عن التحرك، وأنه بمنزلة قولك: لا تتحرك، وأنه المفهوم أم المتبادر. وكذلك قولهم: قم فإنهم قضوا بأنه في قوة لا تقعد، وصم اليوم في معنى لا تفطر، ونحو ذلك من العبارات. والذي ظهر لي بعد التأمل أن الحجج العقلية مقبولة، ولكنه ورد في الكتاب العزيز آيتان مبينتان عن تسمية الأمر نهيًا.
(أما الأولى): فقول الله- عز وجل- في سياق مخاطبة يوسف- عليه السلام- لصاحبي السجن: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه} (1).
_________
(1) [يوسف: 39 - 40].(5/2378)
(والآية الثانية): قول الله- عز وجل- في مجادلة قوم شعيب له، واستهزائهم به: {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} (1) [يوسف: 40].% فجعل مسمى هذا الأمر هو النهي الذي تعلق به، وهو قوله: «ألا تعبدوا» إلخ. فلو قال قائل عند سماع «أمر» ما الذي أمر به في الآية؟ لما كان الجواب عليه إلا بأن الأمر هو: {ألا تعبدوا إلا إياه} ولا شك أن قوله: {ألا تعبدوا} نهي صريح عن عبادة غير الله.
قيل في الاعتراض: هل هذا الكلام الذي يريده الأصوليون هو اللفظ الإنشائي الطلبي كما قال السيد لعلامة الحسين بن قاسم- رحمه الله- في حده لفظ: الأمر حقيقة (2) قال صاحب «الكوكب المنير» (3/ 5): فالأمر لا يعنى به مسماه، كما هو المتعارف في الأخبار عن الألفاظ: أن يلفظ بها، والمراد مسمياتها بل لفظة الأمر هي: (أ م ر) كما يقال: زيد مبتدأ وضرب: فعل ماض وفي حرف جر، ولهذا قلنا: إنه حقيقة في القول المخصوص وهذا بالاتفاق.
انظر: «تيسير التحرير» (1/ 336)، «نهاية السول» (2/ 6).% «أ م ر» هو اللفظ الطلبي من اضرب واقتل وادخل واخرج ونحوه. وأين ما جاء لنا من أمر الشارع فليس المراد سوى ذلك، فإذا قيل أمر رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بأمر لم نفهم إلا ذلك الأمر الطلبي، أو قيل:
_________
(1) [هود: 87].%. فقيل لي: ما المراد من ذلك؟ قلت: لما قال «أمر» علمنا أن ثمة هناك أمرًا لا بد أن يصرح به، ويشير إليه إذ هو مقام حجاجهم الباطل، ودعواهم أن الآلهة تعبد فنبههم على الصواب فقال: {أمر ألا تعبدوا إلا إياه}.
(2) تقدم ذكره.% في القول الإنشائي الدال على طلب الفعل: الاستعلاء، وأجبت: بأنه لا محيص من ما ذكرت، وتقرير الكلام هو أن الله تعالى قد صدر منه أمر بمقتضى الآية، والأمر لديكم هو ما ذكرتم، وأن مسمى(5/2379)
أمر الله بشيء لم نفهم إلا ذلك قطعًا يعلمه كل أحد، وفي تصور ذلك الأمر بمدعانا نهي عن الضد. والشارع- سبحانه- قد أمر [2]، والأمر منه- سبحانه- في مقام العبادات هو الطلب منا فقال: {ألا تعبدوا}. وهذا أمره- سبحانه وتعالى- ورد بلفظ النهي.
قالوا: الأمر لفظ مشترك بين أفراد متعددة. وهو أيضًا هنا تفسير للحكم الذي ساقه- تعالى- فقال: {إن الحكم إلا لله} وفسر بأنه أمر. والجواب أن أحكام الله- تعالى- لا تخلو إما أن تكون أوامر أو نواهي. والحكم هاهنا قد فسر بأنه أمر لا نهي، وإلا لقال: {إن الحكم إلا لله} نهي {ألا تعبدوا إلا إياه} وأيضًا يحمل المشترك على جميع معانيه إن احتملها وإلا حمل على ما قامت القرينة عليه. ولا يصح أن يحمل هنا على جميعها، فتوجه المصير إلى ما قامت القرينة عليه (1) [النحل: 90].% {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} (2) [طه: 132].
وقال صاحب «الكوكب» (3/ 66 - 67) تعليقًا على هذه الآية وأمر من الشارع (بأمر) لآخر لشيء ليس أمرًا به قال تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة} لأنه مبلغ لا آمر ولأنه لو كان آمرًا لكل قول القائل؛ مر عبدك بكذا ...
وقال القرافي في «تنقيح الفصول» (ص 149): «لأن الأمر بالأمر لا يكون أمرًا، لكن علم من الشريعة أن كل من أمره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأمر غيره، فإنما هو على سبيل التبليغ، ومتى كان على سبيل التبليغ صار الثالث مأمورًا إجماعًا».%
_________
(1) انظر: «تيسير التحرير» (1/ 336)، «نهاية السول» (2/ 6).%، والقرينة الشائعة في السان المتشرعة هي أن الأمر حقيقة في الطلب من الله- سبحانه- قالوا: هو هنا لفظ خبري، وذلك أن يوسف- عليه السلام- أخبر أن الله أمر.
قلنا: لا شك هو لفظ خبري، لكن المراد به الإخبار عن ما أنشأه من الطلب، والذي أنشأه هنا هو قوله: {ألا تعبدوا إلا إياه} وهو نهي صريح، وكلما جاءنا من هذه الآيات كقوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}
(2) [البقرة: 67].% {وأمر أهلك بالصلاة}(5/2380)
{وأمر بالمعروف} (1) أي الزمخشري في «الكشاف» (3/ 500).%- قدس الله روحه- فإنه قال في قوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} (2) أي الزمخشري في «الكشاف» (3/ 500)، وتمام كلامه» ... وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه، وهو كلام مستفيض، ويقال أمرته فقام، وأمرته، فقرأ لا يفهم منها إلا أن المأمور به قيام أو قراءة ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب، ولا يلزم على هذا قولهم: أمرته فعصاني، أو فلم يتمثل أمري؛ لأن ذلك مناف للأمر مناقض له، ولا يكون ما يناقض الأمر مأمورًا به، فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتى يجعل دالاً على المأمور به فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي؛ لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأمورًا، وكأنه يقول، كان مني أمر فلم تكن منه طاعة، كما أن من يقول فلان يعطي ويمنع ويأمر وينهي، غير قاصد إلى مفعول به.% كلامًا يدل على عدم التقدير في الآية التي أوردنا كلامه
_________
(1) [لقمان: 17].% ليس المراد منه هذا الإخبار، إلا أنه قد حصل الطلب للعدل والذبح والصلاة والمعروف، لا شك في هذا. وقد نبه على ذلك إمام اللغة والمقدم فيها جار الله.
(2) [الإسراء: 16].% ما لفظه: «والأمر مجاز؛ لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، وهذا لا يكون» ا هـ. فعرفت من كلامه أن اللفظ الخبري الوارد بلفظ: {أمرنا مترفيها} حقيقة في اللفظ الطلبي؛ أي قولنا لهم: افسقوا، ولكنه منع مانع في هذه الآية التي تكلم عليها، وهو أن الله- سبحانه- لا يأمر بالفسق. فاحتيج إلى المجاز لتنزيه الباري- سبحانه- على أنها لم تعم هنا إلا الدلالة العقلية الصارفة للأمر بالفسق عن الحقيقة.
قالوا: الآية المتنازع فيها المعنى فيها ظاهر؛ لأن المراد من قوله: {أمر ألا تعبدوا} أنه أمر بالعبادة، والأمر بالعبادة هو قوله اعبدوني، فهو مصدر، والجواب أنه قد ذكر العلامة في كشافه(5/2381)
فيها، فقال في قوله تعالى: {أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} (1) تقدم التعليق عليه.% فنقل آخره له (2) [هود: 87].% مسلك عجيب، وتقريره أن الأمر كما عرفناك فيما سلف حقيقة في اللفظ الطلبي، وإن ورد بلفظ خبري فهو- سبحانه- قد نبه على أنهم استنكروا على شعيب مستهزئين به حيث جاءهم بشيء يأمرهم بترك العبادة للأصنام، والنهي في اصطلاح القوم هو القول الإنشائي الدال على طلب ترك
_________
(1) [الإسراء: 16].% ما لفظه: فإن قلت: هلَّا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا. قلت: لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز، فكيف بحذف ما الدليل قائم على نقيضه، وسار كلامًا بديعًا.
(2) في المخطوط (وفنقلة آخره لها) والصواب ما أثبتناه.% إلمام بما نحن فيه، وذكر أن الله يأمر بالقسط فكيف يقال [3] أنه أمر بالفسق! ورد على من قدر لقيام الآيات، وانتصر بأن ذلك هو الظاهر من مساق لغة العرب، مع أن الآيات كانت في كلامه صالحة لصرف المعنى عن الأمر بالفسق، فلذا عدل إلى المجاز، ولم يصر إلى تلك الآيات الصريحة.
وكلامنا هنا مثله، فإن الأمر هنا علق به {ألا تعبدوا} كما أنه علق ففسقوا بالأمر، والقصد التنبيه على دفع التقدير، وإنما أوردنا كلام العلامة هنا لدفع التقدير، لا لأن الآيتين من قبيل واحد في متعلقهما؛ لأن هذا الأمر متعلقه النهي القائم مقام الأمر، والدال عليه. والآية التي ساقها العلامة متعلقها ما دل عليه قوله: {ففسقوا} فقد أرشد إلى أن (أمر) هو الأمر الطلبي. وبالله التوفيق.
ثم لنا في الاحتجاج بالآية الآخرة التي فتح بها، وهي قول الله- عز وجل-: {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا}(5/2382)
الفعل استعلاء. والصلاة هنا قد أمرت شعيبًا مجازيًّا كما هو الظاهر بأن قومه يتركوا العبادة ومعنى أمرها له بأن يتركوا العبادة هو قولها على طريق المجاز: لا تعبدوا ما يعبد آباؤكم، وهذا ظاهر متبادر لي، ولا أعده إلا من فتح القدير على العبد الحقير.
ولذا قيل لعلي- رضوان الله عليه-: هل عهد إليكم رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عهدًا لم يعهده إلى الناس؟ فقال: والله ما عندنا إلا كتاب الله، وما في جراب هذه الصحيفة، أو رجل آتاه الله فهمًا في كتابه. ولله الحمد (1) أي لا دلالة في الآيتين على المسألة الأصولية «كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده».%، وأظهر أن الأمر تورية ليس كما لمح إليه السائل وقاله. فلذا وقع التعويل على العلامة الحبر النبيل، حجة الله القائمة، وآيته العاقبة الدائمة، إنسان عين الإفادة، صماخ أذن النقادة، البر الولي محمد بن علي- بلغه الله سؤله- وصلى الله على محمد وآله [4].
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6915) عن أبي جحيفة قال: «سألت عليًّا رضي الله عنه: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ وقال ابن عيينة مرة: «ما ليس عند الناس، فقال: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهمًا يعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر».
وانظره في تحقيقنا للرسالة برقم (21) من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.%.
والسؤال قد عرض على بعض الأعلام، ومال إلى عدم الدلالة(5/2383)
[نص الجواب]
أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على حبيبك ورسولك وآله. وقف الحقير على هذا البحث النفيس، فرأيت حاصل ما اشتمل عليه السؤال عن صحة الاستدلال بقوله تعالى: {أمر ألا تعبدوا إلا إياه} (1)، وبقوله تعالى: {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} (2) على ما ذكره أهل الأصول في المسألة المشهورة من كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، أو يستلزمه، أو ليس كذلك.
وأقول: لا ريب أن محل النزاع هو كون أفعل الدال على الطلب (3) بالفعل نهيًا عن ضده الذي هو عدم الفعل، أو مستلزمًا للنهي عن ذلك، أو ليس كذلك، مثلاً إذا قال زيد لعمرو: اضرب. هل يكون لفظ اضرب نهيًا عن ترك الضرب الذي هو ضد الضرب، أو مستلزمًا للنهي عن ذلك، أو ليس كذلك؟ فإذا قلت مثلاً: أمر زيد عمرًا بأن يضرب، فالمراد به أنه قال له: اضرب. وإذا قلت: أمر زيد عمرًا بأن لا يضرب، فالمراد أنه قال له: لا تضرب. وإذا قلت: أمر زيد عمرًا أن لا يضرب فالمراد أنه قال له: لا تضرب. وصيغته لا تضرب هي صيغة نهي بلا شبهة، وقد جعلها في هذا المثال تفسيرًا لما أخبر به من الأمر [5].
فإذا كان المتكلم بذلك من هو من العرب الذين يحتد بكلامهم فلا ريب أن تفسير الأمر بما هو صريح النهي يدل على أنه يطلق الأمر على النهي، وأن المتكلم بصريح النهي يقال له آمر.
_________
(1) [يوسف: 40].
(2) [هود: 87].
(3) انظر «البحر المحيط» للزركشي (3/ 416 - 420).
قال صاحب «الكوكب المنير» (3/ 55): أن الأمر الإيجاب طلب فعل يذم تاركه إجماعًا، ولا ذم إلا على فعل، وهو الكف عن المأمور به أو الضد، فيستلزم النهي عن ضده أو النهي عن الكف عنه.(5/2384)
وهذا الإطلاق لا يصح أن يكون إطلاقًا حقيقيًّا لما تقرر من أن الأمر هو طلب الفعل، لا طلب الكف، فلم يبق إلا أن ذلك الإطلاق مجازي، والعلاقة الضدية، وهي إحدى العلاقات المشورة المسوغة للتجوز، فما وقع في القرآن الكريم من قوله تعالى: {أمر ألا تعبدوا إلا إياه} (1) فيه التجوز بإطلاق الأمر الذي تضمنه الإخبار عن النهي المذكور لتلك العلاقة، وليس هذا هو محل النزاع بين أهل الأصول في مسألة كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، أو يستلزمه، بل محل النزاع عندهم هو ما قدمناه من كون لفظ افعل الدال على الطلب هل يكون نهيًا عن فعل الضد أو مستلزمًا له كما كان طلبًا للفعل نفسه، أو ليس كذلك؟ وليس نزاعهم في صحة إطلاق لفظ الأمر على النهي مجازًا، أو في عدم الصحة، فإنهم لا يختلفون في جواز ذلك الإطلاق على طريق المجاز في كل ضدين، لوجود العلاقة المسوغة، وهي الضدية مع نصب القرينة المانعة عن إرادة المعنى الحقيقي، ومثل هذا قوله تعالى: {أصلاتك [6] تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} (2) فإنه ليس فيه إلا جواز إطلاق لفظ الأمر الذي تضمنه الإخبار على الترك الذي هو مدلول النهي. فإذا تقرر هذا علم السائل- أدام الله فوائده- أنه لا دلالة في الآيتين في المسألة الأصولية التي هي محل النزاع (3). ومن تدبر لم يخف عليه ذلك. والله أعلم [7].
_________
(1) [يوسف: 40].
(2) [هود: 87].
(3) على أن «كون الأمر بالشيء نهي عن ضده».(5/2385)
رفع الجناح عن نافي المباح
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(5/2387)
وصف المخطوط (أ):
1 - عنوان الرسالة: (رفع الجناح عن نافي المباح).
2 - موضوع الرسالة: في الأصول.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. حمدًا لمن أنعم علينا بالإثابة في التروك والأفعال وشكرًا لمن لم يجعل شيئًا من الحركات والسكنات في جانب الإلغاء والإهمال ...
4 - آخر الرسالة: وكافاه بالحسنى، بحق محمد (1) وآله وصحبه، وكان تاريخ التأليف وتحريره حفظه الله من شهر رجب سنة 1206 هـ ست ومائتين وألف.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الصفحات: 7 صفحات + صفحة العنوان.
7 - المسطرة: الصفحة الأولى حتى الصفحة السادسة: 26 سطرًا.
الصفحة السابعة: 15 سطرًا.
صفحة العنوان مع اسم المؤلف.
8 - عدد الكلمات في السطر 12 - 14 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من «الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني».
_________
(1) تم التعليق على هذه العبارة وغيرها فيما تقدم.(5/2389)
وصف المخطوط (ب):
1 - عنوان الرسالة: الرد على من استبعد قول العلامة أبو القاسم البلخي وهو الكعبي من أن المباح مأمور به.
2 - موضوع الرسالة: في أصول الفقه.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. حمدًا لمن أنعم علينا بالإثابة في التروك والأفعال وشكرًا لمن لم يجعل شيئًا ...
4 - آخر الرسالة:
وإلى هنا انتهى الكلام على هذه المسألة، حرره بقلمه وقاله بفمه القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. في شهر رجب سنة (1204 هـ) فكان الفراغ من نقلها في شهر ربيع الآخر سنة (1208 هـ).
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الصفحات: 6 صفحات.
7 - المسطرة: الأولى: 33 سطرًا.
الثانية: 36 سطرًا.
الثالثة: 37 سطرًا.
الرابعة: 34 سطرًا.
الخامسة: 36 سطرًا.
السادسة: 12 سطرأ.
8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من «الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني».(5/2393)
بسم الله الرحمن الرحيم.
حمدًا لمن أنعم علينا بالإثابة في التروك والأفعال وشكرًا لمن لم يجعل شيئًا من الحركات والسكنات في جانب الإلغاء والإهمال، والصلاة والسلام على من جعل الإمساك عن الشر صدقة (1)، وعلى آله وصحبه الناقلين إلينا من الحديث أوثقه وأصدقه، وبعد:
فإنه لما كثر من جماعة من طلبة علم الأصول استبعاد ما ذهب إليه أبو القاسم البلخي وهو الكعبي (2) من أن المباح (3) ...................
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1445)، ومسلم رقم (1008) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
(2) هو عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي أبو القاسم وهو رأس طائفة من المعتزلة تسمى الكعبية له أراء خاصة في علم الكلام والأصول وله مؤلفات في علم الكلام كانت وفاته سنة 319 هـ.
انظر: «شذرات الذهب» (2/ 281) «البداية والنهاية» (11/ 284).
(3) عزاه إليه: الزركشي في البحر (1/ 279) وصاحب الكوكب المنير (1/ 424).
- المباح: لغة: المعلن، المأذون.
واسم المفعول مشتق من الإباحة، ويطلق على الإظهار والإعلان: «باح بسره» أي أظهره وأعلنه.
ويطلق- أيضًا- ويراد به: الإطلاق والإذن. يقال: أباح الأكل من بستانه أي: أذن بالأكل منه.
«لسان العرب» (3/ 234) «تاج العروس» (2/ 126 - 127).
- المباح في الاصطلاح: فعل مأذون فيه من الشارع خلا من مدح وذم مخرج الواجب والمندوب والحرام والمكروه؛ لأن كلاً من الأربعة لا يخلو من مدح أو ذم، إما في العقل، وإما في الترك.
وقال الغزالي في المستصفى (1/ 66): إن المباح هو الذي ورد الإذن من الله تعالى بفعله وتركه غير مقرون بذم فاعله أو مدحه، ولا يذم تاركه.
وانظر الكوكب المنير (1/ 422) تيسير التحرير (2/ 225).
صيغ الإباحة:
الصيغة الأولى: «لا حرج» قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61].
الصيغة الثانية: «لا جناح» ومثاله قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236].
الصيغة الثالثة: «أحل» قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187].
الصيغة الرابعة: صيغة الأمر التي اقترنت بها قرينة صرفتها من الوجوب والندب إلى الإباحة قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
فهنا أمر الله بالانتشار في الأرض وهذا الأمر للإباحة، والقرينة التي صرفت الأمر عن الوجوب إلى الإباحة هي: منع الفعل قبل ذلك في قوله سبحانه: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] حيث كان الانتشار لطلب الرزق ممنوعًا قبل الصلاة ثم أباحه بعد الصلاة.
انظر: «البحر المحيط» (1/ 277).
- الإباحة حكم شرعي: خلافًا لبعض المعتزلة، الخلاف لفظي يلتفت إلى تفسير المباح إن عرفه بنفي الحرج، وهو اصطلاح الأقدمين، فنفي الحرج ثابت قبل الشرع، فلا يكون من الشرع، ومن فسره بالإعلام بنفي الحرج فالإعلام به إنما يعلم من الشرع فيكون شرعيًّا.
«البحر المحيط» (1/ 177 - 178).
«الكوكب المنير» (1/ 422 - 423).(5/2397)
مأمور به (1) حتى ظن بعضهم أن هذه المقالة من الخرافات التي لا مستند لها من عقل، ولا
_________
(1) المباح غير المأمور به:
اختلف في المباح هل هو مأمور به أو لا؟ على مذهبين:
- المذهب الأول: أن المباح غير مأمور به من حيث هو مباح، وهو مذهب جماهير العلماء من فقهاء وأصوليين وهو الصحيح.
- والدليل على ذلك «أن المباح غير مأمور به» هو أن حد الأمر «استدعاء وطلب الفعل بالقول على وجه الاستعلاء.
وحد المباح هو ما أذن الله تعالى في فعله وتركه.
فالفرق واضح بين أن يأذن لعبده في الفعل وبين أن يأمره به ويقتضيه منه وأنه إن أذن له فليس بمقتص له.
فالأمر: اقتضاء الفعل من المأمور به والمطالبة به والنهي عن تركه على وجه ما هو أمر به، ومعنى الإباحة: تعليق الفعل المباح بمشيئة المأذون له في الفعل وإطلاق ذلك له.
وإن ورد واستعمل الأمر في الإذن فهذا تجوز؛ لأن إطلاق لفظ الأمر على المباح ليس على سبيل الحقيقة؛ لأن الاسم الحقيقي للمباح: المأذون فيه، ويجوز إطلاق اسم الأمر عليه مجازًا من إطلاق اللازم على الملزوم؛ لأنه يلزم من خطاب الله تعالى بالتخيير فيه كونه مأمورًا باعتبار أصل الخطاب.
مما تقدم يلزم أن المباح غير مأمور به. وهو الصحيح؟
المذهب الثاني: أن المباح مأمور به، وهو ما نسب إلى الكعبي وأبي الفرج المالكي وأبي بكر الدقاق.
[سيأتي توضيحه وبيان أدلته لأنه محور الرسالة].(5/2398)
نقل، ولا جرم هيبة الجمهور تفعل أكثر من هذا، ومعرفة الحق بالرجال لا الرجال بالحق لا يأتي إلا بمثل هذا فاسمع ما نملي عليك من مرجحات مذهب هذا العالم المتفرد بهذه المقالة؛ لتأخذ حذرك من جعل الكثرة بمجردها من موجبات الرجحان، ودلائل الإصابة وتجعلها عبرة في أمثال هذا المقام، وليقدم تقرير مذهب الكعبي ليكون الناظر على بصيرة.
فنقول: حكى عنه ابن الحاجب في مختصر المنتهى (1) القول بأن المباح مأمور به، وتأويله للإجماع على أن المباح غير مأمور به بأنه باعتبار ذات الفعل، لا بالنظر إلى ما يستلزمه، جمعًا بين الأدلة. وصرح السبكي في جمع الجوامع (2) أن الخلاف لفظي (3)،
_________
(1) (1/ 6).
(2) (1/ 173).
(3) نعم الخلاف بين الجمهور والكعبي في اللفظ والعبارة فقط ولا خلاف بينهما في المعنى.
أن الكعبي نظر إلى المباح من حيث ما يعرض له من عوارض تخرجه عن كونه مباحًا وتجعله مأمورًا به، فهذا النظر هو سبب قوله في استدلاله على أن المباح يكون مأمورًا به باعتبار ما يعرض له من ترك حزم وغيره لا أنه مأمور به من حيث ذاته.
ومعلوم أن الطرفين قد اتفقا على أن المباح مأمور به لعارض يعرض له. كما ذكرنا في أقسام المباح بحسب الكلية والجزئية.
- خلاصة: أن الكعبي نظر إلى المباح من حيث ما يعرض له من عورض تخرجه عن كونه مباحًا تجعله مأمورًا به.
والأولى ما ذهب إليه الجمهور وهو أن المباح غير مأمور به، ونظرتهم لأنهم نظروا إلى ذات الفعل المباح، والكعبي إنما نظر إلى ما يستلزمه الفعل المباح.
والأصل في ضبط الحدود وبناء الأحكام إنما هو بالنظر إلى ذات الشيء، لا إلى ما يستلزمه وما يعرض له من عوارض.
وإذا ثبت أن النزاع لفظي في المسألة، لعدم ورود المذهبين على محل واحد: يتبين أن المباح من حيث ذاته لا يمكن أن يكون مأمورًا به بالاتفاق.
أما المباح من حيث ما يعرض له وما يستلزمه يمكن أن يكون مأمورًا به حسب العوارض.
انظر: «الكوكب المنير» (1/ 425)، «نهاية السول» (1/ 63)، «البحر المحيط» (1/ 279)، «المستصفى» (1/ 74)، «الإحكام» للآمدي (1/ 125).(5/2399)
لأن الكعبي لا يخالف الجمهور بالنزر إلى ذات الفعل في أنه غير مأمور به. والجمهور لا يخالفونه بالنظر إلى ما عرض للفعل من تحقق ترك الحرام في أنه مأمور به.
قال المحلي في شرح الجمع (1): قد صرح الكعبي بما يؤخذ من دليله من أنه غير مأمور
_________
(1) (1/ 173).
- أقسام المباح بحسب الكلية والجزئية:
1 - المباح بالجزء والمطلوب على جهة الوجوب: قسم الشاطبي المباح إلى أربعة أقسام بحسب الكلية والجزئية:
مثاله: الأكل والشرب ومعاشرة الزوجة، حيث أن لكل فرد الحق في أن يأكل ويشرب ويخالط زوجته أو لا يعمل هذا فهو مباح له الأمرين الفعل والترك، لكن يجب الفعل من جهة الكل أي امتناع الشخص عن هذه الأشياء جملة واحدة بشكل دائم حرام؛ لأنه يفضي إلى الهلاك والضرر، وترك الحرام واجب.
2 - المباح بالجزء والمطلوب بالكل على جهة الندب:
مثاله: التمتع الزائد على الحاجة في المأكل والمشرب، والملبس وغيرها، فإن ذلك مباح بالجزء أي أن لكل شخص الحق في أن يتمتع في المأكل والمشرب الزائد، ولكنه مندوب إليه لما ورد الندب إليه في عموم الأدلة الغالية لها والمرغبة فيها مثل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32].
3 - المباح بالجزء والمحرم بالكل: مثاله: المباحات التي تقدح المداومة عليها بالعدالة، فبالمداومة عليها يخرج صاحبها إلى ما يخالف هيئات أهل العدالة، ويشبه الفساق وإن لم يكن كذلك.
4 - المباح بالجزء والمكروه بالكل: مثاله: التنزه في البساتين، وسمع تغريد الحمام فإن هذه مباحة بالجزء أي أن الشخص يباح له أن يفعل ذلك مرة أو مرتين، أما إذا فعلها دائمًا فتكون مكروهة لما فيه من ضياع الوقت من غير فائدة.
«الموافقات» (1/ 206 - 209).(5/2400)
به من حيث ذاته، مأمور به من حيث ما عرض له من تحقق ترك الحرام (1). تقدمت ترجمته.%: المحكي عن الكعبي أن المباح به، لكنه دون المندوب، كما أن المندوب مأمور به، لكنه دون الواجب.
قال في شرح الغاية: وقد نقل عنه العلامة في شرحه على المختصر مثل ما نقل عنه الإمام يحيى انتهى، وهكذا نقل البرماوي عن القاضي، ثم قال: وقال إنه وإن أطلق الأمر على المباح فلا يسمى المباح واجبًا، ولا الإباحة إيجابًا (2) (1/ 66).%، وابن القشيري (3) نقله الزركشي في «البحر المحيط» (1/ 280): عن الأبياري.
قال ابن تيمية في «مجموع فتاوى» (10/ 530 - 531): ومن هذا أنكر الكعبي «المباح» في الشريعة؛ لأن كل مباح فهو يشتغل به عن محرم، وترك المحرم واجب، ولا يمكنه تركه إلا أن يشتغل بضده، وهذا المباح ضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عنه أمر بضده إن لم يكن له إلا ضد واحد، وإلا فهو أمر بأحد أضداده، فأي ضد تلبس به كان واجبصا من باب الواجب المخير.
ثم قال: «وتحقيق الأمر» أن قولنا: الأمر بالشيء نهي عن ضده وأضداده والنهي عنه أمر بضده أو بأحد أضداده، من جنس قولنا: الأمر بالشيء أمر بلوازمه، وما لا يتم الواجب به إلا به، فهو واجب والنهي عن الشيء نهي عما لا يتم اجتنابه إلا به، فإن وجود المأمور يستلزم وجود لوازمه وانتفاء أضداده، بل وجود كل شيء هو كذلك يستلزم وجوده وانتفاء أضداده، وعدم النهي عنه، بل وعدم كل شيء يستلزم عدم ملزوماته، و: إذا كان لا يعدم إلا بضد يخلقه كالأكوان فلا بد عند عدمه من وجود بعض أضداده فهذا حق في نفسه لكن هذه اللوازم جاءت من ضرورة الوجود وأن لم يكن مقصوده الأمر، والفرق ثابت بين ما يؤمر به قصدًا، وما يلزمه في الوجود.
فالأول: هو الذي يذم ويعقب على تركه بخلاف.
الثاني: فإن من أمر بالحج أو الجمعة وكان مكانه بعيدًا فعليه أن يسعى من المكان البعيد، والقريب يسعى من المكان القريب، فقطع تلك المسافات من لوازم المأمور به، ومع هذا فإذا ترك هذان الجمعة والحج لم تكن عقوبة البعيد أعظم من عقوبة القريب، بل ذلك بالعكس أولى مع أن ثواب البعيد أعظم فلو كانت اللوازم مقصودة للأمر لكان يعاقب بتركها، فكأن يكون عقوبة البعيد أعظم وهذا باطل قطعًا.
وهكذا إذا فعل المأمور به فإنه لا بد من ترك أضداده، لكن ترك الأضداد هو من لوازم فعل المأمور به ليس مقصودًا للأمر، بحيث إنه إذا ترك المأمور به عوقب على تركه لا على فعل الأضداد التي اشتغل بها، وكذلك المنهي عنه مقصود الناهي عدمه، ليس مقصوده فعل شيء من أضداده، وإذا تركه متلبسًا بضد له كان ذلك من ضرورة الترك.
وعلى هذا إذا ترك حرامًا بحرام آخر فإنه يعاقب على الثاني، ولا يقال فعل واجبًا وهو ترك الأول؛ لأن المقصود عدم الأول، فالمباح الذي اشتغل به عن محرم لم يؤمر به ولا بامتثاله أمرًا مقصودًا، لكن نهى عن الحرام ومن ضرورة ترك المنهي عنه الاشتغال بضد من أضداده، فذاك يقع لازمًا لترك المنهي عنه، فليس هو الواجب المحدود بقولنا «الواجب ما يذم تاركة، ويعاقب تاركه» أو «يكون تركه سببًا للذم والعقاب».% من أنه لا مباح في الشرع، بل كل ما يفرض مباحًا فهو واجب،
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.%.
قال ابن أبي شريف في حاشيته أن الآمدي وغيره حكى عن الكعبي التصريح بذلك. قال الإمام يحيى بن حمزة
(2) انظر «البحر المحيط» (1/ 28). «الموافقات» للشاطبي (1/ 194 - 200).%.
قال: وتبعه على ذلك الغزالي في المستصفى
(3) انظر «البحر المحيط» (1/ 83).% في أصوله، وفيه أن دليله الآتي مصرح بأن المباح واجب.
وأما ما روي عنه(5/2401)
مأمور به، فقال [1] الإمام يحيى: إنها رواية حكاها عنه الرازي وغيره، وهي مغمورة لا تعرف مذهبًا له، ولا لأحد من أصحابه (1) (2/ 6).%، بأن فيه تسليم أن الواجب واجد، فما فعله فهو واجب قطعًا. قال العضد بعد أن صرح بضعف ذلك الجواب:
ووافق ابن الحاجب (2) في «الإحكام» (1/ 126).% اعترف بعدم صحة هذا
_________
(1) انظر «الكوكب المنير» (1/ 430). «نهاية السول»
(1/ 138).%. وإذا تقرر بلك هذا فاعلم أن الخلاف إن كان لفظيًّا فقد استرحنا من تلك المجاولات والمصاولات التي ذكرها أئمة الأصول بينه وبين الجمهور، ولم يبق ما يوجب التشنيع عليه، ورميه لمخالفة الإجماع، والحط من قوله، ووصفه بالبطلان، وإن كان الخلاف معنويًّا كما هو الظاهر من كلام أكثر الأصوليين فاسمع ما في المقام من المحاججة والخصام وتدبره مستعملاً للإنصاف؛ ليلوح لك أن الكعبي قد وفق لما هو الحق في المسألة.
قال الكعبي مستدلاً على مطلوبه: كل مباح ترك حرام، وترك الحرام واجب فالمباح واجب.
ثم لما كان المقام مظنة سؤال يرد عليه، وهو أن يقال: ليس ترك الحرام نفس المباح غايته أنه لا يحصل إلا به.
أجاب بأن ذلك لا يضرنا؛ فإن ما لا يتم الواجب إلا به واجب، وبه ويتم الدليل ويثبت المطلوب. وأجاب الجمهور عن دليل الكعبي بجوابين:
الأول: المنع من أنه لا يتم الواجب أعني: ترك الحرام إلا بالمباح، قائلين: المباح غير متعين لذلك؛ لإمكان الترك بغيره، ورده ابن الحاجب في مختصر المنتهى.
(2) (2/ 6).% على رده ما لفظه: وهكذا غاية ما في الباب أنه واجب مخير لا معين، وهو لم يدع أصل الوجوب انتهى. وهكذا الآمدي(5/2403)
الجواب على دليل الكعبي.
الجواب الثاني: إلزامه أن الصلاة حرام إذا ترك بها واجب، ورده أيضًا ابن الحاجب وشراح كلمة، أن الكعبي يلتزمه باعتبار. وصرح أيضًا بضعفه، ثم قال ابن الحاجب: فلا مخلص إلا بأن ما لا يتم الواجب إلا به من عقلي، أو عادي فليس بواجب. وارتضى هذا المخلص بعض شراح كلامه. وأنت تعلم أن مذهب الجمهور كم حكاه ابن الحاجب في مختصره، والسبكي في جمع الجومع (1) انظر «البحر المحيط» (2/ 281).%، ولكنه قد شهد هو وشراح كتابه على الجمهور القائلين بوجوب العقلي والعادي بعدم إمكان تخلصهم عن قول الكعبي بعد اعترافهم بسقوط ذينك الجوابين الذين من جهد الجمهور [2]. ولهذا ألزم الجمهور في مسألة مقدمة الواجب؛ لصحة قول الكعبي في نفي المباح، واعترف جماعة من محققهم بأن ما قاله الكعبي حق. قال السبكي في شرح المختصر: والحق عندنا أن ما لا يتم الواجب المطلق المقدور إلا به واجب مطلقًا. وأن ما قاله الكعبي حق باعتبار الجهتين انتهى.
وقال بعض المحققين بعد اعترافه بصحة قول الكعبي، وجعله متفقًا عليه ما لفظه: وأما عند توجهنا واشتياقنا إلى الحرام، وكنا نجد من أنفسنا أنا نفعل الحرام لو لم نشتغل بضده، فلا شك حينئذ أنه يجب علينا فعل المباح أو غيره، تحصيلاً لعلة الكف عن الزنا.
والجمهور لا ينكرون وجوب المباح مثلاً في هذه الصورة، بل يصرحون بذلك كما تشهد به كتب الفروع، مثلاً إذا كان شخص مع امرأة جميلة في بيت، وكان يجد من نفسه أنه لو لم يشتغل بضد الزنا لصدر منه الزنا، فلا شك أن الاشتغال بضد الزنا واجب
_________
(1) (1/ 1749.%، وغيرهما أن ما لا يتم الواجب إلا به،- من عقل، أو عادي- واجب، وهو الحق. فابن الحاجب وإن أمكنه التخلص على زعمه بهذا الواجب، لكونه قائلاً بوجوب الشرط الشرعي فقط، تبعًا لإمام الحرمين(5/2404)
عليه في تلك الصورة، ثم قال: وأنت تعلم أن ما استدل به الكعبي من أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (1)، إنما هو في هذه الصورة؛ إذ في الأولى أعني- تقدير عدم القصد والإرادة- والداعي إلى فعل الحرام لا يصدق أن فعل المباح دائمًا واجب، للكف عن الحرام، فالدليل لا يدل عليه فتأمل.
ومن الذاهبين إلى مذهب الجمهور من لم يعترف بحقية قول الكعبي، وتكلف للجواب عليه بما لا يرضيه المنصفون، فقال ابن الإمام في شرح الغاية في مسألة مقدمة الواجب ما لفظه:
وأما الرابع: فقول أبي القاسم البلخي: إنما يصح لو توقف ترك الحرام على فعل المباح، وليس كذلك لجواز أن لا يتوقف على فعل، أو على فعل غير مباح.
وقد عرفت أن هذا الجواب لا يوجب خروج المباح عن كونه واجبًا مطلقًا، إنما
_________
(1) قال ابن تيمية في «مجموع فتاوى» (10/ 532): «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب «أو» يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب» يتضمن إيجاب اللوازم، والفرق ثابت بين الواجب «الأول» و «الثاني» فإن الأول يذم تاركه ويعاقب، والثاني واجب وقوعًا، أي لا يحصل إلا به ويؤمر به امرأ بالوسائل، ويثاب عليه، لكن العقوبة ليست على تركه.
ثم قال ابن تيمية: « ... وبهذا تنحل «شبهة الكعبي» فإن المحرم تركه مقصود، وأما الاشتغال بضد من أضداده فهو وسيلة، فإذا قيل المباح واجب بمعنى وجوب الوسائل، أي قد يتوسل به إلى فعل واجب وترك محرم فهذا حق.
هم إن هذا يعبر فيه القصد، فإن كان الإنسان يقصد أن يشتغل بالمباح ليترك المحرم.
وقد يقال المباح يصير واجبًا بهذا الاعتبار، وإن تعين طريقًا صار واجبًا معينًا، وإلا كان واجبًا مخبرًا، لكن مع هذا القصد، أما مع الذهول عن ذلك فلا يكون واجبًا أصلاً، إلا وجوب الوسائل إلى الترك وترك المحرم لا يشترط فيه القصد، فكذلك ما يتوسل به إليه، فإذا قيل هو مباح من جهة نفسه وإنه قد يجب وجوب المخيرات من جهة الوسيلة لم يمنع ذلك، فالنزاع في هذا الباب نزاع لفظي اعتباري، وإلا فالمعاني الصحيحة لا ينازع فيها من فهمها.
وانظر «البحر المحيط» (1/ 281).(5/2405)
يخرجه عن كونه واجبًا معينًا إلى كونه واجبًا مخيرًا (1) انظر «البحر المحيط» (4/ 174). «الكوكب المنير» (1/ 383).% مما لم يعتبره أئمة الأصول، بل غاية ما اشترطوه في الواجب المخير مطلق التعيين، لا مقيده. والتخيير بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه تخيير بين أمور معينة، على أن انتهاض اعتبار المقيد
_________
(1) انظر «البحر المحيط» (1/ 275). «مجموع فتاوى» (10/ 541 - 545).%، إذ حاصله أن المباح أحب الأمور التي لا يتحقق ترك الحرام إلا بأحدها، وأحد الأمور التي لا يتم الواجب إلا بها واجب مخير، فالمباح واجب مخير، وأنه غير مناف لمطلوب الكعبي، وقد اعترف ابن الإمام أيضًا في مسألة المباح بأن هذا الجواب وإن خلص عن الواجب المعين لا يخلص عن الواجب المخير، إلا أنه اعتمد هنالك على ما ذكره السعد في حاشية شرح المختصر فقال: إن التخيير إنما يكون في أمور معينة بالاتفاق، ثم قال: قيل التعيين النوعي حاصل، وهو كونه واجبًا، أو مندوبًا، أو مكروهًا [3]، أو مباحًا، وأجيب بأنه لا يكفي تعيين النوع، بل لا بد من تعيين حقيقة الفعل، كالصوم والاعتكاف مثلاً. ولا يحصل ذلك بمجرد اعتبار شيء من الأغراض العامة، إلا أنه غير كلام السعد إلى ما لا يخلو عن إشكال؛ لأن قوله: لا يكفي تعيين النوع يشعر باعترافه بحصول التعيين النوعي في محل النزاع، فلا يصح الجواب، فإنه لا بد من تعيين حقيقة الفعل؛ لأن التعيين النوعي لا يتم إلا بتعيين حقيقة الفعل، كما يشعر به كلام السعد في حاشيته، ولفظه: فإن قيل يكفي التعيين النوعي، وهو حاصل بكونه واجبًا، أو مندوبًا، أو مباحًا.
قلنا: لا بد في التعيين النوعي من تعيين حقيقة الفعل، كالصوم، والاعتكاف مثلاً ولا يحصل ذلك لمجرد اعتبار شيء من الأعراض العامة. انتهى.
فكلامه هذا يدل على أن التعيين النوعي لا بد فيه من تعيين حقيقة الفعل، وإلا لم يكن نوعيًّا.
وأنت تعلم أن اشتراط تعيين حقيقة الفعل في التعيين النوعي(5/2406)
على الكعبي لا يتم إلا بعد ثبوت الاتفاق عليه، وإلا كان من الرد بالمذهب.
ومن جملة الوجوه التي ذكرها المحقق ابن الإمام في رد مذهب الكعبي قوله: على أن التخيير في الوجوب بين الواجب والمندوب والمكروه والمباح، بين كل واحد منها ضد للحرام برفع حقيقة كل واحد منها، والجواب عنه، أما أولاً فبالنقض بالواجب المخير، وهو الجمهور من القائلين بعدم ارتفاع الوجوب عن جميع الأمور المخير فيها، بلك جعلوا الوجوب متعلق بالجميع، أو بالأحد المبهم، أو ما يفعله المكلف، أو معينًا عند الله، وعلى الجميع لم يرتفع الوجوب، والجواب الجواز.
أما ثانيًا فبالحل، وهو أن الذي وجب، وهو المبهم لم يختر فيه، وهو كل من المتعينات؛ لأنه لم يوجب معينًا، وإن كان يتأدى به الواجب. وتعدد ما صدق عليه أحدها إذا تعلق به الواجب، والتخيير يأبى كون الواجب والتخيير واحدًا، كما حرم واحدًا من الأمرين وأوجب واحدًا فإن معناه أيهما فعلت حرم الآخر، وأيها تركت وجب الآخر. والتخيير بين واجب بهذا المعنى جائز. إنما الممتنع التخيير بين واجب بعينه، وغير واجب بعينه. والحاصل أن التخيير بين واجب هو أحد المعينات من حيث هو [4] أحدهما مبهمًا، وبين غير واجب هو أحدهما على التعيين من حيث التعيين لا يستلزم ارتفاع حقيقة الوجوب؛ لن هذا لا يوجب جواز ترك كل من المعينات على الإطلاق، بل جواز ترك كل معين من حيث التعيين بطريق الإتيان بمعين آخر، وأيضًا الحقيقة باقية بالنظر إلى ذات الفعل، والواجب أعني: ترك الحرام إنما هو باعتبار ما يستلزمه الفعل، ولو سلم ارتفاع حقيقة كل وحد لكانت حقيقة المباح مرتفعة، وهو مطلوب الكعبي. أما الملازمة فلأن المباح أحدها، وقد ارتفعت حقيقة كل واحد، وأما حصول مطلوب الكعبي فبانتفاء حقيقة المباح، وما هو جوابكم فهو جوابه.
وقد استحسن جماعة من المتأخرين ما أجاب به البرماوي في شرح ألفيته، وأشار إليه ابن الهمام في تحريره، وذكره ابن أبي شريف في حاشيته على جمع الجوامع، وهو قولهم: لا نسلم أن كل مباح يتحقق به ترك(5/2407)
الحرام (1) الذي هو واجب؛ لأن ترك الحرام الذي يوصف بالوجوب هو الكف المكلف
_________
(1) قال الزركشي في «البحر المحيط» (1/ 282): قوله إن الحرام إذا ترك به حرام آخر يكون واجبًا من جهة أخرى يقال عليه: إن التفصيل بالجهتين إنما هو في العقل دون الخارج، فليس لنا في الخرج فعل وحد يكون واجبًا حرامًا؛ لاستحالة تقويم الماهية بفصلين متنافيين، وهما فصل الوجوب وفصل الحرمة، وكذلك أيضًا يقال على قوله: إن المباح واجب الاستحالة اجتماع الوجوب والإباحة في الشيء الواحد، وقد علم بالبديهة امتناع تقويم الماهية بفصلين أو فصول متعاندة. ومن ثم امتنع أن يكون للشيء مميزان ذاتيان بخلاف المميزين العرضيين الخاصتين واللازمين ..
«وقوله فعل المباح» قلنا: تركه له بخصوصه أو ترك له مع غيره والأول يلزم منه كون الفعل واجبًا، وأما الثاني فلا نسلم، وسند المنع أن التلبس بالفعل المعين ترك لجميع الأفعال الواجبة والمندوبة والمحرمة والمكروهة والمباحة غير الفعل المتلبس به، وترك الجمع المذكور لا يتعين به ضد معين عملاً بترك الصلاة على الكافر، فإنه لم يتعين من مفهومه وجوب الصلاة على المسلم، ثم نقول: ما ذكرتم وإن دل على وجوبه.
قلنا: ما يدل على إباحته من وجوه:
1 - أن فعل المباح مستلزم لترك الواجب الذي ليس بمضيق، ولترك الحرام وإذا تعارضت اللوازم تساقطت فيبقى المباح على إباحته.
2 - أن فعل المباح مستلزم لتعارض اللزوم الذي استلزمه لوازم الأحكام الخمسة، ومتى تعارضت اللوازم تساقطت.
3 - لو فرضنا جميع الأفعال دائرة أخذت الأفعال المباحة خمسها فإذا حصل الفعل المتلبس به فهو مركز الدائرة وإذا كان مثلاً مباحًا بالذات الذي أقر الكعبي به حصل للفعل المذكور نسبة إلى كل خمس من أجزاء الدائرة, والغرض أنه مباح فتساقطت النسب الخمس، وتبقى الإباحة الذاتية.
الثاني: من أدلة الدائرة: إذا تلبس المتلبس حصلت له الإباحة بالذات وبالنسبة حصل منه الوجوب ناشئًا عن النسبة، وكل ما كان فيه أمران يقتضيان حكمين عارضهما أمر مساوِ لأحدهما يقتضي نفي ذلك الحكم فإنه مرجح وقوع نقيض الأمرين، فيرجح القول بإباحة الفعل المذكور.
الثالث: أن تقول: هذا الفعل فيه إباحة ذاتية وإباحة نسبية وفيه وجوب نسبي معارض للإباحة فيتساقطان، وتبقى الإباحة الذاتية.
(4): أن تقول: الإباحة النسبية ترجح بانفرادها على الوجوب النسبي لأن الإباحة النسبية متوقفة على النسبة المذكورة والوجوب يتوقف على ترك الحرام، والحرام متوقف على النسبة المذكورة فترجح الإباحة.
وانظر «مجموع فتاوى» (10/ 530 - 534).(5/2408)
به في النهي، كما هو الراجح، وهو فعل مغاير لسائر الأفعال الوجودية التي هي أضداد الحرام، ولا خفاء في توقف الكف على القصد له، ولا في أن الكف عن الشيء فرع خطوره بالبال، وداعية النفس له، فمن سكنت جوارحه عن الحرام أو غيره أو حركها في مباح أو غيره، من غير أن يخطر بباله الحرام، ولا دعته النفس إليه لم يوجد منه كف، فلا يكون آتيًا بالترك الواجب، وإن كان غير إثم اكتفى بالانتقال الأصلي في حقه، فقد ظهر أن اجتماع الترك الواجب أعني: الكف، وما يعرض عن فعل مباح أو غيره مما ذكره اجتماع اتفاقي لا لزومي، فإذا اجتمعا فالموصوف فيه بالوجوب هو الكف، لا ما يقارنه من الفعل المباح أو غيره انتهى.
قال ابن أبي شريف: وهذا أحسن ما يتخلص به عن دليل الكعبي. ولا يخفى عليك أن هذا الكلام مع ما فيه من التكلف لا يتم إلا بعد تسليم أن المكلف به في النهي هو الكف المذكور، وأنه خلاف، فإن القائلين بأن النهي عن الشيء أمر بضده صرحوا بأن النهي طلب ترك فعل، والترك فعل للضد، فالمكلف به فعل الضد والمباح ضد فيكون واجبًا لا من حيث كونه كفَّا عن قصد، بل من حيث كونه تركًا للحرام.
وأهل هذا المقالة أعني: كون النهي عن الشيء أمرًا (1) بضده هم القائلون بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده.
_________
(1) انظر الرسالة السابقة.
قال ابن برهان في «الأوسط» كما في «البحر المحيط» (1/ 281): بنى الكعبي مذهبه على أصل إذا سلم له فالحق ما قاله، وهو أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده، ولا مخلص من مذهبه إلا بإنكار هذا الأصل.(5/2409)
وأما ما حكاه ابن الحاجب (1)
(1/ 175 - 176).% انتهى.
وقد ألزم القائلون بأن النهي أمر بالضد بمذهب الكعبي. قال العضد: إنه يستلزم نفي المباح إذ ما من مباح (2) انظر كلام ابن تيمية وقد تقدم.%، وما لا يتم الواجب إلا به لا يلزم أن يكون واجبًا على ما مر انتهى.
وقد عرفت مما سلف عدم انتهاض هذا التخلص، وأيضًا قد اعترف العلامة في شرح المختصر أن الإلزام بمذهب الكعبي لا يختص بمذهب القائلين بأن النهي أمر بالضد، بل هو وارد على مذهب القائلين بكون الأمر بالشيء نهيًا عن الضد. وتكلف السعد في الجواب عليه.
_________
(1) انظر «البحر المحيط» (1/ 281).% أن من [5] الناس من اقتصر على القول بأن الأمر عين النهي عن الضد، أو يستلزمه دون النهي، فلا يكون أمرًا بضده المعين، أو أضداده على التخيير، ولا يستلزمه، فقد قال السبكي في منع الموانع أنه لم يجد له في هذه الطريقة مستندًا من معقول ولا منقول. قال: ولا رأيتهما فيما رأيت من كتب الأصول، ولا أدري من أين أخذها، قال: ولعله أخذها من قول بعض الأصوليين في الاستدلال على أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده كما أن النهي ليس أمرًا بضده فكأنه متعين عليه للقطع فيه بذلك لكن ليس فيه صراحة لاحتمال أن يراد ذكر المسألتين معًا، واختيار النفي فيهما لا كون أحدهما أصلاً للأخرى. قال: ولهذا حذفتها في جمع الجوامع
(2) انظر «مجموع فتاوى» (10/ 542).% إلا وهو ترك حرام، كما هو مذهب الكعبي، وقد بطل انتهى.
قال السعد: فإن قيل هذا بعينه دليل الكعبي، على أن المباح مأمور به لا تعلق له بما ذكرنا من الدليل على أن النهي عن الشيء أمر بضده.
قلنا: قد سبق أنه لا مخلص عن دليل الكعبي إلا بأن ترك الحرام ليس نفس فعل المباح، غايته أنه لا يتم الواجب إلا به(5/2410)
وعلى الجملة فقد صار مذهب الكعبي شجًّا في حلوق القائلين أن الأمر بالشيء نهي عن ضده وبالعكس، وقذًا في أعين الذاهبين إلى وجوب ما لا يتم الواجب إلا به، وهم الجمهور (1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.% من حديث [6] أبي موسى قال: قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «على كل مسلم صدقة. قيل: أرأيت إن لم يجد، قال: يعمل بيديه فينفع نفسه، ويتصدق. قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير. قال: أرأيت أن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر، فإنها صدقة» فجعل- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مجرد الإمساك صدقة، فلا شيء من الإمساك بمباح وهو المطلوب. واعتبار القصد والخطور لا دليل عليه إن كان ذلك أمرًا زائدًا على مجرد النية التي تتوقف الإثابة على الأفعال والتروك عليها.
ومن الأدلة الدالة على مذهب الكعبي أيضًا حديث أبي ذر قال: «قالوا يا رسول الله، أحدنا يقضي شهوته ويكون له صدقة؟ قال: أرأيت لو وضعها في غير حلها، ألم يكن يأثم» أخرجه أبو داود (2) كمسلم في صحيحه رقم (53/ 1006) وأحمد (5/ 167 - 168). وهو حديث صحيح.%، فجعل- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وضع
_________
(1) انظر بداية الرسالة.% أيضًا، ولا مخلص لهم عنه كما اعترف بذلك جماعة من محققيهم، فإذا ترتب صحة القول في هاتين المسألتين اللتين هما من أمهات مسائل الأصول، ومهماتها على قول الكعبي، ولم يقع النقص عنه إلا بتكلفات قد عرفناك سقوطها، فلا معذرة للجمهور عن القول به، والاعتراف بصحته.
وقد عرفت ما أسلفناه في تقرير مذهب الكعبي، وأنه مجمع عليه من تلك الحيثية فلا نعيده.
ومن الأدلة على صحة مذهب الكعبي ما أخرجه الشيخان
(2) في «السنن» رقم (5243) و (5244).% وغيره(5/2411)
الشهوة في الحلال مثابًا عليه، لما فيه من الإمساك عن الحرام.
ومن الأدلة أيضًا حديث (1) قال ابن تيمية في «مجموع فتاوى» (10/ 534): فإن كان الإنسان يقصد أن يشتغل بالمباح ليترك المحرم مثل من يشتغل بالنظر إلى امرأته ووطئها ليدع بذلك النظر إلى الأجنبية ووطئها، أو يأكل طعامًا حلالاً ليشتغل به عن الطعام الحرام فهذا يثاب على هذه النية والفعل وقد يقال المباح يصير واجبًا بهذا الاعتبار، وإن تعين طريقًا صار واجبًا معينًا، وإلا كان واجبًا مخيرًا، لكن مع هذا القصد، أما مع الذهول عن ذلك فلا يكون واجبًا أصلاً، إلى وجوب الوسائل إلى الترك وترك المحرم لا يشترط فيه القصد، فكذلك ما يتوسل به إليه. فإذا قيل هو مباح من جهة نفسه وإنه قد يجب وجوب المخيرات من جهة الوسيلة لم يمنع ذلك، فالنزاع في هذا الباب نزاع لفظي لا اعتباري، وإلا فالمعاني الصحيحة لا ينازع فيها من فهمها.
والمقصود هنا: أن الأبرار وأصحاب اليمين قد يشتغلون بمباح من مباح آخر فيكون كل من المباحين يستوي وجوده وعدمه في حقهم.
أما السابقون المقربون فهم إنما يستعملون المباحات إذا كانت طاعة لحسن القصد فيها، والاستعانة على طاعة الله، وحينئذ فمباحاتهم طاعات وإذا كان كذلك لم تكن الأفعال في حقهم إلا ما يترجح وجوده فيؤمرون به شرعًا أمر استجاب، أو ما يترجح عدمه فالأفضل لهم أن لا يفعلوه وإن لم يكن فيه إثم. والشريعة قد بينت أحكام الأفعال كلها.
قال الزركشي في «البحر المحيط» (1/ 280): والحق: أن مقصود الشارع بخطاب الإباحة إنما هو ذاته من غير اعتبار آخر فأما من جهة أنه شاغل عن المعاصي فليس هذا بمقصود الشرع، ولا هو المطلوب من المكلف، وما صوره الكعبي من كون ذلك ذريعة ووسيلة فلا ننكره، ولكن المنكر قصد الشارع إليه، ولإجماع المسلمين على أن الإباحة حكم شرعي، وأنه نقيض الواجب، وكونها وصلة لا يغلب حكمها المقصود المنصوص عليه شرعًا.% على جميع
_________
(1) لا أصل في المرفوع هكذا.
بل ورد «نوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، وعمله مضاعف، ودعاؤه مستجاب، وذنبه مغفور». رواه البيهقي بسند ضعيف عن عبد الله بن أبي أوفى، وضعفه الألباني في «ضعيف الجامع» رقم (5984).
وقال المناوي في «فيض القدير» (6/ 291) معروف بن حسان- أي أحد رجاله- ضعيف، وسليمان بن عمر النخعي أضعف منه.
وقال الحافظ العراقي فيه سليمان النخعي أحد الكاذبين وأقول: «أي المناوي» في أيضًا عبد الملك ابن عمير أورده الذهبي في الضعفاء وقال أحمد: مضطرب الحديث. وقال ابن معين: مختلط، وقال أبو حاتم ليس بحافظ.
وأورد أبو نعيم في «الحلية» عن سليمان: «نوم على علم خير من صلاة على جهل». وقد ضعفه الألباني في «ضعيف الجامع» رقم (5985). وقال علي القاري في «الأسرار المرفوعة» (ص 359): ففي الجملة: من كان عالمًا فنومه عبادة؛ لأنه ينوي به النشاط على الطاعة، ومن هنا قيل: «نوم الظالم عبادة»؛ لأن تلك السنة عبادة بالنسبة إليه في ترك ظلمه.% «نوم العالم عبادة» إن صح ونحو ذلك كثير لمن تتبع. وهذا من السنن الإلهية. وأي نعمة أجل وكرامة أنيل من استثمار الأجور(5/2412)
الحركات والسكنات التي لم تتصف بوصف الحرمة والكراهة. وإلى هنا انتهى الكلام على هذه المسألة.
كمل من تحرير المؤلف بقلمه القاضي عز الدين محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما، وكافاه بالحسنى، بحق محمد وآله وصحبة. وكان تاريخ التأليف وتحريره- حفظه الله- في شهر رجب سنة 1206 هـ سنة ست ومائتين وألف.
[وكان الفراغ من نقلها في شهر ربيع الآخر سنة 1208 هـ] (1).
_________
(1) زيادة من (ب).
فائدة:
الإباحة حكم شرعي خلافًا لبعض المعتزلة، والخلاف لفظي يلتفت إلى تفسير المباح، إن عرفه بنفسي الحرج، وهو اصطلاح الأقدمين، فنفي الحرج ثابت قبل الشرع، فلا يكون من الشرع، ومن فسره بالإعلام بنفي الحرج فالإعلام به إنما يعلم من الشرع فيكون شرعيًّا.
«البحر المحيط» (1/ 278).(5/2413)
جواب سؤالات من الفقيه قاسم لطف الله
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
على صورة الغلاف ما نصه:
«سؤالات من طلبة العلم من مدينة جبلة، السائل هو الإمام العلامة قاسم لطف الله وقد أجبت بالكراسة التي بعد هذه الكراسة والجواب بخطه كالسؤال».(5/2415)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (جواب سؤالات من الفقيه قاسم لطف الله).
2 - موضوع الرسالة: في الأصول.
3 - أول الرسالة بسم الله الرحمن الرحيم. ما يقول علامة العصر، وزينة الدهر، أقضى القضاة على الاعتدام شيخ الإسلام، وناصر سنة خير الأنام سيدنا القاضي محمد بن علي الشوكاني، أعلى الله علاه، وحقق في الدارين رجاءه ومناه ...
4 - أخر الرسالة:
أن نطيل في شأنه أو نستدل على بطلانه.
وفي هذا المقدار كفاية. وإن كان المقام متحملاً لبسط والله ولي الإعانة، وهو حسبي، ونعم الوكيل.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
7 - عدد الورقات: (5) ورقات.
8 - عدد الأسطر في الصفحة: 18 - 21 سطرًا.
9 - عدد الكلمات في السطر: 8 كلمة.
10 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).
بسم الله الرحمن الرحيم.
ما يقول علامة العصر، وزينة الدهر، أقضى القضاة على الاعتدام شيخ الإسلام، وناصر سنة خير الأنام سيدنا القاضي محمد بن علي الشوكاني- أعلى الله علاه، وحقق في الدارين رجاءه ومناه-.
في مسألتنا المسطرة؟ وطلبتنا التي هي على معارفكم غير منكرة، فلا زلت مرجعًا في فتح كل مغلق، ومحققًا كل مخصص ومقيد يجبان لعام ومطلق، ومبينًا معاني الأدلة الإجمالية، مستنبطًا لنا منها الفروع التفصيلية، فترد ورود الطلبة إلى غدير وردك، فلا يصدرون عنه إلا صدور نبلاء ليس إلا ببركات قصدك، فاشف عليل أوامنا يا عذيقها المرحب، وجديلها المحكك، فلك الألمعية التي لا يمر بها معقد إلا صار محلولاً مفككًا. أفد لا زالت علومك في تخوم التحقيق راسخة، وأحيا بك في سماء التدقيق بازخة.
قال العلامة ابن الحاجب في مختصره (1) لمنتهى سيف الدين الآمدي (2) في تعريف المطلق: المطلق ما دل على شائع في جنسه (3). قال المحقق العضد: ومعنى كونه خصه
_________
(1) (2/ 155)
(2) في «الإحكام» (3/ 5) قال: المطلق في سياق الإثبات.
(3) وهو تعريف ابن الحاجب للمطلق.
- المطلق لغة الانفكاك من أي قيد: حسيًّا كان، أو معنويًّا.
فمثال الحسي: يقال: هذا الفرس مطلق.
ومثال المعنوي: الأدلة الشرعية المطلقة، كقوله تعالى: {فتحرير رقبة} [النساء: 92].
المطلق في الاصطلاح: هو المتناول لواحد لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه.
وهو قول أكثر العلماء.
انظر: «الكوكب المنير» (3/ 392)، «مقاييس اللغة» (3/ 420)، «المسودة» (ص 147)، «البرهان» (1/ 356).
- يكون المطلق في أمور منها:
1 - قد يكون في معرض الأمر، كقولك: «اعتق رقبة».
2 - قد يكون في مصدر الأمر، كقوله تعالى: {فتحرير رقبة} [النساء: 92].
3 - قد يكون في الخبر عن المستقبل كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا نكاح إلا بولي». وكقولك: «سأعتق رقبة».
فكل واحد من لفظ «الرقبة، الولي» قد تناول واحدًا غير معين من جنس الرقاب، الأولياء.
- لا يمكن أن يكون الإطلاق في معرض الخبر المتعلق بالماضي كقولك: «رأيت رجلاً» أو «عتق رقبة» أو أعطيت طالبًا لأن هؤلاء [الرجل، الرقبة، الطالب] قد تعينوا بالضرورة وهي ضرورة إسناد الرؤية إلى الرجل والعتق للرقبة والإعطاء للطالب.
انظر: «الإحكام» للآمدي (3/ 7)، «روضة الناظر» (ص 260).(5/2421)
محتملة لحصص كثيرة مما تندرج تحت أمر مشترك من غير تعيين، فتخرج المعارف كلها لما فيها من التعيين شخصًا نحو زيد، وهذا وحقيقة نحو: الرجل، وأسامة [1 أ]، أو خصه نحو: {فعصى فرعون الرسول} (1) في المخطوط (وكذا) والتصويب من «شرح العضد».% كل عام ولو نكرة، نحو: كل رجل ولا رجل؛ لأنه بما انضم إليه من كل، والنفي صار للاستغراق، وأنه ينافي الشيوع بما ذكرناه من التفسير. فانظر كيف ذكر التعرض للنكرة المجردة عن كل والنفي! وما ذاك إلا لصدق تعريف ابن الحاجب (2) انظر «البحر المحيط» (3/ 414).% بينه وشرحه حيث قال: والمختار أن المطلق ويسمى اسم جنس ما؛ أي: لفظ دل على الماهية بلا قيد من وحدة وغيرها، فهو كلي. وقيل ما دل على شائع في جنسه وقائله توهمه النكرة العامة. واحتج له بأن الأمر بالماهية كالضرب من غير قيد أمر جزئ من جزئياتها كالضرب بالسوط، أو عصا أو غير ذلك؛ لأن الأحكام الشرعية إنما تبنى غالبًا
_________
(1) [المزمل: 16].% أو استغراقًا نحو: الرجال [وكذلك]
(2) في مختصره (2/ 155).% عليها.
وقد أوضح شمول هذا التعريف لها شيخ الإسلام المحقق العلامة القاضي زكريا محمد بن محمد الأنصاري(5/2422)
على الجزئيات لا على الماهيات المعقولة لاستحالة وجودها في الخارج. ويرد بأنها إنما يستحيل وجودها كذلك مجردة لا مطلقًا؛ لأنها توجد بوجود جزئي لها. انتهى.
فانظر كيف جعل الأمر بالماهية جزئيًّا على أن المراد بوجودها بالخارج وجودها في ضمن مفرداتها المشخصة. وعلى تعريف القاضي زكريا يكون الأمر بها كليًّا. وقد صرحوا بما يؤيد الأول، وقالوا: {أقيموا الصلاة} [1 ب] أمر جزئي من جزئيات الأمر المطلق الذي هو للوجوب حقيقة (1) قال الزركشي في «البحر المحيط» (3/ 414 - 415): قال ابن الخشاب النحوي: النكرة: كل اسم دل على مسماه على جهة البدل؛ أي فإنه صالح لهذا ولهذا. انتهى.
ولا ينبغي ذلك يعني موافقة ابن الحاجب للنحاة، فإن النحاة إنما دعاهم إلى ذلك أنه لا غرض لهم في الفرق؛ لاشترك المطلق والنكرة في صياغة الألفاظ من حيث قبول «أل» وغير ذلك من الأحكام، فلم يحتاجوا إلى الفرق، أما الأصوليون والفقهاء فإنهما عندهم حقيقتان مختلفتان.
أما الأصولي فعليه أن يذكر وجه المميز فيهما، فإنا قطعًا نفرق بين الدال على الماهية من حيث هي هي. والدال عليها بقيد الوحدة غير معينة، كما نفرق بين الدال عليها بوحدة غير معينة، وهو النكرة، ومعينة وهي المعرفة، فهي حقائق ثلاث لا بد من بيانها.
وأما الفقيه، فلأن الأحكام تختلف عنده بالنسبة إليها، ألا ترى أنه لما استشعر بعضهم التنكير في بعض الألفاظ، اشترط الوحدة، فقال الغزالي فيمن قال: إن كان حملها غلامًا فأعطوه كذا، فكان غلامين، لا شيء لهما؛ لأن التنكير يشغر بالتوحيد، ويصدق أنهما غلامان لا غلام، وكذا لو قال لامرأته: إن كان حملك ذاكرًا فأنت طالق طلقتين، فكانا ذكرين، فقيل: لا تطلق، لهذا المعنى، وقيل تطلق، حملاً على الجنس من حيث هو، فانظر كيف فرق الفقهاء بين المطلق والنكرة.
قال الزركشي (3/ 415): التحقيق أن المطلق قسمان:
أحدهما: أن يقع في الإنشاء، فهذا يدل على نفس الحقيقة من غير تعرض لأمر زائد، وهو معنى قولهم المطلق هو التعرض للذات دون الصفات لا بالنفي ولا بالإثبات، كقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} [البقرة: 67].
الثاني: أن يقع في الأخبار، مثل رأيت رجلاً، فهو لإثبات واحد مبهم من ذلك التعيين عند السامع، وجعل مقابلاً للمطلق باعتبار اشتماله على قيد الوحدة.
وعلى القسم الأول ينزل كلام «المحصول» (3/ 143). وعلى الثاني ينزل كلام ابن الحاجب (2/ 155) وهو قطعي في الماهية، هذا عند الحنفية وظاهر عند الشافعية كنظير الخلاف في العموم، ولاسترساله على جميع الأفراد يشبه العموم، ولهذا قيل: إنه عام عموم بدل، والإطلاق والتقييد من عوارض الألفاظ باعتبار معانيها اصطلاحًا، وإن أطلق على المعاني فلا مشاحة في الاصطلاح، وهما أمران نسيان باعتبار الطرفين، ويرتقي إلى مطلق لا إطلاق بعده كالمعدوم، وإلى مقيد لا تقيد بعده كزيد، وبينهما وسائط.
قال الهندي: المطلق الحقيقي: ما دل على الماهية فقط، والإضافي: يختلف نحو: رجل، ورقبة، فإنه مطلق بالإضافة إلى رجل عالم، ورقبة مؤمنة، ومقيد بالإضافة إلى الحقيقي؛ لأنه يدل على واحد شائع، وهما قيدان زائدان على الماهية.% المعبر عنها في الأصول بالمطلق فهو ما وضع للماهية مطلقًا،
_________
(1) في هامش المخطوط: «وللمحقق شارح المختصر على قول المختصر: إذا أمر الآمر بفعل مطلق نحو: اضرب من غير تعيين ضرب [معين] فالمطلوب الفعل الجزئي ... إلخ.
واعلم أنك إذا وقفت على الماهية بشرط شيء، وبشرط لا شيء، ولا بشرط شيء علمت أن المطلوب الماهية من حيث هي هي لا بقيد الجزئية، ولا بقيد الكلية. ولا يلزم من عدم اعتبار أحدهما اعتبار الآخر، وأن ذلك غير مستحيل، بل موجود في ضمن الجزئيات. قال السعد: قوله: واعلم. يشير إلى أن مبنى كلام الفريقين على عدم تحقيق معنى الماهية الكلية، وعدم التفرقة بين الماهية المطلقة بمعنى عدم اشتراط قيد ما، والمطلقة بمعنى اشتراط الإطلاق وعدم التقييد، وحقق بها في الماهية بعد ذلك.%. وقال شارح مقدمة ابن هشام النحوي عند قوله: وأما اسم الجنس النكرة(5/2423)
أي بلا تعيين؛ كأسد: اسم لماهية السبع، فقال: أسد أجرأ من ثعلب، كما يقال أسامة أجرأ من ثعالة. ويعبر عنه بالنكرة، والفرق بينهما بالاعتبار إن اعتبر باللفظ دلالته على الماهية بلا قيد سمي اسم جنس ومطلق، وإن اعتبر دلالته على الماهية مع قيد الوحدة الشائعة سمي نكرة.
قال العلامة الجزري شارح شرح المقدمة المذكورة: وعبارة العلامة التفتازاني (1) في شرح الشرح العضدي يدل على أنه لا يجوز أن يراد بالمطلق الماهية من حيث هي، حيث
_________
(1) (2/ 155).(5/2424)
قال (1) (2/ 155).% وشرحه وشرح شرحه
_________
(1) (2/ 155).%: وإنما فسر الشائع بالحصة نفيًا لما توهم من ظاهر عبارة القوم أن المطلق ما يراد به الحقيقة من حيث هي هي؛ وذلك لأن الأحكام إنما تتعلق بالأفراد دون المفهومات. ولا يخفى عليك أن المطلق في الكتاب والسنة بمعنى الماهية من حيث هي هي كثير، وكون الحكم على الإفراد لا يستلزم إخراج الماهية من حيث هي بمعنى المطلق على ما حقق الحكم في عنوان القضايا على الماهية من حيث هي هي بلا شرط؛ إذ هي الموجودة في الأذهان لا على الأفراد [2 أ].
وأما الأفراد إنما تجري الأحكام عليها بالسراية لاتحادها مع هذه الحقيقة التي هي المحكوم عليها أولاً وبالذات وذكروا أن تلك الأفراد غير مشعور بها، فكيف يكون محكومًا عليها! وقد نقل هذا التحقيق عن المحقق جلال الدين الدواني، والكامل صدر الدين الشيرازي. انتهى كلام شارح شرح المقدمة.
ولعل منكر وجود الطبيعي في الخارج ناظر إلى ما عرف به الموجود الخارجي في كتب الحكمة من أن كل موجود خارجي هو في حد ذاته متميز عن غيره، بحيث إذا لا حظ العقل خصوصيته الممتازة لم يكن له أن يفرض اشتراكها، فلو وجدت الطبيعة في الخارج كانت كذلك، ومنبت وجود الطبيعي في الخارج يكتفى بوجوده في ضمن أفراده المتشخصة في الخارج، كما قال السعد في التهذيب: والحق وجود الطبيعي بمعنى وجود أشخاصه ... إلخ.
فأوضحوا لنا هل هذا الخلاف لفظي؟ ولا فرق بين أن يتعلق الحكم بالماهية أولاً وبالذات، ويتعلق بعد ذلك بأفرادها ثانيًا، وبالفرض بطريق السراية كما قرره شارح شرح مقدمة ابن هشام المؤيد بتعريف القاضي زكريا- رحمه الله- السابق، وقبل أن يتعلق الحكم بالماهية ملحوظًا [2 ب] معها الأفراد الخارجية كما هو في تعريف المختصر(5/2425)
للتفتازاني (1) - رحمه الله- أم الخلاف معنوي، فهو المطلوب تحقيقه؛ لأن من قال باستحالة وجوده الطبيعي في الخارج لا بد أن يكون هو في حد ذاته متميزًا عن غيره بحيث لا يفرض العقل اشتراكه مع أنه مشترك بين أفراد متمكنة في أماكن مختلفة، ومتصفة بصفات متضادة، فيلزم الخلف، ونقول: ومع كون كل وحد من الجزئيات عين الآخر في الخارج فق أسهبنا في الكلام لتعلق المطلوب بلفظ التعريفات غير المتفقة لفظًا ومعنى، فأوضحوا لنا التحقيق في هذا المقام.- أمتع الله المسلمين بطول حياتكم، وأدام النفع بكم-.
وبحيث إن وجدت مباحثة بين التاج السبكي ووالده (2) الشيخ الإمام التقي في الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس ملخصة من الأشباه والنظائر لفظها: مسألة معروفة بالإشكال، مذكورة لمعالم الرجال، مشهور بين الفرسان، محررة لتصحيح الأذهان: اسم الجنس موضوع للماهية من حيث هي باعتبار وقوعها على الإفراد، وعلم الجنس الموضوع لها مقصودًا به تمييز الجنس عن غيره، من غير نظر إلى الإفراد هو الذي كان أبي يختاره في الفرق بن اسم الجنس وعلم الجنس (3)، وأنا قائل بما قاله أبي غير أن لي
_________
(1) (2/ 155 - 156).
(2) انظر ذلك في «الغيث الهامع شرح جمع الجوامع» (1/ 153 - 154).
(3) العلم: هو اسم يعين مسماه.
فقولنا «اسم» جنس مخرج لما سواه من الأفعال والحروف، وقولنا «بعين مسماه» فصل مخرج للنكرات، وقولنا «مطلقًا» مخرج لما سوى العلم من المعارف، فإنه لا يعينه إلا بقرينة، إما لفظية مثل (أل) أو معنوية كالحضور والغيبة في أنت وهو. وهذا الحد لابن مالك.
وهو قسمان:
قسم شخصي: وهو الموضوع للحقيقة بقيد الشخص الخارجي، وهو المراد بقوله «فإن كان التعيين خارجيًّا فعلم شخص، كجعفر، علم رجل، وخرنق، علم امرأة.
وأشير إلى القسم الثاني: بقوله (وإلا) أي وإن لم يكن التعيين خارجيًّا بأن لم يوضع على شخص موجودة في الخارج، وإنما وضعه للماهية بقيد الشخص الذهني (فـ) علم (جنس) كأسامة، فإنه علم على الأسد بقيد بشخص ماهيته في ذهن الواضع، وكذا ثعالة على الثعلب، فإن كلاً منهما لم يوضع على واحد من جنسه بعينه، فتشمل الماهية كل أفراد الجنس، ولا يختص ذلك بما لا يؤلف من الوحوش، بل يكون أيضًا لبعض المألوفات، كأبي المضاء لجنس الفرس.
والاسم (الموضوع للماهية من حيث هي)؛ أي: لا بقيد تشخصها في الذهن ولا عدم تشخصها- كأسد- فهو (اسم جنس).
إذا تقرر هذا، فعلم الجنس يساوي علم الشخص في أحكامه اللفظية من كونه لا يضاف، ولا يدخل عليه حرف التعريف، ولا ينعت بنكرة، ولا بقبح مجيئه مبتدأ، ولا انتصاب النكرة بعده على الحال، ولا يصرف منه ما فيه سبب زائد على العلمية.
ويفارقه من جهة المعنى لعمومه، إذ هو خاص شائع في حالة واحدة مخصوصة باعتبار تعيينه الحقيقة في الذهي، وشياعه باعتبار أن لكل شخص من أشخاص نوعه قسطًا من تلك الحقيقة في الخارج.
- وأما الفرق بين علم الجنس واسم الجنس، فقال بعضهم، إن اسم الجنس الذي هو أسد، موضوع لفرد من أفراد النوع لا بعينه، فالتعدد فيه من أصل الوضع، وإن علم الجنس الذي هو أسامة، موضوع للحقيقة المتحدة في الذهن، فإذا أطلقت أسدًا على واحد، أطلقته على أصل وضعه، وإذا أطلقت أسامة على الواحد، فإنما أردت الحقيقة، ويلزم من ذلك التعدد في الخارج، فالتعدد فيه ضمنًا لا قصدًا بالوضع.
ويتساويان في صدقهما على صورة الأسد، إلا أن علم الجنس وضع لها من حيث خصوصها باستحضارها في الذهن، واسم الجنس وضع لها من حيث عمومها.
انظر: «الكوكب المنير» (1/ 146 - 147). «تنقيح الفصول» (ص 33). «تسهيل الفوائد» (ص 30).(5/2426)
زيادة [3 أ] ونقصًا في بعض مباحثه. أما الزيادة لا أشترط فيه اعتبار وقوعه على الأفراد، وإنما أكتفي بملاحظة الواضع عند الوضع للأفراد، فأقول: اسم الجنس موضوع للقدر المشترك بين الصور الذهنية والخارجية، ملاحظًا في الصور الخارجية وسط الكلام بعد هذا في الفرق المذكور (1) انتهى.
_________
(1) الفرق بن علم الجنس كأسامة، واسم الجنس كأسد، فإنهما في المعنى سواء لصدق كل منهما على كل فرد من هذا الجنس، وفي الأحكام اللفظية مختلفان فإن لأسامة حكم الأعلام من منع الصرف لاجتماع فرعية الأنوثة والعلمية، وغير ذلك من الأحكام، وأسد نكرة محضة ...
وتقرير الفرق بينهما أن الواضع إذا استحضر صورة الأسد ليضع لها فتلك الصورة المتشخصة في ذهنه جزئية باعتبار تشخصها في ذهنه، ومطلق الصورة كلي، فإن وضع اللفظ للصورة التي في ذهنه فهو علم الجنس، وإن وضعه لمطلق الصورة فهو اسم الجنس، وحينئذ فلا يعرف الفرق بينهما إلا باعتبار وضع الواضع.
واختار والد السبكي أن علم الجنس ما قصد به تمييز الجنس عن غيره مع قطع النظر عن أفراده، واسم الجنس ما قصد به مسمى الجنس باعتبار وقوعه على الأفراد، حتى إذا أدخلت عليه الألف واللام الجنسية صار مساويًا لعلم الجنس؛ لأن الألف واللام الجنسية لتعريف الماهية، وفرع على ذلك أن علم الجنس لا يثني ولا يجمع؛ لأن الحقيقة من حيث هي لا تقبل جمعًا ولت تثنية؛ لأن التثنية والجمع إنما هو للأفراد.
«الغيث الهامع شرح جمع الجوامع» (1/ 153 - 154).(5/2427)
ومما أشكل أيضًا قول التاج السبكي في الأشباه المذكورة في كتب الجرح والتعديل قال فيه: قال العلامة ابن دقيق العيد (1) - رحمه الله-: أعراض الناس حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون والحكام.
وظاهر أنه أراد المحدثين مشتغلون بالبحث عن أحوال الرواة لتمييز العدل الضابط من المتوسط الضبط وحده، ومن الضعيف فيهما. والحكام مشتغلون بمثل ذلك ليميزوا بين العدل وغيره عند أداء الشهادات، فالمقصدان مرضيان، كيف وبمقصد المحدثين حفظت السنة الغراء من تحريف الغالين، وافتراء الوضاعين! حتى أوصلوها إلى من بعدهم
_________
(1) في «الاقتراح» (ص 302).
قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في «علوم الحديث» (ص 389 - 390): الكلام في الرجال جرحًا وتعديلاً جوز صونًا للشريعة ونفيًا للخطأ والكذب عنها، وكما جاز الجرح في الشهود جاز في الرواة ... ثم إن على الآخذ في ذلك أن يتقي الله تبارك وتعالى، ويتثبت ويتوقى التساهل، كيلا يجرح سليمًا، ويسم بريئًا بسمة سوء يبقى عليه الدهر عارها، وأحسب أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم ...
من مثل ما ذكرناه خاف، فيما رويناه أو بلغناه أن يوسف بن الحسين الرازي- وهو الصوفي- دخل عليه وهو يقرأ كتابه في الجرح والتعديل، فقال له: كم من هؤلاء القوم قد حطوا رواحلهم في الجنة منذ مائة سنة ومائتي سنة، وأنت تذكرهم وتغتابهم؟ فبكى عبد الرحمن «اهـ.
انظر: «الرفع والتكميل» (ص 47)، «شرح ألفية العراقي» (3/ 262).(5/2428)
واضحة جلية كما تلقيت [3 ب] غضة طرية فانتفع بها الأواخر والأوائل محفوظة من كل حال حائل، محصية عن أن يتفوه بأدنى دخل فيها لسان ملحد، فإن فعل أحرقته بسوارق كل منجد، وأعدمته طوارق كل مصعد، فكيف لا يرجوا أن يكونوا من الذين لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون.
فحققوا لنا مراد العلامة ابن دقيق العيد في هذه العبارة المنقولة- جزيتم خيري الدنيا والآخرة-.
ومما أشكل علينا صحة بيع العينة (1) عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه مع أنه قد يتوصل به إلى ربا الفضل، قال النووي- رحمه الله- في شرح مسلم (2) في باب الربا في حديث (3) «من قدم بتمر جنيب من خيبر فقال له رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: أكل تمر خيبر كذا؟» قال النووي (4) - في أثناء شرحه على الحديث المذكور-: واحتج في هذا الحديث أصحابنا- رحمهم الله- وموافقوهم في أن مسألة العينة ليس بحرام، وفسرها بأنها الحيلة التي يفعلها بعض الناس [4 أ] توصلاً إلى مقصود الربا، بأن يريد أن يعطيه مائة درهم بثمانين فيبيعه ثوبًا بثمانين، ثم يشتريه منه بمائة، ويوضح الدلالة من هذا الحديث أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: «بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا». ولم يفرق بين أن يشتري من المشتري أو من غيره، فدل على أنه لا فرق في هذا كله، ليس بحرام عند الشافعي (5) وآخرين، وقال مالك وأحمد: هو
_________
(1) بيع العينة هو أن يبيع سلعة بثمن معلوم إلى أجل ثم يشتريها من المشتري بأقل ليبقى الكثير في ذمته، وسميت عينة لحصول العين أي النقد فيها. ولأنه يعود إلى البائع عين ماله.
(2) (11/ 20 - 21).
(3) رقم (94/ 1593). وهو حديث صحيح.
(4) في شرحه لصحيح مسلم (11/ 21).
(5) انظر «المغني» (4/ 278).
«رحمة الأمة في اختلاف الأئمة» لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الشافعي ت: 780 هـ (ص 287).(5/2429)
حرام (1) انتهى.
فجعل هذا البيع حيلة إلى التوصل إلى محرم، وقد قلتم: أن للوسائل حكم المقاصد، فهل تحريم من حرمه لكونه وصلة إلى محرم، وحيلة إلى تناول الربا؟ فإن الشافعي لا يحرم الحيلة إلا إذا توصل بها إلى إبطال حق الغير، أو لما أورده السبكي، وقال: رواه الدارقطني (2) وأحمد (3)، وهو أن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- أنكرته على زيد ابن أرقم رضي الله عنه بأبلغ إنكار، وقالت: إنه أبطل جهاده مع رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.وقال السبكي بعد هذا: واعلم أن القوم لم ينتهض لهم حجة بهذا الحديث، ولو سلم لهم الاحتجاج بقول الصحابي، فإن الشافعي ذكر أنه لا يثبت مثله عن عائشة- رضي الله عنها-. قال: قلت وفيه ما ينبه على عدم ثبوته وهو قولها: «إنه أبطل جهاده» ولم يقل أحد أن من يعمل بالعينة يحبط عمله. انتهى.
_________
(1) انظر «المغني» (4/ 278).
فقد نقل عن الشافعي أنه قال بجوازه أخذًا من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي سعيد وأبي هريرة- قد تقدم عند مسلم رقم (94/ 1593) - «بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا» فإنه دل على جواز بيع العينة، فيصح أن يشتري ذلك البائع له، ويعود له عين ماله لأنه لما لم يفصل ذلك في مقام الاحتمال دل على صحة البيع مطلقًا، سواء كان من البائع أو غيره؛ وذلك لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يجري مجرى العموم في المقال
(2) في «السنن» (3/ 52 رقم 212)، وفي إسناده العالية بنت أيفع.
(3) ليس للعالية بنت أيفع مسند عند الإمام أحمد.
قال الزيلعي في «نصب الراية» (4/ 16) ردًّا على ابن الجوزي حين قال عن العالية هذه بأنها امرأة مجهولة لا يقبل خبرها. «قلنا: بل هي امرأة معروفة جليلة القدر، ذكرها ابن سعد في «الطبقات» (8/ 487)، فقال: العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي سمعت من عائشة» اهـ.
وقال ابن التركماني في «الجوهر النقي» (5/ 330): «العالية: معروفة روى عنها زوجها وابنها وهما إمامان وذكرها ابن حيان في الثقات من التابعين.(5/2430)
وفي جامع الأصول (1) [البقرة: 275].% فلم ينكر أحد على عائشة، والصحبة متوافرون. ذكره رزين (2) كلمة غير واضحة في المخطوط.% الشافعي الوارد عن عائشة [ .... ] (3) قال ابن الطلاع في أحكامه كما في «التلخيص» (4/ 54): «لم يثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رجم في اللواط ولا أنه حكم فيه وثبت عنه أنه قال: «اقتلوا الفاعل والمفعول به» - أخرجه أحمد (1/ 300)، وأبو داود رقم (4462)، وابن ماجه رقم (2516)، والترمذي رقم (1456)، والحاكم (4/ 355)، وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي- من حديث ابن عباس.
وهو حديث صحيح.%، ولا يشترط الحصان (4) انظر «الدر المنثور» «2/ 457 - 458).% قوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ
_________
(1) (1/ 572 رقك 405).% أن عائشة قالت: «إن لم يتب منه» قالت أم ولد زيد: «فما تصنع» فتلت عائشة: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
(2) عزاه إليه صاحب «جامع الأصول» (1/ 572)، قال: ذكره رزين ولم أجده في «الأصول».% انتهى.
فلتبينوا أيضًا لنا معنى قول الشافعي: لا يثبت مثله عن عائشة، وإن كان قد قالوا قد يرد الحديث بقرائن من حال الراوي أو المروي عنه يدركها من له في الحديث ملكة واطلاع تام فإذا هذا هو بسبب الذي [ .. ].
(3) كلمة غير واضحة في المخطوط.% ليكون منسوخًا [4 ب].
ومما دعت الحاجة إليه ترجيح ما هو الراجح من هذين الاحتمالين وهو أن الذي عليه الشافعي رضي الله عنه في أن اللائط مقيس على الزاني المحصن في الرجم.
(4) أخرج ابن ماجه رقم (2562)، والحاكم في «المستدرك» (4/ 355) من حديث أبي هريرة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا». وهو حديث حسن لغيره.% في اللواط، إلا أن المفعول به يجلد ويعزر. هذا هو المذهب الذي عليه أهله ومقلدوه.
وقال الإمام السيوطي- رحمه الله- في تفسير(5/2431)
فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (1) وهذا منسوخ بالحد إن أريد بها الزنا، وكذلك إن أريد بها اللواط عند الشافعي. وحكى المذهب السابق عنه، قال: وإرادة اللواط أظهر بدليل تثنية الضمير. والأول قال [ .. ] (2) المذهب أراد الزاني والزانية، ويرده تبيينهما بمن المتصلة بضمير الرجال وإشراكهما في الأذى والتوبة والإعراض، وهو مخصوص بالرجال لما تقدم في النساء من الحبس. انتهى.
فانظروا فإن الذي استظهره السيوطي- رحمه الله- ظاهر الدلالة على ما ذكره، وإن خالف رأي الشافعي، فإن جعله آية الجلد ناسخة لهذه الآية سواء أريد بها الزنا أو اللواط خفي، ولكن قد وافقه كثيرون، وفعل الصحابة كما لا يخفاك، فوجهوا لنا الأوجه، فإن الجمود على التقليد إذا كان الدليل على خلافه يذم ويقبح ولا يليق بالمنصف العصبية لمقلده، فالحق غير منحصر في رأيه، ولا هو بالمعصوم من الخطأ، فالحق أحق أن يتبع- كثر الله فوائدكم، وأدام النفع بكم، ولولي مكافأتكم- آمين.
ومما لم يدر أهو مقرر صحيح عندكم أم لا؟ وقد تطلبناه فما وجدنا عليه نصًّا على قلة الكتب والعلماء في جهتنا، وهو ما أورده السيد البطليوسي في شرح ديوان المعري في تهنئة بعصر [ .. ] (3) في عرس بقصيدة مطلعها:
سالم أعدائك مستسلم
وادعى في هذه القصيدة أن النثار صعد إلى الجو سلمًا، وانتثر منه زهر السماء أو أن السماء دنت عند نثر النثار فالتقطت باقتها من الزهر [5 أ] وقال بعد هذا الادعاء:
وكيف لا تطمع في مغنم ... من الثريا يعض ما يغنم
وقال الشرح المذكور: ومن قوله من الثريا راجع إلى السماء، وهي موضوعة إلى
_________
(1) [النساء: 16].
(2) كلمة غير مقروءة في المخطوط.
(3) كلمة غير مقروءة في المخطوط.(5/2432)
ما وضعت له، لأن السماء حيوان يعقل له عقل ونفس، وهكذا الأجرام العلوية كالشمس والقمر والكواكب، وعلل بأن السماء محل الفيض والفيض إلى العالم السفلي بواسطتها، ولا يقع الفيض إلا بواسطة ما يعقل، وما تكلفه المفسرون وغيرهم من تأويل إطلاق ما عليها، وأنها مما لا يعقل، وتأويل ما أشبهها مثل قوله- جل وعلا- حكاية لقول يوسف- على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام-: {والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} (1) كون هذا الجمع مختصًّا بمن يعقل لا أصل له (2)، فإنهم لم يرزقوا توفيقًا يدركون به حقائق الأشياء كما هي عليه.
هذا مضمون ما أورده [ .... ] (3) لأحد بما سبق عبر على ذهن بعضنا
_________
(1) [يوسف: 4].
(2) قال الرازي في تفسيره (18/ 86 - 87): «قوله: {رأيتهم لي ساجدين} فقوله: {ساجدين} لا يليق إلا بالعقلاء، والكواكب جمادات، فكيف جازت اللفظة المخصوصة بالعقلاء في حق الجمادات.
قلنا: إن جماعة من الفلاسفة الذين يزعمون أن الكواكب أحياء ناطقة احتجوا بهذه الآية وكذلك احتجوا بقوله: {وكل في فلك يسبحون} والجمع بالواو والنون مختص بالعقلاء، وقال الواحدي: إنه تعالى لما وصفها بالسجود صارت كأنها تعقل فأخبر عنها كما يخبر عمن يعقل كما قال في صفة الأصنام: {وتراهم ينظرون إليك وهو لا يبصرون} وكما في قوله تعالى: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم}».
وانظر: «روح المعاني» للآلوسي (12/ 179 - 180).
قال محيي الدين الدرويش في «إعراب القرآن الكريم» (4/ 451): «في قوله تعالى: {ساجدين} أجرى الكواكب الأحد عشر والشمس والقمر مجرى العقلاء وهو الذي يسميه النحاة تغليبًا وهذا الوصف صناعي، أما السر البياني فأمر كامن وراء هذا الوصف؛ ذلك لأنه وصف الكواكب والشمس والقمر بما هو خاص بالعقلاء وهو السجود أجرى عليها حكمهم كأنها عاقلة وهذا كثير شائع في كلامهم».
(3) ثلاث كلمات غير مقروءة في المخطوط.(5/2433)
أن الإمام السيوطي ذكر في الحبائك (1) فيما يتعلق بالملائكة أن اللوح ملك من الملائكة فهذا فيه تأييد لهذا.
فحققوا لنا صحة هذا القول أو عدم صحته.
_________
(1) (ص 33 - 34).(5/2434)
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين، وصحبه الراشدين.
الجواب عن السؤال الأول- وعلى الله في إصابة الحق- المبين إن الماهية المحررة قد وقع الاتفاق على عدم وجودها في الخارج، وأنها لا توجد إلا في ضمن أفرادها، ولهذا حصل على عدم وجود الكلي العقلي، والكلي المنطقي، في الخارج الكلي الطبيعي، فالاتفاق أيضًا كائن على عدم وجوده في الخارج، ومن قال إنه موجود بوجود إقراره فهو قائل: لا وجود له في الخارج؛ لأن وجود أفراده غير وجوده.
إذا عرفت هذا فاعلم أن الأوامر الشرعية (2) كلمة غير مقروءة في المخطوط.% بما لا وجود له في الخارج أصلاً؛ لأنها مجردة مستحيلة الوجود خارجًا، والتعلق بالمحال محال؛ لأن التعلق به عارض من عوارضه، والعارض لا يوجد بدون معروض المعروض مستحيل الوجود؛ لأنه ماهية ما إذا وجدت [ .. ] (3) كلمة غير مقروءة في المخطوط.% في ضمن فرد من أفرادها، أو مع ملاحظة فرد من أفراده من حيث هي هي، والحاصل أن الماهية المجزأة تتعلق بشيء من الأوامر بها؛ لأنها قد جردت عن كل شيء والماهية المطلقة يصح تعلق الأوامر بها لأنها متحققة الوجود في ضمن جزئياتها، فالأمر بها مقيد بقيد الحيثية، وهو التحقق في ضمن أو أفرادها أو الملاحظة لفرد أو أفرد [6 أ].
وأما الفرق المسئول عنه بين قول من قال إنه يتعلق الأمر بالماهية أولاً، وبأفرادها ثانيًا،
_________
(1) في هامش المخطوط ما يلي: (هذا الجواب أجبت به عن السؤالات التي وردت إلي من العلامة قاسم لطف الله).
(2) انظر «البحر المحيط» (2/ 407 - 408).% لا تتعلق [ .. ]
(3) كلمة غير مقروءة في المخطوط.% موضوع، فالأوامر الشرعية هي أمر بالماهية [ .. ](5/2435)
وبدخول قول من قال إنه يتعلق بالماهية ملحوظًا معها الأفراد الخارجية هو أن متعلق الأمر عند الأوليين الماهية التي ينتقل الذهن منها إلى أفراده، ومتعلقه عند الآخرين هو الماهية مع الإفراد؛ لأن ملاحظة الشيء مع الشيء يستلزم أن يكونا جميعًا متعلق ما وقع عليهما، أو عرضا له، فوجب بهذا أن الأولين يجعلون المتعلق بنفس الماهية المطلقة المستلزمة لإفرادها ثانيًا، والآخرين يجعلون المتعلق مجموع الماهية وأفرادها، وهذا خلاف معقول لا خلاف لفظي (1).
وأما ما استطرده السائل- كثر الله فوائده- من كلام التاج السبكي (2) ووالده التقي- رحمهما الله- فالأقرب ما قاله الوالد لا الولد، والبحث طويل الذيل، كثير الشعب. وقد جمعت فيه رسالة مستقلة استوفينا فيها ما قاله أهل العلم في هذا البحث، وما هو الصواب، ومع العود إلى الوطن- إن شاء الله- نرسلها إلى السائل.
وأما ما سأل عنه السائل- عافاه الله- من مقالة العلامة ابن دقيق العيد (3) - رحمه الله- أن أعراض الناس حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون والحكام.
فلعله يريد المتساهلين في البحث والفحص عن أسباب الجرح من الطائفتين، وأما من قام في مقام التحري، وبالغ في الكشف والفحص، ووقف في موقف الإنصاف فهو حقيق بأن يقال فيه: إنه وقف بهتكه لأستار الكذابين، وتمزيقه لأعراض الوضاعين [6 ب] وإشهار فضائحهم وقبائحهم على رءوس الأشهاد، وعلى عرصات الجنة، وفي روضات الفردوس، وكيف لا يكون كذلك وقد ذبوا عن سنة رسول لله، وذادوا عها الكذابين، وصفوها عن شوب كدر الكذب، وقذر الوضع، وجالوا بينها وبين الزنادقة
_________
(1) انظر: بداية الرسالة.
(2) تقدم ذكره.
(3) في «الاقتراح» (ص 302).(5/2436)
والمبتدعة، وسار المتلاعبين بالدين! فأعظم الله أجرهم، وأحسن جزاءهم، وأثابهم عن السنة المطهرة أجزل ثواب. فلولا أن الله- سبحانه- حفظها بهم لاختلط المعروف بالمنكر، والخير بالشر، وقال من شاء ما شاء، وتلاعب بالسنة طوائف الملاحدة على ما طوقوا به أعناق المتشرعين من المنن الجزيلة فهو إما جاهل لا يدري ما يقول، أو منغمس في بحر التعصب والابتداع، وما هو بأول كلب ينبح القمر، ولا بأول من رمى شط الفرات العذر بالقذر، ومن هذا القبيل الشاعر الجاهل أو المتجاهل. ولابن معين في الرجال مقالة سيسأل عنها والملائك شهيد، فإن كان حقًّا فالمقالة عيبه، وإن كان كذبًا فالعقاب شديد، وهذا من أعظم الجهل وأقبح الغلط، فإن هؤلاء أعني - الأئمة- لم يقوموا مقام الغيبة مرة قعدوا مقاعد البهت للناس، بل قالوا لأهل الإسلام: إن فلانًا يكذب على رسول الله، أو يجازف ولا يتحرى الصواب، أو خفيف الحفظ لا يضبط ما يسمعه، أو مبتدع يستجيز الكذب على رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ببدعته، كما هو مذهب طائفة من الروافض، أو مبتدع لا يستجيز الكذب ببدعته، ولكنه يتعمد الكذب ليدعوا الناس إلى بدعته، وكل هؤلاء غير مأمون على سنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما أن من كان غير ثقة، غير مأمون على الشهادة يقتطع أموال الناس بمجرد رشوة [7 أ] يعطاها، أو غير ذلك من الأسباب الحاملة لمن لا دين له، ولا أمانة على الشهادة عند الحكام في الدماء والأموال، فإن من كان متساهلاً بدينه الذي تعبده الله به يغلب الظن بتساهله في الشهادة وغيرها.
وأما سؤال السائل- عافاه الله- عن بيع العينة.
فالحق الذي لا ينبغي العدول عنه، ولا الالتفات إلى ما سواه أن كل وصلة توصل بها إلى نوع من أنواع الربا، وكل ذريعة يتذرع بها إلى شائبة من شوائبه باطلة حرام لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع فيها، أو يفتي بحلها، أو رخص لعبد من عباد الله(5/2437)
في شأنها. وأما حديث التمر الجنيب فهو حديث صحيح (1)، ولطف لطف الله به وبعباده بسببه، فإنه خلصهم به من كثير من شوائب الربا، وفرق بين ما شرع للخلوص من الحرام، وبين التوصل إلى الحرام، بل هما متقابلان، فكيف يدل الحديث على الأمرين! فالاستدلال بحديث التمر الجنيب على جواز بيع العينة غلط أو مغالطة.
وبالجملة فالدليل على منع ذرائع الربا ووسائله هو الأدلة في القرآن والسنة الدالة على تحريم الربا، ولا يحتاج معها إلى الاستدلال بقول صحابي على فرض أنه قاله اجتهادًا منه.
وأما ما سأل عنه السائل- عافاه الله- من قول الإمام الشافعي- رحمه الله- لا يثبت مثله عن عائشة (2) - رضي الله عنها-.
فهذا الإمام الكبير لا يقول هذه المقالة إلا بعد أن يطلع من الأسباب القادحة في الثبوت على ما يوجب الجزم بعدم الثبوت، وهو أجل وأعلا وأنبل من أن يقول شيئًا عن غير بصيرة، أو بدون تنقيب، ولكن هو [7 ب] قد قضى ما عليه، وواجب علينا أن نبحث كبحثه، وننظر كنظره، ونعمل بما يظهر بعد التحري والفحص ومراجعة دواوين الرجال المستوفية للكلام في أحوالهم، تجريحًا، وتعديلاً، وإجمالاً وتفصيلاً، كالتهذيب للمزي، والنبلاء، وتاريخ الإسلام للذهبي، ونحو هذا.
وأما ما سأل عنه السائل من كلام أهل العلم في شأن اللوطي.
فالذي أقول به، وأعمل عليه أن الفاعل والمفعول به المكلفين يستحقان القتل لحديث: «اقتلوا الفاعل والمفعول به» (3) وهو حديث صالح للاحتجاج به. وقد قرت في مؤلفاتي وأطلت البحث في شانه، ولا وجه للقول بالرجم والإلحاق بالمحصن، بل هذه
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) أخرجه أحمد (1/ 300) وأبو داود رقم (4462) وابن ماجه رقم (2561) والترمذي رقم (1456). من حديث ابن عباس وهو صحيح.(5/2438)
المعصية أوجب الشارع على فاعلها والمفعول به القتل، من غير فرق بين بكر (1) هذا المثل لإحدى ضرائر رهم بنت الخزرج امرأة سعد بن زياد مناة رمتها رهم بعيب كان فيها، فقالت الضرة: رمتني بدائها المثل، يضرب لمن يعير صاحبه بعيب هو فيه.
«مجمع الأمثال» (1/ 178) و (2/ 23).% وانسلت، فهو المتكلف المتعسف بلا شك ولا شبهة ولا فائدة لإطالة منا، وتزييف هذا الكلام الباطل، والتكثير من دفعه فهو أظهر بطلانًا، وأبين فسادًا من أن نطيل في شانه أو نستدل على بطلانه.
وفي هذا المقدر كفاية , وإن كان المقام متحملاً للبسط.
والله ولي الإعانة، وهو حسبي، ونعم الوكيل [8 أ].
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه ابن ماجه رقم (2562)، والحاكم في «المستدرك» (4/ 355) من حديث أبي هريرة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا». وهو حديث حسن لغيره.% وثيب، ومحصن وغير محصن.
وأما ما سأل عنه السائل من قول البطليوسي في شأن الشمس والقمر والسماء والكواكب، وأنها حيوانات تعقل.
فهذا قول باطل فاسد غاية الفساد، لا ينبغي أن يلتفت إليه مسلم، ولا يعتقد صحته موحد. العجب منه حيث قال: وما تكلفه المفسرون وغيرهم ... إلى آخر كلامه، وما أحقه بأن يقال له: رمتني بدائها(5/2439)
بحث في كون أعظم أسباب التفرق في الدين هو علم الرأي
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(5/2441)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (بحث في كون أعظم أسباب التفرق في الدين هو علم الرأي).
2 - موضوع الرسالة في الأصول.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين. وبعد:
فاعلم أن داعية التفرق الكبرى، وسبب الاختلاف الأعظم هو دخول الرأي في هذه الشريعة المطهرة ...
4 - آخر الرسالة:
فالحاصل أن الرأي هو الذي غير الشرائع بعد أن كانت صحيحة مستقيمة لا عوج بها. والمهدي من هداه الله عز وجل.
وفي هذا المقدار كفاية. قاله كاتبه- غفر الله له-.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: (5) صفحات.
7 - المسطرة: الأولى: 7 أسطر. الثانية والثالثة: 30 سطرًا. الرابعة: 3سطرًا.
الخامسة: 29 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(5/2443)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين. وبعد:
فاعلم أن داعية التفرق الكبرى، وسبب الاختلاف الأعظم هو دخول الرأي في هذه الشريعة المطهرة، فإن كل عارف يعلم أن الناس ما زلوا متفقين في الجملة قبل ظهور علم الرأي (1) قال ابن تيمية في «الغيث المسجم» (1/ 79): «ما أظن أن اله يغفل عن المأمون، ولا بد أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخال هذه العلوم الفلسفية بين أهلها».%بعد الصحابة والتابعين تفرقوا فرقًا، وصاروا منتسبين إلى أهل المذاهب إلا من عصمه الله، وقليل ما هم.
وقد أوضحت هذا في كثير من مؤلفاتي كالكتاب الذي سميته «أدي الطلب في منتهى الأرب» (2) تم بحمد الله تحقيقها وطبعها.% والكتاب الذي سميته «قطر الولي على حديث الولي» (3) تم تحقيقها ضمن الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني هذا.% وأنا هاهنا أوضح لك أن هذا الداء قديم، وأنه كان في الشرائع المتقدمة كما وقع في هذه الشريعة، حتى يكون ذلك موعظة لك، فإنه الداء الذي هلكت به الأمم،
_________
(1) تقدم التعريف به في المجلد الأول.%؛ وذلك لأنهم عاملون بنصوص الكتاب والسنة كما كان في زمن الصحابة والتابعين، فإنها كانت الكلمة [1 أ] واحدة، والدين متفق، والنسبة إلى مطلق الإيمان والإيمان إلى الشريعة المطهرة، لا إلى فرد من أفراد العباد الذين هم من جملة المحكوم عليهم بالشريعة الإسلامية التي هي كتاب الله- سبحانه-، وسنة رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-. فلما ظهر علم الرأي.
(2) تم بحمد الله تحقيقها وطبعها في مكتبة ابن تيمية- القاهرة.% والرسالة التي سميتها «القول المفيد في حكم التقليد».
(3) تم تحقيقه ولله الحمد.% والكتاب الذي سميته «نثر الجواهر على حديث أبي ذر».(5/2447)
واضطربت فيه الشرائع، وصارت الشرائع بين أهل الرأي كالكرة يتلاعب بها أهل الرأي بينهم كما يتلاعب بها الصبيان. فاسمع ما أمليه عليك من أخبار الملة اليهودية، والملة النصرانية حتى يتضح لك الأمر إيضاح الشمس، ويتبين الصواب تبين النهار.
لما أرسل الله- سبحانه- رسوله موسى- عليه السلام- إلى بني إسرائيل، وإلى القبط الذين هم جند فرعون أنزل عليه التوراة، فجعل لها شرحًا سماه «المشنا» (1) التوراة كلمة عبرية معناها الشريعة، وتسمى الناموس أي القانون، كما تسمى أيضًا (البانتاتيك)، وهي كلمة يونانية تعني الأسفار الخمسة وهي: سفر التكوين، سفر الخروج، سفر اللاويين، سفر العدد، سفر التثنية.
النظر شرحها في القسم الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني (العقيدة).% التي هي كتاب الله- عز وجل-
_________
(1) يوشع بن نون عليه السلام: كان اسمه في الأصل، (هوشع، يهوشوع) ثم دعه موسى يوشع معناه (يهود خلاص) وهو خليفة موسى الذي قاد بني إسرائيل لدخول الأرض المقدسة ومحاربة أهلها وأن أمر الشمس بالوقوف والتأخير في المغيب ليتم له فتح الأرض والنصر على أعدائه.
انظر «الكتاب المقدس سفر يوشع». «تلخيص البيان في ذكر فرق أهل الأديان» (ص 202).
- أما في القرآن الكريم لم يصرح باسمه في قصة الخضر {وإذ قال موسى لفتاه} [الكهف: 60]، وقد ورد النص على نبوته وأنه خليفة موسى في بني إسرائيل فيما رواه مسلم في صحيحه رقم (3/ 1366) وأحمد (3/ 318) والبخاري مختصرًا في «الفتح» (9/ 223) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبن، ولا آخر قد بنى بنيانًا ولم يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنمًا أو خلفات وهو ينتظر أولادها. قال: فغزا فدنا من القرية حين صلى العصر أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي شيئًا فحبست عليه حتى فتح الله عليه ... ».
ويتبين لنا اسم هذا النبي الذي حبست له الشمس من الحديث الذي أخرجه أحمد (2/ 325) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس». وهو حديث صحيح.
انظر: «تفسير ابن كثير» (3/ 97 - 101)، «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (1/ 347 - 351 رقم 202).% بفتح الميم وسكون الشين المعجمة، وبعدها نون، فكانت التوراة(5/2448)
وكلامه نفسره بتفسير نبي الله موسى- عليه السلام-، ومعنى المشنا باللسان العبرانية استخراج الأحكام من النص الإلهي، فاستمر على هذا أهل الشريعة اليهودية بلا خلاف بينهم في حياة موسى- عليه السلام-، وأيام من قام بالنبوة بعده، وهو يوشع بن نون (1) [البقرة: 79].% ووضعوا لكتابهم هذا- الذي حرفوا فيه وبدلو وخلطوا ما في التوراة بالرأي، وأخفوا منها ما أخفوه، وحرفوا ما حرفوا- اسمًا فسموه التلموذ بفتح المثناة من فوق، وسكون اللام، وضم الميم، وسكون الواو بعده ذال معجمة. فعند ذلك ظهر اختلافهم في الدين، وتفرقهم في تلك الشريعة،
_________
(1) يشوشع بن نون: من أنبياء بني إسرائيل بعثه الله نبيًّا فدعا بني إسرائيل وأخبرهم أنه نبي وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبارين فبايعوه وصدقوه وخرج في الناس يقاتل الجبارين وهزمهم تاريخ الطبري (1/ 117).%، ومازالوا كذلك بعد يوشع، وكلهم يتمسك بما في التوراة وما فسرها به موسى في ذلك الكتاب، ولم يظهر بينهم خلاف قط في الجملة كما كان عليه المسلمون في أيام الصحابة والتابعين، مع تمسكهم بالكتاب والسنة [1 ب].
ثم بعد ذلك كان رجلان من اليهود يقال لأحدهما هلال، وللآخر شماي، فكتبا المشنا الموسوي، وخلطاه بكثير من آرائهم وآراء أمثالهم من أكابر اليهود، فجاء من بعدهم فكتبوا ما كتبوه من المشنا المختلط بالرأي، وضموا إلى ذلك كثيرًا من الرأي، وأخفوا كثيرًا مما كان في المشنا الموسوي، ونسبوا الجميع إلى الله- عز وجل-.
وكذا قال الله- عز وجل- ناعيًا لصنعهم عليهم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}(5/2449)
فتملك كثير منهم بهذا الكتاب، وتمسك آخرون بالمشنا المنقول من المشنا الموسوي، وكانت الطائفة الأولى لا تعمل بما في التوراة، وما في المشنا إلا إذا وافق ما في التلموذ، وما خالف ذلك منه ردوه أو تأولوه.
وتفرقوا أربع فرق: الفرقة الأولى: الربانيون (1) العنانية (القراءون): نسبة إلى عنان بن داود أحد كبار الأحبار في القرن الثامن الميلادي (كان موجودًا سنة 136 هـ في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، وحيث أنه هذه الطائفة تتمسك بأسفار العهد القديم وحده- التي كانت تسمى عند اليهود (المقرا) أي المقروء- وتكفر بالتلموذ، فقد سمي اتباع هذه الطائفة (بالقرائين) في القرن التاسع الميلادي ويرى بعض المؤرخين القرائين بـ (مينيم) أي الزنادقة و (أبيقوريم) أي الأبيقوريين نسبة إلى المدرسة الفلسفية اليونانية الوثنية، العداء مستحكم بين الطائفتين إلى حد أن كلاً منها تكفر الأخرى وتنجسها وتحرم التعامل والزواج من أتباعها، ومن أبرز مبادئهم ما يأتي:
1 - تأثروا بالصدوقيين والعيسوية في التمسك بأسفار العهد القديم فقط وإنكار التلموذ.
2 - تأثروا بالإسلام فقالوا بأن عيسى عليه السلام ليس زنديقًا وإنما كان رجلاً من بني إسرائيل تقيًّا صالحًا ومصلحًا. وبان محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي حق إلا أنهم زعموا بأن عيسى لم يكن نبيًّا وبأن محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينسخ شريعة التوراة، وقالوا: بنفي التجسيم والتشبيه عن الله عز وجل.
3 - يخالفون سائر اليهود في أحكام السبت والأعياد، وينهون عن أكل الطيور والظباء والسمك والجراد، ويذبحون الحيوان على القفا.
4 - يعتبرون مؤسس فرقتهم عنان قديسًا ويجعلون له دعاءً خاصًّا في صلواتهم.
5 - يعادون الحركة الصهيونية وينفرون منها؛ لأنهم يرون أن استيلاء الكفرة الربانيين على مقدسات إسرائيل خطر يهددهم.
وقد كان أكثر القرائين يقيمون في مصر والشام وتركيا والعراق وإيران وبعض أجزاء من روسيا وأوربا الشرقية والأندلس، وعددهم بالنسبة إلى اليهود عمومًا، حاليًا يوجد منهم حوالي عشرة آلاف يتركزون حول الرملة وعددهم معابدهم تسعة.
انظر: «اليهودية» (ص 231) أحمد شلبي، «الملل والنحل» (2/ 215)، «الفصل» (1/ 178).%، والفرقة الرابعة
_________
(1) ويقال لهم: بنو مشتو ومعنى مشتو (الثاني) لأنهم يعتبرون أمر البيت الذي بني ثانيًا بعد عودهم من الجلاية وخربة طيطش، وينزلونه في الاحترام والإكرام والتعظيم منزلة البيت الأول الذي ابتدأ عمارته داود وأتمه ابنه سليمان عليهما السلام وخربه بختنصر فصار كأنه يقول لهم أصحاب الدعوة الثانية، وهذه الفرقة بعيدة عن العمل بالنصوص الإلهية ومن مذهبهم القول بما في التوراة على معنى ما فسره الحكماء من أسلافهم.
انظر: «الخطط» للمقريزي (4/ 368).%، والفرقة الثانية: القراءون، والفرقة الثالثة: العانانية(5/2450)
: السمرة (1) انظر: «الفكر الديني» د. حسن ظاظا (ص 207).%
_________
(1) السامريون: نسبة إلى مدينة السامرة القديمة التي يعيشون حولها قرب مدينة نابلس، وعرفوا أيضًا باسم (الشكمين) نسبة إلى مدينة شكيم (نابلس) ويسميهم أعداؤهم من الطوائف اليهودية الأخرى باسم (الكوتيين) أي المرتدين، ويزعم السامريون أنهم البقية على الدين الصحيح وينتسبون إلى هارون عليه السلام، ويسمون أنفسهم بـ (بني إسرائيل أو بني يوسف)، وأبرز مبادئهم الدينية:
1 - الإيمان بإله واحد روماني، وأن موسى خاتم الرسل، وأن جبل جريزيم هو القبلة الصحيحة الوحيدة لبني إسرائيل.
2 - يؤمنون بالتوراة وسفر يوشع- لأن التوراة نصت على أنه خليفة موسى من بعده- وسفر القضاة باعتباره سفرًا تاريخيًّا، وينكرون ما عدا ذلك من أسفار العهد القديم والتلمود.
ونسخة التوراة التي يؤمنون بها تخالف النسخة التي بأيدي سائر اليهود، وتسمى توراتهم (بالتوراة السامرية).
3 - ينكرون كل الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى ويوشع عليهما السلام، إلا أنهم ينتظرون المسيح المخلص لهم الذي يعلن مولده ظهور نجم يستمر طوال الوقت في سماء جريزيم.
وقد تقلص عدد أفراد هذه الطائفة فأصبحوا لا يزيدون عن بضع مئات فقط يعيشون جوار مدينة نابلس ولا يستحلون الخروج منها.
- وذكر الشهرستاني أن السامرة افترقوا إلى فرقتين:
الأولى: الدوستانية ومعناه (الفرقة المتفرقة الكاذبة) وهو الألفانية أتباع رجل يقال له الألفان. ادعى النبوة وبأنه المسيح المنتظر، هذه الفرقة تنكر البعث وتزعم بأن الثواب والعقاب في الدنيا.
الثانية: الكوستانية، ومعناه (الجماعة الصادقة) وهم يقرون بالآخرة والثواب والعقاب فيها.
«الملل والنحل» (1/ 218، 219).
«الفصل» (1/ 177، 178).
- وتذكر بعض المصادر الإسلامية طائفة السامرية باسم (الإمساسية) نسبة إلى أنهم يرون تحريم أكل ما مسه غيرهم.
وقيل: نسبة إلى السامري الذي صنع العجل لبني إسرائيل وزين لهم عبادته في زمن موسى فعاقبه الله عز وجل: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} [طه: 97].
«الخطط» للمقريزي (3/ 508).
«صبح الأعشى» للقلقشندي (13/ 268).
ويزعم اليهود أن السامريين جاءوا من بابل، وأسكنهم ملك آشور مكان الأسباط العشرة من بني إسرائيل (في المملكة الشمالية) الذين أخذهم آشور سبيًا إلى بابل، فامتلك القادمون الجدد السامرة واستوطنوا بها ويعتمد أصحاب هذا الرأي على ما ورد في سفر الملوك الثاني الإصحاح (17) أما المعتدلون من اليهود فيرون أن أصل السامريين يرجع إلى من بقي من اليهود الضعفاء في فلسطين بعد السبي البابلي.(5/2451)
ثم تفرقوا بعد ذلك تفرقًا آخر بعد أن كانوا أربع فرق في فروع دينهم، فتفرقوا في مسائل الاعتقاد إلى ثلاث فرق:
فرقة يقال لهم: الفروشيم (1) قال ابن حزم في «الفصل» (1/ 178): الصدوقية: ونسبوا إلى رجل يقال له (صدوق)، وهم يقولون: من أثر اليهود أن العزير هو ابن الله- تعالى الله عن ذلك- وكانوا بجهة اليمن.
وقال المقريزي في «الخطط» (3/ 511): وأما يهود فلسطين فزعموا أن العزير ابن الله تعالى. وأنكر اليهود هذا القول.
قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ 30 اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 30 - 31].%، وهو الواقفون على نصوص التوراة.
_________
(1) سيأتي التعريف بها قريبًا.%، وهم الذين يعملون بما قاله الحكماء منهم المحكمون للعقل، إن خالف ما في التوراة.
والفرقة الثانية يقال لها: الصدوقية(5/2452)
والفرقة الثالثة: سلكوا مسلك الزهد والعبادة والأخذ بالأسلم والأفضل في مسائل الاعتقاد، واستمروا على ذلك إلى أن ظهر فيهم موسى بن ميمون القرطبي (1) بعد الخمس مائة من سني الهجرة النبوية فردهم إلى التعطيل، فصاروا في أصول دينهم أبعد الطوائف من الحق. وكان هذا اليهودي موسى بن ميمون متزندقًا كما صرح بذلك جماعة من أحبار اليهود وغيرهم، وقد كانوا تفرقوا قبل وجود موسى بن ميمون تفرقًا آخر بعد ذلك التفرق الأول إلى:
شمعونية (2)، وجالوتية (3)، وفيومية (4)، وسامرية (5)، وعكبرية (6)، وأصبهانية (7)
_________
(1) موسى بن ميمون بن يوسف بن إسحاق، أبو عمران القرطبي يهودي، ولد وتعلم في قرطبة وتنقل مع أبيه في مدن الأندلس، وتظاهر بالإسلام. وقيل: أكره عليه. «الأعلام» للزركلي (7/ 329 - 330).
وقد تقدمت ترجمته في القسم الأول من «الفتح الرباني» (العقيدة) (ص 496).
(2) الشمعونية: نسبة إلى شمعون الصديق (ت 135 ق. م) من بقايا رجال الكنيس الكبرى والمؤسس للدولة الأسمونية أو الحشمتية في أيام المكابيين، واشتهر إطلاق اسم (الفريسيون) بالعبرية (فروشيم) على هذه الطائفة، ومعنى هذا الاسم أنهم المفروزون أو المنعزلون الذين امتازوا عن العامة، وهم طائفة علماء الشريعة من الربانيين قديمًا، ويطلقون على أنفسهم اسم (حسيديم) أي الأتقياء و (حبيريم) أي الزملاء.
انظر: «الفصل» (1/ 178). «الملل والنحل» (1/ 212). «الخطط» (2/ 510) للمقريزي.
(3) قال المقريزي في «الخطط» (2/ 478): الجالوتية تبالغ في التشبيه.
(4) قال المقريزي في «الخطط» (2/ 478): الفيومية- بالفاء- فإنها تنسب إلى أبي سعيد الفيومي، وهم يفسرون التوراة على الحروف المقطعة.
(5) تقدم ذكرها.
(6) قال المقريزي في «الخطط» (2/ 478) العكبرية أصحاب أبي موسى البغدادي العكبري وإسماعيل العكبري، وهم يخالفون أشياء من السبت وتفسير التوراة.
(7) الأصبهانية (العيسوية) أتباع إسحاق بن يعقوب (عويديا) المعروف بأبي عيسى الأصفهاني، من مواليد أصفهان ببلاد فارس، الذي ادعى النبوة وبأنه رسول المسيح المنتظر، ثم زعم بأنه هو المسيح المنتظر لليهود، وزعم بأن الله كلمه وأرسله ليخلص بني إسرائيل من السبي، فلذلك جمع جيشًا قوامه عشرة آلاف رجل لتحقيق أهدافه، إلا أنه انهزم في معركة الري وقتل فيها.
ويذكر الحبر القرائي القرقشاني أن أبا عيسى ظهر في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (685 - 705 م) ولكن الشهرستاني يقول: بأنه كان في زمن المنصور (750 - 754 م) وابتدأ دعوته في زمن آخر ملوك بني أمية مروان بن محمد (744 - 750 م) وقد رجحت دائرة المعارف اليهودية قول الشهرستاني على القرقشاني.
من أهم مبادئهم:
1 - ادعى أتباع أبي عيسى له المعجزات، واعتقدوا بأنه حي لم يمت، وأنه اختفى في كهف وسيظهر ليتم رسالته بإنقاذ اليهود.
2 - أنكر أبو عيسى التلمود، وأدخل تعديلات كثيرة على الأحكام اليهودية ضمنها كتابه (سفر همصغوت) أي كتاب الوصايا، ومنها: أنه حرم الذبائح كلها ونهى عن أكل كل ذي روح على الإطلاق، وأوجب عشر صلوات على أتباعه وألغى الطلاق وغير ذلك من التشريعات التي خالف بها أحكام التوراة.
3 - يعترفون بنبوة عيسى عليه السلام ونبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غير أنهم يقولون: بأنهما لم يؤمرا بنسخ شريعة موسى عليه السلام وبأن محمدًا لم يرسل إلا إلى العرب.
انظر: «الخطط» (3/ 510)، «الفصل» (1/ 179)، «الملل والنحل» (1/ 215 - 216).(5/2453)
وعراقية (1) (المقاربة) البنيامينية: فرقة متشعبة من طائفة العنانية (القرائين) وهم أتباع بنيامين بن موسى النهاوندي الفارسي (830 - 860 م) الذي نادى بتعاليمه في أوائل القرن التاسع الميلادي، وهي في جملتها مستمدة من تعاليم (عنان) مع بعض المسائل التي خالفه بها متأثرًا بالمعتزلة والفلاسفة فقد قرر لأتباعه أن النصوص المتشابهات في التوراة كلها مؤولة، فجعل الله روحانيًّا، ومن النقص في حقه أن يتصل بالماديات إلى حد أنه أنكر أن يكون الله قد تولى عملية الخلق في صورة مباشرة، وبأن الله خلق الملائكة- وهم كائنات روحية- ليتولوا خلق هذا العالم المادي، كما قرر بنيامين بأن الله لا يوصف بأوصاف، ولا يشبه شيئًا من المخلوقات ولا يشيبه شيء منها، وبأن كل ما في التوراة وسائر الكتب من وصف الله تعالى بالكلام والاستواء ونحوه فإن المراد بذلك الوصف ملك عظيم خلقه الله وقدمه على جميع الخلائق واستخلفه عليهم.
ويبدو لنا أن بنيامين كان متأثرًا أيضًا بعقائد فرقة (المقاربة) أو أصحاب المغار وقد انضم إلى نحلة بنيامين عدد كبير من القرائين، وعظمت مكانته بين أتباعه حتى رفعوه إلى مرتبة عنان، وقد عرف أتباعه باسم (المقاربة أو المقاربت). -
أما أصحاب المغار أو الكهوف (المقاربة) هذه الطائفة قد انقرضت في القرن الأول الميلادي- نقلاً عن العالم القرائي القرقشاني- وبأنهم كانوا يحفظون كتبهم في كهوف التلال المحيطة بفلسطين، ومن أبرز الاختلافات العقائدية بينهم وبين بقية المجتمع اليهودي هو اعتقادهم بتنزيه الإله وعدم اختلاطه بالمادة، ورفضوا القول بأن العالم خلق مباشرة بواسطة الله، ولكنه خلق بواسطة وسيطة (وهو الملك) مسئول عن الخلق، وحل محله الإله في العالم المخلوق، ونسبوا الشريعة والاتصال الإلهي إلى الملك وليس إلى الله عز وجل ويرى بعض المؤرخين بأن هذه الطائفة هي الفرقة المعروفة باسم (الأسينيين) نظرًا لتشابه عقائدها وتاريخ انقراضها.
انظر: «الملل والنحل» (1/ 17 - 18)، «دائرة المعارف اليهودية» (14/ 1088).%،
_________
(1) العراقية: تعمل رءوس الشهور بالأهلة وآخرون يعملون بالحساب.
«الخطط» للمقريزي (2/ 479).%، ومقاربة(5/2454)
وسرشتانية (1)، وفلسطينية (2)، ومالكية (3) ...............................
_________
(1) قال المقريزي في «الخطط» (2/ 479): أصحاب شرشتان زعم أنه ذهب من التوراة ثمانون سوقة أي آية وادعى أن للتوراة تأويلاً مخالفًا للظاهر.
(2) وقال المقريزي في «الخطط» (2/ 479): أما يهود فلسطين فزعموا أن العزير ابن الله تعالى وأنكر أكثر اليهود هذا القول.
(3) الملكية (الملكي الرملي): من الطرق المتشعبة عن طائفة القرائين (مالك الرملي) الذي كان منتصف القرن التاسع الميلادي، وكان متأثرًا في آرائه بالسامريين، إذ كان مالك يعتقد- مثل السامريين- بأن يد الحصاد أو عيد الأسابيع ويسمى عندهم بـ (شبوعوت) لا تكون بدايته إلا في يوم الأحد، وقد اندثرت طائفة الملكية في نهاية القرن التاسع، وذابت ضمن الفرق الكبيرة من طائفة القرائين.
قال المقريزي في «الخطط» (3/ 511) أن الملكية يزعمون أن الله تعالى لا يحيي يوم القيامة الموتى إلا من احتج عليه بالرسل والكتب.
وانظر: «دائرة المعارف اليهودية» (10/ 766) (11/ 826).(5/2455)
وربانية [2 أ] (1) انظر: «تخجيل من حروف التوراة والإنجيل» (1/ 244 - 146).% من يقول: الابن يعني المسيح من الأب- تعال الله عن ذلك علوًّا كبيرًا- بمنزلة شعلة نار تعلقت من شعلة أخرى فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها (2) انظر: «تخجيل من حروف التوراة والإنجيل» (1/ 493 - 498). «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» (3/ 316).%، وهو الكلمة في الأزل كما خلق الملائكة
_________
(1) الربانيون: هم امتداد للفريسيين في أفكارهم، ويمثلون جمهور اليهود قديمًا وحديثًا، وأطلق عليهم هذا اللقب لإيمانهم بأسفار التلمود التي ألفها الربانيون وهم الحاخاحيم أو الفقهاء لهذه الطائفة، ومن أبرز مبادئ هذه الطائفة:
1 - أنها تعترف بجميع أسفار العهد القديم، وتذهب إلى تأويل النصوص.
2 - تؤمن بأسفار التلمود.
3 - تؤمن بالبعث، وتعتقد أن الصالحين من الأموات سينشرون في هذه الأرض ليشتركوا في ملك المسيح المنتظر، الذي يزعمون أنه سيأتي لينقذ الناس ويدخلهم في اليهودية.
4 - أشد الطوائف اليهودية عداوة لغيرهم من الأمم، وينتظرون إلى من عدم بعين النقص والازدراء وبأنهم حيوانات خلقوا في صورة البشر لخدمة اليهود.
ومن هذه الطائفة نشأت الحركة الصهيونية والحركات الهدامة الأخرى التي تهدف إلى إخضاع العالم لليهود.
«الملل والنحل» (1/ 212)، «الفصل» (1/ 178)، «دائرة المعارف الإسرائيلية» (13/ 363).% هذا حاصل ما وقع من اختلافات ليهود واضطراب مذاهبهم.
وأما الملة النصرانية فكانت في أيام المسيح- عليه السلام- وأيام الحواريين واحدة مؤتلفة غير مختلفة، واشتغل الحواريون بدعاء الناس إلى ملة المسيح، وذهبوا في الأرض يدعون الناس إلى ذلك، ولا خلافي بينهم. فلما انقرضوا وقع الاختلاف الطويل العريض. فمنهم
(2) انظر: «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» لابن تيمية (3/ 165 - 168).%.
ومنهم من قال: المسيح وأمه إلهين من دون الله تعالى.
ومنهم من قال: بل الله خلق الابن(5/2456)
روحًا طاهرة مقدسة بسيطة مجردة عن المادة، ثم خلق المسيح في آخر الزمان من أحشاء مريم البتول الطاهرة، فاتحد الابن المخلوق في الأزل بإنسان المسيح فصار واحدًا.
ومنهم من قال: إن مريم لم تحمل (1) بالمسيح تسعة أشهر بل مر بأحشائها كمرور الماء في الميزاب.
ومنهم من قال: المسيح بشر خلق، وأن ابتداء الابن من مريم ثم إنه اصطفي فصحبته النعمة الإلهية بالمحبة والمشيئة.
_________
(1) قال ابن تيمية في «الجواب الصحيح» (3/ 316 - 317): والمسيح- عليه السلام- لم يخلق من ماء رجل، بل لما نفخ روح القدس في أمه حبلت به، وقال الله كن فيكون، ولهذا شبهه الله بآدم في قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].
فإن آدم- عليه السلام- خلق من تراب وماء، فصار طينًا، ثم يبس الطين، ثم قال له: كن فكان، وهو حين نفخ الروح فيه صار بشرًا تامًّا، لم يحتج بعد ذلك إلى ما احتاج إليه أولاده بعد نفخ الروح، فإن الجنين بعد نفخ الروح يكمل خلق جسده في بطن أمه، فيبقى في بطنها نحو خمسة أشهر، ثم يخرج طفلاً يرتضع، ثم يكبر شيئًا بعد شيء. وآدم- عليه السلام- حين خلق، خلق جسده، قيل له كن بشرًا تامًّّا بنفخ الروح فيه، ولكن ولم يسم كلمة الله؛ لأن جسده خلق من التراب والماء، وبقي مدة طويلة- يقال: أربعين سنة، فلم يكن خلق جسده إبداعيًّا في وقت واحد، بل خلق شيئًا فشيئًا، وخلق الحيوان من الطين معتاد في الجملة.
وأما المسيح- عليه السلام- فخلق جسده خلقًا إبداعيًّا بنفس روح القدس في أمه، قيل له: فيكون، فكان له من الاختصاص بكون خلق بكلمة الله ما لم يكن لغيره من البشر، ومن الأمر المعتاد في لغة العرب وغيرهم أن الاسم العام إذا كان له نوعان خصت أحد النوعيين باسم وأبقت الاسم العام مختصًّا بالنوع، كلفظ الدابة والحيوان فإنه عام في كل ما يدب، وكل حيوان، ثم لما كان للآدمي اسم يخصه بقي لفظ الحيوان يختص به البهيم، ولفظ الدابة يختص به الخيل أو هي والبغال والحمير ونحو ذلك، وكذلك لفظ الجائز والممكن وذوي الأرحام، وأمثال ذلك، فلما كان لغير المسيح ما يختص به أبقي اسم الكلمة العامة مختصًّا بالمسيح.(5/2457)
ومنهم (1) من قال: الآلهة ثلاثة: فصالح، وطالح، وعدل بينهما.
ومنهم (2) من قال: الابن مولود من الأب قبل كل الدهور، غير مخلوق، وهو من جوهره ونوره، وأن الابن اتخذ بالإنسان المأخوذ من مريم فصارا واحدًا وهو المسيح. إلى ذلك من الاختلافات المنسوب كل واحد منها إلى طائفة منهم. ثم كان يحدث في كل عصر قول يقوله بعض أساقفتهم أو بطاركتهم، فيشبع ذلك فيهم، ثم يجتمعون لأجله من جميع الأمكنة التي بها النصارى، فيبعثون من فيهم من الأساقفة والبطاركة فعند الاجتماع يختلفون ويضلل بعضهم بعضًا. وقل أن يجتمعوا مجمعًا إلا ويتفرقون على خلاف بينهم من دون اتفاق.
وإذا نظر من يفهم إلى أقوالهم المتحددة ومذاهبهم المختلفة وجد ذلك مستندًا إلى قضايا عقلية تختلف فيها العقول غاية الاختلاف، ولم يكن ذلك [2 ب] مستندًا إلى ما في الإنجيل، ولا إلى ما قاله المسيح- عليه السلام-، فما زالوا في تباين واختلاف يقتل بعضهم بعضًا، ويعادي بعضهم بعضًا. وكان من يتقرب منهم إلى ملوك النصارى يحسن له ما يذهب إليه فيحل بمن خالفه السيف، وينزل به الهلاك. ولا يخلو من ذلك عصر من العصور منذ وقع الخلاف بعد انقراض عصر الحواريين، وهكذا ما زالوا بعد ظهور الملة الإسلامية- كثر الله عدادها، ونصرها على من خالفها- وجملة مذاهبهم التي استقرت خمسة:
مذهب الملكانية (3) وهم يقولون: إن معبودهم ثلاثة أقانيم، وهي إقنيم الأب،
_________
(1) ذكره أبو زهرة في محاضرات في النصرانية (ص 152).
(2) انظر المصدر السابق.
(3) قال الشهرستاني في «الملل والنحل» (1/ 266): هم أصحاب ملكا الذي ظهر بأرض الروم واستولى عليها.
وقيل أن ذلك خطأ ... وإنما هي الملكية نسبة إلى المذهب الذي اعتنقه ملوك الرومان النصارى وهو: أن للمسيح طبيعتين ومشيئتين في أقنوم واحد.
وقد مر هذا المذهب بعدة مراحل، حيث بدأ إقراره في مجمع نيقية سنة 325 م بتأييد الملك قسطنطين لمذهب تعدد الآلهة واعتبار المسيح ابنًا وإلهًا مستقلاً، ثم في مجمع القسطنطينية الأول سنة 381 م، تحددت هوية الثالوث النصراني بالأب والابن في المسيح طبيعتين- خلافًا لليعقوبية- وحيث إن الذي دعا إلى هذا المجمع هو الملك (الإمبراطور) الروماني وتأييده لمذهب ازدواج الطبيعتين فقد أطلق عليه المذهب الملكي أو الملكاني.
ثم أضيف إلى هذا المذهب القول بأن المسيح له طبيعتان ومشيئتان في مجمع القسطنطينية الثالث سنة 680 م خلافًا للمارونية القائلين بأن المسيح له طبيعتان ومشيئة واحدة.
وظلت الطوائف القائلة بمذهب الملكية (بالطبيعتين والمشيئتين) متفقة في آرائها إلى أن دب الخلاف بينها بشأن انبثاق روح القدس، أكان من الأب وحده؟ أم من الأب والابن معًا؟ ولأجل ذلك عقد مجمع القسطنطينية الرابع سنة 869 م ونتج عنه انفصال الكنيسة الشرقية رئاسة ومذهبًا واسمًا عن الكنيسة الغربية (مذهب الملكية) حيث أصبحت الكنيسة الشرقية تسمى بكنيسة الروم الأرثوذكسية أو اليونانية، وأتباعها يعتقدون بأن روح القدس منبثق عن الأب وحده، وأكثرهم في الشرق باليونان وتركيا وروسيا، وغيرها، ولهم بطاركة أربعة:
1 - بطريرك القسطنطينية وهو كبيرهم.
2 - بطريرك الإسكندرية للروم الأرثوذكس.
3 - بطريرك أنطاكية.
4 - بطريرك أورشليم- القدس-، كما تميزوا باعتقادهم أن الإله الأب أفضل من الإله الابن، وتحريم الدم والمنخنقة وإيجاب استخدام الخبز في العشاء الرباني وغير ذلك.
أما الكنيسة الغربية اللاتينية فتسمى بالكنيسة البطرسية- نسبة إلى بطرس رئيس الحواريين- الكاثوليكية (نسبة إلى كاثوليك وهي كلمة يونانية ومعناها العالمي أو العام، وهو اصطلاح استخدمته الكنيسة في القرن الثاني الميلادي) ويرأسها البابا بالفاتيكان في روما، ويعتقد أتباعها أن الروح القدس منبثق عن الأب معًا، وبالمساواة الكاملة بين الأب والابن، وإباحة الدم والمنخنقة واستخدام الفطير بدلاً من الخبز في العشاء الرباني، وتتميز الكنيسة الكاثوليكية بعدة سمات بارزة منها: استعمال اللغة اللاتينية، والبخور، واتخاذ الأيقونات والمصورات البارزة التقويم الخاص وغير ذلك، وينتشر أتباعها في معظم بلاد العالم لما لها من النفوذ والمال.
ثم حدث انشقاق آخر بداخل الكنيسة الكاثوليكية عندما ظهر دعاة الإصلاح الكنسي في أوائل القرن (16 م) بتخليص الكنيسة من مظاهر الفساد، ومن أبز هؤلاء الدعاة: مارتن لوثر الألماني سنة 1546 م، وزونجلي السويسري سنة 1531 م، وكلفن الفرنسي سنة 1564 م، الذين احتجوا على فساد الكنيسة، فسمي مذهبهم (بالبروتستانتية) أي المحتجين، وقد سموا أنفسهم (بالإنجليين) وعلى كنيستهم (الكنيسة الإنجيلية) لدعواهم أنهم يتبعون الإنجيل ويفهمونه بأنفسهم دون الحاجة إلى البابوات، ومن أبرز مبادئهم:
إبطال الرئاسة في الدين، وصكوك الغفران والرهبنة، وتحريم التماثيل والصور في الكنيسة، وأن الخبز والخمر في العشاء الربان لا يتحولان إلى لحم المسيح ودمه، وإنما هو وسيلة رمزية وينتشر أتباعهم في ألمانيا وإنجلترا وأمريكا الشمالية وغيرها.
وعندما ظهرت الحاجة إلى توحيد صف النصارى وجمع كلمتهم عقد في سنة 1563 م، مجمع (مؤتمر) عالمي في الفاتيكان بدعوة من البابا يوحنا الثالث والعشرين لأجل تحقيق الوحدة الدينية بين المذاهب النصرانية المختلفة , فتساهلت بذلك الكنائس والمذاهب النصرانية المختلفة في الاعتراف للكنيسة الكاثوليكية بالتقدم عليها في الرئاسة لا بالسلطان.
ويزعم أتباع هذا المذهب أن الآلهة ثلاثة متميزون ومنفصلون: الأب، والابن، والروح القدس، ومع ذلك فهم شيء واحد في الطبيعة والذات، ويزعمون أن الكلمة (وهي أقنوم العلم وهي الابن) قد اتحدت بجسد المسيح، وأن مريم قد ولدت الإله والإنسان وأنهما شيء واحد، وأن الموت والصلب وقع على اللاهوت والناسوت معًا، وإليهم أشار القرآن بقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 73].
انظر مزيد تفصيل: «الملل والنحل» (1/ 222 - 224)، «النصرانية» (ص 130 - 134) الطهطاوي.(5/2458)
وإقنيم الابن، وإقنيم روح القدس، وهذه الأقانيم الثلاثة وهو جوهر قديم.
والفرقة الثانية النسطورية (1)، وهم يوافقون الملكانية في الجملة، وإن اختلفوا في بعض
_________
(1) النسطورية: نسبة إلى نسطوريوس الذي ولد بسوريا (380 م- ت451 م) - وقد أخطأ الشهرستاني في قوله: إن نسطور الملقب بالحكيم ظهر في زمان المأمون- وقد أصبح نسطور بطريكًا على القسطنطينية سنة 428 م، لمدة أربع سنين إلى أن أعلن مذهبه- الذي تأثر فيه بأستاذه ثيودور المبسوستيائي ت 428 م- بأن مريم العذراء أم المسيح الإنسان وليت والدة الإله، ولذلك كان إثبات أحدهما الإنسان الذي هو مولود من مريم، وأن هذا الإنسان الذي يقول إنه المسيح بالمحبة متوحد مع ابن الإله، ويقال له: الإله وابن الإله، ليس على الحقيقة ولكن على المجاز.
ولما قال نسطور مقالته تلك كاتبه كيرس بطريرك الإسكندرية ويوحنا بطرير أنطاكية ليعدل عن رأيه ولكنه لم يستجب، فانعقد لذلك مجمع أفسدس وتقرر فيه: وضع مقدمة قانون الإيمان، وأن مريم العذراء والدة الله، وأن للمسيح طبيعتان لاهوتية وناسوتية في أقنوم واحد، وتقرر أيضًا خلع نسطور من الكنيسة ولعنه ونفيه إلى مصر.
ويذكر المؤرخ ابن البطريق في التاريخ (ص 152)، وأن مقالة نسطور قد اندثرت فأحياها من بعده بزمان طويل برصوما (ت 490 م) مطران نصيبين في عهد قباذ بن فيروز ملك فارس، وثبتها في الشرق وخاصة أهل فارس، فلذلك كثرت النسطورية بالمشرق وخاصة أرض أهل فارس بالعراق والموصل ونصيبين والفرات والجزيرة.
وهذا يفسر لنا سبب انحراف النسطوريين عن مقالة نسطور الأصلية فقد مالوا إلى القول بامتزاج اللاهوت (ابن الإله) في الناسوت، وبأن المسيح أقنومان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة، وإليهم أشار القرآن الكريم بقوله: قال تعالى: {وقالت النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30 - 31]. ولا تزال توجد منهم جماعات متفرقة في آسيا وخاصة في العراق وإيران والهند والصين ومع أن الكنيسة الكاثوليكية أدخلتهم في حظيرتها إلا أنهم لا يزالون ينكرون عبادة مريم.
- وكان لأتباع النسطورية تأثير بالغ في ظهور الفرق المنتسبة إلى الإسلام وخصوصًا الغلاة منها التي ظهرت في المشرق، فقد تأثر الشيعة بعقائدهم وخاصة حلول اللاهوت في الإمام أو أن الإمام له طبيعة إلهية.
وكان لهم شأن خطير في ترجمة كتب اليونان وخاصة كتب الفلسفة التي أفسدت عقائد المسلمين وسربت إليهم الأفكار المنحرفة التي تأثرت بها فرقة المعتزلة تأثرًا كبيرًا وخاصة في تحكيم العقل والقول بنفي القدر ....
انظر: «الفصل» (1/ 111)، «الملل والنحل» (1/ 244، 245)، «محاضرات في النصرانية» (ص 157 - 159) لأبي زهرة.(5/2460)
التفاصيل.
والفرقة الثالثة اليعقوبية (1)، وهم يوافقون الملكانية فيما تقدم، ويخالفونهم في بعض
_________
(1) اليعقوبية: أتباع المذهب القائل بأن المسيح طبيعة واحدة- من طبيعتين لاهوتية وناسوتية- ومشيئة واحدة. المونوفيزتية.
وأول من قال به أوطاخي (أوتكيس) وهو رئيس دير بالقرب من القسطنطينية، وقد أنكر هذا القول (فلافيان) بطريرك القسطنطينية وعقد مجمعًا محليًّا لإنكار هذه المقالة وحرمان قائلها أوتيكس من الكنيسة، إلا أن الراهب لجأ إلى بطريق الإسكنرية ديسقورس، الذي أقنع الإمبراطور ثودوسيوس الصغير بعقد مجمع أقسس الثاني سنة 449 م برئاسة ديسقورس، وصدر قرار المجمع بإعلان مذهب الطبيعة الواحدة ولعن من يخالفه، إلا أن هذا الأمر أغضب البابا (ليو الأول) الذي أطلق على المجمع السابق اسم (مجمع اللصوص) وعقد مجمعًا آخر من خلقيدونية سنة 451 م، قرر فيه تأييد ازدواج طبيعة المسيح وإبطال قرار المجمع السابق، ولعن ديسقورس ومن شايعه ونفيه إلى فلسطين، ومن هذا المجمع افترق النصارى إلى ملكية ممن تبعوا مذهب مرقيانوس- إمبراطور الروم الذي أمر بانعقاد المجمع- ويعقوبية على مذهب ديسقورس المنفي.
وقد اشتهر تسمية أتباع المذهب باليعقوبيين إلى يعقوب البرادعي الذي ظهر في القرن 6 م، فكان داعية لهذا المذهب بليغ الأثر، جزئيًّا في الجهر.
وقيل: نسبة إلى ديسقورس الذي كان اسمه قبل بطريكيته (يعقوب) فكان يكتب- وهو في منفاه- إلى أصحابه أن يثبتوا على أمانة المسكين المنفي يعقوب.
وقد أخذت بهذا المذهب ثلاث كنائس من الكنائس التي سمت نفسها (الأرثوذكسية) وهي كلمة يونانية معناه (الرأي الصحيح أو المستقيم) وقد استخدم القساوسة اليونانيون هذا الاصطلاح في القرن الرابع الميلادي- وهذه الكنائس الثلاث هي:
1 - الكنيسة الأرثوذكسية في مصر والحبشة.
2 - الكنيسة الأرثوذكسية السريانية ويتبعها كثير من مسيحي آسيا.
3 - الكنيسة الأرثوذكسية والأرمنية موطنها أرمنيا. (من بلاد روسيا).
وأصحاب هذا المذهب يزعمون أن مريم ولدت الله- تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا- وأنه صلب متجسدًا وسمر ومات ودفن ثم صعد إلى السماء، وإليهم أشار القرآن الكريم: قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17، 72].
«الخطط» للمقريزي (2/ 488)، «قصة الإيمان» لنديم الجسر (ص 12، 96، 102، 103، 233).(5/2461)
المعتقدات، وهذه الثلاث الفرق يتفقون أن المسيح نزل من السماء فتذرع حسدًا وظهر(5/2462)
للناس يحيى ويبرئ، ويزعمون أن صلب وقتل، وخرج من القبر لثلاث، وظهر تقدم من أصحابه فعرفوه حق المعرفة، ثم صعد إلى السماء. وعباراتهم مختلفة عن هذا المعنى الذي اتفقوا عليه اختلافًا كثيرًا.
والفرقة الرابعة البوذعانية، وافقوا الثلاث الفرق المتقدمة في بعض، وخالفوهم في بعض.
والفرقة الخامسة المرقولية (1) الثنوية: هؤلاء أصحاب الاثنين أزليين، يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان بخلاف المجوس فإنهم قالوا بحدوث الظلام وذكروا سبب حدوثه.
وهؤلاء قالوا بتساويهما في القدم، واختلافهما في الجوهر والطبع والفعل والحيز والمكان والأجناس والأبدان والأرواح.
ومن فوقهم: المانوية، المزدكية، الديصانية، المرقيونية، الكينوية، الصيامية، التناسخية.
* المرقيونية: قال ابن النديم في الفهرست (ص 474): هم أصحاب مرقيون وهم قبل الديصانية، طائفة من النصارى- ولعلها التي ذكرها الشوكاني-.
المرقيونية: أثبتوا اصلين قديمين متضادين: أحدهما: النور، والثاني: الظلمة. وأثبتوا أصلاً ثالثًا هو المعدل الجامع، وهو سبب المزاج، فإن المتنافرين المتضادين لا يمتزجان إلى بجامع، وقالوا: إن جامع دون النور في المرتبة، وفوق الظلمة، وحصل من الاجتماع والامتزاج هذا العالم ومنهم من يقول: الامتزاج إنما حصل بين الظلمة والمعدل؛ إذ هو أقرب منها. فامتزجت به لتطيب به، وتلتذ بملاذه، فبعث النور إلى العالم الممتزج روحًا ومسيحية وهو روح الله وابنه، تحننًا على المعدل الجامع السليم الواقع في شبكة الظلام الرجيم، حتى يخلصه من حبائل الشياطين، فمن اتبعه فلم يلامس النساء، ولم يقرب الزهومات أفلت ونجا. ومن خالفه خسر وهلك.
«الملل والنحل» (1/ 298).% القائلين بالنور والظلمة، ومنهم من ذهب إلى مذهب الحكماء، ومنهم
_________
(1) قال الشهرستاني في «الملل والنحل» (1/ 265 - 266): «افترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة وكبار فرقهم ثلاثة: الملكانية، والنسطورية، واليعقوبية، وانشعبت منها: الإلبانية، والبليارسية، المقدانوسية، والسبالية، والبوطينوسية، والبولية.
وانظر: «محاضرات في النصرانية» (ص 152 - 153) لأبي زهرة. «تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب» (ص 121 - 126) لأبي محمد عبد الله الترجماني الميورقي. (ت سنة 832 هـ).%، وهم زهادهم، وقد تلاعب بهم الشيطان، فمنهم من صار من الثنوية(5/2463)
من وافق الصابئة مع اعترافهم بنبوة المسيح- عليه السلام-.
فانظر كيف كان أمر الملة اليهودية والنصرانية قبل حدوث الرأي، وما صاروا إليه من الضلال البين، والتلاعب بدينهم بعد أن علموا بالرأي، وقلدوا في دين الله.
وفي هذا معتبر لك عاقل، وموعظة لكل ذي فهم. فالحاصل أن الرأي هو الذي غير الشرائع بعد أن كانت صحيحة مستقيمة لا عوج بها. والمهدي من هداه الله- عز وجل- وفي هذا المقدار كفاية. قاله كاتبه- غفر الله له [3 ا]-.(5/2464)
الدرر البهية في المسائل الفقهية
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقته وعلَّقت عليه وشرحت غريبه
محفوظة بنت علي شرف الدين
أم الحسن(5/2466)
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم بك الاستعانة، وعليك التوكل، نحمدك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، ونصلي ونسلم على رسولك وآل رسولك.
[الكتاب الأول]
[كتاب الطهارة]
[الباب الأول] باب [أقسام المياه]
الماء طاهر مطهر (1)، لا يخرجه عن الوصفين (2)، ألا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه من النجاسات (3)، وعن الثاني (4) ما أخرجه عن اسم الماء المطلق من المغيرات (5) الطاهرة، ولا فرق بين قليل وكثير، وما فوق القلتين (6) وما دونهما، ومستعمل وغير مستعمل،
_________
(1) وذلك بلا خلاف. ولقوله تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} [الأنفال: 11]
(2) أي عن وصف كونه طاهرًا وعن وصف كونه مطهرًا
(3) قال ابن المنذر في كتابه «الإجماع» (ص33) رقم (10): «وأجمعوا على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة، فغيرت الماء طعمًا، أو لونًا، أو ريحًا، إنه نجس ما دام كذلك.
(4) أي كونه طاهرًا.
(5) كالصابون، والعجين، والزعفران، أو غير ذلك من الأشياء الطاهرة التي يسغني عنها عادة، فيصبح الماء طاهرًا في نفسه غير مطهر لغيره. انظر «المجموع» (1/ 150).
(6) القلة: الجرة العظيمة، وسميت بذلك لأن الرجل العظيم يقلها بيديه أي: يرفعها.
وتقديرها: وقد اختلف فيها، ومن أشهر ما قيل: أنها ... ومساحتها ذراع وربع طولًا وعرضًا وعمقًا «المجموع» (1/ 168).
قال ابن قدامة في «المغني» (1/ 36): وإذا كان الماء قلتين وهو خمس قرب. فوقعت في نجاسة فلم يوجد لها طعم ولا لون ولا رائحة؛ فهو طاهر. والقلة: هي الجرة، وسميت قلة لأنها بقل بالأيدي؛ أي: تحمل، ومنه قوله تعالى: {حتى إذا أقلت سحابًا ثقالُا} [الأعراف: 57]. ويقع هذا الاسم على الكبيرة والصغيرة، والمراد بها هاهنا قلتان من قلال هجر وهما خمس قرب، وكل قربة مائة رطل بالعراقي، فتكون القلتان خمسمائة رطل بالعراقي. قال ابن التركماني في «الجوهر النقي»، وهو «بذيل» «السنن الكبرى» للبيهقي (1/ 265):
«قد اختلف في تفسير القلتين اختلافًا شديدًا، ففسرت بخمس قرب وبالجرتين بقيد الكبير، وبالخابيتين، والخابية الجب فظهر بهذا جهالة مقدار القلتين فتعذر العمل بها».(5/2471)
ومتحرك وساكن (1).
[الباب الثاني: النجاسات]
[الـ] فصل [الأول: أحكام النجاسات]
والنجاسات (2) هي: غائط الإنسان مطلقًا، وبوله إلا الذكر الرضيع (3)، ولعاب كلب، وروث، ودم حيض، ولحم خنزير، وفيما عدا ذلك (4) خلاف.
_________
(1) لا دليل على الفرق بين الماء الساكم والمتحرك في التطهير.
(2) النجاسة: هي كل عين حرم تناولها على الإطلاق لعينها مع إمكانه، لا لحرمتها ولا لاستقذارها أو ضررها في بدن أو عقل. وقال ابن تيمية: النجس ما حرم ملابسته ومباشرته وحمله في الصلاة.
انظر: «مجموع فتاوى» (21/ 541).
(3) واعلم أن التخفيف في التطهير- من بول الذكر الرضيع- لا يستلزم خروجه من الاستثناء من النجاسة.
وغاية الأمر أن الاختلاف في كيفية التطهير وذلك غير موجب لاستثنائه من العموم.
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام» عن أبي السمح أخرجه أبو داود رقم (376) وابن ماجه رقم (526) والنسائي رقم (304).
وهو حديث صحيح.
(4) مثل: المني، الدم المسفوح، الخمر، المذي، الودي، المشرك.(5/2472)
والأصل الطهارة فيا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه.
[الـ] فصل [الثاني: تطهير النجاسات]
ويطهر ما يتنجس بغسله حتى لا يبقى لها عين ولا لون ولا ريح ولا طعم. والنعل بالمسح. والاستحالة (1) مطهرة لعدم وجود الوصف المحكوم عليه، وما لا يمكن غسله فبالصب عليه أو النزح منه حتى لا يبقى للنجاسة أثر. والماء هو الأصل في التطهير ولا يقوم غيره مقامه إلا بإذن من الشارع.
[الباب الثالث] باب قضاء الحاجة
على المتخلي الاستتار حتى يدنو، والبعد، أو دخول الكنيف (2)، وترك الكلام (3)، والملابسة لما له حرمة (4) وتجنب الأمكنة التي منع عن التخلي فيها شرع- أو عرف-
_________
(1) الاستحالة: استفعال من «حال الشيء عما كان عليه» أي: انتقل وتحول من حال إلى حال أخرى، مثل أن تصير العين النجسة رمادًا أو غير ذلك.
انظر: «المصباح» (1/ 157).
وقال الشوكاني في «السيل الجرار» (1/ 170): «إذا استحال ما هو محكوم بنجاستة إلى شيء غير الشيء الذي كان محكومًا عليه بالنجاسة كالعذرة تستحيل ترابًا، أو الخمر يستحيل خلًّا فقد ذهب ما كان محكومًا بنجاسته ولم يبق الاسم الذي كان محكومًا عليه بالنجاسة، والصفة التي وقع الحكم لأجلها وصار كأنه شيء آخر وله حكم آخر ... ».
(2) الكنيف: الخلاء. وقيل هو المرحاض الذي تقضى فيه حاجة الإنسان وسمي (كنيفً)؛ لأنه يكنف قاضي الحاجة أي يستره.
«لسان العرب» (12/ 171)، و «تاج العروس» (6/ 293).
(3) يشير إلى الحديث الضعيف الذي أخرجه أبو داود رقم (15) وابن ماجه رقم (342) من حديث جابر: «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عورتهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك».
والضعيف لا تقوم به حجة.
(4) يشير إلى الحديث الضعيف الذي أخرجه أبو داود رقم (19) وقال: هذا حديث منكر.
والترمذي رقم (1746) وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه رقم (303) والنسائي (8/ 178).
من حديث أنس: «كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخل الخلاء نزع خاتمه».(5/2473)
وعدم الاستقبال والاستدبار للقبلة، وعليه الاستجمار بثلاثة أحجار طاهرة، أو ما يقوم مقامها، وتندب الاستعاذة عند الشروع. والحمد بعد (1) الفراغ.
[الباب الرابع] باب الوضوء
[الفصل الأول: فرائض الوضوء]
يجب على كل مكلف أن يسمي، إذا ذكر، ويتمضمض ويستنشق، ثم يغسل جميع وجهه، ثم يديه مع مرفقيه ثم يمسح رأسه مع أذنيه ويجزئ مسح بعضه والمسح على العمامة، ثم يغسل رجليه مع الكعبين، وله المسح على الخفين ولا يكون وضوءًا شرعيًّا إلا بالنية.
[الـ] فصل [الثاني: مستحبات الوضوء]
ويستحب التثليث في غير الرأس، وإطالة الغرة والتحجيل، وتقديم السواك، وغسل اليدين إلى الرسغين ثلاثًا قبل الشروع في الأعضاء المتقدمة.
[الـ] فصل [الثالث: نواقض الوضوء]
وينتقض الوضوء بما خرج من الفرجين من عين أو ريح، وبما يوجب الغسل، ونوم المضطجع وأكل لحم الإبل والقيء ومس الذكر.
[الباب الخامس] باب الغسل
[الفصل الأول: متى يجب الغسل]
_________
(1) يشير إلى الحديث الضعيف الذي أخرجه ابن ماجه رقم (301) من حديث أنس قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خرج إلى الخلاء قال: «الحمد لله الذي أذهب عني الأذي وعافاني».
ولكن يقوم مقام الحمد الاستغفار للحديث الصحيح الذي أخرجه أبو داود رقم (30) والترمذي رقم (7) وقال: حديث حسن غريب.
وابن ماجه رقم (300) من حديث عائشة قالت: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خرج من الخلاء قال: «غفرانك».(5/2474)
يجب بخروج المني بشهوة ولو بتفكر، وبالتقاء الختانين، وبالحيض والنفاس وبالاحتلام مع وجود بلل، وبالموت (1) وبالإسلام.
[الـ] فصل: [الثاني: أركان الغسل وسننه]
والغسل الواجب هو أن يفيض الماء على جميع بدنه، أو ينغمس فيه، مع المضمضة والاستنشاق والدلك لما يمكن دلكه، ولا يكون شرعيًّا إلا بالنية لرفع موجبه، وندب تقديم غسل أعضاء الوضوء إلا القدمين ثم التيامن.
[الـ] فصل: [الثالث: متى يسن الغسل]
ويشرع لصلاة الجمعة (2) وللعيدين ولمن غسل ميتاً وللإحرام ولدخول مكة.
[الباب السادس] باب التيمم
يستباح به ما يستباح بالوضوء والغسل، ولمن لا يجد الماء أو خشي الضرر من استعماله، وأعضاؤه الوجه: ثم الكفان (3) يمسحها مرة بضربة واحدة، ناوياً مسميًا،
_________
(1) أي وجوب ذلك على الأحياء أن يغسلوا من مات.
عن أم عطية الأنصارية- رضي الله عنها- قالت: دخل علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين توفيت ابنته فقال: «أغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورًا، أو شيئًا من كافور، فإذا فرغتن فآذنني» فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوة، فقال: «أشعرنها إياه» تعني إزاره.
أخرجه البخاري رقم (1253) ومسلم رقم (939).
(2) أوجب الشوكاني غسل الجمعة في «الدراري» (1/ 149) و «النيل» (1/ 274) ورجع عن ذلك إلى الندب كما في «السيل» (1/ 296 - 297).
(3) قال الشوكاني في «الدراري» (1/ 159): وقد أشار بالعطف بثم إلى الترتيب بين الوجه والكفين.
انظر: «أضواء البيان» (2/ 48)، «نصب الراية» (1/ 151).
وقد جاء في حديث عمار بن ياسر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: «إنما يكفيك هكذا» وضرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه.
أخرجه البخاري رقم (338) ومسلم رقم (368).
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الترتيب في التيمم غير مشترط.
انظر: «مجموع فتاوى» (21/ 422) و «الأحكام» لابن دقيق العيد (1/ 435) و «فتح الباري» (1/ 457).(5/2475)
ونواقضه نواقض الوضوء.
[الباب السابع: الحيض]
[الفصل الأول]: الحيض
لم يأت في تقدير أقله أو أكثره ما تقوم به الحجة، كذلك الطهر، فذات العادة المتقررة تمل عليها. وغيرها ترجع إلى القرائن، فدم الحيض يتميز عن غيره، فتكون حائضاً إذا رأت دم الحيض، ومستحاضة إذا رأت غيره، وهي كالطاهرة، وتغسل أثر الدم وتتوضأ لكل صلاة (1).
والحائض لا تصلي ولا تصوم، ولا توطأ حق تغتسل بعد الطهر، وتقضي الصيام.
[الـ] فصل: [الثاني: النفاس]
والنفاس أكثره أربعون يوماً، ولا حد لأقله، وهو كالحيض.
_________
(1) وهذا ما اختاره الشوكاني أيضاً في «الدراري» (1/ 165) و «النيل» (1/ 322) ولكنه قال في «السيل» (1/ 351): «وكما أنه ليس في إيجاب الغسل عليها لكل صلاة وللصلاتين ما تقوم به الحجة».(5/2476)
[الكتاب الثاني]
كتاب الصلاة
[الباب الأول: مواقيت الصلاة]
أول وقت الظهر الزوال وأخره مصير ظل الشيء مثله سوى فيء الزوال، وهو أول وقت العصر وآخره ما دامت الشمس بيضاء نقية، وأول وقت المغرب غروب الشمس، وآخره ذهاب الشفق الأحمر وهو أول العشاء، وآخره نصف الليل. وأول وقت الفجر إذا انشق الفجر وآخره طلوع الشمس، ومن نام عن صلاته، أو سها عنها فوقتها حين يذكرها، ومن كان معذوراً وأدرك ركعة فقد أدرك. والتوقيت واجب، والجمع لعذر جائز والمتيمم وناقص الصلاة أو الطهارة يصلون كغيرهم من غير تأخير، وأوقات الكراهة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، وعند الزوال، وبعد العصر حتى المغرب.
[الباب الثاني] باب الأذان [والإقامة]
يشرع لأهل كل بلد أن يتخذوا مؤذناً أو أكثر، ينادي بألفاظ الأذان المشروعة، عند دخول وقت الصلوات، ويشرع لكل سامع للآذان أن يتابع المؤذن، ثم تشرع الإقامة على الصفة الواردة.
[الباب الثالث] باب [شروط الصلاة]
ويجب على المصلي تطهير ثوبه وبدنه ومكانه من النجاسة وستر عورته، ولا يشتمل الصماء (1) ................................
_________
(1) قال الحافظ في «الفتح» (1/ 477): اشتمال الصماء: هو بالصاد المهملة والمد قال أهل اللغة: هو أن يخلل جسده بالثوب لا يرفع منه جانباً ولا يبقى ما يخرج منه يده.
قال ابن قتيبة: سميت صماء لأنه يسدد المنافذ كلها فتصير كالصخرة التي ليس فيها خرق. وقال الفقهاء: هو أن يلتحف بالثوب ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه فيصير فرجه بادياً، قال النووي: فعلى تفسير أهل اللغة يكون مكروهاً لئلا يعرض له حاجة فيتعسر عليه إخراج يده فليحقه الضرر. وعلى تفسير الفقهاء يحرم لأجل انكشاف العورة، قلت: طاهر سياق- البخاري- من رواية يونس في اللباس أن التفسير المذكور فيها مرفوع، وهو موافق لما قال الفقهاء، ولفظه: والصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبد أحد شقيه. وعلى تقدير أن يكون موقوفاً فهو حجة على الصحيح، لأنه تفسير من الراوي لا يخالف ظاهر الخبر.(5/2477)
ولا يسدل (1) ولا يسبل ولا يكفت (2) ولا يصلي في ثوب حرير، ولا ثوب شهرة ولا مغصوب، وعليه استقبال الكعبة إن كان مشاهداً لها أو في حكم المشاهد، وغير المشاهد يستقل الجهة بعد التحري.
