائه، حاضرين أم غائبين، بيعا وشراء وأخذا وعطاء ....
" وهذا المفهوم شركة المفاوضة عند المالكية لا خلاف فيه عند الفقهاء.
- أما شركة المفاوضة بالمعنى الذي ذكره الحنفية والزيدية، فلا يجيزها الشافعية. والحنابلة وجمهور الفقهاء:
1 - لأنه عقد لم يرد الشرع بمثله.
2 - لأن تحقق المساواة بالمعنى المطلوب في هذه الشركة أمر عسير.
3 - لأن فيها غررًا كثيرًا وجهالة لما فيها من الوكالة بالمجهول والكفالة به فلم تصح كبيع الغرر.
قال الشافعي رضي الله عنه: "إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة فلا باطل أعرفه في الدنيا".
"الأم" (7/ 286).
انظر: "المغني" (7/ 122 - 125)، "البدائع" (6/ 58)، "المبسوط" (11/ 153، 177).(8/3994)
الربح على السوية، ثم العقد بالرضى أتم إشعار، وشركة العنان (1) قد حصل فيها أيضًا من هو من أعظم أدلة الرضى، وهو العقد والخلط، مع أن الربح والخسر فيها يتبعان المال، فيكون لكل واحد بقدر ماله من غير نظر إلى العمل، وشركة الوجوه (2) قد حصل
_________
(1) قال ابن قدامة في "المغني" (7/ 122 - 123).
شركة العنان: أن يشترك رجلان بماليهما على أن يعملا فيهما بأبدانهما والربح بينهما. وهي جائزة بالإجماع. ذكر ابن المنذر. وإنما اختلف في بعض شروطها.
واختلف في علة تسميتها شركة العنان:
فقيل: سميت بذلك لأنهما يتساويان في المال والتصرف. كالفارسين إذا سويا بين فرسيهما وتساويا في السير. فإن عنانيهما يكونان سواء.
وانظر: "مجموع الفتاوى" (25/ 62)، "المبسوط" (11/ 151).
(2) شركة الوجوه: وهي أن يشترك الرجلان ولا مال لهما، فيشتريان السلع بالدين بناء على ثقة التجار بهما، أي بوجاهتهما، ويبيعان، وما يرزق الله من الربح فهو بينهما على ما شرطا. وهي جائزة. انظر "مجموع الفتاوى" (30/ 74، 81)، "المجموع" (14/ 63 - 64).(8/3995)
التراضي فيها على أن يكونَ أحدُهما وكيلاً للآخرِ يجعلُ له فيما اشترى أو استدانَ حرًا معلومًا، ويتَّجر فيه، والربحُ والخسر فيها يكونان على قدر ما أضيفَ إلى كل واحد منهما من ذلك المال المشترى أو نحوه، وشكرةُ الأبدان قد حصل التراضي أيضًا بين أهلِها. وقد تقدم بيانُ ماهيَّتِها فعرفتَ أن هذه الشِرَكَ الأربعَ الرضى فيها موجودٌ، والمفروض في الشركة العرُرفية عدم وجوده، بل وجود الخصومة فيه.
فإن قلتَ: ما الذي ينبغي أن يُحْمَلَ عليه الحديثُ من هذه الشركة؟
قلت: ينبغي أن يُحْمَلَ على الشركة التي كان الناسُ يتعاملونَ بها في زمن النبوة، وهي شركة العنانِ، بل وقعت من روس الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ كما أخرجه أهل السننِ (1) إلاَّ الترمذيَّ أن السائبَ بنَ أبي السائب كان شريكَ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في أول الإسلام في التجارةِ، فلما كان يومُ الفتح قال: "مرحبًا بأخي وشريكي، ولا يداري ولا يماري".
وأخرجه أيضًا أبو نعيم في المعرفة (2)، والطبرانيُّ في الكبير (3)، والحاكم (4)، وصحَّحَهُ؛ فإن هذه الشركة وسائر الشرك التي كان يفعلُها الصحابة، بل وأهل الجاهلية قبلهم هي أن يجمع الشريكان ما معهما من النقد، ويجعلاهُ ثمنًا لشيء من أنواع التجارة، على أن يكون الربح بينهما على قَدْرِ المالِ، وقد يقع نادرًا بين الصحابةِ شركةُ الوجوهِ كما
_________
(1) أبو داود في "السنن" رقم (4836) وابن ماجه رقم (2287) والنسائي عزاه إليه المنذري في المختصر (7/ 187 رقم 4669).
(2) "معرفة الصحابة" رقم (3456).
(3) رقم (6618).
(4) في المستدرك (2/ 61).
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي وخلاصة القول أن الحديث صحيح والله أعلم.(8/3996)
أخرجه البخاريُّ (1) من حديث زهرةَ بن معبدٍ عن جدِّه عبدِ الله بن هشام، وكان قد أدرك رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فدعا له بالبركة أنَّ ابنَ عمرَ، وابنَ الزبير كانا يليقيانِه في السوقِ فيقولان له: أشرِكْنا فيما شريتَ؛ فإنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قد دعا لك بالبركة، فيشرِكُهُما، فربما أصاب الراحلة كما هي فيبعث بها إلى المنزل.
فإذا عرفت أن الشركة [6أ] المذكورة في الحديث هي الشركة المعروفة بالعنان في لسان أهل الفقه، لأنها هي الأعمُّ الأغلبُ في شركة العرب لم يكن في ذلك دليلٌ على ما نحن فيه من الشركة العرفية، لأن شركة العنان الربح والخسر فيها على قدر المال، والمستدلُّ بالحديث يقول في الشركة العرفية أنَّ الربح يُقْسَمُ على التسوية من غير تفضيل، وإن كان المال متفاضلاً، بل وإن كان أحدُ الشركاء لا مالَ له إذا قام بعملٍ من الأعمال وإن قلّ، ومما يفيد أن الشركة المذكورة في الحديث هي شركةُ العنان قولُه فيه: فلما كان وقتُ قسمة الربحِ؛ فإنَّه يشعِرُ بأن لقسمة الربح وقتًا معلومًا عندهما، وهذا لا يكون في الشركةِ العرفية إنما يكونُ غالبًا في شركة العنان، ووجهٌ آخرُ أيضا، وهو أن وجود الربح مشعرٌ بوجود رأس مال ينشأ عنه الربح.
فإن قلتَ: إذا كان الأمرُ على ما تقولُه فالربحُ والخسرُ يتبعان المالَ، فما وجه طلب من كان مقيمًا في السوق أن يفضِّلَهُ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ على صاحبه؟
قلتُ: وجههُ أنه لما كان هو العاملُ وحدَه في تحصيل سببِ الربحِ له ولشريكه اعتقدَ أنه يستحقُّ زيادةً بسبب انفراده بالسعي، على أن هاهنا مانعًا من استدلال مَنِ استدلَّ بالحديث المذكور على ما يزعمُهُ من الاستواء في الشركة العرفية، وهو أنّ الحديث قد دلّ على ثبوت الشركة العرفية على فرض صحة حمله عليها، وإن لم يكن لأحدِ الشركاء عملاً أصلاً كما كان الذي هو ملازمٌ للمسجد، وهم يجعلون ماهيَّتها التكافؤ في
_________
(1) في صحيحه رقم (2501) و (2502) وطرفه رقم (7210، 6353).(8/3997)
الأعمال.
فإن قلتَ: إذاكان معنى الحديثِ باللفظ المذكور هو ما ذكرتَِ، فهل يكون محمولاً باعتبار لفظه الآخر الذي ساقَه المستدلُّ به حاكيًا له عنا لترمذي من حديث أنس قال: كان أخوان على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فكان أ؛ دُهما يحترفُ وكان الآخر يلزمُ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ويتعلَّم منه، فشكى المحترفُ أخاُ إلى رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فقال: "لعلكَ به تُرْزَقُ" على ما حُمِلَ الحديثُ الأولُ؟.
قلتُ: لا؛ فإن الروايةَ ليس فيها ما يدلُّ على اشتراكٍ أصلاً، ولا ما يشعر بربح، ولا مُكْتَسَبٍ، بل غاية ما فيها أن أحدَ الأخوين كان يعاني المعاشَ، ويلازمُ الاكتساب فيما يسدُّ فاقَتَهُ هو وأخوه [6أ]، ويقومُ بما يحتاجان إليه مع من يَعُولانِ، فشكى القائم بالحرفة المشتغل بالمعاش إلى رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ طالبًا منه أن يُلْزِمَ أخاه يعاونَه في تحصيل ما يحتاجان إليه، ويجعلَ لنصيبه من الدنيا وحصّتِه من أسبابا الرزق نصيبًا من أوقاته، فرغَّبه رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ترغيبًا لا حَتْمَ فيه، ولا إلزامَ بأن يدع أخاه يلزمُ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ويُفَرِّغَ نفسه للآخرة، معللاً ذلك بأنه قد يكون مجلبةً للرزق، قائلاً ذلك على طريق الترجي، قائمًا مقامَ الترغيب، فليس فيهذا من الدلالة على نوع من أنواع الشِّرَك شيءٌ، لا شِرَكُ المكاسب، ولا الشركةُ العرفية كما لا يخفى علىمن له فهمٌ لفقد ماهية كلّش واحدة منها، أما ماهية شِرَكِ المكاسب الأربع فظاهرٌ، وأما ماهيةُ الشركةِ العرفية ولا وجودَ للمكافأة في الأعمال، بل غايةُ ما فيه الترغيبُ للقادرِ على الكسبِ المتصدِّي له أن يدعَ مَنْ كان مشنْ قرابته مشتغلاً بالطاعةِ، ويقومَ بما يحتاجُ إليه من النفقة، وما يتبعُها؛ فإن ذلك باب الصِّلَةِ لِرَحِمِهِ، والإعناة لطالب الخير على مطلبه.
فإن قلتَ: قد تعقَّبْتَه بما تكلَّم به المتأخرونَ على الشركة العرفية بهذه التعقبات، وأوضحت عدم انطباق بعض منه على محلِّ النزاع، وخروج البعض الآخر عن دائرة(8/3998)
الإنصاف، وعدم صلاحية ما جعلوه دليلاً على ما قالوه للاستدلال، فما الذي ينبغي اعتمادُه على ما تقتضيه الأدلةُ الشرعيةُ، وتوجبه الملَّةُ الإسلامية، وتوافقه المسالكُ الاجتهادية؟
قلتُ: قد تقرَّر بالأدلة الشرعية، والضرورة الدينية أن أموالَ العباد معصومةً، لا يحلُّ منها شيءٌ إلاّ بالمناط الشرعيّ، أما كونُها معصومةً لقوله تعال: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1)، ولما ورد من الأدلة كتابًا وسنةً في لزوم العدل، وتقبيح الظلم، والنهي عنه، ووصف الآكلين لأموال اليتامى بأنهم {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (2)، وما صحّ عنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في خُطْبَة الوداع قائلاً: "إنما دماءكم وأموالكم عليكم حرامُ" (3)، وقوله: "لا يحلّث مالُ امرئ مسلم إلاّض بطيبةٍ من نفسه" (4).
وأما المناط الشرعيّ الذي تحلّ به هذه العصمةُ فما ذكره الله ـ عز وجل ـ من التراضي في قوله: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}، وما ذكره النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في هذا الحديث من طيبةِ [7أ] النفسِ، وهذا ليس فيه خلافٌ بين المسلمين أجمعينَ، بل هو إجماعٌ معلومٌ لكلِّ مشتغل بالعلم. ولا ينافي ذلك اشتراط من اشترطَ في بعض التصرفات ألفاظًا مخصوصة، أو صفاتٍ معينةً.
وإذا تقرر هذا علمتَ أن مجرد اجتماع جماعةٍ في بيت يتكافؤن في تحصيل أسباب المعاش، وهذا الاجتماعُ المذكور هو المعروفُ بالشركةِ العرفيةِ لا يوجب خروجَ ما هو في ملك أحدِهم من الغلاَّت الحاصلةِ له من أموالِه، أو ما حصلَ من المكاسبِ بسعيهِ
_________
(1) [البقرة: 188].
(2) [النساء: 10].
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم تخريجه.(8/3999)
المختصّ به إلاّ بحصول المناط الشرعيّ، وهو الرضى، وطيبة النفس، فإن كان هذا المناط حاصلا إما بوقوع المصادقة من أهل الشركة العرفية على أنّهم تراضَوْا على الاشتراك في جمع ما يحصُلُ من سعيهم، وغِلاَّتِ أموالهم بأن يكونَ بينَهم على السويةِ، أو يكونَ بينهم على صفةٍ من صفات القِسمة يتضمَّنُ تفضيلَ البعض على البعض، أو يكون هذا المناطُ حاصلاً بقيام مُستَنَدًا للأحكام الشرعية فلا شكَّ ولا شبهةَ أن ما حصل لهم بعد التراضي يكونُ مشتركًا بينَهم على حسب ما تراضوا عليه، ولا يزال كذلك حتى يرجعوا أو بعضُهم عن ذلك التراضي، فإذا وقع الرجوعُ ارتفعَ المناط، وعادت أموالُهم أو أموالُ مَنْ رجع إلى تلك العصمة، فيكون له منوقت الرجوع ما حصل من غِلاَّتِ أمواله، وما استفاد من سعيه، وهذا أعني: كون التراضي مناطًا محلّلاً لما حصل لهم مشروطًا بأن لا يكونَ فيه حيلةٌ على صبيٍّ، أو امرأةٍ، أو مَنْ لا درايةَ له من الرجالِ.
أما إذا كان كذلك بطلَ منه ما تضمنتْه الحيلةُ، وصح ما عداه، وفي حكم هذه المصادقةِ على التراضي أن يكونَ بين أهل ذلك المحلِّ عُرْفٌ يعلمُهُ كلُّ واحد من أولئك المشتركين على وجهٍ لا يخفى ولا يلتبسُ بأن من اجمتعوا هذا الاجتماع، واشتركوا هذه الشركة كان ما حصل من أموالهم، أو كَسْبِهم مقسومًا بينهم على السوية، أو على حسبِ الأموال والسعي، فإذا كانا لعرفُ كائنًا على الصفة المذكورة كان دخولُهم في الشركة المذكوة بمنزلة التراضي بما يقتضيه العرفُ، ويكونُ هذا بمنزلةِ الألفاظ المشعِرَةِ بالتراضي في دلالتها [7ب] على ما في النفس، لأن الرضيى هو أمرٌ قلبيٌّ، وليستِ الألفاظُ المشعِرَةُ به إلاَّ دوالاًّ عليه، ولا تختصُّ الدلالةُ على هذا الأمرِ القلبيّ بالأمور اللفظية، بل كل مالَه دلالةٌ على ذلك الأمر القلبيِّ فله حكمُ اللفظ، كالإشارة المفهِمة، وما يقوم مقامَها، فهكذا الأعرافُ الجاريةُ المعلومةُ التي لا تختلف، ويشترك في العلم بها كلّ فردٍ من أفراد المشتركين، فإنها لا تُفَسَّرُ في كونها دالةً على الأمر القلبيِّ عن الألفاظ والإشاراتِ والكتاباتِ، أما إذا لم يكن ثَمَّ تراضٍ ولا عُرْفٌ، أو وُجِدَتْ أعرافٌ(8/4000)
مختلفةٌ غيرُ مؤتلفةٍ فاجتماعُ جماعةٍ على الشركة العرفية لا يخرجُ ما حصلَ لكل واحد منهم عن العصمة، بل الواجب عند الخصومة إرجاعُ ما هو من غلات كلّ واحد منهم إليه بعينه إن كان باقيًا، أو مثلُه إن كان مثلَها، أو قيمتُه إن كان قيِّمًا، وهكذا يجب إرجاعُ ما حصَّلَه كلُّ واحد منهم من كسبِه بعد أن يُحْسَب عليه منه ما قدِ استهلكَهُ لنفسه ولمن يجبُ عليه إنفاقُه.
فإن قتلتَ: إذا كانوا قدِ استمرُّوا على الشركةِ أزمنةً متطاولةً، وخلطوا ما حصلَ لكلِّ واحد منهم من الجهتين، واستنفقوا منه ما استنفقوا، وبقيت منه بقايا بأعيانها، أو كانوا قد اكتسبوا بما يفضُلُ عن كفايتهم مكتسباتس من منقولٍ أو غير منقول؟.
قلتُ: يُقْسَمُ ذلك بينهم على قَدَرِ ما يحصلُ لكل واحد منهم من أملاكه وسعيه، فيكون لصاحبه النصيب الفاضل بقدر نصيبه، ولصاحب النصيب المفضول بقدر نصيبه، هذا إذا كان الدخول من مجموع غِلاَّت الأملاك والسعي، وإن كان من أحدهما فقط فبحسبه، وكثيرًا ما تعرضُ الخصومةُ بين جماعة مشتركينَ شركةً عرفيةً قد كسبوا بما فضُلَ عن نفقتِهم أموالاً، ولا سعي يختصُّ به أحدُهم، بل جميعُ سعينهم فيما يتعلَّق بحرث تلك الأملاك وإصلاحها، وحفظ غِلاَّتها عن الضياع، كما فعلُه الزُّراعُ، ومثل هذا ينبغي أن يَنْظُرَ الحاكمُ ما يقابل عمل العاملين، فيعطي كلَّ واحد منهم من تلك المكتسبات فاضُل الغلات بقدر عمله، ثم ينظرُ بعد أخراج أُجْرَةِ العاملينَ إلى ما بقي فيقسِمُهُ لأهل الأملاكِ التي حصلتْ منها الغلّةُ لكل واحد منهم بقدرِ مالِه، ويجهدُ نفسَه في الاستقصاء والتقريب والتحرِّي، فهذا هو العدلُ الذي يقتضيه الشرعُ، ولا عدلَ غيرُه، ولا شرعَ سواه [8أ]، لأنه إذا تعذّر إعطاءُ كلِّ ذي حقٍّ حقّه عَيْنًا أو مِثْلاً أو قيمَةً وجبَ الرجوعُ مع الاختلاطِ إلى القسمةِ التي شرعَها الله ـ عز وجل ـ بعد إسقاط ما استغرَقهُ كلُّ واحد منهم لنفقةٍ أو كسوةٍ أو غرامةٍ في نكاحٍ أو غيرِه من نصيبِه، وكذلك ما استغرقه مَنْ يجب عليه نفقتُه كما قدمنا.
فإن قلت: قد يصعُبُ إعطاءُ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه بالقسمة على فرض اختلاف(8/4001)
المتغَلاَّتِ، واختلاف صفة السَّعي في المكاسب، فربَّما كان بعضُهم عاملاً في إصلاح المستغَلاَّتِ وتثميرِها، وبعضُهم كاسبًا بالتجارةِ، وبعضهم بأعمال يعملُها مع الملوك وأعوانِهم، ويكون لكلِ واحد من الدخولات ما يصعبُ ضبطهُ، ومن المستغرقات ما يبعدُ الوقوفُ عليه.
قلتُ: ليس على من يتولَّى خصومتَهم، ويتصدَّرُ لِقِسْمَتِهم إلاَّ إبلاغُ الجهدِ، وإمعانُ النظرِ على وجهٍ لا يكون غيرُه أقرب منه، وليس عليه غيرُ ذلك، ولا يُكلَّفُ بما يخرجُ عن طاقتِهِ، فينظرُ غالبَ ما يحصِّلُه كلُّ واحد منهم من كسبه، وغالبَ ما يستغرقُهُ من الأرباح، ويعمل على ذلك. ومن ادَّعى زيادةً على ما هو الغالب، أو نقصًا كان عليه البيِّنةُ.
وإذا أضافَ بعضُ المشتركينَ شيئًا من المكتسبات إلى نفسه فهذا على وجهين:
أحدُهما: أن يكون قد سبقَ التراضي بينَهم على أن يكون ما كسبُوه بينهم على الاستواء، أو أن يكونَ لكل واحد منهم نصيبٌ معلومٌ.
الثاني: أن لا يكون قد سبق بينهم تراض، ولا وُجِدَ عُرْفٌ مُتَّفقٌ عليه، معمولٌ به.
فالوجه الأول: يكون العمل فيه على التراضي، ولا حُكْمَ لما وقع من الإضافات المخالفةِ له، بل هي لاغيةٌ باطلةٌ، لأنَّ المضيفَ قد سبق منه ما هو مناطٌ شرعيٌّ مخالفٌ لما خصَّ به نفسَه من الحِيَل الباطلة، والاستبدادِ المردود. ومَنْ جَعَلَ لتلكَ الإضافة المخالفةِ للتراضي حكمًا فهو لا يعقلُ ما توجِبُهُ المناطاتُ الشرعيةُ من بطلان ما يردُّ عليها مما يخالفُها، فيشتركُ المجتمعون في الأعيان المكسوبةِ على قدرِ ما تراضَوْا عليه، ولا اعتبارَ بالتخصيص.
وأما الوجهُ الثاني: وهو عدمُ وجودِ التراضي بينَهم على صفة معلومةٍ في قسمة ما حصلَ لهم، فمن أضاف إلى نفسه شيئًا صار ملكًا له، لأن تلك الإضافة مناطٌ شرعيٌّ غيرُ مسبوقٍ بمناطٍ يخالفُه، فيختصُّ المضيفُ بما أضافه إلى نفسه كائنًا ما كان، ويحسب عند قسمة ما استفادُوهُ معهم من نصيب المضيف الحاصلِ له من مجموع ما حصلَ لهم من(8/4002)
الفوائد [8ب]، فإن كان ما أضافه إلى نفسه زائدًا على نصيبه من مجموع ما هو بينهم كان عليه تسليم ما يقابل نصيب غيره من ذلك الزائد ثمنًا لا عينا.
وإذا خسر أحدهم، أو جنى، أو ظلم لغير وجه، فإن كان ذلك بسبب يختص به وجده لا يرجع إلى الجميع بوجه فهو محسوب عليه وحده من نصيبه، وإن كان لسبب يرجع إلى الجميع بوجه يقتضيه الشرع فهو على الجميع.
فهذا جواب ما سأل عنه السائل ـ كثر الله فوائده ـ على طريقة الإجمال، وبه تحصل الفائدة في كل وجه من تلك الوجوه التي سأل عنها، ولا بأس بذكر كل وجه منها، وجوابه وإن حصل بذلك التكرير ففيه زيادة إيضاح، وتمام فائدة.
أما الوجه الأول: أعني قوله: ما حكم الاشتراك بين جماعة اشتركوا في أعمال من دون عقد ... إلخ؟
فأقول: جوابه على التفصيل السابق فإن كانوا قد تراضوا على صفة من الصفات، وهيئة من الهيئات كان ما حصل لهم من النماء على ما تراضوا عليه، ولا فرق بين الفاضل كسبه وسعيه والمفضول، وإن لم يكن ثم تراض، ولا ما يقوم مقامه كان لكل واحد منهم بقدر سعيه وكسبه على الوجه الذي قدمناه.
وأما الوجه الثاني: أعني قوله: من كان لهم مال مشترك، وأنصباؤهم متفاوتة، وسعيهم مختلف
إلخ.
فالجواب أنه يكون الحاصل من النماء بينهم على قدر الأموال والسعي؛ فيكون للفاضل مالا أو سعيا بقدر ماله وسعيه، وللمفضول بقدر ماله وسعيه ما لم يتراضو على صفة من الصفات لزمهم الوقوف عليها.
وأما الوجه الثالث: أعني قوله: ما حكم من تساووا مالا وكسبا ولكن كان أحدهم صاحب عائلة ... إلخ؟
أقول: إذا لم يحصل التراضي كان ما استغرقه صاحب العائلة لنفسه ولعائلته محسوبًا(8/4003)
من نصيبه كما قدمنا.
وأما الوجه الرابع: أعني قوله: من كان له دخل خاص ... إلخ.
فالجواب: أنه إذا قد رضي بشيء لزمه ما رضي به وإن لم يرض كان له بمقدار ما دخل له مما يخصه إما عينًا، أو مثلا، أو قيمة، أو يقدره مما قد كسبوه.
وأما الوجه الخامس: أعني قوله: لو اكتسب من نمى المشترك، وأضاف لنفسه ... إلخ.
فجوابه: ما قدمنا من الفرق بين تقدم التراضي بينهم وعدمه فمع تقدم التراضي لا حكم للإضافة، بل يشتركون في عين ما أضافه، ومع عدمها يكون له محسوبًا عليه من نصيبه، فإن زاد على نصيبه حاسب بالزائد قيمة لا عينا [9أ].
وأما الوجه السادس: أعني قوله: لو كان ثم صبي ... إلخ.
أقول: ليس على ولي الصبي إلا إمعان النظر في مصلحته بحسب ما يظهر له، فإن كانت المصلحة فيما يظهر له في ترك الصبي في الشركة العرفية تركه، وذلك بأن يكون أهلها من أهل الأمانة أو لهم أموال وسعي يكون بسبب ذلك انتفاع الصبي بما يفضل من غلات ماله انتفاعه زائدًا على ما يحصل له من النفع مع الانفراد، وأما إذا كانوا على غير هذه الصفات على وجه يحصل الظن بأنه لا نفع للصبي في البقاء معهم، أو أن نفعه أقل من نفعه مع الانفراد فإخراجه من تلك الشركة متحتم على وليه، وإذا حصل التقصير من ولي الصبي في طلب المصلحة له لم يلزمه ما وقع التراضي عليه بين المشتركين من المكلفين بل يحسب عليه ما يقوم بنفقته وكسوته ومؤن أمواله، ويرجع بالباقي على المشتركين.
وأما ما ذكره في الوجه السابع: أعني قوله: لو اختلف المجتمعون ... إلخ.
فأقول: إن كان الظاهر يشهد لما قاله أحد المختلفين كان القول قوله، والبينة على من يخالفه، وإن لم يكن ثم ظاهر بالبينة على مدعي أن له كسبا، وعلى مدعي أنه متفق من ماله فلا يثبت كسب مدعي الكسب إلا بالبرهان، ولا يثبت إنفاق مدعي الإنفاق إلا(8/4004)
بالبرهان، فإذا برهن كل واحد منهم على دعواه كان لصاحب الكسب قَدْرُ كسبه على ما يقوله العُدولُ المختبرون، وعليه قدرُ ما استنفقَه على ما تقتضيه العادةُ، فإن أقام مدعي الإنفاق البرهان على أنه رضي ذلك الكاسبُ بأن يكون ما استنفقَه أُجْرَةً له كان الرضى معمولاً عليه، ولا يستحق غيرَ ما رضي به، فالرِّضى مناطٌ كما عرفناك سابقًا، ودعْ عنك النَّظر إلى غيرِ هذا مما يُقَالُ إنه يقتضي فسادَ الإجارةِ أو صِحَّتَها فليس بعد الرِّضى من المكلَّف شيءٌ.
وأما الوجه الثامنُ: أعني قولَه: إذا مات أحدُ المتسبينَ والمشتركيَ، أو تزوجَ، أو غابَ، وثَمَّ مالٌ، والتبس ما كُسِبَ بعدَه ... إلخ.
فالجوابُ: أن القولَ قولُ المباشرينَ للاكتساب المحصِّلينَ لتلك الفوائدِ الثابتينَ عليها، فمنِ ادَّعى من ورثة مَنْ مات أو خرجَ من شَرِكَتِهم أنَّ له حقًّا فيها مع كونها حاصلةً بعد موتِه أو خروجِه فهو يدَّعي خلاف الظاهر فعليه البيِّنة، والقول قول المشتركين. هذا على فَرَضِ أنه [9ب] لم يكن ثَمَّ ظاهرٌ يخالفُ ذلك، فإن كان موجودًا فالقولُ قولُ من هو مستمسك بالظاهر، والبينة على مَنْ يخالِفُه هذا إذا كان للمتسبينَ سعيٌ تتحصل به فوائده من غير الأموال المشتركة بين ورثة مَنْ ماتَ أو خرجَ عن الشركة، وبينَهم كأهلِ التجاراتِ ونحوِها.
أما إذا كان لا مدخَل للمشتركين إلاَّ من غِلاَّتِ الأموال التي نصيبُ مَنْ مات أو خرجَ عن الشركةِ فيها، فلا قبولَ لدعوى من يدَّعي الاختصاصَ، بل الظاهرُ قولُ من قال: أن له نصيبًا من الكسائب بقدر مالِ موروثه، أو بقدر ماله المتروك في أيديهم بعد خروجه من الشركة، فَيُقْسَمُ ما هو راجعٌ إلى المال على قدرِ الأموالِ. وما هو راجعٌ إلى العمل فيها على قدر العمل بين العاملين.
وأما الوجه التاسعُ: أعني قولَه: لو تزوج أو جنى ... إلخ.
فالجواب: أنَّ الشرعَ يفضي بلزوم ما صدرَ عن أحدِهم لمن صدر عنه، ولا يلزم غَيْرَهُ(8/4005)
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (1) كما نطق به الكتاب العزيز: وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "لا يجن جان إلا على نفسه" (2)، وقال لرجل مع ولده: "لا جيني عليك، ولا تجني عليه" (3) كما في دواوين الإسلام، فمن جنى من الشركاء حتى لزمه الأرش، أو فعل ما يوجب عليه غرامة في المال فذلك عله، إلا أن يتقدم التراضي بين أهل الشركة على أنهم يغرمون مع من لزمه مغرم من أرش جناية أو غيرها كان ذلك عليهم على حسب التراضي فهو محكم معمول به، وهكذا إذا لزم أحدهم مغرم بسبب يرجع إلى الجميع، أما باعتبار الأشخاص أو المال فهو على الجميع وبالجملة فلا يختص أحدهم بالمغرم الراجع إلى ما تجمعهم كما لا يختص بالمغنم.
وأما الوجه العاشر: أعني قوله: لو وقع شرط بين المتشاركين أن لفلان نصف ... إلخ.
فجوابه: أنه إذا حصل التراضي [10أ] على ذلك صح ولزم كما قدمنا تحريره وتقريره، وإن لم يحصل التراضي عليه فلا حكم له ولا اعتبار به.
وإلى هنا انتهى الجواب على سؤال السائل ـ كثر الله فوائده ـ وكان الفراغ من تحريره نهار الأحد سلخ شهر محرم سنة 1221. [10ب]
_________
(1) [الأنعام 164، الإسراء 15، فاطر 18].
(2) أخرجه الترمذي رقم (3087) من حديث سليمان بن عمرو بن الأحوص وقال: حديث حسن صحيح وهو كما قال.
(3) أخرجه أحمد (2/ 227، 228) وأبو داود رقم (4495) رقم (4832) والحاكم (2/ 425) من حديث أبي رمثة.
وهو حديث صحيح.(8/4006)
(129) 21، 22، 23/ 2
أسئلة (1) من العلامة الحسين بن عبد الله الكبسي من كوكبان وتشمل على:
1 - بحث في بيع المشاع من غير تعيين.
2 - بحث فيمن وقف على أولاده دون زوجته.
3 - بحث في إنشاءات النساء.
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديث
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
_________
(1) للرسالة عنوان آخر "أسئلة من محروس كوكبان وقعت فيها مراجعة بين العلامة الحسين بن عبد الله الكبسي وبين حكام كوكبان. وجواب الإمام الشوكاني عليها" (50/ 1).(8/4007)
وصف المخطوط (أ):
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "أسئلة من العلامة الحسين بن عبد الله الكبسي من كوكبان .... .... ".
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد: وصلت إلى أسئلة من محروس كوكبان
... ". 4 - آخر الرسالة: " وهجر الكثير الغالب خروج عن قوانين الاستدلال هذا ما يظهر لي، والله أعلم.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 7 صفحات.
8 - عدد الكلمات في السطر: 26 سطرا ما عدا الصفحة الأولى فعدد الأسطر فيها 7 أسطر والصفحة الأخيرة عدد أسطرها 12 سطرًا.
9 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/4009)
وصف المخطوط (ب):
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "أسئلة من محروس كوكبان ....
.. ". 2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد: فإنها وصلت إليَّ أسئلة من محروس كوكبان .... ".
4 - آخر الرسالة: " وهجر الكثير الغالب خروجٌ عن قواني الاستدلال هذا ما يظهر لي، والله أعلم .....
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 8 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 - 15 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/4012)
[بسم الله الرحمن الرحيم] (1)
الحمدُ لله. [وحده، وصلى الله على من لا نبيَّ بعدَه، وآله وصحبه، وبعد:] (2) وصلتْ إليّ أسئلةٌ من محروس كوكبان، وقعتْ فيها مراجعةٌ بين سيدي العلامةِ شرف الإسلام الحسين بن عبد الله الكبسي (3)، وبين حُكَّامِ كوكبان.