[الباب الرابع] باب كيفية الصلاة
لا تكون شرعية إلا بالنية، وأركانها كلها مفترضة إلا قعود التشهد الأوسط، ولا يجب من أذكارها إلا التكبير والفاتحة في كل ركعة، والتشهد الأخير والتسليم، وما عدا ذلك فسنن، وهو الرفع في المواضع الأربعة والضم والتوجه بعد التكبيرة والتعوذ والتأمين، وقراءة غير الفاتحة معها، والتشهد الأوسط والاستراحة والأذكار الواردة في كل ركن والاستكثار من الدعاء بخيري الدنيا والآخرة بما ورد وبما يرد.
[الباب الخامس: متى تبطل الصلاة. وعمن تسقط]
[الـ] فصل [الأول: مبطلات الصلاة]
وتبطل الصلاة بالكلام، وبالاشتغال بما ليس منها، وبترك شرط أو ركن عمداً.
_________
(1) السدل: «أن يلقي طرف الرداء من الجانبين، ولا يرد أحد طرفيه على الكتف الأخرى، ولا يضم الطرفين بيده». «المغني» (1/ 584).
وقال صاحب «المصباح» (1/ 271): «سدلت الثوب من باب «قتل»: «أرخيته وأرسلته من غير ضم جانبيه. فإن ضممتها فهو قريب من التلفف»
(2) الكفت: الضم والجمع. وهو جمع الثوب عند الركوع والسجود.
«النهاية» (4/ 184).(5/2478)
[الـ] فصل: [الثاني: على من تجب الصلوات الخمس: وعمن تسقط]
ولا تجب على غير مكلف، وتسقط على من عجز عن الإشارة، أو أغمي عليه حتى خروج وقتها، ويصلي المريض قائماً ثم قاعداً ثم على جنب.
[الباب السادس]: باب صلاة التطوع
هي أربع قبل الظهر، وأربع بعده، وأربع قبل العصر، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر وصلاة الضحى وصلاة الليل، وأكثرها ثلاث عشرة ركعة، يوتر في آخرها، وتحية المسجد، والاستخارة، وركعتان بين كل آذان وإقامة.
[الباب السابع]: باب صلاة الجماعة
هي من أكد السنن (1) وتنعقد باثنين، وإذا كثر الجمع كان الثواب أكثر، وتصح بعد المفضول، والأولى أن يكون الإمام من الخيار، ويؤم الرجل النساء لا العكس والمفترض بالمنتفل والعكس، وتجب المتابعة في غير مبطل، ولا يؤم الرجل قوماً وهم له كارهون، ويصلي بهم صلاة أخفهم، ويقدم السلطان ورب المنزل، والأقرأ ثم الأعلم ثم الأسن، وإذا اختلت صلاة الإمام كان ذلك عليه لا على المؤتمين به.
وموقفهم خلفه إلا الواحد فعن يمينه، ويقدم صفوف الرجال ثم الصبيان ثم النساء والأحق الصف الأول أولو الأحلام والنهى، وعلى الجماعة أن يسووا صفوفهم، وأن يسدوا الخلل، ويتموا الصف الأول ثم الذي يليه، ثم كذلك.
[الباب الثامن] باب سجود السهو
هو سجدتان قبل التسليم أو بعده (2) بإحرام وتشهد وتحليل، ويشرع لترك مسنون
_________
(1) انظر: «كتاب الصلاة» لابن القيم.
«المغني» (2/ 176)، «مجموع فتاوى» لابن تيمية (23/ 222).
(2) قال الشوكاني في «الدراري» (1/ 247): فهذه الأحاديث المصرحة بالسجود تارة قبل التسليم، وتارة بعده، تدل على أنه يجوز جميع ذلك، ولكنه ينبغي في موارد النصوص أن يفعل كما أرشد إليه، فيسجد قبل التسليم فيما أرشد إلى السجود فيه قبل التسليم ويسجد بعد التسليم فيما أرشد إلى السجود فيه بعد التسليم وما عدا ذلك فهو بالخيار والكل سنة.
انظر بسطه للمسألة في «نيل الأوطار» (3/ 110 - 112).(5/2479)
وللزيادة ولو ركعة سهواً، وللشك في العدد، وإذا سجد الإمام تابعه.
[الباب التاسع] باب القضاء للفوائت
إذا كان الترك عمدًا لا لعذر؛ فدين الله أحق أن يقضى (1) وإن كان لعذر فليس بقضاء بل أداء في وقت زوال العذر، إلا صلاة العيد ففي ثانيه.
[الباب العاشر] باب صلاة الجمعة
تجب على كل مكلف، إلا المرأة والعبد والمسافر والمريض، وهي كسائر الصلوات لا تخالفها إلا في مشروعية الخطبتين قبله ووقتها وقت الظهر، وعلى من حضرها أن لا يتخطى رقاب الناس، وأن ينصت حال الخطبتين، وندب له التبكير، والتطيب والتجمل، والدنو من الإمام، ومن أدرك ركعة منها فقد أدركها، وهي في يوم العيد رخصة.
_________
(1) قال الشوكاني في «السيل الجرار» (1/ 588 - 589): « ... لم يرد في قضاء لصلاة المتروكة عمدًا دليل على وجوب القضاء على الخصوص ولكنه وقع في حديث الخثعمية الثابت في الصحيح- عند البخاري رقم (1845) ومسلم رقم (1335) - أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها: «دين الله أحق أن يقضى».
والتارك للصلاة عمدًا قد تعلق به بسبب هذا الترك دين الله وهو أحق بأن يقضيه هذا الترك.
وأما قول من قال: إن دليل القضاء هو دليل الأداء فليس ذلك إلا مجرد دعوى ادعاها بعض أهل الأصول.
وانظر: «مجموع الفتاوى» (2/ 285).
وقال ابن حزم في «المحلى» (2/ 235 مسألة 279)» «وأما من تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها فهذا لا يقدر على قضائها أبدًا من فعل الخيرات، وصلاة التطوع، ليثقل ميزانه يوم القيامة وليتب وليستغفر الله- عز وجل-».(5/2480)
[الباب الحادي عشر] باب صلاة العيدين
هي ركعتان، في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الثانية خمس كذلك، ويخطب بعدها، ويستحب التجمل، والخروج إلى خارج البلد، ومخالفة الطريق، والأكل قبل الخروج في الفطر دون الأضحى ووقتها بعد ارتفاع الشمس قدر رمح إلى الزوال، ولا أذان فيها ولا إقامة.
[الباب الثاني عشر] باب صلاة الخوف
قد صلاها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صفات مختلفة وكلها مجزئة، وإذا اشتد الخوف والتحم القتال، صلاها الراجل والراكب ولو إلى غير القبلة ولو بالإيماء (1).
[الباب الثالث عشر] باب صلاة السفر
يجب القصر على من خرج من بلده قاصدًا وإن كان دون بريد (2) وإذا أقام
_________
(1) الإيماء: الإشارة يقال: أومأت إليه إيماء: أشرت إليه بحاجب أو يد أو غير ذلك.
انظر: «تحرير ألفظ التنبيه» (ص81).
(2) البريد: قال ابن الأثير في «جامع الأصول» (5/ 24 - 25): البريد: أربعة فراسخ، وقيل: فرسخان، وأصل الكلمة فارسية، وهو بريدة دم؛ أي حذف الذنب؛ يعني البغل؛ لن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب فعربت الكلمة، وخففت ثم سمي الرسول الذي يركبه بريدًا.
والمسافة التي بين السكتين بريدًا، والسكة: هي: الموضع الذي يسكنه الفيوج المرتبون من رباط أو قبة أو بيت، أو نحو ذلك، وبعد ما بين السكتين: فرسخان. وقيل: اثنا عشر ميلًا، كل ثلاثة أميال فرسخ، فيكون كما سبق أربعة فراسخ.
وبما أن الميل في عصرنا 1.855 كم تقريبًا فإن البريد: 22.260 كم تقريبًا.
انظر: «القاموس الجغرافي الحديث» للأيوبي (ص494).
وقال الشوكاني في «السيل» (1/ 632) معقبًا على قوله «إن كان دون بريد» ولكنه لا ينبغي ثبوت القصر فيما دون البريد إلا أن يثبت عند أهل اللغة أو في لسان أهل الشرع أن من قصد دون البريد لا يقال له مسافر. والنظر: «مجموع الفتاوى» (19/ 244).(5/2481)
ببلد مترددًا إلى عشرين يومًا إذا عزم على إقامة أربع أتم بعدها، وله الجمع تقديمًا وتأخيرًا.
[الباب الرابع عشر] باب صلاة الكسوفين (1) هي سنة، وأصح ما ورد في صفتها ركعتان، فيكل ركعة ركوعان، وورد ثلاثة، وأربعة، وخمسة، يقرأ بين كل ركوعين ما تيسر وورد في كل ركعة ركوع وندب الدعاء والتكبير والتصدق والاستغفار.
[الباب الخامس عشر] باب صلاة الاستسقاء
يسن عند الجدب ركعتان، بعدهما خطبة (2)، تتضمن الذكر والترغيب في الطاعة والزجر عن المعصية، ويستكثر الإمام ومن معه الاستغفار والدعاء برفع الجدب ويحولون جميعًا أرديتهم.
_________
(1) الكسوفان: كسوف الشمس والقمر، وهو ذهاب ضوئهما أو بعضه ويطلق الكسوف على كليهما إلا أن الأشهر أن يقال في القمر، وفي الشمس: كسفت.
انظر: «النهاية» (4/ 174). «تاج العروس» (6/ 233).
(2) انظر: «المجموع» للنووي (5/ 82):
قال الشوكاني في «السيل» (1/ 652): وثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خطب بعد صلاته للركعتين.
- ويشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (2/ 362) وابن ماجه رقم (268) من حديث أبي هريرة قال: «خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومًا يستسقي، فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا ودعا الله وحول وجهه نحو القبلة رافعًا يديه، ثم قلب رداءه فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن».
وهو حديث ضعيف.
ثم قال الشوكاني: وثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خطب قبل صلاة الركعتين والكل سنة.
- وهو يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (1022).
قلت: قد ثبت تقديم الخطبة على الصلاة ثبوتًا قويًّا فتقديم ذلك في العمل والذكر أولى من تقديم عكسه.
انظر: «المغني» (2/ 433). «الفتح» (2/ 499).(5/2482)
[الكتاب الثالث]
كتاب الجنائز
[الفصل الأول: أحكام المحتضر]
من السنة عيادة المريض، وتلقين المحتضر الشهادتين، وتوجيهه، وتغمضه إذا مات، وقراءة ياسين عليه (1)، والمبادرة بتجهيزه إلا لتجويز حياته والقضاء لدينه، وتسجيته، ويجوز تقبيله، وعلى المريض أن يحسن الظن بربه ويتوب إليه. ويتخلص من كل ما عليه.
[الـ] فصل: [الثاني: غسل الميت]
ويجب غسل الميت المسلم على الأحياء والقريب أولى بالقريب إذا كان من جنسه، وأحد الزوجين بالآخر، ويكون الغسل ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر بماء وسدر، وفي أخيرة كافور، وتقدم الميامن، ولا يغسل الشهيد.
[الـ] فصل: [الثالث: تكفين الميت]
ويجب تكفينه بما بستره، ولو لم يملك غيره، ولا بأس بالزيادة مع التمكن من غير مغالاة، ويكفن الشهيد في ثيابه التي قتل فيها، وندب تطييب بدن الميت وكفنه.
[الـ] فصل: [الرابع: صلاة الجنازة]
وتجب الصلاة على الميت، ويقوم الإمام حذاء راس الرجل ووسط المرأة ويكبر أربعًا أو خمسًا (2)، ويقرأ بعد التكبيرة الأولى الفاتحة وسورة، ويدعو بين التكبيرات بالأدعية
_________
(1) قلت: حديث قراءة سورة ياسين عليه: ضعيف لا تقوم به حجة.
(2) قال ابن عبد البر في «التمهيد» (6/ 334): إنه انعقد الإجماع بعد الاختلاف على أربع وأجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع على ما جاء في الأحاديث الصحاح وما سوى ذلك عندهم فشذوذ لا يلتفت إليه قال ولا نعلم أحدًا من أهل الأمصار يخمس إلا ابن أبي ليلى.
وانظر: «المغني» (2/ 515).(5/2483)
المأثورة ولا يصلي على الغال، وقاتل نفسه والكافر والشهيد، ويصلى عرى القبر، وعلى الغائب.
[الـ] فصل: [الخامس: المشي بالجنازة]
ويكون المشي بالجنازة سريعًا، والمشي معها، والحمل لها سنة، والمتقدم عليها والمتأخر عنها سواء , ويكره الركوب، ويحرم النعي والنياحة، واتباعها بنار وشف الجيب، والدعاء بالويل والثبور، ولا يقعد المتبع لها حتى توضع والقيام لها منسوخ.
[الـ] فصل: [السادس: دفن الميت]
ويجب دفن الميت في حفرة تمنعه من السباع، ولا بأس بالضرح واللحد أولى، ويدخل الميت من مؤخر القبر، ويوضع على جنبه الأيمن مستقبلًا. ويستحب حثو التراب من كل حاضر ثلاث حثيات، ولا يرفع القبر زيادة على شبر، والزيارة للموتى مشروعة ويقف الزائر مستقبلًا للقبلة، ويحرم اتخاذ القبور مساجد، وزخرفتها، وتسريحها، والقعود عليها، وسب الأموات , والتعزية مشروعة. وكذلك: إهداء الطعام لأهل الميت.(5/2484)
[الكتاب الرابع]
كتاب الزكاة
تجب في الأموال التي ستأتي: إذا كان المالك مكلفًا.
[الباب الأول] باب زكاة الحيون
إنما تجب منه في النعم وهي الإبل والبقر والغنم.
[الـ] فصل: [الأول: نصاب الإبل]
إذا بلغت الإبل خمسًا ففيها شاة. ثم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين ففيها ابنة مخاض (1) أو ابن لبون (2)، وفي ست وثلاثين ابنة لبون (3) وفي ست وأربعين حقة (4) وفي إحدى وستين جذعة (5)، وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى حقتان، إلى مائة وعشرين، فإذا زادت ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة.
[الـ] فصل: [الثاني: نصاب البقر]
ويجب في ثلاثين من البقر تبيع (6) أو تسعة وفي كل أربعين ...........................
_________
(1) المخاض: هي أنثى الإبل التي أتمت سنة وقد دخلت في الثانية سميت بذلك لن أنها لحقت بالمخاض وهي الحوامل.
(2) هو ذكر الإبل الذي أتم سنتين ودخل في الثالثة.
(3) هي أنثى الإبل التي أتمت سنتين ودخلت في الثالثة، وسميت بذلك لن أنها وضعت غيرها وصارت ذلت لبن.
(4) هي أنثى الإبل التي أتمت ثلاث سنين، ودخلت في الرابعة، وسميت لأنها استحقت أن يطرقها الفحل.
(5) هي أنثى الإبل التي أتمت أربع سنين ودخلت الخامسة.
انظر: «النيل» (4/ 107 - 113) و «المطلع» (ص24).
(6) التبيع: ولد البقرة (جمع): أتبعه. والأنثى: تبيعة: (جمع): تباع.
وسميت تبيعًا لأنه أمه، وقد أتى عليه الحول.
«تاج العروس» (5/ 286).(5/2485)
مسنة (1) ثم كذلك.
[الـ] فصل: [الثالث: نصاب الغنم]
ويجب في أربعين من الغنم شاة إلى مائة وإحدى وعشرين، وفيها شاتان إلى مائتين وواحدة، وفيها ثلاث شياه، إلى ثلاثمائة وواحدة وفيها أربع، ثم في كل مائة شاة.
[الـ] فصل: [الرابع: في الجمع والتفريق والأوقاص]
ولا يجمع بين متفرق من الأنعام، ولا يفرق بين (2) مجتمع خشية الصدقة، ولا شيء فيما دون الفريضة، ولا في الأوقاص (3) وما كان من خليطين فيتراجعان بالسوية، ولا تؤخذ هرمة (4) ولا ذات عوار ولا عيب، ولا صغيرة، ولا أكولة (5) ولا ربى ولا ماخض (6) ولا فحل غنم.
_________
(1) قال الأزهري في «تهذيب اللغة» (2/ 299): البقرة والشاة يقع عليهما اسم «المسن» إذا أثنيا، وتثنيان في السنة الثالثة، وليس معنى إسنانها كبرها كالرجل المسن ولكن معناه طلوع سنها في الثالثة ....
(2) قال مالك في «الموطأ» (1/ 264): وتفسير قوله: «ولا يجمع بين مفترق» أن يكون النفر الثلاثة الذين يكون لكل واحد منهم أربعون شاة. قد وجبت على كل واحد منهم في غنمه الصدقة. فإذا أظلهم المصدق جمعوها لئلا يكون عليهم فيها إلا شاة واحدة. فنهوا عن ذلك.
وتفسير قوله: «ولا يفرق بين مجتمع» أن الخليطين يكون لكل واحد منهما إلا شاة واحدة. فنهى عن ذلك فقيل: لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع. خشبة الصدقة .. »
(3) قال ابن الأثير في «النهاية» (5/ 214): الوقص، بالتحريك ما بين الفريضتين، كالزيادة على الخمس من الإبل إلى التسع، وعلى العشر إلى أربع عشرة والجمع: أوقاص.
(4) الهرمة: الكبيرة التي قد سقطت أسناهنا. «وذات العوار» قيل: العوراء: المعيبة.
«تاج العروس» (3/ 429)، و «الداري» (2/ 8).
(5) الأكولة: تطلق على الشاة التي تسمن، فيه من كرائم المال. وعلى العاقر التي لا تلد والأول أشهر.
«تاج العروس» (7/ 210).
(6) المخاض: هي التي أخذها المخاض لتضع، والمخاض: الطلق عند الولادة يقال: مخضت الشاة مخضًا ومخاضًا، إذا دنا نتاجها.
«النهاية» (4/ 306).(5/2486)
[الباب الثاني] باب زكاة الذهب والفضة
إذا حال على أحدهما الحول ربع العشر، ونصاب الذهب عشرون دينارًا، ونصاب الفضة مائتا درهم، ولا شيء فيما دون ذلك، ولا زكاة في غيرهما من الجواهر وأموال التجارة (1) والمستغلات.
[الباب الثالث] باب زكاة النبات
يجب العشر في الحنطة والشعير والذرة (2) والتمر والزبيب، ما كان يسقى ......................
_________
(1) قال الشوكاني في «النيل» (3/ 36): «وقد احتج بظاهر حديث الباب- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه».
أخرجه أحمد (28249) والبخاري رقم (1464) ومسلم رقم (982).
أما الظاهرية فقالوا: لا تجب الزكاة في الخيل والرقيق لا لتجارة ولا لغيرها.
وأجيب عنهم بأن زكاة التجارة ثابتة بالإجماع كما نقله ابن المنذر وغيره فيخص به عموم هذا الحديث، ولا يخفى أن الإجماع على وجوب زكاة التجارة في الجملة لا يستلزم وجوبها في كل نوع من أنواع المال؛ لن مخالفة الظاهرية في وجوبها في الخيل والرقيق الذي هو محل النزاع مما يبطل الاحتجاج عليهم بالإجماع في وجوبها في الخيل والرقيق.
(2) مع العلم أن الذرة لم تثبت في السنة.
انظر: «التلخيص» (2/ 166).
قال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (28/ 20 - 22):
* قالت طائفة: يجب العشر في كل ما يزرعه الآدميون من الحبوب والبقول ما أنبتته تجاراتهم من الثمار قليل ذلك وكثيره.
* وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجب إلا فيما له ثمرة باقية. فيما يبلغ خمسة أوسق، وقال أحمد: «يجب العشر فيما ييبس ويبقى، مما يكال ويبلغ خمسة أوسق، فصاعدًا، وسواء أن يمون قوتًا كالحنطة والشعير والأرز، والذرة، أو من القطنيات كالباقلاء، والعدس، أو من الأبازير كالكسفرة، والكمون والكراويا، والبزر كبزر الكتان والسمسم، وسائر الحبوب.
وقال مالك وأصحابه في المشهور من قولهم: تجب الزكاة في الحنطة، والشعير والسلت، والذرة، والخن، والأرز، والحمص، والعدس، والجلبان، والرش، البسلة، والسمسم والماش، وحب الفحل، وما أشبه هذه الحبوب المأكولة المدخرة.(5/2487)
بالمسني (1) منها ففيه نصف العشر ونصابها خمسة أوسق (2) ولا شيء فيما عدا ذلك كالخضروات وغيرها في العسل العشر، ويجوز تعجيل الزكاة، وعلى الإمام أن يرد صدقات أغنياء كل محل في فقرائهم، ويبرأ رب المال بدفعها إلى السلطان وإن كان جائرًا.
[الباب الرابع] باب مصارف الزكاة
هي ثمانية كما في الآية (3) وتحرم على بني هاشم ومواليهم، وعلى الأغنياء والأقوياء المكتسبين.
[الباب الخامس] باب صدقة الفطر
هي صاع من القوت المعتاد عن كل فرد، والوجوب على سيد العبد، ومنفق الصغير ونحوه، ويكون إخرجها قبل صلاة العيد، ومن لا يجد زيادة على قوت يومه وليلته، فل فطرة عليه، ومصرفها مصرف الزكاة.
_________
(1) أي فيما سقي بالساقية: الساقية هو البعير الذي يستقى به الماء من البئر ويقال له: الناضح.
(2) الوسق: 60 صاعًا كيلًا.
الصاع: 4 أمداد كيلًا.
المد: 544 غرامُا من القمح.
الوسق = 60×4×544=130560 غرامًا =130.56 كيلو غرام.
فالخمسة أوسق = 130.56×50 = 652.8 كيلو غرام.
وانظر: «الإيضاحات العصرية للمقاييس والموازين الشرعية «لمحمد صبحي حسن حلاق.
(3) قال تعالى {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وف سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} [التوبة: 60](5/2488)
[الكتاب الخامس]
كتاب الخمس
يجب فيما يغنم في القتال وفي الركاز ولا يجب فيما عدا ذلك، ومصرفه من في قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء ... الآية} (1).
_________
(1) [الأنفال: 41](5/2489)
[الكتاب السادس]
كتاب الصيام
[الباب الأول: أحكام الصيام]
[الفصل الأول: وجوب صوم رمضان]
يجب صيام رمضان لرؤية هلاله من عدل، أو إكمال عدة شعبان، ويصوم ثلاثين يومًا ما لم يظهر هلال شوال قبل إكمالها، وإذا رآه أهل بلد لزم سائر البلاد الموافقة، وعلى الصائم النية قبل الفجر.
[الـ] فصل [الثاني: مبطلات الصوم]
ويبطل بالأكل ولشرب والجماع، والقيء عمدًا، ويحرم الوصال وعلى من أفطر عمدًا كفارة ككفارة الظهار، ويندب تعجيل الفطر، وتأخير السحور.
[الـ] فصل [الثالث: قضاء الصوم]
يجب على من أفطر لعذر شرعي (1) أن يقضي والفطر للمسافر ونحوه رخصة، إلا أن يخشى التلف أو الضعف عن القتال فعزيمة عن الأداء والقضاء يكفر عن كل يوم بإطعام مسكين.
[الباب الثاني] باب صوم التطوع
[الفصل الأول: ما يستحب صومه]
يستحب صيام ست من شوال، وتسع ذي الحجة، ومحرم وشعبان، والاثنين
_________
(1) قال الشوكاني في «السيل» (2/ 55): وأما من أفطر عامدًا قدمنا في حديث المجامع في رمضان أنه قال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وصم يومًا مكانه» وذكرنا أنه صاغ للاحتجاج به والظاهر أنه كان عامدًا ولهذا قال هلكت وأهلكت.
أخرجه البخاري رقم (1936)، مسلم رقم (1111).(5/2490)
والخميس، وأيام البيض، وأفضل التطوع صوم يوم وإفطار يوم.
[الفصل الثاني: ما يكره صومه]
ويكره صوم الدهر. وإفراد يوم الجمعة، ويوم السبت.
[الفصل الثالث: ما يحرم صومه]
ويحرم صوم العيدين وأيام التشريق (1) واستقبال رمضان بيوم أو يومين.
[الباب الثالث] باب الاعتكاف
بشرع للصائم في كل وقت في المساجد، وهو في رمضان آكد سيما في العشر الأواخر منه، ويستحب الاجتهاد في العمل فيها، وفي ليالي القدر ولا يخرج المعتكف إلا لحاجة.
_________
(1) أيام التشريق: هي الأيام الثلاثة التي بعد يوم النحر. قيل: سميت بذلك لن لحوم الأضاحي تنشرح وتقدد في الشمس.
وقيل: لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس.
وقيل: لأن صلاة العيد تقع عند شروق الشمس.
وقيل التشريق: التكبير دبر كل صلاة.
انظر: «غريب الحديث» لأبي عبيد (2/ 139). «فتح الباري» (4/ 243).
ويرخص للمتمتع فقط إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريف، للحديث الذي أخرجه البخاري رقم (1999) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة فإن لم يجد هديًا ولم يصم صام أيام منى»
وللحديث الذي أخرجه البخاري رقم (1997 و1998) عن عائشة وابن عمر- رضي الله عنهم- قالا: «لم يرخص في أيام التشريق أن يضمن إلا لمن لم يجد الهدي».
وانظر: «فتح الباري» (4/ 242 - 243).(5/2491)
[الكتاب السابع]
كتاب الحج
[4] [الباب الأول: أحكام الحج]
[الفصل الأول: وجوب الحج]
يجب على كل مكلف مستطيع فورًا.
[الـ] فصل [الثاني: وجوب تعيين نوع الحج بالنية]
ويجب تعيين نوع الحج من تمتع أو قران أو إفراد، والأول أفضلها، ويكون الإحرام من المواقيت (1) المعروفة ومن كان دونها فمهله أهله حتى أهل مكة.
[الـ] فصل [الثالث: محظورات الإحرام]
ولا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوبًا مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فيقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين.
ولا تنتقي المرأة ولا بلبس القفازين، وما مسه الورس والزعفران، ولا يتطيب ابتداء،
_________
(1) وهي خمسة:
1 - ذو الحليفة: ميقات أهل المدينة ومن مر بهم، يبعد عن مكة 400 كم تقريبًا.
2 - الجحفة: مهل أهل الشام ومصر وسائر المغرب.
وهي قرية تبعد عن مكة 187 كم وهي اليوم خراب ولهذا صار الناس يحرمون قبلها من المكسان الذي يسمى «رابغًا «وتبعد عن مكة (220 كم). 3 - قرن المنازل: ويسمى قرن الثعالب، وهو ميقات أهل نجد، يبعد عن مكة 94 كم.
4 - يلملم: وهو ميقات أهل اليمن، يبعد عن مكة 54 كم.
5 - ذات عرق: وهو ميقات أهل العراق. وهو مكان بالبادية، يفصل بين نجد وتهامة، يبعد عن مكة 70 كم.(5/2492)
ولا يأخذ من شعره وبشره إلا لعذر، ولا يرفث ولا يفسق، ولا يجادل، ولا يَنكح، ولا يُنكح، ولا يخطب، ولا يقتل صيدًا، ومن قتله فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل، ولا يأكل ما صاده غيره، إلا إذا كان الصائد حلالًا ولم يصده لأجله، ولا يعضد من شجر الحرم إلا الإذخر (1)، ويجوز له قتل الفواسق الخمس، وصيد حرم المدينة وشجره كحرم مكة. إلا أن من قطع شجره أو خبطه كان حلالًا لمن وجه ويحرم صيد وج (2) وشجره.
[الـ] فصل [الرابع: ما يجب عمله أثناء الطواف]
وعند قدوم الحاج مكة يطوف للقدوم سبعة أشواط يرمل في الثلاثة الأولى، ويمشي فيما بقي، ويقبل الحجر الأسود أو يستلمه ...................
_________
(1) بكسر الهمزة وإسكان الذال وكسر الخاء، هو نبات معروف عند أهل مكة طيب الرائحة ينبت في السهل والحزن، وأهل مكة يسقفون به البيوت بين الخشب ويسدون به الخلل بين اللبنات في القبور.
انظر: «شرح صحيح مسلم» (2/ 787).
(2) وج: بفتح الواو وشد الجيم. اسم واد بالطائف.
وقيل: هو اسم جامع لحصونها، وقيل اسم واحد منها يحتمل أن يكون على سبيل الحمى له ويحتمل أن يكون حرمه في وقت معلوم ثم نسخ.
«النهاية» (5/ 155).
* يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (2032) وأحمد (3/ 10 رقم 1413 - شاكر) والبخاري في تاريخه (1/ 140 رقم 420) عن الزبير أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن صيد وج وعضاهه حرام محرم الله عز وجل».
وهو حديث ضعيف.
* فمن قوى الحديث قال بمدلوله فذهب إلى ما في الحديث.
* ومن ضعفه- وهم الجمهور- لم يحرمه وهو الأصح.
انظر: «المجموع» (7/ 405)، و «مجموع الفتاوى» (26/ 117).
العضاهة: كل شجر عظيم له شوك.(5/2493)
بمحجن (1) ويقبل المحجن ونحوه، ويستلم الركن اليماني والركن الأسود ويكفي القارن طواف واحد وسعي واحد، ويكون حال الطواف متوضئًا شاتر العورة، والحائض تفعل ما يفعل الحاج غير أن لا تطوف بالبيت، ويندب الذكر حال الطواف بالمأثور، وبعد ف فراغه يصلي ركعتين في مقام إبراهيم، ثم يعود إلى الركن فيستلمه.
[الـ] فصل [الخامس: وجوب السعي بين الصفا والمروة]
ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط داعيًا بالمأثور وإذا كان متمتعًا صار بعد السعي حلالًا حتى إذا كان يوم التروية أهل بالحج.
[الـ] فصل [السادس: مناسك الحج]
ثم يأتي عرفة صبح يوم عرفة ملبيًّا مكبرًا، ويجمع العصرين (2) فيها ويخطب ثم يفيض من عرفة , ويأتي المزدلفة، ويجمع فيها بين العشائين (3)، يبيت بها، ثم يصلي الفجر، ويأتي المشعر (4)، فيذكر الله عنده، ويقف به إلى قبل طلوع الشمس ثم يدفع حتى يأتي بطن مجسر (5) ثم يسلك الطريق الوسطى إلى الجمرة التي عند ..............................
_________
(1) عصا معوجة الرأس يجتذب بها الإنسان الشيء إلى نفسة.
«غريب الحديث» لأبي عبيد (2/ 340).
(2) العصران: صلاة الظهر والعصر. وقيل لهما تغليبًا لأحدهما على الآخر.
انظر: «جنى الجنتين» (ص 79) للمحبي
(3) هو المغرب والعشاء. انظر: المصدر السابق
(4) المشعر الحرام: قال الشوكاني في «فتح القدير «(1/ 201): هو جبل قزح الذي يقف عليه الإمام.
وقيل: هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر.
وقال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (26/ 135): الوقوف عند قزح أفضل، وهو جبل المقيدة، وهو المكان الذي يقف فيه الناس اليوم. وقد بني عليه بناء، وهو المكان الذي يخصه كثير من الفقهاء باسم المشعر الحرام.
(5) هو واد بين مزدلفة ومنى، وليس من منى ولا المزدلفة، بل هو واد برأسه.
انظر:» معجم البلدان» (5/ 62).(5/2494)
الشجرة (1)، وهي جمرة العقبة (2) فيرميها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ولا يرمنها إلا بعد طلوع الشمس، إلا النساء والصبيان فيجوز لهم قبل ذلك. ويحلق رأسه أو يقصره، فيحل له كل شيء إلا النساء، ومن حلق أو ذبح أو أفاض إلى البيت قبل أن يرمي فلا حرج. ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ليالي التشريق، ويرمي في كل يوم من أيام التشريق الجمرات الثلاث بسبع حصيات، مبتدئًا بالجمرة الدنيا ثم الوسطى ثم جمرة العقبة، ويستحب لمن يحج بالناس أن يخطبهم يوم النحر وقي وسط أيام التشريق، ويطوف الحاج طواف الإفاضة وهو طواف الزيادة يوم النحر، وإذا فرغ من أعمال الحد طاف للوداع.
[الـ] فصل [السابع: أفضل أنواع الهدي]
والهدي أفضله البدنة ثم البقرة ثم الشاة، وتجزئ البدنة والبقرة عن سبعة، ويجوز للمهدي أن يأكل من لحم هديه ويركب عليه، ويندب له إشعاره (3) وتقليده (4)، ومن
_________
(1) ملاحظة: لا وجود للشجرة الآن، ولا في عصر المصنف أيضًا، ولعل الحامل له على ذكرها هو إيثاره الألفاظ الواردة في السنة منها حديث جابر الطويل رقم (174/ 1218).
وانظر: «الفتح» (3/ 582).
(2) وهي آخر الجمرات مما يلي (منى) وأولها ممل يلي مكة.
وتمتاز عن الجمرتين الأخريين بأربعة أشياء:
اختصاصها بيوم النحر، وأن لا يوقف عندها- يعني الدعاء، وترمى ضحى ومن أسفلها استحبابًا.
(3) الإشعار: أن يخرج من جلد البدنة حبى يسيل الدم ثم يسلته، فيكون ذلك علامة على كونها هديُا. ولكون ذلك في صفحة سنامها الأيمن.
وانظر: «الفتح» (3/ 543).
(4) التقليد: أن يعلق في عنق الهدي شيئًا كالنعلين، ليعلم أنه هدي.
«تاج العروس» (2/ 475).
قال الحافظ في «الفتح» (3/ 545): «اتفق من قال: بالإشعار بإلحاق البقر في ذلك بالإبل، إلا سعيد بن جبير، واتفقوا على أن الغنم لا بشعر، لضعفها ولكون صنوفها أو شعرها بستر موضع الإشعار ... ».
والإشعار مذهب جمهور علماء الأمصار من السلف والخلف.(5/2495)
بعث بهدي لم يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم.
[الباب الثاني] باب العمرة المفردة
يحرم لها من الميقات، ومن كان في مكة خرج إلى الحل (1) ثم يطوف ويسعى ويحلق أو يقصر، وهي مشروعة في جميع السنة [5].
_________
(1) قال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (3/ 82): «قد اعتنيت بتحقيق حدوده، فحده من طريق المدينة دون التنعيم عند بيوت نفار، وهو على ثلاثة أميال، وحده من طريق اليمن طرف «أضاه لبن» على سبعة أميال. ومن طريق العراق على ثنية جبل المقطع، على سبعة أميال ومن طريق الجعرانة في شعب آل عبد الله بن خالد، على تسعة أميال، ومن طريق الطائف على عرفات من بطن نمرة على سبعة أميال، ومن طريق جدة منقطع الأعشاش، على عشرة أميال.
وانظر: «تاريخ مكة» للأزرقي (2/ 130).(5/2496)
[الكتاب الثامن]
كتاب النكاح
[الفصل الأول: أحكام الزواج]
يشرع لمن استطاع الباءة، ويجب على من خشي الوقوع في المعصية، والتبتل غير جائز إلا لعجز عن القيام بما لا بد منه، وينبغي أن تكون المرآة ودودًا ولودًا بكرًا، ذات جمال وحسب ودين.
وتخطب الكبيرة إلى نفسها، والمعتبر حصول الرضا منها، بمن كان كفئًا والصغيرة إلى وليها، ورضا البكر صماتها وتحرم الخطبة في العدة، على الخطبة، ويجوز النظر إلى المخطوبة، ولا نكاح إلا بولي وشاهدين إلا أن يكون عاضلًا أو غير مسلم، ويجوز لكل واحد من الزوجين أن يوكل لعقد النكاح ولو واحدًا.
[الـ] فصل [الثاني: الأنكحة المحرمة]
ونكاح المتعة منسوخ (1) والتحليل حرام وكذلك .....................................
_________
(1) المتعة: هو نكاح المرأة إلى أجل مؤقت، كيومين أو ثلاثة أو شهر أو غير ذلك.
فإنه لا خلا ف أنه قد كان ثابتًا في الشريعة كما صرح بذلك القرآن في سورة النساء الآية (24): {فما استمتعتم به منهن فئاتوهن أجورهن}.
وللحديث الذي أخرجه البخاري رقم (4615) ومسلم رقم (11/ 1404) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «كنا نغزو مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس معنا نساء فقلنا ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب، ثم قرأ: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا}» [المائدة: 87].
* وثبت النسخ بأحاديث منها: ما أخرجه مسلم رقم (21/ 1406) وغيره من حديث سيرة الجهني: أنه كان مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «يا أيها الناس إني كنت آذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة. فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا».(5/2497)
الشغار (1) ويجب على الزوج الوفاء بشرط المرأة، إلا أن يحل حرامًا، أو يحرم حلالًا، ويحرم على الرجل أن ينكح زانية أو مشركة والعكس، ومن صرح القرآن (2) بتحريمه والرضاع كالنسب، والجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وما زاد على العدد المباح للحر والعبد، وإذا تزوج العبد بغير إذن سيده فنكاحه باطل، وإذا عتقت أمة ملكت أمر نفسها، وخيرت في زوجها، ويجوز فسخ النكاح بالعيب (3) ويقر من أنكحة الكفار إذا أسلموا ما يوافق الشرع. وإذا أسلم أحد الزوجين انفسخ النكاح، وتجب العدة، فإن أسلم هو الآخر ولم تتزوج المرأة كانا على نكاحها الأول ولو طالت المدة إذا اختارا ذلك.
[الـ] فصل [الثالث: أحكام المهر]
والمهر واجب، وتكره المغالاة فيه، ويصبح ولو خاتمًا من حديد أو تعليم قرآن، ومن تزوج امرأة ولم يسم لها صداقًا فلها مهر نسائها إذا دخل بها. ويستحب تقديم شيء من المهر قبل الدخول وعليه إحسان العشرة، وعليها الطاعة.
ومن كان له زوجان فصاعدًا عدل بينهن في القسمة وما تدعوا الحاجة إليه، وإذا سافر أقرع بينهن. وللمرأة أن تهب نوبتها أو تصالح الزوج على إسقاطها، ويقيم عند الجديدة البكر سبعًا والثيب ثلاثُا، ولا يجوز العزل (4) ولا إتيان المرأة في دبرها.
_________
(1) الشغار معناه يوضحه الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (5112) ومسلم رقم (57/ 1415). عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته ليس بينهما صداق.
(2) انظر: سورة النساء الآيتان (24،23)
(3) لم يأت من قال: بجواز فسخ النكاح بالعيب بحجة نيرة، ولم يثبت شيء منها
(4) الأصح جواز العزل:
للحديث الذي أخرجه البخاري رقم (5209) ومسلم رقم (1440) عن جابر قال: «كنا نعزل على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن ينزل».
والأولى ترك العزل.
للحديث الذي أخرجه مسلم رقم (141/ 1442) عن عائشة، عن جذامة بنت وهب أخت عكاشة، قالت « ... ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذلك الوأد الخفي».
* العزل: هو النزع بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج.
* وانظر: «السيل» للشوكاني (2/ 319) حيث تراجع عن رأيه هنا فقال في «السيل»:
«قد اختلف أهل العلم في هذه الأحاديث فمنهم من جمع بحمل حديث- جذامة- وما ورد في معناه على التنزيه، ومنهم من رجح أحاديث الجواز لصحتها وكثرتها والطريقة الأولى أرجح.(5/2498)
فصل: والوليمة للعرس مشروعة وإجابتها واجبة ما لم تكن فيها ما لا يحل.
[الـ] فصل [الرابع: الولد للفراش]
والولد للفراش، ولا عبرة بشبهه بغير صاحبه، وإذا اشترك ثلاثة في وطء أمة في طهر ملكها كل واحد منهم فيه فجاءت بولد وادعوه جميعًا فيقرع بينهم ومن استحقه بالقرعة فعليه للآخرين ثلثا الدية.(5/2499)
[الكتاب التاسع]
كتاب الطلاق
[الباب الأول: أنواع الطلاق]
[الفصل الأول: مشروعية الطلاق وأحكامه]
هو جائز: من مكلف مختار ولو هازلًا لمن كانت في طهر لم يمسها فيه ولا طلقها في الحيضة التي قبله أو في حمل قد استبان، ويحرم إيقاعه على غير هذه الصفة، وفي وقوعه ووقوع ما فوق الواحدة من دون تخلل رجعة خلاف، والراجح عدم الوقوع (1).
[الـ] فصل [الثاني: بما يقع الطلاق]
ويقع بالكناية (2) مع النية، وبالتخيير إذا اختارت الفرقة. وإذا جعله الزوج إلى غيره وقع منه، ولا يقع بالتحريم (3) والرجل أحق بإمرأته في عدة طلاقه يراجعها متى شاء إذا كان الطلاق رجعيًّا، ولا تحل له بعد الثلاث حتى تنكح زوجًا غيره.
[الباب الثاني] باب الخلع
وإذا خالع الرجل امرأته كان أمرها إليها، لا ترجع إليه بمجرد الرجعة، ويجوز بالقليل والكثير ما لم يجاوز ما صار إليها منه فلا بد من التراضي بين الزوجين على الخلع أو إلزام الحاكم مع الشقاق بينهما، وهو فسح وعدته حيضة.
_________
(1) انظر مناقشة ذلك في الرسالة رقم (211) من «الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني».
وانظر: «مجموع الفتاوى» رقم (33/ 20).
(2) قال الشوكاني في «السيل» (2/ 365) واللفظ والمعنى في الكناية «فقد عرفت أنه لا فرق بين اللفظ الصريح والكناية؛ لنه إذا لم يكن قاصدًا لمعناه لم يقع به الطلاق ولا فرق بين أن تكون الكناية بلفظ أو إشارة أو كناية إذ ليس المراد إلا الإفهام وهو يقع بجميع ذلك ... ».
(3) قال الشوكاني في «الدراري» (2/ 14): «في هذه المسألة نحو ثمانية عشر مذهبًه والحق ما ذكرناه وقد ذهب إليه جماعة من الصحابة ومن بعدهم.(5/2500)
[الباب الثالث] باب الإيلاء
هو أن يحلف الزوج من جميع نسائه أو بعضهن لا يقربهن، فإن وقت بدون أربعة أشهر أو بها اعتزل، حتى ينقضي ما وقت به، وإن وقت بأكثر منها خير بعد مضيها بين أن يفيء أو يطلق.
[الباب الرابع] باب الظهار
وهو قول الزوج لامرأته: أنت علي كظهر أمي أو ظاهرتك أو نحو ذلك، فيجب عليه قبل أن يمسها أن يكفر بعتق رقبة، فإن لم يجد [6] فليطعم ستين مسكينًا، فإن لم يجد فيصم شهرين متتابعين (1)، ويجوز للإمام أن يعينه من صدقات المسلمين إذا كان فقيرًا لا يقدر على الصوم، وله أن يصرف منها لنفسه وعياله، وإذا كان الظهار مؤقتًا فلا يرفعه إلا انقضاء الوقت، وإذا وطئ قبل انقضاء الوقت أو قبل التكفير كف حتى يكفر في المطلق وينقضي وقت الموقت.
[الباب الخامس] باب اللعان
إذا رمى الرجل امرأته بالزنى، ولم تقر بذلك ولا رجع عن رميه، لاعنها فيشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تشهد المرأة أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين. والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ................
_________
(1) وهذا الترتيب للكفارة مخالف للنص وللإجماع ...
قال تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير 3 فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا} [المجادلة: 3 - 4].
وانظر: «السيل الجرار» (2/ 454) فقد رتبها المصنف على الصواب. وانظر: «فتح القدير «(5/ 183).(5/2501)
[] (1) ويفرق الحاكم بينهما (2)، وتحرم عليه أبدًا، ويلحق الولد بأمه فقط، ومن رماها به فهو قاذف.
[الباب السادس] باب العدة
[الفصل الأول: أنواع العدة]
هي للطلاق من الحامل بالوضع، ومن الحائض بثلاث حيض، ومن غيرهما (3)، بثلاثة أشهر، وللوفاة بأربعة أشهر وعشر، وإن كانت حاملًا فبالوضع، ولا عدة على غير مدخولة، والأمة كالحرة، وعلى المعتدة للوفاة ترك التزين، والمكث في البيت الذي كانت فيه عند موت زوجها أو بلوغ خبره.
[الـ] فصل [الثاني: استبراء الأمة المسبية والمشتراة]
ويجب استبراء الأمة المسبية والمشتراة ونحوهما بحيضة إن كانت حائضًا، والحامل بوضع الحمل، ومنقطعة الحيض حبى يتبين عدم حملها (4)، ولا تستبرأ بكر ولا صغيرة مطلقًا ولا لزم البائع ونحوه (5).
_________
(1) هنا عبارة مطموسة أصلًا ولكن نجد المصنف قال في «الدراري» (2/ 28 - 29): تعليقًا عليها [وإذا كانت حاملًا أو كانت قد وضعت أدخل نفي الولد في أيمانه] وأما كونه يدخل الولد في أيمانه، فلم يكن ذلك في الكتاب العزيز، ولا وقع في الملاعنة الواقعة في زمنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاعن بين رجل وامرأته فانتفى من ولدها، ففرق بينهما والحق الولد بالمرأة».
أخرجه البخاري رقم (5315) ومسلم رقم (8/ 1494).
(2) قال في «السيل» (2/ 468): «فالفرقة بتفريق الحاكم مغنية عن الطلاق فإن وقع الطلاق فذلك تأكيدًا للفرقة ولا تتوقف الفرقة عليه».
(3) قال في «الدراري» (2/ 32): «وهي الصغيرة والكبيرة التي لا حيض فيها، أو التي انقطع حيضها بعد وجوده فإنها تعتد بثلاثة أشهر .... »
(4) انظر مناقشة المسألة في «السيل» (2/ 408 - 410). «مجموع الفتاوى» (34/ 19 - 23).
(5) لعدم وجود دليل على ذلك لا بنص، ولا بقياس صحيح بل هو محض رأي.(5/2502)
[الباب السابع] باب النفقة
تجب على الزوج للزوجة، والمطلقة رجعيًّا بائنًا ولا في عدة الوفاة، وفلا نفقة ولا سكنى إلا أن تكونا حاملتين (1) وتجب على الوالد الموسر لولده المعسر والعكس، وعلى السيد لمن يملكه ولا تجب على القريب لقريبه إلا من باب صلة الرحم المشروعة، ومن وجبت كسوته وسكناه.
[الباب الثامن] باب الرضاع
إنما يثبت حكمه بخمس رضعات مع تيقن وجود اللبن، وكون الرضيع قبل الفطام، ويحرم به ما يحرم بالنسب، ويقبل قول المرضعة، ويجوز إرضاع الكبير ولو كان ذا لحية لتجويز النظر (2).
[الباب التاسع] باب الحضانة
الأولى بالطفل أمه ما لم تنكح، ثم الخالة، ثم الأب، ثم يعين الحاكم من القرابة من رأي فيه صلاحًا، وبعد بلوغ سن الاستقلال (3) يخير الصبي (4) بين أبيه وأمه، فإن لم يوجد أكفله من كان له في كفالته مصلحة.
_________
(1) كذا في المخطوط والأجود «حاملتين «لن حامل نعت لا يكون إلا للإناث كحائض، فاستغنى فيه عن علامة التأنيث. «التاج» (7/ 288).
(2) حمل العلماء من الصحابة والتابعين، وعلماء الأمصار إلى الآن- ما عدا عائشة وداود الظاهري- من حديث امرأة أبي حذيفة على أنه مختص بها وبسالم وهو الراجح.
(3) هو سن التمييز، قال النووي في «التحرير» (ص134): «التمييز حاصل بفهم الخطاب ورد الجواب، ولا بضبط بسن بل يختلف باختلاف الأفهام.
وذهب الجمهور إلى تقييده، فهب أكثرهم إلى تقييده بسبع سنين؛ لأنه السن الذي علق عليه الأمر بالصلاة. انظر: «المغني» (7/ 615).
(4) قال الشوكاني في «السيل» (2/ 474): فإن لم يقع الاختيار من الصبي أو تردد في الاختيار وجب الرجوع إلى الإقراع بينهما لثبوت ذلك في حديث أبي هريرة عند ابن أبي شيبة- في مصنفه (5/ 237) - بلفظ «استهما فيه «وصححه ابن القطان _ انظر «التلخيص» (4/ 24) -.(5/2503)
[الكتاب العاشر]
كتاب البيع
[الباب الأول: أنواع البيوع المحرمة]
المعتبر فيه مجرد التراضي، ولو بإشارة من قادر على النطق، ولا يجوز بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام والكلب والسنور. والدم وعسب الفحل وكل حرام، وفضل الماء، وما فيه غرر كالسمك في الماء، وحبل الحبلة والمنابذة (1) والملامسة (2) وما في الضرع، والعبد الآبق، والمغانم حتى بقسم، والتمر حتى يصلح، والصوف في الظهر، السمن في اللبن، والمحاقلة (3) والمزابنة (4) والمعاومة (5) والمخاضرة (6) .............
_________
(1) المنابذة: أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلي الثوب، أو انبذه إليك ليجب البيع.
وقيل: هو أن يقول: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع فيكون البيع معاطاة من غير عقد، ولا يصح. «النهاية» (5/ 6).
(2) الملامسة: أن يقول: إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك فقد وجب البيع.
وقيل: هو أن يلمس المتاع من وراء ثوب ولا ينظر إليه ثم يوقع البيع عليه.
«النهاية» (4/ 269 - 270).
(3) المحاقلة: قيل: هي اكتراء الأرض بالحنطة، وقيل: هي المزارعة على نصيب معلوم كالثلث والربع ونحوهما. وقيل: هي بيع الطعام في ستبله بالبر.
«النهاية» (1/ 416).
(4) المزابنة: وهي بيع الرطب في رءوس النخل بالتمر، وأصله من الزين وهو الدفع، كأن كل واحد من المتبايعين يزين صاحبه عن حقه بما يزداد منه. «النهاية» (2/ 249).
(5) المعاومة: وهي بيع تمر النخل والشجر سنتين وثلاثًا فصاعدًا. يقال: عاومت النخلة إذا حملت سنة ولم تحمل أخرى وهي مفاعلة من العام: السنة. «النهاية (3/ 323).
(6) المخاضرة: هي بيع الثمار خضرًا لم يبد صلاحها. «النهاية» (2/ 41).(5/2504)
والعربون (1) والعصير إلى من يتخذه خمرًا، والكالئ بالكالئ وما اشتراه قبل قبضه، والطعام حتى يجري في الصاعان، ولا يصح الاستثناء في البيع إلا إذا كان معلومًا، ومنه استثناء ظهر المبيع، ولا يجوز التفريق بين المحارم، ولا أن يبيع حاضر لباد، والتناجش (2) والبيع على البيع، وتلقي الركبان، والاحتكار (3)، والتسعير، ويجب وضع الجوائح، ولا يحل سلق وبيع، وشرطان في بيع، وبيعتان في بيع، وبيع ما ليس عند البائع، ويجوز عدم الخداع، والخيار في المجلس ثابت ما لم يتفرقا.
[الباب الثاني] باب الربا
يحرم بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا مثلًا بمثل يدًا بيد [7] وفي إلحاق غيرها بها خلاف، فإن اختلفت الأجناس جاز التفاضل إذا كان يدًا بيد، ولا يجوز بيع الجنس بجنسه مع عدم العلم بالتساوي، وإن صحته غيره، ولا بيع الرطب بما كان يابسًا، إلا لأهل العرايا (4)، ولا بيع اللحم
_________
(1) العربون: هو أن يعطي المشترى البائع درهمًا أو نحوه قبل البيع على أنه إذا ترك الشراء كان الدرهم للبائع بغير شيء.
وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيع العربون». وهو حديث ضعيف.
(2) التناجش: هو أن يمدح السلعة لينفقها ويروجها أو يزيد في ثمنها وهو لا يريد شراءها ليقع غيره فيها.
«النهاية» (2/ 21).
(3) الاحتكار: حبس السلع عن البيع إرادة غلاتها. «النهاية» (1/ 417).
(4) العرايا: وهو أن مت لا نخل يه من ذوي الحاجة يدرك الرطب ولا نقد بيده يشتري به الرطب لعياله، ولا نخل له يطعمهم منه ويكون قد فضل له من قوته تمر فيجيء إلى صاحب النخل فيقول له: بعني تمر نخلة أو نخلتين بخرصهما من التمر، فيعطيه ذلك الفاضل من التمر تلك النخلات ليصيب من رطتها مع الناس، فرخص فيه إذا كان دون خمسة أوسق.
«النهاية» (3/ 224)(5/2505)
بالحيوان، ويجوز بيع الحيوان باثنين أو أكثر من جنسه، ولا يجوز بيع العينة (1).
[الباب الثالث] باب الخيارات
يجب على من باع بعيب أن يبينه وإلا ثبت المشتري الخيار، والخراج بالضمان، وللمشتري الرد منه المصراة (2) فيردها وصاعًا من تمر، أو ما يتراضيان عليه، ويثبت الخيار لمن خدع أو باع قبل وصول السوق، ولكل من المتبايعين بيعًا منهيًّا عنه الرد، ومن اشترى شيئًا لم يره فله رده إذا رآه، وله رد ما اشتراه بخيار مده معلومة قبل انقضائها , وإذا اختلف البيعان فالقول ما يقوله البائع.
[الباب الرابع] باب السلم
هو أن يسلم رأس المال في مجلس العقد على أن يعطيه ما يتراضيان عليه معلومًا إلى أجل معلوم، ولا يأخذ إلا ما سماه أو رأس ماله، ولا يتصرف فيه قبل قبضه.
[الباب الخامس] باب القرض
يجب إرجاع مثله، ويجوز أن يكون أفضل أو أكثر إذا لم يكن مشروطًا، ولا يجوز أن يجر القرض نفعًا ........................................
_________
(1) العينة: هو أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به، فإن المشتري بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها ثم باعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن فهذه أيضًا عينة، وسميت عينة لحصول النقد لصاحب العينة لن العين هو المال الحاضر من النقد والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه معجلة.
«النهاية» (3/ 333 - 334).
(2) المصراة: الناقة أو البقرة أو الشاة بصرى اللبن في ضرعها: أي يجمع ويحبس.
قال الأزهري: قال الشافعي: المصراة أنها التي تصر أخلافها ولا تحلب أيامًا حتى يجتمع اللبن في ضرعها. فإذا حلبها المشتري استغزرها.
«النهاية» (3/ 27).(5/2506)
للمقرض (1).
[الباب السادس] [باب] (2) الشفعة
سببها: الاشتراك في شيء ولو منقولًا (3)، فإذا وقعت القسمة فلا شفعة، ولا يحل للشريك أن يبيع حتى يؤذن شريكه، ولا تبطل بالتراخي.
[الباب السابع] [باب] (4) الإجارة (5)
تجوز على كل عمل لم يمنع منه مانع شرعي، وتكون الأجرة معلومة عند الاستئجار، فإن لم تكن كذلك استحق الأجير مقدار عمله عند أهل ذل العمل وقد ثبت النهي عن كسب الحجام ومهر البغي وحلوان (6) الكاهن وعسب الفحل وأجرة المؤذن وقفيز الطحان ويجوز الاستئجار على تلاوة القرآن لا على تعليمه، ويجوز أن تكري العين مدة معلومة بأجرة معلومة، ومن ذلك الأرض لا بشطر ما يخرج منها، ومن أفسد ما استؤجر عليه أو أتلف ما استأجره ضمن.
[الباب الثامن] باب الإحياء والإقطاع
من سبق إلى إحياء أرض لم يسبق إليها غيره فهو أحق بها وتكون ملكًا له، ويجوز للإمام أن يقطع من في إقطاعه مصلحة شيئًا من الأرض الميتة أو المعادن أو المياه.
_________
(1) مثاله: أن يقول المقرض: أقرضك على أن تبيعني كذا، أو على أن تقرضني مالًا إذا احتجت.
«المغنى «(4/ 354 - 355).
(2) في المخطوط «كتاب «وبدلت إلى «باب «لضرورة التبويب.
(3) المنقول: كالثياب والحيوان.
انظر: «مغني المحتاج» (2/ 296).
(4) في المخطوط «كتاب «وبدلت إلى «باب «لضرورة التبويب.
(5) هو «تمليك المنافع بعوض». «التعريفات «(10).
(6) حلوان الكاهن: هو ما يعطاه من الأجر والرشوة على كهانته. يقال: حلوته أحلوه حلوانًا، والحلوان مصدر كالغفران، ونوه زائدة.»
النهاية» (1/ 435).(5/2507)
[الباب التاسع] [باب] (1) الشركة
الناس شركاء في الماء والنار والكلإ، وإذا تشاجر المستحقون للماء كان الأحق به الأعلى فالأعلى يمسكه إلى الكعبين ثم يرسله إلى من تحته، ولا يجوز منع فضل الماء ليمنع به الكلأ، وللإمام أن يحمي بعض المواضيع لرعي دواب المسلمين في وقت الحاجة، ويجوز الاشتراك في النقود والتجارات ويقسم الربح على ما تراضيا عليه، وتجوز المضاربة (2) ما لم تشتمل على ما لا يحل، وإذا تشاجر الشركاء في عرض الطريق كان سبعة أذرع، ولا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره، ولا ضرر ولا ضرار بين الشركاء، ومن ضار شريكه جاز للإمام عقوبته بقلع شجره أو بيع داره.
[الباب العاشر] [باب] (3) الرهن
يجوز رهن ما يملكه الراهن دين عليه والظهر يركب واللبن يشرب بنفقة المرهون، ولا يغلق (4) الرهن بما فيه.
[الباب الحادي عشر] [باب] (5) الوديعة [8] والعارية
يجب على .................................................................................................
_________
(1) في المخطوط (كتاب) ودلت (باب) لضرورة التبويب.
(2) المضاربة: أن تعطي مالًا لغيرك يتجر فيه فيكون له سهم معلوم من الربح وهي مفاعلة من الضرب في الأرض والسير فيها للتجارة.
(3) في المخطوط (كتاب) ودلت (باب) لضرورة التبويب.
(4) قال الشوكاني في «الدراري» (2/ 140) «: والمراد بالغلاق هذا استحقاق المرتهن له حيث لم يفكه الراهن في الوقت المشروط، وروى عبد الرازق- في مصنفه (8/ 237 رقم 15033) - عن معمر أنه فسر غلاق الرهن بما إذا قال الرجل: إن لم آتك بمالك فالرهن لك، قال: ثم بلغني عنه أنه قال: إن هلك لم يذهب حق هذا إنما هلك من رب الرهن الذي له غنمه وعليه غرمه وقد روى أن المرتهن في الجاهلية، كان يتملك الرهن إذا لم يؤد الراهن إليه ما يستحقه في الوقت المضروب فأبطله الشارع والغنم والغرم هنا هو أعم مما تقدم من أن الظهر يركب واللبن يشرب بنفقة المرهون.
(5) في المخطوط (كتاب) ودلت (باب) لضرورة التبويب.(5/2508)
الوديع (1) والمستعير تأدية الأمانة إلى من ائتمنه، ولا يخن من خانه، ولا ضمان عليه تلفت بدون جنايته وخيانته، ولا يجوز منع: الماعون كالدلو والقدر، وإطراق الفحل وحلب المواشي لمن يحتاج ذلك، والحمل عليها في سبيل الله.
[الباب الثاني عشر] [باب] (2) الغصب
يأثم الغاصب، ويجب عليه رد ما أخذه، ولا يحل ما امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه، وليس لعرق (3) ظالم حق، ومن زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء، ومن غرس في ارض غيره غرسًا رفعه (4)، ولا يحل الانتفاع بالمغصوب ومن أتلفه
_________
(1) مراده «المودع».
(2) في المخطوط (كتاب) ودلت (باب) لضرورة التبويب.
(3) العرق الظالم: أن يجيء الرجل إلى أرض قد أحياها غيره فيغرس فيها أو يزرع ليستوجب به الأرض. «مختار الصحاح «(ص 180).
(4) قوله: «ومن زرع ... ««ومن غرس «قد فرق بين حكم من زرع وحكم من غرس وهو قول لبعض أهل العلم جمعًا بين الأدلة في الباب. ولكنه قال في «السيل» (3/ 93): إلى أن ما غرسه الغاصب أو زرعه في الأرض المغصوبة فهو لمالكها وليس للغاصب من ذلك شيء، إلا من زرع في أرض قوم على غير وجه التعدي والعدوان، فالزرع لمالك الأرض ويرجع هو على الغاصب بما أنفق فيها وهذا الاستثناء علق المصنف صحته على صحة الخبر ثم قال عقب الحديث _الذي أخرجه أبو داود رقم (3399) وحديث حسن- عن عروة بن الزبير عن بعض الصحابة: أن رجلين اختصما إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غرس أحدهما خلا في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها قال: «فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفئوس، وإنها لنخل عم، وإذا كان هذا هو حكم الشرع في النخل الذي تعظم المؤونة عليه، وتكثر الغرامة فيه فأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغاصب بالقطع وإخراج نخله مع كونه قد صار نخلًا عما، فكيف لا يكون الزرع مثله مع حقارة المؤونة عليه وقصر المدة فيه، وليس في كون البذر من الغاصب زيادة على كون أصول الغرس منه، فلا يصح أن يكون أحدهما سببًا لاستحقاق الغاصب للنفقة دون الآخر. فما ذكره المصنف رحمه الله تعالى- صاحب الأزهار- من قلع الزرع وإن لم يحصد ولزوم أجرة الأرض للغاصب وإن لم ينتفع صواب.(5/2509)
فعليه مثله أو قيمته.
[الباب الثالث عشر] [باب] (1) العتق
أفضل الرقاب أنفسها، ويجوز العتق بشرط الخدمة ونحوها، ومن ملك رحمه عتق عليه، ومن مثل (2) بمملوكه فعليه أن يعتقه، وإلا أعتقه الإمام أو الحاكم، ومن أعتق شركًا له في عبد ضمن لشركائه نصيبهم بعد التقويم، وإلا عتق نصيبه فقط واستسعي العبد (3). ولا يصح شرط الولاء لغير من أعتق، ويجوز التدبير (4)، فيعتق بموت مالكه، وإذا احتاج المالك جاز له بيعه، ويجوز مكاتبة المملوك على مال يؤديه، فيصير عند الوفاء حرًّا، ويعتق منه بقدر ما سلم، وإذا عجز عن تسليم مال الكتابة في الرق (5) ومن استولد أمته لم يحل له بيعها، وعتقت بموته، أو بتنجيزه (6) لعتقها (7).
_________
(1) في المخطوط (كتاب) ودلت (باب) لضرورة التبويب.
(2) المثلة: يقال: مثلت بالحيوان أمثل به مثلُا: إذا قطعت أطرافه وشوهت به، ومثلت بالقتيل: إذا جدعت أنفه وأذنه أو مذاكيره أو شيئًا من أطرافه أو (مثَّل) بالتشديد فللمبالغة.
«النهاية» (4/ 294).
(3) قال في «السيل» (3/ 126): «أن الشريك الموقع للعتق إن كان مؤسرًا ضمن قيمة نصيب الشريك من ماله، وإن كان معسرًا فإن كان العبد قادرًا على السعاية واختار ذلك عتق جميعه وسعى، وإن لم يكن قادرًا على السعاية أو أبى أن يسعى فقد عتق منه ما عتق، وهو نصيب الذي أعتقه، ويبقى نصيب الآخر رقًا.
(4) قال في «السيل» (3/ 128): أن التدبير بما كان مضافًا إلى ما بعد الموت كان له حكم الوصية وهي في هذه الصورة نافذة من الثلث.
(5) قال في «السيل» (3/ 140): وذلك في الجملة بأن له قبل الوفاء حكمًا بين حكمي الحر والعبد إلا في رجوعه في الرق إذا عجز فإن له في ذلك حكم العبد.
(6) تنجيزه: أي تعجيله. «المصباح «(2/ 594).
(7) أي تنجيز مستولدها لعتقها.
قلت: هذا في حين العتق بالولادة، ولكن العتق لا يقع.(5/2510)
[الباب الرابع عشر] [باب] (1) الوقف
من حبس ملكه في سبيل الله صار محبسًا، وله أن يجعل غلاته لأي مصرف شاء مما فيه قربة. وللمتولي عليه أن يأكل منه بالمعروف، وللواقف أن يجعل نفسه في وقفه كسائر المسلمين.
ومن وقف شيئًا مضارة لوارثه فهو باطل، ومن وضع مالًا في مسجد أو مشهد لا ينتفع به أحد جاز صرفه في أهل الحاجات ومصالح المسلمين، ومن ذلك ما يوضع في الكعبة وفي مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والوقف على القبور لرفع سمكها أو تزيينها أو فعل ما يجلب على زائرها فتنة: باطل.
[الباب الخامس عشر] [باب] (2) الهدايا
يشرع قبولها ومكافأة فاعلها , وتجوز بين المسلم والكافر، ويحرم الرجوع فيها، وتجب التسوية بين الأولاد، والرد لغير مانع شرعي مكروه.
[الباب السادس عشر] [باب] (3) الهبات
إن كانت بغير عوض فلها حكم الهدية في جميع ما سلف، وإن كانت بعوض فهي بيع ولها حكمه، والعمرى (4) والرقى (5) توجبان الملك للمعمر والمرقب ولعقبه من بعده لا رجوع فيهما.
_________
(1) في المخطوط (كتاب) وبدلت بـ (باب) لضرورة التبويب.
(2) في المخطوط (كتاب) وبدلت بـ (باب) لضرورة التبويب.
(3) في المخطوط (كتاب) وبدلت بـ (باب) لضرورة التبويب.
(4) العمرى: يقال: أعمرته الدار عمري: أي جعلتها له يسكنها مدة عمره، فإذا مات عادت إلي، وكذا كانوا يفعلون في الجاهلية، فأبطل ذلك وأعلمهم أن من أعمر شيئًا أو أرقبه في حياته فهو لورثته من بعده.
«النهاية» (3/ 298).
(5) الرقى: هو أن يقول الرجل للرجل قد وهبت لك هذه الدار فإن مت قبلي رجعت إلي، وإن مت قبلك فهي لك , وهي فعلى من المراقبة لأن واحد منهما يرقب موت صاحبه.(5/2511)
[الكتاب الحادي عشر]
كتاب الأيمان
الحلف إنما يكون باسم الله تعالى أو صفة له، ويحرم الحلف بغير ذلك، ومن حلف فقال: (إن شاء الله) فقد استثنى ولا حنث عليه، ومن على شيء فرأى غيره خيرًا منه فليأت الذي هو خير وليكفره عن يمينه ومن أكره على اليمين فهي غير لازمة، ولا يأثم بالحنث فيها واليمين الغموس (1) هي التي يعلم الحال كذبها، ولا مؤاخذة باللغو (2) ومن حق المسلم على المسلم إبرار قسمه، وكفارة اليمين هي ما ذكره الله في كتابه العزيز.
_________
(1) اليمين الغموس: هي اليمين الكاذبة الفاجرة كالتي يقتطع بها الحالف مال غيره، سميت غموسًا؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ثم في النار وفعول للمبالغة.
«النهاية» (3/ 386).
(2) اللغو: لغو اليمين: هو أن يقول: لا والله وبلى والله، ولا يعقد عليه قلبه.
وقيل: هي التي يحلفها الإنسان ساهيًا أو ناسيُا.
وقيل: اللغو: سقوط الإثم عن الحالف إذا كفر يمينه. يقال: لغا الإنسان بلغو، ولغى يلغى، إذا تكلم بالمطرح من القول، وما لا يعني، وألغى إذا سقط. «النهاية» (4/ 257).(5/2512)
[الكتاب الثاني عشر]
كتاب النذر
إنما يصح إذا ابتغي به وجه الله تعالى، فلا بد أن يكون قربة، ولا نذر في معصية، ومن النذر في المعصية ما فيه مخالفة للتسوية بين الأولاد، أو مفاضلة بين الورثة مخالفة لما شرعه الله، ومنه النذر على القبور، وعلى ما لم يأذن به (1) الله ومن أوجب على نفسه فعلًا لم يشرعه الله لم يجب عليه (2).
وكذلك إن كان مما شرعه الله وهو لا يطيقه فعليه كفارة يمين، ومن نذر بقربة وهو مشرك ثم أسلم لزمه الوفاء، ولا ينفذ النذر إلا من الثلث (3)، وإذا مات الناذر بقربة ففعلها عنه ولده أجزأه ذلك.
_________
(1) قال في «الدراري» (2/ 192): كالنذر على المساجد أو على أهل المعاصي ليستعينوا بذلك على معاصيهم.
(2) كمن نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد أو لا يتكلم وأن يصوم. ذكره الشوكاني في «الدراري» (2/ 192).
(3) ونجد الشوكاني- رحمه الله- في «السيل»: قد مال إلى أنه ينفذ من جميع المال فقال: «قوله: «وإنما ينفذ من الثلث ... إلخ «لم يدل على هذا دليل يخصه، وفي القياس على الوصايا نظرًا لأن الوصايا مضافة إلى ما بعد الموت، وهذا منجز في حال الحياة، فإن كان مضافًا إلى ما بعد الموت فله حكم الوصية.(5/2513)
[الكتاب الثالث عشر]
كتاب الأطعمة
[الباب الأول: المحرمات من الأطعمة]
الأصل في كل شيء الحل، ولا يحرم إلا ما حرمه الله تعالى ورسوله، وما سكت عنه فهو عفو، فيحرم ما في الكتاب العزيز، وكل ذي ناب من السباع (1) وكل ذي مخلب من الطير، والحمر الإنسية، والجلالة (2) قبل الاستحالة، والكلاب والهر، وما كان مستخبثًا (3) وما عدا ذلك فهو حلال.
[الباب الثاني] باب الصيد
ما صيد بالسلاح الجارح والجوارح كان حلالًا إذا ذكر اسم الله وما صيد بغير ذلك فلا بد من التذكية.
وإذا شارك الكلب المعلم كلب آخر لم يحل صيدهما (4) وإذا أكل الكلب المعلم
_________
(1) السباع: ما يفترس الحيوان ويأكله قهرًا وقسرًا؛ كالأسد والنمر والذئب ونحوها.
«النهاية» (2/ 337).
(2) الجلالة: هي التي تأكل العذرة من الحيوان، وأصل الجلة البعر فاستعير لغيره يقال منه جلت تحل وجتلت تجتل.
«مشارق الأنوار على صحاح الآثار «للقاضي عياض (ص149).
(3) فما استخبثه الناس من الحيوانات لا لعلة ولا لعدم اعتياد بل لمجرد الاستخباث فهو حرام وإن استخبثه البعض دون البعض كان الاعتبار بالأكثر كحشرات الأرض وكثير من الحيوانات التي ترك الناس أكلها ولم ينهض2 على تحريمها دليل يخصها، فإن تركها لا يكون في الغالب إلا لكونها مستخبثة.
«الدراري» (2/ 206 - 207).
(4) قال الشوكاني في «النيل «(5/ 335): ... لا يحل أكل ما يشاركه كلب آخر في اصطياده. ومحله: ما إذا استرسل بنفسه أو أرسله من ليس من أهل الزكاة فإن تحقق أنه أرسله من هو أهل الزركاة حل، ثم ينظر فإن كان إرسالهما معًا فهو لهما، وإلا فللأول».(5/2514)
ونحوه من [9] الصيج لم يحل فإنما أمسك على نفسه، وإذا وجد الصيد بعد وقوع الرمية فيه ميتًا ولو بعد أيام في غير ماء كان حلالًا، ما لم ينتن أو يعلم أن الذي قتله غير سهمه (1).
[الباب الثالث] باب الذبح
هو ما أنهر الدم وفرى (2) الأوداج وذكر اسم الله عليه ولو بحجر أو نحوه ما لم يكن سنًّا أو ظفرًا، ويحرم تعذيب الذبيحة والمثلة بها وذبحها لغير الله، وإذا تعذر الذبح بوجه جاز الطعن والرمي وكان ذلك كالذبح، وذكاة الجنين ذكاة أمه وما أبين من الحي فهو ميتة، وتحل ميتتان ودمان: السمك والجراد والكبد والطحال، وتحل الميتة للمضطر.
[الباب الرابع] باب الضيافة
يجب على من وجد ما يقري به من نزل عليه من الضيوف أن يفعل ذلك وجد الضيافة إلى ثلاثة أيام، وما كان وراء ذلك فصدقة، ولا يحل للضيف أن يثوي عنده حتى يخرجه، وإذا لم يفعل القادر على الضيافة ما يجب عليه كان للضيف أن يأخذ من ماله بقدر قراه ويحرم أكل طعام الغير (3) بغير إذنه، ومن ذلك حلب ماشيته وأخذ ثمرته
_________
(1) قال في «النيل «(5/ 344): أنه إن وجد فيه أثر غير سهمه لا يأكل.
(2) فرى: قطع. الأوداج، جمع ودج، وهما ودجان: أي: عرقان محيطان بالحلقوم.
«النهاية» (5/ 165)، «المصباح «(2/ 471).
* ولكن الشوكاني في «السيل» (3/ 218): قال: لم يثبت في المرفوع ما يدل على اشتراط فري الأوداج إلا ما أخرجه أبو داود- رقم (2826) وهو حديث ضعيف- من حديث أبي هريرة وابن عباس قالا: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا تفري الأوداج.
(3) الغير: هكذا والوجه عدم دخول (أل) على غير؛ لأن المقصود بدخول (أل) التعريف على النكرة أن يخصصه بشخص بعينه فإذا قيل: «الغير «اشتملت هذه اللفظة على ما لا يحصى كثيرة، ولهذا لم تدخل (أل) على جملة مشاهير المعرف كدجلة، وعرفة لوضوح اشتهارها. «تصحيح التصحيف «(ص 398)،
«تاج العروس «(3/ 460).(5/2515)
وزرعه لا يجوز إلا بإذنه، إلا أن يكون محتاجًا إلى ذلك، فليناد صاحب الإبل أو الحائط فإن أجابه وإلا فليشرب وليأكل غير متخذ خبنة (1). [الباب الخامس] باب آداب الأكل
تشرع للآكل التسمية، والأكل باليمين، ومن حافتي الطعام لا من وسطه ومما يليه، ويلعق أصابعه والصحفة، والحمد عند الفراغ والدعاء، ولا يأكل متكئًا (2).
_________
(1) الخبية: معطف الإزار وطرف الثوب: أي لا يأخذ منه في ثوبه، يقال أخبن الرجل إذا خبأ شيئًا في خبنة ثوبه أو سراويله. «النهاية» (2/ 9).
(2) قال ابن القيم في «زاد المعاد «(4/ 202): وقد فسر الاتكاء بالتربع، وفسر الاتكاء على الشيء. وهو الاعتماد عليه وفسر بالاتكاء على الجنب، والأنواع الثلاثة من الاتكاء، فنوع يضر بالأكل وهو الاتكاء على الجنب فإنه يمنع مجرى الطعام الطبيعي عن هيئته ويعوقه عن سرعة نفوذه إلى المعدة ...
وأما النوعان الآخران فمن جلوس الجبابرة المنافي للعبودية.(5/2516)
[الكتاب الرابع عشر] كتاب الأشربة
كل مسكر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام، ويجوز الانتباذ في جميع الآنية، ولا يجوز انتباذ (1) جنسين مختلطين (2)، ويحرم تخليل الخمر، ويجوز شرب العصير والنبيذ قبل غليانه، ومظنة ذلك ما زاد على ثلاثة أيام، وآداب الشرب أن يكون ثلاثة أنفاس، وباليمين، ومن قعود، وتقديم الأيمن فالأيمن، ويكون الساقي آخرهم شربًا، ويسمي في أوله، ويحمد في آخره، ويكره التنفس في السقاء والنفخ فيه والشرب من فمه، وإذا وقعت النجاسة في شيء من المائعات لم يحل شربه، وإن كان جامدًا ألقيت وما حولها ويحرم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة.
_________
(1) انتباذ: يقال نبذت التمر والعنب إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذًا، فصرف من مفعول إلى فعيل وانتبذته: اتخذته نبيذًا. «النهاية» (5/ 7).
(2) يريد ما ينبذ من البسر والتمر معًا، أو من العنب والزبيب أو من الزبيب والتمر ونحو ذلك مما ينبذ مختلطًا وإنما نهى عنه لأن الأنواع إذا اختلفت في الانتباذ كانت أسرع للشدة والتخمير.
«النهاية» (2/ 63).(5/2517)
[الكتاب الخامس عشر]
كتاب اللباس
ستر العورة واجب في الملأ والخلاء، ولا يلبس الرجل الخالص من الحرير، وإذا كان فوق أربع أصابع، إلا للتداوي، ولا يفترشه ولا المصبوغ بالعصفر (1) ولا ثوب شهرة ولا ما يختص بالنساء ولا العكس، ويحرم على الرجال التحلي بالذهب لا بغيره.
[الكتاب السادس عشر]
كتاب الأضحية
[الباب الأول: أحكام الأضحية]
تشرع لهل كل (2) بيت، وأقلها شاة ووقتها بعد صلاة عيد النحر، إلى آخر أيام التشريق، وأفضلها أسمنها، ولا يجزئ ما دون الجذع (3) من الضأن، ولا الثني من المعز ولا الأعور والمريض والأعرج، والأعجف (4)، ..............................
_________
(1) العصفر: نبات سلافته الجريال وهي معربة. وقيل: هو الذي يصبغ منه ريفي ومنه بري وكلاهما نبت بأرض العرب، وقد عصفت الثوب فتعصفر.
«لسان العرب «(9/ 242).
وانظر رسالة «القول المحرر في حكم لبس المعصفر وسائر أنواع الأحمر «في قسم الفقه «الفتح الرباني». رقم (138).
(2) قال في «السيل» (3/ 2312): وبهذا تعرف أن الحق ماقاله الأقلون من كونها واجبة ولكن هذا الوجوب مقيد بالسعة، فمن لا سعة له لا أضحية عليه.
(3) جذعة: الجذع من الشاه، ما دخل في السنة الثانية ومن البقر وذوات الحافر، وما دخل في الثالثة ومن الإبل ما دخل في الخامسة، والأنثى في الجميع: جذعة والجمع: جذعان وجذعات.
«غريب الحديث الهروي «(3/ 72).
(4) العجفاء: العجف الهزال والضعف». «لسان العرب «(9/ 62).(5/2518)
وأعضب (1) القرن والأذن، ويتصدق منها ويأكل ويدخر، والذبح في المصلى أفضل، ولا يأخذ من له أضحية من شعره وظفره بعد دخول عشر ذي الحجة حتى يضحي.
[الباب الثاني] باب الوليمة (2) هي مشروعة وتجب الإجابة إليها ويقدم السابق ثم الأقرب بابًا، ولا يجوز حضورها إذا اشتملت على معصية.
[الـ] فصل [الثاني: أحكام العقيقة (3)]
والعقيقة مستحبة، وهي: شاتان عن الذكر وشاة عن الأنثى، يوم سابع المولود، وفيه يسمى ويحلق رأسة، ويتصدق بوزنه ذهبًا أو فضة.
[الكتاب السابع عشر]
كتاب الطب
يجوز التداوي، والتفويض أفضل لمن يقدر على الصبر (4)، ويحرم بالمحرمات ويكره الاكتواء ولا بأس بالحجامة، والرقية بما يجوز من العين وغيرها
_________
(1) العضب: القطع، وناقة عضباء مشقوقة الأذن وكذلك الشاة والعضباء من أذن الخيل: التي يجاوز القطع ربعها. «لسان العرب «(9/ 252).
(2) الوليمة: وهو الطعام الذي يصنع عند العرس. «النهاية» (5/ 266).
(3) انظر: «تحفة المودود بأحكام المولود «تحقيق محمد صبحي بن حسن حلاق.
(4) قال في «الدراري» (2/ 280): أن التفويض أفضل مع الاقتدار على الصبر كما يقيده قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن شئت صبرت» وأما مع عدم الصبر على المرض وصدور الحرج والحرد وضيق الصدر من المرض فالتداوي أفضل لأن فضيلة التفويض قد ذهبت بعدم الصبر.(5/2519)
[الكتاب الثامن عشر]
كتاب الوكالة
يجوز لجائز التصرف أن يوكل غيره في كل شيء ما لم يمنع منه مانع (1)، وإذا باع الوكيل بزيادة [10] على ما رسمه له موكله كانت الزيادة للموكل، وإذا خالفه إلى ما هو أنفع أو إلى غيره ورضي به صح (2).
[الكتاب التاسع عشر]
كتاب الضمانة (3) [الكفالة]
يجب على من ضمن على حي أو ميت تسليم مال أن يغرمه عند الطلب، ويرجع على المضمون عنه إن كان مأمورًا من جهته (4). ومن ضمن بإحضار شخص وجب عليه إحضاره وإلا غرم ما عليه.
_________
(1) قال الشوكاني في «الدراري» (2/ 288): «وذلك كالتوكيل في شيء لا يجوز للمتوكل أن يفعله ويجوز للوكيل؛ كتوكيل المسلم للذمي في بيع الخمر أو الخنزير أو نحو ذلك، فإن ذلك لا يجوز ولا يكون محللًا للثمن ... ».
(2) قال في «الدراري» (2/ 289 «: فتكون الرضا مناطًا مسوغًا لذلك ومجوزًا له، وإذا لم يرض؛ يلزمه ما وقع من الوكيل مخالفًا لما رسمه له لعدم المناط المعتبر».
(3) هي التزام من يصح تبرعه حقًّا وجب على غيره، أو إحضار من هو عليه.
انظر: «مغني المحتاج «(2/ 298).
(4) لكون الدين عليه والأمر منه للضمين بالضمانة كالأمر له بالتسليم فيرجع عليه لذلك.
وانظر «السيل» (2/ 397).(5/2520)
[الكتاب العشرون]
كتاب الصلح (1) هو جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، ويجوز علن المعلوم والمجهول بمعلوم وبمجهول (2)، ولو عن انكسار وعن الدم كالمال (3) بأقل من الدية أو أكثر، ولو عن إنكار.
[الكتاب الحادي والعشرون]
كتاب الحوالة
من أحيل على مليء فليحتل، وإذا مطل المحال عليه أو أفلس كان للمحال أن يصيب المحيل بدينه.
_________
(1) الصلح معاقدة يتوصل بها إلى الإصلاح بين المختلفين ويتنوع أنواعًا، صلح بين المسلمين وأهل حرب، وصلح بين أهل العدل وأهل البغي، وصلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما.
«المغني» (7/ 5).
(2) انظر: تفصيل ذلك في «المغني» (7/ 9 - 15).
(3) قال في «الدراري» (2/ 297): «وأما جواز المصالحة عن الدم كالمال، فلكون اللازم في الدم مع عدم القصاص هو المال، فهو صلح بمال عن مال يدخل تحت عموم قوله تعالى: {أو إصلاح بين الناس} [النساء: 114].(5/2521)
[الكتاب الثاني والعشرون]
كتاب يجوز لأهل الدين أن يأخذوا جميع ما يجدونه معه، إلا ما كان لا يستغني (1) عنه وهو: المنزل وستر العورة وما يقيه البرد ويسد رمقه ومن يعول، ومن وجد ماله عنده بعينه فهو أحق به، وإذا نقص مال المفلس عن الوفاء بجميع دينه كان الموجود أسوة الغرماء، وإذا تبين إفلاسه فلا يجوز حبسه.
ولي (2) الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته، ويجوز للحاكم أن يحجزه عن التصرف في ماله ويبيعه لقضاء دينه، وكذا يجوز له الحجر على المبذر، ومن لا يحسن التصرف، ولا يمكن من التصرف في ماله حتى يؤنس منه الرشد، ويجوز لوليه أن يأكل من ماله بالمعروف.
_________
(1) قال في «السيل» (3/ 421 - 422): «وهكذا ينبغي أن يترك للمفلس على كل تقدير ما تدعوا إليه حاجته من الطعام والإدام إلى وقت الدخل، وهكذا يترك للمجاهد والمحتاج إلى المدافعة عن نفسه أو ماله وسلاحه، وللعالم ما يحتاج إليه من كتب التدريس والإفتاء والتصنيف، وهكذا يترك لمن كان معاشه بالحرث ما يحتاج إليه في الحرث من دابة وآلة الحرث.
ثم قال: والحاصل: أن تفويض مثل هذه الأمور إلى أنظار حكام العدل العارفين بالحكم بما أنزل الله هو الذي لا ينبغي لاختلاف الأحوال والأشخاص والأمكنة والأزمنة.
(2) اللي: المطل، يقال: لواه غريمه بدينه يلويه ليا وأصله: لويا فأدغمت الواو في الياء.
«النهاية» (4/ 280).(5/2522)
[الكتاب الثالث والعشرون]
كتاب اللقطة
من وجد لقطة فليعرف عفاصها (1) ووكاءها (2)، فإن جاء صاحبها دفعها إليه، وإلا عرف بها حولًا، وبعد ذلك يجوز له صرفها ولو في نفسه ويضمن مع مجيء صاحبها، ولقطة مكة أشد تعريفًا من غيرها، ولا بأس بأن ينتفع الملتقط بالشيء الحقير كالعصا والسوط ونحوهما، وتلتقط ضالة الدواب إلا الإبل.
[الكتاب الرابع والعشرون]
كتاب القضاء
إنما يصح قضاء من كان: مجتهدًا، متورعًا عن أموال الناس عادلًا في القضية حاكمًا السوية، ويحرم عليه الحرص على القضاء وطلبه، ولا للإمام تولية من كان كذلك، ومن كان متأهلًا للقضاء فهو على خطر عظيم، وله مع الإصابة أجران ومع الخطأ أجر إن لم يأل جهدًا في البحث، وتحرم عليه: الرشوة والهدية التي أهديت لأجل كونه قاضيًا، ولا يجوز له الحكم حال الغضب، وعليه التسوية بين الخصمين إلا إذا كان أحدهما كافرًا والسماع منهما قبل القضاء، وتسهيل الحجاب بحسب الإمكان، ويجوز له اتخاذ الأعوان (3) مع الحاجة، والشفاعة، ..................................
_________
(1) العفاص: هو الوعاء الذي يكون فيه النفقة، إن كان من جلد أو من خرقة أو غير ذلك.
«لسان العرب «(9/ 289).
(2) الوكاء: الخيط الذي تشد به الصرة والكيس.
«النهاية» (5/ 222).
(3) قال في «السيل» (3/ 453): فإذا لم يتم حكم الشرع منه إلا بأعوان تشتد بها وطأته على المرتكبين للمنكرات والمتساهلين في تأدية الواجبات والمتمردين امتثال ما يقضي به شرع الله كان اتخاذ من يحصل به التمام من الأعوان ونحوهم واجبًا على القاضي.
ثم قال: ومن مقتضيات اتخاذ الأعوان إحضار الخصوم، ودفع الزحام وعلو الأصوات .....(5/2523)
والاستيضاع (1) والإرشاد إلى الصلح، وحكمه ينفذ ظاهرًا فمن قضي له بشيء فلا يحل له إلا إذا كان الحكم مطابقًا للواقع.
[الكتاب الخامس والعشرون]
كتاب الخصومة والبينة والإقرار
على المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين، ويحكم الحاكم بالإقرار، وبشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، أو رجل ويمين المدعي، ويمين المنكر ويمين الرد (2) وبعلمه (3)، ولا تقبل شهادة من ليس بعدل، ولا الخائن ولا ذي العداوة والمتهم، والقاذف، ولا بدوي (4) على صاحب قرية، وتجوز شهادة من يشهد على تقرير فعله أو قوله، إذا انتفت التهمة، وشهادة الزور من أكبر الكبائر، وإذا تعارض البينتان ولم يوجد وجه ترجيح قسم المدعي بين الغريمين، وإذا لم يكن للمدعي بينة فليس له إلا يمين صاحبه ولو كان فاجرًا، ولا تقبل البينة (5) بعد اليمين، ومن أقر بشيء عاقلًا بالغًا، غير هازل ولا بمحال عقلًا أو عادة
_________
(1) الاستيضاع: أن يطلب من أحد الخصمين أن يضع دينه عن خصمه.
«اللسان «(15/ 328).
(2) قال في «السيل» (3/ 325): لم يصح شيء في يمين الرد قط وما روي في ذلك فلا يقوم به حجة ولا ينهض للدلالة على المطلوب والأسباب الشرعية لا تثبت إلا بالشرع.
(3) انظر: رسالة «رفع الخصام في الحكم بعلم الحكام «رقم (63).
(4) قال في «النيل «(5/ 582) تعليقًا على أقوال العلماء في ذلك فقال: لأن البدوي إذا كان معروف العدالة كان رد شهادته لعلة كونه بدويًّا غير مناسب لقواعد الشريعة؛ لأن المساكن لا تأثير لها في الرد والقبول، لعدم صحة جعل ذلك مناطًا شرعيًّا، ولعدم انضباطه، فالمناط هو العدالة الشرعية إن وجد للشرع اصطلاح في العدالة، وإلا توجه الحمل على العدالة اللغوية، فعند وجود العدالة يوجد القبول وعند عدمها بعدم، ولم يذكر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنع من شهادة البدوي إلا لكونه مظنة لعدم القيام بما تحتاج إليه العدالة، وإلا فقد قبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الهلال شهادة بدوي.
(5) قال في «السيل» (3/ 322): «لكنه إذا اختار اليمين لم تسمع منه البينة من بعد لأن السبب الشرعي المقتضي للحكم- وهو اليمين- قد وقع ووجب به وعلى الحاكم عند أن يسمع طلب المدعي ليمين المنكر أن يبين له أنه يأتي ببينة إذا كان له بينة قبل يمين خصمه وأنه إذا حلف خصمه لم تقبل البينة بعد ذلك. وليس هذا من التلقين للخصم، بل هو مما يلزم الحاكم ...(5/2524)
لزمه ما أقر به به كائنًا ما كان، ويكفي مرة واحدة من غير فرق بين موجبات الحدود وغيرها كما سيأتي.(5/2525)
[الكتاب السادس والعشرون]
كتاب الحدود
[الباب الأول] باب حد الزاني
إن كان [11] بكرًا جلد مائة جلدة، وبعد الجلد يغرب عامًا، وإن كان ثيبًا جلد كما يجلد البكر، ثم يرجم حتى يموت، ويكفي إقراره مرة، وما ورد من التكرار في وقائع الأعيان فلقصد الاستثبات، وأما الشهادة فلا بد من أربعة. ولا بد أن يتضمن الإقرار والشهادة التصريح بإيلاج الفرج في الفرج، ويسقط بالشبهات المحتملة، وبالرجوع عن الإقرار ويكون المرأة عذراء أو رتقاء (1)، ويكون الرجل مجبوبًا (2) أو عنينًا (3).
وتحرم الشفاعة في الحدود ويحفر للمرجوم إلى الصدر، ولا ترجم الحبلى حتى ترضع ولدها إن لم يوجد من يرضعه، ويجوز الجلد حال المرض بعثكال (4) ونحوه، ومن لاط بذكر قتل ولو كان بكرًا، وكذلك المفعول به إذا كان مختارًا، ويعزر من نكح بهيمة، ويجلد المملوك نصف جلد الحر، ويحده سيده أو الإمام.
_________
(1) الرتق: التحام الفرج بحيث لا يمكن دخول الذكر.
«التحرير» للنووي (ص255).
(2) مجبوب: أي مقطوع الذكر.
«النهاية» (1/ 223).
(3) العنين: العاجز عن الوطء، ربما اشتهاه ولا يمكنه، مشتق من (عنَّ) الشيء: إذا اعترض؛ لأن ذكره يعترض عن يمين الفرج وشماله. «التحرير» (ص255).
(4) العثكال: العذق من أعذاق النخل الذي يكون فيه الرطب، ويقال: إثكال وأثكول. ويكون فيه أغصان كثيرة وكل واحد منها يسمى شمراخًا. «لسان العرب «(9/ 47).(5/2526)
[الباب الثاني] باب السرقة
من سرق مكلفًا، مختارًا، من حرز، ربع دينار فصاعدًا، قطعت كفه اليمنى، ويكفي الإقرار مرة واحدة، أو شهادة عدلين، ويندب تلقين المسقط، ويحسم موضع القطع، وتعلق اليد في عنق السارق، ويسقط بعفو المسروق عليه قبل البلوغ إلى السلطان لا بعده فقد وجب، ولا قطع في ثمر ولا كثر ما تؤويه (1) الجرين (2) إذا أكل ولم يتخذ خبنة وإلا كان عليه ثمن ما حمله مرتين وضرب نكال، وليس على الخائن والمنتهب والمختلس قطع، وقد ثبت القطع في جحد العارية.
[الباب الثالث] باب حد الشرب
من شرب مسكرًا مكلفًا، مختارًا؛ جلد على ما يراه الإمام إما أربعين جلدة أو أقل أو أكثر ولو بالنعال، ويكفي إقراره مرة، أو شهادة عدلين ولو على القيء، وقتله في الرابعة منسوخ، والتعزير (3) في المعاصي التي لا توجب حدًّا ثابت بحبس أو نحوه أو ضرب ولا يجاوز عشر أسواط.
[الباب الرابع] باب حد القذف
من رمى غيره بالزنى وجب عليه حد القذف ثمانين جلدة، ويثبت ذلك بإقراره مرة،
_________
(1) رفع الفعل المضارع بعد (لم) قليل في لغة العرب، إلا أن الجزم للفعل المضارع بعد (لم) هو مذهب عامة العرب.
انظر: «مغني اللبيب «(1/ 307). «الخصائص «لابن جني (2/ 411).
(2) الجرين: بفتح الجيم وكسر الراء: الموضع الذي تجفف فيه الثمار.
«تهذيب الأسماء «(3/ 50).
(3) التعزير: التأديب، ولهذا سمي الضرب دون الحد تعزيرًا إنما هو أدب.
«لسان العرب «(9/ 184).
وقيل: التعزير: التأديب على ذنب لا حد فيه ولا كفارة. «إعلام الموقعين «(2/ 99).(5/2527)
أو بشهادة عدلين (1)، وإذا لم يتب لم تقبل شهادته فإن جاء بعد القذف بأربعة شهود سقط (2) عنه الحد، وكذلك إذا أقر المقذوف بالزنى.
[الباب الخامس] باب حد المحارب
هو أحد الأنواع المذكورة في القرآن: القتل أو الصلب أو قطع اليد والرجل من خلاف أو النفي من الأرض، يفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحًا لكل من قطع طريقًا ولو في المصر، إذا كان قد سعى في الأرض فسادًا، فإن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه ذلك (3).
[الباب السادس] باب من يستحق القتل حدًّا
هو الحربي، والمرتد، والساحر، والكاهن، والساب لله أو لرسوله أو للإسلام، أو للكتاب، أو للسنة، والطاعن في الدين، والزنديق (4) بعد استتابتهم، والزاني المحصن، واللوطي مطلقًا، والمحارب.
_________
(1) وزاد في «السيل» (3/ 523): ويكتفى فيه أيضًا بشهادة رجل وامرأتين وبشهادة وحد مع يمين المدعي.
(2) قال في «الدرري «(2/ 372): لأن القاذف لم يكن حينئذ قاذفًا بل قد تتقرر صدور الزنا بشهادة الأربعة فيقام الحد على الزاني ...
(3) انظر: «مجموع الفتاوى» (28/ 310).
(4) تقدم التعريف به ص 257 من القسم الأول من «الفتح الرباني».(5/2528)
[الكتاب السابع والعشرون]
كتاب القصاص
يجب على المكلف المختار العامد إن اختار ذلك الورثة وإلا فلهم الدية، وتقتل المرأة بالرجل والعكس. والعبد بالحر والكافر بالمسلم، والفرع بالأصل لا العكس، ويثبت القصاص في الأعضاء ونحوها، والجروح مع الإمكان. ويسقط بإبراء أحد الورثة، ويلزم نصيب الآخرين من الدية. وإذا كان فيهم صغير ينتظر في القصاص بلوغه. ويهدر ما سببه من المجني عليه. وإذا أمسك رجل وقتل آخر قتل القاتل وحبس الممسك. وفي قتل الخطأ الدية والكفارة وهو ما ليس بعمد (1)، أو من صبي أو مجنون، وهي على العاقلة (2) وهم العصبة.
_________
(1) انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 382).
(2) العاقلة: هي العصبة والأقارب من قبل الأب الذين يعطون الدية قتيل الخطأ وهي صفة جماعة عاقلة.
«النهاية» (3/ 278).
العقل الدية وأصله: أن القاتل كان إذا قتل قتيلًا جمع الدية من الإبل فعقلها بفناء أولياء المقتول: شدها في عقلها ليسلمها إليهم ويقبضوها منه فسميت الدية عقلًا بالمصدر.
«النهاية» (3/ 278).(5/2529)
[الكتاب الثامن والعشرون]
كتاب الديات
[الباب الأول: أحكام الدية والشجاج]
دية الرجل [12] المسلم مائة من الإبل، أو مائتا بقرة، أو ألفا شاة، أو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، أو مائتا حلة، وتغلط دية العمد وشبهه بأن يكون المائة من الإبل في بطون أربعين منها أولادها، ودية الذمي نصف دية المسلم ودية المرأة نصف دية الرجل.
والأطراف وغيرها كذلك في الزائد على الثلث، وتجب الدية كملة في العينين، والشفتين، واليدين , والرجلين، والبيضتين، وفي الواحدة منها نصفها، وكذلك تجب كاملة في الأنف واللسان، والذكر، والصلب (1) وأرش المأمومة (2) والجائفة (3) ثلث دية المجني عليه، وفي المنقلة (4) عشر الدية ونصف عشرها، وفي الهاشمة (5) عشرها، وفي كل إصبع عشرها، وفي كل سن نصف عشرها، وكذا في الموضحة (6)، وما عدا هذه المسماة فيكون ارشه
_________
(1) الصلب: أي إن كسر الظهر فحدب الرجل ففيه الدية، وقيل أراد إن أصيب صلبه بشيء حتى أذهب الجماع، فسمي الجماع صلبًا؛ لأن المني يخرج منه.
(2) المأمومة: وهما الشحة التي بلغت أم الرأس، وهي الجلدة التي تجمع الدماغ.
«النهاية» (1/ 68).
(3) الجائفة: هي الطعنة لتي تنفذ إلى الجوف يقال: جفته إذا أصبت جوفه، وأجفته الطعنة وجفته بها، والمراد بالجوف هاهنا: كل ما له قوة محيلة كالبطن والدماغ.
(4) المنقلة من الجراح: ما ينقل العظم عن موضعه.
«النهاية» (1/ 317).
(5) الهاشمة: هي التي تهشم العظم- أي تكسره.
(6) الموضحة: هي التي تكشف العظم بلا هشم.(5/2530)
بمقدار (1) نسبته إلى أحدها تقريبًا، وفي الجنين إذا خرج ميتًا (2) الغرة، وفي المملوك قيمته وأرشه بحسبها (3).
[الباب الثاني] باب القسامة (4)
إذا كان القاتل من جماعة محصورين ثبتت وهي خمسون يمينًا، يختارهم (5) ولي القتيل والدية إن نكلوا عليهم وإن حلفوا سقطت، وإن التبس الأمر كانت من بيت المال.
_________
(1) قال في «الدراري» (2/ 411): «الموضحة إذا كان أرشها نصف عشر الدية كما ثبت عن الشارع نظرنا إلى ما هو دون الموضحة من الجناية، فإن أخذت الجناية نصف اللحم وبقي إلى العصب كان أرش هذه الجناية نصف أرش الموضحة وإن أخذت ثلثه كان الأرش ثلث أرش الموضحة، ثم هكذا وكذلك إذا كان المأخوذ بعض الأصبع كان أرشه بنسبة ما أخذ من الأصبع إلى جميعها فأرش نصف الأصبع نصف عشر الدية ثم كذلك ... ».
(2) قال في «الدراري» (2/ 412): «وإذا خرج الجنين حيًّا ثم مات من الجناية ففيه الدية أو القر، وهذل إنما هو في الجنين الحر».
وانظر: «النيل» (7/ 69 - 72).
(3) قال في «الدراري» (2/ 412 - 413): « ... فلا خلاف في ذلك، وإنما اختلفوا إذا جاوزت قيمة دية الحر هل تلزم أم لا ولأولى اللزوم، وأرش الجناية عليه منسوب عليه من قيمته فما كان فيه في الحر نصف الدية أو ثلثها أو عشرها ونحو ذلك ففيه في العبد نصف القيمة أو ثلثها أو عشرها ونحو ذلك».
(4) القسامة: بالفتح: اليمين، كالقسم، وحقيقتها أن يقسم من أولياء الدم خمسون نفرًا على استحقاقهم دم صاحبهم، إذا وجدوه قتيلًا بين قوم ولم يرف قاتله، فإن لم يكونوا خمسين؛ أقسم الموجودون خمسين يمينًا، ولا يكون فيهم صبي ولا امرأة، ولا مجنون، ولا عبد، أو يقسم بها المتهمون على نفي القتل عنهم، فإن حلف المدعون استحقوا الدية، وإن حلف المتهمون لم تلزمهم الدية.
«النهاية» (4/ 62). «التحرير» (ص 339).
(5) قال في «السيل» (3/ 659): وليس في هذا- يعني حديث القسامة- ما يدل على أن لمدعي القسامة أن يختار لليمين من أراد.(5/2531)
[الكتاب التاسع والعشرون]
كتاب الوصية
تجب على من له ما يوصي فيه، ولا تصح: ضرارًا. ولا لوارث (1)، ولا في معصية، وهي القرب من الثلث (2). ويجب تقديم قضاء الديون. ومن لم يترك ما يقضي دينه قضاه السلطان من بيت المال.
[الكتاب الثلاثون]
كتاب المواريث
هي مفصلة في الكتاب العزيز، ويجب الابتداء بذوي الفروض المقدرة (3)، وما بقي فللعصبة (4) والأخوات مع البنات عصبة (5). ولبنت الابن مع البنت السدس تكملة الثلثين، وكذا الأخت لأب مع الأب لأبوين، والأخ لأبوين أقدم من الأخ والأخت لأب، وللجدة أو الجدات والسدس مع عدم الأم، وهو للحد مع من لا يسقطه، ولا
_________
(1) إلا أن يجيز ذلك الورثة، كما أومأ إليه في «الدراري» (2/ 420).
(2) قال في «السيل» (3/ 668): أن من وارث لم يصح تصرفه في زيادة على الثلث، ومن لا وارث له يصح تصرفه في جميع ماله إذا لم يخش عليه الحاجة إلى الناس، والوقوع في المسألة المحرمة ولا فرق بين المرض والصحة ....
(3) الفروض المقدرة: هي النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس وأصحابها اثنا عشر وارثًا هم: الأم والأب والزوج والزوجة والجد والجدة والبنت وبنت الابن والأخت الشقيقة والأخت لب والأخ لأم والأخت لأم.
وانظر: سورة النساء (176،12،11).
(4) العصبة هم قرابات اشخص من قبل الأب.
(5) قال في «الدراري» (2/ 413): «أي يأخذن ما بقي من غير تقدير كما يأخذ الرجل بعد فروض أهل الفرائض فلحديث ابن مسعود عند البخاري- رقم 6736 - أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى في بنت وبنت ابن وأخت بأن للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت.(5/2532)
ميراث للإخوة والأخوات مطلقًا مع الابن أو ابن الابن أو الأب، وفي ميراثهم مع الجد خلاف، ويرثون مع البنات إلا الإخوة لأم، ويسقط الأخ لأب مع الأخ لأبوين.
وأولو الأرحام يتوارثون وهم أقدم من بيت المال، فإن تزاحمت الفرائض فالعول (1)، ولا يرث ولد الملاعنة والزانية إلا من أمه وقرابتها والعكس، ولا يرث المولود إلا إذا استهل وميراث العتيق لمعتقه، ويسقط بالعصبات وله الباقي بعد ذوي السهام (2)، ويحرم بيع الولاء وهبته، ولا توارث بين أهل ملتين، ولا يرث القاتل من المقتول.
_________
(1) العول: يقال: عالت الفريضة: إذا ارتفعت وزادت سهامها على أصل حسابها الموجب عن عدد وارثيها، كمن مات وخلف ابنتين، وأبوين وزوجة، فللابنتين الثلثان، وللأبوين السدسان، وهما الثلث، وللزوجة الثمن، فمجموع السام واحد وثمن واحد، فاصلها ثمانية، والسهام تسعة، وهذه المسألة تسمى في الفرائض: المنبرية؛ لأن عليًّا رضي الله عنه سئل عنها وهو على المنبر فقال من غير روية: «صار ثمنها تسعًا». «النهاية» (3/ 321).
(2) انظر: «الدراري» (2/ 445) و «المغني» (6/ 349).(5/2533)
[الكتاب الحادي والثلاثون]
[كتاب الجهاد والسير]
[الفصل الأول: أحكام الجهاد]
الجهاد: فرض كفاية، مع كل بر وفاجر إذا أذن الأبوان. وهو مع إخلاص النية يكفر الخطايا إلا الدين، وتلحق به حقوق الآدمي، ولا يستعان فيه بالمشركين إلا لضرورة، وتجب على الجيش طاعة أميرهم إلا في معصية الله، وعليه مشاروتهم والرفق بهم وكفلهم عن الحرام، ويشرع للإمام إذا أراد غزوًا أن يكتم حاله أو يوري بغير ما يريده، وإن يذكي العيون ويستطلع الأخبار، ويرتب الجيوش ويتخذ الرايات (1) والألوية، وتجب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال: إما الإسلام أو الجزية أو السيف، ويحرم: قتل النساء والأطفال والشيوخ إلا لضرورة (2)، والمثلة والإحراق بالنار. والفرار عن الزحف إلا إلى فئة ويجوز تبييت الكفار، والكذب في الحرب. والخداع (3).
[الـ] فصل [الثاني: أحكام الغنائم]
وما غنمه الجيش كان لهم أربعة أخماسه وخمسه، يصرفه الإمام في مصارفه، ويأخذ الفارس من الغنيمة ثلاثة أسهم والراجل سهمًا، ويستوي في ذلك القوي والضعيف ومن قاتل ومن لم يقاتل، ويجوز تنفيل (4) بعض الجيش، وللإمام ..........................
_________
(1) الرايات: جمع راية، والألوية: جمع لواء: هما علم الجيش. قيل: هما بمعنى وقيل: بل اللواء دون الراية. وهذا أظهر، فاللواء: علامة لمحل الأمير معه حيث دار. والراية: يتولاها صاحب الحرب. «تاج العروس» (10/ 160).
(2) قال في «الدراري» (2/ 467): إذا كان ذلك لضرورة كأن يتترس بهم المقاتلة أو يقاتلون.
(3) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (12/ 45): واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد.
(4) نفله تنفيلًا: أي: أعطاه نفلًا. والنفل: زيادة يزادها الغازي على نصيبه من الغنيمة.
وانظر: «أضواء البيان» (2/ 384).(5/2534)
الصفي (1) وسهمه كأحد الجيش، ويرضخ (2) من الغنيمة لمن حضر، ويؤثر المؤلفين إن رأى في ذلك صلاحًا، وإذا رجع ما أخذه الكفار من المسلمين كان لمالكه (3)، ويحرم الانتفاع بشيء من الغنيمة قبل القسمة إلا الطعام والعلف، ويحرم الغلول، ومن جملة الغنيمة الأسرى، ويجوز القتل أو الفداء أو المن.
[الـ] فصل [الثالث: أحكام الأسير والجاسوس والهدنة]
ويجوز استرقاق العرب، وقتل الجاسوس، وإذا أسلم الحربي قبل القدرة عليه أحرز أمواله، وإذا أسلم عبد الكافر صار حرًّ، والأرض المغنومة أمرها إلى الإمام فيفعل
_________
(1) الصفي: أن يختص الإمام من الغنيمة بشيء لا يشاركه فيه غيره وفي ذلك أقوال منها:
1 - أنه قد حكى الجماع جماعة على خصوصيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، وأنه ليس لأحد بعده.
انظر: «الأموال» لأبي عبيد (ص 14، 17)، «روح المعاني» للآلوسي (10/ 3).
2 - أنه لم يفهم أحد من الصحابة والتابعين من الأخبار الواردة أنه لمن بعده ولا أفتوا به- فيما أعلم- بل قال الإمام الشافعي: الأمر الذي لم يختلف فيه أحد من أهل العلم عندنا علمته ولم يزل يحفظ من قولهم أنه ليس لأحد ما كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صفي الغنيمة.
انظر: «معرفة السنن» (9/ 217).
3 - أنه لم يدع الصفي أحد من الخلفاء بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ولا من بعدهم في القرون المفضلة.
وسبب هذه الأمور التي قدمت أنه قد جاء في غير حديث مما في الباب ما يشير إلى اختصاصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، ففي رواية: « ... وأديتم الخمس من المغنم وسهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسهم الصفي»
وفي رواية: «كان للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سهم يدعى الصفي ... ».
وانظر تخريج هذه الأحاديث وغيرها والتعليق عليها في «السيل» (3/ 743 - 745).
(2) الرضخ: الغطية القليلة. «النهاية» (2/ 228).
(3) قال في «السيل» (3/ 750): لم يثبت ما يدل على أنه يخرج عن ملكه حتى عن ملكه حتى يقال: هو أولى به من قبل القسمة وبعدها بالقيمة، بل هو باقِ على ملك مالكه، وأخذه منه على غير ما أذن به الشرع لا يترتب عليه حكم الملك أصلًا، فيأخذه قبل القسمة وبعدها، ولا يلزمه شيء، ويرجع من قد صار في نصيبه بالقسمة على الغنيمة فيعطى منها بقدر ما استحق، ولا فرق بين العبد وغيره».(5/2535)
الأصلح من قسمتها أو تركها مشتركة بين الغانمين أو بين جميع المسلمين، ومن أمنه أحد المسلمين صار آمنًا، والرسول كالمؤمن، وتجوز مهادنة الكفار ولو بشرط وإلى أجل أكثره عشر سنين، ويجوز تأييد (1) المهادنة بالجزية، ويمنع المشركون وأهل الذمة من السكون في جزيرة العرب.
[الـ] فصل [الرابع: حكم قتال البغاة]
ويجب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحق، ولا يقتل أسيرهم، ولا يتبع مدبرهم، لا يجاز على جريحهم، ولا تغنم أموالهم.
[الـ] فصل [الخامس: من أحكام الإمامة]
وطاعة الأئمة واجبة إلا في معصية الله، ولا يجوز الخروج عليهم ما أقاموا الصلاة ولم يظهروا كفرًا بواحًا، ويجب الصبر على جورهم، وبذل النصيحة لهم، وعليهم الذب على المسلمين وكف يد الظالم، وحفظ ثغورهم، وتدبيرهم بالشرع في الأبدان والأديان والأموال، وتفريق أموال الله في مصارفها، وعدم الاستئثار بما فوق الكفاية بالمعروف، والمبالغة في إصلاح السيرة والسريرة.
وإلى هنا انتهى المختصر بخط مؤلفه محمد بن علي بن محمد الشوكاني غفر الله لهم. آمين آمين.
_________
(1) قال في «السيل» (3/ 769): وأما كون المدة معلومة فوجهه أنه لو كان الصلح مطلقًا أو مؤبدًا؛ لكان ذلك مبطلًا للجهاد الذي هو من أعظم فرائض الإسلام، فلا بد من أن يكون مدة معلومة على ما يرى الإمام من الصلاح، فإذا كان الكفار مستظهرين وأمرهم مستعلنًا جاز له أن يعقده على مدة طويلة ولو فوق عشر سنين، وليس في ذلك مخالفة لعقده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للصلح الواقع مع قريش عشر سنين، فإنه ليس في هذا ما يدل على أنه لا يجوز أن تكون المدة أكثر من عشر سنين إلا اقتضت ذلك المصلحة.(5/2536)
بحث في دم الخيل ودم بني آدم هل هو طاهر أن نجس
تأليف
محمد بن على الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(5/2537)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الأكرمين، وصحبه الميامين.
وبعد:
فإنه وصل هذا السؤال من سيدي عز المعالي، وسيف الخلافة المتلالي محمد بن أمير المؤمنين المتوكل على الله- رضوان الله عليه-. وحاصله:
حصلت بيننا مذاكرة في دم الخيل (1)، ودم بني آدم، هل هو طاهر أم نجس؟ فقلنا: إن كل جم ليس بنجس إلا دم الحيض، ودم النفاس، ولا ينقض الوضوء؛ فالنبي- صلى الله
_________
(1) الدم: هو السائل الأحمر الذي يجري في عروق الإنسان والحيوان.
الدم إما أن يكون مسفوحًا أو غير مسفوح.
1 - الدم المسفوح: فهو الدم السائل الخارج من العروق، وهو نجس ويستثنى من ذلك دم الشهيد ما دام عليه.
واحتباسه في العروق هو سبب نجاسة الميتة. ولا يجوز أكل الدم المسفوح كله؛ لنه إذا اغتذى به الإنسان زادت فيه الشهوة والغضب وطغت على العدل.
ومن الدم المسفوح: الدم الخارج من فرج المرأة وهو أربعة أنواع:
أ- دم مقطوع بأنه حيض، وهو دم البالغة في عادتها.
ب- دم مقطوع بأنه استحاضة، وهو دم الصغيرة.
ج- دم يحتمل الأمرين، والأظهر أنه حيض.
د- دم يحتمل الأمرين، والأظهر أنه استحاضة.
2 - الدم غير المسفوح: وهو الدم غير السائل كالكبد والطحال المأكولين ودم الذباب والبق والبراغيث، والدم الذي ما زال في العروق، والدم العالق في اللحم؛ فإنه غير نجس ويجوز أكله، ولذلك كان غسل الذبيحة بدعة، وكذا غسل سكين القصاب بدعة، ولكن لا يجوز تتبعه وأكله كما يفعل اليهود. انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (17/ 179) (21/ 631). (21/ 228) «شرح العمدة» (1/ 21).(5/2543)
عليه وآله وسلم- احتجم ولم يتوضأ. وأما نواقض الوضوء فما هي إلا ما خرج من السبيلين. وأما مثل اللغو أو الفحش ففيه الاستغفار لا غير. فأفيدوا مما أجبنا عليهم بأدلة واضحة؛ لأنهم إذا أوضحنا لهم أسوة الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قالوا: أهل البيت- عليهم السلام- بال دليل ولا برهان، إنما هم يخبطون خبط عشواء فالعجب كل العجب من ذلك!.
أقول:- وبالله الثقة، وعليه التوكل-: ينيغي هاهنا تقديم مقدمة، وهي هل الأصل في الحيوانات الحل أو التحريم. الحق أن الأصل الحل إذا كان مستطابًا غير ضار، ولا يخرج عن ذلك إلا ما حرمه الشارع، أو كان ضارًّا، أو غير مستطاب، بل تستخبثه النفس. وقد دل القرآن الكريم على أصالة الحل فقال- سبحانه-: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة} (1) إلى آخر الآية. وقال- سبحانه-: {أحل لكم الطيبات} (2) وقال- سبحانه-: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} (3)، وقال تعالى: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه} (4).
وفي الصحيحين (5) وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «إن أعظم المسلمين جرمًا، من سأل عن شيء لم يحرم فحرم
_________
(1) [الأنعام: 145].
(2) [المائدة: 5].
(3) [الأعراف 32].
(4) [البقرة: 29].
(5) أخرجه البخاري رقم (7289) ومسلم رقم (2358).(5/2544)
عليهم لأجل مسألته».
وأخرج الترمذي (1)، وابن ماجه (2) عن سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن السمن والجبن والفراء فقال: «الحلال ما أحله الله في كتابه، والحرام ما حرمه الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم». فدلت هذه الأدلة العامة أن الأصل في جميع الحيوانات التي لم تكن مستخبثة، من غير فرق بين الأهلية والوحشية. ومن زعم أن شيئًا فيها [1 أ] حرامًا فإن الدليل على ذلك على وجه تقوم به الحجة غير معارض بمثله، أو بما هو أرجح منه كان مقبولًا، وذلك كما ورد في تحريم كل ذي ناب من السباع (3)، ومخلب من الطير (4)، فإنه تخصيص من تلك العمومات الكلية، وكما ورد في تحريم الحمار الأهلي (5)، والبغال، فإنه كذلك مخصص من تلك العمومات، وكذلك تحريم الخبائث (6) المصرح بتحريمها في الكتاب العزيز.
وإذا لم يأت المدعي للتحريم بدليل صحيح صاف عن شوائب الكدر، غير معارض بمثله، أو بما هو أرجح منه كان مردودًا، أو يكفي القائل بالتحليل المنع كما هو مقرر في
_________
(1) في «السنن» رقم (1726) وقال: حديث غريب، لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه ... وسألت البخاري عن هذا الحديث؟ فقال: ما أراه محفوظًا ... ".
(2) في «السنن» رقم (3367).
وهو حديث ضعيف.
(3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (5530) ومسلم رقم (1932) وأبو داود رقم (3820) والترمذي رقم (1477) والنسائي (7/ 200 رقم 4352) من حديث أبي ثعلبة الخشني: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع».
(4) أخرج مسلم في صحيحه رقم (16/ 1934) من حديث ابن عباس قال: «نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير».
(5) أخرج البخاري رقم (4226) ومسلم رقم (31/ 1938) من حديث البراء بن عازب: «أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الإنسية».
(6) قال تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157].(5/2545)
علم المناظرة، ولا يحتاج إلى الاستدلال، بل الاستدلال على مدعي التحريم. إذا تقرر لك هذا فمدعي تحريم الخيل (1) عليه الدليل، ويكفينا القيام في مقام المنع، فإذا لم يأت
_________
(1) ذهبت الهادوية ومالك وهو المشهور عند الحنفية إلى تحريم أكلها واستدلوا بحديث خالد بن الوليد: «نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن لحوم الخيل والبغال والحمير وكل ذي ناب من السباع».
- أخرجه أبو داود رقم (3790) وابن ماجه رقم (3198) والنسائي (7/ 202) وأحمد (4/ 89) والدارقطني (4/ 287 رقم 61) وإسناده ضعيف لضعف صالح بن يحيى المقدام، قال البخاري فيه نظر، والراوي عنه وهو أبوه لم يوثقه إلا ابن حبان، وهو حديث ضعيف. -
واستدلوا بقوله تعالى: {لتركبوها وزينة} [النحل: 8].
قالوا: أن الله المنصوصة تقتضي الحصر، فإباحة أكلها خلاف ظاهر الآية.
قيل لهم: بأن كون العلة منصوصة لا تقتضي الحصر فيها، فلا تفيد الحصر في الركوب والزينة فإنه ينتفع بها في غيرهما اتفاقًا، وإنما نص عليهما لكونهما أغلب ما يطلب، ولو سلم الحصر لامتنع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير ولا قائل به.
- قالوا: من وجود دلالة الآية على تحريم الآكل عطف البغال والحمير فإنه دال على اشتراكهما معها حكم التحريم، فمن أفرد حكمهما عن حكم ما عطف عليه احتاج إلى دليل.
قيل لهم: أن هذا من دلالة الاقتران وهي ضعيفة.
قالوا: من وجود دلالة الآية أنها سبقت للامتنان، فلو كانت مما يؤكل لكان الامتنان به أكثر؛ لأنه يتعلق ببقاء البينة، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ويترك أعلاها سيما وقد امتن بالأكل فيما ذكر قبلها.
قيل لهم: بأنه تعالى خص الامتنان بالركوب؛ لأنه غالب ما ينتفع بالخيل فيه عند العرب فحوطوا بما عرفوه وألقوه كما حوطوا في الأنعام بالأكل وحمل الأثقال؛ لأنه كان أكثر انتفاعهم بها لذلك، فاقتصر في كل من الصفين بأغلب ما ينتفع به عليه.
قالوا: من وجود دلالة الآية أنه لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة التي امتن بها وهي الركوب والزينة.
قيل: بأنه لو لزم من الإذن في أكلها أن تغني للزم مثله في البقر ونحوها، مما أبيح أكله ووقع الامتنان به لمنفعة أخرى.
- وقيل لهم: أن آية النحل مكية اتفاقًا، والإذن في أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين.
- أن آية النحل ليست نصًّا في تحريم الأكل والحديث صريح في جوازه ولو سلم ما ذكر كان غايته الدلالة على ترك الأكل وهو أعم من أن يكون للتحريم أو للتنزيه أو لخلاف الأولى، وحيث لم يتعين هذا واحد لا يتم التمسك، فالتمسك بالأدلة المصرحة بالجواز أولى.(5/2546)
بالدليل قامت عليه الحجة، وبطلت دعواه، واسترحنا من الكلام معه، والاستدلال عليه (1). وهذه الجملة معلومة من علم المناظرة، لا خلاف بين أهله في ذلك، وكما أن هذا معلوم في علم المناظرة فهو أيضًا معلوم في علم أصول الفقه، فإن المتمسك بالعام لديهم لا يتزحزح عن ذلك العموم إلا إذا اعتقد من يدعي خلافه بالمخصص الصالح للاحتجاج به، وإلا فقوله رد عليه.
إذا تقرر لك هذا فاعلم أن القائل بأن الخيل لا يحل أكلها، وأنها كالحمير، والبغال لا بد أن يأتي بدليل تقوم به الحجة، وإلا فالواجب البقاء على تلك العمومات السابقة، فإن استدل على تحريمها بقول الله- عز وجل-: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها} (2) الآية. قلنا له: هذه الآية ليس فيها شيء من الدلالة على ما تريد، وبيانه أن الله- سبحانه- إذا ذكر لشيء من مخلوقاته فائدة، أو فائدتين، أو فوائد، فذلك لا يدل على أن لا يوجد فيها [1 ب] غير ما ذكره الله- سبحانه-، وهذا لا يخالف فيه أحد ممن يعرف العلوم الآلية، ويدري بلغة العرب، وبأسرارها المبينة في علم المعاني والبيان، وفي علم أصول الفقه.
وقد ذكر الله- سبحانه- في الإبل فوائد ومنها: {وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه} (3) الآية، وهكذا سائر الحيوانات التي أحلها لا يستلزم ذكر فائدة من فوائدها أن تكون هي المرادة، ولا يجوز غيرها، وهذا أمر مجمع عليه بين أهل العلم، ومع هذا فهذه الآية التي استدلوا بها مكية وقد تعقبها التحليل بالمدينة كما سيأتي بيانه.
_________
(1) سيأتي ذكره.
(2) [النحل: 8].
(3) [النحل: 7].(5/2547)
وإذا عرفت أنه لا دليل لهم فها نحن نتبرع بذكر الدليل الدال على الحل، وإن لم يكن ذلك مما يلزم؛ لأن مجرد المنع والوقوف عليه يكفي، ولكن اسمع أدلة الحل حتى ينشرح صدرك بالحق الحقيق بالقبول فنقول: ثبت في الصحيحين (1) وغيرهما (2) من حديث جابر أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «أذن في لحوم الخيل»، وثبت أيضًا في الصحيحين (3) وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: «ذبحنا على عهد رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فرسًا ونحن بالمدينة فأكلناه».
وفي لفظ أحمد (4): «فأكلناه نحن وأهل بيته «وقد اقتصرنا هاهنا على هذين الحديثين الثابتين في صحيح البخاري، والمتواتر قطعي الدلالة لا يحل مخالفته بالظنيات، وإن كثر عددها، فكيف وليس هنا دليل يفيد أن الصحابة أجمعوا على حل أكل الخيل، وكذلك أخرج ابن أبي شيبة (5) عن ابن جريج مثل ذلك، وهما تابعيان مميزان لا يخفى عليهم ما كان عليه الصحابة بلا شك ولا ريب، فعرفت بما ذكرنا أن حل لحوم الخيل مدلول عليه بعموم الآيات القرآنية، والمتواتر من السنة المطهرة، وبإجماع الصحابة، وبعض البعض من هذا يكفي، لا سيما مع عدم وجود دليل يتمسك به القائل بالتحريم، بل يكفي مجرد القيام مقام المنع كما تقدم، فأعجب من القائل بالتحريم كيف خفي ليه مثل هذا! ومع هذا هو مذهب الإمام زيد بن على كما حكاه الإمام الهدي عنه في البحر الزخار (6)، بل هو
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (4219) ومسلم في صحيحه رقم (1941).
(2) أبي داود رقم (3788) والترمذي رقم (1478) والنسائي (7/ 202). وهو حديث صحيح.
(3) أخرجه البخاري رقم (5510) ومسلم رقم (1943).
(4) في «المسند» (6/ 354) بسند صحيح.
(5) في «المصنف» (8/ 67 - 70) بسند صحيح.
(6) (4/ 330).(5/2548)
قول أمير المؤمنين، وسيد المسلمين علي بن أبي طالب رضي اله عنه كما حكاه في الجامع الكافي (1) جامع مذهب آل محمد ولفه: وروى محمد بإسناده [2 أ] عن زيد بن علي عن علي رضي الله عنه أنه قال: يحل أكل الخيل العراب. انتهى.
وإذا عرفت أن الخيل حلال فدمها طاهر كما ذهب إليه الجمهور، وهو الحق (2) الذي لا شك فيه، ولم يسمع القول بنجاسة الدم لا في زمن الصحابة، ولا التابعين، وهذا يعرفه كل من يعرف مذاهب أهل العلم، وهذا في غير دم الحيض والنفاس، وما خرج من السبيلين.
وإلى هذا ذهب جماعة من أهل البيت منهم: زيد بن علي، والإمام الباقر محمد بن علي بن الحسين بن علي- رضي الله عنهم- وقد روى عنه صاحب الجامع الكافي (3) جامع آل محمد أنه قال: إذا رأيت في ثوب أخيك دمًا وهو يصلي فلا تخيره حتى ينصرف، وروى عنه أنه قال: لا تعاد الصلاة من نضخ دم.
وروى صاحب الجامع الكافي بإسناده عن علي رضي الله عنه أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- توضأ ثم أمس إبهامه أنفه، فإذا دم فأعاد مرة أخرى، فلم ير شيئًا فأهوى بيده إلى الأرض فمسحه، ولم يحدث وضوءًا، ومضى إلى الصلاة. ورواه أيضًا عن أمير المؤمنين- رضي الله عنهم- زيد بن علي بإسناده.
وقد كان الصحابة- رضي الله عنهم- تتمضخ ثيابهم بالدماء عند الجهاد، ولم يؤثر عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه أمر أحدًا منهم بغسل ثوبه، أو ينزعه عنه حال الصلاة. ومن ذلك الصحابي الذي أرسله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقف في
_________
(1) «الجامع الكافي (جامع آل محمد)». تأليف: الحسن بن محمد الحسني الديلمي.
انظر «مؤلفات الزيدية» رقم (1029).
(2) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (21/ 520).
(3) تقد ذكره.(5/2549)
محل الحراسة للمجاهدين، فإنه جاء في ظلمة الليل رجل من الكفار فرآه مستقيمًا يصلي، فرماه مرة بعد مرة ن والسهام تصيبه، ولم يخرج من الصلاة حتى أتمها، ثم أتى النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فعاتبه على صبره على ذلك، ولم يأمر بنزع الثياب التي عليه للصلاة، ولا أنكر عليه إتمامه للصلاة.
وهذه الحديث في البخاري (1) من حديث جابر مختصرًا. وأخرج غيره (2) مطولًا. والقصة مشهورة معروفة في كتب السير (3) والحديث، وقد استدل القائلون بنجاسة الدم بدليلين: الأول: قوله- عز وجل-: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتتة أو دمًا مسفوحًا} (4) الآية. وليس في هذه الآية دلالة قط؛ لأنها مسوقة لذكر ما يحرم أكله. ولهذا قال على طعم يطعمه، ولا ملازمة بين تحريم الأكل والنجاسة بوجه من الوجوه قط. ومن ادعى الملازمة فقد غلط غلطًا بينًا وأما استدلالهم بحديث عمار (5) فهو مما لا تقوم به حجة قط.
_________
(1) في صحيحه (10/ 280) تعليقًا.
(2) كأبي داود في «السنن» رقم (198) وأحمد (3/ 343 - 344) والدارقطني (1/ 223 - 224) وابن خزيمة (1/ 24 - 25) وابن حبان رقم (1096) والحاكم في «المستدرك» (1/ 156 - 157) وهو حديث حسن.
(3) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (3/ 291 - 292).
«المغازي» للواقدي (1/ 397).
(4) [الأنعام: 145].
(5) أخرجه الدارقطني (1/ 127) والبزار رقم (248 - كشف) وأبو يعلى في «المسند» (1/ 16) والبيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 14) والعقيلي في «الضعفاء» (1/ 176) وابن عدي في «الكامل» (2/ 98) من طريق ثابت بن حماد عن علي بن زيد عن ابن المسيب عن عمار به.
قال الدارقطني عقبه: لم يروه غير ثابت بن حماد وهو ضعيف جدًّا.
وقال البيهقي: هذا باطل لا أصل له وإنما رواه ثابت بن حماد عن علي بن زيد عن ابن المسيب عن عمار.
وعلي بن زيد غير محتج به وثابت بن حماد متهم بالوضع. انظر: «تلخيص الحبير «(1/ 33)، «مجمع الزوائد»
(1/ 283). وخلاصة القول: أن حديث عمار موضوع.
أما لفظه: «أتى علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا على بئر أدلوا ماء في ركوة لي، فقال: يا عمار ما تصنع؟ قلت: يا رسول الله أغسل ثوبي من نخامة أصابتني، فقال: يا عمار إنما يغسل الثوب من خمس: من الغائط، والبول، والقيء، والدم، والمني. يا عمار ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذي في ركوتك إلا سواء».(5/2550)
وقد اتفق علماء الحديث العارفون به على ضعفه من وجوه كثيرة ليس المقام مقام بسطها، واتفقوا [2 ب] على أنها لا تقوم به الحجة، فالبقاء على الأصل وهو الطهارة متعين.
ومن جملة من ذهب من أهل البيت إلى أن خروج الدم لا ينقض الوضوء الإمام الناصر صاحب الجبل والديلم المعاصر للإمام الهادي يحيى بن الحسين قال: الأمير الحسين في الشفاء (1): قيل: روى أنس «أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- احتجم وصلى ولم يتوضأ». (2) ولم يزد على غسل محاجمه دل على أن ذلك لا ينقض الوضوء. وهو قول الناصر للحق وأتباعه. انتهى.
وقد روى هذا الحديث الدارقطني (3) وقال المنذري في تخريج المهذب: أن إسناده حسن. وقال ابن العربي في خلافياته: أن الدارقطني رواه بإسناد صحيح (4).
_________
(1) (1/ 82 - 83).
(2) أخرجه الدارقطني (1/ 151 رقم 2) وفي سنده «صالح بن مقاتل» قال عنه الدارقطني: يحدث عن أبيه، ليس بالقوي. وهو حديث ضعيف.
(3) أخرجه الدارقطني (1/ 151 رقم 2) وفي سنده «صالح بن مقاتل» قال عنه الدارقطني: يحدث عن أبيه، ليس بالقوي. وهو حديث ضعيف.
(4) قال ابن حجر في «التلخيص» (1/ 113 رقم 152) وادعى ابن العربي أن الدارقطني صححه، وليس كذلك، بل عقبه في «السنن» صالح بن مقاتل ليس بالقوي، وذكره النووي في فصل الضعيف. وفي الباب أحاديث تفيد عدم نقضه منها:
عن بكير بن عبد الله المزني أن ابن عمر عصر بثرة بين عينيه، فخرج منها شيء ففته بين أصبعيه، ثم صلى ولم يتوضأ. بإسناده صحيح.
أخرجه البخاري معلقًا (1/ 280). وعبد الرازق في «المصنف» (1/ 145 رقم 553) وابن أبي شيبة في «المصنف» (1/ 138)، والبيهقي (1/ 141) وابن المنذر في «الأوسط» (1/ 172 رقم 65). (ومنها): حديث ابن عباس قال: «إذا كان الدم فاحشًا فعليه الإعادة، وإن كان قليلًا فلا إعادة عليه».
أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (1/ 172 رقم 64).
وأخرج الشافعي كما في «التلخيص» (1/ 114) عن رجل عن ليث عن طاوس عن ابن عباس، قال: «اغسل أثر المحاجم عنك، وحسبك».
(ومنها): عن عطاء ابن السائب قال: رأيت عبد الله بن أبي أوفى «بزق دمًا ثم قام فصلى». وإسناده صحيح.
أخرجه البخاري تعليقًا (1/ 280). وابن المنذر في «الأوسط» (1/ 172 رقم 63).(5/2551)
ومما يلزم القائلين بنجاسة الدن أنهم استدلوا على طهارة ما خرج من سبيلي المأكولات من الحيوانات بحديث جابر (1) والبراء (2) بلفظ: «لا بأس ببول ما أكل لحمه»، وهذا الحديث وإن كان لا تقوم به حجة لكنهم لما استدلوا به وحكموا لما يؤكل لحمه بطهارة البول كان الدم أخف من البول، وكان يلزمهم أن يحكموا بطهارة دم ما يؤكل لحمه مع كونه خارجًا من أحد السبيلين، فكيف حكموا بنجاسة الدم الخارج منها! ولم يثبتوا إلا السمك (3) ......................................
_________
(1) أخرجه الدارقطني في «السنن» (1/ 128) وهو حديث ضعيف جدًّا.
(2) أخرجه الدارقطني في «السنن» (1/ 128) وهو حديث ضعيف جدًّا.
(3) أما دم السمك فليس بدم على التحقيق؛ لأن الدم على التحقيق يسود إذا شمس، ودم السمك يبيض، لهذا يحل تناوله من غير ذكاة، ولأن طبع الدم حار وطبع الماء بارد، فلو كان للسمك دم لم يدم سكونه في الماء.
وفي مبسوط شيخ الإسلام أنه ما أخذ أي ما يتغير، وقال: بعضهم هو دم ولكنه طاهر؛ لأنه لو كان نجسًا لأمر بالطهارة فصار حكمه حكم الكبد والطحال ودم يبقى في العروق كذا في «الإيضاح». وقال أبو يوسف: في قول الشافعي هو نجس إلحاقًا بسائر الدماء، وهو ضعيف.
انظر: «البناية في شرح الهداية» (1/ 748).(5/2552)
والبق والبرغوث (1)، وما صلب على الجرح، وما بقي في العروق (2) بعد الذبح، بل ثبت (3) أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أمر أهل عرينة أن يشربوا من أبوال الإبل، وإنما ذكرنا هذا تقريبًا للأذهان؛ لتفهم أنه لا وجه للحكم بنجاسة الدم من الآدمي، ومن الخيل والإبل ونحوها من سائر المأكولات (4).
وأما انتقاض الوضوء بتعمد الكذب والنميمة ونحوهما من المعاصي (5) فاستدل القائلون بذلك الحديث المروي عن أبي هريرة أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «رأى رجلًا مسبلًا إزاره في الصلاة، فأمر بإعادة الوضوء والصلاة» (6) ففي إسناده ....................
_________
(1) ودم البق والبراغيث ليس بشيء، وبه قال مالك وأحمد في رواية لأنه ليس بمسفوح، والمسفوح، ودم الحدأة والأوازغ نجس؛ لأنه دم سائل وما يبقى في العروق واللحم طهر لا يمنع جواز الصلاة، وإن كثر؛ لأنه ليس بمسفوح، ولهذا حل تناوله، وعن أبي يوسف أنه معفو عنه في الثياب لعدم الاحتراز فيه دون الثوب.
انظر: «البناية في شرح الهداية» (1/ 748 - 749).
(2) انظر التعليقة السابقة.
(3) أخرجه البخاري رقم (233) ومسلم رقم (1671) وأبو داود رقم (4364) والنسائي (7/ 96 رقم 4029) والترمذي (1/ 106 رقم 72)، وابن ماجه رقم (2578).
(4) انظر: «المغني» (1/ 248).
(5) قال النووي في «المجموع» (2/ 73) قال ابن المنذر في كتابيه «الإشراف والإجماع» وابن الصباغ: أجمع العلماء على أنه لا يجب الوضوء من الكلام القبيح؛ كالغيبة والقذف وقول الزور، وغيرها.
واحتج الشافعي ثم ابن المنذر وثم البيهقي وأصحابنا في المسألة بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من قال في حلفه باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لغيره تعالى أقامرك فليتصدق».
أخرج البخاري رقم (4860) ومسلم رقم (5/ 1647).
(6) أخرجه أبو داود رقم (638) و (4086).
وهو حديث ضعيف لا تقوم به حجة، ولا يستدل به على نقض الوضوء بالمعاصي.(5/2553)
مجهول (1) فلا يصح الاستدلال به على انتقاض وضوء المسبل إزاره، فضلًا عن غيره من الفاعلين للكذب، وسائر المعاصي.
واستدلوا أيضًا بقصة الأعمى التي أخرجها الطبراني في الكبير (2) عن أبي موسى قال: بينما النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يصلي بالناس إذ دخل رجل فتردى في حفرة كانت في المسجد، وكان في نضره ضرر فضحك كثير من القوم في الصلاة فأمر النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة. وفي إسناده محمد بن عبد الملك بن مروان الواسطي (3)، قال أبو داود (4): إنه لم يكن بمحكم العقل.
ورواه البيهقي (5) عن أبي العالية مرسلًا، وقال: أما هذا فحديث مرسل، ومراسيل أبي العالية ليست بشيء، كان لا يبالي عمن أخذ. وقال الشافعي (6) حديث أبي
_________
(1) قيل: هو يحيى بن أبي كثير وهو يحيى بن أبي كثير اليمامي، أحد الأعلام الأثبات، ذكره العقيلي في كتابه ولهذا أوردته فقال: ذكر بالتدليس.
انظر: «الميزان» رقم (9607).
وقيل: هو كثير بن جهمان السلمي.
انظر: «الميزان» (3/ 403).
(2) كما في «مجمع الزوائد» (1/ 246) وقال الهيثمي: رواه الطبراني في «الكبير» وفيه محمد بن عبد الملك الدقيقي ولم أر من ترجمه وبقية رجاله موثقون.
قلت: قد ترجم لمحمد بن عبد الملك المزي في «التهذيب» (26/ 24 - 29) وهو ثقة لا طعن فيه.
وقال الزيلعي في «نصب الراية» (1/ 47): رواه الطبراني في معجمه.
قلت وإسناده منقطع، أبو العالية لم يسمع من أبي موسى. وهو حديث ضعيف.
(3) انظر ترجمته في «الميزان» (3/ 632 رقم 7893).
وثقه مطين والدارقطني. وقال أبو حاتم: صدوق.
(4) انظر «الميزان» (3/ 132 رقم 7893).
(5) في «السنن» (1/ 144) وهو حديث ضعيف.
(6) ذكره ابن عدي في «الكامل (3/ 1022).(5/2554)
العالية الرياحي رياح. وقال ابن عدي (1): أكثر ما ينقم على أبي العالية هذا الحديث، وقد جزم جماعة من الحفاظ أنه لم يصح في كون الضحك [3 أ] ينقض الوضوء شيء.
وأقول: ما كان لأصحاب رسول الله الذين هم خير القرون (2) أن يضحكوا في صلاتهم أ لا سيما على مثل هذه القضية التي تقتضي البكاء لا الضحك، فأي سبب للضحك لسائر الناس في رجل ضرير تردى في حفرة، فكيف للصحابة المؤتمين بالصادق المصدوق- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-!، قال البيهقي (3): وليس في شيء من الروايات أنه أمرنا بالوضوء.
وأخرج البيهقي (4) عن أبي الزناد قال: كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهي إليه منهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير (5)، والقاسم بن محمد (6)، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار في مشيخة جلة سواهم يقولون عن من رعف غسل عنه الدم، ولم يتوضأ. وفي من ضحك في الصلاة إعادة صلاته ولم يعد منه وضوءه. انتهى.
قلت: وهؤلاء السبعة الذي صرح بأسمائهم هم الفقهاء السبعة، الذين كانت تدور عليهم الفتيا في أيام التابعين، وقال الشاعر:
_________
(1) في «الكامل» (3/ 1028).
(2) تقد م تخريجه مرارًا.
(3) في «السنن» (1/ 145).
(4) في «السنن» (1/ 145).
(5) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 387) من طريق حماد بن سلمة عن هشام، قال: ضحك أخي في الصلاة فأمره عروة أن يعيد الصلاة ولم يأمره أن يعيد الوضوء.
(6) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 387) من طريق عبد الرحمن بن القاسم، قال: ضحكت خلف أبي وأنا في الصلاة فأمرني أن أعيد للصلاة.
وأخرجه عبد الرازق في مصنفه (2/ 377 رقم 3768 ورقم 3769).(5/2555)
ألا كل من لا يقتدي بأئمة ... فقسمته ضيزى عن الحق خارجه
فقل هم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجه
ويعمم غيرهم كما قال في مشيخة جلة سواهم، فعدم نقض الدم للوضوء هو إجماع التابعين (1)، ولو خالفهم غيرهم لبينوه، وهيهات أن يخالف هؤلاء الجبال غيرهم! وإجماعهم يدل على إجماع الصحابة كما ذكرنا لك سابقًا. ولو قال صحابي من كبارهم أو صغارهم ما خفي ذلك على ذلك هؤلاء الأئمة من التابعين، وحكم أجمع الصحابة والتابعون لا ينبغي أن يخالفهم مخالف.
وأما كون الكذب والغيبة والنميمة ونحوها غير ناقض للوضوء فلا دليل على ذلك، ولا من كتاب، ولا من سنة. وما سبق في قصة المسبل إزاره، وفي قصة الضرير الذي تردى فقد عرفناك أنه لا يصلح للاستدلال به على القصتين المذكورتين، فكيف يستدل به على الكذب والغيبة والنميمة! ولم يوجب الله- سبحانه- على فاعل المعصية إلا التوبة [3 ب].
وإلى هنا كفاية. وقد أوضحت في مصنفاتي [هذا] (2) المسائل أكثر مما هنا. والله ولي التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل [4 أ].
_________
(1) قال مالك في «المدونة الكبرى» (1/ 100): فيمن قهقه في الصلاة وهو وحده: يقطع ويستأنف، وإن تبسم فلا شيء عليه، وإن كان خلف إمام فتبسم فلا شيء عليه، وإن قهقه مضى مع الإمام، فإذا فرغ الإمام أعاد صلاته، وإن تبسم فلا شيء عليه.
وقال الشافعي في «الأم» (1/ 21): لا وضوء من كلام وإن عظم ولا ضحك في صلاة ولا غيرها.
وقال ابن هانئ في «مسائل أحمد بن هانئ» قال: وسألت أحمد عن الرجل يضحك في الصلاة؟ قال: يعيد الصلاة ولا يعيد الوضوء.
وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل، لا يرى من الضحك في الصلاة وضوءًا. قال: لا أدري بأي شيء أعادوا الوضوء من الضحك، أرأيت لو سب رجلًا قال: أما أنا فلا أوجب فيه وضوءًا ليس تصح الرواية فيه.
«مسائل أحمد» لأبي داود (13).
(2) كذا في المخطوط ولعل الصواب (هذه).(5/2556)
جواب سؤال في نجاسة الميتة
تأليف
محمد بن على الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(5/2557)
وصف المخطوط
1 - عنوان الرسالة: جواب سؤال في نجاسة الميتة.
2 - موضوع الرسالة: في الطهارة.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله والطاهرين. وبعد: فإنه سأل سيدي العلامة المفضال، عماد الآل يحيى بن مطهر بن إسماعيل- كثر فوائده الرب الجليل- سؤىلًا جيد الإيراد ..
4 - آخر الرسالة: .. وفي هذا كفاية إن شاء الله.
انتهى من خط شيخنا بدر الدين محمد بن علي بن محمد الشوكاني أبقاه الله، وكثر الله فوائده آمين.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - الناسخ: يحى بن مطهر بن إسماعيل.
7 - عدد الصفحات: 6 صفحات.
8 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرًا.
9 - عدد الكلمات في السطر: 10 - 12 كلمة.
10 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(5/2559)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين: وبعد:
فإنه سأل سيدي العلامة المفضال، عماد الآل يحيى بن مطهر بن إسماعيل (1) - كثر فوائده الرب الجليل- سؤالًا جيد الإيراد، فائق الإيراد ولفظه:
سؤال: كيف يجمع بين حديث ابن عباس في شاة ميمونة «إنما حرم من الميتة أكلها» المتفق عليه (2)، وإن اختلف في بعض ألفاظه، فإنه يدل أن كل ما عدا الأكل جاز الانتفاع به، وبين حديث عبد الله بن عكيم: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب، ولا عصب» (3) فكما هو كتبه من كتب الحديث، فإنه يدل أنه لا ينتفع منها بشيء.
_________
(1) يحيى بن مطهر بن إسماعيل ين يحيى بن الحسين بن القاسم ولد سنة 1190 هـ. طلب العلم على جماعة من مشايخ صنعاء كالقاضي العلامة عبد الله بن محمد مشحم.
قال الشوكاني في «البدر» رقم (585): في ترجمة «يحيى بن مطهر بن إسماعيل» وهو حال تحرير هذه الترجمة يقرأ علي في العضد وحواشيه وفي شرح التجريد للمؤيد بالله ... وهو الآن في عمل تراجم لأهل العصر وقد رأيت بعضًا منها فوجدت ذلك فائتًا ... وقد سألني بسؤالات وأجتب عليها برسائل هي في «مجموعات الفتاوى». توفي سنة 1268 هـ.
«البدر الطالع» رقم (585) و «التقصار» (ص438 - 439). «نيل الوطر» (2/ 411 - 414).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1492) ومسلم رقم (100/ 363).
قلت: وأخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 498 رقم 16).
عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجد شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هلا انتفعتم بجلدها؟ قالوا: إنها ميتة. فقال: إنما حرم أكلها».
(3) أخرجه أحمد في «المسند» (4/ 310 - 311) والبخاري في تاريخه (7/ 167 رقم 743) وأبو داود رقم (4127) والترمذي رقم (1729) والنسائي (7/ 175) وابن ماجه رقم (3613) وقال الترمذي: حديث حسن. والبيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 15) وابن حبان في صحيحه رقم (1274).
وهو حديث صحيح.(5/2563)
وقد دفع (1) ما قيل فيه من الاضطراب أو الانقطاع، وعلى فرض فمعناه صحيح نطق به القرآن الكريم. قال الله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي ألي محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقًا} (2).
والظاهر من معنى الرجسية (3) تحريم الانتفاع لا الأكل فقط لما وقع البخاري (4) وغيره (5) من حديث جابر أنه لما قال النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل له: يا رسول أرأيت شحوم الميتة؛ فإنه يطلي بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: «لا، هو حرام- ثم قال-: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه».
ولحديث أبي هريرة (6) سئل رسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن سمن وقعت فيه فأرة؟ فقال: «ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم» وهو في ..................
_________
(1) انظر: «الإرواء» رقم (38).
(2) [الأنعام: 145].
(3) الرجس: القدر، ويقد يعبر به عن الحرام والفعل القبيح، والعذاب، اللعنة، والكفر. «النهاية» (2/ 200).
(4) في صحيحه رقم (2236) و (4633).
(5) كمسلم في صحيحه رقم (1518) وأحمد (3/ 326،324) وأبو داود رقم (3486) وابن ماجه رقم (2167) والترمذي رقم (1297) والبيهقي (6/ 12) والنسائي (7/ 310،309).
(6) أخرجه أحمد (2/ 490،265،233،232) وأبو داود رقم (3486) والترمذي في «السنن» (4/ 257) معلقًا وهو حديث شاذ.
ولفظ حديث أبي هريرة «سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن فأرة وقعت في سمن فماتت. فقال: «إن كان جامدًا فخذوها وما حولها ثم كلوا ما بقي وإن كان مائعًا فلا تقربوه.».
- وللفظ الذي ذكره المصنف من حديث ميمونة عند البخاري وغيره.(5/2564)
البخاري (1) وغيره (2). ولحديث ميمونة: «إذا وقعت الفأرة في السمن، فإن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مانعًا فلا تقربوه». أخرجه أبو داود (3) والنسائي (4). فإنها صريحة في حرمة الانتفاع، وعلى ذكر الآية الكريمة، فإنه يشكل فائدة [1 أ] التنصيص على لحم الخنزير، فإنه يظهر له فائدة، ولم أر من نبه عليه بعد البحث. فالإفادة من حسناتكم مطلوبة. انتهى السؤال.
_________
(1) في صحيحه رقم (235) و (5540).
(2) كمالك في الموطأ (2/ 971 - 972 رقم 20) وأبو داود رقم (3841) والنسائي (7/ 178) والترمذي رقم (1789) والدارمي (1/ 188) و (2/ 109) وأحمد (6/ 335،330،329) والحميدي (1/ 149 رقم 312) والبيهقي (9/ 353). كلهم من حديث ميمونة.
(3) في «السنن» رقم (3843).
(4) في «السنن» (7/ 178 رقم 4260)، كلاهما من حديث ميمونة.(5/2565)
[الجواب]
أقول: الكلام على حديث عبد الله بن عكيم (1) إعلالًا، واضطرابًا، وتحسينًا،
_________
(1) وفي المسألة سبعة أقوال:
- قيل: لا يطهر الدباغ شيئًا وهو مذهب الهادوية ومجموعة من الصحابة مستدلين حديث عبد الله بن عكيم حيث قالوا: فهذا ناسخ لحديث ابن عباس لدلالته على تحريم الانتفاع من المستة بإهابها وعصبها.
- وفي الحديث أقوال منها:
- أنه حديث مضطرب في سنده، فإنه روي تارة عن كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتارة عن مشايخ من جهينة، وتارة عمن قرأ كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومضطرب أيضًا في متنه، فروي من غير تقييد في روية الأكثر، وروي بالتقييد بشهر أو شهرين، أو أربعين يومًا أو ثلاثة أيام، ثم إنه معل أيضًا بالإرسال فإنه لم يسمعه عبد الله بن عكيم منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبالانقطاع فإنه لم يسمعه عبد الرحمن بن أبي ليلى من ابن عكيم، ولذلك ترك أحمد بن حنبل القول به آخرًا وكان يذهب إليه أولًا كما قال به الترمذي.
- أنه لا يقوى على النسخ؛ لأن حديث الدباغ أصح، فإنه قد روي من طرق متعددة في معناه عدة أحاديث عن جماعة من الصحابة- سيأتي. ولأن الناسخ لا بد من تحقيق تأخره، ولا دليل على تأخر حديث ابن عكيم، ورواية التاريخ فيه بشهر أو شهرين معلة، فلا تقوم بها حجة على النسخ على أنها لو كانت رواية التاريخ صحيحة ما دلت على أنه آخر الأمرين جزمًا، ولا يقال: فإذا لم يتم النسخ تعارض الحديثان، حديث ابن عكيم وحديث ابن عباس ومن معه، ومع التعارض يرجع إلى الترجيح أو الوقف؛ لأنا نقول لا تعارض إلا مع الاستواء، وهو مفقود كما عرفت من صحبة حديث ابن عباس، وكثرة من معه من الرواة، وعدم ذلك في حديث ابن عكيم.
- بأن الإهاب كما عرفت، اسم لما لم يدبغ في أحد القولين، وقال النضر بن شميل: الإهاب لما لم يدبغ، وبعد الدبغ يقال له: شن وقربة، وبه جزم الجوهري. قيل: فلما احتمل الأمرين، وورد الحديثان في صورة المتعارضين، جمعنا بينهما بأنه نهى عن الانتفاع بالإهاب ما لم يدبغ، فإذا دبغ لم يسم إهابًا، فلا يدخل تحت النهي.
- وقيل: يطهر جلد الميتة المأكول لا غيره، ويرده عموم «أيما إهاب».
- وقيل: يطهر الجميع إلا الخنزير إلا الخنزير، فإنه لا جلد له، وهو مذهب أبي حنيفة.
- وقيل: يطهر إلا الخنزير لقوله: {فإنه رجس} [الأنعام: 145] والضمير للخنزير فقد حكم برجسيته كله، والكلب مقيس عليه بجامع النجاسة وهو قول الشافعي.
- وقيل: يطهر الجميع لكن ظاهره دون باطنه فيستعمل في اليابسات دون ويصلي عليه، ولا يصلي فيه، وهو مروي عن مالك جمعًا منه بين الأحاديث التي تعارضت.
- وقيل: ينتفع بخلود النية باطنه وظاهره، ولا يخص منه شيئًا، عملًا بطاهر حديث ابن عباس وما في معناه «المغني» (1/ 89 - 92)، «البناية في شرح الهداية» (1/ 363 - 364).(5/2566)
وتصحيحًا قد استوفيته في شرحي على المنتقى (1)، وهو من كتب السائل- كثر الله فوائده- فلا نطول البحث بالكلام عليه، فإن سؤال السائل إنما يتعلق بكيفية الجمع بين الحديثين، ثم ذكر ما رجح به أحد طرفي البحث في سؤاله هذا.
واعلم أن حديث: «إنما من الميتة أكلها» (2) يدل بمفهوم الحصر على أن غير
_________
(1) (1/ 87).
(2) وقد روي الحديث عن جماعة من الصحابة من طرق متعددة.
1 - عن ابن عباس رضي اله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر». أخرجه مسلم رقم (105/ 366) وأبو داود رقم (4123) والترمذي رقم (1728) وأحمد (1/ 219) والنسائي (7/ 173) وابن ماجه رقم (3609) وهو حديث صحيح.
2 - أ. عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ، ولا بأس بصوفها وشعرها وقرونها إذا غسل بالماء».
أخرجه الدرقطني (1/ 47 رقم 19) والبيهقي (1/ 24) وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 218) وقال: روه الطبراني في «الكبير» وفيه: يوسف بن السفر وقد أجمعوا على ضعفه. ب- عن أم سلمة أو غيرهما من أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ميمونة ماتت شاة لها، فقال رسول لله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا استمتعتم بإهابها؟ فقالت: يا رسول الله كيف نستمتع وهي ميتة؟ فقال: طهور الأدم دباغه». أخرجه الدارقطني (1/ 48 رقم 22). ج- عن أم سلمة أنها كانت لها شاة تحتلبها، ففقدها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «ما فعلت الشاة؟ قالوا: ماتت، قال: أفلا انتفعتم بإهابها؟ قلنا: إنها ميتة، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن دباغها يحل كما يحل خل الخمر» أخرجه الدارقطني (1/ 49 رقم 28) وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 218) وقال رواه الطبراني في «الكبير» و «والأوسط» تفرد به فرج بن فضالة وضعفه الجمهور. وقال الدارقطني: تفرد به فرج بن فضالة وهو ضعيف.
3 - ن أنس قال: كنت أمشي مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: «يا بني ادع لي من هذا الدار بوضوء فقلت: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطلب وضوءًا؟ فقالوا: أخبره أن دلونا جلد ميتة. فقال: سلهم: هل دبغوه؟ قالوا: نعم. قال: فإن دباغه طهوره».
أخرجه أبو يعلى وفيه درست بن زياد عن يزيد الرقاشي وكلاهما مختلف في الاحتجاج به.
وقال البوصيري: «في سنده يزيد الرقاشي وهو ضعيف». وانظر: «المطالب العالية» (1/ 12 رقم 25) عن أنس بن مالك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استوهب وضوءًا فقيل له: لم نجد ذلك إلا في مسك ميتة، قال: «أدبغتموه؟ قالوا: نعم، قال: فهلم ذلك طهوره».
أخرجه الطبراني في «الأوسط» رقم (9215) وقال الهيثمي في «المجمع» (1/ 217) وإسناده حسن.
1 - عن سلمة بن المحبق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دباغ جلود الميتة طهورها».
2 - أخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (4505) ورجله ثقات.
3 - عن عائشة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت. أخرجه مالك في «الموطأ «(2/ 498 رقم 18) وأبو داود رقم (4124) والنسائي (7/ 176) وابن ماجه رقم (3612) والدارمي (2/ 86) وأحمد (6/ 153،148،104،73).
4 - عن المغيرة بن شعبة قال: دعاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بماء فأتيت خباء فيه امرأة أعرابية، قال: فقلت: إن هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يريد ماء يتوضأ فهل عندك من ماء؟ قالت: بأبي وأمي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوالله ما تظل السماء ولا تقل الأرض روحًا أحب إلي من روحه ولا أعز ولكن هذه القربة مسك ميتة ولا أحب أنجس به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجعت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته، فقال: «ارجع إليها فإن كانت دبغتها فهي طهورها» قال فرجعت إليها فذكرت ذلك لها فقالت: إي والله لقد دبغتها فأتيته بماء منها ووعليه يومئذ جبة شامية، وعليه خفان وخمار قال: فأدخل يديه من تحت الجبة، قال: من ضيق كميها، قال: «فتوضأ فمسح على الخمار والخفين».
أخرجه أحمد في «المسند» (4/ 254) وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 217) وقال: روه أحمد والبراني في «الكبير» ببعضه، وفيه علي بن يزيد، عن القاسم، وفيهما كلا وقد وثقا.
1 - عن أبي أمامة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خرج في بعض مغازيه فمر بأهل أبيات من العرب فأرسل إليهم: هل من ماء لوضوء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقالوا: ما عندنا ماء إلا في إهاب ميتة دبغناها بلبن، فأرسل إليهم: إن دباغه طهوره، فأتي به فتوضأ ثم صلى. أخرجه الطبراني في «الأوسط» رقم (1052) و «الكبير» رقم (7711) وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 217) وقال: «فيه عفير بن معدان وقد أجمعوا على ضعفه».
2 - عن ابن مسعود قال: مر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشاة ميتة فقال: «ما ضر أهل هذه لو انتفعوا بإهابها». أخرجه الطبراني في «الكبير» رقم (576) وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 217) وقال: فيه حماد ابن سعيد البراء ضعفه البخاري , وروى الطبراني نحوه عن ابن مسعود موقوفًا ورجاله ثقات.
قال الحازمي في «الاعتبار» (ص 178): « ... فالمصير إلى حديث ابن عباس أولى لوجوه من الترجيحات، وبحمل حديث ابن عكيم على متع الانتفاع به قبل الدباغ وحينئذ يسمى إهابًا، وبعد الدباغ يسمى جلدًا، ولا يسمى إهابًا، وهذا معروف عند أهل اللغة ليكون جمعًا بين الحكمين، وهذا هو الطريق في نفي التضاد عن الأخبار».
وقيل: سمي إهابًا؛ لأنه أهبة للحي وبناء للحماية له جسده كما يقال مسك لإمساكه ما وراءه والإهاب أعمم من الجلد يتناول جلد المزكي، وغير المزكي، وجلد ما يؤكل وما لا يؤكل؛ لأن صدر الكلم معنى الشرط، إذ التقدير وكل إهاب إذا دبغ فقد طهر وإن لم يدبغ لم يطهر. انظر: «فتح الباري» (9/ 658 - 659).(5/2567)
الأكل لا يحرم منها، بل هو حلال. ومن ذلك الانتفاع بها بوجه من وجوه الانتفاع غير الأكل.
وحديث عبد الله بن عكيم (1) ليس فيه إلا مجرد النهي عن الانتفاع بالإهاب والعصب لا بغيره من الأجزاء، فكان مخصصًا لهذين النوعين من عموم مفهوم حديث: «إنما حرم
_________
(1) تقدم تخريجه.(5/2569)
من الميتة أكلها» (1) فلو لم يرد إلا هذان الحديثان فقط لكان المستفاد منهما جميعًا تحريم فلو لم يرد إلا هذان الحديثان فقط لكان المستفاد منهما جميعًا تحريم، فلو لم يرد إلا هذان الحديثان فقط لكان المستفاد منهما تحريم أكل الميتة من غير فرق بين لحم، وعظم، وجلد، وعصب، وغير ذلك. وجواز الانتفاع بها في غير الأكل (2) إلا فيما كان منها من العصب والجلد، فإن لا يجوز الانتفاع بهما في شيء من وجوه الانتفاع كائنًا ما كان.
وأما قياس بقية أجزاء الميتة على هذين الجزئين، وجعل القياس مخصصًا لذلك المفهوم مما لا تطمئن به النفس، ولا ينثلج له الخاطر وإن قال بجواز التخصيص بمثل هذا القياس جماعة من أئمة الأصول.
فإن قلت: فما وجه اقتصاره- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على هذين الجزئين في النهي عن الانتفاع بهما، مع أن للميتة أجزاء غيرهما؟.
قلت: هكذا ورد الشرع فقف حيث وقف بك، ودع عنك لعل وعسى ونحوهما.
فإن قلت: لا بد من ذلك، فقد يقال: لعل وجه التنصيص عليهما دون أن العرب كانت تنتفع بهذين النوعين من الميتة، فيأخذون الإهاب للانتفاع به مدبوغًا،
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) قال ابن قيم الجوزية في «تهذيب السنن» (1/ 67 - 68 - المختصر): « ... وطائفة عملت بالأحاديث كلها، ورأت أنه لا تعارض بينها، فحديث ابن عكيم إنما فيه النهي عن الانتفاع بإاب الميتة , والإهاب: الجلد الذي لم يدبغ وأحاديث الدباغ تدل على الاستمتاع بها بعد الدباغ فلا تنافي بينها».
ثم قال رحمه الله: «وهذه الطريقة حسنة، لولا أن قوله في حديث ابن عكيم: كنت رخصت لكم في جلود الميتة، فإذا أتاكم كتابي ... والذي كان رخص فيه هو المدبوغ، بدليل حديث ميمونة».
ثم أجاب عن هذا الحديث بوجهين:
أحدهما: أن في ثبوت لفظه: «كنت رخصت لكم» شيئًا، فهي ليست عند أهل السنن في هذا الحديث
. انظر: «نصب الراية» للزيلعي (1/ 120 - 122). «مجموع الفتاوى» (21/ 94).(5/2570)
وغير مدبوغ، ويأخذون الغصب ليشدوا به [1 ب] ما يحتاج إلى شد. وأما غير هذين الجزئين فالمنفعة المتعلقة به هي الأكل وحده، هذا غاية ما يقوله من أراد إتعاب نفسه بالتخيلات التي لا تنفع، والتوهمات لتي لا يستفاد بها. ويدفع بأن أجزاء الميتة الخارجة عن هذين الجزئين ما ينتفعون به كانتفاعهم بهما أو أكثر، فمن ذلك الشحم، فإنهم ينتفعون بهما في منافع عديدة، منها الدهن للأشياء، الاستصباح، ولها قالوا لما حرم عليهم الشحوم منبهين على المنافع التي لهم فيها: أرأيت يا رسول الله شحوم الميتة، فإنه يطلي بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ وهكذا العظم، فإنهم ينتفعون به في منافع فقد كانوا يذبحون به كما ورد في الحديث (1)، وهكذا الأصواف التي على الجلود من الميتة، فإن لهم فيها أعظم المنافع. وقد كان لباسهم وشعارهم ودثارهم منها، وهكذا اللحم فإنه يمكن أن ينتفعوا به في طعام دوابهم.
فإن قلت: قد ذكر النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- تحريم بيع الشحوم (2)، بل تحريم بيع الميتة، وذكر تخريم الذبح بالعظم.
قلت: نعم ذكر ذلك في أحاديث آخرة، وليس النزاع في مطلق الذكر، بل النزاع في كون ذلك ونحوه لم يذكر في حديث عبد الله بن عكيم (3)، مع كونهم ينتفعون به كما ينتفعن بالإهاب والعصب، وليس المقصود من ذكرنا لذلك إلا النقص على من زعم أن أجزاء الميتة مستوية ففي تحريم الانتفاع، وأن التنصيص على الإهاب والعصب إنما وقع لكثرة انتفاعهم بهما.
فإن قلت: قد صرح النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بتحريم بيع ..........................
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم من حديث جابر في الصحيحين أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام».
(3) تقدم تخريجه.(5/2571)
الميتة (1) في حديث، وبتحريم شحومها (2) في حديث آخر، وكلاهما في الصحيح.
قلت: نعم، لا يحل بيع شيء من أجزاء الميتة كما في الحديثين المشار إليهما. وقد علل النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ذلك بقوله: «إن الله [2 أ] إذا حرم شيئًا حرم ثمنه» كما ثبت في الصحيح (3)، فصرح- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في هذا الحديث بأن تحريم البيع لازم من لوازم تحريم الأكل، ومتفرع عليه، فيحرم البيع لأجزاء الميتة جميعًا، ومن ذلك العصب والإهاب قبل دبغه (4) لا بعده، فهو مخصوص بأحاديث صحيحة، ويختص العصب والإهاب بتحريم الانتفاع بهما، ويبقى ما عدا ذلك على أصل الجواز.
واعلم أن النهي عن الانتفاع بالعصب والإهاب، وانهي عن بيع الميتة لا يستلزمان أن تكون الميتة نجسة على وجه يمنع وجود شيء منها صحة صلاة .......................
_________
(1) عن جابر قال: أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام». أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2236) ومسلم رقم (71/ 158).
(2) تقدم تخريجه.
(3) أخرج أحمد (3/ 370) وأبو داود رقم (3488) عن ابن عباس قال: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوه وأكلوا أثماها، وأن لله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه».
وهو حديث صحيح.
قال ابن القيم في «إعلام الموقعين» (4/ 324 - 325): وفي قوله: حرام، قولان:
أحدهما: أن هذه الأفعال حرام.
الثاني: أن البيع حرام، وإن كان المشتري يشتريه لذلك.
والقولان مبينان على أن السؤال هل وقع عن البيع لهذا الانتفاع المذكور؟ أو عن الانتفاع المذكور؟ والأول اختاره شيخنا، وهو الأظهر؛ لأنه لم يخيرهم أولًا عن تحريم هذا الانتفاع، حتى يذكروا له حاجتهم إليه، وإنما أخبرهم عن تحريم البيع فأخبروه أنهم يبتاعونه لهذا الانتفاع، فلم يرخص لهم في البيع ولم ينههم عن الانتفاع المذكور، ولا تلازم بين جواز البيع وحل المنفعة. والله تعالى أعلم.
(4) انظر: «المغني» (6/ 362).(5/2572)
المصلي (1)، فإن تحريم البيع لا يستلزم أن يكون الشيء نجسًا (2)، لا شرعًا، ولا عقلًا، وإلا لزم نجاسة الأصنام والأزلام، وسهام الميسر، ونحوها مما ورد الدليل الصحيح (3) بتحريم بيعها، وقد قرن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في حديث جابر الثابت في الصحيح (4) بين الميتة والأصنام فاللازم باطل فالملزوم مثله. أما الملازمة فظاهرة، وأما بطلان اللازم فبالإجماع.
وهكذا لا يستلزم نهيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن الانتفاع بالإهاب والعصب أن يكونا نجسين لا شرعًا، ولا عقًلا؛ فإن كون الشيء نجسًا يمنع وجو صحة صلاة المصلي، إنما يثبت بدليل يدل على ذلك دلالة مقبولة، والنهي، الانتفاع هو باب آخر غير باب كون الشيء نجسًا أو طاهرًا (5)، وهكذا لا يستفاد من حديث إلقاء الفأرة وما حوله إذا وقعت في السمن الجامد (6)، وإراقة السمن الذي وقعت فيه الفأرة [2 ب] إذا كان مانعًا نجاسة هذه الميتة، فإن تحريم ما وقعت فيه من الجامد وما حوله، وتحريم جميع
_________
(1) انظر: «المجموع» (1/ 281).
قال الشيرازي في «المهذب» شرح النووي (9/ 269): الأعيان ضربان نجس وطاهر، فأما النجس فعلى ضربين نجس في نفسه ونجس بملاقاة النجاسة، فأما النجس في نفسه فلا يجوز بيعه، وذلك مثل الكلب والخنزير والخمر والسرجين، وما أشبه ذلك من النجاسات والأصل فيه ما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله تعالى حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام». تقدم تخريجه.
(2) قال النووي في «المجموع» (9/ 272):
وأما النجس بملاقاة النجاسة فهو الأعيان الطاهرة إذا أصابتها نجاسة فينظر فيه، فإن كان جامدًا كالثوب وغيره جاز بيعه؛ لأن البيع يتناول الثوب وهو طاهر وإنما جاورته النجاسة، وإن كان مائعًا نظرت فإن كان مما لا يطهر كالخل والدبس لم يجز بيعه؛ لأنه نجس لا يمكن تطهيره من النجاسة فلم يجز بيعه كالأعيان النجسة.
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم تخريجه.
(5) انظر: «المحلى» (1/ 118 - 124).
(6) تقدم تخريجه.(5/2573)
المانع الذي وقعت فيه لكونه قد خالطه في الطرفين شيء من الميتة التي يحرم أكلها، فكان أكله حرامًا مثلها، وليس ذلك لكونه نجسًا. ولا ملازمة بين الإلقاء وبين ترك الانتفاع من كل وجه، فقد يكون الإلقاء إلى شيء له بذلك نوع انتفاع.
وهكذا لا يستفاد من قوله تعالى: {أو لحم خنزير فإنه رجس} (1) أن تكون الميتة من غير الخنزير نجسة، فإن الضمير في قوله: {فإنه} راجع إلى المضاف (2) وهو لحم، أو إلى المضاف إليه وهو الخنزير على خلاف في ذلك. وعلى كل تقدير فذلك لا يستلزم نجاسة الميتة لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام. بل لو كان ما ذكره الله- سبحانه- في هذه الآية- أعني قوله: {قل لآ أجد في ما أوحى إلي محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير} (3) نجسًا لقال- سبحانه- في هذه: فإنها رجس (4) والرجس يكون على أربعة أوجه:
إما من حيث الطبع وإما من جهة العقل، وإما من جهة الشرع وإما من كل ذلك كالميتة. فإن الميتة تعاف طبعًا وعقلًا وشرعًا.
والرجس من جهة الشرع: الخمر والميسر وقيل: إن ذلك رجس من جهة العقل وعلى ذلك نبه بقوله تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219]، لأن كل ما يوفي إثمه على نفعه فالعقل يقتضي تجنبه، وجعل الكافرين رجسًا من حيث إن الشرك أقبح الأشياء قال تعالى: {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسًا إلى رجسهم} [التوبة: 125]. وقوله تعالى: {ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون} [يونس: 100].
قيل: الرجس: النتن، وقيل العذاب وذلك كقوله تعالى: {إنما المشركون نجس} [التوبة: 28].
وقال سبحانه: {أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145]. وذلك من حيث الشرع.
«مفردات ألفاظ القرآن» (ص342) للراغب الأصفهاني.، فلما جعل الحكم بالرجسية خاصًا بالخنزير (5) مع ذكر الميتة والدم المسفوح معه أفاد ذلك أنهما مغايران له في هذه الصفة أعني: الرجسية.
إذا تقرر لك هذا عرفت أنه لم يدل دليل على نجاسة الميتة من غير الخنزير كائنةً ما
_________
(1) [الأنعام: 145].
(2) {أو لحم خنزير فإنه} أي اللحم لأنه المحدث عنه أو الخنزير لأنه الأقرب ذكرًا وذكر اللحم لأنه أعظم ما ينتفع به منه فإذا حرم فغيره بطريق الأولى. «روح المعاني» (8/ 44).
(3) [الأنعام: 145].
(4) الرجس: الشيء القذر، يقال: رجل رجس ورجال أرجاس. قال تعالى: {رجس من عمل الشيطان} [المائدة: 90].
(5) {أو لحم خنزير فإنه} أي اللحم لأنه المحدث عنه أو الخنزير لأنه الأقرب ذكرًا وذكر اللحم لأنه أعظم ما ينتفع به منه فإذا حرم فغيره بطريق الأولى. «روح المعاني» (8/ 44).(5/2574)
كانت هذه الكلية الأولى.
الكلية الثانية: أن أكل الميتة حرام من غير فرق بين جميع أجزائها.
الكلية الثالثة: أن بيعها حرام من غير فرق.
فهذه الثلاث الكليات قد اتفقت عليها الأدلة [3أ]، ولم يختلف أصلًا.
وإنما الخلاف في مجرد الانتفاع بالميتة في غير الأكل والبيع، فحديث: «إنما حرم من الميتة أكلها» (1) دل على جواز الانتفاع بها في غير الأكل والبيع. وحديث عبد الله بن عكيم فيه النهي عن الانتفاع بالإهاب والعصب فكان هذا الحديث مخصصًا لما يقيده مفهوم حديث: «إنما حرم من الميتة أكلها» من العموم كما قدمنا. ولا يجوز إلحاق غيرهما بهما لما عرفناك سابقًا.
وإياك أن تغتر بما وقع في بعض كتب الفروع من أن نجاسة الشيء فرع تحريمه، فإن ذلك كلام باطل، ودعوى محضة (2)
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) قال الشوكاني في «النيل» (1/ 88 - 89): وأكثر أهل العلم على أن الدباغ مطهر في الجملة لصحة النصوص به، وخبر ابن عكيم لا يقاربها في الصحة والقوة لينسخها، قال الترمذي في «السن» (4/ 222): سمعت أحمد بن الحسن يقول: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث لما ذكر فيه قبل وفاته بشهرين، وكان يقول: هذا آخر أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم ترك أحمد هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده حيث روى بعضهم فقال: عن عبد الله بن عكيم عن أشياخ من جهنية».
فائدة: يجوز استعمال المدبوغ. بلبسه والصلاة فيه، والصلاة عليه أو ملئه بالماء بجعله قربةً أو دلوًا للشرب أو الوضوء منه لأن الدباغ يطهر ظاهره وباطنه.
((البناية في شرح الهداية» (1/ 359).
قال الأمير الصنعاني في «سبل السلام» (1/ 158): وأما النجاسة فيلازمها التحريم، فكل نجس محرمً ولا عكس، وذلك لأن الحكم في النجاسة هو المنع عن ملابستها على كل حال، فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها بخلاف الحكم بالتحريم. فإنه يحرم لبس الحرير والذهب وهما طاهران ضرورةً شرعية وإجماعًا، فإذا عرفت هذا فتحريم الخمر والحمر الذي دلت عليه النصوص لا يلزم منه نجاستها، بل لابد من دليل آخر عليه، إلا بقينا على الأصل المتفق عليه من الطهارة فمن ادعى خلافه فالدليل عليه.(5/2575)
وفي هذا كفاية- إن شاء الله-.
انتهى من خط شيخنا بدر الدين محمد بن على بن محمد الشوكاني- أبقاه الله، وكثر فوائده- آمين [3 ب].(5/2576)
(73) 22/ 1
جواب في حكم احتلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(5/2577)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
ما تقولون- رضي الله عنكم وأرضاكم- في أنه ثبت في الخصائص النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام أن نبي الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لا يحتلم، وأن الاحتلام من قبل الشيطان- أعاذنا الله منه- مع الحديث الثابت في الصحاح (1) عن أم المؤمنين عائشة زوج النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «كنت أفركه من ثوب رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ويصلي فيه». هذا معنى الحديث. أفيدوا جزاكم الله خيرًا.
_________
(1) أخرجه أحمد (6/ 125، 132) ومسلم (1/ 238 رقم 105/ 288). وأبو داود رقم (371، 372) والترمذي (1/ 198 رقم 116) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي (1/ 156، 157) وابن ماجه (1/ 197 رقم538).
عن عائشة قالت: كنت أفرك المني من ثوب ثوب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يذهب فيصلي فيه «وهو حديث صحيح».
* وأخرجه أحمد (6/ 243) بسند حسن.
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه ويحته من ثوبه يابسًا ثم يصلي فيه».
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (229، 230) و (231، 232) ومسلم رقم (108/ 289) عن عائشة رضي الله عنه: «كنت أإسله من ثوب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يخرج إلى الصلاة وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء». وهو حديث صحيح.
وأخرج الدارقطني في «السنن» (1/ 125 رقم3). عنها رضي الله عنه: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان يابسًا وأغسله إذا كان رطبًا». وهو حديث صحيح.(5/2581)
الحمد لله رب العالمين
الجواب- والله الهادي- أنه قد ذهب جمع من العلماء إلى استحالة الاحتلام في حقه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، قالوا: لأنه من تلاعب الشيطان بالئائم، وجزموا بأن المني (1) الذي كان على ثوبه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ليس إلا من الجماع، ويقويه أنه لا ملازمة بين كون المني موجودًا في ثوبه، وبين كونه عن احتلام، لا عقلًا ولا عادة، لاحتمال أن يكون مما بقي في الذكر من أثر الجماع، أو مما يحصل عند مقدمات الجماع، كما حكى ذلك النووي (2) عن جماعة من العلماء.
وذهب قوم جمع إلى منع الاستحالة، ومنع كون الاحتلام من تلاعب الشيطان (3)، وجزموا بأنه جائز منه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وبأنه من فيض البدن الخارج في بعض الأوقات، فالقائلون بأن عدم الاحتلام من خصائصه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-
_________
(1) قال ابن الأثير «النهاية» (4/ 368): «المني» بالتشديد، وهو ماء الرجل وقد مني الرجل وأمنى، واستمنى إذا استدعى خروج المني.
(2) في شرحه لصحيح مسلم (3/ 198 - 199).
(3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (7005) ومسلم في صحيحه رقم (2261) عن أبي سلمة عن أبي سلمة عن أبي قتادة الأنصاري وكان من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفرسانه- قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان. فإذا حلم أحدكم الحلم يكرهه فليبصق عن يساره وليستعذ بالله منه فلن يضره».
قال الحافظ في «الفتح» (1/ 332 - 333): وليس بين حديث الفك تعارض لأن الجمع بينهما واضح على القول بطهارة المني بأن يحمل الغسل على الاستحباب للتنظيف لا على الوجوب وهذه طريقة الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث.
وكذا الجمع ممكن على القول بنجاسته بأن يحمل الغسل على ما كان رطبًا والفرك على ما كان يابسًا وهذه طريقة الحنفية.
قال الحافظ والطريقة الأولى أرجح لأن العمل بالخبر والقياس معًا لأنه لو كان نجسًا لكان القياس وجوب غسله دون الاكتفاء بفركه كالدم وغيره وهم لا يكتفون فيما لا يعفى عنه من الدم بالفرك.
ويرد الطريقة الثانية أيضًا ما في رواية ابن خزيمة من طريق أخرى عن عائشة: «كانت تسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه، وتحكه من ثوب يابسًا ثم يصلي فيه». فإنه تضمن ترك الغسل في الحالتين.
وقال الأمير الصنعاني في «حواشي العدة» (1/ 400 - 411): قال الأولون: هذه الأحاديث في فركه وحته إنما في منيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفضلاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاهرة فلا يلحق به غيره.
وأجيب عنه بأنها أخبرت عائشة عن فرك المني من ثوبه فيحتمل أنه عن جماع وقد خالطه مني المرأة فلم يتعين أنه منيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده.
والاحتلام على الأنبياء غير جائز، لأنه من تلاعب الشيطان، ولا سلطان له عليهم، ولئن قيل: إنه يجوز أنه منيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده، وأنه من فيض الشهوة بعد تقدم أسباب خروجه من ملاعبة ونحوها، وأنه لم يخاطه غيره فهو محتمل ولا دليل مع الاحتمال.
وذهبت الحنفية إلى نجاسة المني كغيرهم ولكن قالوا: يطهره الغسل، أو الفرك، أو الإزالة بالإذخر أو الخرقة عملًا بالحديثين.(5/2582)
هم الأولون. ولا يشكل الحديث على قولهم، لأنهم قد تخلصوا عنه بما سلف.
والقائلون بأن ذلك ليس من خصائصه، وهم الآخرون لا إشكال يرد عليهم والله أعلم.
انتهي جواب سيدي القاضي عين أعيان العلماء المجتهدين، عز الدين محمد بن على الشوكاني- حفظه الله- كما حفظ من الذكر المبين، وجعله قرة عين المسلمين آمين آمين آمين.(5/2583)
القول الواضح في صلاة المستحاضة ونحوها من أهل العلل والجرائح
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(5/2586)
بسم الله الرحمن الرحيم
إياك نعبد وإياك نستعين، والصلاة ولسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه الأكرمين، وبعد:
فإنه ورد إلينا سؤال من الشيخ علي بن محمد بن عبد الوهاب النجدي- كثر الله فوائده، وغفر لي وله- وهذا لفظه:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
ما قولكم في رجل دائم الحدث، وربما انقطع حدثه في بعض الأوقات، وليس لانقطاعه وقت معلوم، فإذا صلى في بيته من حين وضوئه صلى قبل أن يحدث، وإن خرج إلى المسجد أحدث إما قبل الدخول في الصلاة، وإما قبل الخروج منها. فهل يلزمه المشي إلى المسجد وإن صلى بالحدث؟ أم تلزمه الصلاة بالطهارة وإن فاتته الجماعة ومذهب الشافعي الأفضل في حقه أن يخرج إلى المسجد ويصلي مع الجماعة (1).
قال النووي (2) المذهب المشهور على أن صلاة الجماعة عندهم سنة، فإن قلتم يلزمه المشي وتصح صلاته مع الحدث، فهل تصح إمامته بكامل الطهارة أم لا؟ والسائل قد وقف على كلام أهل المذاهب الأربعة، ورأى عباراتهم متفقه على أنه يصلي وإن وجد معه الحدث. وأما اختلافهم في بعض الحدود والشروط فقال الموفق (3) في كتاب المقنع (4) والمستحاضة تغسل فرجها وتعصبه وتتوضأ لوقت كل صلاة وتصلي ما شاءت من الصلوات، وكذلك من به سلس البول، والمذي، والريح، والجريح الذي لا يرقأ دمه، والرعاف الدائم.
_________
(1) انظر «المغني» (1/ 421).
(2) انظر شرحه لصحيح مسلم (5/ 151).
(3) أي شيخ الإسلام أبي محمد موفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي.
(4) (1/ 96 - 97)(5/2591)
قال الشارح (1) ويجب على كل واحد من هؤلاء الوضوء لوقت كل صلاة إلا أن لا يخرج منه شيء، وهو قول الشافعي، وأصحاب الرأي. واستحب مالك لمن به سلس البول أن يتوضأ لوقت كل صلاة (2)، إلا أن يؤذيه البرد، فأرجو أن لا يكون عليه ضيق.
وقال أحمد بن القاسم (3) سألت أبا عبد الله- يعني أحمد- فقلت: إن هؤلاء يتكلمون بكلام كثير، ويؤقتون بوقت، ويقولون: إذا توضأت للصلاة وقد ................
_________
(1) المقنع (1/ 97 - حاشية) والحاشية في المقنع منقولة من خط الشيخ سليمان ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله وهي غير منسوبة لأحد، والظاهر أنه هو الذي جمعها فجزاه الله خيرًا ورحمه. انظر صفحة العنوان «المقنع".
(2) ذكره ابن قدامة في «المغني» (1/ 422).
(3) ذكره ابن قدامة في «المغني» (1/ 424).
ثم تابع كلامه قائلا: « ... وذلك لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرها بالوضوء كل صلاة من غير تفضيل، فالتفضيل يخالف مقتضى الخبر، ولأن اعتبار هذا يشق، والعادة في المستحاضة وأصحاب الأعذار أن الخارج يجري وينقطع، واعتبار مقدار الانقطاع فيما يمكن فعل العبادة فيه يشق وإيجاب الوضوء به حرج لم يرد الشرع به، ولا سأل عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المستحاضة التي استفته، فيدل ذلك ظاهرًا على عدم أعتباره مع قول الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]، ولم ينقل عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولاعن أحد من الصحابة هذا التفصيل، وقال القاضي وابن عقيل: إن تطهرت المستحاضة حال جريان دمها ثم انقطع قبل دخولها في الصلاة، ولم يكن لها عادة بانقطاعه، لم يكن لها الدخول في الصلاة حتى تتوضأ لأنها طهارة عفي عن الحدث فيها لمكان الضرورة. فإذا انقطع الدم زالت الضرورة، فطهر حكم الحدث كالمتيمم إذا وجد الماء، وإن دخلت في الصلاة فاتصل الانقطاع زمنًا يمكن الوضوء والصلاة فيه، فهي باطلة لأننا تبينا بطلان طهارتها بانقطاعه. وإن عاد قبل ذلك فطهارتها صحيحة لأننا تبينا عدم الطهر المبطل للطهارة، فأشبه ما لو ظن أنه أحدث، ثم تبين أنه لم يحدث.
وفي صحة الصلاة وجهان:
أحدهما: يصح، لأنا تبينا صحة طهارتها، لبقاء استحاضتها.
الثاني: لا يصح لأنها صلت بطهارة لم يكن لها أن تصلي بها فلم تصح، كما لو تيقن الحدث وشك في الطهارة، فصلى، ثم تبين أنه كان متطهرًا. وإن عاودها الدم قبل دخولها في الصلاة لمدة تتسع للطهارة والصلاة بطلت الطهارة وإن كانت لا تتسع لم تبطل. لأننا تبينا عدم الطهر المبطل للطهارة، فأشبه ما لو ظن أنه أحدث فتبين أنه لم يحدث، وإن كان انقطاعه في الصلاة، ففي بطلان الصلاة به وجهان مبنيان على المتيمم يرى الماء في الصلاة
وإن عاودها الدم فالحكم فيه على ما مضى في انقطاعه في غير الصلاة، وإن توضأت في زمن انقطاعة، ثم عاودها الدم قبل الصلاة أو فيها وكانت مدة انقطاعة تتسع للطهارة والصلاة، بطلت طهارتها بعود الدم، لأنها بهذا الانقطاع صارت في حكم الطاهرات، فصار عود الدم كسبق الحدث، وإن كان انقطاعًا لا يتسع لذلك، لم يؤثر عوده، لأنها مستحاضة، ولا حكم لهذا الانقطاع وهذا مذهب الشافعي- رحمه الله- وقد ذكرنا من كلام أحمد- رحمه الله- ما يدل على أنه لا عبرة بهذا الانقطاع، بل متى كانت مستحاضة أو بها عذر من هذه الأعذار فتحرزت وتطهرت، فطهارتها صحيحة، وصلاتها بها ماضية، ما لم يزل عذرها، وتبرأ من مرضها، أو يخرج وقت الصلاة، أو تحدث حدثًا سوى حدثها.
وانظر: مزيد تفصيل: «شرح الزركشي على مختصر الخرقي» (1/ 437 - 440).(5/2592)
انقطع (1) الدم ثم سال بعد ذلك قبل أن تدخل في الصلاة تعيد الوضوء. ويقولون: إذا تطهرت والدم سائل ثم انقطع الدم قولًا آخر. قال: لست أنظر في لنقطاعة حين توضأت سال الدم أو لم يسل، إنما أمرها أن تتوضأ لكل صلاة فتصلي بذلك الوضوء النافلة والفائتة، حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى (2)، ولو نستقصي ما وقف عليه من عبارات العلماء لاحتمل كراريس، فالمطلوب بسط الجواب بما أمكن من الأحاديث والآثار، والنظر والقياس.
وسر آخر وهو أنه ربما زاد الحدث ببعض المأكولات فهل يلزمه ترك [1 أ] ذلك المأكول والمشروب إذا عرف أنه يمد علة الحدث، وفرع لهذه المسألة، وهو أن السائل يصلي مع الجماعة بالحدث لإذن أهل العلم له بذلك كما تقدم، ولخوف أن تكون صلاة الجماعة شرطًا كما هو مذهب أهل الظاهر، ومن وافقهم، ثم أنه يقضي الصلاة في بيته لأجل إمكان الصلاة على طهارة، وتناول في ذلك حديث الرجلين اللذين صليا بالتيمم (3)
_________
(1) المقنع (1/ 97 - حاشية) والحاشية في المقنع منقولة من خط الشيخ سليمان ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله وهي غير منسوبة لأحد، والظاهر أنه هو الذي جمعها فجزاه الله خيرًا ورحمه. انظر صفحة العنوان «المقنع".
(2) ذكره ابن قدامة في «المغني» (1/ 422).
(3) سيأتي تخريجه.(5/2593)
فلما وجد الماء أعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فذكرا ذلك للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال للذي لم يعد: «أصبت السنة» وقال للآخر: «لك الأجر مرتين». وهذا الرجل قد اتخذ القضاء دينًا، فهل هو مصيب في ذلك أم لا؟ وأيضًا على أي صفة يحضر هذا الرجل صلاة الجمعة.
أفتونا- علمكم الله ما لم تكونوا تعلمون- انتهى.(5/2594)
أقول- مستعينًا بالله، ومتكلًا عليه، حامدًا له مصليًا مسلمًا على رسوله وآله وصحبه-:
إن هذا المكتوب قد اشتمل على أسئلة سنجيب عن كل واحد منها- بمعونة الله- بعد تقديم مقدمة هي أنه لا خلاف بين من يعتد به من أهل العلم أن كون الشيء ناقضًا للوضوء، مبطلًا للطهارة، موجبًا للوضوء لا يعرف إلا بالشرع، ولا مدخل في ذلك لحكم العقل، ولا لمحض الرأي، فإذا جاء حكم الشرع بأن هذا الشيء يبطل حكم الطهارة، ويوجب إعادتها كان علينا قبول ذلك والإذعان له، وإن لم نعقل علة ذلك، ولا فهمنا وجهه كما في مس الذكر (1)، وأكل لحوم الإبل (2)، فإنه قد ثبت عن الشارع أنهما ناقضان للطهارة، مبطلان للوضوء، وليس لنا أن نقول: العلة في هذا معقولة أو غير معقولة، أو السبب في هذا مفهوم أو غير مفهوم، وهكذا ما شابه هذين الناقضين من النواقض التي يبعد فهم عللها، ويصعب تعقل أسبابها، بل نقول بعد ورود الشرع: هكذا جاءنا عن
_________
(1) للحديث الذي أخرجه أحمد (6/ 406 - 407) وأبو داود رقم (181) والترمذي رقم (82) والنسائي (1/ 100) وابن ماجه رقم
(479).
عن بسرة بنت صفوان رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من مس ذكره فاليتوضأ». وهو حديث صحيح.
وانظر: «بيل الأطار» الحديث رقم (15/ 252) بتحقيقنا فهناك تفصيل وبيان موسع.
(2) للحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (97/ 360) وأحمد (5/ 102) وابن ماجه رقم (495) وابن الجارود رقم (25) والبيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 158) وفي معرفة «السنن والآثار» (1/ 402) والطحاوي في «شرح المعاني» (1/ 70) وابن خزيمة (1/ 21) وأبو عوانة (1/ 270 - 271) والطيالسي (ص104 رقم 766) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رجلًا سأل رسول الله أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت توضأ، وإن شئت فلا تتوضأ» قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «نعم، توضأ من لحوم الإبل» قال أصلي في مرابض الغنم؟ قال: «نعم"، قال: أصلي في مرابض الإبل؟ قال: «لا". وهو حديث صحيح.
انظر تفصيل وبيان ذلك موسعًا في «نيل الأوطار» رقم (19/ 56) - بتحقيقنا.(5/2595)
الله- سبحانه-، أو عن رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ونحن نقبله ونذعن له كما وجب علينا قبول ما جائنا به من كون غسل أعضاء الوضوء. وهي بعض من البدن رافعًا لحكم الحدث، وهو شيء لم يقم بها حسًا ولا وجد عليها أثرة في رأي العين، وهكذا إذا جاء الشرع بأن هذا الشيء المرئي أثره الخارج من الفرج أو نحوه ليس بناقض للطهارة، فليس لنا أن نقول لم لم يكن ناقضًا؟ وكيف لايكون مبطلًا للطهارة! وها هو جسم مدرك بحاسة البصر، وحاسة اللمس، خارج من الفرج. بل نقول: هكذا جائنا عن الذي جائنا بتفصيل أحكام الطهارة وبيان شروطها، ومقتضيها ومانعها، وما تصح به وما لا تصح به، وليس لنا أن نرجع [1 ب] إلى ما تقتضي به عقولنا وتقبله أفهامنا؛ فإن ذلك في مثل هذه المدارك أمر وراء الشرع.
وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل (1). وإذا تقرر هذا فالشرع قد ورد مورداُ لا يجحده أحد من المتشرعين أن دم المستحاضة مع كونه دمًا من الفرج الذي هو محل الحدث لا ينقض الطهارة (2)، ولا يبطل حكمها، وإن استمر خارجًا من عند الشروع في الوضوء إلى الفراغ من الصلاة. وهذا معلوم من الشرع علمًا ضروريًا، ومجمع عليه عند جميع أهل هذه الملة الشريفة.
وألاحاديث الواردة في ذلك يعرفها السائل- عافاه الله-. فهذا الدم الخارج على هذه الصفة ليس من الأحداث الموجبة للوضوء في حق هذه المرأة المستحاضة لاينكلر ذلك منكر، ولا يخالف فيه مخالف، فصلاتها وهو خارج خروجًا كثيرًا، منصب انصبابًا
_________
(1) وهو نهر في البصرة، وقد احتفره معقل بن يسار في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنسب اليه.
يضرب في الاستغناء عن الأشياء الصغيرة إذا وجد ما هو أكبر منها، وأعظم نفعًا.
ذكره القاضي إسماعيل بن على الأكوع في الأمثال اليمانية «إذا جاء سيل الله بطل نهر معقل".
وقال: من أمثال المولدين «إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل".
وانظر: «الأمثال» للميداني (1/ 88).
(2) انظر «المغني» (1/ 423).(5/2596)
شديدًا (1)، مستمر أستمرارًا مطبقًا، وصلاتها وهو خارج خروجًا يسيرًا، وسائل سيلانًا نزرًا، وصلاتها وهو منقطع تارة، وخارج أخرى مجزية صحيحة مقبولة واقعة على المنهج الشرعي، والمهيع المحمدي، والسبيل الأسلامي، لا فرق بين هذه الصور أصلًا. ولم يأت في هذه الشريعة السمحةالسهلة شيء مما يستدل به على الفرق.
فالحاصل أن المستحاضة لا فرق بينها وبين غيرها من النساء اللاتي لم يكن مستحاضات في نفس الفريضة التي تؤديها بذلك الضوء، وأما الأحاديث الواردة بأن المستحاضة تغتسل لكل صلاة (2)، فلو صح ذلك لكان غاية ما فيه أنه يجب عليها أن تبالغ في رفع الحدث بالغسل، وأن لا تؤدي بطهارتها الا صلاة واحدة، وليس هذا بمناف لكون خروج الدم غير ناقض للطهارة، لأنها في تلك الصلاة التي أدتها لا فرق بينها وبين غيرها من النساء في جميع الأحكام فتصلي في أول الوقت كما تصلي سائر النساء، وتؤم بغيرها من النساء كما تؤم من لم تكن مستحاضة. وأما من زعم من الفقهاء بأنها تصلي في آخر الوقت فليس على ذلك آثارة من علم، ولا هو مما يشتغل برده لوضوح بطلانه، وكونه قولًا مجردًا عن البرهان على كل حال.
فإن قلت: هل ينتهض شيء من الادلة الدالة على أنها تغتسل لكل صلاة أو نحو ذلك مما ورد في ذلك؟.
_________
(1) منها: الحديث الذي أخرجه أبو داودرقم (287) والترمذي رقم (128) وابن ماجه رقم (627) وأحمد (6/ 439، 381، 382، 439) والحاكم (1/ 172 - 173) والبيهقي (1/ 338) والطحاوي في «مشكل الآثار» (3/ 299، 300) عن حمنة بنت جحش قالت: كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة فاتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أستفتيه وأخبره فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش فقلت: يا رسول الله، إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فما تأمرني فيها قد منعتني الصيام والصلاة؟ قال: «انعت لكي الكرسف، فإنه يذهب الدم» قالت: هو أكثر من ذلك؟ قال: «فتلجمي» قالت: هو أكثر من ذلك؟ «فاتخذي ثوبًا» قالت: هو أكثر من ذلك إنما اثج ثجًا ... ". وهو حديث حسن.
(2) سيأتي ذكر ذلك.(5/2597)
قلت: لا تنتهض أحاديث إيجاب [2 أ]. الغسل عليها. أما حديث عائشة- رضي الله عنه- عند أبي داود (1) وابن ماجه (2) قالت: استحيضت زينب زينب بنت جحش فقال لها النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «اغتسلي لكل صلاة» ففي إسناده علل منها: كون في رجاله محمد بن إسحاق ولا يصح ما زعمه المنذري من تحسين بعض طرقه، وهكذا حديث عائشة أيضًا عند أحمد (3) وأبي داود (4) أن سهلة بنت سهيل بن عمرو استحيضت فأتت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فسألته عن ذلك، فأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل، والصبح بغسل، ففي إسناده محمد بن إسحاق (5) أيضًا عن عبد الرحمن بن القاسم، وابن إسحاق ليس بحجة لاسيما إذا عنعن، وعبد الرحمن قد قيل إنه لم يسمع
_________
(1) في «السنن» (1/ 204 - 205 رقم 292).
(2) في «السنن» رقم (622).
قال المحدث الألباني في صحيح أبي داود: صحيح دون قوله: زينب بنت جحش والصواب أم حبيبة بنت جحش ... ".
قال الشافعي في «الأم» (1/ 245 رقم المسألة825): «إنما أمرها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تغتسل وتصلي، وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة، قال: ولا أشك إن شاء الله أن غسلها كان تطوعًا غير ما أمرت به، وذلك واسع لها».
وقال النووي في «المجموع» (2/ 553): فرع: مذهبنا- أي الشافعية- أن طهارة المستحاضة الوضوء، ولا يجب عليها الغسل لشيء من الصلوات إلا مرة واحدة في وقت انقطاع حيضتها، وبهذا قال جمهور السلف والخلف وهو مروي عنه علي، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنه وبه قال عروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو حنيفة ومالك وأحمد .............
(3) في «المسند» (6/ 119).
(4) في سننه رقم (295).
(5) محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطلبي مولاهم، المدني، نزيل العراق إمام المغازى: صدوق يدلس، ورمى بالتشيع والقدر.
«التقريب» رقم (5725).(5/2598)
من أبيه، قال ابن حجر (1) قد قيل إن بن إسحاق وهم فيه.
وهكذا حديث عروة بن الزبير عن أسماء بنت عميس عند أبي داود (2) قالت: قلت: يا رسول الله، إن فاطمة بنت أبي جحش استحيضت منذ كذا وكذا فلم تصل، فقال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «هذا من الشيطان، لتجلس في مركن، فإذا رأت صفرة فوق الماء فتغتسل للظهر والعصر غسلًا واحدًا، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلًا واحدًا، وتغتسل للفجر غسلًا، وتتوضأ فيما بين ذلك». ففي إسناده سهيل بن أبي صالح (3)، وفي الاحتجاج بحديثه خلاف.
وهكذا حديث حمنة بنت جحش وفيه «فإن قويت على أن تؤخري الظهر، وتعجلي
_________
(1) في «التلخيص» (1/ 171). وهو حديث ضعيف.
(2) في «السنن» رقم (296).
(3) سهيل بن أبي صالح، ذكوان السمان أبو يزيد المدني، صدوق تغير حفظه بآخرة روى له البخاري مقرونًا- أي بغيره- وتعليقًا.
«التقريب» رقم (2675).
قلت: الحديث ضعيف، حالف فيه سهيل بن أبي صالح جميع من رواه عن الزهري واختلف عليه في لفظه.
أخرج أبو داود رقم (281) من طريق جرير، عن سهيل، عن الزهري عن عروة بن الزبير، قال: حدثتني فاطمة بنت أبي حبيش أنها أمرت أسماء، أو أسماء حدثتني أنها أمرتها فاطمة بنت أبي حبيش أن تسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد، ثم تغتسل".
قال البيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 353): «هكذا رواه سهيل بن أبي صالح، عن الزهري، عن عروة، واختلف فيه عليه والمشهور رواية الجمهور، عن الزهري عن عروة، عن عائشة، في شأن أم حبيبة بنت جحش». ا هـ.
قلت: حديث أبي داود رقم (281) ليس فيه الاغتسال لكل صلاة مجموعة ولا الاغتسال لصلاتين، وهذا اللفظ قريب من لفظ البخاري رقم (325) عن عائشة في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش، وفيه: «ولكن دعى الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم أغتسلي وصلي».(5/2599)
العصر، ثم تغتسلي حتى تطهري وتصلي الظهر والعصر جمعًا، ثم تؤخري المغرب وتعجلي العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الصبح وتصلين. قال: وهذا أعجب الأمرين إلي» (1)
أخرجه الشافعي (2)، وأحمد (3)، وأبو داود (4)، والترمذي (5)، وابن ماجة (6)، والدارقطني (7)، والحاكم (8)، وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل (9)، وهو مختلف فيه. وقال بن مندة: لايصح بوجه من الوجوه، وقال بن أبي حاتم (10) سألت أبي عنه. فوهنه ولم يقو إسناده. وقال الترمذي في كتاب العلل (11) إنه سأل البخاري عنه فقال: هو حديث حسن. وهكذا صححة أحمد والترمذي، لكن بن عقيل رواه عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، وفي سماعه منه نظر، وقال ........................
_________
(1) قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وهذا أعجب الأمرين إلي»: أي أحسن الأمرين، مع أن كلا الأمرين حسن. وهذا أحسن يعني الغسل مع الجمع.
(2) رقم (141) ترتيب المسند.
(3) في «المسند» (6/ 381، 382، 439).
(4) في «السنن» رقم (287).
(5) في «السنن» رقم (128).
(6) في «السنن» رقم (627).
(7) في «السنن» رقم (1/ 214).
(8) في «المستدرك» رقم (1/ 172 - 173).
(9) عبد الله بن محمد بن عقيل. لم يكن بالحافظ، وأهل العلم بالحديث مختلفون في جواز الاحتجاج بروايته قاله البيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 237).
وقال يحيي بن معين: لا يحتج بحديثه.
وقال البخاري: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم والحميدي يحتجون بحديثه.
انظر: «تاريخ بن معين» (4/ 64)، «تقريب التهذيب» (1/ 447).
(10) في «العلل» (1/ 51 رقم 123).
(11) (ص58).(5/2600)
الخطاني (1) قد ترك العلماءالقول بهذا الحديث. وقد رده ابن حزم (2) بأنواع من الرد. ومن جملة ذلك أنه علله بالانقطاع بين ابن جريح وابن عقيل، وزعم أن بينهما النعمان بن راشد وهو ضعيف (3)، وقد شارك ابن جريح في روايته عن ابن عقيل ضعفًا. وعلى الجملة [2 ب] فقد طول الحفاظ الكلام على هذا الحديث تعليلًا، وردُا، وتضعيفًا، وتصحيحًا، وتحسينًا. وقد أوضحت الكلام على ذلك في (4) ........... وعلى فرض أنه مما يصلح للتمسك به فهو مقيد بعدم وجود معارض بأنهض منه، وقد وجد ها هنا، وهو ما ثبت في الصحيحين (5) وغيرهما (6) من طرق عن عائشة مرفوعًا بلفظ: «فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي»، وهكذا وردت الأحاديث في (7) [ ..... ] الدم والتمييز بالعادة (8) حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال في المستحاضة: «تدع أيام إقرائها، ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة». رواه .....................
_________
(1) في «معالم السنن» (1/ 201 - هامش السنن) ولفظه: «وقد ترك بعض العلماء القول بهذا الخبر».
(2) في «المحلي» (2/ 194 - 195).
(3) ضعفه ابن حزم في «المحلى» (6/ 121).
(4) غير واضح في المخطوط ولعله «نيل الأوطار» قلت: انظر «النيل» رقم الحديث (6/ 373) بتحقيقي لترى هذا التوضيح.
(5) أخرجه البخاري رقم (306) ومسلم رقم (333).
(6) كأبي داود رقم (282) والنسائي (1/ 184). وهو حديث صحيح.
وفي رواية أخرجها البخاري رقم (228) ومسلم رقم (333) وأبو داود رقم (282) والترمذي رقم (125) والنسائي (1/ 184).
«فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي». وزاد الترمذي في «السنن» (1/ 218): «وقال: توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت».
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (325) «ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي».
(7) غير واضح في المخطوط.
(8) غير واضح في المخطوط.(5/2601)
ابن ماجه (1) والترمذي (2) لأن في إسناده عثمان بن عمير بن قيس الكوفي هو أبو اليقظان ويقال له: عثمان بن أبي حميد، وعثمان بت أبي زرعة قال يحيي بن معين: ليس حديثه بشيء، وقال أبو حاتم (3) إنه ضعيف منكر الحديث، كان شعبه لا يرضاه، وقال أبو أحمد الحاكم (4) ليس بالقوي عندهم، ولم يرضه يحيي بن سعيد.
وقال النسائي (5) ليس بالقوي، وقال الدارقطني (6) ضعيف، وقال بن حبان (7) اختلط بآخره حتى لا يدري ما يقول، لا يجوز الاحتجاج به، قال الترمذي (8) سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقلت: عدي بن ثابت عن أبيه عن جده، جد عدي بن ثابت ما اسمه؟ فلم يعرف محمد اسمه، وذكرت لمحمد قول يحيي بن معين أن اسمه دينار فلم يعبأ به، وقال الدمياطي في عدي المذكور (9) هو عدي بن ثابت أبان بن قيس بن الخطيم الأنصاري، ووهم من قال إن اسم جده دينار، وأما ما قاله المجد بن تيمية في المنتقى (10) إن الترمذي قال بعد إخراج هذا الحديث: إنه حسن. فوهم منه؛ فإن الترمذي لم يحسنه، بل سكت عنه، قال بن سيد الناس في شرحه للترمذي:
_________
(1) في «السنن» رقم (625).
(2) في «السنن» رقم (126) وسكت عنه الترمذي ولم يحسنه.
(3) في «الجرح والتعديل» (3/ 1/ 161).
(4) انظر «الميزان» (3/ 50) «لسان الميزان» (7/ 302). «الكاشف» (2/ 223).
(5) في «الضعفاء والمتروكين» رقم (438).
(6) انظر «الميزان» (3/ 50) و «التاريخ الكبير» (3/ 245).
(7) في «المجروحين» (2/ 95).
(8) في «السنن» (1/ 220 - 221).
(9) انظر «تهذيب التهذيب» (3/ 85).
(10) الحديث رقم (9/ 376).(5/2602)
وسكت الترمذي عن هذا الحديث فلم يحكم بشيء، وليس من باب الصحيح ولا ينبغي أن يكون من باب حسن. ثم ذكر الكلام على ضعفه، وأطال في ذلك (1).
وهكذا حديث عبد الحمن بن القاسم عن أبيه، عن زينب بنت جحش انها قالت للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «أنها مستحاضة، فقال: «تجلس أيام إقرائها ثم تغتسل، وتؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل [3 أ] وتصلي، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل وتصيبهما معًا. وتغتسل للفجر» أخرجه النسائي (2) ورجال إسناده
_________
(1) انظر شرح الحديث رقم () «نيل الأوطار» بتحقيقنا.
(2) في «السنن» (1/ 184 - 185 رقم63) ورواته كلهم ثقات.
قال الشيخ محمد بن على الإتيوبي في «شرح سنن النسائي» المسمى: «ذخيرة العقي في شرح المجتبي» (5/ 398 - 399).
هذا الحديث بهذا السند من أفراد المصنف، أخرجه في هذا الباب فقط، وفيه لنقطاع فإن القاسم لم يسمع من زينب قال حافظ في «تهذيب التهذيب» (12/ 449 - 450) أرسل عنهما القاسم بن محمد.
ويؤيده ما سنن أبي داود قال: بعد حديث عائشة (292): «أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت زينب» حديث فريضه: قال أبو داود في «السنن» (1/ 204 - 205) ولم أسمعه منه، عن سليمان بن كثير، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: استحيضت زينب بنت جحش، فقال لها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إغتسلي لكل صلاة» وساق الحديث.
قال أبو داود: ورواه عبد الصمد- يعني بن عبد الوارث- عن سليمان بن كثير، قال: «توضئي لكل صلاة» وهذا وهم من عبد الصمد، والقول قول أبي الولي.
لكن قال البيهقي في «السنن الكبرى» 1/ 350): رواية أبي الوليد غير محفوظة فقد رواه مسلم بن إبراهيم، عن سليمان بن كثير. كما رواه سائر الناس عن الزهري، ثم أخرج بسنده عن مسلم، عن سليمان بن كثير، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: «استحيضت أخت زينب بنت جحش سبع سنين ... الحديث».
وصحيح الحديث المحدث الآلي في «صحيح أبي داود» رقم (292) وقال: «الصواب أم حبيبة بنت جحش».
قال الجامع- محمد الإتيوبي الولوي-: فتبين بهذا أن المستحاضةهي أخت زينب لا زينب فتبصر وشرح الحديث واضح مما سبق» 1هـ.(5/2603)
ربما كانوا ثقات، فإنه (1) [ ... ] عدم سماع عبد الرحمن بن القاسم من أبيه.
وهكذا حديث عائشة أنها جائت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقالت: إني أمراة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال لها: «لا، اجتنبي الصلاة أيام محيضك ثم اغتسلي ثم توضئي لكل صلاة ثم صلى وإن قطر الدم على الحصير». أخرجه أحمد (2)، والترمذي (3)، والنسائي (4)، وأبو داود (5)، وأبن ماجة (6)، وابن حبان (7). ولكنه معلول، فإن حبيبًا لم يسمع من عروة بن الزبير، وإنما سمع من عروة [المزني] (8) فالإسناد منقطع، وحبيب بن أبي ثابت يدلس، وعروة [وهو المزني فهو] (9) مجهول (10)، وقد روى أصل الحديث .....................
_________
(1) غير واضح في المخطوط. وانظر التعليقة السابقة.
(2) في «المسند» (6/ 204).
(3) في «السنن» رقم (125).
(4) في «السنن» رقم (1/ 181 - 185).
(5) في «السنن» رقم (282).
(6) في «السنن» رقم (621).
(7) في صحيحة رقم (1350) وهو حديث صحيح.
(8) غير واضح في المخطوط وما أثبتناه من «نيل الأوطار» شرح الحديث رقم (10/ 377).
(9) غير واضح في المخطوط وما أثبتناه من «نيل الأوطار» شرح الحديث رقم (10/ 377).
(10) قلت: في رواية أبي داود: عروة غير منسوب، وقد نسبه أبن ماجة، والدراقطني والبزار، وإسحاق بن راهويه، فقالوا: عروة بن الزبير الأمر الذي دل عليه أن عروة في رواية أبي داود، هو عروة بن الزبير لا عروة المزني، وعليه فإن سنده عند أبي داود صحيح.
أو دعوى الانقطاع بأن حبيب بن أبي ثابت لم يسمعه من عروة بن الزبير فغير مسلمة كما جنح إلى ذلك الحافظ بن عبد البر قائلًا: لا شك أن حبيب بن أبي ثابت أدرك عروة، وحبيب لا ينكر لقؤة عروة لروايته عمن هو أكبر من عروة وأقدم موتًا منه، كما قال أبو داود في سننه: وقد روى حمزة الزيات عن حبيب عن عروة بن الزبير عن عائشة حديثًا صحيحًا. 1هـ وهو يشير إلى ما رواه الترمذي في الدعوات بسنده عن حبيب بن عروة عن عائشة وقال: حسن غريب.
زمراد أبي داود بهذا الرد على الثوري القائل بعدم رواية حبيب عن عروة بن الزبير.
ويؤيد حديث حبيب ما أخرجه البخاري من طريق أبي معاوية قال: حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة، وفيه: وقال أبي: «ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت» من تعليق السيد عبد الله بن هاشم اليماني المدني. «تلخيص الحبير» (1/ 168).(5/2604)
مسلم (1) بدون قوله: وتوضئي إلي آخره، لأنها زيادة غير محفوظة، وقد رواها [ ... ] (2) كالدرامي (3) والطحاوي (4).
وفي الباب عن جابر مرفوعًا رواه أبو يعلى (5) بإسناد ضعيف.
وعن سودة بنت زعمة رواه الطبراني (6)، وأما ما رواه البخاري (7) ومسلم (8) في صحيحيهما أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت، فقال لها رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «فاغتسلي ثم صلي» فكانت تغتسل عند كل صلاة، بل فعلت ذلك من قبل نفسها.
قال الشافعي (9) إنما أمرها رسول الله- صلي الله عليه وآله وسلم- أن تغتسل وتصلي، وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة. قال: ولا أشك- إن شاء الله- أن
_________
(1) في صحيحة رقم (333).
(2) كلمة غير مقروءة في المخطوط.
(3) في سننه (1/ 199).
(4) في «شرح معني الآثار» (1/ 100 - 101).
(5) عزاه اليه الحافظ في «التلخيص» (1/ 169) وضعف إسناده.
(6) في «الأوسط» رقم (9184) عن سودة بنت زعمة، قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تجلس فيها، ثم تغتسل غسلًا واحدًا. ثن تتوضأ لكل صلاة».
وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 281) وقال وفيه جعفر عن سودة لم أعرفه.
(7) في صحيحة رقم (320).
(8) في صحيحة رقم (334).
(9) في «الأم» (1/ 245 رقم المسألة825).(5/2605)
غسلها كان تطوعًا غير ما أمرت به، وذلك واسع. وكذا قال سفيان بن عيينة، والليث بن سعد، وغيرهما.
قال النووي (1) ولم يصح عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه أمر المستحاضة بالغسل إلا مرة واحدة عند انقطاع حيضتها، وهو قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي» (2) وليس في هذا ما يقتضي تكرار الغسل. قال: وأما الأحاديث الواردة في سنن أبي داود والبيهقي وغيرهما أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أمرها بالغسل، فليس فيها شيء ثابت. وقد بين البيهقي (3) ومن قبله ضعفها انتهى.
فإن قلت: هذه الأحاديث، وإن كان في كل واحد منها مقال لا ينتهض معه للاستدلال، لكنها تنتهض بمجموعها، ويشهد بعضها لبعض، فيكون من الحسن لغيره، وهو معمول به [3 ب]. ومع هذا فقد صحح بعضها بعض الأئمة، وحسن بعضها بعض آخر منهم.
قلت: أما تصحيح من صحح بعضها، وتحسين من حسن بعضها فقد قدمنا أنه لم يقع موقعه، وأنه وهم من قائله. وأما شهادة بعضها لبعض، وانتهاض بعضها للاستدلال فهو إنما يكون لو كانت سالمة من معارض، هو أنهض منها، ولم تسلم هذه الأحاديث من معارض، بل عورضت بما هو صحيح بلا خلاف، وهو أنه لا يجب ىعليها إلا غسل واحد عند إدبار وقت الحيضة، ولا يلزمها تجديد الغسل لكل صلاة أو للصلاتين، وكذلك لا يلزمها تجديد وضوء لكل صلاة أو للصلاتين.
فإن قالت: إنه لا معارضة هاهنا، لأن الغسل المتكرر، والوضوء المتكرر لا ينافي
_________
(1) في «المجموع» (2/ 554).
(2) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (306) والنسائي (1/ 184) وأبو داود رقم (282). وهو حديث صحيح.
(3) في المخطوط غير واضح وما أثبتناه من «نيل الأوطار» شرح الحديث رقم (17/ 325) بتحقيقنا.(5/2606)
غسل مرة واحدة، والزيادة مقبولة وإن كان المزيد أصح منها.
قلت: إنما يتم هذا لو لم ينص الأئمة على عدم صحة شيء بالمرة.
فإن قلت: فهلا جمعت بين الأحاديث مجمل تكرير الغسل والوضوء على الاستحباب كما فعل بعض الأئمة. وقد تقرر أن الجمع مقدم على الترجيح.
قلت: لو سلمنا أن هذا الجمع متحتم فليس هاهنا وجوب غسل متكرر (1)، ولا وجوب وضوء متكرر وهو المطلوب، وقد عرفت مما تقدم أنه لم يكن مطلوبنا هاهنا إلا تقرير أن دم الأستحاضة ليس من الأحداث التي ينتقض بها الوضوء على أي صفة كان، وإذا ثبت هذا فلا فرق بين المستحاضة وبين من به سلس البول. أو سلس الغائط، أو سلس الريح، أو فيه جرح يستمر خروج الدم، أو القيح [] (2). وبه يتعذر الاحتراز عنه، فيكون من به شيء من هذه العلل كالمستحاضة لعدم الفرق بينها وبينهم بوجه من الوجوه.
ويثبت لهم حكمها ثبوتًا ليس فيه شك ولا إشكال (3). ولا يتيسر في مثل هذا إيراد ما
_________
(1) وما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب الاغتسال إلا لإدبار حيضة هو حق، لفقد الدليل الصحيح الذي تقوم به الحجة لا سيما في مثل هذا التكليف الشاق فإنه لا يكاد يقوم مما دونه في المشقة إلا خلص العباد، فكيف بالنساء الناقصات الأديان بصريح الحديث، والتيسير وعدم التيسير من المطالب التي أكثر المختار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإرشاد إليها، فالبرأة الأصلية المعتضدة بمثل ما ذكر لا يعني جزم بالانتقال عنها بما ليس بحجة توجب الانتقال وجميع الأحاديث التي فيها إيجاب الغسل لكل صلاة كل واحد منها لا يخلو عن مقال، لا يقال إنها تنتهض للاستدلال بمجموعها، لأنا نقول: ـ يوجد ما يعارضها وأما إذا كانت معارضة بما هو ثابت في الصحيح فلا كحديث عائشة رضي الله عنها- تقدم- فإن فيه «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر فاطمة فلا أبي جحش بالاغتسال عند ذهاب الحيضة فقط. وترك البيان في وقت الحاجة لا يجوز كما تقرر في الأصول ... ».
انظر: «الأم» (1/ 245) و «المجموع» للنووي (2/ 554). «المغني» (1/ 422).
(2) كلمة غير واضحة في المخطوط.
(3) انظر «المغني» (1/ 421 - 423).(5/2607)
أورده النافون للقياس من تلك الإشكالات، لأن الإلحاق بعدم الفارق لما كان في غاية الوضوح والجلاء اندفع عنه كل إيراد وإشكال وتشكيك كما يعرف ذلك فحول علماء الأصول، وأهل الرسوخ في علمي المعقول والمنقول. ويدل لعدم انتقاض طهارة من به علة من هذه العلل المتقدمة ما علمناه من كليات هذه الشريعة المطهرة [4 أ] التي يندرج تحت عمومها هؤلاء وأمثالهم، وذلك مثل قول الله- سبحانه-: {فاتقوا الله ما استطعتم} (1) فإن فيها تقييد التقوى بالاستطاعة، فما خرج عنها فليس من التكاليف التي كلف الله بها عباده، ومعلوم أنا لو قلنا أنها تنتقض طهارة من به علة من تلك العلل بالخارج الذي لا يمكنه الاحتراز عنه، وبالحدث الذي لا يقدر على إمساكه لكان ذلك تكليفًا له بما لا يستطيعه.
وقد فهم الصحابة- رضي الله عنهم- من هذه الآية تخفيف التكليف عليهم، ولهذا عظم عليهم الأمر لما نزل قول الله- سبحانه-: {اتقوا الله حق تقاته} (2) وصرحوا بأن ذلك ليس في قدرتهم، ولا يدخل تحت استطاعتهم، فنزل قول الله- سبحانه-: {اتقوا الله ما استطعتم} (3) ففرحوا بذلك، وزال عنهم ما وجدوه من الحرج عند نزول الآية المتقدمة (4)، ومثل هذه الآية قول النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا به ما استطعتم» (5) ومثل قوله- صلي الله عليه وآله وسلم-: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» (6) وهي أحاديث ثابتة في الصحيح. ومثله حديث: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب». وحديث:
_________
(1) [التغابن: 16].
(2) [آل عمران: 102].
(3) [التغابن: 16].
(4) انظر «تفسير ابن كثير» (8/ 140).
(5) تقدم تخريجه.
(6) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (4344، 4345) ومسلم رقم (71/ 1733) من حديث أبي موسى الأشعري.(5/2608)
«أمرت بالحنيفية السمحة السهلة» (1).
وبالجملة فمن نظر في كتاب العزيز، وفي السنة المطهرة حق النظر وجدهما مصرحين في كثير من المواضيع بتقييد التكاليف الشرعية بالاستطاعة، وعدم الحرج والتيسير، وعدم التعسير، والتبشير وعدم التنفير، ولا أشد تكليفًا وأصعب تعبدًا من تكليف العبد [ ... ] (2). ولا يدخل تحت وسعة، فرحمة الله التي وسعت كل شيء [] (3) تخالف هذا التكليف وتنافي هذا الحرج [ ... ] (4) وتباين هذا التعبد الصعب، فتقرر بمجموع ما ذكرناه أن دم المستحاضة، واستمرار حدث من له حكمها ممن تقدم ذكره، وعدم
_________
(1) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (7/ 209) وأورده السيوطي في «الجامع الصغير» رقم (3150) وأشار لضعفه.
وقال المناوي في «فيض القدير» (3/ 203): «وفيه على بن عمر الحربي أورده الذهبي في الضعفاء وقال: صدوق. ضعفه البرقاني، ومسلم بن عبد ربه، ضعفه الأزدي ومن ثم أطلق الحافظ العراقي في ضعف سنده، وقال العلائي: مسلم ضعفه الأزدي ولم أجد أحد وثقه.
ولكن له طرق ثلاث ليس يبعد أن لا ينزل بسببها عن درجة الحسن.
قلت: وله شاهد من حديث أبي قلابة الجرمي مرسلًا بلفظ: «يا عثمان إن الله لم يبعثني بالرهبانية مرتين أو ثلاثًا، وإن أحب الدين عند الله الحنيفية السمحة».
أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (3/ 395).
وله شاهد آخر من رواية عبد العزيز بن مروان بن الحكم مرسلًا. أخرجه أحمد بن حنبل في «الزهد» (289 و210) بسند صحيح.
وأخرج أحمد في «المسند» رقم (2107 - شاكر) بإسناد صحيح من حديث بن عباس قال: قيل يا رسول الله! أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: «الحنيفية السمحة» وعلقه البخاري في صحيحة ووصله في «الأدب المفرد» رقم (287) من طريق محمد بن إسحاق عن داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس. وقال الحافظ في «الفتح» (1/ 94) إسيناده حسن.
وخلاصة القول أن الحديث حسن بشواهده. والله أعلم.
(2) ثلاث كلمات غير واضحة في المخطوط.
(3) كلمتان غير واضحتين في المخطوط.
(4) كلمة غير واضحة في المخطوط.(5/2609)
انقطاعه إلا في أوقات غير معلومة، كل هذا لا تبطل به الطهارة، ولا ينتقض به الوضوء، ولا يجب على صاحبه تأخير صلاة إلى آخر وقتها، ولا يمنعه من أن يكون إمامًا بمن لم يكن فيه مثل علته، ولا يحول بينه وبين تأدية صلاته في جماعة [4 ب]. وإلى هنا انتهت المقدمة وبها يتبين جواب ما سأل عنه السائل على طريقة الإجمال.
وأما ما سأل عنه على طريقة التفصيل فنقول:
قد اشتمل سؤاله هذا على مسائل:
المسألة الأولى: قوله: فإذا صلى في بيته في حين وضوئه صلى قبل أن يحدث، وإن خرج إلى المسجد أحدث إما قبل الدخول في الصلاة، وإما قبل الخروج منها، فهل يلزمه المشي إلى المسجد، وإن صلى بالحدث أم تلزمة الصلاة بالطهارة وإن فاتته الجماعة؟.
وأقول: قد قدمنا أن هذا الحدث الدائم مطلقًا أو غالبًا بحيث لا يعلم وقت انقطاعه ليس بحدث أصلًا، ولا هو مما يطلق عليه أسم الحدث شرعًا، وحينئذ فتأدية صاحب علة من هذه العلل لصلاته حال خروج الخارج كتأديته لها مع مصادفة انقطاعه في كل الصلاة أو بعضها، فترك صاحبه لصلاة الجماعة وعدوله إلى الصلاة وحده قد تسبب عنه ترك سنه مجمع عليها، وفاته بذلك أجر كبير، وفضل عظيم، وثواب جليل، وهو ما في قوله- صلي الله عليه وآله وسلم-: «صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته، وصلاته في سوقه بضعًا وعشرين درجة» وهو في الصحيحين (1) وغيرهما (2) من حديث أبي هريرة، وفيهما (3) أيضًا من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله- صلي الله عليه وآله وسلم-: «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة».
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (648) ومسلم رقم (245/ 650).
(2) كمالك (1/ 129 رقم2) وأحمد (2/ 65) وأبو عوانة (2/ 2). والبيهقي في «السنن الكبري» (3/ 60).
(3) البخاري في صحيحة رقم (645) ومسلم رقم (249/ 650).(5/2610)
وفي الباب أحاديث (1) غير هذه في بعضها التصريح بأنها تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة، فكيف يسمح من له رغبة في الخير، وطلب للثواب، وحرص على الأجر أن يصلي منفردًا فتكون له درجة واحدة، ويفوت عليه ست وعشرون درجة! مع كون صلاته وحده على فرض انقطاع الخارج منه حال تأديته لتلك الصلاة منفردًا لا يفضل على تأديته لها منفردًا، والخارج يخرج، وهكذا صلاته في جماعة والخارج منقطعًا لا يفضل على تأديته لها، والخارج مطبقًا، وهل هذا إلا من ظلم النفس بإحرمها للأجور التعددة، ومن بخس الحظ بتفويت الأجور المتكاثرة ومن عدم الرغبة في الخير الكثير، والأجر العظيم بالعدول عنه إلى الأجور النزر، والثواب القليل! هذا لو لم يكن من الشارع إلا لمجرد المفاضلة بين الصلاتين، فكيف وقد صح عنه أنه قال: «لقد هممت أن أمر بالصلاة، ثم أمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم [5أ] من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» وهو في الصحيح (2) من طرق، حتى أنه لم يرخص في التخلف عن الجماعة للأعمى الذي لا قائد له إذا كان يسمع النداء، وهو أيضًا في الصحيح (3). وجعل التخلف عن صلاة الجماعة من علامات النفاق، وهو في الصحيح (4) أيضًا.
فإن هذه الأحاديث وأمثالها تدل على أن ذلك متأكد أبلغ تأكد، ومشدد فيه أعظم تشديد، ولا أقول: ذلك وهذا التفضيل الذي سبق ذكره ما بين صلاة الجماعة وصلاة
_________
(1) منها ما أخرجه البخاري في صحيحة رقم (646) من حديث أبي سعيد.
(2) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (644) ومسلم رقم (251/ 651).
ومالك (1/ 129 رقم3) وأحمد (2/ 244) وأبو داود رقم (548و549) والنسائي (2/ 107) وابن ماجه رقم (791) والبيهقي في «السنن الكبرى» (3/ 55).
(3) أخرجه مسلم في صحيحة رقم (255/ 653) والنسائي (2/ 109 رقم 850).
(4) أخرجه البخاري رقم (657) ومسلم رقم (252/ 651) وابن ماجه (1/ 261 رقم 797) والدرامي (1/ 291) من حديث أبي هريرة.(5/2611)
المنفرد يدل [ ... ] (1) دلالة وينادي أعظم نداء، بأن صلاة الرجل منفردًا صحيحة، وأنها تسقط عنه الواجب، وتجزي عنه الفريضة، وكذلك حديث صلاة الرجل مع الأمام أفضل من الذي يصلي وحده ثم ينام، ونحو ذلك من الأحاديث كحديث المسيء صلاته (2)، ومن شابه ممن صلى منفردًا.
ولكني أقول: إن العدول إلى صلاة الانفراد مع عدم وجود العذر المانع من صلاة الجماعة مع كونه مشددًا فيها هذا التشديد، ومؤكد حكمها هذا التأكيد لا يفعله إلا من رغب عن الخير، وأحرم نفسه الثواب الكثير، والأجر العظيم، فصاحب هذه العلل المتقدم ذكرها إن لم يكن له عذر إلا مجرد ما ظنه بأن تأدية صلاته وحده مع الانقطاع أكثر ثوابًا، وأعظم أجرًا من تأديتها في جماعة مع عدم الانقطاع فقد ظن ظنًا باطلًا، وتصور تصورًا فاسدًا. وسبب هذا الظن الباطل، والتصور الفاسد ما خطر له من أن ذلك الخارج حدث من الأحداث، وليس الأمر كذلك كما قدمنا لك.
قال السائل (3) - كثر الله فوائده-: «وسؤال آخر وهو أنه ربما زاد الحدث ببعض المأكولات والمشروبات، فهل يلزمه ترك ذلك المأكول أو المشروب إذا عرف أنه يمد علة الحدث؟.
أقول: لا تلزمه ذلك حتمًا، لأنه أكل ما يحل أكله شرعًا [5ب]، ولم يرد تقييده بمثل هذا القيد أعني كونه لا يزيد في شيء من فضلات البدن، بل يجوز للإنسان أن يأكل ما أذن الله بأكله ما لم يكن في ذلك المأكول ما يتسبب عنه حدوث عله يخشى على نفسه
_________
(1) كلمة غير واضحة في المخطوط.
(2) أخرجه أحمد (2/ 437) والبخاري رقم (793) ومسلم رقم (45/ 397) وأبو داود رقم (856) والترمذي (2/ 103 رقم 303) والنسائي (2/ 124 رقم 884) وابن ماجه رقم (1060) من حديث أبي هريرة.
(3) في هامش المخطوط ما نصه: هذا السؤال متأخر عن السؤال الذي بعده(5/2612)
منها الهلاك، أو بضرر البدن بمرض، فإن الله- سبحانه- قد نهى عباده عن أن يقتلوا أنفسهم، ونهاهم عن أن يأكلوا أو يشربوا ما يضر بأبدانهم، فهذا الجنس من المأكول والمشروب ليس مما أذن الله بأكله أو شربه، بل مما نهى عنه عباده، وليس مسألة السؤال من هذا القبيل، فإن المفروض أن الرجل الذي وقع السؤال عنه قد صار معتلًا بتلك العلة ولا يحصل باستعمال هذا النوع المسؤول عن أكله وشربه إلا مجرد الزيادة.
وقد عرفت أنه لا فرق بين أن يكون الخارج مطبقًا كثيرًا، أو يأتي في وقت دون وقت، ولكن لا يكون وقت انقطاعه معلومًا عنده، أما لو كان الرجل صحيحًا ليس به علة السلس (1) لكنه إذا استعمل نوعًا خاصًا من المأكول والمشروب حدثت به هذه العلة فلا يبعد أن يقال: إن كان يجد غير هذا المأكول والمشروب بدون مشقة عليه في تحصيله على وجه لا يكون آثمًا به فاجتنابه واجب عليه، لأنه قد حصل ضررًا في بدنه [6أ] ومرض حادث عليه.
وأما إذا كان لا يجد إلا هذا النوع الذي يحدث به هذه العلة، ولا يجد غيره، وقد أجاز الله المضطر الانتفاع أكلًا وشربًا بما حرمه عليه تحريمًا منصوصًا عليه، معلمًا بالدليل الصحيح كما في قوله- سبحانه-: {إلا ما اضطررتم إليه} (2) فجواز الأكل أو الشرب لما هو حلال في أصله، ولكنه يحدث به في البدن مثل ذلك الحادث ثابت بفحوى الخطاب (3)، وهو مما وقع الاتفاق بين أهل العلم على العمل به، حتى وافق في
_________
(1) قال النووي في «المجموع» (2/ 559) سلس البول هنا بكسر اللام وهي صفة للرجل الذي به هذا المرض، وأما سلس بفتح اللام فاسم لنفس الخارج فالسلس بالكسر كالمستحاضة وبالفتح كالاستحاضة.
وقال في «اللسان» (6/ 324): سلس بول الرجل إذا لم يتهيأ أن يمسكه وفلان سلس البول إذا كان لا يستمسكه.
(2) [الأنعام: 119].
(3) تقدم التعريف به.(5/2613)
العمل به النافون للعمل بالقياس والنافون للعمل بالمفاهيم.
فإن قلت: فإذا كان يتمكن من غير هذا النوع الذي تحدث به العلة بالسؤال للناس لا بغير ذلك؟.
قلت فواجب عليه أن يترك السؤال، ويأكل أو يشرب من ذلك النوع الذي يحدث به مثل ذلك، لأنه بوجوده قد صار ممن يحرم عليه السؤال كما يدل ذلك على الأدلة الواردة في تحريم سؤال الناس (1) لمن كان غنيًا، أو قويًا إلا أن يقال: إنه لا يصير بوجود هذا النوع الذي يضره غنيًا، بل يكون وجوده [6ب] في ملكه كعدمه، فهو والحال هذه لم يجد قوت يومه الذي يحرم عليه السؤال معه على تقدير الغني المانع من سؤال الناس بوجود قوت اليوم على ما في ذلك من اضطراب الأقوال واختلاف المذاهب. وبسط الكلام في هذا يطول به البحث، ويخرجنا عن المقصود، فهذان الاحتمالان للمجتهد أن يرجح منهما ما يترجح له بعد توفيه النظر حقه.
قال السائل في غضون كلامه في السؤال الأول المحرر قبل هذا السؤال الذي فرغنا من الجواب عليه: فإن قلتم يلزمه المشي إلى صلاة الجماعة، وتصح صلاته مع الحدث، فهل تصح إمامته بكامل الطهارة أم لا؟ انتهى.
أقول: قد قدمنا أن صلاة الجماعة ليس بفريضة، ولا هي شرط لصحة الصلاة، ولكنها سنة من السنن المؤكدة حسبما أوضحناه، فلا يلزمه المشي حتمًا، ولكنه يسن له
_________
(1) منها ما أخرجه أحمد (1/ 441) وأبو داود رقم (1626) والترمذي رقم (650) وابن ماجه رقم (1840) والنسائي رقم (2593). وهو حديث صحيح.
من حديث بن مسعود مرفوعًا: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش، قالوا يا رسول الله: وما يغنيه؟ قال: خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب».
ومنها ما أخرجه أحمد (3/ 7، 9) وأبو داود رقم (1628) والنسائي رقم (2596) من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف».
وهو حديث حسن.(5/2614)
كما تقدم، وأما كونها تصح إمامة سلس البول (1) ونحوه بكامل الطهارة.
فأقول: قدمنا أن صاحب هذه العلة يفعل ما يفعله من لا عله به، وأن هذا الخارج ليس كسائر الأحداث، بل لا فرق بينه وبين من لا علة به، فظهر من هذا التقرير الذي أسلفنا تحريره أنه يؤم بغيره [7أ] ممن لا علة به، لأنا لا نسلم أنه ناقص طهارة، ثم لو سلمنا أن طهارته ناقصة تنزلًا فلم يأت في الشريعة المطهرة منع ناقص الطهارة عن أن يكون إمامًا، لمن كان كاملها.
وقد كان الصحابة- رضي الله عنهم- من هو كثير المذي (2)، وأطلع على ذلك رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وسئل عنه، ولم يرد في حديث صحيح أو حسن ولا ضعيف أنه نهاه عن أن يؤم بغيره، وهكذا قد كان في عصره مستحاضات (3)، وبلغ ذلك رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وسئل عنه في مواطن، وتكرار ذلك كما تفيده الأحاديث التي قدمنا ذكرها في سؤال المستحاضات لرسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وسؤال من سأله من غيرهن عنهن، ولم يأت في حرف واحد أنه نهاهن عن الإمامة لغيرهن في الصلاة.
_________
(1) أخرج عبد الرازق في مصنفه رقم (582) والبيهقي (1/ 356) كان زيد قد سلس منه البول، وكان يداري منه ما غلب، فلما غلبه أرسله، وكان يصلي وهو يخرج منه.
وأخرج البيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 357) من طريق إسحاق بن راهويه: كان زيد بن ثابت سلس البول وكان يداويه ما استطاع فإذا غلبه صلى، ولا يبالي ما أصاب ثوبه، وقال أحمد في مسائل عبد الله رقم (82): وكان زيد بن ثابت سلس البول محصنه فصلى.
(2) منها ما أخرجه البخاري رقم (132، 178، 269) ومسلم رقم (17، 18، 19/ 303) وأبو داود رقم (206) والترمذي رقم (114) والنسائي رقم (1/ 96، 97) وابن ماجه رقم (504) عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت رجلًا مذاء، فأمرت المقداد أن يسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله: فقال: «فيه الوضوء».
(3) تقدم ذكرهن خلال الأحاديث المتقدمة.(5/2615)
وقد كان في زمنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من به جراحات (1) يكثر خروج الدم ونحوه منها، ولم يرد عنه النهي عن أن يؤموا بغيرهم. وقد كان في عصره من يتطهر بالتيمم، ولم يثبت عنه أنه نهاهم عن أن يصلوا بغيرهم [7ب]، بل ثبت أنه قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لعمران بن حصين: «عليك بالصعيد فإنه يكفيك»، وهو في الصحيحين (2) وغيرهم.
وثبت أنه قال لأبي ذر: «إن الصعيد طهور لمن لم يجد الماء عشر سنين»، وهو في مسند أحمد (3)، وسنن أبي داود (4) وغيرهما (5). بل ثبت أن عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل صلى بأصحابه بالتيمم وكان جنبًا، فذكروا ذلك للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: «يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟»، فقال: نعم، ذكرت قول الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا} (6) فتيممت وصليت، فضحك رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ولم يقل شيئًا، وهو حديث مشهور (7) معروف مروي في كتب الحديث، وكتب السير.
_________
(1) أخرج مالك (1/ 62) وعبد الرازق في مصنفه (1/ 578 - 581) وابن سعد في «الطبقات» (3/ 350) والدراقطني (1/ 224) والبيهقي (1/ 357) وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 295) وقال: رواه الطبراني.
عن عمر رضي الله عنه أنه لما طعن كان يصلي وجرحه يثغب دمًا.
(2) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (344) ومسلم رقم (682).
(3) في «المسند» (5/ 147، 155).
(4) في «السنن» رقم (332، 333).
(5) كالنسائي (1/ 171) وابن أبي شيبه في «المصنف» (1/ 156 - 157).
(6) [النساء: 29].
(7) أخرجه أحمد (4/ 203) والدارقطني (1/ 178 رقم 12) وابن حبان في صحيحه رقم (1311 - 1313). والحاكم في «المستدرك» (1/ 177) وصححه ووافقه الذهبي.
وأخرجه البخاري (1/ 454) معلقًا. وقال الحافظ: «هذا المعلق وصله أبو داود والحاكم وإسناده قوي ... ».
والخلاصة أن الحديث صحيح.(5/2616)
والظاهر أن أصحابه كانوا متوضئين، ولهذا أنكروا عليه، وكان الماء موجودًا، ولو كان معدومًا لم ينكروا عليه، ولا كانت له حاجة تدعوه إلى الاستدلال بالآية، بل كان سيتعذر بعدم وجود الماء، وهكذا وقع من غيره من الصحابة كما رواه أحمد (1) وغيره عن بن عباس أنه صلى بجماعة من الصحابة وهو متيمم من جنابة، وفيهم عمار بن ياسر، وأخبرهم بن عباس بذلك، ولم ينكر عليه أحد منهم. فعرفت بمجموع ما ذكرناه المنع من كون من به سلس البول ونحوه ناقص طهارة. ثم على [8أ] التسليم فلا دليل يدل على المنع، بل الدليل قائم على الجواز، ومفيد للصحة كما أوضحناه (2).
قال السائل- كثر الله فوائده-: «وفرع هذه المسألة، وهو أن السائل يصلي مع الجماعة بالحدث لإذن أهل العلم له بذلك كما تقدم، ولخوف أن تكون صلاة الجماعة شرطًا كما هو مذهب أهل الظاهر ومن وافقهم، ثم إنه يقضي الصلاة في بيته لأجل إمكان الصلاة على طهارة، وتناول في ذلك حديث (3) الرجلين اللذين صليا بالتيمم، فلما وجدا الماء أعاد أحدهما، ولم يعد الآخر، فذكرا ذلك للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال للذي لم يعد: «أصبت السنة»، وقال للآخر: «لك الأجر مرتين» وهذا الرجل قد اتخذ القضاء ديدنًا، فهل هو مصيب في ذلك أم لا؟ انتهى.
_________
(1) (3/ 173 رقم 1107) وعزاه صاحب «المنتقى» الأثرم.
(2) وقال الشوكاني في «السيل الجرار» (1/ 534):» وأما ناقص الطهارة فلا دليل يدل على المنع أصلًا، فيصح أن يؤم المتيمم متوضًأ ومن ترك غسل بعض أعضاء وضوئه لعذر بغيره ونحوهما، ولا يحتاج إلى الاستدلال بحديث عمرو بن العاص في صلاته بأصحابه بالتيمم وهو جنب، فإن الدليل على المانع كما عرفت والأصل الصحة.
(3) أخرجه أبو داود رقم (238) والنسائي (1/ 213 رقم 433) من حديث أبي سعيد الخدري وهو حديث حسن.(5/2617)
أقول: إذا كان الحضور مع الجماعة قد أذن به أهل العلم، وفيه الخلوص من الخلاف في كون صلاة الجماعة شرطًا فذلك يدل عل أن هذه الصلاة التي صلاها مع الجماعة صحيحة مجزية، ولو كانت غير صحيحة ولا مجزية لم يأذن بها أهل العلم، ولا تخلص بها الذي به تلك العلة عن كون الجماعة شرطًا عند من يقول به، وصحة هذه الصلاة مستلزم بعدم صحة قضائها، لأن القضاء إنما يكون إستدراكًا لشيء فات، ولم يصح، ولا إجزاء هذه الصلاة المفعولة في الجماعة ممن هو كذلك صحيحة مجزية. فتقرر بهذا أن إعادة هذه الصلاة من ذلك الذي قد صلاها في جماعة ابتداع محض، وشكوك فاسدة، وتنطع لم يأذن الله به.
وإذا عرفت أنه لا وجه للقضاء على مقتضى إرادة هذا القاضي، وهو كونه حضر صلاة الجماعة لإذن أهل العلم له بذلك، وليتخلص من قول من قال: إنها شرط، وأنه لا يصح القضاء على مقتضى هذه الإرادة فهو أيضًا كذلك ليس بقضاء على مصطلح أهل الأصول والفروع، لأنهم [8ب] لا يطلقون أسم القضاء على مثل هذا، فما أحق هذه الصلاة التي انتقل منها من [ ... ] (1) إلى (2) زمن السنة إلى البدعة، ومن الثواب المتضاعف بفعل سنة الجماعة إلى العقاب بفعل بدعة الإعادة بغير وجه أن يقال لها صلاة الشك والوسوسة، لا صلاة القضاء.
ومع هذا فهذه الإعادة لهذه الصلاة قد ذكر حكمها رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال «لا ظهران في يوم» (3)، وقال «لا تصلي صلاة في يوم مرتين» (4)
_________
(1) كلمة غير واضحة في المخطوط.
(2) كلمة غير واضحة في المخطوط.
(3) قال ابن حجر في «تلخيص الحبير» (1/ 156): «لا ظهران في يوم» هو بلظاء المعجمة المضمومة ولم أره بهذا اللفظ. لكن روى الدراقطني في سننه (1/ 415) من حديث ابن رفعه: «لا تصلوا صلاة في يوم مرتين» بإسناد صحيح.
(4) أخرجه أبو داود رقم (579) والنسائي (2/ 114) والدارقطني (1/ 415 رقم 1) والبيهقي (2/ 303) وابن خزيمة (3/ 69) وابن حبان في صحيحة رقم (432) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.(5/2618)
وهذان الحديثان صحيحان ثابتان في دواوين الإسلام، فلم يربح هذا المتشكك من فعله لهذه الصلاة المشكوكة إلا بوقوعه في ما نهى عنه رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: ونفاه وأبطل حكمه وبيينه للناس بيانًا أوضح من شمس النهار. ولا يصح الاستدلال على جواز صلاة الشك والوسوسة هذه بما وقع في الحديث الصحيح للرجلين الذين صليا بالتيمم، ثم وجدا الماء، فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فقال النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- للذي لم يعد: «أصبت السنة»، وقال للآخر: «لك الأجر مرتين» (1)، لأن هذا الذي أعاد لم يكن عنده علم بعدم جواز الإعادة، وقصد خيرًا وكرر عبادة في [ ... ] (2) جاهلًا بأن حكم الشرع في ذلك عدم جواز الإعادة فقال له ما قال، وأرشده إرشادًا في غاية الوضوح، يفهمه كل [
] (3) وبين له أن فعله هذا خلاف ما شرعه الله لعباده وهو عدم الإعادة، وذلك حيث قال لصاحبه: «أصبت السنة» أي أصبت الطريقة التي شرعها الله لعباده، وظفرت بما هو حكم الله في هذه الصلاة، وفيه دلالة على أن صاحبه الذي أعاد بسبب الإعادة غير مصيب للسنة، ولا موافق لها، ولا عامل بحكمه [9أ].
والحاصل أن هذه المقالة النبوية، والعبارة المحمدية قد دلت أن ذلك الذي أعاد الصلاة مبتدع لا متبع، ومخالف للسنة لا موافق لها، ولكنه لما لم يكن ابتداعه عن قصد لعدم علمه بما شرعه الله لعباد في مثل هذه الصلاة التي صلاها بالتيمم، ثم وجد الماء قال له النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ما قال، وليس المراد بالسنة هاهنا ما هو المصطلح عليه عند أهل الأصول، وأهل الفروع، من كونها ما يمدح فاعله، ولا يذم تاركه، فتكون عندهم محتملة بما ليس بواجب، وهو ما يمدح فاعله، ويذم تاركه، فإن هذا
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) كلمة غير واضحة في المخطوط.
(3) كلمة غير واضحة في المخطوط.(5/2619)
اصطلاح متحدد، وعرف حادث ليس بحقيقة لغوية ولا شرعية (1)، بل المراد بالسنة في لسان الشارع ما شرعه الله لعباده أعم من أن يكون واجبًا أو مرغبًا فيه، وليس بواجب، وهذا معلوم لا يخفى، ولكنا أردنا مزيد الإيضاح لدفع ما عسى أن يتوهمه متوهم، أو يغلط فيه غالط، فعرفت بهذا أن قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «أصبت السنة» في قوة قوله: أصبت ما شرعه الله لعباده، ومن أصاب ما شرعه الله لعباده فقد رشد وفاز بالخير كله دقه وجله، وآخره وأوله، ومن لم يصب ما شرعه الله لعباده فهو في الجانب المقابل لجانب الشريعة، وليس إلا البدعة؛ إذ لا واسطة بينهما في الأمور المنسوبة إلى الدين، الداخلة في مسماه حقيقة أو ادعاء.
فإن قلت: قد ثبتت الإعادة في الأحاديث الواردة في من أدرك أئمة الجور الذين يميتون الصلاة كميتة [9ب] الأبدان. بإخراجهم لها عن وقتها المضروب كما في الأحاديث الصحيحة، فإن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال لمن أدرك ذلك من المؤمنين أنهم يصلون الصلاة لوقتها، وأمرهم أن يصلون مع أولئك، وتكون صلاتهم معهم نافلة (2).
أقول ليس في هذا إشكال يرد على ما نحن بصدده من الكلام على مسألة السؤال، فإن هذه الصلاة المعادة قد أخبرهم النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنها ليست بفريضة، ولا بقضاء للفريضة، بل قال: إنها تكون لهم نافلة، والنافلة باب آخر، والمنهي عنه ليس إلا إعادة الصلاة على أنها فريضة، ثم هي أيضًا مفعولة بعد خروج وقت الصلاة، فليس
_________
(1) تقدم التعريف بها.
(2) منها: ما أخرجه أحمد (4/ 160 - 161) والترمذي رقم (219) والنسائي (2/ 112 - 113 رقم 858) وأبو داود رقم (575) وابن حبان في صحيحة رقم (1565) والترمذي (1/ 426) عن يزيد بن الأسود أنه صلى مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الصبح، فلما صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا هو برجلين لم يصليا. فدعا بهما، فجيء بهما ترعد فرائضهما، فقال لهما: «ما منعكما أن تصليا معنا»؟ قالا: قد صلينا في رحالنا، قال: «فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه، فإنها لكما نافلة». وهو حديث صحيح.(5/2620)
هذا من باب إعادة الصلاة في وقتها، والأمر واضح لا يخفى- إن شاء الله-.
قال- كثر الله فوائده-: وأيضًا على أي صفة يحضر هذا الرجل صلاة الجمعة؟ أفتونا علمكم الله ما لم تكونوا تعلمون. انتهى.
أقول: يحضر الجمعة على الصفة التي يحضر بها باقي الصلوات، فالجمعة صلاة من الصلوات، واختصاصها بالخطبة قبلها ليس ذلك مما يخرج عن كونها صلاة من الصلوات، ولقد أطال الناس في شروط هذه العبادة لأعني صلاة الجمعة (1) بما لا طائل تحته عند من جرد نفسه للعمل بالكتاب والسنة، ولم يعول على مجرد الرأي المحض، وتأمل- أرشدك الله- مقالات الناس في هذه العبادة، فهذا يقول لا يجب إلا في مكان مخصوص كالمصر الجامع في المكان المستوطن، وهذا يقول لا يجب إلا مع وجود الإمام الأعظم، وهذا يقول لا يجب إلا بعدد مخصوص [10أ] كقول من قال بالأربعين أو بالسبعين، أو بالاثنى عشر، أو بالثلاثين، أو نحو ذلك من الأقوال الفاسدة التي لا ترجع إلى عقل ولا نقل.
ويا ليت شعري ما الحامل لهم على هذا وأمثاله في مثل هذه العبادة الجليلة، والصلاة الفاضلة! وقد بحثنا عن أدلتهم أتم بحث. فغاية ما يجده الإنسان عند من له نظر في الأدلة على وجه يكنه الاستدلال على ما قاله هو أومن يقلده هو وقوع واقعة فعلية أو اتفاقية.
ويالله العجب كيف يستدل بمثل ذلك على كون الشيء شرطًا! فإن الشرط هو الذي يؤثر عدمه في عدم المشروط، فلا تثبت إلا بدليل خاص، وهو ما يفيد نفي الذات من حيث هي، أو نفي ما لا تصح. ويجري بدونه.
وهكذا الفرض لا يثبت إلا بدليل خاص كالأمر بالفعل أو النهي عن الترك، أو التصريح بأنه فرض أو واجب أو نحو ذلك، فانظر- أرشدك الله- هل صح عن الشارع من وجه صحيح أنه قال لا صلاة جمعة إلا في مسجد جامع، أو في مكان مستوطن، أو
_________
(1) انظر «فتح الباري» (2/ 423).(5/2621)
مع وجود إمام أعظم، أو بعدد هو كذا أو كذا، أو قال لا يصح صلاة جمعة، أو لا يجري بكذا أو كذا أو كذا، أو وقع منه الأمر بذلك، أو النهي عن تركه، أو صرح بأنه فرض أو واجب! فيالله العجب ما للناس قيدوا هذه العبارة بقيود، وشرطوها بشروط تقلل عددها، وتقصر مددها، وتقسطها على كثير من العباد. وبالجملة فالبحث عن هذا يطول، وقد أوضحته في مؤلفاتي (1)، وتكلمت على دفع ما لم يكن عليه برهان من الله من الأقوال الباطلة في هذه الصلاة.
وفي هذا المقدار من جواب سؤالات السائل- عافاه الله- كفاية، فخير الكلام ما أفاد المرام.
كتبه جامعه محمد بن على الشوكاني- غفر الله لهما [10ب]-.
_________
(1) انظر «السيل الجرار» (1/ 601 - 610) بتحقيقنا.
«نيل الأوطار» (2/ 496 - 499) حيث قال: «ورأى لأنه لم يثبت دليل على اشتراط عدد مخصوص. وقد صحت الجماعة في سائر الصلوات باثنين، ولا فرق بينهما وبين الجماعة، ولم يأت نص من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الجمعة لا تنعقد إلا بكذا وهذا القول هو الراجح عندي».(5/2622)
75 - 16/ 5 بحث في دفع من قال أنه يستحب الرفع في السجود
تأليف
محمد بن على الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(5/2623)
بسم الله الحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الأكرمين، وصحبه الأفضلين:
وبعد:
فإنه وقع البحث مع جماعة من أهل العلم- كثر الله فوائدهم- فيما ورد في الرفع من السجود، وطلبوا مني النظر في ذلك فأقول:
اعلم أن الروايات كلها عن العدد الجم من الصحابة (1) - رضي الله عنهم- عن رسول
_________
(1) (منها) عند افتتاح الصلاة: فقد روي ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو خمسين رجلًا من الصحابة منهم العشرة المبشرين بالجنة. فقد روي حديث رفع اليدين من حديث أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن عمر، ومالك بن الحويرث، وجابر، وأبي هريرة، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، وعمير الليثي، والبراء بن عازب، ووائل بن جحر ... وغيرهم.
أما حديث أبي بكر. فقد أخرجه البييهقي في «السنن الكبرى» (2/ 73 - 74) وقال البيهقي رواته ثقات.
وأما حديث عمر، فقد أخرجه البيهقي أيضًا في «السنن» (2/ 74).
وأما حديث علي، فقد أخرجه أحمد (1/ 73) والبخاري في رفع اليدين رقم (921) وأبو داود رقم (744) والترمذي رقم (3323) وابن ماجه رقم (864) والدارقطني (1/ 287 رقم1) والبيهقي (2/ 74) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأما حديث بن عمر، أخرجه البخاري رقم (736) ومسلم رقم (22/ 290) عن بن عمر قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه ثم يكبر».
وأما حديث مالك بن الحويرث أخرجه البخاري رقم (737) ومسلم رقم (391) والطيالسي في «المسند» (1/ 176 رقم 1253) وأحمد (3/ 346) والدرامي (1/ 285) والنسائي (2/ 123) وأبو داود رقم (745) وابن ماجه رقم (859) وأبو عوانة (2/ 94) والدارقطني (1/ 292 رقم 15) والبيهقي (2/ 71). وهو حديث صحيح.
وأما حديث جابر، أخرجه أحمد (3/ 310) وابن ماجه رقم (868) وهو حديث صحيح.
وأما حديث أبي هريرة، أخرجه أبو داود رقم (738) وابن ماجه رقم (860) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 224) وهو حديث صحيح.
وأما حديث أبي موسى. فقد أخرجه الدارقطني (1/ 292 رقم 16) ورجاله ثقات.
وأما حديث عبد الله بن الزبير، فقد أخرجه أبو داود رقم (739) وهو حديث صحيح.
وأما حديث عبد الله بن عباس. فقد أخرجه أحمد (1/ 327) وأبو داود رقم (740) وابن ماجه رقم (865) وهو حديث صحيح.
وأما حديث عمير الليثي. فقد أخرجه ابن ماجه رقم (861) والطبراني في «الكبير» (17/ 48 رقم 104) وأبونعيم في «الحلية» (3/ 358) ووهم ابن ماجه فسماه عمير بن حبيب وإنما هو عمير بن قتادة الليثي. وهو حديث صحيح.
وأما حديث البراء، فقد أخرجه أبو داود رقم (749) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 224) والدارقطني (2/ 293 رقم 18 - 21 - 23) والبيهقي (2/ 76) وهو حديث ضعيف.
وأما حديث وائل بن حجر. فقد أخرجه مسلم رقم (401) وأبو داود رقم (724، 726) والنسائي (2/ 123) وابن ماجه رقم (867) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 223) والدارقطني (1/ 292 رقم 14) والبيهقي (2/ 7) وأحمد (4/ 316 - 317) وهو حديث صحيح.
(ومنها): الرفع عند الركوع وعند الاعتدال:
أخرج البخاري رقم (737) ومسلم رقم (26/ 391) عن مالك بن الحويرث قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع حتى يبلغ بهما فروع أذنيه. وهو حديث صحيح.
وأخرج البخاري في صحيحة رقم (739) عن نافع أن ابن عمر: «كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو حديث صحيح.
وانظر: «كتاب رفع اليدين في الصلاة» للبخاري (ص22) فقد قال: وكذلك يروى عن سبعة عشر نفسًا من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنهم كانوا يرفعون أيديهم عند الركوع ثم ذكرهم.(5/2629)
الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ليس فيها إلا الرفع في الثلاثة المواطن (1) فقط عند التكبير للدخول في الصلاة، وعند الانحطاط إلى الركوع، وعند الارتفاع منه، ولم ينقل عن أحد منهم أنه روى الرفع في السجود، بل ثبت من طرق عن عبد الله بن عمر- رضي
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.(5/2630)
الله عنهما- أنه نفى ذلك وقال: لم يفعله رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ (1) -، وهكذا عن غيره.
والحاصل أن جميع دواوين الإسلام الست الأمهات وغيرها ليس فيها ذكر الرفع في السجود، بل اقتصروا على رواية الرافع في الثلاثة المواطن (2) المتقدم ذكرها فحسب. فما ورد مما يخالف هذا فهو إن كان رواية ثقة من الشاذ (3) المعدوم من قسم الضعيف، وإن كان راويه غير ثقة كان من المنكر (4) وهو أشد ضعفًا من الشاذ، وبهذا القدر يندفع التعلق برواية من شذ أنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- رفع في السجود، فإن أردت زيادةً على
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحة رقم (735) ومسلم رقم (390) عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرفع يديه حذو منكبيه، إذا افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضًا وقال: «سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد» وكان لا يفعل ذلك في السجود.
وأخرج مسلم في صحيحة رقم (21/ 390) وفيه « ... ولا يرفعهما بين السجدتين».
(2) أخرج البخاري في صحيحة رقم (735) ومسلم رقم (390) عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرفع يديه حذو منكبيه، إذا افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضًا وقال: «سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد» وكان لا يفعل ذلك في السجود.
وأخرج مسلم في صحيحة رقم (21/ 390) وفيه «ولا يرفعهما بين السجدتين».
(3) الشاذ: من شذ يشذ ويشذ، شذوذًا، إذا انفرد، والشاذ: المنفرد عن الجماعة ..
قال الشافعي: هو أن يروي الثقة حديثًا يخالف ما روى الناس وليس من ذلك أن يروي ما لم يرو غيره.
أقسام الحديث الشاذ: يكون الشذوذ في المتن، ويكون في السند ويكون فيهما معًا.
حكم الحديث الشاذ: ضعيف مردود لأنه راويه وإن كان ثقة لكنه لما خالف من هو أقوى منه وأضبط علمنا أنه لم يضبط هذا الحديث فيرد حديثه ولا يقبل.
انظر «السعي الحثيث إلى شرح اختصار علوم الحديث» د. عبد العزيز دخان (ص218 - 219).
(4) المنكر: قال د. عبد العزيز دخان في «السعي الحثيث» (223): وهو كالشاذ إن خالف راويه الثقات فمنكر مردود وكذا إن لم يكن عدلًا ضابطًا، وإن لم يخالف، فمنكر مردود».
المنكر لغة، اسم مفعول. من أنكره، أي جمله ولم يعرفه.
ويطلق المنكر أيضًا على الشيء القبيح والأمر القبيح.
وادق تعريف للحديث المنكر أن يقال: هو الحديث الذي يرويه الضعيف، مخالفًا لرواية من هو أوثق منه أو أولى منه.(5/2631)
هذا فاعلم أن النسائي في سننه (1) في باب (2) رفع اليدين للسجود أخرج عن مالك بن الحويرث «أنه رأي النبي- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- رفع يديه في صلاته» وفيه أنه كان يرفعهما إذا سجد، وإذا رفع رأسه [1أ] من السجود، ثم ذكر مثله عنه من طريق ثانية (3)، ومن طريق ثالثة (4) في هذا الباب (5)، وهي كلها من طريق نصر بن عاصم الأنطاكي (6) عن مالك بن الحويرث، ثم ذكر النسائي (7) في باب (8) الرفع من السجدة الأولى عن مالك بن الحويرث مثله، وهي أيضًا من طريق نصر بن عاصم عنه.
فجملة الطرق لحديث مالك بن الحويرث أربع، لكنها لما كانت كلها من طريق نصر ابن عاصم كانت بمنزلة طريق واحدة، ونصر بن عاصم (9) هذا لين الحديث لا يقوم
_________
(1) رقم (1058) وهو حديث صحيح.
(2) باب رقم (36).
(3) في سننه رقم (1086) قال: حدثنا محمد بن المثني قال: «حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا سعيد عن قتادة عن نصر بن عاصم عن مالك بن الحويرث أنه رأي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع يديه فذكر مثله». وهو حديث صحيح.
(4) في سننه رقم (1087) وهوحديث صحيح.
(5) رقم (36) قال: اخبرنا محمد بن المثني قال: حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة عن نصر ابن عاصم عن مالك بن الحويرث أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا دخل في الصلاة فذكر نحوه وزاد فيه وإذا ركع فعل مثل ذلك وإذا رفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك وإذا رفع رأسه من السجود فعل مثل ذلك».
(6) كذا في المخطوط وصوابه نصر بن عاصم الليثي البصري. انظر «تهذيب التهذيب» (4/ 217).
(7) في سننه رقم (1143) وهو حديث صحيح.
(8) رقم 84 قال: أخبرنا محمد بن المثني قال: حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة عن نصر ابن عاصم عن مالك بن الحويرث أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه وإذا ركع فعل مثل ذلك وإذا رفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك وإذا رفع رأسه من السجود فعل مثل ذلك كله يعني رفع يديه.
(9) نصر بن عاصم الليثي البصري. قال أبو داود كان خارجيًا.
قال النسائي: ثقة.
وذكره بن حبان في «الثقات».
انظر: «تهذيب التهذيب» (4/ 218 - 219).(5/2632)
بمثابة الحجة، مع أنه قد أختلف عليه في ذلك فأخرج النسائي (1) عن عبد الأعلى قال: حدثنا خالد، حدثنا شعبه عن قتادة، عن نصر، عن مالك أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «كان إذا صلى رفع يديه حين يكبر حيال أذنيه، وإذا أراد أن يركع، وإذا رفع رأسه من الركوع. واقتصر على هذه المواطن، ولم يذكر الرفع في السجود، فتقرر لك بهذا أنه قد حصل الاختلاف في حديث مالك بن الحويرث، وذلك اضطراب يوجب أن يكون من قسم الضعيف، فكيف ومداره على ضعيف، وهو نصر بن عاصم.
فإن قلت: قد روى النسائي في سننه (2) في باب (3) رفع اليدين بين السجدتين نحو ذلك من غير طريق مالك بن الحويرث، فقال: أخبرنا موسى عن عبد الله بن موسى البصري قال: أخبرنا انضر بن كثير أبو سهل الأزدي قال: صلى إلى جنبي عبد الله بن طاووس بمنى في مسجد الخيف، فكان إذا سجد السجدة الأولى فرفع رأسه منها رفع يديه تلقاء وجهه، فأنكرت أنا ذلك، فقلت لوهيب بن خالد: إن هذا يصنع [1ب] شيئًا لم أر أحد يصنعه، فقال له وهيب: تصنع شيئًا لم أر أحد يصنعه، فقال عبد الله بن طاووس: رأيت أبي يصنعه، وقال: إني رأيت بن عباس يصنعه، وقال عبد الله بن عباس:
_________
(1) في سننه رقم (880) وهو حديث صحيح.
(2) رقم (1146).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (740) وهو حديث صحيح.
(3) رقم (87): رفع اليدين بين السجدتين تلقاء الوجه.(5/2633)
«رأيت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يصنعه».
قلت: هذا النضر بن كثير هو السعدي (1) البصري. قال بن حبان (2) فيه يروي الموضوعات عن الثقات لا يجوز الاحتجاج به بحال. انتهى.
فكيف تثبت هذه السنة برواية هذا الكذاب! وبرواية مثل نصر بن عاصم مع الاختلاف عليه في ذلك إثباتًا ونفيًا، مع ما فيه من الضعف! هذا على تقدير أن رواية هذا الكذاب، وهذا الضعيف لم يخالف ما هو أولى منها، فكيف وهي مخالفة لرواية الجمع الجم من الصحابة! حتى قيل أنهم خمسون صحابيًا، وقيل أكثر من ذلك.
فإن قلت: قد روي (3) أنه كان يرفع في كل خفض ورفع. قلت: إذا صح ذلك
_________
(1) النضر بن كثير السعدي ويقال: الضبي أبو سهل البصري العابد.
قال أبو حاتم: سمعت أن حنبل يقول: هو ضعيف الحديث.
قال البخاري: عنده مناكير، وقال في موضع آخر: عنده نظر.
قال النسائي: صالح.
«تهذيب التهذيب» (4/ 226).
(2) ذكره ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (4/ 226).
قال الحافظ في «الفتح» (2/ 223): وأصح ما وقفت عليه من الأحاديث في الرفع في السجود ما رواه النسائي من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن نصر ابن عاصم عن مالك بن الحويرث «أنه رأي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه في صلاته إذا ركع، وإذا رفع رأسه من ركوعه، وإذا سجد، وإذا رفع رأسه من سجوده حتى يحاذي بهما فروع أذنيه».
(3) أخرجه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (15/ 46 - 47 رقم5831) عن ابن عمر: أنه كان يرفع يديه في كل خفض، ورفع وركوع، وسجود وقيام، وقعود بين السجدتين، ويزعم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل ذلك».
وقال الطحاوي عقبه: وكان هذا الحديث من رواية نافع شاذًا لما رواه عبيد الله وقد روي هذا الحديث عن نافع بخلاف ما رواه عنه عبيد الله.
قال الحافظ في «الفتح» (2/ 223)» وهذه رواية شاذة فقد رواه الإسماعيلي عن جماعة من مشايخه الحفاظ عن نصر بن علي المذكور بلفظ عياش شيخ البخاري- الحديث رقم (739) حدثنا عياش قال: حدثنا عبد الأغلى قال: حدثنا عبيد الله عن نافع «أن بن عمر كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال سمع الله لمن حمده رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه. ورفع ذلك ابن عمر إلى نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواه حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ورواه بن طهمان عن أيوب وموسى بن عقبة مختصرًا.(5/2634)
بحث في أن السجودَ بمجرّده من غير انضمامه إلى صلاةٍ عبادةٌ مستقلةٌ يأجر اللهُ عبده عليها
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(5/2638)
نقيس حمل هذا الخفض وارفع على ما بينته رواية (1) الجمهور، بل رواية الكل لا على ما في رواية ذلك الكذاب والضعيف، وليست بزيادة يجب العمل بها، أو الحمل عليها، فإن العمل بالزيادة إنما تكون بعد أن تقوم بها الحجة، ويتعين الأخذ بها، لا مثل هذه الزيادة التي لا يجوز العمل عليها، ولا الأخذ بها، فضلًا عن أن تكون مقبولة.
وفي هذا كفاية. والله ولي التوفيق، وقد ذكر ابن القيم في الهدي (2) أن رواية الرفع في السجود وهم، فليكتب كلامه هنا [2أ].
_________
(1) في المخطوط مكرر.
(2) (1/ 211 - 212) وانظر «جامع الفقه» موسوعة الأعمال الكاملة للأمام ابن القيم الحوزية (1/ 89 - 91).(5/2635)
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على [سيد] (1) المرسلين وآله الأكرمين- ورضي الله عن الصحابة أجمعين-.
اعلم أن السجود (2) لمجرده من غير انضمامه إلى صلاة ودخوله فيها عبادة مستقلة يأجر الله عبده عليها والنصوص على ذلك في الكتاب العزيز معروفة والحمل في بعضها غلى السجود الكائن في الصلاة أو على نفس الصلاة هو مجاز لابد فيه من علاقة وقرينة ودليل ومن ذلك السجودات للتلاوة فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينها بالسجود المنفرد وغيرها مثلها يحمل على السجود المنفرد.
وهكذا يحمل المنفرد على السجود أو على نفس الصلاة ما ثبت في الصحيح (3) من حديث معدان بن طلحة اليعمري قال لقيت ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت أخبرني بعمل أعمله يدخلني الجنة أو قال قلت ما أحب الأعمال إلى الله عز وجل فسكت ثم سألته فسكت ثم سألته الثالثة فقال سألت عن ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة» ثم لقيت أبا الدرداء فسألته فقال لي مثل ما قال لي ثوبان هذا لفظ
_________
(1) في الأصل: سيدي والصواب ما أثبتناه.
(2) قال ابن القيم في «زاد المعاد» (1/ 229): أول سورة أنزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اقرأ) على الأصح وختمها بقوله: {واسجد وأقترب} [العلق: 19]، بأن السجود لله يقع من المخلوقات كلها علويها وسفليها، وبأن الساجد أذل ما يكون لربه وأخضع له، وذلك أشرف حالات العبد. فلهذا كان أقرب ما يكون من ربه في هذه الحالة، وبأن السجود هو سر العبودية، فإن العبودية هي الذل والخضوع، يقال: طريق معبد، أي ذللته الأقدام، ووطأته. وأذل ما يكون العبد وأخضع إذا كان ساجدًا.
(3) أخرجه مسلم رقم (488) والترمذي رقم (388) والنسائي (2/ 228) وابن ماجه رقم (1423) وهو حديث صحيح.(5/2643)
مسلم (1) وكل عربي لا يفهم من قوله سجدة إلا السجدة المنفردة وأما السجود الذي في الصلاة فأجره داخل في أجر الصلاة.
وثبت في الصحيح (2) من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي كنت أبيت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: «سل» فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة فقال: «أو غير ذلك» فقلت هو ذاك. قال: «فأعني على نفسك بكثرة السجود». هذا لفظ مسلم (3) فصدق هذا السجود على السجود المنفرد هو المعنى الحقيقي ومثل هذا حديث عائشة [رضي الله عنها] (4) الثابت عنها في الصحيح (5) أنها فقدت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدها على بطن قدمه وهو في المسجد وهما منصوبتان مهو يقول: «اللهم إني أعوز برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوز بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»، وهكذا يصدق على السجود المنفرد ما ثبت في ................................
_________
(1) في صحيحة رقم (225/ 488).
(2) أخرج مسلم في صحيحة رقم (226/ 489) عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: «سل» فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: «أو غير ذلك» قلت: هو ذلك. قال: «فأعني على نفسك بكثرة السجود».
قال القاضي عياض في «أكمال المعلم بفوائد مسلم» (2/ 304): ليزداد من القرب ورفعة الدرجات حتى يقرب من منزلته وإن لم يساره فيها، فإن السجود معارج القرب ومدراج رفعة الدرجات قال تعالى: {واسجد وأقترب} [العلق: 19]. وقال- عليه السلام- في الحديث الآخر: «لا تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة» ولأن السجود غايته التواضع لله، والعبودية له، وتمكين اعز عضو في الإنسان وأرفعه وهو وجهه من أدنى الأشياء وأخسها وهو التراب والأرض المدوسة بالأرجل والنعال وأصله في اللغة: الميل.
(3) في صحيحة رقم (226/ 489).
(4) زيادة يستلزمها السياق.
(5) أخرجه مسلم في صحيحة رقم (222/ 486).(5/2644)
الصحيح (1) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء».
وأخرج النسائي (2) من حديث عائشة [رضي الله عنها] (3) قالت: «كان [1أ] رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي إحدى عشرة ركعة فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر سوى ركعتي الفجر ويسجد قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية».
وقد أخطأ صاحب عدة الحصن الحصين (4) في الحكم منه بأن هذه السجدة موضوعة فقد نبهت على ذلك في شرحي على العدة (5).
وأخرج ابن أبي شبيبة في مصنفه (6) عن أبي سعيد أنه قال: ما وضع رجل جبهته لله ساجدًا فقال يا رب اغفر لي ثلاثًا إلا رفع رأسه وقد غفر له، وهذا وإن كان موقوفُا عليه فله حكم الرفع لأن ذلك لا يقال من طريقة الرأي وأخرجه الطبراني (7) عن أبي مالك عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8) رواه الطبراني في الكبير (9) من رواية محمد بن جابر عن أبي مالك هذا قال ولم أر من ترجمهما (10).
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحة (482).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (875) والنسائي (2/ 226) وهو حديث صحيح.
(2) رقم (1749) وهو حديث صحيح.
(3) زيادة يستلزمها السياق.
(4) (ص169).
(5) (ص 168 - 169).
(6) (10/ 221 - 222 رقم9282).
(7) في «الكبير» (8/ 483 رقم8197).
(8) (2/ 129).
(9) في «الكبير» (8/ 483 رقم8197).
(10) «قلت: محمد بن جابر هذا يترجح لدي أنه ابن سيار المترجم في «تهذيب الكمال» (24/ 565) لأمور عدة منها:
1 - التقارب في الطبقة.
2 - أن ابن سيار هذا كوفي، وشيخه أبو مالك هو سعد بن طارق الأشجعي من أهل الكوفة.
3 - نكارة المتن، فإذا كان محمد بن جابر هو ابن سيار- كما رجحته- فهو أولى من تلزق به هذه النكارة حيث إن من دونه أفضل حالًا منه، وابن سيار وشهور برواية المناكير.
4 - شهرته تكفي عند الرواية عنه عن تعيينه، خلافًا لغيره ممن يسمى بهذا الاسم، فهم دون الشهرة عنه فغالبًا ما يحتاجون عند الرواية عنهم إلى زيادة نسبة تعيينهم.
وهذه النقطة كثيرًا ما تجدها في مصنفات الطبراني فإنه إذا جاء عنده راو غير مشهور فغالبًا ما يعينه» 1هـ.
«الفرائد على مجمع الزوائد» خليل بن محمد العربي (ص269 - 297).(5/2645)
وأخرج بن ماجه (1) بإسناد صحيح عن عبادة بن الصامت أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول ما من عبد يسجد لله سجدة إلا كتب الله له بها حسنة ومحا عنه بها سيئة ورفع له بها درجة فاستكثروا من السجود.
وأخرج أحمد (2) وابن ماجه (3) بإسناد جيد عن أبي فاطمة قال: يا رسول الله أخبرني بعمل استقيم عليه وأعمل قال عليك بالسجود فإنه لا يسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة ولفظ أحمد (4) أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: «يا أبا فاطمة إن أردت أن تلقاني فأكثر السجود».
وأخرج الطبراني في الأوسط (5) بإسناد رجاله ثقات من حديث حذيفة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من حالة يكون العبد أحب إلى الله من أن يراه ساجدًا يعفر وجهه في التراب».
وأخرج أحمد (6) والبزار (7) بإسناد صحيح من حديث أبي ذر قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) في «السنن» رقم (1424). وهو حديث صحيح.
(2) في «المسند» (3/ 428).
(3) في «السنن» رقم (1422) وهو حديث صحيح.
(4) في «المسند» (3/ 428).
(5) رقم (6075).
(6) في «المسند» (5/ 148).
(7) في مسنده (1/ 345 - 346 رقم 718 - كشف).
وأورده الهيثمي في «المجمع» (2/ 258) وقال: رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح.(5/2646)
ٍٍ
يقول: «من سجد لله سجدة كتب الله له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة»، ومعلم أن المراد بهذه السجدات المذكورة في هذه الأحاديث هي السجدات المنفردة كما هو المعنى الحقيقي وصدقه مجاوًا على السجود الكائن في الصلاة لا يضرنا ولا يدفع صدقه على السجود المنفرد والحاصل أن السجود نوع من أنواع العبادة مرغب فيه بهذه الحاديث وغيرها يتقرب به العبد كما يتقرب بالصلاة لورود التغيب والوعد النبوي بالأجر الجزيل عليه وفعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبعض أنواعه لا يمنع من فعل غيره كما هو شأن الترغيب العام بالقول ومثل هذا لا يخفى فيسجد في أي وقت شاء على أي صفة أراد ومن أنكر عليه ذلك فهو لا يدري بهذه الأحاديث التي ذكرناها وأشرنا إلى غيرها أو يدري بها ولكنه لا يفهم أن المشروعية ثبتت بدون ذلك [1ب] ومن قال بأن المشروع من السجود إنما هو بعض أنواعه مثل سجود التلاوة (1) والشكر (2) ونحو ذلك فيقال له يلزم هذا في
_________
(1) (منها): ما أخرجه مسلم في صحيحة رقم (108/ 578) وأبو داود رقم (1407) والترمذي رقم (573، 574) وقال: حديث حسن صحيح والنسائي (2/ 161، 162) وابن ماجه رقم (1058).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سجدنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في: {إذا السماء انشقت} [الانشقاق: 1]. و {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق: 1].
وهو حديث صحيح.
ومنها ما أخرجه البخاري رقم (1071) عن ابن عباس قال: «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجد بالنجم».
(2) منها: ما أخرجه أحمد (5/ 45) وأبو داود رقم (2774) والترمذي رقم (1578) وابن ماجه رقم (1394) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وهو حديث حسن.
عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كان إذا جاءه خبر يسره خر ساجدًا لله».
قال ابن القيم في «إعلام الموقعين» (2/ 448 - 449): فإن النعم نوعان: مستمرة، ومتحددة، فالمستمرة شكرًا لله عليها، وخضوعًا له، وذلًا في مقابلة فرحة النعم، وانبساط النفس لها وذلك من أكبر أدوائها، فإن الله سبحانه لا يحب الفرحين ولا الآشرين. فكان دواء هذا الداء الخضوع والذل والانكسار لرب العالمين، وكان سجود الشكر من تحصيل هذا المقصود ما ليس في غيره.
ونظير هذا السجود عند الآيات التي يخوف الله بها عباده كما في الحديث: «إذا رأيتم آية فاسجدوا».
أخرجه أبو داود رقم (1197) والترمذي رقم (3891) وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقد فزع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند رؤية انكساف الشمس إلى الصلاة، وأمر بالفزع إلى ذكره «- أخرجه البخاري رقم (1046) ومسلم رقم (901) ومعلوم أن آياته تعالى لم تزل مشاهدة معلومة بالحس والعقل، ولكن تجددها يحدث للنفس من الرهبة، والفزع إلى الله ما لا تحدثه الآيات المستمرة فتجدد هذه النعم في اقتضائها لسجود الشكر كتحدد تلك الآيات في اقتضائها للفزع إلى السجود والصلوات.
قال ابن القيم في «عدة الصابرين» (ص172 - 174): فإن قيل: فنعم الله دائمًا مستمرة على العبد فما الذي اقتضى تخصيص النعمة الحادثة بالشكر دون الدائمة وقد تكون المستدامة أعظم».
قيل: الجواب من وجوه:
1 - إن النعمة المتجددة تذكر بالمستدامة، والإنسان موكل بالأدنى.
2 - إن هذه النعمة المتجددة تستدعي عبودية مجددة وكان أسسها على الإنسان وأحبها إلى الله السجود شكرًا له.
3 - إن المتجددة لها وقع في النفوس والقلوب بها أعلق، ولهذا يهني بها ويعزي بفقدها.
4 - إن حدوث النعم توجب فرح النفس وانبساطها، وكثيرًا ما يجر ذلك إلى الأشر والبطر، والسجود ذل لله وعبودية وخضوع.(5/2647)
الصلاة فيقال ليس له أن يتنفل ألا النفل الذي وقع منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يزيد عليه في عدد ولا صفة ولا يفعله في زمان غير الزمان الذي فعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه ولا يخفاك أن هذا القول جهل عظيم لأن الترغيبات في مطلق النفل من الصلاة تدل على أن الاستكثار من صلاة النفل سنة ثابتة وشريعة قائمة ما لم يكن الوقت وقت كراهة (1) فهكذا مجرد السجود فإنه ثبت
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحة رقم (586) ومسلم رقم (288/ 827) من حديث أبي سعيد الخدري قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا صلاة بعد الصبح حتى تبزغ الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب».
وأخرج مسلم في صحيحة رقم (293/ 831) عن عقبة بن عامر الجهني قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين تضيف الشمس للغروب».(5/2648)
الترغيب فيه والأجر العظيم لفاعله كما تقدم ولا سيما وهو من أسباب القرب من الرب عز وجل كما تقدم (1) من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» ثم أمره بإكثار الدعاء عند هذا القرب الكائن للساجد بسجوده ما أحق طالب الخير وقارع باب الإجابة أن ينحط عند أن يدعو ربه ساجدًا فإنه يفتح له باب الرحمة التي تجاب عندها الدعوات وترفع بها الدرجات وتكفر بها الخطيئات لأنه قد صار في مقام القرب من ربه في مقام أقرب القرب من الجناب العالي عز وجل.
كتبه قائله الشوكاني غفر الله له [2أ].
_________
(1) تقدم ذكره من حديث أبي هريرة.(5/2649)
كشف الرين في حديث ذي اليدين
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(5/2652)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا حمد الأمين، وآله الطاهرين، وبعد:
فإنه ورد السؤال ... عن حديث ذي اليدين (1) المشهور، كيف توجيهه فيما وقع منه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من الكلام، هو وجماعة من الصحابة (2)، ثم وقع منه
_________
(1) قال الحافظ صلاح الدين العلائي في «نظم الفوائد» (ص61): فيما يتعلق بذي اليدين، وللناس فيه خلاف في موضوعين:
أحدهما: في أنه ذو الشمالين أو غيره.
والثاني: في أن ذا اليدين هل هو الخرباق المذكور في حديث عمران بن حصين أم هما اثنان؟ أما الأول فجمهور العلماء على أن ذا اليدين المذكور في حديث السهو هذا من رواية أبي هريرة غير ذي الشمالين. وهذا هو الصحيح الراجح إن شاء الله.
والحجة لذلك: ما ثبت من طرق كثيرة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان حاضرًا هذه القصة يومئذ خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كذلك رواه حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحدى صلاتي العشي. أخرجه مسلم رقم (98) وأبو داود رقم (1008).
ثم تابع الحافظ عرض من روى ذلك فقال هذه طرق صحيحة ثابتة يفيد مجموعها العلم النظري. أن أبا هريرة رضي الله عنه كان حاضرًا القصة يومئذ ولا خلاف أن إسلامه كان سنة سبع، أيام خير ثم لا خلاف بين أهل السير أن ذا الشمالين استشهد يوم بدر سنة اثنتين رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: ذو الشمالين هو عمير بن عبد عمرو بن نضلة (ابن عمرو) ابن غبشان بن سليم ابن مالك بن أحصى بن خزاعة حليف بني زهرة.
قال أبو بكر الأثرم: مسدد بن مرهد يقول: الذي قتل ببدر هو ذو الشمالين ابن عبد عمرو حليف لبني زهرة وذو اليدين رجل من العرب كان يكون بالبادية فيجيء فيصلي مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم قال: وثبت أيضًا عن أبي هريرة من طريق في الحديث: فقام رجل من بني سليم يقال له ذو اليدين وذو الشمالين خزاعي كما قال ابن إسحاق.
(2) من الصحابة: أبو هريرة رضي الله عنه.
عمران بن حصين رضي الله عنه.
عبد الله بن الزبير رضي الله عنه.
ومن التابعين:
1 - محمد بن سيرين رضي الله عنه.
2 - عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه.
نص الحديث من رواية أبي هريرة: عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحدى صلاتي العشي فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على كفه اليسرى، وخرجت السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاباه أن يكلماه، وفي القوم رجل يقال له «ذو اليدين» فقال: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: «لم أنس ولم تقصر». فقال: «أكمال يقول ذو اليدين» فقالوا: نعم.
فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، فربما سألوه: ثم سلم؟.(5/2657)
ومنهم بعد ذلك البناء على ما قد فعلوه من الصلاة قبل الخروج بالسلام الذي وقع سهوًا؟.
وأقول مستعينًا بالله، ومتكلًا عليه: اعلم أن هذا الحديث قد اتفق جميع أهل الإسلام على أنه حديث صحيح (1) ثابت، ولم يخالف في ذلك أحد، وغاية ما جاء به من لم يعمل بظاهره هو مجرد التأويل بالوجوه المستعدة، أو الإعلان له بما لا يقدح في صحته بإجماع أهل هذا الشأن. ولا خلاف في ثبوته وصحنه من طريق أبي هريرة (2)، وهو في جميع دواوين الإسلام كذلك، وله طرق كثيرة، وألفاظ متعددة، قد جمعها الحافظ صلاح الدين العلائي (3)، فبلغت إلى شيء كثير، وليس هذا الحديث مما انفرد بروايته
_________
(1) سيأتي تخريجه.
(2) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (1229) ومسلم رقم (97/ 573) وفي رواية لمسلم رقم (99/ 573) صلاة العصر. وهو حديث صحيح.
وفي رواية لأبي داود رقم (1008) فقال: «أصدق ذو اليدين» فأومأوا: نعم، وهي في الصحيحين، لكن بلفظ فقالوا. وهو حديث صحيح.
(3) كتاب «نظم الفوائد» لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد.(5/2658)
أبو هريرة كما يظن ذلك كثير ممن [1أ] له شغلة بعلم الحديث، بل قد روى من طريق غيره، فرواه أبو داود (1)، وابن ماجه (2)، من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب، ورواه البزار في مسنده (3)، والطبراني (4) من طريق بن عباس، ورواه في زيادات المسند، والبيهقي (5) من حديث ذي اليدين نفسه، ورواه الطبراني في «الأوسط» (6) من حديث عبد الله بن مسعدة، ورواه أبو داود (7)، والنسائي (8) من طريق ابن خديج، ورواه الطبراني في «الكبير» (9) من طريق أبي العريان؛ فهؤلاء جماعة من الصحابة رووا هذا الحديث عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وقد روى مثل هذه القصة عمران بن حصين، فأخرج ذلك عنه مسلم (10)، وأبو داود (11)، والنسائي (12)، ....................
_________
(1) في «السنن» رقم (1017).
(2) في «السنن» رقم (1213).
وهو حديث صحيح.
(3) (1/ 278 رقم 578 - كشف).
(4) في «الكبير» (11/ 199 رقم 11484).
وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد» (2/ 151) وقال: رواه أحمد البزار والطبراني في «الكبير» و «الأوسط» ورجال أحمد رجال الصحيح.
(5) في «السنن» (2/ 360).
(6) رقم (2323) وأورده الهيثمي في «المجمع» (2/ 152 - 153) وقال: رجاله رجال الصحيح. خلا شيخ الطبراني إبراهيم بن محمد بن برة.
(7) رقم (1023).
(8) في «السنن» رقم (664). وهو حديث صحيح.
(9) (22/ 371 رقم930). وأورده الهيثمي في «المجمع» (2/ 152) وقال: رواه الطبراني في «الكبير» ورجاله رجال الصحيح.
(10) في صحيحة رقم (574).
(11) (1018).
(12) في «السنن» (1331، 1237).(5/2659)
وابن ماجه (1)، وغيرهم (2).
وقد ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومن أئمة السلف، ومن بعدهم إلى أن هذا الحديث شريعة ثابتة لجميع المسلمين، وأنه يرد ما يخالفه ولا يعارضه، وأن ما تستنكره الأذهان من البناء على ما تقدم من الصلاة بعد السلام الواقع سهوًا، وبعد الكلام فله تأويل صحيح، ووجه مقبول جار على أساليب الشريعة المطهرة، وموافق لمنهجها القويم على حسب ما يأتي تقويم ذلك- إن شاء الله-.
وقد حكى هذا المذهب النووي في شرح مسلم (3) عن الجمهور [1ب]، ونقله ابن المنذر (4) عن ابن مسعود، وابن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعن عروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وقتادة في أحد الروايتين عنه، وحكاه الحازمي عن عمرو بن دينار.
وممن قال به مالك، والشافعي (5)، وأحمد، وأبو ثور، وابن المنذر. وحكاه أيضًا الحازمي عن نفر من أهل الكوفة، وعن أكثر أهل الحجاز، وأكثر أهل الشام، وعن سفيان الثوري.
وبالجملة فكل من قال من أهل العلم بالفرق بين كلام الساهي والجاهل، وبين كلام العامد يقول: يستأنف بهذا الحديث، ويعمل عليه. وأما القائلون بأنه لا فرق بين كلام الساهي والجاهل، وبين كلام العامد، وهو الجمهور من أئمتنا، وقد حكاه الترمذي (6)
_________
(1) في «السنن» رقم (1215).
(2) كأحمد (4/ 427) وابن خزيمة رقم (1054) والبيهقي (2/ 335، 354) وأبو عوانة (2/ 216) من طرق. وهو حديث صحيح.
(3) (5/ 71).
(4) انظر: «المجموع» (4/ 85).
(5) «الأم» (1/ 124).
(6) في «السنن» (2/ 237).(5/2660)
عن أكثر أهل العلم، وقد حكاه أيضًا عن الثوري، وابن المبارك. وبه قال النخعي، وحماد بن أبي سليمان، والإمام أبو حنيفة، فهؤلاء وإن قالوا إنه لا فرق بين كلام وكلام، وأنه جميعه يفسد الصلاة، فإنهم يقولون بأن هذا الحديث أعني: حديث ذي اليدين، حديث صحيح، معمول به، مقبول، ولكنهم احتاجوا إلى تأويله، لأنه قد دل على أن الكلام إذا وقع على الصفة التي وقع عليها في هذا الحديث فإنه لا يفسد الصلاة، والتأويل [2أ] لا ينافي الصحة بإجماع أهل هذا الشأن.
لإغذا تقرر لك أن هذا الحديث لا خلاف في صحته بين جميع طوائف أهل الإسلام، وأنه من الأحاديث المتلقاة بالقبول عند جميع أهل العلم، بل من الأحاديث المتواترة من التابعين فما بعدهم، بل لا يبعد أن يقال: أن الذين رووه من الصحابة قد بلغوا عدد التواتر فحسبما قدمنا بيانه، فالواجب العمل بهذا الذي صح عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بإجماع أمته، فنقول: من جرى له في صلاته مثل ما جرى لرسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بإجماع أمته، فنقول: من جرى له في صلاته مثل ما جرى لرسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في حديث ذي اليدين هذا كان عليه أن يقتدي برسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ويعمل كمل عمل؛ فإن هذا الذي فعل هذا الفعل هو معلم الشرائع، الذي جائنا بها عن الله- سبحانه-، فلا فرق بين هذا الحكم الشرعي وبين غيره من أحكام الشريعة المطهرة، إلا مجرد الشكوك والأوهام، فإذا قال قائل: قد صح عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ما يخالف ذلك، فأخرج البخاري (1) ومسلم (2)، وأبو داود (3)، والترمذي (4) والنسائي (5)، وأحمد بن حنبل في «المسند» (6)
_________
(1) في صحيه رقم (1200).
(2) في صحيحة رقم (35/ 539).
(3) في «السنن» (949).
(4) في «السنن» رقم (405).
(5) في «السنن» (3/ 18).
(6) (4/ 368).(5/2661)
أن زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في هذه الصلاة، حتى نزلت: {وقوموا لله قانتين} (1) فأمرنا بالسكوت [2ب]، نهينا عن الكلام.
وهذا الحديث أيضًا قد ثبت عند الشيخين (2) من حديث جابر، وعند الطبراني (3) من حديث عمار، وعند الطبراني (4) أيضًا من حديث أبي أمامة، وعند البزار (5) من حديث أبي سعيد، فيجاب بأنه لا مخالفة بين هذا الحديث، وبين حديث زي اليدين، ولا معارضة، فهذا الحديث يعم كل كلام من غير فرق بين كلام العامد، والساهي، والجاهل، لأن الألف واللام في لفظ الكلام من قوله: نهينا عن الكلام تفيد العموم، وهذا الحديث المسئول عنه أعني حديث ذي اليدين خاص فيبني العام على الخاص، ويكون الكلام المفسد للصلاة هو كلام العامد دون غيره، ولا عذر عن هذا على مقتضى القواعد الأصولية، ولا يصح أن يدعي مدع، أو يزعم زاعم بأن هذا الفعل لا يصلح لتخصيص القول العام، لأن البناء في حديث ذي اليدين قد وقع من النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ومن غيه من الصحابة الحاضرين في المسجد في ذلك الجمع، فليس هذا
_________
(1) [البقرة: 238].
(2) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (1217) ومسلم رقم (36/ 540).
قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (1018) والنسائي (3/ 6 رقم 1189). والبيهقي (2/ 258) وأحمد (3/ 334).
(3) ذكره الهيثمي في «المجمع» (2/ 18) وقال رواه الطبراني في «الكبير» ورجاله ثقات.
(4) في «الكبير» رقم (7850) وأورده الهيثمي في «المجمع» (2/ 81) وقال: رواه الطبراني في «الكبير» وفيه عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد وهما ضعيفان.
(5) في مسنده (1/ 268 رقم 554 - كشف).
وأورده الهيثمي في «الجمع» (2/ 81) وقال: رواه البزار وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث وثقه عبد الملك بن شعيب بن الليث فقال: ثقه مأمون وضعفه الأئمة أحمد وغيره.(5/2662)
الفعل مما يخصه، ثم هذا الدليل الخاص متأخر عن النهي العام بإجماع أهل النقل، والخاص المتأخر صالح للتخصيص كما هو مذهب الجمهور من أهل الأصول.
وإنما قلنا [3أ]: إنه متأخر لأنه قد أخرج البخاري (1) ومسلم (2) وغيرهما (3) من حديث بن مسعود قال: كنا نسلم على النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا فقال: «إن في الصلاة لشغلًا».
وفي رواية لأحمد (4)، والنسائي (5)، وأبي داود (6)، وابن حبان في صحيحة (7) قال: «كنا نسلم على النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إذ كنا بمكة قبل أن نأتي أرض الحبشة، فلما قدمنا من أرض الحبشة أتيناه فسلمنا عليه، فلم يرد، فأخذني ما قرب وما بعد حتى قضوا الصلاة، فسألته، فقال: «إن الله يحدث في أمره ما يشاء، وإنه قد أحدث من أمره أن لا نتكلم في الصلاة».
فهذا الحديث قد أفاد أن مهاجرة الحبشة ما رجعوا من هجرتهم إلا وقد حرم الله الكلام في الصلاة، بخلاف حديث ذي الين، فإن الراوي له أبو هريرة عن مشاهدة، وإسلام (8) أبي هريرة إنما كان عند فتح خيبر، وما قيل من صاحب القصة قتل ببدر فقد أتفق أئمة الحديث كما نقله ابن عبد ....................
_________
(1) في صحيحة رقم (1199).
(2) في صحيحة رقم (538).
(3) كابن خزيمة في صحيحة رقم (855، 858). وهو حديث صحيح.
(4) في «المسند» (1/ 377).
(5) في «السنن» (3/ 19).
(6) في «السنن» رقم (924).
(7) في صحيحة رقم (2243، 2244). وهو حديث صحيح.
(8) انظر «الطبقات» لابن سعد (4/ 327). «الإصابة» (7/ 435).(5/2663)
البر (1) وغيره على أن ذلك وهم من الزهري، وأنه جعل القصة لذي الشمالين، وذو الشمالين (2) هو الذي قتل ببدر، وهو خزاعي، واسمه عمير [3ب] بن عبد عمرو بن نضلة، وأما ذو اليدين (3) فتأخر موته بعد موت النبي- صلي الله عليه وآله وسلم-،
_________
(1) «التمهيد» (1/ 375)، «الاستذكار» (2/ 233).
(2) ذكره ابن إسحاق في «السيرة النبوية» (1/ 681) وابن عبد البر في «التمهيد» (1/ 363 - 364). «الاستيعاب» (1/ 484).
(3) انظر «السيرة النبوية» (2/ 681).
قال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 185 - 186):» ذو اليدين الصحابي رضي الله عنه مذكور في كتاب الصلاة في هذه الكتب اسمه الخرباق بن عمرو بخاء معجمة مكسورة وبموحدة وقاف وهو من بني سليم وهو الذي قال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت حين سلم من ركعتين.
وليس هو ذا الشمالين الذي قتل يوم بدر، لأن ذا الشمالين خزاعي قتل يوم بدر، وذو اليدين سلمي عاش بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زمانًا حتى روى المتأخرون من التابعين عنه، واستدل العلماء لما ذكرناه بأن أبا هريرة شهد قصة السهو في الصلاة، وقد اجتمعوا على أن أبا هريرة إنما أسلم عام خيبر سنة سبع من الهجرة بعد بدر بخمس سنين. وكان الزهري يقول إن ذا اليدين هو ذو الشمالين وأنه قتل ببدر وأن قصته في الصلاة كانت قبل بدر تابعه أصحاب أبي حنيفة على هذا وقالوا كلام الناس في الصلاة يبطلها وادعوا أن الحديث منسوخ والصواب ما سبق.
وقد أطنب أعلام المحدثين في إيضاح هذا ومن أحسنهم له إيضاحًا الحافظ أبو عمر ابن عبد البر في «التمهيد» في شرح الموطأ. ولقد لخصت مقاصد ما ذكره غيره في «شرح صحيح مسلم» وفي «شرح المهذب» قال ابن عبد البر، واتفقوا على أن الزهري غلط في هذه القصة». 1هـ.
وقال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (3/ 97): «وقد جوز بعض الأئمة أن تكون القصة وقعت لكل من ذي الشمالين وذي اليدين، وأن أبا هريرة روى الحديثين، فأرسل أحدهما وهوقصة ذي الشمالين وشاهد آخر وهي قصة ذي اليدين، وهذا محتمل من طريق الجمع.
وقيل: «يحتمل على أن ذا الشمالين كان يقال له أيضًا ذو اليدين وبالعكس، فكان ذلك سببًا للاشتباه». وذكر قبله أن الطحاوي حمل قول أبي هريرة: «صلى بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» على المجاز يعني أن المراد به صلى بالمسلمين، ثم قال بن حجر: ويدفع المجاز الذي اتكبه الطحاوي ما رواه مسلم وأحمد وغيرهما من طريق يحيي بن أبي كثير عن أبي سلمة في هذا الحديث بلفظ: «بينما أنا أصلي مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وقد اتفق معظم أهل الحديث من المصنفين وغيرهم على أن ذا الشمالين غير ذي اليدين. ونص على ذلك الشافعي- رحمه الله- في اختلاف الحديث».(5/2664)
وحدث بهذا الحديث بعد موت النبي- صلي الله عليه وآله وسلم- كما أخرج ذلك الطبراني (1)، واسمه الخرباق (2)، فتقرر بهذا أن حديث ذي اليدين متأخر عن حديث النهي عن الكلام، ومن جملة المقويات لذلك، والمؤيدات له أن من جملة رواة حديث ذي اليدين عمران بن حصين، وهو متأخر الإسلام. وقد ذكر في روايته ما يفيد المشاهدة كما في صحيح مسلم (3) وغيره (4)، فإذا تقرر هذا فلا عذر لمن انصف وجمع بين الأدلة كما هو الواجب بإجماع المسلمين، فإنه قد وقع التصريح في علم الأصول، وعلوم الحديث، وغير ذلك بأن الجمع (5) مقدم على الترجيح. ووقع التصريح بأنه وقع الإجماع على ذلك، وهكذا وقع التصريح في علم الأصول بقيام الإجماع على أنه يبنى العام (6) على الخاص بشروطه (7) المعروفة في الأصول، فكان الواجب بمقتضى هذين الإجماعين على أن يجمع بين حديث ......................
_________
(1) في «الكبير» رقم (4182، 4225) و (18/ رقم 464، 465، 467، 470).
(2) قال الحافظ في «الفتح» (3/ 100): «وذهب الأكثر إلى أن اسم ذي اليدين: الخرباق بكسر المعجمة وسكن الراء بعدها موحدة وآخر قاف- اعتمادًا على ما وقع في حديث عمران بن حصين عند مسلم ولفظه: فقام إليه رجل يقال له الخرباق، وكان في يده طول، وهذا صنيع من يوحد حديث أبي هريرة بحديث عمران وهو الراجح في نظري. وإن كان ابن خزيمة ومن جنحوا إلى التعدد والحامل لهم على ذلك الاختلاف الواقع في السياقين ... ».
(3) رقم (574).
(4) كأحمد (4/ 427) وأبو داود رقم (1018) والنسائي (3/ 26) وابن ماجه رقم (1215). وهو حديث صحيح.
(5) انظر الكفاية (ص608)، «تيسير التحرير» (3/ 136).
(6) انظر «الكوكب المنير» (3/ 177، 383).
(7) انظر هذه الشروط في «البحر المحيط» للزركشي (3/ 407 - 409).(5/2665)
النهي (1) عن الكلام، وبين حديث ذي اليدين مما قدمنا ذلك من الفرق بين كلام الساهي، والجاهل، والعامد. ومن عمل بحديث النهي عن الكلام واطرح حديث ذي اليدين فقد خالف إجماعين من إجماعات المسلمين: الإجماع [4أ] الأول أنه قدم الترجيح على الجمع، والإجماع الثاني أنه لم يبن العام على الخاص، وهذا على فرض أن المتخلل بين التسليم الواقع سهوًا، وبين التكبير الواقع للبناء هو الصلاة، لا فرق بينه وبين أجزاء الصلاة التي بين تحريمها وتحليلها.
وأما لو قيل إن هذا الوقت الكائن بين التسليم سهوًا، وبين التكبير للبناء هو ولإن كان له حكم الصلاة لكن ليس كالصلاة من كل وجه، ولا يمتنع منه ما يمتنع من الصلاة، كما أنه لا يبطل الطواف بمبطلات الصلاة، مع أنه قد ورد أن الطائف في صلاة، وكما أنه لا يبطل ثواب منتظر الصلاة بفعل شيء مما يفسد الصلاة، مع أنه قد ورد أن منتظر الصلاة في صلاة، وحاصل هذا الوجه دعوى الفرق بين من كان مشتغلًا بأجزاء الصلاة الحقيقية الذكرية والركنية، وبين من لم يكن مشتغلًا بشيء من ذلك، بل كان خروجه سهوًا مسوغًا للبناء، فلو قيل بهذا الفرق لم يكن بعيدًا من الصواب، ولم يبق إشكال في الكلام الواقع منه- صلي الله عليه وآله وسلم- بعد التسليم سهوًا، وقبل التكبير مبنيًا، ولكنا هاهنا بنينا على تسليم الإشكال الذي أورده السائل- عافاه الله [4ب]-، وعلى أنه لا فرق بين ذلك، وبين أجزاء الصلاة الحقيقية، فجمعنا بين الأحاديث الواردة في النهي عن الكلام على العموم، وفي تسويغه في بعض الأحيان، كما قدمنا تقريره.
فإن قلت: إذا كان حديث ذي اليدين على هذا التسليم والتقرير دالًا على أن كلام الساهي لا يفسد الصلاة، فما الدليل على أن كلام الجاهل لا يفسدها؟.
قلت: الدليل على ذلك حديث ذي اليدين نفسه؛ فإن الجماعة الذين كلموا
_________
(1) تقدم تخريجه قريبًا.(5/2666)
رسول الله- صلي الله عليه وآله وسلم- وكلمهم لم يكونوا ساهين، بل جهلوا أن الكلام في تلك الحالة لا يجوز، فعذرهم رسول الله- صلي الله عليه وآله وسلم-، ولم يأمر أحدًا منهم بإعادة الصلاة، وأدل من هذا، وأوضح، وأصرح ما أخرجه أحمد (1)، ومسلم (2)، والنسائي (3)، وأبو داود (4) من حديث ابن الحكم (5) السلمي قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله- صلي الله عليه وآله وسلم- إذ عطس رجل من القوم، فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت: وأثكل أماه، ما شأنكم تنظرون إلي؟. فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، إلى أن قال: فبابي وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعينًا منه، يعني النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فوالله ما قهرني، ولا ضربني، ولا شتمني قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن».
فهذا الحديث ليس فيه أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ [5أ]- أمره بإعادة الصلاة لكونه قد تكلم فيها عامدًا، بل عذره لجهله. ومثل هذا ما أخرجه البخاري (6)، وأحمد (7)، وأبو داود (8)، والنسائي (9) عن أبي هريرة قال رسول الله- صلى الله
_________
(1) في «المسند» (5/ 447، 448).
(2) في صحيحة رقم (33/ 537).
(3) في «السنن» (3/ 14 - 18).
(4) في «السنن» رقم (931).
قلت: وأخرجه ابن الجارود رقم (212) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 446) وأبو عوانة (2/ 141 - 142) وابن خزيمة (2/ 35 رقم 859). وهو حديث صحيح.
(5) هو معاوية بن الحكم السلمي كان ينزل المدينة وعداده في أهل الحجاز.
(6) في صحيحة رقم (6010).
(7) في «المسند» (2/ 238، 239).
(8) في «السنن» رقم (882).
(9) في «السنن» (3/ 14). وهو حديث صحيح.(5/2667)
عليه وأله وسلم- إلى الصلاة، وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني وحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلم النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال للأعرابي: «لقد تحجرت واسعًا» يريد رحمة الله، فعذره- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بجهله. ومثل هذا حديث (1) من الذي تكلم بالكلمة ثم قال: لقد ابتدرها كذا من الملائكة.
والحاصل أن الأحاديث الواردة (2) في النهي عن الكلام على العموم مثل حديث: «نهينا عن الكلام»، ومثل حديث: «لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» لا شك ولا ريب أنها لا تنافي ما ورد خاصًا ولا تعارضه، ومن جعل العام مقدمًا على الخاص، ومرجحًا عليه، فقد عكس قالب العمل الأصولي، وخالف ما عليه علماء النظر والاستدلال في جميع الأزمان، على جميع المذاهب.
فجملة ما ينبغي عليه التعويل في هذا الجواب هو أمران: إما منع كون حالة من خرج من الصلاة بتسليم سهوًا، ثم تكلم، ثم عاد إلى الصلاة بالتكبير، وبنى على ما قد فعل كحالة من هو في الصلاة مشتغلا ًبأجزائها لم يخرج منها، فمن كان لديه ما يوجب الانتقال عن مركز [5ب] هذا المنع أهداه للمانع.
الأمر الثاني: مما ينبغي التعويل عليه هو تسليم أنه كالمصلي. والجمع بين الأدلة المختلفة بما قدمنا ذكره. ولا عذر عن ذلك لمن أنصف، وجرى على طريقة الاجتهاد.
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (799) ومالك (1/ 211، 212) وأبو داود رقم (770، 773) والترمذي رقم (404) والنسائي (2/ 145) عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: كنا يومًا نصلي وراء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما رفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه من الركعة وقال: «سمع الله لمن حمده». قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انصرف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من المتكلم آنفًا» فقال الرجل: أنا يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لقد رأيت بضعًا وثلاثين ملكًا يبتدرون أيهم يكتبها أول».
(2) تقدم ذكر ذلك.(5/2668)
ولا نعول على غير هذين الوجهين، وذلك كقول من قال: إن ذلك لإصلاح الصلاة، وقول من قال: إن إجابة النبي واجبة (1)، فإن النقوض تطرق ذلك طروقًا لا يمكن التقصي عنه بحال.
فإن قلت: إذا كان الجواب عن استشكال السائل للكلام في تلك الحال، فما الجواب عن استشكال من استشكل الأفعال الصادرة منه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ومن الصحابة بعد السلام سهوًا، وقبل التكبير للبناء؟.
قلت: الجواب أن هذه شريعة وردت عن معلم الشرائع، ليس لنا أن نستنكر منها ما لا يطابق عقولنا، فإنه قد وقع الإجماع من جميع أهل الإسلام حسبما قدمنا تحقيقة أن حديث ذي اليدين حديث صحيح (2) ثابت عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فما بقي بعد هذا إلا قبول ما جاء عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما فعل ذلك جمهور الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، وسائر أئمة المسلمين، وعلماء الدين، فإنهم عملوا بهذا الحديث، وقبلوه، جعلوه حجة بينهم وبين الله سبحانه [6أ]. وأما ما يروى عن جماعة من أهل العلم من أن هذا الحديث معارض للأحاديث الوارده عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في تحريم الأفعال في الصلاة (3).
فيجاب عن ذلك بأن ما دل على تحريم الأفعال في الصلاة فلا شك أنه عام عرضة للتخصيص، ولهذا ثنت أن كل عام من أدلة الأحكام مخصص، وأنه لم يوجد في شيء من أدلة المسائل عام لم يخصص أصلًا، فهذا الحديث الوارد عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أعني: حديث ذي اليدين يخصص ذلك العام، فيبني العام على الخاص، ويكون الممنوع هو ما بقي من أفراد العام بعد التخصيص، وهذا هو العمل الأصولي الذي لا
_________
(1) ذكره القاضي عياض في «إكمال المعلم» (2/ 517).
(2) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(3) انظر «اختلاف الحديث» للشافعي (ص232).(5/2669)
ينكره أحد ممن يعرف الأصول، فيقال: يحرم كل فعل في الصلاة مما ليس إلا ما دل عليه دليل بخصوصه، وقد دل الدليل الصحيح المتفق على صحته أنه يشرع لمن سلم ساهيًا أن يقتدي برسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ويفعل كفله، لأن الله- سبحانه- يقول في محكم كتابه: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (1) ويقول: {قل إن كنتم تجبون الله فاتبعوني} (2)، ويقول: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (3).
وكل عاقل يعلم أن الذي وقع منه [6ب] حديث ذي اليدين هو الذي حرم الأفعال في الصلاة بمثل قوله: «إن في الصلاة لشغلًا» (4)، وبمثل قوله: «اسكنوا في الصلاة» (5) فليس لأحد أن يجعل بعض ما ورد عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- شريعة لازمة، وبعضه ليس شريعة، بل الكل من مشكاة النبوة، ومن معدن الرسالة: {إن هو إلا وحي يوحى} (6)، مع أن حديث ذي اليدين هو ثابت من طرق أرجح (7) من الأحاديث المقتضية لتحريم الأفعال في الصلاة بمسافات يعرفها من يعرف مرتب الأدلة، وأيضًا فقد استدل بحديث ذي اليدين هذا جماعة نت أهل العلم السالكين طرق التأويل في محل السؤال، فمن جملة ما استدلوا به إطراقه أن سجود السهو بعد السلام (8)، فكيف
_________
(1) [الحشر: 7].
(2) [آل عمران: 31].
(3) [الأحزاب: 21].
(4) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (1199) ومسلم رقم (538) من حديث ابن مسعود.
(5) أخرجه مسلم في صحيحة رقم (119/ 430) من حديث جابر بن سمرة.
(6) [النجم: 4].
(7) انظر «الاستذكار» لابن عبد البر (2/ 231).
(8) قال ابن عبد البر في «التمهيد» (1/ 351 - 352): أن السلام الذي يتحلل به من الصلاة إذا وقع سهوًا لا يبطل الصلاة ولا يخرج منها، بل يجوز لفاعل ذلك البناء عليها، وقد خالف في ذلك بعض أصحاب أبي حنيفة والحديث حجة عليهم.(5/2670)
يأخذون بعض الحديث ويتركون بغضه! فإذا احتجوا ببعضه قامت عليهم الحجة بالبعض الآخر، مع أن هذا الحديث هو أقوى حجج القائلين بأن السجود للسهو بعد السلام (1).
_________
(1) انظر «المدونة الكبرى»
(1/ 136). لسجود السهو أسباب ثلاثة: الزيادة- النقص- الشك.
- إذا زاد المصلي في صلاته قيامًا أو قعودًا أو ركوعًا أو سجودًا متعمدًا بطلت صلاته، وإن كان ناسيًا ولم يذكر الزيادة حتى فرغ منها فليس عليه إلا سجود السهو وصلاته صحيحة.
وإن ذكر الزيادة في أثنائها وجب عليه الرجوع عنها وسجود السهو وصلاته صحيحة.
- إذا سلم المصلي قبل تمام صلاته متعمدًا بطلت صلاته.
وإن كان ناسيًا ولم يذكر إلا بعد زمن طويل أعاد الصلاة من جديد.
وإن ذكر بعد زمن قليل- كدقيقتين أو ثلاث- فإنه يكمل صلاته ويسلم ثم يسجد لسهو ويسلم.
- إذ نقص المصلي ركنًا من صلاته فإن كان تكبيرة الإحرام فلا صلاة له سواء تركها عمدًا أو سهوًَا لأن صلاته لم تنعقد.
- وإن تركه سهوًا فإن وصل إلى موضعه من الركعة الثانية لغت الركعة التي تركه منها وقامت التي تليها مقامها، وإن لم يصل إلى موضعه من الركعة الثانية وجب عليه أن يعود إلى الركن المتروك فيأتي به وبما بعده وفي كلا الحالين يجب عليه أن يسجد للسهو بعد السلام.
- إذا ترك المصلي التشهد الأوسط ناسيًا وذكره قبل أن يفارق محله من الصلاة أتى به ولا شيء عليه.
وإن ذكره بعد مفارقة محله قبل أن يصل إلى الركن الذي يليه رجع فأتى به ثم يكمل صلاته ويسلم ثم يسجد للسهو ويسلم.
وإن ذكره بعد وصوله إلى الركن الذي يليه سقط فلا يرجع إليه فيستمر في صلاته ويسجد للسهو قبل أن يسلم.
- إذا شك المصلي في صلاته، وترجح عنده أحد الأمرين فيعمل بما ترجح عنده فيتم عليه صلاته ويسلم ثم يسجد للسهو ويسلم.
وإن لم يترجح عند أحد الأمرين فيعمل باليقين وهو الأقل فيتم عليه صلاته ويسجد للسهو قبل أن يسلم ثم يسلم.
ويسجد للسهو فبل التسليم في موضعين:
الأول: إذا كان عن نقص: لحديث عبد الله بن بحينة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين، ولم يجلس، فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة، وانتظر الناس تسليمه، كبر وهو جالس، وسجد سجدتين، قبل أن يسلم، ثم سلم».
أخرجه البخاري رقم (1230) ومسلم رقم (85/ 570) وأبو داود رقم (1034) والترمذي رقم (391) والنسائي (3/ 2) وابن ماجه رقم (1206) وأحمد (5/ 345).
الثاني: إذا كان عن شك لم يترجح فيه أحد الأمرين: للحديث الذي أخرجه مسلم رقم (571) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر، كم صلى ثلاثًا أم أربعًا؟ فليطرح الشك جانبًا وليبن على ما أستيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم».
ويسجد للسهو بعد التسليم في موضعين:
الأول: إذا كان عن زيادة للحديث الذي أخرجه البخاري رقم (1226) ومسلم (1/ 401 رقم 91/ 572) عن عبد الله بن مسعود وقد تقدم.
الثاني: إذا كان عن شك ترجح فيه أحد الأمرين للحديث الذي أخرجه البخاري (392 - البغا) ومسلم رقم (89/ 572) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين».(5/2671)
وقد اختلفت الأدلة في ذلك، وتباينت المذاهب. وجملة ما في ذلك ثمانية مذاهب مستوفاة في المطولات، وليس هذا مقام بسطها. ومن جملة ما استدل به أهل العلم من أطراف هذا الحديث استثباته (1) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من الجماعة بعد أن أخبره ذو اليدين فقال: «أحق ما يقول ذو اليدين؟» فاستدلوا بذلك على أنه يشرع الاستثبات في بعض الأحوال عند انفراد المخبر، وكذلك استدل أهل العلم بهذا الحديث
_________
(1) أن استثبات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما كان لأن ذا اليدين أخبره عن أمر يتعلق بفعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكن ذاكرًا له حينئذ. فكانت الريبة المقتضية للاستثبات قائمة إذ لا يستحيل غلط ذي اليدين في عدد الركعات فاعتقد القصر أن النسيان من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانضم هذا الاحتمال إلى انفراده دون بقية الحاضرين وخصوصًا من كان أكبر منه وأولى بسؤال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. مع كون الذي أخبر به فعلًا يتعلق بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكن ذاكرًا له، فلهذا سأل بقية الحاضرين عن ذلك، وليست هذه المسألة المفروضة أولًا.(5/2672)
على جواز صدور السهو منه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ [7أ]-، وكذلك استدل بهذا الحديث أهل العلم على جواز التشبيك في المسجد، وبالجملة فقد استدل بهذا الحديث أهل الإسلام على اختلاف طبقاتهم، فاستدل به أهل الأصول في خبر الواحد (1) إذا كان متعلقة مقتضيًا للشهرة، أو كان به مما تعم به البلوى (2).
_________
(1) قال الحافظ صلاح ابن العلائي في «نظم الفرائد» (ص196): فموضع الدلالة أن انفراد الواحد في مثل المقام يقتضي الريبة بقوله. وينتهي إلى القطع بكذبه، لكن في هذا المقام لم يمكن القطع ولا الظن بالكذب لعدالة الصحابة، فتوقف حتى وافقه القوم فتحقق صدقه وليس هذا كانفراد الواحد برؤية هلال رمضان حيث قبله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير ما مرة لأنه ليس مما تتوفر الدواعي عليه، ولو كان كذلك ما انفرد الواحد برؤية الهلال دون بقية الناس جائز ممكن.
وقال ابن الصلاح في علوم الحديث (ص70): أن ما تفرد به الراوي إن كان مخالفًا لما رواه من هو أحفظ منه وأضبط كان شاذًا مردودًا، وإن لم يكن مخالفًا لما رواه غيره بأن لم يروه سواه فإن كان هذا الراوي حافظًا ضابطًا موثوقًا به عدالة، وإتقانًا قبل ما تفرد به، ولم يحطه ذلك عن درجة الصحيح كما تقدم من الأمثلة، وإن لم يبلغ الراوي هذه الدرجة كان تفرده منحطًا عن درجة الصحيح تارة يكون الراوي غير بعيد عن درجة الحافظ الضابط المتقن فيكون ما تفرد به حسنًا وتارة يكون بعيد عن ذلك لا يحتمل منه مثل هذا التفرد فيكون الحديث ضعيفًا مردودًا، وربما بلغ إلى حد النكارة».
وانظر «البرهان» (1/ 577 - 578)، «المستصفي» (1/ 141).
(2) وهو ما استدل به الحنيفة على رد خبر الواحد إذ كان مما تعم فيه البلوى خلافًا للجمهور من أئمة الحديث والأصول والفقه.
ووجه الاستدلال منه أن حكم الصلاة مما تعم به البلوى وتتوفر الدواعي للسؤال عن حكمها خصوصًا للصحابة رضي الله عنهم، لما كانوا عليه من الاهتمام بأمور الذين.
فلما انفرد ذو اليدين بأخباره بالسهو ولم يقبل منه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمجرده حتى استثبت من بقية الحاضرين، دل على أن انفراد الواحد فيما تعم به البلوى غير مقبول.
وجواب هذا ما تقدم في المسألة: أن التوقف إنما كان لشذوذه عن الجماعة وكون الذي أخبر به فعلًا يتعلق بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم بالمعارضة بالأدلة الدالة على قبول خبر الواحد على الإطلاق من غير فرق بين ما تعم به البلوى وغيره، وبإجماع الصحابة على قبولهم خبر الواحد فيما تعم به البلوى، كقولهم حديث عائشة- رضي الله عنها- في الغسل من التقاء الختانين، وحديث رافع بن خديجة في المحايرة.
ثم بالنقض عليهم بقبولهم خبر الواحد في وجوب الوتر والوضوء من خروج الدم والقهقهة، وغير ذلك مما تعم به البلوى، ولا مدفع لهم عن هذا الإلزام.(5/2673)
[وكذلك استدلوا به في جواز صدور السهو منه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-] (1)، واستدل به أهل أصول الدين على جواز صدور السهو منه (2) - صلي الله عليه وآله وسلم- واستدل به علماء المعاني والبيان في الكلام على سلب العموم، وعموم السلب (3) حيث
_________
(1) في المخطوط ما بين الخاصرتين مكرر.
(2) قال القاضي عياض: اتفق جميع أهل الملل والشرائع على وجوب عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن تعمد الكذب فيما دلت المعجزة القاطعة على صدقهم فيه وذلك مما طريقه التبليغ عن الله سبحانه وتعالى من دعوى الرسالة وما ينزل عليهم من الكتب الإلهية إذ لو جاز خلاف ذلك لأدى إلى إبطال دلالة المعجزة وهو محال.
الراجح الذي ذهب إليه جمهور العلماء جواز السهو والنسيان على الأنبياء صلوات الله عليهم في الأفعال كما دلت عليه هذه الأحاديث.
(3) في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الرواية التي رواها مالك في الموطأ ومسلم في صحيحة: «كل ذلك لم يكن» وجواب ذو اليدين له بقوله: «قد كان بعض ذلك». دليل لقاعدة اتفق عليها أهل المعاني والبيان.
أن النفي إذا تسلط على «كل» أو كانت في حيزه تكون «كل» حينئذ لنفي الشمول عن المجموع لا لنفي الحكم عن كل فرد فرد.
وإن أخرجت «كل» من حيز النفي بأن قدمت عليه لفظًا ولم تكن معموله لنفعل المنفي توجه النفي إلى أصل الفعل وعم كلما أضيفت إليه «كل» فكأن السلب عن كل فرد فرد.
والاحتجاج لهذه القاعدة بهذا الحديث من وجهين:
أحدهما: أن الشؤال بـ «أم» عن أحد الأمرين لطلب التعيين بعد ثبوت أحدهما عند المتكلم على وجه الإبهام، فجوابه إما بالتعيين أو بنفي كل واحد منهما فلما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل ذلك لم يكن» كان جوابه لنفي كل واحد منها بالنسبة إلى ظنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلو كان تقديم «كل» على المنفي إنما يفيد نفي الكلية لا نفي الحكم عن كل فرد لكان قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل ذلك لم يكن» سلب الحكم عن كل فرد فرد لا عن المجموع، لأن الإيجاب الجزئي يقتضيه السلب الكلي.
وقال الجرجاني: «والعلة في ذلك أنك إذا بدأت بـ «كل» كنت قد بنيت النفي عليه وسلطت الكلية على النفي وأعلمتها فيه، وإعمال معنى الكلية في النفي يقتضي أن لا يشذ شيء عن النفي».(5/2674)
قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «كل ذلك لم يكن». واستدل به أهل الفقه في المواضع التي قدمنا الإشارة إليها، فإذا كان هذا الحديث بهذه المثابة العظيمة تغترف منه الفرق الإسلامية، وتستدل به، وتعمل عليه، وتبني عليه القواعد، فكيف لا يكون ما هو لبابه، ومفاده، وخلاصته، وعصارته معمولًا به! بل تنصب له التأويلات والتمحلات، ويذاد عن القناطر التي قد رصصت بمجرد الأقوال العاطلة عن حلية الاستدلال.
وعلى الجملة فهذا خلاصة ما يقتضيه الإنصاف المطابق للقواعد المقررة في الفنون العلمية من الأصول وغيرها. وقد أختلف أهل العلم في ذلك اختلافًا كثيرًا لا يتسع المقام لبسطه، ولكنهم جميعًا مأجورون مثابون، فقد صح: «أن من أجتهد فأصاب فله أجران، ومن أجتهد فأخطأ فله أجر» (1). وفي رواية خارجة من مخرج حسن: «أن من أجتهد فأصاب فله عشرة أجور» (2). فرحم الله أهل العلم، فلقد فازوا بالخير كله، واستحقوا الأجر على الخطأ، وهذه مزية لا يشاكهم فيها غيرهم.
وفي هذا المقدار من الجواب كفاية لمن له هداية.
حرره المجيب محمد الشوكاني غفر الله له في صبح يوم الأحد لعله 24 شهر جمادى الأولى سنة 1218 [7ب].
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.(5/2675)
بحث في الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم
تأليف
محمد بن علي الشوكاني.
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(6/2678)
وصف المخطوط
عنوان الرسالة: بحث في الكلام على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم
موضوع الرسالة: في فقه الصلاة.
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وآله وأصحابه الراشدين.
من المسترشد المستفيد محمد بن مهدي الحماطي الضمدي إلى مولانا ........
4 - آخر الرسالة:. ... وتفريق كلمة عباد الله بغير حجة نيرة، ولابرهان واضح والمهدى من هداه الله. وحسبنا الله ونعم الكيل.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. السؤال بخط السائل والجواب بخط المؤلف.
الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
عدد الصفحات: 9 صفحات
عدد الأسطر في الصفحة: 21 - 24 - 27 - 13 سطرا.
عدد الكلمات في السطر: 10 - 12 كلمة.
الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(6/2679)
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام والأتمان الأكملان على سيدنا محمد وآله وأصحابه الراشدين.
من المسترشد المستفيد محمد بن مهدي الحماطي الضمدي إلى مولانا وشيخنا الأستاذ العلامة الأوحد، بدر الإسلام، وحسنة الأيام، العالم الرباني محمد بن علي الشوكاني -
بارك الله للمسلمين في أيامه، وأمد في شهوره واعوامه، ولا زال ناشراً لأعلام السنة الغراء المحمديه على صاحبها أفضل التحيات الأبدية -
وبعد:
فإنها ظهرت في جهتنا في هذه المدة القريبة من بعض الأعلام الأكابر، وأهل الأمر في تلك الجهة الفتيا بترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وإلزام الناس بذلك، زاعما أنه لم يصح فيه عن النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ شيء من الحديث، وأنه لاحق بالبدعة بل ربما يعاقب الجاهر بها، ومركز أدلته حديث أنس بن مالك المشهور، ولا شك في صحته، وإن طعن فيه بتلك المطاعن، وإنما من ادعى صحة الجهر بها لهم عدة أحاديث صحيحة عندهم كما لا يخفى على ذهنكم الشريف، بل ادعى السيوطي وغيره تواترها، ولم يزل الخلاف شائعا في هذه المسألة من عصر السلف الصالح إلى عصرنا، وكل فريق يدعى تواتر ما ذهب إليه، فا لمطلوب إيضاح الحق في المسألة، هل صح شيء في الجهر أم لا؟ وهذا أمره وراء الترجيح، وإذا رجح دليل على آخر عند من ولي شيئا من أمور المسلمين هل له إلزامهم وإكراههم على ما ترجح عنده على غيره أم لا؟ المسألة حادثة - لا عدمكم المسلمون - والله يتولاكم، والسلام.(6/2683)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العلمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين:
اعلم أن مثل هذه المسألة ليست من مواطن الإنكار على الكامل بأي القولين، ولا يتصدر لإنكار ذلك من له نصيب من علم، وحظ منه (فإنه) (1) قد اختلف (1ب) فيها الأدلة اختلافا أوضح من شمس النهار، واختلف فيها أهل العلم من سلف هذه الأمة وخليفها اختلافا لا ينكره المقصرون فضلا عن المبتحرين في المعارف العلمية، ومن القائلين بالجهر بها جماعة من الصحابة (2).
قال ابن سيد الناس: روي ذلك عن عمر، وابن عمر، وابن الزبير، وابن عباس وعلي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، وقد اختلفت الرواية عن بعض هؤلاء من الصحابة / فروي عن عمر فيها ثلاث رويات: الجهر والإسرار (3)، وترك قراءتها وكذلك روي الاختلاف في ذلك عن علي وعمار وأبي هريرة وروى الشافعي (4) بإسناده عن أنس بن مالك قال: صلى معاوية بالناس بالمدينة صلاة جهر فيها بالقراءة، فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يكبر في الخفض والرفع، فلم فرغ ناداه المهجرون والأنصار فقالوا: يا معاوية، نقصت الصلاة؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم؟ وأين التكبير إذا خفض ورفعت؟ وكان إذا صلى بهم بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكبر.
أخرجه الحاكم في المستدرك (5)، وقال: صحيح على شرط مسلم، وروى. .....
_________
(1) في المخطوط فإن والأصح "فإنه"
(2) انظر "المجموع " (/2983)
(3) قال في " المجموع " (3 - 299): وذهبت طائفة إلى أن السنة الإسرار بها في الصلاة السرية والجهرية حكاه ابن المنذر عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وعمار بن ياسر وابن الزبير والحكم وحماد والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة، وهو مذهب أحمد بن حنبل وأبي عبيد. .. ".
(4) كما في "ترتيب المسند" (1 رقم 223).