[بحثٌ في بيعِ المَشَاعِ من غيرِ تعيينٍ]
السؤالُ الأولُ: فيمن باع خمسَ لَبنٍ مشاعًا، ولم يعيِّن مكانًا مخصوصًا من الأرض، هل يصحُّ ذلك أم لا؟ فأجاب حاكمان من حُكَّامِ كوكبان أن التقييدَ بلفظ المشاع يوجبُ صِحَّةَ البيع. وردَّ عليهما السيدّ المذكورُ ردًا حسنًا، وأجبت بما لفظُهُ:
الحمدُ لله وحدَه، وبعدُ:
فإني وقفت [1/ب] على هذا البحثِ النفيسِ، وقد استوفى محرِّرُهُ، بارك الله في علومه ـ أطرافَهُ، ولا أعرف قائلاً يقول بأنَّ مجرَّد التقييدِ بلفظِ المشاعِ مطلقًا يوجبُ صحةَ بيع ما كان لولا ذلك التقييدُ غيرُ صحيح، ولا من علماء الزيدية، ولا من غيرهم، اللهم إلاَّ أن يكون ذلك المشاعُ مرادًا للمتابعين، مقصودًا لكل واحد منهما؛ فإن البعضَ (4) قد جعل ذلك مصحَّحًا إذا وقع التصادقُ عليه، لأنه بذلك القصدِ، وتلك الإرادة يَؤولُ إلى بيع جزءٍ معلومٍ باعتبار الانتساب إلى الكلِّ، وهذا مما لا نزاعَ فيه، وله نظائرُ كبيع مجهولِ العينِ مع الخيارِ (5)، وبيعِ ميراثٍ عُلِمَ جنسًا ونصيبًا، وأما مطلقُ التقييدِ بالمشاع من غير انضمامِ قصدٍ إليه، فمع كونِه لم يقلْ به أحدٌ كما عرفتَ هو أيضًا مخالفٌ
_________
(1) في هامش المخطوط (أ، ب) ما نصه: "كما صرح بذلك في التذكرة والرياض".
(2) في هامش المخطوط (أ، ب) ما نصه: "كما صرح بذلك في التذكرة والرياض".
(3) تقدمت ترجمته
(4) في (ب) كما صرَّح بذلك في التذكرة والرياض عن المؤلف.
(5) انظر الرسالة رقم (110).(8/4015)
لنصوص المذهبِ في مواطنَ منها:
اشتراطُهم في بيع بعض الصُّبرة مشاعًا (1) في المزروع المختلِفِ (2) أن تكون جهتُه معيّنةً، ولا شك أنَّ ذلك أمرٌ زائد على مجرد الشياعِ، مع أن ظاهر ما علَّلوا به قولَهم باشتراط التعيين في المختلف من تأديته إلى الشِّجار أنّه لا فرق بين السمتوي والمختلِف، لأنّ عدم التعيين قد يفضي في المستوي إلى الشجار كما يفضي إليه في المختلِف، وأكثريةُ الإفضاء في المختلف لا يستلزمُ الاختصاص به، كما ذلك معلومٌ لكل عارفٍ، والدليلُ على أن المستوي كالمختلِف في الإفضاء إلى الشجار ما عُلِمَ من اختلاف الأعراض بحسب اختلاف الحالات، مثلاً الموضعُ المستوي إذا كان له جارانِ فاشتري كلُّ واحد منهما خَمْسَ لِبَنٍ منه، فلا شك أن كلَّ واحد منهم يتعلَّق غَرضُه بأن يكون نصيبُه متَّصلاً بِمُلْكِهِ القديم،
_________
(1) في (ب) اشتراط تعين الجهةِ إنَّما هو المقدَّر لا في المشاع كما هو ظاهرُ كلام أهل المذهب فيُنظرُ.
(2) أنَّ بيع الصبرة جزافًا خع جهل البائع والمشتري بقدرها مباح وبهذا قال: أبو حنيفة والشافعيُّ. ولا نعلم له خلافًا.
وقد نص عليه أحمد، ولدَّ عليه قول ابن عمر. كنَّا نشتري الطَّعام من الرُّكبان جزافًا فنهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نبيعه حتى ننقله من مكانه" متفق عليه.
ولأنَّه معلومٌ بالرؤية، فصح بيعه، كالثياب والحيوان، ولا يضرُّ عدم مشاهدة باطن الصبرة فإن ذلك يشقُّ، لكون الحبِّ بعضه على بعض ولا يمكن بسطها حبةً حبَّةً. ولأنَّ الحب تتساوى أجزاؤه في الظاهر.
فاكتفى برؤية ظاهره، بخلاف الثَّوب، فإنَّ نشرَه لا يشقُّ، ولم تختلف أجزاؤه، ولا يحتاج إلى معرفة قدرها مع المشاهدة لأنَّه علم ما اشترى بأبلغ الطرق. وهو الرؤية.
وكذلك لو قال بعتُك نصف هذه الصبرة أوثلثها، أو جزءً منها معلومًا جاز، لأنَّ ما جاز بيع جملته. جاز بيع بعضه، كالحيوان، ولأنَّ جملتها ملعومة بالمشاهدة، فكذلك جُزؤها.
قال ابن عقيل: ولا يصحُّ هذا إلا أن تكون الصبرة متساوية الأجزاء فإن كانت مختلفة، مثل صبرة بقَّال القرية، لم يصحَّ. ويحتمل أنْ يصح لأنَّه يشتري منها جزءًا مشاعًا، فيستحقُّ من جيِّدها ورديئها بقسطهِ.
انظر: "المجموع" (9/ 376 - 377)، "المغني" (6/ 207 - 209).(8/4016)
فيقع النزاعُ بينَهما وبينَ البائع، وما يشاكلُ ذلكَ من الأغراض.
وأما قولُ الحاكِمَيْنِ أنّه لا فرق بين قولِنا ربعٌ، أو نصفٌ، أو ثلثٌ، أو خُمْسُ لِبَنٍ مشاعًا ... إلخ فليسَ كما ينبغي؛ فإنّ الفرقَ [بين المقيَّد بالمشاع (1) مطلقًا، وبينَ المقيَّد بخصوصِ الجُزْءِ المعلومِ من ثلثٍ، أو رُبُعٍ كالفرق] (2) بين العامِّ والخاصِّ، لصدق اسم المشاع على ما كان مُنتَسِبًا إلى الأصل بجزءٍ معلوم، وعلى غيرِه. وعلى الجملةِ فالأصلُ الأصيلُ أن يكون المبيعُ معلومَ القَدْرِ، مُعَيَّنَ الجهةِ، لأنّ ما لم يكن كذلك في عِداد بيع الغَرَر (3) الذي نهى عنه الشارعُ، وأيضًا الرِّضا (4) الذي هو المناطُ للبيع المأذونِ فيه إنما يُتَصَوَّرُ على وجه الصِّحَّةِ فيما كان كذلك، فإذا وقع العقدُ على شيء غيرِ المقدارِ، أو الجهةِ فالرضا [1ب] المعتَبَرُ منتفٍ، وما يُظَنُّ من أنَّه قد يمكن الرِّضا مع عدم الأمرينِ
_________
(1) إذا قال بعتك ربع هذه الدار أو ثلثها، فيصح قطعًا، سواء علما ذرعانها أم لا. وإن قال: بعتك من هذه الدار كل ذراع بدرهم لم يصح قطعًا ولا يجيء فيه الوجه السابق في نظيره من الصبرة عن مربح أنّه يصح في صاع واحد. لأن أجزاء الدار تختلف بخلاف الصبرة ولو قال: بعتك من هذه الدار عشرة أذرع كل ذراع بدرهم، فإن كانت ذرعانها مجهولة لهما أو لأهدهما لم يصح البيع بلا خلاف. بخلاف نظيره من الصبرة، فإنّه يصح على الأصح، والفرق ما ذكرناه الآن من اختلاف أجزاء الدار دون الصبرة، وإن كانت ذرعانها معلومة لهما صح البيع عندنا.
وحمل الإشاعة، فإذا كانت مائة ذراع كان المبيع عشرها مشاعًا وبه قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة: لا يصح، وهو جه لبعض أصحابنا حكاه الرافعي. والصحيح المشهور الصحة، وبه قطع الأصحاب قال إمام الحرمين: إلا أن يقصد أذرعًا معينة فيبطل البيع كشاة من القطيع. "
المجموع" (6/ 209).
وقال ابن قدامة في "المغني" (6/ 2098): ولو باع ما لا تتساوى أجزاؤه، كالأرض والثوب والقطيع من الغنم ففيه نحو من مسائل الصُّبَرِ.
وإن قال: بعتك هذه الأرض أو هذه الدار أو هذا الثوب، أو هذا القطيع بألفٍ صح. أو قال بعتك نصفه أو ثلثه، أو ربعه، بكذا صحَّ أيضًا، ...
(2) زيادة من (ب).
(3) تقدم مرارًا.
(4) تقدم مرارًا.(8/4017)
أو أحدِهما فوهْمٌ ناشئ عن التباس الرضى المقيَّد المعتَبَرِ بما يصدُقُ عليه مطلقُ الرضا، وحينئذٍ لا يجوزُ بيعُ ما كان فيه نوعٌ من أنواع الغَرَرِ، كبيع المجهول قَدْرًا أو جِهَةً (1)، فإنه إن لم يكن مظنةً للغَرَر كان مظنَّةً، ولا بيعَ ماله يحصل فيه الرِّضا المعتَبَرُ شرعًا إلاَّ بدليل يدلُّ على ذلك بخصوصه، فإن لم يوجد الدليل فالواجب البقاءُ على المنع. وقد ورد ما يدلُّ على جواز بيع ما فيه بعضُ جَهَالةٍ، كحديث جابر عند مسلم (2)، والنسائي (3) قال: "نهى رسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ عن بيع الصُّبْرَةِ من التمر، لا يُعْلَمُ كيلُها بالكيل المسَّى من التمر"، فإنه يدلُّ بمفهومِه على أنه لو باعها بخنسٍ غير التمرِ لجاز، فمن أجاز العمل بمثل هذا المفهوم أجاز التخصيصَ به، ومن لم يُجِزْ لم يُجِزْ.
والحاصلُ أن لا يجوزُ بيعُ شيء مما يتعلَّق به نوعٌ من أنواع الجَهَالةِ وإن قلَّ إلاَّ بدليل يخصُّه من عموم النَّهي عن بيع الغَرَر، ومن مُطْلَقِ الرِّضى المعتبرِ.
وبيعُ المشاعِ (4) على الصورة التي وقعَ فيها النزاعُ من القبيل الممنوعِ لتناول العمومِ له. والله أعلمُ.
_________
(1) في حاشية المخطوط ما نصه: ينظر في اشتراط تعيين الجهة فإنَّ الميراث المعلوم حسًا ونصًا يصحُّ بيعه مع المشاع من غير تعيين الجهة وما الفرق بين مشاع ومشاع مع معرفة القدر فليتأمل.
(2) في صحيحه رقم (42/ 1530).
(3) في "السنن" (7/ 269، 270).
(4) انظر تفصيل ذلك في "المغني" (6/ 209 - 210).(8/4018)
[بحث فيمن وقف على أولاده دون زوجته]
السؤال الثاني: فيمن وقف (1) على أولاده دونَ زوجتِه، هل يصحُّ أم لا؟
فأجاب بعضُ أهلِ كوكبانَ بأنَّ إخراج الزوجة منافٍ للقُرْبَة.
وأجاب السيدُ المذكور بأن ذلك غيرُ منافٍ، وأطال الكلامَ في ذلك.
وأجبتُ بما لفظُهُ:
الحمد لله وحده، وبعد:
فإني وقفت على هذا البحث الشريف، وقد صار مستغنيًا عن التكميل والوقفُ على بعض الورثة (2) دونَ بعض الخلافُ فيه معروفٌ مشهورٌ، والذي يظهر لي أنَّ الوقفَ على
_________
(1) الوقف: هو لغة الحبس. يقال: وقفت كذا، أي حبسته وهو شرعًا: حبس مالٍ يمكن الانتفاع به مع بقاء عيينه بقطع التصرف في رقبته على مصرفٍ مباح.
الوقف: مستحب، ومعناه تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة.
والأصل فيه ما رواه ابن عمر قال: "أصاب عمر بخيبر أرضًا، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أصبتُ أرضًا لم أصبت مالاً قطٌ أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال: إن شئت حبَّست أصلها وتصدقت بها، فتصدَّق عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث في الفقراء والقُربى والرِّقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم غير متموِّل فيه".
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2772) وأطرافه (2764، 2772) ومسلم رقم (1632) وأبو داود رقم (2878) والترمذي رقم (1375) والنسائي رقم (3599) وابن ماجه رقم (2396) وأحمد (2/ 12 - 13، 55) وغيرهم.
(2) انظر "المغني" (8/ 194 - 206).
قال ابن قدامة في "المغني" (8/ 206) والمستحب أن يقسم الوقف على أولاده، على حسب قسمة الله تعالى الميراث بينهم، للذَّكر مثل حظ الأنيين.
قال القاضي: المستحب التسوية بين الذكر والأنثى، لأنَّ القصد القُربةُ على وجه الدوام. وقد استووا في القرابة.
قال ابن قدامة: ولنا أنّه إيصالٌ للمال إليهم، فينبغي أن يكون بينهم على حسب الميراث كالعطيَّة، ولأنَّ الذّكر في مظنَّه ـ الحاجة أكثر من الأنثى، لأنّ كل واحدٍ منهما في العادة يتزوّج، ويكون له الولد، فالذّكر تجب عليه نفقة امرأته وأولاده، والمرأة ينفق عليها زوجها ولا يلزمها نفقة أولادها، وقد فضّل الله الذّكر على الأنثى في الميراث على وفق هذا المعنى، فيصح تعليله به .....
فإن خالف فسوَّى بين الذكر والأنثى، أو فضَّلها عليه، أو فضَّل عليه أو فضَّل بعض البنين أو بعض البنات على بعض أو خصَّ بعضهم بالوقف دون بعض، قال أحمد، في رواية محمد بن الحكم: إن كان على طريق الأثرة فأكرهه، وإن كان على أنَّ بعضهم له عيال وبه حاجةً. يعني فلا بأس به ووجه ذلك أن الزبير خصَّ المردودة من بناته دون المستغنية منهنَّ بصدقته.".
انظر "المجموع" (16/ 245 - 247).(8/4019)
هذه الصِّفة لا تكون بمجرَّده باطلاً، بل لا بد من انضمام مانع من الصحةِ إليه، وهو ما لا يمكن قصدُ القُرْبَة معه قصدًا معتَبَرًا، وذلك كإرادة تخصيص بعض الورثة بذلك دون بعض بدونِ مخصِّص، بل لمجرَّد محضِ الهوى، وميل النفس إلى تأثير مَنْ تميل إليه، وإحرامِ من ينفُرُ عنه، فلا ريب أن هذه الإرادةَ لا يمكن وجودُ القُربة معها، وهكذا كلُّ صوره تصلُح لنسبة المانعيةِ إليها ويقدحُ في المقتَضَى الذي لا بد منه، فما كان من الأوقاف كذلك فالقضاءُ ببطلانِهِ متعيِّنٌ، لأنَّه قد عدم فيه المقتضي، وهو قَصْدُ القُرْبَةِ، وَوُجِدَ المانعُ، وهو الأمرُ المنافي لقصدها، وهذا إذا تبيَّن وجودَ المانع بقرينة حالٍ أو مقالٍ، فإن لم يتبيَّنْ فالأصلُ عدمُهُ، ويُنْظَرُ عند ذلك إلى المقتضى، فإن كان موجودًا فالقضاء بِصِحَّة الوقفِ متوجِّهٌ، لأنَّ كلَّ أمرٍ وُجِدَ فيه المقتضي وانتفى عنه المانعُ فهو صحيحٌ معتبرٌ شرعًا.
والحاصل أنه إما أن يُعْلَمَ أو يُظَنَّ وجودُ المقتضي أو عدمُهُ.
وعلى الثاني لا شك في عدم صِحَّةِ الوقف سواءٌ وُجِدَ المانعُ أو لم يوجد، وعلى الأول [2أ] إما أن يُعْلَمَ أو يُظَنَّ وجودُ المانعِ أو عدمَهُ أولا يعلمُ أصلاً، فإن كان الأول وفرضْنا إمكانَ اجتماعِ المانعِ والمقتضي في مسألة السؤالِ فالمقتضي من باب جلْبِ المصالحِ، وهو مما يجب إلغاؤهُ عند وجود مَفْسَدَةٍ راجحةٍ، أو مساويةٍ بلا نزاعٍ، وعند وجودِ مفسدةٍ(8/4020)
مرجوحة أيضًا على نزاع فيه: ولا شكّ أنّ وجود المانع مستلزمٌ لوجود المفسدة مطلقًا، وإلا لما كان مانعًا.
وإن كان الثاني فالمتوجَّهُ القضاء بالصحةِ لما سلف. لا يقالُ تخصيصُ بعضِ الورثةِ إن لم يكن مانعًا مستقلاً فلا أقلَّ من أن يكون مظنَّةً لوجودِ المانعِ، ومظنَّةُ الشيءِ منزَّلةٌ منزلتَه غالبًا، فكيف صحَّ الجزمُ بعدم المانع في مثل مسألة السؤال، لأنَّا نقول لا نسلِّمُ أنّ ذلك التخصيص كذلك، فإنك لا تشكُّ أنّ من كان له ورثةٌ أغنياء، وورثة فقراء، فخصَّصَ الفقراء بالوقْفِ عليه (1)، وكذلك مَنْ كان له ورثةٌ قادرين على التكسُّب، وغيرُ قادرينَ فخصَّصَ غيرَ القادرينَ بذلك، وكذلك مَنْ كان له ورثةٌ أصِحَّاءُ ومَرْضَى فخصَّصَ المرضَى بذلك، فإنه لا يكون التخصيصُ المذكورُ مُنَافِيًا للقُرْبَة أصلاً، بل ربما كان من أقوى الأدلة الدالةِ عليها، فكيف يكون مانعًا أو مظنةً للمانع، وإن كان الثالثُ فالواجبُ القضاءُ بالصحة لأنّه قد وُجِدَ المقتضي، ولا يصح معارضَتُهُ بالشكِّ في وجود
_________
(1) قال ابن قدامة في "المغني" (8/ 206 - 207): " ... لو خصَّ المشتغلين بالعمل من أولاده بوقفه تحريضًا لهم على طلب العلم.
أو ذا الدِّين دون الفُسَّاق. أو المريض، أو من له فضلٌ من أجل فضيلته، فلا بأس.
وقد دلَّ على على صحَّة هذا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، نحل عائشة جِذاذ عشرين وسقًا دون سائر ولده ـ أخرجه مالك في الموطأ (2/ 752)، والبيهقي (6/ 170، 178).
وحديث عمر أنَّه كتب: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به عبد الله أمير المؤمنين، إن حدَثَ به حَدَثٌ، أن ثمغًا وصرمةَ بن الأكوع، والعبد الذي فيه، والمائة سهم النبي بخيبر، ورقيقه الذي فيه، الذي أطعمه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالواد، تليه حفصةُ ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها أن لا يباع ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم، وذوي القربى لا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقًا منه".
أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (2879) وهو صحيح وجادة قاله الألباني في صحيح أبي داود. وفيه دليل على تخصيص حفصة دون إخوتها وأخواتها.
انظر: "المجموع" (16/ 250)، "المغني" (8/ 207).(8/4021)
المانع على فَرَض أنه يترجَّح جانبُ عدمِه على جانب وجودِه، فكيف إذا كان عدمُهُ راجحًا كما نحن فيه! فإنّه لا شك أن الأصل عدمُ المانعِ، لأنّ الظاهر أنّ الرجل المعلوم إسلامُهُ ولا سيَّما إذا كان من أهل التمييز والتقوى لا يتقرَّبُ بأمرٍ في الظاهر، وثمَّ مانعٌ يبطلُ عنه ذلك التقرُّبَ، ويبقى الكلامُ هاهنا في صورة، وهي حيثُ لم تكنِ المقتضى معلومًا وجودُهُ ولا عدمُهُ.
ولا شكَّ أن المانع إذا كان معلومًا أو مظنونًا مقدَّمٌ عليه، وإنما الإشكالُ فيما إذا كان المانعُ غَيْرَ معلوم وجودُهُ ولا عدَمُهُ، فهل يُجْعَلُ الأصلُ وجودَ المقتضي فيجبُ القضاءُ بالصحةِ، أو الأصلُ عدَمُهُ فيجبُ القضاءُ بعدمِها، أو يكون ذلك محلَّ تردُّدٍ؟ ويمكنُ أنْ يُقَالَ: الأصلُ العدمُ، لأنَّه السابقُ على الوجود، فإذا لم يَقُمْ دليلٌ يدلُّ على أن المقتضي موجودٌ فالواجبُ استصحابُ ذلك المتيقَّنِ، ولا يُتَنَقَّلُ عنه إلاَّ بناقلٍ، ولكن هاهنا أمرٌ آخَرُ يوجبُ المصيرَ إلى أنَّ المقتضي في تلك الحالِ موجودٌ، وهو الظاهر المرجَّحُ على الأصل عند التعارضُ، فإنه لا ريبَ أنَّ المسلمَ إذا فعلَ فِعْلاً من أفعال العباداتِ والقُرَبِ كان الظاهرُ أنَّه لم يفعل ذلك عَبَثًا بل فعلَه لمقتضٍ هو إرادةُ التقرُّب إلى الله تعالى، لأن الإسلام بمجرَّده باعثٌ على ذلك فضلاً عن الإيمانِ والعِرفَانِ، ولا ينبغي أن يُظَنَّ بمسلم من المسلمينَ أنَّه يُلْبَسُ ببعض القُرَبِ المقربة إلى الله تعالى غَيْرَ مستحضرٍ في تلك الحالِ لماهية ما تقرَّبَ به.
فإن قلتَ: قد قامتِ الأدلةُ الصحيحةُ الصريحةُ القاضيةُ [2ب] بمشروعيته وقد ذكر السيدُ العلامةُ في جوابه على هذا السؤالِ شطرًا منها، وهو مذهب الجماهير من أهل العلم، حتى قال الترمذي (1): لا يَعْلَمُ بينَ الصحابةِ والمتقدَّمينَ من أهل العلم خلافًا في جواز وقفِ الأرضينَ، وجاء عن شُرَيْحٍ (2) أنه أنكر الوقفَ، وقد تأوَّل ذلك جماعةٌ من
_________
(1) في "السنن" (3/ 660).
(2) ذكره ابن قدامة في "المغني" (5/ 185): قال: ولم ير شريح الوقف، وقال لا حبس عن فرائض الله. قال أحمد: وهذا مذهب أهل الكوفة.(8/4022)
أهل العلم، وأما أبو حنيفةَ (1) فلم يقل بعدم مشروعيته بل قال بعدم لزومه، وخالفَه في ذلك جميع أصحابه إلاَّ زفرَ بنَ الهذيلِ.
وحكى الطحاويُّ (2) عن عيسى بن أبان قال: كان أبو يوسُفَ يجيزُ بيع الوقف، فبلغهُ حديث عمر يعني الذي في أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال له: "حبِّس الأصل، وسبِّلِ الثمرة" فقال: مَنْ سمعَ هذا من ابن عون؟ فحدثه به ابن عليَّةَ فقال: هذا لا يسعُ أحدًا خلافُهُ، ولو بلغ أبو حنيفة لقال به، فرجعَ عن بيع الوقف حتى صار كأنه لا خلافَ فيه بين أحد.
وأما ما روى الطحاويُّ (3)، وابن عبد البَرِّ (4) من طريق مالكٍ عن ابن شهاب قال: قال عمرُ لولا أني ذكرت صدَقَتي لرسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لردَدْتُها. فلا يدلُّ على جواز الرجوعِ في الوقف، وعدمِ لزومِه، لأنَّ قول عمرَ ليس بحُجَّةٍ، ولا سيَّما إذا عارض المرفوعَ. وقد ثبتَ من قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ الأمرُ بالتحبيس. ومفهومُ التحبيس لغةً مانعٌ من النقضِ، وأيضًا هو منقطعٌ، فإنَّ ابنَ شهاب لم يدركْ عمرَ.
وأما ما روي عن الطحاويّ (5) أيضًا من أنَّ قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لعمرَ:
_________
(1) ذكره ابن قدامة في "المغني" (8/ 185): "وذهب أبو حنيفة إلى أنَّ الوقف لا يلزم بمجرَّده، وللواقف الرجوع فيه، إلاَّ أن يوصى به بعد موته. فيلزم، أو يحكم بلزومه حاكم. وحكاه بعضهم عن علي وابن مسعود، وابن عباس. وخالفه صاحباه، فقالا كقول سائر أهل العلم".
وانظر: "التمهيد" (1/ 213 - 214).
(2) في "شرح معاني الآثار" (4/ 95).
(3) في "شرح معاني الآثار" (4/ 96).
(4) في "التمهيد" (1/ 214).
(5) في "شرح معاني الآثار" (4/ 95).(8/4023)
"حبِّس الأصلَ وسبِّلِ الثمرةَ" لا يستلزم التأييدَ، بل يحتملُ أن يكون أراد مدة اختيارِه لذلك، ففي غاية الضعف، فإنه لا يُفْهَمُ لغةً وعرفًا التحبيس إلاَّ التأبيدُ (1).
ويدلُّ على ذلك ما ثبت عند الدارقطني (2) من طريق عبيد الله بن عمرَ العمريّ، عن نافع مرفوعًا بلفظ: "حبّس ما دامتِ السمواتُ والأرضُ".
وأما ما رواه البيهقيُّ (3) من حديث ابن عباس أن النبيّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال: "لا حَبْسَ بعدَ سورةِ النساءِ" ففي إسناده ابنُ لهيعةُ. وعلى فَرَض صلاحيتهِ للاحتجاج فقد فسَّره أئمةُ اللغة بأنَّ المراد به أنَّها لا تُحْبَسُ فريضةٌ عن الذي فرضَها الله له. وعلى فَرَض أن الحَبْسَ المذكورَ في الحديث يشملُ حَبْسَ الوقفِ لأ، ه نكرةٌ في سياق النفي فَنَعَم، ولا يُقْصَرُ على السبب، فعمومُهُ مخصوصٌ بما ورد في مشروعية الوقف من الأحاديث الصحيحةِ، لأنّ الوقفَ حَبْسٌ خاصٌّ.
وبهذا القَدْرِ يتبينُ لك أنه لا متمسَّكَ بيد مَنْ قال بعدم مشروعيتِ الوقفِ مطلقًا، أو بعدم لزومِه بعد إيقاعه.
قال القرطبيُّ (4): ردُّ الوقف مخالفٌ للإجماع فلا يُلْتَفَتُ إليه (5)، وأحسنُ ما يُعْتَذَرُ به عمن ردّه ما قال أبو يوسُفَ (6) من أنه لم يبلغِ الدليلُ أبا حنيفة، وهو أعلم بأبي حنيفةَ من
_________
(1) انظر "فتح الباري" (3/ 403).
(2) في "السنن" (4/ 192 رقم 16).
(3) في "السنن الكبرى" (6/ 162).
(4) في "المفهم" (4/ 600).
(5) ذكره الحافظ في "الفتح" (5/ 403)، "المغني" (8/ 207).
ثم علل القرطبي قوله "وهذا خلافٌ لا يلتفت إليه، فإنّ قائله خرق إجماع المسلمين في المساجد والسّقايات إذ لا خلاف في ذلك ... ".
وذهب الشافعي إلى أن الوقف من خصائص أهل الإسلام، أي وقف الأراضي والعقار، قال: ولا نعرف أن ذلك وقع في الجاهلية، وحقيقة الوقف شرعًا ورود صيغة تقطع تصدق الواقف في رقبة الموقوف الذي يدوم الانتفاع به وتثبت صرف منفعته في جهة خير.
"الأم" (8/ 176 - 180)، "فتح الباري" (5/ 403).
(6) ذكره الحافظ في "الفتح" (5/ 403)، "المغني" (8/ 207).
ثم علل القرطبي قوله "وهذا خلافٌ لا يلتفت إليه، فإنّ قائله خرق إجماع المسلمين في المساجد والسّقايات إذ لا خلاف في ذلك
". وذهب الشافعي إلى أن الوقف من خصائص أهل الإسلام، أي وقف الأراضي والعقار، قال: ولا نعرف أن ذلك وقع في الجاهلية، وحقيقة الوقف شرعًا ورود صيغة تقطع تصدق الواقف في رقبة الموقوف الذي يدوم الانتفاع به وتثبت صرف منفعته في جهة خير.
"الأم" (8/ 176 - 180)، "فتح الباري" (5/ 403).(8/4024)
غيره.
وإذا تقررتْ مشروعيةُ الوقف، وأنه من القُرَب (1) فلا يتفاوتُ بتفاوت المصرِفِ، سواء كان مسجدًا أو فقيرًا أو غيرَهما، وسواءٌ كان الفقيرُ قريبًا، أو أجنبيًّا. ولنقتصر على هذا المقدارِ ففيه كفايةٌ.
وأما لفظ الذرية فالظاهر [3أ] أنّ الرجلَ إذا قال: وقفتُ هذا على ذريتي كان لمن يصدقُ عليه اسمُ الذريةِ لغةً، أو شرعًا، أو عرفًا. ولا فرقَ (2) بين الذَّكَرِ والأنثى، والعالي والسافل، لأنّ الصيغةَ عامَّةٌ (3)، فإن وُجِدَ أمرٌ يفضي بتخصيصِ هذا العمومِ من قرينةحالٍ أو مقالٍ فذاك، وإلاَّ فالعملُ بما يدلُّ عليه ذلك اللفظُ وهو المتعيَّنُ. والله أعلم.
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2737) ومسلم رقم (1632) وأحمد (2/ 12) وأبو داود رقم (2878) والترمذي رقم (1375) والنسائي (6/ 230) وابن ماجه رقم (296) من حديث ابن عمر قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر ـ فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخيبر لم أُصب مالاً قطّ هو أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: "إنْ شئت حبَّست أصلها وتصدَّقت بها" قال: فتصدق بها عمر: أنّه لا يباع أصلها، ولا يورث، ولا يوهب، قال: فتصدّق عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل والضعيف، ولا جناحعلى من ولياه أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقًا غير متمولٍ فيه وفي رواية غير متأثلٍ مالاً.
وانظر: "فتح الباري" (3/ 402 - 404).
(2) في حاشية المخطوط ما نصه:
"ينظر لو خالف العرف الشرع أو اللغة في ما يصدق عليه اسم الذرية فما يُقدَّم هل الشرع أو عرف الواقع؟ فالمقام محتاج إلى تفصيل".
"لا حاجة إلى التفصيل فالحقيقة الشرعية مقدمّة على اللغوية، فبالأولى العرفية فترك التفصيل للظهور".
(3) انظر "الأم" (8/ 177).(8/4025)
[بحثٌ في إنشاءات النساء]
السؤالُ الثالثُ: فيما يفعلُه النساءُ من الإنشاءات، هل يصحُّ رجوعُهُنَّ إذا رجعْنَ عنها؟، فأجاب بعضُ حكّامِ كوكبانَ بأ، ه يصحُّ رجوعُهُنَّ في جميع ما فعلْنَهُ، وإن تماليكَهُنَّ ونحوَها لا تنفذُ إلاَّ بالموت، وأجاب السيدُ المذكور بأن حكمهنَّ حكمُ الرجالِ، إلاَّ أن يتبينَ وقوعُ التغريرِ والتلبيسِ عليهنَّ، ونحوُ ذلك.
وأجبتُ بما لفظُهُ:
الحمدُ لله.
لا مزيدَ على ما حرَّرَهُ السيدُ العلامةُ في هذا البحث النفيسِ، ولا شك أنّ للنساء حُكْمَ سائرِ المكلَّفينَ من الذكور، لشمول الأحكامِ الشرعيةِ لهنَّ في الجملة، وخروجهن عن البعض خروجًا بمخصص، ولكنَّ الغالبَ في هذه الأزمان أن الواحدةَ منهنَّ لا تسمحُ بشطرٍ من مالها لقريبٍ أو غيره إلاَّ لحيلة منصوبةٍ من ذلك المسموح له، يتسببُ بها إلى اقتناص مالِ تلك المسكينةِ لما جُبِلَتْ عليه من الخَوَرِ، وضَعْفِ العقلِ، وسوءِ التصرُّفِ، وهذا مشاهدٌ معروفٌ لا يمتري فيه من له أدنى ممارسةٍ لأحوال الناسِ، فكثيرًا ما نشاهدُ النساءَ يَخْرُجْن من أملاكهنَّ بأدنى ترغيب أوترهيب، حتى صار هذا الأمرُ هو الأعمَّ الأغلبَ عليهنَّ، وإن وقع من واحدة منهنَّ ما تخالفُ ذلك فعلى سبيل الندورِ الذي لا ينبغي التعويلُ عليه. وما أ، فعَ ما رواهُ لنا بعضُ الأعلامِ من شيوخنا عن بعض الأعلام من شيوخِه أنها جاءتْ إليها امرأةٌ تقرُّ لديه أنها قد ملّكَتْ بعضَ قرابتها جميع ما تملكُ، فاستفصلَها عن ذلك ففصلتْ وأقرَّتْ مرَّاتٍ أنها قد ملَّكَتْ ذلك القريبَ كلَّ ما تملِكُهُ من الأموال والدُّورِ والمنقولاتِ، فقال لها ـ وقد رأى في يدها خاتمًا ـ: وهذا الخاتَمُ من جملة ذلكَ؟ فقالت: لا أما هذا فهو حقِّي. فانظر هذه المسكينةَ كيف جعلتْ كلَّ ما غاب عن عينها من أملاكِها في حكمِ الخارجِ عن مُلْكِها.