(5) (1/ 232)(6/2684)
الخطيب (1) الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم عن أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبي بن كعب، وأبي قتادة، وأبي سعيد، وانس، وعبد الله بن أبي أوفى، وشداد بن أوس، وعبد ااه بن جعفر، والحسين بن علي، ومعاوية.
فالعجب ممن يذعم يزعم أنه من أهل العلم ويستجيز والإنكار على قوم من قال به من هؤلاء الصحابة - رضي الله عنهم -!، قال الخطيب (2): وأما التابعون ومن بعدهم ممن قال بالجهر بها فهم أكثر من أن يذكروا وأوسع من أن يحصروا (2أ) ومنهم سعيد بن المسيب، وطاووس، وعطاء، ومجاهد، وأبو وائل، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، وعكرمة، وعلي بن الحسين، وابنه محمد بن علي، وسالم بن عبد الله عمر، ومحمد بن المنذر، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ومحمد بن كعب، ونافع مولى ابن عمر، وأبو الشعثاء، وعمر بن عبد العزيز، مكحول، وحبيب بن أبي ثابت، الزهري، وقلابة، وعلي بن عبد الله بن عباس وأبنه، والأزرق بن قيس، وعبد الله بن معقل. وهؤلاء أكابر التابعين، وأهل الرواية والفتيا منهم، قال الخطيب (3): وممن بعد التابعين عبيد الله العمري، والحسن بن زيد، وزيد بن علي بن حسين بن علي، ومحمد بن عمر بن علي، وأبن أبي زئيب، والليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه. وزاد البيهقي (4) في التابعين عبد الله بن صفوان، ومحمد بن الحنفية، وسليمان التيمي ومن تبعهم المعمر بن سليمان. قال أبو عمر بن عبد البر (5): كان ابن وهب يقول بالجهر لم يرجع الإسرار.
وحكاه غيره (6) عن ابن المبارك، وأبي ثور، وبه قال جمهور أهل البيت، وقال
_________
(1) ذكره النووي في "المجموع" (3/ 298)
(2) ذكره النووي "في المجموع " (3/ 298)
(3) في "المجموع" (3/ 299)
(4) "التمهيد" (2/ 228 - 230) و"الاستذكار " (4)
(5) "التمهيد" (2/ 228 - 230) "والاستذكار " (4)
(6) ذكره النووي في "المجموع " (3)(6/2685)
البيهقي في الخلافيات (1) أنه أجمع آل الرسول _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ومثله في الجامع الكافي (2) وغيره من كتب أهل البيت. وإليه ذهب الشافعي (3) وأصحابه، وحكي عن أحمد بن حنبل، وأكثر العراقيين، ولاخلاف في إثبات البسملة في المصحف الشريف (4) في جميع أوائل السور إلا سورة التوبة والإثبات دليل على الثبوت.
وقد جعله جماعة من أهل الأصول من الأدلة العلمية، وأجمع القراء السبع على إثباته في أوائل السور إذا أبتدأ بها القارئ إلا سورة التوبة. واختلفوا مع الوصل بسورة قبلها، واحتج القائلون بإثباتها وإثبات قراءتها بأحاديث منها: حديث أنس لما سئل عن قراءة رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كيف كانت؟ فقال: كانت مدا، ثم قرأ ببسم الله الرحمن الرحيم، يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم. أخرجه البخاري (5) وأبو داود (6)، والترمزي (7) والنسائي (8) وابن ماجه.
ولفظه كان يشعر بالاستمرار (9) كما تقرر في الأصول (2ب)، فيستفاد من عموم الأزمان
_________
(1) عن جعفر بن محمد أنه قال: "اجتمع آل محمد _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وعلى أن يقضوا ما فاتهم من صلاة الليل والنهار وعلى أن يقولوا في أبي بكر وعمر أحسن القول ".
" مختصر خلافيات البيهقي" (2).
(2) "الجامع الكافي " تأليف الحسن بن محمد الحسني الديلمي. "مؤلفات الزيدية " (1).
(3) ذكره النووي في "المجموع " (3) وابن قدامة في "المغني " (2).
(4) انظر "الاستذكار " (4 - 167). "المجموع" (3).
(5) في صحيحه رقم (5045 و5046).
(6) في "السنن" رقم (1465).
(7) في "السمائل" رقم (308).
(8) في "السنن" رقم (1014). وهو حديث صحيح.
(9) قال الحافظ في "الفتح" (9): استدل بعضهم بهذا الحديث على أن النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كان يقر أبسم الله الرحمن الرحيم، ورام بذلك معارضة حديث أنس أيضًا المخرج في صحيح مسلم أنه _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كان لا يقرؤها في الصلاة وفي الاستدلال بذلك بحديث الباب -545 - نظر وقد أوضحته فيما كتبه عن النكت على علوم الحديث لابن الصلاح (2) وحاصله أنه لا يلزم من وصفه بأنه إذا قرأ البسمله يمد فيها أن يكون قرأ البسمله في أول الفاتحة في كل ركعة، ولأنه إنما ورد بصورة المثال فلا تتعين البسمله والعلم عند الله تعالى.(6/2686)
والأحوال.
وروى ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكه، عن أ سلمة أنها سئلت عن قراءة رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ فقالت: كان يقطع قراءته آية آية: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. رواه أحمد (1)، وأبو داود (2) وأخرجه أيضًا الترمزي (3)، قال (4): غريب، وليس إسناده بمتصل، وأعله الطحاوي (5) بالانقطاع فقال: لم يسمعه أبن أبي ليلى من أم سلمة. واستدل على ذلك برواية الليث (6) عن ابن أبي مليكة، عن يعلي بن مملك، عن أم سلمة. قال الحافظ ابن حجر (7) وهذا الذي أعل به ليس بعلة، فقد رواه الترمذي (8) من طريق ابن أبي مليكة عن أم سلمة بلا واسطة، وصححه ورجحه على الإسناد الذي فيه يعلى بن مملك انتهى.
وأخرجه الدارقطني (9) عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة، ولم يذكر البسملة. قال اليعمري: رواته موثوقون. بلفظ: كان النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن
_________
(1) في" المسند" (6)
(2) في "السنن" رقم (4001).
(3) في "السنن" رقم (3095).
(4) في "لسنن" (5)
(5) في "شرح معاني لأثار" (1).
(6) في "شرح معاني الأثار" (1).
(7) في "التلخيص" (1).
(8) في "السنن" رقم (2927). وهو حديث صحيح.
(9) في "السنن" (1).(6/2687)
الرحيم. أخرجه الترمذي (1)، والدارقطني (2). قال الترمذي (3): هذا حديث ليس بذاك وفي إسناده إسماعيل بن حماد. (4) انظر"تهذيب التهذيب"
(1). (5) انظر"تهذيب التهذيب (9 رقم360). (6) انظر"تهذيب التهذيب (9 رقم360). (7) (1) وصححه، وخطأه الحافظ ابن الحجر (8) ذكره الحافظ في "التلخيص" (1) وقال: وقد سرقه أبو الصلت الهروي وهو متروك، فرواه عن عباد بن العوام عن شريك وأخرجه الدارقطني (1) ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده، عن يحيى بن آدم، عن شريك، فلم يذكر ابن عباس في إسناده أرسله وهوالصواب من هذا الوجه. (9) في "التلخيص" (1). (10): الصحيح في هذا الحديث أنه روي عن ابن عباس من فعله لا مرفوعًا إلى النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ وأخرج الدارقطني (11) عن ابن عباس أن النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ لم يزل يجهر في السورتين بسم الله الرحمن الرحيم. وفي إسناده عمر بن حفص المكي، وهو ضعيف،
_________
(1) في "السنن" رقم (245) بسند ضعيف
(2) في "السنن" (1).
(3) في"السنن" (2).
(4) في مسنده (1 رقم526 - كشف) وأورده الهيثمي في "المجمع" (1) وقال رواه البزار وفيه عباد بن أحمد العرزمي ضعفه الدارقطني وفيه جابر الجعفي وهو ضعيف.:
إسماعيل لم يكن بالقوي، وقد وثق إسماعيل، ويحي بن معين
(5)، وفي إسناده أبو جالد الوالي هرمز، وقيل هرم.
قال أبو زرعة
(6) لا أعرف من هو. وقال أبو حاتم
(7) صالح الحديث، وله طرق أخرى عن ابن عباس يلفظ: كان يجهر بالصلاة ببسم اللع الرحمن الرحيم. أخرجه الحاكم
(8) في " التلخيص " (1).، وقال: في إسناده عبد الله بن عمرو ابن حسان، وقد نسبه ابن المديني إلى الوضع للحديث
(9) قال ابن حجر
(10) وقال أبو عمر بن عبد البر ذكره الحافظ في "التلخيص" (1).
(11) في "السنن" (1)(6/2688)
وأخرجه (1) وعنه أيضًا من طريق أخرى، وفيها أحمد بن رشد بن خثيم عن عمه سعيد بن خثيم، وهما ضعيفان، ومما أستدلوا به ما أخرجه النسائي (2) من حديث أبي هريرة بلفظ (3أ): قال نعيم المجمر: صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن، وفيه: إذا سلم والذي نفسي بيده، لأشبهكم صلاة برسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_
وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمه (3) وابن حبان (4) والحاكم (5)، وقال على شرط البخاري ومسلم. وقال البيهقي (6): صحيح الإسناد، وله شواهد (7)
وقال الخطيب (8): صحيح ثابت لا يتوجه إليه تعليل. ومما استدلوا به حديث أبي
_________
(1) الدارقطني في "السنن" (1 - 305).
قال الدارقطني في "السنن" (1) بعد سرد احاديث هؤلاء وغيرهم ما لفظه: "وروي الجهر بسم الله الرحمن الرحيم عن النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ من أصحابه وأزواجه غير من سمينا، كتبنا أحاديثهم بذلك في كتاب الجهر بها مفردا واقتصرنا على ما ذكرنا هنا طلبا للاختصار والتخفيف.
(2) في "السنن" (2) عن نعيم المخمر، قال: صليت وراء أبي هريرة رضي الله عنه فقرأ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" ثم قرأ بأم القرآن. حتى إذا بلغ: (وَلَا الضَّالِّينَ) قال "آمين"ويقول كلما سجد، وإذا قام من الجلوس: الله أكبر، ثم يقول إذا سلم: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_. وإسناده ضعيف
(3) في صحيحه رقم (499).
(4) فيصحيحه (1802).
(5) في "المستدرك" (1) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي
(6) في " السنن الكبرى " (246) وهو حديث ضعيف
(7) قال البيهقي في "السنن" (2) وقال الأشبيلي في"مختصر الخلافيات" (2) رواة هذا الحديث كلهم ثقات مجمع على عدالتهم محتج بهم في الصحيح.
(8) في أول كتابه الذي وضعه في الجهر بالبسمله في الصلاة فرواه من وجوه متعددة مرضية ثم قال: هذا قاله النووي في "المجموع" (3).(6/2689)
هريرة عند الدارقطني (1) عن النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح بسم الله الرحمن الرحيم. قال الدارقطني: رجال إسناده كلهم ثقات انتهى.
وفي إسناده عبد الله بن عبد الله الأصبحي (2)، روي عن ابن معين توثيقه وتضعيفه. قال ابن المديني: كان عند أصحابنا ضعيفا. وقد تكلم فيه غير واحد. ومما استدلوا به حديث أبي هريرة عند الدارقطني (3) قال: رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: "إذا قرأتم الحمد فاقرءوا ببسم الله الرحمن الرحيم ". قال اليعمري: وجميع رواته ثقات إلا أن نوح بن أبي بلال الراوي له عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة تردد فيه فرفعه تارة، ووقفه أخرى، وقال ابن حجر (4): هذا الإسناد رجاله ثقات، وصحح غير واحد من الأئمة وقفه على رفعه (5) ومن الأحاديث التي استدلوا بها حديث علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر أن النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كان يجهر في المكتوبات ببسم الله الرحمن الرحيم. أخرجه
_________
(1) في "السنن" (1 رقم38).
(2) انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" (2 - 367).
(3) في "السنن" (1 رقم 36).
قلت: أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (2) وهو حديث ضعيف.
قال الدارقطني في "علله": هذا الحديث يرويه نوح بن أبي بلال، واختلف عليه فيه، فرواه عبد الحميد بن جعفر عنه، واختلف عنه فرواه المعافي بن عمران عن عبد الحميد عن نوح بن أبي بلال عن المقبري عن أبي هريرة مرفوعا، وهو الصواب "
انظر"نصب الرواية" (1) "التلخيص" (1).
قال الأمير الصنعاني في"سبيل السلام" (2) عقب الحديث رقم (16) لا يدل الحديث على الجهر بها ولا الإسرار بل يدل على الأمر بمطلق قراءتها.
(4) في "التلخيص" (421).
(5) ثم قال ابن حجر في "التلخيص" (1): وأعله ابن القطان بهذا التردد وتكلم فيه ابن الجوزي من أجل عبد الحميد بن جعفر، فإن فيه مقالا، ولكن متابعة نوح له مما تقويه. وإن كان نوح وقفه، لكنه في حكم المرفوع إذ لا مدخل للاجتهاد في عد آي القرآن.(6/2690)
الدارقطني (1) وفي إسناده جابر الجعفي (2)، وإبراهيم بن الحكم (3) بن ظهير، وهما ضعيفان
ومنها عن علي عند الدارقطني (4) أن النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كان يجهر في المكتوبات ببسم الله الرحمن الرحيم. قال الدارقطني (5) بعد إخراجه بإسناده: هذا إسناد علوي لا بأس به. وأخرج ابن عبد البر (6) عن عمر أن النبي_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كان إذاقام إلى الصلاة فأراد أن يقرأ قال بسم الله الرحمن الرحيم. قال ابن عبد البر: ولا يثبت فيه إلا أنه موقوف.
ومنها ماأخرجه أبو الشيخ (7) عن جابر قال: قال رسول الله_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: "كيف تقرأ إذا قمت إلى الصلاة؟ "قلت: أقرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فقال: " قل بسم الله الرحمن الرحيم".وفي إسناده الجهم بن عثمان (3ب) قال أبو حاتم: مجهول.
ومنها عن سمرة بن جندب قال: كان لرسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ سكتتان: سكتة إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وسكتة إذا فرغ من القراءة. فأنكر ذلك عمران بن حصين، فكتبوا إلى أبي بن كعب فكتب أن صدق سمرة. أخرجه الدارقطني (8)، وإسناده جيد. ومنها
_________
(1) في "السنن" (1 - 303).
(2) انظر "تهذيب التهذيب" (1 - 286). قال النسائي: متروك الحديث
(3) قال الحافظ في " اللسان" (1): إبراهيم بن الحكم بن ظهير الكوفي شيعي جلد. قال أبو حاتم كذاب روى في مثالب معاوية فمزقنا ما كتبنا عنه. وقال الدارقطني ضعيف
(4) في "السنن" (1 رقم 1).
(5) في "السنن" (1). ولكن الزيعلي قال: قال شيخنا أبو الحجاج المزي: هذا إسناد لا تقوم به حجة وسليمان هذا لا أعرفه. " نصب الراية " (1).
(6) انظر"التمهيد " (3). و"الاستذكار" (4 - 165).
(7) أخرجه الدارقطني (1 رقم 22).
(8) في"السنن" (1).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (777) والترمذي رقم (251) وقال: حديث حسن وابن ماجه، رقم (844).
وهو حديث ضعيف. انظر "الإرواء " رقم (505).(6/2691)
عن أنس قال: كان النبي_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم. أخرجه الدارقطني (1)، وله طريق أخرى عنه عند الدارقطني (2)، والحاكم (3). وأخرج الحاكم (4) عنه قال: سمعت رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. قال الحاكم (5): ورواته كلهم ثقات.
ومنها عن عائشة أن رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. ذكره ابن سيد الناس في شرح الترمذي (6)، وفي إسناده الحكم بن عبد الله بن سعد، وقد تكلم فيه غيرواحد. ومنها عن بريدة بن الحصين (7) نحو حديث عائشة، وفي جابر الجعفي (8)، وله (9) طريق أخرى فيها سلمة بن صالح (10) وهو ذاهب الحديث، ومنها عن ابن عمر قال: " صليت خلف رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ وأبي بكر وعمر، فكانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم ". أخرجه الدارقطني (11)، قال ابن ......................
_________
(1) في "السنن" (1 - 309).
(2) في "السنن" (1).
(3) في "المستدرك" (1).
(4) في "المستدرك" (1 - 234) وقال: رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات وأقره الذهبي.
(5) في "المستدرق" (1).
(6) لم يطبع منه إلا جزء من الطهارة بعنوان " النفح الشذي بشرح الترمذي ".
(7) أخرجه الدارقطني في "السنن" (1 رقم 20).
(8) تقدمت ترجمته.
(9) أي الدارقطني في "السنن" (1 رقم 29).
(10) قال النسائي ضعيف، وقال أبو حاتم: واهي الحديث، لا يكتب حديثه. وقال ابن معين: ليس بشيء كتبت عن. "لسان الميزان " (3).
(11) في "السنن" (1).(6/2692)
ابن حجر (1): وفيه أبو طاهر (2) أحمد بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي وقد كذبه أبو حاتم (3) وغيره
وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا، ولايخفاك أن في هذه الأحاديث التي ذكرنا فيها الصحيح، والحسن، والضعيف، فكيف يتوجه الإنكار على من عمل بها وبعد ذلك من منكرات الشريعة، ومن الابتداع في الدين، وهل هذا صنيع أهل العلم وم يحمل الحجج الشرعية! وقد عارض هذه الأحاديث حديث أنس عند أحمد (4) ومسلم (5) قال:"صليت خلف رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم أسمع أحدا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. وفي لفظ لا أحمد (6) والنسائي (7): فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. وفي لفظ لمسلم (8) وأحمد (9): وكانوا يستفتحون القراءه بـ الحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم.
وقد أعل هذا اللفظ (4أ) بالاضطراب، لأن جماعة من أصحاب شعبة (رووه) (10) بلفظ: كانوا يسفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، كما في الصحيحين (11)
_________
(1) في " التلخيص" (1).
(2) انظر "الميزان" (1 - 127 رقم 509). " المغني في الضعفاء" (1).
(3) انظر " الضعفاء والمتروكين" (1 رقم 231) لابن الجوزي
(4) في "السند" (3).
(5) في صحيحه رقم (52) وهو حديث صحيح.
(6) في "المسند" (3، 114).
(7) "في السنن" (2)، وهو حديث صحيح
(8) في صحيحه رقم (52).
(9) في " المسند" (3) وهو حديث صحيح.
(10) في المخطوط مكرر.
(11) البخاري رقم (743) ومسلم رقم (50).(6/2693)
وغيرهما (1). وجماعة (2) رواه بلفظ: فلم أسمع أحدا منهم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وللحديث ألفاظ كثيرة، وفي الباب عن عائشة عند مسلم (3)، وعن أبي هريرة عند ابن ماجه (4)، وفي إسناده بشر بن رافع (5)، وقد ضعفه غير واحد.
وله حاديث آخر عند أبي دواد (6)، والنسائي (7) وابن ماجه (8)، وأخرج أحمد (9) والترمذي (10)، والنسائي (11)، وابن ماجه (12) عن ابن عبد الله بن مغفل، قال: سمعني أبي وأنا أقول بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: يابني إياك والحدث، فإني صليت مع رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_، ومع أبي بكر، وعمر، وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقولها، فلا تقلها، إذا قرأت فقل: الحمد لله رب العالمين، وقد حسنه الترمذي، وقال تفرد به الجريري (13) وقد قيل: إنه اختلط بآخره. وفيه ايضا ابن عبد الله بن مغفل (14) قيل اسمه
_________
(1) كأبي داود ررقم (782) والترمذي رقم (246).
(2) انظر التعليقة السابقة.
(3) في صحيحه رقم (498).
(4) في "السنن" رقم (418) وهو حديث صحيح لغيره.
(5) قال أحمد: ضعيف. انظر "الميزان" (1) و"بحر الدم" رقم (116).
(6) لم أقف عليه عند أبي داود.
(7) لم أقف عليه عند النسائي.
(8) في "السنن" رقم (814) وهو حديث صحيح لغيره.
(9) (4)
(10) في"السنن"رقم (244) وقال: حديث عبد الله بن مغفل حديث حسن.
(11) في"السنن" (2 رقم908)
(12) في"السنن"رقم (518) وهو حديث ضعيف.
(13) وهو سعيد بن إياس الجريري، بضم الجيم، أبو مسعود البصري ثقة، من الخامسة اختلط قبل موته، بثلاث سنين. مات سنة 144هـ.
(14) انظر "مختصر خلافيات البيهقي" (2 - 45).(6/2694)
يزيد، وهو مجهول لا يعرف، لم يرو عنه إلا أبو نعامة، وقد رواه إسماعيل بن مسعود عن خالد بن عبد الله الواسطي، عن عثمان بن غياث (1)، عن أبي نعامة (2)، عن ابن عبد الله بن مغفل، ولم يذكر الجريري، وإسماعيل هو الجحدري. قال أبو حاتم: صدوق.
وروي عنه النسائي. فعثمان بن غياث متابع للجريري، وقد وثق عثمان أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وأخرج له البخاري ومسلم. وقال ابن خزيمة (3):هذا حديث غير صحيح. وقال الخطيب (4) وغيره: ضعيف. قال النووي (5): ولا يرد على هؤلاء الحفاظ قول الترمذي: إنه حسن. انتهى.
وسبب تضعيف هذا الحديث جهالة ابن عبد الله بن مغفل (6). قال أبو الفتح اليعمري: والحديث عندي ليس معللا بغير جهالة في ابن عبد الله بن مغفل. انتهى.
وها جملة ما استدل به القائلون بالإسرار بالبسملة، أو بتر قراءتها بالمرة. ولا شك أنها من حيث ثبوت بعضها في الصحيحين أرجح في الأحاديث القاضية بأثبات قراءة البسملة، لكن أحاديث (4ب) إثبات قراءة البسملة لها مرجحات أخرى. منها كثرتها
_________
(1) عثمان بن غياث، الراسي أو الزهراني: البصري، ثقة، رمي بالإرجاء من السادسة.
انظر"التقريب" (2).
(2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (1) وقال: أبو نعامة قيس بن عباية لم يحتج به الشيخان.
وقد ضعفه البيهقي في "معرفة السنن والآثار" وبين سبب ضعفه.
وانظر "نصب الراية" (1).
(3) ذكره الزيعلي في "نصب الراية" (1).
(4) ذكره الزيعلي في "نصب الراية" (1).
(5) في"الخلاصه" (1): ولكن أنكره عليه الحافظ، وقالوا: هو حديث ضعيف لأن مداره على ابن عبد الله بن مغفل وهو مجهول.
وممن صرح بهذا ابن خزيمة، وابن عبد البر، والخطيب البغدادي، وآخرون ونسب الترمذي فيه إلى التساهل.
(6) انظر التعليقة السابقة(6/2695)
كما عرفت، مع شهادة بعضها لبعض، والمثبت أولى من النافي، ومنها أنها مشتملة على الزيادة، وهي صفة الجهرية، والمشتمل على الزيادة أرجح مما اشتمل على الأصل المزيد، ومنها أن أنسا قد روي عنه خلاف ذلك كما قدمنا، ومنها أن الدارقطني (1) أخرج عن أبي سلمة قال: سئلت أنس بن مالك: أكان رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يستفتح بالحمد لله رب العالمين، أو بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: إنك سألتني عن شيء ما أحفظه، وما سألني عنه أحد من قبلك، قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح، وعروض النسيان في مثل هذا غير مستنكر. انتهى.
فعلى هذا إن أنسا رضي الله عنه استند في النفي المذكور في حديثه إلى عدم الذكر، وعروض النسيان له، وإن كان بعض ألفاظ حديثه يأبى ذلك. ومنها أنه قد قيل: إن المشركين كانوا يحضرون المسجد، فإذا قرأ رسول الله_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا: إنه يذكر رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة (2)، فأمر أن يخافت ببسم الله الرحمن الرحيم.
كذا قال القرطبي (3)، وقد روى هذا الحديث الطبراني في الكبير (4) والأوسط (5) وقد قال في مجمع الزوائد (6): إن رجاله موثقون، وهذا جمع حسن، ولكن لا يخفاك أن علة
_________
(1) في "السنن" (1 رقم 6)
(2) تقدمت ترجمته.
(3) في تفسيره (1).
(4) (11 - 440رقم12245).
(5) (5 رقم 4756).
(6) (2). قال القرطبي في "المفهم" (2): اختلف الفقهاء في - ترك قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة: فمن قال: هي من الفاتحة، كالشافعي، وأصحاب الرأي قرأها فيها. ومن لم ير ذلك، كالجمهور، فهل تقرأ في الصلاة أو لا؟ وإذا قرئت، فهل يجهرها مع الحمد أو يسر؟ فمشهور مذهب مالك: أنه لا يقرؤها في الفرائض، ويجوز له أن يقرأها في النوافل تمسكا بالحديث، وعنه رواية أخرى: أنها تقرأ أول السورة في النوافل، ولا تقرأ أول أم القرآن، وروى عنه ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصلاة الفرض والنفل، ولا تترك بحال، وأما هل يجهر بها؟ فالشافعي يجهر بها مع الجهر وأما الكوفيون فيسرونها على كل حال.
والصحيح أن البسملة ليست آية من القرآن، إلافي النمل حاصة، فأنها آية هناك مع ما قبلها بلا حلاف، وأما في أوائل السورة، وفي أول الفاتحة فليست كذالك، لعد القطع بذالك، ومن ادعى القطع في ذلك عورض بنقيض دعواه. وقد أتفقت الأمه على أنه لا يكفر نافي ذلك ولا مثبته.
وانظر: "المغني" (2).(6/2696)
توهم المشركين عند ذكر بسم الله الرحمن الرحيم أنه _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يذكر رحمن اليمامة كائنة عند قراءة الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، فلا يتم هذا التعليل الذي ذكروه لعدم قراءة البسملة، وقد جمع بعض المحققين بين أحاديث الإثبات والنفي بأن النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كان يقرؤها تارة، ويخفيها أخرى، وجمع غيره بغير ذلك، وقد طولت الكلام على هذه المسألة في رسالة سميتها الرسالة المكملة في أدلة البسملة (5أ) ولم أجدها عند تحرير هذا، وفيما ذكرناه كفاية؛ إذ ليس مطلوب السائل - كثر الله فوائده-إلا ما ذكره في سؤاله من إنكار بعض أهل العلم على من جهر بالبسملة، وزعمه أن ذلك بدعة، وإلزام الناس بترك الجهر بها، ومعاقبته لمن جهر بها، فأن ما ذكرنا هاهنا يكفي في دفع الإنكار، وردع المنكر لذلك إذا كان ممن يعقل حجج الله - سبحانه -، ويعرف مواطن الإنكار التي أمر الله عباده بالإنكار على من فعلها، وأخذ على الحاملين لحجج الله أن يأخذوا على يد مرتكبيها ويأطروه على الحق أطرا، وأما مثل هذه المسألة فليس الإنكار فيها إلا من باب إنكار المعروف، وتفريق كلمة عباد الله بغير حجة نيرة، ولا برهان واضح.
والمهدى من هداه الله. وحسبنا الله ونعم الكيل.
كتبه محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -.(6/2697)
جواب سؤالات وردت من بعض العلماء
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(6/2699)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الطاهرين، وأصحابه الراشدين.
وبعد:
فإنها وردت هذه الأسئلة الجليلة من سيدي العلامة صافي الدين أحمد بن يوسف زبارة (1) - سدد الله إيراده وإصداره، وكثر الله فوائده، وأعلا مناره -.
(الأسئلة)
ولفظها: عرض لمحبكم إشكالات أفضلوا بإيضاح الجواب في حل إشكالها - أدام الله عليكم النعماء بأسمائه الحسنه ونوره الأسمى-.
الأول: ما الدليل على قراءة المؤتم بعد الإمام غير الفاتحه مع النهي بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "لاتفعلوا إلا بفاتحة الكتاب" (2) وظاهره العموم، سواء كانت الصلاة جهلاية أو سرية، ومن قال: إنما النهي من يقرأخلفه في الجهرية فقد أغرب، فإن الحديث الذي رواه مسلم (3) عن عمران بن حصين قال: صلى بنا رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صلاة الظهر أو العصر فقال: "أيكم قرأخلفي سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى؟ "فقال رجل: أنا ولم أرد إلا الخير قال: "قد علمت أن بعضكم خالجنيها "وبمثلها الرواية (4)
_________
(1) السيد أحمد بن يوسف بن الحسين بن علي زبارة ولد سنة 166هـ توفي سنة 1252هـ قرأ على مشايخ صنعاء، فمن جملة مقروءاته، القراءت السبع تلاه الشيخ العلامة هادي بن حسين القارني، وقرأ النحو والصرف، والمعاني والبيان والأصول على مشايخ صنعاء. "البدر الطالع" رقم (81)، "نيل الوطر" (1).
(2) سيأتي تخريجه.
(3) في صحيحه رقم (47).
(4) عند مسلم في صحيحه رقم (48).(6/2705)
الثانية، وقال: صلى الظهر، وفيه: "قد ظننت أن بعضكم خالجنيها" والرواية (1) الثالثة، وفيه صلى الظهر وقال: "قد علمت أن بعضكم خالجنيها "فعلى هذه الروايات ظهر لي أن الأقوى عدم القراءة خلف الإمام مطلقا كقول أبي حنيفة وأصحابه، ما عدا بالفاتحة للمخصص، فأفضلوا بما يحل للأشكال - أحسن الله إليكم -.
الثاني: في اللعان: لو حلف الملاعن إنه لصادق فيما رمى زوجته من الزنا، ونفى ولدها أربعا فأجابت أنه كاذب فيما رماها بها من الزنا، وأنه -أي الولد - من غلط أوشبهة فهل نقول: يجب عليها الرجم وانتفاء الولد بشهادة زوجها أو لا يكفي ذلك بل نقول: لا ينتفي الولد ولا يجب الرجم لدعواها الشبهة المحتملة؟ أفضلوا بإيضاح مبهم المشكل- أحسن الله إليكم -.
الثالث: في رجل أقر بعلوق أمته من مائة، ثم مات ولم تحض، ولم يعلم هل ثبتت من أهل الحيض متقدما أم لا؟ وهل الحيض منقطع لعارض أو غير ثابت من الأصل، ولم يظهر من الإمارات سواه، فكم ينتظر للأمه بعد الإقرار العلوق لثبوت الشك أشهر فما دون كما ذكره أهل المذهب أنه لا يثبت إلا إذا علم بحركة ضرورية، أو أتت به بدون ستة أشهر، لأنهم يجبون أن يدعيه، ويكفي تلك الدعوة لمن ولد بعدها بدون أدنى مدة الحمل لا أكثر منها، فلا يلحق (1أ) الحمل بعدم الدعوة وتعذرها بعد موته أم يكفي دعوتها مع قولهم: ولا يصبح من السبي في الرحامات؟ فأفضلوا بإيضاح هذه الثلاثة الإشكالات فهي حوادث في الزمان - كثر الله إفادتكم، وشرح لكم الصدر - انتهى.
_________
(1) عند مسلم في صحيحه رقم (49).(6/2706)
(الجواب)
أقول: الجواب عن السؤال الأول - بمعونة الله - يتضح بإيراد الأدلة القاضية بمنع القراءة خاف الإمام، وتقييدها بما يفيد اختصاص ذلك بالجهرية دون السرية.
الدليل الأول: مما استدلوا به قول الله- عز وجل-: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) (1) وهذه الآية إنما تدل على المنع من القراءة حال جهر الإمام بالقراءة لقوله: (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) والاستماع إنما يكون لقراءة مجهور بها لا لقراءة مخافتة، وما كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يجهر بالقراءة إلا في الصلوات الجهرية، لا في الصلوات السرية، فإنه يخافت بها، وما يعرفون قراءته فيها إلا باضطراب لحييه كما ثبت ذلك. وقد يسمعهم الآية أحيانا على جهة الندرة والقلة فيعرفون أنه قرأ بسورة كذا. وغاية ما يلزم من ذلك أنه ينصت المؤتم في السرية إذا سمع جهر الإمام بتلك الآية التي يجهر بها نادرا، وذلك لا يستلزم ترك القراءة مطلقا لا شرعا، ولاعقلا.
الدليل الثاني: ما ثبت عند أهل السنن (2) وغيرهم (3)، وصححه جماعة من الأئمة من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الذي رواه أبوهريرة: " إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا" فهذا يدل على وجوب الإنصات عند وقوع القراءة. وقد تبين كونه قال ذلك في صلاة جهرية بما أخزجه أبو داود (4)، والنسائي (5) ..............................
_________
(1) [الأعراف: 204].
(2) أخرجه أبو داود رقم (604) والنسائي (2) وبن ماجه رقم (846).
(3) كأحمد (2). والطحاوي في" شرح معاني الآثار" (1) والدارقطني (1 رقم 10)
وهو حديث صحيح.
(4) في "السنن" رقم (862)
(5) في السنن (2 - 141 رقم 919).(6/2707)
والترمذي (1) وحسنه من حديث أبي هريرة قال: أنصرف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال:: هل قرأ معي أحد منكم آنفا؟ "فقال رجل: نعم يارسول الله، فقال: "إني أقول مالي أنازع القرآن".
الدليل الثالث: أخرج أبو داود (2) والترمذي (3) من حديث عبادة بن الصامت قال: صلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-الصبح فثقلت عليه القراءة، فلم أنصرف قال: "إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم" قال: قلنا: يارسول الله إي والله قال: "لا تفعلوا إلا بأم الكتاب، فإن لا صلاة لمن لم يقرأ بها " وفي لفظ: "فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن"ففي اللفظ الأول التصريح بأن ذلك في صلاة الصبح، وفي اللفظ الآخر التصريح بتقيد النهي عن القرآن بجهر الإمام بها. وقد أخرج الرواية الثانية هذه أيضًا [1ب] مالك (4) وأحمد (5)، والدارقطني (6)، وقال: كل رواتها ثقات.
وأخرج الدارقطني (7) وقال: رجاله كلهم ثقات من حديث عبادة بن الصامت أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا يقرأن أحدكم شيئا من القرآن إذا جهرت" (8)
_________
(1) في "السنن" رقم (312) وقال: هذا حديث حسن. وهو حديث صحيح.
(2) في "السنن" رقم (823).
(3) في "السنن" رقم (311).
قلت: وأخرجه أحمد (5) والدارقطني (1318 رقم 5) وابن خزيمة (3 - 37 رقم1581) وابن الجارودفي "المنتقي"رقم (321) والحاكم (1). وهو حديث صحيح.
(4) لم أجده في الموطأ.
(5) في "المسند" (5).
(6) في "السنن" (1) وهو حديث ضعيف.
(7) في"السنن" (1).
(8) في هامش المخطوط: "يقال مسألة إن مفهوم الشرط صلح للتقيد إذا لم يعارض بما هو أقوى منه وقد عارضه " لا تقرءوا إلا بفاتحة الكتاب" تمت.(6/2708)
بالقراءة" ولا يخفاك أن هذه القيود صالحة لتقييد ما ورد مطلقا كحديث عبد اللهبن شداد (1)
وهو الدليل الرابع: من هذه الأدلة التي ذكرناها ولفظه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: " من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له " أخرجه مالك (2) وأحمد (3)، والترمذي (4) وقال (5): حسن صحيح: والدارقطني (6) وقال: وقد روي مسندا من طرق كلها ضعاف، والصحيح أنه مرسل، وقد تقرر في الأصول وجوب حمل المطلق على المقيد (7)، فما يرد مطلقا من الأحاديث الدالة على ترك القراءة خلف الإمام فهو يقيد بذلك القيد الثابت من طرق صحيحة، مع ما يعضده من دلالة الكتاب العزيز بقوله: (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) فإنه لا يستمع إلا لقراءة مجهورة كما سلف. وأما ماذكره
_________
(1) في"الموطأ" رقم (117) رواية محمد بن الحسن الشيباني.
(2) في"الموطأ" رقم (117) رواية محمد بن الحسن الشيباني.
(3) في "المسند" (3).
(4) في "السنن" (2).
(5) في السنن" (2).
(6) في "السنن" (1 رقم4).
قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (850) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1) والدارقطني 1 رقم20) وابن عدى في "الكامل" (6) وعبد بن حميد في "المنتخب" رقم (1050) وأبو نعيم في "الحلية" (7) من طرق عن جابر قال: قال رسول الله_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ".
وهو حديث حسن.
قال المحدث الألباني في " الإرواء"رقم (500): حديث حسن ثم قال: روى عن جماعة من الصحابة منهم. عبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود وأبو هريرة، وابن عباس وفي الباب عن أبي الدرداء وعلي، والشعبي مرسلا.
(7) انظر "الكوكب المنير" (3) و"المسودة " (ص99).(6/2709)
السائل - كثر الله فوائده - من الاستدلال بحديث عمران بن حصين وهو الصحيحين (1) وغيرهما (2) أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- صلى الظهر، فجعل رجل يقرأ خلفه: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) فلما انصرف قال:"أيكم قرأ؟ أو أيكم القارئ؟ " فقال: "قد ظننت أن بعضكم خالجنيها". وفي لفظ (3): "قد علمت أن بعضكم خالجنيها" (4) فهذا ليس فيه النهي عن قراءة المؤتم خلف الإمام في السرية سرا، بل فيه النهي عن أن يجهر المؤتم في السرية بقراءة يخالج فيها إمامه، وذلك لا يكون إلا بقراءة مجهورة. ولم يذكر في هذا الحديث النهي للمؤتمين به عن القراءة لا سرا ولا جهرا، ولكنه يفهم من وصف تلك القراءة بتلك السورة بأنها مخالجة له.
_________
(1) بل أخرجه مسلم في صحيحه رقم (48) كما ذكر المصنف في بداية الرسالة.
وأخرجه البخاري في "القراءة خلف الإمام" (ص92).
(2) كأحمد (4) وأبو داود رقم (829) والبيهقي (2) والنسائي (3). وابن حبان في صحيحه رقم (1845). وهو حديث صحيح.
(3) عند مسلم في صحيحه رقم (398).
(4) قال الخطابي في "معالم السنن" (1): قوله: "خالجنيها" أي: جاذبنيها، والخلج: الجذب، وهذا وقوله: "نازعنيها" سواء وإنما أنكر عليه محاذاته في قراءة السورة حتى تداخلت القراءتان وتجاذبته وأما قراءة فاتحة الكتاب فإنه مأمور بها في كل إن أمكنه أن يقرأ في السكتتين فعل وإلا قرأ معه لا محالة.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فروى عن جماعة من الصحابة أنهم أوجبوا القراءة خلف الإمام وروي عن آخرين أنهم كانوا لا يقرءون، وافترق العلماء فيه على ثلاثة أقاويل. فكان مكحول والأوزاعي والشافعي وأبو ثور يقولون: لا بد من أن يقرأ خلف الإمام فيما يجهر به وفيما لا يجهر.
وقال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق يقرأ فيما أسر الإمام فيه ولا يقرأ فيما يجهر به. وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي: لا يقرأ أحد خلف ال. وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي: لا يقرأ أحد خلف الإمام جهر الإمام أو أسر، واحتجوا بحديث رواه عبد الله بن شداد مرسلا عن النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة".وهو حديث حسن وقد تقدم تخريجه.(6/2710)
إن مثل ذلك لا يحسن، وليس في قراءة المؤتم خلف إمامه سرا مخالجة البتة. ولم يرد النهي عنه في شيء من السنة، فلا وجه حينئذ (1) لجعل ذلك دليلا على ترك القراءة في السرية مطلقا، أو تركها إلا بفاتحة الكتاب. بل يقرأ المؤتم خلف إمامه في صلاة السر بما أراد، لكن قراءة مسرورا غير مجهورة.
وأما الصلاة المجهورة التي ورد النهي عن القراءة فيها إلا بفاتحة الكتاب (2) فلا يقرأ بشيء إلا مخصصه الدليل، ومن جملة ما خصه الدليل فاتحة الكتاب تخصيصا متصلا خارجا من مخارج صحيحة، وحسنة. وقد تقر ان بناء العام على الخاص [2أ] مجمع عليه (3)، وذلك لا يستلزم الإجماع على أنه لا بد للمؤتم من قراءة فاتحة الكتاب خلف إمامه في الجهرية، ومن قال من اهل العلم بأنه لا يقرأ أبدا مع كونه ممن يقول بهذا الأصل
_________
(1) قال القرطبي في "المفهم " (2: قوله: "قد علمت أن بعضكم خالجنيها" أي: خالطنيها، ويروى: "نازعنيها" أي كأنه نزع ذلك من لسانه وهو مثل حديثه الآخر: "مالي أنازع القرآن" ولاحجة فيه لمنكري القراءة، لأن النبي_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_، إنما أنكر المخالجة لا القراءة.
وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (2 - 286): في هذا الحديث القراءة في صلاة الظهر والعصر، وقد جاء في هذا الحديث من أكثر الطرق "صلاة الظهر" بغير شك، وقد يحتج به من يمنع القراءة جملة خلف الإمام. ولا حجة له فيه لأنه لم ينهى عنه وإنما أنكر مجاذبته للسورة، فقال: " قد علمت أن بعضكم خالجنيها" ولم ينههم عن القراءة كما نهاهم في صلاة الجهر، وأمرهم بالإنصات، وإنما ينصت لما يسمع بل في هذا الحديث حجة أنهم كانوا يقرؤون خلفه، ولعل إنكار النبي_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كان لجهر الآحر عليه فيها أو ببعضها حين خلط عليه لقوله: "خالجنيها" وقد اختلفت الآثار في قراءة النبي_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ فيهما، والصحيح والأكثر قراءته فيهما وهو قول الجمهور من السلف والعلماء وإنما روى تركه القراءة عن ابن عباس وقد روى عنه خلافه.
وفيه قراءة المأموم فيما أسر فيه إمامه، وأن نهي النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ إنما هو لمنازعته السورة التي قرأ بها لقوله: "خالخنيها" وأن نهيه أن يقرأ معه إنما كان فيما جهر فيه كما جاء في الحديث مفسرا. ... ".
(2) تقدم ذلك.
(3) انظر"البحر المحيط" (3 - 410) للزركشي.(6/2711)
أعني بناء العام على الخاص، ويعمل به في مسائل الشرع فالحجة عليه قائمة، فإن قال معتذرا عن ذلك بإنكار الإجماع على بناء العام على الخاص فهذه كتب الأصول بأسرها ترد عليه، وهي موجودة على ظهر البسيطة، وإن قال معتذرا عن ذلك بأنه لم يقف على الخاص أو لم يثبت له فالحجة عليه قائمة بوجوده في دواوين الإسلام وغيرها من طرق ينتهض بعضها (1) للاحتجاج به، فاضلا عن كلها، ولاسيما مع ما ثبت من طرق كثيرة في الصحيحين (2) وغيرهم (3) بأنه: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، وورد ايضا ما يدل على أن الفاتحة متعينة في كل ركعة على كل مصلى كما ورد في بعض طرق حديث المسيء من قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "ثم كذلك في كل ركعاتك افعل "
(4) وورد (5) أيضا ما يؤيد ذلك ويقويه.
_________
(1) في حاشية المخطوط: " من أصول ما يغني للقراءة بعد الإمام في الجهرية بأن تقديم الدليل القطعي على الظني واجب والدليل القطعي قوله تعالى: (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) والله أعلم. يقال هو ظني الدلالة فيما نحن بصدده كما يعرف ذلك اطلع على تفسيرها، هذا على تسليم أن القراءة سرا ينافي الاستماع والإنصات".
(2) أخرجه الخاري في صحيحه رقم (756) ومسلم رقم (34).
(3) كأحمد (5) والدارمي (1) وأبو داود رقم (822) والترمذي رقم (247) والنسائي (2) وابن ماجه رقم (837) والدارقطني (1 رقم 17) والبيهقي (2).
(4) أخرجه أحمد (4) وابن حبان في صحيحه رقم (1787) وأبو داود رقم (857و858) و (861) والنسائي (2) والبيهقي في " السنن" (2، 134، 372، 374، 385) وابن خزيمة في صحيحه رقم (545) والحاكم (1/ 241، 242) وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
كلهم من حديث رفاعة بن رافع الزرقي: أن النبي_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ علمه -المسيء لصلاته -أن يقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن يقرأ ثم قال له: "اصنع ذلك في كل ركعة ".
وهو حديث صحيح.
(5) (منها) ما أخرجه مسلم رقم (41) وأبو داود رقم (821) والترمذي رقم (247) والنسائي (2) وأحمد (2) ومالك في "الموطأ" (1 رقم 39) والشافعي في "الأم" (1) والبيهقي (2) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج " يقولها ثلاثا بمثل حديثهم.
(ومنها) ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (39) وأبو داود رقم (812) والترمذي رقم (247) والنسائي (2 - 136) ومالك (1 رقم 39) وأحمد (2) عن أبي هريرة رضى الله عنه سمعت رسول الله_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يقول: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج هي خداج غير تمام" قال: فقلت: يا أبا هريرة إن أحيانا أكون وراع الإمام، قال فغمز ذرعي ثم قال: اقرأ بها في نفسك يافارسي، فإني رسول الله_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يقول: "قال الله تبارك وتعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل" قال رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: "اقرؤوا، يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله تبارك وتعالى: حمدني عبدي. .. "(6/2712)
وقد قال بعض اهل العلم: إن النهي عن القراءة خلف الإمام في الجهرية متوجه إلى قراءة من المؤتم ينازع فيها إمامه، ويخلط عليه. واستدل بما وردا في بعض الروايات بلفظ: "مالي أنازع القرآن (1) وفي بعضها بلفظ: "خلطتم علي " (2) وفي بعضها: "قد علمت أن بعضكم خالجنيها" (3). ومعلوم أن المنازعة والمخالجة والخلط على الإمام لا يكون إلا بقراءة مجهورة، فنهى عنها واستثنى من ذلك فاتحة الكتاب. وهذا الاستثناء يقتضي جواز الجهر بالفاتحة، وجواز الإسراربما عداها، ولم يدفع ذلك من قال بأن النهي متوجه إلى مطلق القراءة إلا بقول أنس بن مالك (4): "أقرأ بها يافارسي في نفسك" (5) وهذا دفع غير صحيح لما تقرر من عدم حجية أقوال بعض الصحابة في المسائل التي هي مطارح الاجتهاد، ومسارح القول بالرأي، وأنما الحجة إجماعهم كما هو مقرر في موطنه.
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.
(4) في حاشية المخطوط: "صوابه أبو هريرة كما هو في صحيح مسلم".
(5) تقدم تخريجه آنفا.(6/2713)
وقد عرفت أن حمل المطلق على المقيد قاعده مقررة في الأصول (1)، مدلول عليها بما تقتضيه لغة العرب من ذلك، على أن هذا الدفع من أصله غير وارد، ولا يصح الاستدلال به على توجه النهي إلى مطلق القراءة، لأن قوله: "أقرأ به في نفسك" (2) ليس فيه إلا إسرار المؤتم لقراءة الفاتحة خلف إمامه (3)، وذلك لا يدل على ما استدلوا به عليه [2ب] من توجه النهي إلى مطلق القراءة، وباينه أن توجه النهي إلى مطلق القراءة كما قال يستلزم أن يكون الاستثناء للفاتحه على الطريقة التي كان النهي عليها كما هو شأن الاستثناء، وذلك يقتضي أن يجوز الجهر بها كما يجوز الإسرار بها. فأنس بن مالك أفتى بأحد الجائزين المفهومين من المستثني منه والمستثني، فإنك إذا قلت: أكرم القوم إلا بني فلان كان هذا التركيب دالا على إكرام كل القوم على أي صفة كانوا، وعلى أي حال من أحوالهم صاروا وعدم إكرام بني فلان على أي صفة كانوا، وعلى أي حال من أحوالهم صاروا، لما تقرر من دلالة العام على ما لا بد منه من الأزمنة والأوصاف والأحوال كما يفيد عموم الأشخاص، فهذا تقرير الدليل الذي استدل به ذلك البعض على ماقالوا، وفيه من القوة ما تراه، وإن كنت لا أوافقهم في ذلك لأمرين:
_________
(1) انظر "البحر المحيط " (3 - 412) للزركشي.
(2) تقدم تخريجه من حديث أبي هريرة.
(3) قال القرطبي في "المفهم" (2): واختلف العلماء في القراءة في الصلاة: فذهب جمهورهم إلى وجوب قراءة أم القرآن للإمام والفز في كل ركعة وهو مشهور، قول مالك، وعنه أيضًا أنها واجبه في جل الصلاة وهو قول إسحاك وعنه. أنها تجب في ركعة واحدة وقاله المغيرة والحسن وعنه: أن القراءة لا تجب في شيئا من الصلاة وهو أشذ الروايات.
وحكى عنه: أنها تجب في نصف الصلاة. وإليه ذهب الأوزاعي؛ وذهب الأوزاعي أيضا، وأبو أيوب وغيرهم إلى أنها تجب على الإمام، والفذ والمأموم على كل حال، وهو أحد قولي الشافعي.(6/2714)
الأول: أن الأمر كما لو كان كما ذكروه لكان الخلط على الإمام، والمنازعة والمخالجة موجودة بوجود الجهر بالفاتحة فلا تحصل المصلحة المقصودة من النهي، ولا تندفع المفسدة المدفعوة به.
الأمر الثاني: أنه لم يرد دليل صحيح أو حسن يدل على أن الصحابة - رضي الله عنهم - بعد هذا النهي كانوا كلهم أو بعضهم أو فردا من أفرادهم يجهرون بالقراءة خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بفاتحة الكتاب، ولا خلف من كان يؤمهم بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك من جاء بعدهم من التابعين وتابعي التابعين. (1)
وأما الجواب عن السؤال الثاني:
فنقول: إن كان لدعواهها من غلط أو شبهة ما يدل عليها دلالة تقتضي أن تلك الدعوة تفيد الشبهة التي تدرأ بها الحدود كان ذلك مقتضيا لبطلان ذلك اللعان (2) من الأصل، ودرء الحد، فإن عروض هذه الشبهة الدافعة للحد تفيد أنه كان الرمي في حال لا يجب عليهما فيه الحد.
وأما إذا لم يكن لتلك الدعوى وجه صحة أصلا فقد وقع اللعان بينهما
_________
(1) انظر "المغني" (2 - 158).
(2) اللعان: وهو مشتق من اللعن، لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذبا.
وقيل: سمي بذلك لأن الزوجين لا ينفكان من أن يكون أحدهما كاذبا فتحصل اللعنة عليه، وهي الطرد والإبعاد. والأصل فيه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [النور 6: 9].(6/2715)
وتمت ألفاظه المعتبرة، وسقط الحد عليهما جميعا، وثبتت بينهما أحكام اللعان جميعها، لأن تلك الشبهة مع عدم دلالة دليل عليها أصلا لم تكن محتملة ولا مقتضية لبطلان ما قد وقع منهما [3أ] من التلاعن الذي وقع فيه الاستيفاء لما هو معتبر فيه من الشروط (1) والألفاظ.
نعم. من يقول: إن مجرد دعوى الشبهة (2) موجبة لسقوط الحد الشرعي (3) وإن لم
_________
(1) سبب اللعان: رمي الزوج زوجته بالزنا، وليس له بينة على ذلك.
حكمه: إن زنت زوجة الرجل وليس لها على زناها بينة، فإما أن تحمل من هذا الزنا أولا تحمل منه.
فإن لم تحمل: جاز له أن يرميها بالزنا ويلاعنها، وإن حملت من هذا الزنا: وجب عليها أن يرميها بالزنا وينفي ولدها ويلاعنها إنلم تكن له بينة
انظر: "مجموع الفتاوي" لابن تيمية (28).
صيغته: تقدمت صيغة اللعان في الآيات من سورة النور من (6 - 9) ويجوز له أن يقول في اللعان: "فعلى سخط الله" بدلا من قوله "فعلى لعنة الله" الواردة في صيغة اللعان في القرآن الكريم، ويجوز له أن يلاعن بالعربية وبغير العربية. "
اللاختيارات" للبعلي (ص475).
آثار اللعان:
أ - إذا شهد الزوج على زوجته أربع شهادات بالله أنها زنت فقد سقط عنها حد القذف، ووجب حد الزنا على المرأة، فإن شهدت أربع شهادات بالله على كذب زوجها فقد سقطعنها حد الزنا وإن رفضت ذلك أقيم عليها حد الزنا.
ب - انقطاع نسب الولد الذي تم اللعان على نفي نسبه عن الزوج الملاعن.
ج- وقوع الفرقة المؤبدة بين الزوجين المتلاعنين.
انظر "المغني" (11 - 148). "مجموع الفتاوى" (15).
(2) الشبهة هي ما التبس أمره حتى لا يمكن القطع أحلال هو أم حرام، أو هي مايشبه الثابت وهو ليس بثابت.
(3) الحدود كلها تسقط بالشبهة ومن الشبهة المسقطة للحد: شهة القئمة على الفاعل وهي على أنواع انعدام الرضى بالجريمة، فأن زنا بها وهي نائمة لا حد عليها ومن أكره على الزنا حتي زنى فلا حد عليه.
والجهل، فمن جهل التحريم فلا حد عليه.
اعتقاد الحل: فمن أقد على الجريمة وهو يعتقد أنها حلال، يجهل التحريم فلما علمه استغفر فلا حد عليه ومن نكح امرأة يعتقد حلها له، ثم تبين أنها أخته من الرضاعة فلا حد عليه ولا مهر.
الاضطرار: فلا يقام حد السرقة على الجائع إذا سرق ما يأكله أو يطعم به عياله
التأويل يسقط الإثم في الحدود ولكنه لا يسقط العقوبة
شبهة الملك: إذا وطئ المرتهن الجارية المرتهنة أو الشريك الأمة المشتركة فلا حد عليهما، لما له في ذلك من شبهة الملك، وعلى الواطئ مهر واحد وإن تكرر الوطء. ج-الشبهة في الأثبات: حيث يدرأ الحد عن القاذف بشهادة أهل الفسق والعصيان على الزنا، وبإقرار الزاني على نفسه بالزنا مرة او مرتين أو ثلاثا، فإن هذا لا يوجب حد الزنا عليه لنقض الإثبات ولكنه يسقط حد القذف عن قاذفه للشبهة في الأثبات. د- شبهة العقد: كمن وطئ جارية مشتراة شراء فاسدا، فلا حد عليه ولا مهر، ولا أجرة لمنافعها. ه - وليس للدولة أن تسقط الحد عن شخص مقابل مال تأخذه لبيت المال ولا يجوز له أن تستبدل بالحد المال.
انظر: "مجموع الفتاوى" (28، 277) و (29) (31).(6/2716)
تكن صحيحة في نفس الأمر، ولا محتملة في الواقع يلزم على قوله أنه لا لعان هنا، ولا ثبوت حد على واحد منهما، أما كونه لا لعان فلكونه وقع في حال لا يوجب الرمي فيه الحد، لأن عروض تلك الشبهة رفع الرمي الواقع من الزوج بالزنا بظهور ما لم يكن معلوما عنده حال الرمي، وأوجب صدق المرأة في تكذيبه، لأنه غير زانية حينئذ. وأما كونه لأحد على واحد منهما فلكون الزوج قد ظهرت له شبهة بتلك الدعوى كما ظهرت لها، واندفع عنه بها الحد كما اندفع عنها بها كما لو قال في موقف اللعان لغير امرأته وهو يظنها امرأته: والله إني لصادق فيما رميت به هذه من الزنا، ثم تبين له أن(6/2717)
تلك المرأة ليست امرأته، فإن هذا اللفظ مع الأشارة التي هي معينة لمن وقع الرمي له كمد أكمل تعين لم تقتض ثبوت اللعان، على تقدير أنها أجابته بقولها: والله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنا، لأني لم أكن امرأته، وكذلك لا يقتضي ذلك ثبوت الحد على أحدهما بلا خلاف، لأنه قد تبين أن إشارته إلى تلك المرأة التي لم تكن امرأته غلط منه لا عن قصد وعمد. وتبين صدق تلك المرأة في تكذيبه (1)
وأما الجواب عن السؤال الثالث:
فلابد بعد إقرار السيد بعلوق أمته من الانتظار للحمل إلى المدة المعتبرة (2) في سائر الحوامل من غير تقييد بمدة مخصوصة في الأمة فمن قال: أكثره أربع سنين قال في هذه كذلك [3ب]، ولم يدل دليل على اعتبار الستة الأشهر لا في حرة ولا في أمة، وليس ذلك إلا مجرد رأي بحت، ولا يخفى أن رفع الفراش الثابت يستلزم إبطال العصمة الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة والأجماع، ويستلزم إبطال نسب ذلك الحمل (3) الذي صرح - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما صح
_________
(1) في حاشية المخطوط: "يقال المشروع في السنة بين المتلاعنين الحث من الحاكم بينهما وهو على التصادق على الاعتراف منه على القذف، وعلى الاعتراف منها بالزنا فلا مسرح لدفعه بالشبهة في المقام الملتعنين فهو مخالف لمقام سائر الحدود ".
وانظر "المغني" (11 - 132). (11 - 192).
(2) قال ابن تيمية في"مجموع الفتاوى" (32): أن أقل مدة الحمل الذي تثبت به الحقوق للجنسين ستة أشهر، وأكثرها أربع سنوات، وعلى هذا أن تزوج امرأة فولدت بعد شهرين من الزواج فإن الولد لا يحلقه ويعتبر عقد النكاح باطلا.
(3) في حاشية المخطوط: "إذا لزم هذا اللازم بعد وفاة سيدها المقر بالعلوق يلزم هذا اللازم في حياته بأنه إذا أقر بعلوقها بأنه لا يجوز له التصرف بها إلا بعد مضي أربع سنين مثلا، من يوم إقراره بذلك، فإن علل بأنه مالك فالوارث بعده مالك أيضا، مع أنه فرد وغايته وفات الوارث بعد ذلك على فراش أبي، ولذلك قال له: (هو لك) ولم يقل: هو لأبيك. وفي رواية لأبي داود: (هو أخوك) ويقوي أنه ما ثبت إلا بدعوة الأخ قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "واحتجبي منه يا سودة" (*) فليتأمل. والله أعلم.
(*): أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2053) ومسلم رقم (36) ومالك (2 رقم 20) وأحمد (6، 20، 237) وأبو داود رقم (2237) والنسائي (6 رقم 3484) وابن ماجه رقم (2004) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد ابن زمعة في غلام، فقال سعد: يارسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أنه ابنه انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يارسول الله ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شبهه فرأى شبها بينا بعتبة فقال: " هو لك ياعبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه ياسودة ".(6/2718)
عنه بإثباته، وذلك قوله: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " (1) فإن ظاهر هذه العبارة
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (6818) ومسلم رقم (37) والترمذي رقم (1157) والنسائي (6 رقم 3482، 3483) وابن ماجه رقم (2006) وأحمد (2، 280، 386، 409، 466، 475، 492) والدارمي (2) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال في "المغني" (11 - 232). وأقل مدة الحمل ستة أشهر، لما روى الأثرم في إسناده عن أبي الأسود أنه رفع إلى عمر، أن امرأة ولدت لستة أشهر فهم عمر لرجمها، فقال له علي: ليس لك ذلك. قال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) [البقرة: 233]
وقال تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) [الأحقاف: 15].
فحولان وستة أشهر ثلاثون شهرا، لا رجم عليها. فخلى عمر سبيلها وولدت مرة أخرى لذلك الحد.
وقال ابن قدامة في "المغني" (11 مسألة 1354) ولو طلقها أومات عنها، فلم تنكح حتى أتت بولد بعد طلاقها أو موته بعد أربع سنين، لحقة الولد، وانقضت عدتها به. وقال الشوكاني في "السيل" 2): لم يأتي دليل قط لا صحيح ولاحسن ولا ضعيف، مرفوع إلى رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أن أقل الحمل كذا ولم يستدلوا إلا بقوله عز وجل: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) [الأحقاف:15]، مع قوله سبحانه: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) [لقمان: 14].
ويقوي هذه الدلالة الإيمائيه أنه لم يسمع في المنقول عن أهل التواريخ والسير أنه عاش مولود لدون ستة أشهر وهكذا في عصرنا لم يسمع بشيء من هذا، بل الغالب أن المولود لستة أشهر لا يعيش إلا نادرا ولكن وجود هذا النادر يدل على ان الستة أشهر أقل مدة الحمل. وقد كان من مدة من ولد لستة أشهر من المشهورين عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، وهكذا لم يرد في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، مرفوع إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أكثر مدة الحمل أربع سنين ولكنه اتفك ذلك ووقع كما تحكيه كتب التاريخ. غير أن هذا الاتفاق لا يدل على أن الحمل لا يكون أكثر من هذه المدة كما أن أكثرية التسعة أشهر في مدة الحمل لا تدل على أنه لا يكون في النادر أكثر منها، فإن ذلك خلاف ما هو الواقع.
والحاصل أنه ليس هناك ما يوجب القطع بل إذا كان ظاهر بطن المرأة فيه حملا كأن يكون متعظما ولا علة بالمرأة تقتضي ذلك وحيضها منقطع وهي تجد ما تجده الحامل فالانتظار متوجه ما دامت كذلك وإن طالت المدة. أماإذا كان ثم حركة في البطن كما يكون في بطن الحامل فلا يقول بأنها إذا مضت الأربع السنين لا يكون له حكم الحمل إلا من هو من أهل الجحود الذي يتميز لهم، فإن الحمل ها هنا قد صار متيقنا بوجود الحركة التي لا تكون إلا من جنين موجود في البطن. ... ".
وانظر "زاد الميعاد" (5).(6/2719)
النبوية واللفظ المحمدي يدل بعمومه على أن كل ولد ولد في نكاح الإسلام، أو ملكه يكون للفراش، فليحق بأبيه من غيرفرق بين مدة قريبة أو بعيدة، ولم يأتي ما يدل على تخصيص هذا العموم ببعض المدة، أو ببعض الأولاد، أو ببعض الصفات.
ويقوي هذا العموم ويؤكده ويقرره مقابلتة لذلك بقوله: "وللعاهر الحجر" فإن ذلك يفيد أنه لا يخرج عن ذلك الحكم إلا من تقرر أنه عاهر، وأي عهر لمن تزوج بعقد شرعي، ونكح نكاح الإسلام، أو وطئ أمته المملوكة له بعقد الشرع، والتفصيل بين فراش وفراش، ومنكوحة بعقد، ومنكوحة بملك إذا كان بغير دليل فليس لنا أن نقول به ولا نصير إليه. وقد درجت أيام النبوة وأيا خير القرون، ولم يسمع بشيء من هذا.
وكما أنه لا دليل على الستة الأشهر لا دليل أيضًا على اشتراط الدعوة في الأمة.(6/2720)
ولم يستدل من اشترط ذلك بشيء يصلح للاستدلال به، وغاية ما قالوه أنه لو ثبت فراش الأمة بمجرد الوطء لزم بإرتفاعه العدة الكاملة كالحرة لاستواء الفراشين، لزم ثبوت العدة لو أخرخها عن ملكه لزوال [ .... ] (1) بعضها. وانت تعلم أن الإلزام إنما يتم لو لم يرد دليل بتقدير العدة، اما مع وروده فالمتبع الدليل.
وقد ورد في عدة أم الولد (2) وفي استبراء الإماء (3) ما ورد، فاندفع الإلزام بالمرة [4أ].
وأيضا قد اتفق في زمن النبوة أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حكم بالولد لعبد بن زمعة (4) كما ثبت ذلك في دواوين الإسلام وغيرها، وأقر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عبد بن زمعة على دعواه، وحكم له بذلك، ولم يعتبر في ذلك دعوة ولا غيرها.
وقد تقرر أن ترك البيان في وقت الحاجة، وتأخيره عنها لا يجوز (5). وتقرر أيضًا أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال (6). وتقرر أيضًا أن حكمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للواحد وعلى الواحد حكم للجماعة وعلى الجماعة
_________
(1) كلمة في المخطوط غير مقروءة.
(2) اخرجه أحمد (4) وابو داود رقم (2308) وابن ماجه (2083) والحاكم في "المستدرك" (2) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "لا تلبسوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد إذا توفى عنها سيدها أربعة أشهر وعشر". وهو حديث صحيح.
(3) أخرج أبو داود رقم (2157) والحاكم (2) وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي والدارمي (2) والبيهقي (7) وأحمد (3) من طريق شريك، عن قيس بن وهب (زاد أحمد وأبي إسحاق) عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري.
عن أبي سعيد الخدري أن قال: في سبايا أو طاس: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضه". وهو حديث صحيح.
(4) تقدم آنفا
(5) انظر تفصيل ذلك في "البحر المحيط" (3). "الكوكب المنير" (3).
(6) انظر "البحر المحيط" (3).(6/2721)
وهذه القصة هي حاصل ما وقع في أيام النبوة مما يستدل به على ثبوت فراش الأمة (1)، ولحوق ولدها. فهل روي في لفظ من ألفاظ هذا الحديث، أو في حرف من حروفه أنه وقع من - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - السؤال: هل جاءت به لستة أشهر، أو لما دونها أو لما فوقها؟ وهل ثبت في لفظ من ألفاظه أو حرف من حروفه أنها وقعت منه الدعوة بل قال بعد التداعي لديه: "هو لك ياعبد بن زمعة " (2) بعد قوله: ولد على فراش ابي، ولم يلتفت إلى قول من قال: عهد إلى فيه أخي فحكم- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالولد للفراش ولم يعتبر غير ذلك.
وفي هذا المقدار كفاية. والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه.
كتبه المجيب محمد الشوكاني- غفر الله له -.
_________
(1) قال الأمير الصنعاني في "سبل السلام" (6) بتحقيقي: فأثبت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الولد بفراش زمعة للوليدة المذكورة، فسبب الحكم ومحله إنما كان في الأمة. وهذا كله الجمهور وإليه ذهب الشافعي ومالك والنخاعي وأحمد وإسحاق.
وقال الشوكاني في "السيل" (2 - 354) بتحقيقي: فهذا الحديث قد دل على ثبوت الفراش للأمة ودل على فراش ثبوت الحرةبفحوى الخطاب وتمسك المشترطون للدعوة بهذه الدعوة الواقعة في الحديث. ولكن هذا إنما اتفق في هذه الحادثة وليس فيها ما يدل على أن ذلك شرط لا يثبت النسب بدونه. فقد كان الصحابة في زمنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطؤون الإماء ويحدث لهم منهن الأولاد ويصيرون أولادا لهم.
ولم يسمع أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبرهم بأنه لابد من الدعوة ولا ورد ذلك في شيء من المرفوع ولا سمع عن صحابي أنه قال باشتراط ذلك. وهكذا من بعد الصحابة.
فالحاصل أن فراش الأمة يثبت بما يثبت به فراش الحرة وثبوت الملك عليها بمنزلة العقد على الحرة فلا يعتبر معه إلا ما يعتبر في فراش الحرة في إمكان الوطء.
(2) انظر تفصيل ذلك في " البحر المحيط" (3) للزركشي. "الكوكب المنير" (3).(6/2722)
جواب سؤالات وصلت من كوكبان
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج احاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(6/2723)
وصف المخطوط
عنوان الرسالة: جواب سؤالات وصلت من كوكبان.
موضوع الرسالة: في فقه الصلاة.
أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين. وبعد: فإنه وصل إلينا من القاضي محمد بن علي سعد الحداد الكوكباني. ...
4 - آخر الرسالة:.
فلا بأس بأن يؤمر ببيع ماله، لأنه لا يحصل قضاء الدين كما ينبغي إلا بذلك وفي هذا المقدار من الجواب كفاية.
كتبه المجيب محمد الشوكاني غفر الله له.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
عدد الصفحات: 7 صفحات
عدد الأسطر في الصفحة: 32 سطرا.
عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
الرسالة من المجلد الرابع من
(الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(6/2725)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين، وبعد:
فإنه وصل إلينا من من القاضي العلامة محمد بن علي سعد الحداد الكوكباني (1) - كثر الله فوئده - ما هذا لفظه:
الأولى: أنه قد صح حديث: "من ذكرت عنده فلم يصل علي أبعده الله" (2) بألفاظ تقتضي بوجوب الصلاة عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عند ذكره، هل لمن كان في الصلاة عذر بقوله: "إن في الصلاة. .................................
_________
(1) القاضي أديب الفرضي العلامة محمد بن علي سعد الحداد الكوكباني نشأ بحصن كوكبان وأخذ عن أعيان ذلك المكان وصفه صاحب "نيل الوطر" (2): ". .. وكان شاعرا بليغا أدبيا وله مطارحات مع أدباء عصره، تولى القضاء بكوكبان وله مؤلفات منها: "شرح نظم مفتاح الفائض"، "وبلوغ المراد فيما يتعلق بالحب والتواد". وكانت وفاته في كوكبان سنة 1251 هـ.
انظر: "الروض الأغن" (3 رقم 812)، "نيل الوطر" (2).
(2) أخرجه البزار (4 رقم 3767 - كشف) والطبراني كما في "المجمع" (10)
وقال رواه البزار والطبراني وبنحوه وفيه لم أعرفهم. وللمتن شواهد.
(منها): ما أخرجه الترمذي في "السنن" (3545) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "رغم أنف رجل ذكرت عنده ولم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان، ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة".
وهو حديث حسن.
(ومنها) ما أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (56) وابن حبان في صحيحه رقم (909) والحاكم (549) وصححه ووافقه الذهبي، والترمذي رقم (3546) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي".
وهو حديث صحيح.(6/2729)
لشغلا" (1) فتخصص ذلك به، أم يجب عليه، لأن الصلاة عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من أذكار الصلاة والدعاء المأثور؟.
الثانية: انه قد صح من الأدعية في الصلاة ما صح، وأنه إذا دعا الإمام لنفسه دون المؤتمين فقد خانهم، هل يغير الألفاظ في الاستفتاح مثل: "اللهم ما بعد بيني وبين خطاياي" (2) ونحوه (3) فيقول: بيننا ونحوه من الأذكار في الاستفتاح وغيره، أم يخص بما عدا ما شرع للمأموم أن يقوله؟. الثالثة: هل يتوجه المأموم بما ورد، ولو في قراءة الإمام، أم وهو مخصوص بفاتحة الكتاب لقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب" (4) فيترك ما عدا الفاتحه؟.
الرابعة: هل يعتد اللاحق والإمام راكع بقيامه قدر سبحان الله ركعة، ولم يقرأ الفاتحة، أم يكون حكمه حكم من دخل والإمام ساجد كما قرره العلامة المقبلي (5) - رحمه الله -؟.
_________
(1) تقدم تخريجه في الرسالة السابقه رقم (79).
(2) أخرجه البخاري رقم (744) ومسلم رقم (147) وأحمد (2) والدرامي (1 - 284) وأبو داود رقم (781) والنسائي (2 - 129) وابن ماجه رقم (805) والبيهقي (2) والدارمي (1 رقم 3) من حديث أبي هريرة.
(3) منها: ما أخرجه مسلم رقم (201) وأبو داود رقم (760) والترمذي رقم (3421) والنسائي (2 رقم 897)) وأحمد (2 رقم729 - شاكر) والطحاوي في "شرح معاني الأثار" (1) والبيهقي (2 «).
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه إذا قام إلى الصلاة قال: "وجهت وجهي للذى فطر السموات والأرض -إلى قوله من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك - إلى آخره".
(4) تقدم تخريجه في الرسالة السابقه رقم (79).
(5) في "المنار" (1).(6/2730)
الخامسة: هل لقسمة مال الغائب بين ورثته وجه يتوجه العمل به من غير نظر إلى طول المدة وعدمه، والظن بموته وعدمه، أم يحفظ بنظر عدل مر كون عليه حتى ينكشف أمره يسند شرعي؟.
السادسة: هل يجب من عليه دين من النقد، وليس له مخرج من القضاء إلا من ماله الأطيان ونحوه أن يتصرف بماله وبيعه، ام يجبر الغرماء على اخذ ماله بثمن الزمان بدليل؟ لكم ما وجدتم لا سيما مع عدم النفاق إلا بغبن فاحش أم يمهل إلى ميسرة ماله وعلته؟ تفضلوا بالإفادة - جزيتم الحسنى وزيادة -.(6/2731)
أقول: - حامدا الله عز وجل -، مصليا مسلما على رسوله وآله. إني قد حررت أكثر هذه المسائل وأجوبتها ودلائلها والجمع بين ما اختلف منها في مؤلفاتي (1)، وطولت مباحثها، وأوضحت راجحها من مرجوحها، وسأذكر ها هنا [1أ] في جواب السائل - عفاه الله - ما ينتفع به، وأن قل - فخير الكلام ما أفاد -.
أما الجواب عن المسألة الأولى: فاعلم انها قد تضافرت الأدلة الدالة على مشروعية الصلاة عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عند ذكره، فمن ذلك حديث: "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي" أخرجه التزمذي (2) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وقال (3): حسن صحيح.
ومن ذلك حديث جابر بن سمرة قال: صعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - المنبر فقال: "آمين آمين آمين "فلمل نزل سأل عن ذلك فقال: "أتاني جبريل - فذكر الحديث - وفيه رغم أنف من ذكرت عنده فلم يصل علي" أخرجه الطبراني (4)، وفي إسناد إسماعيل بن أبان الغنوي (5)، كذبه يحيى بن معين وغيره (6).
ولكنه قد أخرج الطبراني (7) أيضًا من حديث كعب بن عجرة أن رسول الله -صلى
_________
(1) انظر " نيل الأوطار" (1).
(2) في "السنن" رقم (3546). وهو حديث صحيح وقد تقدم.
(3) في "السنن" (5).
(4) في "المعجم الكبير" (2 رقم 2022).
وقال الهيثمي في "المجمع" (8) رواه الطبراني بأسانيد وأحدها حسن.
(5) انظر "تهذيب التهذيب" (1).
(6) قال البخاري: متروك، تركه أحمد والناس.
وقال أبو داود: كان كذابا. نظر: "تهذيب التهذيب" (1).
(7) في "المعجم الكبير" (19 رقم 319).
قلت: وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (4 - 154) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبى.(6/2732)
الله عليه وآله وسلم - خرج يوما إلى المنبر فقال حين ارتقى درجة: "آمين" ثم رقى أخرى فقال: "آمين" الحديث وفيه: "إن جبريل قال له عند أن رقى الدرجة الثالثة بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين" قال العراقي: ورجاله ثقات.
وأخرج الطبراني (1) أيضًا من حديث جابر بلفظ: "الشقي من ذكرت عنده فلم يصل علي". ولا يخفاك ان وصف من ذكر عنده فلم يصل علي بالبخل تارة، والبعد اخرى، والشقاوة تارة، رغم الأنف أخرى، يفيد مشروعية الصلاة عليه، فصلى الله وسلم عليه، وعلى آله من قل سامع لذكره على أى حالة كان ومن جملة الأحوال التي يكون عليها السامع ان يكون في صلاة ولم يرد ما يخصص المصلي من هذه العمومات.
وحديث: " إن في الصلاة لشغلا" (2) المراد به أن القول فيها والدخول في أركانها وأذكارها فيه ما يشغل المصلي عن الأشتغال بغير ذلك، والصلاة عليه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هي من جملة أذكارها كما تدل على ذلك الأحاديث الصيحة الثابتة في دواوين الإسلام وغيرها، بل قد ورد ما يدل على ان المصلي يجعل الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عنوانا لكل دعاء يدعو به في صلاته، كما حديث فضالة بن عبيد قال: سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - رجلا يدعو في صلاته، فلم يصل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "عجل هذا" ثم دعاه فقال له أو لغيره: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد لله، والثناء عليه، ثم ليصل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ثم ليدع بما شاء" أخرجه أبو داود (3)، ...................................
_________
(1) عزاه إليه الحافظ في "الفتح" (11) فقال: وعند الطبراني من حديث جابر بن رفعه: "شقي عبد ذكرت عنده فلم يصل علي".
(2) تقد تخريجه.
(3) في "السنن" رقم (1481).(6/2733)
والنسائي (1)، الترمذي (2) وصححه، وابن خزيمة (3)، وابن حبان (4)، والحاكم (5).
فالمصلي إذا سمع ذكر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ينبغي له أن يصلي عليه، وان كان حال سماعه يقرأ فاتحة الكتاب أو غيرها من القرآن. وأما من يمنع مثل ذلك متمسكا بحديث: "إن هذه صلاتنا [1ب] لا يصح فيها شيء من كلام الناس" (6) فقد غلط في استدلاله هذا غلطا بينا، فإن المراد بقوله: " من كلام الناس " من تكليمهم، ومخاطباتهم، على انه يرد على هذا المستدل بهذا الدليل سؤال الاستفسار فيقال له: ما المراد بقوله: من كلام الناس؟.
فإن قال: المراد به ما لم يكن من كلام الرب - سبحانه -.
فيقال له: آخر هذا الحديث الذي جعلته دليلا لك يرد عليك هذا الاستدلال ردا بينا، فإنه قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث: "
إن صلاتنا لا يصح فيها شيء من كلام الناس، إنما ه هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"، فجعل التسبيح والتكبير قسيمين لقراءة القرآن الذي هو كلام الله - سبحانه -.
وإنا قال: المراد به ماعدا التسبيح والتكبير وقراءة القرآن.
فيقال له أيضا: ما ورد من. .................................
_________
(1) في "السنن" (3/ 44).
(2) في "السنن" رقم (3477) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(3) في صحيحه رقم (710).
(4) في صحيحه رقم (1960).
(5) في "المستدرك" (1) و (2) وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح.
(6) أخرجه مسلم رقم (33) وأبو داود رقم (931) والنسائي (3 - 18) وابن الجارود رقم (212) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1) والبيهقي (2 - 250) وأحمد (5 - 448) والبخاري في "خلق أفعال العباد" (ص 38 - 39) وابن خزيمة (2 رقم 859). من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.(6/2734)
ألفاظ التشهد (1) ليس من التسبيح، ولا من التكبير، ولا من القرآن. ومن جملة ذلك الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بتلك الألفاظ الثابتة بطريق التواتر (2).
ومن جملة ما ثبت في الصلاة مما ليس من التسبيح والتكبيروقراءة القرآن ..........................................................
_________
(1) منها ما أخرجه البخاري رقم (831، 835، 1202، 6230، 6265، 6328، 7381) ومسلم رقم (55، 56، 57، 58، 59/ 402) وأبو داود رقم (968) والترمذي رقم (289) والنسائي (2 - 241) وابن ماجه رقم (899) وأحمد (1، 413، 427 - 428، 431، 439) من حديث عبد الله بن مسعود قال: التفت إلينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله، والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبراكاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو".
ومنها: أخرجه مسلم في صحيحه (60) عن ابن عباس قال: كان رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمنا التشهد: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله - إلى آخره".
(2) منها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (65) ومالك في "الموطأ" (1 - 166 رقم 67) وأبو داود رقم (980، 981) والتلرمذي رقم (3220) والنسائي رقم (3 - 46 رقم 1285) وفي "عمل اليوم والليلة" رقم (48) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال بشير بن سعد: يا رسول الله، أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فسكت، ثم قال: " قول اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما بركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما علمتم".
وزاد ابن خزيمة في صحيحه رقم (711): "فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا"؟ وهذه الزيادة رواها ابن حبان في صحيحه رقم (1956) والحاكم (1) والدارقطني في "السنن" (1 - 355 رقم 2).
قال الأمير الصنعاني في "سبل السلام" (2): والحديث دليل على وجوب الصلاة عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة لظاهر الأمر (أعني) قولوا، وإلى هذا ذهب جماعة من السلف والأئمة والشافعي وإسحاق ودليلهم الحديث مع زيادته الثابتة.(6/2735)
[و] (1) التوجيهات الثابته عن رسول الله (2) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ثبوتا أوضح من شمش النهار يغرف ذلك كل عارف بعلم السنة.
ومن جملة ما ثبت عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة مما ليس بتسبيح ولا تكبير ولا قراءة قرآن ما علمنا من الأدعيه التي يدعوها في الصلاة، وهي كثيرة جدا تأتي في مصنف مستقل، بل وقع منها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - التفويض للداعي في الدعاء بما أحب فقال: "ثم لا يتخير من الدعاء أعجبه إليه " وهو حديث صحيح. (3)
وبهذا يتقرر بطلان الاستدلال بهذا الدليل على كل حال، وبكل تقدير. وقد استكثر من الاستدلال به جماعة من المؤلفين في هذه الديار، وهو وهم محض، وغلط بحت.
وأما الجواب عن السؤال الثاني:
فأقول: إن الإمام لا ينبغي له ان يأتي في صلاته بدعاء يخص به نفسه بل يأتي بصيغة تشمله هو والمؤتمون به، هذا معنى حديث انه إذا خص بالدعاء فقد خانهم (4).
_________
(1) زيادة يستلزمها السياق.
(2) (منها) حديث علي في التوجه وقد تقدم.
(ومنها): حديث عمر أنه كان يقول: "سبحانك اللهم بحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جدك ولا إله عيرك ".
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (52) موقوفا على عمر.
وأخرجه الدراقطني في "السنن" (رقم 7، 8، 9، 10) موقوفا ورقم (6) موصولا.
(منها) ما أخرجه أحمد (3/ 50) والترمذي رقم (242) وأبو داود رقم 775 والنسائي (2) وابن ماجه رقم (804) والدارمي (1) والبيهقي (2 - 35) والدارقطني (1 رقم 4).
من حديث ألي سعيد رضي اللع عنه مرفوعًا وفيه كان يقول بعد التكبير: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه ونفسه ". وهو حديث صحيح.
(3) تقد آنفا وهو حديث صحيح.
(4) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (357): عن ثوبان عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يحل لامرئ أن ينظر في جوف بيت امرئ حتى يستأذن، فإن نظر فقد دخل، ولا يؤم قوما فيخص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل فقد خانهم، ولا يقوم ألى الصلاة وهو حقن".
قال الترمذي: حديث حسن.
قلت: بل هو حديث ضعيف: إلا جملة: "ولا يقوم إلى الصلاة وهو حقن" فصحيحه.(6/2736)
وأما الأدعية التي وردت بألفظ منقوله عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فلا ينبغي لأحد أن يغيرها عن الأسلوب التي وردت به خصوصا الألفاظ التي قال الرواة فيها إن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في صلاته كذا، فإنها تبقي على ما هو عليه، ويأتي بها الإمام والمأموم كما وردت، لأن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هو كان إمام الصلوات كلها فتلك الألفاظ المسموعة منه التي قالها في صلاته ينبغي الاقتداء بلفظه فيها، فإن كانت خاصة جاء الإمام [2أ] والمأموم والمنفردبها خاصة، وإن كانت عامة جاء بها عامة اقتداء برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -.
فإن قلت: يحتمل أن يكون قالها رسول -الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في صلاة النوافل.
قلت: قول الصحابي كان يقول في صلاته هو مطلق غير مقيد بصلاة فريضة ولا بصلاة نافلة.
وظاهره أنه كان يقول ذلك فيما يصدق عليه أنه صلاة. والفريضة والنافلة يصدق على كل واحدة منهما أنها صلاة، ومجرد الاحتمال لا يقدح في صحة الاستدلال.
وإذا تقرر لك هذا فيما نقل إلينا من قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في صلاته فهكذا إذا علم الناس - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يقول أحدهم في ركوعه أوسجوده أو اعتداله كذا، فإن الإمام، والمأموم، والمنفرد يقولونه بتلك الصيغة (1) المروية
_________
(1) (منها): ماأخرجه البخاري في صحيحه رقم (817) ومسلم رقم (484) وأبو داود رقم (877) والنسائي (2 رقم 1122) و (2 رقم 1047) و (2 رقم 1123) وابن ماجه رقم (889) والبيهقي في "السنن الكبري" (2). من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي".
(ومنها): ما أخرجه مسلم رقم (205) وأبو داود رقم (847) والنسائي (2 رقم 1068) والبيهقي (2) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات والأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد".(6/2737)
عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من غير تحريف لولا تبديل لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ترك الاستفصال في مقام الاحتمال (1)، وهذا الترك ينزل منزلة العموم في المقال كما تقرر في الأصول ترجيح هذه القاعدة. وقد أوضحت ذلك في إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (2)، وبهذا يتبين لك أن حديث المنع من تخصيص الإمام لنفسه بالدعاء دون المؤتمين به هو مخصوص بما جاء به من الأدعية في الصلاة من جهة نفسه، فإنه يأتي به بصيغة الجمع لا بصيغة تخصه دون غيره.
وأما الجواب عن السؤال الثالث:
فأقول: إن الأحديث الواردة في نهي المؤتمين عن القراءة خلف إمامهم إلا بفاتحة الكتاب خاصة بنفس قراءة القرآن كما في حديث عبادة بن الصامت بلفظ: "إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم " قال: قلت: يا رسول الله أي والله. قال: "لاتفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها" (3). أخرجه أبو داود، والترمذي، وأحمد، والبخاري في جزء القراءة وصححه. وصححه أيضًا ابن حبان (4)، والحاكم (5)،. ...............
_________
(1) انظر"البحر المحيط" (3) للزرقشي و"البرهان" (1).
(2) (ص 452) بتحقيقنا.
(3) تقدم في الرسالة رقم (79).
(4) في صحيحه رقم (1782).
(5) في "المستدرك" (1/ 238).(6/2738)
والبيهقي (1)، وفي لفظ: "فلا تقرؤوا بشيء إذا جهرت به إلا بأم القرآن" اخرجه أبو داود - (2) والنسائي (3)، والدارقطني (4)، وقال: رجاله كلهم ثقات، وفي لفظ: "لعلكم تقرؤون والإمام يقرأ؟ " قالوا: إن لنفعل، قال: "لا، إلا بان يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب".
أخرجه من تقد ذكره، قال الحافظ بن حجر (5): وإسناده حسن، وفي حديث أبي هريرة بلفظ: "فانتهى الناس عن القراءة عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما جهر فيه حين سمعوا ذلك". أخرجه في الموطأ (6)، والنسائي (7)، وأبو داود (8)، والترمذي (9) وحسنه (10)، وفي لفظ لدارقطني (11): "وإذا جهرت بقراءتي [2ب] فلا
_________
(1) في "السنن الكبرى" (2) وهو حديث ضعيف.
من حديث عبادة بن الصامت وقد تقد.
(2) في "السنن" رقم (824).
(3) في "السنن" (2 رقم 920).
(4) في "السنن" (1 رقم 9).
قلت: وأخرجه البيهقي (2) والحاكم في "المستدرك" (1 - 239) وقال: هذا متابع لمكحول في روايته عن محمود بن الربيع، وهو عزيز وإن كان رواية إسحاق بن أبي فروة فإني ذكرته شاهدا وقال الذهبي: ابن أبي فروة هالك. وخلاصة القول أن الحديث ضعيف والله أعلم.
(5) في"التلخيص" (1).
(6) (1 رقم44).
(7) في "السنن" (2).
(8) في "السنن" رقم (604).
(9) في "السنن" رقم
(312). واخرجه ابن ماجه رقم (846) وهو حديث صحيح.
(10) الترمذي في "السنن" (2).
(11) في "السنن" (1).(6/2739)
يقرأ معي أحد " فهذه الروايات ونحوها تدل على أن المنهي عنه حال قراءة الإمام، إنما هو قراءة القرآن فقط، وأما قراءة ما ورد من التوجه (1) والاستعاذة (2) ونحو ذلك فلا بأس به، ولايتناوله النهي، ولا يدل عليه بوجه من وجوه الدلالة، وهذا أعني التوجه والاستعاذة حال قراءة الإمام هو مذهب جماهير السلف والخلف، بل لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم أنه قال بعدم جواز التوجه والقراءة من المؤتم حال قراءة إمامه، وهكذا لم ينقل ذلك عن احد من أهل المذاهب الأربعة، وسائر أهل العلم، إلا عن ابن حزم الظاهري، فإنه قال: إن المؤتم لا يأتي بالتوجه وراء الإمام، قال: لأن فيه شيئا من القرآن، وقد نهى- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يقرأ خلف الإمام إلا أم القرآن هكذا قال، وهو فاسد، لأنه إن أراد قوله: لأن فيه شيئا من القرآن كل توجه.
فقد عرفت مما سلف ان أكثرها مما لا قرآن فيه، وإن أراد خصوص توجه على - رضي الله عنه - الذي فيه: "وجهت وجهي. .. إلخ" (3) فليس محل النزاع هذا التوجه الخاص، والتشهدات (4) كثيرة، وللمصلي مندوحة عن الوقوع فيما يحتمل النهي عنه لما فيه من القرآن.
فإن قلت: ظاهر قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) (5) وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا" أخرجه أبو داود (6)، والنسائي (7) وابن .. .........................
_________
(1) تقدم ذكرذلك
(2) انظر حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - وقد تقدم.
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم ذكر ذلك
(5) [الأعراف: 204].
(6) في "السنن" رقم (604).
(7) في "السنن" (2).(6/2740)
ماجه (1)، وأخرجه ايضا أحمد (2)، ورجال إسناده ثقات، وما قيل من انه إنفرد بزيادة قوله: "وإذا قرأ فإنصتوا"أبو خالد سليمان بن حيات الأحمر (3) فمدفوع بأنه من الثقات الإثبات الذين أحتج بهم البخاري ومسلم، فلا يضر تفرده بذلك، وأيضا فهو لم يتفرد بهذه الزيادة، بل قد تابعه عليها أبو سعيد محمد بن سعد الأنصاري الأشهلي المدني.
أخرج ذلك من طريقه النسائي (4). وقد أخرج أيضًا هذه الزيادة مسلم في صحيحه (5) من حديث أبي موسى الأشعري.
قلت: هذان العمومان: العموم القرآني، والعموم النبوي مخصوصان بما ورد الشرع بفعله في الصلاة للمؤتم، ومن ذلك فاتحة الكتاب والتوجه والاستعاذة ومما يؤيد هذا التخصيص ما قدمنا في الأحاديث المصرحة بأن النهي إنما هو عن قراءة القرآن خلف الإمام فقط.
وأما الجواب على السؤال الرابع:
فأقول: قد ذهب الجمهور (6) إلى أن اللاحق إذا أدرك الإمام، وهو راكع بعد ان كبر للأفتتاح، ثم ركع وشارك إمامه في قدر تسبيحة من الركوع قبل ان يرفع رأسه من الركوع [3أ] فقد ادرك الركعة، وجاز له الاعتداد بها. واستدلوا بما أخرجه ابن خزيمة (7)
_________
(1) في "السنن" رقم (846).
(2) في "المسند" (2) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو حديث صحيح.
(3) سليمان بن حيان الازدي أبو خالد الأحمر الكوفي الجعفري.
قال ابن معين: ثقة وقال مرة لا بأس به وقال أبو حاتم: صدوق.
انظر: "تهذيب التهذيب" (2)، "الميزان" (2 رقم 3443).
(4) في "السنن" (2 - 142).
(5) (1 رقم 63).
(6) انظر "المحلي" (3، 255، 362).
(7) في صحيحه (3 رقم 1595).(6/2741)
من حديث أبي هريرة بلفظ: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك قبل أن يقيم الإمام صلبه".
ويجاب عن هذا الاستدلال بان المراد بالركعة في قوله: "من أدرك ركعة" هو المعني الحقيقي للركعة، وهي القيام، وما يجب فيه من القراءة التي لا تجزي الركعة بدونها، وذلك هو الفاتحة كما دلت على الأدلة الصحيحة. ولا خلاف في أن معني الركعة حقيقة هو جميعها، وان إطلاق الركعة على بعضها مجاز، والحقيقة مقدمة على المجاز بلا خلاف، فمن أدرك القيام وأمكنه ياتي بالفاتحة، ثم ركع قبل أن يقيم الإمام صلبه فقد أدرك الركعة، ومن لم يدرك ذلك على هذه الصفة فلم يدرك الركعة.
فأن قلت: أي فائدة على هذا التقدير لقوله: قبل ان يقيم الإمام صلبه؟.
قلت: دفع توهم أن من دخل مع الإمام، ثم قرأ الفاتحة وركع الإمام قبل فراغه منها غير مدرك، بل هو مدرك إذا ركع قبل أن يقيم الإمام صلبه. وقد ذهب إلى هذا ابن خزيمة (1)، وهو الراوي لذلك الحديث، وهو أعرف بمعناه. وذهب إلى هذا المذهب أبو بكر الضبعي، وبعض أهل الظاهر، كما حكى ذلك ابن سيد الناس في شرح الترمذي، ثم قال بعد رواية هذا المذهب، أعني: عدم الاعتداد بالركعة إذا لم يدرك اللاحق القيام والفاتحة، ويلحق الإمام وهو راكع قبل ان يقيم صلبه عن ابن خزيمة، وأبي بكر الضبعي، وبعض أهل الظاهر (2) حاكيا عمن روى عن ابن خزيمة (3) إنه احتج لما ذهب إليه بما روى عن أبي هريرة أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أدرك الإمام في الركوع فليركع معه، وليعد الركعة" وقد رواه البخاري (4) في القراءة خلف الإمام من حديث
_________
(1) في صحيحه (3 رقم 1595).
(2) انظر "المحلي" (3).
(3) في صحيحه (3 - 58 رقم 1622).
(4) رقم (134).(6/2742)
أبي هريرة أنه قال: "إن ادركت القوم ركوعا لم تعتد بتلك الركعة". قال الحافظ (1): وهذا هو المعروف عن أبي هريرة موقوفا. وقال الرافعي (2) تبعا للإمام: إن أبا عاصم العبادي حكى عن ابن خزيمة احتج به.
إذا عرفت هذا تبين لك انه لابد من الجمع بين الروايات بما ذكرناه فإن حديث: "قبل ان يقيم صلبه" هو من حديث أبي هريرة، وأخرجه عنه ابن خزيمة كما قدمه. وقد ذهب إلى خلافه، واحدهما الراوي للحديث، والآخر المخرج له، ولم يذهبا إلى خلافه لمجرد الرأي، بل استدلا بتلك الرواية والاختلاف في رفعها ووقفها لا يقدح في حجيتها، لأن الرفع زيادة. وقد عرفت بما ذكرناه أن هذا القول ليس هو قول المقبلي (3) فقط، بل قد ذهب إليه من أهل العلم من حكينا لك عنهم [3ب]، بل قال البخاري في جزء القراءة خلف الإمام (4).
وعلى هذا فقد ذهب إليه جماهير من أهل العلم، لأن القائلين بوجوب القراءة خلف الإمام هم الجمهور. وقد حكاه الحافظ في الفتح (5) عن جماعة من الشافعية.
وحكى العراقي في شرحه للترمذي (6) عن شيخه السبكي أنه كان يختار انه لا يعتد بالركعة من لا يدرك الفاتحة، ثم قال: وهو الذي نختاره؛ فهذان إمامان كبيران من أئمة الشافعية. السبكي والعراقي يختاران هذا المذهب، وبهذ تعرف من ذهب إلى ما ذكرناه
_________
(1) في "التلخيص" (2).
(2) ذكره الحافظ في "التلخيص" (2).
(3) في"المنار" (1).
(4) (ص34).
(5) (2 - 243).
(6) لا يزال كتاب نفح الشذي الذي بدأه ابن سيد الناس وأكمله العراقي مخطوطا. سوى جزء من أحاديث الطهارة.(6/2743)
من عدم الاعتداد بالركعة التي لا يدرك بها المؤتم فيها الفاتحة، ويدرك إمامه قبل أن يقيم صلبه، وتعرف أيضًا انه لا يحصل الجمع بين أحاديث وجوب قراءة الفاتحة، وإدراك الإمام راكعا قبل أن يقيم صلبه (1)
_________
(1) انظر "فتح الباري" (2 - 243)، "المغني" لابن قدامة (1 - 505).
قال النووي في "المجموع" (4): اقل الركوع هو: ان ينحني المصلى بحيث تنال راحتاه ركبتيه فلوإنخنس وأخرج ركبتيه، وهو مائل منتصب وصار بحيث لو مد يديه لنالت راحتاه ركبتيه لم يكن ذلك ركوعا لأن نيلهما لم يحصل بالانحناء.
وأكمل الركوع فبأمرين: أحدهما في الهيئة، والثاني في الذكر.
أما الهيئة: فأن ينحني بحيث يستوي ظهره وعنقه، ويمدهما كالصفيحة وينصب ساقيه إلى الحقو، ولا يثني ركبتيه، ويضع يديه على ركبتيه يأخذوهما بهما. ويفرق بين أصابعه وحينئذ".
الذكر: فيستحب أن يكبر للركوع ويبتدئ به الهوي.
لذلك إذا أدرك الإمام في حال الركوع، فإنه تجزئه تكبيرة واحدة فيكبر للإحرام -فتجزئه عن تكبيرة الركوع، ولو كبر تكبيرتين إحداهما للإحرام والأخرى للركوع لكان أحسن. "
المجموع" للنووي (4). "المغني" لابن قدامة (1 - 505).
فائدة:
* إذا كان المأموم يركع والإمام يرفع رأسه من الركوع لم يجزئه ذلك، وعليه أن يأتي بالتكبيرة منتصبا، فإن أتى بها بعد أن انتهى في الانحناء إلى قدر الركوع أو أتى ببعضها لم يجزئه لأنه أتى بها في غير محلها. ولأنه يفوته القيام وهو من أركان الصلاة.
"المغني" (1).
وإذا أدرك المسبوق الإمام في غير ركن الركوع، كأن يدركه ساجدا أو يدركه في التشهد فإنه يستحب له الدخول معه، ولا يعتد بها.
"المجموع" (4) و"المغني" (1).
وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (2 - 562) - تعليقا على حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام، فقد أدرك الصلاة. وهو حديث صحيح أخرجه البخاري (580) ومسلم رقم (607) وأبو داود رقم (1121) والترمذي رقم (5024) والنسائي (1) وابن ماجه رقم (1122) -.
لا خلاف أن اللفظ ليس على ظاهره، وأن هذه الركعة تجزيه من الصلاة دون غيرها. وإنما ذلك راجع إلى حكم الصلاة وقيل: معناه: فضل الجماعة وهو ظاهر حديث أبي هريرة، وهذا في رواية ابن وهب عن يونس عن الزهري وزيادته قوله: "مع الإمام" وليس هذه الزيادة في حديث مالك عنه، ولا في حديث الأوزاعي وعبيد الله بن عمر ومعمر، واختلف فيه عن يونس عنه، وعليه يدل إفراد مالك في التبويب في "الموطأ" (1)، وقد رواه بعضهم عن مالك مفسرا: " فقد أدرك الفضل" ورواه بعضهم عن ابن شهاب وهذا الفضل لمن تمت له الركعة كما قال، وفب مضمونه أنه لا يحصل بكماله لمن لم تتحصل له الركعة. .. ثم قال: وهذه الركعة التي يكون فيها مدركاللأداء والوجوب في الوقت هو قدر ما يكبر فيه للأحرام وقراءة أم القرآن بقراءة معتدلة، ويركع ويرفع ويسجد سجدتين يفصل بينهما ويطمئن في كل ذلك. على من أوجب الطمأنينه، فهذا أول ما يكون به مدركا، وعلى قوله من لا يوجب أم القرآن في كل ركعة تكفيه تكبيرة الإحرام والوقوف لها. ..
ثم قال: واما الركعة التي يدرك لها فضيلة الجماعة فأن يكبر لإحرامه قائما ثم يركع، ويمكن يديه من ركبتيه قبل رفع الإمام رأسه. هذا مذهب مالك وأصحابه، وجمهور الفقهاء من أهل الحديث والرأي، وجماعة من الصحابة والسلف. .. ".(6/2744)
واعلم أن استيفاء البحث يحتاج إلى تطويل، وقد طولته في مؤلفاتي (1) واستوفيت الكلام عليه احتجاجا ودفعا وترجيحا. وفي هذا المقدار الذي ذكرناه هنا كفاية.
وأما الجواب عن المسألة الخامسة
فأقول: لا شك ولا ريب أن القواعد الشرعية قاضية بأن ملك كل مالك باق على ملكه، لا يخرجه عنه إلا وقوع التصرف منه فيه باختياره أو موته، والغائب إذا لم يصح خبر موته جميع ما يملكه باق على ملكه، لا يجوز لغيره التصرف فيه لوجهين:
الوجوه (2): لكن إذا خشى عليه الفساد كان للحكام، ومن له النظر في المصالح أن يجعلوه بنظر العدول، يقيمون ما يحتاج إلى الإقامة ويبيعون ما يخشى عليه الفساد،
_________
(1) انظر "نيل الأوطار" (3 - 152).
(2) العبارة اعتراها نقص والله أعلم.(6/2745)
ويأخذون أجرتهم كما يأخذون ذلك من مال الأحياء الحاضرين، فأن كان في الورثة من يصلح لذلك فهو أولى من غيره.
وأما الجواب عن المسألة السادسة:
فأقول: إذا رفع الغرماء من عليه دين إلى حاكم الشريعة فالوجه الشرعي الذي دل عليه الدليل، وأفاده ما وقع لمعاذ بن [معاذ] (1) -رضي الله عنه - لما طالبه أهل الدين بدينهم أن الحاكم يقضيهم من مال المديون، ويبيعهم منهم بثمن الزمان والمكان، ولا يكلف بعد بذل ماله بغير ذلك إذا كان المال في مكان يمكن صاحب الدين الاتصال به والانتفاع به.
وأما إذا كان في مكان لا يمكنه الانتفاع به، وكان من عليه الدين أقدر على التصرف
_________
(1) كذا في المخطوط والصواب (جبل) وأخرج الحديث الدراقطني (4 - 231 رقم 95) والبيهقي (6) والحاكم في "المستدرك" (2) وقال: صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي.
من حديث كعب بن مالك: "أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجر على معاذ ماله، وباعه في دين كله عليه".
وأخرجه أبو داود في "المراسيل" رقم (172) وعبد الرزاق في مصنفه (8 رقم 15177) وهو منقطع.
من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك مرسلا قال: "كان معاذ بن جبل شابا سخيا وكان لا يمسك شيئا فلم يزل يدان حتى أغلق ماله في الدين فأتي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكلمه ليكلم غرماءه، فلو تركوا لأحد لتركوا لمعاذ لأجل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فباع لهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم ماله حتى قام معاذ بغيره شيء". وهو حديث ضعيف انظر: "الإوراء" رقم (1435).
قال ابن قدامة في "المغني" (6): "ومتى لزم الإنسان ديون حالة لا يفي ماله بها، فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه، لزمته إيجابتهم ويستحب أن يظهر الحجر عليه لتجتنب معاملته فإذا حجر عليه ثبت بذلك أربعة أحكام:
أحدهما: تعلق حقوق الغارماء بعين ماله.
الثاني: منع تصرفه في عين ماله.
الثالث: أن من وجد عين ماله عنده فهو أحق بها من سائر الغرماء إذا وجدت الشروط.
الرابع: أن للحاكم بيع ماله وإيفاء الغرماء والأصل في هذا ما روى كعب بن مالك".(6/2746)
به، والبيع له فلا بأس بأن يأمر ببيع ماله، لأنه لا يحصل قضاء الدين كما ينبغي إلا بذلك.
وفي هذا المقدار من الجواب كفاية.
كتبه المجيب محمد الشوكاني - غفر الله له [4أ]-.(6/2747)
بحث في جواب سؤالات تتعلق بالصلاة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(6/2749)
عنوان الرسالة: (بحث في جواب سؤالات تتعلق بالصلاة).
موضوع الرسالة: في فقه الصلاة.
أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، وبعد: فإنه وصل من سيدنا العلامة حسنة الآل، زينة الأمثال يحيى بن مطهر بن إسماعيل. ..
آخر الرسالة:. .. ويخرج بخروجهم للعلة التي ذكرناها.
وإلى هنا انتهى جواب المسائل. وحسبي الله وكفى، ونعم الكيل حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
نوع الخط: خط نسخي معتاد.
الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
عدد الصفحات: 14 صفحة.
عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرا.
عدد الكلمات في السطر: 10 - 12 كلمة.
الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(6/2751)
بسم الله الرحمن الرحيم
يا مالك يوم الدين، إياك نعبد، وإياك نستعين، وبعد:
فإنه وصل من سيدنا العلامة حسنة الآل، زينة الأمثال يحيى بن مطهر بن إسماعيل بن يحيى بن الحسين بن القاسم (1) - كثر الله فوائده - هذه الأسئلة النفيسة، ولفظها:
أشكل على المسترشد عدة مسائل، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -قد أرشد إلى السؤال:
المسألة الأولى: في القراءة في الصلاة، اعتاد كثير من الناس قراءة سورة العصر فما دونها إماما ومأموما، مع كون المعروف من قول من وكل إليه بيان ما يقرأ في الصلاة وفعله خلاف ذلك، فربما وقع التبرم من صلاة من يقرأ بالشمس وسبح، والحال أنها صلاة أخفهم إليها ندب النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - معاذا لما شكوا قراءته البقرة (2)، وهم أهل أعمال، فجعل ذلك فرض الضعيف والسقيم وذا الحاجة، وقد كانت عادته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - القراءة بطوال القرآن، وأوسطه، وطوال الفتح (3) عند الكلام على حديث ابن مسعود من أنه كان يقرن بين عشرين سورة، وآخرهن حم الدخان والنزعات " كأن عبد الله كان يرى الدخان السور المذكورة. من المفصل، وسيأتي سرد السور المذكورة.
_________
(1) تقدمة ترجمته.
(2) سيأتي تخريجه في الجواب.
(3) (2).
وحديث ابن مسعود أخرجه البخاري رقم (775) وطرفاه رقم (4996، 5043) حدثنا آدم قال حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا وائل قال: "جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: هذا كهذا الشعر. لقد عرفت النظائر التي كان النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرن بينهن.
فذكر عشرين سورة من المفصل، سورتين في كل ركعة.(6/2755)
وفي حديث أم فضل بنت الحارث عند مسلم (1) أن آخرصلاة صلاها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالناس في مرض موته المغرب، قرأ فيها بالمرسلات، وقد كان من شأنه تخفيف المغرب، فحالة المرض يقتضي زيادة التخفيف، وكانت الصلاة بالمرسلات تخفيف التخفيف من معلم الشرائع، والله تعالى يقول: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (2).
والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: " صلوا كما رأيتموني أصلي" (3) والآن صار الناس يتضررون من الصلاة بما ندب إليه الشارع معاذا (4) من التخفيف، وليس ذلك منهم عن علم، بل كأنهم جهلوا أن المفضل من قاف، وأن المرسلات من أوسطه، والشمس [1أ] من قصاره، فرغبوا عن ذلك، وصار الاختصار هو الغالب، والعلماء هم الذين أخذا الله عليهم الميثاق، والذي [ ... ] (5) أن ذلك ليس من التخفيف الشرعي، وإن كان فيه تخفيف في الصورة، ولكنه سرق للصلاة. ومع هذا فربما صلى الرجل ووقف
_________
(1) رقم (173) قلت وأخرجه البخاري رقم (763).
عن ابن عباس قال: إن أم الفضل بنت الحارس سمعته وهو يقرأ: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) فقالت: يابني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بها في المغرب.
(2) [الأحزاب: 21].
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (631) ومسلم رقم (24) من حديث مالك بن الحويرث.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6106) ومسلم في صحيحه رقم (465) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كان معاذا يصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يأتي فيؤم قومه. فصلى ليلة مه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء، ثم أتى قومه فأمهم فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف. فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لاوالله، ولآتين رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلأخبرنه فأتى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يارسول الله إن أصحاب نواضح، نعمل بالنهار وإن معاذ صلى معك العشاء، ثم أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على معاذ فقال: "يا معاذ، أفتان أنت؟ اقرأ: والشمس وضحاها، والضحى والليل إذا يغشى،، سبح اسم ربك الأعلى".
(5) كلمة غير واضحة في المخطوط.(6/2756)
في المسجد، أو بين يدي رجل من عباد الله لا يدري ما يقف عليه منه، بل في إنتظار ملاقاته قدر قراءة طولي الطوليين، فلا يمل ويرغب عن من لا يضيع لديه عمل عامل.
وقد أنكر السلف على مروان قراءته في المغرب بقصارقصار المفصل (1)، وكذلك الرجل الذي اعتاد قراءة: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) انكر عليه أصحابه وشكوه إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "ما يمنعك وما يحملك" (2) فأجابه بقوله: إني أحبها. قال ابن المنير (3): في الحديث أن المقاصد تغير أحكام الفعل، لأنه لو قال إنه لا يحفظ غيرها لأمره يتحفظ، لكنه اعتل بحبها فصوبه لصحة قصده. وقد قيل إنما كان يقررها في صلاة الليل دون الفرائض، وصار الناس يلتزمون قراءتها في الثانية، لا لمقصد، بل لو قصدوا ما أراده لم يكن لهم ما جزم به للرجل جزما لعدم المشاركة في العلة، والابتداء بالقصد كما وقع في حق خزيمة (4)
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (764) حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عروت ابن الزبير عن مروان بن الحكم قال: "قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار، وقد سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بطوليه الطوليين".
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6106) ومسلم رقم (178) من حديث جابر.
وأخرجه البخاري رقم (774) والترمذي رقم (2601) وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. من حديث أنس.
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (7375) من حديث عائشة.
(3) ذكره الحافظ في "الفتح" (2) وإليك النص كاملا.
قال ناصر الدين بن المنير: "في هذا الحديث أن المقاصد تغير أحكام الفعل لأن الرجل لو قال إن الحامل له على إعادتها أنه لا يحفظ غيرها، لكنه اعتل بحبها فظهرت صحة قصده فصوبه قال: وفيه دليل على جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس إليه والاستكثار منه ولا يعد ذلك هجرانا لغيره. وفيه ما يشعر بأن سورة الإخلاص مكيه. .. ".
(4) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (3607) والنسائي (7) رقم (4647) عن عمارة ابن خزيمة، أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن النبي ابتاع فرسا من أعرابي، فاستتبعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليقضيه ثمن فرسه فأسرع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشي، وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، ولا يشرعون أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابتاعه، فنادى الأعرابي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إن كنت مبتاعا هذا الفرس وإلا بعته، وقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين سمع نداء الأعرابي، فقال: "أو ليس قد ابتعته منك؟ " فقال الأعرابي: لا والله ما بعتكه! فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بل قد ابتعته منك " فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيدا! فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على خزيمة، فقال: " بم تشهد" فقال: بتصديقك يارسول الله! فجعل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهادة خزيمة بشهادة رجلين. وهو حديث صحيح.(6/2757)
وأبي بردة، فإنه قضى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لهما بالاختصاص، فلو زعم أحد بمحبتهما لكانت إنما هي لكونها أحبها الرجل، فدخل الجنة، لا أنه لذاتها. هذا فيما يظهر - والله أعلم -. فأحسنوا با لإيضاح، فهذه التصورات هي السبب في السؤالات لا برحتم.
المسألة الثانيه: هل تكره قراءة الرجل في الركعة الثانية لسورة هي قبل التي قرأها في الأولى على ترتيب المصحف؟ إن قلتم لا يجوز فقد صرح بعض أهل العلم بالكراهة، وقرر للمذهب، وأن قلتم لا يجوز لمخالفة الترتيب نوقش بأنه ليس بتوفيقي، وبأن في إرشاد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ إلى الحد الذي لا ينبغي التخفيف به: "
اقرأ [1ب] والشمس وضحاها، والليل إذا سجى، وسبح اسم ربك الأعلى" (1) وفي رواية (2): " إذا أممت الناس فا قرأ والشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى وقرأ باسم ربك الذي خلق، والليل إذا يغشى" وهما في مسلم. وسرد الراوي للسور التي كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقرنيها في الصلاة من المفصل، وهي الرحمن، والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والذريات والطور في ركعة والواقعه ونون في ركعة وسأل سائل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (6106) ومسلم رقم (178) من حديث جابر.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (179/ 465) من حديث جابر.(6/2758)
ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، وإذا الشمس كورت والدخان في ركعة كما ذكره الحافظ (1).
المسألة الثالثة: هل التسبيح في الثالثة والأخريين إثارة من علم؟ والذي يظهر في مقام السؤال تعين الفاتحة في كل ركعة على الإمام والمأموم، لأدلة أوردها لمعرفة ما يعارضها أو يخصصها، فمن الأدلة ما يكون لصد ما سقيت عليه، وقد يكون صوابا، فمنها وهو في الصحيح (2): "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". وفي رواية: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " (3) فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام،، فقال: أقرأ بها في نفسك، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن" (4)، قال الحافظ (5): والركعة صلاة حقيقية.
وفي حديث المسيء (6): " ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" بعد أن أمره بالقراءة بل في حديث رفاعة بن رافع عند أبي داود (7) دلالة على وجوب قراءة زيادة على الفاتحة في كل ركعة، لأن لفظه: "ثم اقرأ بأم القرآن، وبما شاء الله أن تقرأ ثم افعل. .. إلخ" وقد نقل النووي (8) الإجماع على لزوم ذلك في الأوليين، وقال: إنه سنة عند جميع العلماء ونقل القاضي عياض (9) القول بوجوب السورة في الأوليين عن بعض أصحاب
_________
(1) في "الفتح" (2).
(2) تقدم في الرسالة رقم (80)
(3) تقدم في الرسالة رقم (80).
(4) تقدم في الرسالة رقم (80).
(5) انظر فتح الباري" (2 - 57).
(6) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (79).
(7) في "السنن" رقم (858 صحيح، 859 حسن، 860 حسن، 861 صحيح).
(8) ذكره في شرحه لصحيح مسلم (4).
(9) في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (2 - 281).(6/2759)
مالك، وكذا أورده الحافظ (1) بصيغة الدعوى عن ابن حيان والقرطبي وغيرهما، وتحقيق ما هو الحق يستمد منكم.
المسألة الرابعة: حديث: "إذا أتيما مسجد جماعة. .. إلخ" (2) قد تبين بالروايات الصحيحة أن الثانية نافلة، وهو قضية [2أ] حكم القرآن ن فهل المراد مجرد الكون معهم فيما بقي عليهم بما يقع للآتي نافلة، أم المطلوب الإتيان بتلك الصلاة بحيث ينطبق عليه: "ما ادركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا؟ " (3).
المطلوب الكشف عن حقيقة الحال، والتمييز بين زائف الرأي، وصحيح المقال - يسر الله فوائدكم - آمين. انتهى.
_________
(1) في "الفتح" (2 - 281).
(2) أخرجه أحمد (4 - 161) وأبو داود رقم (575 - 576) والترمذي رقم (219) والنسائي رقم (858) والدراقطني (1 - 414) وابن حبان رقم (2388) والحاكم (1 - 245) من حديث يزيد بن الأسود. وهو حديث صحيح.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (636) ومسلم رقم (151).(6/2760)
الجواب عن السؤال الأول - وعلى الله سبحانه المعول -:
هو أن المرجع في تطويل الصلاة وتخفيفها والتوسط بين التطويل والتخفيف ما جاءنا عن المبين بما شرعه الله لعباده فهو القدوة والأسوة كما في الأوامر القرآنية: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (1)، (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (2)، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (3) وكما جاء في السنة الثابتة من أمر أمته باتباعه كقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (4) وقد ثبت عنه مقدار يعم جميع الصلوات الخمس، ومقدار يخص كل صلاة من الصوات الخمس وغيرها. فأما المقدار الذي يعم كل الصلوات الخمس في حديث جابر عند البخاري (5) ومسلم (6) وغيرهما أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " يامعاذ، أفتان أنت؟ " (7) أو قال: "أفاتن أنت؟ فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى". ولهذا الحديث (8) ألفاظ آخر، وفيه أنه يشرع
_________
(1) [الحشر: 7]
(2) [آل عمران: 31]
(3) [الأحزاب: 21].
(4) تقدم تخريجه.
(5) في صحيحه رقم (700، 701، 705، 711).
(6) في صحيحه رقم (465).
(7) قال الحافظ في "الفتح" (2): ومعنى الفتنة ها هنا: أن التطويل يكون سببا لخروجهم من الصلاة، وللتكره للصلاة في الجماعة.
وقال النووي في شرحة لصحيح مسلم (4): "أفتان أنت يا معاذ" أي: منفر عن الدين وصاد عن، ففيه الإنكار على من ارتكب ما ينهي عنه، وإن كان مكروها غير محرم، وفي جواز الإكتفاء في التغرير بالكلام، وفي الأمر بتخفيف الصلاة وتغرير على إطالتها إذا لم يرضي المؤمنون.
(8) تقدم من حديث عائشة، وأنس.(6/2761)
أن تكون القراءة في الصلاة بهذه السور من غير فرق بين جميع الصلوات الخمس، وكون سبب الورود تطويل معاذ في صلاة العشاء لا ينافي العمل بما يقتضيه اللفظ؛ فإن المعتبر اللفظ لا السبب كما هو معروف مكرر في مواطنه. ومن الأحاديث المشتملة على بيان جميع الصلوات الخمس تطويلا وتخفيفا حديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة أنه قال: ما رأيت [2ب] رجلا أشبه صلاة برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من فلان - لإمام كان بالمدينة - قال سليمان: فصليت خلفه فكان يطيل الأوليين من الظهر، ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل، ويقرأ في الغداة بطوال المفصل. أخرجه أحمد (1)، والنسائي (2) ورجاله رجال الصحيح. وقد صححه ابن خزيمة (3) وغيره.
وأخرج مسلم (4) وغيره عن جابر بن سمرة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ ب: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (5) ونحوها، وكان يقرأ في الظهر ب: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) وفي العصر نحو ذلك (6).
وفي رواية لأبي داود (7) أنه قرأ في الظهر بنحو من: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) والعصر كذالك، والصلوات كلها كذالك إلا الصبح فإنه كان يطيلها.
_________
(1) في" المسند" (2).
(2) في "السنن" رقم (983) وهو حديث صحيح.
(3) في صحيحه (1 رقم 520) وقال ابن خزيمة عقب الحديث: هذا الاختلاف في القراءة من جهة المباح، جائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها التي يزاد على فاتحة الكتاب فيها بما أحب وشيئا من سور القرآن، وليس بمحظور عليه أن يقرأ بما شاء من سور القرآن غير أنه إذا كان إماما، فالاختيار له أن يخفف في القراءة ولا يطول في القراءة".
(4) في صحيحه رقم (168).
(5) في صحيحه رقم (168/ 458).
(6) عند مسلم في صحيحه رقم (170).
(7) في "السنن" رقم (806) وهو حديث صحيح.(6/2762)
ومن الأحاديث العامة لجميع الصلوات حديث الذي كان يقرأ ب: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) حسبما ذكره السائل (1) - عفاه الله - ولا وجه لدعوى الاختصاص. وقد ورد نحو هذه الأحاديث العامة لجميع الصلوات الخمس، وفيها بيان مقدار القراءة في كل صلاة، وما يطول فيه وما يخفف.
وأما المقدار الذي يخص كل صلاة من الصلوات الخمس فورد في الفجر كان يقرأ: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ).أخرجه الترمذي (2)، والنسائي (3) من حديث عمرو بن حريث، وورد أنه استفتح في صلاة الفجر بسورة المؤمنين. أخرجه مسلم (4) من حديث عبد الله بن السائب. وورد أنه قرأ فيها بالطور. أخرجه البخاري (5) تعليقا من حديث أم سلمة، وأنه كان يقرأ في ركعتي الفجر، أو في إحدهما ما بين الستين إلى المائة. أخرجه البخاري (6) ومسلم (7) من حديث أبي برزة، وأنه قرأ فيها الروم. أخرجه النسائي (8) عن رجل من الصحابة، وأنه قرأ فيها المعوذتين. أخرجه النسائي (9) أيضًا من حديث عقية بن عامر، وأنه قرأ فيها: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا). أخرجه عبد الرزاق (10) عن أبي برزة، وأنه قرأ فيها الواقعة.
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) في "السنن" (2).
(3) في "السنن" (2 - 178 رقم 951) من حديث عمرو بن حريث وهو حديث صحيح.
(4) في صحيحه رقم (163).
(5) في صحيحه (2 الباب رقم 105).
(6) في صحيحه رقم (541).
(7) في صحيحه رقم (172).
(8) في "السنن" (2 رقم 947) وهو حديث حسن.
(9) في "السنن" (2 رقم 952) وهو حديث صحيح.
(10) في مصنفه (2 رقم 2732).(6/2763)
أخرجه عبد الرزاق (1) أيضًا [3أ] عن جابر بن سمرة، وأنه قرأ فيها بسورة يونس وهود. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (2) عن أبي هريرة، وأنه قرأ فيها: (إِذَا زُلْزِلَتِ). أخرجه أبو داود (3) وأنه قرأ فيها: (؟) السجدة، و (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ) أخرجه البخاري (4) ومسلم (5) من حديث ابن مسعود.
إذا عرفت هذا فقد قرأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الصبح بالسور الطويلة، والقصيرة والمتوسطة.
وأما المقدار الذي يخص الظهر والعصر فقد كان يقرأ فيهما ب: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ)، (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ). أخرجه أبو داود (6)، والترمذي (7) وصححه من حديث جابر بن سمرة. وكان يقرأ في الظهر ب: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أخرجه مسلم (8) من حديث جابر بن سمرة أيضا، وأنه قرأ فيها من سورة لقمان والذاريات.
أخرجه النسائي (9) من حديث البراء، وأنه قرأ في الأولى من الظهر ب: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)، وفي الثانية: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) أخرجه. ...............................
_________
(1) في مصنفه (2 رقم 2720).
(2) في مصنفه (1).
(3) في "السنن" رقم (816) من حديث معاذ بن عبد الله الجهني وهو حديث حسن.
(4) في صحيحه رقم (891).
(5) في صحيحه رقم (65) من حديث أبي هريرة.
(6) في "السنن" رقم (805) بإسناد حسن.
(7) في "السنن" (307) وقال: حديث حسن صحيح.
(8) رقم (171).
(9) في "السنن" (2 رقم 971) وهو حديث حسن.(6/2764)
النسائي (1) أيضًا عن أنس، وثبت أنه كان يقرأ في الأوليين منهما بفاتحة الكتاب وسورتيين يطول في الأولى ويقصر في الثانية. أخرجه البخاري (2)، ولم يعين السورتين، وثبت عن أبي سعيد عند مسلم (3) وغيره (4) أنه قال: كنا نحزر قيام رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة: (؟) السجدة، وحزرنا قيامه في الركعتين الآخراتين قدر النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الأولين من العصر على قدر قيامه في الآخرتين من الظهر، وفي الآخرتين من العصر على النصف من ذلك. وثبت عن أبي سعيد أيضًا عند مسلم (5) وغيره (6) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الآخرتين قدر قراءة خمس عشرة آية [3ب] أو قال نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية، وفي الآخرتين قدر نصف ذلك.
إذا عرفت هذا، وقد نقل بعض الصحابة قراءته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في هتين الصلاتين بسور معينة، وبعضهم قدر لبثه في كل ركعة بمقادير بينة لا تلتبس.
وأما المقدار الذي يخص صلاة المغرب فقد ثبت في الصحيحين (7) ................
_________
(1) في "السنن" (2/ 163 - 164 رقم927).
قلت: وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه رقم (1/ 257 رقم 512) بإسناد صحيح وابن حبان في صحيحه (3/ 153 رقم 1821).
(2) في صحيحه رقم (776) ومسلم في صحيحه رقم (155/ 451) من حديث أبي قتادة.
(3) في صحيحه رقم (157/ 452).
(4) كأبي داود رقم (804) والنسائي (1/ 237) والبيهقي (2/ 66).
(5) في صحيحه رقم (452).
(6) كأحمد (3/ 2).
(7) البخاري في صحيحه رقم (765) ومسلم رقم (174/ 463).(6/2765)
وغيرهما (1) عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في المغرب بالطور.
وثبت في الصحيحين (2) وغيرهما (3) من حديث أم الفضل بنت الحارس أنها سمعت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقرأ فيها بالمرسلات.
وأخرج النسائي (4) بإسناد جيد عن عائشة أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قرأ فيها الأعراف فرقها بين الركعتين.
وأخرج ابن ماجه (5) بإسناد قوي عن عمر أنه قال - كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في المغرب: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) و: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).
وأخرج نحوه ابن حبان (6)، والبيهقي (7) من حديث جابر بن سمرة بإسناد ضعيف وأخرج النسائي (8) فيهما بالدخان.
وأخرج البخاري (9) عن مروان [بن الحكم] قال: قال لي زيد بن ثابت: مالك تقرأ
_________
(1) كأبي داود في "السنن" (811) والنسائي (2/ 169 رقم 987) ومالك في "الموطأ" (1/ 78 رقم 23) وأحمد (4/ 84) وابن ماجه رقم (832).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (763) ومسلم رقم (173/ 462).
(3) كمالك في "الموطأ" (1/ 78 رقم 24) وأبو داود رقم (810) والترمذي رقم (308) وقال: حديث حسن صحيح والنسائي (2/ 168 رقم 985، 986).
(4) في "السنن" (2/ 169 - 170 رقم 989، 990) وهو حديث صحيح.
(5) في "السنن" (1/ 272 رقم833) وهو حديث منكر وقال الألبانيوالمحفوظ أنه كان يقرأ بهما في سنة المغرب.
(6) في صحيحه رقم (1841)
(7) في "السنن الكبرى" (3/ 201)
(8) في "السنن" (2/ 169 رقم988) من حديث عبد الله بن عتبة بن مسعودوفي سنده: "معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي المدني لم يوثقه غير ابن حبان والعجلي، وباقي رجاله ثقات.
(9) في صحيحه رقم (764)(6/2766)
بقصار المفصل وقد سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بطولي الطوليين، والطوليان هما الأعراف والأنعام.
وقد تقدم في حديث أبي هريرة (1) في حديث الرجل الذي هو أشبه التاس صلاة برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقرأ في المغرب بقصار المفصل (2). إذا عرفت هذا فقد ثبت في صلاة المغرب القراءة بالسور الطويله والقصيرة والمتوسطة.
وأما المقدار الذي يخص صلاة العشاء فأخرج أحمد (3)، والنسائي (4)، والترمذي (5) وحسنه من حديث بريدة أن الني - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقرأ فيهما بالشمس وضحاها، ونحوها من السور.
وأخرج البخاري (6) ومسلم (7) من حديث البراء [4أ] أنه قرأ فيها بالتين والزيتون. وأخرج البخاري (8) من حديث أبي هريرة أنه قرأ فيها ب: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ).
وتقدم في أمره لمعاذ بالتخفيف (9) أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أمره بقراءة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)، (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا)، (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى)
_________
(1) تقدما آنفا وهو حديث صحيح.
(2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مالك في "الموطأ" (1 رقم 25) من حديث عبد الله الصنابحي باسناد صحيح.
(3) في "مسنده" (5)
(4) في "السنن" (2 رقم999)
(5) في "السنن" (2 رقم 309) وهو حديث صحيح.
(6) في صحيحه رقم (767)
(7) في صحيحه رقم (464). قلت: وأخرجه مالك في "الموطأ" (1 رقم 27 وأبو داود رقم (1221) والترمذي (2 رقم 3)، وقال حديث حسن صحيح، والنسائي (2 رقم 1000).
(8) في صحيحه رقم (768).
(9) تقدم تخريجه.(6/2767)
وقد روي أن التطويل كان من معاذ في صلاة العشي، وإن كان الأمر بالقراءة منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا تخص صلاة دون صلاة.
وتقدم في حديث أبي هريرة (1) عن الفتى الذي وأشبه الناس صلاة برسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل.
إذا عرفت هذا فقد ثبتت القراءة في صلاة العشاء بالسور المتوسطة والقصيرة. وقد اتضح بما ذكرناه من الأدلة المشتملة على بيان مقادير القراءة في الصلوات الخمس، والأحاديث المبينة لمقدار القراءة في كل صلاة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يستمر في صلاة من الصلوات على قراءة السور الطويلة فقط، أو القصيرة فقط، أو المتوسطة فقط بل كان تارة يقرأ بالطويلة، وتارة بالقصيرة، وتارة بالمتوسطة. ولكل سنة وشريعة ليس لأحد إنكارها ولا مخالفتها، ولا دعوى أن شيئا منها خلاف السنة، بل المخالف للسنة هو الذي يستمر على قراءة نوع من هذه الأنواع الثلاثة ويدع غيره، فإن ادعى أن ذلك هو السنة دون غيره فقد ضم إلى مخالفته للسنة بفعلة مخالفة آخرى [4ب] بقول الذي قالة. فأن كان إماما فعليه أن يصلي بهم صلاة أخفهم (2).
وقد بين لنا معلم الشرائع هذه التخفيف الذي أمر به معاذا فأرشده إلى تلك السور، فمن زعم على إمام من ائمة الصلاة يقرأ بمثل هذه السور التي أرشد إليها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - انه قد طول وخالف السنة فهو جاهل أو متجاهل، وإذا قرأ الإمام سورا
_________
(1) تقدم وهو حديث صحيح.
(2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (703) ومسلم رقم (341) ورقم (467) وأبو داود رقم (794، 795) والنسائي (2 رقم 823) والترمذي (1 رقم 236).
من حد يث أبي هريرة أن - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، فإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء ".
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (701) ومسلم رقم (465) من حديث جابر. وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (704) ومسلم رقم (466) من حديث أبي مسعود البدري.(6/2768)
أطول مما أرشد إليه الشارع معاذا مع علمه إن في المؤتمين به من يضرر بذلك فهو أيضًا مبتدع مخالف للسنة، وكذلك إذا لم يعلم. وكان الجمع كثيرا بحيث يجوز أن فيهم من يتضرر بذلك. وهذه السور التي أرشد إليها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - معاذا هي أوساط المفصل. وزاد مسلم (1) أنه أمره بقراءة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) وزاد عبد الرازق (2) (الضحى)، وزاد الحميدي (3): (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ)، (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ).
وأما إذا قرأ إمام بما هو أقصر من هذه السور التي أرشد إليها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وهو قصار المفصل فهو أيضًا متسنن غير مبتدع، لأن الشارع قد سن لأمته ذلك حسبما بيناه، ولكنه لا يجعل ذلك ديدنه وهجيراه على وجه لا يفارقه، فغنه إذا فعل ذلك كان مبتدعا لما قدمنا، ووجه ابتداعه أنه ظن أن السنة منحصرة في ذلك النوع، فاستلزم ذلك نفي سنية ما عداه، فإن أكثر من ملازمة نوع من تلك الأنواع أعني التطويل أو التقصير أو التوسيط مع اعترافه [5أ] بأن الكل سنة، وفعله لغير النوع الذي لازمه في بعض الأحوال فليس بمبتدع، والمنفرد يطول ما شاء كما أرشده إلى ذلك معلم الشرائع، والإمام يصلي بالقوم صلاة أخفهم.
والحاصل أن المنفرد إذا فعل أي نوع من تلك الأنواع الثلاثة فقد فعل السنة ما لم ينكر بعضها، وتطويله لقراءته وصلاته أكثر ثوابا، وأعظم أجرا، واإمام إذا أم قوما لهم رغبة في الطاعة لا يتضررون بالتطويل، فأي الأنواع الثلاثة فعل فقد فعل السنة، وتطويل صلاته وقراءته أكثر ثوابا له، وامن ائتم به، وأعظم أجرا. وإن كان يؤم قوما لا يأمن أن فيهم الضعيف. ........................
_________
(1) في صحيحه رقم (179).
(2) في مصنفه (2 - 366 رقم 3725).
(3) في مسنده (2 رقم 1246).(6/2769)
والمريض (1) وذا الحاجة فعل ما أرشده إليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من تلك السور، وما يماثلها أو دونها لا ما هو أكبر منها.
فإن قلت: قد تكرر في هذا الجواب ذكر المفصل فما هو من السور؟
قلت: قال في الضياء: هو من سورة محمد إلي آخر القرآن، وذكر في القاموس (2) أقوالا عشرة من الحجرات إلي آخره، قال في الأصح، أو من الغاشية، أو القتال، أو قاف، أو الصافات، أو الصف، أو تبارك، أو إنا فتحنا لك، أو سبح اسم ربك، أو الضحى. ونسب [5ب] بعض هذه الأقوال إلى من قالها، وسمي مفصلا لكثرة الفصول بين سورة أو لقلة المنسوخ منه كذا قيل (3).
وأما ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده - في المسألة الثانية من أن بعض أهل العلم صرح بكراهة قراءة سورة في الركعة الثانية قبل السورة التي قرأهافي الركعة الأولى في ترتيب المصحف.
_________
(1) تقدم ذكر ذلك.
*وأخرج مسلم في صحيحه رقم (186) من حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي " أم قومك، فمن أم قوما فليخفف، فأن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض وأن فيهم الضعيف، وإن فيهم ذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم وحده فليصي كيف شاء".
* وأخرج مسلم في صحيحه رقم (187) من حديث عثمان بن أبي العاص قال: آخر ما عهد إلي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أممت قوما فأخف بهم الصلاة ".
*وأخرج البخاري رقم (710) ومسلم رقم (192) من حديث أنس بم مالك: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها، فأسمع بقاء الصبي، فأخفف، من شدة وجد أمه بها ".
(2) (ص1347).
(3) قال الحافظ في "الفتح" (2): واختلف في المراد بالمفصل مع الاتفاق على أن منتهاه آخر القرآن هل هو من أولى الصافات أو الجاثية أو القتال أو الفتح أو الحجرات أو ق أو الصف أو تبارك أوسبح أو الضحى إلى آخر القرآن. .. ".(6/2770)
فأقول: إن هذا الذي صرح بهذا لا ينبغي أن يعد من أهل العلم، لأنه خفي عليه شيء هو أوضح من شمس النهار، وبيان ما ذكرناه من وجوه:
الأول: أن كل عارف وإن قل عرفانه يعلم أن هذا الترتيب الواقع في المصحف ليس على حسب التقدم والتأخر في النزول، فقد ثبت أن أول (1) ما نزل: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) وبعدها (2): (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وكان آخر (3) ما نزل أو من آخر ما نزل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وليس التلاوة مقيدة على حسب الترتيب الذي وقع في المصحف، بل ولا على حسب النزول، فللإنسان أن يتلو من أي مكان شاء في الصلاة وغيرها، ويختار في كل ركعة ما يريد.
الوجه الثاني: حديث الذي كان يفتتح في صلاته بقراءة: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فقرره (4) - النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مع كونه كان يؤم بأهل مسجده. أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح، والبخاري تعليقا، والبزار، والبيهقي، والطبراني من حديث أنس. وهذا ظاهر
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (4956).
من حديث عائشة - رضي الله عنها -: "أول ما بدئ به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرؤيا الصادقة، جائه الملك فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ).
وانظر "تفسير ابن كثير" (8).
(2) قال ابن كثير في تفسيره (8) ثبت في صحيح البخاري رقم (4922) من حديث جابر أنه كان يقول: أول شيء نزل من القرآن: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وخالفه الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).
(3) انظر "أسباب النزول" للواحدي (ص190).
(4) تقدم تخريجه.(6/2771)
الدلاالة، لأنه لم يتقيد بقراءة ما بعد: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ولو تقيد بذلك لم يقرأ في جميع صلواته إلا بالمعوذتين مع (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) لأنه لم يكن بعدها في ترتيب المصحف إلا هاتان السورتان.
الوجه الثالث: أنه قد ثبت في صحيح مسلم (1) وغيره أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قرأ بالبقرة، ثم بالنساء، ثم بآل عمران. قال القاضي عياض (2): فيه دليل لمن يقول إن ترتيب السور إجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف، وأنه لم يكن ذلك من ترتيب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، بل وكله إلى أمته بعده قال: وهذا قول مالك والجمهور، واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني [6أ]. قال ابن الباقلاني: هو أصح القولين مع احتمالهما، قال القاضي عياض (3): والذي نقوله أن ترتيب السور ليس بواجب في الكتابة، ولا في الصلاة، ولا في الدرس، ولا في التلقين، والتعليم، وأنه لم يكن من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في ذلك نص، ولا يحرم مخالفته، ولذلك اختلف ترتيب المصحف قبل مصحف عثمان. قال: وأما من قال (4) من أهل العلم أن ذلك بتوقيف من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما استقر في مصحف عثمان، وإنما اختلفت المصاحف قبل أن يبلغهم التوقيف فيتأول قراءته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - النساء، ثم آل عمران هنا على أنه كان قبل التوقيف والترتيب. ........................
_________
(1) في صحيحه رقم (203): عن حذيفة قال: صليت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ذات ليلة، فافتتح. فقلت: يركع عند المائة ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة. فمضى، فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها. ثم افتتح آل عمران فقرأها. يقرأ مترسلا. إذا مر بآية بها تسبيح سبح. وإذا مر بسؤال سأل. وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: " سبحان ربي العظيم" فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: "سمع الله لمن حمده" ثم قام طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد فقال: "سبحان ربي الأعلى" فكان سجوده قريبا من قيامه.
(2) في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (3 - 137).
(3) في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (3).
(4) في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (3).(6/2772)
انتهى (1).
قلت: وقد أوضحت فساد ما زعمه القائلون بالتوقيف في بحث طويل، وأبنت أن ذلك من الجهل بالكيفيات التي كان عليها الصحابة في تلاوة القرآن وكتابته.
الوجه الرابع: الإجماع قائم على أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي يقرأها في الأولي. حكى هذا الإجماع القاضي عياض (2)، فذلك القائل بأنه يكره مخالف للإجماع.
وأما ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده - من قوله: هل على التسبيح والثالثة والاخريين أثارة؟.
فأقول: أما من كان يحسن الفاتحة وحدها، أو مع زيادة عليها فلا أثارة من علم قط على أنه يدع الفاتحة، ويعدل التسبيح، ولا أدري كيف وقع لبعض أهل العلم التخيير في الركعتين الأخريين بين الفاتحة وهذا التسبيح! فإن الأدالة الواردة في هذا التسبيح مقيدة بمن لا يحسن القراءة كحديث رفاعة بن رافع أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - علم رجل الصلاة فقال: "إن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله وكبره وهلله، ثم اركع" أخرجه أبو داود (3)، والترمذي (4) وحسنه، والنسائي (5).
فهذا كما ترى مقيد بعدم كون مع الرجل قرآنا، وكذلك حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني لا استطيع أن آخذ شيئا من القرآن فعلمني ما يجزيني فقال: " قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله
_________
(1) كلام القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم " (3).
(2) في "إكمال المعلم بفوائد مسلم " (3).
(3) في "السنن" رقم (861).
(4) في "السنن" رقم (302).
(5) في "السنن" (2 رقم 1053).(6/2773)
إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله " رواه أحمد (1)، وأبو داود (2)، والنسائي (3)، والدارقطني (4)، وابن الجارود (5)، وابن حبان (6)، والحاكم (7) وفي إسناده؟ إبراهيم بن إسماعيل السكسكي (8)، وهو من رجال البخاري (9)، لكن عيب عليه [6ب] إخراج حديثه. وضعفه النسائي (10) وقال ابن القطان (11) ضعفه قوم فلم يأتوا بحجة، وقال ابن عدي (12) لم أجدبه حديثا منكر المتن، وذكزه النووي في الخلاصة (13) في فصل الضعيف. انتهى.
ولم يتفرد بالحديث إبراهيم المذكور، وقد رواه الطبراني (14)، وابن حبان (15) في صحيحه أيضًا من طريق طلحة بن مصرف عن ابن أبي أوفي، ولكن في إسناده الفضل بن موفق ضعفه أبو حاتم، كذلك قال ابن ..................................
_________
(1) في "المسند" (4، 356، 382).
(2) في "السنن" رقم (832).
(3) في "السنن" (2 رقم 924).
(4) في "السنن" (1 - 314 رقم 1، 2، 3).
(5) في "المنتقى" (رقم 189).
(6) في صحيحه رقم (1805، 1806، 1807).
(7) في "المستدرك" (1/ 241) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وهو كما قالا.
(8) قال الذهبي في "الميزان " (1) كوفي صدوق، لينة شعبة والنسائي. وهو حديث حسن
(9) انظر "هدى الساري" (ص388).
(10) ذكره الذهبي في "الميزان" (1).
(11) ذكره ابن حجر في "التلخيص" (1).
(12) ذكره الذهبي في "الميزان" (1).
(13) (1 - 383 رقم 1196).
(14) في "الأوسط" (3 رقم 3025).
(15) في صحيحه رقم (1810). وهو حديث حسن.(6/2774)
حجر (1). وهذا الحديث أيضًا مقيد بما ترى من عدم استطاعة الرجل بأن يأخذ شيئا من القرآن، فلا يصح الاستدلال بهذا المقيد بعدم الاستطاعة على جواز ترك من يحفظ الفاتحة بقراءتها والعدول إلى هذا التسبيح. ومن استدل بهذا الحديث والذي قبله على الجواز المذكور فقد غلط غلطا بينا.
قال شارح المصابيح (2): وما أحسن ما قال: أعلم أن هذه الواقعة لا يجوز أن يكون في جميع الأزمان، لأن من يقدر على تعلم هذه الكلامات لا محالة يقدر على تعلم الفاتحة، بل تأويله لا استطيع أن أتعلم شيئا من القرآن في هذه الساعة وقد دخل على وقت الصلاة فإذا فرغ من تلك الصلاة لزمة أن يتعلم انتهى.
فهذان الحديثان هما أشف ما ورد في هذا التسبيح، وعلى فرض ورود غيرهما مطلقا عن هذا التقييد فحمله على هذين الحديثين المقيدين متحتم وما ورد من أن الفاتحة متعينة في كل ركعة وهي أدلة صحيحة. وقد ساق السائل - عافاه الله - بعضها وقد ذكرنا منها في شرحنا للمنتقى (3) مالا يحتاج إلى زيادة عليه من وقف عليه.
وأما ما سأل عن السائل - كثر الله فوائدة - في السؤال الرابع من أنه قد ثبت في حديث: "إذا أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكم نافلة " (4) وأنه قد تبين في الروايات الصحيحة أن الثانية نافلة قال: فهل المراد مجرد الكون معهم فيما بقي عليهم يقع للأتي نافلة، أم المطلوب الإتيان بتلك الصلاة بحيث ينطبق عليها: " ماأدركتم فصلوا وما
_________
(1) في "الفتح" (2).
(2) (2 - 584).
(3) (1).
(4) أخرجه أحمد (4، 161) وأبو داود رقم (575، 576) والترمذي رقم (219) والنسائي رقم (858) والدارقطني في "السنن" (1 - 414) وابن حبان في صحيحه رقم (2388) والحاكم في "المستدرك" (1 - 245) من حديث يزيد بن الأسود العامري.
وهو حديث صحيح(6/2775)
فأتكم فأقضوا؟ " وأقول: الظاهر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يرد من الوارد إلى مسجد جماعة، وهم في صلاة وقد صلى أن يصلي معهم تنفلا تلك الصلاة بحيث لا يترك منها شيئا، ويقضي ما سبقه به الإمام، بل المراد أنه يدخل [7أ] معهم على الصفة التي يجدهم عليها لئلا يعد من الغافلين المعارضين عن جماعة المسلمين، ويتم معهم سواء كان ما أدركهم ركعة أو ركعات أو بعض ركعة. هذا الظاهر من هذا الإرشاد النبوي.
ولم يرد ما يدل على أنه يصلي معهم ما أدرك ويقضي ما فات في غير هذا الحديث، لأنه لم يكن المقصود له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ها هنا الأتيان بكل تلك الصلاة هم فيها، حتى يقضي ما قد فاته كما يفعل من دخل مفترضا في جماعة قد سبقه الإمام ببعض الركعات، بل المراد ما ذكرنا من الدخول مع المصلين في تلك الصلاة، ويخرج بخروجهم للعلة التي ذكرناها.
وإلى هنا انتهي جواب المسائل. وحسبي الله وكفى، ونعم الوكيل.
حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -.(6/2776)
رفع الأساس لفوائد حديث ابن عباس
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(6/2777)
وصف المخطوط:
عنوان الرسالة: (رفع الأساس لفوائد حديث ابن عباس).
موضوع الرسالة: في فكر الصلاة.
أول الرسالة: أورد شيخي العلامة محمد بن أحمد السودي حفظه الله سؤالا على مولاي المجتهد الذي أحيا الله به شريعة سيد المرسلين، وأخرج للمتعلمين من زوايا معانيها. ..
4 - آخر الرسالة:. .. فالجواب في مثل عدد ركعات الإحدى الزيادة، وفي صفاتها تقديم الراجح من الروايات على المرجوح. وفي هذا المقدار كفاية. والله ولي التوفيق. تمت.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد
6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني
7 - عدد الصفحات 5 صفحات
8 - المسطرة: الأولى: 28 سطرا
الثانية: 27 سطرا
الثالثة 27 سطرا
الرابعة 26 سطرا
الخامسة 19 سطرا
9 - عدد الكلمات في السطر: 14 - 15 كلمة
10 - الرسالة من المجلد الثاني من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني)(6/2779)
أورد الشيخي العلامة محمد بن أحمد السودي (1) - حفظه الله - سؤال على مولاي المجتهد الذي أحيا الله به شريعة سيد المرسلين، وأخرج للمتعلمين من زوايا معانيها خبايا النفائس، واقتنص لهم من كبائس المعالي كرائمها المتصدر لتحرير مشكلاتها. محمد بن علي محمد الشوكاني - بارك الله في أيامه - كما بارك في الأولى آمين:
لفظه:
سؤال لمن نفع الله بعلومه، وجدد للعلم بوجوده ما درس من رسومه الحائز لقصب السبق في مضمار الكمال، الصائب سهل المطر عند إنكسار النضال في حديث الحبر ابن عباس عند الجماعة (2) بلفظ: "بت عند خالتي ميمونة. .. " الحديث بطوله، وهو أنه قد قبل بأنه يقتطف من ثمراته بضع وعشرون حكما، فرمت أن أنظمها في سلك تمامها، فما أورى لذهني زنادا، وصار أعند ذلك كقضية بين طرفيها كمال العناد، فليكن من مولاي - حفظه الله - إفادة السائل مع بيان وجه الدلالة، فهو في التحقيق مناط للحكم ورابطة، إما على جهة الاستقلال بيانه أو بواسطة.
_________
(1) محمد بن أحمد بن سعد السودي ثم الصنعاني المولد والمنشأ والدار. ولد سنة 1178 ه حفظ القرآن. قال السوكاني في " البدر الطالع " رقم (407): ". .. ثم لازمني منذ ابتداء طلبه إلى انتهائه فقرأ علي في النحو الملحق وشرحها لبحرق، وشرحها للفاكهي ثم قال ولصاحب الترجمة أشعار فائقة. .. صار قاضي من قضاة مدينة صنعاء. توفي سنة 1236 هـ.
" البدر الطالع" رقم (407)، " التقصار " (ص 395)، "نيل الوطر " (2).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (689) ومسلم رقم (184) وأحمد (1) وأبو داود رقم (1365) والترمذي رقم (232) والنسائي (2 رقم 842).(6/2783)
فأجاب بما سماه: (رفع الأساس لفوائد حديث ابن عباس)
لفظه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين وبعد:
فإنه وصل هذا من بعض الأعلام - كثر الله فوائده - فلنذكر أولا لفظ الحديث، ثم نذكر ما يستفاد منه.
أما لفظ الحديث: فهو عند الجماعة (1) كلهم بلفظ: عن ابن عباس قال: "بت عند خالتي ميمونة، فقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل، فقمت عن يساره، فأخذ برأسي وأقامني عن يمينه. وقد ثبت في رواية عند أحمد أن ابن عباس قال: أنه إذ ذاك في عشر سنين.
وأما ما يستفاد من هذا الحديث، ولفظ أبي داود (2) قال: "بت في بيت خالتي ميمونة، فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من الليل فأطلق القرية فتوضأ، ثم أو كى القرية، ثم قام إلى الصلاة، فقمت فتوضأت كما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره، فأخذ بيميني، فأدراني من ورائه، فأقامني عن يميني، فصليت معه.
وفي رواية لأبي داود (3) قال: فأخذ برأسي، أو بذؤابتي، فأقامني عن يميني. وفي لفظ (4) له عن ابن عباس أنه رقد عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فرآه اسيقظ فتسوق، وتوضأ وهو يقول: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) حتى ختم السورة
_________
(1) تقدم تخريجه في التعليقة المتقدمة آنفا.
(2) في "السنن" رقم (610) وهو حديث صحيح.
(3) في "السنن" رقم (610) وهو حديث صحيح
(4) في "السنن" رقم (1353). وهو حديث صحيح.(6/2784)
ثم قال فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاثة مرات، ست ركعات، كل ذلك يستاك، ثم يتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم اوتر بثلاثة ركعات، فأتاه المؤذن حين طلع الفجر ثم صلى ركعتين، ثم خرج إلى الصلاة، وهو يقول: "اللهم اجعل في قلبي نورا" الحديث، وهو عند بقية الجماعة (1) بنحو هذا.
وأما ما يستفاد من هذا الحديث من الأحكام الشريعة فسأرقم ها هنا ما يخطر على البال، ويسعفه الذهن، من دون مراجعة شيء من شروح الحديث، فإذا وافق شيء مما أذكره ها هنا شيئا مما قد ذكره المتقدمون فذلك من اتفاق الخواطر، أما الوضوح المأخذ، أو لظهور الاستفادة، أو لكون العلوم التي بها تستخرج الأحكام، وتستنبط المسائل هي موجودة عند المتأخرين كما كانت موجودة عند من قبلهم [1ب].
فأقول - وبالله الثقة والاستعانة - وعليه التوكل -، جملة ما يحضرني من فوائد هذا الحديث الشريف خمس وخمسون فائدة.
الفائدة الأولى: جواز مبيت الصبي (2) المميز عند من كانت رحما له من النساء.
الفائدة الثانية: جواز إجتماع الزوجين في مكان، مع حضور صبي مميز (3)
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6316) ومسلم رقم (181).
(2) قال القاضي عياض في " إكمال المعلم" (3): وفيه دليل تقريب القرابة والأصهار وتأنيسهم وبرهم، وإدناء من هو في هذا السن وكان حينئذ ابن عشر سنين من ذوي محارمه.
(3) قال القاضي عياض في"إكمال المعلم" (3): وفيه جواز اضطجاع الرجال مع زوجاتهم بحضرة غيرهم ممن لا يستحينهم وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث: بت عند خالتي ميمونة في ليلة كانت فيها حائضا وهذه الكلمة - وإن لم يصح طريقها - فهي صحيحة المعنى حسنة جدا، إذا لم يكن ابن عباس بطلب المبيت عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ليلة خالية ولا يرسله أبوه على ما جاء في الحديث إلا في وقت يعلم أنه لا حاجة للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها، إذ كان لا يمكنه ذلك مع مبيته معها في وساد واحد، ولا يستعرض هو لأذاه. بمنعه مما يحتاج إليه من ذلك(6/2785)
الفائدة الثالثة: قبول رواية (1) من تحمل صغيرا ورو ى كثيرا.
الفائدة الرابعة: مشروعية صلاة الليل (2)
الفائدة الخامسة: مشروعية الصلاة لمن قام في الليل من النوم.
الفائدة السادسة: مشروعية صلاة الرجل في البيت الذي ينام فيه (3)
الفائدة السابعة: جواز الصلاة في البيت الذي فيه امرأة إذا كانت زوجا له.
الفائدة الثامنة: جواز النوم قبل صلاة الوتر.
_________
(1) انظر "السعي الحثيث إلى شرح اختصار علوم الحديث" د. عبد العزيز دخان (ص282 - 283).
(2) لقوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل: 2].
* وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" من حديث أبي هريرة أخرجه مسلم رقم (202) والترمذي رقم (438) وقال حديث حسن صحيح، والنسائي رقم (1613) وأبو داود رقم (2429) وأحمد (2) والحاكم (1) وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وهو حديث صحيح.
وعن أبي هريرة قال: "سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: الصلاة في جوف الليل ".
أخرجه مسلم رقم (203) وأحمد (2 و329) وابن خزيمة (2 رقم1134) والبيهقي (3).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "أن نبي الله كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا، فلما كثر لحمه صلى جالسا، فإذا أرداد أن يركع قام فقرأ ثم ركع ".
أخرجه البخاري رقم (4837) ومسلم رقم (2820)
(3) قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبه ".
أخرجه البخاري رقم (731) ومسلم رقم (213) من حديث زيد بن ثابت.
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (2) عن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده. فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإن الله جعل في بيته من صلاته خيرا ".(6/2786)
الفائدة التاسعة: مشروعية إعداد ماء الوضوء في المكان الذي يبيت فيه الرجل.
الفائدة العاشرة: جواز الوضوء بالماء القليل الذي كان ساكنا قبل تحريكه للوضوء منه.
الفائدة الحادية عشرة: مشروعية عدم الاستعانه في الوضوء بأحد (1).
الفائدة الثانية عشرة: مشروعية. ......................................
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (181) من حديث أسامة بن زيد: " أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أفاض من عرفة عدل إلى الشعب فقضى حاجته، قال أسامة بن زيد: فجعلت أصب عليه ويتوضأ، فقلت: يارسول الله أتصلي؟ فقال: المصلي أمامك ".
وأخرج البحاري في صحيحه رقم (182) وأطرافه رقم (203، 206، 363، 388، 4421، 5789، 5799). من حديث نافع بن جبير بن مطعم أخبره أنه سمع عروة بن المغيرة بن شعبة يحدث عن المغيرة بن شعبة أنه كان مع رسول الله في سفره وأنه ذهب لحاجة له وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ، فغسل وجهه ويديه ومسح على الخفين.
وقال ابن بطال: هذا من القربات التي يجوز للرجل أن يعملها عن غيره بخلاف الصلاة. قال: واستدل البخاري من صب الماء عليه عند الوضوء أنه يجوز للرجل أن يوضئه غيره.
انظر "فتح الباري" (1). قال النووي في "شرحه لصحيح مسلم" (3 - 169):
الاستعانة ثلاثة أقسام: أحدها: أن يستعين بغيره في إحضار الماء فلا كراهة فيه ولا نقص. الثاني: ان يستعين به في غسل الأعضاء ويباشر الاجنبي بنفسه غسل الأعضاء فهذا مكروه إلا لحاجة. الثالث: أن يصب عليه وهذا الأولى تركه وهل يسمى مكروها: فيه وجهان قال أصحابنا وغيرهم وإذا صب عليه وقف الصاب على يسار المتوضئ وقال الحافظ بن حجر في "فتح الباري" (1): بعد ذكر كلام النووي وتعقب بأنه إذا ثبت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله لا يكون خلاف الأولى، وأجيب بأنه قد يفعلهلبيان الجواز فلا يكون في حقه خلاف الأولى بخلاف غيره وقال الكرماني: إذا كان الأولى تركه كيف ينازع في كراهته؟ وأجيب بأن كل مكروه فعله خلاف الأولي من غير عكس، إذ المكروه يطلق على الحرام بخلاف الأخر.(6/2787)
الاستياك لمن قام من النوم (1).
الفائدة الثالثة عشرة: مشروعية تكرير السواك والوضوء والصلاة عند كل قيام، إذا تكرر ذلك (2)
الفائدة الرابعة عشرة: مشروعية عدم ......................................................
_________
(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء". أخرجه مالك في "الموطأ" (1 رقم 115) وأحمد (2، 517) والنسائي كما في "تحفة الأشراف" للمزي (9) وابن خزيمة رقم (140) وذكره البخاري تعليقا في صحيحه (4) باب رقم (27). وهو حديث صحيح.
وعن أبي هريرة قال: قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لولا أن أشق على المؤمنين لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ". أخرجه البخاري رقم (878) ومسلم رقم (42) وأبو داود رقم (46) والترمذي رقم (22) والنسائي (1 رقم 7) وابن ماجه رقم (287) والدارمي (1).
وأما حكمه فهو سنة عند جماهير العلماء.
ويشتد استحبابه في خمسة أوقات:
1 - عند الصلاة، سواء كان متطهرا بماء أو تراب أو غير متطهر كمن لم يجد ماء ولا تراب.
2 - عند الوضوء.
3 - عند قراءة القرآن.
4 - عند الاستيقاظ من النوم.
5 - عند تغير الفم.
قال ابن دقيق العيد في "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" (1، 380): السر فيه. أي في السواك عند الصلاة أنا مأمورون في كل حال من الأحوال التقرب إلى الله أن نكون في حالة كمال ونظاقة، إظهارا لشرف العبادة.
(2) انظر التعليقة السابقة.
وانظر: "المحلي" (2).
وقال حذيفة رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام ليتهجد يشوص فاه بالسواك".
أخرجه البخاري رقم (889) ومسلم رقم (46).(6/2788)
الإسراف بالماء في الوضوء (1)، فإنه توضأ ثلاثة مرات من القربة تؤكد ما في كل مرة، وتوضأ معه ابن عباس كوضوئه.
الفائدة الخامسة عشرة: مشروعية تلاوت هذا الآيه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (2) وما بعدها إلى آخر السورة حال الوضوء الواقع عند القيام من ....................................
_________
(1) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (6): قوله: "ثم توضأ وضوءا حسنا بين الوضوءين " يعني لم يسرف ولم يقتر وكان بين ذلك قواما.
(2) [آل عمران: 190 - 200].
قال ابن كثير في تفسيره (2): معنى الآية أنه يقول تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: هذه في ارتفاعها واتساعها وهذه انخفاضها وكثافتها واتضاعها وما فيها من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وثوابت وبحار، وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ويقصر الذي كان طويلا، وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم ولهذا قال: (لِأُولِي الْأَلْبَابِ) أي العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون الذين قال الله تعالى فيهم (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف: 105 - 106].
ثم قال ابن كثير بعد ذلك: " ... وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته فقال: قال ابن كثير في تفسيره (2): معنى الآية أنه يقول تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: هذه في ارتفاعها واتساعها وهذه انخفاضها وكثافتها واتضاعها وما فيها من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وثوابت وبحار، وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ويقصر الذي كان طويلا، وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم ولهذا قال: (لِأُولِي الْأَلْبَابِ) أي العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون الذين قال الله تعالى فيهم (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف: 105 - 106]. ثم قال ابن كثير بعد ذلك:
"وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته فقال ثم قال ابن كثير بعد ذلك: " ... وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته فقال: قال ابن كثير في تفسيره (2): معنى الآية أنه يقول تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: هذه في ارتفاعها واتساعها وهذه انخفاضها وكثافتها واتضاعها وما فيها من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وثوابت وبحار، وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ويقصر الذي كان طويلا، وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم ولهذا قال: (لِأُولِي الْأَلْبَابِ) أي العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون الذين قال الله تعالى فيهم (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف: 105 - 106]. ثم قال ابن كثير بعد ذلك:
" وقد ذم الله تعالى ما لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته فقال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) ومدح عباده المؤمنين: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) قائلين: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا) أي ما خلقت هذا الخلق عبثا بل بالحق لتجزي الذين أساؤوا بما عملوا وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل فقالوا: (سُبْحَانَكَ) أي عن أن تخلق شيئا باطلا فقنا عذاب النار: يا من خلق الخلق بالحق والعدل يا من هو منزه عن النقائض والعيب والعبث قنا من عذاب النار بحولك وقوتك وقيضنا لأعمال ترضي بها عنا، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم وتجيرنا به من عذابك الأليم ".
وانظر: "المجموع" (3).(6/2789)
النوم (1)
الفائدة السادسة عشرة: مشروعية الإيتار بثلاث ركعات كما وقع في الرواية المذكورة (2).
الفائدة السابعة عشرة: مشروعية الإيتار بركعة، كما وقع في رواية لأبي داود (3)، ذكرها في باب صلاة الليل من حديث ابن عباس هذا بلفظ: "ثم قام فصلى سجدة واحدة فأوتر بها ".
الفائدة الثامنة عشرة: مشروعية الإيتار بسبع ركعات كما وقع في رواية لأبي داود (4) من حديث ابن عباس هذا، وذكرها في باب صلاة الليل. الفائدة التاسعة عشرة: مشروعية الإيتار بخمس ركعات، كما وقع أيضًا في رواية لأبي داود (5) من هذا الحديث، ذكرها في ذلك الباب أيضا
_________
(1) قال الحافظ في "الفتح" (1): في: على رد من كره قراءة القرآن على غير طهارة، لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ وتعقبه ابن المنير وغيره بأن ذلك مفرع على أن النوم في حقه ينقض، وليس كذلك، لأنه قال: "تنام عيني ولا ينام قلبي" وأما كونه توضأ عقب ذلك فلعله جدد الوضوء أو أحدث بعد ذلك فتوضأ. قلت: وهو تعقب جيد بالنسبة إلى قول ابن بطال: بعد قيامه من النوم، لأنه لم يتعين كونه أحدث في النوم، لكن لما عقب ذلك بالوضوء كان ظاهرا كونه أحدث. ولا يلزم من كونه نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث وهو نائم، نعم خصوصياته أنه إن وقع شعر به بخلاف غيره وما ادعوه من التجديد وغيره الأصل عدمه.
(2) تقدم آنفا
(3) في "السنن" رقم (1355) وهو حديث ضعيف.
(4) في "السنن" رقم (1356) وهو حديث صحيح.
(5) في "السنن" رقم (1357) وهو حديث صحيح(6/2790)
الفائدة الموفية عشرين: أن جميع ما صلاه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تلك الليلة إحدى عشرة ركعة بالوتر، كما وقع في رواية لأبي داود (1) من حديث، ذكرها في ذلك الباب أيضا.
الفائدة الحادية والعشرون: أن جميع ما صلاه في تلك الليلة ثلاث عشرة ركعة بالوتر، كما وقع أيضًا في رواية لأبي داود (2) من حديثه في ذلك الباب أيضا.
الفائدة الثانية والعشرون: أنه كان آخر صلاته في هذه الليلة وترا، كما وقع في أكثر روايات (3) هذا الحديث.
الفائدة الثالثة والعشرون: أنه صلى بعد الوتر ركعتين، ثم خرج فصلى الغداة. (4)
الفائدة الرابعة والعشرون: أن جملة ما صلاه في تلك الليلة تسع ركعات، ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ثلاثا.
الفائدة الخامسة والعشرون: أنه صلى عشر ركعات، ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر [2أ] بواحدة. (5)
الفائدة السادسة والعشرون: أنه صلى في هذه الليلة ركعتين، ثم ركعتين، ثم
_________
(1) في "السنن" رقم (1364) وهو حديث صحيح.
قلت: وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (185).
(2) في "السنن" رقم (1365) وهو حديث صحيح.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (130) من حديث عائشة قالت: كان رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل حتى يكون آخر صلاته وترا.
وأخرجه أبو داود رقم (1363) عن الأسود بن يزيد أنه دخل على عائشة فسألها عن صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالليل فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة من الليل، ثم أنه صلى إحدى عشرة ركعة وترك ركعتين، ثم قبض - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قبض وهو يصلي من الليل تسع ركعات وكان آخر صلاته من الليل الوتر.
(4) أخرجه البخاري رقم (1830) ومسلم رقم (182).
وأبو داود رقم (1364) وهو حديث صحيح.
(5) أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (1355) وهو حديث ضعيف.(6/2791)
ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر بخمس (1).
الفائدة السابعة والعشرون: أنه صلى في هذه الليلة ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، قال القعنبي: ست مرات، ثم أوتر (2). وهذه الروايات كلها مذكوره من حديث ابن عباس المذكور في مبيته عند خالته ميمونة تلك الليلة، روى ذلك أبو داود في باب صلاة الليل من سننه، وأكثر هذه الألفاظ موجوده في غير السنن من أمهات الست وغيرها.
الفائدة الثامنة والعشرون: في رواية من هذا الحديث عند أبي داود (3)، ذكرها في ذلك الباب أنه صلى إحدى عشرة ركعة بالوتر، ثم نام، فأتاه بلال فقال: الصلاة الصلاة يارسول الله، فقام، فركع ركعتين، ثم صلى بالناس، فأفادت هذا الرواية (4) أن
_________
(1) أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (1358) وهو حديث صحيح.