والحاصلُ أنه لا ينبغي لمن يُصَدَّرُ لإيرادِ الأحكامِ وإصدارِها، أو دارت عليه رحَى(8/4026)
الفتاوى أن يجرِّدَ نظرَهُ إلى أن الأصلَ أنَّ حُكْمِ الرجال في نفاذ التصرُّفِ، وعدمِ صحةِ الرجوعِ، بل ينبغي إمعانُ النظرِ وإعمالُ الفكرِ، وإكمالُ البحثِ عن صفة ذلك التصرُّفِ، والتفتيشُ عن الأمر [3ب] الحاملِ عليه، وملاحظةُ تلك المرأةِ التي وقع منها التمليكُ في حسن عقلها، وجَوْدَةِ اختيارِها، ومعرفتِها بمداركِ التصرفاتِ، فإنْ وجدَها لا تعرفُ لوازمَ التمليكِ بأي نوع من الأنواع، ولا تدري أن ذلك من موجباتِ انتقال المال عن ملكها بعد ذلك اللفظِ، رضيتْ أم كرهتْ، كما هو شأنُ أكثرِ النساءِ الساكناتِ في البوادي، بل وكثيرٌ من نساء الأمصارِ، فالواجب عليه القضاءُ ببطلانِ ذلك التصرُّف، وإرجاعِ المُلْكِ إلى مالكهِ، لأنَّ الله ـ سبحانه ـ قد أخبرنا بأنَّ الرِّضى معتبرٌ، وأخبرنا رسولُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بأنه "لا يحلُّ مالُ امرئ مسلم إلاَّ بطيبةٍ من نفسه" (1).
وهذه المسكينةُ لا تعرفُ ما يلزمُها بلفظ التمليكِ الذي أوقعتْه، فضلاً عن أن تكون راضيةً به، طيبةً به نفسُها، فلا شكَّ ولا ريبَ أن القضاءَ بنفوذِ التصرف الخالي عن العِوَضِ على مَنْ كانت بهذه الصفةِ استنادًا إلى ما هو الأصلُ من أنَّ حكمَ المرأة حكمُ الرجلِ من الظلمِ البيِّن الذي لا يمتري فيه ممترٍ.
وهكذا إذا كانت المرأة المذكورةُ عارفةً بلازم ما أوقعتْه من لفظ الهبة والنذرِ ونحوِهما، ولكنها إنما جعلتْ ذلك لحيلة ناشئةٍ عن ترغيب أو ترهيب، فإن ذلك من البطلان بمكانٍ لا ينبغي لأحد أن يشكَّ فيه، لما تقرَّر شرعًا من بطلان الحيلِ (2)، ومضادَّتِها للشريعة
_________
(1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(2) قال الحافظ في "الفتح" (12/ 326): الحيل: جمع حيلة وهي وهي ما يتوصل به إلى المقصود بطريق خفي. وهي عند العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها فإن توصل بها بطريق مباح إلى إبطال حق أو إثبات باطل فهي حرام أو إلى إثبات حق او دفع باطل فهي واجبة أو مستحبة، وإن توصل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع في مكروه فهي مستحبة أو مباحة، أو إلى ترك مندوب فهي مكروهة.
ومن أدلة من أجاز الحيل مطلقًا:
قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} وقد عمل به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حق الضعيف الذي زنى، وهو حديث أبي أمامة بن سهل.
ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} وفي الحيل مخارج من المضايق، ومنه مشروعية الاستثناء، فإن فيه تخليصًا من الحنث وكذلك الشروط كلها فإن سلامة من الوقوع في الحرج ... ".
وأدلة من أبطل الحيل مطلقًا:
- قصة أصحاب السبت وحديث "حرمت عليهم الشحوم فجمَّلوها فباعوها وأكلو ثمنها" وحديث النهي عن النجش وحديث: "لعن المحلل والمحلل له
".
وانظر: أدلة تحريم الحيل مفصلاً في "إعلام الموقعين" (3/ 159 ـ وما بعدها).(8/4027)
المطهرة إلاَّ ما خصَّ، والنساءُ أسرعُ الناس انخداعًا، وأقلُّهم نظرًا في العواقب، وأوّلُهم إجابة إلى ما لا يجيبُ إليه العقلاءُ، ولا يُنْفَقُ على مَنْ له أدنى تمييز من الرجال، وهكذا إذا كانت المرأةُ المذكورةُ عارفةً بمدلول ما وقعَ منها من التصرفات، فاهمةً لما يلزم عن ذلك، ولكنها أرادت بذلك استجلاب عِشْرَةِ العشير أو غيرَهُ من القرائنِ، أو إزالةَ ما تجدُهُ من وحشة أخلاقهِ، فإن هذا ارتضاءٌ من النوع الذي ينبغي القضاءُ ببطلانهِ، لأن الرضى المعتبرَ شرعًا، وطيبةَ النَّفسِ مفقودانِ، وللنساء من هذه الأمور عجائبُ وغرائبُ تمنعُ المتديِّنَ أن يجزِمَ عليهنَّ بأمرٍ بمجرَّد أصالةِ صِحَّةِ التصرفِ، وكثيرًا ما ترى المرأة إذا كلَّمها القريبُ بكلمة حسنةٍ، وأظْهَرَ لها أدنى محبةٍ كانت في تلك الحالة طيبةَ النفسِ بأن تصيرَ إليه جميعُ ما تملكُه وإن كان بآلاف مؤلفةٍ، وإذا أظهر لها أدنى خشونةٍ، وأبدى لها بعضَ الميلِ عنها كانت أشدَّ الناسِ عداوةً له وبغضًا، وربما تمنَّتْ حالَ فورةِ غضبها نزولَ العظائم به التي لو نزلَ عليه بعضُها في تلك الحالِ وهي ثائرةَ الغضب [4أ] لعادتْ باكيةً عليه.
وقد أرشدَ الصادقُ المصدوقُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ إلى هذا الأمرِ من خُلُقِ النساء، فأخبرنا أنَّ الواحدَ منَّا لو أحسن إلى إحداهنَّ الأيامَ المتطاولةَ، ثم لم يحسنْ إليها(8/4028)
في وقت من الأوقات لقالتْ: ما رأيتُ منك خيرًا قط، كما ثبت في الحديث الصحيحِ (1): ما ذاك إلاَّ أنَّ النساء يَعْتَبِرْنَ الوقت الذي هنَّ فيه، ولا يفكِّرْنَ في العواقب، ولا يحفظن العهود السالفةَ. وقليلاً ما تجدُ المرأةَ تعملُ على خلاف ذلك، فإذا كان الأعمُّ الأغلبُ من حالِ النساء هو ما أسلفنا، ووقوعُ خلافِه منهنَّ في حيِّز النُّدْرةِ، فينبغي عند التردُّدِ الرجوعُ إلى ما هو الأعمُّ الأغلبُ، ولا يتحوَّلُ عنه إلاَّ بدليل، لأنَّ المصير إلى النادر، وهَجْرُ الكثيرِ الغالبِ خروجٌ عن قوانين الاستدلالِ.
هذا ما يظهر لي، والله أعلمُ. (2).
حرره المجيبُ محمدَ بن علي الشوكاني في شهر جُمَادى الأُولى سنةَ 1208 [4ب].
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (4/ 885) من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيه " ... تصدَّقنَ، فإنَّ أكثركنَّ حطب جهنم" فقامت امرأةٌ من سطة النِّساء سفعاءُ الخدَّين، فقالت: لِم يا رسول الله؟ قال: "لأنكنَّ تُكثرنَ الشكاة، وتكفُرنَ العشير ".
(2) في الحاشية للمخطوط ما نصُّهُ:
"تحصَّلَ مما حرره الإمام الحُجَّةُ المجيبُ ـ دامت إفادته ـ تأييدُ ما أجاب به عالم كوكبانَ، وترجيحُ كلام السيد الحسين، وإن كان يتراءى في أول الكلام السالف على كلام الحسين، فقد أغرقَه في بحار الغلطِ بما يفحمُه في غضون الأبحاثِ المسددة ـ زاده الله كمالاً وجمالاً ورفعةً وجلالاً ـ.(8/4029)
(130) 16/ 1
عقود الزبرجد في جِيْد مَسَائِل عَلامةِ ضَمَدْ
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقته وعلَّقت عليه وخرَّجت أحاديثه
محفوظة بنت علي شرف الدين
أم الحسن(8/4031)
1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "عقود الزبرجد في جيد مسائل علامة ضَمَد".
2 - موضوع الرسالة: "فقه".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وبعد: فإنّها وصلت إلينا سؤالات من الأخ العلامة المحقق أحمد بن عبد الله بن عبد العزيز بن أحمد الضّمدي ... ".
4 - آخر الرسالة: "فرغ من تحرير هذه الأجوبة حسب نقل المجيب والمؤلف القاضي البدر عز الدين والإسلام وعين أعيان العلماء الأعلام محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما وكان الجواب والتحرير في شهر رمضان الكريم سنة 1207.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 18 صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا ما عدا الصفحة الأولى فعدد أسطرها 8 أسطر.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(8/4033)
عقودُ الزَّبَرْجَد في جيد مسائلِ علاّمة ضَمَد (1).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله وحدهُ وصلاتُه وسلامُه على سيدنا محمدٍ وآله وبعد:
فإنها وصلت إلينا سؤالاتٌ من الأخ العلاّمة المحقق أحمد بن عبدا لله بن عبد العزيز بن أحمد الضَّمدي (2)، وسنذكرُ ههنا كلَّ سؤالٍ ونذكرُ جوابَه بعده.
قال حفظه الله ما لفظه:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله ربّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على النبي الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين وبعد:
_________
(1) ضَمَد: قرية من تهامة الشامة في المخلاف السليماني إليها يُنسب بنو الضمدي الذين عرفوا بالعلم في هذه البلاد. "
معجم البلدان والقبائل اليمنية" لإبراهيم أحمد المقحفي (ص397).
(2) أحمد بن عبد الله الضمدي مولده في هجرة ضمد سنة 1174 ونشأ بها وحفظ بعض المتون المختصرة في فنون العلم وتفقه على علماء ضمد ولازم خاله القاضي عبد الرحمن بن حسن البهكلي ثم ارتحل في سنة 1197 إلى مدينة زبيد وأخذ عن الشيخ عبدا لله الخليل في النحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق.
وقد ترجم له الشوكاني في "البدر الطالع" رقم (44): فقال: وقرأ ببلده على من بها من أهل العلم، ثم ارتحل إلى صنعاء فأخذ عن جماعة من أكابر علمائها كشيخنا السيد عب القادر بن أحمد ..... وعاد إلى وطنه، وقد برع في الفقه والحديث والعربية، ثم بعد وصوله إلى بلده عكف عليه الطلبة من أهلها ورغبوا في فأخذوا عنه فنونًا من العلم وعظم شأنه هناك وصار المرجع إليه في التدريس والإفتاء في ضمد وغيرها كصبيا وأبي عريش ثم راتحل إلى صنعاء رحلة أخرى فقرأ عليَّ في "شرح الغاية" وسألني بمسائل عديدة أجبت عليها بجواب سمَّيته: "العقد المنضدَّ في جيد مسائل علامة ضمد" ثم عاد إلى بلاده.
مات رحمه الله سنة 1222هـ.
انظر: "نيل الوطر" (1/ 135 - 136 رقم 59)، "نفح العود" (ص230)، "البدر الطالع" رقم (44).(8/4037)
فهذه أسئلةٌ موجَّهة إلى مولانا وأخينا القاضي العلامة النِّحْرير الفهّامة بدر الإسلام، والقائد من كل فنٍّ بزمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني حفظه الله وأمته بحياته المسلمين آمين [1]:
ماذا يقول سيِّدي ... زينةُ أهل اليمنِ
في فِعْلِ أصحابٍ لنا ... يَرْوُون بعضَ السُّننِ
وعند ذكر المصطفى ... المُجتبى المؤتَمن
صلّى عليه ربُّنا ... والآلِ كلَّ الزمنِ
لا يُكْمِلون حقَّه ... في الخطِّ يا ذا الفِطَنِ
من بعد تحْريرٍ له ... فالرَّمزُ شأنُ المغتبنِ
هل قد روى هذا لنا ... أيُّ إمامٍ بَيِّنِ
غير الذي تعليله ... نقص البياض البيّن
فبيِّنوا الإذْنَ لنا ... في رمزه بالسُّنن
وتركُ رمزنا له ... مع لفظه بالألسُن
قد قاله ابنُ حنبلٍ ... حافظُ قولِ المَدَني (1)
انتهى السؤال. وبهذا الجواب بلفظه حفظه الله وكَلأَه بعين عنايتِه أجاب المجيب:
أقولُ: بعَد حَمْدِ مَن ... طوَّقَنا بالمِنَنِ
مُصَلِّيًا مسلّمًا ... على النبيِّ المَدَني
وآلِه وصحبِه ... حلاّلِ عُقْدِ المِحَنِ
لم يأتِ في الرَّمْز لنا ... على مرور الزمنِ
كيفيّةٌ نسلُكُها ... في واضحات السُّننِ
لأنه تواضُعٌ ... ما بين أهلِ الفِطَنِ
_________
(1) انظر: "ديوان الشوكاني" (ص353).(8/4038)
ما فيه تكليفٌ لنا ... ولا لزومُ سَننٍ
فأيُّ نقْشٍ ناقشٍ ... يعرِفُه مَن يعتني
يقومُ بالمقصود مِن ... بيانِ ما لمْ يَبِنِ
فذلك الرسمُ الذي ... عليه ذا الأمرُ بُني (1)
وكتب آخِرَ هذا الجواب اعتذارًا لما كان تحريرُه في شهر رمضانَ لفظُه:
مباحثُ من يحرِّرُها نهارًا ... بشهر الصومِ طائشةُ السّهام
فهذا يا ابنَ عبدِ الله حينٌ ... تَضِيقُ لديه دائرةُ الكلام
فَمُدّ على المعايب منك سِتْرا ... فسَتْرُ العَيبِ أخلاقُ الكِرام (2)
قد وقع من جماعة من المتأخرين الكلامُ على جواز اختصارِ الصلاةِ (3) على النبي صلى
_________
(1) انظر: "ديوان الشوكاني" (ص354).
(2) انظر: "ديوان الشوكاني" (ص354).
(3) قال صاحب "معجم المناهي اللفظية" (ص188 - 189): فطريق السلامة والمحبة والأجر والتوقير والكرامة لنبي هذه الأمة هو الصلاة والسلام عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذكره امتثالاً لأمر الله سبحانه، وهدي نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولهذا ينهى عن جميع الألفاظ والرموز للصلاة والسلام عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختصارًا منها: ص، صعم، صلعم، صلم، وصليو، صلع.
قال الأستاذ عبد القادر المغربي: وقد لاحظت في مخطوطة "النقلاء" أمورًا تدل على قدم المخطوطة واتصالها بالأولين من علمائنا. من ذلك أن جملة (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) التي تذكر عقب اسم سيدنا الرسول لا تكتب في المخطوطة إلاَّ مرموزًا إليها بحروف أربعة: الصاد (من صلى) واللام من (الله) والياء من (عليه) والواو من (وسلم) هكذا (صليوا) لا بكلمة صلعم كما نفعل نحن اليوم.
وقد رأيت في (رسائل إخوان الصفا) رمزًا للتصلية بحروف ثلاثة فقط وهي (صلع) متصلة من دون ميم. أمَّا (صلعم) فيظهر أنها اخترعت في حدود التسعمائة للهجرة. جاء في شرح ألفية العراقي في مصطلح الحديث عند قول الناظم: (واجتنب الرمز لها والحذفا).
أي: اجتنب الرمز للتصلية النبوية وحذف حرفٍ من حروفها وإنما أتت بها في النطق والتابة كلها. ثم ذكر شارحها الشيخ زكريا الأنصاري أن الشيخ (النووي) نقل إجماع من يعتد بهم على سنية الصلاة على النبي نطقًا وكتابة، إذن لا يكون من السنة أن يرمز إليها بحرف ما.
ثم ذكر الشيخ الأنصاري أن الكاتب الذي كان أول من رمز للتصلية بحروف (صلعم) قطعت يده والعياذ بالله تعالى، ولا يخفى أن الشيخ الأنصاري توفي في القرن العاشر للهجرة سنة 926هـ.
انظر: "ألفية الحديث" (ص33) للزين العراقي شرح (أحمد شاكر) "فتح المغيث" (2/ 163).(8/4039)
الله عليه وآله وسلم في نقش الكتابةِ إلى صورة لو وقع التلفُّظُ بحروفها المَزْبورةِ لم تكن صلاةً مُنتظِمَةً فمنهم من جوَّز ذلك ومنهم من مَنَعَه، ولم يذكُرْ أحدٌ لقوله مُستَنَدًا فلا نشتغِلُ بنقل كلامِهم فإنه مما لا ينتفِعُ به طالب الحقِّ. ولنتكلّم هاهنا على ذلك بما يلوحُ.