(2) أخرجه أبو داود في "السنن" (1367) وهو حديث صحيح.
(3) في "السنن" رقم (1364) وهو حديث صحيح.
قلت: واخرجه البخاري رقم (6316) ومسلم رقم (181).
(4) أي رواية أبي داود في "السنن" رقم (1357) وفيه: "بت في بيت خالتي ميمونة بنت الحارس فصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء، ثم جاء فصلى أربعا، ثم نام ثم قام يصلي فقمت عن يساره فأدراني فأقامني عن يمينه فصلى خمسا ثم نام حتى سمعت غطيطه، أوخطيطه، ثم قام فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى الغداة. وهو حديث صحيح.
وقد وضحتها الرواية التي أخرجه أبو داود رقم (1364) وقد تقدمت.
وقال المحدث الألباني في "صفة صلاة النبي" (ص122): ثبتت هاتان الركعتان في صحيح مسلم وغيره، وهما تنافيان قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا" رواه الخاري ومسلم، وقد اختلف العلماء في التوفيق في الحدثين على وجوه لم يترجح عندي شيئا منها، والأحوط تركهما اتباعا للأمر.
ثم وقفت على حديث صحيح يأمر بالركعتين بعد الوتر، فالتقى الأمر بالفعل وثبت مشروعية الركعتين للناس جميعا، والأمر الأولى يحمل على الاستحباب فلا منافاه. وانظر"الصحيحه" رقم (1993).(6/2792)
الركعتين المذكورتين في الرواية الآخرى هما ركعتا الفجر.
الفائدة التاسعة والعشرون: أنه ثبت في رواية من هذا الحديث عند أبي داود (1) أنه قال: بت عند خالتي ميمونة، فجاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعد ما أمسى فقال: أصلى الغلام؟ قالوا: نعم. فيه مشروعية الاستفهام عن صلاة من لم يبلغ الحلم.
الفائدة الموفية ثلاثين: أنه يشرع للمؤذن أن يأتي الإمام فيؤذنه بالصلاة.
الفائدة الحادية والثلاثون: مشروعية تطويل صلاة الليل، لقول ابن عباس في رواية (2): فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود. الفائدة الثانية والثلاثون: مشروعية صلاة ركعتين (3) الفجر في البيت قبل الخروج إلى الصلاة.
الفائدة الثلاثة والثلاثون: مشروعية الاستنثارفي الوضوء لمن قام من النوم (4)، كما وقع في رواية لأبي داود من هذا الحديث، ذكرها في ذلك الباب.
الفائدة الرابعة والثلاثون: أنه يشرع تأخير صلاة ركعتي الفحر حين يفرغ المؤذن من الآذان، كما وقع في رواية لأبي. ........................
_________
(1) في "السنن" رقم (1356) وهو حديث صحيح.
(2) أخرجه أبو داود رقم (1353).
(3) انظر الرويات السابقة.
(4) الاستنثار: وهو استفعال من النثر بالنون والمثلثة وهو طرح الماء الذي يستنشقه المتوضئ أي يجذبه بريح أنفه لتنظيف ما في داخله فيخرج ريح أنفه سواء أكان بإعانة يده أم لا.
انظر: "فتح الباري" (1).
أخرج البخاري رقم (161) وطرفه (162) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: "من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر ".(6/2793)
داود (1) من هذا الحديث، ذكرها في ذلك الباب بلفظ: فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدما سكت المؤذن، فصلى: سجدتيين خففتين. الفائدة الخامسة والثلاثون: أنه لا يشرع بعد آذان الفجر إلا صلاة ركعتين الفجر فقط، فلا يفعل بين الآذان والصلاة زيادة عليهما، لما ثبت في رواية لأبي داود (2) من هذا الحديث، ذكرها في ذلك الباب بلفظ: ثم يجلس يعني بعدما صلى ركعتين، حتى صلى الصبح.
الفائدة السادسة والثلاثون: أنه يشرع دعاء عند الخروج إلى الصلاة. بما دعا به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: " اللهم أجعل في قلبي نورا إلى آخر الحديث "، كما وقع في بعض رويات (3) حديث ابن عباس هذا.
الفائدة السابعة والثلاثون: أنه يجوز أن ينام الرجل وامرأته، وصبي مميز (4) على فراش واحد، فإن ابن عباس في هذا الحديث كما في رواية لأبي داود (5)، ذكرها في ذلك الباب قال: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضجع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأهله في طولها.
الفائدة الثامنة والثلاثون: أن صلاة الجماعة تنعقد باثنين (6).
الفائدة التاسعة والثلاثون: أنها تصح الجماعة إذا إنضم إلى الإمام صبي فقط (7) [2ب].
الفائدة الموفية أربعين: أنها تصح الجماعة في النوافل (8).
_________
(1) في "السنن" رقم (1355) وهو حديث.
(2) في "السنن" رقم (1355) وهو حديث ضعيف.
(3) أخرجه البخاري رقم (6316) ومسلم رقم (181).
(4) هذا الصبي في هذه الرواية هو من محارم ميمونة، بل هو ابن أختها.
(5) في "السنن" رقم (1367) وهو حديث صحيح.
(6) انظر الروايات السابقة. وقال ابن قدامة في "المغني" (3): وتنعقد الجماعة باثنين فصاعدا لا نعلم فيه خلافا.
(7) انظر الروايات السابقة. وقال ابن قدامة في "المغني" (3): وتنعقد الجماعة باثنين فصاعدا لا نعلم فيه خلافا.
(8) ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (731، 6113 و7290) ومسلم رقم (213/ 214 / 781).
من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: احتجر رسول الله حجرة مخصفة، فصلى فيها فتتبع إليه رجال، وجاءوا يصلون بصلاته. ... وفيه: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".(6/2794)
الفائدة الحادية والأربعون: أنها تصح دخول المؤتم في الجماعة، بعد إحرام الإمام. الفائدة الثانية والأربعون: أن نية الإمامه من الإمام تصح بعد الشروع في الصلاة منفردا (1).
الفائدة الثالثة والأربعون: أن المؤتم إذا وقف في غير موضع وقوف المؤتم الواحد جاهلا فلا تبطل صلاته بذلك (2).
الفائدة الرابعة والأربعون: أنه يشرع للإمام إذا وقف بعض المؤتمين في غير موضع الوقوف أن يرشده إلى موضع الوقوف. (3).
الفائدة الخامسة والأربعون: أن الإرشاد إلى موضع الوقوف إذا لم يتمكن منه المصلي ألا يفعل أو أفعال كان عليه ذلك.
الفائدة السادسة والأربعون: أن الفعل الطويل المتكرر لا يبطل به صلاة المصلي إذا كان للإرشاد؛ فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وضع يده على رأس ابن عباس، ثم أخذ بإذنه فأداره من يساره إلى جهة اليمنى (4). الفائدة السابعة والأربعون: أن في بعض الروايات أنه وضع يده على رأسه (5)، وفي
_________
(1) انظر "المغني" لابن قدامة (3): قال: ولو أحرم منفردا ثم جاء آخر فصلى معه، فنوى إمامته، صح في النفل، نص عليه أحمد واحتج بحديث ابن عباس.
(2) قال ابن قدامة في "المغني" (3): إذا كان المؤموم واحدا فكبر عن يسار الإمام، أداره الإمام عن يمينه ولم تبطل تحريمته.
(3) قال ابن قدامة في "المغني" (3): إذا كان المؤموم واحدا فكبر عن يسار الإمام، أداره الإمام عن يمينه ولم تبطل تحريمته.
(4) انظر "المغني" لبن قدامة (3، 55).
(5) أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (1367). وهو حديث صحيح.(6/2795)
بعضها أنه أخذ برأسه، وفي بعضها أخذ بذؤابته (1)، وفي بعضها أنه أخذ بأذنه (2)
_________
(1) تقدم في بداية الرسالة.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (992) عن ابن عباس أنه بات عند ميمونة - وهي خالته - فاضطجعت في عرض وسادة، واضطجع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأهله في طولها، فنام حتى انتصف الليل أو قريبا منه، فاستيقظ يمسح النوم عن وجهه ثم قرأ عشر آيات من آل عمران ثم قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى شن معلقة فتوضأ فأحسن الوضوء، ثم قام يصلي، فصنعت مثله، فقمت إلى جنبه، فوضع يده اليمنة على رأسه وأخذ بأذني يفتلها، ثم صلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ركعتين ثم أوتر، ثم أضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح.
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2): وفيه:
مبيت الصغير عند محرمه وإن كان زوجها عندها.
وجواز الاضطجاع مع المرأة الحائض، وترك الاحتشام في ذلك بحضرة الصغير وإن كان مميزا أو مراهقا. وفيه صحة صلاة الصبي.
وفيه جواز فتل أذنه لتأنيسه وإيقاظه وقد قيل إن المتعلم إذا تعوهد بفتل أذنه كان أذكى لفهمه.
وفيه فضل صلاة الليل ولا سيما في النصف الثاني.
وفيه البداءة بالسواك واستحبابه عند كل وضوء وعند كل صلاة.
وفيه جواز الاغتراف من الماء القليل لأن الإناء المذكور كان قصعة أو صفحة.
وفيه استحباب القليل من الماء في التطهير مع حصول الإسباغ.
وفيه بيان فضل ابن عباس وقوة فهمه وحرصه على تعلم أمر الدين وحسن تأتيه في ذلك.
وفيه اتخاذ مؤذون راتب للمسجد.
وفيه إعلام المؤذن الإمام بحضور وقت الصلاة، واستدعاؤها لها.
وفيه مشروعية الجماعة في النافلة.
وفيه الائتمام بمن لم ينو الإمامه.
وفيه بيان موقف الإمام والمأموم.
وفيه: قال ابن بطال: واستنبط البخاري منه أنه لما جاز للمصلي أن يستعين بيده في صلاته فيما يختص بغيره كانت استعانته في أمر نفسه ليتقوى بذلك على صلاته وينشط لها إذا احتج إليه أولى وانظر فتح الباري" (3 - 72) الباب رقم (21) استعانة اليد في الصلاة إذا كان من أمر الصلاة.(6/2796)
وفي بعضها أنه أخذ بيمينه (1)، فأفاد ذلك أنه لا يتعين أن يكون الأخذ بعضو مخصوص، بل يأخذ بأي عضو كان من الذي وقف في غير موقفه.
الفائدة الثامنة والأربعون: أنه يديره من خلفه، ولا يديره من بين يده، لأن ابن عباس قال: فأدارني من ورائه (2).
الفائدة التاسعة والأربعون: أن هذا الحكم أعني: إرشاد من وقف في غير موقفه إلى موقفه كما ثبت في الصبي الذي رفع عنه قلم التكليف، فهو أيضًا يثبت في المكلف بفحوى الخطاب، لأنه مكلف با لأحكام، فكان في إرشاد الصبي دليل على مشروعية إرشاد المكلف بالطريق الأولى (3).
الفائدة الموفية خمسين: أن إرشاد من وقف في غير موقفه، كما ثبت في النوافل يثبت في الفرائض، بفحوى الخطاب (4)، فكان في إرشاد المصلي إلى موقفه بالطريق الأولى.
الفائدة الحادية والخمسون: أن هذا الإرشاد كما ثبت في الوقوف على اليسار ثبت أيضًا في الوقوف في غير الموقف المشروع، كأن يقف قدام الإمام، أو خلفه، بحيث يتمكن الإمام من إرشاده، فهذا يستفاد من الحديث بفحوى خطابه، لأن المواضع التي لا يشرع الوقوف فيها متناوبة الأقدام، فما ثبت من الأحكام لبعضها ثبت للبعض الآخر.
الفائدة الثانية والخمسون: أن صلاة النافلة تصح من الصبي لأن تقريره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل تعليمه له يفيد ذلك.
الفائدة الثالثة والخمسون: أن هذا الحديث قد أفاد أن صلاة الفريضة تصح من غير
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (185).
(2) انظر الروايات السابقة.
(3) انظر "المغني" (3 - 56).
(4) تقدم توضيح معناه.(6/2797)
المكلف بفحوى الخطاب، فكان تقريره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لصلاة الصبي نافلة دليل على صحة صلاته فريضة بالطريق الأولى.
الفائدة الرابعة والخمسون: أن موقف المؤتم الواحد عن يمين الإمام (1).
الفائدة الخامسة والخمسون: أن هذا الحديث يرد على من صلى عن يسار الإمام صحة صلاته، مستدلا [3أ] بأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر ابن عباس بإعادة التكبيرة، لأنا نقول إدارته من ذلك الموضع قد أفادة أنه ليس بموضع له، وعلى فرض أنه قد كان (2) كبر ولم يعد التكبير بعد الإدارة، ولا أنكر ذلك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعد الفراغ من الصلاة، فغاية ما في هذا أن الجهل عذر للجاهل، فلا يكون عذرا لغيره.
فهذه خمس وخمسون فائدة مشتملة على خمسة وخمسين حكما، والزيادة عليها ممكنه وذلك بأن يجمع ألفاظ روايات هذا الحديث كلها من الأمهات وغيرها، فأنها عند ذلك تكثر الفوائد، وتتعدد الأحكام. ولعلى ما قاله المنذري في مختصر السنن (3) في باب (4) الرجلين يؤم أحدهما الآخر أنه قد أخذ من حديث ابن عباس هذا ما يقارب عشرين حكما، مبنيا على ما يستفاد من بعض طرقه، أوم من طريقة واحدة من طرقه.
_________
(1) ذكره الخطابي في "معالم السنن" (1) فقد قال: فيه أنواع من الفقه - يقصد حديث ابن عباس - منها:
أن الصلاة في الجماعة في النوافل جائزة.
أن الاثنين جماعة.
أن المأموم يقوم على يمين الإمام إذا كانا اثنين
جواز العمل اليسير في الصلاة.
جواز الاثنين بصلاة من لم ينو الإمامة فيها.
(2) انظر "المغني" (3) وقد تقد التعليق على ذلك.
(3) (1 - 316).
(4) الباب رقم (1).(6/2798)
فأن قلت: قد عرفنا ما ذكرته من هذه الفوائد، فكيف الجمع بين الروايات المختلفة كما وقع في صفة الإدارة، وفي اختلاف عدد الركعات، واختلاف صفاتها؟ قلت: أما ما وقع في صفة الإدارة فيمكن، الجمع بأن ذلك وقع كله في تلك الليلة، لأنه يمكن أن يضع يده على رأسه، ثم يأخذ بذؤابته، ثم بأذنه، ثم بيده. وأما اختلاف عدد الركعات وصفاتها فإذا أمكن الجمع بتعدد الواقعة فهو أولى من الترجيح، وغير ممتنع أن يبيت ابن عباس عند خالته ليالي متعددة، ويصلي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بتلك اليالي صلوات مختلفة.
وأما إذا تعذر الجمع بتعدد (1) الواقعة، وذلك بأن يثبت من طريق صحيحة أنه لم يبيت عندها إلا تلك الليلة فقط، فالواجب في مثل عدد الركعات الإحدى الزيادة، وفي صفاتها تقديم الراجح من الروايات من المرجوح. وفي هذا المقدار كفاية.
والله ولي التوفيق. تمت.
_________
(1) قال الحافظ في "الفتح" (2): والحاصل أن قصة مبيت ابن عباس يغلب على الظن عدم تعددها فلهذا ينبغي الاعتناء بالجمع بين مختلف الروايات فيها، ولا شك أن الأخذ بمكا اتفق عليه الأكثر والأحفظ أولى مما خلافهم فيه من هو دونهم ولا سيما أن زاد أو نقص، والمحقق من عدد صلاته في تلك الليلة إحدى عشرة، وأما رواية ثلاثة عشرة فيحتمل منها ستة العشاء.
وجمع الكراماني بين ما اختلف من روايات قصة ابن عباس هذه باحتمال أن يكون بعض رواته ذكر القدر الذي اقتد ابن عباس به فيه وفصله عما لم يقتد به فيه، وبعضهم ذكر الجميع مجملا.(6/2799)
تحرير الدلائل على مقدار ما يجوز بين الإمام والمؤتم من الارتفاع والانخفاض والبعد والحائل
تأليف محمد بن علي الشوكاني.
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(6/2801)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (تحرير الدلائل على مقدار ما يجوز بين الإمام والمؤتم من الارتفاع والانخفاض والحائل).
2 - موضوع الرسالة: من فقه الصلاة.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم وبه الإعانة. والحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، وبعد؛ فإنه سألني مولاي العلامة إبراهيم بن محمد بن إسحاق لا برح في حماية الملك. ..
4 - آخر الرسالة: حرره المجيب الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله له في النصف الأولى من ليلة الاثنين المسفرة إنشاء الله عن اليوم الخامس والعشرين من شهر صفر سنة أربع عشرة ومائتين وألف سنة (1214ه) 5 - عدد صفحات الرسالة: 15 صفحة + صفحة العنوان.
6 - عدد الأسطر في الصفحة: 18 - 19 صفحة.
7 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.
8 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(6/2803)
بسم الله الرحمن الرحيم وبه الإعانة
الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله. وبعد:
فإنه سألني مولاي العلامة: إبراهيم بن محمد بن إسحاق (1) - لا برح في حماية الملك الخلاق - عن الدليل على ما وقع في كلام أهل المذهب الشريف في الأزهار (2) حيث قال مؤلفه: الإمام - عليه السلام - ما لفظه: "ولا يضر قدر ارتفاعا ونخفاضا وبعدا وحائلا ولا فوقها في المسجد، وفي ارتفاع المؤتم الإمام فيها". هذا معنى السؤال.
_________
(1) إبراهيم بن محمد بن إسحاق بن المهدي أحمد بن الحسن بن الإمام القاسم بن محمد. ولد سنة 1140 ه. قال الشوكاني في ترجمته رقم (14): وكثيرا ما تفد علي منه سؤالات أجيب عنها في رسائل كما يحكي ذلك مجموع رسائلي.
مات رحمه الله 1241 ه.
انظر: "البدر الطالع" رقم (14) و"نيل الوطر" (1).
(2) مع "السيل الجرار" (1).(6/2807)
والجواب - بمعونة الملك الوهاب - ينحصر في ثلاثة أبحاث:
البحث الأول: في تحرير عبارة مختصر "الأزهار"، وبيان المراد منها، وإيراد كلام من تكلم عليها.
والبحث الثاني: في حكاية المذاهب في حكاية المسألة.
والبحث الثالث: في تحرير الأدلة على ما اشتملت عليه من الأطراف، وبيان ما فيها.
أما البحث الأول (1):
فاعلم أن كلام "الأزهار" قد اشتمل على مسائل.
المسألة الأولى:
أنه لا يضر ارتفاع المؤتم عن إمامه فوق مقدار القامة في المسجد.
المسألة الثانية:
أنه لا يضر ارتفاعه أيضًا قدر القامة في غير المسجد.
المسألة الثالثة:
أنه لا يضر انخفاض المؤتم عن إمامه فوق القامة في المسجد.
المسألة الرابعة:
أنه لا يضر انخفاض المؤتم عن إمامه مقدار القامة [1أ] في غير المسجد. المسألة الخامسة: أنه لا يضر بعد المؤتم عن إمامه فوق القامة في غير المسجد.
المسألة السادسة:
أنه لا يضر قدر القامة بعدا منه عن إمامه في غير المسجد.
المسألة السلبعة:
أنه لا يضر ارتفاع المؤتم عن إمامه فوق القامة في غير المسجد أيضا.
_________
(1) انظره في "السيل الجرار" (1) و"ضوء النهار " (2»).(6/2808)
المسألة الثامنة:
أنه لايضر انخفاض الإإمام عن المؤتم فوق القامة في المسجد.
المسألة التاسعة:
أنه لايضر انخفاض الإمام عن المؤتم قدر القامة في غير المسجد.
المسألة العاشرة:
أنه لايضر بعد الإمام عن المؤتم فوق القامة في المسجد.
المسألة الحادية عشرة:
أنه لايضر بعد الإمام ةعن المؤتم قدر القامة في غير المسجد.
المسألة الثانية عشرة:
أنه لا يضر كون بين الإمام والمأموم حائلا فوق القامة في المسجد، بشرط أن لا يكون ذلك في الاصطفاف.
المسألة الثالثة عشرة:
أنه لا يضر كون بينه وبين المؤتم حائلا قدر القامة بذلك الشرط.
المسألة الرابعة عشرة، والمسألة الخامسة عشرة:
أنه لا يضر الحائل بالشرط المذكور في حق المؤتم عن إمامه فوق القامة في المسجد، وقدرها فيه.
المسألة السادسة عشرة:
أنه يعفى عن ارتفاع الإمام عن المؤتم قدر القامة في المسجد.
المسألة السابعة عشرة:
أنه لا يعفى عن ارتفاعه عن المؤتم زيادة على قدر القامة في المسجد.
المسألة الثامنة عشرة:
أنه يعفى عن ارتفاع الإمام عن المؤتم قدر القامة في غير المسجد.(6/2809)
المسألة التاسعة عشرة:
أنه لا يعفى عن ارتفاع الإمام [1ب] فوق القامة عن المؤتم في غير المسجد، فذلك اللفظ في الأزهار (1)، فلا بد من إيضاح ما فيه من المسائل حتى يتضح بعد ذلك الاستدلال عليها، مع أن ما في "الأزهار" يدل على ست عشرة مسألة أخرى، بفحوى خطابه، وأنه لا يضر دون القامة ارتفاعا، ولا انخفاضا، ولا بعدا، ولا حائلا، لا من الإمام، ولا من المؤتم من غير فرق بين المسجد وغيره.
ووجه كونها ست عشرة أن الارتفاع والانخفاض والبعد والحائل يعفى عن دون القامة فيها من المؤتم، فهذه أربع مسائل، ويعفى عن دون القامة فيها من الإمام، وهذه أربع أخرى، وهذه الحالات يتحصل من العفو عنها في المسجد ثماني مسائل، فكانت جملة ما تحصل بفحوى الخطاب ست عشرة مسألة منضمة إلى المسائل المتقدمة، وهي تسع عشرة، تكون جميع المسائل التي تستفاد من لفظ "الأزهار" المسئول عنه خمسا وثلاثين مسألة. إذا تقرر هذا فاعلم أنه قد استشكل جماعة من المتأخرين بعض ما في هذه العبارة المسئول عنها.
فقال الجلال في ضوء. ...........................................
_________
(1) "الأزهار في فقه الائمة الأطهار" تأليف: الإمام المهدي أحمد بن يحى المرتضى الحسنى.
وهو مختصر من كتاب تنصيص التذكرة الفاخرة في فقه العترة الطاهرة " للفقيه الحسن بن محمد المذحجي، ونقل ابن مفتاح أن مسائل الأزهار منطوقها ومفوهمها تسعة وعشرون ألف مسألة وقد تهافت عليه علماء الزيدية بالدراسة والشرح والحاشية والتعليق.
"مؤلفاته الزيدية " (1 رقم 276).
وللمحقق كتاب بعنوان "أدلة الأبرار لمتن الأزهار في فقه الائمة الأطهار " أعاننا الله على نشره.(6/2810)
النهار (1) بعد أن بين وجه الضمير في قوله: وفي ارتفاع المؤتم لا الإمام فيهما بأن ضمير التثنية يرجع إلى المسجد وغيره، ما لفظه: وفي العبارة قلق [2أ] وانغلاق، لأن جزء مرجع ضمير التثنية في فيهما هو ارتفاع المؤتم، فيصير المعنى لارتفاع الإمام في ارتفاع الإمام. انتهى.
وأقول: يمكن أن يقال إن المرجع هو المسجد المذكور صريحا، وغير المسجد المذكور ضمنا، فإن الكلام في قوة: ولا يضر قدر القامة ارتفاعا وانخفاضا وبعدا وحائلا في المسجد وغيره، ولا فوق القامة في المسجد إلا ارتفاع الإمام، فإنه لا يعفى في المسجد وغيره. وهذا هو مراد صاحب "الأزهار" (2). ولهذا فسر مرجع الضمير في البحث بذلك، وليس جزء المرجع الضمير ما فهمه الجلال (3) من ارتفاع المؤتم، فإن ما يلزم في ذلك من الفساد كاف في صرف إرادة صاحب الأزهار عنه.
ومن جملة ما وقع الاعتراض عليه في عبارة الأزهار قوله: وحائلا حتى قال بعض المتأخرين: أنه راجع إلى البعد المذكور قبله.
وأقول: لا ريب أن أحد اللفظين مغن عن الآخر، ولا سيما بعد تقييد الحائل بغير الحائل في الاصطفاف كما تقدمت الأشارة إليه، وكما صرح به في شروح الأزهار.
وقد قيد الحائل في شرح ابن مفتاح بأن يكون في التأخر دون الاصطفاف، ولا وجه لتقييده بذلك؛ فإن الحيلولة كما تكون في التأخر تكون في غيرها، وكذلك البعد كما يكون في التأخر يكون في غيره من الجهات الأربع، وإن كانت صورة تقدم المؤتم على الإمام، وصورة الحيلولة بينهما في الا صطفاف مبطلة كما في أول الفصل الذي في الأزهار
_________
(1) (2 «).
(2) تقدم في تعليقة سابقة.
(3) في "ضوء النهار" (2»).(6/2811)
من ذلك البحث. وقد حاول جماعة ضبط ما في عبارة الأزهار، واختصارها فقال في هامش الهادية: وضابطه أن قدر القامة أي الأربعة لا يفسد لا في المسجد ولا في غيره، وما فوقه إن كان في غير المسجد أفسد لها في ارتفاع [2ب] المؤتم. انتهي.
ولا يخفى عليك أن هذا الضابط هو مثل حروف الأزهار مرتين أو أكثر مع أنه لم يذكر فيه الأربعة التي هي الارتفاع، والانخفاض، والبعد، والحائل كما في الأزهار، إنما قال من أي الأربعة، وهي محتاجة إلي التفسير. ولو صرح بها ما تم الضابط إلى في مثل ما في الأزهار من الحروف بزيادة على ما تقدم. وقال الجلال في ضوء النهار مصوبا لعبارة الأزهار بما هو أخص وأسلم عنده ما لفظه: ولو قال يفسد ببعد في غير المسجد فوق القامة إلي ارتفاعا للمؤتم لكان أقل وأدل. انتهى.
ولا يخفى عليك أن كلامك هذا ليس فيه إلا الحكم بأن البعد فوق القامة في غير المسجد يكون مفسدا لارتفاع المؤتم، وليس فيه جواز قدر القامة، وفوقها في المسجد، فليس في عبارته ما يفيده الحصر حتى يستفاد منها كون غير ما حصره غير مفسد.
ثم لو سلمنا أن مفهوم عبارته دتل على ذلك فغايته أن الارتفاع قدر القامة وفوقها في المسجد لا يكون مفسدا، فمن أين الفساد كما في مخالفة الأمر، فإنما ليست بمقتضية الفساد، بل المقتضى للفساد دليل خاص، وهو ما يؤثر عدمه في العدم، كالشرط أو ما كان جزءا للماهيه كالركن، ومع هذا فقد عبر عن الارتفاع والانخفاض والحائل والبعد بلفظ البعد، وهو وإن كان كل ذلك يصدق عليه البعد لغة لكن لا يخفى أنه لا يتبادر الارتفاع والانخفاض من لفظ البعد، لكون العرب قد وضعت هذا الاسم الخاص. والإيضاح في المصنفات مع التطويل [3أ] أولى من الأبهام مع الاختصار.
وقد جاء مؤلف الأثمار بعبارة أخص من عبارة الحلال، وأسلم من الخلل فقال ما(6/2812)
لفظه: " ولا يضر بعد مطلقا غالبا " قال ابن برهان (1) في شرحه: "أي لا يضر المؤتم بعد عن الإمام مطلقا " معناه سواء كان بعد مسافة، أو بعد ارتفاع، أو انخفاض، أو لحائل، وسواء كان في مسجد أو عيره، فلا تفسد صلاة المؤتم في أي ذلك إذا كان يعرف ما يفعله الإمام ولو بمعلم. قوله غالبا احتراز من أن يبعد المؤتم عن الإمام بأي تلك الأمور فوق القامة في غير المسجد أو في، وكان البعد بارتفاع الإمام فوق القامة، فإن صلاة المؤتم تفسد بذلك.
قال: وهذه النسخة يعني نسخة الأثمار هي الأخيرة المعتمده، وهي مع إختصارها جماعة مانعة. انتهى.
ولا يخفى أنه يرد عليه في التعبير بلفظ البعد عن الأربعة الأحوال ما ورد على الجلال، وأيضا التعبير بلفظ غالبا لا يفهم منه المراد؛ إذ ليس معناها ألا أن عدم الضرر في غالب الأحوال دون نادرها، وهذا النادر لا يدرى ما هو من نفس هذه العبارة، بل يحتاج إلى معرفته من موضع أخر، وهو إختصار مخل من حيث الأبهام، ثم إن الشارح فسر الاحتراز بلفظ غالبا بقوله: احتراز من أن يبعد المؤتم عن الإمام بأي تلك الأمور فوق القامة، في غير المسجد أو فيه بارتفاع الإمام فوق القامة. انتهى.
وظاهر هذا أن ارتفاع المؤتم فوق القامة في غير المسجد يضر وليس كذلك، كما يفيده قوله في الأزهار "في ارتفاع المؤتم وقد تقد فإن كان [3ب] تركه لذلك لدخوله في الإطلاق المتقدم فيقدح فيه تعميم الشارح لصورة الاحتراز كما سمعت، ثم أيضًا ليس ما احترز عنه ب: "غالبا " هو نادر بل هي صور متعدده، وكونها دون صور ما قبله بقليل لايوجب أن تكون نادرة، ويمكن أن يقال: إن معناه لغة أن
_________
(1) وهو "شرح الإثمار في فقه الأئمة الأطهار ". تأليف: القاضي محمد بن يحيى برهان الصعيدي.
شرح مبسوط ذكر في الأدلة والخلاف، وهو في أربع مجلدات لعله المسمى: "تفتيح القلوب والأبصار ".(6/2813)
تكون ما هي قيد له غالبغ، وتكون ما أخرجته بمفهومها مغلوبا، وإن لم يكن نادرا، وهذا موافق لمعناها لغة، وإن خالف استعمالها اصطلاحا. ثم أيضًا غاية ما في عبارة الأثمار أنه لا يضر البعد الشامل للأحوال الأربعه، ولا ملازمة بين الضرر والفساد الذي هو المراد لصاحب الأزهار، لأن ترك الواجب يضر لكونه يفوت صاحبه المدح؛ إذ الواجب ما يمدح فاعله، ويزم تركه، بل ترك المسنون والمندوب يضر لكونه قد فات ثوبه. فالعبارة لا تفيد الفساد الذي هو المقصود في البحث فليمعن الناظر النظر فيما خطر على البال من هذه المناقشات لصاحب ضوء النهار (1)، وصاحب الأثمار (2). (3)
وأم البحث الثاني المتضن لحكاية أقوال العلماء في مسألة السؤال:
_________
(1) تقدم ذكره.
(2) تقدم ذكره.
(3) في هامش المخطوط ما نصه: "أما المناقشة ففيها نظر من وجوه:
الأولى: أن عبارة الجلال لا يرد عليه شيء مما ذكر، لأن ما يستفاد في متن الأزهار بالمفهوم هو كالمنطوق على ما قد عرف من قاعدته، من أول الكتاب إلى آخره، فما معنى المناقشة بإنهاء العبارة لا تدل إلا على طريقة المفهوم.
الوجه الثاني: أن التعبير بالفساد هو مراد صاحب الأزهار بقوله: ولا يضر، ولذا تضمنت عبارته شرح قول الأزهار ولا يضر، أي لا يفسد.
الوجه الثالث: أن التعبير بلفظ البعد يعني غناء ظاهرا، إذ المتون يراعي فيها الا ختصار.
الوجه الرابع: ما ناقش به عبارة صاحب الأثمار في قوله: غالبا لا مسلمه له أنه مخالف لمعناها اصطلاحا، لأنه نادر، وكونه صور متعدده لا يخرجها التعدد عن كونها نادرا فقوله غالبا في محله ومحيزه.
الوجه الخامس: المناقشة لصاحب الأثمار بعدم الملازمة بين الضرر والفساد الذي هو مراد صاحب الأزهار بغير وأرده، لأن حل العبارة واختصارها لا يجب فيه تغير كل لفظ فيها، ولفظ الضرر هو في عبارة الأزهار، فلا وجه لتخصيص المناقشة بذلك على صاحب الأثمار. 1 ه.(6/2814)
فأعلم أنه لما كان لحكاية الأقوال دخل في مسألة السؤال إذ عليها ينبني الاستدلال تعرضنا لها باختصار، وجملتها سته.
المذهب الأول:
التفصيل المتقدم في الأزهار على تلك الصفة السابقة في تعداد المسائل، وهو الذي صححه السيدان الإمامان: المؤيد بالله وأبو طالب للمذهب، وعليه أقتصر المتأخرون من أئمة المذهب الشريف [4أ]، وبه أخذوا (1). المذهب الثاني:
ظاهر قول الهادي - عليه السلام - في المنتخب (2) وهو قول أبي العباس، أنه فرق بين ارتفاع المؤتم والإمام إذا كان فوق القامة لآن ذلك مما تبطل به الصلاة على المؤتم.
المذهب الثالث:
لأبي حنيفة أنها لا تبطل في الوجهين وتكره (3).
المذهب الرابع:
للشافعي (4) أنه يعفى عن مسافة ثلثمائة زراع "والزائد مبطل. واختلف اصحابه في وجه ذلك، فقال ابن شريح: وجهه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الخوف بالطائفة الأولى ركعة، ثم مضت إلى وجه العدو، وهي في الصلاة لتحرس من النبل، ومبلغ النبل في العادة ثلاثمائة زراع. وقال ابن الصباغ، وابن الوكيل (5) بل
_________
(1) انظر "البحر الزخار" (1 - 334).
(2) تأليف الهادي يحيى بن الحسين الهاشمي اليمني. جمعه تلميذه محمد بن سليمان الكوفي، وعلى هذا الكتاب اعتماد الهادويين من الزيديه في الفقه.
انظر: "مؤلفات الزيديه" (3 رقم 3026).
(3) انظر "المحلى" (4 - 85).
(4) ذكره ابن قدامة في "المغني" (3).
(5) ذكره النووي في "المجموع" (4).(6/2815)
لعرف الناس وعادتهم في استقرائهم لذلك المقدار دون ما زاد عليه. قال المهذب (1): وفي كون ذلك تحديدا أو تقريبا وجهان (2)، وقد دفعه الإمام المهدي في البحر (3) بأن الطائفة لم تمض في صلاة الخوف مصلية.
ويجاب عنه أنه ثبت في رواية صحيحه أنها مضت كذلك، وليس فيها التعليل المذكور بالحراسه من النبل، فلا يتم الاستدلال.
المذهب الخامس:
للأمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة أن البعد لا يضر ما دام المؤتمون يسمعون قراءة الإمام، وبه قال عطاء (4)، وبعضهم قيد قول عطاء بالبعد في الارتفاع فقط، فيكون مذهبا سادسا.
وأما البحث الثالث فهو في الأدلة على هذه المذاهب، فنقول: استدلال الإمام المهدي في البحر (5) لما ذهب إليه أهل المذهب فقال: مسألة: ولا يضر بعد المؤتم في المسجد، ولا الحائل ولا فوق القامة، مهما [4ب] علم حال الإمام إجماعا، ولا ارتفاعه كا فعل أبي هريرة إلا بحذاء رأس الإمام أو متقدما. ولا يضر قدر القامة في غير المسجد أجماعا المذهب وما زاد أفسد، إذ أصل البعد التحريم [في المفروض] (6)، ولا دليل على ما تعد القامة. انتهى.
_________
(1) (1).
(2) أحدهما أنه تحديد، فلو زاد على ذلك زرع لم يجزه.
الثاني: أنه تقريب فإنه زاد على ثلاثة أزرع جاز. وهو الوجه الأصح.
وانظر: "المهذب" (1) و"المجموع" (4).
(3) (1).
(4) ذكره النووي في "المجموع" (3).
(5) (1).
(6) كذا في المخطوط وفي "البحر الزخار " [للإجماع في المفروض].(6/2816)
وكلامه هذا قد اشتمل على حجج:
الحجة الأولى:
استدلاله على جواز بعد المؤتم وجواز الحائل بينه وبين الإمام في المسجد ولو فوق القامة، إلى حد يمكن معه العلم بحال الإمام بالإجماع.
الحجة الثانية:
الاستدلال على جواز ارتفاع المؤتم في المسجد ولو فوق القامة في المسجد، يكون مشابها لفعل أبي هريرة الذي أشار إليه (1)، وهو ماأخرجه البخاري (2) تعليقا، وسعيد بن منصور في سننه (3) والشافعي (4)، البيهقي (5)، عن أبي هريرة:، أنه صلى على ظهر المسجد بصلاة الإمام ".
وروى سعيد بن منصور (6) مثله عن أنس أنه كان يجمع في دار أبي رافع عن يمين المسجد في غرفة قدر قامة منها، لها باب مشرف على المسجد البصرة، فكان يظاتم بالإمام.
الحجة الثالثة:
_________
(1) عزاه إليه الحافظ في"الفتح" (1).
(2) في صحيحه رقم (1). باب رقم (18) "الصلاة في السطوح والمنبر ".
(3) عزاه إليه الجاحظ في "الفتح" (1).
(4) كما في معرفة "السنن" والآثار " (2 رقم 1515).
(5) في "السنن" رقم (3).
(6) عزاه إليه الحافظ في "الفتح"رقم (1).
وقد أخرجه البيهقي في "السنن" (3) والشافعي كما في ترتيب المسند (1 - 108 رقم 317).
عن صالح بن إبراهيم قال رأيت أنس بن مالك صلى الجمعة في بيوت حميد بن عبد الرحمن فصلى صلاة الإمام في المسجد وبين بيوت حميد والمسجد: الطريق.(6/2817)
من الحجج التي أحتج بها الإمام المهدي (1) في كلامه السالف أنه لايضر قدر القامة في غير المسجد إجماعا. الحجة الرابعة:
أنه أحتج للمذهب على أنه إذا زاد على قدر القامة أفسد في غير المسجد، بأن أصل البعد التحريم في المفرط، ولا دليل على ما زاد على القامة، فيكون مفسدا. واحتج للفرق بين جواز ارتفاع المؤتم فوق القامة دون الإمام بما معناه أنه إذا ارتفع الإمام فوق القامة المؤتمون غير متوجهين إليه، بخلاف ما إذا كان المرتفع المؤتمين فإنهم متجهون إلى الإمام، ولو كثر ارتفاعهم. هذا خلاصة احتج به للمذهب، وهو خلاصة ما احتج به [5أ] سائر أهل المذهب من المتقدمين والمتأخرين.
وقد اعترض الجلال في ضوء النهار (2) وما احتج به الإمام المهدي (3) للمذهب من أن أصل البعد التحريم، فقال ما لفظه: واحنج المصنف بالإجماع على منع البعد المفرط وبعدم الدليل على جواز ما فوق القامة. وهو تهافت لأن المجمع على منعه هو غير ما جوازوه، وهذا إنما يصح تعليل الاعتراض به لو كان الإمام المهدي معللا لمنع ما جوازوه من فوق القامة بلإجماع على المنع منه، وهو لم يعلل بذلك، ولا ادعاه، بل قال: إن البعد المفرط أصله أنه مجمع على تحريم. وقال: لا دليلا على ما زاد على القامة، فأي معنى لقول الجلال معللا للاعتراض بأن المجمع على منعه هو غير ما جوازوه،
_________
(1) في "البحر الزخار" (1).
(2) في "ضوء النهار" (1 «).
(3) في "البحر الزخار" (1).(6/2818)
فإن الإمام المهدي يقول بموجب هذا الكلام، ويعتف بأن المجمع على منعه هو غير ماجوزوه، إذا لو كان المجمع على منعه هو ما جوزوه لكان الإجماع على منع ما جوزوه كافيا للإمام المهدي في الرد عليهم مغنيا له عن قوله: ولا دليل على ما زاد على القامة. فالحاصل أن تعليل الاعتراض عليه بذلك لا يتم بعد صدور الاحتجاج على من جوز فوق القامة، فإنه ممنوع بلإجماع، وهو لم يحتج عليهم بذلك، إنما احتج عليه بعدم الدليل فيما دون البعد المفرط، وبالإجماع على المنع في المفرط، ولم يقل قائل بجواز البعد المفرط؛ إذا لو قال به قائل لم يكن ثم إجماع [5ب] إن كان القائل من أهل عصر المجمعين، وإن كان بعد عصرهم كان مخالفا للإجماع، لكونه قائلا بجواز ما منع الإجماع، فينظر في ضوء النهار إن كان لفظه هو اللفظ الذي نقلناه عنه سابقا كما رأيناه في النسخة التي حضرت وقت تحرير البحث.
نعم، يمكن مناقشة الإمام المهدي في قوله (1): ولا دليل على ما زاد على القامة فيكون مفسدا بأن يقال: الأصل الجواز، وعدم الفساد كما أشار إليه الجلال، فلا يحتاج القائل به إلى دليل، بل هو قائم مقام المنع، متمسك بالبراءة الأصلية. والدليل على مدعي عدم الجواز والفساد. ولعله يقول: إن الأصل تساوي الإمام والمؤتم في الموقف، من دون ارتفاع، ولا انخفاض، ولا حائل، ولا بعد. وقد نقل عن هذا الأصل الإجماع الدال على جواز قدر القامة كما سبق، فيكون ما زاد عليه باقيا على أصل المنع، فالدليل على مدعي جوازه هذا غاية ما يمكن في تقريره كلامه، ويمكن أن يقلب عليه هذا الاستدلال فيقال: الأصل جواز الائتمام بالإمام على صفة، وفي كل حال، ومن ادعى التقييد بالتساوي في الموقف فهو مدع لتقييد الاقتداء بحالة خاصة، ووضع معين فعليه الدليل من غير فرق بين قد القامة وفوقه، وها نحن نذكر الأن ما يمكن الاستدلال به على كثير من التفاصيل المتقدمة في تلك المذاهب نافيا وإثباتا، ثم بذكر ما تقضيه القواعد
_________
(1) في "البحر الزخار" (1).(6/2819)
الأصولية، والمسالك الاجتهادية، ونبيين ما هو الراجح من الأقوال بمعونة ذي الجلال.
البحث الثالث: فنقول: أخرج أبو داود (1) عن همام أن حزيفة أم الناس بالمدائن على دكان فأخذ مسعود بقميصه فجبذه فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم [6أ] أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى، قد ذكرت حين يديتني (2)، أي: مدت يدك إلي قميصي وجبذته إليك. وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (3)، وابن حبان (4)، والحاكم (5) وصححوه.
وفي رواية للحاكم (6) التصريح برفعه، ورواه أبو داود (7) من وجه آخر وفيه أن الإمام
_________
(1) في "السنن" رقم (597).
(2) في هامش المخطوط مانصه: يديتني بالياء المثناه التحتيه لا بالميم (*)، واشتقاقه من اليد الجارحة طاهر، وعليه قال الأسدي: المعروف بقاع الدهماء:
يديت إلى ابن حساس بن وهب ... بأسفل ذي الجذاة يد الكريم (**)
وإن كان هذا من اليد التي هي النعمة فهو يلاقي حقيقتها التي هي الجارحة في جميع تصرفها وتفسيرها مددت يدك إلى قميصي صريح أنها بالياء، وأن الميم تصحيف. والله أعلم.
(*): وثبت أيضًا مديتني، ولعل كانت الحاشية لم تبن عليه.
(*): عزاه ابن منظور في "لسان العرب" (15) قال بعض بني أسد. وهو من شواهد "لسان العرب".
قال الجوهري في "الصحاح" (6): ويديت الرجل: أصبت يده، فهو ميدي فإن أردت أنك اتخذت عند يدا قلت: أيديت عنده يدا فأنا مود إليه ويديت لغة - ثم ذكرت الشاهد المتقدم دون غيره -.
(3) في صحيحه رقم (1523).
(4) في صحيحه رقم (2143).
(5) في "المستدرك" (1) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. قلت وأخرجه: الشافعي في مسنده (1 - 138) والبغوي رقم (831) والبهقي (3) وابن الجارود رقم (313) وابن أبي شيبة (2). وهو حديث صحيح.
(6) في "المستدرك" (1).
(7) في "السنن" رقم (598). وهو حديث حسن لغيره.(6/2820)
كان عمار بن ياسر، والذي يبذه حزيفة، وهو مرفوع، ولكن فيه مجهول والأول أقوى كما قال الحافظ (1). وأخرج الدارقطني (2) من حديث ابن مسعود قال: نها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه، يعني أسفل منه.
وقد أورده الحافظ في التلخيص (3)، ولم يتكلم عليه. ولا يخفى أن قول أبي مسعود في الحديث الأول أنهم كانوا ينهون عن ذلك، وقد بينه حديثه الآخر أن الذي نها عن ذلك هو النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وكذلك بينته رواية الحاكم التي أشرنا إليها، ومعنى النهي حقيقة التحريم المرادف للفساد كما هو المذهب الحق في الأصول (4)، فيكون ارتفاع الإمام على المؤتم ممنوعا من غير فرق بين قدر القامة ودونها وفوقها، وسواء كان في المسجد، أو في غيره ولكنه قد ثبت في الصحيحين (5) وغيرهما (6) من حديث سهل
_________
(1) في "التلخيص" (2).
(2) في "السنن" رقم (2).
(3) في"التلخيص" (2).
(4) انظر"الكوكب المنير" (1)، "تيسير التحرير" (2). و (1 - 475).
(5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (377) [وأطرافه: (448، 917، 2094، 2569)] ومسلم رقم (544).
(6) كأحمد (5) وأبو داود رقم (1080) والنسائي (2) وابن ماجه رقم (1416).
قال القرطبي في "المفهم" (2) استدل أحمد بن حنبل بصلاة النبي على المنبر، على جواز صلاة الإمام على موضع أرفع من موضع المأموم، ومالك يمنع ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير، وعلل المنع: بخوف الكبر على الإمام، واعتزر بعض أصحابه عن الحديث: بأن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معصوم عن الكبر ومنهم من علله، بأن ارتفاع المنبي كان يسير.
وقال النووي في "شرحه لصحيح مسلم" (5 - 34): قالوا العلماء كان المنبر الكريم كما صرح مسلم في روايته رقم (44) فنزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخطوتين إلى أصل المنبر ثم سجد في جنبه ففيه فوائد منها:
استحباب اتخاذ المنبر. استحباب قول الخطيب ونحوه على مرتفع كمنبر أوغيره. جواز الفعل اليسير في الصلاة فإن الخطوتين لا تبطل بهما الصلاة ولكن الأولى تركه إلا لحاجة فإن كان لحاجة فلا كراهة فيه كما فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيه أن الفعل الكثير كالخطوات وغيرها إذا تفرق لا تبطل لأن النزول عن المنبر والصعود تكرر وجملته كثيرة ولكن أفراده المتفرقه كل واحد منها قليل. وفيه جواز صلاة الإمام على موضع أعلى من موضع المأمومين ولكنه يكره ارتفاع الإمام على المأموم وارتفاع المأموم على الإمام لغير حاجة فإن كان لحاجة بأن أراد تعليمهم أفعال الصلاة لم يكره بل يستحب لهذا الحديث، وكذا إن أراد المأموم إعلام المأمومين بصلاة الإمام واحتاج إلى الارتفاع وفيه تعليم الغمام المأمومين أفعال الصلاة وأنه لا يقدح ذلك في صلاته وليس ذلك من باب التشريك في العبادة بل هو كرفع صوته بالتكبير ليسمعهم. قال الحافظ في "الفتح" (1): والغرض من إيراد هذا الحديث في هذا الباب - رقم 18 - الصلاة في السطوح والمنبر والخشب: جواز الصلاة على المنبر. جواز اختلاف موقف الإمام والمأموم في العلو والسفل وصرح المصنف في حكايته عن شيخه علي بن المديني عن أحمد بن حنبل، ولا بن دقيق العيد في ذلك بحث. فإنه قال: من أراده أن يستدل به على جواز الارتفاع من غير قصد التعليم لم يستقم، لأن اللفظ لا يتناوله. ولا نفراد الأصل بوصف معتبر تقتضي المناسبة اعتباره فلا بد منه. وفيه دليل على جواز العمل اليسير في الصلاة. ..(6/2821)
بن سعد أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - جلس على المنبر في اول يوم وضع، فكبر وهو عليه راكع، ثم نزل القهقري، فسجد وسجد الناس معه، ثم عاد حتى فرغ، فلما انصرف: أيها الناس فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي ".
فمن أهل العلم من جعل ارتفاع الإمام على المؤتم مكروها فقط، مستدلا بهذا الحديث الصحيح، ومنهم من استدل به على جواز الارتفاع (1) اليسير، ومنهم من رجحه على
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.(6/2822)
الأحاديث السابقة بكونه في الصحيحين (1)، وفي الكل عند نظر، لأن الترجيح على فرض التعارض، ولا تعارض لوجوه:
الوجه الأول:
أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد علل ذلك [6ب] بالتعليم، فغايته أنه يجوز الارتفاع لمن أراد تعليم المؤتمين (2).
الوجه الثاني:
أنه مجرد فعل، وهو لا ينتهض لمعارضة القول.
الوجه الثالث:
أنه قد تقرر في الأصول أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذا أمرنا بشيء، أو نهانا عن شيء، وفعل ما يخالف أمره نهيه، فإن ظهر في الفعل دليل التأسي (3) به كان ناسخا على فرض تأخره عن الأمر والنهي، وإن لم يظهر دليل التأسي، فإن كان الأمر والنهي شاملين له كان الفعل مختصا به، غير معارض للأمر أو النهي، أو سائر الأقوال، ولم يظهر في هذا الفعل دليل التأسي به، فلا يكون ناسخا، وعلى فرض أن قوله: إنما فعلت إيرادت التعليم فغايته الاختصاص بتلك الحالة كما قدمناه
الوجه الرابع:
أنه لم ينقل إلينا تأخر صلاته على المنبر، حتى يكون الكلام فيه كما قاله القائل، بل ما وقع من الصحابة بعد موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يدل على أن المتأخر هو النهي، فتكرر بمجموع ما ذكرناه أنه لا معارضة بين النهي عن ارتفاع الإمام، وبين فعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على جميع التقادير. فالظاهر أن ارتفاع الإمام لغير
_________
(1) رضي- تقدم تخريجه.
(2) انظر "فتح الباري" (1).
(3) انظر تفصيل ذلك في "الكوكب المنير" (2 - 209). " تيسير التحرير" (3).(6/2823)
قصد التعليم ممنوع (1)، ومن ادعى جوازه فعليه الدليل (2) من غير فرق بين القليل والكثير. وأما ارتفاع المؤتم فلم يأت ما يدل على منعه فيكون الأصل معا من قال بجوازه من غير فرق بين القامة ودونها وفوقها، والمسجد وغيره. ومن زعم خواز قدر معين دون ما زاد عليه فعليه الدليل. ويؤيد هذا الجواز ما تقدم من فعل أبي هريرة، وأنس بمحضر الصحابة من دون إنكار.
وما ذكرنا من عدم جواز ارتفاع الإمام (3) يستلزم عدم جواز انخفاض المؤتم، لأن انخفاضه لا يكون إلا إذا كان الإمام مرتفعا [7أ]، وإلا لم يسم انخفاضا، وكذلك ما ذكرناه من جواز ارتفاع المؤتم يستلزم جواز انخفاض الإمام، لأن ارتفاع المؤتم لا يكون إلا إذا كان الإمام منخفضا، وإلا لا يسم ارتفاعا وقد دخل تحت هذا الدليل عدة مسائل مما تقد، وهي ارتفاع الإمام في المسجد، وارتفاعه في غير المسجد قدر القامة ودونها وفوقها، ونخفاضه في المسجد، وانخفاضه في غير المسجد قدر القامة ودونها وفوقها، وارتفاع المؤتم وانخفاضه كذلك. وأما البعد من الإمام عن المؤتم والعكس، وهما متلازمان؛ لأن بعد احدهما من الآخر يستلزم بعد الأخر عنه. وقد قدمنا أن الحائل هو بعد تقيضه بما سلف داخل تحت البعد. فاعلم أن الأصل الجواز لما قدمنا، من غير فرق بين قدر القامة ودونها وفوقها، وفي المسجد وخارجه، ومن زعم التقييد بمقدار معين أو بمكان معين فعليه الدليل، ولم يأت دليل يدل على تقييد ذلك بشيء.
وأما ما تقدم من حكاية الإجماع على منع البعد المفرط فذلك إنما هو حيث لا يدرك
_________
(1) انظر "الفتح" (1) وقد تقدم. "صحيح مسلم شرح النووي" (5 - 34) وقد تقدم.
(2) قال الشوكاني في "السيل" (1): لا يضر قدر القامة ولا فوقها لا في المسجد ولا غيره من غير فرق بين الارتفاع والا نخفاض والبعد والحائل. ومن زعم أن شيئا من ذلك تفسد به الصلاة. وانظر: "المحلي" (4).
(3) أنظر" المغني" (3).(6/2824)
المؤتم أفعال الإمام كما تقد عن عطاء، والمنصور. ولا ريب أن من كان من البعد بحيث لا يدرك أفعال إمامه (1)، ولا ينقلها إليه ناقل لا يتمكن من الائتمام والاقتداء بالإمام، فلا يتم صلاة الجماعة لذلك، وما دون هذا البعد، وهو حيث يكون مع بعده يدرك أفعال إمامه ويمكنه الاقتداء به، فلا وجه لمنعه ومن يزعم المنع في صورة من الصور لم يقبل منه ذلك، إلا بدليا وكما أنه لا وجه لقول من قال بالفرق بين المسجد وغيره لا وجه أيضًا لقول الشافعي في التقدير بثاثمائة زراع (2)، فإن ذلك إنما نشأ من ظنه أن ذهاب الطائفة الأولى [7ب] مصلية في صلاة الخوف (3) لقصد الحارسة على النبل،
_________
(1) انظر "المجموع" (3).
(2) انظر"المغني" (3).
(3) قال النووي في "المجموع " (3): وقدر الشافعي بثلا ثمائة زراع لأنه قريب في العادة، هذا اختيار منه للصحيح.
وقول الجمهور أن هذا التقدير مأخوذ من العرف لأن من صلاة الخوف.؟
قال بن تيميه في " مجموع" (23): وأما صلاة المأموم خلف الإمام: خارج المسجد أو في المسجد وبينهما حائل فإن كانت الصفوف متصله جاز باتفاق الائمة.
وإن كان بينهما طريق، أو نهر تجري فيه السفن، ففيه قولان معروفان، هما روايتان عن أحمد: أحدهما: المنع كا قول أبي حنيفة. الثاني: الجواز كا قول الشافعي. وأما إذا كان بينهما حائل يمنع الرؤيه، والاستطراق، ففيها عدة أقوال في مذهب أحمد وغيره. قيل يجوز، وقيل: لا يجوز، وقيل: يجوز في المسجد دون غيره، وقيل: يجوز مع الحاجة. ولا يجوز بدون الحاجة.
ولا ريب أن ذلك جائز مع الحاجة مطلقا: مثل أن تكون أبواب المسجد مغلقة، أو تكون المقصورة التي فيه الإمام مغلقة أو نحو ذلك.
وقال النووي في "المجموع" (4):
1 - يشترط أن لا تطول المسافة بين الإمام والمأمومين إذا صلوا في غير المسجد، وبه قال جماهير العلماء.
2 - لو حال بينهما طريق صح الاقتداء عندنا وعند مالك والأكثرين.
3 - لو صلى في دار أو نحوها بصلاة الإمام في المسجد وحال بينهمها حائل لم يصح عندنا وبه قال أحمد. 4 - يشترط لصحة الاقتداء علم المأموم بانتقالات الإمام، سواء صليا في المسجد أو في غيره أو أحدهما فيه والآخر في غيره وهذا مجمع عليه.
* قال ابن حزم في" المحلي" (4): وجائز للإمام أن يصلي في ما كان ارفع من مكان جميع المأمومين وفي أخفض منه، سواء في كل ذلك العامة والأكثر والأقل فإن أمكنه السجود فحسب وإلا فإذا أراد السجود فلينزل حتي يسجد حيث يقدر، ثم يرجع إلى مكانه.
* وقال الشوكاني في "السيل" (1) في هذا الحديث - حديث النهي تقدم تخريجه - دليل على منع الإمام من الارتفاع عن المؤتم، ولكن هذا النهي يحمل على التنزيه لحديث صلاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبي كما في الصحيحين وغيرهما - تقدم - ومن قال إنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل حال لتعليم كما وقع في آخر الحديث فلا يفيده ذلك لأنه لا يجوز له في حال التعليم إلا ما هو جائز في غيره ولا يصح القول باختصاص ذلك بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وانظر: "فتح الباري" (1). و"إكمال المعلم بفوائد مسلم" (2).(6/2825)
وذلك مجرد تخمين، ولا دليل عليه في الرواية فلا حجة في محض الرأي، وأما استدلال من استدل بما في الصحيحين (1) وغيرهما (2) من حديث سهل بن سعد وغيره أنه كان بين مصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وبين الجدار ممر الشاة فليس في هذا من الدلالة شيء لأن الكلام في البعد الكائن بين الإمام والمؤتم، لا في البعد الكائن بين الإمام والجدار الذي أمامه، على أنه لو ورد مثل هذا في المقدار الذي بين الإمام والمأموم لم يكن دليلا على منع ما ذاد عليه، لن غايته جواز هذا المقدار من البعد، وهو لا ينفي جواز ما زاد عليه بلا شك ولا شبهة.
ومن تدبر ما أسلفناه عرف الدليل نافيا وإثباتا على جميع ما قدمنا تحريره من المسائل التي اشتملت عليها مسألة السؤال الواردة من السائل - كثر الله فوائده -.
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (496) وطرفه (7334) ومسلم في صحيحه رقم (508).
(2) كأبي داواد رقم (696) وهو حديث ضعيف.(6/2826)
حرره المجيب الحقير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله له - في النصف الأول من ليلة الاثنين المسفرة إن شاء الله عن اليوم الخامس والعشرين من شهر صفر سنة أربع عشرة ومائتين وألف، سنة 1214.
وكان الفراغ من رقم النسخة المبارك يوم الجمعة خامس عشر من رمضان المكرم سنة 1215. بكلم خادم آل محمد غفر الله له ولوالديه، ولمن دعى لهما بالغفران آمين اللهم آمين والصلاو والسلام الدائمان على سيدنا محمد وآله.(6/2827)
بحث في كثرة الجماعات في مسجد واحد
تأليف محمد بن علي الشوكاني.
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(6/2829)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (بحث في كثرة الجماعات في مسجد واحد).
2 - موضوع الرسالة: فقه الصلاة.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على كل حال والاستعاذة به من الابتداع والجهل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه خير صحبه وآل.
أما بعد: فما تكونون أيها الأعلام العارفون بين الحلال والحرام. ..
4 - آخر الرسالة:. .. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق ثم في الأصل كتبه المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله له. انتهى.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الصفحات: أربع صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 30 - 32 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 14 - 16 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الخامس من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(6/2831)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على كل حال، والاستعاذة به من الابتداع والجهل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه غير صحبة وآل.
أما بعد:
فما تقولون أيها الأعلام العارفون بين الحلال والحرام في شأن ما صار يفعله في أحد جوامع بلدة من الجهات اليمنية المحفوظة من الله بالبركات والخيرات السنية، وذلد أن المذكورين يسمعون المؤذن ينادي بالآذان للصلاة المكتوبة فيبادر أحدهم إلى ناحية المسجد المذكور، فيقيم الصلاة، ويصلي تلك الصلاة إماما، فيقتدي به الحاضرون من عامة الناس غالبا، ثم يصلي أكثر الخواص خلف إمام الرتبة. وفي بعض اللأيام يقع مثل هذا في صلاة الصبح، والحال إن الحاضرين في وقتها إناس قليل. وأما في وقت العشاء فما زال يستبق الجماعة المذكرون ليفعلها في كل ليلة قبل أن يبادر بالآذان والمؤذن الراتب، وربما فعلوها قبل تيقن دخول وقتها،، ويشروعنها جماعتين أو أكثر تارة معا كل من الجماعتين في ناحية من المسجد، وتارة مرتبا. وقد يحضر في بعض الحالات أحد المذكورين عند شروعهم في صلاة الجماعة المذكورة فيتنحى إلى جانب المسجد لم يشرع جماعة جماعة أخرى، فتقام الصلاة خاف إمام الراتب، وقد تفرق الأكثر ممن كان في المسجد من الناس، ولم يبقى إلا الأقل.
ومن ذلك إن إناس يتطوعا بصيام أيام في شهر رجب، فيبادرون بصلاة المغرب جماعة في المسجد المذكور، مع إن في النفس شيئا من الهجوم على ذلك قبل تيقن استكمال غروب قرص الشمس، على أن كثير من الصائمين المذكورين لذلك يأخرون الأفطار إلى بعد تمام الصلاة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وكذا صار بعض المذكورين حواصبا (1) على فعل صلاة العصر جماعة عقيب صلاة الجماعة، مداوما على
_________
(1) الحاصب: الريح الشديدة تحمل التراب والحصباء.
الحاصب: العدد الكثير من الرجالة. "لسان العرب" (3).(6/2835)
ذلك في كل أسبوع لغير عذر شرعي، ويقتدي به في ذلك كثير من العوام، وإذا انكر عليهم أحد ولو من أهل بيت النبوة - عليهم السلام - أو من شيعتهم الكرام أجابوا عليه بما يتمثل به الطغام، الذين قال لهم: قال الله تعالى، قال رسول الله: كل يصلي كيف ما شاء الله، والسر القبول. فما يقول العلماء في هذه الحركات المستنكرة المبتكرة المجانبة لما وردا عن نبينا المصطفى - صلى الله وسلم عليه وعلى آله الخيار - وأصحابه أهل الصدق والوفاء فهل يذجر من ظهر منهم الأصرار ردعا له عن ذلك، وعن التفريق بين المؤمنين المنهي عنه، إذا هو مما اتخذا لأجله بنو غنم بن عوف (1) مسجد الضرار فاقتدوا في [ ...... ] (2) وأكشفه عن وجه البدعة النقاب - لا برحتم أهل جلاء المشكلات وحل المعضلات؟ - نعم وقد كرر بعض الجهابذة أن من جملة الكبائر التعدي على وظيفة غمام الراتب فيه قهرا على صاحبها، لأنه من غصب المناصب، وهو أولى بالكبيرة من
_________
(1) قال تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [التوبة: 107].
* قال الطبري في "جامع البان " (7 /ج11 - 24): والذين ابتنوا مسجدا ضرارا لمسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكفرا بالله لمحادتهم بذلك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويفرق به المؤمنين ليصلي فيه بعضه دون مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وبعضهم في مسجد رسو الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا: (وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) يقول: واعدادا له، لأبي عامر الكافر الذي خالف الله ورسوله وكفر بهما وقاتل رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من قبل، يعني من قبل بنائهم ذلك المسجد، وذلك أن أبا عامر هو الذي كان حزب الأحزاب، يعني حزب الأحزاب لقتال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما خذله الله، بحق الروم يطلب النصر من ملكهم على نبي الله وكتب إلى أهل مسجد الضرار يأمرهم ببناء المسجد. .. ".
وانظر: "السيرة النبوية " لابن هشام (4). "الدر المنثور" (3 - 277).
(2) كلمة الغي مقروءه في المخطوط.(6/2836)
غصب الأموال، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا يأمن الرجل في سلطانه (1) ونصوا على أن غمام المسجد الراتب أحق من غيره وإن [ ..... ] (2) بفضله، وأنه يبعث له ندبا إذا ابطأ ليحجب أو يأذن له في الإمامة.
وقال الماوردي (3): إن كان المسجد له إمام راتب بولاية لم يجز لمن دخله أن يقيم فيه
_________
(1) أخرجه في صحيحه رقم (582) من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو مرفوعا.
(2) كلمة غير واضحة في المخطوط.
(3) في "الحاوي" (3).
قال الشافعي في "الأم" (1): وإذا كان للمسجد راتب ففاتت رجلا - أو رجالا - في الصلاة، صلوا فرادى، ولا أحب أن يصلوا فيه جماعة، فإن فعلوا أجزأتهم الجماعة فيه ".
وقد استدل المانعون بالمنقول والمعقول:
المنقول: انظر الآية (107) من سورة التوبة - وقد تقد توضيحه - السنة النبوية وقد تقدم ذكر كثيرمن الأحاديث في ذلك.
نذكر منها أيضا: عن أبي بكرة رضي الله عنه: "أن رسول الله أقبل من نواحي المدينة، يريد الصلاة، فوجد الناس قد صلوا فمال إلى منزله، فصلى بهم ". وهو حديث حسن. انظر: "تمام المنة " (ص155).
ووجه الدلالة منه: أنه لو كانت الجماعة الثانية جائزة بلا كراهة لما ترك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضل المسجد النبوي.
-وكذلك استدلوا بالآثار:
منها: تقدم قول الشافعي " الأم" (1).
ومنها: مأخرجه ابن أبي شيبة (2) وعبد الرزاق في مصنفه (3 رقم 3425) و (3426) وذكره السرخسي في "المبسوط" (1، 161).
عن الحسن البصري قال: " كان اصحاب محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل المسجد وقد صلي فيه صلوا فرادى".
وانظر: "المدونة الكبرى " (1). " إعلاء السنن" (4)
ثم استدلوا بالمعقول:
قالوا عن الجماعة الثانية يؤدي إلى تفريق الجماعة الأولى المشروعة. لأن الناس أن الجماعة تفوتهم يعجلون أدائها ويحرصون على شهودها مع الإمام، فتكثر الجماعة وإذا علموا أنها لا تفوتهم، يتأخرون فتقل الجماعة، وتقليل الجماعة مكروه. وقال الشافعي في "الأم" (1):
"وأحسب كراهية من كره ذلك منهم إنما كان اتفرق الكلمة، وأن يرغب الرجل عن الصلاة خلف الإمام جماعة فيتخلف ومن أرد عن المسجد في وقت الصلاة، فإذا قضيت دخلوا فصلوا فيكون في هذا اختلاف وتفرق كلمة، وفيها المكروه ". وقد علق أحمد شاكر على كلام الإمام الشافعي بقوله: "والذي ذهب إليه الشافعي من المعنى في هذا الباب صحيح جليل ينبي عن نظر ثاقه، فهم دقيق وعقل دراك لروح الإسلام ومقاصده، وأول مقصدا للإسلام ثم أجله وأخطره:
- توحيد كلمة المسلمين.
- جمع قلوبهم في غاية واحدة، هي إعلاء كلمة الله.
- توحيد صفوفهم في العمل لهذه الغاية. والمعنى الروحي في هذا اجتماعهم على الصلاة، وتسوية صفوفهم فيها أولا كما قال رسةل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجهكم "تقدم.
- أخرجه البخاري رقم (717) ومسلم رقم (436) عن النعمان بن بشير رفعه. ثم قال: وقد رأى المسلمون بأعينهم آثار تفرق جماعتهم في الصلاة واضطرب صفوفهم، ولمسوا، ذلك بأيديهم، إلا من بطلت حاسته. وطمس على بصره وإنك لتدخل كثيرا من مساجد المسلمين. فترى قوما يعتزلون الصلاة مع الجماعة طلبا لسنة - كما زعموا!!. ثم يقمون جماعات أخرى لأنفسهم، ويضنون أنه يقمون الصلاة بأفضل مما يقمها غيرهم، ولئن صدقوا، لقد حملوا من الوزر ما أضاع أصل صلاتهم فلا ينفعهم ما ظنوه من الإنكار على غيرهم في ترك بعض السنن أو المندوبات وترى قوما آخرين يعتزلون مساجد المسلمين، ثم يتخذون لأنفسهم مساجد أخرى، ضرارا، وتفريقا للكلمة، وشقا لعصى المسلمين. ثم قال: وكان عن تساهل المسلمين في هذا، وظنهم أن إعادة الجماعة في المسجد جائزة مطلقا إن فشت بدعة منكرة في الجوامع العامة مثل الجامع الأزهر، والمسجد المنسوب للحسين رضي الله عنه وغيرهما بمصر.
. ففي الجامع الأزهر مثلا إمام للقبلة القديمة، وآخر للقبلة الجديدة. ونحو ذلك في مسجد الحسين. وقد رأينا فيه أن الشافعية لهم إمام يصلي بهم الفجر في الغلس والحنفيون لهم آخر يصلي بهم الفجر بإسفار ورأينا كثيرا من الحنفيين من علماء وطلاب وغيرهم، ينتظرون إمامهم ليصلي بهم الفجر. ولا يصلون مع إمام الشافعين والصلاة قائمة والجماعة حاضرة، ورأينا فيهما وفي غيرهما جماعات تقام متعدة في وقت واحد وكلهم آثمون. "جامع الترمذي" (1 - 432 هامش).
وانظر: "رحلة الصديق إلى البيت العتيق" (ص137) هامش ط الهندية.
تنبيه: قيود لمن قال بالمنع: ذهب منعه الجماعة الثانية إلى تفصيل في المنع فنتعوها في حالات دون أخرى ومن هذه القيود:
*أن يكون للمسجد إمام راتب. وهو من نصبه من له ولاية نصبه من واقف أو سلطان أو نائبا في جميع الصلوات أو بعضها وذلك بأن يقول: جعلت إمام مسجدا هذا فلانا. انظر: " بلغة السالك لأقرب المسالك " (1). *وقال الشيرازي في " التنبيه" (ص38): وإن كان للمسجد إمام راتب كره لغيره إقامته الجماعة فيه. وقال النووي في "المجموع" (4): "إذا لم يكن للمسجد إمام راتب فلا كراهة في الجماعات الثانية والثالة وأكثر بالإجماع ". - قال الإمام الشافعي في "الأم" (1180): وإنما أكره هذا - أي الجماعة الثانية - في كل مسجد له إمام ومؤذن. فأما مسجد بني على ظهر الطريق أو ناحيته لا يؤذن فيه مؤذن راتب، ولا يكون له إمام معلوم ويصلي فيه المارة ويستظلون، فلا أكره ذلك فيه، لأن ليس فيه المعتى الذي وصفة من تفرق الكلمة، وأن يرغب رجال عن إمامة رجل، فيتخذون إماما غيره ".
* قال العيني في "عمدة الفاري" (5): "وحاصل مذهب الشافعي أنه لا يكره أي: الجمع بعد صلاة الإمام الراتب في المسجد المطروق ". وانظر: "روضة الطالبين " (1). "المبسوط" (1). - وأما أدلة المجيزون للجماعة الثانية في مسجد قد صلي فيه مرة
*الحديث النبوي: " صلاة الجماعة تفضل عن صلاة الفذ بخمسة وعشرين درجة ". قال الشيخ الألباني: "استدلوا بأطلاق أي أنهم فهموا أن (أل) في كلمة الجماعة للاستغراق، أي ان كل صلاة جماعة في المسجد تفضل صلاة الفذ، ونحن نقول بناء على الأدلة السابقة - ذكرها الشوكاني - إن (أل) هذه ليس للاستغراق، وإنما هي للعهد، أي أن صلاة الجماعة التي شرعها الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحض الناس عليها، وأمر الناس بها، وهدد المتخلفين عنها بحرق بيوتهم، ووصف من تخلف عنها بأنه من المنافقين هي صلاة الجماعة التي تفضل صلاة الفذ وهي الجماعة الأول.: مجلتنا " الأصالة" عدد (3، 14) 15 رجب سنة 1415 ه (ص90 - 101). *الحديث الثاني وهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبصر رجلا يصلي وحده فقال: "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟، فصلى معه رجل ". والاستدلال به ممنوع، فإن هذا الحديث يدل على تكرار الجماعة التي هي جماعة صورية، فإن الذي فرغ من صلاته، إذا صلى مع من لم يصل صلاته، يكون متنفلا ولم يكره أحد من العلماء، وأما الجماعة الحقيقية، بأن الإمام والمقتدي يجمعون، وهم لم يصلوا قبل ذلك فلا يدل الحديث على جوازها. أعلم أن صلاة الجماعة عبادة في وقت معين فلا تقضى (وقضاءها هنا تكرارها) إلا بأمر جديد، والأمر الأول إنما هو متعلق بالإمام الراتب، ويؤيده هدي السلف وحرصهم على الجماعت معهم. والراجح هو ما ذهب إليه المكرهون ولكن مع تحقق العلة المذكورو حيث تفرقة الكلمة أو تقاعد القوم عن الجماعة الأولى ولا يكون ذلك إلا في مسجد له إمام ومؤذن راتبا. وانظر تفصيل ذلك من خلال الأدلة وأقوال العلماء في هذه الرسالة. وانظر: "المبدع (2).(6/2837)
جماعة لما فيه من التقاطع وشق العصا وتفريقاة الجماعة وتشتيت الكلمة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. انتهى [1ب].(6/2840)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرامين وصحبه وسلم.
اعلم أن ما سأل عنه السائل من صدور ما يصدر عن بعض المبتدعين (1) من تفريق جماعة المسلمين في المساجد التي تقام فيها جماعة كبرى مع إمام يؤم بهم، فيأتي بعض من لا رغبة في تكاثر الثواب، وتعاظم الأجر، فيعمل هو وواحد أو اثنين أو أكثر إلى جانب المساجد فيجتمعون، فلذا من عمل الآخرة إلى إشغال الدنيا، أو تثاقلا لطاعة، وزهدا في الأجر لعظيم، ورغوبا عن هدى النبوة، وما استمر عليه العمل في أيام الرسالة، وأيام الخلفاء الراشدين. والحاصل أن مثل هذا لا يحل من وجوه:
الأول: أنه لم يسمح في أيام النبوة أن رجلا ترك الجماعة الكبرى في المسجد الذي تقام فيه، وبادر بجماعة قبل قيام الجماعة الكبرى، ولا يمكن أحد أن يمكر ذلك البتة.
الوجه الثاني: أنه قد صحة الأدلة كتابا وسنتة في النهي عن التفريق على العموم (2)
_________
(1) قيل أن أول ظهور تعدد الجماعات في المسجد الواحد كان في القرن السادس الهجري ولم بكن في القرون التي قبله.
انظر: "فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك " لشيخ عليش المصري (1 - 94) ط: 1378 ه.
(2) (منها): قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153].
(ومنها): قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103].
(ومنها): قوله تعالى: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى: 13].
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (60) من حديث عرفجه الأشجعي قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من أتاكم وأمركم جميع على رجلا واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ".(6/2841)
وهو منه، بل أقبح أنواعه.
الوجه الثالث: أنه قد ثبت وصح ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "هم بأن يحرق على المتخلفين عن الجماعة الكبرى بيوتهم بالنار ". كما ثبت في الصحيحين (1) وغيرهما (2) من طرق، ومثل هؤلاء الذين سبقوا الجماعة الكبرى بالتجميع، ثم ذهبوا إلى
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (644) ومسلم رقم (251/ 651).
(2) كمالك (1 رقم 3) واحمد (2) وأبو داود رقم (548، 549) والنسائي (2) وابن ماجه رقم (791). وهو حديث صحيح.
قال الحافظ في " الفتح" (2): من فوائد وبركات صلاة الجماعة:
1 - إجابة المؤذن بنية الصلاة في الجماعة.
2 - والتبكير في أول الوقت.
3 - المشي إلى المسجد بالسكينة.
4 - دخول المسجد داعيا.
5 - صلاة التحية عند دخوله كل ذلك بنية الصلاة في الجماعة.
6 - انتظار الجماعة وما فيها من أجر. قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة " أخرجه البخاري رقم (647) من حديث أبي هريرة.
7 - صلاة الملائكة، واستغفارهم له.
8 - شهادتهم له.
9 - إجابة الإقامة.
10 - السلام من الشيطان حين يفر من الإقامة.
11 - الوقوف منتظرا إحرام الإمام، أو الدخول معه في أي هيئة وجده عليها.
12 - إدراك تكبيرة الإحرام كذلك.
13 - تسوية الصفوف، وسد فروجها.
14 - جواب الإمام عند قوله، سمع الله لمن حمده.
15 - الأمن من السهو غالبا وتنبيه الإمام إذا سها بالتسبيح أو الفتح عليه. .
16 - حصول الخشوع، والسلامة عما يلهي غالبا.
17 - تحسين الهيئة غالبا.
18 - احتفاف الملائكة به.
19 - التدريب على تجويدالقراءة وتعليم الأركان والأبعاض.
20 - إظهار شعائر الإسلام.
21 - إرغام الشيطان بالاجتماع على العبادة والتعاون على الطاعة.
22 - السلامة من صفة النفاق، ومن إساءة الظن بأنه ترك الصلاة رأسا.
23 - رد السلام على الإمام.
24 - الانتفاع باجتماعهم على الدعاء والذكر وعود بركة الكامل على الناقص.
25 - قيام نظام الألفة بين الجيران وحصول تعاهدهم في أوقات الصلوات.
فهذه خمس وعشرون خصلة ورد في كلا منها أمر أو ترغيب يخصه وبقي منها أمران يختصان بالجهرية وهما الانصات عند قراءة الإمام والاستماع لها والتأمين عند تأمينه ليوافق تأمين الملائكة.
*قال السيد مهدي الكلاني: "دل هذا الحديث بعبارة النص على أن الجماعة الأولى هي التي ندب إليها الشارع، فلو كانت الثانية والثالثةإلى غير ذلك مشروعة لم يهم بإحراق بيوت من تخلف عن الجماعة الأولى لاحتمال إدراكه الثانية أو الثالثة وهلم جرا، فثبت به أن وجوب الإتيان إلى الجماعة الأولى يستلزم كراهة الثانية في المسجد الواحد حتما بتة. .. ".
انظر التعليق على "الحجة على أهل المدينة" (1/ 81). "إعلاء السنن" (4/ 246 - 247).(6/2842)
بيوتهم وخرجوا من المسجد أشد تفريقا للمسلمين، وإعراضا عن جماعتهم من المتخلفين عن المسجد الذين يصلون جماعة من غير حدود، وأعظم مواحشة بين المؤمنين وإيغالا لصدورهم، ومخالفة بين قلوبهم.
الوجه الرابع: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أنكر على من لم يدخل الجماعة معتذرا بأنه قد صلى في رحله، ثم أمر بالدخول مع جماعة من المسلمين كما ثبت في الحديث يزيد بن الأسود (1)، وأبي ذر، وعبادة لئلا يتظهر بمخالفة المسلمين في
_________
(1) أخرجه أحمد (4 - 161) والترمذي رقم (219) والنسائي (2 - 113 رقم 858) وابو داود رقم (575) وابن حبان رقم (1565) والبيهقي في "السنن الكبرى " (2، 301) والحاكم في "المستدرك" (1). وهو حديث صحيح.(6/2843)
عدم الدخول في جماعتهم. وهذا الذي قام قبل قيام الجماعة الكبرى في المسجد، ثم صلى هو وجماعة هو أشد تظاهرا بمخالفة المسلمين، وأعظم ابتداعا.
الوجه الخامس: قد ثبت النهي عن الخروج من المسجد بعد النداء (1) وذلك لأنها مخالفة للمسلمين وتفريقا لجماعتهم، وإعراضا عن الطاعة. والذي يسابق الجماعة، واعتزل جميع المسلمين أشد مخالفة، وأعظم تظهرا بما يخالف ما هو من أعظم مقاصد الشارع.
الوجه السادس: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر بتسوية الصفوف، ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلبوكم ". وهو في الصحيح (2)، فجعل الاختلاف في التساوي في الصف علة لاختلاف القلوب، وهذا الذي قام يصلي قبل قيام جماعة الكبرى يتسبب عن فعله من اختلاف القلوب زيادة على ما يسبب عن الاختلاف في الاصطفاف.
الوجه السابع: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صح عنه النهي للمنتظرين لصلاة أن يقوم قبل أن يروه، وهو في. ......................
_________
(1) أخرج مسلم في صحيحه رقم (655) وأبو داود رقم (536) والترمذي رقم (204) وقال حديث حسن صحيح. والنسائي رقم (685) وابن ماجه رقم (733) وهو حديث صحيح.
عن أبي الشعفاء قال: كنا مع أبي هريرة في المسجد فخرج رجل حين أذن المؤذن للعصر، فقال أبو هريرة، أما هذا فقد عصى أبا القاسم.
انظر: "فتح الباري" (2) باب رقم (24).
(2) أخرجه البخاري رقم (717) ومسلم رقم (436) من حديث نعمان بن بشير.
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (723) ومسلم رقم (433) ومن حديث أنس أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة".
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (664) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله يتحلل الصف من ناحية إلى ناحية، يمسح صدورنا ومناكبنا ويقول: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ".
وهو حديث صحيح.(6/2844)
الصحيحين (1) وغيرهما.؟ فكيف بمن قام وانفرد واحد أو أكثر بجمعة مستقلة!.
الوجه الثامن: أنه قد صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أما يخشى إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله راسه برأس حمار، أو يحول الله صورته صورة حمار "وهو في الصحيحين (2) وغيرهما (3). وسبب ذلك ما فيه من المخالفة للإمامة فكيف من اعتزال جماعة من المسلمين وصلى في مسجدهم [2أ] منفردا أو جماعة المسلمين!.
الوجه التاسع: أنه قد ثبت: " أن صلاة الرجل مع الرجل أذكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أذكى من صلاته مع الرجل " (4) ثم كذلك ما كثرت الجماعة
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (637) وطرفاه رقم (638، 909) ومسلم في صحيحه (604) من حديث عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني ".
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (691) ومسلم رقم (427).
(3) كأحمد (2) وابو داود رقم (623) والترمذي رقم (582) والنسائي (2).
قال القرطبي في "المفهم " (2): ومقصود هذا الحديث الوعيد بمسخ الصورة الظاهرة أو الباطنة على مسابقة الإمام بالرفع، وهذا يدل على أن الرفع من الركوع والسجود مقصود لنفسه وأنه ركن مستقل كالركوع والسجود. وقال الحافظ في "الفتح" (2): وظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام لكونه توعد عليه بالمسخ وهو أشد العقبات، وبذلك حزم النووي في شرح المهذب، ومع القول بالتحريم فالجمهور على أن فاعله يأثم وتجزئ صلاته.
(4) أخرجه أبو داود رقم (554) وفي النسائي (2 رقم 843) وابن حبان في صحيحه رقم (2056) والطيالسي رقم (554) والدارمي (1) وابن خزيمة (2 رقم 1477) والحاكم (1 - 248) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3، 67، 68) وأحمد (5) وعبد الرزاق في " المصنف (1 رقم2004) من طرق، وقال ابن حجر في"التلخيص" (2 رقم 554): "وصححه ابن السكن والعقيلي والحاكم وذكر الاختلاف فيه وبسط ذلك، وقال النووي: أشاره على بن المديني على صحته. وعبد الله ابن ابي بصير قيل: لا يعرف لأنه ما روي عنه غير أبي إسحاق السبيعي. قلت: لم يوثقه إلا ابن حبان (5) والعجلي (ص251) لكن أخرجه الحاكم من رواية العيزار بن حريس عنه فارتفعت جهالة عينه، وأورد له الحاكم شاهدا من حديث قباث بن هشيم وفي إسناد نظر. .. ". والخلاصة: أن الحديث حسن(6/2845)
فهذا الذي صلى وهو ومن معه قبل قيام الجماعة الكبرى قد أحرم نفسه، وأحرم من معه الأجر الأعظم، والثواب الأكثر معا ما عليه من إثم الابتداع، وإثم تفريق جماعة المسلمين.
الوجه العاشر: أنه قد ثبت عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن منتظر الصلاة في صلاة " (1) فهذا الذي قام يصلي بجماعة أو مفردا قبل قيام الجماعة الكبرى قد فات الأجر العظيم هو ومن خدعه بالقيام معه، فإنه كانوا في صلاة بالانتظار لقيام الجماعة، فأخرجه هذا المبتدع، وأحرم نفسه الأجر العظيم وصار هو وهم بما فعلوه من التفريق مبتدعين، فبينما هم في طاعة حكم الصلاة في الأجر إذا صاروا في بدعة استحقوا بسيئها الوزر.
الوجه الحادي عشر: أنه قد صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "النهي عن الاختلاف عن الأئمة، وأن ذلك سبب اختلاف الصور والقلوب ". كما ثبت في الصحيحين (2). ...............................
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (647) ومسلم رقم (649) وأبو داود رقم (559) والترمذي رقم (603) وابن ماجه رقم (876) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه به خطيئته، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه، اللهم صلي عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة
(2) أخرج البخاري رقم (717) ومسلم في صحيحه رقم (436) من حديث النعمان بن بشير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ".(6/2846)
وغيرهما. ولا شك ولا ريب أن هذا الاعتذال عن الجماعة الكبرى قبل قيامها له مدخل في التأثير في اختلاف القلوب، وإغار الصدور، والمواحشة بين المسلمين زيادة على ما في تلك المخالفة المذكورة في الحديث.
الوجه الثاني عشر: أنه قد ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "أنه نهى الذي ركع قبل أن يصل في الصف، وقال له: زادك الله حرصا ولا تعد (1) ووجه ذلك ما فيه نوع من التخالف الذي ثبت النهي عنه. ولا شك أن الانفراد بجماعة مستقلة قبل قيام الجماعة الكبرى في ذلك المسجد فيه من الختلاف التفريق ما لا يشك فيه ومن المواحشة بين جماعة المسلمين، وتكدير خواطرهم، وتنكيد صدورهم ما لا يخفي على الفطن. والحاصل أن جمع القلوب، والتأليف بين المسلمين وقطع ذرائع التفريق، والتخالف مقصد من مقاصد الشرع عظيم، وأصل من أصول هذا الدين كبير. يعرف ذلك من يعرف ما كان عليه الهدي النبوي، وما تطابقت عليه أدلة القرآن والسنة، فقد كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا يرى مدخلا من مداخل الاختلاف، ولا بابا من الابواب الموصلة غل التفريق، والتخالف إلا قطع ذريعته وهتك وسيلته، وسد ".
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (783) وابو داود في "السنن" (684) عن أبي بكرة رضي الله عنه انه انتهى إلى النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو راكع فركع قبل أن يصل على الصف فقال له النبي زادك الله حرصا ولا تعد".(6/2847)
بابه، وردم مدخله. لا يشك في هذا شاك، ولا يمتري في ممتر حتى كان ذلك ديدنه وهجيراه في جميع شؤونه. انظر وصح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من أنه خرج على أصحابه - رضي الله عنهم - وهم يختلفون في القرآن فقال: " اقرؤا في كل حسن " (1) وأرشدهم في موطن أخر أنهم يقرؤون ما دامت قلبوهم مؤتلفة غير مختلفة (2)
وبالجملة لو تعرضنا لجميع الأدلة الدالة على أن الاختلاف من أعظم المنكرات في جميع الحالات، وعلى كل التقديرات لطال زيل هذا الجواب إلى غاية، وبعد الوصول فيه إلى نهاية، ولكن اقتصرنا ها هنا على ما ذكر وما ورد من قطع ذرائع الاختلاف في خصوص الصلاة.
الوجه الثالث عشر: ما ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "أنه خرج على أصحابه فرآهم حلقا متفرقين فقال: ما لي أراكم عزين (3) "أي متفرقين مستخلفين بكثر الراء وتخفيفها جمع عزة هي الجماعة المتفرقة. أخرجه مسلم (4) وأحمد (5)
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (5062) عن عبد الله أنه سمع رجلا يقرأ آية، سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلافها فأخذت بيده، فانطلقت به إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " كلا كما محسن فاقرآ " أكبر علمي قال: " فإن من كان قبلكم اختلفوا فأهلكهم ".
(2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (5060) وأطرفه رقم (5061، 7364، 7365) ومسلم رقم (2667). عن جندب بن عبد الله عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " اقرؤا القرآن ما ائتلفت قلبوكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه ".
(3) (عزين) جمع عزة، وهي الحركة المجتمعة من الناس، وأصلها عزوة فحذفت الواو وجمعت جمع السلامة على غير قياس، كتبين وبرين في جمع تبة وبرة. "النهاية " (3).
(4) في صحيحه رقم (119).
(5) في "المسند" (5).(6/2848)
وأبو داود (1)، والنسائي (2)، وابن ماجه (3). ففي [2ب] هذا الحديث ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ومن كان له أدنى بصيرة، وأقل فهم للحق ورجوع إليه، وإقلاع عن الباطل فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنكر عليهم مجرد التفريق في المسجد، ووقوف كل طائفة وحدها منفردة عن الأخرى، مع أنهم سيجمعون في صلاة واحدة، وعلى إمام واحد، فكيف لو كان هذا التفريق بأن تصلي كل طائفة وحدها معتزلة عن الجماعة الكبرى! فإن هذا أعظم شأنا لاختلاف القلوب، والتفرق في الدين، والمواحشة بين المؤمنين، لا يشك في ذلك من له أدنى معرفة للمقاصد الشرعية، وأقل بصيرة تفهم بها مدلولات الكلمات النبوية.
وأما من طبع على قلبه يطابع التعصب، وعلى صدره الرين فهو بعيد عن الانقياد للحق، والإذعان للصواب. وهذا الاستفهام منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هو استفهام استنكار وتوبيخ وتقريع، وهو يحمل النهي والمتبالغ عن الكون عن تلك الحالة التي رآهم عليها. هذا جواب السائل في مجرد التجميع من البعض قبل قيام الجماعة الكبرى في ذلك المسجد. أما لو كان الانفراد بالتجميع حال قيام الجماعة (4) الكبرى فهذا أشد منكر
_________
(1) في " السنن " رقم (129).
(2) في " السنن " (3/ 4) مختصرا.
(3) في " السنن " رقم (1045). كلهم من حديث جابر بن سمرة. وهو حديث صحيح. قال القرطبي في " المفهم " (2/ 62): " مالي أراكم عزين " جماعات في تفرقة وأمرهم بالائتلاف، والاجتماع، والاصطفاف كصفوف الملائكة وهذا يدل على استحباب تسوية الصفوف وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: إنه من تمام الصلاة من حديث أنس وهو حديث صحيح أخرجه البخاري رقم (719) ومسلم رقم (433).
(4) انظر: حاشية اين عابدين (2/ 37). بتحقيقنا.(6/2849)
وأعظم ابتداعا، وأكثر إثما على من بلغه ذلك إن رآه أن ينزل بهم صودا من العنوفة، وطرقا من التأديب الشرعي. وأما سأل عنه السائل - أرشده الله - عن قيام جماعة من الناس يصلون العصر جماعة بعد الفراغ من صلاة الجمعة في المسجد الذي أقيمت فيه الجمعة، فهذا فعل للصلاة قبل دخول وقتها. والمقرر على العامة بدعائهم إلى القيام إلى الصلاة في ذلك الوقت يستحق العقوبة البالغة، وهذا الأمر منكر مجمع عليه بين جميع المسلمين، وحرام لا يخالف فيه أحد من هذه الأوجه، فإنه إنما سوغ الجمع تقديما للمسافر (1) على ما فيه من ضعف أدلته واحتمالها. والحق تحقيق الصواب الذي صح في
صيغ المسافر بموضع التأخير لا جمع التقديم. وأما المقيم فلم يقل بذلك أحد، ولا أجازه مجيز إلا إذا كان له عذر من مرض أو نحوه، على ما في ذلك من التفاصيل التي لا يتسع المقام لبسطها وأما قيام جماعة على هذه الصفة في جامع من جوامع المسلمين بعد الفراغ من الصلاة الأولى، سواء كانت صفة أو غيرها لغير معذور بين بالأعذار الشرعية فلم يقبل به أحد. وقد جمعنا في هذا رسالة مطولة في أيام قديمة دفعنا بها قول من قال بجواز الجمع مستدلا على ذلك بجمعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من غير مرض، ولا سفر (2). وأوضحنا رواة الحديث فسروه بالحمع الصوري (3) لا بهذا الجمع الذي فهمه من لم يرسخ قدمه في علم.
_________
(1) أخرج البخاري رقم (1112) ومسلم رقم (46/ 704) وأبو عوانة (2/ 351) والبيهقي في " السنن الكبرى " (3/ 161 - 162) وأحمد في " المسند " (3/ 247، 265) والنسائي (1/ 284رقم 586).
عن أنس - رضي الله عنه - إذا ارتحل في سفره قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب ".
الحديث فيه دليل على جواز الجمع بين الصلاتين للمسافر تأخيرا ودلالة على أنه تلا يجمع بينهما تقديما ...
وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهبت الهادوية، وهو قول ابن عباس وابن عمر وجماعة من الصحابة، ويروى عن مالك، وأحمد، والشافعي إلى جواز الجمع للمسافر تقديما وتأخيرا عملا بهذا الحديث في التأخير وبما يأتي في التقديم.
عن معاذ - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عزوة تبوك، فكان يصلي الظهر والعصر معا، والمغرب والعشاء جميعا ".
وهو حديث صحيح أخرجه مسلم رقم (553).
قال الأمير الصنعاني في " السبل " (3/ 118) إلا أن اللفظ محتمل لجمع التأخير لا غير أوله ولجمع التقديم، ولكن. . أخرجه الترمذي رقم (553) وهو حديث صحيح.
عن معاذ قال: " كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعا. وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجل العصر إلى الظهر، وصلى الظهر والعصر جميعا ". فهو كالتفصيل لمجمل رواية مسلم. ثم قال: إذا عرفت هذا فجمع التقديم في ثبوت روايته مقال إلا رواية " المستخرج " لأبي نعيم على صحيح مسلم: إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا، ثم ارتحل. وهو صحيح. أنظر " الإرواء " (3/ 33) فإنه لا مقال فيها. وقد قال ابن حزم في " المحلى " (3/ 173) إلى أنه يجوز جمع التأخير لثبوت الرواية به لا جمع تقديم، وهو قول النخعي، ورواية عن مالك وأحمد ثم أختلف في الأفضل للمسافر هل الجمع أو التوقيت؟ ". فقالت الشافعية ترك الجمع أفضل، وقال مالك: إنه مكروه وقيل يختص بمن له عذر. قال ابن القيم في " زاد المعاد " (1/ 481) لم يكن - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجمع راتبا في سفره كما يفعله كثير من الناس، ولا يجمع حال نزوله أيضا، وإنما كان يجمع إذا جد به السير، وإذا سار عقيب الصلاة كما في أحاديث تبوك. وأما جمعه وهو نازل غير مسافر فلم ينقل ذلك عنه إلا بعرفة ومزدلفة لأجل اتصال الوقوف كما قال الشافعي وشيخنا، ولهذا خصه أبو حنيفة بعرفه، ومن تمام النسك. وأنه سبب. وقال أحمد ومالك والشافعي: إن سبب الجمع بعرفة ومزدلفة السفر، وهذا كله في الجمع في السفر.
(2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (50/ 705) عن ابن عباس قال: " أنه جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر ". قيل لابن عباس: ما أراد من ذلك قال: أراد أن لا يحرج أمته ".
(3) قال القرطبي في " المفهم " (2/ 346 - 347): أن هذا الجمع يمكن أن يكون المراد به بأخير الأولى إلى أن يفرغ منها في آخر وقتها، ثم بدأ بالثانية في أول وقتها، وإلى هذا يشير تأويل أبي الشعثاء في الحديث الذي. أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1174) ومسلم عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال: قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء، قال: وأنا أظنه ". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (543) ومسلم رقم (65) من حديث ابن عباس وفيه: " صليت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة ثمانيا جمعا وسبعا جمعا. أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء ". ويدل على صحة هذا التأويل. أنه قد يفي فيه الأعذار المبيحة للجمع التي هي: الخوف، والسفر والمطر وإخراج الصلاة عن وقتها المحدود لها بغير عذر لا يجوز باتفاق.(6/2850)
الشريعة. على أنه لم يعمل به أحد من علماء الشريعة كما حكاه الترمذي في آخر سننه (1) فقال: إن صيغ ما في كتابه معمول به إلا حديثين فيه أحدهما (2). وقال الإمام المهدي في البحر (3) مثله ويحرم الجمع لغير عذر قيل إجماعا (4)
_________
(1) (5/ 736كتاب العلل رقم 51).
(2) غير واضح في المخطوط. وإليك نص كلام الترمذي " جميع ما في هذا الكتاب من هذا الحديث فهو معمول به، وقد أخذ به بعض أهل العلم ما خلا حديثين: حديث ابن عباس أن النبي وإليك نص كلام الترمذي " جميع ما في هذا الكتاب من هذا الحديث فهو معمول به، وقد أخذ به بعض أهل العلم ما خلا حديثين: حديث ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر بالمدينة، والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ولا مطر، وحديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد الرابعة فاقتلوه " وقد بينا علة الحديثين جميعا في الكتاب.
(3) (1/ 169).
(4) انظر " البحر الزخار " (1/ 169).
فائدة: قال القرطبي في " المفهم " (2/ 343): الجمع: إنما هو إخراج إحدى الصلاتين المشتركتين عن وقت جوازها، وإيقاعها في وقت الأخرى مضمومة إليها. وهو إنما يكون في الصلوات المشتركة الأوقات، وهي الظهر، والعصر والمغرب والعشاء، ولا يكون في غيرها بالإجماع. ثم الجمع متفق عليه، ومختلف فيه. فالأول: هو الجمع بعرفة والمزدلفة. والمختلف فيه: هو الجمع في السفر والمطر، والمرض. فأما الجمع فإليه ذهب جماعة السلف وفقهاء المحدثين، والشافعي وهو مشهور مذهب مالك، وهل ذلك لمجرد السفر؟ أو لا بد معه من جد السير قولان: بالأول: قال جمهور السلف، وعلماء الحجاز وفقهاء المحدثين، وأهل الظاهر. وبالثاني: قال مالك والليث، والثوري والأوزعي وأبي حنيفة وحده الجمع للمسافر وكرهه الحسن وابن سيرين، وروي عن مالك كراهيته وروى عنه، أنه كرهه للرجال دون النساء وأحاديث ابن عمر، وأنس ومعاذ - تقدم ذكرها - وهي حجة على أبي حنيفة لكن أبو حنيفة تأولها على أن الصلاة الأولى وقعت في آخر وقتها، والثانية وقعت في أول وقتها، وهذا يجوز باتفاق. وقد جاء في حديث معاذ في كتاب أبي داود أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا، ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء. وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب وهذا حجة ظاهرة للجمهور في الرد على أبي حنيفة. وأما الجمع لعذر المطر: فقال به مالك والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وجمهور السلف: بين المغرب العشاء، وأما بين الظهر والعصر: فقال بالجمع بينهما في المطر الوابل الشافعي، وأبو ثور، والطبري، وأبو حنيفة، وأصحابه وأهل الظاهر. ولليث، من الجمع في صلاتي الليل والنهار. وأما الجمع لعذر المرض فقال به مالك. إذ خاف الإغماء على عقله، وأبي نافع الجمع لذلك، وقال لا يجمع قبل الوقت، فمن أغمي عليه حتى ذهب وقته لم يجب عليه قضاؤه ومنعه أيضًا أشهب، والشافعي. قال الشوكاني في " السيل الجرار " (1/ 185): " ولقد ابتلي زمننا هذا من بين الأزمنة وديارنا هذه من بين ديار الأرض بقوم جهلوا الشرع، شاركوا في بفض فروع الفقه، فوسعوا دائرة الأوقات، وسوغوا للعامة أن يصلوا في غير أوقات الصلاة، فظنوا أن فعل الصلاة في غير أوقاتها شعبة من شعب التشيع وخصلة من خصال المحبة لأهل البيت فضلوا وأضلوا. وأهل البيت - رحمهم الله براء من هذه المقالة مصونون عن القول بشيء منها ولقد صارت الجماعات الآن تقام في جوامع صنعاء للعصر بعد الفراغ من صلاة الظهر والعشاء في وقت المغرب وصار غالب العوام لا يصلي الظهر والعصر إلا عند اصفرار الشمس، فيا لله وللمسلمين من هذه الفواقر في الدين ". اهـ(6/2852)
وفي هذا المقدار لمن له هداية. والله ولي التوفيق. تم في الأصل.
كتبه المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله له - انتهى [3أ].(6/2854)
جواب عن الذكر في المسجد
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(6/2855)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (جواب عن الذكر في المسجد).
2 - موضوع الرسالة: في فقه الصلاة.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وبعد: فإنها وصلت إلي منظومة من علماء مدينة زبيد تتضمن السؤال عن الذكر في المسجد. ...
4 - آخر الرسالة:. .. وسماء الأرض والجبال للذكر لا يكون إلا عن الجهر به كمل هذا من تحرير المجيب، وكان التحرير أول يوم من سنة (1207هـ) بعناية المجيب قرة عين المسلمين عز الدين محمد بن علي الشوكاني حفظه الله، ومكن لبسطته، ورفع درجته بحوله وقوته.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 4 صفحات.
7 - المسطر: الأولى: 36 سطرا. الثانية: 29 سطرا. الثالثة: 28 سطرا. الرابعة: 22 سطر.
8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(6/2857)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وبعد: فإنها وصلت إلي منظومة من علماء مدينة زبيد (1) تتضمن السؤال عن الذكر في المسجد، والتلميح إلى بعض علمائها بأنه منع من ذلك، ومنع من الصلاة بالمساجد في الليل، ومن صلاة العيد في المسجد فأجبت بما لفظه (2):
نظام هو الدر الثمين منضدا ... يسائل عمن أم للذكر مسجدا
ولا شك أن الذكر في كل موطن ... على كل حال شرعه قد تأكدا
به جاءت الأخبار نصا وظاهرا ... وجاء به نص الكتاب مرددا
وما جاء للتعليم فيما علمته ... خصوص ولا الإطلاق منها تقيدا
إذا لم يكن فيه تشوش خاطر ... لمن صار في محرابه متعبدا
ولا بالغا حد الصراخ كأنه ... نداء أصم ليس يعلم بالندا
ولا كان مصحوبا مشوبا ببدعة ... يصير بها لحط الشريعة أرمدا
ومن قال ما جاز اجتماع بمسجد ... لذكر فقل هات الدليل المشيدا
فقد جاء عن خير البرية فعله ... وسل مرسلا إن ثبت عنه ومسندا
ومن قوله قد صح في غير دفتر ... وقام إليه في المواطن مرشدا
وأي نزاع في هدى عن محمد ... أتانا فدت نفسي ومالي محمدا
_________
(1) زبيد: واد مشهور في تهامة ثم البحر الأحمر ومآتيه من جبال العدين وأودية بعدان والأودية النازلة من شرق وصاب. وهو من أخصب وديان اليمن تربة ونماء وتبلغ مساحته الزراعية 25 ألف هكتار.
وقد أطلق اسم الوادي على مدينة زبيد الواقعة في منتصفه وكانت تعرف قديما باسم (الحصيب) نسبة إلى الحصيب بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حيدان بن يقطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميع بن سبا. انظر: " معجم البلدان والقبائل اليمنية " (ص 286 - 288).
(2) انظر هذه الأبيات في ديوان الشوكاني (ص 159 - 160).(6/2861)
وإن قال وصف الجهر أوجب كونه ... ابتداعا عنك ادعاء مجردا
وقد جاء عن جمع من الصحب أنه ... بقول رسول الله والفعل شيدا
وكان به عرفان تتميم فرضه ... كذلك قال الحبر قولا مجودا
وأقبح شيء نهي عبد مقرب ... أراد بجوف الليل أن يتهجدا
يقوم إلى المحراب والناس نوم ... ليركع للخلاق طورا ويسجدا
فذا باتفاق للخلائق منكر ... وعن فعله رب البرية هددا
ومنع صلاة العيد من غير مقتض ... قبيح إذا أم البرية مسجدا
وقد كان خير الرسل إلا لعاذر ... يروح إلى نحو المصلى على المدى
وغير مناف للجواز فضيلة ... لجنابه عند الهداة أولي الهدى
أخرج البخاري (1) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله
_________
(1) في صحيحه رقم (7405).
قلت: وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (2675) والترمذي رقم (3603) وابن ماجه رقم (3822) وأحمد (3). قال القرطبي في " المفهم " (7/ 5 - 7) قوله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي ". قيل: معناه ظن الإجابة عند الدعاء، وظن المغفرة عند الاستغفار، ظن قبول الأعمال عند فعلها على شروطها تمسكا بصادق وعده وجزيل فضله ويؤيده قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ".
وكذلك ينبغي للتائب والمستغفر، وللعامل أن يجتهد في القيام بما عليه من ذلك، موقنا أن الله تعالى يقبل عمله، ويغفر ذنبه فإن الله تعالى قد وعد بقبول التوبة الصادقة، والأعمال الصالحة، فأما لو عمل هذه الأعمال وهو يعتقد، أو يظن أن الله تعالى لا يقبلها، وأنها لا تنفعه، فذلك هو القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله وهو من أعظم الكبائر، ومن مات على ذلك وصل إلى ما ظن منه.
فأما ظن المغفرة والرحمة مع الإصرار على المعصية، فذلك محض الجهل، والغرة وهو يجر إلى مذهب المرجئة. .. والظن: تغليب أحد المجوزين بسبب يقتضي التغليب، فلو خلا عن السبب المغلب لم يكن ظنا بل غرة وتمنيا.
" وأنا معه حين يذكرني " أصل الذكر: التنبه بالقلب للمذكور، والتيقظ له، ومنه قوله: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) [البقرة: 40] أي تذكروها وهو في القرآن كثير، وسمي القول باللسان ذكرا لأنه دلالة على الذكر القلبي، غير أنه قد كثر اسم الذكر على القول اللساني حتى صار هو السابق للفهم وأصل مع الحضور والمشاهدة كما قال تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) [الحديد: 4] أي مطلع عليكم ومحيط بكم وقد ينجر مع ذلك الحفظ والنصر، كما قيل في قوله تعالى: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) أي أحفظكما ممن يريد كيدكما. وإذا تقرر هذا فيمكن أن يكون معني: " وأنا معه إذا ذكرني " أن ذكر الله في نسفه مفرغة مما سواه رفع الله عن قلبه الغفلات، والموانع، وصار كأنه يرى الله ويشاهده وهي: الحالة العليا التي هي: أن تذكر الله كأنك تراه فإن لم تصل إلى هذه الحالة، فلا أقل من أن يذكره وهو عالم بأن الله يسمعه ويراه، ومن كان هكذا كان الله له أنيسا إذا ناجاه، ومجيبا إذا دعاه وحافظا له من كل ما يتوقعه ويخشاه، ورفيقا به يوم يتوفاه، ومحلا له من الفردوس أعلاه وقوله: " فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي " النفس: اسم مشترك يطلق على نفس الحيوان، وهي المتوفاة بالموت والنوم، ويطلق ويراد به الدم، الله تعالى منزه عن ذينك المعنيين، ويطلق ويراد به ذات الشيء وحقيقته كما يقال: رأيت زيدا نفسه عينه أي ذاته، ويطلق ويراد به الغيب كما في قوله تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) [المائدة: 116] أي: غيبك.(6/2862)
وسلم -: " أنا عند ظن عبدي بي [1]، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسي ذكرته في نفسي، وأن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ". قال الأسيوطي: والذكر في ملأ لا يكون إلا على جهر. وأخرج مسلم (1) والترمذي (2) عن أبي هريرة أيضا، وأبي سعيد قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ما من قوم يذكرون الله إلا حفت بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، نزلت عليهم السكينة،
_________
(1) في صحيحه رقم (2700).
(2) في " السنن " رقم (2945). قلت: وأخرجه اين ماجه رقم (225). وهو حديث صحيح.(6/2863)
وذكرهم الله فيمن عنده ".
وأخرج مسلم (1) والحاكم (2)، واللفظ له عن أبي هريرة أيضًا قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن لله ملائكة سيارة، وفضلاء يلتمسون مجالس الذكر في الأرض، فإذا أتوا على مجلس ذكر حف بعضهم بعضا بأجنحتهم إلى السماء فيقول الله: من أين جئتم؟ فيقول: ربنا جئنا من عند عبادك يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويهللونك ويسألونك الجنة. فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا يارب. فيقول: فكيف لو رأوها!؟ فيقول: ومم يستجيرونني وهو أعلم؟ فيقول: من النار، فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها! ثم يقول: اشهدوا أني قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوني، وأجرتهم مما استجاروني فيقول: ربنا إن فيهم عبدا خطاء جلس إليهم وليس معهم فيقول: وهو أيضًا قد غفرت له هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ". وأخرجه البخاري (3) أيضا.
وأخرج مسلم (4) والترمذي (5) من حديث معاوية بن أبي سفيان: " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده فقال: إنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة ".
وأخرج الشيخان (6) من حديث ابن عباس قال: إن رفع الصوت لخير ذكر حين
_________
(1) في صحيحه رقم (2689).
(2) في " المستدرك " (1/ 495).
(3) في صحيحه رقم (6408).
(4) في صحيحه رقم (2701).
(5) في " السنن " (3379). وقال: حديث حسن غريب. قلت: وأخرجه النسائي (8/ 249). وهو حديث صحيح.
(6) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (841) ومسلم في صحيحه رقم (583) واللفظ للبخاري.
اختلف العلماء رحمهم الله في مشروعية الجهر بالذكر التكبير وغيره عقب الصلوات الخمس على قولين: القول الأول: يشرع الجهر بالذكر، التكبير وغيره عقب السلام في الصلوات المفروضة وهو قول الحنابلة والظاهرية وبعض الحنفية إذا لم يشوش على غيره. حاشية ابن عابدين (1/ 530، 660).
قال في " كشاف القناع " (1/ 427) وقال الشيخ - ابن تيمية: ويستحب الجهر بالتسبيح والتحميد والتكبير عقب كل صلاة. وقال في " المبدع " (1) ويسحب الجهر بذلك.
وقال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (22): وفي الصحيح أن رفع الصوت بالتكبير عقب انصراف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنهم كانوا يعرفون انقضاء صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك. وقال ابن حزم في " المحلى " (4): ورفع الصوت بالتكبير إثر كل صلاة حسن. واستدلوا بما يأتي: حديث ابن عباس وقد تقدم وهو حديث صحيح. ما ورد في الحديث القدسي: " وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم " وقد تقدم، وهو حديث صحيح. القول الثاني: وهو الراجح. والله أعلم. لا يشرع الجهر بالذكر عقب الصلاة. وهو قول المالكية والشافعية وبعض الحنفية والحنابلة.
انظر: " المبدع " (1).
جاء في كتاب " كفاية الطالب الرباني " (2)
فائدة: قال القرافي كره مالك - رضي الله عنه - وجماعة من العلماء لأئمة المساجد والجماعات: الدعاء عقب الصلاة المكتوبة جهرا للحاضرين. قال النووي في" المجموع " (3): إن الذكر والدعاء بعد الصلاة يستحب أن يسر بهما إلا أن يكون إماما يريد تعليم فيجهر ليتعلموا فإذا تعلموا أو كانوا عالمين أسره. وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم (5): وحمل الشافعي رحمه الله هذا الحديث على أنه جهر وقتا حتى يعلمهم صفة الذكر لا أنهم جهورا دائما قال فاختار للإمام والمأموم أن يذكر الله تعالى بعد الفراغ من الصلاة ويخفيان ذلك إلا أن يكون إماما يريد أن يتعلم منه فيجهر حتى يعلم أنه قد تعلم منه ثم يسير. وانظر: " فتح الباري " (2/ 326) و" الأم " للشافعي (1) واستدلوا بما يأتي. حمل الحديث - ابن عباس - على التعليم. قولة تعالى: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) [الإسراء: 110]. خوف الرياء والعجب. وانظر: " المجموع " (3). " الأم " للشافعي (1/ 150).(6/2864)
ينصرف الناس من المكتوبة. كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -(6/2865)
قال: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته (1).
وأخرج البزار (2) والحاكم في المستدرك (3)، وقال: صحيح عن جابر قال: خرج علينا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال: " يا أيها الناس، إن لله سرايا من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر، في الأرض فارتعوا في رياض الجنة، قالوا: وأين رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر ".
وأخرج البيهقي (4) عن أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - " إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا: قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر ". وأخرج .............................
_________
(1) قال القاضي عياض في " إكمال المعلم بفوائد مسلم " (2/ 535) والظاهر أنه لم يكن يحضر الجماعة وكان يعلمها بمشاهدة ذلك ولأنه كان صغيرا ممن لا يواظب على صلاة الجماعة، ولا يلزمه ذلك.
قال الحافظ في " الفتح " (2): " وقال غيره: يحتمل أن يكون حاضرا في أواخر الصفوف فكان لا يعرف انقضاءها بالتسليم، وإنما كان يعرف بالتكبير ".
(2) عزاه إليه الهيثمي في " المجمع " (10/ 77).
(3) في " المستدرك " (1/ 494) وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله: (عمر ضعيف).
قال الهيثمي في " المجمع " (10/ 77): " رواه أبو يعلى، والبزار وفيه عمر بن عبد الله مولى عفرة وقد وثقه غير واحد. وضعفه جماعة، وبقية رجال الصحيح ".
وهو حديث ضعيف.
(4) في " شعب الإيمان " رقم (529).(6/2866)
البيهقي (1) عن عبد اللهبن مغفل قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ما من قوم يجتمعون يذكرون الله إلا ناداهم مناد من السماء: قوموا لكم، فقد بدلت سيئاتكم حسنات ".
وأخرج البيهقي في الشعب (2) عن أبي الجوزاء قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أكثروا ذكر الله حتى يقول المنافقون [2] أنكم مراؤون " هذا مرسل. أخرج الحاكم (3)، صححه، والبيهقي في الشعب (4) عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أكثر ذكر الله حتى يقولوا مجنون ".
وأخرج بقي بن مخلد (5) عن عبد الله بن عمرو أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مر بمجلسين يدعون الله ويرغبون إليه، والآخر يعلمون العلم. فقال: " كل المجلسين خير، وأحدهما أفضل من الآخر ". وأخرج البيهقي (6) عن أبي سعيد الخدري عن النبي
_________
(1) في " شعب الإيمان " رقم (533).
قلت: وأخرجه الطبراني في " الأوسط " رقم (3744) وفي " الدعاء " رقم (1920). وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 80) وقال رواه الطبراني " و" الأوسط ". ورجالهما رجال الصحيح.
قلت: إسناده حسن.
(2) (1/ 397رقم 527). وقال هذا مرسل.
(3) في " المستدرك " (1/ 499).
وقال الحاكم: هذه صحيفة للمصريين صحيحة الإسناد، وأبو الهيثم سليمان بن عتبة العثواري من ثقات أهل مصر.
قلت: جمهور الحفاظ على تضعيف هذه الصحيفة. ودراج ضعيف في روايته عن أبي الهيثم خاصة. والخلاصة أن الحديث ضعيف.
(4) (1 رقم 526).
(5) ما زال مخطوطا فيهما أعلم.
(6) في " الشعب " (1 رقم 535).
قلت: وأخرجه أحمد في مسنده (3). بسند ضعيف.(6/2867)
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " يقول الرب تعالى يوم القيامة: سيعلم أهل الجمع اليوم من أهل الكرم، فقيل: من أهل الكرم يا رسول الله؟ قال: مجالس الذكر في المساجد ".
وأخرج البزار (1) والبيهقي (2) بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " عبدي إذا ذكرتني خاليا ذكرتك خاليا، وإذا ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم وأكثر ".
وأخرج البيهقي (3) عن عقبة بن عامر أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل يقال له ذو البجادين: " إنه أواه " وذلك أنه كان يذكر الله.
_________
(1) في مسنده (4 رقم 3065 - كشف).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 78) وقال رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير بشر بن معاذ العقدي وهو ثقة.
(2) في " الشعب " (1/ 406 رقم 551).
وقال: ومنها الذكر الخفي وهو ضربان: أحدهما: الذكر في النفس وقد قال الله عز وجل: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً) [الأعراف: 205]. والآخر: ما دار به اللسان ولم يسمعه إلا صاحبه قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي ".
(3) في " الشعب " (1/ 416رقم 580).
وفي " الشعب ": وذلك أنه كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء وفي رواية رقم (581) ذو النجادين قال: أبو أحمد إنما هو البجادين قال البيهقي رحمه الله هو كما قال. وإنما سمي بذلك لأنه لما أسلم نزع ثيابه فأعطته أمه بجادا من شعر مر فشقه باثنين فاتزر بأحدهما وارتدى الآخر فسمي بذلك. وإسناده مرسل.(6/2868)
وأخرج البيهقي (1) عن جابر أن رجلا كان يرفع صوته بالذكر. فقال رجل: لو أن هذا خفض من صوته، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إنه أواه ".
وأخرج البيهقي (2) عن زيد بن أسلم قال: قال ابن الأذرع: انطلقت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ليلة فمر برجل في المسجد يرفع صوته، قلت: يا رسول الله، عسى أن يكون هذا مرائيا، قال: " لا ولكنه أواه ". وأخرج الحاكم (3) عن شداد بن أوس. قال: أنا عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذ قال: " ارفعوا ايديكم فقولوا: لا إله إلا الله " ففعلنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم إنك بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها، ووعدتني عليها الجنة إنك لا تخلف الميعاد، ثم قال: أبشروا فإن الله قد غفر لكم ".
وأخرج البزار (4) عن أنس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن لله سيارة من الملائكة يطلبون حلق الذكر، فإذا توا عليهم حفوا بهم، فيقول الله تعالى غشوهم
_________
(1) في " الشعب " (1/ 418 رقم 585).
(2) في " الشعب " (1/ 416 رقم 581). قلت: وأخرجه أحمد (4/ 337) من طريق هشام بن سعد، به. وأورده الهيثمي في " " المجمع " (9) وقال رواه أحمد ورجال الصحيح.
(3) في " المستدرك " (1/ 501) وسكت عليه الحاكم وقال الذهبي: راشد ضعفه الدارقطني وغيره ووثقه دحيم.
قلت: وأخرجه أحمد (4) وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (1) وقال: رواه أحمد والطبراني والبزار ورجاله موثقون.
وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 18) وعزاه لأحمد فقط وقال: فيه راشد بن داود وقد وثقه غير واحد وفيه ضعيف، وبقية رجاله ثقات.
(4) في مسنده (4 - 5 رقم 3062 - كشف).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 77) وقال رواه البزار من طريق زائذة بن أبي الرقاد عن زياد النميري، وكلاهما وثق على ضعفه فعاد هذا إسناده حسن.(6/2869)
برحمتي، فهم الجلساء لا يشقى جليسهم ".
وأخرج الطبراني (1)، وابن جرير (2) عن عبد الله بن سهل حنيف، قال: نزلت على رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وهو في بعض أبياته: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) (3) الآية فخرج يلتمسهم، فوجد قوما يذكرون الله تعالى، فلما رآهم جلس معهم.
وأخرج أحمد (4) قال: كان سلمان في عصابة يذكرون الله فمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فكفوا فقال: " إني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأجببت أن أشارككم فيها ". وأخرج الأصبهاني (5) عن أبي رزين العقيلي أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال له: " ألا أدلك على ملاك الأرض الذي تصيب به خير الدنيا والآخرة؟ قال: بلى، قال: عليك بمجالس الذكر، وإذا خلوت فحرك لسانك [3] بذكر الله ".
وأخرج ابن أبي الدنيا (6)، والبيهقي (7)، والأصبهاني (8) عن أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لأن أجلس مع قوم يذكرون الله بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ولأن أجلس مع قوم يذكرون الله
_________
(1) عزاه إليه السيوطي في " الدر المنثور" (5/ 381).
(2) في " جامع البيان " (9جـ 15/ 235).
(3) [الكهف: 28].
(4) في الزهد كما في " الدر المنثور " (5).
(5) في " الترغيب والترهيب " (2/ 172رقم 1375).
وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " (1/ 366 و367).
(6) لم أعثر عليه؟!
(7) في" الشعب " (1/ 409 رقم 559) وفي " السنن " (8/ 79).
(8) في " الترغيب والترهيب " (2/ 176 رقم 1380). بسند ضعيف.(6/2870)
بعد العصر إلى أن تغيب الشمس أحب إلى من الدنيا وما فيها ".
وأخرج أحمد (1) وأبو داود (2)، والترمذي (3) وصححه، والنسائي (4)، وابن ماجه (5) عن السائب أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " جاءني جبريل فقال: مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية ".
وأخرج الحاكم (6) عن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من دخل السوق فقال لا إله إلا الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير كبت له ألف ألف حسنة، ومحي عنه ألف ألف سئية ورفع له ألف ألف درجة، وبني له بيتا في الجنة ".
وأخرج المروزي عن عبيد بن عمير قال: كان عمر يكبر في بيته فيكبر أهل المسجد، فيكبر أهل السوق حتى ترتج منى تكبيرا (7)
وأخرج أيضًا عن ميمون بن مهران قال: أدركت الناس وإنهم ليكبروا في العشر حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها " (8).
_________
(1) في " المسند " (4/ 55).
(2) في " السنن " رقم (1814).
(3) في " السنن " رقم (829).
(4) في " السنن " رقم (6/ 162).
(5) في " السنن " رقم (2922). وهو حديث حسن.
(6) في " المستدرك " (1/ 538). بسند ضعيف.
(7) أخرجه البخاري في صحيحه معلقا (2/ 416الباب رقم 12 التكبير أيام مني، وإذا غدا إلى عرفة ".
(8) أخرجه البخاري في صحيحه معلقا (2/ 457 رقم الباب 11) فضل العمل في أيام التشريق.
قال الحافظ في " الفتح " (2/ 462): " وقد اشتملت هذه الآثار على وجود التكبير عقب الصلوات وغير ذلك من الأحوال، وفيه اختلاف بين العلماء في مراضع: فمنهم من قصر التكبير على أعقاب الصلوات، ومنهم من خص ذلك بالمكتوبات دون النوافل، ومنهم من خصه بالرجال دون النساء، وبالجماعة دون المنفرد، وبالمؤداة دون المقضية، وبالقيم دون المسافر وبساكن المصر دون القرية وظاهر اختيار البخاري شمول ذلك للجميع. انظر: " المحلى " (7) و" المغني" (3/ 293).(6/2871)
وأخرج البيهقي (1) عن ابن مسعود قال: " إن الجبل لينادي الجبل باسمه فلان هل مر بك اليوم ذاكر؟، فإن قال نعم أستبشر، قم قرأ عبد الله: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ. .. الآية) (2) وقال: أتسمعون الزور، ولا تسمعون الخير ". وأخرج ابن جرير في تفسيره (3) عن ابن عباس في قوله تعالى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) (4) قال: إن المؤمن إذا مات بكى عليه من الأرض الموضع الذي يصلي فيه ". واخرج ابن أبي الدنيا (5) عن أبي عبيد قال: " إن المؤمن إذا مات تنادت بقاع الأرض: عبد الله المؤمن مات، فتبكي عليه الأرض والسماء، فيقول الرحمن: ما يبكيكما على عبدي؟ فيقولان: ربنا لم يمش في ناحية منا قط إلا وهو يذكر. وسماع الأرض والجبال للذكر لا يكون إلا عن الجهر به.
كمل هذا من تحرير المجيب، وكان التحرير أول يوم من سنة 1207.
بعناية المجيب قرة عين المسلمين، عز الدين محمد بن علي الشوكاني - حفظه الله ومكن لبسطته، ورفع درجته بحوله وقوته -. آمين.
_________
(1) في " الشعب " (1 رقم 538).
(2) [مريم: 90].
(3) في " جامع البيان " (13جـ 25 - 125).
(4) [الدخان: 29].
(5) عزاه إليه السيوطي في" الدر المنثور " (7/ 413).(6/2872)
سؤال: هل يجوز قراءة كتب الحديث كالأمهات في المساجد مع استماع الدين لا فطنة لهم؟ وجواب الشوكاني عليه.
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق
أبومصعب(6/2873)
وصف المخطوط: (أ)
1 - عنوان الرسالة: (سؤال: هل يجوز قراءة كتب الحديث كالأمهات في المساجد مع استماع العوام الذين لا فطنة لهم وجواب الشوكاني عليه).
2 - موضوع الرسالة: فقه المسجد.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده. وبعد: فأنه ورد إلى سؤال في شهر القعدة سنة سبع مائتين وألف حاصله: هل يجوز. ..
4 - آخر الرسالة:. .. كل ما يحتاج إليه البيان فلا مفسدة كمل من خط المؤلف والمجيب القاضي العمدة الفهامة عز الدين والمسلمين محمد بن علي الشوكاني حفظه الله كما حفظ به الذكر المبين وجعله قرة عين للعاملين وأحيا به شريعة سيد المرسلين وجزاه عنا وعن المسلمين أفضل ما جزى محمد عن أمته آمين آمين.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 4 صفحات.
7 - المسطرة: الأولى: 7 أسطر.
الثانية: 28 سطرا.
الثالثة: 29 سطرا.
الرابعة: 25 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 - 14 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(6/2875)
وصف المخطوط (ب):
1 - عنوان الرسالة: (سؤال هل يجوز قراءة كتب الحديث كالأمهات في المساجد مع استماع العوام الذين لا فطنة لهم. وجواب الشوكاني عليه).
2 - موضوع الرسالة: فقه المساجد.
3 - أول الرسالة: الحمد لله ورد إلى سؤال في شهر القعدة سنة 1202هـ حاصله: هل تجوز قراءة كتب الحديث كالأمهات في المساجد، مع استماع العوام الذين لا فطنة لهم. ..
4 - آخر الرسالة:. .. فلا مفسدة. منقولة من خط المجيب العلامة محمد بن علي الشوكاني أبقاه الله، وبارك في عمره، وحسبنا الله وكفى، ونعم الوكيل، ونعم المولى، ونعم النصير. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. 5 - نوع الخط: خط نسخي رديء لكنه واضح.
6 - عدد الصفحات: 3 صفحات.
7 - المسطرة: الأول: 25 سطرا.
الثانية: 39 سطرا.
الثالثة: 24 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الأول من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(6/2878)
[بسم الله الرحمن الرحيم] (1)
الحمد لله [وحده فإنه] (2) ورد إلي سؤال في شهر القعدة سنة 1207 [سبع ومائتين وألف] (3) حاصله هل تجوز قراءة كتب الحديث الأمهات في المساجد، مع استماع العوام الذين لا فطنة لهم، ثم أطال السائل الكلام، وذكر ما يلزم من ذلك من اعتقاد العوام للظواهر، وما تدل عليه أحاديث الصفات، والتمسك بالأحاديث الضعيفة.
ثم وسع الكلام وشنع بشع على من فعل ذلك، ولعله يشير إلى المسؤول (4) - غفر الله له - فإني كنت في هذه الأيام أملي في صحيح البخاري، وسنن أبي داود، وفي الجامع المقدس، ويجضر القراءة جماعة من العلماء، ويحضر للاستماع جماعة من العامة. فأجبت ما حاصله، الجواب عن هذا السؤال يستدعي بسطا طويلا، لأنه يتشعب الكلام فيه شعب كثيرة لا نفي بها إلا نعي بها إلا رسالة مستقلة، ولكني هاهنا أقتصر على ذكر أبحاث تتسع لها بياضة السؤال فأقول: اعلم أن التدريس في كتب السنة (5) المطهرة في جوامع المسلمين ما زال مستحسنا عند جميع أهل الإسلام، منذ زمن الصحابة إلى الزمن الذي نحن فيه، معدودا باتفاقهم من أعظم أنواع القرب (6)، وأعلى مراتب التعليم والتعلم.
_________
(1) زيادة من (أ).
(2) زيادة من (أ).
(3) زيادة من (أ).
(4) أي الشوكاني رحمه الله.
(5) إن مجالس إملاء الحديث منذ بدء تدوين الحديث النبوي، كانت تعقد له المجالس فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يملون الحديث على الناس وهم يكتبونها بين أيديهم، وفي التابعين وأتباعهم جماعة كانوا يعقدون مجالس الإملاء.
وعن يحيى بن أبي طالب. سمعت يزيد بن هارون في المجلس ببغداد وكان يقال: إن في المجلس سبعين ألفا. أخرجه السمعاني في " أدب الإملاء والاستملاء " (1 رقم 44).
وأنظر: " أدب الإملاء ولاستملاء " للسمعاني (1/ 150 - 161)، وانظر: " تذكرة السامع والمتكلم " لابن جماعة (ص 142 - 143).
(6) قال السيوطي في" تدريب الراوي " (1/ 45): " فإن علم الحديث أفضل القرب إلى رب العالمين، وكيف لا يكون وهو بيان طريق خير الخلق وأكرم الأولين والآخرين " ا هـ.(6/2881)
أما في سائر أقطار المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وتباين آرائهم فأمر لا ينكره أحد، وأما في قطرنا هذا المختص أهله بالتمسك بمذاهب الأئمة الأطهار من ذرية النبي المختار، فما زالت مساجده عامرة من قديم الزمن بالقراءة في كتب الحديث القديم منها والحديث، أما في كتب الأئمة من الآل الكرام فأمر لا ينكره أحد من الخواص والعوام.
وأما في كتب المحديثين فما زال الأمر كذلك أيضًا منذ خروجها إلى اليمن إلى الآن يأخذها أهل كل قرن عمن قبلهم، ويروونها لمن بعدهم على مرور العصور، كرور الدهور. ولنتبرك بذكر طائفة من الأئمة الأكابر من أهل بيت النبوة، ممن قرأ كتب الحديث من الأهات وغيرها، وأقرأها. وقرر العلماء على قراءتها في المساجد وغيرها، ورواها بأسانيده المتصلة بمصنفيها فنقول: من جملتهم الإمام الأعظم المنصرو بالله (1) عبد الله بن حمزة، والإمام الأجل أحمد بن سليمان (2)، والأمير الكبير الحسين بن محمد [1] صاحب الشفاء (3)، والإمام الأكبر المؤيد بالله يحيى بن حمزة (4)، والإمام الأعظم محمد بن علي (5) المعروف بصلاح الدين، والإمام النحرير أحمج بن يحيى. ................................
_________
(1) تقدم ترجمته.
(2) أحمد بن سليمان بن محمد الحسني اليمني [500 - 566هـ]. من كتبه كتاب " أصول الأحكام في الحلال والحرام ". " حقائق المعرفة ".
انظر: المصدر السابق (ص 390 رقم 388).
(3) الأمير الحسين بن (بدر الدين) محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى اليحيوي الهادوي الحسني اليمني. (582 - 662هـ).
(4) تقدم ترجمته.
(5) الإمام محمد بن علي بن محمد بن علي المشهور بصلاح الدين (739 - 793هـ).
من كتبه: " رسالة إلى أهل مكة ". " قصيدة الرسالة الدافعة والحجة البالغة ".
" أعلام المؤلفين الزيدية " (ص 972 رقم 1042)، " أئمة اليمن " (1/ 261 - 278).(6/2882)
المرتضى (1)، والإمام الكبير محمد بن إبراهيم الوزير (2)، وأخوه المدقق الهادي بن إبراهيم (3)، والإمام الخليل عز الدين بن الحسن (4) وأهل بيته، والإمام المتبحر شرف الدين بن شمس الدين (5) وأهل عصره، والإمام العلامة الحسن بن علي بن داود (6)، والإمام المجدد المنصور بالله القاسم بن محمد (7)، والإمام المجتهد المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم (8)، والإمام المحقق الحسين بن القاسم (9) وجماعة من أعيانهم، وأكابر أشياعهم،
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) تقدمت ترجمته.
(3) الهادي بن إبراهيم بن علي الوزير (758 - 822هـ).
جرت بينه وبين أخيه محمد بن إبراهيم الوزير صاحب العواصم محاورات ومناظرات وعكف على التأليف، والتدريس والإفتاء.
من مصنفاته: " الأجوبة المذهبة عن المسائل المهذبة ". " تراجم آل الوزير ".
انظر: " الضوء اللامع " (10)، " أعلام المؤلفين الزيدية " (ص 1069 رقم 1149).
(4) عز الدين بن الحسن بن الحسين عدلان، المؤيدي اليحيوي ( ... - 1361 هـ) عالم فقيه أصولي كان مولده ونشأته بهجرة فللة وتولى القضاء في رازح.
من كتبه: " شرح على الغاية في أصول الفقه في مجلدين ولم يكلمه "، " التحفة السنية في مهمات المسائل الأصولية ".
" أعلام المؤلفين الزيدية " (ص645رقم 671).
(5) تقدمت ترجمته.
(6) تقدمت ترجمته.
(7) تقدمت ترجمته.
(8) تقدمت ترجمته.
تنبيه: قال ابن تيمية في مجموعة " الرسائل والمسائل " (1 /ج3) وكثير من الكتب المصنفة في أصول علوم الدين وغيرها تجد الرجل المصنف فيها في المسألة العظيمة كمسألة القرآن والرؤية والصفات والمعاد وحدوث العالم وغير ذلك يذكر أقوالا متعددة. والقول الذي جاء به الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان عليه سلف الأمة ليس في تلك الكتب ولا عرفه مصنفوها ولا شعروا به وهذا من أسباب توكيد التفريق والاختلاف بين الأمة وهو ما نهيت الأمة عنه، كما في قوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران: 105 - 106).
قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة. وقد قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ) [الأنعام: 159]. وقال سبحانه وتعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) [البقرة: 176].
وقد خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ فقال: " أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا: أن ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، انظروا ما أمرتم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاجتنبوه ".
(9) تقدمت ترجمته. تنبيه: قال ابن تيمية في مجموعة " الرسائل والمسائل " (1 /ج3) وكثير من الكتب المصنفة في أصول علوم الدين وغيرها تجد الرجل المصنف فيها في المسألة العظيمة كمسألة القرآن والرؤية والصفات والمعاد وحدوث العالم وغير ذلك يذكر أقوالا متعددة. والقول الذي جاء به الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان عليه سلف الأمة ليس في تلك الكتب ولا عرفه مصنفوها ولا شعروا به وهذا من أسباب توكيد التفريق والاختلاف بين الأمة وهو ما نهيت الأمة عنه، كما في قوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران: 105 - 106).
قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة. وقد قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ) [الأنعام: 159].
وقال سبحانه وتعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) [البقرة: 176]. وقد خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ فقال: " أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا: أن ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، انظروا ما أمرتم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاجتنبوه ".(6/2883)
أضعاف أضعاف هؤلاء. ومن لم يعرف حقيقة الحال أو داخله رتب فيما ذكرنا فليطالع تواريخ هؤلاء الأئمة، وينظر في مسموعاتهم وأسانيدهم ومؤلفاتهم، فإنه عند ذلك يعلم صحة ما حكيناه. وإذا نقر بالإجماع على هذه الصحة التي ذكرناها فكون العامة يحضرون إملاء الحديث لا يصلح أن يكون مانعا من قراءة كتب الحديث في المساجد والمشاهد والمحافل لأمور:
الأول: أن حضورهم في مجالس إملاء الحديث ما زال منذ قديم الزمان، فكان الإجماع على قراء ة كتب السنة في المساجد أو غيرها إجماعا على جواز حضورهم وعدم صلاحية كونه مانعا.
الثاني: أنا نعلم بالضرورة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يلقي هذه الأحاديث التي تجدوها في كتب الحديث إلى الصحابة معهم الخاصة والعامة، والعالم والجاهل. ولو كان مجرد سماعهم لإملاء الأحاديث في المساجد وغيرها مانعا من التدريس في كتب الحديث لكان أيضًا مانعا من إلقائه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هذه الأحاديث(6/2884)
إلى عوام الصحابة، لأن العلة واحدة، واللازم باطل والملزوم مثله. أما الملازمة فللاشتراك في تلك العلة، وأما بطلان اللازم فبالإجماع.
فإن قلت: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يبين متشابه الأحاديث لعوام الصحابة، لأنه لا يجوز عليه أن يقررهم على اعتقاد الباطل قلت: ونحن نقول: كذلك ينبغي للمحدث أن يعرف العامة الذين يحضرون قراءة ما كان مرادا به خلاف ظاهره (1)،
_________
(1) تنبيهات لابد منها بين يدي المحدث:
1 - الحذر من وضع الأحاديث في غير موضعها وعليه أن يحذر من سوء الفهم للأحاديث الصحاح والحسان التي وردت في كتب السنة فحرفها بعض الناس عن مواضعها.
2 - الحذر من دعاة التشكيك في الأحاديث الصحيحة.
3 - الحذر من الأحاديث الموضوعة والواهية.
وقد حذر علماء السنة من رواية الحديث الموضوع إلا مع التنبيه عليه، وبيان أنه موضوع ليحذر منه قارئه أو سامعه.
قال الإمام النووي " تحرم رواية الحديث الموضوع مع العلم به في أي معنى كان سواء الأحكام والقصص والترغيب والترهيب وغيرها إلا مبينا أي مقرونا ببيان وضعه.
علما أن العلماء الذين أجازوا الاستشهاد بالضعيف في فضائل الأعمال لم يفتحوا الباب على مصراعيه وإنما وضعوا شروطا ثلاثة:
1 - ألا يكون الحديث شديد الضعف حيث يكون واهيا قريبا من الموضوع.
2 - أن يندرج تحت أصل شرعي معمول به، ثابت بالقرآن الكريم والسنة الصحيحة.
3 - ألا يعتقد عند الاستشهاد به ثبوته عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل يعتقد الاحتياط وبناء على الشروط الثالث لا يجوز للمستشهد أن يضيف الحديث الذي استشهد به إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصيغة الجزم والقطع. بل عليه أن يقول، روي عن كذا، أو نقل عن كذا، أو ورد عن كذا. .. وما أشبه من صيغ التضعيف والتمريض وأما قوله. قال رسول الله كذا فمردود وغير جائز وغير لائق.
انظر: " تدريب الراوي " للسيوطي (2/ 118 - 124).
أخرج البخاري في صحيحه رقم (100) ومسلم رقم (2607) عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إن الله لا يقبض العلم أنتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما أتخذ الناس رؤوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ".
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 195): وفي هذا الحديث الحث على حفظ العلم والتحذير من ترئيس الجهلة، وفيه أن الفتوى هي الرياسة الحقيقية وذم من يقدم عليها بغير علم ".(6/2885)
وما كان مؤولا، أو منسوخا، أو ضعيفا، أو مخصصا، أو مقيدا، أو لا يدعهم يتمسكون بما لا يحل التمسك به، لأن المفروض أن المحدث المذكور متأهل لذلك، وأنه قد بلغ إلى رتبة يصلح عندها للتحديث وأما إذا كان غير متأهل لبيان ما ذكرنا فإنما هو وهم كما قال الشاعر:
كبهيمة عمياء قاد زمامها ... أعمى على عوج الطريق الجائر
الأمر الثالث: من الأدلة الدالة على جواز إملاء الحديث بمحضر من العامة هو أنا نعلم قطعا أن القرآن الكريم مشتمل على آيات في الصفات، وأحكام متشابهات، مثل ما اشتملت عليه السنة من ذلك أو أكثر، فلو كان استماعهم للحديث لا يجوز لتلك العلة لكان استماعهم للقرآن وتعليمهم إياه لا يجوز، لأن العلة واحدة، وهو خرق لإجماع المسلمين، فإنهم مازالوا يعلمون صبيانهم كتاب الله العزيز، وهم مع كونهم في سن الصبا خالين عن المعارف العلمية هم أيضًا خالون عن كمال العقل الذي له مدخل في الفهم والتمييز، فهل يلتزم السائل - أرشده الله - مثل هذا اللازم الباطل بإجماع المسلمين.
والأمر الرابع: أن جعل سماع العامة مانعا من قراءة كتب السنة في المساجد فيلزم تعطيل المساجد عن كثير من العلوم، منها القرآن وعلومه لما تقدم، ومنها [2] علم الفقه الذي هو عمدة المسلمين في جميع الأقطار وذلك لأن فيه الرخص التي تلحق المتتبع لها بالمتزندقين، فقراءته في المساجد مع حضور العامة مظنة لعملهم بتلك الرخص كما أن قراءة كتب السنة مظنة لعملهم بما يسمعونه مما لا يجوز العمل به. ولا فرق بين المظنتين،(6/2886)
ولا بين ما يستلزمان من اعتقاد العامي مما لا يجوز.
ومنها: علم الكلام، فإن فيه من الشبه والأقوال الباطلة ما لم يكن في غيره من العلوم، حتى أن أهله يحكون فيه أقوال اليهود والنصارى، ومذاهب المعطلة والملحدة، والزنادقة. وقراءتها في المساجد مكانه لحضور العامة المستلزم لا عتقاده مذهبا كفريا، فالتخرج من قراءتها في المساجد أولى من التحرج من قراءة السنة فيها، التي هي أقولا المصطفي، وبيان أفعاله، وهكذا علم أصول الفقه؛ فإنه لا يخلوا عن مباحث إذا سمعها العامي واعتقدها وقع فيما لا يحل، كما يقع بين علمائه من المراجعات في علل القياس، وما فيها من الأمثلة التي لا يراد منها حقيقتها، وإيراد مبطلاتها من المنع، والنقض، والكسر، والقدح، والمعارضة، وغيرها.
وكذلك ما في مقدماته من المسائل التي هي أمهات علم الكلام، ومنها علم المنطق، وعلم الرياضي، وعلم الإلهي، وعلم الطبيعي، فإن المفسدة في سماع العامي لهذه العلوم أشد من المفسدة في سماع ما تقدم من غيرها. الأمر الخامس: أن الأدلة الدالة على وجوب تبليغ الأحكام على علماء هذه الأمة قاضية بوجوب مطلق التبليغ (1) من غير قرق بين عامة المسلمين وخاصتهم، ولا سيما وقد
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (3461) عن عبد الله بن عمرو قال أن رسول الله قال: " بلغوا عني ولو آية وحدثوا ن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار".
وأخرج البخاري في صحيحه (1/ 194معلقا الباب رقم 34) كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر ابن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاكتبه فإني حفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا.
وقد حث - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على طلب العلم وحضور مجالسه:
أخرج البخاري في صحيحه رقم (66) ومسلم رقم (2176) عن أبي واقد الليثي أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذا أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذهب واحد. قال: فوقفا على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة، فجلس فيها وأما الآخر، فجلس خلفهم، وأما الثالث، فأدبر ذاهبا. فلما فرغ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ألا أخبركم عن النفر الثلاثة، أما أحدهم فأوى إلى الله، فآواه الله وأما الآخر، فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه ".
قال القرطبي في المفهم (5/ 508): فقيه: الحض على مجالسة العلماء ومداخلتهم، والكون معهم، فإنهم القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم. وفيه: التحلق لسماع العلم في المساجد حول العالم، والحض على سد خلل الحلقة، لأن القرب من العالم أولى، لما يحصل من ذلك نم حسن الاستماع والحفظ، والحال في حلق الذكر كالحال في صفوف الصلاة يتم الصف الأول فإن كان نقص ففي المؤخر. قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).
وقال تعالى: (رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا).
قال ابن حجر في الفتح: (1/ 141): يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم ورفعه الدرجات تدل على الفضل، إذ المراد به كثرة الثواب. وبها ترتفع الدرجات، ورفعنها تشمل المعنوية في الدنيا بعلو المنزلة وحسن الصيت والحسية في الآخرة بعلو المنزلة في الجنة. وقوله تعالى: (رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) واضح الدلالة في فضل العلم، لأن الله لم يأمر نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم. والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه.
وقال البخاري في صحيحه (1/ 159 - 160) الباب رقم (10): العلم قبول القول والعمل، لقوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ): فبدأ بالعلم، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، ورثوا العلم، من أخذه أخذ بحط وافر، ومن سلك طريقا يطلب به علما سهل الله به طريقا إلى الجنة وقال سبحانه وتعالى: (يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وقال سبحانه: (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)، (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) وقال سبحانه: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " من يرد الله به خيرا يفقهه " " وإنما العلم بالتعلم. .... ".(6/2887)
ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مدح " من بلغ مقالة. ...............................(6/2888)
كما سمعها " (1)، فمن ادعى اختصاص ذلك بالخاصة فعليه الدليل. لا يقال إن هذه المصلحة قد عارضتها مفسدة، وهي ما يعتقده العامي مما لا يجوز لأنا نقول: المروض أن العالم المتصدر للتحديث يقوم ببيان كل ما يحتاج إلى البيان فلا مفسدة.
[منقولة من خط المجيب العلامة محمد بن علي الشوكاني - أبقاه الله، وبارك في عمره - وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وسلم] (2)
[كمل من خط المؤلف والمجيب القاضي العمدة الفهامة عز الدين والمسلمين محمد علي الشوكاني حفظه الله كما حفظ به الذكر المبين، وجعله قرة عين للعالمين. وأحيا به شريعة سيد المرسلين، وجزاه عنا وعن المسلمين أفضل ما جزى محمد عن أمته. آمين آمين] (3).
_________
(1) أخرج أحمد (1/ 437) والترمذي في السنن (2657) وابن ماجه (232) عن عبد الله بن مسعود: قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نضر الله أمرء سمع منا حديثا، فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع " وهو حديث صحيح.
وأخرج أحمد (5/ 183) وأبو داود رقم (3660) والترمذي رقم (2656) وابن ماجه رقم (230) من طريق. عن زيد ابن ثابت: " رحم الله امرءا سمع حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه، ثلاث خصال، لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ".
وهو حديث صحيح واللفظ لأحمد.
(2) زيادة من المخطوط (ب).
(3) زيادة من المخطوط (أ).(6/2889)
إشراق الطلعة في عدم الاعتداد بإدراك ركعة من الجمعة
تأليف عبد الله عيسى بن محمد بن يحيى
حققه وعلق عليه وخرج أحايثه محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(6/2890)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: إشراق الطلعة في عدم الاعتداد بإدراك ركعة من الجمعة.
2 - موضوع الرسالة: فقه الصلاة.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وبعد: فإنه وقعت فيمن أدرك من الجمعة ركعة هل يتمها ظهرا بتكميلها أربعا أم يتم ذلك جمعة. ..
4 - آخر الرسالة:. ... رواه أبو بكر ابن أبي شيبة في " المصنف " من رواية يحيى بن كثير قال: حدثت عن عمر بن الخطاب، قال: إنما جعلت الخطبة مكان الركعتين، فإن لم يدرك الخطبة / فليصل.
5 - نوع الخط: خط نسخي ضعيف
6 - عدد الصفحات: (9) صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 30 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 14 - 16 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثاني من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني). ملحوظة: الرسالة فيها نقص من آخرها في الأصل والله أعلم.(6/2893)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وبعد: فإنه وقعت مذاكرة فيمن أدرك من الجمعة ركعة، هل يتمها ظهرا بتكميلها أربعا أم يتم ذلك جمعة، ويضيف إليها ركعة أخرى كما هي منصوص عليه في بعض الأحاديث؟ فخطر في البال ذكر المسألة تبركا ونقل ذلك من كتب أهل المذهب وغيرهم، وذكر الأحاديث المتعلقة بها، والكلام عليها، ومع جمعها يتبين الراجح من القولين.
فأقول: قال القاضي زيد: مسألة إن أدرك شيئا من الخطبة نحو أن يدرك منها قدر آية أتمها جمعة، وإن لم يدرك شيئا منها لم تصح منه الجمعة، ويصلي أربعا، ويبني على ما أدركه مع الإمام. قد نص عليه الهادي في " المنتخب " (1)، وهو قول عطاء، وطاووس، ومجاهد، ومكحول، وعمدتهم في ذلك أن الخطبة بمثابة ركعتين، وأنها شرط كما سيأتي بيانه.
قال القاضي زيد: فإن قيل يروى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما أدركت فصل وما فاتك فاقض " (2) قلنا كذلك يقول إنه يصلي مع الإمام ما أدرك، ويقضي ما فات، والخلاف في كيفية القضاء، وليس في الخير ما يدل على موضع الخلاف، وما روي عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدركها " (3)، فالمراد به قد أدرك فضلها، فدليل ما ذكرنا، وما روي عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى، ومن أدرك دونها صلى أربعا "؛ فإن أهل العلم ضعفوه، وذكر أبو بكر الرازي في المختصر الطحاوي أنه حديث ضعيف لا يثبته أهل العلم، وما روي: " من أدرك ركعة من صلاة الجمعة
_________
(1) تقدم التعريف به.
(2) أخرج البخاري رقم (908) ومسلم رقم (151/ 602) من حديث أبي هريرة قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا ".
(3) سيأتي تخريجه.(6/2897)
فليضف إليها أخرى " لا يصح، لأن مالكا روى هذا الخبر في الموطأ (1) عن ابن شهاب موقوفا عليه، وقول ابن شهاب ليس بحجة على أن هذا لا يصح من وجه آخر، وذلك لأن أصل الحديث ما روى معمر عن الأوزاعي، عن مالك، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من أدرك ركعة فقد أدركها " (2) قال معمر عن الزهري: ونرى الجمعة من الصلاة، فهذا أصل الحديث، وفيه دلالة على أن ذكر الجمعة ليس من كلام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتهى.
ما نريد نقله وأنه مما يؤيد شرطية سماع شيء من الخطبة بقياسات كثيرة ثبتت، ما المطلوب؟ سيأتي ذكرها إن شاء الله، ثم رجعت متن حديث من أدرك من الجمعة فقد أدركها، فوجدت الشيخين (3)، وأبا داود (4) النسائي (5)، والترمذي (6)، ومالكا (7) كلهم لم يرووه بلفظ الجمعة، بل بلفظ: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة (8). وقال عبد الله بن عمر في روايته (9): " فقد أدركها ": وقد قال ابن عدي (10): إن إسناد من أدرك من الجمعة ركعة غير محفوظ، وقال النووي في الخلاصة (11) إن أحاديث: من أدرك من الجمعة ركعة " ضعيفة. وقال العراقي (12):
_________
(1) (1/ 105رقم 11).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (580) ومسلم في صحيحه رقم (161/ 607).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (580) ومسلم في صحيحه رقم (161/ 607).
(4) في " السنن " رقم (1121).
(5) في" السنن " (1/ 274).
(6) في" السنن " رقم (5924).
(7) في " الموطأ " (1/ 105).
(8) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (580) ومسلم في صحيحه رقم (161/ 607).
(9) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (. .. ).
(10) في " الكامل " (7).
(11) (2/ 670).
(12) انظر " طرح التثريب " (2/ 358 - 363).(6/2898)
وليس للتعرض للجمعة ذكر في حديث أبي هريرة في شيء في من الكتب الستة، إلا عند ابن ماجه (1)، وهو ضعيف. انتهى.
قلت: والكل لم يحملوه على ظاهر، إذ منهم من يقول: المراد إدراك فضيلة الجمعة، كما تشير إليه الزيادة من رواية يونس: " من أدرك من الصلاة [1أ] مع الإمام، أو أدرك الوقت "، كما يشير إليه حديث أبي هريرة: " إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته " (2)، سيأتي. وقد جعلا حديثا واحدا، ومنهم من حمله على إدراك الركوع مع الإمام، وأن الركعة واحدة الركعات كما يشير إليه حديث أبي هريرة عند ابن حبان الآتي (3)، ويشير إليه لفظ عبد الله بن عمر: فقد أدركها " إذا أعيد الضمير إلى الركعة. وقال ابن حجر (4) في باب (5) من أدرك من الصلاة ركعة: والظاهر أن هذا أعم من حديث الباب الماضي قبل عشرة (6) أبواب، يعني حديث أبي سلمة عن أبي هريرة: " إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تقرب الشمس فليتم صلاته " ويحتمل أن تكون اللام (7) عهدية فيتحدا، ويؤيده أن كلامهما من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة، وهذا مطلق، وذال مقيد، فيحمل المطلق على المقيد.
وقال الكرماني (8) في الفرق بينهما: " أن الأول فيمن أدرك من الوقت قدر ركعة،
_________
(1) في " السنن " رقم (1122) وهو حديث صحيح. انظر: " الإرواء " رقم (622).
(2) سيأتي تخريجه.
(3) سيأتي تخريجه.
(4) في" الفتح " (2/ 57).
(5) (2/ 57 - مع الفتح) الباب رقم (29).
(6) (2 - مع الفتح) الباب رقم (17) الحديث رقم (655).
(7) انظر " معترك الأقران في إعجاز القرآن " (2/ 56).
(8) ذكره ابن حجر في " الفتح " (2/ 57).(6/2899)
وهذا فيمن أدرك من الصلاة ركعة كذا قال، وقال بعد (1) ذلك: وفي الحديث أن من دخل في الصلاة فصلى ركعة، وخرج الوقت كان مدركا لجميعها، ويكون كلها أداء، وهو الصحيح ". انتهى.
قال ابن حجر (2): وهذا يدل على اتحاد الحديثين عنده لجعلهما متعلقين بالوقت، بخلاف ما قال أولا. وقال التيمي: معناه من أدرك ركعة فقد أدرك فضل الجمعة. وقيل المراد بالصلاة الجمعة، وقيل غير ذلك.
وقوله فقد أدرك الصلاة ليس على ظاهره بالإجماع، لما قدمناه من أنه لا يكون بالركعة الواحدة مدركا لجميع الصلاة، بحيث تحصل براءة ذمته من الصلاة، فإذا فيه إظهار تقديره فقد أدرك وقت الصلاة، أو حكم الصلاة، أو نحو ذلك. ويلزمه إتمام بقيتها، ومفهوم التقييد بالركعتين من أدرك دون الركعة لا يكون مدركا لها، وهو الذي استقر عليه الاتفاق. انتهى كلام ابن حجر (3).
ولنا المتن الآخر وهو: من أدرك ركعة من صلاة الجمعة فليضف معها أخرى " فتتبعت طرقه فوجدت أنه خرج من ثلاث طرق، من طريق أبي هريرة، وابن عمر، وجابر، وتفرعت الطرق منهم، ولم يخل طريق من مقال، وغالب ذلك عن الزهري.
أما حديث أبي هريرة فرواه ابن ماجه (4) من رواية ابن أبي ذئب عن الزهري، عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى " وهو ضعيف؛ فإنه من رواية عمر بن حبيب عن ابن أبي ذئب، وعمر بن حبيب كذبه ابن. ..................
_________
(1) أي ابن حجر في " الفتح " (2/ 57).
(2) في " الفتح " (2).
(3) في " الفتح " (2/ 57).
(4) في " السنن " رقم (1121) وهو حديث صحيح.(6/2900)
معين (1)، ورواه ابن أبي حبان (2) في صحيحه من رواية عبد الرحمن بن ثابت، عن ثوبان، عن أبيه، عن الزهري، ومكحول عن أبي سلمة، وزاد: " وليتم ما بقي " ورواه ابن عدي (3) في ترجمة عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وضعفه [1ب]، وقال أحمد (4) ليس بشيء. وعن ابن معين (5) في رواية ضعيف، قال العقيلي (6) لا يتابع عبد الرحمن إلا من هو مثله أو دونه، ورواه الدارقطني (7) من رواية صالح بن أبي الأخصر عن الزهري، وزاد قال: " أدركهم جلوسا يصلي أربعا "، وصالح بن أبي الأخصر (8) ضعيف، ضعفه يحيى ابن معين، والنسائي والبخاري، وقال: معاذ: ألححنا على صالح بن أبي الأخصر في حديث الزهري فقال: منه ما سمعت، ومنه ما عرضت، ومنه ما لم أسمع فاختلط علي. ورواه (9) أيضًا بهذه الزيادة ياسين بن معاذ عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة عن أبي هريرة، وفي رواية له عن سعيد أو عن أبي سلمة، وفي رواية له عن اين المسيب فقط، قال الدارقطني (10) ياسين ضعيف. وفي " التلخيص " (11) متروك. وقال ابن حبان (12) يروي الموضوعات، وعند ابن ..........................
_________
(1) كما في " الميزان " (3/ 184).
(2) في صحيحه (4/ 352رقم 1486).
(3) في" الكامل " (2/ 326).
(4) انظر " تهذيب التهذيب " (6 - 137).
(5) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (6/ 137).
(6) في" الضعفاء الكبير " (2/ 326).
(7) في " السنن " (2/ 12رقم 9، 10).
(8) انظر " تهذيب التهذيب " (4/ 332 - 334).
(9) الدارقطني في " السنن " (2 رقم 3).
(10) في " السنن " (2/ 11 رقم 3).
(11) (2/ 85).
(12) في " المجروحين " (3/ 142).(6/2901)
عدي (1) والذهبي رفع هذا الحديث من مناكيره. وراه (2) من رواية عبد الرزاق بن عمر الدمشقي، والحجاج (3) بن أرطأة، وعمر بن قيس برفعهم كلهم عن الزهري عن سعيد بن المسيب، زاد عمر بن قيس (4) وأبو سلمة بلفظ: " من أدرك من الجمعة ركعة - قال عبد الرزاق (5) - فليضف - وقال الآخران (6) - فليصل إليها أخرى " والحجاج بن أرطأة مختلف فيه قال العقيلى (7): كان يرسل عن يحيى بن أبي كثير، فإنه لم يسمع نمه، وعيب عليه التدليس، وقال يحيى بن يعلى: أمرنا زائدة أن يترك حديث الحجاج بن أرطأة.
وقال عبد الله بن أحمد: ثنا أبي: سمعت يحيى يذكر أن حجاجا لم يرى الزهري، وكان سيء الرأي فيه جدا. وأما عبد الرزاق بن عمر فقال مسلم (8): ضعيف. وقال النسائي (9): ليس بثقة، وقال البخاري (10): منكر الحديث. وقال الدارقطني (11): ضعيف من قبل أن كتابه ضاع. وقال ابن مسهر: ضاع الكتابه عن الزهري، فكان يتبعه بعد أن ذهب، فيؤخذ عنه ما سواه.
وأما عمر ................................................................
_________
(1) في " الكامل " (7/ 2641 - 2642).
(2) أي الدارقطني في " السنن " (2/ 10 رقم 1).
(3) عند الدارقطني في " السنن " (2/ 10 رقم 2).
(4) عند الدارقطني في" السنن " (2/ 11رقم 5).
(5) أخرجه الدارقطني في " السنن " (2/ 10 رقم 1).
(6) أي الحجاج بن أرطأة وعمر بن قيس. انظر " سنن الدارقطني " (2/ 10 - 11 رقم 2، 5).
(7) في " الضعفاء " (1/ 277 - 278).
(8) في " الكنى والأسماء " (ص12).
(9) في " الضعفاء والمتروكين " (ص164 رقم 399).
(10) في " التاريخ الكبير " (6/ 130).
(11) في " الضعفاء والمتروكين " رقم (354).(6/2902)
ابن قيس بسندل فتركه أحمد (1)، والنسائي (2)، والدارقطني (3)، قال يحيى (4): ليس بثقة. وقال البخاري (5): منكر الحديث. وقال أحمد (6) أيضا: أحاديثه بواطيل. ورواه (7) أيضًا من رواية سليمان بن أبي داود عن الزهري عن سعيد بن المسيب بلفظ: " من أدرك الركوع من الركعة الأخيرة يوم الجمعة فليضف إليها أخرى، ومن لم يدرك الركوع من الركعة الأخرى فليصل الظهر أربعا " وسليمان بن أبي داود الحرابي ضعيف. وفي " التلخيص " (8) متروك، وضعفه أبو حاتم (9). وقال البخاري (10): منكر الحديث. ونقل الذهبي (11) عن البخاري في ترجمة سليمان بن أبي داود اليماني (12): أن البخاري قال: من قلت فيه منكر الحديث لا تحل رواية حديثه.
ورواه (13) من رواية يحيى بن راشد البراء عن داود بن هند، عن سعيد بن المسيب بلفظ: " من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إلهيا أخرى ". ويحيى بن راشد (14)
_________
(1) كما في " بحر الدم " (ص315رقم 748).
(2) في " الضعفاء والمتروكين " (ص 188رقم 484).
(3) في " الضعفاء والمتروكين " رقم (378).
(4) انظر " الميزان " (3).
(5) في " التاريخ الكبير " (6/ 187).
(6) في " العلل " رقم (1351).
(7) أي الدارقطني في " السنن " (2/ 12رقم 9).
(8) (2/ 85).
(9) في " الجرح والتعديل " (2، 115 - 116).
(10) في " التاريخ الكبير " (2/ 2 / 11).
(11) في " الميزان " (2/ 202رقم 3449).
(12) والذي في " الميزان " (2/ 202) سلميان بن داود اليمامي.
(13) أي الدارقطني في " السنن " (2/ 12 - 13 رقم 13).
(14) انظر " المغني " (2/ 750)، " تهذيب الكمال " (31/ 299).(6/2903)
ضعيف، ضعفه النسائي (1) قال ابن معين (2): ليس بشيء، وقال الدارقطني في " العلل " (3): حديثه غير محفوظ، وقد روي عن يحيى بن سعيد الأنصاري [2أ] أنه بلغه عن سعيد بن المسيب قوله: وهو أشبة بالصواب. ورواه (4) أيضًا من رواية عبيد الله بن تمام، عن سهيل بن صالح (5) ضعيف.
ورواه ابن عدي في " الكامل " (6) في ترجمة محمد بن عبد الرحمن البياضي، عن سعيد ابن المسيب: " من أدرك من صلاة الجمعة ركعة. .. الحديث " وقال: هذا الأسناد غير محفوظ، قال (7): ورواه قوم من الضعاف عن الزهري مثل معاوية الصدفي، وجماعة من أشباقق عن سفيان فذكروا الجمعة، وأورده ابن عدي (8) أيضًا في ترجمة يحيى بن حميد المصري، عن قرة بن عبد الرحمن، عن ابن شهاب عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها قبل أن يقيم الإمام صلبه ".
وقال هذه الزيادة يقولها يحيى، هذا ولا عرف له غيره.
قلت: وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (9) بهذا اللفظ، ذكره ابن حجر في. ..............................
_________
(1) في " الضعفاء والمتروكين " (ص252رقم 668).
(2) انظر " تهذيب الكمال " (31/ 299).
(3) (9/ 210 - 211س 1729).
(4) أي الدارقطني في " السنن " (2/ 13رقم 15).
(5) انظر: " الميزان " (2/ 243رقم 5348).
(6) (6).
(7) ابن عدي في " الكامل " (6/ 2190).
(8) في " الكامل " (7/ 2684).
(9) (3/ 45رقم 1595).(6/2904)
" التلخيص " (1)، ولم يعله، فإن صحت هذه الزيادة فالحديث إنما هو: " من أدرك الركوع مع الإمام "، وأن يعتد بتلك الركعة، وأورده ابن عدي (2) ايضا في ترجمة يزيد ابن عياض، عن أبي حازم، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة بلفظ: " من أدرك سجدة فقد أدرك ركعة ". ويزيد متروك الحديث، قال البخاري (3) وغيره: منكر الحديث، وقال علي (4): كان يكذب، وقال ابن حجر (5): وراه ابن خزيمة في صحيحه (6) من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزهري بذكر الجمعة، وقال في آخره: هذا اللفظ روي على المعنى، فإن قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك من الصلاة " يشمل الجمعة وغيرها، فمن رواه بلفظ الجمعة فقد أتي ببعض أفراده انتهى.
قال السيد العلامة حسين بن مهدي النعمي (7): ولكنه يعكر الجميع ما ذكره معمر عن الزهري من قوله: والجمعة من الصلاة، إذ لو كان هذا عنده لما احتاج واضطر إلى التورك على العموم. انتهى.
قلت: وهذا إنما هو فيمن بيدل لفظ ركعة من الصلاة بركعة من صلاة الجمعة لا يتميز، يدل لفظ بعد أدركها بقوله فليصل إليها أخرى، أو يضيف، أو نحو ذلك؛ فإن هذا لم يكن من رواية الحديث بالمعنى. وقال ابن حجر (8) أيضا: وأحسن طرق هذا
_________
(1) (2/ 87).
(2) في " الكامل " (7/ 2719).
(3) ذكره الذهبي في " الميزان " (4/ 437).
(4) عزاه إليه الذهبي في " الميزان " (4/ 137).
(5) في " التلخيص " (2/ 87).
(6) (3/ 75 - 58 رقم 1622).
(7) لم أعثر له على ترجمة.
(8) في " التلخيص " (2/ 85).(6/2905)
الحديث رواية الأوزاعي على ما فيها من تدليس الوليد. وقد قال ابن حبان في صحيحه (1) أنها كلها معلولة، وقال ابن أبي حاتم في العلل (2) عن أبيه: لا أصل لهذا الحديث، إنما المتن: من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها، وذكر الدارقطني في علله (3) الاختلاف فيه وقال: الصحيح: " من الصلاة ركعة " وقد قال العقيلي - والله أعلم - وأما حديث ابن عمر فرواه النسائي (4)، وابن ماجه (5) من رواية بقية قال النسائي (6) عن يونس، وقال ابن ماجه (7) حدثنا يونس ين يزيد الأعلى عن الزهري، وقال النسائي (8) حديث الزهري عن سالم.
قال النسائي (9) عن أبيه (10) [2ب]، وقال ابن ماجه (11) عن ابن عمر قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أو غيرها فقد تمت (12) صلاته "، وقال ابن ماجه (13): " فقد أدرك الصلاة ". ورواه. ..................................
_________
(1) (4/ 352).
(2) (1/ 172) قال أبي هذا خطأ المتن والإسناد وإنما هو الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها " وأما قوله من صلاة الجمعة فليس هذا في الحديث فوهم في كليهما.
(3) (9 - 217).
(4) في " السنن " (1/ 274 - 275).
(5) في " السنن " رقم (1132).
(6) في " السنن " (1/ 274).
(7) في سننة (1/ 356).
(8) في " السنن " (1/ 274).
(9) في " السنن " (1/ 274رقم 557).
(10) أي سالم عن أبيه.
(11) في " السنن " (1/ 356).
(12) في رواية النسائي (1/ 274رقم 557).
(13) في" السنن " رقم (1123).(6/2906)
الدارقطني (1) بلفظ فليضف إليها أخرى، وقد تمت في رواية (2) فقد أدرك الصلاة قال الدارقطني (3): قال لنا (4): إن أبي هريم لم يروه عن يونس إلا بقية، قال العراقي (5): بل رواه عنه سلميان بن بلال إلا أنه قال: عن ابن شهاب، عن سالم أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أدرك ركعة من الصلوات فقد أدركها إلا أن يقضي ما فاته " هكذا رواه النسائي (6) مرسلا.
قلت: وهذا محمول على أنه أدرك الفضيلة، أو أدرك وقتها بدليل قوله: " إلا أن يقضي ما فاته ". والخلاف في كيفية القضاء. قال العراقي (7): وقد أورده ابن عدي في الكامل (8) في ترجمة بقية بن الوليد متصلا، وقال: هذا الحديث خالف فيه بقية في إسناده ومتنه، فأما الإسناد فقال عن سالم، وإنما هو عن الزهري عن سعيد، وفي المتن قال: من صلى الجمعة، والثقات رووه فلم يذكروا فيه الجمعة انتهى.
وقال ابن أبي حاتم في " العلل " (9) عن أبيه: هذا خطأ في المتن والإسناد، وإنما هو عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا: " من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها ". وأما قوله: " من صلاة الجمعة " فوهم.
قال ابن حجر (10): إن سلم من وهم بقية ففيه تدليس التسوية، لأنه عنعن لشيخه.
_________
(1) في " السنن " (2/ 12 رقم 2).
(2) أي الدارقطني في " السنن " (2/ 12).
(3) في" العلل " (9/ 223).
(4) قال الدارقطني في " العلل " (9/ 223) قال أبو بكر بن أبي داود ولم يروه عن يونس إلا بقية.
(5) انظر " طرح التثريب في شرح التقريب " (2/ 362).
(6) في " السنن " (1/ 275رقم 558).
(7) انظر " طرح التثريب في شرح التقريب " (2/ 361).
(8) (2/ 508 - 509).
(9) (1/ 172رقم 491).
(10) في" التلخيص " (2/ 86).(6/2907)
قلت: أما التدليس (1) التسوية فقد يندفع بالتصريح بحديث في رواية ابن ماجه (2)، قال: حدثنا يونس، وقال النسائي (3): حدثنا الزهري، فبقيت المخالفة على ما هي. وأورده ابن عدي في الكامل (4) يف ترجمة إبراهيم بن عطية الثقفي الواسطي، عن يحيى بن سعيد، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: فهذا غير محفوظ. قال: وإنما يعرف من حديث بقية عن يونس، عن الزهري، عن سالم عن أبيه، والزهري روى هذا الحديث عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وإبراهيم هذا ضعيف، قال ابن حبان (5): منكر الحديث جدا، وكان هشيم يدلس عنه ألأخبار التي لا أصل لها، وهو حديث خطأ. قال العراقي (6): وقد اضطرب فيه بقية، رواه مرة عن الزبيدي، عن الزهري، عن سالم عن أبيه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أدرك من الصلاة ركعة فليصل إليها أخرى " رواه البزار في مسنده (7). وقد خالف (8) الزبيدي الحفاظ في هذا، لأن الزهري يرويه عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وقال ابن حجر: هذا خطأ من تصرف البزار.
_________
(1) تدليس التسوية: وهو أن يجيء المدلس إلى حديث سمعة منت شيخ ثقة، وقد سمعه ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف، وذلك الشيخ الضعيف يروي عن شيخ ثقة. فيعمد المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول فيسقط منه شيخ شيخه الضعيف، ويجعله من رواية شيخه الثقة عن الثقة الثاني، بلفظ محتمل كالعنعنة ونحوها، فيصير الإسناد كله ثقات ويصرح هو بالاتصال بينه وبين شيخه لأنه قد سمعه منه، فلا يظهر حينئذ في الإسناد ما يقتضي عدم قبوله إلا النقد والمعرفة بالعلل ولذلك كان شر أقسام التدليس. " التبصرة والتذكرة " (1/ 179 - 191).
(2) في " السنن " رقم (1123).
(3) في " السنن " (1/ 274).
(4) (1/ 245).
(5) في " المجروحين " (1/ 109).
(6) انظر " طرح التثريب في شرح التقريب " (2/ 361 - 362).
(7) في مسنده (1/ 310رقم 647 - كشف).
(8) قاله البزار في مسنده (1/ 310).(6/2908)
قلت: لعل ابن حجر يعني أن المخالف بقية لا الزبيدي، أو غير ذلك فينظر. قال العراقي (1): وراه الدارقطني (2) أيضًا من رواية عيسى بن إبراهيم، وهو البركي، والطبراني في " الأوسط " (3) من رواية إبراهيم بن سليمان الدباس، وكلاهما عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك ركعة من يوم الجمعة فقد أدركها، وليضف إليها أخرى " وهذا إسناد حسن. ورجاله موثقون انتهى.
فقال في الميزان (4) عيسى بن إبراهيم البركي صدوق، له أوهام، قال ابن معين (5): لا يسوى شيئا، أو ليس حديثه بشيء كما في الكامل [3أ] للحافظ، قال الذهبي (6) قال شيخنا أبو الحجاج: ذلك وهم، إنما ذلك القرشي، وهو أقدم من هذا، قال الذهبي (7): والبركي منسوب إلى سكة البرك من البصرة يروي عن حماد بن سلمة، وطبقته، وعنه أبو داود، وأحمد بن علي الأبار قال أبو حاتم (8): صدوق، وقال النسائي (9): ليس به بأس، مات سنة ثمان وعشرين ومائتين. انتهى.
لكنه يبقى النضر هل لقي شيخه، لأن عبد العزيز القسملي قال فيه ابن حجر في التقريب (10): إنه من الطبقة العاشرة (11) وهذه الطبقة قائمة مقام الشيوخ كما. ......................
_________
(1) انظر: طرح التثريب في شرح التقريب " (2/ 361).
(2) في" السنن " (2/ 13 رقم 14).
(3) (4/ 276 رقم 4188).
(4) (3/ 310 رقم 6549).
(5) انظر " الميزان " (3/ 310).
(6) في " الميزان " (3/ 310).
(7) في " الميزان " (3/ 310).
(8) ذكره الذهبي في " الميزان " (3/ 310).
(9) ذكره الذهبي في " الميزان " (3/ 310).
(10) (1 رقم 1251) " وهو أبو زيد المروزي البصري، ثقة عابد، ربما وهم من السابعة " مات سنة 67هـ.
(11) قال ابن حجر في " التقريب " (1/ 512) من السابعة.(6/2909)
نبه (1) عليه في الخطبة، ولأن بين موت هذا وموت شيخه عبد العزيز بن مسلم (2) إحدى وستين سنة. وقد قرر ابن حجر (3) أيضًا أن عيسى بن إبراهيم ربما وهم كما في عادته في " التقريب " (4) في [. ... ] (5) بما هو الأرجح، فما قيل في الرجل قال العراقي: رواه الدارقطني (6) من رواية يعيش بن الجهم عن محمد بن عبده بن نمير، عن يحيى بن سعيد عن نافع، عن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها أخرى " وأورده ابن عدي في " الكامل " (7) في ترجمة يعيش بن الجهم قال: وهذا الإسناد غير محفوظ. قال العراقي: وقد تقدم من رواية عبد العزيز القسملي، والقسملي احتج به الشيخان، رواه عنه ثقتان عيسى بن إبراهيم البركي (8)، وإبراهيم بن سليمان (9) الدباس انتهى.
قلت: أما عبد العزيز قال في الميزان: بصري ثقة. قال العقيلي (10): في حديثه بعض الوهم. قال الذهبي (11): هذه الكلمة صادقة الوقوع على مثل مالك، وشعبة. ثم ساق العقيلي (12) له حديثا واحدا محفوظا قد خالفه فيه من دونه في الحفظ. قال يحيى (13)
_________
(1) ذكر ذلك ابن حجر في " مقدمة التقريب " (1/ 6).
(2) انظر " التقريب " (1/ 512).
(3) انظر " التقريب " (1/ 512).
(4) انظر " التقريب " (1/ 512).
(5) كلمة غير مقروءة في المخطوط.
(6) في" السنن " (2/ 13رقم 14).
(7) (7/ 2741).
(8) تقدم ذكره وانظر " الميزان " (3/ 310).
(9) انظر: " الجرح والتعديل " (2/ 103).
(10) في " الضعفاء الكبير " (3/ 17رقم 973).
(11) في " الميزان " (2/ 635رقم 5130).
(12) في " الضعفاء " (3/ 17 - 18).
(13) ذكره الذهبي في " الميزان " (2/ 635).(6/2910)
ابن معين عبد العزيز القسملي لا بأس به. وقال أبو حاتم (1): صالح. وقال يحيى بن إسحاق: سمعت منه، وكان من الأبدال. وقال العقدي: كان من العابدين. قال الذهبي (2): روى عن عبد الله بن دينار، وحصين، ورى عنه خلق منهم القعني، مات سنة 167هـ انتهى.
لكن ابن حجر (3) قال ربما رهم. وأما إبراهيم بن سليمان الدباس فذكره ابن أبي حاتم (4)، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. وذكره ابن حبان في الثقات (5)، لكن قال ابن حجر (6): أنه ذكر الدارقطني في العلل (7) الاختلاف فيه، وصوب وقفه انتهى.
لأنه يرويه جعفر بن عون عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر موقوفا، ورواه سفيان عن الأشعث، عن نافع، عن ابن عمر موقوفا أيضا، وتابع الأشعث أيوب عن نافع أيضًا موقوفا.
وأما حديث جابر فرواه ابن عدي في الكامل (8)، في ترجمة كثير بن شنظير عن عطاء بن أبي رباح [3ب] عن جابر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أدرك السجد فقد أدرك الركعة ". قال ابن عدي (9): أحاديثه أرجو أن تكون مستقيمة. انتهى.
_________
(1) ذكره الذهبي في " الميزان " (2/ 635).
(2) في" الميزان " (2/ 635رقم 5230).
(3) في" التقريب " (1/ 512رقم 1251).
(4) في" الجرح والتعديل " (2/ 103).
(5) (8/ 69).
(6) في " التلخيص " (2/ 85).
(7) (9/ 216 - 217).
(8) (6/ 2090).
(9) في " الكامل " (6/ 2091).(6/2911)
والعجب من الحافظ العراقي (1) ميله إلى تصحيح هذا، لأنه إن كان المراد أنه قد أدرك الفضيلة فلا بأس في ذلك، وإن كان المراد أنه قد أدرك بالركعة بكمالها ويعتد بها فهذا أعلى غاية من الشذوذ، وكيف لا يشذ وعند أبي داود (2): " إذا أتيتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا " وأما هو فقد مال إليه كما يظهر من كلامه عليه حيث قال (3): ولم أر من فرق بين إدراكه جالسا إلا أن فهم ذلك من قول أنس - رضي الله عنه - وابن المسيب، والحسن، والشعبي، وعلقمة، والأسود: إذا أدركهم جلوسا صلى أربعا. ولو قال قائل بأنه إذا أدركه قبل الجلوس للتشهد في الرفع من الركوع والسجود والرفع منه صلى ركعة. واستدل بحديث جابر المتقدم ولفظه: من أدرك السجدة فقد أدرك الركعة " فعلى هذا يكون مدركا للركعة بإدراك السجدة إلا أن يراد بالركعة السجدة، ومراد بالركعة كمالها بقراءتها، وفيه نظر. انتهى كلامه.
_________
(1) انظر " طرح التثريب في شرح التقريب " (2/ 361 - 363).
(2) في " السنن " رقم (893).
قلت: وأخرجه الدارقطني في " السنن " (1/ 347) والحاكم (1/ 216، 273، 274) وقال صحيح الإسناد، ويحيى بن أبي سليمان من ثقات المصرين.
وفي الموضع الآخر قال: هو شيخ من أهل المدينة سكن مصر، ولم يذكر بجرح والصواب أن يحيى هذا لم يوثقه غير ابن حبان. وقال فيه البخاري: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: مضطرب الحديث، ليس بالقوي وبهذا تعلم تساهل الحاكم في تصحيحه.
انظر " ميزان الاعتدال " (4/ 383رقم 9535).
وأخرج ابن خزيمة في صحيحه (3/ 57 - 58رقم 1622). وأخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (2/ 89) من طرق عن سعيد بن أبي مريم.
قال البيهقي: تفرد به يحيى بن أبي سليمان المديني، وقد روي بإسناد آخر أضعف من ذلك عن أبي هريرة. وللحديث طرق يتقوى بها. وهو حديث صحيح.
(3) انظر " طرح التثريب في شرح التقريب " (2/ 361 - 363).(6/2912)
قلت: ولم تحفظ هذه الزيادة إلا من طريق زيد بن عياض، وهو متروك، فبطلت دعوى ابن عدي - والله أعلم -. وإن حملت السجدة على ما هي عليه برواية البخاري (1) فهي إذا محفوظة. ولا يخفي ما في كلام العراقي من التكلف والتحمل، وإن قال آخرا: وفيه نظر تتمة للبحث، فقد تقرر في الأصول أن الفعل إذا كان بيانا لواجب مجمل وجب. والخطبة من بيان المجمل المأمور به في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) الآية. ولا شك أن الخطبة من ذكر الله، وقصر الذكر على الصلاة محتاج إلى دليل قاهر، ومما يزيد ذلك ما قال القاضي زيد في وجه قول يحيى - عليه السلام -، وهو ما روي عن عمر- رضي الله عنه - أنه قال: " إنما جعلت الخطبة مكان ركعتين، من لم يدرك الخطبة فليصل أربعا " ولم يؤثر خلافه عن أحد من الصحابة، فوجب أن يجري مجرى الإجماع في كون حجة. فإن قيل هذا يحتاج إلى إخراجه من الكتب المشهورة، قيل له: رواه أبو بكر ابن أبي شيبة في المصنف (2) من رواية يحيى بن
_________
(1) في صحيحه في رقم (556) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته.
قال الخطابي: المراد بالسجدة: الركعة بركوعها وسجودها والركعة إنما يكون تمامها بسجودها فسميت على هذا المعنى سجدة. . "، " فتح الباري " (2/ 58).
(2) (2).
بين يدي الرسالة:
قال الشافعي: ومن أدرك مع الإمام ركعة بسجدتين أتمها جمعة، وإن ترك سجدة فلم يدر أمن التي أدرك أم الأخرى، حسبها ركعة وأتمها ظهرا.
انظر: " مختصر المزني " (ص 27).
وقال الماوردي في " الحاوي " (3 - 51): إذا أدرك مع الإمام ركعة من صلاة الجمعة فقد أدرك بها الجمعة، فيأتي ركعة أخرى وقد تمت صلاته. وإن أدرك أقل من ركعة، لم يكن مدركا للجمعة، وأتمها ظهرا أربعا هذا مذهبنا وبه قال الصحابة: ابن مسعود، وابن عمر، وأنس بن مالك، ومن الفقهاء: الزهري، والثوري، مالك، وأحمد، وزفر، ومحمد بن الحسن. وذكر عن عطاء، وطاوس، ومجاهد، ومكحول: أنه لا يكون مدركا للجمعة إلا بإدرالك الخطبة والصلاة، به قال من الصحابة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
قال الماوردي: والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه: ما وراه ياسين بن معاذ عن الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة ومن أدرك أقل منه صلاها ظهرا ". تقدم مناقشة في الرسالة التي بين يديك. وكل ما ورد بلفظ: الجمعة، هو ضعيف، والله أعلم. وروى ابن شهاب الزهري، عن سعيد المقيري، عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا أدرك أحدكم ركعتين يوم الجمعة فقد أدرك الصلاة، ومن أدرك ركعة فليضف إليها أخرى، وإن لم يدرك ركعة فليصل أربعا ". ولأنه لم يدرك من الجمعة ما يعتد به فوجب أن لا يكون مدركا للجمعة، أصله؛ الإمام إذا انفضوا عنه قيل أن يصلى ركعة وقال أبو حنيفة، وهو أحد أقوالنا: بيني على الظهر. وأما الجواب عن قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وما فاتكم فاقضوا " تقدم تخريجه، فهو: أن يقال: وقد روي: " وما فاتكم فأتموا " فإن كان القضاء حجة علينا فالتمام حجة عليكم، فيسقطان جميعا، أو يستعملان معا، فيكون معنى قوله: " فاقضوا " إذا أدركوا ركعة، " وأتموا ": إذا أدركوا دون الركعة. وأما قياسهم على الركعة، فالمعنى في إدرك الركعة: أنها مما يعتد به وأما قياسهم على صلاة المسافر خلف المقيم، ففيه جوابان: أحدهما: أن التمام خلف المقيم لا يفتقر إلى الجماعة فلم يعتبر فيه إدرك ما يعتد به في جماعة، والجمعة من شرطها الجماعة، فاعتبر في إدراكها إدراك ما يعتد به جماعة. الثاني: أن المسافر خلف المقيم ينتقل من إسقاط إلى إيجاب، ومن إيجاب إلى إسقاط، ومن كمال إلى نقصان، فلم ينتقل إلا بشيء كامل، فسقط ما قالوا ". ثم قال: فإذا تقرر أن إدراك الجمعة يكون بركعة، فلا فرق بين أن يدركه قارئا في قيام الثانية، أو راكعا فيها، في أنه يكون مدركا لركعة يدرك بها الجمعة. فأما إن أدكه رافعا من ركوع الثانية فهو غير مدرك للجمعة، ولا يعتد له بهذه الركعة، فإذا سلم الإمام صلى ظهرا أربعا. فلو أدرك ركعة مع الإمام، وقام فأتي بركعة بعد سلام الإمام صلى ظهرا أربعا ثم قال: فلو أدرك ركعة مع الإمام، وقام فأتى بركعة بعد سلام الإمام، ثم تيقن أنه ترك سجدة من إحدى الركعتين، فإن علم أنه تركها من الثانية أتى بها وسجد للسهو، وسلم من جمعة، وإن علم أنه تركها من الأولى، كانت الأولى مجبورة بسجدة من الثانية، وتبطل الثانية، وعليه أن يأتي بثلاث ركعات تمام أربع، ويسجد للسهو ويسلم من ظهر. وإن شك هل تركها من الأولى أو الثانية؟ عمل على أسوأ أحواله، وأسوأ أحواله أن يكون قد تركها من الأولى، فيجبرها بالثانية، ويبني على الظهر. " المجموع " للنووي (4/ 526). قال أبو حنيفة: يكون مدركا للجمعة بدون الركعة، حتى لو أدرك معه الإحرام قبل سلامه بنى على الجمعة، وبه قال حماد بن أبي سليمان وإبراهيم النخعي استدلالا بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا ". فوجب أن يقتضي ما فاته لحصول ما أدركه. قالوا: ولأنه أدرك الإمام في حال هو فيها باق على الجمعة، فوجب أن يكون مدركا لها كالركعة. قالوا: ولأن كل من تعين فرضه بالإتمام، فإن بإدراك آخر الصلاة مع الإمام كإدراك أولها. أصله: المسافر خلف المقيم يلزمه الإتمام بإدراك آخر الصلاة، كما يلزمه الإتمام بإدراك أولها.
انظر: " البناية في شرح الهداية " (3/ 88 - 90).
قال ابن قدامة في " المغني " (3/ 184): ولنا، ما روى الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أدرك من الجمعة ركعة، فقد أدرك الصلاة ". رواه الأثرم، ورواه ابن ماجه ولفظه: " فيلصل إليها أخرى " وعن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " متفق عليه، ولأنه قول من سمينا من الصحابة، ولا مخالف لهم في عصرهم.
ثم قال (3/ 183 - 184): أكثر أهل العلم يرون أن من أدرك من الجمعة مع الإمام، فهو مدرك لها، يضيف إليها أخرى، ويجزئه، وهذا قول ابن مسعود وابن عمر، وأنس، وسعيد بن المسيب والحسن، وعلقمة، والأسود، عروة، والزهري، والنخعي، ومالك، والثوري والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور وأصاحب الرأي. وقال عطاء، وطاوس، ومجاهد، ومكحول؛ من لم يدرك الخطبة صلى أربعا. لأن الخطبة شرط للجمعة، فلا تكون جمعة في حق من لم يوجد في حقه شرطها. وأما من أدرك أقل من ركعة، فإنه لا يكون مدركا للجمعة، ويصلي ظهرا أربعا، وهو قول جميع من ذكرنا في المسألة السابقة. وقال الحكم وحماد وأبو حنيفة: يكون مدركا للجمعة بأي قدر أدركه من الصلاة مع الإمام، لأن من لزمه أن يبني على صلاة الإمام إذا أدرك، لزمه إذا أدرك أقل منها، كالمسافر يدرك المقيم، ولأنه أدرك جزءا من الصلاة، فكان مدركا لها كالظهر. وقد تقدم ذلك.
قال الإمام مالك في " الموطأ " (1/ 105): وعلى ذلك أدركت أهل العلم ببلدنا، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة ".
وأخرج مالك في " الموطأ " (1/ 105رقم 11) حدثني يحيى عن مالك عن أبن شهاب، أنه كان يقول. من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى، قال ابن شهاب: وهي السنة. وقال أبو عمر في " التمهيد " (7/ 70): وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء فذهب مالك والشافعي، وأصحابهما، والثوري، والحسن بن حي، والأوزاعي وزفر بن الهذيل، ومحمد بن الحسن في الأشهر عنه، والليث بن سعد، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وأحمد بن حنبل إلى أن من لم يدرك ركعة من صلاة الجمعة مع الإمام، صلى أربعا، وقال أحمد: إذا فاته الركوع، صلى أربعا، وإذا أدرك ركعة صلى إليها أخرى، عن غير واحد من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهم ابن مسعود، وابن عمر وأنس، ذكره الأثرم عن أحمد. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إذا أحرم في يوم الجمعة قبل سلام الإمام صلى ركعتين وروي ذلك أيضًا عن إبراهيم النخعي، والحكم بن عتيبة، وحماد، وهو قول داود، واحتجا بقول الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا " قالوا: مأمور بالدخول معه، وروي عن محمد بن الحسن القولان جميعا. والقول الراجح هو: أكثر أهل العلم يرون أن من أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام، فهو مدرك لها، يضيف إليها أخرى ويجزئه وهذا قول ابن مسعود وابن عمر، وأنس وسعيد بن المسيب والحسن وعلقمة والأسود وعروة، والزهري والنخعي ومالك، والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الراي تبعا لما تقدم من عموم الأدلة ضمن الأحاديث التي تقدم ذكرها والتعليق عليها: فمنها " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ".
البخاري رقم (580) ومسلم رقم (607) - والله أعلم - قد تقدم مزيد أدلة.
وانظر: الرسالة رقم (88، 89، 90).(6/2913)
كثير. قال: حدثت عن عمر بن الخطاب قال: " إنما جعلت الخطبة مكان الركعتين، فإن لم يدرك الخطبة [4 أ] فليصل.
إلى هنا الموجود من هذه المخطوطة والله أعلم.(6/2917)
اللمعة في الاعتداد بإدراك الركعة من الجمعة
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(6/2919)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (اللمعة في الاعتداد بإدراك الركعة من الجمعة).
2 - موضوع الرسالة: فقه الصلاة.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين، ورضي الله عن صحبه الأكرمين، وبعد: فإنه وقف الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله له ذنوبه وستر عيوبه على بحث لبعض الأعلام. ..
4 - آخر الرسالة:. ... جمعنا هذه الورقات للكلام على ما فيه من العلماء المنصفين المؤثرين للأدلة على غيرها لكان لنا في الترك مندوحة.
حرر في نهار يوم الخميس لعله سادس شهر شوال سنة 1218هـ.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
7 - عدد الصفحات: 14صفحة + صفحة العنوان.
8 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرا.
9 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(6/2921)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين، ورضي الله عن صحبة الأكرمين، وبعد:
فإنه وقف الحقير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله ذنوبه، وستر عيوبه - على بحث لبعض الأعلام المبرزين في من أدرك ركعة من الجمعة، ولم يدرك الخطبة فأطال في ذلك وأطاب؛ ولكنه طلب مني بعض المستفيدين أن أحرر في هذه المسألة ما يظهر لي، وأوضح ما لدي، فأقول: حاصل ما يتعلق بهذه المسألة ينحصر في مقدمة وعشرة مقاصد.
أما المقدمة:
فاعلم أنه يقع كثيرا في كتب الاستدلال الإهمال للمسالك المعتبرة عند أهل العلم من كون من يدعي كون كذا شرطا (1) لكذا، أو فرضا فيه، أو ركنا له (2)، ونحو ذلك، هو الذي يطلب منه الدليل على إثبات تلك الدعوى، فإن جاء به خالصا عن شوب كدر النقص والمعارضة ونحوهما كانت دعواه صحيحة، وإن لم ينهض بذلك على الوجه المعتبر فالحق بيد المانع ولا يطالب بدليل، بل قيامه في مقام المنع، وثبوته في مركز الدفع يكفيه هذا إذا كان البحث بحث اجتهاد واستدلال، كما هو المفروض فيما نحن بصدده. وأما إذا كان البحث تقليد ونقل فليس على الناقل إلا تصحيح النقل، وهذه الجملة معلومة عند علماء هذا الفن، لا يختلفون في شيء من تفاصليها. فإذا رأيت من هو قائم في مقام المنع، وقد خاطبه المناظر به بالدليل، أو من كان مدعيا وقد تبرع له المانع بالدليل الذي ليس بسند للمنع فاعلم أن ذلك غلط في البحث، وخلط في المناظرة، فإن قيام المدعي في مقام المانع أو المانع في مقام المدعي لا يكون إلا لأحد أمرين:
إما عدم الخبرة بكيفية المناظرة، أو لقصد المغالطة والترويج للشبهة.
_________
(1) سيأتي تعريفه.
(2) سيأتي تعريفه.(6/2925)
إذا تقرر هذا فاعلم أن من ادعى أن الجمعة لا تصح بدون سماع الخطبة فقد ادعى أن الخطبة شرط، أو ركن لها، إذ الذي يقتضي البطلان هو ذلك.
أما الشرط (1) فلكونه وصف ظاهر منضبط يستلزم عدمه عدم الحكم، كما تقرر في الأصول، وأما الركن (2) فلأن الذات التي طلبها الشارع قد وجدت ناقصة، ولا تكون مجزية إلا بدليل يدل على ذلك، ولا يفيد مدعي البطلان إقامة البرهان على أن تلك الذات قد وجدت خالية عن فرض من فرائضها، أو واجب من واجباتها، لأنهما لا توجبان [1أ] بطلان ما هما فيه كذلك.
أما عند من يجعلهما مترادفين (3) فظاهر؛ إذ هما لا يستلزمان إلا المدح للفاعل، والذم للتارك، كما تقرر في الأصول (4) أن ذلك هو مفهومهما. أما عند من لم يجعلهما مترادفين كالحنفية (5) فهو لا يفرق بينهما إلا من حيث ثبوت الفرض بدليل قطعي،
_________
(1) وقال صاحب " جمع الجوامع " (2/ 20) الشرط: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجودا أو عدم لذاته.
انظر: " المحصول " (1/ 109)، " الكوكب المنير" (1/ 359).
(2) الركن: لغة ركن الشيء جانبه القوي. وفي الاصطلاح مايقوم به ذلك الشيء من التقوم إذ قوام الشيء بركنه.
وقيل: ركن الشيء ما يتم به وهو داخل فيه بخلاف شرطه وهو خارج عنه.
" التعريفات" (ص117).
(3) ذكره صاحب " الكوكب المنير " (1/ 351 - 352).
(4) انظر: " نهاية السول " (1/ 58)، " الإحكام " لابن حزم (1/ 323)، " المستصفى " (1/ 66).
(5) رتب الحنفية على الفرق بينهما أثارا كثيرة منها أن حكم الفرض لازم علما وتصديقا وبالقلب وعملا بالبدن، وأنه من أركان الشرائع، ويكفر جاحده، ويفسق تاركه بلا عذر.
أما حكم الواجب فهو لازم عملا بالبدن لا تصديقا، ولا يكفر جاحده، ويفسق تاركه إن استخف به. أما إذا تأول فلا.
وإذا ترك المكلف فرضا كالركوع أو السجود بطلت صلاته، ولا يسقط في عمد ولا في سهو.
ولا تبرأ الذمة إلا بالإعادة. أما إذا ترك واجبا فإن عمله صحيح، ولكنه ناقص. وعليه الإعادة فإن لم يعد برئت ذمته مع الإثم. " المسودة " (ص 50)، " تيسير التحرير " (2/ 135).(6/2926)
والواجب بدليل قطعي، والواجب بدليل ظني، مع كون لكل واحد منهما لوازم عنده لا مدخل لها في البطلان. فغاية ما يلزم من ترك فرضا، أو واجبا أن يكون مذموما بذلك الترك، وهذا الذم لا يستلزم بطلان الذات. ولا منافاة بين كون المكلف يمدح على تأديته لما هو مكلف به، ويذم على تركه بعض ما هو فرض أو واجب فيه. فإن الصحة سقوط القضاء في العبادات، وترتب الآثار جميعا في المعاملات، وههنا قد سقط القضاء، وهكذا الإجزاء كما قرره أهل الأصول؛ فإنهم جعلوا الإجزاء كالصحة في العبادات، وأما ما قاله المتكلمون من أن الصحة موافقة الأمر فهو غير اصطلاح أهل الأصول على أنهم قد صححوا الذات التي وقع التكليف بها مع، عدم شرطها في الواقع إذا حصل الظن بفعله فقط.
إذا عرفت هذا فاعلم أن كون الشيء شرطا لشيء لا يثبت إلا بدليل يدل على عدم وجود ذلك المشروط، عند عدم ذلك الشرط، وذلك كالنفي المتوجه إلى الذات التي وقع التكليف بها كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " (1) ونحوه، فإن هذا النفي يتوجه إلى الذات الشرعية التي وقع بها التكليف، فالخطاب باق، وعلى فرض وجود ذات غير شرعية فلا اعتبار بها، لأن التكليف الذي يلزم المكلف، ويسقط به القضاء هو شيء مخصوص، وهو ما كان شرعيا لا كل فعل يفعله، وأي صورة جاء بها، سواء كانت شرعية أم لا. وبهذا تعلم أن توجه النفي إلى الذات بهذا الاعتبار صحيح، فلا ضرورة تلجئ إلى القول بأنه لا يمكن توجيهه إلى الذات، لوجودها في الخارج، بل يتوجه إلى الصحة أو الكمال، لأنا نقول: لا اعتبار بتلك الذات التي
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (756) ومسلم رقم (394) وأبو داود رقم (822) والترمذي رقم (247) وابن ماجه رقم (837) وأحمد (5/ 314) من حديث عبادة بن الصامت.(6/2927)
وجدت في الخارج؛ إذ هي غير شرعية. والاعتبار إنما هو بالذات الشرعية التي وقع [1ب] التكليف بها. وكما يصلح الدليل المشتمل على نفي الذات لإثبات الشرطية، كذلك يصلح الدليل المشتمل على نفي القبول المتعلق بالذات، لإثبات الشرطية كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " (1).
وقد ذهب بعض المحققين إلى أنه لا تلازم بين القبول (2) والإجزاء. وقال: القبول أعم مطلقا من الإجزاء، وبينه بأن كل مقبول مجز ولا عكس (3). قال: لأن المجزي ما يخرج به المكلف عن عهدة التكليف، والقبول ما يترتب على فعله الثواب؛ وأقول: إن نفي القبول المتعلق بتلك الذات التي وقع التكليف بها ظاهره يعم القبول للذات التي يخرج المكلف بفعلها عن عهدة التكليف والقبول لثوابها إلا بدليل يدل على قبول الذات، وسقوط التكليف بفعلها مع عدم ذلك الأمر الذي كان نفي القبول لأجله، فلا يرد ما أورده هذا القائل من الأدلة على سقوط التكليف، مع تصريح الشارع بعدم القبول، كقيام الإجماع على قبول صلاة الفاسق مع قوله تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (4) وكذلك الأحاديث الواردة في عدم قبلو صلاة الآبق (5)، ومن بلغت
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6904) ومسلم رقم (2/ 225) وأبو داود رقم (60) والترمذي رقم (76) وأبو عوانة (1) وأحمد (2/ 308، 318). من حديث أبي هريرة.
(2) أنظر " تيسير التحرير " (2/ 235)، " جمع الجوامع " (1/ 103).
(3) انظر " المسودة " (ص52).
(4) [المائدة: 27].
(5) أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (360) من حديث أبي أمامة قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، والمرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون ". قال الترمذي في " السنن " (2/ 193): هذا حديث غريب من هذا الوجه. وهو حديث حسن(6/2928)
المحيض بدون خمار (1) ونحو ذلك، فإنها إذا قامت الأدلة المقبولة على سقوط التكليف مع تصريح الشارع بعد القبول (2) كانت تلك الأدلة مخصصة لما يقتضيه نفي القبول، وإن لم يقم كان الواجب البقاء على نفي القبول على العموم. فإن الفعل المنفي يتضمن النكرة، فيكون من باب النكرة (3) الواقعة في سياق النفي.
ومن جملة ما يصلح للاستدلال به على الشرطية النهي الصريح المتعلق بفعل الذات عند عدم شيء، وذلك كقول القائل: لا يصل أحدكم وهو محدث، ونحو ذلك؛ فإن النهي (4) يدل على الفساد المرادف للبطلان (5) إن كان لذات الشيء أو لجزء الذات، لا لأمر خارج كما قرره أهل الأصول. ولا ت نافي بين قول من قال: إنه يدل على التحريم أو القبح. ومن جملة ما يصلح للاستدلال به على الشرطية إذا قال الشارع: من فعل كذا بدون كذا ففعله خداج، أو باطل أو غير صحيح، أو غير مجز، أو نحو ذلك، مما يؤدي هذا المعنى، ويفيد هذا المفاد [2أ]. وأما ذهاب ركن الشيء
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند (6/ 105) وأبو داود رقم (641) والترمذي رقم (377) وقال حديث حسن. وابن ماجه رقم (655) وابن خزيمة في صحيحه (1/ 380رقم 775) والحاكم في " المستدرك " (1/ 251) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وهو حديث صحيح.
(2) انظر " السيل الجرار " (1/ 361).
(3) انظر " جمع الجوامع " (1/ 413)، " نزهة الخاطر العاطر " (2/ 125).
(4) قالوا أن ورود صيغة النهي مطلقة عن شيء لعينه - أي لعين ذلك الشيء كالكفر والظلم والكذب ونحوها من المستقبح لذاته: يقتضي الفساد شرعا عند الأئمة الأربعة والظاهرية. قال القرافي في " شرح وتنقيح الفصول " (ص173): ومعنى الفساد في العبادات وقوعها على نوع من الخلل يوجب بقاء الذمة مشغولة بها وفي المعاملات عدم ترتب أثارها عليها.
(5) اختلف الأصوليون في اقتضاء النهي الفساد والبطلان وقيل بيان المذاهب في ذلك وما يترتب عليها من اختلاف الفروع يتعين علينا أن نوضح أمرين أثنين:
الأمر الأول: أحوال النهي:
1 - أن يأتي النهي مطلقا أي مطلقا عن القرائن الدالة على أن المنهي عنه قبيح لغيره أو لعينه وهذا نوعان: أ- نوع يكون النهي عن الأفعال الحسية، كالزناوالقتل وشرب الخمر.
ب- نوع يكون النهي فيه عن التصرفات الشرعية وذلك كالصوم، والصلاة.
2 - أن يكون النهي راجعا لذات الفعل أو لجزئه وذلك كالنهي عن بيع الحصاة وبيع الحصاة هو أن يجعل نفس الرمي بيعا. فالنهي إذن راجع إلى ذات الفعل. وكالنهي عن بيع المضامين والملاقيح وحبل الحبلة. فالنهي راجع إلى المبيع وهو ركن من أركان العقد وجزء من أجزائه.
3 - أن يكون النهي راجعا إلى وصف لازم للمنهي عنه دون أصله وذلك كالنهي عن الرباء، فالنهي من أجل الزيادة. والزيادة ليست هي عقد البيع ولا جزء له بل وصف له. أن يكون النهي عن العمل راجعا إلى وصف مجاور له، ينفك عنه، غير لازم، لأنه قد يحصل بغيرها. الأمر الثاني: بيان معنى الصحة والبطلان والفساد. الصحة: في العبادات عند الفقهاء هي عبارة عن كون الفعل مسقطا للقضاء. وعند المتكلمين: عبارة عن موافقة الشرع وجب القضاء أو لم يجب. والصحة في المعاملات: كون العقد سببا لترتب ثمراته المطلوبة عليه شرعا. البطلان: معناه في العبادة عدم سقوط القضاء بالفعل وذلك كمن وطئ في الحج بعد الإحرام وقبل التحلل الأول. ومعناه في المعاملات: تخلف الأحكام عنها وخروجها عن كونها أسبابا مقيدة للأحكام. وذلك كبيع المضامين، كعقد النكاح على المحارم. معنى الفساد: فهو مرادف للبطلان عند جمهور الفقهاء وانظر قول القرافي وقد تقدم وعند الحنفية الفساد قسم ثالث مغاير للصحة والبطلان، فالفاسد عندهم هو ما كان مشروعا بأصله، غير مشروع بوصفه، وهو ما عرفه بعضهم بقوله: " ما كان مشروعا في نفسه، فائت المعين من وجه، لملازمة ما ليس بمشروع أياه بحكم الحال، مع تصور الانفصال في الجملة ". وذلك كعقد الربا، فإن البيع مشروع بأصله، لكن رافقه وصف الربا الذي هو غير مشروع. انظر: " التبصرة " (ص 100)، " المستصفى " (2/ 24)، " جمع الجوامع " (1/ 393).(6/2929)
الذي وقع التعبد به، فذلك كالصلاة التي هي ناقصة ركعة أو ركوعا، أو سجدة، فإن التعبد بالصلاة إنما ورد بصورة مخصوصة؛ فإذا كانت ناقصة نقصانا يخرج به عن الهيئة المطلوبة من الشارع، وهو النقصان الذاتي، فمن فعلها على تلك الصورة الناقصة لم يفعل الصورة التي طلبها منه الشارع.
فإذا ادعى صحتها فعليه الدليل، ويكفي المانع للصحة أن يقوم في مركز المنع حتى يأتي مدعي الصحة بما ينقله عن مقام المنع، ولا ينقله عن ذلك إلا دليل صحيح يدل على أن تلك الصورة الناقصة صحيحة، مجزية، مسقطة للقضاء، هذا إذا كان قد اتفق المتناظران على أن ذلك الشيء الذي تركه المكلف هو ركن من أركان الصورة التي وقع التكليف بها، وأنها بدونه ناقصة نقصانا ذاتيا؛ أما إذا لم يتفقا، بل قال أحدهما: إن هذ الشيء الذي تركه المكلف ليس بجزء من أجزاء الصورة المطلوبة، أو أنه لا يوجب نقصانا في تلك الصورة فالدليل على مدعي الجزئية، وكون ذلك الجزء يوجب نقصا في الصورة المطلوبة من الشارع؛ ويكفي المانع قيامه في مقام المنع، حتى يبرهن المدعي على دعواه. فإذا برهن عليها برهانا مقبولا لم يقبل بعد ذلك المنع المجرد من المناظر له، بل قد ثبت بالبرهان أن ذلك الشيء ركن لتلك الصورة المطلوبة.
فمن ادعى أنها مقبولة بدونه فعليه البرهان، إن جاء به فذاك، وإلا كان عليه أن يسلم بأنها غير مقبولة ولا مجزئة. إذا تقرر لك ما يكون به الشرط شرطا، وما يكون به الركن ركنا، وما هو الدليل الذي يصلح لإثبات ذلك، عرفت أن المقتضي للبطلان ما وقع التكليف به هو إما عدم شرطه، أو عدم شطره، لا عدم ما هو واجب من واجباته التي ليست بشرط ولا شطر. فمن استدل مثلا بالأمر بشيء على كون ذلك الشيء شرطا يستلزم عدمه عدم المشروط فقد غلط غلطا بينا، بل عامة ما يفيده الأمر هو كون ذلك المأمور به واجبا يمدح فاعله [2ب] ويذم تاركه. وهو لا يدل على استلزام عدمه لعدم ما هو واجب فيه، لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام. وإذا كان الأمر الصريح المفيد للوجوب بقاء على معناه الحقيقي، لعدم وجود ما يصرفه لا يفيد البطلان، فبالأولى عدم(6/2931)
استفادة ذلك من طول الملازمة، وتكرير الفعل، وإلى هنا. انتهى ما نريده من المقدمة، فلنشرع الآن في المقاصد فنقول:
[المقصد الأول]
إذا قال قائل: إن الخطبة شرط لصلاة الجمعة، أو شطر لها، فمنع ذلك مانع، فالدليل على مدعي الشرطية أو الشطرية. ويكفي المانع وقوفه في موقف المنع، فيقول مثلا: لا أسلم أن الخطبة شرط لصلاة الجمعة، ولا أسلم أنها شطر لها. ولا يفيد المدعي إلا دليل يدل على أن الخطبة شرط. وقد عرفت أنه لا يدل على الشرطية إلا تلك الأدلة الخاصة، لا مجرد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: كان يخطب، أو أنه أمرنا بالخطبة، أو نحو ذلك. ولا يمكنه ههنا دعوى كون الخطبة ركنا لصلاة الجمعة، لأن صلاة الجمعة صلاة تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم. فما لم يكن بين تحريمها وتحليلها فليس منها فضلا عن أن يكون شرطا لها ولا ريب أن الشرط كما يكون داخلا ومصاحبا يكون خارجا، ولكن أين الدليل الذي يدل على الشرطية التي هي المدعاة.
[المقصد الثاني]
أن بعض الأعلام وهو الذي قدمنا الإشارة إليه في أول هذا البحث جعل عنوان بحثه: الكلام على تضعيف رواية: " من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى " (1)، وغير خاف عليك أن المقام مقام الاستدلال من مدعي الشرطية أو الشطرية، لا مقام إيراد دليل من هو قائم مقام المنع، فإنه ليس بمستدل في هذا المقام، ولا يتوجه عليه الخطاب بإبراز الدليل، ولا يصلح للمدعي أ، يغضب عليه منصب المنع، فيجعله مستدلا، ويجعل نفسه مانعا، فإن هذا مخالف لأدب البحث، ومباين لقواعد المناظرة.
_________
(1) انظر الرسالة رقم (87).(6/2932)
[المقصد الثالث]
أنه - كثر الله فوائده [3أ]- سلم في عنوان بحثه، الذي أشرنا إليه، أنه قد ثبت الحديث بلفظ: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " كما في الصحيحين (1) وغيرهما، فلو فرضنا أن المانع قد تبرع بإيراد هذا الدليل، ولم يتوقف في مركزه الذي ليس عليه غير الوقوف فيه، بل جاء بما يشبه سند المنع قائلا: لم لا يجوز أن تكون الجمعة كسائر الصلوات؟ يحصل إدراكها بإدراك ركعة منها، للحديث المذكور في الصلاة على العموم، لكان في هذا السند للمنع من الفائدة ما يوجب على من ادعى أنها ليس كسائر الصلوات أن يقيم البرهان على ذلك، لأن صلاة الجمعة قد وجد فيها ما وجد في غيرها من الصلوات، وهي كونها ذات أذكار وأركان، تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم (2)، مع كونها قد قامت مقام إحدى الصلوات الخمس.
فالقائل بأنها كسائر الصلوات القول قوله، والظاهر معه، والدليل على مدعي إخراجها عن الصلوات، وعدم الاعتداد بإدراك ركعة منها، ولا يفيد ذلك إلا دليل يدل على الأمرين جميعا، أعني أنها لا تستحق هذا الوصف، وهو أنها صلاة من الصلوات، ولا يكون إدراك الركعة منها إدراكا لها، فأين هذا الدليل؟ وما هو؟.
[المقصد الرابع]
لو سلم المانع بأن رواية: " من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدركها. (3) أو: " من
_________
(1) تقدم مرارا.
(2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (618) والترمذي رقم (3) وابن ماجه رقم (275) والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (1/ 273) والشافعي كما في " ترتيب المسند " (1/ 70 رقم 206) وابن أبي شيبة (1/ 229) وأحمد (1/ 129) من حديث على - رضي الله عنه - مرفوعًا بلفظ: " مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير التسليم ". وهو حديث حسن.
(3) تقدم تخريجه.(6/2933)
أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته " (1). باطلة أو موضوعة، فماذا عليه؟ وهو يقول أنا أمنع كون الخطبة شرطا أو شطرا، حتى يكون من لم يدركها غير مدرك لصلاة الجمعة، أو يقول: أنا أتبرع بسند لهذا المنع.
فأقول: قد ثبت في سائر الصلوات بالاتفاق، وبالدليل الصحيح، أن من أدرك ركعة منها فقد أدركهأ، ويتم ما بقي عليه من عدد تلك الصلاة، فما بال الجمعة لم تكن هكذا، مع كونها صلاة من الصلوات بالاتفاق، ومسقطا لإحدى الصلوات الخمس بلا خلا ف. فأنا أطلب الدليل من المدعي لها [3ب] ما ليس لغيرها من شرط أوشطر، ومن المدعي أنها ليست كغيرها في أنه يكون مدراك الركعة منها مدركا لها، وتم ما بقي عليه منها، فأين البرهان على هذا؟ أو ما هو؟.
[المقصد الخامس]
ما ذكره - دامت إفادته - من أن الإجماع كائن على أن من أدرك الركعة لا يكون مدركا لكل الصلاة، بل يتم ما بقي، فيقال له: وهكذا القائل بأن إدراك الركعة من الجمعة، إدراك للجمعة لا يقول إنها تدرك الجمعة كلها بالركعة من دون تمام، بل يقول: إنه يتم الركعة الأخرى كسائر الصلوات، وليس مطلوبه إلا هذا، مع منعه للتفرقة بين صلاة الجمعة وغيرها، فهذا القدر يكفيه، مع أنه يمكنه أن يربط ما يقوله بفحوى الخطاب فيقول: إذا كان إدراك ركعة من سائر الصلوات يكفي في إدراكها، وإن خرج الوقت بعد إدراك الركعة، وقبل تمام بقيتها فكيف لا يكون من أدرك ركعة من الجمعة مع بقاء وقتها! والتمكن من تأدية الركعة الباقية في الوقت مدركا لها، مجتزيا بها، فهذا سند للمنع قوي، وكلام سوي.
_________
(1) تقدم تخريجه.(6/2934)
[المقصد السادس]
قال - كثر الله فوائده - بعد أن ساق طرق حديث: من أدرك من الجمعة ركعة ما لفظه: قلت: وهذا محمول على أنه أدرك الفضيلة، أو أدرك وقتها، بدليل قوله إلا أن يقضي ما فاته.
وأقول: إن كان هذا الحمل للأدلة الواردة في سائر الصلوات من غير تخصيص بالجمعة استلزم عدم الاعتداد بالركعة التي يدركها المدرك من جميع الصلوات، وأن من أدرك من الجماعة ركعة فلا اعتبار بتلك الركعة، بل المدرك لها إنما أدرك الفضيلة فقط، ويستأنف الصلاة من أولها في جماعة أو فرادى. وهكذا من أدرك من صلاة من الصلوات الخمس بركعة، وخرج وقتها لم يدرك إلا الفضيلة، وقد فاتته الصلاة، وهذا خرق للإجماع، وإهمال للأدلة المتواترة.
وإن كان هذا الحمل إنما هو لصلاة الجمعة فقط، فما ذنبها مع اندراجها تحت الأحاديث الصحيحة المتواترة المصرحة بأن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها، وهي صلاة بالاتفاق؛ بل عليه أن يضيف إليها أخرى، ولا يقتصر [4أ] على الركعة بناء على ظاهر الحديث ويقول: قد تمت صلاة الجمعة بإدراك الركعة، وليس عليه غير ذلك؛ فهذا معلوم للمانع، كما هو معلوم للمستدل، بل هو مجمع عليه، ولا يحتاج إلى الحمل، فإن الأدلة قد دلت على أنه يتم ما بقي عليه.
[المقصد السابع]
قال - كثر الله فوائده -: قد تقرر في الأصول أن الفعل إذا كان تبيانا لواجب مجمل وجب، والخطبة من بيان المجمل المأمور به في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ. ... ) (1) الآية.
_________
(1) [الجمعة: 9].(6/2935)
ولا يشك أن الخطبة من ذكر الله، وقصر الذكر على الصلاة محتاج إلى دليل فما هو؟.
أقول: إذا كان الواجب المدعو إليه هو الذكر الذي هو الخطبة، والذكر الكائن في الصلاة، فمن أين الإجمال سلمنا، فكل واحدة من الخطبة والصلاة مأمور بالسعي إليها على طريق الاستقلال، فكل واحد منهما واجب مستقل، فمن أدرك الواجبين فقد أدركهما، من أدرك أحدهما فقد أدركه، فمن أين للمدعي شرطية أحدهما للآخر، أو شطريته؟ والبرهان على ذلك وهذا هو محل النزاع، ولا سبيل له إلى ذليل يدل على أن خطبة الجمعة شرط لصلاة الجمعة، كما أنه لا سبيل له إلى تصحيح دعوى أن الخطبة شطر للصلاة، بعد تسليمه أنها صلاة مستقلة بتحريم، وتحليل، وأذكار، وأركان. فخلاصة ما يستفاد من الآية التي فيها الأمر بالسعي هو وجوب السعي، لا وجوب ما إليه السعي. ولو سلمنا أن وجوب الوسيلة بعلوم وجوب المتوسل إليه، فغاية ما هناك أنه يجب على الساعي استماع الخطبة، وهذا واجب مستقل، وفعل الصلاة، وهذا أيضًا واجب مستقل. فما الذي تقيده هذه الآية؟ غير هذا، وهو كون أحد الواجبين المنفصل أحدهما عن الآخر شرطا له أو شطرا له حتى يكون سماع الخطبة مؤثرا عدمه في عدم الصلاة.
فالحاصل أن المطلوب منه - عافاه الله - أن يبين؛ أولا الإجمال الذي ادعاه، ثم يوضع دليل الوجوب، ثم يبرهن على أن الخطبة داخلة في المدعو إليه، فإن الذي فهمه الصحابة فمن بعدهم أن الدعاء بالآية الكريمة، إنما هو إلى الصلاة [4ب].
ثم يبين أن الخطبة شرط للصلاة، أو شطر لها، حتى يصح ما ادعاه من أن من فاتته الخطبة لم يعتد بصلاة الجماعة، فإن هذا أعني عدم الاعتداد بالشيء لا يكون إلا لفوات شرطه أو شطره، ومهما أمكنه بيان ما تقدم فلا يمكن بيان هذا الوجه الآخر بوجه من الوجوه، وهو محل النزاع.(6/2936)
[المقصد الثامن]
قال - كثر الله فوائده -: " مجيبا على من علل بالانقطاع: إن أصحابنا يحتجون بالمنقطع (1)، فيقال له: إن كان المقصود بيان مذهب الأصحاب فنصوصهم في هذه المسألة معروفة للمقصر والكامل، ومصرح بها في المختصرات من كتب الفقه، فضلا عن المطولات، فقد صرحوا تصريحا لا شك فيه أن من لم يدرك قدر آية من الخطبة أتمت ظهرا، ولكن الشأن في دفع التعليل بالانقطاع بكون مذهب الأصحاب العمل به، فإنه لا يعجز المعلل بالانقطاع أن يقول: ومذهب أصحابه أنهم لا يحتجون به وحينئذ فما التخلص عن أصحاب هذا، وأصحاب هذا، وإن كان مقصودة بيان الحق في الواقع في هذا التحرير الذي حرره، فيقال له: كيف يكون ما انقطع إسناده مما تقوم به الحجة والعقل، يجوز أن ذلك الانقطاع قد يكون في كذب، أو رضاع، أو ضعيف لا يحتج به، كم يجوز العقل أن الذي فيه ثقة مقبول، بل التجويز الأول أظهر، لأن غالب الانقطاع، والتدليس، والإرسال، والإعضال (2) لا يكون إلا لعلة، وإلا فما وجه ذكر بعض الرجال السند دون بعض؟.
وما النكتة في ذلك مع كون كلهم ثقات تقوم بكل واحد منهم الحجة.
_________
(1) المنقطع: وهو ما لم يتصل إسناده، سواء سقط منه صحابي أو غيره وبعبارة أخرى، سواء ترك ذكر الراوي من أول السند أو وسطه أو آخره إلا أن الغالب استعماله في رواية من دون التابعي عن الصحابي كمالك عن ابن عمر، المنقطع ضعيف لا يحتج به.
" وقواعد التحديث " للقاسمي (ص130). " إرشاد الفحول " (ص 247).
قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 248): ولا تقوم الحجة بالمعضل وهو الذي سقط من رواته اثنان ولا بما سقط من رواته أكثر من اثنين لجواز أن يكون الساقط أو الساقطان أو الساقطون أو بعضهم غير ثقات.
(2) انظر التعليقة السابقة.(6/2937)
[المقصد التاسع]
قال - كثر الله فوائده -: فإن قيل: هذا الذي روي عن ابن مسعود غير مرفوع، فيحتمل أن يكون مذهبا له، قيل له: الظاهر أن ذلك من المرفوع إذ لا يصدر ذلك التعميم من ذلك الصحابي الجليل، وعنده سنة مخالفة، والاحتمال لا يدفعه الظهور.
أقول: أما كونه لا يصدر عنه ذلك، وعنده سنة مخالفة فيمكن. ولكن قد وقع من جماعة من الصحابة المخالفة لما رروه بالراي، كحديث غسل الإناء سبع مرات من ولوغ [5أ] الكلب، وتعفيره بالتراب (1)؛ فإن أبا هريرة (2) الراوي له كان يفتي بثلاث. وكذا الكلام فيمن أصبح جنبا، وفي مواضع عديدة. فإن كان هذا التعلق المذكور نافعا فيلزم صاحب البحث - عافاه الله - أن يجعل قول كل صحابي حجة، ويقدمه على المرفوع، وما أراه يقول بذلك. ثم إذا سلمنا أن ابن مسعود إنما قال ذلك لأنه لم يكن عنده سنة مخالفة، فماذا ينفعنا هذا. غاية الأمر أن أفتي لعدم وجود النص لديه، فمن أين يستلزم هذا أن لا يكون ذلك اجتهادا منه؟ وأي قول لصحابي (3) في كل جزء من جزئيات الشريعة لا يمكن أن يدعي فيه مثل هذا، ومن قد سبقه إلى مثل هذه المقالة، فإن أهل الأصول وغيرهم إنما جعلوا لأقوال الصحابة حكم الرفع إذا كان الشيء لا مجال للاجتهاد فيه (4) كتقدير الجزاء، وعدد الركعات، والطوافات، والرمي للجمرات وما
_________
(1) أخرجه مسلم رقم (280) وأحمد (4/ 86) وأبو داود رقم (74) والنسائي (1/ 177) وابن ماجه رقم (365) والدارمي (1/ 188) والدراقطني (1/ 65 رقم 11) والبيهقي (1/ 241 - 242) عن عبد الله بن مغفل. وهو حديث صحيح.
(2) انظر المحلى (1/ 114 - 115).
(3) تقدم قول الصحابي وتفصيل ذلك، وانظر: إرشاد الفحول ص 797.
(4) قول الصحابي حجة فيما لا يدرك بالرأي والاجتهاد، حجة عند العلماء لأنه محمول على السماع من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيكون من قبيل السنة والسنة مصدر للتشريع. قال الإمام النووي في مقدمة شرح صحيح مسلم (1/ 30): إذا قال الصحابي: كنا نفعل في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو في زمنه، أو هو فينا أو بين أظهرنا أو نحو ذلك فهو مرفوع. الإحكام للآمدي (4/ 155 - 156).
نزهة الخاطر (1/ 403 - 406).(6/2938)
جرى هذا المجرى، فكيف يقال في مثل ما نحن بصدده من صلاة الجمعة أنه لا مجال للاجتهاد فيه. فإن كان الجزم منه بعدم احتماله للاجتهاد صادرا عن دليل فما هو؟ وإن كان لا جزم منه بل مجرد احتمال فنحن نمنع هذا الاحتمال، على أنه لو سلم الاحتمال لكان جوابنا عليه بما قاله هاهنا، من أن الاحتمال لا يدفع الظهور. [المقصد العاشر]
قد ترك - كثر الله فوائده - العمل بالأحاديث المروية فيمن أدرك ركعة من الجمعة مع كون بعضها قد صححه بعض الأئمة المعتبرين (1)، وبعضها قد حسنه بعضهم وبعضها فيه مقال، ولو فرض أنه لا صحيح فيها ولا حسن لكانت بمجموعها مع كثرة طرقها، وتباين مخارجها من الحسن لغيره، وهو معمول به، فما باله - عافاه الله - عدل عن هذه الروايات المرفوعة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلى ما رواه عن أولئك الصحابة رضي الله عنهم مع كون في طرق تلك الروايات عن الصحابة من المقال [5ب] ما هو أشد مما قيل في طرق هذه الأحاديث المرفوعة (2).
فليت شعري كيف وقع له هذا مع إنصافه وطول باع عرفانه، وما الموجب لهذا عليه، مع كون قول الصحابي ليس بحجة عنده، ما لم يكن إجماعا لهم على خلاف فيه، فلقد طال تعجبي من ذاك. وكيف أبعد النجعة هذا الإبعاد، وسافر إلى دعوى الإجمال في الآية الكريمة، ثم لم يكفه ذلك حتى زعم أنه يجب على الأمة العمل بقول صحابي لكونه لا يقول ما قال إلا لعدم وجود دليل لديه، وأنه لا مجال للاجتهاد في ذلك، فله
_________
(1) انظر الرسالة رقم (87).
(2) انظرها في الرسالة رقم (87).(6/2939)
حكم الرفع، فهب أنه لا وجود لدليل لدى ذلك الصحابي فكان ماذا، فقد جاءنا الدليل الثابت في الصحيح (1) وغيره (2) من طريق جماعة من الصحابة أن من أدرك من صلاة العصر ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك، ومن أدرك ركعة من صلاة الفجر قبل طلوع الشمس فقد أدركها، ومن أدرك من الصلاة ركعة قبل خروج وقتها فقد أدركها (3)، من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة (4)، من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة (5). وألفاظ غير هذه، لا يتسع المقام لبسطها، وهي متواترة في المعنى المراد. أعني أن إدراك ركعة من الصلاة قبل خروج وقتها، أو مع الإمام إدراك لها، ويتم ما بقي عليه. ولا خلاف بين المسلمين أن الجمعة صلاة، وأن لها ركعة يمكن إدراكها، كما لغيرها ركعة يمكن إدراكها. فهلا قدم - كثر الله فوائده - هذه السنة المتواترة وقال: الجمعة كغيرها.
فإن قال: قد قام البرهان أنها ليست كغيرها. فما هو البرهان؟ وما الموجب لإخراجها عن غيرها مع كونها صلاة ذات أذكار وأركان، فيها تحريم بالتكبير، وتحليل بالتسليم، وقد قامت مقام غيرها من الصلوات الخمس، وهي الظهر في يوم الجمعة؟ فإن قال: إن الذي أخرجها عن هذه العمومات، ما رواه عن بعض الصحابة. فهل يقول في غير هذه المسألة بالتخصيص للسنن المتواترة بمثل ذلك، أم هذا تخصيص منه لهذه العبارة بهذه الخصوصية. فإن قال: إنه يقول في غيرها بذلك فما البرهان على هذا؟ وإن كان لا
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (556) ومسلم رقم (163/ 608).
(2) كأحمد (2) وأبو داود رقم (412) والترمذي رقم (1116) والنسائي (1 - 258) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر.
(3) انظر التعليقات السابقة.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم 580 ومسلم رقم 607 من حديث أبي هريرة وقد تقدم مرارا.
(5) تقدم مرارا، وهو حديث صحيح.(6/2940)
يقول بذلك بل يخص هذه العبادة بذلك [6أ] وحدها دون غيرها، فما هذا بأول تعسف خصصت به هذه العبادة. فقد تلاعبت بها أقوال الرجال من يمين إلى شمال (1). هذا يقول: لا تصح إلا بعدد أربعين، وآخر يقول بأكثر من ذلك العدد، وآخر يقول بأقل منه، وهذا يقول: يشترط فيها المصر الجامع، وآخر يقول الذي فيه حمامات ومساجد ويسكنه عشرة آلاف، وآخر يقول دون ذلك، وآخر يقول أكثر، وهذا يقول: الإمام الأعظم على شروط يشترطونها واختراعات يخترعونها، وهذا يقول: يشترط سماع الخطبة، وهذا يقول كذا، وهذا يقول كذا. ليت شعري ما بال هذه العبادة من بين سائر العبادات ثبتت لها شروط وفروض وأركان بأمور لا يستحل العالم المحقق العارف بكيفية الاستدلال أن يجعل أكثرها سننا، ومندوبات، فضلا عن فرائض وواجبات، فضلا عن شرائط.
ومع هذا فقد تأكد دخول هذه الصلاة تحت عموم الصلوات بأدلة خاصة مصرحة بها. وبالغ الشارع في البيان حتى قال: من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته. (2) فلم يكتف بمجرد الإدراك، بل ضم إلى ذلك إضافة أخرى إليها ثم لم يكتف بذلك، بل جاء بما يدفع كل علة، وينقع كل غلة، فقال: وقد تمت صلاته. ومع هذا فقد أوضحنا لك أن الدليل على مدعي كون لهذه العبادة شرطا أو شطرا، وبينا ما يصلح للاستدلال به على مثل ذلك، فأين الدليل القائل لا صلاة جمعة لمن لم يسمع الخطبة أو بعضها، أو لا تقبل صلاة جمعة إلا بسماع خطبة، أو لا يصل أحدكم الجمعة إذا لم يسمع شيئا من الخطبة، فإنا لم نجد حرفا من هذا في السنة المطهرة؛
_________
(1) انظر المغني (3/ 184) قال ابن قدامة: أكثر أهل العلم يرون أن من أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فهو مدرك لها، يضيف إليها أخرى، ويجزئه وهذا قول ابن مسعود وابن عمر وأنس وسعيد بن المسيب والحسن وعلقمة والأسود وعروة، والزهري والنخعي ومالك، والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور، وأصحاب الرأي، وانظر مزيد تفصيل في المصدر المذكور.
(2) تقدم تخريجه.(6/2941)
بل لم نجد فيها قولا يشتمل على الأمر بها الذي يستفاد منه الوجوب، فضلا عن الشرطية. وليس هناك إلا مجرد أفعال محكية عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه خطب وقال في خطبته كذا، وقرأ كذا، وهذا غاية ما فيه أن تكون الخطبة قبل صلاة الجمعة سنة [6ب] من السنن المؤكدة، لا واجبة، فضلا عن أن تكون شرطا للصلاة بخلاف الصوم، فإن الشارع صرح لأمته أن الله أبدلهم يوم الجمعة بصلاة مكان صلاة الظهر وهي الجمعة.
وورد الأمر بها والنهي عن تركها (1)، والوعيد لتاركها (2) بأن يحرق عليه منزله بالنار , وبأن الله يطبع على قلبه (3)، ويختم على قلبه ويكون من الغافلين، وغير ذلك من النصوص الصحيحة الصريحة الكثيرة، ولم يأت في حرف منها ذكر الخطبة، ولا ما يدل على وجوبها، فضلا عن كونها شرطا للصلاة، ولا ورد الوعيد على تركها لا بتصريح ولا بتلويح. فما بال من يتصف بجعلها فريضة كفريضة صلاة الجمعة، وتجاوز ذلك إلى أنها شرط لصلاة الجمعة، فليته إذا فرط في إثبات مشروعية الخطبة وجاوز بها كونها سنة إلى كونها فريضة أن لا يدعي ما لا يقبله الإنصاف من كونها شرطا لغيرها، ويهمل ما يعتبره أهل العلم في دلائل الشروط من الأمور التي يجب الوقوف عندها، بل يعمل الأدلة المتواترة الواردة في أن من أدرك ..............
_________
(1) لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [الجمعة: 9]
(2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (254/ 652) وأحمد (1/ 402، 422، 449، 461) وابن خزيمة رقم (1853، 1854) من حديث عبد الله أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم.
وهو حديث حسن.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (655) من حديث أبي هريرة: لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين.(6/2942)
ركعة من الصلاة فقد أدركها (1) بل يعمل الأدلة الخاصة بصلاة الجمعة بعد اندراجها تحت هذا العموم، وقد رويت من ثلاث عشرة طريقا (2)، من حديث أبي هريرة، يقول الحاكم في ثلاث (3) منها: إنها على شرط الشيخين، ورويت من ثلاث طرق من حديث (4) ابن عمر، ورويت من طرق غير هذه الطرق (5). فليت شعري ما هو الأولى بالتأثير؟ هل جميع ما ذكرناه هنا، أم قول يقوله بعض الصحابة على ضعف في طريقه، ونزاع فيمدلوله، وكونه من باب الاجتهاد، والذي لا يكون حجة على أحد فليتأمل
_________
(1) تقدم تخريجه
(2) انظر الإرواء (3/ 84 - 90 رقم 622).
(3) 1 - أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 291) من طريق الأوزاعي عن الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: من أدرك الركعة من الجمعة فقد أدرك الصلاة.
2 - أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 291) من طريق أسامة بن زيد الليثي عن الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى.
3 - أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 291) من طريق مالك بن أنس وصالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن أبي سلمة أن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى.
4 - وأخرجه ابن ماجه في السنن (1/ 356 رقم 1121) من طريق عمر بن حبيب، عنه بلفظ: من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى.
(4) أخرجه النسائي (1/ 274 رقم 557) وابن ماجه رقم (1123) والدارقطني (2/ 12 رقم 12) من حديث ابن عمر. وقال ابن حجر في بلوغ المرام عند الحديث رقم (5/ 416) إسناده صحيح وقوى أبو حاتم في العلل إرساله (1/ 172 رقم 491).
والخلاصة أن الحديث بذكر الجمعة صحيح من حديث ابن عمر، لا من حديث أبي هريرة.
(5) وأخرجه الطبراني في الكبير (9/ 358 رقم 9545) من حديث ابن مسعود بلفظ من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى، ومن فاتته الركعتان فليصل أربعا. وقال: وأورده الهيثمي في المجمع (2/ 192) وقال: إسناده حسن.(6/2943)
المنصف هذا بعين بصيرته، وليدع ما يعرض له من أسباب العدول عن الصواب؟ فالدين دين الله، والتكليف هو لعباد الله، والشريعة المطهرة الموضوعة بين ظهراني هذا العالم هي ما في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وليس أحد من العباد بمستحق للمجادلة والمصاولة عن وقله على وجه يستلزم طرح ما هو ثابت من الشريعة، فأهل العلم أحياؤهم وأمواتهم، وإن بلغوا في معرفة الشريعة المطهرة إلى حد يقصر عنه الوصف، وفي التقيد بها إلى مبلغ تضيق عنه العبارة [7أ]، وفي جلالة القدر ونبالة الذكر إلى رتبة يضيق الذهن عن تصورها، فهم رحمهم الله متعبدون بهذه الشريعة كتعبدنا بها، وتابعون لا مبتدعون ومكلفون لا مكلفون. هذا يعلمه كل من لديه نصيب من علم الشريعة، ومع هذا فالخلاف قائم بين أهل البيت رضوان الله عليهم في هذه المسألة فضلا عن غيرهم.
قال الأمير الحسين في الشفا: فصل: فيمن أدرك ركعة من الجمعة ولم يدرك شيئا من الخطبة اختلف في ذلك علماؤنا رحمهم الله فقال يحيى: من لم يدرك من الخطبة قدر آية لم تصح منه الجمعة، وصلى أربعا، وبه قال ولده أحمد بن يحيى، فإنه قال: من لم يدرك شيئا من الخطبة يصلي الظهر أربعا عند القاسم، والناصر، وعند زيد بن علي أن من أدرك ركعة من الجمعة اضاف إليها أخرى، وأجزأته الجمعة. وبه قال المؤيد بالله والمنصور بالله (1)، انتهى كلامه.
_________
(1) قال الشوكاني في السيل الجرار (1/ 612 - 613): قد عرفت مما أسلفنا أنه لم يصح شيء من تلك الشروط وأن إطلاق اسم الشروط عليها لم يدل عليه دليل يثبت به الوجوب فضلا عن الشرطية إلا الخطبتان، فقد قدمنا أن دليلهما قد يدل على وجوبهما، وبعد هذا كله تعلم أنه لا يضر اختلال شيء مما جعله شروطا، ثم حكمه على بعض الشروط بأنه يضر اختلاله قبل الفراغ وبعضها بأنه لا يضر بعد حكمه على الجميع بالشرطية - تحكم يأباه الإنصاف فإن الشرط هو ما يؤثر عدمه في العدم فكيف كان بعض الشروط مؤثرا وبعضها غير مؤثر، فهذا مع كونه تحكما مخالف لاصطلاح أهل الأصول والفروع. وأعجب من ذلك كله أنه لا دليل بيده يدل على ما ذكره لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف بل إيجاب فرض الجمعة وتتميمها ظهرا مخالف للدليل وهو ما أخرجه النسائي (3/ 12 رقم 1425) من حديث أبي هريرة بلفظ: ومن أدرك الركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة. ولهذا الحديث اثنا عشر طريقا صحح الحاكم ثلاثا منها وقال في البدر المنير: هذه الطرق الثلاث أحسن طرق هذا الحديث والباقي ضعيف - انظر التعليقة السابقة - ثم قال: فهذه الأحاديث تقوم بها الحجة ويندفع ما قاله المصنف صاحب الأزهار ويدل على ما دلت عليه هذه الأحاديث ما في الصحيحين - البخاري رقم (580) ومسلم رقم (607) وغيرهما - كأبي داود رقم (1121) والترمذي رقم (523) والنسائي رقم (532) وابن ماجه رقم (1122) من حديث أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة، فإن صلاة الجمعة داخلة في هذا العموم ولا تخرج عنه إلا بمخصص ولا مخصص(6/2944)
ولنقتصر على هذا المقدار، ففيه كفاية لمن كانت له هداية، ولولا أن جامع البحث الذي جمعنا هذه الورقات للكلام على ما فيه من العلماء المنصفين المؤثرين للأدلة على غيرها كلان لنا في الترك مندوحة.
حرر في نهار يوم الخميس لعله سادس شهر شوال سنة 1218 [7ب].(6/2945)
ضرب القرعة في شرطية خطبة الجمعة
تأليف عبد الله عيسى
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(6/2947)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (ضرب القرعة في شرطية خطبة الجمعة).
2 - موضوع الرسالة: فقه الصلاة.
3 - أول الرسالة: الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين، وبعد: فإني على جواب لبعض علماء العصر المحققين ....
4 - آخر الرسالة: وأصلح لنا النيات، وأحسن الختام بجاه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ صلاة وسلاما يدومان بدوام الملك العلام حرر بتاريخ سلخ شهر صفر سنة 1219هـ
5 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
6 - نوع الخط: خط رقعة.
7 - عدد الصفحات: 11صفحة + صفحة العنوان.
8 - عدد الأسطر في الصفحة: 21 سطرا.
9 - عدد الكلمات في السطر: 8 - 10 كلمات.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(6/2949)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين. وبعد:
فإني اطلعت على جواب لبعض علماء العصر المحققين - كثر الله فوائده - جعله على الرسالة المسماة بإشراق الطلعة (1) وحصر ذلك الجواب في مقدمة وعشرة مقاصد، إلا أن المقدمة هي مصب الغرض، وزبدة البحث، والأصل الذي بنيت عليه المقاصد فهي الحقيقة بأن يكون هي المقصودة بالبحث، وتلك المقاصد إنما هي فروع عنها فرأيت أن أتكلم على أبحاث تلك المقدمة، وأبين عدم ورودها، وأما المقاصد فبعضها سيتضح الجواب عنها في الكلام على المقدمة، والبعض الآخر قد عرف جوابه من الرسالة الأولى المسماة بإشراق الطلعة (2) كما سيأتي التنبيه على ذلك في آخر الجواب، فلو تعرضنا لدفعها بعد ذلك لكان من تحصيل الحاصل، والتطويل لما عرف.
فأقول وبالله التوفيق، وهو حسبي وكفى، ونعم الوكيل: إن الجواب على تلك يشتمل على أبحاث.
البحث الأول
اعلم أن ذكر المسائل العلمية، وإقامة الأدلة عليها، والجمع أو الترجيح بينها إن تعارضت قد يكون المقصود بها إفادة الحق، والإرشاد إلى العمل بما يريده الشارع والهداية إلى أحكام الله، والدعاء إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة (3).
_________
(1) الرسالة رقم 88).
(2) الرسالة رقم 88).
(3) قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125]. فأمر الله رسوله في هذه الآية بالجدال، وعلمه فيها جميع آدابه من الرفق والبيان والتزام الحق والرجوع إلى ما أوجبته الحجة.(6/2953)
وهذا القسم لا يشترط فيه أن يكون على ترتيب معين، ولا جاريا على القواعد الجدلية، ولم يلتزم الصحابة والتابعون والعلماء المتقون في ذلك سلوك الطريق الجدلية، وقواعد المناظرات، وقد يكون المقصود بها إسكات الخصم، وقطع مشاغبته، وعوق المناظر وغلبته في المناظرة والحيلولة بينه وبين ما أراد إثباته أو نفيه، وهذا القسم هو المقصود بتأليف كتب الجدل (1) ورسائل آداب البحث والمناظرات، وذكر الأصوليون أنواعها في القياس، وهي اعتراضاته المعروفة، وقد ذكر أصحاب الفصول اللؤلؤية (2) أنه
_________
(1) وللجال المذموم وجهان:
1 - الجدال بغير علم.
2 - الجدال بالشغب والتمويه، ونصرة الباطل بعد ظهور الحق وبيانه قال تعالى: {وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذناهم فكيف كان عقاب} [غافر: 5].
وجدال المحقين:
فمن النصيحة في الدين ألا ترى إلى قوم نوح عليه السلام حيث قالوا: {قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا} وجوابه لهم: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} [هود: 32، 34].
قال ابن عقيل في الوضاح كما في الكوكب المنير (4/ 370): وكل جدل لم يكن الغرض فيه نصرة الحق، فإنه وبال على صاحبه، والمضرة فيه أكثر من المنفعة لأن المخالفة توحش، ولولا ما يلزم من إنكار الباطل واستنقاذ الهالك بالاجتهاد في رده عن ضلالته لما حسنت المجادلة للإيحاش فيها غالبا، ولكن فيها أعظم المنفعة إذا قصد بها نصرة الحق والتقوي على الاجتهاد ونعوذ بالله من قصد المغالبة وبيان الفراهة.
واعلم أنه إذا بان له المناظر سوء قصد خصمه توجه تحريم مجادلته قال تعالى: {وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون} [الحج: 68]. وهذا أدب حسن علمه الله عباده ليردوا به من جادلهم به تعنتا ولا يجيبوه.
انظر: الكوكب المنير (4/ 371) والكافية في الجدل (ص 529).
(2) الفصول اللؤلؤية تأليف صارم الدين إبراهيم بن محمد الوزير الصنعاني.
جمع فيه أقوال مختلف المذاهب في المسائل الأصولية من دون استدلال ومناقشة مقدما لمذهب أئمة الزيدية وعلماء الآل بنقل أقوالهم وآرائهم. مؤلفات الزيدية (2/ 321 رقم 2406).(6/2954)
لا يجب معرفتها على المجتهد، أي لأنها [1أ] إنما شرعت طرقا للمناظرة، والمناظرة ليست بواجبة حتى تكون الاعتراضات مما لا يتم الواجب إلا به , وقد صرح أئمة المعقول والمنطق بأن الغرض من الجدل إنما هو إلزام الخصم بمقدمات يسلمها، فيبنى عليها الكلام، وإن كانت باطلة، أو بمشهورات لا يعتبر فيها اليقين، ومطابقة الواقع، وممن نص على ذلك المولى الحسين ابن الإمام في شرح الغاية (1) عند تقسيم القياس باعتبار المادة، وقال أيضا: إن الغرض من الجدل إما إقناع القاصر عن درك البرهان، أو إلزام الخصم، انتهى.
إذا علمت ذلك، فنقول: إذا رأيت من هو قائم في مقام الإفادة للحق وقد طولب بأن يسلك المسالك المعتبرة في الجدل فاعلم أن ذلك غلط في البحث، وخلط في المخاطبة، فإن إقامة المفيد للحق في مقام مريد الجدال أو العكس لا يكون إلا لأحد أمرين: إما عدم الخبرة بالتفريق بين المقامين، أو لقصد المغالطة والترويج للشبهة، إذا تقرر هذا فاعلم أني لم أقصد بالرسالة التي سميتها إشراق الطلع (2) قصد الجدال لأحد، إنما قصدت ما ذكرته في خطبتها، وهو ما لفظه: إنها وقعت مذاكرة في تلك المسألة، فخطر في البال ذكر المسألة رأسها، وقل ذلك من كتب أهل البيت عليهم السلام وغيرهم، وذكر الأحاديث المتعلقة بها، والكلام عليها، ومع جمعها يتبين للناظر الراجح من القولين , انتهى.
_________
(1) انظر مؤلفات الزيدية (2/ 168 رقم 1957).
(2) الرسالة رقم (87).(6/2955)
البحث الثاني
إنها لم تهمل في تلك المسألة المسالك المعتبرة عند أهل العلم كما قال المجيب - عافه الله - معرضا بالإهمال ما لفظه: اعلم أنه كثيرا ما يقع في كتب الاستدلال الإهمال للمسالك المعتبرة عند أهل العلم. انتهى.
بل ولا أعلم أنه يهملها أحد من المصنفين في كتب الاستدلال، وإنما هو كثيرا ما يقع الإهمال للمتأمل، وتجويد النظر في كتبهم [1ب] حتى يتوهم إخلالهم بها، وبيان ذلك في هذه المسألة التي صدرنا رسالتنا بها أنا قد ادعينا نقلها عن القاضي زيد رحمه الله فإن كان الكتاب موجودا عند المناظر فلينظرها فيه، حتى يصح النقل، وإن لم يكن موجودا بعثنا به إليه، فإذا صح النقل فقد حصلت الدعوى فيه بأن المأموم إذا لم يدرك من الخطبة قدر آية لم تصح منه الجمعة (1) بل يصلي أربعا ويبني على ما أدركه مع الإمام، وإن الهادي عليه السلام قد نص على ذلك في المنتخب (2) فإن طلب المناظرة لتصحيح النقل عن الهادي، فالكلام فيه كما سمعت، وإن طلب الدليل على تلك الدعوى فقد ذكره بقوله: وعمدتهم في ذلك أن الخطبة بمثابة ركعتين، وأنهما شرط كما سيأتي بيانه. فبعد الاستدلال بهذا يثبت للمناظر على المستدل أحد ثلاثة أمور: إما النقض (3) أو المناقضة، أو المعارضة، وللمناظر أن يورد على المستدل ما أراد من هذه الثلاثة، وعلى المستدل أن يجيب عن ذلك، وإلا انقطع فوقع الاستشعار في هذا المقام لإيراد المناظر للمعارضة بدليل يدل على خلاف المدعي، وإنما وقع الاستشعار لإيراد المعارضة المذكورة لكونها ظاهرة الورود بخلاف المنع، فإن انعدام الصلاة بانعدام الخطبة مجمع عليه عند ................................
_________
(1) انظر الأزهار (1/ 612) مع السيل.
(2) تقدم التعريف به.
(3) انظر الرسالة رقم (88).(6/2956)
الجمهور (1)، ولم يخالف في ذلك إلا الحسن وداود، والجويني، وابن الماجشون فقط، وبعد أن تم البحث في المعارضة وقع الاستشعار أيضًا بإيراد المنع، لكونهما بمثابة ركعتين وإنها شرط فتعرضنا لإثباتها بما ذكرناه من التتمة في آخر البحث.
البحث الثالث
قال المجيب - كثر الله فوائده -: وإن لم ينهض به على الوجه المعتبر، فالحق بيد المانع، ولا يطالب بدليل، بل قيامه في مقامع المنع [2أ]، وثبوته في مركز الدفع يكفيه، إلى أن قال: وهذه الجملة معلومة عند أهل النظر، لا يختلفون في شيء من تفاصيلها.
وأقول: إن أراد بالمانع النافي لحكم المسألة، وأنه بمجرد نفيه أو يعجز المستدل يكون الحق بيد المانع، وأن ذلك يكفيه في حقيقة منعه، وأن ذلك مما لا يختلف في تفاصيله أحد، فلا يخفى أن هذا مخالف لما أوجبته جميع أئمتنا عليهم السلام، والجمهور من العلماء من وجوب الدليل على النافي لحكم غير ضروري شرعي أو عقلي، كما يجب على المثبت. وهذه المسألة هي آخر مسألة في» غاية السول " (2) ونسب في الفصول (3) القول بوجوب الدليل على النافي إلى جميع أئمتنا والجمهور، وهو الذي اختاره ابن الحاجب في مختصره (4) قال الشيخ العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفيروزآبادي (5) الشيرازي ما لفظه: فصل: وقد ألحق بعض أصحابنا من أهل النظر بهذا الباب بأن
_________
(1) انظر الرسالة (88).
(2) غاية السؤل في علم الأصول. تأليف شرف الدين الحسين بن القاسم. مختصر في القواعد الأصولية يهتم بالأدلة والأقوال وهو في مقدمة وثمانية مقاصد فرغ منه المؤلف ليلة السبت 23 شوال 1035 هـ.
انظر مؤلفات الزيدية (2/ 293 رقم 2318).
(3) تقدم التعريف به.
(4) انظر: المنتهى لابن الحاجب (ص 163).
(5) ذكره الشيرازي في التبصرة ص 530.(6/2957)
يقول: أنا ناف فلا يلزمني إقامة دليل، وإنما الدليل على من يثبت، ألا ترى أن من نفى نبوة غيره لا يلزمه الدليل على ذلك، وإنما يلزم من يثبت النبوة، وهذا ليس بشيء لأن القطع بالنفي لا يجوز إلا على دليل، كما لا يجوز القطع بالإثبات إلا عن دليل فكما يجب إقامة الدليل على ما قطع به من الإثبات وجب إقامة الدليل على ما قطع به من النفي (1) انتهى كلامه.
_________
(1) قال الشيرازي في التبصرة ص 530: النافي للحكم عليه الدليل وإلى هذا ذهب جمهور الأصوليين، منهم الغزالي والآمدي وابن الحاجب، وابن السبكي وهو مقتضى كلام الغزالي في المستصفى والشيرازي هنا.
ومن الناس من قال: لا دليل عليه، وهو قول بعض أصحابنا بعض أصحاب الظاهر، وبعضهم فرق بين العقليات والشرعيات فقالوا: عليه الدليل في نفي العقليات دون الشرعيات.
منتهى السول (3/ 67).
وقال الشيرازي: لنا: قوله تعالى: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه} [يونس: 39] فذمهم الله تعالى بأن قطعوا بالنفي من غير دليل.
ولأن القطع بالنفي لا يكون إلا عن طريق، كما أن القطع في الإثبات لا يكون إلا عن طريق، فلما وجب على المثبت إظهار ما اقتضاه الإثبات عنده وجب على النافي إظهار ما اقتضاه النفي عنده.
واحتجوا بأن من أنكر النبوة لا دليل عليه، وإنما يجب الدليل على مدعي النبوة، وذلك من أنكر الحق لا بينة عليه، وإنما البينة على مدعي الحق، فكذلك هاهنا، يجب أن يكون الدليل على من أثبت الحق دون من نفاه. والجواب: أن من ينكر النبوة إذا انقطع بالنفي، وقال: لست بنبي فإنه يجب عليه إقامة الدلالة على نفيه وهو أن يقول: لو كنت نبيا مبعوثا، لكان معك دليل على صدقك، لأن الله تعالى لا يبعث نبيا إلا ومعه ما يدل على صدقه فلم لم أر معك دليلا على أنك لست بنبي فهذا لا دليل عليه، لا، ه لم يقطع بالنفي، بل هو شاك، والشاك لا دليل دل عليه، وفي مسألتنا قطع النفي، فلا يجوز أن يقطع بذلك إلا عن طريق يقتضيه ودليل يوجبه فوجب إظهاره.
وأما منكر الحق فإنه يجب عليه إقامة البينة على إنكاره، وهو اليمين فلا نسلم ما ذكروه.
وجواب آخر: وهو أنه إن كان المدعي عينا فاليد بينة له، وإن كان دينا فبراءة الذمة بالفعل بينة له، وليس كذلك هاهنا، لأن نفيه لم يتم على نفيه ما يدل على صحته، فلم يصح نفيه. قالوا: لو نفى صلاة سادسة لم يكن عليه دليل فكذلك هاهنا. قلنا: لا بد في نفيها من دليل، وهو أن يقول: إن الله تعالى لا يتعبد الخلق بفرض غلا ويجعل إلى معرفته طريقا من جهة الدليل. فلما لم نجد ما يدل على الوجوب دلنا ذلك على أنه لا واجب هناك فيستدل بعدم الدليل على نفي الوجوب.
وانظر اللمع ص 70. البحر المحيط (6/ 9). الإبهاج (3/ 188). شرح المنهاج للبيضاوي (2/ 766).(6/2958)
وإن أراد المجيب أبقاه الله بالمانع طلب الدليل على مقدمة أو أكثر، فلا يخفى أيضًا أنه لا يكون الحق بيده بمجرد طلب الدليل، وغاية ما هناك أن المستدل إذا لم ينهض بالدليل على الوجه المعتبر لزم انقطاعه وعوقه، وذلك هو الغرض من الجدل ولكن عوقه وانقطاعه لا يستلزم أن يكون الحق بيد المانع [2ب]، وغلا لزم أن يكون الحق بيد كل غالب في المراء والجدال، ولا يخفى ما يترتب على ذلك، وعلى الجلة، فعبارة المجيب في هذا المقام مشكلة جدا.
البحث الرابع
في تقرير أن الخطبة بمثابة ركعتين، وأنها شرط كما أشرنا إلى ذلك في إشراق الطلعة (1) وهو مبني على مقدمات.
الأولى: أن الحقائق الشرعية (2) واقعة بمعنى أن الشارع نقلها عن معانيها اللغوية إلى
_________
(1) انظر الرسالة (87).
(2) ومثال ذلك:
1 - كلفظ الصلاة والصوم، وأمثالها فإن هذه الألفاظ كانت معلومة لهم ومستعملة عندهم في معانيها المعلومة، ومعانيها الشرعية ما كانت معلومة لهم.
2 - وقيل الحقيقة الشرعية هي اللفظ الذي استفيد من الشارع وضعه للمعنى سواء كان اللفظ والمعنى مجهولين عند أهل اللغة. ومثاله: كأوائل السور عند من يجمعها اسما لها أو للقرآن فإنها ما كانت معلومة على هذا الترتيب ولا القرآن ولا السور.
أو كانا معلومين ومثاله: كلفظ الرحمن (لله) فإن هذا اللفظ كان معلوما لهم، وكذا صانع العالم كان معلوما لهم بدليل قوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} [الزخرف: 87] لكن لم يضعوه لله تعالى، لذلك قالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة حين نزل قوله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110]. وقال الصفي الهندي: أن يكون المعنى معلوما واللفظ غير معلوم عندهم ومثاله: كلفظ الأب فإنه قيل: إن هذه الكلمة لم تعرفها العرب، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما نزل قوله تعالى: {وفاكهة وأبا} [عبس: 31]. هذه الفاكهة فما الأب؟ ومعناه كان معلوما لهم بدليل أن له اسما آخر عندهم نحو العشب.
انظر الإبهاج (1/ 275 - 276)، البحر المحيط (2/ 158 - 158)، إرشاد الفحول ص 108).(6/2959)
معان مخترعة شرعية، وصار اللفظ اسما لمجموع تلك الأجزاء بخصوصها، ولتكن هذه المقدمة أصلا موضوعا، لأنه قد برهن عليها في الأصول.
المقدمة الثانية: أن الماهيات كما تكون طبيعية تكون وضعية، بمعنى أن واضع الاسم إذا اعتبر في معناه مجموع أشياء وجودية، أو عدمية حقيقية أو اعتبارية صار مسمى اللفظ مجموع ما اعتبره، وكان كل معتبر جزءا من الماهية، فلا يكون المعنى الحقيقي للفظ إلا جميع الماهية الملتئمة من الأجزاء التي لاحظها الواضع عند الوضع، وهذه المقدمة أيضًا أصل موضوع قد تقررت في علم الحكمة، وفي علم الوضع.
المقدمة الثالثة: أن تلك الأجزاء المعتبرة للماهية الاعتبارية قد تكون مختلفة كأركان الحج وأركان القياس، والتشبيه مثلا، وقد يختص بعض أجزائها بحكم غير ما يختص به البعض الآخر كهذه المذكورة ونحوها، وهذه المقدمة أيضًا غنية عن البيان.
المقدمة الرابعة: إن أحكام الشارع على الحقائق الشرعية إنما تنصرف إلى الماهيات التي اعتبرها ووضع اللفظ بإزائها.(6/2960)
المقدمة الخامسة: أنه إذا انعدم جزء من أجزاء الماهية انعدمت لانعدامه، إذ المركب من مجموع أجزاء ينعدم لانعدام جزء منها وذلك واضح [3أ].
المقدمة السادسة: إن الماهيات التي اعتبرها الشارع، وهي معاني الحقائق الشرعية تكون معرفتها بقول يدل على ذلك أو بفعل مبين لذلك ويعرف كون الفعل بيانا اقترانه بقول أو بقرينة كما تقرر في الأصول (1) فما شمله الفعل أو القول من الأجزاء المعتبرة فهو الملاحظ في تلك الماهية، ويلا يلغى اعتبار الجزئية إلا لدليل يدل على أنه لم يعتبر ذلك الأمر جزاء، بل اعتبره واجبا مستقلا أو شرطا أو نحو ذلك.
وبعد:
هذه المقدمات يعلم أنه وقع خطاب التكليف بصلاة الجمعة، وهي حقيقة شرعية موضوعة بإزاء ماهية اعتبارية وضعية، ولا سبيل إلى معرفة تلك الماهية المطلوبة إلا بتعريف الشارع وبيانها لنا بقول، أو فعل مع قول، أو مع قرينة، فبينها صلى لله عليه وآله وسلم، بالخطبة والصلاة في جماعة، واستمر هذا البيان من حين قدم المدينة (2) إلى أن توفاه الله تعالى، فكانت الخطبة ركنا من أركانها وبعضا من أجزائها ولو لم تكن كذلك لبين حكمها أو تكرها لبيان الجواز ولو مرة في عمره، كما فعل في غيرها ولو لم تكن كغيرها من سائر الصلوات التي لم يجعل ما هو خارج عنها من أركانها بل هي حقيقة مستقلة اعتبر فيها ما لا يعتبر في غيرها ولهذا خالفت سائر الصلوات من جهات عديدة، منها عذر المسافر عنها والعبد والمرأة والمريض وأهل البادية (3) ومنها أنها
_________
(1) انظر الكوكب المنير (1/ 153 - 154).
(2) تقدم ذكر ذلك.
(3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (1067) وهو حديث صحيح من حديث طارق بن شهاب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض.(6/2961)
لا تكون إلا جماعة اتفاقا، ومنها المخالفة في الوقت حتى قيل: تجزئ قبل الزوال (1).
قال ابن المنذر: وفي عدم إذن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لأهل قباء والعوالي بإقامتها في مساجدهم أبين البيان أن حكمها مخالف لسائر الصلوات انتهى.
فإن قلت: إنه يلزم [3ب] على هذا أن تكون الخطبة ركنا لا شرطا.
قلت: لا ضير في ذلك، ونحن نلتزمه، وكثيرا ما يقع في عبارة المتقدمين التعبير بشرط الصحة، وبالركن عن شيء واحد، لأن حكمها واحد، وهو انعدام الماهية بانعدام ركنها أو شرطها كما قال ابن رشد المالكي في نهاية المجتهد (2) ما لفظه: الفصل الثالث في الأركان: اتفق المسلمون على أنها خطبة وركعتان بعد الخطبة، واختلفوا من ذلك في خمس مسائل: هي قواعد هذا الفصل، المسألة الأولى: هل هي شرط في صحة الصلاة، وركن من أركانها أم لا. فذهب الجمهور إلى أنها شرط وركن انتهى كلامه. ولهذا جعلوا الخطبتين بمثابة ركعتين.
فإن قلت: فعلى هذا يلزم أن تكون الخطبة من الصلاة.
قلت: وأي محذور في ذلك؟ فإن الخطبة ذكر كما قال تعالى {فاسعوا إلى ذكر الله} (3)
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (939) ومسلم رقم (30/ 859) من حديث سهل بن سعد قال: ما كنا نصلي مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجمعة ثم نرجع إلى القائلة فنقيل.
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (29/ 858) من حديث جابر قال: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي الجمعة ثم يذهبون إلى جمالهم فيريحونها حتى تزول الشمس.
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (4168) ومسلم رقم (860) وأبو داود رقم (1085) والنسائي رقم (1391) وابن ماجه رقم (1100) من حديث سلمة بن الأكوع قال: كنا نجمع مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا زالت الشمس.
قال الشوكاني في السيل الجرار (1/ 600) ومجموع هذه الأحاديث يدل على أن وقت صلاة الجمعة حال الزوال وقبله، ولا موجب لتأويل بعضها.
(2) بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد (1/ 386) بتحقيقي.
(3) الجمعة: 9.(6/2962)
والصلاة عبارة عن ذات الأذكار والأركان، وقد اعتبر فيها ما اعتبر في الصلاة من الطهارة، والمنع من الكلام. وقد أخرج الإمام أحمد (1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا، والذي يقول أنصت ليست له جمعة. قال الحافظ ابن حجر (2) وهو يفسر حديث أبي هريرة في الصحيحين (3) مرفوعا: إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت.
قلت: ونفي الجمعة (4) في قوله ليست له جمعة تقرر كنظائره من الأدلة التي يتوجه النفي فيها إلى الذات [4أ].
البحث الخامس
قال المجيب كثر الله فوائده: إن الصحة سقوط القضاء في ................................
_________
(1) في المسند (1/ 230).
(2) في الفتح (2/ 414 - 415).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (394) ومسلم رقم (11/ 851).
قلت وأخرجه أبو داود رقم (1112) والترمذي رقم (512) والنسائي (3/ 104) وابن ماجه رقم (1110) والدارمي (1/ 364) ومالك (1/ 103 رقم 61) وأحمد (2/ 272).
(4) انظر أقوال العلماء في ذلك.
قال العلماء: معناه لا جمعة له كاملة للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه وحكى ابن التين عن بعض من جوز الكلام في الخطبة أنه تأول قوله: فق لغوت أي أمرت بالإنصات من لا يجب عليه، وهو جحود شديد، لأن الإنصات لم يختلف في مطلوبيته فكيف يكون من أمر بما طلبه الشرع لاغيا بل النهي عن الكلام مأخوذ من حديث الباب بدلالة الموافقة لأنه إذا جعل قوله: أنصت مع كونه آمرا بالمعروف لغوا فغيره من الكلام أولى أن يسمى لغوا.
وقالوا: إذا أراد الأمر بالمعروف فليجعله بالإشارة.
انظر: المغني (3/ 193 - 195).(6/2963)
العبادات (1) وترتب الآثار جميعا في المعاملات، وهاهنا قد سقط في القضاء، وهكذا الإجزاء (2) كما قرره أهل الأصول على أنهم قد صححوا الذات التي وقع التكليف بها، مع عدم شرطها في الواقع إذا حصل الظن بفعله فقط انتهى.
وأقول أولاً: إن قوله: وهاهنا قد سقط القضاء دعوى مجردة عن الدليل، فإن أسندها بما تقرر في الأصول من أن القضاء بأمر جديد، ولا أمر جديد فيما نحن بصدده، فهذا غير خاص بصلاة الجمعة، بل سائر الصلوات الخمس وجميع الواجبات إذا تركت فقضاها ساقط إلا أن يأتي أمر جديد في ذلك الواجب أنه إذا ترك وجب قضاؤه، ويأتي دليل آخر أن ذلك الواجب المأمور بقضائه إذا فعل مجردا عما يظن أنه من شرطه، أو شطره كان مسقطا للقضاء، فحينئذ يتم دعوى أنه قد سقط قضاء هذا الواجب إذا فعل مجرجا، أو أن ذلك دليل عدم الشرطية أو الشطرية.
وثانيًا: أن قوله: وأما ما قاله المتكلمون (3) فهو غير اصطلاح أهل الأصول لا يخفى ما فيه، فإن نفس مخالفة اصطلاحهم لاصطلاح أهل الأصول لا تدل على بطلان قولهم، على أن المتكلمين هم من أهل الأصول، وكلا القولين منصوص عليهما في علم الأصول، وإنما قابلوا قول المتكلمين بقول الفقهاء، لا بقول الأصوليين حتى يتوهم خروج [4ب] المتكلمين عن زمرة الأصوليين.
البحث السادس
إن إقامة الجمعة جماعة بخطبة لا خلاف في صحتها بين أحد من أئمة المسلمين فمن
_________
(1) انظر البحر المحيط للزركشي (1/ 319). الكوكب المنير (1/ 467).
(2) انظر البحر المحيط للزركشي (1/ 319 - 321)
(3) ذكره الزركشي في البحر المحيط (1/ 319)(6/2964)
ادعى بعد هذا صحة إقامتها بغير خطبة براءة ذمة المكلف بفعلها كذلك فعليه الدليل، ويقرر هذا الأصل بما قاله المجيب كثر الله فوائده في هذه المقدمة ولفظه أن التعبد بالصلاة إنما ورد بصورة مخصوصة، فإذا كانت ناقصة نقصانا يخرج به عن الهيئة المطلوبة من الشارع، وهو النقصان الذاتي، فمن فعلها على تلك الصورة الناقصة لم يفعل الصورة التي طلبها منه الشارع فإذا ادعى صحتها فعليه الدليل، ويكفي المانع للصحة أن يقوم في مركز المنع حتى يأتي مدعي الصحة بما ينقله عن مقام المنع، ولا ينقله عن ذلك إلا دليل صحيح يدل على أن تلك الصورة الناقصة صحيحة مجزئة مسقطة للقضاء. انتهى كلامه (1) وهو كلام نفيس جدا.
وأما قوله بعد ذلك: هذا إذا كان قد اتفق المتناظران على أن ذلك الشيء المتروك هو ركن من أركان الصلاة التي وقع التكليف بها، وأنها بدونه ناقصة نقصانا ذاتيا إلى آخر كلامه، فجوابه أولا بالمعارضة، وهو أنه قد اتفق المتناظران على شرعية الخطبة وصحة الصلاة بها، ومقارنتها لها، وعدم ترك الخطبة من أحد ممن أقام شعارها العظيم من حين شرعها الله تعالى إلى الآن، فإنه لم ينقل إلينا أن أحدا من أهل الإسلام أقام الجمعة بغير خطبة، فمع اتفاق المتناظرين على هذا [5 أ] فالدليل على مدعي صحتها بدون خطبة، وثانيا بأن اشتراطه كثر الله فوائده لاتفاق المتناظرين على الركنية، وأنها بدونه ناقصة نقصا ذاتيا يستلزم رفع الخلاف بينهما، وعدم الثمرة للمناظرة لأن الخصم إذا قد سلم كونها ركنا، وأنها بدونه ناقصة نقصانا ذاتيا، فماذا بقي بعد هذا إلا المكابرة التي لا تليق بمنصف.
وبعد تقرير هذه الأبحاث يعلم الجواب على المقاصد، لأن الذي اشتملت عليه إما المطالبة بدليل شطرية الخطبة أو شرطيتها، وهو الذي اشتمل عليه المقصد الأول، وبعض المقاصد الآخرة.
_________
(1) انظر كلام الشوكاني هذا في الرسالة رقم (88).(6/2965)
وأما الاعتراض بعدم السلوك في إشراق الطلعة (1) على المسالك المعتبرة في الجدل وهو مضمون المقصد الثاني، وقد عرفت الجواب عليهما من البحث الرابع، ومن البحث الثاني.
وأما الكلام على حديث: من أدرك ركعة (2) وهو مضمون بقية المقاصد، وقد ذكرنا ما يتعلق بذلك في إشراق الطلعة (3) فلا حاجة إلى إعادته هنا.
وأما منع كون خطاب التكليف بصلاة الجمعة مجملا وهو المقصد السابع، وقد عرفت في البحث الرابع أن الحقائق الشرعية لها ماهيات وضعية اعتبرها الشارع لا تعرف إلا ببيانها منه. وأما الكلام على الاستدلال بالحديث المنقطع (4) وهو المقصد الثامن، وهي مسألة معروفة في الأصول، فلو تكلمنا عليها لفعلنا ما هو معروف عند المجيب أبقاه الله، مما استدل به أئمتنا عليهم السلام [5ب] على قبول المرسل (5) وما حققه الإمام عبد الله بن حمزة في الشافي (6)، ولم نقل إن أصحابنا يحتجون بالمنقطع إلا لأنا بصدد دفع ما منع به دليل أئمتنا، لأني قد ذكرت في خطبة الرسالة أي سأنقل المسألة برأسها من كتب أهل المذهب وغيرهم، فالاعتراض عليهم بما أصلوه في الأصول لا يجدي في الفروع إلا بنقل الكلام إلى ذلك، ونقل الكلام إلى تلك المسألة الأصولية تطويل لكونها معروفة.
وعلى الجملة فإنه يظهر للمنصف أن الحكمة في تشريع الجمعة هي غير الحكمة في
_________
(1) انظر الرسالة رقم (87).
(2) تقدم تخريجه.
(3) انظر الرسالة رقم (87).
(4) تقدم تعريفه وبيان حجيته.
(5) تقدم تعريفه، وبيان حجيته.
(6) وهو رد على كتاب الرسالة الخارقة للفقيه: عبد الرحيم بن أبي القبائل المتوفى سنة 616 هـ. ألفه عبد الله بن حمزة الحسني اليمني، وهو في أربع مجلدات ضخمة حقق فيها أيضًا طرقه ومروياته.
مؤلفات الزيدية (2/ 121).(6/2966)
غيرها، وأنه لوحظ فيها ما لم يلاحظ في غيرها. والله تعالى أعلم. وفقنا الله تعالى إلى سلوك سبيل السلام وأصلح لنا النيات، وأحسن الختام بجاه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ صلاة وسلاما يدومان بدوام الملك العلام. حرر بتاريخ سلخ شهر صفر سنة 1219 هـ.(6/2967)
الدفعة في وجه ضرب القرعة
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(6/2969)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين وبعد:
فإنه لما وقف سيدي العلامة فخر الدين عبد الله بن عيسى بن محمد بن الحسين (1) - عافاه الله وكثر فوائده- على جوابي على رسالته الذي سميته " اللمعة في الاعتداد بإدراك الركعة من الجمعة " أرسل ببحث سماه ضرب القرعة في شرطية خطبة الجمعة فمن أحب تحقيق الحق، فمن أحب تحقيق الحق، والوقوف على ما يجب اعتماده، فلينظر أولا في رسالته التي سماها إشراق الطلعة (2) ثم في جوابي عليها، ففي النظر في الأصل، والجواب ما يرفع الحجاب ويوضح الحق، وأنا أتكلم هاهنا على أبحاث من كلامه في رسالته الأخيرة، وقد تقدم مني جواب عليها، وأرسلته إليه وهو الأم، ولم يعد منه ما يفيد الموافقة ولا المخالفة، وطال الأمد، فطلب مني بعض العلماء إيضاح ما يصلح لتعقب ذلك البحث، فكتب هاهنا ما ينجلي عند إعادة النظر في تلك الرسالة مع تناسي ما كتبته في الجواب الباقي لدى المجاب عليه عافاه الله.
فأقول: قال - كثر الله فوائده -: البحث الأول إن ذكر المسائل العلمية إلخ.
أقول: لا يشك عارف في انقسام الباعث على ذكر المسائل العلمية إلى ما ذكره من مجرد الإرشاد، أو المناظرة، لكن الشأن هاهنا في كلامه في رسالته المتقدمة من أي القسمين هو، إن كان من الإرشاد إلى الحق كما زعمه فهل الباعث له هذا الإرشاد كونه قد صح عنده شيء من ذلك؟ بل ليس عنده إلا مجرد أن فلانا قال فيها بكذا، واستدل بكذا، من دون أن يعلم أن ذلك حق أو باطل، بل لا مقصد له إلا حكاية القول وقائله
_________
(1) تقدمت ترجمته في الرسالة (87)
(2) الرسالة رقم (87).(6/2975)
ودليله كما يفعله المقلدون، وإن كان الباعث له في الأمر الأول فما معنى الاعتذار في هذه الرسالة بقوله في البحث الثاني إنه نقلها عن فلان وفلان، وأن الكتاب موجود، إلى آخر ما قاله هنالك، فإن هذا إنما هو صنيع من ليس له إلا الحكاية والتقليد، ولا ريب أنه لا يطلب منه إلا تصحيح النقل ثم إن دليله الذي دعى الناس إليه [1أ] فإن لم يجد في رسالته تلك إلا الكلام على دليل المخالف له، والاقتصار بعد ذلك على رؤية منقطعة، وأخرى ضعيفة، ينتهيان إلى رجلين من الصحابة، ولا حجة في ذلك لأمرين: الأول عدم صحة السند (1) لو كان قائل ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فكيف والقائل له غيره.
الأمر الثاني أنه قد تقرر أن الحجة الشرعية التي ثبتت بها التكاليف العامة والخاصة للعباد لا تكون بقول فرد من أفراد الصحابة ولا الأفراد ما لم يكن ذلك إجماعا (2)
_________
(1) قال الشوكاني في إرشاد الفحول ص (242): من حديث هو ما اتصل إسناده بنقل عدل ضابط من غير شذوذ ولا علة فادحة فما يكن متصلا ليس بصحيح، ولا تقوم به الحجة، ومن ذلك المرسل وهو أن يترك التابعي الواسطة بينه وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا اصطلاح محور أهل الحديث.
ثم قال ص 247: ولا تقوم الحجة بالحديث المنقطع وهو الذي سقط من رواته واحد ممن دون الصحابة، ولا بالمعضل وهو الذي سقط من رواته اثنان، ولا بما سقط من رواته أكثر من اثنين لجواز أن يكون الساقط أو الساقطان أو الساقطون أو بعضهم غير ثقات.
وانظر قواعد التحديث للقاسمي ص 130.
وقال الشيخ عبد الله سراج الدين في المنظومة البيقونية ص 100: والمعضل ما سقط من إسناده اثنان فصاعدا بشرط التوالي كقول مالك: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال ابن عمر، والمعضل أسوأ حالا من المنقطع، وذلك للجهل بحال من حذف من الرواة، وإنما يكون أسوأ حالا من المنقطع إذا كان الانقطاع في موضع واحد، أما إذا كان في موضعين فإنه يساوي المعضل في سوء الحال.
وانظر الكفاية ص 81 - 82.
(2) انظر المستصفى (2/ 294)، البحر المحيط (4/ 436)، الكوكب المنير (2/ 210).(6/2976)
والبحث مدون في الأصول، معروف مشهور، فكيف نصب نفسه - كثر الله فوائده - إلى دعاء الناس إلى حال يقوم به حجة على فرد من أفرادهم! وأثبت بما لا يقوم الحجة شرائط لم يأذن الله بها في كتابه، ولا نطق بها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -! فهل هذا شأن المرشدين إلى مسائل الدين من العلماء المجتهدين؟. وإن قال: الباعث له هو الأمر الآخر، فكيف استجاز أن يدعو الناس إلى ما لا يعلم أنه من أقسام الحق، أو من الباطل، وهل هذا صنع الدعاة إلى الله، وإلى شريعته، مع أنه بأبى عليه أن يكون هذا الباعث أمور:
الأول: تكلمه على دليل المخالف، بزيادة على ما تكلم به القاضي زيد ومن معه، كما صرح بذلك، وأوضح مواضع نقله.
الثاني: إيراده لما ظنه دليلا من منقطعات أقوال بعض الصحابة. الثالث: أن هذه الرسالة قد اشتملت على ما لم يكن في شرح القاضي زيد من استدلال، ودفع، وترجيح.
والرابع: أنه عنون رسالته (1) تلك بعنوان، وسماها باسم، فإن كان ناقلا كما قال، فما معنى هذا العنوان، وما مفاد هذه التسمية؟ فإن ذلك يكتفي أن هذه الرسالة مؤلفة له في هذه المسألة، ولو كان المراد مجرد النقل عن القاضيزيد كان يغني عن ذلك أن يقول قال فلان في الكتاب الفلاني ما لفظه كذا، ثم يقول عقيب نقل المراد انتهى بلفظه كما يفعله من يريد النقل عن الغير، وأما إذا الباعث له ليس مجرد الإرشاد [1ب]، بل مجرد يدعي شرطا لشيء أو شطرا له ثم يعنون بحثه بالكلام على دليل المخالف، وبعد التدبر لهذه التقديرات يتضح للناظر في هذه المباحث ما اشتمل عليه البحث الأول من هذه الرسالة التي نحن بصدد الكلام عليها.
_________
(1) أي " إشراق الطلعة في عدم الاعتداد بإدراك ركعة من الجمعة ". الرسالة رقم (87).(6/2977)
قال - كثر الله فوائده - البحث الثاني: أنها لم تهمل في تلك المسألة المسالك المعتبرة إلخ.
أقول: ظاهر كلامه، بل صريحه أنه لم تهمل المسالك المعتبرة في رسالته، ولا أهملها أحد من المصنفين، وهذه الكلية غريبة جدا من مثله في فضله ونبله، ولكني لا أهمل المسالك المعتبرة فيما أحرره الآن على كلامه هذا في عدم إهماله للمسالك المعتبرة، فأقول: هو - كثر الله فوائده - قد قام هنا في مقام المنع، فإن كلامه هذا في قوة منع الإهمال، والذي يتوجه من جهة مدعي الإهمال هو الاستدلال على وجه الإهمال يف الكل والبعض، لأن كلامه هنا إن كان من عموم السلب فنقضه يتم بوجود الإهمال في فرد من أفراد كتب الاستدلال، أو في رسالته هذه، وإن كان من باب سلب العموم فلا يضرنا ولا ينفعه، لأني لم أقل بثبوت الإهمال من كل أحد، بل قلت: إنه كثيرا ما يقع الإهمال ويكفيه، ويكفينا، ويكفي الناظر في هذه المناظرة أن يمعن النظر في رسالته - عافاه الله - التي سماها " إشراق الطلعة " فإن وجد قد استدل في مقام المنع، ومنع في مقام الاستدلال فذلك هو الذي أردنا الإرشاد لا التنبه له والتحذير من الوقوع فيه، وأما كتب الاستدلال فقد أجادها بتقييد زعمه من عدم الإهمال فيها بما يعلمه، فإن هذا الأمر ظاهر مكشوف لا يخفى على مثله، ولكنه ربما ذهل عند تحرير هذه الأحرف عن ذلك، أو تذاهل لدفع ما ورد على كلامه على أي صفة كان الدفع، وها أنا أقول له، أو للناظر في هذه المناظرة: عليك بكتاب من كتب الفقه التي يتعرض مصنفوها للاستدلال على أي مذهب كان، فأمعن النظر في مقدار كراسة منه، فإن وجت ما ذكرناه فذلك يكفينا مؤنة النقل، وإن لم تجد هذا في غالب [2أ] تلك المؤلفات فتعال حتى أملي عليك من ذلك ما تطمئن به نفسك، وتقر به عينك. وها نحن نقرب لك المسافة، ونطلعك على الحقيقة.
فنقول: قال - كثر الله فوائده - في أوائل رسالته التي سماها " إشراق الطلعة " (1) ما
_________
(1) الرسالة رقم (87).(6/2978)
لفظه فإقول: قال القاضي زيد (1): مسألة: وإن أدرك شيئا من الخطبة نحو أن يدرك منها قدر آية أتمها جمعة، وإن لم يدرك من الخطبة شيئا لم يصح منه الجمعة، ويصلي أربعا، ويبني على ما أدركه مع الإمام، ثم ذكر بعد ذلك أن الخطبة بمثابة ركعتين، وأنها شرط. فاعلم أنه هنا قد ذكر خمس مسائل: الأولى: عدم صحة الجمعة، والثانية يصلي أربعا، والثالثة يبني على ما أدركه، والرابعة أن الخطبة مقام ركعتين. والخامسة أنها شرط، فهذه خمس مسائل يكفي المانع من ثبوتها أو بعضها أن يقوم مقام المنع (2)، وعلى من ادعى ثبوتها الاستدلال عليها بدليل يوجب نقل المانع من مقام المنع، فما باله ههنا ترك ذلك كله وقال: فإن قيل: روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ما أدركت فصل " (3) فإن هذا تعرض للكلام على ذليل المخالف قبل الاستدلال على إثبات الدعوى، وقيل تزلزل قدم المانع عن مقام المنع، وليس هذا الموافق للمسالك المعتبرة في قواعد المناظرة عند من له أدنى فهم، بل المسالك المعتبرة ههنا أن يقرر ثبوت تلك المسأئل ببرهان تقوم به الحجة على المخالف، لا بمجرد تشفيع دعوى بدعوى، فإذا جاء به على هذه الصفة كفاه، فإن تسليم المخالف لدليل المدعي يكفي، فإن جاء ذلك المخالف بما هو سند للمنع كان على المدعي أن يتكلم عليه حتي يبطله، فتكون الدائرة له، أو يعجز عنه فتكون الدائرة عليه. وأما مجرد تعداد خمس مسائل [2ب] لم تربط بدليل قط، وقلب المناظرة بالكلام على دليل المانع، وغضب منصب المنع، فهذا ليس من المسالك المعتبرة في ورد ولا صدر، ولا هو من مباحث على الجدل (4) في قبيل ولا بير، يعرف هذا من
_________
(1) في " الأزهار " (1/ 612 - السيل الجرار).
(2) انظر الرد الشوكاني في الرسالة رقم (88).
(3) تقدم تخريجه مرارا.
(4) الجدل في اللغة: اللدد في الخصومة والقدرة عليها جادله فهو جدل ككنف - مجدل - كمنير - ومجدال كمحراب، وجدلت الحبل أجدله جدلا: كفتلته أفتله فتلا أي فتلته فتلا محكما، والجدالة: الأوض. يقال: طعنه فجدله: أي رماه في الأرض - " أساس البلاغة " (1/ 111)، " مقاييس اللغة " (1).
الجدل في اصطلاح الفقهاء: فتل الخصم أي رده بالكلام (عن قصده) أي ما يقصده من نفي أو إثبات من حكم لطلب صحة قوله أي قول القائل له، (إبطال) قول غيره.
انظر: " الفقيه والمتفقه " (1/ 229).
واعلم أن المناظرة والمجادلة والمحاورة والمناقشة والمباحثة ألفاظ مترادفة وقد توجد بعض الفروق بينها عند علماء البحث، فيرى بعضهم أن الجدل يراد منه إلزام الخصم ومغالبته. والمناظرة تردد الكلام بين شخصين، يقصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه، مع رغبة كل منهما في ظهور الحق والمحاورة هي المراجعة فالكلام ومنه التحاور.
انظر: " مناهج الجدل " (ص25)، " الكافية في الجدل " (ص19).
ومن آداب المناظرة والجدال: ينبغي للمجادل أن يقدم على جداله تقوى الله تعالى لقوله سبحانه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16].
ويخلص النية في جداله، بأن يبتغي به وجه الله تعالى. وليكن قصده في نظره إيضاح الحق وتثبيته دون المغالبة للخصم. أن يبني أمره على النصيحة لدين الله، وللذي يجادله لأنه أخوه في الدين مع أن النصيحة واجبة لجميع المسلمين. وليرغب إلى الله في توفيقه لطلب الحق فإنه تعالى يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].
ينبغي أن لا يكون معجبا بكلامه، مفتونا بجداله فإن الإعجاب ضد الصواب ومنه تقع العصبية رأس كل بلية. وهناك آداب كثيرة ذكرها الخطيب البغدادي في " الفقيه والمتفقه " (2/ 8 - 62).
وإليك بعض الآداب المتعلقة بالسؤال والجواب: ينبغي أن يوجز السائل في سؤاله ويحرر كلامه ويقلل ألفاظه ويجمع فيها معاني مسألته، فإن ذلك يدل على حسن معرفته. يلزم المجيب أن يسد بالجواب موضع السؤال، ولا يتعدى مكانه ويجعل المثل كالممثل به، ويختصر في غير تقصير وإن احتاج إلى البيان بالشرح أطال من غير هذر، ولا تكدير، ويقابل باللفظ المعنى حتى لا يكون غير ناقص عن تمامه، ولا فاضل عن جملته. والسؤال على أربعة أضراب: السؤال عن المذهب، بأن يقول السائل: ما تقول في كذا؟ السؤال عن الدليل، بأن يقول السائل، ما دليلك عليه؟ ج - السؤال عن وجه الدليل فيبينه المسئول. د - السؤال على سبيل الاعتراض، والطعن فيه فيجيب المسؤول عنه ويبين بطلان اعتراضه وصحة ما ذكره من وجه دليله. فإن ذلك يختلف باختلاف الدليل: فإن كان دليله من القرآن كان الاعتراض عليه من ثلاثة أوجه: أن ينازعه في كونه محكما، ويدعي أنه منسوخ. أن ينازعه في مقتضى لفظه. ج - أن يعارضه بغيره فيحتاج أن يجيب عنه بما يدل على أنه لا يعارضه، أو يرجح دليله على ما عارضه به. وإن كان دليله من السنة فالاعتراض عليه من خمسة أو جه: أن يطالبه بإسناد حديثه. أن يقدح في إسناده وذلك من وجوه: أن يكون الراوي غير عدل. أن يكون مجهولا. أن يكون الحديث مرسلا. ج - الاعتراض على المتن من وجوه: - أن يكون المتن جوابا عن سؤال، والسؤال مستقل بنفسه فيدعي المخالف قصره على السؤال. - أن يكون الجواب غير مستقل بنفسه ويكون مقصورا على السؤال ويكون السؤال عن فعل خاص يحتمل موضع الخلاف وغيره، فيلزم السائل المسؤول التوقف فيه حتى يقوم الدليل على المراد به. د - الاعتراض الرابع وهو دعوى النسخ. هـ- الاعتراض الخامس وهو معارضة الخبر بخبر غيره. فإن كان دليله الإجماع فإن الاعتراض عليه من ثلاثة أوجه: أن يطالب بظهور القول لكل مجتهد من الصحابة. أن يبين ظهور خلاف بعض الصحابة. أن يعترض على قول المجمعين، إن لم يكونوا صرحوا بالحكم بمثل ما يعترض على لفظ السنة. وإذا كان دليله الذي احتج به القياس، فإن الاعتراض عليه من وجوه: أن يكون مخالفا لنص القرآن، أو نص السنة، أو الإجماع. وإذا كان كذلك فإنه قياس غير صحيح. أن تكون العلة منضوية لما لا يثبت بالقياس. إنكار العلة في الأصل وفي الفرع. أن يعارض النطق بالنطق.
وانظر مزيد تفصيل في " الفقيه والمتفقه " (2/ 80 - 90)، " مناهج الجدا " (ص54، 57)، " الكوكب المنير " (4/ 634 - 830).(6/2979)
يعرف ذلك العلم معرفة بالكنه، أو بالوجه، فهذا المثال يكفي الناظر في هذه المناظرة، فإنه فاتحة رسالة المناظر - كثر الله فوائده -. فإن كان قد ساق هذا المساق من عند نفسه، وباختيارة فقد بطل عليه ما ادعاه من كلية عدم الإهمال في رسالته، وإن كان ناقلا فقط، وهذا السياق سياق المنقول عنه فقد بطل عليه ما ادعاه من الكلية في جانب عدم إهمال المصنفين لذلك، فكيف لم يقنع بنفي الإهمال عن رسالته، حتى نفاه عن جميع المصنفين في سابقي الدهر ولا حقه! مع أنه يعلم ويعلم كل أحد أن علم المناظرة علم اصطلاح حدث بعد انقراض بعض علماء المسلمين المصنفين، ولم يعلمه من المصنفين الموجودين بعد إلا القليل النادر، ومعلوم أن من لم يعلم بعلم العلوم لا يتمكن من استعمال قواعده كما ينبغي، ويراعي مسالكه كما يجب.
فإن قال: إن كلامه الذي ذكره في هذه الرسالة التي نحن بصدد عليها لم يكن(6/2982)
من باب عموم السلب، بل هو من باب سلب العموم كما قدمنا الإشارة إليه عاد عليه ما قد قدمنا الأمر بأنه لا ينفعه ولا يضرنا، وإن قال: إن تلك القصة التي تكلم بها هي قضية مهملة، وهي في قوة الجزئية، فهو أيضًا كلام لا ينفعه ولا يضرنا، لأنا لم نقل تكليف الإهمال، بل قلنا بوجوده كثيرا في المصنفات، ولعل قائلا يقول ههنا: إذا قد قررت حدوث هذا العلم، فما للناس به حاجة. فأقول: لم أتكلم ههنا على حاجة الناس إليه، ولا على عدمها، بل تكلمت على قول صاحب الرسالة - عافاه الله - أنه لم يهمل المسالك المعتبرة في هذا العلم، لا هو ولا غيره من المصنفين. وأما ما ذكره من أنه يتوجه على المستدل ثلاثة أمور: إما النقض، أو النقض، أو المناقضة، أو المعارضة، فهذا كلام صحيح، ولكن بعد أن يكون المستدل مستدلا بدليل يقبله المانع. وأما قبل [3أ] استدلال المستدل، وقبل انتقال المانع عن مركز المنع، فلا يتوجه شيء من ذلك، بل يكفي المانع القيام في ذلك المركز الذي هو منصبه، وهو المنع، فهذا الكلام - عافاه الله - خارج عن البحث الذي وقعت المؤاخذة به عليه.
قال - كثر الله فوائده -: البحث الثالث. قال المجيب. .. إلخ.
أقول: ما ذكره من نقل كلام من أوجب الدليل على النافي من أهل الأصول خروج من البحث بالمرة، ودفع لما نحن بصدده بالصدد، فإنا بصدد الكلام على ما ذكره أهل علم المناظرة، وعلى ما ادعاه من سلوكه في مسالكهم المعتبرة، وهم قد قرروا هذا وحرروه، وهو موجود في مؤلفاتهم، معلوم عند من يعرفها، مشهور عند أهلها. وقد قيد كلامي بقيد أوضح من الشمس، ونقله المجيب في كلامه الذي في هذه الرسالة التي نحن بصدد الكلام على ما فيها.
فقلت: وهذه الجملة معلومة عند أهل النظر، لا يختلفون في شيء من تفاصيلها، فبعد قولي عند أهل النظر كيف يتوجه له الاعتراض بما اعتراض! وقد رجع - كثر الله فوائده - إلى هذا في آخر كلامه، وجعل ذلك أحد شقي الترديد، ولا وجه للترديد بعد ذلك التصريح. وليعلم - أدام الله فوائده - أني لا أريد بالمانع مانعا معينا، وبالمستدل(6/2983)
مستدلا معينا، بل إذا لم يثبت برهان المسألة من أي مستدل كان، بدليل مقبول كان الحق عدم ثبوتها، لأن ما لم يرد به الشرع موردا صحيحا، ولا قضى به العقل قضاء مقبولا لا يحل تكليف عباد الله به، ولا يلزمهم قبوله، ومن زعم من أهل الأصول أن نافي ما هذا شأنه محتاج إلى الاستدلال بدليل على نفيه، وإلا لزمه العمل به، وإن مل يثبت بدليل فكلامه خارج عن الحق، مائل عن الصواب خروجا وميلا يعرف كل دوي الألباب؛ فإن هذا مع فساده في نفسه مستلزم فسادا كثيرا، وتكليفا ثقيلا، فإنا لو فرضنا أن مدعيا يدعي وجوب صلاة سادسة معلوم أنه لا يجد في الشرع والعقل دليلا يدل على ذلك، فإن كان عجزه عن الاستدلال يريح العباد من هذا التكليف فهو الذي أردنا بأن المانع إلا بالاستدلال، فإن كان يكفي هذا الاستدلال وجود دليل الإثبات بعد الإستقراء والتتبع، وكان هذا مرادهم، فالخطب أيسر على أن هذا هو عائد إلى المنع [3ب]، فصاحبه مانع لا مستدل، وإن كان لا يكفي إلا إبراز دليل مستقل غير عدم وجود الدليل، فيالله هذه المقالة ما أبعدها عن الحق! وما فيها من إثبات أحكام الشرع، أو العقل بمجرد دعوى المبطلين! وليتفضل - كثر الله فوائده - بإيضاح دليل نفي الصلاة السادسة على فرض وجود مدع يدعيها على هذا الوجه، حق يتبين له أنه يعجز عن الدليل إلا إذا كان راجعا إلى مركز لمنع كما أسلفنا.
قال - كثر الله فوائده -: البحث الرابع في تقرير الخطبة، الخطبة بمثابة ركعتين إلخ.
أقول: اعلم أن هذا البحث هو بيت القصيد، ومحل النشيد، فإن أصل الدعوى التي بنيت عليها تلك القناطر في الرسالة لمسماة " إشراق الطلعة " (1) وفي جوابي عليها المسمى: " اللمعة في الاعتداد بإدراك الركعة من الجمعة " (2) وفي الجواب من صاحب
_________
(1) الرسالة رقم (87).
(2) الرسالة رقم (88).(6/2984)
الرسالة - كثر الله فوائده - المسمى " ضرب القرعة في شرطية خطبة الجمعة " (1) وفي هذه الوريقات التي نحن بصددها الآن هو كون الخطبة جزءا من صلاة الجمعة، وأنه إذا لم يحصل السماع لها فقد فات شطر الصلاة، فلا يعتد الجمعة من لم يدركها، فاسمع الآن ما يملى عليك من رد ما استدل به في هذا البحث، حتى نعلم أن تلك المقالة مبنية على غير أساس.
فنقول: أما قوله: وهو مبني على مقدمات، ألأولى: أن الحقائق الشرعية واقعة إلخ فهذا مسلم، ولكنه حجة عليه لا له، وبيانه أن الحقائق الشرعية ثابتة واقعة، وأن من جملة ما نقله الشارع من معناه اللغوي الصلاة، فجعلها حقيقة شرعية في ذات الأذكار والأركان، وجعل تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم. فأخرج أحمد (2)، وأبو داود (3)، وابن ماجه (4)، والترمذي (5)، وقال: هو أصح شيء في الباب من حديث علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم "، فإن وصلاة الجمعة هي صلاة من جملة الصلوات تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، فإن كان صاحب الرسالة - كثر الله فوائده - يسلم أن صلاة الجمعة من جملة الصلوات، وأن الحقيقة ما ذكرناه منقولا عن الشارع - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فهذه المقدمة التي ذكرها حجة عليه لا له كما قدمناه، فإن كان يزعم أن الصلاة الجمعة حقيقة شرعية تختص بها، وأن تحريمها ليس هو التكبير كما نص عليه الشارع - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث، ونقله أهل الشرع عنه بأن تحريمها
_________
(1) الرسالة رقم (89).
(2) الرسالة رقم (89).
(3) في " المسند " (1/ 123، 129).
(4) في " السنن " رقم (618).
(5) في " السنن " رقم (275).(6/2985)
هو الشرع في الخطبة فلياتنا بدليل يدل على ذلك، لا بما هو خارج عن محل النزاع، أو بما هو حجة عليه لا له كما ذكره في هذه المقدمات. فإنا نقول له: نعم، الحقائق الشرعية واقعة، فكان ماذا؟ ثم نقول له في المقدمة [4أ] الثانية: إن الماهيات تكون وضعية كما ذكرت، فهل يأتينا بوضع منقول عن الشارع أن صلاة الجمعة ليست كسائر الصلوات، وليس تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، بل تحريمها الشروع في الخطبة، فإن كنت تجد إلى هذا سبيلا فلتأتنا به، فإنا لا نحتاج في قبوله إلى تقرير ثبوت الماهيات الوضعية؛ إذ تقريرها وتسليم ثبوتها من دون برهان على محل النزاع لا يضرنا ولا ينفعك، بل ينفعنا ويضرك كما قد قدمنا، فإن في الاستدلال لقولنا بعين هاتين المقدمتين اللتين أوردتهما أن الحقائق الشرعية ثابتة، وأن الماهية الوضعية موجودة، فإن كنت تزعم أن الشارع جعل الخطبة التي هي خارجة عن الماهيات الشرعية شطرا للصلاة، وجزءا منها، فنحن نمنع ذلك، ثم لو أردنا أن نننتقل عن مركز المنع إلى مركز الاستدلال لم يعجزنا أن نقول بعد تقرير ثبوت الحقائق الشرعية، وتقرير ثبوت الماهية الوضعية، وتقرير النقل عن الشارع أن الصلاة تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم وتقرير أن صلاة الجمعة صلاة من الصلوات أن ما قبل تحريمها وما بعد تحليلها غير داخل فيها، ولا جزء من أجزائها.
وأما ما ذكره في المقدمة الثالثة من أن أجزاء الماهية قد تكون مختلفة، فنقول: نعم، وهكذا محل النزاع، فإن الأجزاء الأذكار والأركان، وهما مختلفان ولكن هذا لا ينفعك ولا يضرنا، فإن كنت تزعم أن شيئا من الخارجات عن تحريمها وتحليلها داخل فيها فلا يثبت هذا الزعم إلا بدليل يدل عليه، ولا بمجرد ما ذكرته منت ثبوت الحقائق الشرعية، والماهيات الوضعية، وأنها قد تكون مختلفة، ولا بما ذكرته في المقدمة الرابعة من أن الحقائق الشرعية تنصرف أحكام الشارع عليها إلى الماهيات التي اعتبره، فإنا نقول بموجب هذا الكلام، ولا نزاع بيننا وبينك فيه أصلا، بل إذا حكم الشارع على صلاة من الصلوات بحكم، كان هذا الحكم ثابتا لتلك الصلاة، مثلا يكون قوله - صلى الله(6/2986)
عليه وآله وسلم -: " من أدرك ركعة من صلاة الجمعة فليضف إليها أخرى " (1). وقد تمت صلاته حكما ثابتا لصلاة الجمعة التي هي الأذكار والأركان الكائنة ما بين تحريمها وتحليلها.
وهكذا ما ذكره في المقدمة الخامسة من أنه إذا انعدم جزء من أجزاء الماهية انعدمت، فإنا نقول بموجب هذا أو نسلمه، ولكن محل النزاع بيننا وبينك في [4ب] جواز ذلك الجزء، فإن كان بيدك برهان فهاته، وإلا فالتطويل فيها لا طائل تحته، لا يأتي بفائدة إلا قطعية الأوقات، وتسويد الطروس (2) بما هو تحصيل للحاصل، وبيان للبين، وإيضاح للواضح. وهكذا ما ذكره في المقدمة السادسة من أن معرفة الحقائق الشرعية يكون بقول أو فعل، فإن مسلم إذا كان ذلك الفعل أو القول يدلان على أن ذلك الأمر جزء من الأجزاء، داخل في الأركان والأذكار التي بين التحريم والتحليل. وأما مجرد صدور قول أو فعل من الشارع يدل على أنه يفعل قبل الصلاة كذا أو بعدها كذا، فليس هذا دليلا على محل النزاع، ومجرد الملازمة لشيء مثل الصلاة أو بعدها يدل على أنه جزء أجزائها لكان الوضوء، والآذان، والإقامة جزءا من أجزاء الصلاة الداخلة فيها، بل هذه الأمور [. ....
... ] (3) الأمر الخطبة، لأنه ايضا مع الفعل والملازمة أقوال يزيدها تأكيدا وثبوتا، بل ثبت ما يدل على أن الوضوء شطر الإيمان (4)،
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) أي القراطيس التي بكتب عليها.
(3) كلمات غير واضحة في لمخطوط.
(4) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (223) وأحمد (5، 343، 344) والترمذي رقم (3517) والنسائي (5/ 5 - 6) من حديث عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الطهور شطر الايمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ". وهو حديث صحيح.(6/2987)
وأن الإيمان هو الصلاة، فهل يجعل هذه الأمور أجزاء للصلاة؟ إن قال نعم ارتكب ما هو خارق للإجماع، ومخالف للمعلوم من ضرور ة الدين، وإن قال لا فما الفرق مع كون ما ذكرناه اكد مما ذكره؟ فإنه لو تيسر له ما يفيد أن الخطبة شطر الصلاة كما ورد في الوضوء لصال به وجال وقال، وقال: وهكذا يلزم أن تكون الأذكار المشروعة عقيب الصلاة منها، لأن الشارع أرشد إليها ولازمها، واللازم في هذه الأمور باطل بالإجماع، فالملزوم مثله. وإذا تقرر لك ما أبرز، عرفت عدم وجود الدليل وجود على ما ادعاه، وعلمت اندفاع ما أورده في هذه المقدمات، أهنا حجة عليه لا له، فليس في المقام بيد القائلين مما قاله غير ما قد حرره، فإن كان نصب مثل هذه الأمور في مقابلة ما أوردناه في رسالتنا المسماة بـ " اللمعة " (1) من الأدلة الواردة من تلك الوجوه الثابتة من تلك الطرق، بعد دعاء إلى الحق، أو صناعة من الجدل المستعمل على قوانينه المعتبرة كما زعمه صاحب الرسالة - عافاه الله -، فقد فوضنا الناظر في هذه المناظر، وألقينا إليه بمقاليدها، وإن يكن ذلك من أي القسمين، ولا صح أندراجه في أحد الفنين علم ورودها أوردنا في تلك الرسالة. قال - كثر الله فوائده [5أ]-: البحث الخامس إلخ.
أقول: ما ذكره من أن القضاء بأمر جديد لا بدليل الأصل لا ينفعه ولا يضرنا؛ فإنه لم يثبت سبب القضاء، وهو انعدام الشطر أو الشرط، حتى يرد ما أورده، وإذا لم يثبت فليس الدليل على القائل بالصحة، وعدم الاختلال بعد وجود الماهية التي اعتبرها الشارع. ثم لو فرضنا أن الدليل على مدعي الصحة، عدم القضاء لكان ما ذكرناه في تلك الرسالة كافيا مثل الأحاديث المتواترة أن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها ومثل ما ورد في خصوص صلاة الجمعة لو لم يكن منها إلا قوله: " من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها أخرى " (2) وقد تمت صلاته، فإن هذا من التصريح بالمطلوب مالا يحتاج إلى زيادة بيان فكيف!.
_________
(1) الرسالة رقم (88).
(2) تقدم تخريجه.(6/2988)
قال - كثر الله فوائده -: إن دعوى سقوط القضاء ههنا دعوى مجردة عن الدليل.
قال - كثر الله فوائده -: البحث السادس أن إقامة الصلاة بخطبة لا خلاف في صحتها إلخ.
أقول: مثل هذا الكلام قد استعمله بعض أهل العلم في استدلالاتهم (1)، وهو مدفوع بما هو مبين في مواضعه، وعلى تسليم أن هذا الأمر الذي وقع فيه الخلاف جزءا من أجزاء الصلاة، وليس الأمر كذلك، بل هو محل النزاع، فالاستدلال بهذا الدليل مصادرة، وأيضا يلزم ما قدمنا ذكره من أن الصلاة تبطل بعدم الآذان، أو الإقامة قبلها، أو الأذكار بعدها، لأنه قد وقع الإجماع على أن صلاة من أذن وأقام وجاء بالأذكار المشروعة بعد الصلاة صحيحة، وأيضا قد وجد الدليل ههنا، وهو أحاديث: من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها (2). وصلاة الجمعة من جملة الصلوات، ويؤيد ذلك الأحاديث الواردة في خصوص صلاة الجمعة بما تفيد هذا المعنى.
وقد أوضحنا هذا في الرسالة الأولى المسماة: " اللمعة " (3) فأي دليل يفيد ما تفيده هذه الأدلة من اعتداد من أدرك ركعة من صلاة الجمعة بها، وأنه قد أدرك الصلاة بإدراكها. وبالجملة فقد أوضحنا في الرسالة المذكورة ما يقو م الحجة ببعضه فلا نعيده، بل نحيل الناظر في هذا عليها، وعلى الأصل الذي هي جواب عنه، فإنه إذا أخلص النظر
_________
(1) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (1/ 603): قد ثبت ثبوتا متواترا يفيد القطع بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ترك الخطبة في صلاة الجمعة قط.
فالجمعة التي شرعها الله سبحانه هي صلاة الركعتين مع الخطبة قبلها وقد أمر الله سبحانه في كتابه العزيز بالسعي إلى ذكر الله والخطبة من ذكر الله إذا لم تكن هي المرادة بالذكر فالخطبة فريضة.
وأما كونها شرطا من شروط الجمعة فلا.
(2) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(3) الرسالة رقم (88).(6/2989)
وتدبر (1) البحث لم يحتج إلى هذه الأبحاث المذكورة ههنا، ولا إلى ما هي جواب عنه، وإنما احتجنا إلى تحرير هذه الأبحاث لبيان ما في جواب الجواب من المقال. والله يهدي إلى صواب الصواب، ويرشد الجميع إلى الحق الذي يرضاه آمين، اللهم آمين. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
بلغ مقابلة على الأصل بعون الله، والحمد لله رب العالمين.
_________
(1) واعلم أن القلب على الخصم - المناظر - والمعارضة والنقض كل ذلك صحيح في النظر قال سبحانه وتعالى حاكيا عن قول المنافقين: (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا) [آل عمران: 168]، فأجابهم بما أقلبه عليهم في أنفسهم، وإن جعلته نقضا صح، وإن جعلته معارضة أيضًا صح. فقال تعالى: (فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [آل عمران: 168] والسكوت عن الجواب للعجز من أقسام الانقطاع قال سبحانه وتعالى: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [البقرة: 258].
وأقسام الانقطاع من وجوه أحدها ما تقدم:
2 - أن يعلل ولا يجدي.
3 - أن ينقض ببعض كلامه بعضا.
4 - أن يؤدي كلامه إلى المحال.
5 - أن ينتقل من دليل إلى دليل.
6 - أن يسأل عن الشيء فيجيب عن غيره.
7 - أن يجحد الضرورات ويدفع المشاهدات ويستعمل المكابرة والبهت في المناظرة.
لذلك ينبغي لمن لزمته الحجة، ووضحت له الدلالة، أن ينقاد لها ويصير إلى موجباتها، لأن المقصود من النظر والجدل طلب الحق واتباع تكاليف الشرع، وقد قال سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 18].
انظر: " الفقيه والمتفقه " (2/ 112).(6/2990)
بحث في الكسوف
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(6/2991)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: بحث في الكسوف.
2 - موضوع الرسالة: فقه الصلاة.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد والأمين وآله الطاهرين.
وبعد:
فإنه ورد سؤال من بعض أهل العلم عن الكسوف ....
4 - آخر الرسالة:. .. وهذا لا يجهله من له أدني إلمام بالعلوم الشرعية لأنه قد طرح به في عدة أبواب كباب صلاة العيد وكباب الصيام وكباب الحج والحمد لله رب العالمين.
كمل من تحرير المجيب محمد بن علي الشوكاني حفظه الله تعالى وأحيا به الشريعة المطهرة.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - المسطر: 4 صفحات.
الأولى: 19 سطرا.
الثانية: 26 سطرا. الثالثة: 26 سطرا.
الرابعة: 22 سطرا.
7 - عدد الكلمات في السطر: (13 - 14) كلمة.
8 - الرسالة من المجلد الأولى من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(6/2993)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين، وبعد:
فإنه ورد سؤال من بعض أهل العلم عن الكسوف الواقع ليلة الربوع، لعلها اليوم الثالث عشر من شهر الحجة الحرام، على ما دل عليه كما عدة شوال والقعدة، لأن أول شهر الحجة كان على اعتبار كمال عدة الشهرين الذين قبل يوم الجمعة، فكان على هذا يوم الأضحى يوم الأحد، ووقع الكسوف ليلة رابع عيد الأضحى، وهي ليلة الربوع، فقال هذا السائل ما حاصله: هل يدل هذا الكسوف للقمر على أن أول الشهر يوم الخميس، لأن كسوف القمر لا يكون إلا ليلة رابع عشر في غالب الأحوال، أو ليلة خامس عشر في النادر، وهل تكون هذه الدلالة صحيحة شرعية أم لا؟ وإذا كانت صحيحة فمن نحر أضحيته في يوم ثالث عيد النحر على كمال العدة، وهو اليوم الذي كسفت القمر في الليلة التي بعده، فهل يكون ما نحره في هذا اليوم أضحية، أو يكون شاة لحم؟ هذا حاصل السؤال؟ وفيه طول.
ولما وقفت على هذا السؤال أحبت عنه بما حاصله: اعلم أنه قد ذكر أهل علم الهيئة أن القمر والشمس ينكسفان في أوقات مخصوصة، وجعلوا ذلك أمرا تجريبيا، فقالوا: تنكسف القمر ليلة رابع عشر في الغالب، وليلة خامس عشر في النادر، وتنكسف الشمس يوم ثامن وعشرين في الغالب، ويوم تاسع وعشرين في النادر، وهذا لا يكاد يختلف فيه علماء الهيئة، وهو موجود في المؤلفات الخاصة بهذا العلم. وقد حكى ذلك عنهم من علماء الشريعة في الكتب الفقهية (1)، وفي التفاسير (2)، وشروح الحديث (3).
_________
(1) انظر: المغني (3/ 228 - 230).
(2) انظر: " الكشاف " (3/ 115) (4/ 50)، " روح المعاني " للألوسي (11/ 68).
(3) فتح الباري " (2/ 529).(6/2997)
ومن علماء الشريعة من يحكي ذلك عنهم من دون تنبيه على أنه ليس من علم الشريعة، ومنهم من يحكي ذلك وينبه [1] على أنه ليس من علم الشريعة.
فمن جملة من ذلك الإمام المهدي - عليه السلام - في البحر الزخار. . فقال: مسألة: ولا كسوف في العادة يعني: كسوف الشمس إلا في ثامن أو تاسع وعشرين، ورواية (1) كسوفها يوم مات إبراهيم في العاشر من شهر ربيع الأول محتمل، ولا خسوف يعني: خسوف القمر إلا في رابع أو خامس عشر انتهى.
فهذه الرواية من الإمام - عليه السلام - مطلقة غير منسوبة إلى علماء الهيئة، ولا وقع منه التنبيه على أن ذلك ليس من عمل الشريعة، ولكنه قد تبعه في الرواية صاحب شرح الأثمار (2)، وبين أن القائل بذلك علماء الهيئة والمنجمون، لا علماء الشريعة، فقال: فائدة: اتفق أهل علم الهيئة والمنجمون على أن الشمس لا تكسف إلا في اليوم الثامن والعشرين (3) من الشهر في الأغلب، أو في اليوم التاسع والعشرين نادرا، وزعموا بأن ذلك لأجل حيلولة جرم القمر بينها وبين الأرض إذا تزامنتا في مقدار دقيقة، وأن القمر لا تكسف إلا في الليلة رابع عشر في الأغلب، وخامس عشر نادرا.
وعلل بعضهم ذلك بحيلوله الأرض بين الشمس والقمر (4)، بحيث ينقطع شعاع الشمس عند اتصاله بالقمر، وإنما نوره مستفاد منها انتهى. فانظر كيف نسب هذه
_________
(1) (2/ 74 - 75).
(2) لا يزال مخطوط فيما أعلم.
(3) وانظر البحر الزخار (2/ 74 - 75).
(4) ذكره الألوسي في روح المعاني (11/ 69) نقله عن ابن الهيثم،. ..... ثم قال الألوسي تعقيبا على ذلك ". . لم لا يجوز أن يكون ذلك الاختلاف والخسوف من آثار إرادة الفاعل المختار من دون توسط القرب والبعد من الشمس وحيلولة الأرض بينها وبينه. .. ".
ثم قال بعد ذلك " والحق أنه لا جزم بما يقولونه في ترتيب الأجرام العلوية وما يلتحق بذلك، وأن القول به مما لا يضر بالدين، إلا إذا صادم ما علم مجيئه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(6/2998)
المقالة إلى أهل الهيئة والمنجمين، ولم ينسبها إلى الشرع ثم قال في أثناء الكلام: وزعموا بأن ذلك لأجل حيلولة جرم القمر. .. إلى آخر كلامه. ولفظ زعموا إنما يستعمل فيما لا أصل له من الكلام، أو يستعمل مع الشك في الصحة ولا خلاف بين علماء الشريعة المطهرة أنه لا اعتبار بكسوف الشمس والقمر في معرفة أعداد الشهور، ولم يقل قائل من المسلمين أن ذلك معتبر. وقد عرفنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وجه الحكمة في كسوف الشمس والقمر فقال فيما صح عنه: " أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا " (1)
وفي رواية (2): " إن الله يخوف بهما عباده " فعرفنا بهذا أن الكسوف إنما هو لأظهار آية من آيات الله لعباده، ولأجل تخويفهم من الذنوب، وإرشهادهم إلى التوبة والاستغفار، والصدقة والصلاة والدعاء، كما ورد في الأحاديث الصحيحة (3)
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1041) ومسلم رقم (21/ 911) والنسائي (3م 126). وابن ماجه رقم (1261) من حديث أبي مسعود الأنصاري.
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (1058) ومسلم في رقم (1/ 901) وأبو داود رقم (1177 - 1191) والترمذي رقم (561، 563) والنسائي (3/ 127) وابن ماجه رقم (1263) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1095) ومسلم في صحيحه رقم (24/ 912) من حديث أبي موسى وفيه " إن هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن اشلله يرسلها يخوف بها عباده فإذا رايتم منها شيئا فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره ".
(3) انظر التعليقة السابقة.
و (منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1042) ومسلم في صحيحه رقم (28/ 914) من حديث عبد الله بن عمر أنه كان يخبر عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إن الشمس والقمر لا يخسفان لا موت أحد ولا لحياته، ولكنهما آية من آيات الله فإذا رايتموهما فصلوا ".
و (منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1043) ومسلم رقم (29/ 915) من حديث المغيرة ابن شعبة قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوما مات إبراهيم، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا نيكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى تنكشف ".(6/2999)
وأما كونهما لا يكونان إلا في وقت مخصوص (1) بحيث يستدل به على عدم الشهر أو نحوه، فهذا شيء مخالف للشريعة المطهرة، ولأقوال علماء الإسلام جميعا، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول (2) " نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا، وأشار بأصابعه إشارة يفهمهما العامي كما يفهمهما العالم " ثم أرشدنا في أحاديث أخر [2] إلى إكمال العدة ثلاثين يوما (3)، وإلى العمل على ٍ
_________
(1) قال الحافظ في الفتح (2/ 537): قالوا: فلو كان الكسوف بالحساب لم يقع الفزع. ولو كان بالحساب لم يكن للأمر بالعتق والصدقة والصلاة والذكر معنى فإن ظاهر الأحاديث أن ذلك يفيد التخريف وأن كل ما ذكر من أنواع الطاعة يرجى أن يدفع به ما يخشى من أثر ذلك الكسوف.
وقال ابن حجر في الفتح (2/ 537) قال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذركه أهل الحساب ينافي قوله: " يخوف الله بهما عباده، وليس بشيء لأن لله أفعالا على حسب العادة، وأفعالا خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء، بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقا في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوفا لعباد الله تعالى.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1913) ومسلم رقم (19/ 108) وأبو داود رقم (2319) والنسائي (4/ 139 - 140رقم 2140) كلهم من حديث ابن عمر.
(3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (1909) ومسلم رقم (19/ 1081) وأحمد (2/ 415) والدرامي (1) والنسائي (4) والطيالسي (1/ 182رقم 867) وابن الجارود (ص15) رقم (376) والبيهقي (4/ 205، 206، 247، 252).
من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ". وقال في الحجة البالغة: " لما كان وقت الصوم مضبوطا بالشهر القمري باعتبار رؤية الهلال، وهو تارة ثلاثون يوما، وتارة تسع وعشرون، وجب في صورة الاشتباه أن يرجع إلى هذا الأصل. وأيضا مبنى الشرائع على الأمور الظاهرة عند الأميين دون التعمق، والمحاسبات النجومية، بل الشريعة وإرادة بإخمال ذكرها وهو قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ".
الحجة البالغة (2/ 51).(6/3000)
الرؤية (1)، ونفرنا من العمل بما يقوله المنجمون. وبالغ في ذلك، وحذر كلية التحذير حتى قال: " من أتى كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد " (2).
فمن زعم أن الله تعبد عباده بشيء من أحوال النجوم فقد أعظم على الله الفرية، فهي لم تخلق إلا ليهتدى بها في ظلمات البر والبحر (3)، ولتزيين السماء (4)، ورجوما للشياطين (5).
هذا ما ذكره الله في كتابه العزيز، ولم يذكر غيره، وأبان الله - عز وجل - في كتابه العزيز أن تقدير سير القمر والشمس ....
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) أخرج أحمد (2/ 408، 476) وأبو داود رقم (3904) والترمذي رقم (135) والنسائي في الكبرى رقم (9017) وابن ماجه رقم (639) والحاكم (1/ 8) وهو حديث صحيح.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أتى عرافا أو كاهنا، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد ".
وأخرج أحمد (1، 311) وأبو داود وقم (3905) وابن ماجه رقم (3726) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ".
وهو حديث حسن.
(3) لقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأنعام: 97].
(4) لقوله تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) [الصافات: 6].
(5) لقوله تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) [الملك: 5].(6/3001)
منازل (1) ليعلم عباده عدد السنين والحساب، فعلق هذا الحكم بسيرهما لا بكسوفهما، وأيضا فقد ورد في الشريعة المطهرة ما يدل على اختلاف هذه العادة، واختلافهما، فتبت في الصحيحين (2) وغيرهما أن الشمس كسفت يوم مات إبراهيم ابن نبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -.
وقد ورى الزبير بن بكار (3) أن وفاته كانت في عاشر شهر ربيع الأول.
وروى البيهقي (4) مثله عن الواقدي، فهذا يبطل ما جزموا به من أن لا يكون الكسوف إلا في تلك الأوقات المعلومة المخصوصة، وقد روى البيهقي (5) عن قتادة أن الشمس كسفت يوم قتل الحسين السبط - سلام الله عليه -، وروى البيهقي (6) أن قتله كان يوم عاشوراء بل هو متفق عليه بين أهل السير والأخبار (7)، ولم يخالف في ذلك أحد.
قال ابن بهران في شرح الأثمار: وقد اشتهر أن قتل الحسين - عليه السلام - كان يوم عاشوراء انتهى.
وهذا أيضًا يدل على اختلال تلك العادة، وبطلان دعوى كليتها. وقد تكلم علماء الشريعة بمسائل تفيد ما ذكرناه، حتى نقل أصحاب الشافعي عنه مسألة وقوع العيد الكسوف معا (8)، وقد عرف أنه لا عيد في الإسلام إلا يوم الفطر ويوم النحر، فأما يوم
_________
(1) انظر ذلك في الرسالة رقم (34).
(2) تقدم من حديث المغيرة بن شعبة.
(3) ذكره ابن حجر في " الإصابة " (2/ 72).
(4) في " معرفة السنن والآثار " رقم (7164).
(5) في" معرفة السنن والآثار " رقم (7167).
(6) في " معرفة السنن والآثار " رقم (7167) وقال البيهقي " قبل يوم عاشوراء ".
(7) انظر " تاريخ الطبري " (5/ 347، 381)، " مروج الذهب " (3/ 248).
(8) انظر " معرفة السنن والآثار " رقم (7168) وانظر تفصيل ذلك في " المغني " (3/ 329).(6/3002)
الفطر فهو أول يوم من شهر شوال.
وأما يوم النحر فهو اليوم العاشر من شهر الحجة. وهذا يدل على أنه يقول بإمكان الكسوف إما في أول يوم من الشهر، أو في اليوم العاشر منه.
وقد اعترض الشافعي بعض من اعتمد على علم الهيئة، ورد عليه أصحاب الشافعي بأن علم الهيئة، ورد عليه أصحاب الشافعي بأن علم الهيئة ليس من علم الشريعة، فلا يجوز الاعتراض به على الأمور الشرعية، كما صرح بذلك صاحب الفتح - فتح الباري (1) - وغيره.
وإذا تقرر هذا عرفت أن الاستدلال بكسوف القمر على كون اليوم الذي اكسفت في ليلته هو اليوم الرابع عشر من الشهر، على ما هو الغالب، أو اليوم الخامس عشر على ما هو الأقل. لا يجوز [3ب] أن ينسب إلى علم الشريعة ولا يقول به أحد من المتشرعين، بل الواجب البناء على كمال العدة (2) كما ثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ولا يجوز غير ذلك، ولو كان هذا جائز لجاز العمل على ما في الجداول من تعيين وقت دخول الأشهر، لأن اعتمادها عند المنجمين أولى من اعتماد مثل الكسوف، مما هو نادر مختلف.
وقد كان أول شهرنا هذا الذي وقع فيه الكسوف، ووقع السؤال فيه قبل دخول الشهر الشرعي المبني على كمال العدة بيومين عند أهل الجداول، وكذلك سائر الشهور؛ فإنها لا بد تتقدم الشهور (3) عند أهل الجداول على الشهور الشرعية بيوم أو يومين، ولو اعتبرنا الجداول لتركنا الشريعة المطهرة، وصرنا منجمة، وكما أنه لا اعتبار بالجداول لا اعتبار بكبر الهلال وصغره، وارتفاعه، وانخفاضه، وهذا مجمع عليه علماء الإسلام، لا يختلفون فيه، وإن قال بعضهم باعتبار الحساب، فهو من جهة غير هذه الجهة، واعتبار غير هذا الاعتبار.
_________
(1) (2/ 529) و (2/ 537).
(2) تقدم ذكره.
(3) انظر الرسالة رقم (34).(6/3003)
إذا عرفت هذا فالعمل على ما وقع من اعتبار كمال العدة، فيصح ما وقع من صلاة، ونحر، وحج، وغير ذلك بلا خلاف بين المسلمين. وإذا تبين بوجه شرعي أن أول الشهر قبل ما قضت به العدة بيوم أو يومين برؤية هلال ذي الحجة، فالعمل صحيح في جميع ما تقدم، ولا يختل منه شيء على القانون الشرعي، فكيف إذا لم يتبين بوجه شرعي مرض.
إنما يتبين بكسوف القمر، أو اعتبار أهل الجداول؛ فإن ذلك لا يوجب اختلال شيء بإجماع المسلمين، وهذا لا يجهله من له أدهي إلمام بالعلوم الشرعية، لأنه قد طرح به في عدة أبواب، كباب الصلاة، وكباب الصيام وكباب الحج.
والحمد لله رب العالمين. كمل من تحرير المجيب محمد بن علي الشوكاني حفظه الله تعالى، وأحيا به الشريعة المطهرة، آمين آمين (1).
_________
(1) فائدة:
اعلم أن الله سبحانه استدل على التوحيد والألهيات:
1 - بخلق السموات والأرض.
2 - أحوال الشمس والقمر.
3 - المنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار.
4 - بكل ما خلق الله في السموات والأرض وهي أقسام الحوادث والحادثة في هذا العالم وهي محصورة في أربعة أقسام:
أ-الأحوال الحادثة في العناصر الأربعة ويدخل فيها أحوال الرعد والبرق والسحاب والأمطار والثلوج.
ويدخل فيها أيضًا أحوال البحار، وأحول المد والجزر، وأحوال الصواعق والزلازل والاخسف.
ب - أحوال المعادن وهي عجيبة كثيرة.
ج - اختلاف أحوال النبات.
د - اختلاف أحوال الحيوانات.
انظر: " التفسير الكبير " للرازي (17/ 37).
وقال أيضًا " اعلم أن انتفاع الخلق بضوء الشمس وبنور القمر عظيم، فالشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل.
وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى الفصول الأربعة، وبالفصول الأربعة تنتظم مصالح هذا العام. وبحركة القمر تحصل الشهور، وباختلاف حاله في زيادة الضوء، ونقصانه تختلف وطوبات هذا العالم، ويسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل، فالنهار زمانا للتكسب، والليل يكون زمانا للراحة.
وانظر (4/ 177وما بعدها) " شرح الآية 164 من سورة البقرة " من تفسير الفخر الرازي.
وانظر: الرسالة رقم (34) من فتاوى الشوكاني).
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (24/ 254 - 258): " الحمد لله: الخسوف الكسوف لهما أوقات مقدرة، كما لطلوع الهلال وقت مقدر، وذلك ما أجرى الله عادته بالليل والنهار. والشتاء والصيف، وسائر ما يتبع جريان الشمس والقمر. وذلك من آيات الله تعالى: كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء: 33].
وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ) [يونس: 5]. وقال تعالى: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام: 96]. وقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة: 189]. وقال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [التوبة: 36].
وقال تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [سورة يس37: 40]. وكما أن العادة التي أجراها الله تعالى أن الهلال لا يسهل إلا ليلة ثلاثين من الشهر، أو ليلة إحدى وثلاثين، وأن الشهر لا يكون إلا ثلاثين، أو تسعة وعشرين، فمن ظن أن الشهر يكون أكثر من ذلك، أو أقل فهو غالط. فكذلك أجرى الله العادة أن الشمس لا تكسف إلا وقت الاستسرار وأن القمر لا يخسف إلا وقت الابدار، ووقت إبداره، هي الليالي البيض التي يستحب صيام أيامها: ليلة الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، فالقمر لا يخسف إلا في هذه الليالي. والهلال يستسر آخر الشهر: إما ليلة، إما ليلتين. كما يستسر ليلة تسع وعشرين، أو ثلاثين، والشمس لا تكسف إلا وقت استسراره وللشمس والقمر ليالي معتادة، من عرفها عرف الكسوف والخسوف. كما أن من علم كم مضى من الشهر يعلم أن الهلال يطلع في الليلة الفلانية أو التي قبلها. لكن العلم بالعادة في الهلال علم عام، يشترك فيه جميع الناس. وأما العلم بالعادة في الكسوف والخسوف فإنما يعرفه من يعرف حساب جريانهما، وليس خبر الحاسب بذلك من باب علم الغيب، ولا من باب ما يخبر به من الأحكام التي يكون كذبه فيها أعظم من صدقه، فإن ذلك قول بلا علم ثابت، وبناء على أصل صحيح. وفي سنن أبي داود - رقم (3905) - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ". وهو من حديث ابن عباس أخرجه أحمد (1/ 277، 311) وابن ماجه رقم (3726) وهو حديث حسن. وفي صحيح مسلم - رقم (2230) - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه لم يقبل الله صلاته أربعين يوما ". والكهان أعلم بما يقولونه من المنجمين في الأحكام، ومع هذا صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن إتيانهم، ومسألتهم، فكيف بالمنجم؟ وأما ما يعلم بالحساب فهو مثل العلم بأوقات الفصول، كأول الربيع والصيف، والخريف، والشتاء، لمحاذاة الشمس أوائل البروج التي يقولون فيها أن الشمس نزلت في برج كذا، أي حاذته. ومن قال من الفقهاء أن الشمس تكسف في غير وقت الاستسرار فقد غلط، وقال ما ليس له به علم، وما يوى عن الواقدي من ذكره: أن إبراهيم ابن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مات يوم العاشر من الشهر، وهو اليوم الذي صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الكسوف؛ غلط. والواقدي لا يحتج بمسانيده، فكيف بما أرسله من غير أن بسنده إلى أحد، وهذا فيما لم يعلم أنه خطأ، فأما هذا فيعلم أنه خطأ. ومن جوز هذا فقد قفا ما ليس له به علم. ...(6/3004)
جواب على سؤال ورد من بعض أهل العلم يتضمن ثلاثة أبحاث:
1 - بحث في المحاريب
2 - بحث في الاستبراء
3 - بحث في العمل بالرقومات
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن(6/3009)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الأبحاث: - بحث في المحاريب - بحث في الاستبراء - بحث في العمل بالرقومات.
2 - موضوع الرسالة: فقه.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين. وبعد: فإنها وردت مذاكرة من بعض أهل العلم تتمضن. ..
4 - آخر الرسالة:. ... إلى غير ذلك من المواضع التي يصعب تعدادها وفي هذا المقدار كفاية والله ولي التوفيق.
حرره المجيب بن محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في شهر جمادى الآخرة سنة (1215هـ).
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - الناسخ: لمؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
7 - عدد الأوراق: (14) روقة = (28) صفحة.
8 - عدد الأسطر في الصفحة: 22 - 25 سطرا.
9 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة.
10 - الرسالة - أو الأبحاث - من المجلد الثاني من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(6/3011)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين. وبعد:
فإنها وردت مذاكرة من بعض أهل العلم تتضمن السؤال عن ثلاثة أبحاث:
البحث الأول:
السؤال عن صحة ما ذكره الحافظ السيوطي في الجامع الصغير من حديث ابن عمرو مرفوعًا بلفظ: " اتقوا هذه المذابح يعني المحاريب " قال أخرجه الطبراني في الكبير (1)، والبيهقي في شعب الإيمان (2)، ثم قال السائل - عافاه الله -: إن وجد في حاشية ما لفظه: أخرج ابن أبي شيبة (3) .....................
_________
(1) كما في " مجمع الزوائد " (8) وقال الهيثمي: " وفيه عبد الله مغراء وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه ابن المديني في روايته عن الأعمش وليس هذا منها.
(2) بل في " السنن " (2/ 439) بسند حسن.
وقد عزاه السيوطي في " الدر المنثور " (2/ 188) إلى البيهقي في سننه ولم يعزه للبيهقي في شعبه.
قلت: حديث ابن عمرو صحيح لغيره.
(3) في مصنفه (2/ 59) وهو حديث ضعيف.