فنقول: أجمع المسلمون أن الصلاةَ على رسول الله التي تعبَّدَنا اللهُ بها في كتابه (1) وعلى لسان رسولِه هي اللفظَّيةُ، ومِن جُملة أفرادِها الصلاةُ عليه عند ذكْرِه يحتاج إلى دليل لأن التكاليفَ الشرعيةَ لا تثبتُ إلا بدليل، سواءٌ كانت واجبةً أو مندوبةً، والبراءةُ الأصليةُ مُستصحِبَةٌ في انتفاء كلِّ فرْدٍ من أفراد الأحكامِ التكلْيفية والوضْعية فلا يُنْتَقَلُ عنها إلا بعد انتهاضِ الناقِلِ بحيث يكون معلومًا أو مظنونًا لا بمجرد الشكِّ والتخْمين وسلوكِ طريقِ التحرِّي والأولوية [2]، وليس في كتاب الله جل جلالُه ما يدل على التكليف بذلك ولا في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قولاً ولا فِعْلاً ولا تقريرًا (2).
أما عدمُ القولِ فلِعَدم وُجْدانِه بعد البحْثِ (3)، وأما عدمُ الفعلِ فظاهرٌ لأنه صلى الله
_________
(1) لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
(2) تقدم تعريف ذلك كله.
(3) بل هناك حديث ضعيف:
أخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (1/ 270 رقم 564) وابن عدي في "الكامل" (3/ 1100) عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "من كتب عني علمًا فكتب معه صلاة عليَّ لم يزل في أجرٍ ما قرئ ذلك الكتاب".
وأورده ابن عرَّاق في "تنزيه الشريعة" (1/ 260 رقم 32) وقال: "فيه أبو داود النخعي ـ واسمه سليمان بن عمرو، قال عنه ابن عدي: اجتمعوا على أنّه يضع الحديث. تُعقِّب ـ أي: ابن الجوزي ـ بأنه لم ينفرد به، بل تابعه نصر بن باب، أخرجه الحاكم. قلت: نصر تركه جماعة ووثقه أحمد، وقال ابن عدي: يكتب حديثه والله أعلم".
انظر: "تدريب الراوي" للسيوطي (2/ 74 - 75).(8/4040)
عليه وآله وسلم كان أميًّا (1) لا يكتب (2)، وإن اتفق منه ذلك نادرًا فهو من باب إظهارِ المُعجزةِ كما ثبت في صحيح البخاريِّ (3) أن عليًّا لما امتنع من مَحْو اسمِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أخَذَه ومَحاه، وكتب اسمَه ولم يُنْقَل أنه كتب الصلاةَ عليه بعد كَتْبِ اسمِه، فربما كان في هذا الفعلِ مُتَمسَّكٌ لعدم التعبُّدِ بالكَتْبِ المذكورِ، وغن كان لا يصفو عن شُرْب كَدَر النِّزاعِ لأنه يمكن أن يقال: إن ذلك موطنٌ وقع فيه المنْعُ من كتب صورة لفظِ رسول فكيف يمحى، ويثبت ما هو أشدُّ على قلوب الكفار وهو الصلاةُ من الله، فيمكن أن يكون الحاملُ على ترك كتْب الصلاةِ هو هذا، أو غاية هذا إنْ سُلِّم عدمُ انتهاضِ
_________
(1) قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ... } [الأعراف: 157].
وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].
(2) قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48].
(3) رقم (2698) ومسلم رقم (90/ 1783).
عن أبي إسحاق، قال: "سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: لما صالح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل الحديبية كتب عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، بينهم كتابًا، فكتب: محمد رسول الله فقال المشركون: لا نكتب: محمدٌ رسول الله لو كنت رسول الله لم نقاتلك، فقال لعليِّ: "امحهُ" فقال عليّ: ما أنا بالذي أمحاهُ، فمحاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده، وصالحهم على أن يدخل هو وأصحابه ثلاثة أيام، ولا يدخلوها إلا بجلبَّان السلاح، فسألوه: ما جلّبانُ السلاح؟ فقال: "القراب بما فيه".
وفي رواية لمسلم رقم (92/ 1783): " ... فأمر عليًّا أن يمحاها فقال عليٌّ: لا. والله لا أمحاها. وكتب ـ يعني عليًّا: ابن عبد الله.(8/4041)
ترْكِه على الترْك لا الاحتجاجُ بفعله على المطلوب.
وأما تقريرُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فلم يُنْقل إلينا أن أحدًا من الصحابة كتب الصلاة عليه عند ذكْرِه واطلع على ذلك وقرَّره بل ربما كان الأمرُ بالعكس فإن اسمَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كان يُكْتَب في المكاتبات والمهادَنات والإقطاعات ولم يُنقل أن أحدًا من الكُتَّاب كتب فيها بعد اسمِه الصلاةَ عليه وقد اطّلع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ على ذلك الترْكِ وقرَّره ولم يُنْكِرْه فكان دليلاً على عدم التعبُّد بذلك، وهذا الاستدلالُ وإن كان غيرَ مُحتاجٍ إليه من جهة القائلِ بالعدم لأنه في مقام المنْعِ والاستدلالُ وظيفةُ المُدّعي للمشروعية لأنه أثبَتَ ما الأصل (1) والظاهرُ عدمُه، لكنه لا يخلو عن فائدة.
إذا تقرر هذا تبيّن للسائل كثّر الله فوائدَه عدمُ التعبُّدِ بكَتْب الصلاةِ عليه (2) صلى الله
_________
(1) هناك سقط لعله (زاد على الأصل).
(2) قال النووي: "ينبغي أن يحافظ على كتابة الصلاةوالتسليم على رسول الله عند ذكره، ولا يسأم من تكريره، فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك حرم حظًّا عظيمًا وما يكتبه فهو دعاء يثبته لا كلام يرويه، فلهذا لا يتقيد فيه بالرواية، ولا يقتصر على ما في الأصل إن كان ناقصًا، وهكذا الأمر في الثناء على الله تعالى كعز وجل وتبارك وتعالى وما أشبه هذا.
قلت: وكذا الترضي والترحم على الصحابة والعلماء وساير الأخيار، وإذا وجد شيء من ذلك قد جاءت الرواية بشيء منه كانت العناية بإثباته أكثر، ثم ليجتنب في كتب الصلاة نقصين:
أحدهما: نقصُها صورة بأن يرمز إليها بحرفين أو نحو ذلك.
الثاني: نقصها معنى بأن يكتب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير وسلم، أو يكتب عليه السلام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
انظر: "تدريب الراوي" (2/ 74 - 77)، "التبصرة والتذكرة" (2/ 128 - 133).
وقال أحمد محمد شاكر في شرحه لألفية السيوطي (ص151): " ... وذهب أحمد بن حنبل إلى أن الناسخ يتبع الأصل الذي ينسخ منه فإن كان فيه ذلك كتبه، وإلاَّ لم يكتبه، وفي كل الأحوال يتلفظ الكاتب بذلك حين الكتابة، فيصلي نطقًا وخطًّا إذا كانت في الأصل صلاة، ونطقًا فقط إذا لم تكن.
وهذا هو القول المختار عندي، محافظة على الأصول الصحيحة لكتب السنة وغيرها وكذلك اختاره في طبع آثار المتقدمين، وبه أعمل إن شاء الله".
وانظر: "الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث" (ص130).(8/4042)
عليه وآله وسلم عند ذكْرِه لا وجوبًا ولا ندْبًا لأنه حكمٌ شرعيٌّ لا يثبتُ إلا بدليل، ولا دليل.
ولو سُلّم أن الكَتْبَ أولى لأنه يكون من الإيقاظ للقارئ عند الغفْلةِ عن التلفظ بهذه السُّنةِ التي لا يَدَعُها إلا بخيل. كما أخرجه التِّرْمذِيُّ (1)، من حديث عليّ عليه السلام عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: حسنٌ صحيحٌ بلفظ: "البخيلُ من ذُكِرْتُ عنده فلم يُصلِّ عليّ ولا يَرْغَب عنها إلاَّ شقي" كما أخرجه الطبرانيُّ (2) من حديث جابر عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بلفظ: "شقيَ مَنْ ذُكِرتُ عنده فلم يُصَلِّ عليّ ولا يُحْرَمُ فضلَها إلا مُبعدٌ".
كما أخرجه الطبرانيُّ (3) عن كعب بنِ عُجْرةَ مرفوعًا بإسناد رجالُه ثقاتٌ كما قال العراقيُّ بلفظ: "إن جبريلَ قال: بَعُدَ من ذُكِرْتَ عنده فلم يُصَلّ عليك".
وأما ما أخرجه البزَّار (4) من حديث جابر. وفيه "رَغِمَ أنفُ من ذُكِرْتُ عنده فلم يصلّ عليّ"، ففي إسناده إسماعيلُ بنُ أبانَ ..................
_________
(1) في "السنن" رقم (3546) وقال: حديث حسن صحيح غريب.
قلت: وأخرجه أحمد في "المسند" (1/ 202) والحاكم في "المستدرك" (1/ 549) وابن حبان في صحيحه (رقم 2388 ـ موارد) والنسائي في "السنن الكبرى" كما في تحفة الأشراف (3/ 66).
قال ابن حجر في "الفتح" (11/ 168) "لا يقصرُ عن درجة الحسن".
وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.
(2) عزاه إليه الحافظ في "الفتح" (11/ 168).
(3) عزاه إليه الهيثمي في "المجمع" (9/ 166).
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/ 156 - 154) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
وأورده ابن قيم الجوزية في "جلاء الأفهام" ونقل تصحيح الحاكم وسكت عليه.
(4) لم أجده من حديث جابر(8/4043)
العنَويُّ (1) كذَّبه يحيى بنُ مَعين وغيرُه. فعلى هذا التسليم الوفي بذلك يحصُل برسم النقْشِ الكتابيِّ الذي له إشعارٌ بالصلاة على أي صِفَةٍ كان لأن النقوشَ [3] الكتابيّةَ بأسرها أمورٌ اصطلاحيةٌ فأيُّ صورةٍ منها جرَى عليها الاصطلاحُ وحصَل بها التفهيمُ جاز (2) الاكتفاءُ بها إذا كانت تلك الصورُ متساويةَ الأقدامِ في حصول الفهمِ عند وقوعِ نظرِ الناظرِ عليها، وإن كان في بعضها مَظِنَّةُ لَبْسٍ على بعض الناظرين وبعضُها لا يَلْتبس على أحد كان تأثيرُها لا لَبْسَ فيه أولى.
_________
(1) قال ابن عدي في "الكامل" (1/ 304): "عامة ما يرويه لا يتابع عليه إما إسنادًا وإما متنًا".
ومن الأحاديث التي تحث المسلم للصلاة على سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
1 - (منها) ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (70/ 408) والترمذي رقم (485) وأبو داود رقم (1530) والنسائي رقم (1296) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من صلَّى عليّ واحدةً صلى الله عليه عشرًا".
(ومنها) ما أخرجه النسائي رقم (1295) وأحمد (4/ 29، 30) والحاكم في "المستدرك" (2/ 420) وابن حبان رقم (2391 ـ موارد).
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
وهو حديث صحيح بشواهده.
عن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبيه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء ذات يومٍ والبِشرُ يُرى في وجهه، فقال: "إنَّه جاءني جبريل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أما يرضيك يا محمد أن لا يصلي عليك أحدٌ من أمتك إلا سلَّمت عليه عشرًا".
(ومنها): ما أخرجه النسائي رقم (1282) وأحمد (1/ 387، 441، 452) والدارمي (2/ 317) وابن حبان رقم (2393 ـ موارد) والحاكم في "المستدرك" (2/ 421) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وهو حديث صحيح.
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنّ لله ملائكةٌ سيَّاحين في الأرض يبلّغوني من أمتي السلام".
(2) انظر بداية الرسالة.(8/4044)
السؤال الثاني
قال السائل كثّر الله فوائده: كذلك في ركعتي التحيّة في الأوقات التي تُكْره النوافلُ فيها، هل الأَولى فعلُها أو ترْكُها؟
قال ابنُ دقيقِ العيد: لم يَجْزِم في شرح العُمدةِ (1) بما هو الحقُّ في المسألة وإنما ذكَر المعارضَةَ بين الأدلة. فلكم الفضلُ بإيضاح الحقِّ في المشروع، فإن النفسَ لم تزَل تتردَّدُ في الفعل والترْك.
الجواب
أقول: هذه المسألةُ م المضائق التي يتحيَّرُ عندها الفُحولُ من علماء الأصول، ولا يسَعُ المُنْصِفَ عند إمعان النظر فيها غيرُ التوقُّفِ. وبيانُ ذلك أن أحاديث الأمر بفعل التحية (2) تعُمُّ جميعَ الأزمانِ التي من جُملتها الأوقاتُ المكروهة، وأحاديثُ النّهي (3) عن
_________
(1) أي "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" (2/ 49، 50).
(2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (444) ومسلم رقم (714) وأبو داود رقم (467) والترمذي رقم (316) والنسائي (2/ 53) وابن ماجه رقم (1013) وأحمد (5/ 295).
عن أبي قتادة، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا دخل أحدكم المسجد، فليركع ركعتين قبل أن يجلس". -
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2097) ومسلم رقم (715): عن جابر بن عبد الله، قال: كان لي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دينٌ فقضاني وزادني ودخلت عليه المسجد، فقال لي: "صل ركعتين".
(3) أخرج مسلم رقم (293/ 831) وأحمد (4/ 152) وأبو داود رقم (3192) والترمذي (3/ 348 - 349 رقم 1030) وقال: حديث حسن صحيح والنسائي (1/ 275). وابن ماجه رقم (1519) والطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 151) والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 454).
عن عقبة بن عامر الجُهني قال: ثلاث ساعاتٍ كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهانا أن نصلِّي فيهنَّ أو نقبر فيهنَّ موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمي للغروب حتى تغرب.
- وأخرج ابن ماجه رقم (1252) وابن حبان في صحيحه رقم (1540) والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 455).
عن أبي هريرة قال: سأل صفوان بن المعطل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله: إني سائلك عن أمر أنت به عالمٌ، وأنا به جاهلٌ. قال: "وما هو؟ " قال: هل من ساعات الليل والنهار ساعةٌ تكره فيها الصلاة؟ قال: "نعم إذا صليت الصبح، فدع الصلاة حتى تطلُعَ الشمس، فإنها تطلع بقرني الشيطان، ثم صلّ فالصلاة محضورةً متقبَّلة حتى تستوي الشمس على رأسك كالرمح فإذا كانت على رأسك كالرمح فدع الصلاة، فإن تلك الساعة تُسجر فيها جهنم وتفتح فيها أبوابها، حتى تزيغ الشمس عن حاجبك الأيمن، فإذا زالت فالصلاة محضورةٌ متقبلةٌ حتى تصلي العصر ثم دع الصلاة تى تغيب الشمس" وهو حديث صحيح.
- وأخرج البخاري في صحيحه رقم (581) ومسلم رقم (286/ 826) وأحمد (1/ 50) وابن ماجه رقم (1250) وأبو يعلى في مسنده (1/ 146 رقم 20/ 159) عن ابن عباس قال: حدثني رجال ـ وأعجبهم إليّ عمر ـ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى على صلاةٍ بعد الغداةِ حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس.
- وأخرج البخاري في صحيحه رقم (586) ومسلم رقم (288/ 827) والنسائي (1/ 277 - 278) عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس".(8/4045)
الصلاة في أوقات مخصوصةٍ تعُمّ جميعَ الصلواتِ التي من جملتها صلاةُ التحية، فبين هذه الأحاديث عمومٌ وخصوصٌ من وجه يجتمع في مادة ويختص كلُّ واحدٍ منهما بمادة.
فالمادةُ التي تختصّ بها أحاديثُ التحيةِ هي الأوقاتُ التي لا كراهة فيها، والمادةُ التي تختص بها أحاديثُ النهي عن الصلاة هي الصلواتُ التي ليست بتحية ولا تعارُضَ في هاتين المادتين، إنما التعارضُ في مادة الاجتماعِ وهي فعلُ التحيةِ في الأوقات المنصوص على النهي عن الصلوات فيها، فأحاديثُ التحيةِ تدل على أنه يُشرَعُ فِعلُها فيها، وأحاديث النهي تدل على أنه لا يُشْرَع فعلُها فيها، وليس تخصيصُ أحدِ العمومين بالآخر أولى من تخيص الآخرِ به، فلم يبقَ إلا سُلوكُ طريقِ الترجيح (1) ولا سيبلَ إليه، لأن كلَّ
_________
(1) قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص907 - 908): ومن أعظم ما يحتاج إلى المرجحات الخارجة إذا تعارض عمومان بينهما عمومٌ وخصوصٌ من وجه وذلك كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها" مع نهيه عن الصلاة في الأوقات المكروهة فإنّ الأول عامٌّ في الأوقات خاصٌّ في الصلاة المقتضية.
والثاني عام في الصلاة خاصٌ في الأوقات، فإن علم المتقدِّم من العمومين والمتأخر منهما كان المتأخر ناسخًا عند من يقول: إن العامّ التأخر يسنخ الخاص المتقدّم وأما من لا يقول بذلك فإنه يعمل بالترجيح بينهما، وإن لم يعلم المتقدم منهما من المتأخر وجب الرجوع إلى الترجيح على القولين جميعًا بالمرجّحات المتقدمة.
وإذا استويا إسنادًا ومتنًا ودلالةً رجع إلى المرجحات الخارجة فإن لم يوجد مرجحٌ خارجيّ وتعارضا من كل وجه فعلى الخلاف المتقدم هل يخيَّرُ المجتهد في العمل بأحدهما أو يطرَحُهما ويرجع إلى دليل آخر إن وجد الذي فيه ذكر الوقت ولا وجه لذلك.
قال ابن دقيق العيد: هذه المسألة من مشكلات الأصول والمختار عند المتأخرين الوقف إلا بترجيح يقوم على أحد اللفظين بالنسبة إلى الآخر، وكأن مرادهم الترجيح العامّ الذي لا يخص مدلول العموم كالترجيح بكثرة الرواة وسائر الأمور الخارجة عن مدلول العموم.
ثم حكى عن الفاضل أبي سعيد محمد بن يحيى أنّه ينظر فيهما فإن دخل أحدهما تخصيصٌ مجمعٌ عليه فهو أولى بالتخصيص، وكذلك إذا كان أحدهما مقصودًا بالعموم رُجِّح على ما كان عمومه اتفاقيًا.
قال الزركشي في "البحر" (6/ 146): وهذا هو اللائق بتصرف الشافعي في أحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة فإنه قال: لما دخلها التخصيص بالإجماع في صلاة الجنازة ضعفت دلالتها فتقدم عليها أحاديث المقضية وتحية المسجد وغيرهما.
وانظر: "البحر المحيط" (6/ 145)، "الإحكام" للآمدي (4/ 284 - 173).(8/4046)
واحدٍ من العمومين في الصحيحين وبطرق متعدّدةٍ، وكلُّ واحدٍ منهما مشتملٌ على النهي أو النفي الذي في معناه فانتفى من هذه الحيثية الترجيحُ بصحّة المتْنِ والسندِ وتعدُّدِ الطرقِ والاشتمالِ على دليل الحصر. فإن أمكن الترجيحُ بغير ذلك فذاك.
وقد ذهب إلى التمسك بعموم أحاديثِ التحية الشافعيةُ (1)، وإلى التمسك بعموم أحاديثِ النهي الحنفيةُ (2) والليثُ والأوزاعيُّ، وكلا المذْهبين مشتمِلٌ على محض التحكُّمِ لِما عرفت.
_________
(1) انظر "المجموع" (4/ 170).
(2) انظر: "بدائع الصنائع" (1/ 295 - 296)، "المجموع" (4/ 171 - 173).(8/4047)
وقد احتجَّت الشافعيةُ على جواز فعلِ ذواتِ الأسباب في أوقات الكراهة بحديث أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ صلّى بعد العصر ركعتي الظهر (1)، وهو مع كونه أخصّ من الدعوى لا ينتهض للاحتجاج به على المطلوب، لِما ثبت عند أحمدَ (2) وغيرِه (3) أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لمّا قالت له أمّ سَلَمَة: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ [4] قال: لا ففي ذلك إشعارٌ بأن فعلَهما في ذلك الوقتِ مختصٌّ به (4) ولو سُلِّم عدمُ الاختصاص لَما كان في ذلك إلا جوازُ قضاء سنة الظهر لا جوازُ جميع ذوات الأسباب، فيقتصِرُ على ذلك.
فإن قيل: لم لا يُلْحق بقيةُ ذواتِ الأسبابِ بهاتين الركعتين ويُخصَّصُ عمومُ النهي بهذا القياس؟.
قلنا: بعد تسليمِ صحّةِ هذا القياس (5) يصلحُ للتخصيص عند من جوّز التخصيص به، ولكن الشأن فيما قدمنا من الدليل القاضي بالاختصاص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وحديثُ أمِّ سَلَمَة، وإن ضعّفه .................................
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (1233) ومسلم رقم (297/ 834) وأحمد (6/ 313) وأبو داود رقم (1273) وفيه: قال: "يابنة أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر وإنّه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين بعد الظهر فهما هاتان".
(2) في "المسند" (6/ 315).
(3) كابن حبان رقم (623 ـ موارد) وأبو يعلى في "مسنده" (12/ 457 رقم 150/ 7028) بإسناد صحيح.
وذكره الهيثمي في "المجمع" (2/ 223 - 224) وقال: قلت: هو في الصحيح خلا قولها: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال "لا" رواه أحمد، وابن حبان في صحيحه. ورجال أحمد رجال الصحيح.
(4) ودليله ما أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (593) ومسلم رقم (301/ 835) من حديث عائشة قالت: "وما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتيني في يومٍ بعد العصر إلاَّ صلى ركعتين".
(5) ذهب الجمهور إلى جواز التخصيص بالقياس وقال الرازي في المحصول (3/ 96) وهو قول أبي حنيفة والشافعيُّ ومالك وأبي الحسين البصري والأشعري وأبي هاشم أخيرًا.
انظر: "إرشاد الفحول" (ص525)، "المسودة" (ص119).(8/4048)
البيهقيُّ (1) فهو يؤيده ما أخرجه أبو داودَ (2) عن عائشةَ أنها قالت: كان يصلّي بعد العصرِ وينهى عنها.
نعم يُخَصَّصُ عمومُ النَّهي بحديث يزيدَ بن الأسود عند الخمسة (3) إلا ابن ماجه، قال: شهِدتُ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حَجَّتَه فصلّيتُ معه صلاةَ الصُّبْحِ في مسجد الخَيْف، فلما قضى صلاتَه انحرف فإذا هو برجلين في أُخرى القوم لم يُصلِّيا فقال: عَليَّ بهما، فجيء بهما ترعُدُ فرائصُهما فقال: ما منعَكُما أن تُصلِّيا، فقالا: يا رسول الله إنا كنا قد صلَّينا في رحالنا قال: فلا تفعلا، إذا صلّيتُما في رحالكهما ثم أتيتُما مسجد جماعةٍ فصلِّيا فإنها لكما نافلة".
ففي هذا دليل على جواز فعل هذه النافلة المخصوصةِ مع الجماعة بعد صلاة الصبح، ويلحق بهذا الوقت بعد العصر، لأنهما سيان في ذلك.
ولا يصحُّ إلحاقُ صلاة من دخل المسجد في ذلك الوقت وقد صلَّى، ولم يكن ثمَّ جماعةٌ بصلاته مع الجماعة، لظهور الفارق المانع مع الإلحاق، وهو أنَّ ترك الدخول مع الجماعة، والقعود عند قيام الصلاة، أمر منكر يتشنعه المطلع عليه، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجلين: أمسلمان أنتما؟ ".
ومن المخصصات لعموم النهي، حديث ابن عباس عند الدارقطني (4)، ..........................................
_________
(1) في "السنن الكبرى" (2/ 457) وهو حديث ضعيف.
(2) في "السنن" رقم (1280) ورجال إسناده ثقات، ولكن ابن إسحاق مدلس وقد عنعنه. فالحديث ضعيف والله أعلم.
(3) أخرجه أبو داود رقم (575) والنسائي (2/ 112 رقم 858) والترمذي رقم (219) وأحمد في "المسند" (4/ 160 - 161).
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وهو حديث صحيح.
(4) في "السنن" (1/ 425 رقم 10).(8/4049)
والطبراني (1)، وأبي نعيم في "تاريخ أصبهان" (2) والخطيب في تلخيصه (3)، قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "يا بني عبد المطلب، أو يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدًا يطوف بالبيت، ويصلي، فإنه لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس، إلاَّ عند هذا البيت، يطوفون ويصلون".
وهذا الحديث، وإن كان الحافظ في التلخيص (4) قال: إنَّه معلول فقد شهد له ما عند أهل السنن (5) وابن خزيمة (6) وابن حبان (7)، والدرقطني (8)، من حديث جبير بن مطعم، وقد وهم المجد ابن تيمية في المنتقى (9) فنسبه إلى مسلم، لأنَّه قال: رواه الجماعة كلهم إلاَّ البخاري.
_________
(1) في "الصغير" (1/ 55 رقم 55 ـ الروض الداني) وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 229) وقال: رواه الطبراني في الصغير وفيه سليم بن مسلم الخشاب وهو متروك.
(2) (2/ 273).
(3) عزاه إليه ابن حجر في "التلخيص" (1/ 190).
(4) (1/ 190)
(5) أبو داود رقم (1894) والنسائي (5/ 223 رقم 2924) وابن ماجه (1/ 398 رقم 1254) والترمذي (3/ 220 رقم 868) وقال: حديث حسن صحيح.
(6) في صحيحه (2/ 263 رقم 1280).
(7) في صحيحه (3/ 46 رقم 1550).
(8) في السنن (1/ 425 رقم 7، 8).
قلت: وأخرجه الدارمي (2/ 70) والبيهقي (2/ 461) وأحمد (4/ 80) والحاكم (1/ 448) وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، ووافقهما الألباني في "الإرواء" (2/ 239).
والخلاصة أن حديث جبير بن مطعم صحيح.
قلت: ليس المراد من هذا الحديث إباحة الصلاة في الأوقات المذكورة، بل هي نهي لبني عبد مناف من التعرض للمصلي في اي وقت شاء لما كانوا يزعمون لأنفسهم من السلطان على البيت وعلى زائريه، فهو حجر عليهم كف به أيديهم عن التعرض للناس.
(9) رقم (994) بتحقيقي.(8/4050)
ويشهد له أيضًا، ما عند الدارقطني (1) من حديث جابر، وما عند ابن عدي (2) من حديث أبي هريرة.
واعلم أن الإشكال الذي ذكرناه سابقًا، لا يخفى بتحية المسجد، بل هو كائنٌ في كل مكان دليلُه أعمُّ من أحاديث النهي من وجهٍ وأخصُّ من وجه كأحدايث [5] قضاءِ الفوائت (3) والصلاةِ على الجنائز (4) ............................
_________
(1) في "السنن" (1/ 424 رقم 3، 4).
(2) في "الكامل" (3/ 1225) في ترجمة سعيد بن أبي راشد، وقال ابن عدي: لا يتابع عليه.
(3) (منها): ما أخرجه البخاري رقم (597) ومسلم رقم (684) والترمذي رقم (178) وأحمد (3/ 269) وأبو داود رقم (442) والنسائي (1/ 293 رقم 613).
عن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من نسيَ صلاةً فليُصلِّ إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].
(ومنها) ما أخرجه مسلم رقم (680) والنسائي رقم (619) وابن ماجه رقم (697) وأبو داود رقم (435) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} " [طه: 14].
(ومنها): ما أخرجه أبو داود رقم (443) والبخاري رقم (3571 مطولاً ومسلم رقم (682): عن عمران بن حصين أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كان في مسير له فناموا عن صلاة الفجر فاستيقظوا بحرِّ الشمس، فارتفعوا قليلاً حتى استقلَّت الشمس، ثم أمر مؤذنًا فأذّن فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم أقام، ثم صلى الفجر".
(4) (منها) ما أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 229 رقم 20) عن محمد بن أبي حَرْمَلَة، مولى عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حُويطب، أنَّ زينب بنت أبي سلمةَ تُوفيَّت، وطارقٌ أمير المدينة. فأُتي بجنازتها بعد صلاة الصُّبح، فوضعتْ بالبقيع. قال: وكان طارقٌ يُغلِّسُ بالصُّبح.
قال ابن أبي حَرْملَة: فسمعتُ عبد الله بن عمر يقول لأهلها: إمَّا أن تصلّوا على جنازتكم الآن، وإمَّا أنْ تتركوها حتى ترتفع الشمس.
وإسناده صحيح.
(ومنها): ما أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 229 رقم 21): عن نافع ـ مولى ابن عمر ـ أن عبد الله بن عُمر قال: "يُصلِّي على الجنازة بعد العصر، وبعد الصبح إذا صلّيا لوقتهما".
إسناده صحيح.
وانظر: "فتح الباري" (3/ 190).(8/4051)
وصلاةِ الكسوفِ (1) والركعتين عقيب التطهُّر وصلاة الاستخارة.
وما ورد هذا المورِدَ فالوقْفُ فيه متعيِّنٌ حتى يقعَ الترْجيحُ بأمرٍ خارجٍ وينبغي بالنسبة إلى مسألة السؤالِ تجنُّبُ دخولِ المساجدِ في أوقات الكراهةِ لأن الأدلةَ الصحيحةَ قد دلَّتْ على وجوب فعل التحية وتحريمِ ترْكِها وقد بسطْنا الكلامَ على ذلك في رسالة مستقلَّة (2)، وأحاديثُ النهي دلّت على تحريم مطْلق الصلاةِ (3) في تلك الأوقات فالداخل فيها يقع في أحد المحذورَيْنِ لا مَحالة.
_________
(1) انظر الرسالة رقم (91).
(2) "الرد على القائل بوجوب التحية".
(3) ما اشتهر في كتب الفقه من المنع عن الصلاة بعد العصر مطلقًا، ولو كانت الشمس مرتفعة نقية، مخالف لحديث علي وحديث أنس وحجتهم في ذلك الأحاديث المعروفة المتقدمة في النهي عن الصلاة بعد العصر مطلقًا، غير أن الحديثين الآتيين يقيدانتلك الأحاديث: عن علي رضي الله عنه قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يُصلّى بعد العصر إلا أن تكون الشمس مرتفعة" وهو حديث صحيح.
أخرجه أبو داود رقم (1274) والنسائي رقم (573) وابن حبان رقم (1560) وابن خزيمة رقم (1284) وأبو يعلى رقم (581) وابن الجارود في "المنتقى" رقم (281) والبيهقي (2/ 458) وأحمد (1/ 129، 141).
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تصلُّوا عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها فإنها تطلع وتغرب على قرن شيطان، وصلُّوا بين ذلك ما شئتم".
أخرجه أبو عيلى في "مسنده" (7/ 220 رقم 1461/ 4216) بإسناد حسن من أجل أسامة بن زيد وهو الليثي.
ويشهد له الحديث المتقدم فهو حديث صحيح.(8/4052)
السؤال الثالث
قال: كذلك مسألة بيع الرجاء (1)، قد اختلفت فيها الأنطارُ فمِن قائلٍ بالصِّحَّة، ومِن قائل بِخلافه.
وهل المجيزُ والمُصحِّحُ لبيع الشيءِ بأكثرَ من سِعْر يومِه لأجل النَّسا يُصحِّحُه أم لا؟
فإن الإمامَ عزي الدين بنى على بطلانه مطلقًا، وعلَّله بوجْهين. فأوضِحوا ما ينبغي الاعتماد عليه.
وهل يُفرَّق بين أن يكون بالقيمة أو بدونها وبين أن يكونَ متوصِّلاً إلى العلة أم لا فإن هذه المسألة قد عمَّتْ بها البلوى فإنه لا يكاد يبيعُ أحدٌ من أرضه إلا بالتزامٍ مطلقٍ أو مؤقّتٍ انتهى.
الجواب
قال حفظه الله: أقول: بيعُ الرجاءِ (2) يقع على صُورٍ منها ما يُقْطَع ببُطلانه وهو ما كان المقصودُ منه التوصُّلَ إلى الزيادة على المِقْدار الذي وقع فيه الفرضُ وذلك نحوُ أن يُريدَ الرجلُ أن يستقرِضَ مائة درهم إلى أجل ولك نالمُقْرِض لا يرضى إلا بزيادة فيُريدان الخُلوص من إثم الزيادة في القَرْض، فيبيع منه أرضًا بتلك المائة الدِّرْهم ويجعلُ له الغَلَّة ينتفع بها عِوَضًا عن المائة الت يأقرضها، وليس المرادُ البيعَ والشراءَ الذي أذِنَ اللهُ فيه، بل إنكارُها لأنها أفضَتْ إلى ما لا يحِلّ شرعًا وهو الرِّبْحُ في القرض واستجلابُ النفْعِ به، وقد منع رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِن قَبول الهديّة ونحوها من المُستقرِض فكيف بمثل هذا الذي وقع به التواطؤُ من أول وهْلة!