قال الألباني رحمه الله في " الضيفة " (1/ 640) وهذا سند ضعيف وله علتان:
الأولى: الإعضال، فإن موسى الجهني - وهو ابن عبد الله - إنما يروي عن الصحابة بواسطة التابعين، أمثال: عبد الرحمن بن أبي ليلى، والشعبي ومجاهد، ونافع وغيرهم، فهو من أتباع التابعين، وفيهم أورده ابن حبان في " ثقاته " (7/ 449).
وعليه، فقول السيوطي في " إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب " - (ص68) - " إنه مرسل " ليس دقيقا، لأن المرسل في عرف المحدثين إنما هو قول التابعي: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا ليس كذلك.
الأخرى: ضعف أبي إسرائيل هذا، واسمه إسماعيل بن خليفة العبسي، قال: الحافظ في " التقريب " " صدوق سيء الحفظ ".
وهذا على ما وقع في نسختنا المخطوطة من " المصنف " ووقع فيما نقله السيوطي عنه في " الإعلام " " إسرائيل " يعني: إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة وهو من طبقة أبي إسرائيل، وكلاهم من شيوخ وكيع، فإن نسختنا جيدة مقابلة بالأصل، نسخت سنة 735هـ. وقد عرفت أن الصواب معضل، وهذا إن سلم من أبي إسرائيل، وما أظنه بسالم فقد ترجح عندي أن الحديث من روايته، بعد أن رجعت إلى نسخة أخرى من " المصنف " (1/ 188) فوجدتها مطابقة للنسخة الأولى، وعليه فالسند ضعيف مع إعضاله ثم رأيته كذلك في " المطبوعة " (2/ 59) 1 هـ.(6/3017)
في [الضعفاء] (1) عن موسى الجهني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تزال أمتي يخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى ". وأخرج (2) أيضًا عن ابن مسعود قال: " اتقوا هذه المذابح "، وأخرج (3) أيضًا عن عبد الله (4) بن أبي الجعد قال: " كان أصحاب محمد يقولون: إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد " يعني
_________
(1) بيدو أنه خطأ في المخطوط وصوابه " المصنف ".
(2) في " المصنف " (2 - بسند صحيح.
قال المحدث الألباني رحمه الله في " الضعيفة " (1/ 642): قلت: فهذا صحيح عن ابن مسعود فإن إبراهيم، وهو ابن يزيد النخعي، وأن كان لم يسمع من ابن مسعود، فهو عنه مرسل في الظاهر، إلا أنه قد صحح جماعة من الأئمة مراسيله، وخص البيهقي ذلك بما أرسله عن ابن مسعود.
قلت: وهذا التخصيص هو الصواب، لما روى الأعمش قال: قلت لإبراهيم: أسند لي عن ابن مسعود. فقال إبراهيم: " إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله فهو الذي سمعت، وإذا قلت: قال عبد الله، فهو عن غير واحد عن عبد الله ".
علقه الحافظ هكذا في " التهذيب " ووصله الطحاوي (1/ 133) وابن سعد في الطبقات (6/ 272) وأبو زرعة في " تاريخ دمش " (2/ 121) بسند صحيح عنه.
قلت: وهذا الأثر قد قال فيه إبراهيم: " قال عبد الله " فقد تلقاه عنه من طريق جماعة، وهم أصحاب ابن مسعود، فالنفس تطمئن لحديثهم، لأنهم جماعة وإن كانوا غير معروفين، لغلبة الصدق على التابعين، وخاصة أصحاب ابن مسعود - رضي الله عنه -.
(3) في مصنفه (2/ 59).
(4) كذا في المخطوط ولكنه في " المصنف " سالم بن أبي الجعد.(6/3018)
الطاقات. وأخرج أيضًا (1) عن أبي ذر قال: " إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد "، وأخرج (2) أيضًا عن علي - عليه السلام -: " أنه كره الصلاة في الطاق "، وأخرج وأخرج (3) أيضًا عن إبراهيم: " أنه كان يكره الصلاة من الطاق "، وأخرج (4) أيضًا عن سالم بن أبي الجعد قال: " لا تتخذوا المذابح في المساجد "، وأخرج (5) أيضًا عن كعب: " أنه كره المذابح في المسجد "، نقل السائل - عافاه الله - بعد هذا كلاما فيه بعض اختلاط فتر كناه.
وأقول: الجواب عن هذا من وجوه:
الوجه الأول [1أ]: في بيان ما يتعلق بالحديث الأول الذي نقله السائل - كثر الله فوائده - من الجامع الصغير (6) فنقول: في إسناده عبد الرحمن بن مغراء، وقد اختلف أئمة الحديث في الاحتجاج به، ووثقه جماعة منهم: ابن حبان (7)، وضعفه آخرون (8) منهم: علي بن المديني، لكن من ضعفه لم يضعفه مطلقا، بل جعل التضعيف مقيدا بما يرويه عن الأعمش، وليس هذا الحديث مما يرويه عن الأعمش. وقال السيوطي (9): إنه حديث ثابت صحيح على رأي أبي زرعة، وحسن على رأي ابن عدي انتهى.
_________
(1) أي ابن أبي شيبة في " المصنف " (2/ 60).
(2) في " المصنف " (2/ 59).
(3) في " المصنف " (2/ 59).
(4) في " المصنف " (2/ 59) بسند صحيح.
(5) في " المصنف " (2/ 59).
(6) الحديث رقم (153).
(7) في " الثقات " (7/ 92).
(8) انظر " الكاشف " (2/ 162 رقم 3363): قال الذهبي: " وثقه أبو زرعة الرازي وغيره ولينه ابن عدي.
وقال الذهبي في " الميزان " (2/ 592رقم 4980) ما به بأس وقال في " المعني " (2/ 388رقم 3641): وثقه أبو زرعة وقال: ابن المديني ليس بشيء، ولينه ابن عدي ".
(9) في " إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب " (ص16) تحقيق: محمد صبحي حلاق حسن.(6/3019)
وأقول: أما الحكم بصحة الحديث فغير مسلم، فإن عبد الرحمن بن مغراء ليس من رجال الصحيح، وأما الحكم بأن الحديث حسن فإن كان المراد بذلك أنه من قسم الحسن لغيره باعتبار ورود الحديث من طرق أخر كما سنوضحه فمسلم، وإن كان المراد أنه من قسم الحسن لذاته ففيه إشكال؛ فإنه لا فرق بين الحسن لذاته، والصحيح إلا مجرد كمال الضبط وتمامه في الثاني دون الأول، فهو مجرد وجود الضبط المتصف بكونه خفيفا فقط، فإن حد الصحيح هو ما اتصل إسناده بنقل عدل تام الضبط من غير شذوذ ولا علة قادحة (1)، وحد الحسن لذاته هو ما اتصل إسناده بنقل عدل ضابط ضبطا غير تام، من غير شذوذ ولا علة قادحة (2).
وهذا الحديث لا ينتهض لإدراجه في حد الصحيح، ولا في حد الحسن لذاته، ولهذا قال الحافظ الذهبي في المهذب (3) على البيهقي ما لفظه: قلت: هذا خبر منكر تفرد به عبد الرحمن بن مغراء وليس بحجة. انتهى. قال: المناوي (4) بعد أن نقل كلام الذهبي: إن ثبات الحكم بصحته لا يصار إليه انتهى. قلت أنا: وهكذا أيضًا إثبات الحكم بكونه حسنا لذاته لا يصار إليه [1ب]، لما تقرر عند أهل الفن من أن حديث من ليس بحجة لا يصح وصفه بكونه لذاته، فمن أي قسم يكون؟ هل من قسم الحسن لغيره، أم من قسم الضعيف؟ قلت هو لو لم يرد في معناه غيره من قسم الضعيف، فلما ورد في معناه حديث (5) موسى الجهني مرفوعًا كما ذكره السائل، وكذلك سائر ما حكاه عن الصحابة في السؤال، وهو مما ليس للاجتهاد فيه
_________
(1) انظر " تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي " (1/ 47 - 58).
(2) انظر " شرح ألفية السيوطي في الحديث " (1/ 63 - 67).
(3) أي " المهذب في اختصار السنن الكبير " (2/ 400 رقم 3124).
(4) في " فيض القدير شرح الجامع الصغير " (1/ 145).
(5) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف.(6/3020)
مسرح، بل له حكم الرفع كان الحديث من قسم الحسن لغيره. وقد تقرر عند علماء الفن أن الحسن لغيره هو مما تقوم به الحجة، ويجب العمل عليه، فإن قلت: هذه الأحاديث التي ذكرها السائل - عافاه الله - ناسبا لها: إلى حاشية وجدها، هل تعرف من ذكرها من أهل العلم في كتبهم المعتبرة؟ قلت: نعم، ذكرها بحروفها الحافظ السيوطي في " الدر المنثور في تفسير القرآن بالمأثور " (1) عند تفسيره لقوله تعالى: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) (2) فالحاشية التي وقف عليها السائل منقولة من الدر المنثور لفظا وترتيبا، لا تفاوت بين ما نقله السائل، وما بين ما في الدر المنثور إلا في أن السائل يقول: وأخرج أيضًا يعني ابن شيبة، وصاحب الدر يقول: وأخرج ابن أبي شيبة، فيصرح بلفظه من تلك الطرق جميعها.
الوجه الثاني: إذا تقرر لك أن الحديث من قسم الحسن لغيره، وهو مما يجب العلم به، فما هي هذه المذابح المذكورة في الحديث؟ قلت: أما الحافظ [2أ] السيوطي فقد فسرها في الجامع الصغير (3) بالمحاريب كما ذكره السائل في السؤال، فإنه كذلك في الجامع مفسرا بالمحاريب، وقد فسره بذلك صاحب مسند الفردوس وغيره. وروى عبد الرزاق (4) عن إبراهيم النخعي، وصرح بأن الصلاة فيمها مكروهة، وصرح أيضًا النووي (5) بالكراهة.
وقد ذكر السيوطي في موضع آخر غير الجامع في تفسير هذا الحديث أنه نهى عن اتخاذ المحاريب في المساجد، والوقوف فيها. وقال: خفي على قوم كون المحراب بالمسجد
_________
(1) (2/ 188).
(2) [آل عمران: 39].
(3) الحديث رقم (153).
(4) في مصنفه (2/ 412).
(5) في " المجموع شرح المهذب " (3/ 201).(6/3021)
بدعة، وظنوا أنه كان في زمن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يكن في زمنه، ولا زمن أحد خلفائه، بل حدث بعد المائة الثانية، مع ثبوت النهي عن اتخاذه، هكذا نقل هذا الكلام عن السيوطي المناوي، في شرح الجامع (1)، ثم قال: وتعقب قول الزركشي (2) المشهور أن اتخاذه جائز لا مكروه، ولم يزل عمل الناس عليه بلا نكير، بأنه نقل في المذهب فيه. وقد ثبت النهي عنه. قال المناوي (3) متعقبا للسيوطي: وهذا بناء منه على ما فهمه من لفظ الحديث أنه مراده بالمذابح المحاريب، وهي غير ما هو المتعارف في المسجد الآن، ولا كذلك، فإن الإمام الشهير المعروف بان الأثير (4) قد نص على أن المردا بالمحاريب في الحديث صدور المجالس [فالزومية] (5) حديث أنس كان يكره المحاريب، أي لم يكن يحب أن يجلس في صدور المجالس، ويترفع على الناس انتهي.
قال المناوي: واقتفاه، أي: ابن الأثير في ذلك جمع جازمين به، ولم يحكوا خلافه، منهم: الحافظ الهيثمي وغيره (6) فقد قال الحراني: المحراب صدور البيت ومقدمه الذي لا يكاد يوصل إليه إلا بفضل مؤنة أو قوة وجهد. وفي الكشاف (7) في تغيير: (كُلَّمَا
_________
(1) " فيض القدير شرح الجامع الصغير" (1/ 144).
(2) في " إعلام الساجد بأحكام المساجد " (ص364).
(3) في " فيض القدير شرح الجامع الصغير " (1/ 144).
(4) في " النهاية " (1/ 359).
(5) كذا في المخطوط ولعله [فالذي فيه].
(6) قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (11/ 84 - 85) قوله تعالى: " فخرج على قومه من المحراب: أي أشرف عليهم من المصلى، والمحراب أرفع المواضع وأشرف المجالس، وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض ". واختلف الناس في اشتقاقه، فقالت فرقة: هو مأخوذ من الحرب كأنه ملازمه يحارب الشيطان والشهوات، وقالت فرقه: هو مأخوذ من الحرب (بفتح الراء) كأن ملازمه يلقى منه حربا وتعبا ونصبا.
(7) ي (1/ 187).(6/3022)
دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ) (1) ما نصه: قيل بنى لها زكريا محرابا في المسجد، أي غرقة تصعد (2) إليها بسلم. وقل: المحراب [2ب]: المجالس ومقدمها، كأنها وضعت من أشرف موضع في بيت المقدس. وقيل: كانت مساجدهم تسمى المحاريب انتهى. وقال في تفسير قوله تعالى: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ) المحاريب: المساكن والمجالس الشريفة؛ سميت به لأنه يحامى عليها، ويذب عنها. وقيل المساجد. انتهى (3). وفي الأساس (4) للزمخشوي: مررت بمذبح النصارى، ومذابحهم، وهي محاريبهم ومواضع كتبهم، ونحوها المناسط [للتعبدات] (5) وهي في الأصل المذابح. انتهى.
وفي الفائق (6) له أيضا: المحراب الأسد مأواه، وسمي القصر والغرفة المنفية محرابا. انتهى.
وفي القاموس (7) المذابح المحايب، والمقاصير، وبيوت النصارى. والمحراب الغرفة وصدر البيت، أكرم مواضعه، ومقام الإمام في المسجد، والموضع، الذي ينفرد به
_________
(1) [آل عمران: 37].
(2) وقال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (4/ 71): قوله تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ) المحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس، وجاء في الخبر: إنها كانت في غرفة كان زكريا يصعد إليها بسلم. وقال وضاح اليمن:
ربه محراب إذا جئتها ... لم ألقها حتى أرتقي سلما
(3) كلام الزمخشري في " الكشاف " (1/ 187).
(4) " أساس البلاغة " (1/ 294).
(5) كذا في المخطوط وفي " أساس البلاعة " للمتعبدات.
(6) (1/ 273).
(7) " القاموس المحيط " (ص 93، 278 - 279).(6/3023)
الملك. انتهى.
في النهاية (1) المذبح واحد المذابح وهي المقاصير، وقيل المحاريب. وقال الكمال بن الهمام في الفتح (2) بعدما نقل كراهة صلاة الإمام في المحراب، لما فيه من التشبه بأهل الكتاب، والامتياز على القوم ما نصه: " لا يخفى أن امتياز الإمام مقرر مطلوب في الشرع في حق المكان، حتى كان التقدم واجبا عليه، وغاية ما هنا كونه في خصوص مكان، ولا أثر لذلك، فإنه بني في المساجد المحاريب من لدن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ولو لم تبن لكانت السنة أن يتقدم في ذلك المكان، لأنه يحاذي وسط الصف، وهو المطلوب، إذ لم قيامه في غير منحاذاته مكروه، وغايته اتفاق الملتين في بعض الأحكام ولا بدع فيه، على أن أهل الكتاب إنما يخصون الإمام بالمكان المرتفع كما قيل فلا تشبه " انتهى.
وأقول [3أ]: لا يخفى أنه لا ملازمة بين تقدم الإمام وكونه في محراب، فالمحراب هو بناء مخصوص، على هيئة مخصوصة، في مكان مخصوص، وليس مشروعية تقدم الإمام على المؤتمين (3) يستلزم أن يكون ذلك في المكان المخصوص بل المراد تقدمه بني يدي الصف، وهو ممكن دخوله في ذلك البناء الموضوع على تلك الهيئة، فلا يتم قول الكمال ابن الهمام: وغاية ما هنا كونه في خصوص مكان، ولا أثر لذلك، بل نقول لذلك أثر وهو التشبه بأهل الكتاب، ومخالفتهم مطلوبة بنص الشارع.
وأما قوله: فإن بني في المساجد المحاريب من لدن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فباطل، فإنه لم يبن في زمنه (4)، ولا في زمن الصحابة شيء من ذلك كما تقدمت
_________
(1) (1/ 359).
(2) (1/ 425).
(3) انظر الرسالة رقم (83).
(4) قال الشيخ محفوظ في كتابه " الإبداع في مضار الابتداع " (ص 184): " وأما اتخاذ المحاريب فلم يكن في زمانه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محراب قط، ولا زمان الخلفاء الأربعة فمن بعدهم، وإنما حدث في آخر المائة(6/3024)
الإشارة إليه. وأما المحراب المبني في مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال الواقدي: حدثنا هلال بن محمد قال: أول من أحدث المحراب الجوف عمر بن عبد العزيز ليالي بنى مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كذا حكاه المقريزي في الخطط والآثار (1)، وأما قول الكمال بن الهمام: ولو لم بين لكانت السنة أن يتقدم في ذلك المكان المجوف المخصوص.
وأما قوله وغايته اتفاق الملتين في بعض الأحكام إلخ، فلا يخفى أن هذا الحكم الذي هو محل النزاع قد ورد النهي بخصوصه، فلا ينفع التعليل باتفاق الملتين.
فإن قلت: فعلام تحمل ما رواه عمر بن أبي شيبة أن عثمان بن مظعون تفل في القبلة
_________
(1) (2/ 247).(6/3025)
فأصبح مكتئبا، فقالت له امرأته: ما لي أراك مكتئبا؟ قال: لا شيء إلا إني تفلت في القبلة وأنا أصلي، فعمدت إلى القبلة [3 ب] فغسلتها، ثم عملت خلوقا فخلقتها، فكانت أول من خلق القبلة (1).
قلت: لا ملازمة بين القبلة والمحراب المجوف، والقبلة هي الموضع الذي يتقبلة الإمام في الموضع الذي تختص به، ولا يلزم أن يكون ذلك مكانا مجوفا معمولا على هئية مخصوصة، وأيضا قد ورد ما يؤيد كراهة الصلاة في مكان مخصوص لا يتجاوزه المصلي إلى غيره. فوري عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " النهي عن إيطال المكان المسجد " (2) أي اتخاذ مكان منه مخصوص يصلي فيه الإنسان، أو يتلو، ولا يتجاوزه إلى غيره. وهذا حديث معروف موجود في دواوين الإسلام، فهو من المؤيدات للنهي عن اتخاذ المحاريب المعروفة الآن، لأنها صارت مختصة بصلاة الإمام يتجاوزها إلى غيرها.
_________
(1) أخرجه ابن شيبة (14، 2/ 362): عن ابن عباس بن عبد الله الهاشمي قال: أول ما خلقت المساجد أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأي بالقبلة نخامة فحكها، ثم أمر بالخلوق فلطخ به مكانها، فخلق الناس المساجد.
وانظر: " الأوائل " لأبي هلال العسكري (ص180).
(2) ذكره ابن الأثير في " النهاية " (5).
وأخرج أحمد (3/ 428، 444) وابن ماجه رقم (1429) والحاكم (1/ 229) وابن خزيمة رقم (1319) والبغوي في " شرح السنة " رقم (666) والدارمي (1) وابن أبي شيبة في " المصنف" (2) من طرق عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن تميم بن محمود، عن عبد الرحمن بن شبل، قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ثلاث: عن نقرة الغراب، وعن فرشة السبع، وأن يوطن الرجل المكان الذي يصلي فيه كما يوطن البعير ".
وأخرجه أحمد (5 - 447) وفي سنده مجهول وهو عبد الحميد هذا.
وهو حسن لغيره والله أعلم.
وقال ابن الأثير في " النهاية " (5): " معناه أن يألف الرجل مكانا معلوما من المسجد مخصوصا به يصلي فيه كالبعير لا يأوي من عطن إلا مبرك دمث قد أوطنه واتخذه مناخا ".
وقال القاسمي في " إصلاح المساجد " (ص185): " يهوى بعض ملازمي الجماعات مكانا مخصوصا أو ناحية من المسجد، إما وراء الإمام أو جانب المنبر أو أمامه أو طرف حائطه اليمين أو الشمال أو الصفة المرتفعة في آخره بحيث لت يلذ له التعبد ولا الإقامة إلا بها وإذا أبصر من سبقه إليها فربما اضطره إلى أن يتنحى له عنها لأنها محتكرة أو يذهب عنها مغضبا أو متحوقلا أو مسترجعا وقد يفاجئ الماكث بها بأنها مقامه من كذا كذا سنة وقد يستعين بأشكاله من جهلة المتنسكين على أن يقام منها إلى غير ذلك من ضروب الجهالات التي ابتليت بها أكثر المساجد ولا يخفى أن محبة مكان من المسجد على حده تنشأ من الجهل أو الرياء أو السمعة وأن يقال أنه يصلي إلا في الكان الفلاني، أو أنه من أهل الصف الأول مما يحيط العمل ملاحظته ومحبته نعوذ بالله. وهب أن هذا المتوطن لم يقصد ذلك فلا أقل أنه يفقد لذة العبادة بكثرة الإلف والحرص على هذا المكان بحيث لا يدعوه إلى المسجد إلى موضعه وقد ورد النهي عن ذلك - كما في الحديث الحسن وقد تقدم.(6/3026)
والوجه الثالث: من وجه الجواب بيان ما هو الذي يتوجه في حمل الأحاديث الواردة في المنع من المحاريب، على أن التفاسير للمحراب والذابح قد اختلف كما تقدم، والواجب حمل النهي على معنى مناسب لمقصود الشارع، ولا شك أن صدور المجالس محل للنهي عنها، لأن التنافس فيها، والتدافع دونها هو من محبة الشرف الذي ورد الحديث الصحيح بأنه يفسد دين المؤمن ويهلكه، وهو أيضًا صنع أهل الكبر والخيلاء والترفع، ومحبة العلو المخالف لقوله سبحانه: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) [4أ] (1) وهكذا إذا حمل النهي على المذابح التي هي بيوت النصارى، أو المواضع التي يصلون فيها، لأن قربانها ربما يكون ذريعة إلى الفتنة، أو الوقوع في الشبة، أو التلوث بشيء من النجاسات. وهكذا إذا فسرت المذابح بمحاريب المساجد المجوفة، لأن في ذلك نوع تشبه بأهل الكتاب؛ إذ ذلك مختص بهم، لم يفعله نبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ولا أحد من أصحابه الراشدين. والمخالفة لأهل الكتاب مقصد من مقاصد الشرع عظيم، ومطلب من مطالب الدين قويم، فهذه المعاني
_________
(1) [القصص: 83].(6/3027)
الثلاثة قد وقعت في تفسير المذابح كما عرفت، وتفسير الحديث بها مناسب لمقصود الشارع، لأن في كل واحد منها معنى يقتضي المخالفة لمقصوده، ويحلق بذلك ما وقع في تفسير المذابح المذكورة في الحديث بالموضع الذي يقعد فيه الملك، ويختص به، فإنه مظنة للزهو والكبر، والعجب، والخيلاء إذا قعد فيه الملك، فكأنه قال: اتقوا المواضع المعدة لقعود الملوك لما في ذلك من المفاسد. فإن قلت: وأي هذه المعاني المناسبة لمقصود الشارع يحمل الحديث عليه؟ قلت: إنما عند من قال من أهل الأصول أنه يجوز حمل المشترك (1) على جميع معانيه المناسبة، وأما عند من منع من استعمال المشترك في جميع معانيه فيجعل [4ب] الحديث كالمجمل المتردد بينها، كما صرح بذلك جماعة من المحققين، وهذا بعد ثبوت كون كل واحد منهما، معنى حقيقيا، وأما إذا كان بعضها حقيقة وبعضها مجازا فالواجب الحمل على المعنى الحقيقي دون المجاز (2) بالمصير إلى عموم المجاز هذا، فهذا ما يناسب القواعد الأصولية المقررة في مواضعها. وأما ما يناسب الورع فهو اجتناب جميع هذه
_________
(1) قال صاحب " الكوكب المنير " (3): يصح إطلاق جمع المشترك على معانيه: ومثناه على معنييه معا لـ إطلاق مفرده على كل معانيه. أما إرادة المتكلم باللفظ المشترك أحد معانيه، أو أحد معنييه فهو جائز قطعا وهو حقيقة لأنه استعمال اللفظ فيما وضع له.
وأما إرادة المتكلم بالفظ المشترك استعمال في كل معانيه وهي مسألة المتن ففيه مذاهب.
والصحيح: أنه يصح استعمال اللفظ المشترك في كل معانيه كقولنا: العين مخلوقة ونريد جميع معانيها.
انظر: جمع الجوامع " (1)، " التبصرة " (184).
قال ابن الحاجب في " شرح المفصل " كما في " البحر المحيط " (2):
المشترك: وهو اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين أو أكثر دلالة على السواء، عند أهل تلك اللغة. سواء كانت الدلالتان مستفادتين من الوضع الأول أو من كثرة الاستعمال. وهو في اللغة على الأصح.
(2) انظر " الكوكب المنير " (1/ 195 - 197).(6/3028)
المعاني المناسبة لمقصود الشارع، فمن أراد الخروج من الشبهة، الأخذ بالعزيمة (1)، والعمل بالأحوط فلا ينافس في صدور المجالس، ولا يدخل في بيوت النصارى، ولا يغشى مساجدهم، ولا يجعل محرابا مجوفا في مسجد بينيه، ولا يقعد في المقاعد المعدة لقعود الملوك فيها، ولا يأخذ في مقدمات ما يوصله إلى ذلك المقعد.
_________
(1) تقدم توضيح معناها.(6/3029)
السؤال الثاني
عن كلام أهل المذهب في إيجا ب الاستبراء للأمة على البائع، سواء كان صغيرا أو كبيرا، ثم استثنى الحامل والمزوجة، والمتعدة، قال السائل - عافاه الله -: فما وجه الاستثناء، وما الفرق، فإنهم أو جبوا الاستبراء، وعللوا ذلك بأنه تعبد، ولم يوجبه في الثلاث المستثنيات، بل ظاهر كلامهم أن الاستبراء لمعرفة خلو الرحم، وأن ذلك هو الملاحظ بالأمارات مثل الخروج من أيام النفاس، أو أيام العدة، فهلا جعلوا العلة واحدة في حق الجميع؟ أما التعبد أو معرفة خلو الرحم، ويأتي التفصيل [5 أ] في حق من هي كبيرة، ومن هو صغير وغير ذلك، فهذا الموضع أشكل (1)، فهل هو بدليل خاص، أم رجوع إلى قاعدة قد بنوا عليها؟ فتفضلوا بالإيضاح - جزيتم خيرا - انتهى مضمون السؤال.
وأقول: أعلم أن هذا السؤال قوي الإشكال، عظيم الإعضال، حقيق ببسط المقال. والسبب في ذلك ما وقع في كلام بعض أهل العلم في تعليل الاستبراء بالتعبد، وهو عند التحقيق دعوى مجرده عن الدليل، لأن التعبد هو أن يتعبد الله عباده بحكم من الأحكام، ولا يعرف ذلك إلا بنص من كتاب الله، أو سنة رسوله، أو ما يرجع إليها، وليس الأمر كذلك كما ستعرف الكلام على أطراف هذا المقام، والكلام على هذا السؤال ينحصر في أبحاث. البحث الأول: إيجاب الاستبراء على البائع، اعلم أنه لا دليل يدل على ذلك أصلا إلا مجرد ما استدل به صاحب البحر (2) وغيره من القياس فقال: إنه يجب على البائع الاستبراء للبيع، وهو مالك للوطء ولا يملكه غيره إلا بعد الاستبراء كالزوجة، ثم قال: بعد ذلك قلنا:. .............................
_________
(1) لعل الجملة " موضع إشكال ".
(2) (3).(6/3030)
والقياس (1) دليل شرعي. انتهى.
_________
(1) القياس لغة: التقدير والمساواة. فالقياس في اللغة يدل على معنى التسوية على العموم، لأنه نسبة وإضافة بين شيئين ولهذا يقال: فلان يقاس بفلان، أي يساوي فلانا، ولا يساوي فلانا.
انظر: " معجم مقاييس اللغة " (5/ 40)، " لسان العرب " (6).
القياس اصطلاحا: هو رد فرع إلى أصل بعلة جامعة.
وقيل: هو تحصيل حكم الأصل في الفرع لا شتباههما في علة الحكم.
انظر: " اللمع " (ص53)، " المستصفى " (2/ 288).
*انقسم العلماء في حجة القياس إلى قسمين:
1 - القسم الأول المثبتون لحجية القياس: أي يتعبد به عقلا وشرعا وهؤلاء يستدلون به على إثبات الأحكام الفقهية بعد الكتاب والسنة والإجماع وهو مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف.
2 - القسم الثاني النافون للقياس وهم القائلون: إن القياس ليس بحجة ولا يعتبر دليلا من أدلة الشرع وهؤلاء انقسموا إلى فرق:
أ-القائلون بأنه يجوز التعبد بالقياس عقلا ولم يرد في الشرع ما يدل على العمل به، وبعضهم استدل بورود الشرع على منعه وهم الظاهرية.
ب-الفرقة الثانية: القائلون بأن القياس يجب العمل به في صورتين فقط وهما:
1 - أن تكون علة حكم الأصل منصوصا عليها إما بصريح اللفظ أو بإيمائه كما في تحقيق الماط وتنقيح المناط. 2 - أن يكون الفرع أولى بالحكم من الأصل أو مساويا له وقد نسب ذلك إلى الفاشاني والنهرواني، ونسب هذا إلى داود الظاهري ولكن ابن حزم نفاه في " الإحكام ".
3 - الفرقة الثالثة: القائلون بأن القياس يمنع من التعبد به عن طريق العقل وبالتالي لا يصح شرعا. وقد ذهب إلى ذلك الشيعة الأمامية، وجماعة من معتزلة بغداد وسواء كان المنع بطريق العقل، أو بطريق الشرع أو بطريق الشرع والعقل معا فإن أصحاب هذا القسم ينكرون القياس، ولا يعتبرونه دليلا من أدلة الشرع.
" البحر المحيط " (5)، " الإحكام " لا بن حزم (7)، " الكوكب المنير " (4 - 214).(6/3031)
وأقول: لا أدري كيف كان هذا القياس دليلا شرعيا! فإن الزوجة تجب العدة عليها، وهذا فيه إيجاب الاستبراء على الرجل، ثم إن العدة إنما تكون بعد الطلاق، وهذا الاستبراء قبل البيع، ثم إن العدة إنما تجب على المرأة بعد دخول أو خلوة. وقد أوجبوا الاستبراء [5ب] على البائع مطلقا، ثم لا يخفى تنافي أحكام النكاح والملك في كثير من الأمور لو لم يكن منها إلا أنه لا يصح الجمع بين الأحقين في النكاح، ويصح الجمع بينهما في الملك إجماع، فكيف يصح إلحاق الملك بالنكاح! مع احتلاف الأحكام وتنافيها، وعدم الجامع الذي هو أحج أركان القياس المعتبرة، ولو كان هذا القياس صحيحا لكان الأولى أن يقال: إنه يجب على الأمة إذا أعتقها سيدها بعد دخول أوخلوة أن تعتد كعدة الزوجة، ولا يجب عليها قبل الدخول أو الخلوة أن تعتد، كما لا يجب ذلك على الزوجة، ثم كان يجب على مقتضى هذا القياس الذي عولوا عليه أن يجب الاستبراء على بائع الأمة وواهبها، ولو كانت حاملا، أو مزوجة، أو معتدة، كما تجب العدة على الزوجة إذا طلقها زوجها.
والحاصل أن هذا القياس ليس فيه شيء من الأركان الأربعة (1) المعتدة عن أهل الأصول، لأن العلة الجامعة إذا لم توجد بطلت دعوى الأصلية والفرعية، ثم بطل الحكم المترتب على ذلك، فلم يبق حينئذ شيء مما ينبغي التعويل عليه.
فإن قلت: قد حكى البخاري في صحيحه (2) عن ابن عمر أنه قال: " إذا وهبت الوليدة التي توطأ، أو بيعت، أو أعتقت، فلتستبرئ بحيضة، ولا تستبرئ العذراء.
قلت: ليس في هذا تصريح، فإن الإستبراء على البائع، بل ظاهره أنه يجب الاستبراء
_________
(1) أركان القياس " أصل، وفرع، وعلة، وحكم " وهذه الأركان ما لا يتم القياس إلا به ".
انظر: " تيسير التحرير " (3/ 275)، " اللمع " (ص57).
(2) (4) تعليقا.
ووصله اليبهقي (7) وصححه الألباني في " الإرواء " رقم (2139).
وأما قوله: " ولا تستبرأ العذراء " فقد وصله عبد الرزاق في " المصنف " (7 رقم 12906).(6/3032)
على المشتري أو المتزوج للمعتقة، وعلى تسليم احتماله لذلك فقد تقرر أن قول الصحابي ليس بحجة في مسائل الاجتهاد (1)
وإذا تقرر لك هذا عملت أنه لا دليل يدل على وجول الاستبراء على البائع قبل اليبع كانت الأة موطؤة بالغة يجوز الحمل عليها، وأما إذا كانت صغيرة، أو المالك صغيرا، أو امرأة، أو كانت الأمة للخدمة فإيجاب الاستبراء على البائع من غرائب العلماء التي ينبغي الاعتبار بها، فإن الاستبراء إن كان لمعرفة خلو الرحم فكيف يصح تجويز عدم خلوه في الصغيرة، وفي الآيسة، وفي أمة المرأة، وأمة الصغير! بل هو خال عن القلوق بلا شك ولا شبهة عقلا، وشرعا، عادة، وتجريبا، وإن كان الاستبراء للتعد فأي دليل يدل على أن الله سبحانه تعبد الصغير باستبراء أمته، تعبد المرأة باستبراء أمتها، وتعبد الرجل باستبراء أمته الصغيرى والآيسة؟ وكيف كلف الله الصغيرة بهذا الحكم، ولم يكلفه بالصلاة والصيام! فليت شعري ما أصل هذا التكليف الذي تتنزه عنه هذا الشريعة المطهرة السمحة السهلة؟ وما هو الملجئ إليه؟ والحامل عليه؟ وبالجملة فليس في كتاب الله، ولا سنة رسول الله، ولا في إجماع الأمة، ولا في القياس الصحيح، ولا في مسالك الاجتهاد ما يدل على أنه يجب على البائع أن يستبرئ أمته مطلقا [6أ]، ومن زعم أن في شيء من ذلك دليلا يدل على وجوب الاستبراء على البائع فليهده إلينا تفضلا، فإنا لم نجده بعد البحث عنه في جميع ما وفقنا عليه من مؤلفا العلماء، ومجاميع الأدلة.
البحث الثاني:
في وجوب الاستبراء على من دخلت الأمة إلى ملكه، وفي ذلك أنواع:
النوع الأول: المسبية وقد دل الدليل على أنه يجب على من صارت إليه استبراؤها،
_________
(1) تقدم توضيح ذلك.(6/3033)
فأخرج أحمد (1)، وأبو داود (2): في " السنن " رقم (2157). (3): في " المستدرك " (2) وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي. قلت: وأخرج الدرامي (2) والبيهقي (7/ 449) من طريق شريك، عن قيس بن وهب. وهو حديث صحيح. (4): (5)، وأحمد (6)، وأبو داود (7) عن أبي الدرداء أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أتى على امرأة مجح (8) على باب فسطاط فقال: لعله يريد أن يلم بها. فقالوا: نعم فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له! كيف يستخدمه وهو لا يحل له! ".
وأخرج الطبراني (9) من حديث ابن عباس بنحو حديث أبي سعيد، وأعل بالإرسال. وأخرج الطبراني (10) من حديث أبي هريرة نحوه بإسناد ضعيف، وأخرج أحمد (11)،
_________
(1) في " المسند " (3/ 62).
(2)
(3)، والحاكم
(4) وصححه عن أبي سعيد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في سبي أو طاس: " لا توطأ حاما حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة ". وأخرج مسلم
(5) في صحيحه رقم (1456).
(6) في " المسند " (21600 - الزين).
(7) في " السنن " رقم (2156).
(8) أي حامل المقرب وقال الخطابي مجحا: اسم فاعل من (أجحت المرأة) أي قرت ولا دتها. " معالم السنن " (2).
(9) في " الكبير " رقم (3172) وفي " الصغير " (2). وأورده الهيثمي في " المجمع " (4): وفيه محمد بن عقبة السدوسي وثقه ابن حبان وضعفه، وتركه أبو زرعة.
(10) في " الأوسط " رقم (2974) و" الصغير" (1) وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5) وفيه بقية الحجاج بن أوطأة وكلاهما مدلس.
(11) في " المسند " (4) بسند حسن.(6/3034)
والترمذي (1) من حديث العرباض بن سارية أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - " رحم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن ".
وأخرج ابن أبي شيبة (2) من حديث علي - كرم الله وجهه - قال نهي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن توطأ حامل حتى تضع، ولا حامل حتى تستبرأ بحيضة، وفي إسناده ضعيف وانقطاع؛ فهذه الأدلة بمجموعها تفيد وجوب استبراء المسبية (3) إذا كانت حاملا بالوضع، وإذا كانت غير حامل بحيضة. وإلى ذلك الجمهور، وقد تمسك بقوله في الحديث: ولا غير حامل، وكذلك قوله في الحديث الآخر: ولا حامل.
من قال: إنه يجب استبراء البكر المسبية؟ وأجاب عنه من قال بعدم [7أ] وجوب استبراء المسبية إذا كانت بكرا (4) بما وقع في بعض ألفاظ حديث رويفع: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكحن ثيبا من السبايا حتى تحيض " (5)، وهو مقيد لقوله في الحديث الأول: ولا غير حامل، وقوله: ولا حامل، أي: إذا كانت ثيبا لا بكرا، لأن وجه مشروعية استبراء المسبية إنما هو لأجل خلو رحمها كما يدل على ذلك قوله في الحديث السابق: " كيف يورثه ولا يحل له! كيف يستخدمه وهو لا يحل له! " (6) وهو الحق،
_________
(1) في " السنن " رقم (1564) وقال الترمذي: حديث غريب.
قلت: وهو حديث صحيح لغيره.
(2) في مصنفه (4/ 370) بسند ضعيف.
(3) انظر " المغني " (11 - 285).
(4) قال ابن عمر: لا يجب استبراء البكر، وهو قول داود، لأن الغرض بالاستبراء معرفة براءتها من الحمل وهذا معلوم في البكر فلا حاجه إلى الإسبتراء. " المغني " (11/ 247).
(5) أخرجه أحمد (4 - 109) وأبو داود رقم (2158) والترمذي رقم (1131) وقال حديث حسن.
وأخرجه ابن حبان رقم (1675 - موارد) وسعيد ين منصور رقم (2722) والدارمي (2/ 230) من طرق. هو حديث حسن.
(6) وهو حديث صحيح لغيره وقد تقدم.(6/3035)
لأن البكر رحمها معلوم بسبب البكارة.
ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري (1)، وأحمد (2) من حديث بريدة قال: " بعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عليا - عليه السلام - إلى اليمن ليقبض الخمس، فاصطفى علي من سبيه، فأصبح وقد اغتسل، فلما قدمنا على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ذكرت ذلك له فقال: يا بريدة، إن له في الخمس أكثر من ذلك "، وللحديث ألفاظ هذا أحدها قيل: إن هذه السبية التي أصابها كانت بكرا (3)، وقيل كانت صغيرة، والمصير إلى التأويل بمثل ذلك واجب للجمع بينه وبين الأحاديث المتقدمة، فالحاصل أنه يجب استبراء المسبية إذا كانت حاملا، أو ثيبا، لا آيسة ولا صغيرة، وأما إذا كانت بكرا أو آيسة أو صغيرة فلا يجب استبراؤها، هذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، ولا يحل المصير إلى غيره.
البحث الثالث
من أبحاث الجواب في استبراء الأمة التي تدخل في ملك الإنسان ببيع، أو هبة، أو نذر، أو صدقة أو وصية، أو ميراث، أو نحو ذلك.
فقال الجمهور (4): إنه يجب، وقال داود الظاهري (5): [7 ب] والبتي أنه لا يجب،
_________
(1) في صحيحه رقم (4350).
(2) في المسند (5/ 259) وهو حديث صحيح.
(3) قال الحافظ في الفتح: ". .. لا حتمال أن تكون عذراء أو دون البلوغ أو أداه اجتهاده أن لا استبراء فيها. وعزاه للخطابي.
" فتح الباري " (8/ 67).
(4) انظر المغني (11/ 274 - 275): قال ابن قدامة: " أن من ملك أمة بسبب من أسباب الملك، كالبيع، والهبة، والإرث وغير ذلك لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها. .. ".
وانظر: " زاد المعاد " (5/ 711 - 745).
(5) انظر " المحلى " (10/ 315 - 320 رقم 2011).(6/3036)
وقد استدل صاحب البحر (1) للجمهور بالقياس لهؤلاء الإماء على المسبية، وكذلك استدل بذلك لهم غيره. قال الإمام يحيى: والجامع بينهما تحدد الملك. ثم استدل لهم في البحر (2) أيضًا بقول علي - كرم الله وجهه - " من اشترى جارية فلا يقربها حتى تستبرئ بحيضة ".
وأقول: في المقام من المدفوع إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ما فيه دلالة على ذلك، فمن ذلك ما أخرجه أحمد (3) والطبراني بإسناد ضعيف من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا يقعن رجل على امرأة وحملها لغيره ".
وأخرج أحمد (4)، والترمذي (5)، وأبو داود (6) من حديث رويفع بن ثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماؤه ولد غيره ". وله ألفاظ، وقد أخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (7)، والدارمي (8)، والطبراني (9)، والبيهقي (10)، وأيضا المقدسي، وابن حبان (11) وصححه،. ...............................
_________
(1) (3).
(2) (3).
(3) في المسند (رقم 8799 - الزين). بإسناد ضعيف.
وأورده الهيثمي في " المجمع " (4) وقال: " رواه أحمد وفيه وشدين بن سعد وقد وثق وهو ضعيف ".
(4) في المسند (4).
(5) في " السنن " رقم (1131) وقال: حديث حسن.
(6) في " السنن " رقم (2158) وهو حديث حسن.
(7) في مصنفه (4).
(8) في السنن (2/ 230).
(9) في الكبير رقم (4483، 4483، 4484، 4486، 4488، 4489) من طرق.
(10) في السنن الكبرى (7/ 449).
(11) رقم (1675 - موارد).(6/3037)
والبزار، وحسنه (1)، وأخرج الحاكم (2) عن ابن عباس مرفوعا: " لا يسق ماؤك زرع غيرك "، وأصله في النسائي (3)، وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا، فتنتهض للاحتجاج بها على وجوب استبراء الأمة التي يحدد الملك عليها، فلا رجه للتعويل على القياس معها، ولكن العلة هاهنا مذكورة في هذه الأحاديث، وهي أن يسقي ماؤه ولد غيره، أو زرع غيره، فلا يجب الاستبراء على المشتري إلا إذا كانت الأمة حاملا، أو حاملا ثيبا بالغة، وبالمشتري بالغا قاصدا بشرائه الوطء.
وأما إذا كانت الأمة صغيرة (4)، أو آيسة، أو بكرا، أو كان [8 أ] المشتري صغيرا، أو امرأة فلا يجب الاستبراء، لأنه حينئذ لا يسقي بمائه زرع غيره. وما ورد من الأحاديث مطلقا عن التعليل بهذه العلة تقييده بالأحاديث التي ذكرت فيها هذه العلة كما هو المسلك الأصولي من حمل المطلق على المقيد، ولا محيص عن هذا لمن سلك بنفسه مسالك الإنصاف، مشى على القوانين الأصولية التي هي جسر الاجتهاد، وقتطرة أرباب الانقياد، فتلخص من هذه المباحث أنه لا يجب الاستبراء على البائع مطلقا، ويجب على من تحدد له ملكه بسبي أو غيره في الأمة الحامل والبالغة الثيب، ولا يجب لغير ذلك مطلقا. وقد ذكرت هذه المسألة في شرحي للمنتقى (5) بما فيه زيادة بسط، بذكر الخلاف وألفاظ الأحاديث المختلفة، واستيفاء طرقها. وفي هذا المقدار كفاية. والله ولي الهداية.
_________
(1) لم يطبع مسند رويفع بن ثابت من مسند البزار بعد؟!.
(2) في المستدرك (2/ 137) وقال حديث حسن الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة ووافقه الذهبي.
(3) في السنن (7/ 301 رقم 4645) وهو حديث صحيح.
(4) انظر " المغني " (1/ 273 - 277).
(5) " نيل الأوطار " (6/ 305 - 309).
وانظر " المغني " (11/ 274 - 285).(6/3038)
السؤال الثالث
قال السائل - كثر الله فوائده - إنه أشكل عليه ما صار الناس يتعاملون به من العمل بالرقومات في جمع المعاملات: البيوع، والإجارات، والمصادقات، والقبض، والإقباض، وهو أن يجعل ذلك في مرقوم باطلاع أحد القضاة [8 ب]، فيضع عليه علامته، ثم قد يحصل بعد ذلك بين الغريمين التناكر في ذلك، ويترافعان إلى حاكم آخر، فيقرر أحدهما المرقوم، فهل له أن يعمل به لمجرد الاطلاع في إسقاط حق أو إثباته من الأموال والحقوق على هذه الصفة أم لا؟ فإن قلتم يعمل؛ فهل هو بمنزلة الحكم، أو الشهادة، أو الإخبار؟ وإذا جعلناه كذلك فقد لا يوجد في المرقوم سوى خط كاتب واحد، والعلامة من القاضي، وتحتها لفظة مجملة، وإن قلتم قد جاء في الكتاب العزيز (1) وما يقتضي جواز العمل بالخط، وعمل بذلك الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وكثير من الأئمة وشيعتهم، ولولا ذلك لضاعت الأموال والحقوق، وأتنم قد أشرتم إلى العمل بالخط في كتابكم المبارك " إطلاع أرباب الكمال " (2)، وذكرتم مادة مفيدة قلت: لعل ذلك في العبادات وما يتبعها في العبادات وما يتبعها في العادات، وعلى صفة مشروطة، وهي معرفة الخط، والعدالة والشخص وشهرته، هذا عند غير أهل المذهب، وأما أهل المذهب فأجازوا العمل بالخط في الأموال إذا انضم إليه ثبوت اليد، كما ذلك هو المقرر في مواضعه؟ قلت: أما مع ثبوت اليد فالرجوع إليه أولي وأحرى وما بقي من فائدة فقد صار
_________
(1) يشير إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) [البقرة: 282].
(2) وهي رسالة للشوكاني لا تزال مخطوطة: وعنوانها الكامل: " إطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال من الإضلال والاختلال " وقد وعدنا الدكتور هيكل بإرسالها من الولايات المتحدة الأمريكية. أثناء زيارته لصنعاء ونحن نطبع هذا الكتاب. والله الموفق.(6/3039)
المرقوم (1) مستغنى عنه بالرجوع إلى ما هو أقوى منه، فدل على عدم جواز العمل بالخط في الأموال والحقوق، ولو من خطوط المشاهير،؟ فتقبلوا بالجواب، انتهى السؤال [9أ].
وأقول: اعلم أن العمل بالخط ثابت بالكتاب (2) والسنة (3)،. .................................
_________
(1) الرقم: يريد النقش والوشي والأصل فيه الكناية.
" النهاية " (2/ 253).
وقال صاحب لسان العرب (5/ 290) الرقم والترقيم: تعجم الكتاب ورقم الكتاب يرقمه رقما: أعجمه وبينه. وكتاب مرقوم أي قد بينت حروفه بعلاماتها من التنقيط. وقوله عز وجل (كِتَابٌ مَرْقُومٌ) كتاب مكتوب. وأنشد:
سأرقم في الماء القراح إليكم ... على بعدكم، إن كان راقم
أي سأكتب، وقولهم، وهو يرقم في الماء أي بلغ من حذقه بالأمور أن يرقم حيث لا يثبت الرقم.
قال الجوهري في الصحاح (5/ 1935): " قال الرقم: الكتابة والختم " " والختم والخاتم " الخاتم هو من الخطط السلطانية والوظائف المملوكية. والختم على الرسائل معروف للملوك قبل الإسلام وبعده وقد ورد في الصحيحين. ... وفي كيفية نقش الخاتم والختم به وجوه:
-أن الخاتم يطلق على الآلة التي تجعل في الإصبع ومنه تختم إذ لبسه.
-ويطلق على النهاية والتمام ومنه ختمت الأمر، إذا بغت آخره.
-ومنه خاتم النبيين وخاتم الأمر.
فإذا صح إطلاق الخاتم على هذه كلها صح إطلاقه على أثرها الناشئ عنها وأول من أطلق الختم على الكتاب أي العلامة، معاوية لأنه أمر لعمر بن الزبير عند زياد بالكوفة بمائة ألف ففتح الكتاب وصير المائة مائتين ورفع زياد حسابه فأنكرها معاوية وطلب بها عمر وحبسه حتى قضاها عنه، واتخذ معاوية عند ذلك ديوان الختم، ذكره الطبري.
أنظر: " مقدمة ابن خلدون " (2/ 643 - 644) ط 2. تحقيق على عبد الواحد.
(2) تقدم ذكر الآية من سورة البقرة (282).
(3) استعمل الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جميع المجالات، فكانت وسيلة لتبليغ الرسالة، وكتابة الأحكام الشرعية، وفي المعاهدات والصلح والأدمان وفي الإقطاع ومع الأمراء في البلدان البعيدة ومع القادة في السرايا والحروب كما استعملها في المعاملات كالبيع وفي الوصية وفي القضاء. . " وسائل الإثبات " (2/ 426)، " زاد المعاد " (1/ 24).
انظر الرسالة رقم (149) بحث في العمل بالخط ومعاني الحروف العليمة النقطية.(6/3040)
والإجماع (1). وقد أوضحنا ذلك في الكتاب الذي أشار إليه السائل - دامت إفادته - فلا حاجة للتطويل بذلك هاهنا، وبالكتابة حفظ الله هذه الشريعة المطهرة، حتى علمها من تأخر، كما علمها من تقدم، ولولا ذلك لذهبت الشريعة لا سيما في العصور المتأخرة، فإن الحفاظ فيها في غاية القلة، ولم يبق من العلم إلا ما حوته بطون الدفاتر، وهكذا حفظ الله بالكتابة أخبار السلف، حتى عرفها الخلف، ولولا ذلك لذهب بها الأعصار، وصارت نسيا منسيا، وبهذا ظهرت الحكمة الإلهية في الأمر بالكتابة بنص القرآن الكريم، وما ذكره السائل - عافاه الله - في التفرقة بين العبادات والمعاملاة غير صحيح؛ فإنه لا فرق، بل الكتابة معمول بها في الجميع، وبذلك جاء القرآن الكريم؛ فإنه أمرنا بالكتابة إذا تداينا بدين، والمداينة معاملة محضة ليست من العبادات في شيء، وبهذا عمل أهل العلم قاطبة، فإنك إذا نظرت في الكتب الفقهية وجدت كثيرا من الأبواب المعقودة فيها قد ذكر فيه العمل بالكتابة كما تراه في الأزهار (2) وفضلا عن غيره من المؤلفات - الكتاب - ولكن هذه الكتابة المعمول بها ليست الكتابة المطلقة، بل الكتابة المقيدة بقيود منها [9 ب]: معرفة الكاتب، ومعرفة عدالته، ومعرفة خطه على وجه لا يلتبس بغيره، فإذا كان الخط جامعا لذلك، فالعمل به متعين، فإن كان كاتبه حاكما، وصرح فيه بالحكم كان ذلك منزلا منزلة أحكام الحكام وإن كان مفتيا كان ذلك بمنزلة الرواية لتلك المسألة، وإن كان لا حاكما ولا مفتيا بل حرر رقما في دين، أو بيع، أو هبة، أو نحوها كان ذلك بمنزلة الخبر من ذلك الكاتب، وحكم الخبر معروفا.
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) " الأزهار في فقه الأئمة الأطهار ". تأليف الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى الحسني. / وقد تقدم.(6/3041)
وأما إذا كان الخط غير معروف فهذا لا خلاف بين المسلمين أنه لايجوز العمل به في نقر ولا قطمير، ولكن ربما يلتبس بغيره لم يجز العمل به في شيء، وهكذا لو كان معروفا ولا يلبس بغيره، ولكن صاحبه ليس بعدل فإنه لا يجوز العمل بالكتابة، لما تقرر من أن عدم العدالة مسقط للشهادة، والرواية باللفظ، فضلا عن الكتابة، فإذا اجتمعت المقتضيات للعمل، وهي الثلاثة الأمور التي ذكرناها (1)، وعدم المانع وهو القادح في شيء منها فلا شك ولا ريب أن ذلك الخط معمول به على ذلك التفصيل الذي ذكرناه.
فإن قلت: إذا كان الخط الموجود في شيء [10 أ] من المعاملات، مثلا لو أبرز شخص مرقوما يتضمن أن المتمسك به اشترى الدار الفلانية، أو الأرض الفلانية من فلان، وخط كاتبه معروف، وفيه شهود معروفون، ورقم حاكم من الحكام المعروفين في أعلاه لفظا مجملا، مثل ما جرى به عرف حكام الزمان أنهم يرقمون في ذلك لفظ يعتمد، ثم وقع النزاع بينه وبين آخر في زمان قد مات فيه الكاتب والشهود والحاكم؟ قلت: لا شك ولا ريب أن التحرير الكائن على هذه الصفة حيث لم يصرح الحاكم فيه بلفظ الحكم لا يكون له حكم الحاكم، وكذلك الكاتب والشهود لا يكون رقمهم منزلة الشهادة أو الأخبار إلا إذا ذكر الكاتب في كتابته، وذكر الشهود في شهادتهم أنهم يعرفون البائع، ويعرفون أنه مالك لما باعه، وثابت اليد عليه، فإذا قرروا في المرقوم هذا التقرير، وكانت خطوطهم أو خط الكاتب الذي رقم شهادتهم معروفة لا تلتبس كان ذلك كالإخبار منهم بأن فلان باع من فلان ما هو في مكله. ولا ريب أنه يجوز الاستثناء إلى هذا المرقوم، والعمل بما تضمنه فإن لم يأت المدعي لخلافه بحجة جاز [10ب] العمل بذلك المرقوم لأمرين: أحدهما: أن الأصل الأصيل عدم انتقال ذلك
_________
(1) وهي معرفة الكاتب، ومعرفة عدالته، ومعرفة خطه على وجه لا يلتبس بغيره.(6/3042)
الشيء عن ملك صاحب رقم، والثاني: أن الظاهر معه، فقد اجتمع هاهنا الأصل والظاهر، هما القتطرة التي يجري عليها غالب الأحكام الشرعية، وقد عمل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالظاهر في غير موطن، فمن ذلك أن عمه العباس قال في يوم بدر -: " ظاهرك علينا، ولم يغدره من الفدا " (1) فهذا عمل بالظاهر، وأما ما يروى من أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " (2) فهذا لم يصح عنه، ولا ثبت أنه من قوله، وإن كان كلاما صحيحا، لأن معناه معنى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للعباس.
وأما إذا كان المرقوم المتضمن للبيع مثلا لم يذكر فيه الكاتب والشهود أن البائع باع وهو مالك لذلك الشيء فهذا وإن كان لا يفيد ما أفاده الأول لجواز التواطؤ بين البائع
_________
(1) أخرجه البخاري في صححه رقم (4018).
(2) قال العراقي في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في " منهاج البيضاوي " رقم (178) " لا أصل له وسئل عنه المزي فأنكره ".
وكذلك قال ابن كثير والسخاوي في " المقاصد الحسنة " رقم (178) وأيضا السيوطي كما في " كشف الخفاء " للعجلوني رقم (585) وانظر: " كوافقة الخبر الخبر " لابن حجر (1/ 181 - 183). قلت: وقد ورد في السنة ما يؤدي معناه.
ففي الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (12/ 339 رقم 6967) ومسلم في صحيحه (3/ 1337 رقم 4/ 1713) عن أم سلمة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع. .. ".
وأخرجه النسائي (8/ 323) وترجم له في باب الحكم بالظاهر.
وأخرج ملسم في صحيحه (2/ 742 رقم 144/ 1064) من حدي ث أبي سعيد: " أني أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم ".
وأخرج أيضًا البخاري رقم (3344) وأحمد (3/ 4).
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (5310) ومسلم في صحيحه رقم (12/ 1497) من حديث ابن عباس في قصة الملاعنة: " لو كنت راجما أحدا من غير بينة لرجمتها ".(6/3043)
والمشتري على بيع ملك (1) الغير، إلا أنه يفيد أصلا ضعيفا وظاهرا ضعيفا يجوز تعزيره إذا لم يأت الخصم بحجة راجحة عليه، وأما إذا جاء الخصم بحجة راجحة عليه لم يجز العمل به، وذلك كأن بأتي الخصم بمرقوم فيه التصريح من الكاتب والشهود أن البائع باع ذلك الشيء وهو يملكه؛ فإن هذا المرقوم أرجح من ذاك [11 أ]، فلا حكم للمرجوح مع وجود الراجح، وأما إذا تعارض المرقوم الواقع على الصفة المذكورة وثبوت اليد فهاهنا محل إشكال لا يعمله إلا القليل من الرجال، وأما الغالب من الحكام والمفتين فتراهم يرجحون الثبوت، ويصرحون في مراقيمهم وأحكامهم، فإن الثبوت من أعلا مراتب القوة، وهذه الكلمة ظاهرها علم، وباطنها جهل؛ فإن ثبوت اليد إنما هو من باب دليل الاستصحاب (2)، ودليل الاستصحاب هو من أحسن الأدلة كما يعرف ذلك ممن له خبرة
_________
(1) وجد في هامش المخطوط: " قوله: لجواز التواطؤ بين البائع والمشتري على بيع ملك الغير قد ظهر من هذا التعليل أنه إذا كان المرقوم مشتملا على المشتري مثلا من غير ثابت اليد اعتبر فيه تصريح الكاتب والشهود بملك البائع لم باعه لجواز التواطؤ إلخ. فأما إذا كان المرقوم مشتملا على المشتري مثلا ممن هو ثابت اليد أو ممن ثابت اليد بعد تاريخ الرقم الأول. فالظاهر عدم اشتراط التصريح من الكاتب والشهود وبملك البائع بل تكفي المصادقة هنا لعد وجود العلة المقتضية للاشتراط المذكور وهي التواطؤ إلخ وهذا هو الحق وإن أغفله المجيب دامت إفادته. تمت. كاتبه ".
(2) الاستصحاب: قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 774): أي استصحاب الحال لأمر وجودي أو عدمي عقلي أو شرعي. ومعناه: أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاءه في الزمن المستقبل مأخوذ من المصاحبة، وهو بقاء ذلك الأمر ما لم يوجد ولزم يظن عدمه قهو مظنون البقاء.
وقال ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1/ 339): " بأنه استدامة ما كان ثابتا، ونفي ما كان منفيا " أي بقاء الحكم نفيا وإثباتا على ما كان عليه. حتى يقوم دليل على تغيير الحال، فهذه الاستدامة لا تحتاج إلى دليل إيجابي، بل تستمر حتى يقوم دليل مغير، والأصل فيها البراءة الأصلية ومن ادعي خلافها فعليه الدليل.
ومثال ذلك إذا ثبت الملكية في عين بدليل يدل على حدوثها: كشراء أو ميراث أو هبة أو وصية فإنها تستمر حتى يوجد دليل على نقل الملكية أو غيره، ولا يكفي احتمال البيع. ...
أنظر: " أصول الفقه " للشيخ محمد أبو زهرة (ص 295 - 296).
أنواعه الاستصحاب انظرها في " إرشاد الفحول " (ص 772 - 775).
أما حجية الاستصحاب: هو حجة وهو رأي الأكثرية من أصحاب مالك والشافعي وأحمد والظاهرية.
انظر: " إرشاد الفحول " (ص 774).(6/3044)
بعلم الأصول، فإن ثبوت اليد هو أضعف مراتب القوة، لا أوسطها، ولا أعلاها، فإذا اتفق التعارض الذي ذكرنا بين المرقوم الذي على تلك الصفة، وبين ثبوت، فإن كان المرقوم يشتمل على ما يفيد الحكم المعروفين دينا وعلما وعملا، وذلك كأن يقول: تقرر البيع أو صح، أو نحو ذلك، فهذا المرقوم لا شك أنه أرجح، وإن كان المرقوم المذكور ليس فيه لفظ يفيد الحكم وكان كاتبه معروفا، وشهوده معروفين، وصرحوا بأنهم يعرفون البائع ويعرفون (1) ملكه لما باعه، فهذا لا شك أنه أرجح من مجرد الثبوت، وإن كان المرقوم على الصفة التي توجد عليها المراقيم الآن من الترجمة لصدور البيع من دون تصريح الشهود والكاتب بما ذكرنا، وقد رقم حاكم في ذلك [11 ب] المرقوم رقما مجملا، فهذا محل نظر للحاكم المعتبر، لأن مجرد الكتابة قد أفادت ظاهرا ضعيفا، وأصلا أضعف منه، ومجرد الثبوت قد أفاد ظاهرا ضعيفا، وأصلا أضعف منه، والحاكم الموفق ينبغي له في مثل هذا أن يعول على القرائن إذا أعياه الأمر، ولم يجد إلى الحق سبيلا، ولم يأت ثابت اليد بمستند إلا مجرد الثبوت فيها، مثلا في حال ثابت اليد هل هو ممن يجوز منه الاغتصاب أم لا؟ فإن وجده كذلك كانت هذه قرينة تقوي حجة المتمسك بالرقم، وأن كان ليس له قدره على الاغتصاب كانت هذه قرينة تقوي الثبوت، ثم ينظر أيضًا في مدة الثبوت، فإن كانت متأخرة عن تاريخ الرقم كان ذلك موجبا لقوة حجة المتمسك بالرقم، وأن كانت متقدمة كان ذلك مقويا للثبوت، ثم ينظر في حال المتمسك بالرقم، هل هو باق في الموضع الذي وقع فيه الاختلاف والنزاع، أم هو غائب عنه؟ فإن كان غائبا عن المكان الذي فيه المبيع كان ذلك مقويا لحجة صاحب
_________
(1) في هامش المخطوط قوله: " ويعرفون لما باعه حيث يكون الثابت غير البائع إلى صاحب الرقم. .. المصادفة كما في الحاشية اليمني والله أعلم. تمت كاتبه ".(6/3045)
الرقم، وإن كان ذلك مقويا للثبوت، لا سيما مع طول المدة، ثم ينظر أيضًا في الجهة التي فيها البيع إذا كان أرضا أو دارا، فإن كانت جهة تجزي فيها الأحكام الشرعية، وينتصف [12 أ] المظلوم من الظالم كان ذلك مقويا للثبوت، وإن كان في جهة لا تجري فيها الأحكام الشرعية كان ذلك مقويا لحجة صاحب الرقم.
وبالجملة فهذه المسألة هي من أشد الإشكالات التي ترد على القضاة، فمن كان منهم معانا من رب العزة فينبغي له أن يسأل ثابت اليد عن مستند ثبوته، ولا يتركه عن ذلك، فإن قال: إنه صار إليه مثلا بشراء أو هبة طلب منه المستند، فإن أبرز مرقوما يقتضي أنه شراه أو نحو ذلك بحث عن صحة ملك من باعه من هذا الذي قد صار ثابتا عليه، فربما يننتهي به البحث إلى شيء يزول معه الإشكال، فإن قال ثابت اليد: إنه تلقاه إرثا من مؤرثه تسأله أن يبرز المرقوم المشتمل على ذكر نصيبه من تركة والده، فإن أبرزه بحث عن وجه تملك والده لذلك الموضع، فإن أعياه الحال وصمم ثابت اليد على المتمسك بالثبوت المذكور، ولم يجد الحاكم إلى الإطلاع على الحقيقة مستدلا رجع إلى القرائن التي ذكرناها، فتقرر لك بهذا أن الخط إذا كملت شروط العمل به فهو معمول به، ما لم يعارضه معارض، فإن عارضه معارض كان الواجب البحث عن الراجح والمرجوح من المتعارضين، وهذه قاعدة كلية لأهل المذهب وغيرهم، ونصوصهم قاضية بها [12 ب].
وقد صرحوا في مواضع عديدة بالعمل بالخط، ولم يشترطوا سوى ما ذكرنا من الشروط الراجعة إلى الخط، من كون كاتبه معروفا، وعدالته ثابتة، وخطه معروف، ولكن العمل به متفاوت كما قدمنا، فليس العمل بما كان إخبارا كالعمل بما كان حكما. وقد وقع في كلام أهل المذهب في مواطن يسيرة ما يفيد أنه يعتبر في العمل بالخط غير ما ذكرناه، وذلك كما ذكروه في كتاب حاكم (1) إلى مثله، من أنه لا بد أن يكتب إليه،
_________
(1) أنظر " تبصرة الحكام " (2/ 11)، " المبسوط " (16/ 96، 101).
ومن شروط ذلك:
1 - أن يذكر فيه اسم القاضي الكاتب واسم المدعى عليه والمدعي والشهود، ويحدد فيه المدعي به صفاته لتمييزه تمامًا عن غيره. ..
2 - أن تكون الكتابة مستبينة أي ظاهرة مقروءة تفيد المعنى وتؤدي المقصود من كتابة الشهادة أو كتابة الحكم بحيث يستطيع القاضي المكتوب إليه العمل بموجب الكتاب، كما يجب على القاضي المكتوب إليه أن يتأكد من عدالة القاضي الكاتب وأنه أهل للقضاء ومعرفة الأحكام.
" تبصرة الحكام " (2/ 15).
3 - أن يكون الكاتب مختوما بخاتم القاضي الكاتب وموقعا بتوقيعه عند جمهور الفقهاء لأنه أدعى للقبول والاحتياط، ولضمان عدم الزيادة فيه أو النقص منه، ولأنه أبعد عن تزوير الخط ومحاكاته.(6/3046)
ويشهد أنه كتابه إلى آخر ما ذكروه هناك، وكما ذكروه في الحاكم أنه لا يعمل بما وجد في ديوانه (1) إن لم يذكر، ولكنهم عللوا ذلك بعلة تفيد أن الخط في هذين الموضعين
_________
(1) أن الاعتماد على ديوان القاضي وكتابته وخطه مقبول، وكذلك ديوان القاضي الذي سلفه إذا وثق بالخط وأمن التحريف والتغيير وبتعدت الريبة والشك، وإن لم يتذكر خطه وكتابته وإن لم تقم البينة عليها، كما يعتبر الصك الذي في يد أحد المتخاصمين، والمسجل في دواوين القضاة دليلا في الإثبات وبرهانا على الحق لصاحبه إن كان محفوظا.
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 - أن القاضي قد أخذ الاحتياط بالكتابة والحفظ بحسب وسعه وإذا لم يعمل بكتابته تاهت الحقوق بطلت الأحكام وكانت كتابته سدى، ولأن سجل القاضي لا يزور عادة، لأنه محفوظ عند الأمناء، والظاهر من الديوان أنه خطه واجب.
2 - أن العمل بديوان القاضي مستفيض وقد ارتفع عنه الإنكار.
3 - قياس الحكم في الديوان على الرواية في الأحكام الشرعية إذا وثق بصحة كتابته.
4 - أن الغلط فيه نادر، وأثر التغيير يمكن الاطلاع عليه ومعرفته وقلما يشتبه الخط من كل وجه.
5 - إن اشتراط التذكر يؤدي إلى الصعوبة، وفيه مشقة وحرج الغين وإن القاضي يعجز عن حفظ كل حادثة لكثرة اشتغاله وخاصة في مثل هذه الأيام فإن الدعاوي والأحكام تبلغ الآلاف وليس وسع القاضي التحرز عن النسيان فإنه طبيعة في الإنسان فالنسيان جبلة فيه، وما سمي الإنسان إنسانا إلا لأنه نيسي.
وانظر " تبصرة القضاة " (ص 42)، " المبسوط " (16/ 92).(6/3047)
لم تجتمع فيه الشروط التي ذكرنا، فإنهم قالوا: إنه ربما جوز الزيادة والنقصان والتغيير والتبديل، ولا شك أن الخط إذا كان يدخله التجويز المذكور غير معمول به، لأن شرط العمل به هو ما قدمنا من كونه معروفا على وجه لا يلتبس بغيره، ولا يدخله التجويز، فإذا كان هكذا فأهل المذهب يقولون: إنه معمول به من غير تلك الشروط المذكورة في كتاب حاكم إلى مثله، ومن غير ما ذكروه من اشتراط الذكر لما وجده في ديوانه (1)، فتقرر بهذا أن الخط إذا كملت شروطه معمول به [13 أ] عند أهل المذهب وغيرهم، من غير خلاف.
وأما ما ذكره السائل - دامت إفادته - من أن أهل المذهب ذكروا أن من شرط العمل بالخط في الأموال أن ينضم إليه الثبوت فهذا غير مسلم، فإن أهل المذهب لم يشترطوا هذا الشرط، ولا أظنه يوجد في كتبهم المعتبرة المتقنة، وربما ذكره بعض المتأخرين الذين لا يعرفون سوى التفريعات، وكيف يقول عالم: إن من شروط العمل بالخط الجامع للشروط أن ينضم إليه ما هو دونه بمراحل أو مثله في نادر الأحوال! وذلك الثبوت الذي هو من جنس الاستصحاب الكائن في أدني منازل الاستدلال! وكيف يقول عارف إن الثبوت للذي هو مجرد استصحاب معمول به من غير شرط! والخط الذي هو تارة يتصمن الحكم، وتارة يتصمن الإخبار من العدول والشهادة من الثقات لا يعمل به إلا مع الثبوت! فإن هذا عكس لغالب الاستدلال، غفلة عن الحقائق، حيث يكون العمل بالأقوى مشروطا بانضمام الأضعف إليه، والعمل بالأضعف غير مشرط بشرط.
وأما ما ذكره السائل - عافاه الله - من المراقيم المتضمنة للمصادقة، مثلا بدين إذا وقع
_________
(1) واعلم أن " الديوان "، جريدة الحساب ثم أطلق على الحساب ثم أطلق على موضع الحساب. وقال في القاموس: الديوان مجتمع الصحف وهو معرب والكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية، وأول من وضعه عمر بن الخطاب.
" القاموس " (ص 1545)، " الصحاح " (5/ 2115).(6/3048)
الإنكار من الذي عليه الدين [13 ب] بعد ذلك متقول: إعلم أن المرقوم المتضمن للمصادقة إن كان جامعا للشروط المعتدة المذكورة سابقا فأقل أحواله وأدني منازله أن يكون القول قول حامله، لأنه يفيده ظاهرا قويا.
وقد تقرر أن القول قول من معه الظاهر مع يمينه، ويكلف المدعي لما يخالف ما اشتمل عليه الرقم البرهان، فإن جاء البرهان راجحا على الرقم وجب الانتقال إليه عن الظاهر، وإن لم يأت بذلك وجب البقاء على ما يقتضيه الظاهر ووهذا هو الحق المطابق للقوانين الأصولية، والقواعد الفرعية، وأهل المذهب قد صرحوا به في غير موضع لو لم يكن من ذلك إلا ما ذكروه في كتاب الدعاوي، فإنهم قالوا: إن المدعي من معه أخفى الأمرين، والمدعي عليه من معه أظهرها (1)، وهذا هو معنى ما ذكرنا من أن القول قول من معه الظاهر مع يمينه، لأن قد صار بالرقم المذكور معه أظهر الأمرين.
ومن جملة ما عملوا فيه بالظاهر قولهم: الثوب للابس، والعزم للأعلى، والفرس للراكب، والجدران لمن ليس إليه توجيه البناء. وقولهم: يحكم لكل من ثابتي اليد الحكمية بما يليق به، قولهم من فعل في شيء ما ظاهره السبيل خرج عن ملكه إلى غير ذلك من المواضع التي يصعب تعدادها. وفي هذا المقدار كفاية. والله ولي التوفيق.
حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - في شهر جمادي الآخرة سنة 1215هـ.
_________
(1) وجد في هامش المخطوط: " إن قيل: إذا كان الثبوت مع أحد الخصمين، والرقم مع الآخر فمن ذا يكون المدعي؟ فإن قيل هو الثابت لأنه الذي معه أخفى الأمرين ففيه نظر، لأنه لا يسمي مدعيا لغة ولا عرفا ولا شرعا، ولعله يجاب بأن المدعي هو صاحب الرقم قد يعزون رقمه إليه فيصدق عليه في تلك الحال مع أحق الأمرين. والله أعلم. تمت.(6/3049)
الصلاة على من عليه دين
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(6/3051)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (الصلاة على من عليه دين).
2 - موضوع الرسالة: فقه الصلاة.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد: فأنه سأل الأخ القاضي العلامة البارع. ...
4 - آخر الرسالة:.
كل ذلك معلوم كما لا يخفى، وإلى هنا انتهى الجواب وفيه كفاية، والله ولي التوفيق. كتبه المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
7 - عدد الصفحات: (10) صفحات.
8 - عدد الأسطر في الصفحة: 30 سطرا ما عدا الصفحة الأخيرة (5) أسطر.
9 - عدد الكلمات في الصفحة: 12 كلمة.
10 - الرسالة من المجلد الثالث من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).
ملحوظة: نقص صفحتين من صورة المخطوط. والله أعلم.(6/3053)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن سأل الأخ القاضي العلامة البارع المعنن المتقن، فرد أرباب الذكاء وقريع أبناء الفهم وجيه الإسلام العلامة عبد الرحمن بن يحيى الآنسي (1) - كثر الله فوائده - سؤالا يحق الجواب عليه، ويتوجيه العناية إليه، فقال: - لا زال محروسا بالعناية من ذي الجلال - ما هذا نصه. حديث: كان إذا أتي بجنازة سأل: هل على صاحبها دين؟ فإن قيل لا. صلى عليها، وإن قيل: نعم لم يصل عليها وقال: صلوا على صاحبكم " الحديث، لا كلام في التشديد في الدين بهذا الحديث وبحديث: إنه يغفر للشهيد ما عداه. والمسؤول فيه عن طرفين:
الطرف الأول: وفيه أسئلة:
(الأول): ما حكم الحديث نفسه؟ ومن خرجه من الحفاظ؟.
(الثاني): هل هو منسوخ على قلة النسخ في الشريعة حتى حصره السيد ابن الوزير (2) في مائة حكم إلا واحد ا عد المجمع عليه منها ثلاثين حكما إلا واحدا، وسبعين حكما مختلف فيها لترددها بين النسخ والتخصيص والمعارضة؟ ولم أره ذكر هذا الحديث
_________
(1) عبد الرحمن بن يحيى الآنسي ثم الصنعاني ولد في شهر ذي العقدة سنة 1168.
أخذ علم العربية والفقه والحديث وأكب على المطالعة واستفاد بصافي ذهنه الوقاد ووافي فكره النقاد علوما جمة.
قال الشوكاني في ترجمته لـ عبد الرحمن بن يحيى رقم (334) فقال وكتب إلي رسالة مشتملة على عشرة أسئلة أجبت عليها برسالة سميتها (طيب النشر في جواب المسائل العشر).
توفي (سنة 1250 هـ).
انظر " البدر الطالع " رقم (334)، " نبل الوطر " (2/ 43 - 44).
(2) ذكره ابن الوزير في " الروض الباسم " (1/ 201 - 203).(6/3057)
وعهدته في النقل على كتاب الاعتبار في ناسخ الحديث ومنسوخه للحافظ المعتبط شأنا أبي بكر الحازمي (1).
قال السيد (2): وهو أصح وأجمع ما في الباب، أعني كتاب الاعتبار (3)، وقد طالعته استقصاء فلم أر أنا فيه هذا الحديث.
(الثالث): إن قلنا: هو منسوخ بحديث أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال بعد فتح خيبر، والبحرين، واليمن، إيعاب العرب في الإسلام وسوقها صدقاتها " من ترك دينا فعلي قضاؤه وماله لورثته أو كما قال " (4): ففيه أسئلة (5):
الأول: وهو الرابع من الطرف الأول ما حكمه في نفسه ومن خرجه من الأئمة؟.
الثاني: وهو الخامس من الطرف الأول هل هذا التحمل خاص بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم متعد إلى من بعده من خلفائه؟.
الثالث: وهو السادس من الطرف الأول؟ إن قلنا هو عام فهل تسقط التبعة عن المدين وتلحق السلطان؟.
السابع من الطرف الأول إذا كان حديث الامتناع من الصلاة على المديون ثابتا غير منسوخ هل يختص بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم يعم ويخرج حمله قوله: صلوا على صاحبكم مخرج
_________
(1) هو الإمام أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان الحازمي الهمداني (ت 584 هـ) وله ست وثلاثون سنة.
(2) أي ابن الوزير في " الروض الباسم " (1/ 205): وأحسن كتاب صنف في ناسخ الحديث ومنسوخه كتاب " الاعتبار " للحافظ الحازمي وهو مبسوط كثير الفوائد وليس يخرج منه إلا منسوخ القرآن الكريم، وكثير منه معلوم ضرورة لا يحتاج إلى ذكر مثل: نسخ شرب الخمر، واستقبال بيت المقدس ونحو ذلك.
(3) مطبوع في مجلد واحد.
انظر: " سير أعلام النبلاء " (21/ 167).
(4) أي ابن الوزير.
(5) انظر الإجابة.(6/3058)
التهديد مثلها في لا أشهد على جور، أشهد غيري عند من يوجب المساواة في الزائد على الفريضة.
الثامن: ثم لم يشفع إلى رب المال بحطه عن هذا بحطه عن هذا المقهور بالموت وهو الشفيع العريض الجاه دنيا وآخرة عند الخالق وخلقه.
التاسع: هل يخص الامتناع عن الصلاة بمن لم يترك قضاء دينه أم يعم على ظاهره؟ ويكون موته مديونا مقتضيا تاما لعدم الصلاة عليه مطلقا.
العاشر: حديث من ادان ما لم ينو قضاءه لقي الله سارقا، ومن ادان ما ينوي قضاءه أداه الله [1] عنه " أو كما قال. وفي معناه أحاديث لكنها في تيسير قضاء دينه له نفسه في الدينا لا في الآخرة. فما حكم هذا الحديث؟ ومن أخرجه منهم؟.
الحادي عشر: كيف الجمع بينه وبين حديث الامتناع من الصلاة؟.
الطرف الثاني هل تمتنع الصلاة على الظالم الناس يأخد أموالهم تجبرا على نظيره، وتهاونا فهي حالقة بقياس الأولى؟ أو يقال: الأصل مبني على سبب، ولا قياس في الأسباب، أفيدونا بما عندكم من غير نظر إلى اختلال في السؤال من عدم حسن سياق، أو ضعف تركيب، أو سوء ترتيب. انتهى السؤال.
وأقول - مستعينا بالله عز وجل - مجيبا على قوله: وفيه أسئلة:
الأول: ما حكم الحديث نفسه، ومن خرجه من الحفاظ؟ إن الحديث صحيح أخرجه أحمد (1)، والبخاري (2)، والنسائي (3) من حديث سلمة بن الأكوع. قال: كنا عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتي بجنازة فقالوا: يارسول الله، صل عليها، قال: هل ترك شيئا؟ قالوا: لا. فقال: هل عليه دين؟ قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلوا على
_________
(1) في المسند (4/ 47).
(2) صحيحه رقم (2289) و (2295).
(3) في السنن (4). وهو حديث صحيح.(6/3059)
صاحبكم. فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله، وعلي دينه، فصلى عليه.
وأخرجه أيضًا أحمد (1)، وأبو داود (2)، والترمذي (3)، والنسائي (4) وابن ماجه (5). فقال أبو قتادة وصححه الترمذي (6). قال الترمذي والنسائي وابن ماجه. فقال أبو قتادة: أنا أتكفل به.
وأخرج أحمد (7)، وأبو داود (8)، والنسائي (9)، وابن حبان (10) والدارقطني (11)، والحاكم (12) عن جابر قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يصلي على رجل مات عليه دين، فأتي بميت فسأل: أعليه دين؟ قالوا: نعم ديناران. قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله، فلما فتح الله على رسوله قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه؛ فمن ترك دينا فعلي، ومن ترك مالا فلورثته ".
وأخرج الدارقطني (13)،. .............................................
_________
(1) المسند (5/ 297، 302، 304).
(2) لم أجده.
(3) في " السنن " رقم (1069).
(4) في " السنن " (4/ 65) و (7/ 317).
(5) في " السنن " رقم (2407) وهو حديث صحيح.
(6) في " السنن " (4/ 180).
(7) في المسند (3/ 269).
(8) في " السنن " رقم (3343).
(9) في السنن (4/ 65).
(10) في صحيحه (رقم 1162 - موراد).
(11) في السنن (3/ 79 رقم 293).
(12) في المستدرك للحاكم (2/ 58) وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح.
(13) في السنن (3/ 78 رقم 292).(6/3060)
والبيهقي (1) عن أبي سعيد قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جنازة فلما وضعت قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل على صاحبكم من دين؟ قالوا: نعم. درهمان. قال: صلوا على صاحبكم. قال علي - رضي الله عنه - يا رسول الله، هما علي، وأنا لهما ضامن، فقام يصلي، ثم أقبل على علي فقال: جزاك الله عن الإسلام خيرا، وفك رهنك كما فككت رهان أخيك. ما من مسلم فك وقان أخيه إلا فك الله رهانه يوم القيامة، فقال بعضهم: هذا لعلي خاصة أم للمسلمين عامة؟ فقال بل للمسلمين عامة. وفي إسناده مقال.
وأخرج أحمد (2)، وأبو داود (3)، والنسائي (4)، والدارقطني (5)، وصححه ابن حبان (6)، والحاكم (7) من حديث جابر: قال: توفي رجل فغسلناه، كفناه ثم أتينا به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلنا نصلي عليه، فخطا خطوة، ثم قال: أعليه دين؟ فقلنا: ديناران، فانصرف فتحملهما أبو قتادة: الديناران علي فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قد أوفي الله حق الغريم، وبرمنه الميت. قال نعم، فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران؟ قال: إنما مات أمس قال: فعاد إليه من الغد فقال: قد قضيتها فقال النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الآن بردت عليه جلده. فقد بين بهذا الجواب ما سأل عنه السائل - عافاه الله -.
من قال الحديث ومن أخرجه [2] وأنه قد ورد من هذه الطرق التي تقوم الحجة
_________
(1) في السنن (6/ 73). بسند ضعيف.
(2) في المسند (3/ 269).
(3) في " السنن " رقم (3343).
(4) في السنن (4/ 65).
(5) في السنن (3/ 79 رقم 293).
(6) في صحيحه (رقم 1162 - موارد).
(7) في المستدرك (2/ 58). وهو حديث صحيح.(6/3061)
ببعضها.
وأما قوله الثاني هل هو منسوخ؟ إلخ. فأقول: نعم هو منسوخ بأحاديث منها: حديث أبي هريرة عند البخاري (1) ومسلم (2) وغيرهما (3) أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في خطبته: " من خلف مالا أو حقا فلورثته، ومن خلف كلا أو دينا فكله إلى. ودينه علي ".
وفي لفظ للبخاري (4) وغيره من حديثه: " ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (5) فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه ". وأخرج أحمد (6)، وأبو يعلى (7) من حديث أنس: " من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا فعلى الله وعلى رسوله ".
وأخرج ابن ماجه (8) من حديث عائشة: " من حمل من أمتي دينا فجهد في قضائه، فمات قبل أن يقضيه فأنا وليه ".
وأخرج ابن سعيد (9) من حديث جابر يرفعه: " أحسن الهدي هدي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
_________
(1) في صحيحه رقم (5371 و2298 و2398 و4781 و2399 و6745 و6763 و6731).
(2) في صحيحه رقم (14، 15، 16، 17/ 1619).
(3) كالترمذي رقم (1070) والنسائي (4/ 66). وهو حديث صحيح.
(4) في صحيحه رقم (478).
(5) [الأحزاب: 6].
(6) في المسند (3/ 215).
(7) في مسنده (7 رقم 1588/ 4343).
وأورده الهيثمي في المجمع (4/ 227) وقال: " رواه أحمد وأبو يعلى وفيه أعين البصري ذكره ابن أبي حاتم ولم يجرحه ولم يوثقه، وبقية رجاله الصحيح. وهو حديث صحيح لغيره.
(8) لم أعثر عليه؟!.
(9) في " الطبقات " (1/ 2 / 98) ط: التحرير.(6/3062)
وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة. من مات فترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي ".
وفي حديث آخر أخرجه مسلم (1)، والنسائي (2)، وابن ماجه (3) وفي الباب أحاديث، فيما ذكرناه ما يعني، وقد ثبت التصريح في بعض هذه الأحاديث، بأنه قال هذه المقالة بعد أن كان يمتنع من الصلاة على المديون، فلما فتح الله عليه البلاد، وكثر الأموال صلى على من كان مديونا، وقضى عنه دينه. ومن ذلك حديث أبي قتادة (4) المتقدم في جواب السؤال الأول، فإنه قال فيه بعد أن ذكر أمتناعه من الصلاة على من عليه دين: فلما فتح الله على رسوله (5) إلى آخر ما قاله. وهذا يدل على النسخ أبين دلالة (6)، ويفيده أوضح مفاد، ومن لم يذكره ممن صنف في الناسخ والمنسوخ فهو مما يستدرك به عليه، فقد ذكروا أحاديث وجعلوها من قبيل الناسخ والمنسوخ،
_________
(1) في صحيحه رقم (867).
(2) في " السنن " (3/ 188).
(3) في " السنن " رقم (45).
قلت: وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه رقم (1785) والبيهقي (3/ 213، 214) وأبو يعلى في مسنده رقم (346/ 2111).
وهو حديث صحيح.
(4) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(5) انظر " زاد المعاد " (1/ 485) و" فتح الباري " (12/ 10).
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (5317) ومسلم رقم (1619) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: " أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه فصلا؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى، وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته ".
(6) انظر: " رسوخ الأحبار في منسوخ الأخبار " (ص 326 - 327). للجعبري. تحقيق د. حسن محمد مقبولي الأهدل.(6/3063)
وليس فيها ما يقارب هذا التصريح، بل قد يعولون في النسخ في مواضع كثيرة على مجرد القرائن الواهية، وقد يجعلون مجرد تأخر العام نسخا مع ما في ذلك من الخلاف المعروف في الأصول. وقد يختلط عليهم النسخ بالتخصيص، وقد يضطرب عليهم البحث فيجعلون كثيرا من المباحث التي يمكن فيها الجمع بوجه من وجوهه من باب الناسخ والمنسوخ، فكيف يغفلون عن مثل هذا الذي وقع التصريح فيه بما يدل على الناسخ دلالة أوضح من شمس النهار!.
قوله الأول، وهو الرابع من الطرف الأول: ما حكمه في نفسه ومن خرجه من الأئمة؟. أقول: قد أوضحنا في البحث الذي قبل هذا من خرجه من الأئمة، وأنه ثابت في الصحيحين (1) وغيرهما من تلك الطرق.
قوله: هل هذا التحمل خاص بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم متعد إلى من بعده خلفائه؟. أقول: قد قدمنا أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما قال تلك المقالة للعلة المتقدم ذكرها، وهي قوله: فلما فتح الله على رسوله إلخ (2).
وهذا يدل [3] دلالة ظاهرة أن ذلك التحمل إنما هو لمصير أموال الله إليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومعلوم أنها قد صارت إلى من بعده من خلفائه (3) ومن بعدهم كما صارت إليه، بل صار إليهم أكثر مما صار إليه، فإن الله سبحانه لم يفتح غالب البلاد إلا بعد موته، فهم متحملون لديون المديونين يقضونها نم أموال الله سبحانه، يصرفون منها في هذا المصرف كما يصرفون إلى غيره من المصارف منهما وجد بأيديهم من أموال الله - عز وجل - ما يمكن ذلك منه. إما كلا أو بعضا لا يجوز لهم الإخلال به بحال من الأحوال.
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) ذكر ذلك ابن حجر في " الفتح " (12/ 10).
(3) قال الحافظ في " الفتح " (12/ 10) وهل كان ذلك من خصائصه أو يجب على ولاة الأمر بعده؟ والراجح للاستمرار، لكن وجوب الوفاء إنما هو من مال المصالح.(6/3064)
فهذه شريعة ثابتة غير منسوخة. وقد احتجوا لأنفسهم فأخذوا ما كان لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فعليهم أن يلزموا أنفسهم (1) بما التزمه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن قالوا: هذا خاص برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنقول: وقوله - سبحانه -: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) (2) الخطاب لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحو هذه الآية مما يكثر تعداده من الآيات
_________
(1) قال الحافظ في " الفتح " (4): أن أبا بكر لما قام مقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تكفل بما كان عليه من واجب أو تطوع، فلما التزم ذلك لزمه أن يوفي ما عليه من دين أو عدة، كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجب الوفاء بالوعد فنفد أبو بكر ذلك.
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم (11/ 60 - 61): قيل إنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقضيه من مال مصالح المسلمين وقيل من خاص مال نفسه وقيل كان هذا القضاء واجبا عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقيل تبرع منه.
وقال القرطبي في " المفهم " (4/ 575): وقال بعض أهل العلم: بل يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداء بالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه قد صرح بوجوب ذلك عليه. حيث قال: " فعلي قضاؤه " ولأن الميت الذي عليه الدين يخاف أن يعذب في قبره على ذلك الدين كما صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث دعي ليصلي على ميت، فأخبر: أن عليه دينا لم يترك وفاء فقال: " صلوا على صاحبكم " فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله! وعلي دينه فصلي عليه، ثم قال له: " قم فأده عنه " فلما أدى عنه قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الأن حين بردت عليه جلدته " تقدم تخريجه. وكما على الإمام أن يسد رمقه ويراعي مصلحته الدنيوية كان أحرى، وأولى أن يسعى فيما يرفع عنه العذاب الأخروي. و (المولى): الذي يتولى أمور الرجل بالإصلاح والمعونة على الخبر، والنصر على الأعداء، وسد الفاقات ورفع الحاجات.
(2) [التوبة: 103].
قال ابن كثير في تفسيره (4/ 207): أمر الله تعالى رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم ويزكيهم بها، وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير في " أموالهم " إلى الذين اعترفا بذنوبهم وخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الأمام لا يكون وإنما كان هذا خاصا برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولهذا احتجوا بقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) وقد رد عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد الصديق أبو بكر وسائر الصحابة، وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة. كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى قال الصديق والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأقاتلنهم على منعه. أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7284 و7285).(6/3065)
القرآنية، وفي السنة المطهرة الكثير من ذلك نحو قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما أخرجه أحمد (1)، وابن ماجه (2)، وسعيد بن منصور (3)، والبيهقي (4) من طرق: " أنا وراث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه "، وهم لا يقولون: إن ميراث من لا وراث له مختص برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والحاصل أنه يقال لمن لم يتحمل بما تحمله رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ديون المديونين، زاعما أن ذلك خاص برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اترك قبض الصدقات ونحوها من أموال الله، واترك قبض ميراث من لا وارث له، وسيوجد الله من عباده من يقضي ديون المديونين من أموال الله - سبحانه -، على أنه قد ورد ما يدل على حل النزاع بخصوصه، وهو ما أخرجه الطبراني (5) من حديث سلمان بنحو حديث أبي هريرة المتقدم. وزاد فيه: " ومن ترك دينا فعلي وعلى الولاة من بعدي من بيت مال المسلمين " وهذا الحديث وإن كان في إسناده عبد الله بن سعيد الأنصاري، وهو ضعيف لكنه يشد من عضده ما أخرجه ابن حبان في ثقاته (6) من حديث أبي أما أبي أمامة بنحوه
_________
(1) في " المسند " (4/ 31، 133).
(2) في " السنن " رقم (2738).
(3) في " السنن " رقم (172).
(4) في " السنن الكبرى " (6).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2899) والحاكم (4/ 344) وقال صحيح على شرط الشيخين رتعقبه الذهبي بأن علي بن طلحة أحد رجاله، وقال أحمد: له أشياء منكرات ولم يخرجه البخاري.
وخلاصة القول أن الحديث حسن.
(5) في " المعجم الكبير " (6/ 240 رقم 6103).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 332) وقال: فيه عبد الغفور أبو الصباح وهو متروك.
(6) عزاه إليه ابن حجر في " الفتح " (3/ 48).(6/3066)
وعلى كل حال فليس التعويل على هذا، بل التعويل على ما قدمنا مما لا محيص لولاة الأمر في هذه الأمة منه.
قوله: إن قلنا هو عام فهل تسقط التبعة عن المديون، وتلحق السلطان؟. أقول: إنه لا بد في هذا من تفصيل يدل عليه ما سنذكره من الأدلة، فيقال: لا يخلو هذا المديون إما أن يكون له مال أو لا، وعلى الثاني إما أن يكون في حال حياته مهتما بقضائه مريدا له، ولم يمنعه منه إلا عدم وجوده له وإعوازه عليه أولا. فهذه ثلاث مسائل (1).
الأولى: من وله مال.
الثانية: من مات ولا مال له، وكان مهتما في حال حياته بقضاء مريدا له عازما عليه، ولم يتمكن منه، ولا تيسر له.
الثالثة: من لا مال له ولم يكن مهتما بقضائه مع تمكنه من القضاء في حال حياته، ولو بالسعي في وجوه المكاسب، وإتعاب نفسه في أسباب التحصيل.
أما المسألة الأولى وهي: من مات وله مال يمكن القضاء منه [4]، وثم سلطان للمسلمين، بيده أموال الله على وجه يتمكن به من قضاء دين ذلك المديون منها كلا أو بعضا، فقد دل قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأحاديث المتقدمة: " من خلف مالا أو حقا فلورثته، ومن خلف كلا أو دينا فكله إلي ودينه علي " (2) أن السلطان قد صار مكلفا بقضاء دين هذا المديون الذي مات وترك مالا، وأن ذنب الترك عليه. خطاب الله - سبحانه - متوجه إليه، وعقوبته نازله عليه. ولا ينافي هذا قوله في حديث سلمة بن الأكوع المتقدم أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " هل ترك شيئا؟ قالوا: لا. فقال: هل عليه دين؟ قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلوا على صاحبكم " لأن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما امتنع من الصلاة على المديون الذي لا مال له قبل أن يفتح الله عليه، لكونه لم يترك وفاء لدينه، ثم لما فتح الله
_________
(1) انظر " فتح الباري " (4/ 467).
(2) تقدم تخرجه.(6/3067)
عليه قال: " من خلف مالا أو حقا فلورثته "؛ فجعل ديون المديونين إليه وعليه، من غير فرق بين من ترك مالا ومن لم يترك مالا. وأما هذا المديون الذي ترك مالا، فإن فرط في قضائه حال حياته، وتساهل مع تمكنه من ذلك وقدرته عليه فلا شك ولا ريب أنه مخاطب بذلك، معاقب عليه. وعليه يحمل حديث أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه ". أخرجه أحمد (1)، وابن ماجه (2)، والترمذي (3) وحسنه، ورجال أسناده ثقات إلا عمر ابن أبي سلمة فهو صدوق يخطئ، فلا يخرج حديثه عن كونه حسنا بذلك.
وأما إذا كان غير متمكن من القضاء، ولا قادر عليه بأن يحول بينه وبين ماله حائل من غضب عاضب، أو حجر من حاكم، أو نحو ذلك مع اهتمامه بالقضاء وكونه راغبا إليه، فهذا لا خطاب عليه من جهة الله - سبحانه -، بل الخطاب على السلطان، وعلى من حال بين هذا المديون وبين ماله في حال حياته بغير موجب شرعي يقتضي تلك الحيلولة، لأنه قد صار بعدم تمكنه من القضاء في حكم من لا مال له.
وقد أخرج الطبراني (4) عن أبي أمامة مرفوعا: " من دان بدين في نفسه وفاؤه، ومات تجاوز الله عنه، وأرضى غريمه بما شاء، ومن دان بدينٍ، وليس في نفسه وفاؤه ومات اقتضى الله لغريمه يوم القيامة ".
_________
(1) في " المسند " (2/ 440)، (2/ 475).
(2) في السنن رقم (2413).
(3) في " السنن " رقم (1078) ورقم (1079) وقال حديث رقم (1079) حسن وهو أصح من حديث رقم (1078). وهو حديث صحيح.
(4) في " الكبير " (8/ 290 رقم 7949). وأورده الهيثمي في " المجمع " (4) وقال: رواه الطبراني وفيه جعفر بن الزبير وهو كذاب.
وأخرجه الحاكم (2/ 23) وتعقبه الذهبي فقال: بشر بن نمير متروك.(6/3068)
وأخرج (1) أيضًا من حديث ابن عمر: " الدين دينان. فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليه، ومن مات ولا ينوي قضاءه فذلك الذي يؤخذ من حسناته ليس يومئذ دينار ولا درهم ".
وأخرج (2) أيضًا من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر بلفظ: " يؤتى بصاحب الدين يوم القيامة فيقول الله: فيم أتلفت أموال الناس؟ فيقول: يارب إنك تعلم أنه أتى على إما حرق وأما غرق، فيقول: فإني سأقضي عنك اليوم، فيقضي عنه ".
وأخرج أحمد (3) وأبو نعيم في الحلية (4)، والبزار (5)، والطبراني (6) بلفظ: " ويدعى بصاحب الدين يوم القيامة حتى يقف بين يدي الله فيقول: يا بن آدم، فيم أخذت هذا الدين، وفيم ضعيت حقوق الناس؟ فيقول: يارب إنك تعلم [5] أني أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم أضيع ذلك، ولكن أتي علي إما حرق، وإما سرق، وإما وضيفة، فيقول الله: صدق عبدي، وأنا أحق من قضى عنه، فيدعو الله بشيء فيضعه في كفة ميزانه فترجح حسناته على سيئاته، فيدخل الجنة بفضل رحمته ".
وأخرج البخاري (7) وغيره (8) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أخذ أموال الناس يريد أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ".
_________
(1) الطبراني كما عزاه إليه الهيثمي في " المجمع " (4/ 132) وقال: رواه الطبراني في " الكبير "، فيه محمد ابن عبد الرحمن بن البيلماني وهو حديث ضعيف.
وأخرجه ابن ماجه في " السنن " رقم (2414) وهو حديث صحيح.
(2) الطبراني كما أورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 133) وقال رواه أحمد والبزار والطبراني في " الكبير " وفيه صدقة الدقيقي، وثفه مسلم بن إبراهيم وضعفه جماعة.
(3) في " المسند " (1) بسند ضعيف.
(4) في الحلية (4/ 141).
(5) في مسنده (2 - 115 رقم 1332 - كشف).
(6) الطبراني كما أورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 133) وقال رواه أحمد والبزار والطبراني في " الكبير " وفيه صدقة الدقيقي، وثفه مسلم بن إبراهيم وضعفه جماعة.
(7) في صحيحه رقم (2387).
(8) كابن ماجه في " السنن " رقم (2411).(6/3069)
وأخرج ابن ماجه (1)، وابن حبان (2)، والحاكم (3) من حديث ميمونة بلفظ: ما من مسلم يدان دينا يعلم الله أنه يريد أداءه إلا أدى الله عنه في الدنيا والآخرة ".
والاحاديث في هذا الباب كثيرة فيندرج تحتها من مات وله مال، وهوغير متمكن من القضاء منه إلا الحيلولة بينه وبين ماله في حال حياته.
وأما المسألة الثالثة، وهي من لا مال له، ولم يكن مهتما بقضائه، ولم يتمكن منه، ولا تيسر له فهو داخل تحت هذه الأحاديث دخولا أوليا، فلا يخاطب بذلك الدين، بل يقضيه الله عنه. وأما المسألة الثالثة، وهي من لا مال له، ولم يكن مهتما يقضائه مع تمكنه من القضاء حال حياته. فهذا غير داخل تحت هذه الأحاديث فلا يؤدى عنه، بل يخاطبه ويعاقبه بالتفريط بها في القضاء، وعدم الاهتمام به فقط. وأما نفس الدين فالخطاب فيه من الله، والعقاب عليه هو على سلطان المسلمين المتمكن من القضاء منها.
ولكن ههنا دقيقة، وهي أن هذا المديون الذي لم يترك مالا، ولم يهتم بالقضاء مع تمكنه منه إن كان ذلك المال الذي استدانه تلف عليه في غير سرق ولا معصية، أو بأمر لا يقدر على دفعه فلا يبعد أن لا يخاطبه الله على تفريطه بعد الاهتمام بالقضاء مع تمكنه منه كما يشير إليه بعض ما تقدم من الأحاديث.
وههنا مسألة رابعة، وهي من كان لا مال له يتمكن من القضاء منه، ولا كان قادرا
_________
(1) في " السنن " رقم (2408).
(2) في صحيحه رقم (5041) وهو حديث حسن.
(3) في " المستدرك " (2).
وهو حديث صحيح دون قوله " في الدنيا والآخرة ".
انظر: " الصحيحة " (1029).(6/3070)
على القضاء بوجه من الوجوه، ولكنه لم يهتم بالقضاء بحال من الأحوال، فهذا لا شك أن الخطاب في دينه على السلطان. وأما هو فإن أتلف ذلك المال الذي استدانه في غير سرف ولا معصية، فإذا لم يقض عنه السلطان قضى الله عنه، ولا خطاب عنه إلا بترك اهتمامه بالقضاء فقط، لعدم تمكنه من القضاء. ويحتمل أن لا يخاطب بذلك لما تقدم.
واعلم أن العادم الذي ليس بقادر على القضاء هو من لا يجد مالا أصلا إلا ما يستر عورته وعورة من يعول، وما يكنه ويكنهم، ويسد فاقته وفقتهم، وأما من كان له عقار، أو دار، أو عروض فالخطاب عليه بالقضاء منها، متضيق أشد تضيق ومتحتم أبلغ تحتم، فإن زعم والحال هذا أنه مهتم بالقضاء، مريد له، وحريص عليه فهو كاذب على نفسه، مروح لها بالأباطيل، معلل لها بالعلل الزائفة، مطمع له بالشبه الداحضة عند الله، مخادع لها لاخدع التي لا تسمن ولا تغني من جوع [6] (1).
ما ورد من الأدلة الكثيرة في إيجاب قضاء الدين، وأنه لا حق للوارث في التركة حتى يقضى. وليس كلامنا هذا إلا في تعلق خطاب الله - سبحانه - هل يكون بالسلطان الذي لم يقض دين المديون، أو بالمديون؟ وقد قدمنا إيضاحه بما لا مزيد عليه. قوله: حديث " من ادان ما لم ينو قضائه. ... " (2)، ومن أخرجه منهم (3)؟.
أقول: قد قدمنا ما ورد من الأحاديث في هذا المعنى، ومن أخرجها، ويغني عن ذلك كله الحديث الثابت في صحيح البخاري (4) وغيره (5) بلفظ: " من أخذ أموال الناس
_________
(1) نقص صفحتين من صورة المخطوط.
(2) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف.
(3) الطبراني في " الكبير " (8/ 290 رقم 7949).
والحاكم في " المستدرك " (2). وقد تقدم.
(4) في صحيحه رقم (2387).
(5) كابن ماجه رقم (2411).(6/3071)
يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ".
قوله الحادي عشر: كيف الجمع بينه وبين حديث الامتناع من الصلاة؟. أقول: لا منافاة بين كون الله يقضي دينه لا هتمامه بالقضاء، وعدم إنفاقه في سرف ولا معصية، وبين الامتناع من الصلاة عليه، فإن الامتناع هو لحق صاحب الدين الثابت على المديون في الدنيا، المتعلق ببدنه وماله. ومع هذا فقد قدمنا أن هذا الحكم قد نسخ، ومل يبق وجه للامتناع من الصلاة على مديون قط لما قررناه سابقا.
قوله: الطرف الثاين: هل تمتنع الصلاة على الظالم الناس بأخذ أموالهم تجبرا. .. إلخ؟ أقول: لو لم ينسخ هذا الحكم، أعني الامتناع من الصلاة على المديون لكان هذا أحق بالامتناع من الصلاة عليه من المديون، لكنه قد نسخ الامتناع من الصلاة على المديون فلا وجه للامتناع من الصلاة على هذا، ولا على سائر العصاة إلا ما يتخيله بعض الجامدين على التقليد من أنه لا يصلى على فاسق، وليس على ذلك آثارة من علم، ولا يصح الاستدلال لمن قال: إنه لا يصلى على قاسق بأي وجه فسق بامتناع من الصلاة على المديون لوجهين:
الأول: أنه منسوخ كما سبق.
الثاني: أنه لو كان ثابتا ولم يكن منسوخا فليس فيه أنه لا يصلى على المديون. فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " صلوا على صاحبكم " فدل على أنه يصلى عليه ويتحتم على غير النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن قام مقامه من خلفاء الرشد، وأئمة العدل أن يصلي على المديون، وأنه كسائر المسلمين في وجوب الصلاة عليه، هكذا سائر العصاة (1) من المسلمين؛ فإنهم
_________
(1) قال ابن قدامة في " المغني " (3/ 508): ويصلى على سائر المسلمين من أهل الكبائر والمرجوم في الزنا وغيرهم.
قال أحمد: من استقبل قبلتنا، وصلى بصلاتنا، نصلى عليه وندفنه ويصلى على ولد الزنا والزانية، والذي يقاد منه في القصاص، أو يقتل في حد، وسئل عمن لا يعطي زكاة ماله، فقال: يصلى عليه ما يعلم أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك الصلاة على أحد، إلا قاتل نفسه والغال وهذا قول عطاء والنخعي والشافعي وأصحاب الرأي إلا أن أبا حنيفة قال: لا يصلى على البغاة ولا المحاربين لأنهم باينوا أهل الإسلام، وأشبهوا أهل دار الحرب.
وقال ابن حزم في " المحلى " (5/ 169) ويصلى على كل مسلم بر، أو فاجر، مقتول في حد أو في حرابة أو في بغي، ويصلي عليهم الإمام وغيره وكذلك على المبتدع ما لم يبلغ الكفر، وعلى من قتل نفسه، وعلى من قتل غيره ولو أنه شر من على ظهر الأرض إذا مات مسلما لعموم أمر النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوله: " صلوا على صاحبكم " والمسلم صاحب لنا، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10] وقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة: 71] فمن منع من الصلاة على مسلم فقد قال قولا عظيما، وإن الفاسق لأحوج إلى دعاء إخوانه المؤمنين من الفاضل المرحوم. وقد قال بعض المخالفين: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل على ماعز. قلنا: نعم، ولم نقل إن فرضا على الإمام أن يصلي على من رجم، إنما قلنا: له أن يصلي عليه كسائر الموتى، وله أن يترك كسائر الموتى، ولا فرق وقد أمرهم عليه السلام بالصلاة عليه ولم يخص بذلك من لم يرجمه ممن رجمه.(6/3072)
من جملتهم، وهم أحق بالصلاة عليهم من المطيعين، لأنهم المحتاجون إلى الشفاعة إلى الله من عباده بالصلاة عليهم. ولم يرد ما يمنع من هذا لا من شرع، ولا من عقل. والمسلمون وإن تفاوتت أقدامهم في العمل بأحكام الإسلام فقد جمعتهم كلمة الإسلام [7]، وشملتهم دعوته، فلكل واحد منهم ما لسائر المسلمين، وعليه ما عليهم، وحساب العاصي منهم على الله - عز وجل - إن شاء غفر له، وقبل شفاعة الشفعاء فيه، وإن شاء عذبه. لا يسال عم يفعل وهم يسألون، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وإنما الذي نهى الله - سبحانه - عن الصلاة عليه هو الكافر والمنافق (1) كل ذلك معلوم كما لا يخفى. وإلى هنا انتهى الجواب، وفيه كفاية، والله ولي التوفيق.
كتبه المجيب: محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -.
_________
(1) يشير إلى قوله تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) [التوبة: 84].(6/3073)
شرح الصدور في تحريم رفع القبور
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت على شرف الدين أم الحسن
[شرح الصدور مفيد ... لما عن الضمير أملاه
هدم القباب كما جاء ... عنه وبالقول أنهاه
فالمرتضى سار قصدا ... لهدمها طاب مسعاه
والله قال تعالى ... إن المساجد لله] (1)
_________
(1) من صورة غلاف النسخة (أ).(6/3075)
وصف المخطوط (أ):
1 - عنوان الرسالة: (شرح الصدور في تحريم رفع القبور).
2 - موضوع الرسالة: فقه.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله المطهرين، وصحبه المكرمين.
وبعد: فاعلم أنه وقع الخلاف بين المسلمين في كون هذا الشيء بدعة. ...
4 - آخر الرسالة: ... تحليل المحرمات وفعل المنكرات وفعل المنكرات اللهم غفران.
كمل منقولا من تحريم مؤلفه العلامة البدر محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما آمين.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 14 صفحة + صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 28 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 12 - 14 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(6/3077)
وصف المخطوط (ب):
1 - عنوان الرسالة: (شرح الصدور في تحريم رفع القبور).
2 - موضوع الرسالة: فقه.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله المطهرين وصحبه المكرمين.
وبعد: فاعلم أنه إذا وقع الخلاف بين المسلمين في كون هذا الشيء بدعة. ..
4 - آخر الرسالة:. .. تحليل المحرمات وفعل المنكرات اللهم غفرا.
والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم آمين.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 24 صفحة + صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 20 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(6/3081)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله المطهرين، وصحبه المكرمين.
وبعد:
فاعلم أنه إذا وقع الخلاف بين المسلمين في كون هذا الشيء بدعة، أو غير بدعة (1)، أو مكروه، أو محرم أو غير محرم، أو غير ذلك فقد أتفق المسلمون أجمعون سلفهم وخلفهم من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا، وهو القرن الثالث عشر منذ البعثة المحمدية أن الواجب عند الاختلاف (2) في أي أمر من أمور الدين بين الأئمة المجتهدين
_________
(1) تقدم تعريفها.
(2) أعلم - أن أصول الشريعة وأركانها لا خلاف فيها في الجملة عند من يعتد بقوله.
-إن الحق واحد، ومصيبه واحد، والمخطئ بعد الاجتهاد معذور مأجور.
-إن المختلفين إذا وضح لهم الحق من كتاب وسنة يجب عليهم الرجوع إليهما وترك أرائهم.
-إن اجتماع المسلمين وتوحد كلمتهم وتقاربهم وتعاونهم واحترام بعضهم لبعض أمر حث عليه الإسلام.
-واعلم أن الاختلاف المذموم، هو الاختلاف عن هوى وتعصب بعد وضوح الحق. وهذا لم يحصل للأئمة المجتهدين الأتقياء، فكانوا يتركون أقوالهم للدليل ويقولون لأتباعهم: إذا خالف قولي قول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاضربوا بقولي عرض الحائط.
ولا يجوز لمسلم أن يتعصب لقول في مذهبه مخالف لكتاب الله وسنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل يجب الرد والرجوع إليهما، فالاختلاف الناجم عن الهوى والتعصب هو بلا شك شر على الأمة، وقد حصل بسببه آثار سيئة ومفاسد كبيرة فالتخلص من الاختلاف الذي من هذا النوع واجب ورحمة للأمة كما قال تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46].
انظر: " الإحكام في أصول الأحكام " (5/ 647). " الأحاديث الضعيفة والموضوعة " (1/ 76 - 48). وانظر: - " أسباب اختلاف الفقهاء "، للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي.
-" آثار اختلاف الفقهاء في الشريعة ". أحمد بن محمد عمر الأنصاري.(6/3085)
هو الرد إلى كتاب الله - سبحانه -، وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، كما نطق بذلك الكتاب العزيز (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (1). ومعنى الرد إلى الله - سبحانه - الرد إلى كتابه، ومعنى الرد إلى رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الرد إلى سنته بعد موته، وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع المسلمين.
فإذا قال مجتهد من المجتهدين: هذا حلال، وقال الآخر: هذا حرام، فليس أحدهما أولى بالحق من الآخر، وإن كان أكثر منه علما، أو أكبر منه سنا، أو أقدم منه عصرا، لأن كل واحد منهما فرد من أفراد عباد الله، متعبد بما جاء من الشريعة في كتاب الله، وسنة رسوله، ومطلوب منه ما طلبه الله من غيره من العباد. وكثرة علمه، وبلوغه درجة الاجتهاد، أو مجاوزته لها لا تسقط عنه شيئا من الشرائع التي شرعها الله لعباده، ولا يخرجه من جملة المكلفين من العباد، بل العالم كلما كان تكيلفه زائدا على تكليف غيره، ولو لم يكن من ذلك إلا ما [أوجبه] (2) الله عليه من البيان للناس، وما كلفه به من الصدع بالحق، وإيضاح ما شرعه الله [1] لعباده (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) (3)، (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا
_________
(1) [النساء: 59]
(2) في [ب] أوجب.
(3) [آل عمران: 187]. قال ابن كثير في تفسيره (2/ 180 - 181): هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب، الذين أخد عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأن ينوهوا بذكره في الناس ليكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الضعيف والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم وبئست البيعة بيعتهم.
* وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئا فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من سئل عن علم فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار ". أخرجه البخاري رقم (6105 و6652) ومسلم رقم (110) من حديث ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه -. وقال ابن جرير في جامع البيان (3 / ج 4/ 203): هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن علم شيئا فليعلمه وإياكم، وكتمان العلم، فإن كتمان العلم هلكة، ولا يتكلفن رجل مالا علم له به، فيخرج من دين الله، فيكون من المتكلفين، كأن يقال مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب، وكان يقال: طوبي لعالم ناطق، وطوبي لمستمع واع، هذا رجل علم علما فعلمه وبذله ودعا إليه، ورجل سمع خيرا فحفظه ودعاه، واتنفع به.(6/3086)
أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (1)، فلو لم يكن لمن رزقه الله طرفا من العلم إلا كونه مكلفا بالبيان للناس لكان كافيا فيما ذكرناه من كون العلماء لا يخرجون عن دائرة التكليف، بل يزيدون بما علموه تكليفا. وإذا أذنبوا كان ذنبهم أشد من ذنب الجاهل، وأكثر عقابا كما تراه فيما حكاه الله - سبحانه - عمن عمل سوءا بجهالة (2) حيث أقدموا على مخالفة ما
_________
(1) [البقرة: 159].
قال ابن جرير في " جامع البيان " (2/ 53): وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاص من الناس، فإنها معنى بها كل كاتم علما فرض الله تعالى بيانه للناس وذلك نظير الخبر الذي روى عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار ".
(2) (منها) قوله تعالى: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 75]. إلى قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة: 79].
(ومنها) قوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء: 17 - 18].
(ومنها): (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) [النساء: 46].
(ومنها): قوله تعالى: (كتب ربكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام: 54].
(ومنها): قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل: 119].(6/3087)
شرع الله لهم، مع كونهم يعلمون [1 أ] الكتاب ويدرسونه. ونعى ذلك عليهم في مواضع متعددة، وبكتبهم أشد تبكيت.
وكما ورد في الحديث الصحيح أن أول من تسعر به نار جهنم (1) العالم الذي كان
_________
(1) في حاشية المخطوط: الذي ورد أن أول (أ) من تسعر به نار جهنم هو القارئ المرائي، والعالم المرائي، والمجاهد المرائي، وأما الذي أشار إليه شيخنا دامت إفادته فهو الذي ورد أنه يلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور في النار كما يدور الحمار بالرحا. ... الحديث (ب).
(أ): انظر ما أخرجه الترمذي رقم (2382) من حديث أبي هريرة الصحيح في التعليقة الأولى في الصفحة التالية.
(ب): أخرج البخاري في صحيحه رقم (3267) ومسلم في صحيحه رقم (51/ 2989) من حديث أسامة بن زيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتنزلق أقتابه في النار، فيدور كما الحمار برحاه، فيجمتع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه ".
قال القرطبي في " المفهم " (6/ 621): وإنما اشتد عذاب هذا، لأنه كان عالما بالمعروف وبالمنكر، وبوجوب القيام عليه بوظيفة كل واحد منهما ومع ذلك فلم يعمل بشيء من ذلك، فصار كأنه مستهين بحرمات الله تعالى، ومستخف بأحكامه، ثم إنه لم يتب عن شيء من ذلك وهذا من جملة من لم ينتفع بعلمه الذي قال فيهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أشد الناس عذابا يوم القيامة: عالم لم ينفعه الله بعلمه " أخرجه الطبراني في " المعجم الصغير " (1/ 182 - 183) والبيهقي في " شعب الإيمان " رقم (1778).(6/3088)
يأمر الناس، ولا يأتمر، وينهاهم ولا ينتهي (1)
وبالجملة فهذا أمر معلوم أن العلم وكثرته وبلوغ حامله إلى أعلى درجات العرفان لا يسقط عنه شيئا من التكاليف الشرعية، بل يزيد عليها شدة، ويخاطب بأمور لا يخاطب بها الجهل، ويكلف بتكاليف غير تكاليف الجاهل، ويكون ذبنه أشد، وعقوبته أعظم. وهذا لا ينكره أحد ممن له أدني تمييز لعلم الشريعة. والآيات والأحاديث الواردة في هذا المعني لو جمعت لكانت مؤلفا مستقلا، ومصنفا حافلا، وليس ذلك من غرضنا في هذا البحث، بل غاية الغرض من هذا، ونهاية القصد وبيان أن العالم كالجاهل في التكاليف [2] الشرعية، والتعبد بما في الكتاب والسنة، مع ما أوضحناه لك من التفاوت
_________
(1) أخرج الترمذي في سننه رقم (2382) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أن الله تعالي إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ، ألم أعلمك ما أنزلت علي رسولي؟ قال بلي يا رب قال فماذا علمت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار فيقول الله له كذبت، وتقول الملائكة كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال فلان قارئ، فقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب.
قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له كذبت، وتقول الملائكة له كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك. ويؤتي بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت: فيقول الله له كذبت وتقول الملائكة كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك ". ثم ضرب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ركبتي فقال: يا أبا هريرة: أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة ".
وأخرجه أيضًا ابن خزيمة في صحيحه (4 رقم 2482) والحاكم في " المستدك " (1 - 419).
وقال: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
وقال: الترمذي حديث حسن غريب.
قلت: وهو حديث صحيح.(6/3089)
بين الرتبتين: رتبة العالم، ورتبة الجاهل في كثير من التكاليف، واختصاص العالم منها بما لا يجب على الجاهل. وبهذا يتكرر لك أنه ليس لأحد من العلماء المختلفين، أو من التابعين لهم والمقتدين بهم أن يقول: الحق ما قاله فلا ن دون فلان، أو فلان أولى بالحق من فلان، بل الواجب عليه إن كان ممن له فهم وعلم وتمييز أن يرد ما اختلفوا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله، فمن كان دليل الكتاب أو السنة معه فهو المحق، وهو الأولى بالحق. من كان دليل الكتاب والسنة عليه لا له كان هو المخطئ ولا ذنب عليه في هذا الخطأ إذا كان [قد] (1) وفى الاجتهاد حقه، بل هو معذور، بل مأجور كما ثبت في الحديث الصحيح (2) أنه " إذا اجتهد فأصاب فله أجران، إن اجتهد فأخطأ فله أجر ".
فناهيك بخطأ يؤجر عليه فاعله. ولكن هذا إنما هو للمجتهد نفسه إذا أخطأ، ولا يجوز لغيره أن يتبعه في خطئه، ولا بعذر كعذره، ولا يؤجر كأجره، بل واجب على من عداه من المكلفين أن يترك الاقتداء به في الخطأ، ويرجع إلى الحق الذي دل عليه [دليلا] (3) والكتاب أو السنة. وإذا وقع الرد لما اختلف فيه أهل العلم إلى الكتاب والسنة كان من معه دليل الكتاب والسنة [هو] (4) الذي أصاب الحق ووافقه، وإن كان مقصرا أن واحد، والذي لم يكن معه دليل [1ب] (5) الكتاب [و] (6) السنة هو الذي لم يصب الحق، بل أخطأه، وإن كانوا عددا كثيرا فليس لعلم ولا لمتعلم ولا لمن يعهم وإن كان مقصرا أن يقول: إن الحق بيد من يقتدي به من العلماء (7) إن كان دليل الكتاب والسنة بيد غيره؛
_________
(1) زيادة من [ب].
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7352) ومسلم رقم (1716) من حديث عمرو بن العاص. وقد تقدم مرارا.
(3) في [ب] دليل.
(4) زيادة من [أ].
(5) في [ب].
(6) في [ب] أو.
(7) انظر مناقشة ذلك فيما تقدم من رسائل رقم (59) و (60) و (61) من كتابنا هذا.(6/3090)
فإن ذلك [3] جهل عظيم، وتعصب شديد، وخروج من دائرة الإنصاف بالمرة، لأن الحق لا يعرف بالرجال، بل الرجال يعرفون بالحق. وليس أحد من العلماء المجتهدين، والأئمة المحققين بمعصوم. ومن لم يكن معصوما فهو يجوز عليه الخطأ كما يجوز عليه الصواب، فيصيب تارة، ويخطئ أخرى. ولا يتبين صوابه من خطئه إلا بالرجوع إلى دليل الكتاب والسنة، فإن واقفهما فهو مصيب، وإن خالفهما فهو مخطئ. ولا خلاف في هذه الجملة بين جميع المسلمين أولهم وآخرهم، سابقهم ولا حقهم، كبيرهم وصغيرهم، وهذا يعرف كل من له أدني حظ من العلم، وأحقر نصيب من العرفان، ومن لم يفهم هذا، ويعترف به فليتهم نفسه، ويعلم أنه قد جني على نفسه بالخوض فيما ليس من شأنه، والدخول فيما لا تبلغ إليه قدرته، ولا ينفد فيه فهمه، وعليه أن يمسك قلمه ولسانه، ويشتغل بطلب العلم، ويفرغ نفسه لمعرفة علوم الاجتهاد التي يتوصل بها إلى معرفة الكتاب والسنة، وفهم [معانيها] (1) والتمييز بين دلائلهما، ويجتهد في البحث عن السنة وعلومها (2) حتى يتميز له صحيحها من سقيمها، ومقبولها من مردودها،
_________
(1) في [ب] معانيها.
(2) من أسس الاجتهاد وقواعده:
1 - العلم بنصوص الكتاب والسنة المتعلقة بالأحكام.
2 - القدرة على استنباط الأحكام.
3 - معرفة الناسخ والمنسوخ.
4 - الإلمام باللغة العربية.
5 - معرفة ما أجمع عليه من الأحكام.
6 - عرفة القياس.
7 - العلم بأصول الفقه وقواعده.
8 - العلم بمقصد الشريعة.
9 - معرفة أحوال العصر.
انظر " نهاية السول " (3) وقد تقدم تعريف الاجتهاد.(6/3091)
وينظر في كلام الأئمة الكبار من سلف هذه الأمة وخلفها، حتى يهتدي بكلامهم إلى الوصول إلى مطلوبه، فإنه إن فعل هذا وقدم الاشتغال بما ذكرنا ندم على ما فرط منه قبل أن يتعلم هذه العلوم غاية الندم، وتمني أنه أمسك عن التكلم بما لا يعنيه، وسكت عن الخوض فيما لا يدريه. وما أحسن ما أدبنا به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما صح عنه من قوله: " رحم الله امرءا قال خيرا أو صمت " (1) [4] وهذا الذي تكلم
_________
(1) أخرجه القضاعي في " مسند الشهاب " (1 رقم 581) و (1 رقم 582) من طريقين عن الحسن مرفوعًا ومرسلا.
وأورده السيوطي في " حسن السمت في الصمت " (ص42رقم 21) و (ص44، 45، 30) وأخرجه اين أبي الدنيا في كتاب "الصمت " رقم (41) وأحمد في " الزهد " منسوبا إلى الحسن البصري (277).
وأورده السيوطي في " الجامع الصغير" (4 رقم 4426 - مع الفيض)
وعزاه لأبي الشيخ من حديث أبي أمامة ورمز لضعفه.
وأورده السيوطي في "الجامع الصغير " (4 رقم 4427 - مع الفيض) وعزاه لابن المبارك في الزهد رقم (380) من حديث خالد بن أبي عمران مرسلا ورمز لحسنه.
وحسن المحدث الألباني" الحديث "في " صحيح الجامع " رقم (3496) ورقم (3497) وكذلك في " الصحيحة "رقم (855).
أخرج البخاري في صحيحه رقم (6018) ومسلم في صحيحه رقم (47).
من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ".
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (6019) ومسلم رقم (48) من حديث أبي شريح العدوي.
قال ابن كثير في تفسيره (7) قوله تعالي: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]. ما يتكلم ابن آدم بكلمة إلا ولها من يراقبها معتد لذلك يكتبها. لا يترك كلمة ولا حركة.
ثم قال واختلف العلماء: هل يكتب الملك كل شيء من الكلام؟ وهو قول الحسن وقتادة أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب كما هو قول ابن عباس، وظاهر الآية الأول لعموم قوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18].
وعن ابن عباس قال: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله: " أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت ".(6/3092)
في العلم أن يفتح الله عليه بما لا بد منه، وشغل نفسه بالتعصب للعلماء، تصدي للتصويب والتخطئة في شيء لم يعلمه، ولا فهمه حق فهمه لم يقل خيرا ولا صمت، فلم يتأدب بالأدب الذي أرشد إليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإذا قد تقرر لك بمجموع ما ذكرناه وجوب الرد إلى كتاب الله، وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بنص الكتاب العزيز وإجماع المسلمين أجمعين عرفت أن من زعم من الناس أنه يمكن معرفة المخطئ والمصيب من العلماء من غير هذه [الطريق] (1) عند [2أ] اختلافهم في مسألة من المسائل فهو مخالف لنص كتاب الله، ومخالف لإجماع المسلمين أجمعين. فانظر - أرشدك الله - أي جناية جني على نفسه بهذا الزعم الباطل! وأي مصيبة وقع فيها بهذا الخطأ الفاحش! وأي بلية جلبها عليه القصور! أي محنة شديدة ساقها إليه التكلم فيما ليس من شأنه!.
وها نحن نوضح لك مثال ما ذكرناه من الاختلاف بين أهل العلم، ومن كيفية الرد إلى كتاب الله، وسنة رسوله، ليتبين المصيب من المخطئ، ومن بيده الحق، ومن بيده غيره، حتى تعرف ذلك حق معرفيه، ويتضح لك غاية الاتضاح، فإن الشيء إذا ضربت له الأمثلة، وصورت له الصور بلغ من الوضوح والجلاء إلى غاية لا تخفى على من له فهم صحيح، وعقل رجيح، فضلا عمن له في العلم نصيب، وفي العرفان حظ. ولنجعل هذه المسألة التي جعلناها مثالا لما ذكرناه، وإيضاحا لما أمليناه في المسألة التي لهج بالكلام فيها أهل عصرنا ومصرنا، خصوصا هذه الأيام لأسباب لا تخفى، وفي مسألة رفع القبور، والبناء عليها كما [5] يفعله الناس من بناء المساجد والقباب وعلى القبور فتقول
_________
(1) في [ب] الطريقة.(6/3093)
اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم ولا حقهم، وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة - رضي الله عنهم - إلي هذا الوقت أن رفع القبور، والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها، واستد وعيد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لفاعلها كما سيأتي بيانه. ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين، لكنه وقع للإمام يحيي بن حمزة (1) مقالة تدل على أنه لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء، ولم يقل بذلك غيره، ولا روي عن أحد سواه. ومن ذكره من المؤلفين في كتب الفقه من الزيدية فهو جرى على قوله، واقتدي به، ولم نجد القول لذلك لأحد ممن عاصره، أتقدم عصره عليه، لا من أهل البيت، ولا من غيرهم.
وهكذا اقتصر صاحب البحر (2) الذي هو مدرس كبار الزيدية، ومرجع مذاهبهم، ومكان البيان لخلافهم في ذات بينهم، وللخلاف بينهم وبين غيرهم، بل قد اشتمل على غالب أقوال المجتهدين وخلافهم في المسائل الفقهية، صار هو [المرجوع] (3) إليه في هذه الأعصار وهذه الديار لمن أراد معرفة الخلاف في المسائل وأقوال القائلين بإثباتها أو نفيها من المجتهدين، فإن صاحب هذا الكتاب الجليل لم ينسب هذه المقالة - أعني جواز رفع القباب والمشاهد على قبور الفصلاء - إلا إلى الإمام يحيى وحده فقال [2ب] ما نصه (4): " مسألة: قال الإمام يحيى: ولا بأس بالقباب والمشاهد على الفضلاء في الملك لا ستعمال المسلمين ولم ينكر " انتهى.
فقد عرفت من هذا أنه لم يقل بذلك إلا الإمام يحيى، وعرفت دليله الذي استدل به، وهو استعمال المسلمين مع عدم النكير، ثم ذكر صاحب البحر (4) هذا الدليل الذي استدل
_________
(1) هو المؤيد بالله يحيي بن حمزة علي بن إبراهيم. ولد بصنعاء سنة 669 هجريه. توفي سنة 749 هجريه. انظر: " أعلام المؤلفين الزيدية " (ص 1124) وقد تقدم.
(2) (2 - 132).
(3) في [ب] المرجع.
(4) من " البحر الزخار" (2).(6/3094)
به الإمام يحيى في الغيث (1) واقتصر عليه، ولم يأت بغيره.
إذا عرفت هذا تقرر لك أن [هذا] (2) خلاف واقعا بين الإمام يحيى وسائر العلماء من الصحابة والتابعين. ومن المتقدمين من أهل البيت والمتأخرين، ومن أهل المذاهب الأربعة وغيرها، ومن جميع المجتهدين أولهم وآخرهم. ولا يعترض هذا بحكاية من حكى قول الإمام يحيى في مؤلفه ممن جاء بعده من المؤلفين؛ فإن مجرد حكاية القول لا تدل على أن الحاكي يختاره ويذهب إليه، فإن كان وجدت قائلا بما جاء من أهل العلم يقول بقول هذا، ويرجحه فإن وجدت قائلا بما قاله الإمام يحيى ذاهبا إلى ما ذهب إليه بذلك الدليل الذي استدل به، وإن كان مجتهد فلا اعتبار بموافقته، لأنه إنما تعتبر أقول المجتهدين (3)، لا أقوال المقلدين. [وإذا] (4) أردت أن تعرف هل الحق ما قاله الإمام يحيى أو ما قاله عيره من أهل العلم، فالواجب عليك رد هذا الاختلاف إلى ما أمرنا الله بارد إليه، وهو كتاب الله، وسنة رسوله.
فإن قلت: بين لي العمل في هذا الرد حتى تتم الفائدة، ويتضح [المحق] (5) من غيره، والمصيب من المخطئ في هذه المسألة.
قلت: افتح لما أقوله سمعا، واشحذ له فهما، وأرهف له ذهنا. وها أنا أوضح لك الكيفية المطلوبة، وأبين لك مالا يبقي عندك بعده [7] ريب، ولا يصاحب ذهنك
_________
(1) " الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار " نأليف الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضي الحسني.
شرح على كتاب المؤلف: " الأزهار في فقه الأئمة الأطهار " في أربع مجلدات وقد تحدث فيه عن كل المسألة وردت في الأصل مع ذكر الأدلة والأقوال.
" مؤلف الزيدية " (2 رقم 3330).
(2) في (أ) لهذا.
(3) تقدم مناقشة ذلك.
(4) في (ب) فإذا.
(5) في (ب) الحق.(6/3095)
وفهمك عنده لبس.
فأقول: قال الله - سبحانه -: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا): (1) فهذه الآية فيما الإيجاب على العباد بالائتمار [لما] (2) أمر به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والأخذ به، لما نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتركه.
وقال الله سبحانه: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (3) ففي هذه الآية تعليق محبة الله الواجبة على كل عند من عباده باتباع رسول [وأن] (4) ذلك هو المعيار الذي نعرف به محبة العبد لربه على الوجه المعتبر. وأنه أيضًا السبب الذي يستحق به العبد أن يحبه الله.
وقال الله سبحانه: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) (5) ففي هذه الآية أن طاعة الرسول طاعة الله.
وقال [تعالى] (6): (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (7) فأوجب هذه السعادة لمن أطاع الله ورسوله، وهي أن يكون مع هؤلاء أرفع العباد درجة، وأعلاهم منزلة.
_________
(1) [الحشر: 7].
(2) في (ب): (بما).
(3) [آل عمران:31].
(4) في (ب) فإن.
(5) [النساء: 80].
(6) زيادة من (ب).
(7) [النساء: 69](6/3096)
وقال [عز وجل] (1): (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (2)
وقال سبحانه: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (3). وقال سبحانه [وتعالى]: (4) (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (5). وأمر الله سبحانه رسوله أن يقول: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (6) والآيات الدالة على هذا المعنى والجملة أكثر من ثلاثين: (7) آية، [ويستفاد] (8) من [8] جميع ما ذكرناه أنما أمر به رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. أو نهى عنه كان الأخذ به واتباعه واجبا بأمر الله - سبحانه -، وكانت الطاعة لرسول الله [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (9) في ذلك طاعة لله، وكان الأمر من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أمرا من الله.
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) [النساء 13: 14]
(3) [النور: 52]
(4) زيادة من (ب).
(5) [النور: 54]
(6) [آل عمران: 50]
(7) (منها): قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران: 132].
(ومنها): قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59].
(ومنها): قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 1]
(ومنها) قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) [الأنفال: 20]
(8) في (ب) مستفاد.
(9) زيادة من (ب).(6/3097)
وسنوضح لك ما صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في غير حديث النهي عن رفع القبور، والبناء عليها، ووجوب تسويتها، وهدم ما ارتفع منها. ولكنا ها هنا نبتدي بذكر أشياء في حكيم التوطية والتمهيد لذلك، ثم ننتهي- أن شاء الله - إلى ذكر ما هو المطلوب حتى يعلم من اطلع على هذا البحث أنه إذا وقع الرد لما قاله الإمام يحيى، وما قاله غيره في القباب والمشاهد إلى ما أمر الله بالرد إليه، وهو كتاب الله - سبحانه -، وسنة رسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان في ذلك ما يشفي ويكفي، ويقنع ويغني ذكر بعضه فضلا عن ذكر جميعه. وعند ذلك يتبين لكل من له فهم ما في رفع القبور من الفتنة العظيمة لهذه الأمة، ومن المكيدة البالغة التي كان همزة الشيطان بها، وقد كاد بها من كان قبلهم من الأمم السالفة كما حكى الله - سبحانه وتعالى - ذلك في كتانه العزيز. وكان أول ذلك قوم نوح.
قال الله - سبحانه -: (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا) (1) قال جماعة من السلف الصالح (2): أن يعوق ويغوث ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم قوم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم [9]- الذين كانوا يقتدون بهم -: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم: (3) فلما ماتوا وجاء آخرون [3ب] دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم [وهم] (4) يسقون المطر فعبدهم، ثم العرب بعد ذلك. وقد حكى
_________
(1) [نوح 21: 24]
(2) انظر " تفسير القرآن العظيم " (8) لابن كثير. " جامع البيان " لابن جرير الطبري (14 /ج29 - 100). " تفسير القرآن العظيم " لأبي حاتم (10 - 3376).
(3) (انظر الرسالة رقم (172) بعنوان " بحث في التصوير " من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ".
(4) في (ب) وبهم.(6/3098)
معنى هذا في الصحيح البخاري (1) عن ابن عباس.
وقال قوم السلف (2) إن هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدهم، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين: (3) وغيرهما (4) وهو حديث صحيح. عن عائشة - رضي الله عنها - أن أم سلمة - رضي الله عنها - ذكرت لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كنيسة وأتها بأرض الحبشة، وذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - " أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله ".
وأخرج ابن جرير في تفسير (5) قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) (6) قال: " كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره ".
وفي صحيح .......................................
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4920) عن ابن عباس رضي الله عنهما: " صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكان لكلب بدومة الجندل، أما سواع فكانت لهذيل، أما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبا، أما يعوق فكانت لهمدان، أما نسرا فكانت لحمير لآل ذي الكلاع أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت ".
(2) أخرجه ابن كثير في تفسيره (8).
وابن جرير الطبري في جامع البيان (14 /ج29 - 99). كلاهما عن محمد ابن قيس.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1341) وأطرافه (427، 434، 3873) ومسلم في صحيحه رقم (528).
(4) كالنسائي (2 رقم 2704) وأبو عوانة (1 - 401)
(5) (13 /ج27).
(6) [النجم: 19](6/3099)
مسلم (1) عن جندب بن عبد الله البجلي قال: رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يموت بخمس يقول: " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخدوا القبور مساجد؛ فإن أنهاكم عن ذلك ".
وفي الصحيحين (2) من حديث عائشة [رضي الله عنها] (3) قالت: لما نزل برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - طفق يطرح [10] خميصة (4) على وجهه، فإذا اغتم كشفها فقال - هو كذلك -: " لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا ".
وفي الصحيحين (5) مثله أيضًا من حديث ابن عباس.
وفيهما (6) أيضًا من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " قاتل الله واليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ".
وفي الصحيحين (7) من حديث عائشة -رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله
_________
(1) رقم (23).
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (5): إنما نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدا خوفا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (435، 346) وأطرافه (5816، 5815، 4444، 4443، 4441، 3454، 3453، 1390، 1330).
ومسلم في صحيحه رقم (22).
(3) زيادة من (أ).
(4) قال في النهاية (2): الخميصة ثوب خز أو صوف معلم، وقيل لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، وكانت من لباس قديما وجمعها الخمائص.
وقال القرطبي في " المفهم " (2) الخميصة: كساء له أعلام.
(5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (436، 435) ومسلم رقم (22).
(6) أخرجه البخاري في صحيحه وقم (437) ومسلم رقم (530).
(7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1330) ومسلم رقم (19).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3227) والنسائي (4 رقم 2074) وأحمد (2) وأبو عوانة (1) والبيهقي (4).(6/3100)
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في مرضه الذي لم يقم منه -:" لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "ولولا ذلك لبرز قبره] صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ] (1)، غير أنه خشي أن يكون مسجداً (2)
وأخرج الإمام أحمد في مسنده (3) بإسناد جيد من حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد ".
وأخرج أحمد (4) وأهل .............................................
_________
(1) زيادة من (أ)
(2) قال القرطبي في"المفهم" (2) ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعلوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة، إذ كان مستقبل المصلين - فتتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشمالين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من ناحية الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره.
كان ذلك قديما فقد طرأ عليه تغيير وتعديل في العصر المملوكي ثم العثماني بحيث أصبح القبر حجرة مربعة تعلوه القبة الخضراء، فمن صلى خلف الحجر لم يكن مستقبلا القبر لوجود الساتر. وهو الآن كذلك.
(3) في المسند (1، 435).
قلت: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (3) وابن خزيمة في صحيحه (2 - 7 رقم 789) والطبري في الكبير (10 رقم 10413) من طرق عاصم عن شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود، وعاصم صدوق. فالحديث حسن.
وأخرجه أحمد (1) وفي سنده " قيس بن الربيع " لا بأس به في الشواهد والمتابعات.
وأصل الحديث في البخاري رقم (7067) بدون الزيادة وهي " والذين يتخذون القبور مساجد ".
(4) في المسند (186، 184).
وأورد الهيثمي في " المجمع " (2) وقال: رواه الطبري في الكبير (5 رقم 4907) ورجاله موثقون.
ولم يعزن للإمام أحمد. وتعقب بأن في سند " عقبة بن عبد الرحمن وهو ابن أبي معمر " وهو مجهول.
انظر " التقريب " (2 رقم 244). وهو حديث حسن بشواهده.(6/3101)
السنن (1) من حديث زيد بن ثابت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها مساجد والسرج ".
وفي صحيح مسلم (2) وغيره (3) عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه -[4أ]: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن لا أدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته ".
وفي صحيح مسلم (4) أيضًا عن ثمامة بن صفي نحو ذلك. وفي هذا أعظم دلالة على أن تسوية كل قبر مشرف بحيث يرتفع زيادة على القدر المشروع واجبة متحتمة، فمن إشراف القبور أن [يرتفع] (5) [11] سمكها، أو تجعل عليها القباب، أو المساجد؛ فإن ذلك من المنهي عنه بلا شك ولا شبهة. ولهذا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعث لهدمها أمير المؤمنين - رضي الله عنه -، ثم إن أمير المؤمنين لهدمها أبا الهياج الأسدي
_________
(1) أخرجه أبو داود رقم (3236) والترمذي رقم (320) وقال حديث حسن.
والنسائي (4 رقم 2043) من حديث ابن عباس وهو حديث حسن بشواهده ما عدا لفظ (السرج).
انظر الإرواء (3) والضعيفة رقم (225)
(2) رقم (93).
(3) كأبي داود رقم (3218) والترمذي رقم (1049) والنسائي (4 رقم 2031) وأحمد (1/ 89). وهو حديث صحيح.
(4) رقم (92).
وأخرجه أبو داود رقم (3219) والنسائي (4 رقم 2030) وأحمد (1) وهو حديث صحيح.
(5) في (ب) يرفع.(6/3102)
في أيام خلافته.
وأخرج أحمد (1)، ومسلم (2)، والترمذي (3)، الترمذي (4) وصححه، النسائي (5)، وابن حبان (6) من حديث جابر قال: " نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يجصص القبر، وأن يبني عليه، وأن يوطأ " وزاد هؤلاء المخرجون لهذا الحديث غير مسلم: " وأن يكتب عليه "، قال الحاكم (7): النهي عن الكتابة على القبور، وهو يصدق على من بنى على جوانب حفرة القبر كما يفعله كثير من الناس من رفع قبور، وهو يصدق على من بنى على جوانب حفرة القبر كما يفعله كثير من الناس من رفع قبور الموتى ذراعا فما فوقه، ويصدق على من بنى قريبا من قتة، أو مسجد ا، أو مشهدا ويصدق أيضًا على من بنى بعيدا من جانب القبر كذلك كما في القباب والمسجد (8) والمشاهد الكبيرة على وجه يكون القبر في وسطها، أو في جانب منها؛ فإن هذا بناء على القبر، لا يحفى ذلك على من له أدنى فهم كما يقال: بنى السلطان على مدينة كذا، أو على قرية كذا سورا، وكما يقال بنى فلا ن في المكان الفلاني مسجدا، مع أن
_________
(1) في المسند (3).
(2) في صحيحه رقم (94)
(3) في "السنن" رقم (3226، 3225).
(4) في "السنن" رقم (1052).
(5) في "السنن" رقم (2029).
(6) في صحيحه رقم (3164، 3163و3162) وهو حديث صحيح.
قال القرطبي في " المفهم " (2) ووجه النهي عن البناء والتجصيص في القبور. أن ذلك مباهاة واستعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبه بمن كان يعظم القبر ويعبدها وباعتبار هذه المعاني، وبظاهر هذا النهي ينبغي أن يقال: هو حرام.
(7) في المستدرك (1).
(8) في هامش (أ) ما نصه: " ولأنه لا يمكن أن يجعل نفس القبر مسجدا بذلك مما يدل على أن المراد ما يقربه مما يتصل به.(6/3103)
سمك البناء لم يباشر إلا جوانب المدينة أو القرية أو المكان.
ولا فرق بين أن تكون تلك الجوانب التي وقع وضع البناء عليها [12] قريبة من الوسط كما في المدينة الكبيرة والقرية الكبيرة والمكان الواسع. ومن زعم أن في لغة العرب (1) ولا يمنع من هذا الإطلاق فهو لا يعرف لغة العرب، ولا يفهم لسانها، ولا يدري [بما] (2) استعمله في كلامها.
وإذا تقرر لك هذا علمت أن رفع القبور، ووضع القباب والمساجد والمشاهد عليها قد لعن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فاعله تارة كما تقدم، وتارة قال: [4ب] " اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " فدعى عليهم بأن يشتد غضب الله عليهم بما فعلوه من هذه المعصية، وذلك ثابت في الصحيح (3)، وتارة نهى عن ذلك، وتارة بعث من يهدمه، وتارة جعله من فعل اليهود والنصارى، وتارة قال: " لا تتخذوا قبري وثنا " (4) وتارة قال: "لا تتخذوا قبري عيدا " أي موسما يجتمعون فيه كما صار [يفعله كثير] (5) من عباد القبور، يجعلون لمن يعتقدونه من الأموات أقاتا معلومة يجتمعون عند قبورهم، ويعكفون عليها كما يعرف ذلك كل أحد من الناس من أفعال هؤلاء المخذولين الذين تركوا عبادة الله الذي خلقهم ورزقهم، ثم يميتهم ويحييهم، وعبدوا عبدا من عباد الله قد صار تحت أطباق الثرى، لا يقد على أن يجلب لنفسه نفعا، ولا يدفع عنها ضرا كما قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما أمره الله أن يقول: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا) (6). فانظر
_________
(1) انظر تفصيل ذلك في " الخصائص " لابن جني (2 - 313).
(2) في (ب) ما.
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم تخريجه.
(5) في (ب) كثير يفعله.
(6) [الأعراف: 188](6/3104)
كيف [13] قال سيد البشر، وصفوة الله من خلقه في أنه لا يملك لنفسه لا ضرا ولا نفعا، وكذلك قال في صح (1) عنه: " يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئا " فإذا كان هذا قول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في نفسه، وفي أخص قرابته به، وأحبهم إليه، فما ظنك بسائر الأموات الذين لم يكونوا أنبياء معصومين، ولا رسلا مرسلين! بل غاية ما عند أحدهم أنه فرد من أفراد هذه الأمة المحمدية، وواحد من أهل هذه الملة الإسلامية، فهو أعجز وأعجز عن أن ينفع نفسه، أو يدفع عنها ضررا.
وكيف لا يعجز عن شيء قد عجز عنه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأخبر أمته كما أخبر الله عنه، وأمره بأن يقول للناس بأنه لا يملك لنفسه [شيئا من ضر ولا نفع] (2)، وأنه لا يغني عن أخص قربيه من الله شيئا! فيا عجبا كيف يطمع من له أدنى نصيب من علم، وأقل حظ من عرفان أن ينفعه أيضره أنه فرد من التابعين له، المقتدين [يشرعه] (3)، فهل سمت أذناك أرشدك الله بضلال عقل أكبر من هذا الضلال الذي وقع فيه أهل القبور!؟ (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (4).
وقد أوضحنا هذا أبلغ إيضاح في رسالتنا سميناها " الدر النضيد في إخلاص التوحيد " (5) وهي موجودة بأيدي الناس، [فلا] (6) شك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ عنه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما زينه الشيطان للناس من رفع القبور،
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4771) ومسلم رقم (348) من حديث أبي هريرة وهو جزء من حديث طويل.
(2) في (ب) لا ضرا ولا نفعا.
(3) في (ب) بشريعته.
(4) [البقرة: 156]
(5) انظرها فهي ضمن " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني " رسالة رقم (4).
(6) في (ب) ولا.(6/3105)
ووضع الستور عليها وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل [14] تحسين.
فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بنيت عليه قبة فدخلها ونظر على القبر الستور الرائعة، والسرج المتلألئة، وقد صدعت حوله مجامير الطيب، فلا شك ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيما لذلك القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من المنزلة، ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكايد الشيطان للمسلمين، وأشد وسائله إلى إضلال العباد ما يزلزله عن الإسلام قليلا قليلا، حتى يطلب من صاحب [ذلك] (1) القبر (2) مالا يقد عليه إلا الله - سبحانه - فيصير في عداد المشركين.
وقد يحصل له هذا الشرك بأول رؤية لذلك القبر الذي صار على تلك الصفة، وعند أول زورة له (3)، لأنه يخطر بباله أن هذه العناية البالغة من الأحياء [بمثل] (4) هذا الميت لا يكون إلا لفائدة يرجونها منه، إما دنيوية أو أخروية، ويستصغر نفسه بالنسبة إلى من يراه زائرا لذلك القبر، وعاكفا عليه، [ومتمسحا] (5) بأركانه.
وقد يجعل الشيطان طائفة من إخوانه من بني آدم يقفون على ذلك القبر (6) ليخادعوا
_________
(1) زيادة من (أ).
(2) انظر الرسالة رقم (1) بعنوان " أسئلة وأجوبة عن قضايا التوحيد والشرك " ضمن " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ".
(3) انظر: " مظاهر الانحرافات العقدية " (3 وما بعدها). تأليف: إدريس محمود إدريس.
" إغاثة اللهفان " (1) لا بن القيم.
(4) في (ب) لمثل.
(5) في (ب) ومقيما.
(6) لذلك نقدم تلخيص وفوائد من الأحاديث التي تقدمت في البحث:
1 - تحريم الغلو في الصالحين، وأن هذا الغلو هو سبب الشرك في بني آدم من عصر نوح عليه السلام إلى يوم القيامة.
2 - أن من أعظم أسباب الغلو في الصالحين والعظماء تصويرهم وإقامة المشاهد والمساجد على قبورهم.
3 - تحريم بناء المساجد على القبور ولو كانت قبور أنبياء أو صالحين توقيعا للوقوع في الشرك.
4 - أن اتخاذ القبور مساجد من فعل اليهود والنصارى الملعونين.
5 - أن ذلك من الفعل موجب للعنة الله عليهم وعلى من حذا حذوهم وفعل مثل فعلهم من هذه الأمة.
6 - تحذير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمته من الوقوع فيما وقع فيه اليهود لئلا يفعلوا كفعلهم.
7 - إخباره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن الذين يتخذون القبور مساجدهم شرار الخلق عن الله يوم القيامة.
8 - أن السبب في عدم إظهار قبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو خشية أن يتخذ مسجدا.
9 - أن من توخى الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين أو إليها أو الدعاء عندها ونحو ذلك فقد اتخذها مساجد ووقع في المحظور.
10 - وجوب هدم كل قبر مشرف وكل مشهد مرفوع وكل أثر مقدس يفضي إلى الغلو وتعدي حدود الله. 11 - أن نصب الخيام والفساطيط على القبور بدعة من البدع المحدثة في الإسلام وكان المقصود منها نفع الميت لا انتفاع الأحياء منه أو بواسطته خلافا لما حدث بعد ذلك نم الافتتان بالقبور وقصدها بالصلاة والطواف والتوسل والاستعاثة والدعاء، لأن الصحابة أنكروا ذلك على من فعله من العامة وبينوا لهم أن الميت إنما ينفعه عمله وليس لتظليله بالخيام أية فائدة.
12 - أن الحكم بتحريم اتخاذ القبور مساجد حكم محكم باق غير منسوخ إلى يوم القيامة، حيث ورد في هذه الأحاديث ما يفيد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينطق بذلك النهي وهو في اللحظات الأخيرة من حياته المباركة:
- تقدم في حديث " قال في مرضه الذي لم يقم منه "
- وفي حديث آخر - تقدم - أنه نهى عن ذلك" قبل أن يموت بخمس ".
وقال الحافظ في " الفتح " (1 أثناء شرح الحديث رقم 435): " وكأنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنه مرتحل من ذلك المرض فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم ".
وانظر: " مجموع الفتاوى " (27) لابن تيمية. " مجموعة الرسائل).(6/3106)
من يأتي إليها من الزائرين، ويهولون الأمر، ويصنعون أمورا من أنفسهم [5ب] وينسبونها إلى الميت وجه لا يفطن لها من كان من المغفلين. وقد يضعون أكاذيب(6/3107)
مشتملة على أشياء يسمونها كرامات لذلك الميت، ويبثونها في الناس، ويكررون ذكرها في [15] مجالسهم، وعند اجتماعهم بالناس، فتشيع وتستفيض، يتلقاها من يحسن الظن بالأموات، زيقبل عقله ما يروى عنهم من الأكاذيب، فيرويها كما سمعها، ويتحدث بها في مجالسه، فيقع الجهال في بلية عظيمة من الاعتقاد، وينذرون على ذلك الميت بكرائم أموالهم، ويجسون على قبره من أملاكهم ما هو أحبها إلى قلوبهم، لاعتقادهم أنهم ينالون بذلك يجاه ذلك الميت خيرا عظيما، وأجرا بليغا. ويعتقدون أن ذلك قربة عظيمة، وطاعة بالغة، وحسنة متقبلة، فيحصل بذلك مقصود أولئك الذين جعلهم الشيطان من إخوان من بني آدم على ذلك القبر، فإنهم إنما فعلوا تلك الأفاعيل، وهولوا على الناس بتلك التهاويل، وكذبوا لينالوا جانبا من الحطام من أموال الطغام الأغنام. وبهذه الذريعة الملعونة، والوسيلة الإبليسية تكاثرت الأوقاف على القبور، وبلغت مبلغا عظيما، حتى بلغت غلات ما يوقف على المشهورين منهم ما لو جمعت لقامت بما يقتاته أهل قرية كبيرة من قرى المساكين (1)، ولو بيعت تلك الحبائس الباطلة لأغنى الله بها طائفة عظيمة من الفقراء، وكلها من النذر في معصية الله. (2)
وقد صح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا نذر في معصية الله " (3) وهى أيضًا من النذر الذي لا يبتغى به وجه الله. وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " النذر ما ابتغي به وجه الله " (4) بل كلها من النذور التي يستحق بها فاعلها
_________
(1) نعم النذر للأضرحة إضاعة المال ووضع له في غير موضعه، وذلك وجه آخر من أوجه تحريمه ومقتضى من مقتضياته.
(2) نعم النذر للأضرحة إضاعة المال ووضع له في غير موضعه، وذلك وجه آخر من أوجه تحريمه ومقتضى من مقتضياته.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1641) وأبو داود رقم (3316) والنسائي رقم (3840) وابن ماجه رقم (2124) كلهم من حديث عمران - رضي الله عنه - وهو حديث صحيح. وأخرجه أبو داود رقم (3292) والترمذي رقم (1524) والنسائي رقم (3833) من حديث عائشة - رضي الله عنها - وهو حديث صحيح.
(4) أخرجه أحمد (14 رقم 71 - الفتح الرباني) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وأخرجه أيضًا أبو داود رقم (3273) بإسناد حسن.(6/3108)
غضب الله وسخطه، لأنها تفضي بصاحبها في الغالب إلى ما به الاعتقاد [16] في الأموات من تزلزل قدم الدين إذ لا يسمح [بأحب] (1) أمواله إليه، وألصقها بقلبه، إلا وقد زرع الشيطان في قلبه من محبة ذلك القبر وصاحبه، والمغالاة في الاعتقاد فيه مالا يعود به إلى الإسلام سالما - نعوذ بالله من الخذلان- ولا شك أن غالب هؤلاء المغرورين المخدوعين لو طلب منه طالب أن ينذر بذلك الذي نذر به لقبر [6 أ] الميت على ما هو طاعة من الطاعات، وقربة من القربات لم يفعل، ولا كاد (2)
فانظر إلى أين بلغ تلاعب الشيطان بهؤلاء! وكيف رمى بهم في هوة بعيدة القعر، مظلمة الجوانب! فهذه مفسدة من مفاسد رفع القبور، وتشييدها، وزخرفتها، وتجصيصها.
ومن المفاسد البالغة إلى حد يرمي بصاحبه إلى وراء حائط الإسلام، ويلقيه على أم رأسه من أعلى مكان من الدين أنه يأتي كثير منهم بأحسن ما يملكه من الأنعام، ويجوزه من المواشي، فينحره عند ذلك القبر (3)، مقتربا به إليه، راجيا ما يضمر حصوله له منه، فيهل به لغير الله، ويتعبد به لوثن من الأثان، فإنه لا فرق بين نحر النحائر كحجر منصوبة يسمونها وثنا، وبين قبرلميت يسمونه قبرا. ومجرد الاختلاف في التسمية لا يغني من الحق شيئا، ولا يؤثر تحليلا ولا تحريما، فان من أطلق على الخمر غير اسمها وشربها
_________
(1) في (ب) (بلعب).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6608) ومسلم رقم (2) وأبو داود رقم (3287) والنسائي (7 رقم 3801) وابن ماجه رقم (2122).
عن ابن عمر قال: " نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النذر، وقال: إنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من مال بخيل ".
قال ابن تيمية في " مجموع فتاوى " (11): أما النذر للموتى من الأنبياء والمشايخ وغيرهم أو لقبورهم أو المقيمين عند قبورهم فهو نذر شرك ومعصية لله تعالى سواء كان النذر نفقة أو ذهبا أو غير ذلك وهو شبيه بمن ينذر للكنائس والرهبان وبيوت الأصنام ".
(3) انظر الرسالة: " كنت قبوريا " (ص15 - 28).(6/3109)
كان حكمه حكم من شربها وهو يسمها بلا خلاف بين المسلمين أجمعين، ولا شك أن النحر نوع من أنواع العبادة (1) التي تعبد الله بها كالهدايا، والفدايا، والضحايا، فالمتقرب بها إلى القبر، الناحر لها عنده لم يكن له غرض بذلك إلا تعظيمه وكرامته، واستجلاب الخير منه، واستدفاع الشر به (2). وهذه عبادة وكفاك من شر سماعه. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (3).
وبعد [17] هذا كله أن ما سقناه من الأدلة، وما هو كالتوطئة لها، وما هو كالخاتمة التي تختم بها البحث يقضي أبلغ قضاء، ويدل أوضح دلالة ويفيد أجلى مفاد أن ما رواه صاحب البحر (4) عن الإمام يحيى غلط من أغاليط العلماء، وخطأ من جنس ما يقع المجتهدين، وهذا شأن البشر، والمعصوم من عصمه الله (5) وكل عالم يؤخذ من قوله ويترك مع كونه - رحمه الله - من أعظم الأئمة إنصافا،
_________
(1) "في هامش (أ): والنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لا عقر في الإسلام " قال عبد الرزاق - في مصنفه (3 رقم 6690) - كانوا يعقرون عند القبر يعني بقرة أو شياها.
رواه أبو داود في " السنن (3222) بإسناد صحيح من حديث أنس.
(2) قال الغزالي في " عقيدة المسلم " (ص77): " أليس من المضحك أن تستنجد بقوم يطلبون لأنفسهم النجدة وأن تتوسل بمن يطلب هو كل وسيلة ليستفيد خيرا أو ليدفع شرا؟ قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) [الإسراء: 57].
(3) [البقرة: 156]
(4) (2 - 132).
(5) عن مالك قال: " ليس أحد بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا يؤخذ من قوله ويترك ألا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أخرجه ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " (2) وابن حزم في " الإحكام " (6 - 146) من قول الحكم بن عتيبة ومجاهد.
وقيل أنه من قول ابن عباس أخذها مجاهد. وأخذها مالك - رضي الله عنه - منها.
"الفتاوى" السبكي (1).(6/3110)
وأكثرهم تحريا للحق، وإرشادا إليه، وتاثيرا له، ولكنا لما رأنياه قد خالف من عداه بما قاله من جواز بناء القباب على القبور ردنا هذا الاختلاف إلى ما أوجب الله الرد إليه، وهو كتاب الله وسنة رسوله، [فوجنا] (1) في ذلك ما قدمنا ذكره من الأدلة الدالة أبلغ [6ب] دلالة، والمنادية بأعلى صوت بالمنع من ذلك، والنهي عنه، واللعن لفاعله، والدعاء عليه [واشتداد] (2) غضب الله عليه مع ما ذلك من كونه ذريعة إلى الشرك، ووسيلة إلى الخروج من الملة كما أوضحنا.
فلو كان القائل بما قال الإمام يحيى بعض الأمة أو أكثرها لكان قولهم رد عليهم كما قدمناه في أول هذا البحث، فكيف والقائل به فرد من أفرادهم! وقد صح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد " (3) ورفع القبور وبناء القباب عليها ليس عليه أمر رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما عرفناك بذلك، رد على قائلة، أي مردود عليه. والذي شرع للنا س هذه الشريعة الإسلامية هو الرب -سبحانه - بما أنزل في كتابه، وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فليس لعالم وإن بلغ من العلم إلى أرفع رتبة وأعلى منزل -أن يكون بحيث يقتدي به فيما خالف الكتاب والسنة أو أحدهما، بل ما وقع منه الخطأ بعد توفية الاجتهاد حقه يستحق به أجرا، ولا يجوز لغيره أن يتابعه [عليه] (4). وقد أوضحنا هذا في أول البحث بما لا يأتي التكرار له بمزيد فائدة.
وأما ما استدل به الإمام يحيى - رحمه الله -[حيث قال] (5): لا ستعمال المسلمين
_________
(1) في (ب) فوجد.
(2) في (ب) باشتداد.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2697) ومسلم رقم (1718) عن عائشة مرفوعًا بلفظ: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ". وقد تقدم مرارا.
(4) زيادة من (ب).
(5) في (ب) من قوله.(6/3111)
ولم ينكروه.
فاعلم أن هذا الاستدلال مدفوع؛ فإن هذه الأدلة التي سقناها على ما فيها نم التكاثر والتوفر ما زالت مروية في مجامع المسلمين، ومدارسهم، مجالس حفاظهم، ويرويها الآخر عن الأول، والصغير عن الكبير، والمتعلم عن العالم من لدن أيام الصحابة إلى هذه الغاية، وأوردها المحدثون في كتبهم المشهورة من الأمهات والمسندات والمصنفات. وأوردها المفسرون في تفاسيرهم (1)، وأهل الفقه في كتبهم الفقهية (2) وأهل الأخبار والسير في كتب الأخبار والسير، فكيف يقال إن المسلمين لم ينكروا على من فعل ذلك! وهم يرون أدلة النهي عنه، وللعن لفاعله [والدعاء عليه] (3) خلفا عن سلف في كل عصر، ومع هذا فلم يزل علماء الإسلام منكرين لذلك، مبالغين في النهي عنه.
وقد حكى ابن القيم (4) عن شيخه شيخ الإسلام [7أ] تقي الدين، وهو الإمام المحيط بمذاهب سلف هذه الأمة وخلفها أنه قد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد على القبور. ثم قال ك وصرح أصحاب أحمد (5) ومالك (6) .............................
_________
(1) انظر" روح المعاني" للآلوسي (15 - 238).
(2) " المجموع " للنووي (5 - 317). " تحذير الساجد من اتخاذ السرج مساجد " للمحدث الألباني " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (10) و (11).
(3) زيادة من (ب).
(4) انظر " إغاثة اللهفان " (1). " زاد المعاد " (3).
(5) قال ابن قدامة في " المغني " (2 - 388): ولا يجوز اتخاذ السرج على القبور لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر الحديث.
ثم قال: " ولو أبيح لم يلعن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فعله، ولأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة وإفراطا في تعظيم القبور، أشبه تعظيم الأصنام ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ". تقد الحديث متفق عليه.
(6) قال في " المدونة " (1): وقال مالك: أكره تجصيص القبور والبناء عليها، وهذه الحجارة التي يبني عليها ".
وقال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (10): فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهي عنه ممنوع لا يجوز ".
ثم (10): وقال علماؤنا: يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد ".(6/3112)
والشافعي (1) بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة (2) لكن ينبغي أن يحمل على كراهة التحريم إحسانا للظن بهم، وأن لا بهم أن يجوزا ما تواتر عنه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لعن فاعله، والنهي عنه انتهي.
فانظر كيف حكى التصريح عن عامة الطوائف! وذلك يدل على أنه إجماع من أهل العلم على اختلاف طوائفهم، ثم بعد ذلك جعل أهل ثلاث مذاهب مصرحين بالتحريم، وجعل طائفة مصرحة بالكراهة، وحملها على كراهة التحريم، فكيف يقال بأن بناء القباب والمشاهد لم ينكره أحد!.
ثم انظر كيف يصبح استثناء أهل الفضل برفع على قبورهم! وقد صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما قدمنا أنه قال: أولئك إذا مات فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح [19] بنوا على قبره مسجد " (3) ثم لعنهم لهذا السبب
_________
(1) قال النووي في " المجموع " (5): " واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهة بناء مسجد على القبر سواء كان الميت مشهورا بالصلاح أو غيره لعموم الأحاديث. وقال الشافعي والأصحاب: وتكره الصلاة إلى القبور سواء كان الميت صالحا أو غيره ".