_________
(1) انظر الرسالة رقم (115).
(2) الرجاء: وهو بيع الشيء بالتأخير.
انظر: "التوقيف على مهمات التعاريف "للمناوي (ص698)، "القاموس الفقهي" (ص351).(8/4053)
أخرجه ابن ماجه (1) عن أنسٍ أنه سُئل عن الرجل يُقرض أخاه المالَ فيُهدي إليه فقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إذا أقرض أحدكم قرضًا فأَهْدى إليه أو حمَلَه على الدَّابة فلا يركَبها، ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك".
وأخرج البخاريُّ في تاريخه (2) [6] من حديث أنسٍ أيضًا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا أقْرَض فلا يأخُذ هدية" رواه البخاري في تاريخه.
وعن أبي بَرْدَةَ بن أبي موسى قال: قدِمتُ المدينة فلقيتُ عبدَ الله بن سلام فقال لي إنك بأرض فيها الرِّبا فاشٍ فإذا كان لك على رجل حقٌّ فأهدَى إليك حِمْلَ تِبْنٍ أو حِمْلَ شعيرٍ أو حِمْلَ قتٍّ فلا تأخُذْه فإنه ربا. رواه البخاري في صحيحه (3)
ولا يعارِضُ هذا ما ورد في جواز ما وقع من المُسْتقرِض من الزيادة بعد القضاء بطيبةٍ من نفسه بلا مُواطأةٍ ولا يطمع في التنفيس في الأجل أو التالفِ أو نحوِ ذلك كما أخرجه
_________
(1) في "السنن" رقم (2432) وفي إسناده يحيى بن إسحاق الهُنائي وهو مجهول.
"التقريب" (2/ 342 رقم 13).
وفي إسناده أيضًا عتبة بن حميد الضبي وقد ضعفه أحمد.
"الميزان" (3/ 28 رقم 5470).
والراوي عنه إسماعيل بن عياش وهو أيضًا ضعيف في غير الشاميين وشيخه الضبي كوفي.
"التقريب" (1/ 73 رقم 541).
انظر: "مصباح الزجاجة" (2/ 48 رقم 860).
والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم.
(2) لم أجده في التاريخ.
(3) رقم (3814).
قال الحافظ في "الفتح" (7/ 131): "قَتّ: بفتح القاف وتشديد المثناة وهو علف الدواب. قوله (فإنّه ربا) يحتمل أن يكون ذلك رأي عبد الله بن سلام، وإلا فالفقهاء على أنه إنما يكون ربا إذا شرطه، نِعمَ الورعُ تركه".(8/4054)
الشيخان (1) من حديث أبي هريرة قال: كان لرجل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سِنٌّ من الإبل فجاءه يتقاضاه، فقال النبيُّ: "أعطوه" فطلبوا سِنَّه فلم يجدوا إلا سنًّا فوقَها فقال: "أعطوه" فقال: "أوفَيْتَني أوفاك الله فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إن خيرَكم أحسنُكم قضاءً" وما أخرجه أيضًا الشيخان (2) من حديث جابر قال: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وكان لي عليه دَيْنٌ، فقضاني وزادني.
وأما ما أخرجه الحارثُ بنُ أبي أُسامةَ في مسنده (3) من حديث عليّ عليه السلام قال: نهى رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عن قَرضٍ جرَّ منفعةً. ففي إسناده سوّارُ بنُ مصعب، وهو متروكٌ (4) ورواه البيهقيُّ (5) عن فُضالة بن عبيد موقوفًا بلفظ "كل قرضٍ جرَّمنفعةً فهو وجهٌ من وجوه الربا" ورواه أيضًا في سننه الكبرى (6) من قول ابن مسعود وأُبيّ بن كعب وعبدِ الله بن سلام بن عباس ولم يصِحَّ في ذلك عن النبي شيء كما قال عمرُ بنُ زيدٍ في المُغني (7). ووهِم إمامُ الحرمين (8) فقال إنه صحَّ وتبعَه الغزاليُّ (9) ولا جَرَمَ فليس لهما بعلم الرواية خبرة، فإذا كان المقصودُ بالبيع هو ما قدّمنا فلا صِحَّة له
_________
(1) البخاري رقم (2305) ومسلم رقم (1601) وقد تقدم.
(2) البخاري رقم (2394) ومسلم رقم (71/ 715).
(3) عزاه إليه ابن حجر في "التلخص" (3/ 34).
(4) انظر: "الميزان" (2/ 246)، "الجرح والتعديل" (3/ 34).
(5) في "السنن الكبرى" (5/ 350).
(6) (5/ 349 - 350).
(7) اسمه الكامل "المغني عن الحفظ والكتاب" وقد قام بخدمة هذا الكتاب الشيخ أبو إسحاق الحوين الأثري مرتين.
في المرة الأولى سماه "فصل الخطاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب"
وفي المرة الثانية سماه "جنة المرتاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب" (2/ 403 رقم 56).
(8) تقدمت ترجمته.
(9) تقدمت ترجمته.(8/4055)
لأنه لم يقع التراضي بين المُتابعَيْن الذي شرطه الله عز وجل لعدم الانسلاخ، وإنما أراد حيلةَ يُحِلان بها ما حرّم الله فيُضرَب بها في وجوههما ويُحْكم ببُطلان البيعِ، وتُرَدّ الغَلاّتُ المَقْبوضةُ ويُرد الثمن بصفته بلا زيادة ولا نُقصان.
ومنا لصور التي يقع عليها بيعُ الرّجا أني بيع الرجلُ من الرجل قاصدًا للبيع منسلخًا عن المبيع غيرَ متحيِّلٍ محرّم إلا أنه جعل لنفسه الخيارَ وإن تمكن من ردّ الثمن إلى وقت كذا فهذا بيعٌ مصحوبٌ بخيار شرطٍ (1) ولا بأس فيه، ولا تحري في هذا ما قال الإمامُ عزُّ الدين أن يَقَع الرجا مؤقّتًا في الحقيقة لأن البائع إذا ردّ مثل الثمنِ استرجعه رضي المشتري أم كرِه، لأنا نقول هذا شأنُ خيار الشرط الذي ينفرد به البائعُ وهذا منه كما صرح بذلك المحققون وهو لا يلتزم بُطلان كلّ بيع شرَطَ فيه الخيارَ البائعُ وقد [7] دلت الأدلّةُ على صِحّة الذي يتفرّق البائعان وبينهم صفقةُ خِيار.
وأما قولُكم: هل المجيزُ لبيع الشيءِ إلخ.
فنقول: قد رُوي عن المؤيَّد بالله (2) القولُ بجواز بيعِ الرَّجا على الصورة المتقدِّمة تخْريجًا له من تجويز بيعِ الشيءِ بأكثر من سعر يومِه لأجل النَّسا هو الجوازُ كما حقَّقْنا ذلك في رسالة مستقلَّة (3).
وأما قولُكم: هل يُفرَّق بين كونِه بالقيمة أو بدونها فنقول: لا فَرْقَ باعتبار الصورة الأولى لأن الكلّ باطلٌ لتلك العِلَّة، وكونُه بالقيمة لا يرفع البُطلان.
وأما باعتبار الصورة الثانية ففائدتُه أنها إذا انقضت المُدَّةُ ونَجزَ البيعُ وادّعى البائعُ أنه إنما باع بذلك الثمنِ الدُّونِ لرجاء عَودِ المبيعِ إليه ووجدْنا قيمةَ المبيعِ أزيدَ من الثمن فهل يستحِقُّ التَوْفِيةَ أم لا؟.
_________
(1) انظر الرسالة رقم (110).
(2) تقدمت ترجمته.
(3) رقم (114) وانظر الرسالة رقم (115).(8/4056)
الظاهرُ أنه يستحِقُّها لأن الرضا الذي شَرَطَه الله في حل التبايُع لا يحصل إلا بذلك إن ظهر لنا صدْقُ دَعْواه لأن ذلك يكشف عن عدم الرضا المُعتَبر، وأما مجرَّدُ التعلُّلِ والتَّمحّلِ وإظهار الدعاوي الباطلة تأسُّفًا على مُفارقة المَبيع ونَدمًا على خروجه من المُلْك فلا يُلْتَفتُ إلى شيء من ذلك.(8/4057)
السؤال الرابع
قال: كذلك إذا اشتهر عند النساء أن فلانة رضيعة لفلان ولم يحصل معه الظن الراجح بل حصل التردد فهل يحرم عليه نكاحها ويكون الحكم كما في خبر الأمة السوداء الثابت في الصحيح (1)، إلا أن المرأة قد زعمت أن قد أرضعتهما، وأما هؤلاء النساء فإنما هو رجم بالغيب انتهى.
الجواب
قال حفظه الله أقول: ينبغي أني ينظر في تلك الشهرة الكائنة عند النساء بالرضاع: إلى أي أمر تستند؟ فإن أمكن الوقوف على مستندها عمل على حبسه، وإن لم يكن الوقوف على مستندها فلا ينبغي الاشتغال بهاولا التعويل عليها فإن كثيرًا من الاشتهارات لا مستند لها إلا مجرد الكذب والتخيلات الفاسدة، لا سيما الناقصات عقلا ودينا (2)،
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (5104) ومسلم رقم (3603) والترمذي رقم (1151) والنسائي (6/ 109) وأحمد (4/ 7) والدارمي (2/ 157 - 158) والطيالسي في مسنده (ص190 رقم 1337) والبيهقي (7/ 463).
عن عقبة بن الحارث، قال وقد سمعته من عقبة لكني لحديث عبيد أحفظ قال: تزوجت امرأة، فجاءتنا امرأة سوداء فقالت: أرضعتكما، فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: تزوجت فلانة بن فلان فجاءت امرأة سوداء. فقالت لي: إني أرضعتكما. وهي كاذبة، فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه. قلت: إنها كاذبة. قال كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما، دعها عنك" وأشار إسماعيل بن إبراهيم بإصبعيه السبابة والوسطى يحكي أيوب.
(2) أخرج مسلم في صحيحه رقم (132/ 79). عن ابن عمر قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أضحى أو في فطر ـ إلى المصلى فمر على النساء فقال: "يا معشر النساء تصدقن، فإني أريتكم أكثر أهل النار" فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن" قلنا: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل" قلت: بلى قال: "فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى قال: فذلك من نقصان دينها".(8/4058)
فإنه يَنْفُقُ على عقولهن من الأكاذيب ما لا ينْفقُ على غيرهن.
نعم إذا وقع الإخبارُ مِن عدْلة بأ، ها أرضعَتْ فلانًا وفلانةً أو نحوُ ذلك وجب العمل بهذا الخبر لحديث عُقْبَة بن الحارث عند البخاري (1) أنه تزوَّج أمّ يحيى بنت أبي إهاب فجاءت امرأةٌ فقالت: قد أرضعتُكما، فسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فقال: كيف وقد قيل! ففارقَها عُقبةُ ونكحَتْ زوجًا غيرَه وفي هذا خلافٌ (2) بين الصحابة فمَن بَعدَهم، ولكن الحقَّ أن هذا احلديث الصحيح يخصِّصُ عمومَ الأدلة القاضية باعتبار الشاهِدَين كما خصَّصها عند أكثر المخالفين قَبولُ شهادة المرأة (3) في عورات النساء.
وحملُ هذا الحديث على الاستحباب والتحرُّزِ عن مظانّ الاشتباه يرُدّه ـ مع كونه في بعض الروايات، وهو يُجيبُه فيجميع ذلك بقوله: كيف وقد قيل: وفي بعضها دعْهَا. وفي رواية للدارقطني (4): لا خيرَ لك فيها ولو كان من باب الاحتياط لأمره بالطلاق.
وربما يعتذر من قُصر باعُه عن إدراك الحقائق عن عُهدة هذا الحديث بالقاعدة المعروفة في الفقه وهي عدم قبول الشهادة المقررة لقول الشاهد أو فِعْلِهِ، وهي عند من له إلمامٌ بالبحث والكشفِ مَبْنيةٌ على غير أساس، ترُدُّها أدلةُ هذا الحديث.
_________
(1) تقدم آنفًا.
(2) قال ابن قدامة في "المغني" (14/ 134 - 135): لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في قبول شهادة النِّساء المنفردات في الجملة. قال القاضي: والذي تُقبل فيه شهادتُهنَّ منفردات خمسة أشياء؛ الولادة، والاستهلال، والرّضاع. والعيوب تحت الثِّياب كالرَّتق والقرن والبكارة الثيابة والبرص وانقضاء العدّة. وعن أبي حنيفة: لا تقبل شهادتهن منفردات على الرّضاع لأنّه يجوز أن يطلّع عليه محارم المرأة من الرِّجال. فلم يثبت بالنّساء مفردات كالنِّكاح.
(3) انظر "المغني" (14/ 134 - 137).
(4) في "السنن" (4/ 177 رقم 19).(8/4059)
أحدُها: تقييد القَبول لخبر المرأة بإفادته الظنَّ للزوج فيرُدُّه تركُه [8] صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لاستفصال عقبة بن الحارث في هذه الواقعة فإنه لم يقل له هل أفادك هذا الخبر ظنًّا؟ ولو كان ذلك معتبرًا لبيَّنة له لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز عليه، حتى قيل أنه مُجْمعٌ عليه (1)، على أن حصول الظنّ لازمٌ لإخبار الآحاد (2)، وانفكاك الملازمة لا يكون إلا لعلة في أصل الخبر أو المُخْبر.
وأما اعتذار الجلال في "ضوء النهار" (3) عن هذا الحديثِ بأنه مخالفٌ للأصول فيجب الجمعُ بينه وبينها بحمله على الندْب.
فنقول له: ما تريد بالأصول؟ هل الأدلةُ الدالةُ على اشتراط شاهدَين أو رجلٍ وامرأتين أو رجلٍ ويمينِ المدّعي فلا معارضة بينها وبين هذا الحديث لأنه خاصٌّ وهي عامةٌ. أو تريد بالأصول غيرَ ذلك فما هو؟
وكثيرًا ما يشتهر بين النساء ما لا يُجوِّزه عقْلٌ ولا نقلٌ، ولقد وقع في صنعاء مع
_________
(1) قال ابن السَّمعانِّي: لا خلاف بين الأمة في امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى الفعل ولا خلاف في جوازه إلى وقت الفعل لأن المكلف قد يؤخر النظر وقد يخطئ إذا نظر فهذان الضربان لا خلاف فيهما. "
البحر المحيط" (3/ 494)، "اللمع" (ص29)، "تيسير التحرير" (3/ 174).
(2) قال الشوكاني في "السيل الجرار" (2/ 521): " ... قد تعبدنا الله سبحانه بالعمل بالظنّ ولا سيما في مثل النكاح الذي يترتب عليه الخطر العظيم من اسحلال فرج حرّمه الله. ولحوق نسبٍ بغير من هو له. وقد ثبت التعبد بالعمل بأخبار الآحاد وهي لا تفيد إلا الظنّ ولا وجه لتقييد الظنّ هنا بالغياب بل يجب العمل بكل ظن يصدق عليه مسمى الظنّ إذا لم يكن مجرد شكوك ووسوسة ومقتضى العمل بالظن هو إخبار الزوج المُقِرّ بحصول الظنّ له ".
(3) (3/ 113). وقال الشوكاني في "السيل الجرار" (2/ 512): تعقيبًا على حديث عقبة بن الحارث: "وهذا النهي والأمر يدلان أوضح دلالة على وجوب العمل بقول المرضعة، ولم يصب من تكلف لرد هذه السنة بما لا يسمن ولا يغني من جوع".(8/4060)
نسائها في بعض السنين القريبة قضيةٌ غريبةٌ هي أنه شاع عندهُنّ شيوعًا لا يكاد يخفى على أن القيامةَ ستقوم يوم الجُمعة من الأسبوع الفلاني، ثم إنهن ذلك اليومَ بادَرْن بالغداة في أول اليوم ولبس كثيرٌ منهن ثيابَ الزِّينة وانتظرن لقيام القيامة، وشاهدْنا من ذلك ما يُتعجَّب منه، وأخبرنا جماعةٌ من الرجال عن نسائهم بغرائبَ وقعتْ في ذلك اليوم، فكيف يثبُت بالشُّهرة عند طائفةٍ منهن حكمٌ شرعيٌّ ويُفَرَّقُ بين زوجَين وبرفع نكاحٍ صحيحٍ بمجرّد ذلك؟.(8/4061)