(2) قال الإمام محمد ابن الحسن: " لا نر أن من يزاد على ما خرج من القبر ونكره أن يجصيص أو يطين أو يجعل عنده مسجد ". " كتاب الآثار " (ص45).
وإذا أطلقت الكراهة عند المتقدمين فمعناه التحريم.
وذكر عن أبي يوسف أنه كره رش القبر بالماء، لأنه يجري مجرى التطيين وهل هذا منهم إلا اتباع ما عليه السلف الصالح من ترك تعظيم القبور التي هي من أعظم الوسائل إلى الشرك.
انظر: " النبذة الشريفة النفيسة " (ص138).
(3) تقدم تخريجه.(6/3113)
فكيف يسوغ [من يستثنى] (1) أهل الفضل بفعل هذا المحرم الشديد على قبورهم! مع أن أهل الكتاب الذين لعنهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وحذر الناس مما صنعوا لم يعمروا المساجد إلا على قبور صلحائهم، ثم إن هذا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - سيد البشر، وخير الخليقة، وخاتم الرسل، وصفوة الله من خله ينهى أمته أن يجعلوا قبره مسجدا، أو وثنا، أو عيدا، وهو القدوة لأمته، لأهل الفضل القدوة به والتأسي بأفعاله وأقوال الحظ الأوفر، و [هم] (2) أحق الأمة بذلك وأولاهم به، وكيف يكون فضل بعض الأمة وصلاحه مسوغا لفعل هذا المنكر على قبره! وأصل الفضل ومرجعه هو رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -.
وأي ينسب إلى فضله أدني نسبة! أو يكون له بجنبه أقل اعتبار! [فإن] (3) كان هذا محرما منهيا عنه، ملعونا فاعله في قبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فما ظنك بغيره من أمته! وكيف يستقم أن يكون للفضل مدخل في تحليل المحرمات، وفعل المنكرات! اللهم غفرا.
[كمل منقولا من تحرير مؤلفه العلامة البدر محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - آمين]. (4)
[والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم آمين] (5)
_________
(1) في (ب) استثناء.
(2) زيادة من (أ).
(3) في (ب) فإذا.
(4) زيادة من (أ).
(5) زيادة من (ب).(6/3114)
جواب سؤالات وردت من تهامة
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
على غلاف الرسالة ما نصه:
" هذه السؤالات أرسل بها إلينا سيدي العلامة يوسف بن إبراهيم الأمير -عافاه الله - وذكر أنها مرسلة من تهامة طالبه للجواب مني عليها فأجبت بهذا الجواب ".(6/3115)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (جواب سؤالات وردت من تهامة).
2 - موضوع الرسالة: فقه.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين وبعد: فإنها وردت إلي هذه الأبحاث النفيسة، وها أنا أذكر كل بحث منها ثم أتبعه بجوابه بمعونة الله عز وجل.
4 - آخر الرسالة:. .. ومتمسكون بما هو خارج عن مطلوبهم خروجا أوضح من شمس النهار، وعلى نفسها براقش تحني.
وفي هذا المقدر كفاية لمن له هداية. انتهى الجواب والله الموفق للصواب.
5 - نوع الخط: خط رقعة.
6 - عدد الأوراق: 6 ورقات = 12 صفحة + صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 31 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.
9 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(6/3117)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين وبعد: فإنها وردت إلي هذه الأبحاث النفيسة، وها أنا أذكر كل بحث منها ثم أتبعه بجوابه بمعونة الله - عز وجل -.
قال السائل - كثر الله فوائده -:
المبحث الأول: ما حقيقة السفر (1) الذي يقصر (2) فيه الصلاة؟ فإن قيل: الضرب
_________
(1) السفر لغة:
قال الأزهري في " تهذيب اللغة " (1/ 402): سمي المسافر مسافرا لكشفه قناع الكن عن وجهه، ومنازل الحضر عن مكانه، ومنزل الخفض عن نفسه وبروزه إلى الأرض الفضاء.
وسمي السفر سفرا لأنه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم، فيظهر ما كان خافيا منه.
السفير: الرسول المصلح بين القوم.
وأسفر الصبح إسفارا: أضاء.
ونجد أن المتتبع لمادة " سفر " أنها ذات معان متعددة منها:
إن من معانيها: قطع المسافات، فالسفر ضد الحضر وهو مشتق من ذلك لما فيه من الذهاب والمجيء كما تذهب الرياح بالسفير من الورق وتجيء، أي بما أسقط من ورق الشجر وتحات.
والجمع أسفار، ورجل سافر، ذو سفر، وقوم سافرة وسفر وأسفار وسفار بمعنى، وقد يكون السفر للواحد، قال الشاعر:
عوجي علي فإنني سفر انظر:
" لسان العرب " (4 - 368) " تاج العروس " (2) " مختار الصحاح " (ص300 - 301).
السفر شرعا: اتفقت كلمة الفقهاء على أن السفر معناه شرعا: " قطع المسافات بنية السفر ".
(2) والأصل في قصر الصلاة الكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب فقد قال تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [النساء: 101]
وأما السنة: فقد تواترت الأخبار، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقصر في الصلاة في أسفاره حاجا ومعتمرا، وغازيا. - سيأتي منها خلال الرسالة -.
الإجماع: فقد أجمع أهل العلم على أن من سافر سفرا تقصر في مثله الصلاة في الحج، أو عمرة، أو جهاد، أن له أن يقصد الرباعية فيصليها ركعتين.
" المغني " (3 - 105) " الأوسط " لابن المنذر (4) " الإجماع " (ص42 رقم 58) لابن المنذر.(6/3121)
المستوي فيه القصير والطويل كما نقل عن كثير من السلف فما حقيقته في عرفهم؟ هل إذا جاوز البنيان يسمى مسافرا عندهم يقصر ولو إلى بستانه القريب من العمران؟ وهل حكايتهم ذلك عن على - رضي الله عنه - فيما يروى عنهم صحيحة أم لا؟ وإن قيل له مسافة لا يجوز القصر فالمراد تحقيقها بالأدلة؟ وهل حقيقة السفر في القصر والصوم وسير المرأة واحد حتى يستدل لكل بما ورد في الآخرة؟ وفي البخاري (1) وسمى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - السفر يوما وليلة (2)، فهل سماه في غير سفر المرأة؟ فإن كان المراد إنما
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري وقم (1088) ومسلم رقم (421) عن أبي هريرة قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة ".
(2) فتح الباري (2 الباب رقم 4) في كم يقصر الصلاة؟ وسمى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوما وليلة سفرا.
(منها): ما أخرجه البخاري في صحيحه (1087) و (1086) ومسلم رقم (413) وأبو داود رقم (1727). عن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تسافر المرأة ثلاثا إلا مع ذي محرم "
وفي رواية " لا تسافر المرأة ثلاثا أيام إلا ومعها ذي محرم ". وفي رواية لمسلم (2 رقم 414): " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم ".
وفي رواية لمسلم في صحيحه رقم (419) وأبو داود رقم (1723): لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو محرمة منها ".
وفي رواية لمسلم في صحيحه رقم (420) وابن ماجه رقم (2899): " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر بسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم".
وفي رواية لمسلم في صحيحه رقم (422): " لا يحل لامرأة أن تسافر ثلاثا إلا ومعها ذو محرم منها ". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (1864) و (1197، 1995) ومسلم (415) و (416) عن قزعة مولى زياد، قال: سمعت أبا سعيد الخدري - وقد غزا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثنتي عشرة غزوة، قال: أربع سمعتهن من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوقال يحدثهن عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعجبني وأتقنني: " أن تسافر امرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها، أو ذو محرم. .. ".(6/3122)
هو في سفر المرأة الذي يشترط فقد سماه بغير ذلك انتهى.
أقول: قد وقع الخلاف الطويل بين علماء الإسلام في مقدار المسافة التي يقصر فيها، وحكى ابن المنذر (1) في ذلك نحو عشرين قولا، أقل ما قيل في ذلك يوم وليلة، هكذا حكى. وفيه أنه ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن مسافة القصر يوم، وذهب آخرون إلى أنها بريد (2)، وذهب جماعة منهم ابن عمر كما روى ذلك عنه ابن أبي شيبة (3) بإسناد صحيح إلى أن أقل مسافة القصر ميل. وإلى ذلك ذهب ابن حزم (4)). (5): (5 (6) من أقوال الصحابة والتابعين والأئمة والفقهاء مذاهب كثير ة جدا. لا حاجة لنا هاهنا إلى تعداد المذاهب، لأن غرض السائل بيان ما هو الراجح في المسألة.
_________
(1) عزاه إليه الحافظ في " الفتح " (2).
(2) ذكره ابن قدامة في " المغني " (3 - 106).
البريد: أربعة فراسخ، وقيل فرسخان، وأصل الكلمة فارسية.
وقيل: اثنا عشر ميلا، كل ثلاثة أميال فرسخ فيكون كما سبق أربعة فراسخ.
وقدم تقديم تفصيل ذلك انظر " جامع الأصول " لابن الأثير (5 - 25)
(3) انظر أقوال ابن عمر في " المصنف " (2 - 445).
(4) في " المحلى " (5/ 8).
(5) وذهب قوم إلى أنها ثلاثة أميال. وذهب آخرون إلى أنها ثلاثة فراسخ. فعلى هذا تكون الأقوال في هذه المسألة أكثر من عشرين قولا. وقد حكى ابن حزم في المحلى.
(6) -10).(6/3123)
فاعلم أن بعض أهل العلم استدل على تقدير مسافة القصر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في أسفاره، وبعضهم استدل بقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا يحل لامرأة بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم " أخرجه الجماعة إلا النسائي (1). وفي رواية للبخاري (2): " لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذو محرم ". وفي رواية للبخاري (3): لا تسافر المرأة بريدا ". ولا حجة في جميع ذلك. (4)
أما اقصره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في أسفاره فلعدم استلزام فعله لعدم الجواز فيما دون المسافة التي قصر فيها.
وأما حديث: نهى المرأة عن أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم، فغاية ما فيه إطلاق اسم السفر على مسيرة ثلاثة أيام، وهو غير مناف للقصر فيما دونها، وكذلك نهيها عن سفر اليوم والليلة والبريد، فالبريد لا ينافي جواز القصر في ثلاثة [ا أ] فراسخ، أو ثلاثة أميال، أو ميل. وأيضا هذا الحديث مسوق لبيان حكم آخر هو المقدار الذي يجب على المرأة أن تستصحب المحرم فيه، ويحرم عليها أن تسافر ذلك المقدار بدونه. ولا ملازمة بين هذا وبين مسافة القصر، لا عقلا، ولا شرعا، ولا عادة.
وأما استدلال من استدل بحديث ابن عباس عن الطبراني (5) أنه - صلى الله عليه وآله
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1088) ومسلم رقم (421) وأبو داود رقم (1724) والترمذي رقم (1170) وقال حديث حسن صحيح ومالك في الموطأ (2 رقم 37) من حديث أبي هريرة وقد تقدم.
(2) في صحيحه رقم (1087) ومسلم في صحيحه رقم (413) من حديث ابن عمر وقد تقدم.
(3) في السنن رقم (1725) وهو حديث شاذ.
(4) انظر " المحلى " (5 - 17). "المغني " (3 - 109).
(5) في الكبير (1 رقم 1162).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (2) وقال الطبراني في الكبير من رواية ابن المجاهد عن أبيه وعطاء لم أعرفه وبقية رجاله ثقات.
قلت: وأخرجه الدارقطني في السنن (1 رقم 1) والبيهقي في " السنن الكبرى " (3) وهو حديث ضعيف.(6/3124)
وسلم - قال: " يا أهل مكة، لا تقصروا في أقل من أربعة برد، من مكة إلى عسفان " (1) فلو ثبت لكان حجة قوية رافعة للخصام، لكن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبير (2) وهو متروك. وقد نسبه بعض أهل العلم إلى الوضع.
وقال الأذردي: لا تحل الرواية عنه. الراوي عنه إسماعيل بن عياش (3)، وهو ضعيف في الحجازيين وعبد الوهاب المذكور حجازي، والصحيح أنه موقوف على ابن عباس كما أخرجه عنه الشافعي (4) بإسناد صحيح، ومالك في الموطأ. (5)
وقد استدل على تقدير مسافة القصر بما أخرجه أحمد (6)، مسلم (7) وأبو داود (8) عن
_________
(1) عسفان: بضم أوله، وسكون تائبه ثم فاء، وآخر نون، فعلان من عسفت المغازة، وهو يعسفها وهو قطعها بلا هداية ولا قصد. ..
قال أبو منصور: عسفان منهلة من مناهل الطريق، بين الجحفة ومكة.
وقال غيره: عسفان بين المسجدين. وهي من مكة على مرحلتين.
" معجم البلدان " (4 - 122).
(2) انظر: " الميزان " (2) " المجروحين " (2).
(3) انظر: " تهذيب التهذيب " (1 رقم 164).
(4) كما في بدائع المنن (1 رقم 338).
(5) (1 رقم 9).
(6) في المسند (3).
(7) في صحيحه رقم (12).
(8) في السنن رقم (1201).
وهو حديث صحيح.
الميل = 1848م.
الفرسخ = 5544م.(6/3125)
شعبة، عن يحيى بن سويد الهنائي قال: سالت أنسا عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين. والذي وقع منه الشك هو شعبة الراوي للحديث، والمتيقن من هذا الحديث هو ثلاثة فراسخ، لأن الحديث متردد بينها وبين ثلاثة أميال، والثلاثة الأميال مندرجة في الثلاثة الفراسخ، فتوجه بالأكثر احتياطا. وهذا الحديث أصح ما ورد في التقدير وأصرحه (1) وقد حمله من خالفه على أن المراد المسافة التي يبتدأ منها القصر لا غاية السفر. أوجيب (2) عنه بأن يحيى بن يزيد الواوي عن أنس إنما سأله عن جواز القصر في السفر، لا عن الموضوع الذي يبتدأ القصر منه، فيكون هذا الحديث مقيدا لإطلاق اسم السفر في القرآن، ولسائر ما ورد من قصر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في المواطن التي سافر إليها.
ويؤيده أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج إلى البقيع لزيارة الموتى، وإلى مواطن خارجة عن المدينة، إما للإصلاح بين قوم أو نحو ذلك، ولم يقصر هو، ولا من خرج معه.
وقد وري سعيد بن منصور (3) عن أبي سعيد قال: كان رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة، فان صح هذا كان مقدما على حديث أنس المتقدم، وتكون مسافة القصر فوسخا. ولا أدري الآن كيف إسناده لعدم وجود مسند
_________
(1) قاله الحافظ في " الفتح " (2).
(2) ذكره الحافظ في " الفتح " (2).
ثم قال بعد ذلك " ثم أن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منها ". ورده القرطبي في " المفهم " (2): بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به.
(3) غير مطبوع فيما أعلم. وعزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (2).
قلت: أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (2، 442). عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سافر فرسخا قصر الصلاة.(6/3126)
سعيد بن منصور لدي.
وإذا تبين لك مقدار السفر الذي يقصر في مثله فاعلم أن هذا المسافر إذا حضرته الصلاة بعد خروجه من مدينته أو قريته قصر، ولو لم يكن بينه وبينها وإلا مقدار رمية حجر، لأنه قد صدق عليه اسم السفر الشرعي باعتبار قصره لتلك الغاية التي هي ثلاثة فراسخ فما فوقها. وهكذا لا يزال يقصر في [1ب] رجوعه إلى وطنه حتى يدخل مدينته أو قرية. ولا اعتبار بما قيل إنه لا يقصر حتى يخرج من ميل وطنه، ويتم إذا دخل ميل وطنه، فإن ذلك لم يدل عليه دليل صحيح.
فإن قلت: هلا اعتبرت مجرد الضرب (1) في الأرض المذكور في الآية مع صحة تسميته مسافرا لغة (2)، وذلك بأن يشد رحله، أو يحمل عصاه على عاتقه قاصدا للسفر، وحينئذ يفيد مطلق الضرب في الأرض بما تسمه العرب سفرا.
قلت: المسألة شرعية (3) لا لغو. وقد ورد الشرع بما قدمنا. يرد عن الشارع من وجه صحيح الصر فيما دون ذلك، فوجب التوقف على ذلك. ولو سلمنا أن المسألة لغوية. أن الاعتبار بما يصد عليه اسم المسافر لغة لم يكن في ذلك حجة لمن قال: أن من كان سفره مسافة ميل (4) أو الميلين، أو ثلاثة
_________
(1) قال ابن القيم في " زاد المعادن " ولم يحدد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر، بل أطلق لم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض كما أطلق لهم التيمم في سفر وأما ما يروى عنه من التحديد باليوم واليومين والثلاثة فلم يصح عنه شيء البتة والله اعلم ".
(2) تقدم في بداية الرسالة.
(3) تقدم في بداية الرسالة.
(4) قال النووي: الميل ستة آلاف ذراع والذراع أربعة وعشرون أصبعا معترضة معتدلة والإصبع ست شعيرات معترضة معتدلة.
قال الحافظ في " الفتح " (2) وهذا الذي قاله هو الأشهر. . ثم إن الذراع الذي ذكره النووي تحديده قد حرره غيره بذراع الحديد المستعمل الآن في مصر والحجاز في الأعصار فوجده ينقص عن ذراع الحديد بقدر الثمن، فعلى هذا فالميل بذراع الحديد على القول المشهور خمسة آلاف ذراع ومائتان وخمسون ذراعا.(6/3127)
فرسخين، أو ثلاثة فراسخ يقصر الصلاة، فإن القاصد لمثل هذه المقادير لا تسميه العرب مسافرا. ولم نسمع عنهم أنهم أطلقوا عليه اسم المسافر (1)، ولو شد رحله، أو وضع عصاه على عاتقة. وقد طانوا يتزاورون، ويذهب بعضهم إلى محلة بعض، ولا يسمون الفاعل لذلك مسافرا.
وبالجملة فالإحالة لمحل النزاع على السفر اللغوي (2) إحالة على مجهول، أو إحالة على ما يدل على خلاف مطلوب قابله، فوجب الرجوع إلى ما ثبت في الشرع. وقد ثبت فيه أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يقصر إذا خرج في ثلاثة فراسخ. وثبت عنه أنه صلى الظهر بالمدينة أربعا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين كما في حديث أنس عند أحمد (3)،. ............................
_________
(1) قال صاحب المصباح المنير (1/ 425): يقال ذلك إذا خرج للارتحال أو قصد موضع فوق مسافة العدوى، لأن العرب لا يسمون مسافة العدى سفرا.
ثم قال في مادة عدى - بالمهلة - والعدوى - بالفتح قال ابن فارس والجوهري - في الصحاح (6/ 2421) - هي طلبك إلى وال ليعديك على من ظلمك أي ينتقم منه باعتدائه عليك.
والفقهاء يقولون مسافة العدوى كأنهم استعارها من هذه لأن صاحبها يصل فيها الذهاب والعود بعدو واحد لما فيه من القوة والجلد.
وقال السياغي في " الروض النضير " (2/ 365): " ومراده بالعرف عرف أهل اللغة الذي قرره العرف الشرعي، ويفهم منه أن السفر لا يطلق إلا على التي لا يمكن صاحبها أن يجمع فيها بين الذهاب والعود بمشي واحد وهو ما تدرك به المشقة ويتكلف له المؤنة ولذا قال أهل اللغة: كأن مأخوذ من سفرت الشيء إذا كشفته فأوضحته لأنه ما ينوب فيه ويكشفه، ومن المعلوم أنهم لا يسمون من خرج من بيته وسار أدنى سير مسافرا، ثم نظرنا ما هو الأنسب من تقديرات الشارع - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرف أهل الشرع المتلقي عن أهل اللغة، فلم نجد حديثا سالما عن المطاعن إلا حديث أنس وعملنا بالأحوط منه وهو ثلاثة افواسخ وهو أشد مناسبة بذلك العرف منه بالثلاثة أميال " اه.
(2) قال صاحب المصباح المنير (1/ 425): يقال ذلك إذا خرج للارتحال أو قصد موضع فوق مسافة العدوى، لأن العرب لا يسمون مسافة العدى سفرا. ثم قال في مادة عدى - بالمهلة - والعدوى - بالفتح قال ابن فارس والجوهري - في الصحاح (6/ 2421) - هي طلبك إلى وال ليعديك على من ظلمك أي ينتقم منه باعتدائه عليك. والفقهاء يقولون مسافة العدوى كأنهم استعارها من هذه لأن صاحبها يصل فيها الذهاب والعود بعدو واحد لما فيه من القوة والجلد.
وقال السياغي في " الروض النضير " (2/ 365): " ومراده بالعرف عرف أهل اللغة الذي قرره العرف الشرعي، ويفهم منه أن السفر لا يطلق إلا على التي لا يمكن صاحبها أن يجمع فيها بين الذهاب والعود بمشي واحد وهو ما تدرك به المشقة ويتكلف له المؤنة ولذا قال أهل اللغة: كأن مأخوذ من سفرت الشيء إذا كشفته فأوضحته لأنه ما ينوب فيه ويكشفه، ومن المعلوم أنهم لا يسمون من خرج من بيته وسار أدنى سير مسافرا، ثم نظرنا ما هو الأنسب من تقديرات الشارع - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرف أهل الشرع المتلقي عن أهل اللغة، فلم نجد حديثا سالما عن المطاعن إلا حديث أنس وعملنا بالأحوط منه وهو ثلاثة افواسخ وهو أشد مناسبة بذلك العرف منه بالثلاثة أميال " اه.
(3) في " المسند " (3/ 177و 186).(6/3128)
والبخاري (1)، ومسلم (2). وبين المدينة وذي الحليفة ستة أميال (3).
فإن قلت: هذا الحديث يفيد أن القصر يكون دون ثلاثة فراسخ، فيكون أقل مسافة السفر ستة أميال.
قلت: نعم لولا أن الحليفة في هذا السفر لم يكن منتهى سفره، وإنما خرج إليها وقصر بها في سفر إلى مكة. وأما حديث الثلاثة الفراسخ (4) فلم يكن فيه ما يدل على أنها ابتداء سفره، بل فيه ما يدل على أن القصر عند إرادته لمثل هذه المسافة كان عادة له كما يدل عليه لفظ كان على ما تقرر في الأصول (5). ولولا التردد في الرواية بين الثلاثة الأميال، والثلاثة الفراسخ لكان الواجب الأخذ بالأقل، وهو الثلاثة الأميال (6)، لكنه مع التردد يجب الأخذ بالأحوط المتيقن وهو الثلاثة الفراسخ.
_________
(1) في صحيحه رقم (1089).
(2) في صحيحه رقم (10/ 690). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (1202) والترمذي رقم (546) والنسائي (1).
(3) ذكره القرطبي في " المفهم " (2).
(4) تقدم تخريجه.
(5) قال السيوطي في " معترك الأقران في إعجاز القرآن " (2/ 245): وتأتي كان بمعنى الدوام والاستمرار.
(6) تقدم تحويلها إلى المقاييس العصرية.(6/3129)
قال السائل - عافاه الله -
المبحث الثاني ما المعتمد الذي لا وجه بخلافه كون القصر في السفر رخصة (1)؟ فإن قيل: إنه رخصة، فما الجواب عن حديث عائشة - رضي الله عنها -الذي اتفق على
_________
(1) الرخصة لغة: مشتقة من الرخص وهو السير والسهولة يقال: " رخص الشارع في كذا ترخيصا " و" أرخص إرخاصا ": إذا يسره وسهله.
وهو مشتق من اللين يقال: " قضيب رخص " أي طري لين.
فالرخصة في الجملة هي عبارة عن السهولة واليسر والمسامحة واللين.
وقيل خرصة بتقديم الخاء حكاها الفارابي. كما ذكره الزركشي في " البحر المحيط " (1).
وانظر: " الصحاح " للجوهري (3)، " للقاموس المحيط " (ص321)، لسان العرب (5).
الرخصة في الاصطلاح: لقد اختلفت عبارات الأصوليين في تعريف الرخصة اصطلاحا. ونجد أنها كلها تتفق في معناها والمقصود منها.
الرخصة: " الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر ".
فاعلم أنه لا بد للأخذ بالرخصة من الأمور التالية:
1 - لابد من دليل يدل عليها للأخذ بها.
2 - أنه لا بد من وجود العذر في المكلف حتى يستطيع به أن يعدل عن الحكم الأصلي - الذي هو حكم العزيمة - إلى حكم الرخصة.
3 - أن أحكام الرخصة ليست في الأحكام الأصلية، بل أحكام وضعها الشارع للتخفيف عن المكلفين ولرفع الحرج والضيق عنهم فالرخصة تسهيل وتيسير من الشارع للمكلفين.
قال السبكي في تعريفه للرخصة: " الحكم الشرعي الذي تغير من صعوبة إلى سهولة لعذر مع قيام لسبب للحكم الأصلي.
انظر: " حاشية البناني على شرح المحلى على جمع الجوامع (1)، " الأشباه والنظائر " (ص650) للسيوطي. وقيل: أن الرخصة: ما وسع على المكلف فعله بعذر مع كونه حراما في حق من لا عذر له، أو وسع على المكلف تركه مع قيام الوجوب في حق غير المعذور.
انظر: " كشف الأسرار عن أصول البزدوي " (2) لـ (عبد العزيز النجاري) ط. 1394 هـ - بيروت.(6/3130)
إخراجه الشيخان (1): " أول ما فرضت الصلاة ركعتين. .. إلخ "، وما روي عن ابن عمر [2أ] موقوفا: " صلاة السفر ركعتين نزلتا من السماء، فإن شئتم فردهما " أخرجه الطبراني في " الصغير " (2) وقال: لم يرو أبو الكنود عن ابن عمر حديث غير هذا، ولا رواه الطبراني إلا قيس بن وهب تفرد به شريك. وأورده الهيثمي في " المجمع " (2) وقال رواه الطبراني في الصغير ورجاله موثقون. قال الهيثمي في " المجمع " (2/ 154 - 155) وعن مورق قال سألت ابن عمر عن الصلاة في السفر فقال ركعتين ركعتين من خالف السنة كفر ". رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح. (2): العزيمة لغة: مشتقة من العزم وهو القصد المؤكد يقال " عزم على الشيء " إذا عقد ضميره على فعله وأكده قال تعالى: (نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه: 115] أي قصدا بليغا متأكدا في العصيان. قال الجوهري في " الصحاح " (5): " عزمت على كذا عزما وعزما بالضم وعزيمة وعزيما: إذا أردت فعله ". ويطلق العزم على القطع ومنه قوله تعالى (فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمران: 159]. انظر: " لسان العرب ط (15)، " المصباح المنير " (2). العزيمة اصطلاحا: الحكم الثابت بدليل شرعي خال عن معارض. قوله: الحكم الثابت: أي الذي ثبت، واحترز بذلك عن الحكم غير الثابت وهو المنسوخ فلا يسمى عزيمة. لأنه لم يبق مشروعا أصلا. قوله: بدليل شرعي: أحترز به عن الثابت بدليل عقلي فإن ذلك لا تستعمل فيه الرخصة ولا العزيمة. قوله: " الحكم الثابت بدليل شرعي " يتناول جميع الأحكام الخمسة - الواجب، المندوب، الحرام، المكروه، المباح، فإن لكل واحد منها حكم ثابت بدليل شرعي. قوله: " خال عن معارض " احترز عما ثبت بدليل لكن لذلك الدليل معارض، مساو أو راجح حيث إن العزيمة تنتفي هنا. انظر: " نهاية السول " (1/ 70)، " البحر المحيط " (1) للزركشي، " الكوكب المنير " (1).
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1090) " ومسلم رقم (3).
قيل: دليل على وجوب القصر في السفر لأن فرضت بمعنى وجبت ووجوبه عند مذهب الهادوية والحنفية وغيرهم.
انظر: " الروض النضير " للسياغي (2) " التاج المذهب " للعنسي (1).
قال القرطبي في " المفهم " (2): واختلف في حكم القصر في السفر: فروي عن جماعة أنه فرض، وهو قول عمر بن عبد العزيز، والكفيين، وإسماعيل القاضي وهو مشهور مذهب مالك وجل أصحابه. .. ".
ثم قال: أكثر العلماء من السلف والخلف: أن القصر سنة، وهو قول أصحاب الشافعي ثم اختلف أصحاب التخيير: في أيهما أفضل؟ فقال بعضهم: القصر أفضل وهو قول الأبهري من أصحابنا وأكثرهم وقيل: إن الإتمام أفضل. .. ".
(2) وما نقله ابن سيد الناس أحمد ابن يحيى جابر البلاذري عند ذكر مسجده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: فنزل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على أبي أيوب - رضي الله عنه - إلى أن قال -: ونزل عليه تمام الصلاة بعد مقدمه بشهر "؟ انتهى. وإن قيل: إنه عزيمة(6/3131)
الجواب عن حديث عائشة الذي نقل (1) سيدي محمد الأمير (2) - رحمة الله - عن الدراقطني (3) تصحيحه " كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقصر في السفر، ويتم، ويصوم ويفطر " وحديثها أيضًا الذي أخرجه البيهقي (4) أنها اعتمرت معه - صلى الله عليه
_________
(1) في " سبل السلام " (3). بتحقيقي.
(2) أي محمد إسماعيل الأمير الصنعاني.
(3) في " السنن " (2/ 189 رقم 44) وقال: هذا إسناد صحيح.
(4) في " السنن الكبرى " (3) وقال: إسناد صحيح.
وذكر صاحب " التنقيح " أن هذا المتن منكر. فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعتمر في رمضان قط ". قلت: وهو حديث ضعيف.
قال ابن القيم في " زاد المعاد " (1) وقد روى: كان يقصر وتتم " وكذلك يفطر وتصوم أي: تأخد في بالعزيمة في الموضعين قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل ما كانت أم المؤمين لتخالف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجمع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم وفي الصحيح عنها رضي الله عنها: "إن الله فرض الصلاة ركعتين وركعتين فلما هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة زيد في الصلاة الحصر وأقرت صلاة السفر " -تقدم - فكيف يظن بها مع ذلك أنها تصلي خلاف صلاته وصلاة المسلمين معه. قلت: وقد أتمت عائشة بعد موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ابن عباس وغيره. إنها تأوله كما تأول عثمان. أخرجه مسلم في صحيحه رقم (685): قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم في السفر؟ قال: إنها تأولت ما تأول عثمان.
قال القرطبي في " المفهم " (2/ 327): وأولى ما قيل في ذلك - التأويل - أنهما تأولاً: أن القصر رخصة غير واجبة.(6/3132)
وآله وسلم - إلى أن فالت لرسول الله: بأبي أنت وأمي أتممت وقصرت، وأفطرت وصمت؟ فقال: " أحسنت ياعائشة "، وحديث القشيري الذي رواه سيد الناس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعث خيلا - إلى أن قال -: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " تعال أحدثك عن ذلك، إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصيام. .. إلخ ". قال ابن سيد الناس: قالوا: وضعه لا يكون إلا من فرض ثابت. وقال أيضا: ولم يقصر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - آمنا إلا بعد نزول آية القصر في الخوف، وكان نزولها بالمدينة، وفرض الصلاة بمكة، فظاهر هذا أن القصر صار على الإتمام انتهى.
وعن معنى قوله: (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) (1) ونفي الجناح (2) في آلاية انتهى.
أقول: ذهب إلى القول بوجوب القصر كثير من السلف والخلف. قال الخطابي في
_________
(1) [النساء: 101].
(2) قال القرطبي في " المفهم " (2) " الجناح " الحرج وهذا يشعر أن القصر ليس واجبا لا في السفر ولا في الخوف، لأنه لا يقال في الواجب: لا جناح في فعله.(6/3133)
المعالم (1) كان مذاهب أكثر علماء السلف، وفقهاء الأمصار أن القصر هو الواجب في السفر، وهو قول علي، وعمر، وابن عباس، وروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وقتادة، والحسن.
وقال حماد بن سلميان: يعيد من يصلي في السفر أربعا. وقال مالك: يعيد ما دام في الوقت. وقد نسب القول بالوجوب إلى النووي (2) إلى كثير من أهل العلم. ذهب إلى القول بأن القصر رخصة عائشة، وعثمان. وروي عن ابن عباس، والشافعي، وأحمد ونسبه النووي (3) إلى أكثر العلماء. احتج القائلون بالوجوب بحجج:
الأولى: ما ثبت في الصحيحين (4) وغيرهما (5) من حديث ابن عمر قال: صحبت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان. ويجاب عن هذا الاستدلال بأن مجرد الملازمة لا تفيد الوجوب.
الحجة الثانية: حديث عائشة المتفق عليه (6) بألفاظ منها: " فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر ". وهذا دليل ناهض على الوجوب، لأن صلاة السفر لما كانت مفروضة ركعتين لم تجز الزيادة عليها في الرباعية، كما أنها لا تجوز الزيادة على أربع في الحضر. وقد أجيب عن هذه الحجة بأنها من قول عائشة، وأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة. وأجيب عن ذلك بأن مثل هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه، فله حكم الرفع. وأما كونها لم تشهد زمان فرض الصلاة فليس ذلك بعلة
_________
(1) " معالم السنن " (2).
(2) في " المجموع " (4/ 220 - 222). وفي شرح لصحيح مسلم رقم (5).
(3) في " المجموع " (4/ 220).
(4) أخرجه البخاري وصحيحه رقم (1101) ومسلم رقم (8).
(5) كابي داود رقم (1233) والترمذي رقم (544) والنسائي (3/ 122و124) وابن ماجه رقم (1071).
(6) تقدم تخريجه.(6/3134)
قادحة، لأنه يمكن أن تأخذ ذلك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعد زمان فرض الصلاة، وبمكن أن تأخذ عن صحابي آخر، ومراسيل الصحابة حجة.
ومن الجملة (1) ما قيل في الكلام على حديث عائشة هذا أنه معارض بحديث ابن عباس [2ب] عن مسلم (2): " فرضت الصلاة في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين "، ويجاب عن هذا بأن الجمع (3) ممكن بأن يقال: أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين، إلا المغرب، ثم زيدت بعد الهجرة إلا الصبح كما رواه ابن خزيمة (4)، وابن حبان (5)، والبيهقي (6) عن عائشة قالت: " فرضت صلاة الحضر ركعتين ركعتين، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار ".
ومما أجاب به القائلون بأن القصر رخصة عن حديث عائشة أن المراد بقولها: " فرضت " أي قدرت (7)، وهو تأويل متعسف لا ينبغي التعويل عليه، ويدفعه قولها في الحديث: " فأقرت في السفر، وزيدت في الحضر ". ومنها قول النووي (8): أن المراد بقولها " فرضت " يعني لمن أراد الاقتصار عليه، وهذا أشد تعسفا من الوجه الذي قبله.
الحجة الثالثة: ما في الصحيح. ......................................
_________
(1) ذكره الحافظ في " الفتح " (1/ 464).
(2) في صحيحه (5).
قلت: وأخرجه أحمد (1) وأبو داود رقم (1247) والنسائي (3 - 119) وابن ماجه رقم (1072). وهو حديث صحيح.
(3) ذكره الحافظ في " الفتح " (1/ 464).
(4) في الصحيحه رقم (305).
(5) في صحيحه رقم (2738).
(6) في " السنن الكبرى " (3) وقال المحدث الألباني في تعليقه على الصحيح ابن خزيمة: " في إسناده ضعيف. .. وقد أخرجه أحمد (6، 265) من طريقين عن داود به منقطعا " اهـ.
(7) في شرحه لصحيح مسلم (2/ 570).
(8) في شرحه لصحيح مسلم (5).(6/3135)
مسلم (1) عن ابن عباس: " إن الله - عز وجل - فرض الصلاة على لسان نبيكم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعا، والخوف ركعة " وهذا الصحابي الجليل قد صرح بما هو المطلوب للقائلين بوجوب القصر، لأن صلاة المسافر إذا كانت مفروضة ركعتين لم يحل له أن يخالف ما فرضه الله عليه.
الحجة الرابعة: حديث عمر عند النسائي (2) صلاة الأضحى ركعتين، وصلاة الفجر ركعتين، وصلاة السفر ركعتين، تمام غير قصر، على لسان محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - " وأخرجه أيضًا أحمد (3) وابن ماجه (4)، ورجال الحديث رجال الصحيح، إلا يزيد بن أبي الجعد فقد وثقه أحمد وابن معين (5). وقد روي من طريق أخر بأسانيد رجالها رجال الصحيح، وفيه التصريح بأن صلاة السفر مفروضة كذلك، وأنها تمام غير قصر.
والحجة الخامسة: ما أخرجه النسائي (6) عن ابن عمر قال: " أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر.
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) في " السنن " (3 رقم 1566).
من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر. قال النسائي: لم يسمعه من عمر، وكان شعبة ينكر سماعه منه.
قال الحافظ في " التلخيص " (2): وسئل ابن معين عن رواية جاء فيها في هذا الحديث عنه سمعت عمر؟ فقال: ليس بشيء. وقد رواه البيهقي بواسطة بينهما وهو كعب بن عجزة، وصححها ابن السكن.
(3) في " المسند " (1).
(4) في " السنن " رقم (1064) وهو صحيح.
(5) ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (4/ 412).
(6) لعله في السنن الكبرى للنسائي في " السنن الصغرى " (3) بمعناه من حديث أمية بن عبد الله بن أسيد. بسند صحيح.(6/3136)
واحتج القائلون بأن القصر رخصة بحجج:
الحجة الأولى: قوله تعالى: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) (1) قالوا: ورفع الجناح لا يدل على العزيمة، بل يدل على الرخصة. (2)
وأجيب بأن الآية وردت في قصر الصفة في صلاة الخوف، لا في قصر العدد، وهي أيضًا قد اقتضت قصرا يتناول قصر الأركان بالتجفيف، وقصر العدد بنقصان ركعتين. وقيد ذلك بأمرين: الضرب في الأرض، والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصران، فيصلون صلاة الخوف بقصور عددها وأركانها، وإن انتفى الأمران وكانوا آ منين مقيمين انتفى القصران فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإن وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان، واستوفي العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، وإن وجد السفر والأمن قصر العدد، واستوفيت الأركان، وصليت صلاة أمن. وهذا أيضانوع قصر وليس بالقصر المطلق. وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامة [3أ] باعتبار إتمام أركانها، وأنها لم تدخل في الآية كذا قال المحقق ابن القيم (3) وما أحسن ما قال!.
والحجة الثانية لهم: ما أخرجه مسلم (4) وأهل السنن (5) غيرهم (6) من حديث يعلى ابن أمية قال: قلت لعمر ابن الخطاب: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فقد أمن الناس! فقال عجبت مما
_________
(1) [النساء: 101].
(2) ذكره الحافظ في " الفتح " (1).
(3) في " زاد المعاد " (1/ 128).
(4) في صحيحه رقم (4/ 686).
(5) كأبي داود رقم (1199) والترمذي رقم (3037) والنسائي (3/ 116).
(6) كأحمد (1/ 25).(6/3137)
عجبت منه، فسألت رسول الله فقال: " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقتة " قالوا: فقوله: " صدقة " يدل على عدم الوجوب.
ويجاب عن هذا بأن محل النزاع هو وجوب القصر، وقد قال: فاقبلوا صدقته " ومعنى الأمر الحقيقي الوجوب، فالحديث عليهم لا لهم.
الحجة الثالثة: ما روي أن الصحابة كانوا يسافرون مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فمنهم القاصر، ومنهم المتم، ومنهم الصائم، ومنهم المفطر؛ لا يعيب بعضهم على بعض. كذا قال النووي في شرح مسلم (1) وقد عزي هذا إلى صحيح مسلم (2) ولم نجده فيه (3).
ويجاب عنه بأن لم يكن فيه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - اطلع على ذلك وقررهم عليه. وقد نادت أقواله وأفعاله بخلاف ذلك. وقد أنكر جماعة منهم على عثمان لما أتم بمنى (4).
والحجة الرابعة لهم: ما أخرجه النسائي (5)، والدارقطني (6)، البيهقي (7)، عن عائشة قالت: خرجت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في عمرة في رمضان فأفطر
_________
(1) (7 - 237).
(2) بل أخرجه مسلم في صحيحه رقم (99/ 1118).
(3) قلت: وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (1947): عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنا نسافر مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.
وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (97) من حديث أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله.
(4) انظر " فتح الباري " (2).
(5) في " السنن " (3).
(6) في " السنن " (2 رقم 44) وقال: هذا إسناد صحيح.
وأخرجه (2 رقم 39، 40) وقال: الأول متصل وهو إسناد حسن وعبد الرحمن قد أدرك عائشة ودخل عليها وهو مراهق وهو مع ابيه وقد سمع منها. وقد تقدم وهو حديث ضعيف.
(7) في " السنن الكبرى " (3/ 142) وقال إسناده صحيح.(6/3138)
وصمت، وقصر وأتممت، فقالت: بأبي وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت فقال: " أحسنت يائشة " قال الدارقطني (1): وهذا إسناده حسن.
ويجاب عنه بأن في إسناده العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن يزيد، والأسود النخعي عنها، والعلاء بن زهير قال فيه ابن حبان (2) كان يروي عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الأثبات، وقال ابن معين (3): ثقة. وقد اختلف في سماع عبد الرحمن منها. قال الدارقطني: أدرك عائشة ودخل عليها وهو مراهق، وقال أبو حاتم (4): أدخل عليها وهو صغير، ولم يسمع منها.
قال أبو بكر النيسابوري: من قال فيه عن عائشة فقد أخطأ، ومع هذا فقد اختلف قول الدارقطني (5) فيه، فقال في السنن: إسناده حسن، وقال في العلل: المرسل أشبه (6) وقال البدرالمنير (7) إن في متن هذا الحديث نكارة وهو كون عائشة خرجت معه في رمضان للعمرة، والمشهور أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يعتمر (8) إلا أربع عمر ليس منهن شيء في رمضان، بل كلهن في ذي القعدة، إلا التي مع حجته فكان إحرامها في ذي القعدة، وفعلها في ذي الحجة قال: هذا هو المعروف في الصحيحين (9)
_________
(1) في " السنن " (2/ 188).
(2) في " المجرحين " (2).
(3) انظر " الميزان " (3 رقم 5731).
(4) في " المراسيل " (ص129 رقم 464).
(5) تقدم ذكره.
(6) ذكره الحافظ في " التلخيص " (2/ 92).
(7) ذكره النووي في " المجموع " (4/ 218).
(8) ذكره النووي في " المجموع " (4/ 218).
(9) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1778) ومسلم رقم (217) عن قتادة أن أنسا- رضي الله عنه - أخبره أن رسول الله اعتمر أربع عمر: كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته. عمرة من الحديبية أو زمن الحديبية في ذي القعدة وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة وعمرة من جعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته.(6/3139)
وغيرهما.
وقد وجه ذلك بعض أهل العلم بتوجيهات متعسفة لا ينبغي الاعتماد عليها، خصوصا مع مخالفة هذا الحديث لأقوال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الصريحة، وأفعاله الصحيحة. وقال ابن حزم (1): هذا الحديث لا خير فيه، وطعن فيه، ورد عليه ابن النحوي بما لا يصلح للرد. قال في الهدي (2) بعد ذكر لهذا الحديث: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا حديث كذب على عائشة.
الحجة الخامسة لهم: ما أخرجه الدارقطني (3) عن عائشة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يقصر في السفر، ويتم، ويفطر ويصوم. قال بعد أخراجه: إسناده صحيح.
ويجاب عنه بأن الإمام أحمد استنكره كما حكى ذلك صاحب التلخيص (4) وقال: وصحته بعيدة، فإن عائشة كانت تتم يعني بعد موت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -[3ب]- كما ذكر عروة أنها تأولت كما تأول عثمان كما في الصحيح (5)، فلو كان عندها عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - رواية لم ينقل عروة أنها تأولت ما تأول عثمان.
قال في الهدي (6): وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -.
وبالجملة فهذا الحديث وأشباهه لا يقوى على معارضة بعض حجج القائلين بوجوب
_________
(1) في " المحلى " (4/ 299).
(2) " زاد المعاد " (1).
(3) تقدم وهو حديث ضعيف.
(4) " تلخيص الحبير " (2/ 92 - 93).
(5) تقدم تخريجه.
(6) (1/ 472).(6/3140)
القصر فضلا عن كلها، فالحق أن القصر عزيمة لا رخصة، وأنه متعين على كل مسافر إذا وجد المقتضى وفقد المانع.(6/3141)
قال السائل - عافاه الله -:
المبحث الثالث:
عن مدة الإقامة التي إذا عزم المسافر عليها هل حد كما قال ابن عباس (1): " من أقام سبعة عشر يوما، ومن أقام أكثر من ذلك أتم " وكذلك ما روي عن ابن عمر (2): " كان إذا أجمع المكث، وإذا كان اليوم إذا قصر "!. وهل إباحته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للمهاجر أن يقيم بمكة أيام يكون حدا بين السفر والإقامة كما قد قال به من قال، أو لا حد لها، لأنه لم يعلم منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد زاد على سبعة عشر أو عشرين كما في حديث جابر (3) في غزوة تبوك أتم؟ وهل هناك فرق بين إذا كانت الإقامة لحرب كما نقله أن ابن عمر في أيام حصار أذربيجان قصر ستة أشهر (4)، ولما أراد الجوار بمكة أتم أم لا فرق؟ وهل جاور بمكة؟ وهل القصر بمنى وعرفات للسفر أو للنسك، وما حال سكان منى وعرفات أقصر صلاتهم في حجهم مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أم أتموا؟ وهل ورد عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لأهل منى وعرفات: " أتموا " كما قال في مكة لأهلها (5) أم
_________
(1) أخرجه أبو داود في " السنن " رقم (1230) وهو حديث صحيح.
(2) انظر " المغني " (3 - 149).
(3) أخرجه أبو داود في " السنن " وهو حديث صحيح.
عن جابر- رضي الله عنه -: أقام بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة.
(4) أخرجه البيهقي في " المعرفة " (4/ 274 رقم 6148) وفي " السنن الكبرى " (3) عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: " ارتح علينا الثلج ونحن بأذربيجان ستة أشهر في غزاة، قال ابن عمر: فكنا نصلى ركعتين ".
قال النووي: وهذا سند على شرط الصحيحين كما في " نصب الراية " للزيلعي (2).
(5) أخرجه أبو داود رقم (1229) بإسناد ضعيف فيه زيد ابن جدعان. ضعيف. عن عمران ابن حصين قال: شهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشر ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول " يا أهل البلد صلوا أربعا فإنا قوم سفر ".(6/3142)
لم يكن فيها مستوطن؟ انتهى.
أقول: قد اختلفت أقوال السلف ومن بعدهم في قدر المدة المعتبرة للمسافر مع تردده، فذهب قوم إلى أنها شهر، وذهب آخرون إلى أنها عشون يوما، وذهب البعض إلى أنها ستة أشهر. وذهب البعض إلى أنها أربعة أشهر. وذهب قوم إلى أنها أربعة أيام، وليس لكل من هذه الأقوال متمسك ينبغي الكلام عليه حتى نسوقه ونسوق الجواب عليه، وأرجحها قول من اعتبر العشرين، ووجه ذلك أن المسافر إذا أقام ببلده وحط رحله، وذهب عنه وعثاء السفر فهو بالمقيم أشبه منه بالمسافر، ولولا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قصر الصلاة عند إقامته في مكة (1)، وعند إقامته في تبوك (2) لكان الأصل التمام، فينبغي أن يقتصر على المقدر الذي قصر فيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ويتم المسافر الصلاة إذا زاد عليه مع التردد لا القصر، فقال: ومن أين لنا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لو أقام في ذينك الموطنين زيادة على المقدار أتم، لأنا نقول: التمام مع الإقامة هو الأصل فلما قصر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - شرع لنا القصر مع الإقامة إلى ذلك المقدر، والأصل عدم جواز القصر بعد تلك المدة، ولم يدل دليل على جوازه بعدها فيجب الاقتصار على ما وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من القصر في ذينك الموطنين، ويرجع فيما زاد إلى الأصل لعدم الدليل الدال على الجواز. وقد أخرج أحمد (3)، وأبو داود (4)، وابن حبان (5)،. .........................
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (1080) عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: أقام النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسعة عشر يوما يقصر وفي لفظ: بمكة تسعة عشر يوما.
(2) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(3) في " المسند " (3).
(4) في " السنن " (1235).
(5) في صحيحه رقم (2738).(6/3143)
والبيهقي (1)، وابن حزم (2) والنووي (3) عن جابر: أقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة. وقد أعل بما لا يقدح في الاحتجاج به. وأخرج أبو داود (4)، والترمذي (5) وحسنه البيهقي (6) عن عمران بن حصين قال: غزوت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين يقول: " يا أهل مكة، صلوا أربعا، فإنا سفر " في إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
وأخرج أحمد (7) [4 أ]، والبخاري (8)، وابن ماجه (9) عن ابن عباس قال: لما فتح النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مكة أقام فيها تسع عشرة يصلى ركعتين قال: " فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسعة عشر ليلة قصرنا، وإن زدنا أتممنا " ورواه أبو داود (10) بلفظ سبع عشرة بتقديم السين.
وقد روي أنه أقام خمس عشرة أخرجه النسائي (11)، وأبو داود (12)،. ....
_________
(1) في " السنن الكبرى " (3) وهو صحيح.
(2) في " المحلى " (5/ 25 - 26).
(3) في " المجموع " (4/ 240).
(4) في " السنن " رقم (1229).
(5) في " السنن " رقم (545).
(6) في " السنن الكبرى " رقم (3/ 151). وقد تقدم وهو حديث ضعيف.
(7) في " المسند " (1).
(8) في صحيحه رقم (1080).
(9) في " السنن " رقم (1075).
(10) في " السنن " رقم (1230). وهو حديث صحيح.
(11) في " السنن الكبرى " رقم (3/ 151).
(12) في " السنن " رقم (1231). قال أبو داود: روى هذا الحديث عبدة بن سلميان وأحمد بن خالد الوهبي، وسلمة عن ابن إسحاق، لم يذكروا فيه ابن عباس.(6/3144)
وابن ماجه (1)، والبيهقي (2) عن ابن عباس. قال البيهقي: أصح الروايات في ذلك رواية البخاري (3)، وهي رواية تسع عشرة بتقديم التاء: ولا يخفاك أن هذه الرواية وإن كانت أصح من غيرها فذلك لا ينافي وجود الصحة المعتبرة في رواية العشرين (4).
وقد صححها من قد بينا في ذلك، وهي مشتملة على الزيادة، فالاعتبار بها على أن الترجيح بين الروايات إنما وقع للحفاظ في الإقامة بمكة. وقد جاء في الإقامة بتبوك ما فيه الزيادة التي لم تقع منافية لما دونها، فكان المصير إلى ذلك محتما. والأخذ به لازما، فالحق أن المقيم متردد لا يزال يقصر إلى عشرين يوما ثم يتم، لما قدمنا. ولا يجوز التمسك بما روي عن بعض الصحابة من القصر مع الإقامة أكثر من عشرين، فليس في ذلك حجة. ولا فرق بين الإقامة لحرب وأغيره لما عرفت.
وما ذكره السائل بقوله: وما حال سكان منى وعرفات. .. إلخ.
فيقال: حالهم كحال أهل مكة يلزمهم التمسك بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأهل مكة: " أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر " (5) فقد ثبت بهذا حكم غير أهل مكة كما ثبت حكم أهل مكة، ولا يحتاج إلى أن يطلب هل قال لهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مثل ما قال لأهل مكة أم لا؟
_________
(1) في " السنن " رقم (1076).
(2) في " السنن الكبرى " (3/ 151).
وهو حديث ضعيف. انظر " الإرواء " (3 - 27).
(3) في صحيحه رقم (1080).
(4) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(5) تقدم تخريجه.(6/3145)
قال السائل - عافاه الله -:
المبحث الرابع:
إذا قلنا بفرضية صلاة المسافر ركعتين، فهل يجوز له أن يصليها أربعا كما عن الطبري أنه قال: يحتمل أن قول عائشة فرضت الصلاة ركعتين في السفر يعني إن اختار المسافر أن يكون فرضه ركعتين فله ذلك، وإن اختار أن يكون أربعا فله ذلك، وشبهه بتأخر الحاج وتعجله في منى قال: إن تأخر فعن فرضه أقام، وإن تعجل فعن فرضه نفر. وأي ذلك فعل فعل صوابا، وهل قوله هذا صحيح وله وجه تسلى النفس إليه أم لا؟ انتهي.
أقول: قد عرفناك فيما تقدم أن القصر عزيمة بالأدلة الصحيحة التي لا تحتمل التأويل، وهذا التأويل الذي ذكره الطبري ليس بشيء، ولم تلجئ إليه ضرورة، ولا دعت إليه الحاجة.(6/3146)
قال السائل - عافاه الله -:
المبحث الخامس:
لو اقتدى قاصر بمنتم أيلزم كما نقل عن ابن عباس أنه سئل ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد، وأربعا إذا ائتم بمقيم؟: " إن ذلك من السنة " (1) أن القصر لأنه باق في سفره؟ وهل هناك دليل على واحد منهما غير ما ذكر؟ انتهى.
أقول: إذا ثبت وجوب القصر بأدلته المتقدمة كان تخصيص بعض الأزمنة أو الأمكنة أو الأحوال أو الأشخاص بأنه يتم محتاجا إلى دليل يصلح للتخصيص، ولم يبلغنا أنه اقتدى مسافر بمقيم في حضرته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ولا ثبت لنا أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ذلك فأجاب. ولكن الخبر أن ابن عباس أعلم بسنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فإذا ثبت عنه أنه قال: إتمام المسافر بعد المقيم من السنة،
_________
(1) أخرجه أحمد (1).
قال ابن قدامة في " المغني " (3/ 143 - 144): " إذا دخل مع مقيم، وهو مسافر أتم ". وجملة ذلك أن المسافر متى ائتم بمقيم لزمه الإتمام، سواء أدرك جميع الصلاة أو ركعة، أو أقل. قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن المسافر، يدخل في تشهد المقيمين؟ قال: يصلي أربعا. وروي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وجماعة من التابعين، وبه الثوري، والأوزاعي، والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. ..
ثم قال: ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفا.
وقد أخرج البخاري في صحيحه رقم (1082) ومسلم رقم (17) والنسائي (3) عن ابن عمر قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى ركعتين وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر وعثمان صدرا من خلافته، ثم إن عثمان صلى بعد أربعا، فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعا وإذا صلاها وحده صلى ركعتين.
قال القرطبي في " المفهم " (2 - 336): فإن عمر وابن مسعود كانا يصليان معه، ويتمان مع اعتقادهما: أن القصر أولى وأفضل، لكنهما اتبعاه لأن الإتمام جائز، ومخالفة الإمام فيما رآه مما يسوغ ممنوعة ويحتمل: أن يريد بالإمام هنا: أي إمام اتفق من أئمة المسلمين، ويعني به، أن ابن عمر إذا صلى خلف مقيم أتم تغليبا لفضلة وبحكم الموافقة فيما يجوز أصله.(6/3147)
فالتمسك بذلك واجب، وبه تخصيص أدلة وجوب [4 ب] القصر، ولا بد من تصحيح هذا الحديث حتى يبلغ إلى درجة الاعتبار، وينتهض للتخصيص، فهاهنا جسر عظيم هو أدلة وجوب القصر التي قدمنا ذكرها، ولا يجوز أن يجوزه أحد إلا بحقه، والبقاء على ما تقتضيه الأدلة الصحيحة متحتم حتى يرد ما نصه لتخصيصها، وأين ذاك؟ ولا سيما مع احتمال لفظ السنة.
وعلى كل حال فينبغي للمسافر أن يتجنب الائتمام بالمقيم، لأنه يدخل نفسه في أحد الخطرين، إما مخالفة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن الاختلاف على الأئمة، وأوجب علينا الاقتداء بهم وقال: " إنما جعل الإمام ليؤتم به. .. " (1) الحديث، فإن وقع في مثل ذلك اقتدى به في الركعتين الآخرتين من صلاته. ولا يدخل معه في الأوليين، فإن دخل معه فيهما فقد عرض نفسه للاختلاف على إمامه أو مخالفة أدلة وجوب القصر، فليوازن بين الخطرين بما يؤدي إليه اجتهاده.
_________
(1) تقدم تخريجه. انظر الرسالة رقم (83).(6/3148)
قال السائل - عافاه الله -:
المبحث السادس:
ما المقرر في الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، أهو خاص بعرفات ومزدلفة كما ذهب إليه طائفة منهم الحسن، وابن سيرين، ونقل عن ابن القيم أنه قال: لم ينقل عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الجمع وهو [نازل] (1) إلا بعرفة ومزدلفة. أم وهو جائز فيهما، وفيما إذا كان على ظهر سير، وفيما إذا جد به السير كما في الرواية البخاري عن ابن عباس، وابن عمر، أو مطلقا كما في روايته عن أنس؟ وهل هو خاص بالسفر كما في هذه الروايات، أو فيه وفي الحضر كما في رواية أبي داود (2) وغيره (3) عن ابن عباس - رضي الله عنه -: " جمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر " فقيل لابن عباس: ما أدرك إلى ذلك قال: " لا أراد ألا يحرج أمته " ولذلك جمعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعرفة ومزدلفة إن جمع معه مستوطنوهما يصدق عليه أنه جمع بحضر إلا أن يثبت أنه نبه عليهم في ترك الجمع كما قال لأهل مكة في القصر: " أتموا " (4)؟ وهل هناك فرق ثابت بدليل بين جمع التقديم وجمع التأخير حتى يقال: أن حديث ابن عباس لا يحتج به، لأنه غير معين لجمع تأخير ولا تقديم؟ فإن وجد الدليل على أن أهل عرفة ومزدلفة لم يجمعوا، وإلا فما الجواب عن ما أخرجه الترمذي (5) عن ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -:
_________
(1) في الأصل بياض ولعل ما أثبتناه يتم العبارة.
(2) في " السنن " رقم (1208، 1206).
(3) كمسلم في صحيحه (52) و (51) والترمذي رقم (553، 554) والنسائي (1) وابن ماجه رقم (1070) وقد تقدم وهو حديث صحيح.
(4) تقدم تخريجه.
(5) في " السنن " رقم (188) قال الترمذي هذا هو أبو على الرحبي وهو " حسين بن قيس " وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أحمد وغيره.
وهو حديث ضعيف جدا. انظر " الضفيعة " رقم (4581).(6/3149)
" من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر "؟ وهل تأول حديث ابن عباس في الجمع في الحضر بأنه الصوري (1) مطابق لقول ابن عباس: أواد ألا يحرج أمته؟ فإن وإن كان أيسر من حيث أنه يكفي للصلاتين تأهب واحد إلا أنه من حيث مراقبة آخر وقتي الظهر والمغرب، وأول وقتي العصر والعشاء لا يخلو فيما يظهر عن حرج والله اعلم.
أفتونا بالأدلة الساطعة، والبراهين القاطعة التي تطمئن إليها القلوب، ويدان بها علام الغيوب، والتحقيق الذي تخمد به نار الخلاف - أن شاء الله - مأجورين من فضل الله. والسلام.
أقول: أما الجمع بمزدلفة فقد ثبت بالأدلة الصحيحة، وكذلك الجمع للسفر فقد ثبت تأخيرا بالأدلة الصحيحة (2) في الصحيحين وغيرهما، وثبت تقديما بالأدلة الحسنة الثابتة فيما عدا الصحيحين من دواوين الإسلام، وكذلك الجمع للمطر (3) [5أ] ثبت. ..............................
_________
(1) انظر تفصيل ذلك في الرسالة رقم (84) انظر " الضعيفة " رقم (4581).
(2) (منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1092) ومسلم (42) وأبو داود رقم 1207، 1217) والترمذي رقم (555) والنسائي (1، 289) من حديث ابن عمر قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء وفي رواية قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعجله السير في السفر يؤخر صلاة المغرب، حتى يجمع بينها وبين صلاة العشاء.
ومنها ما أخرجه البخاري رقم (1111) ومسلم رقم (46، 48/ 704) وأبو داود رقم (1218، 1219) والنسائي (1، 258).
من حديث أنس بن مالك قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما. فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب.
وفي رواية: يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر.
(3) انظر " المغني " (3) قال ابن قدامة: ويجوز الجمع لأجل المطر بين المغرب والعشاء ويروى ذلك عن ابن عمر وفعله أبان بن عثمان في أهل المدينة وهو قول الفقهاء السبعة ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق ويروى عن مروان، وعمر ابن عبد العزيز، ولم يجوزه أصحاب الرأي.(6/3150)
بأدلته (1).
وأما الجمع من غير عذر ولا مطر ولا سفر فقد أطال أهل العلم الكلام فيه، وألفوا في ذلك رسائل في كل عصر خصوصا هذه العصور القريبة، وإلى عصرنا الآن. فالمسوعون للجمع مطلقا تمسكوا بما في الصحيحين (2) وغيرهما من حديث ابن عباس: " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء ".
وأخرج أحمد، ومسلم (3)، وأهل السنن إلا ابن ماجه عنه بلفظ: " جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر " قيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته " وفي لفظ من غير خوف ولا سفر.
وقد أجاب الجمهور القائلون بعدم جواز الجمع لغير عذر عن هذا الحديث بأجوبة منها: أن الجمع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان لعذر المرض وقواه النووي (4). وليس هذا الجواب صحيح ولا قوي، فإنه لو كان الجمع لعذر المرض لبينه راوي الحديث، ولما صلى معه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلا من كان له مثل ذلك العذر. وقد وقع التصريح في بعض الروايات بأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - جمع بأصحابه.
ومن جملة (5) ما أجابوا به أنه كان في غيم ثم انكشف الغيم فبان أن وقت العصر قد دخل. وهذا جواب متعسف، فإن مثل هذا ما كان يخفى على الراوي ولا كان لقوله: لئلا يحرج أمته " معنى.
ومما أجابوا به بأن الجمع المذكور صوري بأن يكون آخر الأولى إلى آخر وقتها، وقدم
_________
(1) انظر هذه الآثار في " المغني " (3 - 133).
(2) تقدم تخريجه. وانظر الرسالة رقم (84). من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).
(3) تقدم تخريجه. وانظر الرسالة رقم (84). من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).
(4) في شرحه لصحيح مسلم (5/ 281).
(5) في شرحه لصحيح مسلم (5/ 281).(6/3151)
الثانية في أول وقتها. قال النووي (1): وهذا احتمال ضعيف أو باطل، لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل. قال الحافظ ابن حجر (2): وهذا الذي ضعفه قد استحسنه القرطبي (3)، ورجحه إمام الحرمين، وجزم به من القدماء ابن الماجشون، والطحاوي، قواه ابن سيد الناس بأن الشعثاء وهو راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به انتهى (4).
ومما يؤيد حمل هذا الجمع على الجمع الصوري ما أخرجه النسائي (5) عن ابن عباس بلفظ: " صليت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الظهر والعصر جمعا، والمغرب والعشاء جمعا، أخر الظهر، وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء " فهذا تفسير ابن عباس الراوي لحديث الجمع، وكفى به حجة على بيان ماهية هذا الجمع الذي أطال الناس الكلام فيه، وغلا فيه من غلا حتى أخرجوا الصلوات عن أوقاتها المضروبة لها المبينة بتعليم جبريل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وتعليم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه كما ثبت بذلك الأحاديث الصحيحة، وخالفوا ما كان عليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - منذ بعثه الله - سبحانه - إلى أن قبضه من الإتيان لكل صلاة في وقتها المضروب لها، وكذلك أصحابه في حياته وبعد موته.
ومما يؤيد ذلك ما أخرجه البخاري (6) ومسلم (7) وغيرهما (8) عن عمرو بن دينار أنه قال
_________
(1) في شرحه لصحيح مسلم (5).
(2) في " الفتح " (2).
(3) في " المفهم " (2).
(4) أي كلام ابن حجر في " الفتح " (2).
(5) في " السنن الكبرى " (1 رقم 1573).
(6) في صحيحه رقم (1174).
(7) في صحيحه رقم (55).
(8) كأبي داود رقم (1210 - 1214). والترمذي رقم (187) والنسائي (1).(6/3152)
يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظنه. وأبو الشعثاء هو راوي الحديث عن ابن عباس.
ومما يؤيد ذلك ما أخرجه البخاري (1)، ومالك في الموطأ (2)، وأبو داود (3)، والنسائي (4)، عن ابن مسعود قال: " ما رأيت لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -[5ب]- صلى لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة " ففي هذا من ابن مسعود التصريح بأنه لم يقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الجمع الحقيقي إلا بالمزدلفة، وقد كان أكثر الصحابه ملازمة لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فأفاد ذلك أن الجمع غير الحقيقي بل صوري جمعا بين حديث ابن عباس، وحديث ابن مسعود هذا. ويزيد هذا تأكيدا أن ابن مسعود أحد رواة حديث الجمع كما بينت ذلك في غير هذا الموضع، فلا بد من الجمع بين روايتيه بما ذكرنا.
ومن المؤيدات لذلك ما أخرجه ابن جرير عن ابن عمر قال: " خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فكان يؤخر الظهر ويعجل العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء فيجمع بينهما " وهذا هو الجمع الصوري. وابن عمر ممن روى جمعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة كما أخرج ذلك عبد الرزاق عنه. فهؤلاء الصحابة الذين رووا ذلك الجمع فسروه بالصوري، وكذلك فسره بعض الرواة عنهم فلم يبق حينئذ ما يشكل في المقام. فإن قلت: قد زعم بعضهم أن الجمع الصوري لم يرد عن الشارع ولا عن أهل الشرع.
قلت: ما ذكرناه هاهنا يرد زعم هذا الزاعم، وقد ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال للمستحاضة: " وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر
_________
(1) في صحيحه رقم (1682) ومسلم في صحيحه رقم (1289).
(2) لم يخرجه مالك في الموطأ من رواية يحيى بن يحيى الليثي، ولا من رواية محمد بن الحسن الشيباني.
(3) في " السنن " رقم (1934).
(4) في " السنن " رقم (1 - 292 رقم 608) وهو حديث صحيح.(6/3153)
فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين " (1) ومثله في المغرب والعشاء، وهو ثابت في الأمهات من حديث ابن عباس، وابن عمر. وهذا هو الجمع الصوري بلا شك ولا شبهة. وقد زعم الخطابي (2) أنه لا يصح حمل الجمع المذكور على الجمع الصوري، لأنه يكون أعظم ضيقا من الإتيان بكل صلاة في وقتها، لأن أوائل الأوقات وأوخرها مما لا يدركه الخاصة فضلا عن العامة.
ويجاب عنه بأن الشارع قد بين أوقات الصلوات بعلامات حسية مشترك في العلم بها الخاصة والعامة، ومعلوم أن الخروج إلى الصلاتين مرة واحدة أخف من الخروج مرتين والضوء لها مرة واحدة أخف من التأهب لهما مرتين، فمن هذه الحيثية ظهر التخفيف وعدم الحرج، لأنه فعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - المستمر الدائم طول حياته من بعد أن بعثه الله إلى أن قبضه هو فعل كل صلاة في أول وقتها، وخفف عن امته بتشريع الجمع الصوري مع كونه فعلا لكل صلاة في وقتها المضروب لها، لكن الصلاة الأولى فعلت في آخر وقتها، والصلاة الأخرى فعلت في أول وقتها، وليس في ذلك إخراج يدل على شيء من الصلوات عن وقتها المضروب لها، ولا ورد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - شيء يدل على ذلك دلالة مطلقة تستلزم إخراج إحدى الصلاتين المجموعتين عن وقتها المضروب لها إلا في جمع مزدلفة (3)، وفي جمع السفر والمطر، فليعض الجامعون بين الصلوات على بنانهم، وليبكوا على تفريطهم
_________
(1) أخرجه أحمد (6، 381 - 382، 439 - 440) وأبو داود في " السنن " رقم (287) والترمذي رقم (128) وابن ماجه رقم (627).
قال الترمذي في " السنن " (1) سألت محمدا -البخاري- عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن. وهو كما قال.
(2) ذكره الحافظ في " الفتح " (2).
(3) تقدم ذكره.(6/3154)
في صلواتهم التي كانت على المؤمنين كتابا موقوتا، وليعلموا دخولهم تحت قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -[6 أ]-: " ليس التفريط في النوم، وإنما التفريط في اليقظة، وذلك بأن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت أخرى " (1) ودخولهم تحت قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من جمع بين الصلاتين فقد أتى بابا من أبواب الكبائر " (2) كما روي ذلك مرفوعا. وليعلموا أيضًا أنهم من القوم الذين يميتون الصلاة وقد ذمهم الشارع بما هو معروف.
والحاصل أنهم مخالفون لهديه الدائم المستمر منذ ثلاث وعشرين سنة، ومتمسكون بما هو خارج عن مطلوبهم خروجا أوضح من شمس النهار، وعلى نفسها براقش تجني. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. انتهى الجواب والله الموفق للصواب [6ب].
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (881) وأبو داود رقم (437) و (441) وأحمد (5) والترمذي رقم (177) والنسائي (1) وابن ماجه في صحيحه رقم (989) من طرق عن قتادة قال: قال سول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ليس في النوم تفريط إنما على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت صلاة أخرى ". وهو حديث صحيح.
(2) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف جدا.(6/3155)
سؤال عن لحوق ثواب القراءة المهداة من الأحياء إلى الأموات
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(6/3157)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (سؤال عن لحوق ثواب القراءة المهداة من الأحياء إلى الأموات).
2 - موضوع الرسالة: فقه.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، سألتم كثر الله فوائدكم ونفع بعلومكم عن لحوق ثواب القراءة المهداة من الأحياء. ..
4 - آخر الرسالة:. .. وفي هذا المقدار كفاية لمن هداية، والله ولي التوفيق كمل من تحرير جامعه القاضي البدر محمد بن علي الشوكاني حفظه الله ووفقه لما يرضاه، بحق محمد الأمين، وآله الأكرمين، وصحبه الراسين. في تاريخ صبح الخميس أحد أيام شهر ربيع الأول سنة 1208 هـ.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 6 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 28 سطر ما عدا الصفحة الأخيرة سبعة أسطر.
8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(6/3159)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله. سألتم - كثر الله فوائدكم - ونفع بعلومكم، عن لحوق ثواب القراءة المهداة من الأحياء إلى الأموات، وهل الراجح لحوق أولا؟ وأمرتم المحب بتحرير بحث في ذلك، فأقول: قد اختلف أهل العلم في اللحوق.
فذهب الشافعي (1) وجماعة والمعتزلة (2) إلى أنه لا يلحق الميت ثواب القراءة المهداة له بدون وصية.
وذهب أحمد بن حنبل (3) وجماعة من الشافعية، وحكاه صاحب زهرة الحقائق من الحنفية عن أهل السنة إلى أنه يلحق، وحكاه ابن الصلاح عن أكثر الناس، وجعله ابن النحوي المشهور، والمختار عند الشافعية.
احتج الأولون بقوله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (4)، ووجه الاستدلال بها ما فيها من العموم المشعور به من الصيغة الحصرية القاضية بأنه لا يكون للإنسان إلا سعيه، وينفي ما عداه عنه بطريق المفهوم على ما زعمه الجمهور، أو المنطوق على ما زعمه آخرون، وقد أجاب الآخرون عن هذه الآية بأجوبة:
الأول: أنها منسوخة (5) بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) كذا في شرح الكنز، ويجاب عن ذلك بأن النسخ إنما يثبت بعد العلم بتأخر الناسخ، لا بمجرد
_________
(1) انظر " المغني " (3).
(2) ذكره الآلوسي في تفسيره " روح المعاني " (27).
(3) ذكره الآلوسي في تفسيره " روح المعاني " (27).
(4) [النجم: 39].
(5) ذكره القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (17) وقال رواه ابن عباس. كذلك الرازي في تفسيره (29).(6/3163)
الاحتمال بالإجماع، وذلك غير حاصل ههنا. وأيضا الآية الثانية لا تصلح لنسخ جميع ما دلت عليه الأولى، على تسليم تأخرها، لأنها اشتملت على ما هو أخص مما اشتملت عليه مطلقا، والخاص لا ينسخ العام (1)، وغايتة أنها تصلح لنسخ ما تناولته على فرض تأخرها تأخرا متراخيا على ما ذهب إليه بعض أهل الأصول.
والجواب الثاني: أنه أريد بالإنسان (2) الكافر، ذكره أيضًا صاحب الكنز، ويجاب عن هذا الجواب بأن الإنسان يشتمل الكافر والمسلم لغة وشرعا وعرفا، فتخصيصه بالكافر إن كان بالسبب، أو بالسياق على فرض دلالتهما، أو أحدهما على ذلك، فهما لا يصلحان له لأن العام لا يقصر على سببه، ولا على ما دل عليه السياق كما تقرر في الأصول (3)، وإن كان الدليل آخر فما هو؟.
الجواب الثالث: أن ذلك ليس للإنسان من طرق العدل، وهو له من طريق الفضل، ذكره صاحب شرح الكنز أيضا، ويجاب عنه بأن الآية تقضي بعمومها على أن ذلك ليس للإنسان من غير فرق بين العدل والفضل، فالتخصيص بأحدهما لا بد له من دليل فما هو؟.
الرابع: أن اللام في قوله: " للإنسان " لمعنى على كما في قوله تعالى: (ولَهُمُ اللَّعْنَةُ)، أي: عليهم، ذكره أيضًا صاحب شرح الكنز، ويجاب بأن ورود اللام بمعنى على قليل نادر كما صرح بذلك أئمة اللغة (4) والإعراب، والتنازع فيه [1] يحمل
_________
(1) انظر " الكوكب المنير " (3).
(2) قال الربيع بن أنس: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) يعني الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره.
وقال الرازي في تفسيره (29) قيل: المراد من الإنسان الكافر دون المؤمن وهو ضعيف.
(3) انظر " الكوكب المنير " (3/ 187) " تيسير التحرير " (1).
(4) انظر " مغني اللبيب " (1 - 213).(6/3164)
على ما هو الأعم، لا على ما هو الأغلب، لا على ما قل ونذر باتفاق أهل العلم. ومن جملة ما احتج به الأولون ما أخرجه مسلم (1)، وأهل السنن (2) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " ووجه الاستدلال به التصريح بانقطاع عمل الإنسان، وهو عام لأنه مصدر مضاف. ويرشد إلى عمومه في خصوص المقام الاستثناء فأنه لا يكون إلا من العام، فدل على انقطاع كل عمل ما عدا الثلاث، كائنا ما كان.
ومما يستدل به للأولين قوله تعالى: (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى)؛ فإن الجزي أعم من الثواب والعقاب، ولكنه لا يخفى أن التنصيص على أنها تجزى كل نفس بما عملت لا يستلزم أنها لا تجرى بغيره، إذا تقرر لك عدم انتهاض ما أسلفناه من الأجوبة على الآية فاعلم أنه يمكن الاستدلال للحوق بأدلة تصلح لتخصيص ذلك العموم.
الأول: حديث ابن عباس عند البخاري (3) أن نفرا من أصحاب النبي - صلى الله
_________
(1) في صحيحه رقم (1631).
(2) أبو داود في " السنن " رقم (2880) والترمذي رقم (1376) والنسائي (6) وأحمد (2) والبيهقي في " السنن " (6).
قال القرطبي في " المفهم " (4) هذه الثلاث الخصال إنما جرى عملها بعد الموت على من نسبت إليه، لأنه تسبب في ذلك، وحرص عليه، ونواه، ثم إن فوائدها متجددة بعده دائمة فصار كأنه باشرها بالفعل، وكذلك حكم كل ما سنه الإنسان من الخير، فتكرر بعده، بدليل قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ".
- أخرجه أحمد (4، 358) ومسلم رقم (1017) والترمذي رقم (2675) والنسائي (5/ 75 - 76) وابن ماجه رقم (203).
(3) في صحيحه رقم (2537) وأطرافه (5007) و (5736) و (5749).(6/3165)
عليه وآله وسلم -: " مروا بماء فيهم لديغ، فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق؟ فإن في الماء رجلا لديغا، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء، فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرا، حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجرا، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ".
وقد أخرج هذه القصة الشيخان (1)، وأهل السنن (2)، وأحمد (3) من حديث أبي سعيد بأطول من هذا. ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - سوغ أخذ الأجرة على تلاوة القرآن؛ فدل على أنه يحصل للمتلو له بتلاوة التالي نفع، ويناله منها حظ، ولو كان أجرها للتالي فقط ما جوز له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أخذ الأجرة على التلاوة، لأنه يكون من أكل أموال الناس بالباطل، كيف، وقد جعل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - التلاوة أحق الأمور التي يؤخذ عليها الأجور، والأجر إنما يكون في مقابلة عمل انتفع به المؤجر كسائر الإجارات. ولا سبب يوجب مصير ثواب التلاوة إلى لمستأجر، ويثبت به انفصاله أو بعضه عن التالي إلا النية من التالي، ولا يصلح أن يكون غيرها عند من يعرف مسلك السير والتقسيم. وإذا كانت النية مؤثرة فلا فرق بين أن ينوي التالي أن نكون ثوابه لحي أو لميت بأجر أو بغير أجر، كما هو حق العمل بتنقيح المناط.
_________
(1) " البخاري رقم (2276) ومسلم في صحيحه رقم (2201).
(2) أبو داود رقم (3418) والترمذي رقم (2064) والنسائي " عمل اليوم والليلة " رقم (1028) في. وابن ماجه رقم (2506).
(3) في " المسند " (3). وهو حديث صحيح.
قال الحافظ في " الفتح " (4): واستدل الجمهور به في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وخالف الحنفية فمنعوه في التعليم وأجازوه في الرقى كالدواء قالوا لأن تعليم القرآن عبادة والأجرة فيه على الله.(6/3166)
فإن قلت: ربما كان سبب مصير [2] الثواب إلى المستأجر مجموع النية من التالي والأجرة.
قلت: لا شك أنه إذا جاز للإنسان تصيير هذا العمل إلى غيره بعوض جاز له تصييره إلى غيره بغير غوض، والأشباه والنظائر متفقة على ذلك، فإن لم يكن ذلك من باب فحوى الخطاب فهو من باب لحن الخطاب.
فإن قلت: ربما كان ما في الحديث مختصا بالرقية التي هي السبب في ذلك.
قلت: لا يشك من له علم بأساليب كلا م العرب أن قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أحق ما أخذتم إلخ (1) يدل على جواز ما هو أعم من القصة، والعبرة بما يستفاد من اللفظ، لا بما يقتضيه السبب من الخصوص، كما تقرر في الأصول.
فإن قلت: قد زعم بعض الحنفية (2) أن الأجر المذكور في الحديث هو الثواب.
قلت: يرد هذا الزعم سياق القصة، فإنهم لم يسألوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن الثواب الذي هو النفع الأخروي. إنما سألوه عن حل ما أخذوه من الأجرة.
الدليل الثاني: ما أخرجه. ...............................................................
_________
(1) وهذه زيادة في رواية البخاري عن ابن عباس رقم (2537).
(2) قال القرطبي في " المفهم " (5): وقد حرم أبو حنيفة أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وكذلك أصحابه تمسكا بأمرين:
أحدهما: أن تعلم القرآن وتعليمه واجب من الواجبات، التي تحتاج إلى التقرب والإخلاص فلا يؤخذ عليها أجر كالصلاة والصيام.
ثانيهما: ما رواه أبو داود رقم (3416) من حديث عبادة بن الصامت قال: علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن، وأهدى إلي رجل منهم قوسا فقلت: ليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله. فلآتين رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلأ سألنه فأتيته فسألته فقال: " إن كنت تحب أن تطوق قوسا من نار فاقبلها " وهو حديث صحيح.(6/3167)
الشيخان (1) وغيرهما (2) عن سهل بن سعد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - جاءته امرأة فقال: يا رسول الله، زرجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هل عندك شيء تصد قها إياه؟ فقال: ما عندي إلا إزاري هذه. فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، فالتمس شيئا فقال: ما أجد شيئا، فقال: التمس ولو خاتما من حديد "، فالتمس فلم يجد شيئا فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هل معك من القرآن شيء؟ " فقال: نعم، سورة كذا، وسورة كذا، وسورة كذا، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " قد زوجتكها بما معك من القرآن "، وفي رواية (3): " قد ملكتكها بما معك من القرآن ". ولمسلم (4): " زوجتكها تعلمها من القرآن ".
وفي رواية لأبي داود (5): "علمها عشرين آية، وهي امراتك " ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن الرجل المذكور أحل له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يطلب بتلاوته تفعا دنيويا لنفسه، ويلحق به طلب النفع لغيره بتنقيح المناط، إما بأجر، أو بغير أجر يلحق الخطاب أو بفحواه.
فإن قلت: التعليم إنما يحصل بتكرير التلاوة، فليس هو أمرا غيرها، ولا فرق بين تلاوة المرة والمرات. فإن قلت: قد زعم بعض أهل العلم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يزوجه
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5087) ومسلم رقم (77).
(2) كأبي داود رقم (2111) والترمذي رقم (1114) والنسائي (6).
(3) أخرجها البخاري رقم (5030) ومسلم رقم (76).
(4) في صحيحه رقم (77).
(5) في " السنن " رقم (2112) وهوحديث ضعيف.(6/3168)
بها على ما ظننت من التعليم، بل زوجه بها لأجل المزية التي استحقها بحفظ ذلك المقدار من القرآن، إكراما له، ولم يجعل التعليم الصداق (1).
قلت: يكفي في رد هذا الزعم ما قدمناه من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " زوجتكها [3] تعلمها من القرآن "، وقوله: " عملها عشرين آية ".
_________
(1) قال الحافظ في الفتح (9/ 212): قال المازري: " هذا ينبني أن الباء للتعويض كقولك بعتك ثوبي بدينار وهذا هو الظاهر، وإلا لو كانت بمعنى اللام على معنى تكريمه لكونه حاملا للقرآن فصارت المرأة بمعنى الموهوبة والموهوبة خاصة بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ".
قال القرطبي: في " المفهم " (4): قوله " علمها " نص في الأمر بالتعليم والمساق يشهد بأن ذلك لأجل النكاح. ولا يلتفت لقول من قال: إن ذلك كان إكراما للرجل بما حفظه من القرآن فإن الحديث يصرح بخلافه.
وقول المخالف: إن الباء بمعنى اللام ليس بصحيح لغة ولا مساقا وكذلك لا يعول على قول الطحاوي والأبهري إن ذلك كان مخصوصا بالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما كان مخصوصا بجواز الهبة في النكاح لأمور منها:
1 - مساق الحديث وهو شاهد لنفي الخصوصية.
2 - قوله الرجل، زوجنيها ولم يقل هبها لي.
3 - قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اذهب، فقد زوجتكها بما معك من القرآن، فعلمها.
4 - إن الأصل التمسك بنفي الخصوصية في الأحكام.
ثم قال: قال الجمهور على جواز كون الصداق منافع وهذا الحديث رد أبي حنيفة في منعه أخذ الأجر على تعليم القرآن ويرد عليه أيضًا قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " - وقد تقدم.
ثم قال: وقول الرجل: معي سورة كذا، وسورة كذا - عددها فقال: " اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن فعلمها " يدل: على أن القدر الذي انعقد به النكاح من التعليم معلوم، لأن قوله: " بما معك " معناه: بالذي معك وهي السور المعددة المحفوظة عنده، التي نص على أسمائها، قد تعينت المنفعة، وصح كونها صداقا وليس جهالة.
وانظر " فتح الباري " (9 - 213).(6/3169)
الدليل الثالث: ما أخرجه أبو داود (1)، وابن ماجه (2)، والنسائي (3)، وأحمد (4)، وابن حبان (5)، وصححه من حديث معقل بن يسار قال: قال رسول الله - صلى الله
_________
(1) في " السنن " رقم (3121).
(2) في " السنن " رقم (1448).
(3) في " عمل اليوم والليلة " رقم (1074)
(4) في " المسند " (5).
(5) في صحيحه رقم (3002).
قلت: أخرجه الحاكم (1) والبيهقي (3) والطيالسي (ص126 رقم 931).
قال الحاكم: " أوقفه يحيى بن سعيد وغيره عن سليمان التيمي، والقول فيه ابن المبارك، إذ الزيادة من الثقة مقبوله ". ووافقه الذهبي. ووافقها الألباني - رحمه الله - في " الإرواء " (3)، وقال: " ولكن للحديث علة أخرى قادحة أفصح عنها الذهبي في الميزان (4 رقم 10404) فقال في ترجمة أبي هذا: " عن أبيه، عن أنس، لا يعرف. قال ابن المديني: لم يرو عنه غير سليمان التيمي. قلت: أما النهدي فثقة إمام ".
قلت: وتمام كلام ابن المديني: " وهو مجهول " وأما ابن حبان فذكره في الثقات (8) على قاعدته في تعديل المجهولين.
ثم إن الحديث له علة أخرى. وهي الاضطراب. فبعض الرواة يقول: وعن أبي عثمان عن أبيه عن معقل وبعضهم: " عن أبي عثمان عن معقل " لا يقول " عن أبيه " وأبوه غير معروف أيضا. فهذه ثلاث علل:
1 - جهالة أبي عثمان.
2 - جهالة أبيه.
3 - الاضطراب.
وقد أعله ابن القطان كما في " تلخيص الحبير " (2). وقال: " ونقل أبو بكر بن العرب عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن.
وأما في مسند أحمد (4) من طريق صفوان: حدثني المشخية أنهم حضروا غضيف بن الحارث الثمالي حين اشتد سوقه، فقال: هل منكم من أحد يقرأ " يس" قال: فقرأها صالح بن شريح السكوني، فلما بلغ أربعين منها قبض، قال فكان المشيخة يقولون: إذا قرئت عند الميت خفف عنه بها. قال صفوان: " وقرأها عيسى بن المعتمر عند ابن معبد ".
قال المحدث الألباني - رحمه الله - في " الإرواء " (3): " فهذا سند صحيح إلى غضيف بن الحارث - رضي الله عنه -، ورجاله ثقات غير الشيخة، فإنهم لم يسمعوا، فهم مجهولون، لكن جهالتهم تنجبر بكثرتهم لا سيما وهم من التابعين، وصفوان هو ابن عمرو وقد وصله ورفعه عنه بعض الضعفاء بلفظ: "إذا قرئت. .. " فضعيف مقطوع، وقد وصله ورافعه عنه بعض المتروكين والمتهمين: " ما من ميت يموت فيقرأ عنده (يس) إلا هون الله عليه ". رواه أبو نعيم في " أخبار أصبهان " (1) عن مروان بن سالم عن صفوان بن عمرو عن شريح عن أبي الدرداء مرفوعًا به. ومروان هذا قال أحمد والنسائي: " ليس ثقة " وقال الساجي وأبو عروبة الحراني: " يضع الحديث " [الميزان (4) والمجروحين (3)] ومن طريقه رواه الديلمي إلا أنه قال: " عن أبي الدرداء وأبي ذر قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما في " تلخيص الحبير " (2). وخلاصة القول أن الحديث ضعيف والله أعلم.(6/3170)
عليه وآله وسلم -: " اقرءوا يس على موتاكم " ووجه الاستدلال به أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا يأمر إلا بما فيه نفع للميت؛ فلو كانت التلاوة غير نافعة له لكان الأمر ضائعا، ولم يقيد ذلك بوقوع وصية من الميت، فدل على أنه يلحق الميت ما يقرب به إليه من القرآن من غير فرق بين أن يكون التالي ولدا، أو غير ولد. وإذا نفع الميت تلاوة بعض من القرآن تفعه تلاوة البعض الآخر، والتنصيص على هذه السورة إنما هو لمزيد فضلها وشرفها، لكون ماله مزيد فضل وشرف أدخل في باب النفع بما هو دونه؛ وذلك لا يوجب نفي أصل النفع عن المشارك للأفضل إلا شرف في أصل الفضل، والشرف، وبهذا يتبين أن تخصيص هذه السورة بالذكر لا يدل على نفي هذه المزية عن غيرها، وهذا واضح. وغاية الأمر أن هذا الحديث يخصص عموم مفهوم تلك الآية والحديث بالنص في البعض، والقياس في الباقي، والتخصيص بالقياس مذهب فحول أئمة الأصول، ومجرد الأفضلية في الأصل لا يمنع الإلحاق، لأن أصل الفضل وصف جامع صالح لذلك.(6/3171)
فإن قلت: قد قيل أن المراد بالأموات في الحديث هم الأحياء الذين حضرتهم المنية.
قلت: هذا مجاز لا يجوز المصير إليه إلا لعلاقة وقرينة، فأين هما؟ حتى يخرج عن المعنى الحقيقي للفظ الأموات، على أنه يدفع دعوى ذلك المجاز ما أخرجه في مسند (1) الفردوس من طريق مروان بن سالم عن صفوان بن عمرو، عن شريح، عن أبي الدرداء، وأبي ذر قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ما من ميت، فيقرأ عنده يس إلا هون الله عليه ". وأخرج أبو الشيخ (2) عن أبي ذر وحده في فضل القرآن، وقال أحمد في مسنده (3): حديثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان قال: كانت المشيخة يقولون: إذا قرئت يعني: يس لميت خفف الله عنه بها.
الدليل الرابع: القياس على ما ورد في الحج عن الميت من غير الولد، كما في حديث المحرم عن شبرمة (4)، ولم يستفصله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هل أوصى شبرمة أم لا؟ والجامع كون الجميع قربة بدنية.
الدليل الخامس: القياس على الحديث الصحيح المتفق عليه (5): " من مات وعليه صيام، صام عنه وليه " والولي أعم من الولد، والجامع ما تقدم.
الدليل السادس: القياس على الدعاء، فإنه يلحق الميت من غير وصية، [4] ومن الولد وغيره بنص قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا. ..................................
_________
(1) (4» رقم 6099).
(2) عزاه إليه السيوطي في " الدر المنثور " (7).
(3) (4) وقد تقدم آنفا.
(4) أخرجه أبو داود رقم (1811) وابن ماجه رقم (2093) وابن الجارود رقم (499) والبيهقي (4) والطبراني في الكبير رقم (12419). وهو حديث صحيح.
(5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1952) ومسلم رقم (1147).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2400) وأحمد (6/ 69).(6/3172)
بِالْإِيمَانِ) (1)، وبحديث: " استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل " أخرجه أبو داود (2)، والبزار (3)، والحاكم (4)، وصححه من حديث عثمان.
ولحديث فضل الدعاء للأخ بظهر الغيب (5)، ولما ثبت من الدعاء للميت عند الزيارة، كحديث بريدة عند مسلم (6)، وأحمد (7)، وابن ماجه (8) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لا حقون، نسأل الله لنا ولكم العافية ".
وقد حكى النووي في شرح مسلم (9) والإجماع على وصول الدعاء إلى الميت، وكذا حكى الإجماع أيضًا على أن الصدقة تقع عن الميت، ويصله ثوابها (10).
وحكى (11) أيضًا الإجماع عن لحوق قضاء الدين. وقد ورد في الصدقة، وفي قضاء الدين (12) من الولد وغيره أحاديث. .........................................................
_________
(1) [الحشر: 10].
(2) في " السنن " رقم (3221).
(3) في " مسنده " (2 رقم 445).
(4) في " المستدرك " (1/ 270) وهو حديث صحيح.
(5) سيأتي تخريجه.
(6) في صحيحه رقم (975)
قلت: وأخرجه النسائي في " السنن " (4 رقم 2040) وهو حديث صحيح.
(7) في " المسند " (5، 360).
(8) في " السنن " رقم (1547).
(9) (7).
(10) في " المجموع " (5).
(11) في شرحه لصحيح مسلم (8).
(12) انظر الرسالة رقم (93).(6/3173)
كثيرة (1) لا يتسع لها المقام، فينبغي أن يجعل القياس عليهما هو الدليل السابع والثامن بجامع القربة. وقد خصص عموم مفهوم الآية والحديث بمخصصات كثيرة، منها ما ذكرنا، ومنها غيره. وقد بسطتها بأطول من هذا في شرح المنتقى (2). ولا يخفى على
_________
(1) منها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1630) والنسائي (6) عن أبي هريره - رضي الله عنه -: " أن رجلا قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أبي مات وترك مالا ولم يوص فيه، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم ".
ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2760) ومسلم رقم (112) وأبو داود رقم (2881) والنسائي (6).
عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا أتي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال نعم.
(2) في (2/ 784 - 786).
قال الشوكاني في " يبل الأوطار " (2 - 786): " وأحاديث الباب تدل على أن الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما بدون وصية منهما، ويصل إليها ثوابها، فيخصص بهذه الأحاديث عموم قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) ولكن ليس في الباب إلا لحوق الصدقة من الولد، وقد ثبت أن ولد الإنسان من سعيه فلا حاجة إلى دعوى التخصيص، وأمام من غير الولد فالظاهر من العمومات القرآنية أنه لا يصل ثوابه إلى الميت، فيوقف عليها، حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها.
قال الألباني في " أحكام الجنائز ": " وهذا هو الحق الذي تقضيه القواعد العلمية، أن الآية على عمومها وأن ثواب الصدقة وغيرها يصل من الولد إلى الوالد لأنه من سعيه بخلاف غير الولد، لكن قد نقل النووي وغيره الإجماع على أ، الصدقة تقع عن الميت ويصله ثوابها. هكذا قالوا: " الميت " فأطلقوه، ولم يقيدوه بالوالد فإن صح هذا الإجماع كان مخصصا للعمومات التي أشار إليها الشوكاني فيما يتعلق بالصدقة، ويظل ما عداها داخلا في العموم كالصيام وقراءة القرآن ونحوهما من العبادات، ولكنني في شك كبير من صحة الإجماع المذكور، وذلك لإمرين:
الأول: أن الإجماع بالمعنى الأصولي لا يمكن تحققه في غير المسائل التي علمت من الدين بالضرورة، كما حقق ذلك العلماء الفحول، كابن حزم في أصول الأحكام والشوكاني في " إرشاد الفحول " والأستاذ عبد الوهاب خلاف كتابه " أصول الفقه " وغيرهم.
الثاني: أنني سبرت كثيرا من المسائل التي نقلوا الإجماع فيها، فوجدت الخلاف فيها معروفا بل رأيت مذهب الجمهور على خلاف دعوى الإجماع فيها. .....
ثم قال الألباني رحمه الله: وذهب بعضهم إلى قياس غير الولد على والوالد، وهو قياس باطل من وجوه:
الأول: أنه مخالف للعموميات القرآنية كقوله تعالى: (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) [فاطر: 18] وغيرها من الآيات التي علقت الفلاح ودخول الجنة بالأعمال الصالحة ولا شك أن الوالد يزكي نفسه بتربيته لولده وقيامه عليه فكان له أجره بخلاف غيره.
الثاني: أنه قياس مع الفارق إذا تذكرت أن الشرع جعل الولد من كسب الوالد كما سبق في حديث عائشة فليس هو كسبا لغيره، والله عز وجل يقول: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) ويقول سبحانه (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ).
وقال ابن كثير في تفسيره قوله تعالى ((وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى): أي كما لا يحمل عليه وزر غيره، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه، ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ولهذا لم يندب إليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمته ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - ولو كان خيرا لسبقونا إليه وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء.
وقال العز بن عبد السلام في " الفتاوى " (2): " ومن فعل طاعة لله تعالى ثم أهد ثوابها إلى حي أو ميت، لم ينتقل ثوابها إليه إذ (لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) فإن شرع في الطاعة ناويا أن يقع عن الميت لم يقع عنه إلا فبما استثناه الشرع كالصدقة والصوم والحج "
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاختيارات العلمية " (ص 54): " ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعا أو صاموا تطوعا أو حجوا تطوعا أو قرؤوا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف فإنه أفضل وأكمل ".
وانظر تفصيل ذلك في " أحكام الجنائز " (ص218 - 225).(6/3174)
عارف أن دلالة العموم من أصلها ظنية، وفي الاحتجاج بالظنيات خلاف، فكيف إذا كان ذلك العموم مفهوما فإنها قد ذهب طائفة من أهل أنه لا يجوز العمل(6/3175)
بالمفهوم، ولا تثبت به الحجة، فكيف إذا كان ذلك المفهوم العام قد دخله التخصيص بما هو مخصص له بالإجماع في البعض، وعلى الخلاف في بعض آخر، فإن طائفة من أئمة الأصول لا يرون العام بعد التخصص جحة، وهذه المباحث، ونشر الخلاف فيها، وبسط الكلام في أدلتها مستوفي في الأصول. وإنما أشرنا إلى هذا لأن مخالفة ما أطبق عليه السلف والخلف في كل عصر، وكل قطر من التقرب بالتلاوة إلى أرواح الموتى، حتى صار إجماعا فعليا يستحسنه جميع المسلمين (1)، ويرونه من أعظم القرب، لا ينبغي تأييد ذلك الإجماع بما أسلفناه في هذا البحث.
قال ابن النحوي في شرح المنهاج: إنه ينبغي الجزم بوصول ثواب القراءة المهداة إلى الأموات، لأنه دعاء، فإذا جاز للميت بما ليس للداعي فلان يجوز بما هو له أولى. ويبقى الأمر موقوفا على استجابة الدعاء، وهذا المعنى لا يختص بالقرآن، بل يجري في سائر الأعمال. قال: والظاهر أن الدعاء متفق عليه أنه ينفع الميت والحي، القريب والبعيد، بوصية وغيرها (2). وعلى ذلك أحاديث كثيرة، بل كان [5] أفضل الدعاء أن يدعو لأخيه بظهر الغيب. وأما سائر أنواع القرب فقد دلت على أكثرها
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) ينتفع الميت من عمل غيره بأمور منها:
1 - دعاء المسلم له. إذا توافرت فيه شروط القبول لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10]. وأما الأحاديث منها:
قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل ".
أخرجه مسلم رقم (88) وأبو داود رقم (1534) وأحمد (6452) عن أبي الدرداء.
2 - قضاء ولي الميت صوم النذر عنه. عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من مات وعليه صيام، صام عنه وليه ". تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
وعن ابن عباس قال: " أن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - استفتى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن أمي ماتت وعليها نذر؟ فقال: اقضه عنها. وهو حديث صحيح.
3 - قضاء الدين من أي شخص ولي كان غيره. انظر أحاديثه في الرسالة (93).
4 - ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة فإن لوالديه مثل أجره دون أن ينقص من أجره شيء لأن الولد من سعيهما وكسبهما والله عز وجل يقول (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم: 39].
وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه ".
5 - ما خلفه من بعده من آثار صالحة وصدقات جارية، لقوله تبارك وتعالى: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) [يس: 12].
فيه أحاديث:
1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو لد صالح يدعو له ". تقدم تخريجه.
2 - وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: في حديث طويل وفيه: " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سنة في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ثم تلى هذه الآية (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) [يس: 12].
أخرجه أحمد (4، 358) ومسلم رقم (1017) والترمذي رقم (2675) والنسائي (5 - 77) وابن ماجه رقم (203).(6/3176)
أحاديث صحيحة. وظاهرها من دون وصية.
قال: ويقاس ما لم يرد فيه نص على ما ورد، والجامع موجود، ولا وجه للاقتصار انتهى.(6/3177)
وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق. كمل من تحرير جامعه القاضي البدر محمد بن علي الشوكاني حفظه الله، ووفقه لما يرضاه، بحق محمد الأمين، وآله الأكرمين، وصحبه الراسين، في صبح الخميس أحد أيام شهر ربيع الأول سنة 1208هـ[6].(6/3178)
إفادة السائل في العشر المسائل
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(6/3179)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: "إفادة السائل في العشر المسائل ".
2 - موضوع الرسالة: فقه.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين. وبعد: فإنه ورد هذا السؤال من الوالد العارف الطالب الراغب الصالح صالح بن محمد بن عبد الله العنسي. ...
4 - آخر الرسالة: انتهى جواب شيخنا أدام الله إفادته، وحرس شريف ذاته، وأسعد آماله وأوقاته بقلم السائل الحقير صالح بن محمد العنسي - غفر الله لهما - وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم بتاريخ شهر الحجة الحرام سنة (1225هـ).
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد
6 - الناسخ: صالح بن محمد العنسي.
7 - عدد الصفحات: 11+ صفحة العنوان.
8 - عدد الأسطر في الصفحة: 28 - 29 سطرا.
9 - عدد الكلمات في السطر: 13 - 14 كلمة.
10 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(6/3181)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين وبعد:
فإن ورد هذا السؤال من الولد العارف الطالب الراغب الصالح صالح بن محمد بن عبد الله العنسي (1) - فتح الله عليه بالعلم والعمل وإياي -، ولفظه:
ما يقول علماء الإسلام، وحفاظ حديث سيد الأنام في أربع سنن علمها السلف ومشي عليها بعدهم الخلف، لم نقف فيما اشتهر من كتب الحديث على دليل منها، هل عليها نص من الشارع لم نقف عليه حتى يجب المشي عليها، أو هي محض عرف ليس في مخلفته بأس؟ أولها: تشيع الجنازة بالتهليل والذكر، ثانيًا: إكرام الحبوب المأكولة وما خبز منها، ثالثها: المشي في السكك والأسواق بدون إزار، رابعها: التنحي عن صدور المجالس لمن كانت فيه خصلة فضل، هذا ونسألكم عن حديث: " أيام التشريق أيام شرب وأكل وبعال " هل لزيادة لفظ وبعال صحة وورود من طريق محفوظ أم لا؟
وأيضا حديث: " رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه " هل له ثبوت أم لا؟
وأيضا نحن نسمع الخطيب يقوم على رأس المنبر في صوم شهر رجب أنه بمزيد الأجر مخصوص، وأن فضل صومه في حديث المختار لمنصوص، ولم تقف فيما اشتهر من كتب الحديث على ذلك النص فبينوه، بل قد قيل: إنه ورد في الحديث النهي عن صيام رجب.
_________
(1) صالح بن محمد عبد الله العنسي ثم الصنعاني. ولد تقريبا على رأس القرن الثاني عشر، وأخذ العلم عن جماعة من أهل العلم.
وقال الشوكاني في " البدر الطالع " رقم (202): وله قراءة علي في الصحيحين وسنن أبي داود وفي بعض مؤلفاتي. توفي 1274هـ بمدينة إب.
" البدر الطالع " رقم (202) و" التقصار " (ص368).(6/3185)
وأيضا ما قولكم في صلاة المغرب في السفر، هل ورد فيها أثر عن الشارع من قول أو فعل أنها صليت ثلاث أم لا؟
وأيضا رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، هل ورد فيه نص من الشارع قولي غير مجرد فعله أم لا؟
أفيدونا بما يزيح الإشكال - لا عدمناكم على كل حال - والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله انتهى.
أقول: أما تشييع الجنازة بالتهليل والذكر على الصفة التي تقع في مدينة صنعاء وجهاتها من رفع الأصوات على سبيل المناوبة بين المشيعين، يرفع بعضهم حوته قائلا: لا إله إلا الله مرات ثم يسكت، ويرفع البعض الآخر كذا لا. .. إلخ فلم يكن في زمن النبوة من ذلك شيء، بل ولا في القرون الثلاثة التي في خير القرون (1)، بل ولا فيما بعد
_________
(1) قال ابن تيمية: لا يستحب رفع الصوت مع الجنازة لا يقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك هذا مذهب الأئمة الأربعة وهو المأثور عن السلف من الصحابة والتابعين ولا أعلم فيه مخالفا.
وقال أيضا: وقد اتفق أهل العلم بالحديث والآثار أن هذا لم يكن على عهد القرون المفضلة وبذلك يتضح لك أن رفع الصوت بالتهليل الجماعي مع الجنائز بدعة منكرة وهكذا ما شابه ذلك من قوله وحدوه أو اذكروا الله أو قراءة بعض القصائد كالبردة.
ثم قال: " وأما كون أهل البلد، أو بلدين، أو عشر: تعودوا ذلك فليس هذا إجماعا بل أهل مدينة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي نزل فيها القرآن والسنة، وهي دار الهجرة والنصر والإيمان والعلم، لم يكونوا يفعلون ذلك، بل لو اتفقوا في مثل زمن مالك وشيوخه على شيء، ولم ينقلوه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو خلفائه، لم يكن إجماعهم حجة عند جمهور المسلمين، وبعد زمن مالك وأصحابه ليس إجماعهم حجة، باتفاق المسلمين فكيف بغيرهم من أهل الأمصار.
وأما قول القائل: إن هذا يشبه بجنائز اليهود والنصارى، فليس كذلك، بل أهل الكتاب عادتهم رفع الأصوات في الجنائز وقد شرط عليهم في شرط أهل الذمة أن لا يفعلوا ذلك.
ثم إنما نهينا عن التشبه بهم فيما ليس من طريق سلفنا الأول، وأما إذا اتبعنا سلفنا كنا مصيبين، وإن شاركنا في بعض ذلك نم شاركنا كما أنهم يشاركوننا في الدفن في الأرض، وغير ذلك.
أنظر: " مجموع فتاوى ابن تيمية " (24 - 295).(6/3186)
ذلك من أيام السلف الصالح، ولكن لا حرج في ذلك، فإنه [1 أ] من الذكر المندوب إليه في كل حال من غير فرق يبن شخص وشخص، وزمن وزمان، ومكان ومكان.
وأما مجرد كونه بأصوات مرتفعة فليس في ذلك ما يوجب الكراهة، كان خلاف الأولى قد جمع بعض المتأخرين رسالى مستقلة في جواز رفع الصوت بالأذكار، وقد يكون في هذا الرفع بخصوصه فائدة، وهي تذكير الناس بأمر الموت الذي أمر الشارع بالاستكثار من ذكره، وتنشيط السامع إلى القيام إلى تشييع الجنازة، فإن تشييعها سنة صحيحة، وفيه من الأجر العظيم ما تضمنته الأحاديث الواردة في ذلك (1)، وهي معروفة، وأولى من هذا الشعار في هذه الديار عند حمل الجنائز ما صار يفعله أهل الحرمين الشريفين من قول المشيعين للجنازة: كان من أهل الخير - رحمه الله -، فإن في هذا من الخير للميت والبر به ما هو معروف فيما صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في حديث: " من شهد له أربعة، أوثلاثة أو اثنان دخل الجنة " والحديث صحيح (2).
_________
(1) في الهامش ما نصه: وأخرج الديملمي عن أنس أكثروا في الجنازة قول لا إله إلا الله.
فضل تشييع الجنازة:
(منها): ما أخرج البخاري في صحيحه رقم (47 و1325) ومسلم رقم (945) وأبو داود رقم (3168) والترمذي رقم (1040) وابن ماجه رقم (1539) والنسائي (4).
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين ".
وفي رواية للبخاري: " من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان معه حتى يصلى عليها، ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن يرجع بقيراط ".
(ومنها): ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (946) وابن ماجه رقم (1540) من حديث ثوبان - رضي الله عنه -.
(2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (3168) و (2643) من حديث أبي الأسود قال: قدمت المدينة فجلست إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فمرت بهم جنازة فأثنوا على صاحبها خيرا، فقال عمر- رضي الله عنه - وجبت ثم مر بأخرى فأثنوا على صاحبها خيرا، فقال عمر: وجبت، ثم مر بالثالثة فأثنوا على صاحبها شرا، فقال عمر: وجبت، قال أبو الأسود فقلت: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أيما مسلم شهد له أربعة نفر بخير أدخله الله الجنه " قال: فقلنا: وثلاثة؟ فقال: وثلاثة، فقلنا: واثنان؟ قال: وأثنان. ثم لم نسأله عن الواحد.(6/3187)
ومثله قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عند سماعه لمن يثني على الميت بخير: وجبت، ولمن يثني عليها بشر: وجبت. وفي الباب أحاديث في الصحيح (1) وخارجه مما هو صحيح أو حسن (2).
فصنع أهل الحرمين، وإن لم يكن ثابتا في عصر النبوة، وما بعده على هذه الصفة الكائنة الآن عندهم لكنه قد سوغ ذلك الشارع في الجملة، وأخبرنا بما يترتب عليه من النفع للميت الذي صار المشيعون له في حكم الشفعاء إلى ربه أن يغفر له ذنوبه، ويتغمده برحمته. ولهذا ورد فيمن صلى عليه ثلاثة صفوف (3) وفيمن صلى عليه. ...............................
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) أخرج أبو داود في " السنن " رقم (3233) وابن ماجه رقم (1492) وأحمد (2، 498) وابن حبان رقم (3024).
من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: مروا على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجنازة فأثنوا عليها خبرا، فقال: " وجبت " ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال " وجبت " ثم قال: " إن بعضكم على بعض شهيد ".
وهو حديث حسن.
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (1367) ومسلم رقم (949) والترمذي رقم (1058) والنسائي (4 - 50) وابن ماجه رقم (1491) وأحمد (3، 245) من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: مر بجنازة فأثنى عليها شر فقال نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وجبت، وجبت، وجبت " ومر بجنازة فأثني عليها شر فقال نبي الله وجبت، وجبت، وجبت. فقال عمر: فداك أبي وأمي. مر بجنازة فأثني عليها خير فقلت: " وجبت، وجبت، وجبت " ومر بجنازة فأثني عليها شر فقلت: " وجبت، وجبت، وجبت؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض ".
(3) أخرج أحمد (4) وأبو داود رقم (3166) والترمذي رقم (1028) وابن ماجه رقم (1490) من حديث مالك بن هبيرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما من ميت يموت فيصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكون ثلاثة صفوف إلا غفر له ". وهو حديث ضعيف.(6/3188)
أربعون (1)، وفيمن صلى عليه مائة أنه يكون سببا لمغفرة له (2). والأحاديث في ذلك معروفة فلا نطيل بذكرها.
_________
(1) أخرج مسلم في صحيحه رقم (948) وأبو داود رقم (3170) وابن حبان (3082) وأحمد (1).
من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه ".
وهو حديث صحيح.
(2) أخرج مسلم في صحيحه رقم (58/ 947). والترمذي رقم (1029) والنسائي (4/ 75 - 76) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين بيلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا ".
وهو حديث صحيح.(6/3189)
وأما السؤال عن وجه إكرام الحبوب المأكولة، وما خبز منها فلا أحفظ في ذلك دليلا يدل على مشروعية إكرامها دلالة صريحة، وأما ما يستفاد منه ذلك ولو بوجه بعيد، فيمكن أن يقال: حديث النهي عن الاستنجاء بالعظم والبعرة، وهو من حديث جابر عند مسلم (1) وغيره (2) وأخرجه البخاري (3) بلفظ: " ولا تأتني بعظم ولا روث " وفي لفظ له في المبعث من الصحيح: " أنهما من طعام الجن "، وأخرج مسلم (4) وغيره (5) من حديث ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن قال: فانطلق بنا فأراهم آثارهم، وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، يقع في أيديكم أو فر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لداوبكم " فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - " فلا تستنجوا بهم؛ فإنهما طعام إخوانكم ".
وفي الباب أحاديث كثيرة متضمنة للنهي عن الاستنجاء بالعظم والبعر، وفي بعضها التصريح بأن العلة في ذلك هو كونها [1ب] طعام الجن، فزعم بعض أهل العلم أن النهي عن الاستجمار بذلك والتعليل بكونه من طعام الجن يدل على أن له حرمة، فيكون طعام الإنس أولى بالحرمة، وهو مردود بأن العلة هي أنه لما كان طعاما لهم كان الاستنجاء به يقذره عليهم، يمنعهم من أكله، لا يكونه ذا حرمة، فلم يكن في هذه الأحاديث التي وقع التصريح فيها بعلة المنع من الاستجمار بالعظم والبعر أو الروث، وهي أنه طعام الجن دليل على كون الأطعمة تكرم، أو أنها تحترم.
_________
(1) في صحيحه رقم (85).
(2) كأبي داود رقم (38) وأحمد (3) من حديث جابر: " نهى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتمسح بعظم ".
(3) في صحيحه رقم (3860).
(4) في صحيحه رقم (150).
(5) كالبخاري في صحيحه رقم (773).(6/3190)
وأما ما يروى مرفوعًا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بلفظ: " أكرموا الخبز " فهو حديث لا أصل له (1)، بل صرح بعض الأئمة بأنه موضوع (2) باطل. وقد أخرجه ابن أبي حاتم (3) من حديث موسى الطائفي قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أكرموا الخبز " فإن الله أنزله من بركات السماء، وأخرج له من بركات الأرض "؛ وأخرجه البزار (4) والطبراني (5) بأسناد ضعيف من حديث عبد الله ين أم حرام قال: صليت القبلتين مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وسمعته يقول: أكرموا الخبز، فإن الله أنزله من بركات السماء، سخر له بركات الأرض ومن يتبع ما يسقط من السفرة غفر له " وأخرج ابن [ ...... ] (6) أوسع الله عليهم حتى كانوا يستنجون بالخبز، فبعث الله عليهم الجزع، حتى إنهم كانوا يأكلون ما يقعدون به " (7).
_________
(1) بل الصواب: أن الحديث ضعيف كما سيأتي لا حقا.
(2) كابن الجوزي في " الموضوعات رقم (1317) من حديث ابن أم حرام.
(3) أخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " (4/ 12).
وقال الألباني في "الضعيفة " (6): وهذا إسناد ضعيف مرسى الطائفي لم أجد له ترجمة، وليس صحابي، فإن معانا الرواي عنه ذكروا أنه روى عن أبي حرة عن ابن سيرين عن أبي هريرة فهو تابعي أو تابع تابعي، ومعان أبو صالح ذكره العقيلي في الضعفاء وقال: حديثه غير محفوظ ولا يتابع عليه.
(4) في مسنده (3 رقم 2877 - كشف).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (5) وقال: رواه البزار والطبراني وفيه عبد الله بن عبد الرحمن الشامي، ولم أعرفه وصوابه عبد الملك بن عبد الرحمن، وهو ضيعف.
وهو حديث ضعيف.
(5) انظر التعليقة السابقة.
(6) كلمات غير واضحة في المخطوط.
(7) لم أجده بهذا اللفظ.
وقد ذكر عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليمني في تعليقه على " الفوائد في الأحاديث الموضوعة " الشوكاني (ص162) التعليقة رقم (5): " وقد ثبت النهي عن الاستنجاء بالعظام لأنها طعام الجن فطعام الإنسان أولى ".(6/3191)
وربما يستفاد حرمة الأطعمة من حديث أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بلعق الأصابع والصفحة، وقوله معللا لذلك: إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة. وهو في صحيح مسلم (1) وغيره من حديث جابر، ووجه الاستدلال بهذا الحديث على مطلق الإكرام، وتعليل اللعق للأصابع والقصعة بتلك العلة يشعر بأن كل جزء من أجزاء الطعام يحتمل أن تكون البركة فيه، سواء كان كثيرا أو قليلا، وبركة الله - سبحانه وتعالى - لا ينبغي أن تمتهن، بل هي حقيقة بالإكرام والاحترام، ومثله ما أخرجه مسلم (2) وغيره (3) من حديث أنس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أكل طعاما لعق أصابعه الثلاث، وقال: " إذا وقعت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذي، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان ". وأمرنا أن نسلت القصعة، وقال: " إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ".
وفي الأمر بلعق الأصابع، وسلت القصعة ما يشير إلى ما ذكرناه من أن المقصود من ذلك الظفر ببركة الله، لا مجرد التنظيف، ولو كان المقصود مجرد التنظيف لكان المسح بمنديل ونحوه كافيا. وقد نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك كما في الصحيحين (4) وغيرهما (5) من حديث ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -
_________
(1) في صحيحه رقم (133)
عن جابر قال: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال: " إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ". وهو حديث صحيح.
(2) في صحيحه رقم (136).
(3) كالترمذي رقم (1803) وأبو داود رقم (3845). وهو حديث صحيح.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5456). وهو حديث صحيح.
(5) كأبي داود في " السنن ط (3847) وابن ماجه رقم (3269).(6/3192)
قال: " إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح يده يلعقها أو يلعقها " وأدل على المقصود من هذه الأحاديث ما أخرجه أحمد (1)، والترمذي (2)، وابن ماجه (3) عن نبيشة الخير أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أكل في قصعة ثم لحسها استغفرت له القصعة " قال الترمذي: (4): هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث المعلى بن راشد، وقد روى يزيد بن هارون وغير واحد من الأئمة عن المعلى بن راشد هذا الحديث انتهى.
قلت: والمعلى بن راشد (5) مقبول، وهذا الحديث فيه أن القصعة تستغفر لمن لحسها، وذلك يشير إلى أن في ذلك قربة يثاب عليها فاعلها، والعلة إما الحرص على بركة الله - سبحانه - وإكرام ما بقي فيها من آثار الطعام بأكله، وعدم تركه للشيطان كما سبق في اللقمة، وفي النهي عن ترك اللقمة للشيطان دليل على أن العلة تشريف اللقمة الساقطة وإكرامها عن أن تترك للشيطان، فيكون في ذلك إرشاد إلى تكريم الطعام، وعدم [2أ] وضعه في مواضع الإهانة.
_________
(1) في " المسند " (5/ 76).
(2) في " السنن " رقم (1804).
(3) في " السنن " رقم (3271).
(4) في " السنن " رقم (4/ 260).
(5) معلى بن راشد الهذلي، أبو اليمان النبال البصري.
قال النسائي: ليس به بأس.
انظر: تهذيب التهذيب " (ص122). والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم.(6/3193)
وأما سؤال السائل - عافا الله - عن المشي في السكك والأسواق بدون إزار.
فإن أراد بالإزار الإزار الذي يستر به الإنسان عورته، وأن الماشي المسؤول عنه يمشي متعربا فهذا حرام بلا شك ولا شبهة، ومنكر يجب على كل مسلم إنكاره على فاعله، وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بستر العورة، وبالغ في ذلك حتى قال لمن قال له: فالرجل يكون خاليا؟ فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " الله أحق أن يستحى منه " والحديث معروف صحيح (1)، فإذا كان ستر العورة الخلوة مما أرشد إليه الشارع، ومنع فاعلة من فعله، فكيف بمن برز للناس كاشفا عورته، ومشي في السكك! فإن هذا شيطان من شياطين الإنس، مبارز بمعصية الله، مجاهر بها. ولا نعرف أحدا من المسلمين يعتاد هذا الذي سأل عنه السائل، فكيف تكون عادة لجميعهم كما يدل عليه سياق السؤال!.
وأراد بمشية في السكك والأسواق بغير إزار معنى آخر غير هذا المعنى الظاهر، كأن يريد أن يترك الإزار التي كانت شعار الصحابة - رضي الله عنهم - ويلبس غيرها كالسراويل فلا إنكار في مثل هذا، فإنه قد ستر عورته بما هو أبلغ في الستر من الإزار، وقد فعل ذلك جماعة من الصحابة منهم الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وإن لم يصح أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لبسه، من طريق صحيحة، لكنها قد وردت أحاديث أنه اشتراه، وليس هذا موطن ذكرها، وإن أراد بالسؤال معنى آخر غير هذين المعنيين كأن يريد بالإزار الثوب الذي يجعله الإنسان على رأسه، أو على أحد جنبيه،
_________
(1) أخرجه أحمد في " المسند " (5) وأبو داود رقم (4016) وابن ماجه رقم (1920) والترمذي رقم (2769) وقال: هذا حديث حسن. كلهم من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.
وأخرجه البخاري معلقا (1).
وقال الحافظ في " الفتح " (1/ 386) فالإسناد إلى بهز صحيح، ولهذا جزم البخاري وأما بهز وأبوه فليسا من شرطه.
وهو حديث حسن.(6/3194)
فإنه قد يسمى ذلك في أعراف الناس اليوم إزارا إذا كان منسوجا من الصوف، فليس في هذا بأس، ولا ورد ما يدل على أن المشي بغير رداء، أو بغير قناع، أو بغير طيلسان بدعة، أو يوجب إثم من تركه إذا كان قد ستر عورته.
وأما المحافظة على المروءات فذلك باب آخر، وهو يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة والأشخاص فقد يعتاد الناس لباسا في بعض الأمكنة يكون لبس ما يخالفه مخالفا للمروءة.
وقد يعتادون في بعض الأزمنة لبس ثياب تخالف ما يعتاده في زمن آخر. وقد يعتاد بعض هذا النوع الإنساني لبس ثياب تخالف ما يعتاده النوع الآخر، وتكون المحافظة من كل طائفة على الثياب المعتادة له ولأبناء جنسه هي المروءة، ولبس غيرهما هو الخروج عن المروءة ولسنا بصدد الكلام على المروءات والعادات.(6/3195)
وأما سؤال السائل - عافاه الله - عن التنحي عن صدور المجالس لمن فيه خصلة فضل.
فنقول: قد كان هدي السلف الصالح من الصحابة [2ب] فمن بعدهم أن يقعد الواصل منهم إلى مجلس من المجالس حيث ينتهي به المجلس، وورد الأمر في الكتاب العزيز بأن يتفسح الجالسون لمن ورد إليهم إذا لم يبق له مجلس فيه. قال تعالى: (إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) (1) وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما صح عنه: " لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ويجلس فيه، بل تفسحوا أو توسعوا " وهو في الصحيحين (2) وغيرهما (3) من حديث ابن عمر، والمنهي
_________
(1) [المجادلة: 11].
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6270) ومسلم رقم (2177).
(3) كأحمد (2/ 89) وأبو داود رقم (4828) والترمذي رقم (2749).
قال القرطبي في " المفهم " (5/ 510 - 511): نهيه عن أن يقام الرجل من مجلسه إنما كان ذلك لأجل: أن السابق قد اختص به إلى يقوم بأختيار عند فراغ غرضه، فكأنه قد ملك منفعة ما اختص به من ذلك، فلا يجوز أن يحال بينه وبين ما يملكه، وعلى هذا فيكون على ظاهره من التحريم.
وقيل: هو على الكراهة. والأول أولى. ويستوي في هذا المعنى أن يجلس فيه بعد إقامته، أو لا يجلس، غير أن هذا الحديث خرج على أغلب ما يفعل من ذلك. فإن الإنسان في الغالب إنما يقيم الآخر من مجلسه ليجلس فيه، وكذلك يستوي فيه يوم الجمعة - كما قال في رواية مسلم رقم (2178) - عن جابر عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يقيمن أحدكم أحاه يوم الجمعة ثم ليخالف إلى مقعده فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا " لأنه اليوم الذي يجتمع الناس فيه، ويتنافسون في المواضع القريبة من الإمام فليحق بذلك ما في معناه، ولذلك قال ابن جريج: في يوم الجمعة وغيرها.
ومن أدب التفسح في المجالس:
قال القرطبي في " المفهم " (5): هذا أمر للجلوس بما يفعلون مع الداخل وذلك: أنه لما نهى عن أن يقيم أحدا من موضعه تعين على الجلوس أن يوسعوا له ولا يتركوه قائما، فإن ذلك يؤذيه، وربما يخجله. وعلى هذا: فمن وجد من الجلوس سعة تعين عليه أن يوسع له. وظاهر ذلك أنه على الوجوب تمسكا بظاهر الأمر، وكأن القائم يتأدى بذلك، وهو مسلم، وأذى المسلم حرام ويحتمل أن يقال: إن هذه آداب حسنة، ومن مكارم الأخلاق، فتحمل على الندب.
وقد اختلف العلماء في قوله تعالى: (إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) [المجادلة: 11].
فقيل: هو مجلس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يزدحمون تنافسا في القرب من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقيل: هو مجلس الصف من القتال.
وقيل: هو عام في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير، والأجر، وهذا هو الأولى إذا المجلس للجنس على ما أصلناه في الأصول.
وأنظر: " فتح الباري " (11/ 63 - 64).(6/3196)
عنه إنما هو أن يقيم الرجل الرجل مجلسه ويجلس فيه.
وأما القيام ممن كان في صدر المجلس لمن يريد إليه بعده إكراما له لكونه من أهل الفضل، أو العلم، أو كان أبا له، أو جدا أو عما، أو أسن منه فليس في هذا بدعة، ولا مكروه، ولا إثم على القائم، ولا على الذي كان القيام له، بل هو من الآداب الحسنه، والعادات المستحسنة. وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقد الأكبر سنا في أمور:
منها: التكلم كما ثبت في الصحيح (1) أنه لما جاء إليه خريصة ومحيصة يكلمانه في شأن المقتول بخيبر، فأراد الأصغر منهما أن يبتدي بالكلام فقال له: " كبر، كبر " والقصة مشهورة معروفة، فهذا إرشاد منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلى تأدب الصغير للكبير، وقد كان السلف الصالح من الصحابه ومن بعدهم يقدمون كبارهم وساداتهم وأمراءهم في كثير من الأمور ويقتدون بهم، ويكلون ما ينوبهم إليهم، فلا
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2702، 3173، 6134، 6898، 7192) ومسلم رقم (1، 2، 3، 4، 5، 6/ 1669) ومالك في " الموطأ " (2/ 877 - 878 رقم 1) وأبو داود رقم (4520، 4521، 4523) والترمذي رقم (1422) وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي (8 - 12) من حديث سهل بن أبي حثمة.(6/3197)
يكون القيام من المجلس لمن له الفضلة غير موجودة في من قام له كراهة ولا إثم قام طيبة بذلك نفسه، غير مكره ولا محمول على ذلك. فإن فعل هذا كان متأدبا بأدب حسن، وإن ترك فهو أحق بمجلسه الذي سبق إليه، لا يجوز لأحد أن يقعد فيه، وقد صح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه: " إذا قام من مجلسه ورجع إليه فهو أحق به " كما في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم (1) غيره (2) من حديث أبي هريرة مشروط بأن لا يكون وقع التأثير له بصدر المجلس راغبا في ذلك، ومحبا له، فإن كان كذلك فهو غير ناج من الإثم، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من أحب أن يتمثل الناس له صفوفا فليتبوأ مقعده من النار "، وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا " أخرجه أبو داود (3)،
_________
(1) في صحيحه رقم (2179).
(2) كأبي داود رقم (48 53) وابن ماجه رقم (3717) وهو حديث صحيح.
(3) في " السنن " رقم (5230).
قلت: وأخرجه الترمذي رقم (2915) وأحمد (4، 100) من حديث معاوية وهو حديث صحيح.
قال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (1 - 376): لم تكن عادة السلف على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه الراشدين: أن يعتادوا القيام كلما يرونه عليه السلام كما فعله كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك: لم يكن شخص أحب إليهم من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له، لما يعلمون من كراهته لذلك، ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقيا له، كما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قام لعكرمة وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ: " قوموا إلى سيدكم " وكان قد قدم ليحكم في بني قريظة لأنهم نزلوا على حكمه.
والذي ينبغي للناس: أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا يعدل أحد عن هدي خير الورى.
وهدي خير القرون إلى ما هو دونه، وينبغي للمطاع أن لا يقر بذلك مع أصحابه، بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد.
وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك أعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد خفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له، لأن ذلك أصلح لذات البين، وإزالة التباغض والشحناء وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة: فليس في ترك إيذاء له. وليس هذا القيام المذكور في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من سره أن يتمثل له الرجل قياما فليتبوأ مقعده من النار " فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد ليس هو أن يقوموا المجيئه إذا جاء ولهذا فرقوا بين أن يقال قمت إليه وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد. ... ".
وقال النووي في " الترخيص في الإكرام بالقيام " (ص 67): الأصح والأولى والأحسن بل الذي لا حاجة إلى ما سواءه أنه ليس فيه دلالة، وذلك أن معناه الصريح الظاهر منه الزجر الأكيد والوعيد الشديد للإنسان أن يحب قيام الناس له وليس فيه تعرض للقيام، بنهي ولا غيره وهذا متفق عليه وهو أن لا يحل للآني أن يحب قيام الناس له، والمنهي عنه هو محبته للقيام، ولا يشترط كراهته لذلك، وحضور ذلك بباله، حتى إذا لم يخطر بباله ذلك فقاموا له أو لم يقوموا فلا ذم عليه.
وإذا كان معنى الحديث ما ذكرناه فمحبته أن يقام له محرمة، فإذا أحب فقد ارتكب التحريم سواء قيم له أو لم يقم، فمدار التحريم على المحبة ولا تأثير بقيام القائم ولا نهي في حقه بحال، فلا يصح الاحتجاج بهذا الحديث. .".
ونقل الحافظ ابن حجر في " الفتح " (11 - 54) جواب ابن الحاج على النووي فقال: واعترضه ابن الحاج بأن الصحابي الذي تلقى ذلك من صاحب الشرع قد فهم منه النهي عن القيام الموقع الذي يقام له في المحذور، فصوب فعل من أمتنع من القيام دون من قام، وأقروه على ذلك.
وكذا قال ابن القيم في " حواشي السنن ": في سياق حديث معاوية رد على من زعم أن النهي إنما هو في حق من يقوم الرجال بحضرته، لأن معاوية إنما روى الحديث حين خرج فقاموا له، ثم ذكر ابن الحاج من المفاسد التي تترتب على استعمال القيام أن الشخص صار لا يتمكن فيه من التفصيل بين من يستحب إكرامه وبره كأهل الدين والخير والعلم. أو يحوز كالمستورين. وبين من لا يجوز كالظالم المعلن بالظلم أو جر ذلك إلى ارتكاب النهي لما صار يترتب على الترك من الشر، وفي الجملة حتى صار ترك القيام يشعر بالاستهانة أو يترتب عليه مفسدة امتنع. وإلى ذلك أشار ابن عبد السلام.
ونقل ابن كثير في تفسيره عن بعض المحققين التفصيل فيه فقال: المحذور أن يتخذ ديدنا كعادة الأعاجم كما دل حديث أنس، وأما كان القادم من سفر أو لحاكم في حمل ولا يته فلا بأس به.
قلت: - ابن حجر - ويلتحق بذلك ما تقدم في أجوبة ابن الحاج كالتهنئة لمن حدثت له نعمة أو لإعانة العاجز أو لتوسيع المجلس أو غير ذلك والله أعلم.
وقال الغزالي: القيام على سبيل الإعظام مكروه وعلى سبيل الإكرام لا يكره ".(6/3198)
وهذا القيام الذي تقومه الأعاجم هو قيامهم على رؤوس ملوكهم وأكابرهم، فالنهي منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن هذا القيام، ووعيد من أحبه وتكالب عليه ليس إلا لكونه (1) نوع من محبه الشرف والترفع والتكبر، ومن أحب القعود في صدور المجالس وتنحي الناس له عنها، هو لا يكون منه ذلك إلا لهذه الأغراض الفاسدة التي زجر الشارع عنها، وتوعد فاعلها.
وقد أخرج مسلم (2) عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه كان إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس
_________
(1) في المخطوط (لكون في) ولعل الصواب ما أثبتناه.
(2) بل أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6270) ومسلم في صحيحه رقم (2177) وقد تقدم.
قال النووي في شرح لصحيح مسلم (14 - 161): وأما نسب إلى عمر فهو ورع منه، وليس قعوده فيه حراما إذا كان ذلك برضا الذي قام ولكنه تورع منه لاحتمال أن يكون الذي قام لأجله استحيى منه فقام عن غير طيب قلبه فسد الباب ليسلم من هذا أو رأى أن الإيثار بالقرب مكروه أوخلاف الأولى، فكان يمتنع لأجل ذلك لئلا يرتكب ذلك أحد بسببه، قال علماء وإنما يحمد الإيثار بحظوظ النفس وأمور الدنيا.
قال ابن القيم في " حاشية السنن ": والقيام يتقسم إلى ثلاث مراتب: قيام على رأس الرجل وهو فعل الجنابرة.
وقيام إليه عند قدومه ولا بأس به.
وقيام له عند رؤيته وهو في المتنازع فيه.
ذكره الحافظ في " الفتح " (11/ 51).
ثم نقل الحافظ في " الفتح " (11): عن أبي الوليد بن رشد أن القيام يقع على أربعة أوجه:
الأول: محظور: وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبرا وتعاظما على القائمين.
الثاني: مكروه: وهو أن يقع لمن لا يريد تكبرا وتعاظما على القائمين ولكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يحذر. ولما فيه من التشبه بالجبابرة.
الثالث: جائز: وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك ويؤمن معه التشبه بالجبابرة.
الرابع: مندوب وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحا بقدمه ليسلم عليه أو إلى من تجددت له نعمة فيهنئه بحصولها أو مصيبة فيعزيه بسببها.(6/3200)
فيه. وهذا باب من ورعه - رضي الله عنه - ولا يلزم غيره.(6/3201)
وأما السؤال عن حديث: أيام التشريق أيام أكل وشرب، هل في هذا الحديث زيادة لفظ " وبعال " أم لا؟.
فأقول: أخرحه بزيادة لفظ " بعال " الدارقطني [3أ] (1) من حديث عبد الله ابن حذافة بإسنا فيه الواقدي وهو ضعيف، وأخرجه (2) أيضًا من حديث أبي هريرة، وفي إسناده سعيد بن سلام وهو ضعيف (3)، أخرجه ابن ماجه (4) من حديث أبي هريرة أيضًا من وجه آخر. وأخرجه ابن حبان (5) الطبراني (6) من حديث ابن عباس وفي إسناده إسماعيل ابن أبي حبيبة وهو ضعيف، وأخرجه أيضًا من حديثه أبو يعلى (7)، وعبد بن حميد (8)، وابن أبي شيبة (9)، إسحاق بن راهويه (10) في مسانيدهم، وأخرجه أيضًا النسائي (11) من طريق مسعود بن الحكم عن أمه مرفوعا، وأخرجه أيضا. ................................
_________
(1) في " السنن " (2 رقم 32) ولفظ: " لا تصوموا في هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب، بعال يعني أيام منى ".
(2) أي الدارقطني في " السنن " (2 رقم 33).
(3) انظر: " ميزان الاعتدال " (3/ 206 - 207 رقم 3198/ 3724).
(4) في " السنن " رقم (1719). بإسناد حسن.
(5) في صحيحه (8 - 368).
(6) في " الكبير " (11/ 232 رقم 11587).
عن ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسل أيام منى صائحا يصيح: أن لا تصوموا هذا الأيام، فإنها أيام أكل وشرب وبعال - البعال: وقاع النساء.
(7) في مسنده (10/ 320 رقم 5913 رقم 6024).
(8) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (2).
(9) في مصنفه (3/ 104).
(10) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (3).
(11) في " السنن " (2/ 166 رقم 2879): " عن أمة رأت وهي بمنى في زمان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكبا يصيح يقول: " يا أيها الناس إنها أيام أكل وشرب، ونساء، بعال، وذكر الله " قالت: فقلت: من هذا؟ قالوا علي بن أبي طالب ".(6/3202)
البيهقي (1) عنها، وذكر أنها جدته، وأخرجه ابن يونس (2) في تاريخ مصر عم عمرو بن سليمان الرقي، عن أمه مرفوعا، وأخرجه الدارقطني (3) عن سعيد بن المسيب مرسلا، فهذه سبعة أحاديث يقوي بعضها بعضا.
وأما أصل الحديث بدون ذكر " بعال " فهو في صحيح مسلم (4) وغيره (5).
_________
(1) في " السنن الكبرى" (4).
(2) ذكره ابن حجر في " التلخيص " (2).
(3) في " السنن " (2).
(4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1141).
(5) كأحمد (5، 76) وأبو داود رقم (2813) والنسائي (7) من حديث نبيشة الهذلي.(6/3203)
وأما السؤال عن حديث: رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، هل له ثبوت أم لا؟
فقد قال جماعة من الحفاظ: إنه لا أصل له بهذا اللفظ، وقد روي من حديث ابن عباس عند ابن ماجه (1)، وابن حبان (2) والدارقطني (3)، والطبراني (4)، والحاكم (5)، والبيهقي (6).
وقد روي من حديث ابن عمر (7) ' ومن حديث عقبة بن عامر (8)، قال أحمد بن حنبل (9): هذه أحاديث منكره كأنها موضوعة، وجزم بأنه لا يروى إلا عن الحسن مرسلا.
وقال محمد بن نصر (10): ليس له إسناد يحتج به، وقال. .............................................
_________
(1) في " السنن " رقم (2045).
(2) في صحيحه رقم (1498 - موارد).
(3) في " السنن " (4/ 170 رقم 33).
(4) في " الكبير " (11/ 133 رقم 11274).
(5) في " المستدرك " (2/ 198).
(6) في " السنن الكبرى "
(7). عن ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ".
وفي لفظ: " تجاوز الله لي عن أمتي الخطأ والنسيان ".
وفي لفظ آخر: " إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان ".
قال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين " ووافقه الذهبي.
وصححه المحدث الألباني في " الإرواء رقم (82).
(7) أخرجه الطبراني في " الأوسط " رقم (8275).
(8) أخرجه الطبراني في " الأوسط " رقم (8276).
(9) انظر " طبقات الشافعية الكبرى " (3). ذكره ابن حجر في " التلخيص " (1).
(10) ذكره ابن حجر في " التلخيص " (1/ 510).(6/3204)
البيهقي (1): ليس بمحفوظ، وقال الخطيب (2): منكر، وقد ورواه ابن ماجه (3) من حديث أبي ذر، وفي إسناده شهر بن حوشب وهو ضعيف، ورواه الطبراني (4) من حديث أبي الدرداء، وفي إسناده شهر أيضا، ورواه الطبراني (5) أيضًا من حديث ثوبان، وفي إسناده يزيد ين ربيعة، وهو منكر الحديث. وهؤلاء جميعا رووه بدون زيادة " وما استكرهوا عليه " وقد قيل: إنها زيادة مدرجة من قول هشام بن عمار، وقد تكلم عليه الحافظ في التلخيص (6) بزيادة على ما هنا، وقد حسنه النووي (7) وتعقب في ذلك. والظاهر أن لهذا الحديث أصلا في الجملة لكثرة طريق من طرقه لا يصح أن يكون من قسم الحسن لغيره. ولعل النووي أراد هذا لأن كل طريق من طرقه لا يصح أن يكون بمجردها من قسم الحسن لذاته، وأما من جزم بأنه لا أصل له فقد أبعد. وعلى كل حال فمعناه صحيح. وقد قال - سبحانه -: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (8) وثبت في صحيح مسلم (9) وغيره (10) في تفسير هذه الآية أن الله - سبحانه - قال: (قد فعلت) ومن
_________
(1) في " السنن الكبرى " (3)، (4، 325)، (6، 57)، (7)، (8 - 265)، (10).
(2) في كتاب الرواة عن مالك، في ترجمة سوادة إبراهيم عنه وقال: سوادة مجهول، والخبر منكر عن مالك.
كما في " التلخيص " (1).
(3) في " السنن " (2043).
(4) ذكره ابن حجر في " التلخيص " (1).
(5) في " الكبير " (2 رقم 1230).
(6) (1).
(7) في "الأربعين " الحديث التاسع والثلاثون.
(8) [البقرة: 286].
(9) رقم (200).
(10) كأحمد (2). وهو حديث صحيح.(6/3205)
حديث أبي هريرة في الصحيح (1) أيضًا أن الله - سبحانه - قال: (نعم)، وأخرج سعيد ابن منصور (2)، وابن جرير (3)، وابن أبي حاتم (4) عن حكيم بن جابر قال -: لما نزلت: (آمَنَ الرَّسُولُ. ... .) قال جبريل للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك، فسل تعطه " فقال (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.) حتى ختم السورة.
وإذا قد ثبت بالقرآن، بالحديث الصحيح (5) في تفسير أن الله - سبحانه - قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات (قد فعلت)، أو قال (نعم) فمغفرة [3ب] النسيان والخطأ مستفادة من قوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) ومن مغفرة ما استنكره الإنسان عليه مأخوذة من قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ومن قوله: (وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) ومن قوله: (وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) ووجه كونه مأخوذ من ذلك أن المستكره لو كلف بما استكره عليه كان مكلفا بغير وسعه، وكان قد حمل إصرا عظيما، وكان قد كلف بما لا طاقه له به، ومما يؤيد ذلك في كتاب الله - سبحانه - قول الله - عز وجل -: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (6) وقال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ
_________
(1) مسلم في " صحيحه " رقم (199).
(2) في "سننه " (3 رقم 478).
(3) في "جامع البيان " (3ج3/ 153 - 154).
(4) في " تفسيره " (2 رقم 3070).
(5) أنظر: الحديث رقم (199) و (200) عند مسلم وقد تقدم.
وانظر تفسير ابن كثير (1 - 738).
(6) [الحج: 87].(6/3206)
الْعُسْرَ) (1) وقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (2) ومن السنة ما ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من مثل قوله: " إن هذا الدين يسر " (3)، وقوله: " يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا " (4)، وقوله " أمرت بالحنيفية السمحة السهلة " (5)
فإن قلت: قد زعمت أن حديث: " رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه " يصلح لإدرجه في قسم الحسن لغيره، وما قدمته لا يفيدني، ولا يفيدني أيضًا ما ذكره الحافظ ابن حجر في تلخيصه (6)، فإنه لم يبسط كل طريق منفردة ويذكر من خرجها، بل جاء بالكلام جملة واحدة، راعيا فيما نقله عمن تقدم أنه لا أصل له بذلك اللفظ. وقد اقتصر في النقل السابق على محصول كلامه في التلخيص، فأبن لي كل طريق على حدة حتى تتم لي الفائدة.
قلت: أخرج ابن ماجه، وابن المنذر، وابن حبان في صحيحه، والطبراني، الدارقطني والحاكم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس (7) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه ".
_________
(1) [البقرة: 185]
(2) [التغابن: 16].
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (39) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبة، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والرواح، وشيء من الدلجة ".
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (69) ومسلم رقم (1734).
(5) أخرجه أحمد (6/ 116) والحميدي في " مسنده " (1 - 124 رقم 254). من حديث عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يومئذ لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة ".
(6) (1/ 510 - 513).
(7) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.(6/3207)
وأخرجه ابن ماجه (1) من حديث أبي ذر مرفوعا.
والطبراني (2) من حديث ثوبان مرفوعًا أيضا.
وأخرجه أيضًا الطبراني (3) من حديث ابن عمر، ومن حديث عقبة بن عامر.
وأخرجه البيهقي (4) أيضًا من حديثه.
وأخرجه ابن عدي في الكامل (5)، وأبو نعيم (6) من حديث أبي بكرة.
وأخرجه ابن أبي حاتم (7) من حديث أبي الدرداء.
وأخرجه سعيد بن منصور (8)، وعبد بن حميد (9) من حديث الحسن مرسلا.
وأخرجه أيضًا عبد بن حميد (10) من حديث الشعبي مرسلا.
فهذه سبعة أحاديث عن سبعة صحابة، أحدها صححه ابن حبان، وحديثان مرسلان، ولم يقدح في حديث أبي ذر وأبي الدرداء، إلا لكون في اسنادهما شهر بن حوشب، وقد أخرج له مسلم وأهل السنن، وهشام بن عمار من رجال البخاري، إذا لم تكن هذه من الحسن لغيره على فرض عدم الاعتداد بتصحيح ابن حبان لما عارضه من تضعيف غيره بطل كثير من المتون المعدودة من الحسن لغيره كما يعرف ذلك من يعرفه.
_________
(1) في " السنن " رقم (2043) وهو حديث صحيح.
(2) في " المعجم الكبير " (2 رقم 1430).
(3) في " الأوسط " (8275) عن أبن عمر.
ورقم (8276) عن عقبة بن عامر.
(4) في " السنن الكبرى " (3/ 83) وقد تقدم.
(5) في الكامل " (2) في الترجمة جعفر بن جسر بن فرقد.
(6) في " التاريخ " كما في " الدر المنثور " (2/ 134).
(7) ذكره ابن حجر في " التلخيص " (1).
(8) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور " (2/ 135).
(9) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور " (2/ 135).
(10) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور " (2/ 135).(6/3208)
وأما سؤال السائل - عافاه الله - عما ورد في فضل صوم رجب بخصوصه، هل صح منه شيء أم لا؟.
فنقول: قد روي في ذلك أحاديث سنوردها ها هنا ونتعقبها:
فمنها: ما أخرجه الشيرازي في الألقاب (1)، والبيهقي في الشعب (2) من حديث أنس عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن في الجنة نهرا يقال له رجب [4أ] أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، من صام يوما من رجب سقاه الله من ذلك النهر ".
ومنها: ما أخرجه الخلال في فضائل رجب من حديث ابن عباس بلفظ: " صوم أول يوم من رجب كفارة ثلاث سنين، والثاني كفارة سنتين، والثالث كفارة سنة، ثم كل يوم كفارة شهر ".
ومنها: ما أخرجه أبو نعيم (3)، وابن عساكر (4) من حديث ابن عمر بلفظ: " من صام أول يوم من رجب عدل ذلك بصيام سنة، ومن صام سبعة أيام أغلق عنه سبعة أبواب النار، ومن صام رجب عشرة أيام نادى مناد من السماء أن سل تعطه ".
ومنها: ما أخرجه. ........................................................
_________
(1) ذكره الزبيدي في " الإتحاف " (10).
(2) (3 - 368 رقم 3800).
قلت: وأخرجه الأصبهاني في " الترغيب والترهيب " رقم (1820) وابن الجوزي في " العلل المتناهية " (2/ 555) وقال: هذا لا يصح وفيه مجاهيل لا ندري من هم.
وقال ابن حجر في " لسان الميزان " (9) بعد أن رواه من نفس الطريق في ترجمة " منصور بن يزيد ": منصور بن يزيد حدث عنه محمد بن المغيرة في فضل رجب: لا يعرف والخبر باطل.
وأخرجه الحافظ ابن حجر في " تبيين العجب " (ص15). وهو حديث ضعيف.
(3) في " أخبار أصبهان " (2).
(4) عزاه إليه صاحب " كنز العمال " رقم (24262). وهو حديث ضعيف.(6/3209)
الخطيب (1) من حديث أبي ذر بلفظ: " من صام يوما من رجب عدل صيام شهر، ومن صام منه سبعة أيام علقت عنه أبواب الجحيم السبعة، ومن صام منه ثمانية أيام فتحت له أبواب الجنة الثمانية، ومن صام منه عشرة أيام بدل الله سيآته حسنات، ومن صام من ثمانية عشر يوما نادي مناد أن الله غفر لك ما مضي فاستأنف العمل ".
ومنها: ما أخرجه البيهقي في الشعب (2) من حديث أنس بلفظ: " من صام يوما من
_________
(1) في تاريخه (8) بسند ضعيف جدا.
وأخرجه ابن الجوزي في " الموضوعات " (2/ 207) عن الخطيب من طريقه وقال: هذا حديث لا يصح. " قال يحيى بن معين الفرات ابن السائب ليس بشيء. وقال البخاري والدارقطني. متروك ".
أخرجه ابن حجر في " تبيين العجب " (ص29) من طريق فضالة بن حصين عن رشدين، به.
وقد تعقب السيوطي، وابن الجوزي فيما ذهب إليه من الحكم على الحديث بالوضع فقال في " اللآلئ المصنوعة " (2/ 116): " هذا الحديث أورده الحافظ ابن حجر في " آماليه " ولم يسمه بوضع، قال: هذا حديث غريب اتفق على ورايته عن ابن السائب وهو ضعيف. رشدين بن سعد والحكم بن مروان وهما ضعيفان أيضا. لكن اختلفا عليه في اسم الصحابي، ففي رواية رشدين عن أبي ذر، وفي رواية الحكم عن ابن عباس، فلا أدري هل الخطأ من أحدهما أو من شيخهما، وميمون بن مهران قد أدرك ابن عباس ولم يدرك أبي ذر " ا هـ.
قلت: ولا قيمة لهذا التعقب لأن الحافظ أورد الحديث ضمن الأحاديث التي نبه على بطلانها في " تبيين العجب ".
(2) (3 رقم 3801).
قلت: وأخرجه الأصبهاني في " الترغيب " رقم (1822) والطبراني في " الكبير " (6/ 96 رقم 5388) من طريق عثمان بن مطر، به.
وأورده الهيثمي في " المجمع " (3) وقال: وفيه عبد الغفور وهو متروك.
قلت: وفيه عثمان بن مطر وهو الشيباني البصري الرهاوي المقرئ ضعفه أبو داود وقال البخاري منكر الحديث. وقال النسائي ضعيف وقال ابن حبان كان عثمان بن مطر ممن يروي الموضوعات عن الإثبات. "
ميزان الاعتدال " (3/ 35).
ذكره الحافظ ابن حجر في " تبيين العجب " (ص 29) وقال: رويناه في فضائل الأوقات للبيهقي - رقم (9) - و" فضائل رجب " لعبد العزيز الكتاني، وفي " الترغيب والترهيب " لأبي القاسم التيمي من طريق عثمان بن مطر، عن عبد الغفور، عن عبد العزيز بن سعيد، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صام يوم من رجب. .. الحديث وعثمان أبن مطر كذبه ابن حبان وأجمع الأئمة على ضعفه.
فهو حديث موضوع.(6/3210)
رجب كان كصيام سنة، ومن صام سبعة أيام غلقت عنه سبعة أبواب جهنم، ومن صام ثمانية أيام فتحت له ثمانية أبواب الجنة، ومن صام عشرة أيام لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه، ومن صام خمسة عشر يوما نادي مناد من السماء قد غفرت لك ما سلف فاستأنف العمل، قد بدلت سيآتك حسنات، ومن زاد زاده الله، وفي رجب حمل نوح في السفينة فصام نوح وأمر من معه أن يصوموا، وجرت بهم السفينة ستة أشهر ".
ومنها: أخرجه الطبراني من حديث بن أبي راشد بنحو حديث أنس السالف.
ومنها: ما أخرجه الخلال (1) من حديث أبي سعيد بلفظ: " رجب من شهور الحرم، وأيامه مكتوبة على باب السماء السادسة، فإذا صام الرجل منه يوما وجدد صومه بتقوى الله نطق اليوم وقالا: يا رب أغفر له، وإذا لم يتم صومه بتقوى الله لم يستغفرا له، وقيل له خدعتك نفسك ".
وأخرج أبو الفتح بن أبي الفوارس في أماليه عن الحسن مرسلا أنه قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي " (2).
_________
(1) كما في " كنز العمال " رقم (53165).
قلت: وأخرجه الأصبهاني في " الترغيب " رقم (1850). وهو حديث ضعيف.
(2) أخرجه البيهقي في " فضائل الأوقات " رقم (10) وقال: هذا منكر بمرة.
وقال ابن حجر في " تبيين العجب " (ص24) تعقيبا على كلام البيهقي: بل هو موضوع ظاهر الوضع، بل من وضع نوح الجامع، وهو أبو عصمة الدين، قال عنه ابن المبارك، لما ذكره لو كيع: عندنا شيخ يقال به: أبو عصمة، كان يضع الحديث. وهو الذي كانوا يقولون فيه: نوح الجامع جمع كل شيء إلا الصدق، وقال الخليلي: أجمعوا على ضعفه.
وأوره الشوكاني في " الفوائد المجموعة " (47 - 48) وقال: موضوع ورجال مجهولون.(6/3211)
هذا جملة ما ورد في صيام رجب مما يختص به، وكلها أحاديث باطلة لا أصل لها. وقد ذكرنا أكثرها في " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة " (1) وحكى ابن السبكي عن محمد بن نصر السمعاني أنه قال: لم يرد صوم شهر رجب على الخصوص سنة ثابتة، والأحاديث التي تروى فيه واهية لا يفرح بها عالم انتهى.
وكما لم يصح الترغيب (2) في صوم رجب على الخصوص لم يصح النهي عن صومه كما روى [4ب] ابن ماجه (3) من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وآله
_________
(1) للشوكاني (ص47، 48، 100 - 439).
(2) قال ابن حجر في "تبيين العجب " لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا صيام شيء منه - معين. ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه. حديث صحيح يصلح للحجة. وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ، رويناه عنه بإسناد صحيح، وكذلك رويناه عن غيره، لكن اشتهر أن أهل العلم يتسمحون في إيراد الأحاديث في الفضائل وإن كان فيها ضعف، ما لم تكن موضوعة وينبغي مع ذلك اشتراط أن يعتقد العامل كون ذلك الحديث ضعيفا، وأن لا يشهر ذلك، لئلا يعمل المرء بحديث ضعيف، فيشرع ما ليس بشرع، أو يراه بعض الجهال فيظن أنه سنة صحيحة.
ثم قال: وليحذر المرء من دخوله تحت قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من حديث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين ". فكيف بمن عمل به ولا فرق في العمل بالحديث في الأحكام، أو في الفصائل. وإذا الكل شرع.
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم (8/ 39): ولم يثبت في صوم رجب نهي ولا ندب لعينه ولكن أصل الصوم مندوب إليه وفي " سنن أبي داود " أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ندب إلى الصوم من الأشهر الحرم ورجب أحدها والله أعلم.
(3) في " السنن "
(1743). قلت وأخرجه الطبراني في " الكبير " (10/ 348) والبيهقي في " الشعب " (3/ 375 رقم 3714) والجوزقاني في " الأباطيل " (3) وقال: هذا حديث باطل لم يروه عن زيد بن عبد الحميد إلا داود بن عطاء وهو منكر الحديث وأخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية " (2) وقال: لا يصح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكره ابن القيم في " المنار المنيف " (ص97). وذكره السيوطي في"الجامع الصغير " (6) ورمز لضعفه.
وأخرجه ابن حجر في " تبيين العجب " (ص47) وذكر كلام البيهقي: " رواه داود بن عطاء، وليس بالقوي وإنما الرواية عن ابن عباس من فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قدمنا ذكره، فحرف الفعل إلى النهي، ثم، وإن صح فهو محمل على التنزيه، والمعنى فيه القديم قال: وأكره أن يتخذ الرجل صوم شهر يكمله من بين الشهور كما يكمل شهر رمضان، إنما كرهت هذا، لئلا يتأسى جاهل فيظن أن ذلك رجب ". وهو حديث ضعيف جدا.(6/3212)
وسلم - " نهى عن صيام رجب " فإن هذا الحديث في إسناده ضعيفان: زيد بن عبد الحميد (1)، وداود بن عطاء (2).
وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (3) أن عمر كان يضر أكف الناس في رجب، حتى يضعوها في الجفان، ويقول: كلوا فإنما هو شهر تعطمه الجاهلية.
وأخرج ابن أبي. ..............................................
_________
(1) زيد بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي المدني، مقبول، من السابعة. "
التقريب " (1/ 275). " التهذيب " (3).
(2) داود بن عطاء المزني مولا هم أبو سليمان المدني أو المكي، قال البخاري: منكر الحديث، وقال أحمد: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي ضعيف الحديث منكره وقال الذهبي، ضعيف، وقال الحافظ ضعيف، من الثامنة. "
التقريب " رقم (2144)، و" التهذيب "
(3).
(3) في مصنفه
(4). وأخرجه ابن حجر في " تبيين العجب " (ص48): وقال عقبه: فهذا النهي منصرف إلى من يصومه معظما لأمر الجاهلية، أما أن صامه لقصد الصوم في الجملة، من غير أن يجعله حتما، أو يخص منه أياما معينة يواظب على صومها أو ليال معينة يواظب على قيامها، بحيث يظن أنها سنة، فهذا من فعله مع السلام مما استثنى، فلا بأس به، فإن خص ذلك، أو جعله حتما فهذا محظور.(6/3213)
شيبة (1) أيضًا من حديث زيد بن أسلم قال: سئل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن صوم رجب؟ فقال: " أين أتنم عن شعبان؟ ".
وأخرج (2) أيضًا عن ابن عمر ما يدل على أنه يكره صوم رجب.
وأقول: يكفي في أستحباب صوم رجب أنه من الشهور الحرم، وقد أخرج أحمد (3)، وأبو داود (4)، والنسائي (5)، ابن ماجه (6) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل من باهلة لما قال له: إنه ما أكل طعاما بالنهار: " من أمرك أن تعذب نفسك؟ " فقال الباهلي: يا رسول الله، إني أقوى، قال: " صم شهر الصبر- يعني رمضان - ويوما بعده " قال: إني أقوى، قال: " صم شهر الصبر وثلاثة أيام بعده، وصم أشهر الحرم "، وقد ضعف هذا الحديث بعضهم للاختلاف في إسناده، فإن الراوي له عن هذا الرجل الباهلي نجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها، يعني هذا الرجل كما في سنن أبي داود، وقال النسائي (7): " مجيبة الباهلي عن عمه، فجعل الراوي وجلا، وأنت خبير بأن مثل هذا
_________
(1) في مصنفه (4).
(2) في مصنفه (4).
(3) في " المسند " (5).
(4) في " السنن " رقم (2428).
(5) في " السنن الكبرى " رقم (2743).
(6) في " السنن " رقم (1741) وهو حديث ضعيف.
(7) قال المنذري في " مختصر السنن " (3/ 306): أخرجه النسائي وابن ماجه إلا أن النسائي قال فيه عن بجيبة الباهلي عن عمه، وقال ابن ماجه عن أبي مجيبة الباهلي عن أيبه أو عمه، وذكره أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة وقال فيه: عن مجيبة - يعني الباهلي - قالت حدثني أبي أو عمي وسمي أباهد: عبد الله بن الحارث، وقال: سكن البصرة ورى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديثا وقال في موضع آخر أبو مجيبة الباهلية، أو عمها سكن البصرة وروى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يسمه وذكر هذا الحديث وذكره ابن قانع في " معجم الصحابة " (2) وقال فيه: عن مجيبة عن أبيها أو عمها وسماه أيضا: عبد الله بن الحارث هذا آخر كلامه، وقد وقع فيه هذا الاختلاف كما تراه.(6/3214)
الاختلاف لا يعد قادحا، وجهالة الصحابي لا تضر لما تقرر في علم الاصطلاح، وأيضا قد قال أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة (1)، وأيضا فالصوم مندوب إليه في كل وقت غير الأوقات المستثناة، ورجب ليس من المستثناة ".
وأما سؤال السائل - عافاه الله - عن صلاة المغرب هل ورد عن الشارع أنها صليت ثلاثا أم لا؟
فأقول: مشروعية القصر إنما هي في الصلاة الرباعية إلى اثنتين، ولم يرد عن الشارع، ولا عن غيره من الأمة أن صلاة المغرب ........................................................................
_________
(1) (2 رقم 853) وقد ذكره مسندا.
قلت: وأخرجه ابن حجر في " تبيين العجب " (ص13): وقال: ففي هذا الخير وإن كان في إسناده من لا يعرف، ما يدل على استحباب صيام بعض رجب لأنه أحد الأشهر الحرم.
فائدة: قال أبو بكر الطرطوشي في كتاب " الحوادث والبدع " (ص282 - 284) وفي الجملة إنه يكره صومه على أصل ثلاثة وجوه:
أنه إذا خصه المسلمون بالصوم في كل عام حسب العوام ومن لا معرفة له بالشريعة مع ظهور صيامه:
1 - إما أنه فرض كرمضان.
2 - وإما أنه سنة ثابتة، وقد خصه الرسول بالصوم كالسنن الراتبة.
3 - وإما لأن الصوم فيه مخصوص بفضل ثوابه على سائر الشهور جرى مجرى صوم عاشوراء وفضل آخر الليل على أوله في الصلاة. فيكون من باب الفضائل لا من باب السنن والفرائض، ولو كان من باب الفضائل، لنبه عليه السلام عليه أو فعله ولو مرة واحدة في العمر كما فعل في صوم عاشوراء، وفي الثلث الآخر من الليل، ولما لم يفعل ذلك بطل كونه مخصوصا بالفضيلة ولا هو فرض ولا سنة باتفاق.
فلم يبق لتخصيصه بالصيام وجه فكره صيامه والدوام عليه حذرا من أن يلحق بالفرائض أو بالسنن الراتبة عند العوام، وإن أحب امرؤ أن يصومه على وجه يؤمن فيه الذريعة وانتشار الأمر حتى لا يعد فرضا أو سنة فلا بأس.(6/3215)
تقصر (1)،، ولا يحتاج إلى نقل في مثل هذا، فهو أمر مجمع عليه، معلوم لكل الأمة.
وهذا في صلاة السفر من غير خوف. وأما في صلاة الخوف فقد ورد ما يدل على جواز الاقتصار على ركعة واحدة كما هو معروف في مواطنه من كتب السنة (2).
وأما السؤال عن رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، هل ورد فيه نص من قول الشارع غير مجرد فعله أم لا؟.
فأقول: أخرج البارودي، والطبراني في. ................................
_________
(1) قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن لا يقصر في صلاة المغرب والصبح وأن القصر إنما هو في الرباعية. أنظر: " المعني " (13).
(2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (944) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقام الناس معه فكبر وكبروا معه، وركع وركع ناس منهم، ثم سجد وسجدوا معه، ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه، والناس كلهم في صلاة ولكن يحرس بعضهم بعضا ".
وقال ابن حجر في " الفتح " (2): وهذا كالصريح في اقتصارهم على ركعة ركعة ثم قال ويشهد له ما رواه مسلم في صحيحه رقم (5) وأبو داود رقم (1247) والنسائي (3 - 119) عن ابن عباس قال: "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ". ثم قال ابن حجر: ". .. وبالاقتصار في الخوف على ركعة واحدة يقول إسحاق والثوري ومن تبعهما ".
وقال به أبو هريرة وأبو مرسى الأشعري وغير واحد من التابعين، ومنهم من قيد ذلك بشدة الخوف. وقال الجمهور: قصر الخوف قصر هيئة لا قصر عدد، وتأولوا رواية مجاهد - عن ابن عباس - على أن المراد به ركعة مع الإمام وليس فيه نفي الثانية، وقالوا! يحتمل أن يكون قوله في الحديث - عند النسائي (3) -: " لم يقضوا " أي لم يعبدوا الصلاة بعد الأمن.
ثم قال ابن حجر في " الفتح " (2): " وقال جماعة من الصحابة والسلف: يصلي في الخوف ركعة، يومئ فيها إيماء ".(6/3216)
الكبير (1) من حديث الحكم بن عمير (2) الثمالي مرفوعا: " إذا قمتم إلى الصلاة فارفعوا أيديكم، ولا تخالف آذانكم ".
وأخرج الطبراني في الكبير (3) من حديث وائل بن حجر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال له: " يا وائل بن حجر، إذا صليت فاجعل يديك حذو أذنيك، والمرأة تجعل يديها حذو ثدييها ".
وأخرج الطبراني في الأوسط (4) من حديث ابن عمر مرفوعًا " إذا استفتح أحدكم فليرفع يديه، وليستقبل بباطنهما القبلة، فإن الله تعالى أمامه ".
هذا ما وفقنا عليه من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في رفع اليدين عند تكبيرة [5أ] الإحرام، وهذه السنة قد ثبتت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ثبوتا متواترا تواترا كليا عن خمسين صحابيا، منهم العشرة المبشرون بالجنة كما قال العراقي (5) وغيره.
وقال الحسن وحميد بن هلال (6): كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يرفعون أيديهم من غير استثناء. حكى ذلك البخاري في. ..................................
_________
(1) (3/ 218 رقم 3190).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (2) وقال: فيه يحيى بن يعلى الأسلمي وهو ضعيف.
(2) في المخطوط [عميرة] والصواب ما أثبتناه.
(3) (22 - 20 رقم 374).
وأورد الهيثمي في " المجمع " (2 و9) وقال: رواه الطبراني من طريق ميمونه بنت حجر عن عمتها أم يحيى بيت عبد الجبار ولم أعرفها وبقية رجاله ثقات.
(4) (2 رقم 7801) وأورد الهيثمي في " المجمع " (2) وقال: فيه عمير بن عمران وهو ضعيف.
(5) في " فتح المغيث " (4): حيث قال " وقد جمعت رواته فبلغوا نحو الخمسين ولله الحمد ".
وقال في " تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد " (ص18): " واعلم أنه روي رفع اليدين من حديث خمسين من الصحابة منهم العشرة ".
(6) ذكره البخاري في جزء " رفع اليدين " (ص31 رقم 10).(6/3217)